خطط الشام

محمد كرد علي

صدر الخطط

صدر الخطط بِسْمِ اللهِ الرّحَمن الرّحَيم عونك اللهم يا لطيف نشرت عام 1317هـ 1899م في مجلة المقتطف تسعة فصول في عمران دمشق صادفت استحسان بعض من قرءوها من خاصة الباحثين، وجمهور المطالعين، فوقع في النفس يومئذ أن أتوسع في هذا البحث، وأدرس عمران الشام كله، لأن صورة العاصمة وحدها لا تكفي للدلالة على حالة القطر، ومن الإشراف على الأطراف، قد تعرف صحة الجسم عامة والقلب خاصة، ومن اهتم بالجزء كان حريا أن يضاعف العناية بالكل. فشرعت من ثم أتصفح كل ما ظفرت به من المخطوطات والمطبوعات باللغات العربية والتركية والفرنسية، وقصدت دور الكتب الخاصة والعامة في الشام ومصر والمدينة المنورة والآستانة ورومية وباريس ولندرا وإكسفورد وكامبردج وليدن وبرلين وميونخ ومجريط والإسكوريال. وكنت كلما استكثرت من المطالعة، تتجلى أمامي صعوبة العمل، هذا مع ما قام في سبيل نشر هذا المجموع من العقبات، منذ وطدت العزم على وضعه، وما نالني من الكوارث في العهد الماضي. ولكن الشقاء قد يأتي بسعادة، ورب ضرّ أعقب خيرا. فإن التضييق عليَّ نشأ منه اضطراري إلى الارتحال غير مرة، فأخذت أستقري المعالم والمجاهل في هذا القطر، ونزلت على

أمم كثيرة في بلاد الغرب، فاستفدت من تنقلي بعض ما عندهم من أسفارنا وآثارنا، وقابلت عن أمم بين عمراننا وعمرانهم، وجمودنا اليوم وحركتهم. رحلت إلى أوروبا ثلاث رحلات، أبحث في دور كتبها عن المخطوطات التي يرجى أن يكون أصحابها قد تعرضوا لحوادث هذا القطر، وزرت أصقاع الشام لأقابل بين حاضره وغابره، ولما نسجت بآخرة ما جمعت، قدمت له مقدمة في بيان ما تشترك فيه بلاد الشام عامة من المظاهر والأوضاع، وسميته خطط الشام وأعني بالشام الأصقاع التي تتناول ما اصطلح العرب على تسميته بهذا الاسم، وهو القطر الممتد من سقي النيل إلى سقي الفرات، ومن سفوح طوروس إلى أقصى البادية، أي سورية وفلسطين في عرف المتأخرين. ويراد بالخطط كل ما يتناول العمران، والبحث في تخطيط بلد بحث في تاريخه وحضارته. أول من صنف في الخطط واستقصى فيها على ما علمنا الحسن بن زولاق المصري المتوفى سنة 387 وقال المقريزي المتوفى في سنة 843 إن أول من صنف فيها أبو عمر بن يوسف الكندي، ثم القاضي أبو عبد الله محمد بن سلامة القضاعي 454 والذي انتهى إلينا كتاب خطط مصر للمقريزي المنوه به، وهو أجمل مثال في باب الإجادة في التأليف. ولم نعلم أن أحدا من المتقدمين كتب على الشام وخططه، وكتب بعض المتأخرين في موضوع خاص وبلد معين. وما خطط الشام في الحقيقة إلا زبدة الوقائع والكوائن، وأخبار الصعود والتدلي، والمظاهر الغربية التي ظهرت بها هذه الديار، في غابر الأعصار، مقتبسا ذلك مما أبقته

الأيام مكتوبا أو مطبوعا على ورق، أو مزبورا على حجر وآجر وبردي ورق. لا جرم أن موضوع الخطط موضوع جليل، تتعين الإحاطة به على كل من يحب أن يعرف أرضه ليخدمها، ويستفيد منها، وأحق الناس بمعرفة بلد أهله وجيرانه. ومن لم يرزق حظا من الاطلاع على ما حوى موطنه من الخيرات، وما أتاه أجداده من الأعمال، لا ينهض بما يجب عليه ليؤثر الأثر النافع في الحال والمآل، ومن أجدر من الأبناء والأحفاد، بالرجوع إلى سجلات الآباء والأجداد، وكيف يحب المرء بلدا لا يعرفه، ويحرص على سعادته ليسعد هو فيه، وهو لا علم عنده بما تعاقب عليه حتى صار إلى ما صار إليه، وهل يُفهم الحاضر بغير العابر، وهل تنشأُ في الأمة روح وطنية إذا لم تدرس تاريخها حق الدراسة. كتب الغربيون في آثار هذا القطر وعمرانه وتاريخه واقتصادياته وعادياته أحمالا من الكتب بلغاتهم، وقلما نشرت كتب جامعة لأحد أبنائنا بلغتنا وعلى نهجنا. واستنفض الغربيون كل بقعة من بقاعنا، ومدينة من مدننا، وبادية من بوادينا، ومنهم من أجاد وأفاد، مما يسجل ويا للأسف علمهم بنا، وجهلنا حتى بأرضنا، ويكفي أن يقال إن علماء الغرب وسياحهم صنفوا بين سنتي 1805 - 1903م خمسة وتسعين كتابا فقط في آثار سلع أو البتراء وادي موسى على حين قلّ جدا في الشاميين أنفسهم من زاروا هذه الخرائب المهمة، ومنهم من لم يسمع باسمها. أخذت مما ظفرت به من الكتب الإفرنجية، وعُنيت أشد العناية بالرجوع إلى ما كتبه الأسلاف في هذا الشأن، على تفرقه، واعتمدت على مؤلفي العرب خاصة لأن كل أمة أعرف على الغالب بحالتها من غيرها، فإن بحث علماء الإفرنج في تاريخ هذا القطر قبل الإسلام، ونبشوا عادياته ومصانعه، وحلوا لغاته ولهجاته، فتاريخه بعد هذا العهد أقرب إلى أن يكون علماؤنا مرجعا فيه، فقد قيل قتل أرضاً عالمها. جاء الكلام ناقصا في بعض الأدوار المتأخرة، وعُمي عليَّ بعض

مواضع مهمة ذات صلة بمدنية الشام، والسبب فيه أن المتأخرين زهدوا في التاريخ حتى كادوا لا يفرقون بينه وبين أقاصيص العجائز، وموضوعات المخرفين والوضاعين، وعنيت بتجريد هذا الكتاب ما أمكن من المبالغات، ونخل لباب الوقائع المهمة الثابتة وحذف ما فيه شيَةُ شبهة، أو شائبة غلو، وإن كان منها ما يروق بعضهم ويتفكهون بسماعه، ويطربون لترداده. فخاطبت ما استطعت العقل أكثر من العاطفة، وعُنيت في قسم التاريخ السياسي أن أبين علل الحوادث، وتسلسل الكوائن، ودواعي الأحوال القريبة أو البعيدة، واستخراج النتائج واستنباط القواعد. والتاريخ ربيب الحرية لا يتصرف على هوى من يكتبه ويقرءوه ولا على أذواق أهل العصر وأهوائهم. وما دام موضوعه الاعتبار بالخالي لمعرفة الحالي والآتي فهو جدير بأن يتحرى فيه الحق ولا يدون سواه. قال أحد العلماء: عندما نريد أن نصل إلى الحقائق التاريخية، يجب أن تصح همتنا على إزالة الأوهام، ونزع الزوان من الأساطير التي تعلق بالوقائع الثابتة القليلة التي وصلت إلينا. كان المؤرخون بعد القرون الوسطى بين عاملين قويين، إما أن يكذبوا فيغضبوا الحق، أو يصدقوا فيغضبوا الخلق، والعمال والأعيان منهم خاصة. فقد ألف مثلا ابن زوجة أبي عذيبة المقدسي المتوفى سنة 856 تاريخين مطولا ومختصرا، ولما توفي أطلع بعضهم على الكبير منه، فوجد فيه أشياء توهمها في ثلب أعراض الناس فأتلفه، وصنف عبد الله البصروي من أهل القرن الثاني عشر تاريخا لهذه الديار، فبلغ أعيان دمشق خبره، ولما هلك دخلوا داره وآلو أن لا يأذنوا بدفنه أو يأخذوا التاريخ الذي وضعه، فضبطوه وأحرقوه على أعين القوم، مخافة أن تنكشف سيئات بعضهم. والذي ضاع من مدونات المتقدمين والمتأخرين يعد بالعشرات، لكثرة الجوائح الأرضية والسماوية التي أصابتها. وإذا كتب البقاء لشيء مما كتبه المتأخرون فيكون في الغالب إلى الركاكة لا تسقط فيه على حقيقة. وكثيرا ما كان العقلاء يعلقون على حواشي

بعض الكتب تعاليق لحوادث جرت، وأمور اهتم لها الناس وشغلت مجتمعهم، ومن مثل تلك الأوراق ومن العهود والصكوك ضم هذا السفر جانبا. بحثت جد البحث عما دُوّن في التاريخ العام أو الخاص بتاريخ بلد من أرض الشام، فرأيت يد الضياع قد غالتها إلا قليلا، وقد أهمني منها الاطلاع على تاريخ صفد للعثماني وتاريخ البرزالي وتاريخ حلب الكبير لابن العديم وتاريخها لابن أبي طي وتاريخ حمص لابن عيسى ولعبد الصمد بن سعيد وأخبار قضاة دمشق للذهبي وتاريخ ابن أبي الدم الحموي وتاريخ قنسرين وتاريخ إنطاكية وتاريخ المعرة لابن المهذب وتواريخ كثيرة في سير مشاهير الفاتحين كتبها أمثال ياقوت الحموي وابن شداد وابن واصل وابن حبيب وابن الداية وابن عبد الظاهر وابن تيمية والجبريني والعسقلاني، فلم أظفر بسوى ورقات من بعضها، أو مختصرات ومنقولات لا تبل غلة، حُرفت بالنقل فتشوهت محاسنها. ولقد وددت لما تيسر وضع خطط الشام على هذه الصورة لو ساغ لي أن أصبر عليه زمنا آخر حتى يتم التحقيق فيه على ما يجب عملا بالحكمة التي تمثل بها الثعالبي في اليتيمة قال: وكلما أعرته على الأيام بصري، وأعدت فيه نظري، تبينت مصداق ما قرأته في بعض الكتب، أن أول ما يبدو من ضعف ابن آدم، أنه لا يكتب كتابا فيبيت عنده ليلة، إلا أحب في غدها أن يزيد فيه أو ينقص منه، هذا في ليلة فكيف في سنين عديدة. ولكن رأيت بعد طول التأمل أن من الحزم الاكتفاء بما تهيأ في هذه السنين، والتمحيص بحر لا ساحل له، ولطالما ذكرت وأنا أغوص في الكتب المختلفة التي طالعتها قول المؤرخ فوستيل دي كولانج ليس التاريخ من العلوم السهلة فلأجل يوم واحد يصرف في التركيب ينبغي قضاء أعوام طويلة في التحليل. على أني لما راجعت مسودات ما صنفت ورأيتني قد تذوقتها فهضمتها، أيقنت أنه لا يثقل على القراء في الجملة، فأبرزته خائفا حوادث الأيام، ونزول داعي الحمام، وأنا موقن بأن فوق

ما طالعت وبحثت غايات، لم يمكني الزمان والمكان من بلوغها، وعسى أن يقوم غيري بعدي فيتم هذه الخطوط التي رسمتها من بنيان كتاب الخطط، ويصلح بما يتوفر له من المواد ما ربما وقعت فيه من الغلط والشطط، وإذا حصلت الفائدة من عمل استغرق جلب مادته خمسا وعشرين سنة، وكلّف تعبا ونشبا، فهو غاية ما أتطالُّ إليه، وإلا فهو جهد المقلّ، والكمال لله وحده. وكتب في دمشق في اليوم الرابع من شعبان من شهور سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة وألف بعد الهجرة بموافقة شباط من شهور سنة خمس وعشرين وتسعمائة وألف للميلاد.

تقويم الشام

تقويم الشام تعريف الشام للأقدمين: الشأْم والشأم والشام والشآم هو اسم هذا القطر العزيز على ما عرفته العرب، وهو يتناول عامة الأقاليم الداخلة اليوم في فلسطين وسورية بحسب الاصطلاح الحديث. وسورية اسم غلب إطلاقه على القطر الشامي على عهد الإسكندر مقتضبا مع تخفيفه من اسم آشوري لغلبة الآشوريين عليه والسين والشين تتعاوران في اللغات السامية. قال البكري: سُورية بضم أوله وكسر الراء المهملة وتخفيف الياء أخت الواو وفتحها اسم للشام. وقيل: إن سبب تسميته بسورية نسبة لصور ثغر الشام القديم ومخرج الصاد والسين واحد. وقال آخرون: إن اليونان لما فتحوا الشام رأوا الآشوريين يتولون أمره فسموه أشورية. قال المسعودي: سورية هي الشام والجزيرة وكان الروم يسمون الصقع الذي سكانه المسلمون في عهده 345هـ من الشام والعراق سوريا، والفرس كانوا يسمون العراق والجزيرة والشام سورستان إضافة إلى السريانيين الذين هم الكلدانيون وتسميهم العرب النبط. ويقال إن فلسطين سميت بفلسطين بن سام أو بفلسطين بن كلثوم، أو بفليستين بن كسلوخيم من بني يافث بن نوح ثم عربت فليشين. وجوزوا في اسم الشام التذكير والتأنيث والمشهور التذكير. وللغويين

معنى الشام وجمعه:

والجغرافيين في سبب تسميته شاما آراء مختلفة فقيل: سمي لتشاؤم بني كنعان إليه وقيل: بل سمي بسام بن نوح لأنه نزل به واسمه بالسريانية شام بشين معجمة. وقال بعضهم: إن سام بن نوح لم يدخل الشام قط وقيل: لأن أرضه أي أرض الشام مختلفة الألوان بالحمرة والسواد والبياض فسمي شاما لذلك، كما يسمى الخال في بدن الإنسان شامة، وقيل: سمي شاما لأنه عن شمال الكعبة. والشام لغة في الشمال، وقيل: سميت الشام شاما لكثرة قراها وتداني بعضها من بعض فشبهت بالشامات وجوزوا فيه وجهين أحدهما أن يكون من اليد الشؤمى وهي اليسرى والثاني أن يكون فعلا من الشؤم. معنى الشام وجمعه: واختصرت العرب من شامين الشام وغلب على الصقع كله ياقوت وهذا مثل فلسطين وقنسرين ونصيبين وحوارين وهو كثير في نواحي الشام. وذكروا أن معنى الشام الطيب، ويقال للشام اللماعة واللماعة بالركبان تلمع بهم أي تدعوهم إليها وتطيبهم، وقد تجمع الشام على شامات وتسمى الشام بذلك، ومن الناس من لا يجعله إلا شاما واحدا، ومنهم من يجعله شامات فيجعل بلاد فلسطين والأرض المقدسة إلى حد الأردن شاما، ويقولون الشام الأعلى ويجعل دمشق وأرجاءها من الأردن إلى الجبال المعروفة بالطوال شاما ويجعل سورية وهي حمص وما ضمت إلى رحبة مالك شاما، ويجعلون حماة وشيزر من مضافاتها ويجعل قنسرين من إقليمها وحلب مما يدخل في هذا الحد إلى جبال الروم والعواصم والثغور. فأما عكا وطرابلس وكل ما هو على ساحل البحر وكل ما قابل شيء منه شيئا من الشامات فيحسب منه. وإطلاق الشام على دمشق من باب إطلاق العام على الخاص والعرب نالينو كثيرا ما يسمون المدن القواعد بأسماء أقاليمها فكانوا يقولون بلا فرق دمشق أو الشام - الفسطاط أو القاهرة أو مصر - شام أو

حد الشام قديما:

حضرموت - صحار أو عُمان - الأندلس بدلا من قرطبة - صقلية عبارة عن بلرم. حد الشام قديما: وحد الشام من الغرب البحر المتوسط أو بحر الروم أو بحر الملح أو بحر الشام، ومن الشرق البادية من أيلة إلى الفرات. وأيلة مدينة قديمة على البحر الأحمر أو القلزم وهي على مقربة من العقبة اليوم. ثم يذهب الحد من الفرات إلى حد الروم أو آسيا الصغرى وشمالا إلى الروم وجنوبا حد مصر وتيه بني إسرائيل. وأوصلوا الحد من الغرب إلى طرسوس قرب أذنة إلى رفح في أول الجفار بين مصر والشام. وأوسع من هذا التعريف أنه يحيط بالشام من جهة الجنوب حد يمتد من رفح إلى تيه بني إسرائيل إلى ما بين الشوبك وأيلة إلى البلقاء، ويحيط به من جهة الشرق حد يمتد من البلقاء إلى مشاريق صرخد آخذا على أطراف الغوطة إلى سلمية إلى مشاريق حلب إلى بالس. ويحيط به من جهة الشمال حد يمتد من بالس مع الفرات إلى قلعة نجم إلى البيرة إلى قلعة الروم إلى سميساط إلى حصن منصور إلى بهنسي إلى مرعش إلى سيس إلى طرسوس. وهذا الحد للعرب قال به كاتب جلبي في القرن الحادي عشر. حقيقة حد الشام: وبموجب الاتفاق الفرنسي التركي الأخير جعلت الحدود في قرية قطمة على طريق السكة البغدادية على أربعين كيلومترا من حلب. ودخلت كليس في حدود الروم وليس هذا هو الحد الجغرافي الطبيعي للشام من الشمال. بل حد الشام ينتهي بسفوح جبال طوروس المعروفة بالدروب عند العرب آخذا إلى ما وراء خليج الإسكندرونة لجهة أرض الروم وكان جبل السياح بفتح السين وتشديد الياء حدا بين الشام والروم ولا نعرف هذا الجبل بهذا الاسم اليوم. ويقول الإدريسي: ومن السويدية إلى جبل رأس الخنزير عشرون ميلا وعلى هذا الجبل دير كبير وهو أول بلاد

حدوده مع مصر:

الأرمن وآخر بلاد الشام. فما كان من جهة الشام على ضفة الفرات فهو شام، وما كان على الضفة الأخرى من الشرق فهو عراق. فصفين مثلا في الشام وقلعة جعبر في الجزيرة الفراتية وبينهما مقدار فرسخ أو أقل وتدخل بالس أي مسكنة بالشام لأنها من غرب الفرات وتدخل البيرة بيره جك في الجزيرة لأنها على الشق الآخر من الفرات. وما كان من دير الزور على الفرات إلى جهة الشام فهو من الشام، وما كان على الشاطئ الآخر إلى الشرق فهو من العراق. وكذلك يقال في الرَّقة. وتدخل دومة الجندل المعروفة اليوم بالجوف في الجنوب في جملة هذا القطر. كما أن أيلة هي آخر الحجاز وأول الشام. فالعريش أو رفح أو الزعقة هي حد الشام الجنوبي الغربي. ومعان نصفها للشام ونصفها للحجاز، فيقال معان الشامية ومعان الحجازية. حدوده مع مصر: وقد اتفقت الحكومتان العثمانية والمصرية سنة 1324هـ - 1906م على تعيين الحد بين مصر والشام من رأس طابا على الساحل الغربي لخليج العقبة ممتدا إلى قمة جبل فورت مارا على رؤوس جبال طابا الشرقية المطلة على وادي طابا، ثم من قمة جبل فورت يتجه إلى الخط الفاصل إلى نقطة المفرق على قمة جبل فتحي حيث ملتقى طريق غزة إلى العقبة بطريق نخل إلى العقبة. ومن هذه النقطة إلى التل الذي إلى الشرق من مكان ماء يعرف بثميلة الردادي والمطلة على الثميلة، بحيث تبقى الثميلة غربي الخط. ومن هناك إلى قمة رأس الردادي ثم إلى رأس جبل الصفرة، ومنه إلى رأس القمة الشرقية بجبل قم قف ثم إلى سويلة شمالي الثميلة، ومنها إلى غرب الشمال الغربي من سماوة ومنها إلى قمة التل الواقع إلى غرب الشمال الغربي من بئر المغارة في الفرع الشمالي من وادي مايين، ومنها إلى غربي جبل المقراة فإلى رأس العين إلى نقطة على جبل أم حواويط إلى منتصف المسافة بين عمودين قائمين في الجنوب الغربي من بئر رفح، ومنها إلى نقطة على التلال الرملية في اتجاه 28 درجة أي 80 درجة إلى الغرب وعلى

مساحة الشام وصورته:

مسافة 420 مترا في خط مستقيم من العمودين المذكورين ثم يمتد الخط مستقيما من هذه النقطة باتجاه 33. 4 درجة من الشمال المغنطيسي أعني 26 درجة إلى الغرب إلى شاطئ البحر المتوسط مارا بتل خرائب على ساحل البحر الأحمر. وتقرر في أيلول 1920 أن تكون حدود حلب شمالا التخوم الشمالية للواء الإسكندرونة والتخوم الشمالية للمنطقة الغربية القديمة آخر نقطة منها تلتقي بالخط الحديدي شرقي محطة هملن، ثم خط الحديد وهو داخل التخوم حتى تل أبيض، ثم خط يجمع بين تل أبيض والخابور شرقا ونهر الخابور حتى مصبه في الفرات، ثم نهر الفرات حتى البو كمال جنوبا وهو الخط المعروف بخط البوكمال إلى تدمر ثم إلى الحدود الغربية الشمالية. وهذا الحد موضوع غير طبيعي. ولعل هذا القطر لن يعدم حده الطبيعي من الشمال فإن الصخور التي تفصل الشام من الشمال عن آسيا الصغرى ليس لها مثيل في التخوم الطبيعية كما قال نابليون. وجعل الجغرافي اليزه ركلو حد الشام من جبال أمانوس اللكام إلى طورسينا وقال: إن طورسينا وإن ضم سياسيا إلى مصر فهو جزء من أجزاء الشام. وقال بوليه: إن حد سورية شمالا آسيا الصغرى. وقال بورتر: إن سورية أي سورية الرومانيين يحدها شمالا آسيا الصغرى. وقال بيدكر: إن حد الشام من طوروس إلى مصر. وبذلك رأينا أن الشام يحيط به من الجنوب رمال من الجفار وتيه بني إسرائيل وجزء من البحر الأحمر فالبادية. ومن الشمال جبال شامخة صعبة المسالك وهي جبل أمانوس أحد سلاسل جبال طوروس. ومن الشرق الفرات ومن الغرب البحر. أي رمال وجبال ونهر وبحر. مساحة الشام وصورته: قدر القدماء طول الشام من العريش إلى الفرات بمسيرة نحو شهر وعرضه من جبلي طي أجإ وسلمى من القبلة إلى بحر الروم نحو عشرين يوما، وجبلا أجإ وسلمى جنوب الشراة وراء البتراء المعروفة عند الرومان باسم بروفنسيا أرابيا أو أرابيا بترا - وقال شيخ الربوة: حد الشام طولا من ملطية إلى العريش ومسافته سبعة

مدخل الفاتحين إلى الشام:

وعشرون يوما، وعرضه الأعرض من منبج إلى طرسوس. وعدّ ياقوت من الشام الثغور وهي المصيصة وطرسوس وأذنة وجميع العواصم من مرعش والحدث وغير ذلك. وقال علماء الإفرنج: إن معدل طول الشام نحو ألف كيلو متر وعرضه نحو مائة وخمسين كيلو مترا ومساحته 183 ألف كيلو متر مربع وقال بعضهم: إن مساحته السطحية نحو 280 ألف كيلو متر، وأبلغه غيرهم إلى ثلاثمائة ألف وأنزله آخر إلى مائة وتسعة وخمسين ألف كيلو متر، وبالغ في تصغيره بعضهم فقال: إن مساحته مائة ألف كيلو متر مربع فقط، ومنهم من قال مائة وخمسة عشر. وقال آخر: إن طوله ينيف على أربعمائة ميل وعرضه يختلف كثيرا ومعدله نحو مائة وعشرين ميلا. ومساحة الشام خمسون ألف ميل مربع. وذكر آخر أن طول الشام المتوسط من الشمال إلى الجنوب نحو سبعمائة كيلو متر وعرضه من الغرب إلى الشرق نحو أربعمائة وخمسين كيلو مترا. وأكد بعضهم أن طوله من طوروس إلى طورسينا لا يقل عن ألف ومائة كيلومتر، وقال غير واحد: إنه لا يقل عن 800 إلى 900 هذا إذا تركت منه البادية ولم يحسب غير الأراضي القابلة للزرع. وقدرت الأرض القابلة للزراعة في الشام بمائة وخمسين ألف كيلو متر مربع. والاختلاف في حد الشام ومساحته بين علماء الجغرافية المحدثين أكثر مما بين علماء تقويم البلدان من العرب الأقدمين. وقد شبّه بعضهم الشام في هيئته الطبيعة بشكل مستطيل طوله ثمانية أضعاف عرضه. وشبهه آخر بأنه شكل مربع الأضلاع مستطيل كثيرا. مدخل الفاتحين إلى الشام: جاء الفاتحون الشام بحراً وبراً بل جاءوها من جهاتها الأربع فجاءها الفراعنة من البحر والبر، والبابليون والفرس من الشرق والشمال، والاسكندر والصليبيون والعثمانيون من الشمال، وغازان وهولاكو وتيمورلنك من الشرق، والعرب الفاتحون من الشرق والجنوب، ونابوليون من الجنوب ومن الغرب بحراً، وإبراهيم باشا المصري براً وبحراً أي من الغرب والجنوب

مدن الشام وقراه:

الغربي، وجيوش الحلفاء من الإنكليز والفرنسيين والعرب من الجنوب والغرب. وكانت على اعتزالها وراء حدودها الطبيعية مطمح الطامحين، وطعمة الطامعين، لم تدفع عنها حصونها التي فصلتها عن الحجاز بصحار مقفرة، وحرار معطشة، وعن العراق بنهر عظيم وبادية قاحلة، وعن أسيا الصغرى بجبال عالية، وعن مصر وعن برّ إفريقية برمال محرقة. وداست تربتها الجميلة سنابك خيل الفاتحين، وعبثت بجميل محياها سهام النوائب، وأوردتها موارد العذاب الهون، ولم تأمن عادية العادين، على ما فيها من الجبال الشم، ومضايق تضل فيها العصم. مدن الشام وقراه: في الشام مدن كثيرة منها ما دثر وانحط بعد أن كان له شأن مهم في الأزمان الغابرة، مثل قيسارية والمعرة وأنطاكية وقنسرين وأفامية وجرش والبتراء وبصرى وصيدا وصور وتدمر وبعلبك وجبيل وسبسطية وأم قيس وصرخد والسويداء وشهبة وعرقا وعمّان وبانياس في الحولة وعسقلان، ومنها ما ثبت على صدمات الأيام والليالي وكان له من موقعه وملاءمة الطبيعة له ما أبقى عليه، كأن يكون وسط ريف خصيب، وماء دافق، كدمشق وحمص وحماة وطرابلس. ودمشق أهم مدن الشام وعاصمته في الإسلام وعلى عهد السريان، وكانت إنطاكية عاصمته على عهد الروم والرومان. وتجيء بالعظم بعد دمشق مدينة حلب ثم بيروت ثم القدس وسكان دمشق نحو أربعمائة ألف، ومثلهم سكان حلب، وبيروت نحو ثلاثمائة ألف، والقدس أقل من ذلك. وفي الشام عدة مدن تزيد على خمسين ألف نسمة، مثل يافا وحيفا وحماة وحمص ودير الزور، وفيها عدة مدن تختلف بين العشرين والأربعين ألف نسمة، مثل اللاذقية. غزة. صفد. زحلة. صيدا. إدلب. إنطاكية. وعشرات من القرى هي أشبه بمدن أو مدن أشبه بقرى تكون نفوسها بين العشرة آلاف والعشرين الفاً مثل صيدا والخليل والرملة واللدّ والناصرة وطبرية والدامور وبعلبك وحاصبيا وراشيا والصلت ودومة وداريا وجوبر ويبرود ودير عطية وحارم وإدلب وسلمية والشويفات

طبيعة الشام:

وبشرّي وإهدن والبترون وغيرها. ولا تقل قرى الشام عن ثمانية آلاف قرية ومزرعة وبليدة ومدينة وسكانها نحو سبعة ملايين يدخل فيهم العرب الرحالة ويقدرون بخمسمائة إلى ستمائة ألف. طبيعة الشام: قطر تأخذ فيه الفصول الأربعة حكمها، وتتم في قيعانه وجباله أسباب النعيم، معتدل الأهوية، متهاطل الأمطار والثلوج، ممرع التربة، فيه الغابات والمعادن، والحمامات المعدنية والأنهار الجارية، والبحيرات النافعة، والأجواء البهجة، والرباع المنبسطة، والمناظر المدهشة، فيه من الجبال الشراة والخليل وعامل وسنير وحرمون ولبنان وكسروان وحوران وجرش وعجلون وعكار واللكام والأقرع والكلبية والأكراد والقدموس وباير والمنيطرة وصنين والكنيسة والباروك ونيحا والريحان وطابور والجرمق والكرمل وبلودان والنبك والصلت ومؤاب وأنطاكية والقصير وريحا. ومن البحيرات العمق والغاب وأفامية والمطخ واليمونة والعتيبة والهيجانة وطبرية والحولة ولوط. ومن السهول سهل حوران والجولان والجيدور والغوطة والمرج والبقاع والبقيعة وحمص وأنطاكية واللاذقية وطرابلس والشويفات وصيدا وصور والطنطورة وبيسان وأريحا. ومن المروج مرج ابن عامر وشارون سارون والبلقاء. ومن الأنهار النهر الكبير والأردن واليرموك والعاصي والفرات وقويق والساجور وعفرين والأسود وبردى والبارد وإبراهيم وقاديشا والليطاني والحاصباني والزرقا والعوجا والأعوج والأولي والزهراني والكلب والموجب والدامور والذهب وقنديل وصنوبر وقرشيش وبرغل والمضيق والسن أو الأبتر وحريصون أو مرقبة والجوز والكابري ونعمين والمقطع والأزرق والأخضر وأبي زابورة. ومن المناظر البديعة صنين وظهر القضيب وإهدن والبياضة وإصطبل عنتر والصبر والنبي يوشع وقاسيون وحرمون والطور والهرمل والكرمل. خيرات الشام: وفيه تنبت الحبوب والبقول والأشجار على اختلاف أنواعها. ففي

هواء الشام وماؤه:

جنوبيه وشرقيه النخيل. وفي سواحله الموز والبرتقال. وفي أواسطه السرو والأرز. ويجود فيه القطن والقنب والكتان والحرير والنيل والدخان وقصب السكر والعسل وشجر الأرز والفوة والسماق والسوس. وتصلح مراعيه لتربية ضروب الماشية. وفي أرضه ومياهه أنواع الطيور والأسماك وتعيش فيه الجمال كما تعيش البغال وتسمن فيه الجواميس كما ينمو الغنم والمعزى فيه زهاء مائة وثلاثين منجما لم يستثمر منها إلا القير والفوسفات والحمر، على أن فيه الذهب والفضة والنيكل والحديد والفحم الحجري والرصاص والمغرة والنحاس والكروم والزئبق والكبريت والسنباذج والجبس والنفط والإثمد والزاج والمرمر. ومن الحمامات المعدنية حمام طبرية وحمة سمخ وحمة أبي رباح وحمة ضمير وحمة معلولا وحمة إنطاكية والمرقب وزرقاء معين وعجلون ولها كلها من الخواص الصحية ما اشتهر أمره. هواء الشام وماؤه: صُقع حوى غرائب الطبيعة تشهد فيه بردا قارسا بل شتاءً مستوفى في قنن جباله وسفوحه في حين تشهد في أغواره كغور بيسان وغور الصافي وطبرية وأريحا ربيعا تاما بل صيفا معتدلا، وبينما تذيب شمس الصفاة واللجاة رأس قاصدهما، إذا به في ريح بليل عليل إذا قصد الجبال وما إليها. فهو مصطاف ومرتبع ومشتى في آن واحد. وفيه ما لا يكاد يوجد له مثيل في الأرض: بحيرة طبرية تحت سطح البحر على 1316 قدما وفيها أسماك كثيرة، وبحيرة لوط لا يعيش فيها حيوان فكأن نهر الأردن الذي يجري من بحيرة طبرية وينتهي ببحيرة لوط هو في أوله حياة وفي آخره موت، وهذا لا نظير له في العالم. ومن عجائب طبيعة الشام إن تنبجس في بعض أصقاعه عيون طيبة ثرة في بقعة ضيقة. ففي الجديدة على مقربة من الحولة عشرات من العيون على هضبة سميت بها البلدة مرج عيون وفي جبل ريحا من عمل حلب عيون لطيفة دارة في الأعالي تكاد تخلو منها السهول المنخفضة المجاورة. ومياه الشام على الجملة طيبة لذيذة.

خصائص الشام:

خصائص الشام: قطر هذه مواهبه قامت فيه في الأزمان الغابرة النصرانية واليهودية. وانبعث من أرجائه مجد الإسلام، فكان مباءة أول دولة عربية إسلامية، ثم آوى إليه الشيع الغريبة من النحل والمذاهب التي لا مثيل لها في غيره، كالدرزية والإسماعيلية والنصيرية والسامرة بل معظم المذاهب الإسلامية والنصرانية والإسرائيلية وتبلغ سبعة عشر مذهبا وجملة من العناصر القوية ذات المدنية التي استحالت عربا. رأى الشام طلعة موسى وعيسى من النبيين، والإسكندر وابن الخطاب وخالد بن الوليد وموسى بن نصير ونور الدين وصلاح الدين وسليم وإبراهيم من الفاتحين. وعمر بن عبد العزيز والمأمون وابن تيمية من المجددين. وبختنصر وهولاكو وجنكيز وغازان وتيمور من المخربين، وقلَّ في الممالك كما قال كورتيوس ما اندمج فيه كثير من التواريخ في بقعة ضيقة كهذه. الشام مهوى أفئدة الشعوب النصرانية واليهودية، ومجاز حجاج المسلمين إلى الأماكن الطاهرة القدسية والحجازية، بل نقطة الاتصال القريبة بين آسيا وأفريقيا وآسيا وأوروبا، بل بين القارات الثلاث القديمة آسيا وأوروبا وإفريقية، وأجمل مصيف ومشتى للأقطار الحارة المجاورة كالحجاز والعراق ومصر. والشام في أواسط الأقطار التي يتكلم أهلها بالعربية وهو بلد الخيال والشعر، والهمم العلياء واستقلال الفكر، وأرضه أبدا باسمة طرة كسمائه: مصحة أبدان ونزهة أعين ولهو نفوس دائم وسرورها مقدسة جاد الربيع بلادها ففي كل أرض روضة وغديرها.

سكان الشام

سكان الشام الأمو واللودانو: من الصعب الحكم على أصول السكان في الشام قبل أن يُعرف التاريخ، وتعيين أول من نزلها في القبائل قبل أن تبنى المدن والحواضر وتعرف المزارع والدساكر. وأقدم ما عرف منها قبائل كانت تعرف بالامو ورد ذكرها في الآثار المصرية ومعناها الشعب باللغة السامية اختلطت على ما يظهر بذرية لاوذ، أو بغيرها من القبائل التي كانت تسكن شمالي الشام، وسمي هذا القبيل بالروتانو أو اللودانو، ويقسمون إلى روتان المغرب ويراد بهم سكان دمشق وأرض كنعان، وإلى روتان المشرق أو الأعلى وهؤلاء كانوا ينزلون في شمالي الشام وجزء من غربي ما بين النهرين ولعل ذلك كان قبل الطوفان، طوفان نوح أو بعده بقليل. وقد حدث الطوفان قبل المسيح بنحو ألفين وخمسمائة سنة، ولم يعم الكرة الأرضية ولا برا من بُرورها المعروفة، بل انحصر في بقعة صغيرة من آسيا على الأرجح أي إنه كان في الجزيرة على ما ذكره أهل الإدراك من المفسرين. وظهرت بعد الطوفان أمم كثيرة سكنت الشام، بعضها من أصل سامي وبعضها لم يعرف عنه شيء، ومنها ما عرف أنه أتى من الأصقاع المجاورة ومنها من لم يثبت أصله. فقد ظهر بعد الطوفان الآراميون في دمشق والجيدور والجولان والبقاع وحمص ولبنان، وآرام هو الاسم الذي أطلقته

التوراة على الشام وبين النهرين، وكان يسكنها أبناءُ آرام الابن الخامس لسام. وأقام الأموريون في الأرض الواقعة بين البحر والأردن، والعمونيون في أرض جلعاد أي في شرقي الأردن، والموآبيون في الجنوب الشرقي من بحيرة لوط، والإسماعيليون من نسل إسماعيل جد العرب في سلع والبتراء وما جاورها. وانتشر الأدوميون من وادي العربة إلى حدود العقبة عقبة أيلة والفينيقيون في صورا وصيدا وجبيل، وتفرعت من هذه القبائل فروع كثيرة في قرون مختلفة. ولا تعرف أصول أكثر هذه القبائل. وقد قال رولنسون: إن أصل الفينيقيين من سكان البحرين في الخليج الفارسي ظعنوا من هناك إلى ساحل الشام منذ نحو خمسة آلاف سنة وأنهم عرب بأصولهم وأن هناك مدنا فينيقية أسماؤها أسماء فينيقية مثل صور وجبيل. وذكر مكالستر أنه سكنت فلسطين شعوب من غير الساميين وربما عني بهم الحثيين والأموريين. والحثيون جنوبيون وشماليون وكان الجنوبيون في جهات فلسطين ونزل الشماليون أولا جبل اللكام امانوس ثم انتشروا بكرور الأيام من الفرات إلى حماة وحمص ومن دمشق وتدمر إلى كبدوكيا، ولم يكن لهم ملك واحد بل كان لكل فصيلة منهم ملك. ولم يعرف شيء عن الحثيين الشماليين قبل أن يمر الرحالة بروكهارت بحماة سنة 1812 ويرى على جدار أزقتها خطوطا قديمة بالخط المسند المصري أي الهيروغليفي تختلف عن الآثار المصرية وعثر على كثير من مثل هذه الآثار في حماة وحمص وحلب ومرعش وكركميش وغيرها، وقد علم من سحنات الحثيين الشماليين على ما رسموا في الآثار المصرية أنهم أقرب إلى الرومان منهم إلى سكان فلسطين ولون وجوههم أبيض ضارب إلى الحمرة. ومن أقدم شعوب الشام شعب كان ينزل منذ الزمن الأطول في السقي الأسفل من نهري الفرات وقزل ايرمق ويعتصم في مضايق جبال طوروس، عُرف عند اليونان باسم خيطايوس وعند العبران بخطي خطيم وعند الآشوريين بخاطي وعند المصريين بخايطي خاطي وعرفه المتأخرون بالحثيين، وهو شعب غير سامي مجهول اللسان. وأصل العبرانيين أو اليهود سبط من الساميين الذين نزلوا من جبال أرمينية إلى سهول الفرات على عهد مملكة الكلدان

الآراميون والعناصر الأخرى:

الأولى وضربوا نحو الغرب فجازوا الفرات فالبادية فالشام حتى انتهوا إلى عبر الأردن وراء فينيقية. وتعرف هذه الأسباط بالعبرانيين يعني أهل ما وراء النهر. قال هشام الكلبي: ما أخذ على غربي الفرات إلى برية العرب يسمى العبر وإليه ينسب العبريون من اليهود لأنهم لم يكونوا عبروا الفرات حينئذ. والعبرانيون كمعظم الساميين شعب من الرعاة الرحالة ولم يحرثوا الأرض، ولا سكنوا الدور والمنازل، وقد دعيت ديارهم أرض الميعاد أو أرض كنعان أو فلسطين. ودعاها اليهود أرض إسرائيل ثم دعيت بعدُ اليهودية ودعاها أهل النصرانية الأرض المقدسة، وكان عدد الإسرائيليين أيام عزهم 601. 700 رجل يحمل السلاح منقسمين إلى اثني عشر سبطا. الآراميون والعناصر الأخرى: وبعد انقراض دولة الحثيين في القرن الثامن قبل الميلاد عَمَّ اسم آرام هذه الديار فأصبح القسم الأكبر من سورية يسمى آراماً وسكانها الآراميين وقد ورد اسم آرام في التوراة مضافا عدة مرات مثل آرام رحوب وآرام معكة وآرام صوبا. وقيل إن إرَم الواردة في القرآن مضافة أيضا (إرم ذات العماد) هي دمشق بعينها. وللمفسرين في ذلك أقوال كثيرة ليس هذا محل إيرادها. وفي الشام عناصر منوعة من نسل حام بن نوح وسام بن نوح ويافث بن نوح. أي إن فيها الدم الآري والقافي القافقاسي والعربي والتركي وبعبارة أصرح فيها بقايا من الشعب الآشوري والبابلي والكلداني والكنعاني والفينيقي والعبراني والحثي والفارسي والروماني واليوناني والتتري والعربي. وكانت منذ عهد بني إسرائيل موطن العصبيات وفيها على رأي ابن خلدون قبائل فلسطين وكنعان وبني عيصو وبني مدين وبني لوط والروم واليونان والعمالقة واكريكش والنبط من جانب الجزيرة والموصل ما لا يحصى كثرة وتنوعا في العصبية، ولذلك يتعذر ردُّ كل جنس إلى جنسه اليوم بعد هذا التمازج الذي دام أكثر من

العناصر القديمة والعرب:

ستين قرنا في هذه البوتقة الجميلة مضافة إلى الأصول التي كانت فيها من قبل ونعني بهذه البوتقة الديار الشامية. العناصر القديمة والعرب: كل أُمة عظيمة عرفت في الشام طال عمرها بضعة قرون ثم فنيت في غيرها وأُدعم الضعيف في القوي وتمثل المغلوب في الغالب مع توالي الأيام والليالي. وهكذا يقال في السريان والعبران واليونان والرومان. ويمكن أن يقال في الجملة إنه كان في الشام منذ القرن السادس عشر قبل الميلاد شعوب كثيرة أهمهم الكنعانيون النازلون في الجنوب والوسط والشمال والآراميون، وما وراء ذلك من الشمال يسكنه الحثيون. ولم تطل حياة عنصر في صحة بالشام كما طالت حياة العرب فإنهم فيها على أصح الأقوال منذ زهاء ألفين وخمسمائة سنة وأوصله بعضهم إلى نحو أربعة آلاف سنة، وهم الذين اندمج فيهم عامة الشعوب القديمة واستعربت فلم تعد تعرف غير العربية لسانا ومنزعا. ولذلك كان من المعقول أن يدل الشامي بعربيته أكثر من إدلاله بفينيقيته وروميته وسريانيته وعبرانيته. وفي تاريخ فلسطين أن العرب دخلوا فلسطين قبل الإسلام بقرون. والدليل أن نرحم سين ابن سرجون غزا فلسطين سنة 3800 ق. م. وصادف في سينا حكومة عربية ثم حارب قبيلة معان العربية وأسر أميرها، وقد ظهر من آثار بابل ما يثبت ذلك. ومنها أن سرجون الثاني غزا عرب البادية الذين اعتدوا على السامرة وأخضع قبائلهم ومنها ثمود ومدين ومساكنهم شرقي الأردن وحارب عباديد وأخذ منهم طائفة وأسكنها في السامرة. ولما جاء الإسكندر إلى غزة وحاصرها كانت حاميتها عربا فقاومته أشد مقاومة، ومنها أن أحد تلامذة المسيح بشر بلغات عديدة منها اللغة العربية كما ورد في أعمال الرسل، ومنها أن الحارث حاكم دمشق كان عربيا لما دخلها بولس الرسول كما ورد في رسالته إلى أهل مدينة كورنثوس، ومنها أن تيطس لما جاء لفتح القدس كان معه الحارث ملك العرب يقود فرقة عربية، ومنها أن هركانوس المكابي التجأ إلى الحارث ملك العرب فأنجده وساعده على أخيه

دول العرب الأقدمين:

ارستوبولس، ومنها أن فيلبس الروماني الذي صار إمبراطورا في رومية سنة 244 ب. م. كان عربيا من بُصرى في حوران. والغالب أن في العرب خاصية التمثيل إذا جاوروا شعبا قربوه من مناحيهم وأدخلوا عليه لغتهم، وهم المادة العظمى التي ما زالت تفيض على الشام. وأهل الوبر والمدر أو البادية والحضر منهم، من أصبر الأمم على الحروب والأسفار الطويلة والاكتفاء بميسور العيش، لكنهم لا يصبرون على الضيم والأذى. ولطالما غزوا من جزيرتهم العراق وفارس والجزيرة والشام، ولم يسمع أن حكمتهم أمة وقد تمكنوا كما قال جويدي من غزو الأعداء. ولهم المفازة التي بينهم وبين العراق والشام أي بادية الشام والنفود، ومن هجم عليهم في ديارهم لم تدم سلطنته عليهم كملوك الآثوريين أو رجع بالخيبة والافتضاح كغالوس. دول العرب الأقدمين: كانت العرب تختلف إلى الشام قبل الإسلام بقرون طويلة، قامت لهم فيها وفي جوارها دول عظيمة خلقت من آثارها مما دلَّ على عظمتها، فمنها دولة النبط ويغلب في أسماء ملوك النبطيين اسم الحارث وعبادة ومالك وهم عرب من بقايا العمالقة، والعمالقة قوم من عاد وهم القوم الجبارون في الشام. ولم تخلف البتراء غير تدمر وأصل ملوكها من سلالة عربية أيضا. وقد أبقت هاتان الدولتان من أصولهما وحاميتهما جندا كثيرا أصبحوا بعدُ من جملة سكان الشام والمادة الأولى للعربية فيه. قال نالينو: النبط أو النبيط في اصطلاح العرب في القرون الأولى للهجرة اسم أهل الحضر المتكلمين باللغات الآرامية الساكنين في الشام وخصوصا في الصقع الواقع ما بين النهرين، وليسوا النبط أو الأنباط الذين اتسعت مملكتهم في أرض الحجاز الشمالية إلى حدود فلسطين ونواحي دمشق. سليح وغسان والضجاعم: وقد ذكر المؤرخون أن نزول العرب في ديار الشام أقدم من ذلك

التنوخيون:

بقرون فإن تكلت فلاسر أحد ملوك أشور غزا الشام مرارا من سنة 743 إلى 732 ق. م. وأخضع في خلال ذلك السامرة ودمشق وصور وحماة وعرب البادية بين فلسطين ومصر وكانت عليهم يومئذ ملكة اسمها حبيبة. وقيل: إن أول من دخل الشام من العرب سليح وهو من غسان - وغسان ماء نزل عليه قوم من الأزد بين رِمَع وزبيد في اليمن فنسبوا إليه - ويقال من قضاعة فدانت بالنصرانية وملَّكَ عليها ملك الروم رجلا منهم يقال له النعمان بن عمرو بن مالك فلما خرج عمرو بن عامر مزيقيا من اليمن في ولده وقرابته ومن تبعه من الأزد أتوا أرض عك في اليمن ثم أرض الحجاز وصار منهم قوم إلى الشام، منهم آل جفنة ملوك الشام فكتب سليح إلى قيصر يستأذنه في إنزالهم فأذن لهم على شروط شرطها عليهم. وبنو غسان في الحقيقة حي من الأزد على رواية المسعودي من القحطانية قال أبو عبيد: وهم بنو جفنة والحارث وهو ثعلبة والعنقاء وحارثة ومالك وكعب وخارجة وعون بن عمرو بن مزيقيا. وذكر الحمداني أن في البلقاء طائفة منهم وباليرموك الجم الغفير وبحمص منهم جماعة. وحكم ملوك غسان حوران والبلقاء والغوطة وحمص ودمشق. قال المسعودي: وكانت ديار ملوك غسان باليرموك والجولان وغيرهما بين غوطة دمشق وأعمالها، ومنهم من نزل الأردن وقد أخرجت غسان من الشام سليحا وصاروا ملوكها، وأول من ملك جفنة بن عمرو فقتل ملوك قضاعة من سَليح الذين كانوا يدعون الضجاعمة أو الضجاعم ودانت له قضاعة ومن بالشام من الروم وجميع ملوك جفنة من آل غسان اثنان وثلاثون ملكا لبثوا في ملكهم ستمائة وست عشرة سنة وقيل أربعمائة سنة. التنوخيون: هذا في الجنوب أما في الشمال فقد نزل التنوخيون قبل الإسلام بقرون، وسموا تنوخيين لأنهم حلفوا على المقام بالشام، والتتنخ والتنوخ المقام، كانوا قبائل تتاخم منازلها مملكة الروم، فلما غزا ملك الفرس الروم، وأذرع فيهم القتل والسبي وخرب العمائر، أنفذ ملك الروم إلى تنوخ يستنجدهم

المهاجرات والايطوريون:

على ملك الفرس فأنجدوه، وقاتلوا معه قتالا شديدا، ثم سألوا ملك الروم أن يتولوا حرب الفرس منفردين عن جند الروم لتظهر له طاعتهم وغناؤهم فأجابهم إلى ذلك فقاتلوا الفرس وظفروا بهم، فأُعجب بهم ملك الروم وفرق فيهم الدنانير والثياب وقربهم وأدناهم وأقطعهم سورية وما جاورها من الأصقاع إلى الجزيرة. وسورية مدينة بقرب الأحصّ على جانب البرية. قال ابن العديم: هذا منتهى أمرهم في الجاهلية. ولم يعرف الزمن الذي كان فيه التنوخيون، وبعضهم يقول: إنهم كانوا في أواخر القرن الثالث للمسيح ويقول المسعودي: إن قضاعة بن مالك بن حمير أول من نزل الشام وانضافوا إلى ملوك الروم فملكوهم، بعد أن دخلوا في دين النصرانية، على من حوى الشام من العرب، فكان أول ملوك تنوخ النعمان بن عمرو بن مالك، ثم ملك بعده عمرو بن النعمان ابن عمرو، ثم ملك بعده الحواري بن النعمان ولم يملك من تنوخ غيرهم. ثم وردت سليح الشام فتغلبت على تنوخ وتنصرت فملكتها الروم على العرب الذين بالشام. قال: وغلبت غسان على من بالشام من العرب فملكها الروم على العرب وإن من ملكته الروم من اليمن بالشام تنوخ والضجاعم من سليح بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة وغسان استكفاء بهم من يليهم من بادية العرب. المهاجرات والايطوريون: والغالب أن معظم مهاجرات العرب إلى الشام كانت تقع عقيب حوادث طبيعية في أرضهم من جفاف وطوفان وجدب وموتان، فيستهويهم بخصبه، وينتجعون هناءة العيش في أرجائه. وفي الأغاني لما أرسل الله سيل العرم على أهل مأرب قام رائدهم فقال: من كان منكم يريد الخمر والخمير، والأمر والتأمير، والديباج والحرير، فليلحق ببصرى والحفير، وهي من أرض الشام فكان الذين سكنوه غسان. ومن الدول العربية التي اشتهرت زمن دخول الرومان إلى سورية دولة الإيطوريين ومعنى الإيطوريين بالعبرية الجبليون، وهم شعب عربي جاءوا

سليح وعاملة وقضاعة:

من ايتورة أي الجيدور شمالي حوران واشتهروا برمي النشاب فاستولوا بمضائهم الحربي على جبل الشيخ حرمون والبقاع إلى فينيقية، وبعض أسماء الجنود الجيدوريين التي جاءت في الكتابات اللاتينية باللغة الآرامية وبعضها باللغة العربية. قال دوسو: لم تكن هجرة العرب إلى سورية مما ينسب لإدارة الرومان كما يظن بعضهم بل إن الأحوال قد سهلت طرقها في ذاك العصر وضمنت لهم رسوخ قدمها في ظل السلام. فقد كانت مدينة حمص في يد حكومة عربية قبل وصول القائد بونبيوس إلى سورية وأن الأقيال الذين تولوا أمر تلك الديار لتطلق عليهم ألقاب عربية صرفة، كما يفهم من آثار الصفا. ولما جاء الإسكندر إلى الشام كان العرب يحتلون لبنان. سليح وعاملة وقضاعة: وممن يجب عدهم في المهاجرة الأول من العرب إلى الشام سليح الذين أشرنا إليهم آنفا فقد قال البكري: سارت سليح بن عمرو بن الحاف ابن قضاعة يقودها الحدرجان بن سلمة حتى نزلوا ناحية فلسطين على بني أذينة بن السميدع من عاملة وانتشر سائر قبائل قضاعة في القطر، يطلبون المتسع في المعاش ويؤمون الأرياف والعمران، فوجدوا بلادا واسعة خالية في أطراف الشام قد خرب أكثرها، واندفنت آبارها، وغارت مياهها، لإخراب بخت نصّر لها، فافترقت قضاعة فرقا أربعا ينضم إلى الفرقة طوائف من غيرها يتبع الرجل أصهاره وأخواله فسار ضجعهم ابن حماطة ولبيد بن الحد رجان السليحي في جماعة من سليح وقبائل من قضاعة إلى أطراف الشام ومشارفها وملك العرب يومئذ ظرب بن حسان بن أذينة ابن السميدع بن هزبر العمليقي فانضموا إليه وصاروا معه فأنزلهم مناظر الشام بين البلقاء إلى حوارين إلى الزيتون جبال فلسطين فلم يزل ملوك العماليق يغزون معهم المغازي ويصيبون المغانم حتى صاروا مع الزباء بنت عمرو بن الظرب اللخمي واستولوا على الملك بعدها وظلوا ملوكا حتى غلبتهم غسان على الملك، قال بعض آل سعد بن ملكيكرب يذكر منازل

لخم، جذام، عاملة، ذبيان، كلب:

من خرج من اليمن وقد ذكر غسان وقضاعة وكلبا: وغسان حيٌّ عزهم في سيوفهم ... كرام المساعي قد حووا أرض قيصر وقد نزلت منا قضاعة منزلاً ... بعيداً فأمست في بلاد الصنوبر وكلب لها ما بين رملة عالج ... إلى الحَرَّة الرجلاء من أرض تَدمر وعالج رمال معروفة في البادية، والحرة الرجلاء في ديار بني القين في أطراف الشام بين حوران وتيماء، والشاعر يقول إنها من أرض تدمر. وفي تاريخ الأمم الإسلامية: إن الضجاعمة ملوك اصطنعهم الرومان ليمنعوا عرب البرية من العبث وليكونوا عدة على الفرس وولوا منهم ملكا ومن أشهر ملوكهم زياد بن الهبولة. لخم، جذام، عاملة، ذبيان، كلب: ذكر الهمداني مساكن من تشاءم من العرب أي دخل الشام فقال أما مساكن لخم فهي متفرقة وأكثرها بين الرملة ومصر في الجفار ومنها في الجولان ومنها في حوران والبثنيّة، ومدينة نوى، وبها خلف بن جبلة القصيري وابن عزير اللخمي مسكنه طرف جبال الشراة، وأما جذام فهي بين مدين إلى تبوك فإلى أذرح ومنها فخذ مما يلي طبرية من أرض الأردن إلى اللجون واليامون إلى ناحية عكا، وأما عاملة فهي في جبلها مشرفة على طبرية إلى نحو البحر، وأما ذبيان فهي من حد البياض بياض قرقرة - والقرقرة الأرض الملساء - وهو غائط - والغائط كالغوطة المطمئن من الأرض - بين تيماء وحوران لا يخالطهم إلا طي وحاضرهم السواد ومرو والحيانيات - والحيانية كورة بالسواد من أرض دمشق وهي كورة جبل جرش قرب الغور - وأما كلب فمساكنها السماوة - والسماوة الأرض المستوية لا حجر بها وهي البادية بين الكوفة والشام - ولا يخالط بطونها في السماوة أحد. ومن كلب بأرض الغوطة عامر بن الحصين بن عليم وابن رباب المعقلي ومن بني الحارث بن كعب بيت يسكنون بالفلجة من أرض دمشق والفلجات في شعر حسان بالشام كالمشارف والمزالف بالعراق والمشارف جمع مشرف قرى قرب حوران منها بصرى.

جهينة، القين، بهراء، تنوخ:

جهينة، القين، بهراء، تنوخ: ثم اللخم ومن يخالطها من كنانة ما حول الرملة إلى نابلس ولهم أيضا ما جاز تبوك إلى زغر - قرية بمشارف الشام - ثم البحيرة الميتة. وللخم أيضا الجولان وما يليها من الأرجاء نوى والبثنية وشقص من أرض حوران، ويخالطهم في هذه المواضع جهينة وذبيان ومن القين وعن أيسر جبال الشراة مدائن قوم لوط قال: وفي الحيانيات وما يليها ديار القين حيث كانت بقية من جديس إخوة طسم، فإذا جزت جبل عاملة تريد قصد دمشق وحمص وما يليها فهي ديار غسان من آل جفنة وغيرهم، فإن تياسرت من حمص عن البحر الكبير وهو بحر الروم وقعت في أرض بهراء، ثم من أيسرهم مما يصل البحر تنوخ وهي ديار الفضيض سادة تنوخ ومعكودهم المقيم الملازم، ومنها اللاذقية على شاطئ البحر ثم تقع في نصارى وغير ذلك إلى حد الفرات، وما وقع في ديار كلب من القرى تدمر وسلمية والعاصمية وحمص وهي حميرية، وخلفها مما يلي العراق حماة وشيزر وكفر طاب لكنانة من كلب. إياد وطييء وكندة وحمير وعذرة وزبيد وهمدان ويحصب وقيس: يؤخذ مما قاله اليعقوبي أن أهل حماة قوم من يمن والأغلب عليهم بهراء وتنوخ وصوران - كورة بحمص - وبها قوم من إياد، وأهل حمص جميعا يمن من طييء وكندة وحمير وكلب وهمدان وغيرهم من البطون، وأهل التمة من أقاليم حمص كلب، وأهل سلمية من ولد عبد الله بن صالح الهاشمي ومواليهم وأهل تدمر كلب، وتلمنس مساكن إياد وتل منس حصن قرب المعرة، ومعرة النعمان أهلها تنوخ وأهل البارة بهراء وفامية عذرة وبهراء، وأهل مدينة شيزر قوم من كندة ومدينة كفر طاب والأطميم، وهي مدينة قديمة وأهلها قوم من يمن، من سائر البطون وأكثرهم كندة وأهل اللاذقية قوم من يمن من سليح وزبيد وهمدان ويحصب وغيرهم، وأهل مدينة جبلة همدان، وبها قوم

الفرس والزط:

من قيس ومن إياد، ومدينة بانياس وأهلها أخلاط، وأهل مدينة انطرطوس قوم من كندة. قال: وكانت دمشق منازل ملوك غسان والأغلب على أهلها أهل اليمن وبها قوم من قيس، وأهل الغوطة غسان وبطون من قيس وبها جماعة من قريش، وجبال ومدينتها عرندل - قرية من أرض الشراة - وأهلها قوم من غسان ومن بلقين وغيرهم ومآب وزغر وأهلها أخلاط من الناس، والشراة ومدينتها أذرح وأهلها موالي بني هاشم، وبها الحميمة منازل علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب وولده. والجولان ومدينتها بانياس وأهلها قوم من قيس أكثرهم بنو مرة، وبها نفر من أهل اليمن، وجبل سنير - أي لبنان الشرقي ويدخل فيه جبل قلمون ووادي التيم - وأهلها بنو ضبة وبها قوم من كلب. واختلف الباحثون في الغسانيين إذا كانوا حكموا دمشق أم لم يحكموها وكون منازلهم كانت بجلق صحيح نقله ثقات العرب وورد في شعر حسان وقال نولدكه: إن بني غسان لم يتولوا الحكم إلا على قبائل حوران وشرقي الأردن. وقد قال الأخنس بن شهاب من شعراء الجاهلية: وغسّان حيّ عزهم في سواهم ... يُجالد منهم مقنب وكتائب وبهراء حيّ قد علمنا مكانهم ... لهم شَرَك حول الرُّصافة لا حب معناه هم ملوك ولم يكونوا كثيرا، وكانت الروم توليهم وتقاتل عنهم فعزهم في غيرهم، وكانوا نزولا على قوم من العرب. والمقنب الجماعة والشرك اللاحب الطرق المدمثة. الفرس والزط: وبعلبك وأهلها قوم من الفرس، وفي أطرافها قوم من اليمن، وجبل الجليل وأهلها قوم من عاملة ولبنان وصيدا وبها قوم من قريش ومن اليمن، وكورة عرقة - شرقي طرابلس - ولها مدينة قديمة فيها قوم من الفرس ناقلة وبها قوم من ربيعة من بني حنيفة، ومدينة طرابلس وأهلها قوم من الفرس نقلهم إليها معاوية بن أبي سفيان، كما نقل منهم إلى جبيل

الأخلاط والسامرة وجذام وعذرة ونهد وجرم والأزد:

وصيدا وبيروت. وقد نقل معاوية قوما من فرس بعلبك وحمص وإنطاكية إلى سواحل الأردن وصور وعكا سنة 42 ونقل من أساورة البصرة والكوفة وفرس بعلبك وحمص إلى إنطاكية جماعة. والغالب أن الفرس عند دخول العرب المسلمين إلى الشام كانوا أصحاب مكانة حتى جرى ذكرهم بالتنصيص في العهد الذي أعطاه أبو عبيدة إلى أهل بعلبك رومها وفرسها وعربها. وقال البلاذري: نقل معاوية في سنة 49 أو سنة خمسين إلى السواحل قوما من زط البصرة والسبايجة وأنزل بعضهم إنطاكية، وكان الوليد بن عبد الملك نقل إلى إنطاكية قوما من الزط السند. وكثرت هجرة الناس على اختلاف عناصرهم إلى هذا القطر لأن قصبته أصبحت عاصمة الدولة الإسلامية الكبرى. الأخلاط والسامرة وجذام وعذرة ونهد وجرم والأزد: وأهل مدينة طبرية قوم من الأشعريين هم الغالبون عليها، وأهل صور وعكا وقدس وبيسان وفحل وجرش والسواد أخلاط من العرب والعجم. وأهل الرملة أخلاط من العرب والعجم، وذمتها سامرة، وأهل مدينة نابلس أخلاط من العرب والعجم والسامرة، وأهل كورة جبرين قوم من جذام، وأهل جند فلسطين أخلاط من العرب من لخم وجذام وعاملة وكندة وقيس وكنانة. وذكر القلقشندي أن بني كلب كانوا ينزلون في الجاهلية دومة الجندل الجوف كما نزلوا تبوك وشيزر وحلب وبلادها، وفي تدمر والمناظر أقوام منهم، ومن بني عذرة أقوام بالشام، وكذلك من بني نهد وفي غزة جرم طيىء وللأزد بقايا في زرع وبصرى، ولغسان بقايا بالبلقاء واليرموك وحمص وهذا في القرن الثامن للهجرة، وكان غسان وجذام وكلب ولخم وغيرهم من القبائل يعدون من المستعربة، كما قال ابن البطريق، استجلبهم هرقل لما سمع أن المسلمين فتحوا فلسطين والأردن وصاروا إلى البثنية. ولما وصل أبو عبيدة بن الجراح فاتح الشام إلى حاضر حلب وهو قريب منها جمع أصنافا من العرب من تنوخ وغيرهم، وكانوا أرسلوا إلى خالد بن الوليد أنهم عرب وأنهم إنما حشروا مع الروم ولم يكن من رأيهم حربه فقبل منهم وتركهم.

قيس ويمن وإحصاء السكان:

قيس ويمن وإحصاء السكان: رأينا في ما تقدم من النقول أن كل إقليم بل كل بلد ناله حظ من نزول العرب في أرجائه وذلك قبل الإسلام وبعده: بها غرر القبائل من معد وقحطان ومن سروات فهر ومجموع أصولهم يرجع إلى قيس ويمن، وهم الذين كان يطلق عليهم اسم العشران. وكثيرا ما كانت تقع بينهم حروب أهلية تسيل فيها الدماء وينادي فيها يا للثارات. انتشروا من الجنوب إلى الشمال ودام ذلك إلى العهد الأخير، وكانت بقايا هذه النغمة في لبنان إلى القرن الماضي فدثرت. وآخر حرب نشبت بين قيس ويمن الحرب التي وقعت في قرية خربثة بفلسطين والحرب التي نشبت في قرية عين دارة في جبل لبنان سنة 1710 م. ويتعذر الآن الحكم على أجيال العرب التي نزلت الشام لما طرأ على القطر من ضروب البلاء كالوباء والجدب والزلزال والظلم والجلاء. وقد ذكر لامنس أن العرب المسلمين لما انتهوا من أمر الجابية وعمواس ودابق أي لما فتحوا الشام برمته أنشئوا ينزلون المدن والقرى وقد دخل منهم قبائل برمتها قدرها من مائة إلى مائتي ألف ونظن هذا التقدير أقل من الحقيقة لأن المسجلين بديوان العطاء في دمشق فقط كانوا في الصدر الأول خمسة وأربعين ألفا فما بالك بسائر من كان يجري عليه العطاء في البلدان الأخرى وغيرهم من التجار وأصحاب الزرع والضرع؟ قال: فلو فرضنا أن نصفهم قتلوا في الحروب فيبقى النصف الآخر أمام السكان الأصليين وكانوا من أربعة إلى خمسة ملايين، وكان في الشام على عهد الرومان نحو سبعة ملايين. وقال بعض الباحثين من الإفرنج: إن الشام على عهد الإسكندر أي قبل المسيح بثلاثة قرون كان يسكنها عشرون مليونا من البشر، ولما جاءت العرب في القرن السابع كان سكانها قد نقصوا حتى بلغوا عشرة ملايين وفي عهدنا بلغ عددهم نحو سبعة ملايين. المردة والجراجمة والأرمن والروم والموارنة: لقب أهل لبنان بالمردة أي العصاة لعصيانهم أمر ملك الروم في عدم

التعرض للعرب. والمردة هم المعروفون في كتب العرب بالجراجمة نسبة لمدينة جرجومة كانت على جبل اللكام بالثغر الشامي عند معدن الزاج فيما بين بياس وبوقة قرب إنطاكية وقد صالح الجراجمة المسلمين على أن يكونوا أعوانا لهم وعيونا ومسالح في جبل اللكام، ودخل معهم من كان في مدينتهم من تاجر وأجير وتابع من الأنباط من أهل القرى ومن معهم في هذا الصلح فسموا الرواديف لأنهم تلوهم وليسوا منهم. وكانوا يستقيمون للولاة مرة ويعوجون أخرى فيكاتبون الروم يمالئونهم على المسلمين. أخذ يوستنيانوس ملك الروم اثني عشر ألف مقاتل من المردة أو الجراجمة على رواية الدويهي إرضاء للخليفة عبد الملك الأموي. وأسكن أبو جعفر المنصور بعض العشائر في الأرض الخالية المجاورة منازل المردة في لبنان. وكان المردة يعتدون على أبناء السبيل بين دمشق وبيروت. ولما جاء المنصور إلى دمشق قدم عليه الأمير أرسلان بن مالك من المعرة ومعه جماعة فشكوا إليه توالي القحط عليهم فأقطعهم جبال بيروت الخالية وعهد إليهم بحفظ الطريق فنزلوا في عشائرهم بحصن أبي الحبيش ثم نزلوا جبل المغيشة ظهر البيدر ومنها امتدوا إلى سن الفيل، وصارت بينهم وبين المردة وقائع. وفي أوائل حكم العباسيين أخرج صالح بن علي قوما من الأرمن واللان ممن كانت الروم تسيرهم من أرمينية مع جاثليقهم وأسكنهم الشام، ومن هذا اليوم امتنع ملوك الروم أن يسكنوا في سلطانهم أحدا من الأرمن ولا سيما في المواضع القريبة من الثغور أي ثغور الشام أو بلاد قيليقية. وفي سنة 189 أرسل هارون الرشيد منشورا إلى ثابت بن نصر الخزاعي أمير الثغور الشامية ومناشير أخرى إلى باقي عمال الشام أن يطلقوا التنبيه في البلاد بالرحيل إلى لبنان لتشتد قوة أمرائه. ومثل ذلك وقع منذ خمسة قرون، فهاجرت مئات من الأسر المسيحية في القرن الرابع عشر وبعده من حوران وما إليها إلى لبنان، واعتصمت في معاقله ولا سيما بعد الفتح العثماني، وذلك تفاديا من قوة الشيعة في تلك الديار، كما أن الموارنة انتقلوا من أرجاء حمص وجبل سنير وظلوا ينتشرون في شمالي لبنان حتى وصلوا إلى كسروان والمتن والشوف وأقصى لبنان في جزين، كما انتقل الدروز في

التركمان والأتراك والأكراد والشركس وغيرهم:

الأعصر الثلاثة الأخيرة من الشوف ووادي التيم وغيرهما إلى جبل حوران الذي كان يسمى جبل الريان وجبل بني هلال أو امالدانوس وأصبحوا فيه الأكثرية المطلقة. وكما هاجر النصارى الشرقيون إلى القدس من أرض البلقاء وعمان وعرفوا بالمشرقيين ومحلتهم بالمشارقة. وبهذا رأينا أن الهجرة من صقع إلى صقع من أصقاع هذا القطر والهجرة من القاصية والهجرة إلى القاصية لم تنقطع في الإسلام كما أنها كانت كذلك منذ جلاء بني إسرائيل إلى بابل بل قبلها مما لم تبلغنا بالتفصيل أخباره. التركمان والأتراك والأكراد والشركس وغيرهم: نزل التركمان على عهد دولة بني مرداس العربية في شمالي حلب، وسير الأتابك زنكي طائفة من التركمان الإيوانية مع الأمير اليارق إلى الشام وأسكنهم في ولاية حلب وأمرهم بجهاد الإفرنج وملكهم كل ما استنقذوه منهم جعله ملكا لهم. ولم يزل جميع ما فتحوه في أيديهم إلى نحو سنة ستمائة. وأسكن صلاح الدين كثيرا من التركمان والأكراد في لبنان وساحله. والتركمان والأكراد كثروا جدا في الشام على عهد الدولتين النورية والصلاحية، وكان قسم عظيم من جند المسلمين إذ ذاك منهم، فتديروا الأقاليم واستعربوا. ولم تجيء دولة المماليك حتى كثر الشراكسة في هذه الديار واستعربوا هم وحكومتهم مع الزمن. وفي عهد العثمانيين نزل قبائل من التركمان في بغراس بيلان وما إليها وعادت هذه فتعربت بمن كان نزلها من الإسماعيلية العرب الذين أخضعوا لسلطانهم تلك الجبال، جبال اللكام وما إليها. جاء القرن الحادي عشر وفي الشام كما قال كاتب جلبي أنواع الألسنة كالعربية والتركية والكردية والفارسية والهندية والأفغانية والسليمانية وهذا كله في دمشق قال: وهناك مغاربة وسريان وعرب، وفي الإسكندرونة وطرابلس وصيدا والقدس اليونان واللاتين والطليان والفرنسيون والأسبان والإنكليز والنمساويون والبولونيون والروس والموسكوف والقبط والحبش والأرمن وجميع طوائف النصارى اهـ.

المهاجرون والمحدثون اليهود والأرمن:

ومن أعظم شعوب أوروبا عراقة في هذه الديار البنادقة والبيزان والجنويون والطوسقانيون من أهل إيطاليا وكانت أهم تجارة البحر المتوسط في أيديهم من القرن الخامس إلى القرن التاسع للهجرة ومنهم من توالد في ديارنا وملك الدور والتجارات الواسعة. المهاجرون والمحدثون اليهود والأرمن: وفي أواخر القرن الماضي جاء الشام قبائل كثيرة وجاليات مهمة من الطاغستان والبشناق والششن والشركس والمغاربة فنزلوا بعض القرى في فلسطين مثل قيسارية، وبعض بلاد الجنوب مثل عمان وعين صويلح وناعور ووادي السير، وبعض القرى في إقليم الجولان ومنها القنيطرة وما إليها من القرى، وبعض قرى حمص وحلب، فلم يأتِ عليهم بطن حتى استعربوا محتفظين بلغاتهم الأصلية، كما استعرب من قبل التراكمة والأكراد. وهناك بقايا من موظفي الترك سكنوا بعض مدن الشام على عهد العثمانيين وامتزجوا بأهلها وتعربوا. ومن أهم المهاجرين المتأخرين مهاجرو الصهيونيين من الإسرائيليين إلى فلسطين، وأكثرهم ممن اضطهدوا في روسيا وبولونيا ورومانيا، ومنهم من كانوا من العنصر الجرماني وهؤلاء يتعاصون على التعرب وقد جعلوا من لغاتهم الأصلية واللغة العبرية ألسنهم المدنية والدينية، ويقدرون الإسرائيليين عامة في فلسطين بنحو مليون ونصف مليون كان الألمان كثرتهم الغامرة، وقل عدد العرب فيها بعد أن طردهم اليهود من أرضهم وقدر عدد النازحين من المسلمين والنصارى بتسعمائة ألف تشردوا في الأقطار المجاورة، وما ندري هل يعلم أبناء إسرائيل العرب لسانهم أم يخضع العبرانيون بحكم الطبيعة إلى التعرب بعد جيلين أو ثلاثة كما جرى في كل مكان وطئتها أقدام العرب. وكذلك يقال في مهاجرة الأرمن والروم في الشام، فقد قذفت الحوادث الأخيرة في قيليقية وأزمير نيفاً ومائة وثمانين ألف نسمة أكثرهم من الأرمن، نزلوا حلب ودمشق وبيروت وغيرها من البلدان الصغرى. وقد عاد قسم عظيم منهم فجلا عن الديار الشامية، قصد بعضهم إلى أمريكا

عوامل النمو:

والآخر إلى مملكتهم الجديدة. وما يدرينا أيضا إذا كان من نزلوا الشام يستعربون كما تترك أجدادهم في آسيا الصغرى. وأصبح الأرمني والرومي لا يعرف غير التركية يتكلم بها في داره ويفهم بها صلواته، أم يؤلفون كتلة جديدة في وسط هذا المجموع العربي الكبير. عوامل النمو: ولولا أن مضى على الشام إلى قبيل الحرب العامة الأولى خمسون سنة وهو يرسل من أبنائه كل سنة إلى اليمن زهاء عشرة آلاف مجند يهلك أكثرهم كما أكد لي الثقة لقلنا ما زالت جزيرة العرب إلى اليوم ترسل إلى الشام من أبنائها أناسا يسكنونها ويمتزجون بأهلها كأن هذه الجزيرة العظيمة بعض ولايات الشام تعطيها أكثر مما تأخذ منها كما تعطي المدن الصغيرة للعواصم وقلما تعطي هذه لغيرها من أعمالها. ولولا اعتدال المناخ والرضا بالدون من العيش وتعدد الزوجات في الطبقة النازلة من الشعب والاعتقاد بالقدر وترك الأبوين المجال للتوالد لظهر عجز كبير في عدد السكان خصوصا بعد أن مُنيت الشام بالهجرة على مقياس واسع وغفل عن العناية بالأسباب الصحية. والأمم يكثر سوادها على قول سكريتان بأربعة عوامل وهي الهجرة والاستيطان والولادات والوفيات وبنقيضها تقفز الأرض ويقل ساكنوها. وقد كان أبناء الشام منذ عهد الدولة الرومانية في كل مكان كما تراهم الآن وكان منهم في جيش جرمانيكوس القائد الروماني عدة كتائب عندما حمل حملته على الرين. والبشر في فطرتهم التنقل وللسلطان الأرضي والسلطان الطبيعي آثار في ذلك مسطورة مشهورة. العرب في الشام والاختلاط: وما زالت إلى اليوم سحنات بعض سكان الأصقاع الشامية كحوران والبلقاء تنم عن أُصول عربية صرفة على ما نرى ذلك ماثلا في الطوائف التي

احتفظت بأنسابها العربية ولم يدخلها دم جديد كسكان الشوف ووادي التيم وجبل حوران وجبال الكلبية. وما طول القامات واتساع الصدور ومتانة العضلات والجملة العصبية والأدمغة في الأفراد إلا أدلة ناصعة على ما ورثه الشاميون من الدم العربي. وفي الشام جميع الأمزجة يكثر الدمويون مثلا في داخل القطر كالقدس ونابلس وصفد ودمشق وحمص وحماة وحلب وأنطاكية، كما يكثر الصفراويون العصبيون في يافا وحيفا وصيدا وبيروت وطرابلس واللاذقية والإسكندرونة من مدن الساحل. وإن ما في تركيب أدمغة السوريين من أشكال الرؤوس كالشكل البيضوي المستطيل المعروف عند الإفرنج ب دوليكوسفال - الشكل المدور المنبسط المعروف ب براكيسفال ليدل كل الدلالة على مبلغ الشاميين من الذكاء والمضاء فقد قال فوليه: إن اتساع الجبهة يشعر باستعداد الحواس العقلية، وامتداد القذال ينم عن استعداد للشهوات الجسمية. وفي وجوه السوريين تقرأُ بعض أصولهم القديمة وما امتزجت به من الدم الحديث فسود الشعور والعيون والبشرة إجمالا هم من أصل عربي، وشقر الشعور وزرق العيون وبيض البشرة فيهم الدم القافقاسي. وفي تراكيبهم دم العبيد والزنوج كما فيهم دم العِرق الأبيض. قال جلابرت: إذا فحصت الصور المكتشفة في صيدا تحققت أنه كان يدخل في خدمة السلوقيين رجال من كل فج وصوب، منهم يونان كأهل لقديمونة واقريطش، ومنهم أسياويون كأهل قارية وبيسيدية وليقية وليدية، وإن العقل ليحار باختلاط كل هذه الجنسيات في جيوش السلوقيين. وسكان الحولة وأريحا والغور ويقال لهم الموارنة لا يشبهون بالطبع سكان اللبنانين الغربي والشرقي وجبال اللكام لمكان الهواء واختلاف البعد والقرب عن سطح البحر. وابن ضفاف العاصي وبردى ليس في طبيعته كالنازل على ضفاف الأردن والفرات. والاختلاف ما بين من نزل البطون وبين من نزل الحزون وبين من نزل النجود وبين من نزل الأغوار مشهود في كل أُمة، ومع هذا تساوى سكان هذا القطر من حيث الجملة كما قال الجاحظ في العرب: في التربة وفي اللغة والشمائل، وفي الأنفة والحمية،

وفي الأخلاق والسجية، فسبكوا سبكا واحداً، وأفرغوا إفراغا واحدا، وكان القالب واحداً، تشابهت الأجزاء وتناسبت الأخلاط حتى صار ذلك أشد تشابها في باب الأعم والأخص وفي باب الوفاق والمباينة من بعض الأرحام. وبعد فإن من نراهم من أبناء الشام على اختلاف أرجائه وهوائه هم سلالة أولئك الجدود ظهروا على الزمن بمظهر آخر فكانوا كأبدع الفسيفساء في الرقعة الجميلة.

لغات الشام

لغات الشام اللغة الآرامية والسريانيية والعبرانية والفينيقية والعربية: اللغات التي انتشرت في الشام قبل الإسلام كثيرة أهمها اللغات السامية أخوات اللغة العربية وهي السريانية والعبرانية والفينيقية. وقد قسم جويدي أهل اللغات السامية إلى قسمين أكبرين شرقي وهم أهل أثور أي أهل بابل وأشور، وغربي وهو إما شمالي وإما جنوبي، فأما الشمالي منهما فينقسم قسمين كبيرين أحدهما الكنعاني ويشمل العبراني والفينيقي وغيرهما والآخر آرامي. وأما الجنوبي فهو نوعان النوع الأول العربية المعهودة أي لغة القبائل التي سكنت النواحي الشمالية من جزيرة العرب، والنوع الثاني عربية القبائل الجنوبية كسبإ وحمير ويشبه هذا النوع لغة الحبش القديمة. وقد يسمى النوع الأول لسان العرب المستعربة ويسمى النوع الثاني لسان العرب العاربة. فالعبرانية من لغات كنعان ومن اللغات الكنعانية لغة موآب ومن لغات الكنعانيين لغة الفينيقيين وقال: إن اللسان الآرامي هو النوع الثاني من القسم الشمالي في اللغات السامية، وفي هذا اللسان قسمان أحدهما غربي وهو لسان اليهود المتخلفين في فلسطين وفي مصر وهو لسان عدة أمم كالسامرة

البابلية والكنعانية والكلدانية:

والنبط وأهل تدمر، والقسم الثاني شرقي وهو لسان اليهود في بابل ولسان السريان وغيرهم. قال: ومن اللغات الآرامية الغربية لغة الكتابات النبطية وكان الأنباط أُمة عربية الأصل ولغتهم المأنوسة العربية في التكلم والمحاورة بين الناس. والأحرف الهجائية لم تكن معروفة عند العرب. - البابلية والكنعانية والكلدانية: كان أهل الشام منذ الزمن الأطول قبائل سامية من البابليين ولم يزل يهاجر إليها أجيال من الناس سموا الكنعانيين فغلب الكنعانيون البابليين، وباللغة البابلية كتبت رسائل تل العمارنة التي وجدت في مصر سنة 1888م وهي رسائل صدرت عن عمال الشام إلى ملوك مصر قبل موسى وهارون فاستدل علماء الإفرنج أن اللغة البابلية كانت في ذلك العهد لغة الحكومة بين الدول الراقية، وارتأى بعضهم أن الشام كانت تتكلم إذ ذاك بالبابلية، وكان اللسان الكنعاني أخذ يمتزج بلغة بابل، فتغلب بفرعيه العبراني والفينيقي على لغة أشور وبابل. وكان الكلدانيون يتكلمون بالآرامية على رأي بوست وفقا لعادة ديوان الحكومة ولكنها لم تكن لغتهم الخاصة ولا العلمية، أما لغة الكلدانيين الأصلية فالكلدانية القديمة وهي لغة أكد، وقد استعملها سكان بابل الأصليون إلا أنها كانت على وشك الاضمحلال في زمن يُخْت نصر وقد هجرتها الألسنة لذلك الحين، وكان ظهور اللغة المسماة الآن بالسريانية في القرن الثاني بعد المسيح وهجر أهلها استعمالها نحو القرن الثاني عشر. الحثية والآرية واليونانية واللاتينية: أما اللغة الحثية فكانت على قول كروفرد في القرن الرابع عشر والثالث عشر قبل التاريخ المسيحي لغة مستعملة من اللغات الهندية الأوروبية أي اللغات الأوروبية المشابهة للاتينية والآرية الإيرانية والأرمنية، وأن الحثيين أنفسهم من سلالة آرية أُوروبية، ولكن امتزج بهم مع الزمن دمٌ من

تنازع السريانية مع العربية:

غير الدم الآري الأوربي أي إن الحثيين من أصل غير سامي ولم تنتشر لغتهم كما قال حتى بين العامة ولم يتوفق البحاثون إلى حل رموزها حتى الآن. فاللغة البابلية كانت منتشرة في الشام منذ زهاء ثلاثة آلاف سنة قبل المسيح، ثم تغلبت الكنعانية التي تشمل العبرانية والفينيقية، ثم تغلبت الآرامية على الكنعانية وهما متشابهتان. ولما صار الأمر إلى الفرس بعد البابليين في الشام بقيت اللغة الآرامية اللغة الرسمية. وفي دولة الروم السلوقية بث خلفاء الإسكندر المدنية اليونانية في سكان سواحل البحر المتوسط، وكانت مع هذا إلى ضعف ولا سيما في لبنان إذ دام أهله على استعمال الآرامية ممزوجة باللغة الفينيقية، وكانت اليونانية اللغة الرسمية ولغة العلماء على عهد الروم والرومان أيضا منتشرة في كثير من الأرجاء. وكانت مدرسة الفقه في بيروت تدرس باللاتينية مدة أربعة قرون. ولكن اليونانية على تأصلها بالنسبة للاتينية لم تشع في العامة. ولما استولى الإيطوريون على لبنان لم يغيروا شيئا من لغته ولا شك في أن لغتهم كانت العربية الآرامية. أما النبط وهم من أقارب الإيطوريين وجيرتهم فإن لغتهم لم تكن سوى لهجة آرامية. وذكر أحد الباحثين أن الرومان لما جاءوا الشام واستعمروه انتشرت اللغة اليونانية في المراكز الكبرى حتى نسي كثيرون اللغة الفينيقية واللغة الآرامية ولا سيما في طبقة الأشراف وأصحاب الثروة، وبقيت اللغة اللاتينية لغة الحكومة، وحافظ العامة على اللغة الفينيقية والسريانية، وكان الفقهاء يكتبون باللاتينية لغة الفقه والقضاء، والأدباء والفلاسفة باليونانية، وهي اللهجة العامة في الشرق، واللغة الآرامية هي اللغة الرسمية في دولة تدمر. وظل الشاميون يتكلمون اليونانية على عهد انتشار النصرانية وكذلك عمال الحكومة ورجال القضاء، وكان الآراميون أو الأنباط، كما كان يسميهم العرب، في كل محل ما عدا المدن التي كانت مزيجا من عناصر مختلفة. تنازع السريانية مع العربية: كانت السريانية لغة عامة في الشام لم تدثر إلا بتملك الرومان على

رأي رنان:

الشرق ونشرهم لغتهم فيه، فدثر مجد السريانية ولم يبق إلا القليل حتى جاء الإسلام وأدخل العربية. وكانت السريانية على عهد المسيح اللغة العامة في سورية وفلسطين ممزوجة بقليل من العبرية. ورأى دي فوكويه أن جميع الكتابات التي وفق العلماء إلى اكتشافها لا تتجاوز القرن الأول قبل الميلاد واللغة التي كان شعوب سورية يتكلمون بها إلا ما ندر هي اللغة الآرامية وجميع الكتابات التي عثروا عليها في تدمر وحوران وأرض النبطيين كتبت بهذا الفرع من اللغة السريانية. واللغة التدمرية واللغة اليونانية هما الغالبتان على الكتابات المكتشفة في تدمر. وكانت اللغة اليونانية بمنزلة اللغة الرسمية في جميع الأقاليم الشرقية الخاضعة لدولة الرومان. وأما لسان أهل تدمر فهو لهجة آرامية على غاية الشبه بالسريانية. وقال بعضهم: إن التدمرية من اللغات الآرية الغربية تشبه النبطية وفي بعض هذه الكتابات اسم ملكهم أذينة. ومن اللغات الكنعانية لغة موآب في شرقي فلسطين. وفي متحف باريز كتابة قديمة في هذه اللغة وضعها ملك اسمه ميشع يذكر فيها حروبه مع عمري ملك الأسباط أسباط بني إسرائيل ويقال لهم في كتب العرب ملوك الأسباط. رأي رنان: وذكر رنان أن الفينيقيين كانوا الواسطة الوحيدة بين العنصر السامي وسائر العالم، وكثيرا ما عرفوا بأنهم اخترعوا أمورا ما كانوا فيها إلا نقلة. وما الفينيقيون سوى سماسرة مدنية كانت بابل مقرها، وظاهر الحال يدعو إلى الاعتقاد بأن بابل التي علّمت العالم أصول المقاييس والموازين قد اخترعت حروف ألف باء مركبة من اثنين وعشرين حرفا. قال: وكانت اللغة العبرية لغة الشعوب في فلسطين عندما دخل بنو إسرائيل إلى الشام وقد ذكرت أسماء الشعوب المذكورة في الإصحاح العاشر من سفر التكوين بجلاء ووضوح الأمم المجاورة لفلسطين، وجعلت اسم كنعان رابطة من روابط القربى بين جميع شعوب الساحل ولبنان، من مدينة حماة وأرواد في الشمال إلى جرار في فلسطين والبحيرة المنتنة في الجنوب،

آراء أخرى:

وهم مجموعة الشعوب التي كان اليونان يطلقون عليهم اسم الفينيقيين. آراء أخرى: وذكر يوسف داود أن لسان أهل فلسطين ولا سيما أورشليم في عصر المسيح الآرامي أي السريانية، فكانت اليونانية لغة أجنبية يتكلم بها كثير من الغرباء النازلين في الشام وهي لغة الحكام والحكومة في عهد تلك الدولة. وكثيرا ما كانوا يكتبون بعض المقدسات على ذاك الدور بالعبراني أو السرياني اللاتيني واليوناني، وكان يحرم على اليهود في فلسطين ولا سيما الرجال أن يتعلموا اللغة اليونانية ويباح للنساء تعلمها من باب التزين الجائز لهن. قلت: وهذا من التحكمات الباردة مثل الأمر الصادر عن أحد خلفاء بني العباس من أخذ أهل الذمة بتعلم اللغة السريانية والعبرانية وترك العربية ولكن أمره لم ينفذ لأنه غير معقول. وقيل: إن الآرامية كانت لغة العامة في عهد المملكة الآشورية وأن الآشورية اللغة الرسمية، وكان الموظفون في العهد البيزنطي القادمون إلى الشام يعتمدون على التراجمة مع الأهليين المتكلمين بالآرامية. ولما انقضى العصر البابلي الآشوري حلت اللغة الآرامية محل البابلية في السياسة والتجارة، وأصبحت اللغة الرسمية لملوك فارس وآرام وتدمر والبتراء. وكانت اللغة الفينيقية تختلف عن السريانية في القرن الأول قبل الميلاد ثم تمازجتا حتى أصبحتا شيئا واحدا، وكانت اللهجة العامة عند يهود فلسطين وهي أقرب إلى الآرامية منها إلى العبرية، يطلق عليها بين اليهود أنفسهم اسم اللغة العبرية وهي تختلف عن لغتهم المقدسة. وذكر رنان أن اللغة السريانية الكلدانية كانت أكثر اللغات انتشارا في أرض الجليل وأن المسيح كان يتحدث بها إلى الناس، وأن الأناجيل كتبت لأول أمرها باليونانية وأصبحت هذه في الشام لغة عامة ولغة علم، وكان من نتائج ذلك دخول الألفاظ اليونانية في اللغة السريانية بكثرة زائدة حتى إن اللغة اللاتينية لم يكن لها تأثير البتة بين الشعوب السامية، فمن القواعد العامة أن الفتح الروماني لم يستطع أن يقضي على استعمال اللغة اليونانية في القطر وقد رآها متأصلة فيه،

انتشار العربية:

على حين كانت اللغة اللاتينية تنتشر في أرجاء الغرب انتشارا هائلا. وبعد انقراض دولة الحثيين في القرن الثامن قبل الميلاد عم اسم آرام بلاد الشام، فأصبح القسم الأكبر منها يسمى آرام، وسكانها يدعون بالآراميين وهم الذين اختطوا حلب أو حلبون وعادت اللغة الآرامية إلى شيوعها في جهات حلب تمازجها اللهجة البابلية بدليل ما يشاهد في أرجائها من أعلام الأمكنة التي ما زالت تلفظ على أصلها بالفتح إلى اليوم، وسادت اللغة اليونانية بظهور الدولة السلوقية وكانت لغة الخاصة والعلماء ورجال الدولة. ولما تقلص ظلها عادت السريانية إلى ازدهارها يخالطها فرعها التدمري الذي انتشر إذ ذاك في سورية الشمالية على عهد سيادة تدمر في صدر النصرانية. ومن الأقلام التي بقيت في لبنان الكتابة الكرشونية وهي عربية بأحرف سريانية وقد كتب كثير من كتب الموارنة بالكرشوني. انتشار العربية: هذا ما كان من أمر اللغات السامية واللاتينية واليونانية في الشام. أما اللغة العربية فكان يتكلم بها قبل الفتح الإسلامي بزمان طويل لما ثبت من انتشار الغسانيين والتنوخيين والنبطيين والسبأيين وغيرهم في الشمال والجنوب وكانت حوران والبلقاء والشراة من الأصقاع التي سبقت غيرها في هذه السبيل. بدليل ما يشاهد من أسماء بعض قراءها العربية مثل جرش، جاسم، تبنة، أذرعات، أذرع، محجة، السويداء، البتراء، نجران، القسطل، القناطر، الحفير، الخ وذلك لأن هذه الأقاليم الثلاثة كانت أقرب إلى الاتصال بالعرب من الجنوب. وكان السابقين إلى نشر العربية في ديارنا الوثنيون من العرب أولا ثم نصارى العرب ويرجع إليهم الفضل في نشرها بادئ الأمر، فلم تلبث اللغة ستين أو سبعين سنة للفتح الإسلامي أن عم انتشارها في الشام ونقلت الدواوين زمن عبد الملك من اليونانية إلى العربية ونازعت اللغة العربية السريانية فبذتها على صورة مدهشة، وإن كان الضعف قد دب في هذه قبل الإسلام. وتغلبت العربية لغناها وسلاستها وضبط قواعدها وشدة احتياج الناس إليها في مصالحهم. قال ابن خلدون: ولما

العربية لغة كاملة وفصاحة الشام:

هجر الدين اللغات الأعجمية وكان لسان القائمين بالدولة الإسلامية عربيا هجرت كلها في جميع ممالكها، لأن الناس تبع للسلطان وعلى دينه فصار استعمال اللسان العربي من شعائر الإسلام وطاعة العرب. وهجر الأمم لغاتهم وألسنتهم في جميع الأمصار والممالك وصار اللسان العربي لسانهم حتى رسخ ذلك لغة في جميع أمصارهم وصارت الألسنة الأعجمية دخيلة فيها وغريبة اه. العربية لغة كاملة وفصاحة الشام: يقول رنان: من أغرب ما وقع في تاريخ البشر، وصعب حل سره، انتشار اللغة العربية. فقد كانت هذه اللغة غير معروفة بادئ بدء فبدت فجأة على غاية الكمال، سلسة غنية وأي غنى، متقنة بحيث أنها من ذلك العهد إلى يومنا هذا لم يدخل عليها أدنى تعديل مهم، فليس لها طفولة ولا شيخوخة، ظهرت لأول أمرها تامة، ولا أدري إذا كان وقع مثل ذلك للغة من لغات الأرض دون أن تدخل في أطوار وأدوار مختلفة. قال: وما عهدت فتوح قط أعظم من انبساط ظل العربية ولا أشد سرعة منها، فإن العربية ولا جدال قد عمت أجزاء كبرى من العالم، لم ينازعها الشرف في كونها لغة عامة أو لسان فكر ديني أو سياسي أسمى من اختلافات العناصر إلا لغتان اللاتينية واليونانية، ولكن أين مجال هاتين اللغتين في السعة من الأقطار التي عم انتشار اللغة العربية فيها. قلنا: وربما ذهب الشام بفضل هذا الشرف الأعظم، ولعله سبق العراق ومصر في الأخذ بمذاهب العرب. لقرب أهلها من خطط العرب ولا سيما أهل الحجاز وبعدهم عن بلاد العجم، حتى إن كتّاب الدولة الأموية استعملوا من الألفاظ العربية الفحلة والمتينة الجزلة ما لم تستعمل مثله الدولة العباسية، لأن كتّاب الدولة الأموية قصدوا ما شاكل زمانهم الذي استفاضت فيه علوم العرب ولغاتها حتى عدت في جملة الفضائل التي يثابر على اقتنائها. وليست استفاضة لغة العرب في العراق كاستفاضتها في أرض الحجاز والشام. وقال اليزه ركلو: إن أهل دمشق أكثر السوريين عراقة في

كيف انتشرت العربية:

العربية وذلك لعلاقتهم المتصلة بالتجارة مع مكة واللهجة العربية فيها أجمل من سائر لهجات الشام. وكان محمد عبده يقول: إن الفصح في لغة الشام أوفر مما هي في لهجة مصر. كيف انتشرت العربية: وإذا أردنا استقراء الطرق في نشر العربية في الشام لم نرها حاربت لغة القطر الأصلية على رسوخها فيها، بل سارت في نشرها سير تعقل، وراعى دعاتها سنن الطبيعة والنشوء، وعملت قاعدة الانتخاب الطبيعي عملها في اللغة كما عملت في العناصر، فبقي ما هو مفيد للناس في مصالحهم على اختلاف نحلهم ومللهم. ومنذ عدل في القرن الأول عن اللغة الرومية في الدواوين لم تبرح جميع الحكومات التي تعاقبت على هذه الديار تستعمل اللغة العربية في مفاوضاتها وسجلاتها، على أن منها الكردي والتركي والشركسي إلا الدولة العثمانية في آخر عهدها فإنها ألغت الديوان العربي من مراكز الحكومات السورية والفلسطينية واكتفت بالدواوين التركية، وعلى كثرة عنايتها بلغتها في الثمانين سنة الأخيرة لم توفق إلى نشرها إلا بين الموظفين فقط، فكان شأنها هنا شأنها في رومانيا وصربيا وبلغاريا ويونان وألبانيا، امتد سلطانها عليها قرونا ومع هذا لم تستطع نشر لغتها بين سكانها اللهم إلا بعض ألفاظ شاعت في المصطلحات اليومية. والعرب أجدر من غيرهم بأن يحرصوا على لسانهم وهو لسان مدنية ودين معا، وأن لا يتخذوا عنه بديلا وهو متأصل في هذه الديار قبل الإسلام. اللغة الصفوية: إلى الجنوب الشرقي من دمشق في مدخل بادية الشام حول الصقع البركاني المسمى بالصفا، يعثر الباحث على كتابات كثيرة زُبرت على الصخر البركاني والشعب الذي خط هذه الكتابات في القرون الأولى للميلاد هو من أصل عربي، ولغته من اللهجات العربية، وخطه من فصيلة خطوط ديار العرب الجنوبية. وبفضل هذه الكتابات تعرف إحدى اللغات التي كان

الصليبيون ولغاتهم والعربية ولبنان:

يتكلم بها في بادية الشام قبل الإسلام، ونقف على مقام رحالة من العرب كانوا على وشك أن ينتقلوا إلى اتخاذ البيوت وعيش الحضارة في الشام. أما الصفويون فلم يكونوا أول من قصد إلى أرض الميعاد ولا آخرهم، بل هم وحدهم الذين عرفناهم قبل أن يتحولوا تحولا كليا أي عندما كان لهم لسانهم وخطهم وأربابهم وعاداتهم. فمن الخطأ الاعتقاد بأن دخول العناصر العربية إلى الشام يرجع فقط إلى الفتح الإسلامي واختراق المسلمين صفوف الروم في وقعة اليرموك ومهاجمتهم الشام، ثم انتشارهم في الشرق حتى أواسط آسيا، وفي الغرب حتى أقاضي شمالي إفريقية ثم إلى أسبانيا. هذا الهجوم قد دل على بلوغ دولة العرب غاية مجدها، فإذا ظهر أن الفتح الإسلامي قد كان من الحوادث الشاذة فهو في الحقيقة نتيجة حركة عادية طبيعية نشأت من اختلاط العرب على الدوام بسكان الحضر ودخولهم أصقاعهم، هذا رأي دوسو وقال: لا ينبغي أن يفهم من لفظة العرب سكان جزيرة العرب فقط بل إنه يتناول أهل الظعن الذين يطوفون أواسط جزيرة العرب وشمالها وجميع بادية الشام. الصليبيون ولغاتهم والعربية ولبنان: وما برحت العربية تتأصل القرن بعد القرن في هذا القطر، حتى كانت الحروب الصليبية فخشي عليها أن تنازعها الأولية لغات الصليبيين، خصوصا بعد أن طال مقامهم في إنطاكية والساحل نحو قرنين يتكلمون بلهجات مختلفة أهمها الطليانية والفرنسية. بيد أن اللغة الفرنسية كانت لغة جميع الغربيين النازلين في الشرق، وكان معظم فرسان الصليبيين من الفرنسيين ومنهم جميع الأسر الحاكمة في الشام، على أن بعض أمراء الإفرنج من الصليبيين كانوا تعلموا اللغة العربية ومنهم صاحب قلعة الشقيف، وجاء منهم من ضرب النقود بالعربية مثل أصحاب عكا وصور وبيروت وطرابلس ورسموا عليها حروفا كوفية على شبه النقود الإسلامية، مع رموز نصرانية كالصليب وآيات من الكتاب المقدس. وأصبح نساؤهم ينتقبن كالمسلمات ويلبسن ثياب المسلمات مثلما كان رجالهن يلبسون ثياب الوطنيين.

اللغة التركية:

ثم إن بعض أنحاء لبنان قد تأخرت في التعرب بجملتها حتى القرن الرابع عشر للميلاد فيما قيل، وقلَّ انتشار العربية في أعالي لبنان وظل السكان في عدة قرى يتكلمون بالسريانية وذلك لقلة المخطوطات العربية ولا سيما بين الموارنة. وكان أهل بشرّي وحصرون والقرى المجاورة لهما إلى قبيل مائة سنة يتكلمون بالسريانية، كما بقيت إلى اليوم ثلاث قرى في جبل قلمون أي سنير وهي جيعدين ومعلولا وبخعة يتكلم المسلمون من أهلها والمسيحيون مع العربية باللغة السريانية، وسريانيتهم أفصح من السريانية العامة اليوم في آثور والجزيرة والعراق على ما قاله العارفون. اللغة التركية: وبينا كان جبل لبنان الشرقي والغربي يحفظان في مغاورهما بقايا اللغة السريانية التي انحصرت في الأديار والبيع، بعد أن انهزمت أمام العربية، كانت بعض أرجاء جبال اللكام وما إليها تؤوي من اللغات اللغة التركية أو التركمانية. وعندما رحل الأشرف قايتباي سنة 882 هـ من مصر إلى أقصى الشام كان الأهلون من اللاذقية إلى البيرة بيره جك يتكلمون بالتركية. قال مؤلف رحلته: وأهل البيرة يتحدثون بالعربي اللطيف أكثر من التركي بخلاف ما تقدم من البلاد، فإنه من حين توجهنا من اللاذقية والى البيرة لم يكن كلامهم إلا التركي. ولم نعرف العهد الذي انتشرت فيه التركية في الحدود الشمالية من الشام معرفة أكيدة، والمتكلمون بالعربية في بعض الجهات أكثر من المتكلمين بالتركية. ومن شأن أقاليم التخوم على الأغلب أن تتكلم بلغتين ومنهم من يتكلم بثلاث. ونزول الأتراك في جزء صغير من شمالي الشام أقدم من زمن العثمانيين وربما كانوا من زمن السلجوقيين والأتابكيين. ومدينة حلب برزخ بين الديار العربية والديار التركية. وعلى نحو أربعين كيلومترا من شمالي حلب يقل المتكلمون بالعربية وتصبح الأقاليم إلى التركية أقرب وتتكلم بعض قرى كليس بالعربية والتركية والكردية، وجميع السكان عرب من شرق حلب وغربها، ما عدا بعض قرى من عمل حارم فسكانها من

السواد الأعظم والعربية:

الشركس. وسكان العمق أكراد. وفي قضاء الباب قليل من التركمان والأتراك والأكراد والشركس. وأهل قضاء منبج شركس وفيهم عرب، وتغلب التركية على أهل عمل الإسكندرونة. ومن أهل إنطاكية من يتكلم بالتركية ومنهم من يتكلم بالعربية. فيصح أن يقال فيهم: إن تركيهم تعرب وعربيهم تترك. وبعض أهالي قضاء بيلان بغراس يتكلمون بالتركية وكذلك ناحية أردو، والعربية غالبة عليهم، يتكلم نحو نصف سكان مدينة إنطاكية بالتركية ولكن أصولهم عربية على الأكثر وثمانون في المائة من أهل عملها هم عرب لسانا وجنسا، وهكذا يقال في بيلان وكليس وأردو، ولا يمكن أن نثبت بإحصاء صحيح أن الأتراك يؤلفون في الشام كتلة واحدة ووسطا واحدا كما أن التركمان والشراكسة والطاغستان والششن والبشناق والأكراد والمغاربة لم يؤلفوا شيئا من ذلك، وتراهم يتمازجون كلهم بالبوتقة العربية ويندمجون في العرب. شأن سكان فرنسا وألمانيا وإيطاليا وغيرها من الممالك التي كانت جامعتها لسانها، ولا يزالون في الحدود وأواسط القطر يتكلمون بغير لغة الدولة التي يظلهم علمها. السواد الأعظم والعربية: ليست العبرة ببقعة مخصوصة وإنما هي بمجموع القطر الذي يراد أن تعزى إليه جنسية أو قومية معروفة وإلا فقد لزم من ذلك أن تعد ولاية أذنة اليوم أو جزء عظيم منها عربية لأن نحو مائة ألف من سكانها عرب بأصولهم، ولسانهم عربي على تأصل الدول التركية والتركمانية في صقعهم، وهم في بعض الأنحاء المتاخمة للشام من جبال اللكام يؤلفون أكثرية السكان. وإذا كان يغلب على بعض سكان الجهة الشمالية من الشام التكلم بلغات متعددة فإن ذلك نتيجة طوارئ تاريخية ودولية، بل نتيجة حكم الغالب على المغلوب وميل هذا إلى التشبه بغالبه. ومن الثابت أن سكان الحدود آخذون أنفسهم بحكم الضرورة بتعلم لغات السكان المجاورين ليتمكنوا من التفاهم وإياهم في المصالح المشتركة المتبادلة ولا سيما الاقتصادي منها كما هو المشاهد في كل مملكة من الممالك. وما الترك في إنطاكية وإسكندرونة إلا مهاجرون

رسوخ اللغة:

مثل مهاجرة السوريين في نيويورك وسان باولو ومن يحاول أن يلبس إنطاكية والإسكندرونة ثوبا تركيا هو كالواقف أمام البداهة، والأولى أن ينظر إذ ذاك إلى عرب مرسين وطرسوس ويردوهما إلى الشام. وما هما من حيث الجغرافية واللسان إلا شاميتان. وبعد فإذا أردنا أن نحصي المتكلمين فقط بغير اللغة العربية في الشام بحدوده الطبيعية لا نراهم يزيدون على ستمائة ألف من عناصر مختلفة وسط سكان يربي عددهم على سبعة ملايين. والعربية مع هذا تأخذهم فتعربهم وأكثريتهم يهود ثم أرمن وسريان والباقون مسلمون يرون تعلم العربية فرض عين عليهم أو نصارى من أصول عربية يحرصون على لغتهم كما يحرص المسلمون عليها. رسوخ اللغة: إذا عرفت هذا فقد ساغ لك أن تقول: إن اللغة العربية دخلت واسعة النطاق إلى الشام من الجنوب منذ خمسة وعشرين إلى ثلاثين قرنا وزادت بالإسلام رسوخا وانتشارا. ولم يمض القرن الأول حتى استعربت وامتزج العرب الفاتحون والمهاجرون بالسكان من السريان فأصبحوا أكثرية مع الزمن وغلبت على الكافة الصبغة العربية غلبة الإنكليزية على أهل كندا والولايات المتحدة الأميركية في القرون الأخيرة. وما أهل كندا وأميركا الشمالية إلا مهاجرة من إنكلترا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وهولندا وأسبانيا والمجر وروسيا وغيرهم من الأمم غدوا أمريكاناً بقوميتهم إنكليزا بلغتهم ومناحيهم. وليس في الأرض فيما نعلم صقع تكوّن أهله من عنصر واحد وخلا من عناصر دخيلة امتزجت فيه، بل إن الأمم الكبرى في الغرب وهي خمس أمم أو ست مؤلفة من بضعة أجناس من الناس جمعتها لغة واحدة، وليس عمر أقدم لسان من ألسنة العالم المتمدن اليوم أكثر من عشرة إلى اثني عشر قرنا، على حين أن عمر العربية في الشام أكثر من ذلك بضعفين على أقل تقدير. وكلما دخل هذا الجسم جسم جديد تلقح به وأدغم في مجموعه فزاده قوة ومضاء. لم ترسخ اللغتان اليونانية واللاتينية في هذه الديار رسوخ السريانية أولاً

الشاميون أمة واحدة لسانهم العربية فقط:

والعربية ثانياً، وذلك لأن اليونان والرومان كانوا فيها مستعمرين ولم يكونوا من أهلها كما كان السريان. ومن أجل هذا لم يؤثر حكم الروم والرومان هنا على طول عهدهما في قلب لغة السكان، بل تعلمها بعض أفراد كما يتعلم بعضنا التركية والفرنسية والإنكليزية وغيرها من اللغات التي حكم أهلها الشام أو كانت لنا بأربابها علاقة تجارية أو سياسية أو علمية، بل كما كان بعضهم يتعلم في القرن الماضي اللغة الطليانية لقلة مدارسنا ومدارس الأمم الأخرى يومئذ. الشاميون أمة واحدة لسانهم العربية فقط: قلنا من محاضرة في سكان الشام ولغاته: مهما قيل في كثرة عدد المتكلمين بالفرنسية في بيروت وبالعبرية في القدس وبالتركية في حلب، ومهما اختلفت درجة العواطف من حيث حب العربية، فالبلاد عربية صرفة والسكان عرب مهما ضعفوا وضعفت مشخصاتهم. ولا ينسبون إلى غير أُمهم ولا يدعون إلا لآبائهم. يقولون: إن من تعلم لغة قوم أحبهم فما أحرى أن يحب المرء أولاً أرضاً أنبتته، وأهلاً تجمعه وإياهم جامعة الوطن والجنس واللسان. نحن في الشام أمة واحدة مهما حاول المحاولون أن يجعلوا بيننا فروقا. والمذاهب ما كانت ولن تكون معيارا في هذا الباب. الماروني والكاثوليكي والأرثوذكسي والإنجيلي والعلوي والإسماعيلي والعبري وغيرهم تربطنا بهم رابطة أجمع من كل الروابط، رابطة المصلحة الواحدة والوطن المشترك، وقرابة الجنس وأواصر اللغة. إن كنت أحب بيتي فما أولاني أن أحب سكانه. إن كنت لا أرى عُدتي في شدتي، غير أُمتي، فما أحراني أن أرعى ذمامها، وأحمي مشخصاتها، وأول المشخصات في شعب هو لغته. ومعظم الأمم الحديثة تكونت تحت رايتها، وسادت وشادت بتأثيرها. من اللغات يا قوم ما لا ينطق به أكثر من بضعة ملايين كالدانمركية والسويدية والفنلندية، مع هذا تجد بين أبنائها - من الصلات على اختلاف في المذهب - ومن التناغي بحب قوميتهم ما لا يقلُّ عن تغالي الإنكليزي والألماني والفرنسي والطلياني

والسلافي بحب لغته وقوميته وهو ابن أُمة عظيمة. ليست العربية من اللغات الميتة حتى يزهد بعض أبنائها فيها. بل هي لغة سبعين مليونا من البشر نازلين في أجمل أقطار الأرض في إفريقية وآسيا، ولسان ديني لثلاثمائة وخمسين مليونا من المسلمين. ولسنا معاشر أهلها دون أرقى أُمم الحضارة الحديثة بعقولنا وذكائنا فتاريخنا موضع الدهشة على توالي الأحقاب، وإنا إذا عرانا بعض الضعف فقصرنا عن اللحاق بالسابقين، لا نلبث بتماسكنا وتفانينا بحب قوميتنا ولغتنا أن نساوي غيرنا قريبا. وكم من أمم عراها أكثر مما عرانا من ضعف الملكات، وضياع المقدسات والمشخصات، فنفضت عنها غبار الخمول يوم صحت إرادتها على أن لا تموت بصنعها، وقامت تجادل وتجالد في معترك المدنية فأتت بالعجب العجاب. نحن أهل الشام أُمة واحدة، ولا خير لأبناء الوطن الواحد إلا من أنفسهم. فقد نزح عنا منذ سبعين سنة إلى أميركا وغيرها نحو مليون من أبنائنا وما زلنا معاشر السواد الأعظم هنا نهتم لهم أكثر من اهتمامنا لأمة لا تربطنا بها جامعة اللسان والجنس. وهم على شاكلتنا يهتمون ببلادهم ولغتهم وما يقوّمها. وما ننس لا ننس يوم كانت اللغة العربية يحفظ تراثها في الأعصر الأخيرة في بيع لبنان وأدياره، أكثر من حفظه في جوامع دمشق وحلب ومدارسهما، ويوم كان في اللبنانيين الغيورون على مجدها العالمون بما يصلحها الساعون إلى نشرها. لا يفلح قوم لا يتساندون. وكل شعب وضع قوميته في الذروة العليا من الكرامة يوقَّر ويبجَّل. ومن لي يوم الكريهة غير حمى أخي وجاري ألجأ إليه. المرءُ كثير بأخيه. ولن تضام أُمة عرفت نفسها. نحن عرب قبل أن نكون مسيحيين ومسلمين، نحن شاميون قبل أن نكون أُمويين وعباسيين وسلجوقيين وعثمانيين. سعادتنا مناط الاحتفاظ بأصولنا، ولا تمثلنا إلا قوميتنا، وأعظم قوة لها لغتنا، والسلام.

تاريخ الشام قبل الإسلام

تاريخ الشام قبل الإسلام أول شعب غزا الشام والحثيون والكنعانيون: ذكر أهل الأخبار والسير أن الشام كانت يوم عرف تاريخها مغشاة بالأشجار. ولا سيما في اللبنانين الغربي والشرقي، فجاءها من بلاد أشور رعاة نزلوا القسم الشمالي منها وما زالوا يتقدمون في فتوحهم حتى بلغوا معظم سواحل الشام واستولوا على عكا. وانقسم هؤلاء الرعاة واسمهم عمو أي الشعب إلى قسمين: قسم أقام على تربية الماشية في السهول، واحترف القسم الآخر بالاحتطاب في الجبال، أو بالصيد على شواطئ البحر وضفاف الأنهار. وقيل: إن ذلك كان في القرن السادس عشر قبل الميلاد ولعله يرد إلى أكثر من خمسة آلاف سنة، ولم يعرف من كان سكان القطر يومئذ. والغالب أن من أقدم الشعوب التي استولت على الشام الحثيين في الشمال والكنعانيين في الجنوب. والحثيون لم يعرف عنهم إلا أنهم كانوا وراء جبال طوروس بادئ بدء يسكنون الحوض الأعلى من نهري الفرات وقزل ايرمق خضعوا أولا للكلدانيين، ثم توسعوا في ملكهم، واستولوا بقيادة ملكهم سابا لولو على الشمال، وامتدوا إلى وادي العاصي فاستصفوه برمته، وبنوا مدنا مثل كركميش جرابلس على الفرات وقادس على العاصي، وربما كانت مدينة حلب أيضا من بنائهم. وفي رسائل تل العمارنة التي وجدت في صعيد مصر بيان وافٍ في الجملة لحالة هذه الدولة الحثية

تعدد الحكام والحكومات:

التي حاربت فراعنة مصر أربع عشرة سنة فلم يظفر بهم الفراعنة حتى جاء سّي الثاني فحاربهم وقهرهم. كان الكنعانيون ينزلون في جنوب الشام وفي وسطه. ونسبتهم لكنعان جد القبائل التي سكنت غربي الأردن، قتل الإسرائيليون أكثرهم واستعبدوا معظم من لم يقتل منهم. وكانت حدود أرض كنعان الأصلية من مدخل حماة شمالي لبنان إلى البادية، ولم تمتد إلى ساحل البحر لأن الفلسطينيين ما زالوا إلى أن انقرضوا يسكنون ذلك الساحل، وقد سكن أرض كنعان عدة أسباط ورد ذكرهم في التوراة كالحثيين واليبوسيين والأموريين والجرجاشيين والحويين والفرزيين والعرقيين والسينيين والارواديين والصماريين والحماثيين. وكان في أرض كنعان 118 أو 119 مدينة ورد ذكرها في جدول عثر عليه في هيكل الكرنك من صعيد مصر يظن أنها المدن التي افتتحها تحوتمس الثالث من ملوك الفراعنة قبل أيام يشوع. وفي معجم لاروس أن أرض كنعان أو بلاد كنعان يحدها من الغرب البحر المتوسط، ومن الشرق نهر الأردن، ومن الشمال خط آخذ من الأردن إلى البحر، ومن الجنوب خط يسير من البحر الميت إلى البحر المتوسط. وفي التوراة أن المولى تعالى وعد بني إسرائيل بهذه الأرض ومن ذلك جاء اسمها أرض الموعد. وفي أسفار موسى وسفر يشوع أن بني إسرائيل استولوا دفعة واحدة على هذه الأرض بقيادة يشوع، ولكن تبين من الوثائق التي عثر عليها أن الأمر لم يكن كذلك وأن فتح أرض كنعان لم يكن بهذه السرعة تاما كاملا على ما جاء في التوراة، فقد تمكن بنو إسرائيل من الاستقرار بصورة دائمة بالحرب والحيلة على هذه الأرض التي كان يسكنها قبائل مستضعفة من اليبوسيين والجرجاشيين والفرزيين وغيرهم من أصل كنعاني أو أموري حتى خراب مملكة يهوذا على أيدي الكنعانيين في سنة 588 ق. م. تعدد الحكام والحكومات: وعلى كثرة عناية علماء النصرانية بتاريخ الأرض المقدسة أو فلسطين أو

الفراعنة والآشوريون:

أرض إسرائيل أو أرض الموعد لم يبرح تاريخها غامضا بعض الشيء لقلة المصادر التي يركن إليها وأكثرها أشبه بتقاليد وأساطير منها بتاريخ. وهكذا يقال فيما عرف من تاريخ وسط هذا القطر وشماله في العهد القديم. وكان أكثر إماراته مستقلا متعاديا شأن الشطر الجنوبي منها. وإذا لم تكن البلاد كما قال بوست تحت حكم القضاة والملوك حكومة واحدة كثرت فيها التغيرات وتعددت القضاة كشمشون وجدعون ويفتاح إلى أن اجتمعت كلمة شعب إسرائيل على إقامة ملك، ولما انقضى ملك سليمان وقام ابنه رحبعام انقسمت المملكة إلى مملكتين مملكة إسرائيل ومملكة يهوذا، وبعد أن تقلبت الأحوال على هاتين المملكتين أخذتا بالانحطاط إلى أن سبي الآشوريون الإسرائيليين والبابليون يهوذا. وجملة الزمن الذي مضى من ملك داود إلى سبي بابل نحو خمسمائة سنة. الفراعنة والآشوريون: كانت الشام بين عاملين بل بين سلطانين قويين العامل، الأول دولة الآشوريين والبابليين إذا قويت إحداهما يمتد سلطانها على الشام أو تكتفي من أهله بالجزية وتجنيد بعضهم. وإذا كانت القوة لفراعنة مصر حكموا الشام أو اقتنعوا من سكانها بالجزية وبعض الجند. وقد ظلت الشام تابعة لمصر وأحيانا كانت تبعيتها اسمية نحو أربعة قرون. فقد فتحها تحوتمس الأول وتحوتمس الثالث، وفي أيام تحوتمس الأول تجلت حدود الشام على الفرات. وظل الشام في حكم الفراعنة إلى عهد رعمسيس الخامس. ولما خلص من المصريين داهمه الآشوريين فاستولوا عليه واعترف الشام كله بسلطة أشور وتجلت سلطة الشام على عهد تغلت فلاسر، وكان المصريون يحتلون بعض القلاع مثل غزة ومجدو تل المتسلم في الداخل وجبيل وصيدا في الساحل على ما ثبت ذلك بالآثار. كان الفراعنة على الأرجح يداهمون الشام من طريق صحراء التيه والجفار لقلة سفنهم بسبب قلة الأشجار عندهم كما هي قليلة في وادي دجلة والفرات، وربما كان وجود الأشجار في الشام من جملة الأسباب التي حملت

أهل بابل وأشور ومصر على مد سلطانهم على الشام. قال أحد الباحثين: كانت الشام في الألف الثالثة قبل المسيح يقطنها خليط من سكان ساميين وهم العموريون والحثيون وهم غير ساميين فهجموا على بابل. وفي أوائل الألف الثانية هجم الساميون من سكان الشام وربما كان بإيعاز الحثيين على مصر وحكموها، وهذا العهد هو عهد الرعاة الهيكسوس. وما برح ملوك الأشوريين والكلدانيين في القرون الأخيرة يحسنون صلاتهم مع الفراعنة ويرضون بسلطانهم الضئيل على الشام، حتى ثارت الفتن في مصر فاغتنم ولاة الشام من عمال الفراعنة هذه الفرصة وخرجوا عن الطاعة، وجع أحد رؤساء الحثيين قبائله وأسس دولة قوية الشكمية وقاتل المصريين، فلم يكتب لرعمسيس الأول وستي الأول من الأسرة التاسعة عشرة تقويض دعائم تلك الدولة، بل إن رعمسيس الثاني المعروف عند اليونان باسم سيزوستريس اضطر بعد حرب عشرين سنة إلى الرضا بما وقع وعامل ختساروا أمير الحثيين معاملة الأكفاء والأقران. ومن ذلك الحين زال حكم مصر عن فينيقية والشام الجنوبي وقامت في الشمال دولة مستقلة فاصلة بين مصر وأشور، وكان ذلك في حدود سنة 1350 ق. م. . ضعفت دولة الحثيين وعادت أشور تقوى بملوكها على الأطراف أمثال سالامنزار وتغلت فلاسر وسنحاريب يغيرون على الشام فيلقى منهم المصائب وكانوا يريدون إخضاعه ليكون لهم مجازا إلى الاستيلاء على تجارة مصر والحبشة وليبيا طرابلس وبرقة والبحر الأحمر والمتوسط. ولما سقطت نينوى سنة 605 ق. م. وفي رواية سنة 612 باستيلاء ملوك المملكة الكنعانية الثانية خضع الشام زمنا قليلا للفراعنة ثم عاد بعد انهزام نيخو وخلفائه إلى سلطة ملوك بابل، وكان العهد الكنعاني عهد الخراب والدمار لأن بخت نصر ملك الكلدان فعل في بيت المقدس 586 ق. م. أفعالا مدهشة من الهمجية وأجلى بني إسرائيل إلى بابل. ولما غلب بخت نصر فرعون مصر على كركميش استولى على كل ما كان لهذا الملك بين النهرين والشام وأخذ أورشليم وسبى بعض أهلها وساق الأسرى إلى بابل من اليهودية وفينيقية وسورية ومصر. واليهودية اسم جزء من فلسطين سكنه الراجعون من

الفينيقيون واستقلالهم التجاري:

سبي بابل وسميت في العهد القديم يهوذا، وفي العهد الجديد قد تطلق اليهودية على جميع فلسطين وعلى بعض أرجاء شرقي الأردن، ويرى المحققون أن اليهودية كانت تشمل غربي الأردن وجنوبي السامرة. الفينيقيون واستقلالهم التجاري: ولم تكن مملكة إسرائيل بعمرانها وقوتها مثل مملكة فينيقية الصغيرة التي قامت في أرض الشام واشتهرت أكثر من غيرها من الدول الشامية، لأنها كانت دولة بحرية على جانب من الحضارة المقتبسة عن المصريين والآشوريين والبابليين، ومعرفة زائدة بطرق البحار والتجارة في القاصية، فكان الفينيقيون في عهد عظمتهم كالبنادقة في القرون الوسطى ببحريتهم واتساع تجارتهم، أو البريطانيين في القرنين الأخيرين بأساطيلهم وتجاراتهم، مع مراعاة النسبة بين الأقطار والعصور. والفينيقيون من القبائل السامية التي نزلت أرض آرام أي الشام، وإقليمهم ضيق النطاق طوله خمسون فرسخا وعرضه من ثمانية إلى عشرة فراسخ بين بحر الشام وأعلى سلسلة في جبل لبنان، وتدخل فيه صور وصيدا وأرواد وجبيل وبيروت، ومنهم من أدخل فيه البترون وطرابلس. ولم تكن فينيقية مملكة قائمة برأسها بل كان لكل ناحية مدينة صغيرة تستقل بها، ولها مجالس وملك تحكم نفسها بنفسها، وتبعث بنوابها إلى أعظم مدينة فينيقية لفض المصالح المشتركة. وكانت صور محط رحال النواب منذ القرن الثالث عشر، ولما لم يكن الفينيقيون أمة حربية خضعوا لسطوة الفاتحين من المصريين والآشوريين والبابليين والفرس وأدوا إليهم الجزية عن يد وهم صاغرون. هذا رأي سنوبوس وقال مسبيرو: إن تحوتمس الثالث تعب في إخضاع بعض الفينيقيين وقد استكانت مدائن الوسط والجنوب وهي جبيل وبيروت وصيدون وصور من غير قتال، وأخلص أهلها الطاعة لمواليهم الأجانب إلى ما بعد رعمسيس الثاني وكان هذا عين الحكمة والصواب. فقد ترتب على رضاهم بالعبودية أن توصلوا إلى احتكار جميع تجارة مصر مع أمم آسيا والبحر المتوسط ثم نالوا استقلالهم في أواسط القرن الثاني عشر قبل

حروب الفرس والإسكندر:

الميلاد لما كف فراعنة مصر عنهم. ولكن حدث في حدود سنة 1210 ق. م. أن أقلع من عسقلان أسطول فلسطيني ولقي أسطول صيدا فدمره فانتقلت العظمة إلى صور. ولما ملكها حيرام الأول من سنة 980 - 946 ق. م. عقد مع داود وسليمان علاقات عادت على مملكته بالثروة والرخاء. قال: ثم ظهر الآشوريين على الفينيقيين ورضيت صور بدفع الجزية لهم، ثم قام ملكها إيلولي من سنة 728 إلى سنة 692 فحارب شلمناصر الثاني وسرجون وسنحاريب حروبا انتهت بهلاكه وانقراض دولته، فتبعث فينيقية الآشوريين، ولما سقطت نينوى عاد إليها استقلالها ففازت من دفاع بخت نصر بمعاونة الفراعنة الصاويين، واحتملت الحصار ثلاث عشرة سنة وحدثت في فينيقية ثورات في أوقات مختلفة فقمعت وفي سنة 557 أعيدت للكلدانيين، ولما خربت بابل سنة 538 دخلت صور في قبضة الفرس من غير حرب ولا قتال. ومن أهم الأسباب التي حالت دون الفينيقيين وتأسيس مملكة ضخمة مؤلفة أولا من جميع أصقاع الشام ثم من الأقطار المجاورة صعوبة التوغل في الديار الشامية لما فيها من العقاب والشعاب، وهم في قلة وغيرهم في كثرة، فصرفوا نظرهم إلى البحار وكانوا أعظم تجار وسفار. حروب الفرس والإسكندر: تخلصت الشام من عوامل كثيرة كانت تتنازعها، منها ما هو داخلي كالفتن الأهلية والحروب الداخلية. ومنها ما هو خارجي كأن يحكمها المصريون تارة والآشوريون أو البابليون أخرى، ولما تراجعت هذه الأمم قامت دولة الفرس فاستولت على الشام وكانت دمشق وحماة وإرفاد أهم مدنها. ولما فتحها تغلت فلاسر سنة 733 ق. م. عاد الفرس ففتحوها على عهد كسرى. وعلى عهد دارا من ملوك الفرس جعلت صيدا عاصمة القطر وما برح في قبضة الفرس إلى سنة 333 وقد اجتاز به الإسكندر المكدوني بعد أن قرض مملكة فارس وأباد بين الإسكندرية وجبال اللكام امانوس جيش دارا ملك الفرس وأخرب مدينة صور بعد أن حاصرها سبعة أشهر 332. وكان بخت نصر حاصرها ثلاث عشرة سنة 586 - 573 ولم يستطع

دولة السلاقسة وملك الأرمن:

فتحها. واستبسل الصيداويون وعرضوا أنفسهم للهلاك مرات في حصار الإسكندر صور، وعمل الإسكندر سدا وبدونه كان يتعذر الدنو من البلد لبعدها عن اليابسة، وبعث السامريون له بثمانية آلاف رجل نجدة، وأبى اليهود الخضوع له بادئ بدء. وفي سنة 351 ق. م. خربت صيدا عقيب انتقاضها على ملك فارس وقتل وحرق فيها أربعون ألف نسمة. ولما انخذل دارا في وقعة ايسوس على خليج الإسكندرونة إلى الشمال منها، وقع الرعب في قلوب الفينيقيين والسوريين فدان أكثرهم للإسكندر طائعين، ولما وصل إلى جبيل تلقاه أهلها بالبشر والحفاوة. وكان الإسكندر قد أرسل برمنيون إلى دمشق ليستحوذ على خزائن دارا التي أرسلها إليها لما سار إلى قيليقية لحرب الإسكندر فاستولى عليها وكان فيها من الذهب والفضة والآنية والحلي والحلل الثمينة ما لا يعد ولا يوصف، فضلا عما كان لبعض أعيان الفرس في دمشق من المتاع والأموال. وخربت الديار التي استولى عليها الإسكندر بأيدي الفرس، وكان من عادتهم أن يحرقوا المدن والقرى قبل أن تسقط في أيدي عدوهم. دولة السلاقسة وملك الأرمن: ولما هلك الإسكندر اقتسم المملكة قواده الأربعة المعروفون بالسلاقسة فكانت الشام من حصة سلوقس. وكان من أشهر مدن مملكته إنطاكية التي جعلها عاصمته وسلوقية السويدية وأفامية قلعة المضيق واللاذقية. واستولى بطليموس والي مصر من دولة البطالسة على أرض اليهودية وفينيقية وجزيرة قبرس والمدن الساحلية من الشام. وفتح انتيغونس من خلفاء الإسكندر صور ويافا وغزة، ولم يفتح صور إلا بعد حصارها خمسة عشر شهرا. تعاصت عليه مع أنه لم يكن مضى على فتحها سوى تسع عشرة سنة، فأعادها أهلها إلى حصانتها الأولى وعادت قطب التجارة في الشرق والغرب. وجدَّ بطليموس في صنع أسطول له في جبيل وطرابلس. وجرت وقعة مهمة بين بطليموس وسلوقس وبين ديمتريوس انجلت عن خمسة آلاف قتيل وثمانية آلاف أسير من جيش ديمتريوس، ولما رأى بطليموس أن ليس

دولة الرومان:

في قدرته محاربة انتيغونس عاد إلى مصر وهدم قلاع عكا ويافا والسامرة. كانت الدولة السلوقية اليونانية دولة حرب ونزاع، فغدت الشام في حالة بؤس ونحس، رومية تطالبها ببسط سلطانها عليها، ومصر تحاربها لتضمها إليها، وأهل فارس يجتاحونها، حتى قررت لهم السيادة الاسمية عليها، فمنيت الشام بضعف الحال وقلة الرجال، وضاق ذرع الشاميين بالحروب المتصلة بين ملوكهم من اليونان وعسفهم وإعناتهم وانقساماتهم وقتلهم أولادهم وأبناءهم واخوتهم، فعزموا أن يختاروا ملكا عليهم من الأجانب فكتبوا إلى تغران ملك أرمينية وأرسلوا إليه وفدا يفضون إليه بما عزموا عليه ويكاشفونه في قبوله، فأجابهم إلى طلبتهم وأتى الشام سنة 83 ق. م ولبس تاج ملكها واستمر ملكه فيها ثماني عشرة سنة إلى أن جاءها الرومان سنة 65 ق. م واستخلصوها منه. - دولة الرومان: كان بومبيوس أول قائد روماني استولى على الشام وجعله ولاية رومانية وجعل إنطاكية عاصمتها. ولم تنجح الشام لقربها من البارثيين على نحو ما كان من سائر أقطار المملكة الرومانية. ثم انفصلت مدة عن رومية أعطاها أنطونيوس إلى أحد أولاد الملكة كلوبطرا، وعادت فضمت إلى مملكة الرومان على عهد الإمبراطور أغسطس، وتنقلت بها الأحوال الإدارية على عهد الإمبراطورين فيسباسين وأدريانوس. ولم تكد تطمئن من ناحية البارثيين بفضل الوقائع التي كتب فيها النصر للقائدين تراجان وسبتيم سيفير وانتظمت حالها وانبسط ظل عمرانها وقام منها إمبراطورة شاميون قبضوا على قياد المملكة الرومانية من عهد الإمبراطور سبتيم سيفير إلى إسكندر سيفير حتى كان من عهد تأسيس مملكة الفرس الثانية على انقاض مملكة البارثيين ما جلب المصائب والنوائب لو لم يقم أمثال القواد أدريانوس وديوكلسيانوس ويوستنيانوس ويردوا تلك الغارات. ذكر مومسن أن البدو واليهود والنبطيين كانوا على عهد بومبيوس الروماني أصحاب السلطان في الشام، فإن الصحاري الرملية الجافة التي

مملكة يهودا وانقراض اليهود:

لا تسكن من حدود شبه جزيرة العرب آخذة في الغرب إلى جبال الشام والشواطئ الواقعة من الجهة الشرقية إلى البادية من الفرات الأسفل المخصبة. هذه الصحراء لم تبرح موطن أبناء إسماعيل العرب، ينصبون فيها خيامهم ويرعون أنعامهم ويطاردون على خيولهم المطهمة القبائل المعادية لهم أو يغزون التجار الآتين مع القوافل. ولما كان الملك تيغران قد أخذ بأيدي أبناء البادية لحاجته إليهم في التجارة اهتبلوا الغرة في هذا الاضطراب الذي جعل أمور الشام فوضى ليتوسعوا في الشمال، وكان للقبائل القريبة من الشام ممن كانوا على شيء من الحضارة القدح المعلى في هذا الشأن. وكان زعماء قبائل البادية أشبه بعصابات منفردة يساوون أبناء البادية ويفوقونهم في قطع الطرق والإضرار بالسابلة. وهكذا شأن بطليموس بن مينوس، وربما كان أقوى هؤلاء اللصوص وأغنى أهل عصره. وكان يحكم إقليم الإيطوريين، أي الجبليين، وهي كور الدروز اليوم في أودية جبل لبنان، وحكمه نافذ من الشطوط إلى بعلبك، وهكذا حال ديونيزوس وكنيراس صاحبي مدينتي طرابلس وجبيل. ومثل ذلك كان شأن اليهودي سيلاس في قلعته على مقربة من أفامية على العاصي. مملكة يهودا وانقراض اليهود: حاول اليهود في جنوبي الشام توطيد سلطانهم السياسي، فأنشأ المكابيون وهم يهود يحترمون عبادتهم ويقدسونها، حتى توصلوا بذلك إلى إنشاء مملكة وراثية، جمعت إلى الرئاسة الدينية الرئاسة الدنيوية، ثم فتحوا كورا في الشمال والشرق والجنوب. ولما مات الشجاع جاني الكسندر سنة 675 كانت مملكة يهودا ممتدة نحو الجنوب إلى جميع أرض الفلسطينيين حتى التخوم المصرية، ونحو الجنوب الشرقي إلى مملكة النبطيين في البتراء، وإلى الجنوب إلى ما وراء السامرة والمدن العشر إلى بحيرة طبرية. فكانت الشواطئ بأيدي اليهود من جبل الكرمل إلى العريش وفي جملتها مملكة غزة. وكانت عسقلان مدينة حرة. وأصبحت مملكة اليهود مرافئ حرة للصوص البحار بعد أن كانت مفصولة عنها فيما غبر من الأيام.

الإيطوريون والنبطيون:

ولذلك اضطهد الرومان اليهود كثيرا فنالهم في أيام هيرودس من الاضطهاد وإهراق الدماء ما نالهم، وفي أيام فلورس الوالي الروماني لحقهم في كثير من مدن فلسطين ضروب الأذى والقتل. ونكل السوريون باليهود عملا بإشارة الوالي الروماني. وأحرق الرومان أورشليم ودمروا المدن وسبوا اليهود وثار هؤلاء على الرومان سنة 132 فقتل الرومان منهم 580 ألفا وأحرقوا ودمروا تسعمائة قرية عدا الحصون، وأسروا كثيرا منهم بعثوا بهم إلى رومية حتى انقطعت شأفتهم من فلسطين مدة خمسة عشر قرنا. قالوا: لما دخل المسلمون أرض اليهودية لم يجدوا يهودا لأن حروب فسباسين وتيطس وتراجان وأدريانوس واضطهادات ملوك النصرانية لم تترك حجرا على حجر من اليهودية السياسية والوثنية، أمعنوا في القضاء عليها وذروا رمادها في الرياح الأربعة، ففقدت في فلسطين جميع التقاليد اليهودية وجماع اليهود الذين تراهم هم من الطراء على فلسطين مؤخرا نزلوها بعد أن بادوا منها مدة خمسة عشر قرنا. الإيطوريون والنبطيون: ذكر مومسن في كلامه على الاضطرابات والمنافسات بين الرؤساء في الشام أن المدن الكبرى مثل إنطاكية والسويدية ودمشق هي التي كان ينالها الأذى من جراء ذلك، فيصاب الزراع بزراعتهم، والتجار بتجارتهم البرية والبحرية. ولا يستطيع سكان جبيل وبيروت حماية حقولهم وسفنهم من هجمات الإيطوريين وكانوا استولوا على اللبنانيين الشرقي والغربي ونزلوا فينيقية وجعلوا عين جر عنجر عاصمتهم الأولى، ثم اتخذوا طرابلس عاصمتهم الأخرى، وغدوا يطيلون أيدي التعدي على البر والبحر من حصونهم العالية. ويحاول سكان دمشق أن يدفعوا عن أنفسهم عادية الإيطوريين والبطالسة، وذلك بخضوعهم لملوك القاصية مثل النبطيين واليهود. وتدخل سامسيكراموس وازيوس في إنطاكية في الخلافات المدنية بين الوطنيين فأصبحت هذه المدينة اليونانية عاصمة أمير عربي. خضع سكان دمشق للنبطيين أصحاب البتراء أو سلع لأنهم أصبحوا

أصحاب الحول والطول في الشام ومصر لما دب فيهما من الضعف نحو سنة 110 إلى 120 ق. م. بالحروب المتأصلة. وقد كان النبط يغيرون على أرض مصر والشام بعصاباتهم فحاربوا الأدوميين وأسسوا ملكا بالبتراء. ولم تبرح دمشق ملكا للنبطيين والأولى أن يقال: إن هذه المدينة أعطاها كاليجولا الروماني إلى الحارث صاحب البتراء 85 ق. م وتراجع أمر النبطيين بسرعة على عهد مالتوس الثاني نحو سنة 48 إلى 70 ق. م فأضاعوا دمشق. ثم فقد النبطيون استقلالهم في سنة 105 م عقيب حملة كرنيليوس بالما حاكم الشام الذي استولى على البتراء، وأصبحت جرش إلى سنة 162 خاضعة لولاية الشام ثم للبتراء، ثم ضمت فينيقية إلى الشام. وكانت لمملكة النبط القديمة بلدتان مهمتان بصرى والبتراء. وروى بعضهم أن بومبيوس لما فتح الشام واستولى على دمشق وما جاورها أبقى لهذه العاصمة بعض استقلالها وكذلك لبصرى وجرش وعمان، وبعد فتح البتراء وجعلها ولاية رومانية غدت بصرى عاصمة حوران مقر الفيلق فعمرت الأقاليم وكانت ميدان السلب والنهب من قبل، وازدانت المدن بآثار تدهش خرائبها وأطلالها. وغزا أنطوخيوس النبطيين سنة 132 ق. م فلم ينل منهم ثم حاصرهم ديمتريوس. كانت مملكة النبط على عهد المكابيين ممتدة بين فلسطين وخليج العقبة ووادي الحجر والبحر الرومي، وهي عبارة عن مملكة أدوم قديما ويسميها اليونان مملكة العرب الحجرية وعاصمتها مدينة سلع أو البتراء في وادي موسى، وسماها بعضهم مدينة الرقيم ظناً منه بأنها مدينة أصحاب الكهف. واسم البتراء أقرب إلى الاسم الذي عرفها به اليونان وإن كانت البتراء على ما ورد من وصفها في كتب العرب هي في أرض الحجاز. قامت هذه الدولة العربية على حين غفلة من دولة البطالسة والسلاقسة في مصر والشام وقوي سلطانها في القرن الثاني قبل الميلاد. ولقب الحارث الثالث نحو سنة 85 بمحب اليونان وهو الذي فتح البقاع سنة 85 واستولى الحارث الرابع على دمشق وفي أيامه حدث المصافُّ الأول بينه وبين الرومان فاضطر الحارث أن يؤدي إليهم الجزية. واضطر النبطيون على عهد الإمبراطور بومبيوس

دولة تدمر:

وأخلافه أن يقدموا جنداً من أبنائهم الحين بعد الآخر لمعاونة الرومان وظلت مملكتهم حرة قوية. وأصبحت مملكة النبط ولاية مستقلة برأسها نحو سنة 358 تحت اسم مملكة فلسطين أو فلسطين المسالمة. وحمل الإمبراطور تراجان على النبطيين فبدد شملهم وقضى على مدنيتهم سنة 106م فاندمجوا في غيرهم وعدد ملوكهم أربعة عشر ملكاً منهم من اسمه الحارث ومنهم عبادة ومنهم مالك وبينهم بعض الملكات من النساء. دولة تدمر: ولما تراجع أمر مملكة النبط في نحو منتصف القرن الثالث للمسيح، لارتقاء مملكة تدمر ومملكة فارس اللتين نازعتاها التجارة، أخذت تدمر ترتقي بتجارتها وأصبحت زمناً هي ومملكة النبط مركزي التجارة في الشام ونقطة اتصال الشرق بالغرب. وانضمت مملكة تدمر إلى ممالك الرومان نحو السنة السادسة والثلاثين قبل الميلاد. وكان القائد مرقس أنطونيوس عائداً من حرب الملوك الأرشكيين، فحاول الاستيلاء على تدمر فقاومه أهلها على الفرات وتغلبوا عليه. وبعد ذلك توطدت العلائق الحسنة بين تدمر ومملكة الرومان ونالت حقوق مستعمرة رومانية بفضل بعض إمبراطورة الرومان. ويرى رنزفال أن العهد الذي فيه ارتقت حاضرة زينب أي تدمر إلى أوج التمدن هو نفس الزمن الذي به تواتر على عرش رومية بعض الملوك الشرقيين كسبتيميوس ساويرس وإسكندر ساويرس وفيلبوس العربي، فلا عجب إن جرأ أُذينة الأول على خلع السلطة الرومانية وإقامة دولة مستقلة تضم البادية وديار العرب الشمالية. وكان هذا الرجل ابن خيران ابن وهبلات بن نصور من بني السميدع انتهز الفرصة وادعى الملك سنة 250م فقتله القيصر الروماني. وحارب أُذينة وأخلافه الفرس غير مرة كانوا فيها يستظهرون عليهم ويحرزون رضا الإمبراطورية الرومانية. ولقد خرج على أذينة قائد روماني اسمه كياتوس فحاصره أذينة في حمص، فلما ضاقت به الحال خانه قائده كاليستوس وقتله، ففتحت أبواب حمص ثم قتل كاليستوس، فأقر إمبراطور الرومان لأذينة بحق الرئاسة ودعاه

زينب أو زنوبيا أو الزباء:

إمبراطورا على جميع أنحاء المشرق أي على الشام والجزيرة وآسيا الصغرى خلا بعض نواح في الشام، ودعي ملك الروم. وأول ما سعى له القضاء على الاضطهاد الذي أصاب النصارى في بعض مدن الشام كإنطاكية وحمص ودمشق وقيسارية، فأطلق الحرية الدينية لكل الطوائف، وأوعز إلى الوثنيين ألا يتعرضوا للنصارى في قضاء فروض عبادتهم، ورخص لهم في إقامة البيع والكنائس، وأدب العصاة من بقايا جيوش كاليستوس وكانوا انتشروا في الأرجاء وعكروا صفوها باعتداءاتهم. وقاتل ملك الفرس مرة ثالثة وظفر به ثم قُتل بيد ابن أخيه مَعَنَّى مع ابنه هيروديس وبويع لمعنى. إلا أن أهالي حمص ثاروا به بعد أيام وقتلوه. زينب أو زنوبيا أو الزباء: وكانت زينب أو الزباء أو زنوبيا زوجة أُذينة الثاني، فولدت له ثلاثة أولاد أكبرهم وَهْبَلات ثم خَيْران ثم تيم الله، فلما قتل أُذينة أخذت زوجته بأزمة الملك بالنيابة عن وهبلات بكرها، وكان لها مجلس شيوخ ترجع إلى رأيه ولها من الحلم وحسن الإدارة والسياسة والكرم ما عدت به من أعظم الملوك والملكات. وكانت نفسها تحدثها على ما يقال بالاستيلاء على المملكة الرومانية. وعقدت مع سابور ملك الفرس معاهدة وكان يخشى بأسها. وغصت عاصمتها بأجناس الشعوب والعناصر وكان سوادهم الأعظم من العرب والنبط. وكان بنو السميدع يسكنون بادية الشام في أوائل النصرانية ولهم دولة في تدمر ونواحيها، كما كانت دولة النبطيين في شرقي جنوب الشام. فظهر بنو غسان بعد خراب سد مأرب وسيل العرم، واستولوا على أرجاء فلسطين ودمشق، وكانت سبقتهم قبيلة بني سليح من قضاعة وسكنت البلقاء فانتشروا في القطر أواخر القرن الثاني للمسيح. وفي خلال تلك المدة قدمت فرقة من بني لخم إلى جنوبي فلسطين وامتدوا في غربي بحيرة لوط، وبرز قوم من مضر يعرفون ببني كلب امتدوا من أنحاء الحجاز إلى جنوبي الشام

ونزلوا في جوار دومة الجندل الجوف فأذعنت بقايا هذه القبائل لزينب فاستأجرتهم وأدخلتهم في جملة جيشها. وخاف غاليانس قيصر عادية زينب وقد أصبحت محبوبة من الشعوب فوجه جيشاً لقتالها فغلبه جيشها وانهزم فلُّ الجيش الروماني. ثم حدثتها نفسها أن تستولي على مملكة بيثينية فقهرتها وبلغت خلقيدونة فدعا سكانها القيصر اوريليانس إلى نصرتهم ففاجأ التدمريين في بيثينية نحو 271 - 272 فطردهم عنها، ثم واصل فتوحاته فتغلب على غلاطية وقبادوقية حتى بلغ مدينة أنقرة ففتحت له أبوابها. وكانت زينب في سنة 271 أمدت عاملها فيرموس على مصر بالقائد زبدا لصد هجمات الرومان الذين قدموا مصر بقيادة بروبس، فنشب بين الفريقين قتال انهزم فيه التدمريون تاركين مصر إلى الأبد، وعاد زبدا مع بقايا عسكره. وكانت زينب أعدت جيوشها لمقاتلة الرومان وقسمتها ثلاثة أقسام بقيادة زبدا وزباي. وجهت القسم الأول إلى طريق حلب، والثاني إلى طريق حمص، والثالث إلى القريتين وهي تتقدمهم بنفسها. وجاءها جيش الرومان من الشمال ففتحوا مدينة طيانة ومدائن جبال طوروس حتى قربوا من إنطاكية، فأمرت زينب قوادها أن يناوشوا الرومان القتال فشتت عساكرها عسكر الرومان في الوقعة الأولى، ثم ارتد عسكر الرومان على التدمريين فكسروهم، فملك اوريليانوس إنطاكية وذهبت زينب إلى حمص فتأثرها الجيش الروماني ففتح في طريقه عدة مدن على ضفة العاصي مثل أفاميا وشيزر لاريسا والرستن وبلغ ربض حمص. واستعدت زينب لقتال القائد الروماني في سبعين ألفاً، وكان عدد جيشه أقلَّ من جيشها إلا أنه أكثر مراناً على الحرب وأسرع في الكر والفر. فانكسر جيش زينب كسرةً عظيمة واستولى على حمص. فلم يسع زينب إلا أن تسرع إلى تدمر للدفاع عنها، وخف اوريليانس إلى حصار تدمر. وتخلى عن نصرتها حلفاؤها من الفرس والأرمن والعرب ثم وقعت زينب في قبضة القيصر الروماني، وفتح التدمريون أبواب مدينتهم للرومان في أول سنة 273، فوضع أوريليانس حامية قليلة وأخذ معه زينب وأسرى التدمريين إلى آسيا الصغرى، فبلغه في طريقه إلى رومية أن التدمريين ثاروا

آخر عهد الرومانيين وسياستهم:

بالحامية التي خلفها عندهم فكرَّ راجعا عليهم وأعمل السيف فيهم أياما وقوض الأبنية والهياكل ودك الأسوار والقلاع، فخربت تدمر خرابا لم تنتعش منه. آخر عهد الرومانيين وسياستهم: كثرت الفتن على عهد دولة السلاقسة خلفاء الإسكندر واستقلت فلسطين في عهد المكابيين 143 ق. م لاشتغال السلاقسة بحروبهم. وامتد سلطانها من البحر المتوسط إلى الفرات. واحتفظت بحريتها حتى تدخَّل بالأمر القائد بومبيوس الروماني وبسط سلطان دولته سنة 63 ق. م ولما أراد الرومان إضافة فلسطين إلى ولاية الشام الرومانية ثار اليهود فأدى ذلك إلى حصار بيت المقدس وخراب معبد سليمان على يد تيتوس سنة 66 ب. م وثار اليهود في فلسطين بقيادة باركوخبا 132 - 135م فحاربهم ادريانوس الروماني وأخضعهم بعد حرب هائلة قتل فيها قائدهم، وأصبحت سورية ولاية رومانية سنة 64 ولما وقعت الفتن بين اليهود والرومانيين في فلسطين سنة 66 لم يبق من مملكة اغربيا وهي الجولان أحد من أهلها. لأن اغربيا مضى لزيارة غلوس والي سورية في قيسارية وأناب عنه رجلا اسمه فاروس، فأتى إليه وجهاء بعض المدن من اليهود يسألونه أن يرسل إليهم جنودا يسهرون على راحتهم، فبدلا من أن يحسن ملتقاهم بعث قوماً قتلوهم ليلاً عن آخرهم. ثم لم يدع جورا ولا اعتسافا إلا وأقدم عليه. ولما بلغت اغربيا أخبار ظلمه عزله ولم يقتله لاتصال نسبه بأحد ملوك العرب. وزحف غلوس إلى زابلون فقر أهلها إلى الجبال فانتهبها وأحرق بيوتها التي لم تكن أبنية صور وصيدا وبيروت أحسن منها، ونهب وأحرق القرى المجاورة لها وعاد إلى عكا، فنشط اليهود لعودته وطاردوا السوريين فقتلوا منهم ألفي رجل أكثرهم من بيروت، ثم سار غلوس إلى قيسارية وأرسل كتائب من جيشه إلى يافا فباغتوا أهلها وقتلوهم عن آخرهم ونهبوا المدينة وأحرقوها وكان عدد الفتلى ثمانية آلاف وأربعمائة. وأرسل غلوس أيضاً حملة إلى السامرة قتلت كثيرين من أهلها ثم

أرسل فريقا آخر إلى الجليل ففتحت مدينة صفورية صافوريس أبوابها لجنود الرومانيين واقتدى بها غيرها من المدن، واعتزل المشاغبون في جبل عرقون المقابل لصفورية، فسار إليهم الجند فظهروا عليهم وقتلوا منهم أكثر من مائتي رجل، وأحدقوا بالجبل من كل جهة فقتلوا منهم نحو ألف إنسان ثم أحرق أفيق فقوعة والفولة والقرى المجاورة لها. وتسلسلت هذه الوقائع الرومانية في هذا القطر، فسار فسبسيان الروماني إلى الكرك تاريكا فقتل منهم وانهزم كثيرون في سفنهم وأبعدوا في بحيرة لوط فكان عدد القتلى من اليهود في البحر والمدينة ستة آلاف وخمسمائة رجل. وبعد أن قهر الرومانيون كرك وجفت - وجفت غربي قانا الجليل على مقربة من جبل كوكب كاران - استسلمت باقي المدن وهلك من أهل كامالا شرقي البحيرة خمسة آلاف، ثم خضعت بعض مدن فلسطين وقتل في القدس ثمانية آلاف وخمسمائة سنة 68 وجعلت القدس مستعمرة رومانية 136 باسم ايليا كابيتولينا، ثم انقضت قرون في سلام على الجملة، ولم يدخل الشام في حرب خارجية. كانت معاملة الرومان للشاميين باديء بدء عادلة حسنة مع ما كانت عليه مملكتهم في داخليتها من المشاغب والمتاعب. ولما شاخت دولتهم انقلبت إلى أتعس مما كانت عليه من الرق والعبودية. ولم تضف رومية بلاد الشام إليها مباشرة، ولم يصبح سكانها وطنيين رومانيين، ولا أرضهم أرضا رومانية، وظلوا غرباء ورعايا وكثيرا ما كانوا يبيعون أبناءهم ليوفوا ما عليهم من الأموال. وقد كثرت المظالم والسخرات والرقيق وبهذه الأيدي عمر الرومان ما عمروا من المعاهد والمصانع في الشام. وفي سنة 540 جاء ملك الفرس خسرو الأول واسمه عند العرب أنوشروان في جيوشه الضخمة ودخل الشام وظل فيه ثلاث سنين، وطرد بليزير الروماني الفرس سنة 542 وعادوا إليها بعد وفاة يوستنيانوس بزعامة خسرو الثاني، والتحم القتال مع ملوك الساسانيين وطردهم الإمبراطور هرقل

بنو غسان والعرب في الشام:

إلى ما وراء عبر الفرات. وفي هذه الحقبة خربت إنطاكية بفتح الفرس لها وقتلهم أهلها. وكانت مدة ثمانية قرون من قبل مهد المدنية الشرقية. حكم الرومان الشام سبعمائة سنة كانت فيه ميدانا للنزاع والشقاق والاستبداد والأنانية وقتل الأنفس. وحكم اليونان الشام 269 سنة سادت في عهدهم الحروب الطاحنة والمظالم وظهرت المطامع اليونانية بأعظم مظاهرها وكان حكمهم من أشد الويلات وأشأم النكبات على الشاميين في التاريخ العام: نرى العوامل الرومانية والبيزنطية قد أثرت في عرب الشام أخلاف العمالقة القدماء، وكانوا يتقوون كل مدة بمن يهاجر إليهم من اليمن والحجاز، فكانت المملكة الرومانية محتاجة لمعاونتهم سواء كان ذلك لحرب أبناء جنسهم النازلين على ضفاف الفرات، أو لإملاء فراغ الشام وكان يتهدده البارثيون ثم الفرس. ومعلوم كيف قاومت أرملة أذينة واسمها زينب أو زنوبيا القوى الرومانية في الشرق. ولما انحلت مملكة تدمر عهدت الإمبراطورية الرومانية إلى أسر أخرى بالحكم في تلك الأرجاء وثبتت الإمارة في الغساسنة. ودامت فيهم ثلاثة قرون. ودان رؤساء الغسانيين بالنصرانية فاشتركوا في حرب فارس من القرن الرابع إلى القرن السادس، وكان أحدهم الحارث الخامس من قوام مقام القائد بليزير في حملة آسيا. بنو غسان والعرب في الشام: اختلفت روايات مؤرخي العرب في بني غسان وكانوا أقيالا وعمالا لملوك البيزنطيين في هذه الديار. وقد عهد إليهم الدفاع عن تخوم الشام من اعتداء الفرس ورد غارات اللخميين أصحاب الحيرة. وكانت سلطة الغسانيين كما قال شلفير تتناول الولاية العربية أو معظم إقليم حوران والبلقاء وفينيقية ولبنان وفلسطين. وقال حمزة الأصفهاني وأبو الفداء: إن عدد ملوك الغسانيين في الشام أحد وثلاثون ملكا على حين لم يبلغ عددهم في أكثر من عشرة في رواية ابن قتيبة والمسعودي. ويقول الأصفهاني إن الحارث بن جبلة هو من أشهر ملوكهم لم يطل حكمه أكثر من عشر سنين، ويقول مؤرخو الروم: إنه حكم نحو أربعين سنة وهو المحقق. وكان

للغسانيين تمدن فاقوا به اللخميين لاختلاطهم بالروم البيزنطيين. ولم تكن لهم عاصمة معينة بل كانوا ينزلون الجولان والسويداء والجابية وجلق. وكان الغسانيون يؤدون الجزية عندما هاجروا من اليمن إلى الشام إلى رؤساء الأسباط من الرومان، ثم امتنعوا من أدائها عندما نالوا من الضجاعم واستولوا على الأمر دونهم، فاضطر الروم أن يقروا الغسانيين على أمرهم لحاجتهم إليهم في رد عادية اللخميين سكان الحيرة. وربما كان ذلك في أواخر القرن الخامس للميلاد. وفي سنة 529 عهد الإمبراطور يوستنيانوس إلى الحارث بن جبلة - وكان الحرث يدين بالنصرانية على مذهب القائلين بطبيعة واحدة في المسيح متحمسا لهذا المعتقد ذابا عنه - بزعامة جميع القبائل العربية في الشام ونال لقب رئيس الأسباط وبطريق. وكان هذا اللقب في مملكة البيزنطيين إذ ذاك أرقى لقب بعد الإمبراطور. وفي تلك السنة اشترك مع البيزنطيين في قمع ثورة السامريين وانقضى معظم عهده في حروب المنذر الثالث ملك الحيرة، وفي سنة 528 تغلب على المنذر، وبعد نحو عشر سنين أصبحت المنافسة بينه وبين المناذرة على أتمها بسبب أراضي التخوم الواقعة بين دمشق وتدمر إلى الرصافة وكان كل واحد منهما يدعيها. قال هوار: إن الحارث الغساني كسر المنذر ملك الحيرة سنة 528 وإنه لما كان والي فلسطين اشترك في إعادة السامريين إلى الطاعة فوهبه يوستنيانوس لقب الملك ليقضي على العرب الذين كانوا إقطاعا لملوك الساسانيين من الفرس، وكان كثيرا ما يجتاز دجلة ويخرب المعمور ويحمي قبائل العرب النازلة في برية تدمر من اعتداء المناذرة. وكانوا يحاولون أن يأخذوا منهم الجزية وحاربهم على الطريق الحربي الذي كان ممتدا من دمشق إلى تدمر. حارب الحارث مع الرومان في العراق، ثم حارب المنذر الحارث وأسر ابنه وقدمه ضحية للعُزَّى. وفي سنة 554 ظفر الحارث بالمنذر في جهات قنسرين فهلك المنذر في المعركة. وخلف الحارث ابنه المنذر وتغلب على العرب الفرس الذين هاجموا منازل الغسانيين وظفر بملكهم قابوس في عين أباغ على الأغلب. وحاول ملك الروم قتل المنذر فرفع لواء العصيان ثلاث

سنين، ولما عصى العرب والفرس على بيزنطية اضطرت هذه أن تعقد الصلح مع المنذر، ثم حمل هذا إلى القسطنطينية أسيرا وانقطعت الأموال التي كانت تعطيها له مملكة الروم فثار أولاده الأربعة بقيادة النعمان بكر أولاد الحارث وهاجموا أراضي الروم وخربوا فيها، فأخذ النعمان أسيرا أيضا. ولكن الفوضى انتشرت في بادية الشام وأخذت كل قبيلة تختار لها زعيما خاصا وهواهم مع الفرس. ولما سقطت دمشق والقدس في يد ملك الفرس كسرى ابرويز 613 - 614 انهارت مملكة الغسانيين. وقيل: إن جبلة بن الأيهم كان آخر ملوكهم. هذا ما يعرف عن الغسانيين في الجملة نقلا عمن حقق أمرهم من مؤلفي الغرب. ولما حاصر كسرى مدينة القسطنطينية خلت أرض الشام من جند الروم. وكان في مدينة صور أربعة آلاف يهودي فكتبوا إلى إخوانهم ببيت المقدس وقبرس ودمشق وجبل الجليل وطبرية أن يجتمعوا كلهم في عيد فصح النصارى ليقتلوهم بصور، ويصعدوا إلى بيت المقدس فيقتلوا كل نصراني بها ويغلبوا على المدينة، فبلغ الخبر بطريق صور فأخذ اليهود وقيدهم وسجنهم وأغلق أبواب صور وصير عليها المنجنيقات والعرادات، فلما كانت ليلة الفصح اجتمع اليهود من كل بلد إلى صور وكانوا زهاء عشرين ألف رجل، فحاربوهم حربا شديدة من فوق الحصون، فهدم اليهود كل كنيسة كانت خارج صور فكانوا كلما هدموا كنيسة أخرج أهل صور من اليهود المقيدين عندهم مائة رجل وأوقفوهم على الحصن وضربوا أعناقهم ورموا برؤوسهم إلى خارج، فضربوا أعناق ألفي رجل ثم انهزم اليهود. كنا نحب التوسع في سرد وقائع تلك الدول لولا الخوف من نقل ما لا يقره المحققون. والتعرض للمجهولات يؤدي إلى السقوط في غلطات ومتناقضات. ولعل بحث علماء العاديات يوصلهم إلى اكتشاف ما كان مجهولاً من تاريخ هذه الديار التي طالما شرقت بدماء الغالبين والمغلوبين وسارت على أديمها دول كان الناس في ظلها ظالمين ومظلومين، وقتل أهلها بالألوف والمئين في سبيل شهوات الفاتحين.

الشام في الإسلام

الشام في الإسلام من سنة 5 إلى سنة 18 للهجرة حالة الشام قبيل الفتح: دعا الداعي إلى الإسلام في جزيرة العرب وكثر من دانوا به، فكان الشام من أول الأقطار المجاورة للحجاز التي فكر الرسول العربي عليه الصلاة والسلام في فتحها لنشر كلمة التوحيد، وكانت تحت حكم الرومان منذ سبعة قرون، وملكها صاحب مملكة بيزنطية أو مملكة الروم الشرقية ويعرف عند العرب باسم هرقل. وكان سكان هذه الديار من سريان وعرب وروم وفرس أصحاب علاقات مع الحجاز بالتجارة، كما كانت علائق عرب الحجاز في الجاهلية كثيرة جداً بأهل هذا القطر، وأهم ما كان يرجى منه تيسير الفتح أن كانت قبائل عربية كثيرة تنزل الشام وتشارك دولة الروم في الأحكام، وأشهرها غسان في الجنوب وتنوخ في الشمال وتغلب في الشرق. وكانت هذه القبائل العربية دانت بالنصرانية وتركت عبادة الأصنام والأوثان. فقويت الروابط بينها وبين البيزنطيين فكانوا يؤدون لزعمائهم الرواتب ليقفوا في وجه البادية في الجنوب حتى لا يهاجموا الشام، وفي وجه الفرس في الشرق حتى لا يهددوا آسيا الصغرى.

وكان الفرس قبل الهجرة النبوية بثماني سنين فتحوا الشام سنة 613 - 614م فدافع هرقل عنها سنة 626 وانتصر على كسرى ولكنه فقد بانونيا ودلماسيا من أجزاء مملكته، سقطتا في أيدي الخرواتيين والصربيين وخوى نجم المملكة وساء طالعها وظهرت عليها أعراض الانحطاط، فارتأى هرقل أن يلقي بقياده إلى البطريرك سرجيوس القائل بطبيعة واحدة ومشيئة واحدة في المسيح عليه الصلاة والسلام. وكانت النصرانية تشعبت إلى مذاهب مختلفة كنحلة النساطرة واليعاقبة، ويكره جميع أرباب هذه المذاهب حكومة الروم وكانت تضطهدهم باسم المذهب الأرثوذكسي وعداوتهم لها تزيد على الأيام تأصلاً. كانت مصر والشام من جملة الأقطار التي تحاول الانفصال عن بيزنطية وشغل الإمبراطور وشعبه بالمسائل الدينية والخلافات المذهبية، فأخذ ينظر إلى غارات العرب نظر العاجز الضعيف، وزاده ضعفاً شيخوخته واستسلامه لرجال الدين، مع أنه كان على ضعف إرادته شجاعاً عاملاً بعيد النظر. وما حال ملك ينخر جسمه سوس الفساد في الداخل، وهل لمن ضعف جسمه واختلت قواه أن يرسل نظره إلى القاصية فيتقيها وهو على اتقاء ما لديه من المنهكات أعجز؟ فلا عجب أن أصبحت أحوال الشام من أشد ما يكون ملاءمة لفتوح العرب في تلك الحقبة من الزمن، وأسباب الظفر موفورة لهم من كل وجه. هذا وخزائن هرقل فارغة، ومرتبات الأمير الغساني التي كانت الدولة تجريها عليه منقطعة. والنفوس في الشام مستاءة من المظالم والمغارم، سئمت الحروب والغارات وهي عرضة لمطامع الفرس أو سوء إدارة الروم، والناس يتحدثون بقرب انفراج الأزمة على أيدي الفاتحين من العرب، وكان يبلغهم من أخبار عدلهم ما تثلج له الصدور، وتود لو ترى قبل ساعة طلعة الدولة الجديدة التي أتت من الأعمال ما صعب على الفاتحين أن يأتوا مثله في باب العدل والرحمة والتسامح.

صلح دومة الجندل وغزوة ذات السلاس ومؤتة

صلح دومة الجندل وغزوة ذات السلاس ومؤتة والجرباء وأذرح ومقنا وجيش أسامة: لما انتشر الإسلام في جزيرة العرب حجازها ويمنها ونجدها أخذ الرسول يغزو الروم في الشام غزوات قليلة ويرسل سرايا ضئيلة تزيد بحسب الحاجة حتى يتعرف المسلمون طرق الشام وأمصاره ويسبروا غور الروم واستعدادهم. وكانت أول غزواته على رأس تسعة وأربعين شهراً من مهاجره. بلغه أن بدومة الجندل جمعاً كثيراً وأنهم يظلمون من مرّ بهم من الضافطة وأنهم يريدون أن يدنوا من المدينة وهي طرف من أفواه الشام، بينها وبين دمشق خمس ليال، وبينها وبين المدينة خمس عشرة أو ست عشرة ليلة. فندب رسول الله الناس واستخلف على المدينة وخرج في ألف من المسلمين فكان يسير الليل ويكمن النهار، ومعه دليل له من بني عذرة فأخذ نعمهم وشاءهم ورجع لم يلق كيداً. وفي سنة ست ندب الرسول عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل وقال له: إن استجابوا لك فتزوج ابنة ملكهم، فدعاهم إلى الإسلام فأسلم الأصبغ بن عمرو الكلبي، وكان نصرانياً وكان رأسهم، وأسلم معه ناس كثير من قومه، وأقام من أقام على إعطاء الجزية، وتزوج عبد الرحمن بتماضر بنت الأصبغ. وكان صاحب دومة أكيدر بن عبد الملك في طاعة هرقل ملك الروم يعترض سفر المدينة وتجارهم، فصالحه الرسول على الجزية على كل حالم في أرضه ديناراً وكتب له ولأهل دومة كتاباً وهو: بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد رسول الله لأكيدر دومة حين أجاب إلى الإسلام وخلع الأنداد والأصنام مع خالد بن الوليد سيف الله في دومة الجندل وأكنافها أن لنا الضاحية من الضحل والبور والمعامي وأغفال الأرض والحلقة والسلاح والحافر والحصن، ولكم الضامنة من النخل

والمعين من المعمور، لا تعدل سارحتكم، ولا تعدّ فاردتكم، ولا يحظر النبات، تقيمون الصلاة لوقتها، وتؤتون الزكاة لحقها، عليكم بذلك عهد الله والميثاق، ولكم به الصدق والوفاء، شهد الله ومن حضر من المسلمين. وأرسل الرسول كتباً إلى هرقل والحارث بن أبي شمر يدعوهما إلى الإسلام وهذا نص الكتاب الذي بعث به مع دحية الكلبي على يد عظيم بصرى ليدفعه إلى هرقل وهو بالشام على ما جاء في الصحاح: بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم. سلام على من اتبع الهدى. أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسْلم تَسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وإن توليت فإن عليك إثم الإريسيين. ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواءٍ بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون اه. وكتب الرسول إلى الحارث بن أبي شمر الغساني أمير دمشق وبعث إليه بشجاع بن وهب. وكان فروة بن عمرو الجُذامي عاملاً لقيصر على عمَّان من أرض البلقاء قد أسلم وأنفله إلى الرسول رجلاً يقال له مسعود بن سعد من قومه، وأهدى الرسول بغلة يقال لها فضة وحماره يعفور وفرساً يقال له الظرب وأثواباً من كتان وقباء من سندس مخرَّصاً بالذهب، فقبل رسول الله كتابه وهديته وكتب إليه جواب كتابه

وأجاز رسوله مسعوداً بأثنتي عشرة أوقية ونش وبلغ قيصر إسلام فروة ابن عمرو فحبسه حتى مات فلما مات صلبوه - قاله ابن سعد. وفي السنة الثامنة للهجرة بعث الرسول سرية كعب بن عمير الغفاري إلى ذات أطلاح من ناحية الشام وهي وراء وادي القرى بين تبوك وأذرعات وكان ينزلها قوم من قضاعة، ورأسهم رجل يقال له سدوس، فخرج في خمسة عشر رجلاً فوجد جمعاً، كثيراً فدعاهم إلى الإسلام فأبوا أن يجيبوا وقتلوا أصحاب كعب جميعا، وتحامل رجل منهم حتى بلغ المدينة. وفي هذه السنة استنفر الرسول الناس إلى الشام فكانت غزوة ذات السلاسل، والسلاسل ماءٌ بأرض جذام - فوجه عمرو بن العاص في ثلاثمائة مقاتل ثم استمده فأمده بأبي عبيدة بن الجراح على المهاجرين والأنصار فيهم أبو بكر وعمر في مائتين فكان جميعهم خمسمائة، والغالب أنهم رجعوا من هذه الغزاة على غير جدوى. ومن السرايا التي أُرسلت إلى الشام سرية زيد بن حارثة إلى جذام بحسمي وراء وادي القرى مما يلي فلسطين من أرض الشام. وسببها أن دِحْيَة بن خليفة الكلبي كان أقبل من عند قيصر وقد أجاره وكساه فسلبه أهل حسمي، فغزاهم زيد بن حارثة ثم ردَّ الرسول عليهم أسلابهم. وفي تلك السنة بعث الرسول جيشاً مؤلفاً من ثلاثة آلاف مقاتل بلغوا تخوم البلقاء فلقيتهم جموع هرقل ومعهم العرب المنتصرة بقرية من قرى البلقاء يقال لها مشارف، فانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها مؤتة وجعلوا على ميمنتهم رجلاً من عذرة يقال له قطبة بن قتادة، وعلى ميسرتهم رجلاً من الأنصار يقال له عبادة بن مالك، فلقيتهم الروم في جمع عظيم فقتل من الأمراء زيد ابن حارثة، ثم جعفر بن أبي طالب، ثم عبد الله بن رواحة، فلما فجع المسلمون بثلاثة قواد عظام منهم، وكان خالد بن الوليد من القواد في ذاك الجيش،

رأى المصلحة أن يعود إلى المدينة بمن معه. وكان سبب هذه الغزوة أن النبي بعث الحارث بن عمير رسولاً إلى ملك بُصرى عاصمة حوران بكتاب كما بعث إلى سائر الملوك، فلما نزل بمؤتة عرض له عمرو بن شرحبيل الغساني فقتله، ولم يقتل لرسول الله رسول غيره. وقيل: إن هرقل نزل مآب من أرض البلقاء في مائة ألف من الروم وانضمت إليه المستعربة من لخم وجذام وبلقين وبهراء وبَلي في مائة ألف منهم. كانت أخبار الشام عند أهل المدينة كل يوم لكثرة من يرد عليهم من الأنباط فقدمت عليهم قادمة فذكروا أن الروم قد جمعت جموعاً كثيرة بالشام، وأن هرقل صاحب الروم قد رزق أصحابه لسنة، واستنفر العرب المتنصرة فأجلبت معه لخم وجذام وغسان وعاملة وبهراء وكلب وسليح وتنوخ من عرب الشام وزحفوا وقدموا مقدماتهم إلى البلقاء وعسكروا بها، وتخلف هرقل بحمص وضرب الروم على العرب الضاحية البعوث. فرأى الرسول إن لم يبدأ الروم القتال بدءوه به، فأعلم في سنة تسع بالتجهيز لغزو الروم والطلب بدم جعفر بن أبي طالب الذي استشهد في مؤتة في السنة الفائتة. وكان الرسول إذا أراد غزوة وَرّى بغيرها إلا في هذه، لقوة العدو وبعد الطريق والجدب والحر والناس في عسرة. وكان معه ثلاثون ألفاً، والخيل عشرة آلاف، والجمال اثنا عشر ألفاً، ولقي الجيش حراً وعطشاً. وقد أنفق أبو بكر الصديق في تجهيز هذا الجيش جميع ماله، وأنفق عثمان بن عفان نفقة عظيمة. خرج المسلمون في غزوة تبوك الرجلان والثلاثة على بعير، وخرجوا في حر شديد فأصابهم يوماً عطش شديد حتى جعلوا ينحرون إبلهم فيعصرون أكراشها ويشربون ماءها، فكان ذلك عسرة من الماء وعسرة من الظهر وعسرة من النفقة ولذلك سمي جيش العسرة.

وبلغ الجيش الحِجْر أرض ثمود فنهاهم الرسول عن مائه، ووصلوا تبوك فأقام بها عشرين ليلة، وسميت هذه الغزوة غزوة تبوك، ولم يلق المسلمون في هذه المعركة كيدا. وأتى يحنة بن رؤبة أُسقف أيلة على البحر الأحمر فصالحه الرسول على الجزية. وكتب له كتابا صورته: بسم الله الرحمن الرحيم: هذا أمنة من الله ومحمد النبي ليحنة بن رؤبة وأهل أيلة أساقفهم وسائرهم في البر والبحر، لهم ذمة الله وذمة النبي ومن كان معهم من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر، فمن أحدث منهم حدثاً فإنه لا يحول ماله دون نفسه وإنه طيب لمن أخذه من الناس. وإنه لا يحل أن يمنعوا ما يريدونه ولا طريقاً يريدونه من بر أو بحر. هذا كتاب جهنم بن الصلت وشرحبيل بن حَسَنة بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ذلك في سنة تسع من الهجرة. وصالح الرسول أهل جرباء وأذْرُح من أرض الشراة، صالح أهل أذْرُح على مائة دينار، وصالح أهل مَقْنا على مقربة من أيلة على ثلاثمائة دينار على ربع عروكهم وغزولهم وربع كُراعهم وحَلْقتهم وعلى ربع ثمارهم وكانوا يهوداً، وكتب إليهم هذا الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى بني حبيبة وأهل مقنا سلم أنتم فإنه أنزل عليَّ أنكم راجعون إلى قريتكم، فإذا جاءكم كتابي هذا فإنكم آمنون ولكم ذمة الله وذمة رسوله، وإن رسول الله قد غفر لكم ذنوبكم وكل دم اتبعتم به لا شريك لكم في قريتكم إلا رسول الله أو رسول رسول الله. وإنه لا ظلم عليكم ولا عدوان، وإن رسول الله يجيركم مما يجير به نفسه فإن لرسول الله بزتكم ورقيقكم والكراع والحلقة إلا ما عفا عنه رسول الله أو رسول رسول الله، وأن عليكم بعد ذلك ربعَ ما أخرجت نخيلكم وربع ما صادت عروككم وربع ما اغتزلت نساؤكم وأنكم قد ثريتم بعد ذلكم ورفعكم رسول الله عن كل جزية وسخرة، فإن سمعتم وأطعتم فعلى رسول الله أن يكرم

كريمكم ويعفو عن مسيئكم، ومن ائتمر في بني حبيبة وأهل مقنا من المسلمين خيراً فهو خير لكم، ومن أطلعهم بشر فهو شر له، وليس عليكم أمير إلا من أنفسكم أو من أهل بيت رسول الله وكتب علي بن أبي طالب في سنة 9. وفي السنة الحادية عشرة ضرب الرسول على الناس بعثاً إلى الشام أيضاً وأمر عليه أسامة بن زيد ندبه إلى البلقاء وأذرعات ومؤتة ثائراً بأبيه ولأسامة يومئذ ثماني عشرة سنة. وفي رواية أن الرسول أمره أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم، وأن يبلغ يًبنى وأشدود من أرض فلسطين، وقيل: أمر أن يوطئ من آبل الزيت بالأردن من مشارف الشام، ودعا الرسول عليه السلام أسامة بن زيد فقال: سر إلى موضع مقتل أبيك فأوطئهم الخيل، فقد وليتك هذا الجيش فأغر صباحاً على أهل يُبنى وحرّق عليهم، وأسرع السير تسبق الأخبار، فإن ظفرك الله فأقلل اللبث فيهم وخذ معك الأدلاء وقدم العيون والطلائع أمامك. وبينا الناس يتأهبون للغزاة ابتدأ الرسول شكواه التي قبضه الله عز وجل فيها. وكان يقول في علته: جهزوا جيش أسامة. ثم سار أسامة إلى يُبنى فشنَّ عليها الغارة وقتل قاتل أبيه ولم يصب أحد من المسلمين. وبلغ هرقل وهو بحمص ما صنع أسامة فبعث رابطة يكونون بالبلقاء، فلم تزل هناك حتى قدمت البعوث إلى الشام في خلافة أبي بكر وعمر. فأول غزوات الشام دومة الجندل والثانية مؤتة والثالثة ذات السلاسل والرابعة تبوك والخامسة آبل الزيت وجملة غزواتهم سبع غزوات. وكلها مقدمات لفتح هذا القطر وأمر قطعي من صاحب الرسالة إلى أصحابه بأن يكملوا العمل الذي وضع أساسه بنفسه الشريفة. عن سلمة بن نُفَيل الحضرمي قال: فتح الله على رسول الله فتحاً فأتيته فدنوت منه حتى كادت ثيابي تحس ثيابه فقلت: يا رسول الله سيبت الخيل وعطلوا السلاح وقال: قد نُفَيل وضعت الحرب أوزارها فقال رسول الله: كذبوا الآن جاء القتال الآن جاء القتال، لا يزال الله يزيغ قلوب أقوام تقاتلونهم ويرزقكم الله عز وجل منهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك وعُقر دار الإسلام بالشام.

جيوش العرب وجيوش الروم نصيحة أبي بكر

جيوش العرب وجيوش الروم نصيحة أبي بكر الصديق لقواده: توفي الرسول عليه السلام فارتدت بعض قبائل العرب فقاتلهم أبو بكر الصديق حتى جمع شملهم بالإسلام فلما أمن من ناحيتهم كتب إلى أهل مكة والطائف واليمن وجميع العرب بنجد والحجاز يستنفرهم للجهاد في الشام، ويرغبهم فيه وفي غنائم الروم، فسارع الناس إليه بين محتسب وطامع فعقد ثلاثة ألوية لثلاثة رجال، وهم يزيد بن أبي سفيان وشرحبيل ابن حَسنَة وعمرو ابن العاص. وكان أبو بكر أمر عمرو بن العاص أن يسلك طريق أيلة عامداً لفلسطين. وأمر يزيد وشرحبيل أن يسلكا طريق تبوك، فقصد الجيش فلسطين في الجنوب وقسم منه قلب الشام. وكان العقد لكل أمير في بدء الأمر على ثلاثة آلاف رجل فلم يزل أبو بكر يتبعهم بالإمداد حتى صار مع كل أمير سبعة آلاف وخمسمائة ثم تتام جمعهم بعد ذلك أربعة وعشرين ألفاً. وكان جيش الروم أربعين ومائتي ألف منهم المسلسل للموت والمربوط بالعمائم والفرسان والرجالة، جمعهم هرقل من أهل الشام والجزيرة وإرمينية، وولى عليهم رجلاً من خاصته وبعث على مقدمته جبلة بن الأيهم الغساني في مستعربة الشام. وأنجد أبو بكر جيوش الشام بخالد بن الوليد من العراق في تسعة وقيل في عشرة آلاف فصار المسلمون ستة وثلاثون ألفاً وفي رواية ستة وأربعين ألفاً. ويقول سيديليو: إن جيش العرب كان على أكثر تعديل مؤلفا من عشرين ألفاً وجيش الروم من ستين ألفاً. قال سعيد بن عبد العزيز: إن المسلمين يوم اليرموك كانوا أربعة وعشرين ألفاً والروم عشرين ألفاً ومائتي ألف عليهم ماهان وصقلان سقلار. ومهما كان من تقدير الجيشين فالعرب كانوا أقل من الروم. وتقدير مؤرخي العرب للجيش الإسلامي بستة وثلاثين ألفاً ولجيش الروم بزهاء مائتي ألف أقرب إلى الصحة، وهو تقدير معقول لا سيما إذا عرف أنه كان سكان الشام إذ ذاك نحو سبعة ملايين، وأن العرب على بعد الحجاز عن الشام لا يستطيعون أن يجهزوا أكثر من ذلك لأنهم كانوا يحاربون في جهات أخرى.

ولما أنفذ أبو بكر الأمراء إلى الشام كان فيما أوصى به يزيد بن أبي سفيان وهو مشيع له: إذا قدمت على أهل عملك فعدهم الخير وما بعده، وإذا وعدت فأنجز، ولا تكثر عليهم الكلام، فإن بعضه ينسي بعضاً، وأصلح نفسك يصلح الناس لك، وإذا قدم عليك رسل عدوك فأكرم مثواهم، فإنه أول خيرك إليهم، وأقلل حبسهم حتى يخرجوا وهم جاهلون بما عندك، وامنع من قبلك من محادثتهم، وكن أنت الذي تلي كلامهم، ولا تجعل سرَّك مع علانيتك فَيْمرجَ أمرك، وإذا استشرت فاصدق الخَبر تصدق لك المشورة، ولا تكتم المستشار فتؤتى من قِبلَ نفسك، وإذا بلغتك عن العدو عورة فاكتمها حتى توافيها، واستر في عسكرك الأخبار، وأذكِ حراسك، وأكثر مفاجأتهم في ليلك ونهارك، واصدق اللقاء إذا لقيت، ولا تجبن فيجبنَ من سواك. وقد شيع أبو بكر يزيد بن أبي سفيان راجلاً إلى ما بعد ربض المدينة فقال له يزيد: إما أن تركب وإما أن أنزل. فقال: ما أنت بنازل وما أنا براكب. إني احتسب خطاي هذه في سبيل الله ثم قال: إنك ستجد قوماً حبسوا أنفسهم لله فذرهم وما حبسوا أنفسهم له يعني الرهبان. وستجد قوماً فحصوا عن أوساط رؤوسهم فاضرب ما فحصوا عنه بالسيف. ثم قال: إني موصيك بعشر: لا تغدر، ولا تُمَثّل، ولا تقتل هرماً ولا امرأة ولا وليداً، ولا تعقرن شاة ولا بعيراً إلا ما أكلتم، ولا تُحرقن نخلاً، ولا تخربن عامراً، ولا تغُلّ ولا تجبن. وصل الجيش العربي إلى مشارف الشام فنزل في آبل وزيزاء والقسطل، وكان جيش الروم من دون زيزاء بثلث. وطلع ماهان قائد الروم وقدم قدامه الشمامسة والرهبان والقسيسين يحضون جيش الروم على القتال. وكان هرقل وهو من عظام القواد أدرك الخطر ورأى لما أتاه الخبر بقرب جيش العرب أن لا يقاتلهم وأن يصالحهم. وقال لقومه: فو الله لأن تعطوهم نصف ما أخرجت الشام وتأخذوا نصفاً وتقرَّ بكم جبال الروم خير لكم من

مبدأ الحرب بين العرب والروم:

أن يغلبوكم على الشام ويشاركوكم في جبال الروم، فلما رآهم يعصونه ويردون عليه بعث أخاه تيودورا وأمر الأمراء. مبدأ الحرب بين العرب والروم: وأول وقعة كانت بين العرب والروم بقرية من قرى غزة يقال لها دائن 12هـ كانت بينهم وبين بطريق غزة فاقتتلوا فيها قتالاً شديداً فهزم الروم، وتوجه يزيد بن أبي سفيان في طلب ذلك البطريق فبلغه أن بالعربة من أرض فلسطين جمعاً للروم فأوقع بهم وقتل عظيمهم، وانتهى إليه أن ستة من قواد الروم نزلوا العربة في ثلاثة آلاف فسار إليهم المسلمون في كًثْف منهم فهزموهم، وقتل أحد القواد فصار الروم إلى الَّبة فهزمهم المسلمون وغنموا غنماً حسناً. وأول صلح كان بالشام صلح مآب. مرّ أبو عبيدة بهم في طريقه فقاتلوه، ثم سألوه الصلح فصالحهم، وقالوا: إن أول حرب كانت بالشام بعد سرية أُسامة بالعربة ثم أتوا دائن ثم كانت مرج الصُفَّر، وأول مدينة فتحت بصرى قصبة حوران. لما سار خالد بن الوليد من العراق مدداً للمسلمين في الشام وقد ضاق المسلمون فيه لكثرة جيوش الروم فتح في طريقه ما اجتاز به من شرق الشام، مثل أرك ودومة الجندل وقُصم وتَدمر والقريتين وحَوّارين ومرج راهط، ووجه أحد رجاله إلى غوطة دمشق فأغار على قرى من قراها، وصار خالد إلى الثنية التي تعرف بثنية العقاب المشرفة على الغوطة، فوقف عليها ساعة ناشراً رايته وهي راية كانت لرسول الله تسمى العقاب علماً لها. والعرب تسمي الراية عقاباً. وأغار على بني غسان في يوم فِصحهم. ثم سار خالد حتى انتهى إلى المسلمين بقناة بصرى، ويقال: إنه أتى الجابية من حوران وبها أبو عبيدة في جماعة من المسلمين فالتقيا ومضيا جميعاً إلى بصرى. ولما فتحت بصرى توجه أبو عبيدة بن الجراح في جماعة كثيفة فأتى مآب من أرض البلقاء، وبها جمع العدو فافتتحها صلحاً على مثل صلح بصرى، ثم كانت وقعة أجنادين قرب القدس، شهدها من الروم زهاء مئة ألف سرَّب هرقل أكثرهم وتجمع باقوهم من النواحي

وقعة اليرموك:

فقتل المسلمون منهم مقتلة عظيمة. وقالوا: إن خالد بن الوليد لما جاء بصرى والمسلمون نزول عليها ضايق أهلها حتى صالحهم على أن يؤدوا عن كل حالم ديناراً وجريب حنطة. وافتتح المسلمون جميع أرض حوران وغلبوا عليها وقتئذ وذلك في سنة 13. وقعة اليرموك: أهم وقائع العرب في الشام التي انهزم فيها الروم شر هزيمة ولحق فَلُّهم بالشمال وقعة اليرموك - واليرموك نهر - فهي الوقعة الفاصلة التي هان بها الاستيلاء بعد ذلك على القدس ودمشق وما إليها، ثم على حمص وحماة وحلب وما إليها من البلدان، وظهر فيها النبوغ العربي في الحرب بأجلى مظاهره. وتبين أن تلك الأمة الفقيرة بمالها، ليست فقيرة بعقل رجالها. وقرأ العرب على الروم يومئذ درساً من مضائهم وحسن بلائهم، وأروهم راموزاً من تضامنهم واستماتتهم، وأتوهم بمثال من طيب أخلاقهم وجودة فطرهم، خلافاً لما كان عليه أعداؤهم من الانقسام وتشتت الأهواء والخصام. لما قدم خالد بن الوليد مدداً للمسلمين في اليرموك وجد العرب يقاتلون الروم متساندين كل أمير على جيش: أبو عبيدة على جيش: ويزيد بن أبي سفيان على جيش، وشرحبيل بن حسنة على جيش، وعمرو بن العاص على جيش. فقال خالد: إن هذا اليوم من أيام الله لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي، فأخلصوا لله جهادكم، وتوجهوا إلى الله بعملكم. فإن هذا يوم له ما بعده، فلا تقاتلوا قوماً على نظام وتعبئة وأنتم على تساند وانتشار، فإن ذلك لا يحل ولا ينبغي، وإن مَن وراءكم لو يعلم علْمَكُم حال بينكم وبين هذا. فاعملوا فيما لم تؤمروا به بالذي ترون أنه هو الرأي من واليكم. قالوا: فما الرأي؟ قال: إن الذي أنتم عليه أشد على المسلمين مما غشيهم وأنفع للمشركين من أمدادهم. ولقد علمت أن الدنيا فرقت بينكم والله، فهلموا فلنتعاور الإمارة، فليكن علينا بعضنا اليوم، وبعضنا غداً، والآخر بعد غد حتى يتأمر كلكم، ودعوني اليوم عليكم. قالوا: نعم. فأمروه وهم يرون أنها كخرجاتهم، فكان الفتح على يد خالد. وجاءه البريد يومئذ بموت

أبي بكر وخلافة عمر وتأمير أبي عبيدة على الشام كله وعزل خالد، فأخذ الكتاب منه وتركه في كنانته ووكل به من يمنعه أن يخبر الناس من الأمر لئلا يضعفوا. وهزم الروم وقتل منهم على الواقوصة ما يزيد على مائة ألف ثم دخل على أبي عبيدة وسلم عليه بالإمارة، وكانت من أعظم فتوح المسلمين وباب ما جاء بعدها من الفتوح، لأن الروم كانوا قد بلغوا في الاحتشاد فلما كُسروا ضعفوا ودخلتهم هيبة. وفي كتاب أبي حذيفة أن المسلمين أوقعوا بالروم يوماً باليرموك فشد خالد في سرعان الناس وشدّ المسلمون معه يقتلون كل قتلة، فركب بعضهم بعضاً حتى انتهى إلى أعلى مكان مشرف على أهوية فأخذوا يتساقطون فيها وهم لا يبصرون. وهو يوم ذو ضباب - وفي رواية ثارت فيه الرياح الهوج - وقيل: كان ذلك بالليل وكان آخرهم لا يعلم بما صار إليه الذي قبله حتى سقط فيها ثمانون ألفاً فما أحصوا إلا بالقضيب، وسميت هذه الأهوية بالواقوصة من يومئذ لأنهم واقصوا فيها أي اقتربوا، فلما أصبح المسلمون ولم يروا أعداءهم ظنوا أنهم قد كمنوا لهم حتى أخبروا بأمرهم. وقال سعيد بن بطريق: بلغ ماهان قائد الروم أن العرب قد خرجوا من طبرية يريدون دمشق، فجمع عسكره وخرج منها وسار يومين حتى نزل على وادٍ كبير يقال له وادي الرماد، ويقال للموضع الجولان ويعرف بالياقوصة، وصير الوادي بينه وبين العرب شبيه الخندق وأقاموا أياماً والعرب بحذائهم. وبعد أيام خرج منصور العامل من دمشق يريد عسكر ماهان ومعه مال قد جباه من دمشق بالمشاعل، فلما قربوا من العسكر ضربوا وبوّقوا وصاحوا، وكان ذلك من منصور مكيدة، فلما نظر الروم إلى المشاعل

فتح فحل وأجنادين وبيسان:

خلفهم وسمعوا صوت الطبول والبوقات، توهموا أن العرب قد جاءوهم من خلفهم وكبسوهم فوقعت فيهم الهزيمة فسقطوا كلهم في ذلك الوادي أعني وادي الرماد، وهو وادٍ عظيم كبير فماتوا ولم يتخلص منهم إلا نفر قليل، ومنهم من هرب إلى مواضع شتى، ومنهم من تراجع إلى دمشق، ومنهم من هرب إلى بيت المقدس، ومنهم من هرب إلى قيسارية اه. وشهد اليرموك ألف صحابي منهم نحو من مائة من أهل بدر، وتهافت في الواقوصة من الروم عشرون ومائة ألف، ثمانون ألف مقرّن وأربعون ألف مطلق سوى من قتل في المعركة من الخيل والرجل. ويقول الطبري: إن قتلى اليرموك من الروم سبعون ألفاً، وزعم بعض المؤرخين أن جيش الروم تكامل يوم اليرموك أربعمائة ألف. فتح فِحل وأجْنَادين وَبيْسان: ذكروا أن أول كتاب كتبه عمر حين ولى أبا عبيدة الشام: أُصيك بتقوى الله الذي يبقى ويفنى ما سواه، الذي هدانا من الضلالة، وأخرجنا من الظلمات إلى النور، وقد استعملتك على جند خالد بن الوليد، فقم بأمرهم الذي يحق عليك. لا تقدم المسلمين إلى هَلكة رجاء غنيمة، ولا تنزلهم منزلاً قبل أن تسْتَرِيده لهم وتعلم كيف مأتاه، ولا تبعث سريَّة إلا في كَثْف من الناس، وإياك وإلقاء المسلمين في الهلكة، وقد ابتلاك الله بي وابتلاني بك، فغمضّ بصرك عن الدنيا، وأله قلبك عنها، إياك أن تهلكك كما أهلكت من كان قبلك، فقد رأيتَ مصارعهم اه. توفي أبو بكر الصديق قبل فتح اليرموك بعشر ليال وبعد أن أصيبت الروم بالهزيمة القاطعة على اليرموك، كانت وقعة فحل من الأردن بعد خلافة عمر بن الخطاب بخمسة أشهر، ولما انتصر المسلمون على اليرموك كان هرقل في البيت المقدس، جاءها للاحتفال بتخليص الصليب الذي استرده قبل ذلك

الأردن وفلسطين وجبل اللكام:

فصار إلى إنطاكية واستنفر الروم وأهل الجزيرة وبعث عليهم رجالاً من خاصته وثقاته فلقوا المسلمين بفحل فقاتلوهم أشد قتال وأبرحه حتى ظهروا عليهم، وقُتل بطريقهم وزهاء عشرة آلاف معه وتفرق الباقون في مدن الشام ولحق بعضهم بهرقل. ولما سار المسلمون بعد أن فرغوا من أجنادين إلى فحل نزلت الروم بَيْسان فبثقوا أنهارها وفي أرض سبخة فكانت وحلاً، ونزلوا فحل وَبيْسان، فلما غشيها المسلمون ولم يعلموا بما صنعت الروم وِحلَت خيولهم، ولقوا فيها عناء ثم سلموا. وسميت بيسان ذات الردغة لما لقي المسلمون فيها، ثم نهضوا إلى الروم وهم بفحل فاقتتلوا فهزمت الروم ودخل المسلمون فحل ولحقت رافضة الروم بدمشق، فكانت وقعة فحل في ذي القعدة سنة ثلاث عشرة. قال الطبري: كان الروم في فحل بعد أن رحلت حيارى لا يعرفون مأخذهم، فأسلمتهم هزيمتهم وصيرتهم إلى الوحل فركبوه ولحق أوائل المسلمين بهم وقد وحلوا فركبوهم وما يمنعون يد لامس فوخزوهم بالرماح، فكانت الهزيمة في فحل، وكان مقتلهم في الرَّداغ فأصيب الثمانون ألفاً لم يفلت منهم إلا الشريد. وكان الله يصنع للمسلمين وهم كارهون: كرهوا البثوق فكانت عوناً لهم على عدوهم، وأناة من الله ليزدادوا بصيرة وجداً. الأردن وفلسطين وجبل اللكام: افتتح شُرَحْبيل بن حَسنَة الأردن عَنوة ما خلا طبرية فإن أهلها صالحوه على أنصاف منازلهم وكنائسهم، وفتحت جميع مدن الأردن وحصونها على مثل صلح طبرية فتحاً يسيراً بغير قتال، ففتح بيسان وسوسية وأفيق وجرش وبيت رأس وقَدَس والجولان، وغلب على سواد الأردن وجميع أرضها وعلى صفورية وعكا وصور، وبفتح هذين الثغرين من الساحل

انقطع ما بين الروم في إيلياء وبين خط رجعتهم من البر مع إنطاكية وما وراءها من الدروب. وصالح أبو عبيدة السامرة بالأردن وكانوا عيوناً وأدلاء للمسلمين، كما صالح الجراجمة في جبل اللُّكام بين بياس وبوقا على أن يكونوا أعواناً للمسلمين وعيوناً ومسالح في جبل اللُّكام، وفتح عمرو ابن العاص غزة ثم سَبَسْطِية ونابلس ولدّ ويُبنى وعَمَواس وبيت جبرين ويافا ورفح، وظلت القدس وقيسارَية محاصرتين، ولم تفتح القدس إلا سنة خمس عشرة أي بعد فتح دمشق بسنة ونيف، وطلب أهله من أبي عبيدة أن يصالحهم على صلح أهل مدن الشام وأن يكون المتولي للعقد عمر بن الخطاب، فكتب إليه بذلك فسار عن المدينة وخرج صفرونيوس بطريق بيت المقدس إلى عمر بن الخطاب فأعطاه عمر أماناً وكتب لكل كورة كتاباً واحداً ما خلا أهل إيلياء. وهذا نص عهد أهل إيلياء: بِسم الله الرحمن الرحيم: هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم وسقيمها وبريئها وسائر ملتها، أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقض منها ولا من حيّزها ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم ولا يكرهون على دينهم ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود. وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن، وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوت اللصوص، فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم، ومن أقام منهم فهو آمن، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن شاء سار مع الروم، ومن شاء رجع إلى أهله، فإنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم، وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية. شهد على ذلك خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعبد الرحمن بن عوف ومعاوية ابن أبي سفيان وكتب وحضر سنة 15.

فتح دمشق والأحكام العسكرية:

وكتب عمر إلى أهل لدّ ومن دخل معهم من أهل فلسطين أجمعين مثل شروط أهل إيلياء. واختلف القوم في صلح بيت المقدس فقالوا صالح اليهود وقالوا النصارى، والمجمع عليه أنه صالح النصارى. وفي كتاب عمر صراحة في ذلك. واشترط فيه إخراج الروم الذين ليسوا من أبناء القطر الأصليين. وأتاه جبلة بن الأيهم رأس بني غسان وكان هذا أسلم ثم ارتد وقاتل المسلمين مع الروم فقال له: تأخذ مني الصدقة كما تصنع العرب قال: بل الجزية وإلا فالحق بمن هو على دينك. فخرج في ثلاثين ألفاً من قومه حتى لحق بأرض الروم، وندم عمر على ما كان منه في أمره. فتح دمشق والأحكام العسكرية: كتب عمر إلى أبي عبيدة وكان كتب اليه في أمر الشام: أما بعد فابدءوا بدمشق وانهدوا لها فإنها حصن الشام وبيت ملكهم. وبعد أن تم للمسلمين ما أرادوا من هزيمة الروم على اليرموك جمعت الروم جمعاً عظيماً وأمدهم هرقل بمدد فلقيهم المسلمون بمرج الصفّر بين دمشق والجولان وهم متوجهون إلى دمشق، وذلك لهلال المحرم سنة 10 فاقتتلوا قتالاً شديداً وجرح من المسلمين زهاء أربعة آلاف، وولى الروم مفلولين لا يلوون على شيء حتى أتوا دمشق وبيت المقدس. ولما فرغ المسلمون من قتال من اجتمع لهم بالمرح رجعوا إلى مدينة دمشق فأخذوا الغوطة وكنائسها عنوة، ونازلوا دمشق وحاصروها من الباب الشرقي وباب توما وباب الفراديس وباب الجابية والباب الصغير وفتح نصفها عنوة والنصف الآخر صلحاً، فأجراها عمر كلها صلحاً. وكتب أهل دمشق كتاباً لأبي عبيدة هو هذا: بسم الله الرحمن الرحيم: هذا كتاب لأبي عبيدة بن الجراح ممن أقام بدمشق وأرضها وأرض الشام من الأعاجم، إنك حين قدمت بلادنا سألناك الأمان على أنفسنا وأهل ملتنا، وإنا اشترطنا لك أن لا نحدث في مدينة دمشق ولا فيما حولها كنيسة ولا ديراً ولا قلاية ولا صومعة

راهب، ولا نجدد ما خرب من كنائسنا ولا شيئاً منها مما كان في خطط المسلمين، ولا نمنع كنائسنا من المسلمين أن ينزلوها في الليل والنهار، وأن نوسع أبوابها للمارة وأبناء السبيل، ولا نؤوي فيها ولا في منازلنا جاسوساً، ولا نكتم على من غش المسلمين، وعلى أن لا نضرب بنواقيسنا إلا ضرباً خفيفاً في جوف كنائسنا، ولا نظهر الصليب عليها، ولا نرفع أصواتنا في صلاتنا وقراءتنا في كنائسنا، ولا نخرج صليبنا ولا كتابنا ولا نخرج باعوثاً ولا شعانين، ولا نرفع أصواتنا بموتانا، ولا نظهر النيران معهم في أسواق المسلمين، ولا نجاورهم بالخنازير ولا نبيع الخمور، ولا نظهر شركاً في نادي المسلمين، ولا نرغب مسلماً في ديننا، ولا ندعو إليه أحداً وعلى أن لا نتخذ شيئاً من الرقيق الذي جرت عليه سهام المسلمين، ولا نمنع أحداً من قرابتنا إن أرادوا الدخول في الإسلام، وأن نلزم ديننا حيثما كنا ولا نتشبه بالمسلمين في لبس قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر ولا في مراكبهم، ولا نتكلم بكلامهم ولا نتسمى بأسمائهم وأن نجز مقادم رؤوسنا ونفرق نواصينا ونشد الزنانير على أوساطنا، وأن لا ننقش في خواتيمنا بالعربية ولا نركب السروج، ولا نتخذ شيئاً من السلاح، ولا نجعله في بيوتنا ولا نتقلد السيوف، وأن نوقر المسلمين في مجالسهم ونرشدهم للطريق، ونقوم لهم من المجالس إذا أرادوها، ولا نطلع عليهم في منازلهم، ولا نعلم أولادنا القرآن ولا نشارك أحداً من المسلمين إلا أن يكون للمسلم أمر التجارة، وأن نضيف كل مسلم عابر سبيل من أوسط ما نجد، ونطعمه فيها ثلاثة أيام، وعلينا أن لا نشتم مسلماً، ومن ضرب مسلماً فقد خلع عهده. ضمنا ذلك على أنفسنا وذرارينا وأرواحنا ومساكننا، وإن نحن غيرنا أو خالفنا عما اشترطنا لك وقبلنا الأمان عليه فلا ذمة لنا، وقد حل لك منا ما حلّ من أهل المعاندة والشقاق. على ذلك أعطينا الأمان لأنفسنا وأهل ملتنا فأقرونا في بلادكم التي ورثكم الله إياها. شهد الله على ما شرطنا لكم على أنفسنا وكفى به شهيداً. وكتب عمر بن الخطاب على النصارى كتاباً في هذا المعنى أيضاً وهذان

فتح حمص وشيزر والمعرة وبعلبك وصيدا وبيروت

الكتابان هما من قبيل ما يقرره الفاتحون من الأحكام العسكرية أو الإدارة العرفية كما يسمونها اليوم وهي كما لا يخفى تختلف باختلاف الأمم والحالات وليست أصلاً من أصول الدين لا يجوز تبديله. وهذا نص العهد الذي أعطاه خالد بن الوليد قبل أن يعلم بما صار إليه حال المسلمين في الشق الآخر من المدينة مدينة دمشق: بسم الله الرحمن الرحيم: هذا ما أعطى خالد بن الوليد أهل دمشق إذ دخلها، أعطاهم أماناً على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وسور مدينتهم لا يهدم ولا يسكن شيء من دورهم، لهم بذلك عهد الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم والخلفاء والمؤمنين لا يعرض لهم إلا بخير إذا أعطوا الجزية. وذكر الطبري أن أبا عبيدة بن الجراح دخل دمشق في سنة 14 فشتى بها، فلما ضاقت الروم سار هرقل بهم حتى نزل إنطاكية ومعه من المستعربة لخم وجذام وبلقين وبلي وعاملة، ومن تلك القبائل من قضاعة وغسان بشر كثير، ومعه من أهل أرمينية مثل ذلك، وبعث الصقلار خصياً له فسار بمائة ألف مقاتل معه، من أهل أرمينية اثنا عشر ألفاً ومعه من المستعربة من غسان وتلك القبائل من قضاعة اثنا عشر ألفاً عليهم جبلة بن الأيهم الغساني وسائرهم من الروم. وسار إليهم المسلمون وهم أربعة وعشرون ألفاً عليهم أبو عبيدة بن الجراح فالتقوا باليرموك في 12 رجب سنة 15 20 آب 636 فاقتتل الناس قتالاً شديداً. وتدل عبارة الطبري على أن فتح دمشق كان قبل فتح اليرموك والمعقول المعول عليه أن فتح اليرموك كان قبل فتح دمشق. فتح حمص وشيزر والمعرة وبعلبك وصيدا وبيروت وجبيل وعرقة: وبينا المسلمون على حصار دمشق، وقد حوصرت ستة أشهر، أقبلت خيل من عقبة السليمة مخمرة بالحرير فثار إليهم المسلمون فالتقوا فيما بين بيت لهيا قرب دومة والعقبة التي أقبلوا منها، فهزموهم وطردوهم إلى أبواب حمص، فلما رأى أهل حمص ذلك ظنوا أنهم فتحوا دمشق فقال

قنسرين وحلب وإنطاكية وكور الشمال:

لهم أهل حمص: إنا نصالحكم على ما صالحتم عليه أهل دمشق ففعلوا، ولما فرغ أبو عبيدة من دمشق سار إلى حمص فاستقراها وأجرى صلحها على مثل صلح بعلبك، ثم مضى نحو حماة فتلقاه أهلها مذعنين، فمضى نحو شيزر وبلغت خيله الزراعة والقسطل. ومر أبو عبيدة بمعرة النعمان فخرج أهلها يقلسون يلعبون بين يديه ثم أتى فامية قلعة المضيق ففعل أهلها مثل ذلك، وبعث خالد بن الوليد إلى البقاع ففتحه بالسيف، وبعث سرية فالتقوا مع الروم بعين ميسنون وعلى الروم رجل يقال له سنان تحدر على المسلمين من عقبة بيروت، فقتل منهم يومئذ جماعة من الشهداء، فكانوا يسمون عين ميسنون عين الشهداء. واستخلف أبو عبيدة على دمشق يزيد بن أبي سفيان شقيق معاوية كما وعده بها الصديق، فسار يزيد إلى صيدا وبيروت وجبيل وعرقة ففتحها فتحاً يسيراً، وبعث يزيد دحية بن خليفة إلى تدمر في سرية ليمهدوا أمرها، وبعث أبا الزهر القشيري إلى البثنية وحوران فصالح أهلهما. قنسرين وحلب وإنطاكية وكور الشمال: وسار أبو عبيدة إلى قنسرين فصالحه أهلها على مثل صلح حمص، وغلب المسلمون على أرضها وقراها، ثم سار إلى حلب وحاصرها ففتحها، وبعث أبو عبيدة بعد فتح حمص خالد بن الوليد إلى قنسرين فلما نزل بالحاضر زحف إليهم الروم وعليهم ميناس، وهو رأس الروم وأعظمهم فيهم بعد هرقل، فالتقوا بالحاضر فقتل ميناس ومن معه مقتلة عظيمة لم يقتلوا مثلها. فأما الروم فماتوا على دمه حتى لم يبق منهم أحد، وأما أهل الحاضر فأرسلوا إلى خالد أنهم عرب، وأنهم إنما حشروا ولم يكن من رأيهم حربه فقبل منهم وتركهم. وسار أبو عبيدة إلى إنطاكية وقد لحق بها خلق من أهل جند قنسرين، فلما صار بمهروبة قريب فرسخين من إنطاكية لقيه جمع للعدو ففضهم وألجأهم إلى المدينة فحاصرها، ثم صالحه أهلها على الجزية والجلاء فجلا بعضهم وأقام بعضهم. ووجه أبو عبيدة ميسرة بن مسروق العبسي إلى

وقعة مرج الروم وقيسارية:

درب بغراس بيلان فلقي جمعاً للروم ومعهم مستعربة من غسان وتنوخ يريدون اللحاق بهرقل فأوقع بهم وقتل منهم مقتلة عظيمة. وبلغ أبا عبيدة أن جمعاً للروم بين معرة مصرين وحلب فلقيهم وقتل عدة بطارقة وفض ذلك الجيش، وفتح معرة مصرين على مثل صلح حلب، وجالت خيوله فبلغت بوقا وفتحت قرى الجومة وسرمين ومرتحوان وتيزين وعزاز وصالحوا أهل دير طبايا ودير الفسيلة؟ على أن يضيفوا من مرّ بهم من المسلمين، وأتاه نصارى خناصرة في سيف البادية فصالحهم، وفتح أبو عبيدة جميع أرض قنسرين وإنطاكية واللاذقية. وورد عبادة بن الصامت السواحل ففتح مدينة تعرف ببلدة على فرسخين من جبلة وانطرطوس ومرقبة وبانياس، ثم صالح أبو عبيدة أهل قورس وبث خيله فغلب على جميع أرض قورس إلى آخر حد نقابلس، وفتح منبج ودلوك ورعبان وعراجين وبالس وقاصرين، وبلغ أبو عبيدة الفرات واشترط على أهل رعبان ودلوك أن يبحثوا عن أخبار الروم ويكاتبوا بها المسلمين. وقعة مرج الروم وقيسارية: وفي سنة خمس عشرة كانت الوقعة بمرج الروم، وكان من ذلك أن أبا عبيدة خرج بخالد بن الوليد من فحل إلى حمص، وانصرف بمن أضيف إليهم من اليرموك فنزلوا جميعا على ذي الكلاع، وقد بلغ الخبر هرقل فبعث تيودرا البطريق حتى نزل بمرج دمشق وغربها، فنزل أبو عبيدة بمرج الروم فنازله يوم نزل عليه شنس الرومي في مثل خيل تيودرا إمدادا ليتودرا وردءا لأهل حمص فنزل في عسكر على حدة، فلما كان من الليل أصبحت الأرض من تيودرا بلاقع، وكان خالد بإزائه وأبو عبيدة بإزاء شنس، وأتى خالدا الخبر أن تيودرا قد رحل إلى دمشق فأجمع رأيه ورأي أبي عبيدة أن يتبعه خالد وهم يقتتلون، فأخذهم من خلفهم فقتلوا من بين أيديهم ومن خلفهم، فأناموهم ولم يفلت منهم إلا الشريد، فأصاب المسلمون ما شاءوا من ظهر وأداة وثياب. وناهد أبو عبيدة بعد خروج

سر نجاح المسلمين وقتال نسائهم يوم اليرموك:

خالد في إثر تيودرا وشنس وامتلأ المرج من قتلاهم فأنتنت منهم الأرض وهرب من هرب منهم فلم يفلتهم وركب أكتافهم إلى حمص. هكذا تم فتح الشام على هذا الوجه المحكم في ثلاث سنين ولم تعص إلا قيسارية فإن معاوية فتحها سنة 19 بعد أن حوصرت نحو سبع سنين، وكان أهلها يزاحفون معاوية وجعلوا لا يزاحفونه مرة إلا هزمهم وردهم إلى حصنهم، ثم زاحفوه آخر ذلك وخرجوا من صياصيهم فاقتتلوا في حفيظة واستماتة فبلغت قتلاهم في المعركة ثمانين ألفا وكملها في هزيمتهم مائة ألف الطبري. وكانت قيسارية من أعيان أمهات المدن قيل كان مقاتلة الروم الذين يرزقون فيها مائة ألف، وسامرتها ثمانون ألفا، ويهودها مائة ألف ياقوت. وكان كتاب عمر إلى معاوية: أما بعد فإني قد وليتك قيسارية فسر إليها واستنصر عليهم وأكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله، الله ربنا وثقتنا ورجاؤنا ومولانا، نعم المولى ونعم النصير. ومن المدن التي امتنعت وحوصرت زمنا طويلا مدينة عسقلان، كتب عمر بن الخطاب إلى معاوية يأمره بتتبع ما بقي من فلسطين ففتح عسقلان سنة 23هـ صلحا بعد كيد. ويقال: إن عمرو بن العاص كان فتحها ثم نقض أهلها وأمدهم الروم، ففتحها معاوية وأسكنها الروابط ووكل بها الحفظة. سر نجاح المسلمين وقتال نسائهم يوم اليرموك: بمثل تلك الجيوش القليلة التي ظهرت على جيوش الروم ومن والاهم فتح العرب هذا القطر العزيز، وكانت قوتهم في معظم الوقائع على نسبة واحد إلى ثلاثة أو أربعة من قوة أعدائهم بعد أن قطعوا بوادي الحجاز والعراق والشام على جمالهم وخيولهم، قليل عتادهم، جليل جهادهم. وساروا في فلوات لا ماء فيها يستقون منه، ولا مراعي يرعون فيها أنعامهم، ولا ميرة يمتارونها، وكل ما لديهم من الماديات قليل ضئيل، ولكن معنوياتهم كانت فوق معنويات من رحلوا إليهم وكان كل فرد من

أفراد جيوشهم يعتقد بأنه إن مات مات شهيدا، وإن عاش عاش سعيدا. أما الروم فكانوا على كثرة جيوشهم، ووفرة أسبابهم من المؤن والذخائر في أرض عامرة هي وما وراءها إلى أرض الروم، والنجدات تأتيهم أرسالا على أيسر سبيل، ومع هذا فقد كثرت هزائمهم وعد قتلاهم بالألوف وقتلى العرب بالمئات، وتركوا أرضا عرفوا معالمها ومجاهلها فلم تغن عنهم كثرتهم ولا وفرة أسبابهم، فقُهروا وغُلبوا على أمرهم، وهاموا على رؤوسهم لا يلويهم شيء، وذلك لأنهم كانوا متفسخين مشتة أهواؤهم، والناس هنا قد يئسوا من عدل الرومان في أواخر أيامهم حتى إنهم لما طلبوا مالا من منصور عامل هرقل بدمشق لاستئجار رجال يحاربون المسلمين نادى بأن ليس لديه مال، ليسمع الناس وييأسوا ويفتح السبيل للمسلمين. وكان هرقل كتب إلى منصور هذا أن يمسك عليه الرجال بالمال فأبى منصور وقال: إن الملك غير محتاج إلى هذا العسكر العظيم، وإن العرب قوم غزاة، وهذا العسكر يحتاج إلى مال كثير وليس بدمشق مال عظيم. قال ابن بطريق: أراد بذلك أن يسمع الرجال أن ليس بدمشق مال يعطيهم فيتفرقوا ويسلَم دمشق إلى المسلمين. ولعل لتأليف جيش الروم، وكان مؤلفا من أجناس وأخلاط دخلا في الهزيمة، وربما كان رجال الدين من الروم في دمشق يوم الفتح العربي مستائين من القواعد التي سنها هرقل ليضع حدا للمنازعات الدينية، ولعلهم عاونوا على تسليم دمشق للعرب أو تركوا المسائل تجري في أعنتها. ولكن من المحقق أن العرب المتنصرة في الشام عادوا بعد أن صاروا مع الروم فانضموا إلى العرب المسلمين وأخذتهم النّعرة الجنسية فغلّبوها على النّعرة الدينية وأصبحوا للمسلمين عيونا على الروم وأن اليهود والسامرة كانوا مع المسلمين الفاتحين. قال هوار: توصل الإمبراطور أن يجمع في حمص ثمانين ألف مقاتل نصفهم من جنده والنصف الآخر من معاونين أرمن، وكانت النجدات تتوالى عليه إلا أن الشقاق الداخلي كان يمزق أحشاء الجيش الروماني، وقد شغب الجنود من الأرمن وطلبوا أن يكون ماهان إمبراطورا قبيل وقعة اليرموك.

لا جرم أن سلاح الروم كان أمضى من سلاح العرب، ونظامهم الظاهري كان أجلى. قال سيديليو: كان جيش الروم يفوق جيش العرب بلباسه، وخبرة ضباطه، ونوع سلاحه، وغنى دور صناعاته ومناعة حصونه، وسهولة المواصلات والتموين عليه. والروم يعرفون الخطط ويمسكون البحر ولهم من ورائهم ولايات مأهولة مخصبة. أما العرب فكانوا جاهلين معدمين ليس لهم شيء من الأسباب المادية، ولا يحسنون من ضروب الحرب غير حروب العصابات على أصول البادية، وقد يعمدون إلى الفرار أحيانا، ويرى جيشهم لأول وهلة كأنه عصابات مجموعة كيفما اتفق: الفرسان وسط المشاة، ومن الجنود من يسترون بعض أجسامهم ومنهم العراة. وسلاح كل واحد كما يحب من قوس إلى حربة أو دبوس وسيف ورمح. قال: ووجه الغرابة أن يضيف العرب إلى المفاداة احترام النظام يضاف إليهما عظمة العواطف، وهم طالما وصموا بأنهم متوحشون ظلما وتعنتا. قلنا: وهكذا كان شأن العرب في سائر فتوحاتهم في آسيا وإفريقيا وأوروبا، كانت معنوياتهم في كل مكان أرقى من معنويات من غلبوهم على أمرهم، ودون ماديات أمم كانت راسخة القدم في أرضها، عزيزة السلطان في ربوعها، وحاجياتها منها على طرف الثُّمام تأتيها بدون تعمل كثير. وكان العرب يتبلغون ودوابهم بميسور العيش. حتى إن خالد بن الوليد لما سار في جيشه من العراق إلى الشام من طريق البرية لتخرج من وراء جموع الروم لأنه كان يرى أنه إذا استقبلها حبسته عن غياث المسلمين، سقى الجمال مرتين لقلة الماء في الطريق، فكلما نزل منزلا نحر وجعل أكراشها على النار وشرب القوم. ومن أعظم العوامل في غلبة المسلمين خوف الهزيمة من الزحف، وكانت الهزيمة أو التخلف عن الجهاد من أعظم العار، بل من الكبائر التي لا يرحم فاعلها. فقد ذكروا أن فلَّ جيش مؤتة لما رجع إلى المدينة جعل الناس يحثون عليهم التراب ويقولون: يا فرَّار فررتم في سبيل الله. فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ليسوا بالفرار ولكنهم الكرّار إن شاء

الله. هذا وكان في جملة أولئك الفرار خالد بن الوليد سيف الله وعن رأيه رجع الجيش. وكان للنساء يد طولى في نصرة العرب. فقد تطوع أبو سفيان بن حرب في حرب الشام وكانت له تجارات وأملاك في الجاهلية، وله قرية في البلقاء اسمها نقنّس. وكان شيخ مكة بل شيخ تجار قريش ورئيسهم، ومن أعظم أهل الرأي والمكانة فيهم، وهو كابنه معاوية من المؤلفة قلوبهم ثم حسن إسلامهما، وقد حارب الرسول كثيرا وقال له الرسول يوم أسلم في فتح مكة سنة ثمان للهجرة: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن. وجاء الشام في الإسلام في مشيخة من قريش يحارب تحت راية ابنه يزيد وكان له ولابنيه يزيد ومعاوية بل ولجماعة من أسرته بل للنساء منهن اليد الطولى والكعب المعلى في فتح الشام. ومما قاله أبو سفيان للنساء اللاتي مع المسلمين، وكان كثير من المهاجرات حضرن يومئذ مع أزواجهن وأبنائهن، وقد أجلسهن خلف صفوف المسلمين فأمر بالحجارة فألقيت بين أيديهن: لا يرجع إليكن أحد من المسلمين إلا رميتموه بهذه الحجارة وقلْتُن له: من يرجوكم بعد الفرار عن الإسلام وأهله وعن النساء وهم أمام العدو. ولما حمي الوطيس واستقبل النساء سرعان من انهزم من المسلمين معهن بعمد البيوت أو عمد الفساطيط وأخذن يضربن وجوههم ويرمين بالحجارة ويقلن: أين عز الإسلام والأمهات والأزواج. ولقد قاتل بعض النساء بالفعل يوم اليرموك مثل جويرية ابنة أبي سفيان وكانت مع زوجها. قال البلاذري: وقاتل يوم اليرموك نساء المسلمين قتالا شديدا وفيهن هند بنت عتبة أم معاوية بن أبي سفيان. وقال الطبري: وقاتل نساء من نساء قريش يوم اليرموك بالسيوف حتى سابقن الرجال منهن أم حكيم بنت الحارث بن هشام. وصف رومي العرب، وكان أسيرا في أيديهم فأفلت، وسأله هرقل عنهم فقال: أخبرني عن هؤلاء القوم، فقال: أحدثك كأنك تنظر إليهم فرسان بالنهار، رهبان بالليل، ما يأكلون في ذمتهم إلا بثمن،

ولا يدخلون إلا بسلام، يقفون على من حاربهم حتى يأتوا عليه. فقال: لئن كنت صدقتني ليرثن ما تحت قدمي هاتين. ولما انتصر المسلمون بفِحل وقدم المنهزمون من الروم على هرقل بإنطاكية دعا رجالاً منهم فأدخلهم عليه فقال: حدثوني ويحكم عن هؤلاء القوم الذين يقاتلونكم أليسوا بشراً مثلكم؟ قالوا: بلى. قال: فأنتم أكثر أو هم؟ قالوا: بل نحن. قال: فما بالكم؟ فسكتوا، فقام شيخ منهم وقال: ألا أُخبرك إنهم إذا حملوا صبروا ولم يكذبوا، وإذا حملنا لم نصبر ونكذب، وهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويرون أن قتلاهم في الجنة وأحياءهم فائزون بالغنيمة والأجر. فقال: يا شيخ لقد صدقتني ولأخرجن من هذه القرية ومالي في صحبتكم من حاجة، ولا في قتال اليوم من أرب. فقال ذلك الشيخ: أنشدك الله أن تدع سورية جنة الدنيا للعرب وتخرج منها ولم تعذر. وما زال به حتى ثناه إلى المقام وأرسل إلى رومية وقسطنطينية وأرمينية وجمع الجيوش وقاتل العرب. وبعث أخو ملك الروم لما تراءى العسكران في اليرموك رجلاً عربياً من قضاعة وقال له: ادخل في هؤلاء القوم فأقم فيهم يوماً وليلة ثم ائتني بخبرهم فدخل في الناس رجل عربي لا ينكر فأقام فيهم ثم أتاه فقال: ما وراءك قال: هم رهبان بالليل فرسان بالنهار، لو سرق ابن ملكهم قطعوا يده، ولو زنى رجموه إقامة للحد. فقال صاحب جيش الروم: لئن كنت صادقاً لبطن الأرض خير من لقاء هؤلاء على ظهرها. ومما أعانهم على تأييد سلطانهم تسامحهم مع أهل الذمة وحمايتهم لهم؛ فكانوا كأنهم بين أهلهم وعشيرتهم، لا يرهبون من وراءهم كما أنهم لم يرهبوا من أمامهم. روى البلاذرى أن هرقل لما جمع للمسلمين الجموع وبلغ المسلمين إقبالهم إليهم لوقعة اليرموك ردوا على أهل حمص ما كانوا أخذوا منهم من الخراج وقالوا: قد شغلنا عن نصرتكم والدفع عنكم فأنتم على أمركم، فقال أهل حمص: لولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والغَشْم، ولندفعن جند هرقل عن المدينة مع عاملكم

وداع صاحب الروم وآخر سهم في كنانتهم:

ونهض اليهود فقالوا: والتوراة لا يدخل عامل هرقل مدينة حمص إلا أن نُغلب ونجهد. قال غستاف لبون: لما دخلت العرب الشام كانت رومانية منذ نحو سبعمائة سنة، فأبانوا عن تسامح مع كل مدن الشام ولذلك رضي السكان بسلطتهم مختارين، وانتهت بهم الحال أن اطرحوا النصرانية وقبلوا دين الفاتحين وتعلموا لسانهم. وقال دي توري: إن الخطر الذي اندفع عن الشام من جهة الفرس على يد الإمبراطور هرقل عاد فداهمها من جهة جزيرة العرب، ولكنه خطر كانت فيه سلامتها من الانحلال والاضمحلال، وذلك أن العرب هاجمتها وقد أصبح العرب أمة برسولهم فزعزعوا أركان المملكة الرومانية. وفي سنة 636 فتحت دمشق وبعد سنتين فتحت القدس ولم تدخل سنة 639 حتى فتح الشام كله، وساد فيه السلام بدل الخصام، فمن آمن عصم دمه وماله، ومن لم يؤمن دفع الجزية واعتصم في الجبال فتركه الفاتحون وشأنه اه. وداع صاحب الروم وآخر سهم في كنانتهم: لما دخل اليأس على هرقل من الشام سار عنه إلى القسطنطينية من الرُّها فالتفت إلى الشام عند مسيره وهو على نَشَز وقال: السلام عليك يا سُورِيَة سلام لا اجتماع بعده، ولا يعود إليك رومي بعدها إلا خائفاً حتى يولد الولد المشؤوم وليته لم يولد فما أجل نفعه وأمرَّ فتنته على الروم. ولم يفسر المؤرخون الذين نقلوا عبارة هرقل هذه معنى الولد المشؤوم وقيل: إنه قال باليونانية سوزه سورية أي كوني بسلام. وقد أخذ هرقل أهل الحصون التي بين الإسكندرونة وطرسوس معه لئلا يسير المسلمون في عمارة ما بين إنطاكية وأرض الروم، وشعث الحصون فكان المسلمون لا يجدون بها أحداً. وفي سنة 17 قصدت الروم أبا عبيدة بحمص فضم أبو عبيدة إليه مسالحه وعسكروا بفناء حمص، وأقبل خالد من قنسرين حتى انضم إليهم فيمن انضم من أمراء المسالح، وكتب أبو عبيدة إلى عمر بخروج الروم عليه

منزلة أبي عبيدة وبعد نظر عمر:

وشغلهم أجناد الشام عنه، وقد كان عمر اتخذ في كل مصر على قدره خيولاً من فضول أموال المسلمين عدةً لكون إن كان. فكان بالكوفة أربعة آلاف فرس، فلما وقع الخبر لعمر كتب بأن يسرح الجند منها إلى الشام مدداً لأبي عبيدة. ولما أحيط بالمسلمين جمع أبو عبيدة الناس فحمد الله وأثنى عليه وقال: أيها الناس إن هذا يوم له ما بعده أما من حيي منكم فإنه يصفو له ملكه وقراره، وأما من مات منكم فإنها الشهادة. فأحسنوا بالله الظن ولا يُكرِّهن إليكم الموت أمر اقترفه أحدكم دون الشرك، توبوا إلى الله وتعرضوا للشهادة فإني أشهد، وليس أوان الكذب، أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة. وكأنما كان في الناس عقل تنشطت، فخرج بهم وخالد على الميمنة وعباس على الميسرة وأبو عبيدة في القلب وعلى باب المدينة معاذ بن جبل فاجتلدوا بها، فإنهم كذلك إذ قدم القعقاع متعجلا في مائة وانهزم أهل قنسرين بالروم، فاجتمع القلب والميمنة على قلبهم، وقد انكسر أحد جناحيه وأوعبوا المدد، فما أفلت منهم مخبر، وذهبت الميسرة على وجهها، وكان آخر من أصيب منهم بمرج الديباج انتهوا إليه فكسروا سلاحهم وألقوا يلامقهم تخفيفا فأصيبوا وتغنموا. ولما ظفر المسلمون جمعهم أبو عبيدة فخطبهم وقال: لا تتكلوا ولا تزهدوا في الدرجات فلو علمت أنه يبقى منا أحد لم أحدثكم بهذا الحديث. منزلة أبي عبيدة وبعد نظر عمر: توفي أبو عبيدة في طاعون عمواس سنة 19 وكان من أعماله في الشام وعدله ما حببه إلى الروم حتى إنهم لما فتحوا له باب الجابية بدمشق سنة أربع عشرة للهجرة ودخل خالد بن الوليد من الباب الشرقي عنوة، قال خالد لأبي عبيدة: اسبهم فإني دخلت وشرحبيل بن حسنة عنوة، فأبى أبو عبيدة. ولذلك كان الروم يميلون إلى أبي عبيدة دون خالد

ابن الوليد. ولما طعن أبو عبيدة بالأردن دعا من حضره من المسلمين فقال: إني موصيكم بوصية إن قبلتموها لن تزالوا بخير: أقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وصوموا شهر رمضان، وتصدقوا وحجوا واعتمروا، وتواصوا، وانصحوا لأمرائكم، ولا تغشوهم، ولا تلهكم الدنيا، فإن امرأ لو عمر ألف حول ما كان له بد من أن يصير إلى مصرعي هذا الذي ترون، إن الله تعالى كتب الموت على بني آدم فهم ميتون، وأكيسهم أطوعهم لربه، وأعملهم ليوم معاده والسلام عليكم ورحمة الله. يا معاذ ابن جبل صلِّ بالناس ومات رضي الله عنه. وكان عهد بولاية دمشق لسعيد العدوي وسويد الفهري وكلهم من الصحابة الكرام. وكان عياض ابن غنم مع ابن عمه أبي عبيدة بن الجراح في الشام، فلما توفي أبو عبيدة استخلفه بالشام فأقره عمر بن الخطاب وقال: لا أغير أميرا أمَّره أبو عبيدة. ولما ولى أبو عبيدة معاذا قام هذا في الناس فقال: أيها الناس توبوا إلى الله من ذنوبكم توبة نصوحا، فإن عبدا لا يلقى الله تعالى إلا تائبا من ذنبه إلا كان حقا على الله أن يغفر له، من كان عليه دين فليقضه، فإن العبد مرتهن بدينه، ومن أصبح منكم مهاجرا أخاه فليلقه فليصالحه، ولا ينبغي لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، والخطب العظيم أنكم أيها المسلمون قد فجعتم برجل ما أزعم أني رأيت عبدا أبر صدرا، وأبعد من الغائلة، ولا أشد حبا للعامة، ولا أنصح للعامة منه، فترحموا عليه رحمه الله تعالى، واحضروا الصلاة عليه. وأقام معاذ على إمرته ولم تطل مدته حتى مات في طاعون عمواس في هذه السنة واستخلف معاذ عمرو بن العاص. ولما قدم عمر إلى الشام بالجابية أمر عمرو بن العاص بالمسير إلى مصر، وبقي الشام ليزيد بن أبي سفيان، ولم يطل أمد ولايته طويلا حتى هلك في طاعون عمواس أيضا. وعمواس من الرملة على أربعة أميال مما يلي بيت المقدس. والطاعون الذي عرفت به مات به خمسة وعشرون ألفا وطمع العدو في الشام بسببه. وأبو عبيدة بن الجراح أمين هذه الأمة كان عظيما بإخلاصه للإسلام،

عظيما بنفسه وعدله وشجاعته، والشام مدين لفضله بفتحه وتمهيد أموره. ذكر أهل الأخبار عن عائشة أنها قالت: سمعت أبا بكر يقول: لما كان يوم أحد ورمي رسول الله في وجهه حتى دخلت في وجنتيه حلقتان من المغفر فأقبلت أسعى إلى رسول الله وإنسان قد أقبل من قبل المشرق يطير طيرانا فقلت: اللهم اجعله طاعة حتى توافينا إلى رسول الله، فإذا أبو عبيدة ابن الجراح قد بدرني فقال: أسألك بالله يا أبا بكر ألا تركتني فأنزعه من وجنة رسول الله قال أبو بكر: فتركته فأخذ أبو عبيدة بثنيته إحدى حلقتي المغفر فنزعها وسقط على ظهره وسقطت ثنية أبي عبيدة، ثم أخذ الحلقة الأخرى بثنيته الأخرى فسقطت، فكان أبو عبيدة في الناس أثرم. هذا مثال من قوة نفس أبي عبيدة وحبه لرسول الله. شهد أبو عبيدة واسمه عامر بن عبد الله بدراً وأُحداً وثبت يوم أُحد مع الرسول حين انهزم الناس وولوا، وشهد الخندق والمشاهد كلها مع رسول الله وكان من علية أصحابه. طلب أهل نجران من الرسول أن يبعث معهم رجلاً أميناً. قال: لأبعثن إليكم رجلاً أمينا حقَّ أمين حقَّ أمين حقَّ أمين قالها ثلاثاً: فبعث أبا عبيدة. قال أبو عبيدة وهو أَمير على الشام: يا أَيها الناس إني امرؤ من قريش وما منكم من أحد أحمرَ ولا أسودَ يفضلني بتقوى إلا وددت أني في مسلاخه. قال عمر بن الخطاب لجلسائه: تمنوا فتمنوا فقال عمر بن الخطاب: لكني أتمنى بيتاً ممتلئا رجالاً مثل أبي عبيدة بن الجراح قال سفيان فقال له رجل: وما ألوت الإسلام فقال: ذاك الذي أردت. وقال عمر بن الخطاب: لو أدركت أبا عبيدة بن الجراح لاستخلفته وما شاورت، فإن سئلت عنه قلت: استخلفت أمين الله وأمين رسوله، وفي رواية لو سألني عنه ربي لقلت سمعت نبيك يقول: هو أمين هذه الأمة، وقال عمر: لئن عشت إن شاء الله لأسيرن في الرعية حولاً، فإني أعلم أن للناس حوائج تقطع دوني. أما عمالهم فلا يرفعونها وأما هم فلا يصلون إليَّ، فأسير إلى الشام فأقيم شهرين وبالجزيرة شهرين وبمصر

شهرين وبالبحرين شهرين وبالكوفة شهرين وبالبصرة شهرين. وكان عماله على مثاله من العدل والزهد وحب الحق. قالوا: إنه ولى سعيد بن عامر ابن حذيم حمص وكان لا يقبض رزقه وعطاءه، ولما قدم عمر حمص أمر أن يكتبوا له فقراءهم فرفع الكتاب إليه فإذا فيه سعيد بن عامر، فبكى عمر ثم عدّ ألف دينار فصرّها وبعث بها إليه فبكى سعيد وانتحب ثم اعترض جيشا من جيوش المسلمين فأعطاهم إياها، ولامته زوجته على عمله وقالت: لو كنت حبست منها شيئا نستعين به فلم يلتفت إلى قولها. بمثل هؤلاء النوابغ المخلصين فتحت الأمصار وتمهدت، ودخل الناس في الإسلام أفواجا. وبمثل هذه الأمانة والعدل والإحسان استمال العرب القلوب فأصبح أعداؤهم أولياءهم، بعد أن شاهدوا عيانا ما انطوت عليه تلك النفوس الكبيرة. قالوا: إن الأقطار الحارة ضنينة بالنوابغ العاملين فأكذب العرب في هذا المثال من فتوحهم ذاك النظر بمن أخرجوا من رجالاتهم الذين أدهشوا، على قلتهم وفقرهم، العالم المعروف إذ ذاك بشجاعتهم وصبرهم، وقناعتهم وإخلاصهم، وتوجيه قوى الصغير والكبير منهم إلى مقصد واحد، أي إنهم كانوا موحّدين في عقائدهم، موحّدين في مقاصدهم، وهذا غريب من نصف أميين ليس لهم في المدينة قدم راسخة.

الدولة الأموية

الدولة الأموية من سنة 18 إلى 177 إمارة معاوية بن أبي سفيان: لما هلك يزيد بن أبي سفيان والي دمشق سنة 18 ولى عمر بن الخطاب أخاه معاوية بن أبي سفيان فلم يزل واليا لعمر حتى قُتل عمر، ثم ولاه عثمان بن عفان وأقرّ عمال عمر على الشام، فلما مات عبد الرحمن بن علقمة الكناني وكان على فلسطين ضم عمله إلى معاوية. وكان عمير بن سعيد الأنصاري في سنة 21 على دمشق والبثينة وحوران وحمص وقنسرين والجزيرة، ومعاوية على البلقاء والأردن وفلسطين والسواحل وإنطاكية ومعرة مصرين وقليقية، ثم جعل عمير في سنة 23 على حمص ومعاوية على دمشق، ثم تولى عمير بن سعيد حمص وقنسرين، وعلقمة بن مجزّز فلسطين، وعمير بن سعيد هو الذي قال على منبر حمص: ألا إن الإسلام حائط منيع وباب وثيق، فحائط الإسلام العدل وبابه الحق، فإذا نقض الحائط وحطم الباب استفتح الإسلام، فلا يزال الإسلام منيعا ما اشتد السلطان وليس شدة السلطان قتلا بالسيف ولا ضربا بالسوط، ولكن قضاء بالحق وأخذا بالعدل. اجتمع الشام على معاوية لسنتين من إمارة عثمان، أي في السنة الخامسة والعشرين للهجرة أضاف عثمان إلى معاوية حمص وحماة وقنسرين والعواصم وفلسطين مع دمشق ورزقه ألف دينار كل شهر. وبعث معاوية عمرو بن العاص إلى مصر ومعه أهل دمشق عليهم يزيد

ابن أسد البجلي، وعلى أهل فلسطين رجل من خثعم، ومعاوية بن حديج على الخارجة، وأبو الأعور السُّلمى على أهل الأردن، فساروا حتى قدموا مصر فاقتتلوا بالمسناة وعلى أهل مصر محمد بن أبي بكر فهزم أهل مصر بعد قتل في الفريقين جميعا، قال عمرو: شهدت أربعة وعشرين زحفا فلم أر كيوم المسناة ولم أر الأبطال إلا يومئذ. فلما هزم أهل مصر تغيب محمد بن أبي بكر فأخبر معاوية بن حديج بمكانه فمشى إليه فقتله. ومن الأحداث مع الروم غزوة معاوية بن أبي سفيان سنة 21 وصلح أبي هاشم ابن عتبة على قليقية وإنطاكية ومعرة مصرين. وجاشت الروم 24 حتى استمد من بالشام من جيوش المسلمين من عثمان مددا فأمدهم بثمانية آلاف رجل من أهل الكوفة، فدخلوا مع أهل الشام إلى أرض الروم وشنوا الغارات فأصاب الناس ما شاءوا من سبي وملئوا أيديهم من المغنم وافتتحوا بها حصونا كثيرة، وغزا قبرس 28 فصالحه أهلها على جزية سبعة آلاف دينار كل سنة. وخرج أهل الشام 31 وعليهم معاوية وعلى البحر عبد الله بن سعيد، وخرج عامئذ قسطنطين بن هرقل لما أصاب المسلمون منهم بإفريقية في جمع لم يجتمع للروم مثله قط مذ كان الإسلام فخرجوا في خمس مائة مركب، فربط المسلمون سفنهم بعضها إلى بعض حتى كان يضرب بعضهم بعضا على سفن المسلمين وسفن الروم وقاتلوهم أشد قتال، ووثبت الرجال على الرجال يضطربون بالسيوف على السفن ويتواجأون بالخناجر حتى رجعت الدماء إلى الساحل تضربها الأمواج، وطرحت الأمواج جثث الرجال ركاما. ثم انتصر المسلمون وانهزم قسطنطين مدبرا فما انكشف إلا لما أصابه من القتل والجرح. وافتتح معاوية جزيرة أرواد في السنة الثالثة لعثمان وهدم سورها وأحرقها وجلا أهلها إلى الشام. ووجه ملك الروم إلى معاوية يسأله الصلح، فأجاب إليه على أن يكون عنده من أهل بيته رهائن. وفي السنة الثامنة لعثمان وجه معاوية بجيوش إلى جزيرة رودس فأخذوها ورتبوا بها المسالح وجعلوها منظرة للعرب. وفي السنة الثالثة لمعاوية كانت غزوة بسر بن أرطاة الروم دفعة ثانية وسبى بها وهزمت الروم حتى بلغت القسطنطينية، وفي سنة 48

سير معاوية جيشا كثيفا إلى القسطنطينية مع سفيان بن عوف، وتوفي في مدة الحصار أبو أيوب الأنصاري ودفن بالقرب من سورها. وفي سنة ثلاث عشرة لمعاوية غزا بسر بن أرطاة الروم فقتل وأخرج معه سبيا كثيرا. وفي السنة الرابعة عشرة لمعاوية غزت العرب الروم في البحر وصاروا إلى لوقية فخرج إليهم ثلاثة بطارقة فقتل الروم من العرب ثلاثين ألفا ومن بقي منهم ركب البحر، فلما توسطوه لحقهم بعض الروم في سفينة فألقى النار في سفن فاحترقت كلها وفازت الروم وهم أول من أخرج النار وصارت لهم عادة. وفي السنة السابعة عشرة ركب الروم السفن وأقبلوا فيها في البحر حتى أتوا ساحل صور وصيدا ثم خرجوا من السفن واستولوا على جبل لبنان، وكان الناس يسمونهم الجراجمة وانتشروا من جبل الجليل إلى الجبل الأسود، وذلك أن قسطنطين دسهم ليشغلوا العرب عن الغزو. ولم يكد معاوية يتولى الأمر بالشام حتى أخذ بما أوتيه من عقل وحلم يضع أساس الملك ويسير في رعيته سيرة حسنة حببته إليهم، وكان يتأنى الأمور ويداري الناس على منازلهم، ويرفق بهم على طبقاتهم، فأوسع الناس من أخلاقه، وأفاض عليهم من بره وعطائه، وشملهم من إحسانه، فاجتذب القلوب واستدعى النفوس، حتى آثروه على الأهل والقرابات وعدّ مربي دول وسائس أمم وداعي ممالك. إقدام عمرو في سماحة حاتم في حلم أحنف في ذكاء إياس ولطالما أفضل على أشراف قريش مثل عبد الله بن العباس وعبد الله ابن الزبير وعبد الله بن جعفر الطيار وعبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر وأبان بن عثمان وناس من آل أبي طالب يفدون عليه بدمشق فيكرم مثواهم، ومنهم عقيل بن أبي طالب شقيق علي بن أبي طالب قدم على معاوية بالشام فأمر له معاوية بثلاثمائة ألف دينار وقال له: هذه مائة ألف تقضي بها ديونك ومائة ألف تصل بها رحمك ومائة ألف توسع بها على نفسك. وكان عقيل قدم من قبل على أخيه في الكوفة فشكا له الضائقة فوعده بأن يعطيه عطاءه إذا خرج فقال عقيل: وإنما شخوصي من الحجاز إليك من أجل عطائك وماذا يبلغ مني عطاؤك وما يدفع من

مقتل عثمان بن عفان:

حاجتي؟ وكان معاوية مدة حكمه في الشام أميرا نحو عشرين سنة، وخليفة مثلها يعمد إلى المال فينفقه إذا رأى هناك مصلحة، وما ينحسم بالمال وحسن التدبير لا يحله بإهراق الدماء إلا بعد الإضطرار الشديد. مقتل عثمان بن عفان: وبينا كان معاوية في الشام مستقلا بعض الاستقلال بعيدا عن كل شغب أخذ الناس ينقمون في الحجاز وغيره على عثمان لست سنين من خلافته وتكلم فيه من تكلم. فاجتمع ناس من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام كتبوا كتابا ذكروا فيه ما خالف فيه عثمان سنة رسول الله وسنة صاحبيه، وما كان من هبته خمس إفريقية لمروان وفيه حق الله ورسوله ومنهم ذوو القربى واليتامى والمساكين، وما كان من تطاوله في البنيان حتى عدوا سبع دور بناها بالمدينة دارا لنائلة ودارا لعائشة وغيرهما من أهله وبناته، وبنيان مروان القصور بذي خشب وعمارة الأموال بها من الخمس الواجب لله ورسوله، وما كان من إفشائه العمل والولايات في أهله وبني عمه من بني أمية أحداث وغلمة لا صحبة لهم من الرسول ولا تجربة لهم بالأمور. هذه خلاصة دعواهم عليه وقد دفع عن نفسه كل ذلك فما اقتنعوا ولا كفوا عن النيل منه. وما زال عثمان على شيخوخته مغلوبا لمروان وبني أمية وأهم ما عدوا عليه توسيده الأمور لهم، حتى قتل في المدينة وتولى الخلافة علي بن أبي طالب. وكان معاوية على مثل اليقين من أن عليا لا يقره على الشام فكان كما ظن، وهنا ظهر نبوغ معاوية السياسي حتى بلغ ما أراد وقسم الأمة شطرين له وعليه وكانت كفته الراجحة. ولما بعث علي عماله على الأمصار كان من جملة من بعث سهل بن حنيف إلى الشام، فأما سهل فإنه لما انتهى إلى تبوك وهي تخوم أرض الشام استقبلته خيول لمعاوية فردوه فانصرف إلى علي فعلم علي عند ذلك أن معاوية قد خالف وأن أهل الشام بايعوه. واختلفت الآراء في تبعة معاوية من مقتل عثمان فقال فريق: إن عثمان كتب إلى معاوية: إن أهل المدينة قد كفروا وخلعوا الطاعة ونكثوا البيعة

آمال علي بن أبي طالب في الخلافة:

فابعث إليَّ من قبلك من مقاتلة أهل الشام على كل صعب وذلول. فتربص به معاوية وكره إظهار مخالفة أصحاب رسول الله وقد علم اجتماعهم فأبطأ أمره على عثمان حتى قتل فيما قيل. آمال علي بن أبي طالب في الخلافة: ولم يتخلف معاوية عن مبايعة علي بن أبي طالب كرم الله وجهه فقط، بل قام يطالب بدم عثمان ويتهم عليا بقتله لأن علياً كان يحتج على الصحابة منذ يوم البيعة لأبي بكر ويقول: أنا أجدر بهذا الأمر منكم لا أبايعكم وأنتم أولى بالبيعة لي حتى قال له أبو عبيدة بن الجراح: يا ابن عم إنك حديث السن وهؤلاء مشيخة قومك ليس لك مثل تجربتهم ومعرفتهم بالأمور، ولا أرى أبا بكر إلا أقوى على هذا الأمر منك، وأشد احتمالاً واضطلاعاً فسلّم لأبي بكر، فإنك إن تعش ويطل بك بقاء فأنت لهذا الأمر خليق وحقيق في فضلك ودينك وعلمك وفهمك وسابقتك ونسبك وصهرك. وقد وقعت لعلي تأوهات في المطالبة بالخلافة وأنه بُغي عليه في ذلك وغمط حقه في عهد الثلاثة الخلفاء، ولذلك كان في تساهله بالدفاع عن عثمان وجه عند بعضهم على حين ثبت أن علياً قًرّع عثمان على التفريط وأنذره بأن عاقبته تكون القتل بقوله: أُحذرك أن تكون إمام هذه الأمة الذي يقتل فيفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة. وذكر ابن حزم أن امتناع معاوية من بيعة عليّ كامتناع علي من بيعة أبي بكر، فما حارب أبو بكر ولا أكرهه وأبو بكرّ أقدر على عليّ من عليّ على معاوية، ومعاوية في تأخره عن بيعة عليّ أعذر وأفسح مغاراً من عليّ في تأخره عن بيعة أبي بكر، لأن عليلً لم يمتنع من بيعة أبي بكر أحد من المسلمين غيره بعد أن بايعه الأنصار والزبير، وأما بيعة علي فإن جمهور الصحابة تأخروا عنها إما عليه وإما لا له ولا عليه، وما تابعهم فيه إلا الأقل سوى أزيد من مائة ألف مسلم بالشام والعراق ومصر والحجاز كلهم امتنع من بيعته، فهل معاوية إلا كواحد من هؤلاء في ذلك؟ إلى أن

اتفاق معاوية وعمرو بن العاص على المطالبة بدم

قال بشأن البيعة: فصح أن علياً هو صاحب الحق الإمام المفترضة طاعته ومعاوية مخطئ مأجور مجتهد قال: ولم يقاتل عليٌّ معاوية لامتناعه من بيعته لأنه كان يسعه في ذلك ما وسع ابن عمر وغيره ولكن قاتله لامتناعه من إنفاذ أوامره في جميع أرض الشام وهو الإمام الواجبة طاعته، فعليّ المصيب في هذا ولم ينكر معاوية قط فضل عليّ واستحقاقه الخلافة، لكن اجتهاده أداه إلى رأي تقديم أخذ القَوَد من قتلة عثمان رضي الله عنه على البيعة، ورأى نفسه أحق بطلب دم عثمان والكلام فيه عن ولد عثمان وولد الحكم بن أبي العاص لسنه ولقوته على الطلب بذلك. اتفاق معاوية وعمرو بن العاص على المطالبة بدم عثمان: اغتنم معاوية هذه الفرصة السانحة في مقتل عثمان ليعيد الأمر إلى بني أُمية ويصبحوا أمراء في الإسلام كما كانوا أمراء في الجاهلية. وكان النعمان ابن بشير أتاه إلى دمشق من المدينة بقميص عثمان الذي قتل فيه مخضباً بدمه وبأصابع نائلة زوجته فوضع القميص على منبر دمشق، وكتب بالخبر إلى الأجناد، وثاب إليه الناس وبكوا سنة وهو على المنبر والأصابع معلقة في أردانه، وتعاهد الرجال من أهل الشام على قتل قتلة عثمان ومن عرض دونهم بشيء أو تفنى أرواحهم، وكان ستون ألف شيخ يبكون تحت قميص عثمان. وكان عمرو بن العاص لما نشب الناس في أمر عثمان في ضيعة له بالسبع من حيز فلسطين قد اعتزل الفتنة، فاستدعاه معاوية يسترشد برأيه ووعده بملك مصر إن هو ظفر بعلي. فارتأى عمرو أن يجلب معاوية شرحبيل بن السمط الكندي رأس أهل الشام، فسار هذا يستقري مدنها مدينة مدينة يحرض الناس على الأخذ بدم عثمان، فأجابه الناس كلهم إلا نفراً من أهل حمص نساكا فإنهم قالوا: نلزم بيوتنا ومساجدنا وأنتم أعلم منا. وذكر المؤرخون أن معاوية قدم بيت المقدس وقدم عليه عمرو بن العاص فبايعه على دم عثمان وكتبا كتاباً بينهما كانت صورته: بسم الله الرحمن الرحيم: هذا ما تعاهد عليه معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص

حرب صفين:

ببيت المقدس بعد قتل عثمان وحمل كل واحد منهما صاحبه الأمانة أن بيننا عهد الله على التناصر والتخالص والتناصح في أمر الله والإسلام، ولا يخذل أحدنا صاحبه بشيء ولا يتخذ من دونه وليجة ولا يحول بيننا ولد ولا والد أبداً ما حيينا فيما استطعنا. وهكذا أخذ معاوية يحرك النفوس ويطالب بثأر عثمان ومما كتب به إلى علي: ولكنك أغريت بعثمان المهاجرين وخذلت عنه الأنصار فأطاعك الجاهل وقوي بك الضعيف وقد أبى أهل الشام إلا قتالك حتى تدفع إليهم قتلة عثمان. فأجابه عليّ: زعمت أنه إنما أفسد عليك بيعتي خطيئتي في عثمان، ولعمري ما كنت إلا رجلاً من المهاجرين أوردت كما أوردوا وأصدرت كما أصدروا، وما كان الله ليجمعهم على ضلال ولا ليضربهم بالعمى، وما أمرت فيلزمني خطيئته عثمان، ولا قتلت فيلزمني قصاص القاتل. . . وأما قولك تدفع إليك قتلة عثمان، فما أنت وعثمان؟ إنما أنت رجل من بني أُمية وبنو عثمان أولى بعثمان منك. حرب صِفّين: وما برحت الحزازات تشتد بين عليّ ومعاوية يريد الأول أن يبايع له الثاني، ويطالب الثاني بدم عثمان وهو مستقل بالشام، حتى التقيا سنة 37 في صِفِيّن من أرض الشام بجيشيهما وكانت بينهما وقائع سالت فيها الدماء كالأنهار، فقتل من أهل الشام جيش معاوية خمسة وأربعون ألفاً، ومن أهل العراق والحجاز جيش عليّ خمسة وعشرون ألفاً، وكان معاوية في مائة وعشرين ألفاً، وعلي في تسعين ألفاً، وجسّر عليٌّ الجنود حتى قُتل من أبطال الإسلام في تلك المعارك ألوف ولم يكترث بقتلهم وإن علياً لينغمس في القوم فيضرب بسيفه حتى ينثني ثم يخرج متخضباً بالدم حتى يسوى له سيفه ثم يرجع فينغمس فيهم. ويقول الدينوري: كان أهل الشام أيام صفين إذا انصرفوا من الحرب يدخل كل فريق منهم في الفريق الآخر فلا يعرض أحد لصاحبه، وكانوا يطلبون قتلاهم فيخرجونهم من المعركة ويدفنونهم. وروى ابن سعد قال: اقتتل الناس بصفين قتالاً

شديداً لم يكن في هذه الأمة مثله قط حتى كره أهل الشام وأهل العراق القتال وملوه من طول تبادلهم السيف. فقال عمرو بن العاص وهو يومئذ على القتال لمعاوية: أنت مطيعي فتأمر رجلاً بنشر المصاحف، ثم يقولون: يا أهل العراق ندعوكم إلى القرآن والى ما في فاتحته إلى خاتمته، فإنك إن تفعل ذلك يختلف أهل العراق ولا يزيد ذلك أمر أهل الشام إلا استجماعاً، فأطاعه معاوية ففعل، وأمر عمرو رجالاً من أهل الشام فقرىء المصحف ثم نادى يا أهل العراق ندعوكم إلى القرآن، فاختلف أهل العراق فقالت طائفة: أولسنا على كتاب الله وبيعتنا؟ وقال آخرون كرهوا القتال: أجبنا إلى كتاب الله، فلما رأى علي عليه السلام وهنهم وكراهتهم للقتال قارب معاوية فيما يدعوه إليه واختلف بينهم الرسل فقال علي عليه السلام: قد قبلنا كتاب الله فمن يحكم بكتاب الله بيننا وبينك، قال: تأخذ رجلاً منا نختاره ونأخذ منكم رجلاً تختاره، فاختار معاوية عمرو بن العاص، واختار علي أبا موسى الأشعري. وجرت المهادنة بين علي ومعاوية على وضع الحرب بينهما ويكون لعلي العراق، ولمعاوية الشام، فلا يدخل أحدهما على صاحبه في عمله بجيش ولا غارة ولا غزو، فأقام معاوية بالشام يجبيها وكان ذلك سنة 40. كانت حرب صفّين من أشأم الحروب على الأمة، وهي في أول شبابها، التقى فيها المسلم بالمسلم بالسلاح، واقتتلا قتالاً شديداً، وهلكت من الفريقين نفوس زكية، فيهم الصحابة والقراء والعلماء، ولو لم يشغل بال معاوية بمقتل عثمان ثم بمدافعة عليّ لكان تفرغ للقضاء على الدولة البيزنطية آخر الدهر. خصوصاً وقد كان من أكبر همه أن يغادي الروم القتال ويراوحهم منذ استقل بإمارة الشام. يغزوهم براً وبحراً ويصيب منهم وقلما يصيبون منه، وربما توفق معاوية وآله لولا هذه الغائلة الأهلية إلى استصفاء معظم أقطار الأرض ونشر الدين واللغة فيها، واضطرت حوادث عليّ معاوية أن يهادن صاحب الروم ويرضيه بمال عظيم ريثما يتفرغ له. وقال عمرو بن العاص لمعاوية: كما بدأت الفتنة اكتب إلى قيصر الروم تعلمه أنك ترد عليه جميع من في يديك من أسارى الروم وتسأله المواءمة والمصالحة تجده سريعاً إلى ذلك راضياً بالعفو منك.

صلح الحسن مع معاوية:

صلح الحسن مع معاوية: ومن أهم الأحداث في زمن معاوية قيام الحسن بن علي في العراق عقيب مقتل أبيه علي بن أبي طالب، فسار معاوية إلى الموصل والتقى العسكران، فوجه معاوية إلى قيس بن سعد أمير جيش الحسن يبذل له ألف ألف درهم على أن يصير معه أو ينصرف فأبى، ويقال: إنه أرسل إلى عبد الله بن عباس وبذل له مثل هذا المال فصار إليه في ثمانية آلاف من أصحابه وهم من شيعة الحسن، وأقام قيس على محاربته حتى اضطر الحسن إلى صلح معاوية بعد أن رأى أصحابه تفرقوا عنه وصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال: أيها الناس إن الله هداكم بأولنا وحقن دماءكم بآخرنا وقد سالمت معاوية وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين. يقول الدينوري: لما رأى الحسن من أصحابه الفشل أرسل إلى عبد الله ابن عامر بشرائط اشترطها على معاوية على أن يسلم له الخلافة، وكانت الشرائط ألا يأخذ أحداً من أهل العراق بإحنة وأن يؤمن الأسود والأحمر ويحتمل ما يكون من هفواتهم، ويجعل له خراج الأهواز مسلماً في كل عام، ويحمل إلى أخيه الحسين بن علي في كل عام ألفي ألف درهم، ويفضل بني هاشم في العطاء والصلات على بني عبد شمس، فكتب عبد الله بن عامر بذلك إلى معاوية فكتب معاوية جميع ذلك بخطه وختمه بخاتمه وبذل له العهود المركبة والأيمان المغلظة وأشهد على ذلك جميع رؤساء أهل الشام، ووجه إلى عبد الله بن عامر فأوصله إلى الحسن رض فرضي به وكتب إلى قيس بن سعد بالصلح ويأمره بتسليم الأمر إلى معاوية والانصراف إلى أعدائه، فلما وصل الكتاب بذلك إلى قيس بن سعد قام في الناس فقال: أيها الناس اختاروا أحد أمرين: القتال بلا إمام أو الدخول في طاعة معاوية فاختاروا الدخول في طاعة معاوية. فسار حتى وافى المدائن وسار الحسن بالناس في المدائن حتى وافى الكوفة ووافاه معاوية بها فالتقيا فوكد عليه الحسن رض تلك الشروط والأيمان اه. قال الأحنف بن قيس وقد أتاه كتاب الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما يستنصره: قد بلونا الحسن

خلافة يزيد ورأي ابن خلدون:

وآل الحسن فلم نجد عندهم إيالة الملك ولا صيانة المال ولا مكيدة الحرب. ولم يجبه إلى ما طلبه إليه. ولما مات الحسن بعد شهرين وقيل أربعة أشهر من استيلائه على العراق صفا الجو لمعاوية وبايع له الناس فملك العراق والحجاز ومصر، وأجمعت القلوب على مبايعته طوعاً أو كرهاً. وكان ممن مالأ معاوية على تحقيق رغائبه عمرو بن العاص عامله على مصر، والمغيرة بن شعبة عامله على الكوفة. خلافة يزيد ورأي ابن خلدون: أوعز معاوية سراً إلى ولاة الأمصار أن يوفدوا الوفود إليه يزينون له إعطاء العهد لابنه يزيد، حتى استوثق له أكثر الناس وبايعوه والسيوف مسلولة فيما قيل على رقاب الصحابة في مسجد الرسول. وبذلك أخرج معاوية الخلافة عن أصولها، وكانت بالعهد لأفضل الصحابة أو بالشورى بينهم لمن يقع اختيارهم عليه، وجعلها كالملك يورثها الأب ابنه أو من يراه أهلاً لها من خاصته، أو كسروية أو قيصرية على سنة كسرى وقيصر كما قالوا. وبذلك نقم على معاوية بعض الصحابة والتابعين من الأنصار والمهاجرين. والذي دعا معاوية لإيثار ابنه يزيد بالعهد دون من سواه - كما قال ابن خلدون - إنما هو مراعاة المصلحة في اجتماع الناس واتفاق أهوائهم باتفاق أهل الحل والعقد عليه حينئذ من بني أمية، إذ بنو أمية يومئذ لا يرضون سواهم وهم عصابة قريش وأهل الملة أجمع وأهل الغلب منهم، فآثره بذلك دون غيره مما يظن أنه أولى بها وعدل عن الفاضل إلى المفضول حرصاً على الاتفاق واجتماع الأهواء الذي شأنه أهم عند الشارع، وإن كان لا يظن بمعاوية غير هذا فعدالته وصحبته مانعة من سوى ذلك، وحضور الأكابر لذلك وسكوتهم عنه دليل على انتفاء الريب فيه فليسوا ممن تأخذهم في الحق هوادة، وليس معاوية ممن تأخذه العزة في قبول الحق، فإنهم كلهم أجلّ من ذلك وعدالتهم مانعة منه، وفرار عبد الله ابن عمر من ذلك إنما هو محمول على تورعه من الدخول في شيء من

غزوات معاوية وأعماله ووصيته:

الأمور مباحاً كان أو محظوراً. كما هو معروف عنه، ولم يبق في المخالفة لهذا العهد الذي اتفق عليه الجمهور إلا ابن الزبير. وندور المخالف معروف. ثم قال: إنه وقع مثل ذلك من بعد معاوية من الخلفاء الذين كانوا يتحرون الحق ويعملون به مثل عبد الملك وسليمان من بني أمية، والسفاح والمنصور والمهدي والرشيد من بني العباس، وأمثالهم ممن عرفت عدالتهم وحسن رأيهم للمسلمين والنظر لهم، ولا يعاب عليهم إيثارهم أبناءهم وإخوانهم وخروجهم عن سنن الخلفاء الأربعة في ذلك فشأنهم غير شأن أولئك الخلفاء، فإنهم كانوا على حين لم تحدث طبيعة الملك. وكان الوازع دينياً فعند كل أحد وازع من نفسه، فعهدوا إلى من يرتضيه الدين فقط وآثروه على غيره. ووكلوا كل من يسمو ذلك إلى وازعه، وأما من بعدهم من لدن معاوية فكانت العصبية قد أشرفت على غايتها من الملك؛ والوازع الديني قد ضعف واحتيج إلى الوازع السلطاني والعصباني، فلو عهد إلى غير من ترتضيه العصبية لردت ذلك العهد وانتقض أمره سريعاً وصارت الجماعة إلى الفرقة والاختلاف. ومن جملة وصايا معاوية لابنه يزيد في أهل الشام: أنظر أهل الشام فليكونوا بطانتك ورعيتك، فإن رابك من عدوك شيء فانتصر بهم، فإذا أصبتهم فاردد أهل الشام إلى بلادهم فإنهم إن أقاموا بغير بلادهم تغيرت أخلاقهم. ولما قدم مشيخة أهل الكوفة على معاوية كان فيما سألهم عنه رأيهم في أهل الأحداث من الأمصار فقال أحدهم: وأما أهل الشام فأطوع الناس لمرشدهم وأعصاهم لمغويهم. غزوات معاوية وأعماله ووصيته: ومما يجب أن يذكر لمعاوية أنه مع اشتغال ذهنه بالملك لم يغفل قط عن إنشاء أسطول عظيم غزا به الروم وغزا القسطنطينية غير مرة وأغزى الروم مراراً، وكان يغزو الصوائف والشواتي أي غزوات الصيف والشتاء، وخص قوماً من رجاله بتولي هذه الغزوات وبلغه أن الروم سنة 41 قد زحفت

في جموع كثيرة فخاف أن يشغلوه عما يحتاج إلى تدبيره وأحكامه خصوصاً بعد خروجه من وقعة صفين فوجه إليهم فصالحهم على مائة ألف دينار. وكان معاوية أول من صالح الروم، فلما استقام له الأمر أغزى أمراء الشام على الصوائف فسبوا في الروم سنة بعد سنة، وطلب صاحب الروم الصلح على أن يضعف المال فلم يجبه، ورضي مرة بصلح ملك الروم على أن يكون عنده من أهل بيت ملكهم رهائن. وحدث سنة 34 أن معاوية كان يستعد لقصد القسطنطينية ويعد السفن الكثيرة بمدينة طرابلس ويحمل من السلاح أمراً عظيماً أن أخوين لرجل يقال له بقنطر، وكانا في خدمة العرب، فلما نظر ما أعده معاوية أخذتهما الغيرة فأتيا السجن ففتحاه وأخرجا من فيه من الروم وقتلوا عامل البلد وأحرقوا السفن والعدة وركبوا البحر. فلما بلغ معاوية ذلك جهز جيوشاً كثيرة إلى الروم فافتتح أرضاً كثيرة. وسبي من أهلها مائة ألف إنسان وبعث أخاه على البحر فانهزم الروم بحراً أيضاً، ثم تعددت وقائعه مع الروم. ومن وقائعه وقعة سنة 31. ولولا النار التي اخترعها الروم لإحراق السفن، وبها حرقت سفن كثيرة للعرب وهلك ألوف من رجال بحريتهم، لامتدت الفتوحات ولسهل على معاوية فتح القسطنطينية كما سهل عليه غزو الروم لتحصينه سواحل الشام وإقامته الصناعة في صور وعكا وغيرها من مدن الشام. توفي معاوية سنة 60 بعد أن وطأ أكناف الملك وابتكر في الدولة أشياء لم يسبقه أحد إليها، منها أنه أول من وضع الحشم للملوك ورفع الحراب بين أيديهم، ووضع المقصورة التي يصلي الملك أو الخليفة بها في الجامع منفرداً عن الناس، وهو أول من وضع البريد، واخترع ديوان الخاتم واستخدم النصارى في مصالح الدولة، فعهد بنظارة المالية إلى منصور وسرجون من نصارى العرب الشاميين. أوصى معاوية بني أمية فقال: إنه لما قرب مني ما كان بعيداً، وخفت إن يسبق الموت إليّ ويسبقكم بي سبقته إليكم بالموعظة لأبلغ عذراً، وإن لم أردَّ قدراً، إن الذي أخلفه لكم من دنياي أمر تشاركون فيه أو تقبلون عليه، وإن الذي أخلف لكم من

خلافة يزيد ومقتل الحسين ووقعة الحرة:

رأيي مقصور عليكم نفعه إن فعلتموه، مخوف عليكم ضرره إن ضيعتموه، فاجعلوا مكافأتي، قبول نصيحتي، وإن قريشاً شاركتكم في أنسابكم، وتفردتم دونها بأفعالكم، فقدمكم ما تقدمتم فيه إذا أخر غيركم ما تأخروا له، ولقد جُهر لي فعلمت، وفُهم لي ففهمت، حتى كأني أنظر إلى أولادكم بعدكم كنظري إلى آبائهم قبلهم، إن دولتكم ستطول، وكل طويل مملول، وكل مملول مخذول، فإذا انقضت مدتكم كان أول ذلك اختلافكم بينكم، واتفاق المختلفين عليكم، فيدبر الأمر بضد ما أقبل به، فلست أذكر عظيماً يُنال منكم، ولا حرمة تُنتهك لكم، إلا وما أكف عن ذكره أعظم منه، فلا معوّل عليه عند ذلك أفضل من الصبر، واحتساب الأجر، فيا لها دولةً أنست أهلها الدولَ في الدنيا والعقوبة في الآخرة، فيمادُّ كم القوم دولتكم تماد العنانين في عنق الجواد، فإذا بلغ الأمر مداه، وجاء الوقت الذي حده رسول الله صلى الله عليه وسلم، ضعفت الحيلة، وعزب الرأي، وصارت الأمور إلى مصايرها، فأوصيكم عندها بتقوى الله عز وجل الذي يجعل لكم العاقبة إن كنتم متقين. خلافة يزيد ومقتل الحسين ووقعة الحرة: تولى يزيد بن معاوية الخلافة بعد أبيه ثلاث سنين وستة أشهر، وسار على خطته في جهاد الروم وكان جلدا صبورا، ولم تمنعه فتن ابن الزبير وشيعة العراق عن قتالهم، وأهم الأحداث في زمانه قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما في كربلاء من العراق، وحمل رأسه الشريف إلى الشام، وإهانة أسرته الطاهرة، وقتل بعض رجالها. فارتكب ابن زياد

عهد معاوية الصغير:

عامل العراق ليزيد من ذلك أمرا نكرا أكبره أهل الإسلام وزادت بذلك شيعة علي وآله حنقا وشدة. ولم يكن يزيد يريد قتل الحسين عملا بوصية والده له، فإن زحر بن قيس لما حمل من العراق إلى الشام أهل بيت الحسين ودخل على يزيد وبشره بذلك دمعت عينه وقال: قد كنت أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين لعن الله ابن سمية يعني ابن زياد، أما والله لو أني صاحبه لعفوت عنه فرحم الله الحسين. ومن الأحداث في أيام يزيد تسييره بالجيش إلى نواحي حماة وتصدي أهل لبنان له وهزيمته. وغزا الروم في ولايته للعهد ثم غزاهم في خلافته وعد ذلك من مزاياه ومزايا أبيه. واتفق أهل المدينة سنة 62 على خلع يزيد فأخرجوا عماله وآله فجهز جيشا مع مسلم بن عقبة وأمره بقتال أهل المدينة فإذا ظفر بها أباحها للجند ثلاثة أيام، وأن يبايعهم على أنهم خول وعبيد ليزيد. فقاتل جند الشام أهل المدينة في الحرَّة واستباح مسلم المدينة، وكان قتلى الحرة سبعمائة من وجوه الناس من قريش والمهاجرين والأنصار وعشرة آلاف من وجوه الموالي، ثم بايع من بقي من الناس. حنقت نفوس الأمة من وقعة الحرة لأن فتنتها التهمت بضع مئات من علية قريش، وكانت غلطة زياد في قتل الحسين وسبي آله الطاهرين ذريعة أكبر للنيل من يزيد وآل يزيد، فتقولوا عليه وحطوا من كرامته، مع أنه سار بسيرة أبيه في الملك من التوسع في الفتوح وقتال أعداء المملكة من الروم. أما وقعة الحرة فإن أهل المدينة استطالوا على يزيد وحاسنهم فخاشنوه وأحرجوه حتى أخرجوه. عهد معاوية الصغير: توفي يزيد بن معاوية سنة 64 وبويع ابنه معاوية بن يزيد ثالث خلفاء بني أمية، ولما استخلف لبث شهرين وليالي محجوبا لا يرى، ثم خرج بعد ذلك فجمع الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إني نظرت فيما صار إليَّ من أمركم، وقلدته من إمارتكم، فوجدت ذلك لا يسعني فيما بيني وبين ربي أن أتقدم على قوم وفيهم من هو خير مني، وأحقهم بذلك وأقوى على ما قلدته، فاختاروا مني إحدى خصلتين إما أن أخرج منها وأستخلف عليكم من أراه لكم رضىً ومقنعا، ولكم الله عليَّ لا آلوكم نصحا في الدين والدنيا، وإما أن تختاروا لأنفسكم وتخرجوني

قيام ابن الزبير وخلافة مروان بن الحكم ووقعة مرج

منها، فأنف الناس من قوله، وأبوا من ذلك وخافت بنو أمية أن تزول الخلافة منهم وماج أمرهم واختلفوا. وقيل: إنه خطب الناس وقال: ما كنت أتقلدكم حيا وميتا فو الله لئن كانت الدنيا مغنما فقد نلنا منها حظا، وإن تكن شرا فحسب آل أبي سفيان ما أصابوا منها. فقال له مروان بن الحكم: سنها فينا سيرة عمرية قال: ما كنت أتقلدكم حيا وميتا. ولما حضرته الوفاة بعد خلافته بأربعة أشهر وقيل أقل من ذلك، وله عشرون سنة وقيل إحدى وعشرون سنة، لم يرض أن يعهد بالأمر من بعده. وقال: أتفوز بنو أمية بحلاوتها، وأبوء بوزرها وأمنعها أهلها، كلا إني لبريء منها. قال المسعودي: إنه أراد أن يجعلها إلى نفر من أهل الشورى ينصبون من يرونه أهلا لها. وقيل: إن معاوية بن يزيد كان قدريا، لأن عمر المقصوص كان علمه ذلك، فدان به وتحققه، فلما بايعه الناس قال للمقصوص: ما ترى؟ قال: إما أن تعتدل أو تعتزل. فخطب الناس يستعفي من بيعتهم، فوثب بنو أمية على عمر المقصوص وقالوا: أنت أفسدته وعلمته فطمروه ودفنوه حيا. ويقول الطبري: وكان معاوية بن يزيد بن معاوية فيما بلغني أمر بعد ولايته فنودي الصلاة جامعة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإني قد نظرت في أمركم فضعفت عنه، فابتغيت لكم رجلا مثل عمر بن الخطاب رحمة الله عليه حين فزع إليه أبو بكر فلم أجده، فابتغيت لكم ستة في الشورى مثل ستة عمر فلم أجدها، فأنتم أولى بأمركم فاختاروا له من أحببتم. ثم دخل منزله ولم يخرج إلى الناس وتغيب حتى مات. فقال بعض الناس: دس إليه فسقي سماً وقال بعضهم: طعن. قيام ابن الزبير وخلافة مروان بن الحكم ووقعة مرج راهط: وكان عبد الله بن الزبير قد تغلب على مكة وتسمى بأمير المؤمنين ومال إليه أكثر النواحي. ابتدأ أمره في أيام يزيد بن معاوية فلما توفي يزيد مال الناس إلى ابن الزبير. وكان بفلسطين ناتل بن قيس الجذامي، وبدمشق الضحاك بن قيس الفهري، وبحمص النعمان بن بشير الأنصاري،

وبقنسرين والعواصم زفر بن الحارث الكلابي، وثب على سعيد بن بدل الكلبي وأخرجه منها، ولم تبق ناحية إلا مالت إلى ابن الزبير خلا الأردن ورئيسها يومئذ حسان بن بحدل الكلبي بمعنى أن الناس افترقوا ثلاثا: فرقة بحدلية وهو اسم لبني حرب، وفرقة زبيرية، وفرقة لا يبالون لمن كان الأمر. وقدم مروان بن الحكم، وأمر الشام مضطرب ومعظم أجنادها مبايعة لابن الزبير، فدعا مروان إلى نفسه وهو من أعظم رجال أمية عقلا ودهاء وسياسة وحنكة. واجتمع الناس بالجابية من أرض حوران فتناظروا في ابن الزبير وفيما تقدم من بني أمية عندهم، وتناظروا في خالد بن يزيد بن معاوية، وفي عمرو بن سعيد بن العاص بعده، فكان روح ابن زنباع الجذامي يميل مع مروان فقام خطيبا فقال: يا أهل الشام هذا مروان بن الحكم شيخ قريش، والمطالب بدم عثمان، والمقاتل لعلي بن أبي طالب يوم الجمل ويوم صفين، فبايعوا الكبير واستنيبوا للصغير. فلما عقدوا البيعة جمعوا من كان في ناحيتهم، ثم تناظروا في أي بلد يقصدون فقال: نقصد دمشق فإنها دار الملك ومنزل الخلفاء، وقد تغلب بها الضحاك بن قيس فلقوا الضحاك بمرج راهط، وكان مع الضحاك من أهل دمشق وفتيتهم جماعة، وقد أمده النعمان بن بشير عامل حمص بشرحبيل بن ذي الكلاع في أهل حمص، وأمده زفر بن الحارث الكلابي بقيس بن طريف بجيش من شمالي الشام، فكان في ثلاثين ألفا، ومروان في ثلاثة عشر ألفا أكثرهم رجالة، والتقوا بمرج راهط فاقتتلوا قتالا شديدا ودام القتال عشرين يوما فقتل الضحاك بن قيس وخلق من أصحابه، وهرب من بقي من جيشه. وبلغ الخبر النعمان بن بشير وهو بحمص فخرج هاربا، فتبعه قوم من حمير وباهلة، وقيل من أهل حمص فقتلوه في البرية، وكان من أخطب أهل الدنيا، وهرب زفر بن الحارث الكلابي والخيل تتبعه حتى أتى قرقيسيا على الخابور. وأقام مروان بن الحكم بالشام في أيام ابن الزبير واجتمعت إليه بنو أمية بعد وقعة مرج راهط التي انقسمت بها الشام فرقتين قيسية ويمانية،

وغلب اليمانية وكان بنو أمية يبغضون اليمانية. قال المسعودي: وكانت هذه الوقعة سبب رد ملك بني أمية، وقد كان زال عنهم إلى بني أسد ابن عبد العزَّى، ولذلك رأى قوم أن مروان أول من أخذ الخلافة بالسيف. وهذه الوقعة من الوقائع المشهورة التي تفتخر بها اليمانية على النزارية، وقد أكثرت شعراؤها الافتخار بذلك. ولما بويع لمروان بن الحكم اشترط حسان بن مالك، وكان رئيس قحطان وسيدها بالشام، على مروان ما كان لهم من الشروط على معاوية وابنه يزيد وابنه معاوية بن يزيد، منها أن يفرض لهم لألفي رجل، ألفين ألفين، وإن مات قام ابنه أو ابن عمه مكانه، وعلى أن يكون لهم الأمر والنهي وصدر المجلس، وكل ما كان من حل وعقد فعن رأي منهم ومشورة، فرضي مروان بذلك وانقاد إليه. وكان هذا أول قانون عربي وضع للتشريفات بروتوكول وضع أساسه القحطانية، وكانوا اصطلحوا على ذلك منذ عهد معاوية، أرضاهم بهذا التصدر فدخل مصطلحهم في طور الدساتير المعمول بها. ولم يلبث مروان أن وجه جيشاً إلى الحجاز لمحاربة ابن الزبير ثم خرج يريد مصر، فلما سار إلى فلسطين وجد ناتل بن قيس متغلباً على البلد فحاربه، فهرب ولحق بابن الزبير، وسار مروان إلى مصر فصالحه أهلها. وأرسل عبيد الله بن زياد إلى العراق لقتال الشيعة، ولما صار مروان إلى الصِّنَبْرَة من أرض الأردن منصرفاً من مصر بلغه أن حسان بن بحدل قد بايع عمرو بن سعيد بن العاص، فأحضره فأنكر وبايع لعبد الملك، ثم بعده لعبد العزيز بن مروان، وكانت ولاية مروان تسعة أشهر وقيل ثمانية وقيل ستة. وبايع أهل الشام بعده لابنه عبد الملك وكان مروان أول من أخذ الخلافة بالسيف كرهاً، على ما قيل بغير رضى من عصبة من الناس، بل كل خوّفه إلا عدد يسير حملوه على وثوبه عليها، وقد كان غيره ممن سلف أخذها بعدد وأعوان. لا جرم أن مروان سيد بني عبد مناف في عصره كان من الرجال العظام وكان مولعاً بالشورى في إمارته المدينة وكان يجمع في ولايته عليها أصحاب رسول الله يستشيرهم ويعمل بما يجمعون له عليه، ومثل هذا الرجل بطول تجربته وحنكته

خلافة عبد الملك بن مروان:

وأخذه بالآراء السديدة ينجح ولا شك في عمله، فهو مفخرة من مفاخر الأمويين وبنو أمية مدينة بالخلافة له. خلافة عبد الملك بن مروان: كان عبد الملك بن مروان بعد مهلك أبيه بعيداً عن دمشق فأقبل مسرعاً خوفاً من وثوب عمرو بن سعيد، وكان عمرو بن سعيد من أحب الناس إلى أهل الشام يسمعون له ويطيعون. واجتمع الناس على عبد الملك فقال لهم: إني أخاف أن يكون في أنفسكم مني شيء فقام جماعة من شيعة مروان فقالوا: والله لتقومنَّ إلى المنبر أو لنضربن عنقك، فصعد المنبر وبايعوه. وتفرغ عبد الملك لاستصفاء العراق من شيعة علي فاستخلصها منهم بعد أن قتل من الطرفين جمهور كبير، وقتل أشراف أهل الشام وكان جيشهم ثلاثين ألفاً. وذكر اليعقوبي وأكد روايته غير واحد من المؤرخين أن عبد الملك منع أهل الشام من الحج وذلك أن ابن الزبير كان يأخذهم إذا حجوا بالبيعة ووجه وجوه الناس إلى مسجد بيت المقدس فبنى على الصخرة قبة وعلق عليها ستور الديباج وأقام لها سَدَنة وأخذ الناس بالطواف حولها كما تطوف حول الكعبة. قلنا: وكذلك فعل بنو أمية في الأندلس في الغرب، فإنهم منعوا الناس عن الحج مدة ملكهم أوائل عهد بني العباس مخافة أن يأخذهم العباسيون بالبيعة لهم. ومن الأحداث في أيام عبد الملك تجهيز يوحنا أمير جبل لبنان اثني عشر ألف فارس وذهابه إلى البقاع ونزوله في قب الياس، وغزوة الجبل الشرقي وشنه الغارات على الحجاج حتى ضاقت به الرعية وقطعت الطرق وخربت المسالك. وكان أمير لبنان مرتبطاً مع صاحب الروم بعهود فسار قائد جيوشهم لاون سنة 65 وضم إليه عساكر الجبل. وغزا أرض العرب واسترد منهم ما كانوا أخذوه، فاضطر عبد الملك بن مروان إلى تجديد الهدنة مع ملك الروم على أن يدفع له كل يوم ألف دينار وفرساً ومملوكاً

الجراجمة والمردة في جبل لبنان:

ويقاسمه على خراج قبرس وأرمينية على شرط أن يخرج اللبنانيين من جبلهم، فأجابه ملك الروم إلى ذلك. الجراجمة والمردة في جبل لبنان: ويؤخذ مما قاله ابن عساكر أن طاغية الروم لما رأى ما صنع الله للمسلمين من منعه مدائن الساحل، كاتب أنباط جبل لبنان واللكام فخرج الجراجمة وعسكروا بالجبل، ووجه ملك الروم قلقط البطريق في جماعة من الروم في البحر فسار بهم حتى أرسى بهم بوجه الحجر وخرج بمن معه حتى علا بهم على جبل لبنان، وبث قواده في أقصى الجبل حتى بلغ إنطاكية وغيرها من الجبل الأسود، فأعظم ذلك المسلمون بالساحل حتى لم يكن أحد يخرج في ناحية من رجال ولا غيرها إلا بالسلاح، فغلبت الجراجمة على الجبال كلها من لبنان وسنير وجبل الثلج وجبال الجولان، فكانت بالسبل مسلحة لنا، وفي الرقاد وعقربا الجولان مسلحة، حتى جعلوا ينادون عبد الملك بن مروان من جبل دير مران من الليل، وبعث إليهم عبد الملك بالأموال ليكفوا حتى يفرغ إليهم، وكان مشغولاً بقتال أهل العراق ومصعب بن الزبير وغيره. قال: ثم كتب عبد الملك إلى سحيم بن المهاجر في مدينة طرابلس وكان أميرها يتواعده ويأمره بالخروج إليهم، فلم يزل سحيم ينتظر الفرصة منهم ويسأل عن أخبارهم وأمورهم حتى بلغه أن قلقط في جماعة من أصحابه، وتهيأ بهيئة الروم في لباسه وهيئته وشعره وسلاحه، متشبهاً ببطريق من بطارقة الروم قد بعثه ملك الروم إلى جبل اللكام في جماعة من الروم فغلب على ما هنالك، فلما دنا من القرية خلَّف أصحابه فقال: انتظروني إلى مطلع كوكب الصبح فدخل على قلقط وأصحابه وهم في كنيسة يأكلون ويشربون، فمضى إلى مقدم الكنيسة فصنع ما يصنعه النصارى من الصلاة والقول عند دخولهم كنائسها، ثم جلس إلى قلقط فقال له: من أنت فانتمى إلى الرجل الذي يشبه به فصدقه، وقال له: إنما جئتك لما بلغني عن جهاد سحيم وما اجتمع عنده من العساكر للخروج إليك، فأتيت لأخبرك به وأكفيك أمره، إياك أن

تتناول من طعامهم. ثم قال لقلقط وأصحابه: إنكم لم تأتوا هنا للطعام والشراب، ثم قال لقلقط: ابعث معي عشرة من هؤلاء من أهل النجدة والبأس حتى نحرسك الليلة، فإني كئيب أن تأتيك بلية، فبعث معه عشرة وأمرهم بطاعته، فخرج بهم إلى أقصى القرية وقام بهم على الطريق الذي يتخوفون أن يُدخل عليهم منه، فأقام حارساً منهم وأمر أصحابه فنانوا، فأمر الحارس إذا هو أراد النوم أن يوقظ حارساً منهم وينام هو، فحرس الأول ثم أقام الثاني ثم قام سحيم ثم قال: أنا أحرس فنم فلما ثقل نومهم قتلهم بذبابة سيفه رجلاً بعد رجل، فاضطرب التاسع، فأصاب العاشر برجله، فوثب إلى سحيم فأخذه وصرعه الرومي وجلس على صدره وأخرج سحيم سكيناً ومقلها في نحره فقتله، ثم أتى الكنيسة فقتل قلقط وأصحابه رجلاً بعد رجل، ثم خرج إلى أصحابه العشرين فجاء بهم وأراهم قتله وقتل الحرس وقلقط ومن في الكنيسة ووضعوا سيوفهم فيمن بقي فنذر بهم من بقي منهم، وخرجوا هراباً حتى أتوا سفنهم بوجه الحجر فركبوها، ولحقوا بأرض الروم ورجع أنباط جبل لبنان إلى قراهم. ورواية البلاذري في هذه الوقعة هكذا: وأقبل طاغية الروم يريد الشام وخرج أيضاً قائد قواد الضواحي في جبل اللكام فاتبعه خلق من الجراجمة والأنباط وأبّاق عبيد المسلمين وغيرهم، ثم صار إلى لبنان فأقبل عبد الملك مغذاً للسير حين أتاه كتاب ابن أم الحكم بذلك، فلما ورد دمشق وجه حميد بن خريث بن بحدل الكلبي بهدايا وألطاف إلى طاغية الروم وكتب إليه معه يسأله الموادعة على إتاوة وأعطاه إياها كما فعل معاوية حين أراد، إتيان العراق فقبل الطاغية الهدايا وما بذل له عبد الملك من الإتاوة وأعطاه رُهناء من أبناء الروم وصيرهم ببعبلك، ووادع عبد الملك الذين خرجوا بلبنان وجعل لهم في كل جمعة ألف دينار فركنوا إلى ذلك ولم يعيثوا بفساد، ثم دس إليهم سُحيم بن المهاجر فتلطف حتى وصل إلى رئيسهم متنكراً فأظهر ممالأته وتقرَّب إليه بذم عبد الملك وشتمه ووعده أن يدله على عوراته وما هو خير له من الصلح الذي بذل له، ثم عطف عليه وهو وأصحابه غارون غافلون بجيش من موالي عبد الملك وبني أمية وجند من

ثقات جنده وكماتهم كان أعدهم لمحاربته وأكمنهم في مكان بالقرب منه خفيّ فقتل أولئك الروم وبشراً من الجراجمة وغيرهم ثم أذن بالأمان فيمن بقي من الجراجمة ومن سواهم فتفرقوا في قراهم ومواضعهم، فلما أصلح عبد الملك أموره استخلف ابنه الوليد على دمشق ومعه سعيد بن مالك بن بحدل. قال: وأمر عبد الملك فنادى من أتانا من العبيد يعني الذين كانوا مع أولئك القوم فهو حر وله أن أثبته في الديوان، فانفض إليه خلق منهم كانوا ممن قاتل مع سحيم وقد وفى لهم وجعل لهم رَبْعاً على حدة فهم يسمون الفتيان إلى الآن. ولما كانت سنة 89 اجتمع الجراجمة إلى مدينتهم وأتاهم قوم من الروم من قبل الإسكندرونة ومرسين، فوجه الوليد بن عبد الملك إليهم مسلمة ابن عبد الملك فأناخ عليهم في خلق فافتتحها، على أن ينزلوا بحيث أحبوا من الشام، ويجري على كل امريء منهم ثمانية دنانير وعلى عيالاتهم القوت من القمح والزيت وهو مدان من قمح، وقسطان من زيت، وعلى أن لا يكرهوا ولا أحد من أولادهم ونسائهم على ترك النصرانية، وعلى أن يلبسوا لباس المسلمين ولا يؤخذ منهم ولا من أولادهم ونسائهم جزية، وعلى أن يغزوا مع المسلمين فينفلوا أسلاب من يقتلونه مبارزة، وعلى أن يؤخذ من تجاراتهم وأموال موسريهم ما يؤخذ من أموال المسلمين، فأخرب مدينتهم وأنزلهم فأسكنهم جبل الحُوّار وسنح اللولون؟ وعمق تيزين وصار بعضهم إلى حمص ونزل بعضهم بطريق الجرجومة في جماعة معه من إنطاكية ثم هرب إلى الروم. قال ياقوت: واستعان المسلمون بالجراجمة في مواطن كثيرة في أيام بني أمية وبني العباس وأجروا عليهم الجرايات وعرفوا منهم المناصحة. قتل ابن الزبير في مكة بعد أن كانت خلافته تسع سنين والفتنة بينه وبين عبد الملك سبع سنين، فبويع لعبد الملك بالحجاز واليمن وصفا له ملك مصر والشام والحجاز والعراق واليمن وغيرها. وفي سنة 75 وصل موريق وموريقان من قواد الروم إلى الشام وحملا بجيوشهما على دير القديس مارون في جهات حماة وقتلا منه خمسمائة راهب وهدما بنيانه، ثم تحولا

عهد الوليد:

من هناك إلى قنسرين والعواصم فقتلا الأهلين ونهبا وخربا المساكن ولم يعفيا أحداً من أتباع بطريرك الموارنة، ثم انتهى جيشهما إلى طرابلس فخضع لهم أهل الكورة، ثم قوي الجبليون على عسكر الروم ثم قتلوا أكثرهم وانهزم الباقون. دعا الروم إلى قتال الموارنة لقولهم بالطبيعتين والمشيئتين ثم وفد وفد منهم مع لاون القائد يبيح أن يحارب الجيش الموجه عليهم، فلما عرف الجبليون وأهل العواصم بهذا انهالوا على الأروام من أعالي الجبل فقاتلوهم حتى قتلوا أكثرهم وانهزم الباقون. قال الدويهي: وبسبب هذه الحملة على يوحنا مارون ولا سيما بسبب الوقعة التي جرت بين أهل الكورة وجبة بشري كان بدء التفرقة بين الموارنة والملكية. لأن الذين اتبعوا جيش الروم وانقادوا لرأيهم سموا ملكية تبعاً للملك، والذين ثبتوا في الأمانة تحت طاعة البطريرك يوحنا مارون سموا موارنة. وقال ابن القلاعي: إن الموارنة في دخول المسلمين إلى الشام كانوا يسكنون جبل لبنان، ويتولون الجبال والسواحل التي تجاورهم، وبلادهم من حدود الشوف إلى بلاد الدريب، وأميرهم يسكن قرية بسكنتا نزل إلى البقاع في رجاله ونهبها وقتل كثيرين ولبث أياماً في قب الياس، فلما انتهى خبره إلى عبد الملك بن مروان أرسل اليه هدية ولم يزل يمكر به حتى قتله وقتل كثيرين من عسكره، وأحرق القرى وأبعد الموارنة من البقاع، ولم تزل الحروب منذ ذلك الحين ثائرة بين المسلمين والموارنة إلى نحو ثلاثين سنة ثم ابتنى الموارنة حصناً فوق نهر الكلب جرت عنده موقعة هائلة. عهد الوليد: توفي عبد الملك في سنة 86 بعد أن ولي الخلافة منذ قتل ابن الزبير ثلاث عشرة سنة وأربعة أشهر، وكان من الحزم وسعة الصدر وجمال العلم والأدب على جانب عظيم، ويعد من فقهاء المدينة وهو أول من حولت الدواوين في أيامه إلى العربية، وفي عهده نقشت الدنانير والدراهم بالعربية 76 وكان قبل ذلك نقش الدنانير بالرومية ونقش الدراهم

بالفارسية، وهو أول من نهى عن الكلام بحضرة الخلفاء، وكان الناس قبل ذلك يراجعون ويعترضون عليهم. وبويع للوليد بن عبد الملك. وكانت أيامه من أبرك أيام بني أمية عمّر الجوامع العظام، وكتب إلى الأمصار بهدم المساجد والزيادة فيها، وبث في الأمة روح العمران، فكان الناس إذا التقوا في زمانه، يسأل بعضهم بعضاً عن الأبنية والعمارات في كل مكان، وكان أول من عمل أعمالاً جسيمة ابتدعها في الصدقات والقربات، هذا مع أن الخراج انكسر في أيامه فلم يحمل كثير شيء من العراق وغيره، فاضطر إلى إحصاء أهل الديوان، وألقى منهم بشراً كثيراً بلغت عدتهم عشرين ألفاً، وأجرى الوليد على زمني أهل الشام كالمجذّمين والعميان وكساهم وأمر لكل منهم بخادم، وأخرج لعيالات الناس الطيب والكسوة، وزاد الناس جميعاً في العطاء عشرة عشرة، ثم زاد أهل الشام بعد زيادة العشرات عشرة عشرة لأهل الشام خاصة، وزاد من وفد إليه من أهل بيته في جوائزهم الضعف، وكان وهو ولسّ عهد، يطعم من وفد إليه من أهل الصائفة قافلاً، ويطعم من صدر عن الحج بمنزل زيزاء في البلقاء ثلاثة أيام، ويعلف دوابهم، ولم يقل في شيء يسأله: لا. فقيل له: إن في قولك أنظر عدة ما، يقيم عليها الطالب فقال: لا أعوّد لساني شيئاً لم أعتده وقال: ضمنت لكم إن لم تعقني عوائق ... بأن سماء الضر عنكم ستقلع سيوشك إلحاق معاً وزيادة ... وأعطية مني عليكم تَبرّع محرّمكم ديوانكم وعطاؤكم ... به يكتب الكتاب شهراً وتطبع وقد بلغ بنو أمية في عهد الوليد أقصى درجات عزهم، واعتز بحكمه الإسلام والمسلمون، وفتحت الفتوح العظام وتغلغلت جيوشه في أرض الترك والروم والهند، وفتحت الأندلس وجاء فاتحها موسى بن نصير إلى دمشق يضع بين يدي الخليفة الأموال والجواهر، ويعرض أبناء ملوك البربر والجزائر والروم والأسبان والإفرنج يلبسون تيجانهم، ويقف أبناء ملوك أوروبا في باب الخليفة الأموي بحالة الأسر. وبعث الوليد أخاه مسلمة

سليمان بن عبد الملك:

لغزو الروم فقتل منهم أربعين ألف رجل، وغزا قلقية وفتح فيها حصوناً كثيرة بالأمان، وحمل أهلها إلى الشام وفتح أمسية وحصوناً كثيرة. سليمان بن عبد الملك: توفي الوليد سنة 96 فبويع أخوه سليمان بن عبد الملك سابعهم، وكان حسن السيرة فصيحاً مفوّهاً، أتته بيعة الأجناد وهو بالبلقاء فأتى القدس وأتته الوفود بالبيعة، فلم ير الناس وفادة أحسن منها، جلس في قبة صحن المسجد، وقد بسطت البسط لديه والنمارق عليها والكراسي، فجلس وأذن للناس أن يجلسوا على الكراسي والوسائد، والى جانبه الأموال والكساوي وآنية الذهب والفضة والدواوين، فيدخل وفد الجند ويتقدم صاحبهم فيتكلم عنهم وعمن قدموا من عنده ويقول: إن من جندنا كذا ومن حاجتهم كذا وكذا ومما يصلحهم كذا، فيأمر سليمان بذلك كله. ردّ المظالم وعزل عمال الحجاج، وأخرج من كان في سجن العراق، وأعتق سبعين ألف مملوك ومملوكة وكساهم، وكانت أيامه ذات فتوح متوالية، جاء الخبر إلى سليمان بن عبد الملك أن الروم خرجت على ساحل حمص، فسبت امرأة وجماعة، فغضب سليمان وقال: والله لأغزونهم غزوة افتتح بها القسطنطينية أو أموت دون ذلك، فأغزى جماعة أهل الشام والجزيرة والموصل في البر في نحو مائة وعشرين ألفاً، وأغزى أهل مصر وإفريقية في البحر في ألف مركب، وعلى جماعة الناس مسلمة بن عبد الملك، وأغزى داود بن سليمان في جماعة من أهل بيته، وقدم سليمان من القدس إلى دمشق، ومضى حتى نزل مرج دابق فأمضى البعث وأقام بالمرج. واتخذ ابن عمه عمر بن عبد العزيز وزيراً وأوصى له سليمان بالخلافة، فسمي سليمان مفتاح الخير لاستخلافه عمر بن عبد العزيز. عهد عمر بن عبد العزيز وسيرته: لما تولى الخلافة عمر بن عبد العزيز أوائل سنة تسع وتسعين أبطل سب علي رضي الله عنه على المنابر، وكان من العادة سبه عقيب كل خطبة

منذ عهد معاوية بن أبي سفيان الذي قدم الخطبة على صلاة الجمعة، لأن الناس كانوا يكرهون سماع اللعن، فكانوا إذا أدوا الصلاة خرجوا من المسجد. أراد معاوية من ذلك كما قال ابن أبي الحديد: تشييد الملك وتأكيد ما فعله الأسلاف، وأن يقرر في أنفس الناس أن بني هاشم لاحظ لهم في هذا الأمر، وأن سيدهم الذي به يصولون، وبفخره يفخرون، هذا حاله وهذا مقداره، فيكون من ينتمي إليه ويدلي به عن الأمر أبعد، وعن الوصول إليه أشحط وأنزح. على أن الطالبين كانوا يقنتون عقيب كل صلاة ويلعنون أيضاً بني أمية. وكتب عمر بن عبد العزيز إلى نوابه بإبطال السب وكانوا يقولون: لعن الله أبا تراب. ولما خطب يوم الجمعة، أبدل السب في الخطبة بقوله تعالى: (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم). وقيل: بل جعل مكان ذلك قوله تعالى: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون). فاستمر الخطباء على قراءتها إلى هذا اليوم، وشكر سعيه كل عاقل. وردّ عمر بن عبد العزيز المظالم، وسار سيرة عمر بن الخطاب جده لأمه، واستعمل أصلح من قدر عليه، فسلك عماله طريقته، واستدعى الجيش الإسلامي من حصار القسطنطينية ساعة ولي الخلافة حقناً لدماء المسلمين، وكان قد بلغ منهم الجهد، ولم يغفل مع ذلك عن غزو الروم عند الاقتضاء الشديد. ولو طال أجله لأجلي المسلمين عن الأندلس لأنه رأى مقامهم فيها غير طبيعي لإحاطة الأعداء بهم، وردّ جيوش المسلمين من الشرق ومنعهم من التوغل فيه قائلاً: يكفي ما فتح الله على المسلمين من الفتوح. ويرجع الفضل في العهد لعمر بن عبد العزيز إلى سليمان بن عبد الملك الذي عرف بحكمته أن ابن عبد العزيز أعدل رجل وأعقل رجل في بني أمية، فعهد إليه بالخلافة فأحسن للأمة وأي إحسان، وحنق عليه بعض المتلاعبين من أهل بيته فسقوه السم فيما قيل فهلك سنة 101، وخلافته

يزيد بن عبد الملك وهشام والوليد بن يزيد:

سنتان وخمسة اشهر. وكانت سيرة عمر بن عبد العزيز مضرب الأمثال في القاصية والدانية، وقدوة السلف للخلف في كل عصر ومصر. قال عمرو ابن ميمون: كانت العلماء مع عمر بن عبد العزيز تلامذة. بعث عمر بن عبد العزيز وفداً إلى ملك الروم في أمر من مصالح المسلمين وحق يدعوه إليه، فلما دخلوا إذا ترجمان يفسر عليه، وهو جالس على سرير ملكه والتاج على رأسه، والبطارقة عن يمينه وشماله، والناس على مراتبهم بين يديه، فأدى إليه ما قصدوا له فتلقاهم بجميل وأجابهم بأحسن جواب وانصرفوا عنه في ذلك اليوم، فلما كان في غداة غدٍ أتاهم رسوله فدخلوا عليه، فإذا هو قد نزل عن سريره ووضع التاج على رأسه، وقد تغيرت صفاته التي شاهدوه عليها كأنه في مصيبة فقال: هل تريدون لماذا دعوتكم؟ قالوا لا: قال: إن صاحب مسلحتي التي تلي العرب جاءني كتابه في هذا الوقت أن ملك العرب الرجل الصالح قد مات، فما ملكوا أنفسهم أن بكوا فقال: لا تبكوا له وابكوا لأنفسكم ما بدا لكم. فإنه قد خرج إلى خير مما خلف. قد كان يخاف أن يدع طاعة الله فلم يكن الله ليجمع عليه مخافة الدنيا والآخرة لقد بلغني من بره وفضله وصدقته ما لو كان أحد بعد عيسى يحيي الموتى لظننت أنه يحيي الموتى، ولقد كانت تأتيني أخباره باطنا وظاهرا فلا أجد أمره مع ربه إلا واحدا، بل باطنه أشد حين خلوته بطاعة مولاه. ولم أعجب لهذا الراهب الذي قد ترك الدنيا وعبد ربه على رأس صومعة، ولكني عجبت لهذا الراهب الذي صارت الدنيا تحت قدمه فزهد فيها حتى صار مثل الراهب، إن أهل الخير لا يبقون مع أهل الشر إلا قليلا. يزيد بن عبد الملك وهشام والوليد بن يزيد: تولى الخلافة يزيد بن عبد الملك تاسع الأمويين، وقد لقب الوليد وسليمان ويزيد وهشام أبناء عبد الملك بالأكبش الأربعة، ولم يل الخلافة من بني أمية ولا من غيرهم أربعة اخوة إلا هؤلاء. فعزل يزيد عمال عمر بن عبد العزيز جميعا وأعاد سب علي على المنابر، ودام ذلك إلى

انقضاء أمر بني مروان، يربو عليها الصغير ويهرم الكبير. ولم يكن يزيد بن عبد الملك بالخليفة الذي تحمد سيرته كثيرا، وتوفي بعد أن تولى الخلافة أربع سنين وشهرا وعهد بها إلى أخيه هشام وهو عاشرهم، وكان هشام يحب جمع المال وعمارة الأرض واصطناع الرجال وتقوية الثغور وإقامة البرك والقني في طريق مكة وغير ذلك. وكان لا يدخل بيت ماله مال حتى يشهد أربعون قسامة لقد أخذ من حقه وأعطي لكل ذي حق حقه. وظهر في أيامه بخراسان سليمان بن كثير الخزاعي وأصحابه يدعون إلى بني هاشم سنة 111 فانتشرت دعوتهم وكثر من يجيبهم، وأرادوا خلع بني أمية وبيعة بني هاشم، فقاتلهم وقاتل الخوارج على ملكه في أقطار أخرى، وكان قد بلغ ملك بني أمية فارس والسند وشمالي إفريقية والأندلس. وغزا هشام وهو من أحزم بني أمية الروم مرات وأسر قسطنطين ملكهم وحارب الترك كما حاربهم من قبله من الخلفاء وتوفي سنة 125 فبويع بعده للوليد بن يزيد فاضطربت المملكة في عهده، لأنه كان مهملا قليل العناية بأطرافه وقيل: إنه كان صاحب ملاهٍ وضم ذلك إلى ما ارتكبه من إغضاب أكابر أهله والإساءة إليهم وتنفيرهم فاجتمعوا عليه مع أعيان رعيته وهجموا عليه وقتلوه بعد سنة وخمسة أشهر من ولايته وكانت تتابعت منه فعال أنكرها الناس عليه فدب يزيد بن الوليد في الدعاء إلى خلعه فأجابته اليمن بأسرها وعاضدوه ووثبوا معه على عامل الوليد بدمشق فأجابوه وبايعوا يزيد ثم ساروا إلى الوليد فقتلوه. وكان اجتمع من بأقطار الشام من اليمانية فخرج إليهم الوليد بمضر واقتتلوا، وأثخنت اليمانية القتل في مضر فانهزمت مضر وأخذوا نحو دمشق، ودخل الوليد قصره فتحصن فيه فبايعوا يزيد بن الوليد وبايعه أشراف المضريين طوعا وكرها وخلعوا الوليد بن يزيد فلبث مخلوعا أياما كثيرة وهو خليع بني أمية ثم قتلوه. وفي سنة 126 اضطرب أمر بني أمية وهاجت الفتنة، فكان من ذلك وثوب سليمان بن هشام بن عبد الملك بعد قتل الوليد بعمان، وكان قد حبسه الوليد بها، فخرج من الحبس وأخذ ما كان بها من الأموال وأقبل

يزيد بن الوليد:

إلى دمشق. وفي هذه السنة أمر الوليد بن يزيد على جيوش البحر، الأسود بن بلال المحاذي وسيره إلى قبرس ليخير أهلها بين المسير إلى الشام أو إلى الروم، فاختارت طائفة جوار المسلمين فسيرهم إلى الشام، واختار آخرون الروم فسيرهم إليهم وأسكنهم الماحوز على ساحل البحر بين صور وصيدا. يزيد بن الوليد: وكان من أمر يزيد بن الوليد وهو ثاني عشر خلفائهم أن نقص الناس من عطائهم فسمي يزيد الناقص، وكان الخليفة من بني أمية إذا مات وقام آخر زاد في أرزاقهم وعطاياهم عشرة دراهم فيقولون: عير بعير وزيادة عشرة. اضطربت البلدان على يزيد ولما قتل خرج أهل حمص وأغلقوا أبواب المدينة وأقاموا النوائح والبواكي عليه وطالبوا بدمه، وقتلوا مروان بن عبد الله بن عبد الملك وكان عامل الوليد على حمص وهو من سادة بني مروان نبلا وكرما وعقلا وجمالا، ولما أجمع الحمصيون على محاربة يزيد بدمشق جهز جيشا قاتلهم قريبا من ثَنِيَّة العقاب فانهزم الحمصيون واستولى على المدينة وأخذ البيعة عليهم. قال الدينوري معللاً سر قيام الحمصيين: إن المضرية تلاومت فيما كان من غلبة اليمانية عليها، وقتلهم الخليفة الوليد بن يزيد فدب بعضهم إلى بعض، واجتمعوا من أقطار الأرض، وساروا حتى وافوا مدينة حمص وبها مروان بن محمد بن مروان ابن الحكم وكان يومئذ شيخ بني أمية وكبيرهم وكان ذا أدب كامل، ورأي فاضل، فاستخرجوه من داره وبايعوه وقالوا له: أنت شيخ

مروان بن محمد:

قومك وسيدهم فاطلب بثأر ابن عمك الوليد بن يزيد. فاستعد مروان بجنوده في تميم وقيس وكنانة وسائر قبائل مضر وسار نحو مدينة دمشق. ولما بويع يزيد بن الوليد خطب وذكر الوليد بن يزيد فقال على رواية ابن الطقطقي: إن سيرته كانت وكان خبيثة منتهكا لحرمات الله فقتلته ثم قال: أيها الناس إن لكم علي أن لا أضع حجرا فوق حجر، ولا لبنة على لبنة، ولا أكري نهرا، ولا أكنز مالا، ولا أنقل مالا من بلد إلى بلد حتى أسد ثغره، وخصاصة أهله بما يغنيهم، فما فضل منه نقلته إلى البلد الآخر الذي يليه، ولا أغلق بابي دونكم، ولكم أعطياتكم في كل سنة، وأرزاقكم كل شهر، حتى يكون أقصاكم كأدناكم، فإن وفيت لكم ما قلت فعليكم بالسمع والطاعة وحسن المؤازرة، وإن لم أف فلكم أن تخلعوني، إلا أن أتوب، وإن كنتم تعلمون أن أحدا ممن يعرف بالصلاح يعطيكم من نفسه ما قد بذلت لكم، وأردتم أن تبايعوه، فأنا أول من يبايعه معكم، إنه لا طاعة لمخلوق، في معصية الخالق. وخرج على يزيد بن الوليد بشر بن الوليد بقنسرين وعمر بن الوليد ويزيد بن سليمان بفلسطين، ووجه إلى الأردن أخاه إبراهيم ولي عهده، وقد أمروا عليهم محمد بن عبد الملك فاستمال الثائرين بالمال فتفرقوا، وكانت ولايته خمسة أشهر والفتنة في جميع الملكة عامة، وقتل أهل حمص عاملهم عبد الله بن شجرة الكندي وكانوا انتخبوه واليا على جندهم، ولما توفي يزيد بن الوليد ملك إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك فامتنع أهل حمص من البيعة فجاءهم الجند من دمشق وحاصرهم. مروان بن محمد: وقدم مروان بن محمد بن مروان من أرمينية خالعا ليزيد بن الوليد، فلما صار بحران دعا إلى نفسه فبايع له أهل الجزيرة سراً، وأقبل في جموع من أهل الجزيرة، فلقي بشرا ومسرورا ابني الوليد بن عبد الملك معسكرين بحلب فهزم عسكريهما وأسرهما، ثم مضى حتى أتى حمص، وبلغ إبراهيم الخبر فوجه إليه سليمان بن هشام، وكان سليمان في مائة وعشرين ألفا،

فلقي مروان وكان في ثمانين ألفا ومن معه من أهل الجزيرة وقنسرين وحمص فالتقوا بعين الجر فتناوشوا القتال 127 وانصرف بعضهم عن بعض، فلما كان من الغد انهزم سليمان بن هشام وأصحابه فلحقوا بإبراهيم وأقبل مروان فبايع له أهل دمشق ودخلها فخلع إبراهيم نفسه وبايع لمروان. وقد قتل في وقائع عين جر وما تقدمها وتأخر عنها ثمانية عشر ألف مقاتل. وروى الطبري أنه لما قيل قد دخلت خيل مروان دمشق هرب إبراهيم بن الوليد وتغيب، فأنهب سليمان ما كان في بيت المال وقسمه فيمن معه من الجند، وخرج من المدينة، وثار من فيها من موالي الوليد بن يزيد إلى دار عبد العزيز بن الحجاج فقتلوه، ونبشوا قبر يزيد بن الوليد وصلبوه على باب الجابية، ودخل مروان دمشق فنزل دير العالية من ضواحيها. ولما ملك مروان بن محمد كتب إلى عمال البلدان فأتته كتبهم بالسمع والطاعة، ولم يلبث إلا ثلاثة أشهر حتى أتاه الخبر أن أهل حمص مقيمون على المعصية، فسار إليهم فحاصرهم حتى فتح المدينة، وقاتل الثائرين وقتل خمسمائة أو ستمائة صلبوا حول مدينة حمص، وهدم من حائطها نحواً من غلوة. وثار أهل الغوطة فولوا عليهم يزيد بن خالد القسري وحصروا دمشق وأميرها زامل بن عمرو، فوجه إليهم مروان من حمص أبا الورد بن الكوثر في عشرة آلاف، فلما دنوا من المدينة خرج عليهم من فيها فانهزموا واستباح أهل مروان عسكرهم وأحرقوا المزة وقرى من اليمانية، وأخذ يزيد بن خالد فقتل، وخرج ثابت بن نعيم الجذامي بناحية الأردن فوجه إليه جيشاً، وكان مروان عند دخوله دمشق ترك لأهل كل جند من أجناد الشام أن يختاروا عمالهم فوقع اختيارهم على هؤلاء العمال الذين ثاروا بهم بعدُ على مروان، وممن ثار سليمان بن هشام في أهل حمص وقنسرين، وقصد حمص فحصنها فبايعه أصحابه بالخلافة، وخرجوا قاصدين مروان وكمنوا له في طريقه في قرية تعرف بتل مير من عمل معرة النعمان فالتقى العسكران وقتل منهما خلق كثير فانهزم سليمان إلى حمص. فجاء مروان

إدبار الأمويين:

إليها وحاصرها ثانيةً عشرة أشهر ثم صالحها وتسلمها، وكان سليمان بن هشام في سبعين ألفاً وقتل زهاء ثلاثين ألفاً. إدبار الأمويين: وما زالت الحال على ذلك حتى استقامت لمروان الشام كلها، ثم قوي أمر أبي مسلم الخراساني صاحب الدعوة العباسية بخراسان، ودعا علناً لبني هاشم وقتل عسكر الأمويين. ولما بايعوا بالخلافة في الكوفة لأبي العباس سراً وجه عمه عبد الله بن علي لقتال مروان، وكان مع مروان مائة ألف مقاتل ولا يكون مع عبد الله بن علي إلا الأقل من ذلك، فلقيه بالزاب قرب الموصل، فحاربه عبد الله بن علي فهزمه، ثم لم يزل في إثره وهو منهزم لا يلوي على شيء حتى أخرجه إلى الجزيرة، ثم أخرجه من الجزيرة إلى الشام، فجعل مروان لا يمرًّ بجند من أجناد الشام إلا انتهبوه، فلما اجتاز بقنسرين وحاضر حلب أوقعت تنوخ القاطنة بقنسرين بساقته ووثب أهل حمص وقالوا: مرعوب منهزم، فاتبعوه بعدما رحل عنهم فلحقوه على أميال فناشدهم فأبوا إلا مكاثرته وقتاله، فنشب القتال وأثار كمينين من خلفهم وكان قد نصبهما فهزمهم وقتلتهم خيله. وسار مروان إلى دمشق فوثب به الحارث بن عبد الرحمن الحرشي، ثم أتى الأردن فوثب به هاشم بن عمر العنسي والَمذْحِجيون أي اليمانيون جميعاً، ثم مرَّ بفلسطين فوثب به الحكم بن ضبعان بن روح بن زنباع لما رأوا من إدبار الأمر عنه. قال الدينوري: جعل مروان يستقري مدن الشام فيستنهضهم فيروغون عنه ويهابون الحرب فلم يسر معه منهم إلا قليل. قالوا. ولما صار مروان إلى دمشق وهو مضمر أن يتحصن بها لولا ما انتهبه أهلها ووثب عليه من بها من قيس فدخلها عبد الله بن علي العباسي عنوة، ومضى مروان إلى فلسطين هارباً حتى جاء مصر، فقاتل مروان في قرية بوصير قرب القاهرة حتى قتل وذلك في ذي الحجة 132، وبموته انقرض ملك بني أمية في المشرق وهو الرابع عشر من خلفائهم. وكان من رأيه أن

دولة بني مروان وحسناتها:

يقطع الدرب وينزل بعض حصون الروم ويكاتب ملكها ويجمع عليه رجاله وشيعته إلى أن يرتئي في أمره، ولكن حُمَّ القضاء ولا رادَّ لحكمه. دولة بني مروان وحسناتها: انقضت دولة بني مروان، وكانت دولة عربية صرفة سارت مع المدنية أشواطاً مع انشغالها بالفتح وقيام الخارجين عليها، ولم يبطلوا في كل دور غزو الروم، وكانوا على الأكثر يَسْبُون ويقتلون ويغنمون ويخربون حصونهم، والروم يغزون الشام وآسيا الصغرى وقد يصلون إلى إنطاكية ودُلوك مرعش. وكان أكثر ملوك الأمويين من الحزم والعلم وحسن السياسة والإدارة على جانب عظيم، والسواس منهم معاوية وعبد الملك وهشام، وليس كالوليد في باب الاضطلاع بإقامة المصانع، ولا مثل عمر ابن عبد العزيز في تطهير المملكة من المظالم وإحياء سنن العدل والمراحم ولا كسليمان ببعد النظر، وما منهم إلا العالم والشاعر والخطيب والسياسي، وقد فتحت عليهم الأقطار فنشروا فيها اللغة والدين على أيسر سبيل، وهذا مما لم يوفق إلى مثله غيرهم، ووضعوا أسس النظام في الممالك التي دوخوها وعرفوا ما يصلحها، وكانت إرادتهم أشبه باللامركزية في عهدنا، يبعثون بالعامل فيحل المسائل باجتهاده على رأي أهل الشرف والمكانة في القطر الذي يتولاه، ولا يفاوض مقر الخلافة إلا في عويص الأمور، وقد نصب علم الأمويين الأبيض في المشارق والمغارب، نصب في الصين كما نصب في بواتيه في فرنسا، هذا وقد كثر المخلصون لدولتهم إلى أواخر أيامهم وقل المنتقضون عليهم المتوثبون على خلافتهم. للدول كما للأفراد أعمار طبيعية. وملك بني أمية لم يطل أكثر من ألف شهر كاملة لأنهم ملكوا تسعين سنة وأحد عشر شهراً وثلاثة عشر يوماً، يوضع من ذلك أيام الحسن بن علي وهي خمسة أشهر وعشرة أيام، وأيام عبد الله بن الزبير إلى الوقت الذي قتل فيه وهي سبع سنين وعشرة أشهر وثلاثة أيام. فيصير الباقي بعد ذلك ثلاثاً وثمانين سنة وأربعة أشهر. ذهب بنو أمية بالفضل في جمع الشمل، ولولا قيامهم هذا القيام

المحمود يحدوه الانتباه لكل ما يعلي شأن دولتهم. لما ثبتت الدولة الإسلامية هذا الثبات الذي استغرب منه الخُبر والخبر. قال المقريزي: أظهر الرسول بني أمية لجميع الناس بتوليتهم أعماله مما فتح الله عليه من البلاد، فقوي ظنهم وانبسط رجاؤهم وامتد في الولاية أملهم، وضعف أمل بني هاشم وانقبض رجاؤهم وقصر أملهم. قال: وقد ظهر لي أن ولاية رسول الله بني أمية الأعمال كانت إشارة منه إلى أن الأمر سيصير إليهم. قال: إنه عليه السلام توفي وثلاثة أرباع عماله منهم. وطد مؤسس ملك الأمويين السلطان بالشام وبجند من أهله قاتل هو وأخلافه، واشتهر جند الشام بالطاعة حتى تمنى علي بن أبي طالب لو يقايض على عشرة من جنده بواحد من جند معاوية، فقال في إحدى خطبه: لوددت والله أن معاوية صارفني بكم صرف الدينار بالدرهم، فأخذ مني عشرة منكم وأعطاني رجلاً منهم. فتحت هذه الفتوح بنفس قوية وعقول راجحة وسياسة حازمة، وقاتل زعماؤهم وأبناؤهم بل بناتهم ونساؤهم حتى فتحوا الشام. وكان من جملة توفيق معاوية أنه عرف طبائع هذا القطر وخصائصه من أبيه وآله وكانت لهم به علائق كثيرة في الجاهلية، ثم درس أحواله بنفسه فكان يعرف قوته معرفة حقيقية، ولذلك لم ينل منه علي بن أبي طالب منالاً لأنه كان أخذ لهذا الأمر عدته وتدبره ودبّره كان يأخذ بآراء أشراف القوم والنزول على حكم وفود الأرجاء، وكانت وفودهم تشبه ما يسميه الإفرنج بمجالس الولايات. وكان لمعاوية وآل بيته مجالس يعقدونها في المسجد الجامع تدور حول سياسة الأمة في الأكثر، وخطاب الخليفة يوم الجمعة بمثابة ما نسميه في عرف سياسة اليوم خطاب العرش، ومجالسهم أشبه بمجالس النواب والشيوخ والولايات، فلم يكونوا إلى الاستبداد بالرأي في معظم حالاتهم. وفي الحق أن معاوية بن أبي سفيان أورث الإسلام مجداً، وأولى العرب عزَّة ومنعة، وكان العربي حيث نزل من الأرض محترماً، مرعي الجانب آمناً على نفسه وحقه، ولم يوفق إلى ذلك إلا بحسن السياسة وصائب التدبير. ذكر المسعودي، وهو من المنحرفين عن بني أُمية، أن

قواد الأمويين وأسباب انقراضهم:

المسلمين غزوا في أيام معاوية فأسر جماعة منهم، فأوقفوا بين يدي الملك فتكلم بعض أسارى المسلمين، فدنا منه بعض البطارقة ممن كان واقفاً بين يدي الملك فلطم حرَّ وجهه فآلمه، وكان رجلاً من قريش فصاح: وا إسلاماه، أين أنت عنا يا معاوية إذ أهملتنا، وضيعت ثغورنا، وحكمت العدو في ديارنا ودمائنا وأعراضنا. فنمي الخبر إلى معاوية وغضب وأقام الفداء بين المسلمين والروم وفادى بذلك الرجل، فلما صار إلى دار الإسلام دعاه فبرَّه وأحسن إليه. وبعث إلى رجل من ساحل دمشق من مدينة صور وكان به عارفاً كثير الغزوات في البحر، صُمُلّ من الرجال مرطان بالرومية، وأعطاه كل ما طلب، وهيأ له مركباً وأوعز إليه أن يتظاهر بأنه يتاجر مع روم القسطنطينية، وما زال على ذلك سنين حتى أسر الصوريّ البطريق الرومي الذي كان لطم القرشي وأتى به إلى معاوية في قصة طويلة. فقال معاوية: عليَّ بالرجل القرشي فأتى به وقد حضر خواص المسلمين وقال له: قم واقتص من هذا البطريق الذي لطم وجهك على بساط معظم الروم فإنا لم نضيعك ولا أبحنا دمك وعرضك، فقام القرشي ودنا من البطريق فقال له معاوية: انظر لا تتعدَّ ما جرى عليك منه. وانقلب القرشي على يدي معاوية وأطرافه يقبلها وقال: ما أضاعك من سوّدك، ولا خاب فيك أمل من أمَّلك، أنت ملك لا تستضام، تمنع حماك وتصون رعيتك. وأحسن معاوية إلى البطريق وحمل معه هدايا إلى الملك وقال له: ارجع إلى ملكك وقل له: تركت ملك العرب يقيم الحدود على بساطك، ويقتص لرعيته في دار مملكتك وسلطانك، فقال ملك الروم: هذا أمكر الملوك وأدهى العرب. ولهذا قدمته العرب عليها فساس أمورها والله لو همَّ بأخذي لتمت له الحيلة عليّ. قواد الأمويين وأسباب انقراضهم: نشأ للأمويين رجال عظام في الحرب والسياسة والحكم، مثل زياد بن

أبي سفيان وعتبة بن أبي سفيان وموسى بن نصير وطارق بن زياد وقتيبة بن مسلم وعقبة بن نافع الفهري وبُسْر بن أبي أرطأة وشرحبيل بن السمط وحبيب بن مسلمة ومسلمة بن عبد الملك وأسد بن عبد الله وعبد الرحمن بن أم الحكم الثقفي ومالك بن عبد الله الذي كان أميراً على الجيوش في غزوة الروم أربعين سنة أيام معاوية وقبلها وأيام يزيد وأيام عبد الملك بن مروان ولما مات كسر على قبره أربعون لواء لكل سنة غزاها لواء. وروح بن زنباع وزفر بن الحارث الكلابي والجراح بن عبد الله الحكمي وحُبَيْش بن دلجة القيني وحسان بن مالك بن بحدل الكلبي وميمون بن مهران وخالد ابن عبد الله بن خالد بن أسيد وعمر بن عبيد الله بن معمر وخالد بن عبد الله القسري وعثمان بن الوليد ويزيد بن المهلب والمهلب بن أبي صفرة وعمرو بن هبيرة الفزاري وعبد الله بن أبي بكرة والقاسم بن محمد الثقفي والعباس بن الوليد ومروان بن الوليد وخالد بن كيسان وعبد الله ابن عقبة بن نافع ومعاوية بن هشام وعبد الرحمن بن معاوية بن خُدَيج وإسحاق بن مسلم العُقَيلي ونصر بن سيار وعبد الله بن سعد بن أبي سرح ومعاوية بن حُدَيج وعبد الرحمن بن حبيب وزهير بن قيس البهلوي وحسان بن النعمان وميسرة بن مسروق العبسي وعبد الله بن قيس ومالك ابن هبيرة السكوني وفضالة بن عبيد الأنصاري وسفيان بن عوف وعبد الله ابنمسعدة الفزاري وجنادة بن أُمية الأزدي ومحمد بن مالك وعمرو بن مرة الجهني وعلقمة بن يزيد الأنصاري والضحاك بن قيس ويزيد بن شجرة وعياض بن الحارث والمخارق بن الحارث الزُّبَيْدي وزامل بن عمر العذري وأبو الأعور السلمي عمرو بن سفيان وسبيع بن يزيد الأنصاري ويزيد بن الحر العبسي وعلقمة بن حكيم الكناني ويوسف بن عمر ومحمد بن القاسم الثقفي ومالك بن عبد الله الخثعمي وحمزة بن مالك الهمداني وغيرهم. دوَّخ هؤلاء القواد الأقطار على بعد المواصلات مع مركز الخلافة وفتحوا الفتوح العظام بهمة لم تعرف الملل، وأدخلوا فيها نظامهم وعاداتهم وأداروها أي إدارة، فامتد ملك الأمويين كما قال أحد كتاب الإفرنج من أقاصي جبال هملايا في الشرق إلى أداني جبال الألب في الغرب. ثم انحلت هذه

المملكة المساوية تقريباً لمملكة قياصرة رومية على وجه غريب من السرعة. وكان مروان بن محمد الجعدي الذي لقب بالحمار لصبره على الحرب من أمثل خلفائهم وكان سديد الرأي ميمون النقيبة حازماً، فلما ظهرت المسوِّدة ولقيهم كان ما يُدبّر أمراً إلا كان فيه خلل. فما السر يا ترى في انحلال هذا الملك الضخم والقوة تدعمه وفيه أفراد أفذاذ مثلوا النبوغ العربي أجمل تمثيل لا تستطيع دولة من دول الحضارة الحديثة أن تقوم بأحسن منه، مع اعتبار الفرق بين عصر الدولة الأموية وهذا العصر؟. نظن السر في ذلك أن بني العباس كانوا قد أجمعوا أمرهم وهيئوا أسباب قيام دولتهم على صورة متينة جداً، وكان منشؤها من خراسان والعراق وهما القطران اللذان أفحش القتل فيهما الحجاج بن يوسف الثقفي حتى قتل من أهل العراق مائة وعشرين ألفاً مدة حكمه، واشمأز الناس من بني أمية بسببه وسبب من يستسهلون من قوادهم إهراق الدماء فكثرت الأحقاد والحفائظ ونغلت نيات الأمة، واختلف الأمويون بينهم وأصبحوا في هرج يقتل بعضهم بعضا. وقد نسب الخضري أسباب سقوط دولة بني أمية إلى استيلائهم على الخلافة بالقهر والغلبة لا عن رضا ومشورة، فإن معاوية بن أبي سفيان استعان بأهل الشام الذين كانوا شيعته، على من خالفه من أهل العراق والحجاز حتى تم له الأمر ورضي الناس عنه، والقلوب منطوية على ما فيها من كراهية ولايته، وكان في الأمة فريقان لا يرضيان عنه: الخوارج وشيعة بني هاشم، واستعمل ضروب السياسة مع رؤساء العشائر وكبار الشيعة فألان شكيمتهم وأسكن ثورتهم. ومن رأيه أن معاوية زل زلة كبرى قللت من قيمة عمله وهي اهتمامه بالغض من علي بن أبي طالب على منابر الأمصار هو وأمراؤه حتى تأججت النيران في صدور شيعته وأن عدة عيوب كانت سبباً في القضاء عليهم. الأول: مسألة ولاية العهد، فإن بني مروان اعتادوا أن يولوا عهدهم اثنين يلي أحدهما الآخر، فانشق بيتهم على نفسه. الثاني: إحياء العصبية الجاهلية التي جاء الإسلام مشدداً النعيَّ عليها. الثالث: تحكيم بعض الخلفاء من بني أمية أهواءهم في أمر قوادهم

وذوي الأثر الصالح من شجعان دولتهم، ففسدت قلوب الناس، حتى كانوا ينتظرون من يجمع كلمتهم على الانتقام من بني أمية. وعلل رفيق العظم سقوط الدولة الأموية بارتكاب الأمويين أغلاطا منها المبالغة باضطهاد العلويين، وتسميم أبي هاشم بأمر سليمان بن عبد الملك، ومنها أنهم فقدوا أعاظم الرجال الذين كانوا يخدمون بإخلاص، فأخرجوا خالد بن عبد الله وقتيبة بن مسلم ويزيد بن المهلب وموسى بن نصير ففقدت الدولة بفقدهم وفقد أمثالهم جانبا لا يقدر من قيمتها وانحطت هيبتها، ومنها تباعد أطراف مملكتهم حتى تعذر ضبطها مع صعوبة المواصلات، وأن الأمويين حافظوا على خشونتهم إلى خلافة هشام، وأخذ الخلفاء بعد الوليد بن يزيد يميلون إلى الترف والراحة، يضاف إلى ذلك انقسام العرب في خراسان إلى مضرية ويمانية وتنازع رؤسائهم. قال: إن ما يقوله بعض المؤرخين من ظلم الدولة الأموية ويعزى إليه دمارها فمبالغ فيه وما كان منه صحيحا فهو في نظر المؤرخ ثانوي. والحقيقة أن الخلفاء الأمويين كانوا أشداء على خصومهم دون سائر الناس، وكانوا في منزلة من العناية بالرعية والاهتمام بالعدل بين الناس فوق منزلة كثير من الحكومات المطلقة. سئل بعض شيوخ بني أمية عقيب زوال الملك عنهم، ما كان سبب زوال ملككم؟ فقال: جار عمالنا على رعيتنا فتمنوا الراحة منا، وتحومل على أهل خراجنا فجلوا عنا، وخربت ضياعنا فخربت بيوت أموالنا، ووثقنا بوزرائنا فآثروا مرافقتهم على منافعنا، وأمضوا أمورا دوننا أخفوا علمها عنا، وتأخر عطاء جندنا فزالت طاعتهم لنا، واستدعاهم عدونا فظاهروه على حربنا، وطلبنا أعداؤنا فعجزنا عنهم لقلة أنصارنا، وكان استتار الأخبار عنا من أوكد أسباب زوال ملكنا. قد يغتر بعض من لم يساعدهم الوقت أن يمحصوا الحقائق ليصلوا إلى لباب التاريخ الصحيح، فيأخذون روايات بعض المؤرخين الذين كتبوا بعوامل المذاهب السياسية أو نقلوا الأخبار على علاتها كما رأوها في مصادر ضعيفة وأخذوها قضية مسلمة، من ذلك الطعن في أخلاق يزيد بن معاوية، فإن الروايات المنقولة في هذا الشأن لو نقدت نقدا صحيحا لرأينا أنها مدخولة

على الأكثر أملتها أهواء الخصماء، ولطالما رأينا الناس إذا أرادوا النيل من أحد العظماء ينخدعون بأقوال يلفقها عليهم خصومهم، وربما نسبوا لبعضهم الفسق والفجور وأكل الأموال بالباطل، وهم من أكمل الناس أخلاقا وفضلا. إذا سلمنا أن معاوية أخطأ بحسب ما يقوله الفريق المعتدل بتوسيده الخلافة إلى يزيد وفي العرب يومئذ من هم أفضل منه فإنه كان يعتقد أن ابنه يصلح للخلافة وأن قوة الأمة مجتمعة على آل أبي سفيان. والدليل أنه كان إذا عرض لمعاوية مشكلة من المشكلات بعث إلى يزيد يستعين به على استيضاح شبهاتها واستسهال معضلاتها، فلم يكن يزيد إذاً بالصورة التي صورها بها أعداؤه. خطب معاوية فقال: اللهم إن كنت إنما عهدت ليزيد لما رأيت من فضله فبلغه ما أملت وأعنه، وإن كنت إنما حملني حب الوالد لوده وأنه ليس لما صنعت به أهلاً فاقبضه قبل أن يبلغ ذلك. قال الطبري: إن يزيد كان صاحب رَسلة أي كسل وتهاون، وإنه كف عن كثير مما كان يصنع أي لما وسدت إليه الخلافة. وقال غيره: إن يزيد كان يحب الصيد ويربي القرود والكلاب مما عدوه عليه. وهذا لا يقدح في العدالة، بل ربما كان مما يعين على الجهاد لترويضه الجسم والذهن، أما الفسق والفجور فلم يثبت من طريق مؤتمن، فإذا فرضنا أن معاوية أخطأ في إعطائه ولاية العهد لابنه بطرق استعمل فيها بعض الشدة، وأن يزيد ارتكب عماله من قتل آل بيت الرسول أمراً نكراً فلا يجوز من ذلك الطعن بشخصيات كبيرة، والعقل يستبعد التصديق بما قاله خصوم بني أمية عنهم، ولو كان يزيد شريباً خميراً كما يزعمون أو يرتكب أموراً لا تسمح بها الشريعة ولا تليق بشأن الملك، والدين، وأصحاب أصحاب رسول الله أحياء، وأعداؤهم من العلويين بالمرصاد، لقتلته أسرته نفسها، كما فعلت بالوليد بن يزيد بعد ستين سنة من مهلك يزيد بن معاوية. والغالب أن يزيد أدخل في العادات كأبيه أشياء أنكرها بعضهم، ووجدوا السبيل إلى الطعن فيه، وكان تعلمها من عشرته بعض أبناء الروم في الشام.

سُئل عبد الله بن عباس عن معاوية فقال: سما بشيء أسرَّه واستظهر عليه بشيء أعلنه، فحاول ما أسر بما أعلن فناله، وكان حلمه قاهراً لغضبه، وجوده غالباً على منعه، يصل ولا يقطع، ويجمع ولا يفرق، فاستقام له أمره وجرى إلى مدته. قيل: فأخبرنا عن ابنه قال: كان في خير سبيله، وكان أبوه قد أحكمه وأمره ونهاه فتعلق بذلك وسلك طريقاً مذللاً له. وسئل علي رض عن بني أمية فقال: أشدنا حُجَزاً صبراً وأطلبنا للأمر لا ينال فينالونه. الخلاف بين الأمويين وخصومهم من العلويين ما زال يقوى ويضعف، وما هو إلا خلاف سياسي نشأ من النزاع على الملك، وليس من الدين في شيء. فليس إذاً من العقل أن تتسلسل هذه الأحقاد في الأمة وتتفرق شيعاً، وتظهر بمظهر النصب أو التشيع، ويزكي فريق من يحبهم حتى يخرجهم عن طور البشر، ويطعن في آخرين حتى يسلخ عنهم كل ما يمتازون به من الصفات الكاملة ويخرجوهم عن الملة. أهل الإسلام يحبون الخليفة الرابع، ويعرفون له صفات غرّاً يفاخرون بها على غابر الدهر، ولكن من تحبه لا يجوز لك أن تغضي عن هفواته، أو أن تذكر لخصمه مزاياه. أريد أن أقول: إن مسألة الخلافة بين علي ومعاوية قد مضى عليها الزمن، وكان لكل منهما اجتهاده، وهي من المسائل المؤلمة في تاريخنا ينبغي لنا أن ندرسها بإنصاف لا أن نقول مع القائلين ونسكت عما شجر بينهم، ولا أن نبالغ فيما وقع ونتعصب لفريق على آخر، فالأمة يجب عليها أن تعرف مواطن الضعف والقوة من جسمها، وتكشف حقائق ماضيها لأنها ابنة حوادث ماضية، والواجب في البحث أن لا يثير في النفوس أحقاداً، ولا ينشيء في أجزاء الأمة فرقة متلفة، ولا يُرتكب معه سوء أدب مع عظماء أسسوا مجد الأمة على أمتن الدعائم، ووضعوا بناءها على القومية العربية، وكانوا مثال التساهل مع أبناء الأديان الأخرى. أهل الإسلام في الشرق جديرون بأن يكونوا كأهل النصرانية في الغرب، تحاربوا حروبا دينية سالت فيها الدماء أنهاراً بين البابوي والبرتستانتي، ثم

جاءت القرون الحديثة فقضت على التحزبات، وصاروا في المسائل الوطنية والقومية متلازمين تلازم اللام للألف، وإذا ذكروا ما ارتكبه أجدادهم في هذا الشأن خجلوا ووجموا. الأمويون كالعلويين بشر يخطئون ويصيبون، فلا يليق بنا أن نغض من الأمويين لأنهم لم يتنازلوا عن ملكهم للعلويين، ولا ننكر أن إصابتهم كانت كثيرة جداً في جنب خطيئاتهم، وأهل الشام قبل كل شعب عربي يجب عليهم أن يفاخروا بتاريخ الأمويين ويمعنوا النظر فيه طويلاً، ويعرفوا أن لكل دولة كما لكل فرد ما يعدُّ لها وعليها. بنو أُمية أسسوا دولة عظيمة وفتحوا الفتوح ونشروا كلمة التوحيد وبثوا اللغة العربية في الممالك التي دوَّخوها فماذا عمل خصومهم لو أنصف المتشيعون لهم؟ لم يوفقوا من قبل ولا من بعد إلا أن يُدلوا على الأمة بشرفهم، وأنهم خير من أُمية في الجاهلية والإسلام، وأن الواجب على المسلمين أن يخضعوا لهم مهما كانت حالهم لشرف هذه النسبة فقط، ولقد قامت لهم عدة دول في أقطار مختلفة وكان مصيرها كلها الانحلال، ولذلك كان من المعقول أن لا يغض من قدر العاملين خصوصا من كانت حسناتهم تربو على سيئاتهم، إن كان هناك ما يتجوز في تسميته سيئات. الملك لا يقوم بالزهد والتقوى ولزوم المساجد والخطب والحماسة والإدلال بصفات طبيعية اتصف بها صاحبها. الملك يحتاج كما كان الأمويون إلى بذل وتسامح وتماسك وعمل نافع بعيد عن الدعوى. في الصفات الأولى تتمثل حالة العلويين، وفي الثانية تتمثل حالة الأمويين.

دور الدولة العباسية

دور الدولة العباسية إلى ظهور الدولة الطولونية من سنة 132 - 254هـ مبدأ الدعوة العباسية: كانت دولة الأمويين الشرقية، كدولة الخلفاء الراشدين، عربية إسلامية صرفة، لم تنتشر كلمتها، ولم تتوزع سلطتها، أما الدولة العباسية فكانت دولة عناصر، والحاكم فيها العنصر العربي أو من دخل في خدمته وطاعته من الفرس والترك والديلم والموالي، ولقد قال المؤرخون: في دولة بني العباس افترقت كلمة الإسلام، وسقط اسم العرب من الديوان، واستولت الديلم ثم الأتراك، وصارت لهم دولة عظيمة، وانقسمت ممالك الأرض عدة أقسام، وصار بكل قطر قائم يأخذ الناس بالعسف، ويملكهم بالقهر. كان أهل البيت بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام يعتقدون أنهم أحق بالأمر، وأن الخلافة لرجالهم دون سواهم من قريش، فكانوا يرون في بني أُمية غاصبين حقهم في الخلافة، فبدأوا يدعون سراً لذلك منذ وقعت الحرب بين علي ومعاوية في صفين وتنازل الحسن بن علي لمعاوية بن أبي سفيان على الخلافة. فكان معاوية على ما رزق من صدر رحب يَرُوض من شماس أهل البيت، ويسامحهم في دعوى تقدمهم واستحقاقهم، ولا يهيج أحداً منهم بالتثريب عليه في ذلك. وكان

خلفاؤه من صلبه أو من بني مروان يعمدون إلى القسوة على القائمين بالدعوة لآل البيت تارة وإلى الإغضاء زمن العجز طوراً، وكان شيعة عليّ مقهورين، وأقاموا على شأنهم وانتظار أمرهم والدعاء لهم في النواحي، يدعون للرضا من آل محمد ولا يصرحون بمن يدعون له حذراً عليه من أهل الدولة. وكان شيعة محمد بن الحنفية أكثر شيعة أهل البيت يرون أن الأمر بعده لابنه أبي هشام عبد الله وكان كثيراً ما يغدو على سليمان بن عبد الملك في الشام. فمرَّ في بعض أسفاره بمحمد بن علي بن عبد الله بن عباس بمنزلة بالحُمَيْمَة فنزل عليه وأدركه المرض عنده فمات وأوصى له بالأمر. وقد كان أعلَم شيعته بالعراق وخراسان أن الأمر صائر إلى ولد محمد ابن علي هذا، فلما مات قصدت الشيعة محمد بن علي وبايعوه سراً وبعث الدعاة منهم إلى الآفاق فأجابه عامة أهل خراسان، وبعث عليهم النقباء وتداول أمرهم هنالك، وتوفي محمد سنة أربع وعشر ومائة وعهد لابنه إبراهيم وأوصى الدعاة بذلك، وكانوا يسمونه الإمام وهو الذي دعا إليه أبو مسلم الخراساني صاحب الدعوة. عند تمام المائة سنة صحت نية بني العباس على تأليف جمعية سرية تدعو لهم، وبثت في الآفاق بغض بني مروان وبلفظ أعم بني أمية. وكانت الدعوة مقبولة في العراق وخراسان عند كل من تعرض عليه. ورأس الدعوة في أرض الشام مهد عصبية الأمويين وفروعها في خراسان. فانبثت دعوة العباسيين من قطر وسط بين الأقطار العربية وهو الشام لقرب اتصالها مع الأقطار الأخرى ولا سيما بالعراق ثم بخراسان، ولم تقم الدولة من الحجاز لأنه بعيد عن القاصية تحيط به من جهاته الثلاث صحارٍ وبوادٍ محرقة، والاستناد على أهل الحجاز كالاستناد على أهل العراق لا يخلو من أخطار. فقد أراد أهل المدينة أن لا يبايعوا يزيد بن معاوية بالخلافة، فضربهم ضربة قاضية، ولم يستطع أن ينجدهم أحد من العراق أو اليمن لبعد الشقة. وخذل أهل العراق علياً وابنه الحسين، فلم يتمكن أهل الحجاز واليمن أن ينجدوا آل البيت فوقع ما وقع.

كان دعاة آل البيت يغدون من الحميمة وقيل: من كرار من جبال الشراة في الشام وبنو أمية غافلون عنهم وخليفة المستقبل الذي يدعى له على أيام من دار ملكهم كبعض الرعية، والناس في خراسان يصدرون عن أمره ويقدسون خلافته، وكأن الأقدار خصت الشام بقيام دولتين عظيمتين فيه الأموية والعباسية، وكانت عصبية الأمويين أهل الشام وعرب الحجاز واليمن، وعصبية العباسيين أهل خراسان والعراق وقيس، ومن أهم العوامل في نجاح بني هاشم في دعوتهم الجديدة، اتفاقهم مع الطالبيين على هذا المقصد، وهو نزع الخلافة من بني مروان، فكان البيتان لأول الأمر كأنهما بيت واحد، ولذلك أثمرت الدعوة سريعاً. بعد نيف وثلاثين سنة من الدعوة لأبناء العباس وربما قبل ذلك بقليل انتبه الأمويون في الشام إلى مقاصد أعدائهم، وأنهم في صدد تأسيس دولة للقضاء على دولة الأمويين، وفي ذلك دليل ظاهر على ضعف أصحاب الأخبار في أيامهم، وعلى تساهلهم وعنايتهم بتدويخ الأقاصي والغفلة عن أحوال الدواني، أبلغ ذلك مروان بن محمد الجعدي آخر خلفاء بني أمية عامله على خراسان نصر بن سيار وقد كتب إليه: أرى تحت الرماد وميضَ جمرٍ ... ويوشك أن يكون له ضرام فإن النار بالعودين تُذكى ... وإن الشر مبدؤه الكلام وقلت من التعجب ليت شعري ... أأيقاظ أُمية أم نيام فإن يقظت فذاك بقاءُ ملك ... وإن رقدت فإني لا أُلام فإن يك أصبحوا وثووا نياماً ... فقل قوموا فقد حان القيام فكتب مروان إلى عامله بدمشق الوليد بن معاوية يأمره بتوجيه أحد ثقاته إلى الحميمة أو كرار ليأتيه بإبراهيم الإمام، فحمله إلى مروان فحبسه في المحرم من سنة 132 وقتل في محبسه بعد شهرين، وعهد بالأمر بعده إلى أخيه أبي العباس عبد الله بن محمد وهو ابن الحارثية أول خلفاء بني العباس نسبة إلى جده الأعلى علي أبو محمد السجاد بن عبد الله بن العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم. قتل إبراهيم الإمام فكان قتله داعياً إلى التعجل بالمناداة علناً بالخلافة العباسية. وذلك أن إبراهيم الإمام لما قبض

فتح العباسيين عاصمة الأمويين:

عليه مروان نعى إلى أهل بيته، وأمرهم بالسير إلى أهل الكوفة مع أخيه السفاح وبالسمع له والطاعة، وأوصى بالخلافة إلى أخيه السفاح وأوصاه بالقيام بالدولة والجد والحركة، وأن لا يكون له بعده بالحميمة لبث ولا عرجة حتى يتوجه إلى الكوفة، فإن هذا الأمر صائر إليه لا محالة، وأنه بذلك أتتهم الرواية وأظهره على أمر الدعاة بخراسان والنقباء، رسم له في ذلك رسماً أوصاه أن يعمل عليه ولا يتعداه. فسار السفاح بأهل بيته منهم أخوه أبو جعفر المنصور وغيره إلى الكوفة فأقام فيها شهراً مستخفياً ثم ظهر وسلموا عليه بالخلافة وعزوه في أخيه إبراهيم الإمام ودخل دار الإمارة. وفي خلال ذلك زاد نفور المتطلعين إلى العباسيين من أهل خراسان والعراق، وذكر الناس شدة بني مروان في الضرب على أيدي كل من خالفهم، وكان الناس منذ أمد طويل يتمنون لو يديلهم الله بغيرهم وإن كانوا دونهم، فكيف ببني العباس ومنزلتهم من الشرف منزلتهم. والبشر ميال إلى التجدد ولكل جديد طلاوة. ومن الغريب على ما قال الطقطقي أنه لما قدر انتقال الملك إلى بني العباس، هيئت لهم جميع الأسباب، فكان إبراهيم الإمام بالحجاز أو بالشام جالساً على مصلاه مشغولاً بنفسه وعبادته ومصالح عياله، وليس عنده من الدنيا طائل، وأهل خراسان يقاتلون عنه، ويبذلون نفوسهم وأموالهم دونه، وأكثرهم لا يعرفه، ولا يفرق بين اسمه وشخصه، لا ينفق عليهم مالاً، ولا يعطي أحدهم دابة ولا سلاحاً، بل يجبون إليه الأموال، ويحملون إليه الخراج كل سنة، ولما خذل مروان وأشرف ملك بني أمية على الانقراض، كان مروان خليفةً مبايعاً ومعه الجنود والأموال والسلاح، والدنيا بأجمعها عنده، والناس يتفرقون عنه، وأمره يضعف، وحبله يضطرب، فما زال يضمحل حتى هزم وقتل. والثوب إن أنهج فيه البلى ... أعيى على ذي الحيلة الصانع فتح العباسيين عاصمة الأمويين: اضطرب نظام المملكة الأموية على عهد مروان بن محمد، وكانت

كلما عراها الضعف والانحلال، يزيد خصوم الأمويين شدة وقوة. ولما بويع بالخلافة لأبي العباس بالكوفة كانت جيوش خراسان تطارد جيوش الأمويين مطاردة، وينتثر سلك الملك على صورة مستغربة. ولم يكد العراق يدخل في طاعة العباسيين، حتى ولى أبو العباس عمه عبد الله بن علي الشام فسار من حران إلى منبج وقد سوّد أهلها، وبعث إليه أهل قنسرين ببيعتهم ثم سار حتى نزل حمص ثم سار إلى بعلبك ثم جاء عين جر، وكان مروان بن محمد آخر الأمويين لما انهزم على الزاب أتى من حرّان إلى حمص بأهله، فجاء عبد الله بن علي إلى حمص فرحل مروان عنها إلى دمشق، فتبعه فهرب إلى فلسطين في بقايا جيشه، وهناك جيش جيشاً آخر، وكان اجتمع للأمويين في دمشق جيش قدّر بخمسين ألف مقاتل. وكان جيش عبد الله بن علي لا يمر ببلد إلا ويخرج أهلها مسوّدين أي حاملين شعار العباسيين وهو السواد يبايعونهم عن رضىً، هذا وجيشه أقل من ثلث جيش مروان المنهزم وربما كان الربع. فلما جاء عبد الله بن علي دمشق من ناحية المزّة نزل بها يومين، ثم جاءه أخوه صالح بن علي في ثمانية آلاف مدداً من السفاح على طريق السماوة، فنزل صالح بمرج عذراء ثم نزل على باب الجابية، ونزل عبد الله بن علي على الباب الشرقي، ونزل أبو عون على باب كيسان، وبسام على الباب الصغير، وحميد بن قحطبة على باب توماء، وعبد الصمد ويحيى ابن صفوان والعباس بن يزيد على باب الفراديس، فحاصروها أياماً ثم افتتحها يوم الأربعاء لعشر خلون من رمضان 132، أي بعد ستة أشهر من مبايعة أبي العباس السفاح بالخلافة في مدينة الكوفة. أباح الفاتح دمشق ثلاث ساعات، وقيل: أنهبها ثلاثة أيام، ووضع السيف في أهلها، ولم يزل جماعته يحزون الرؤوس في الطرق والمنازل، ويأخذون الأموال، حتى جاء الظهر فأمر برفع السيف، وقتل والي المدينة فيمن قتل من الأمراء والعلماء في المسجد الجامع. وممن صلب عبد الله بن عبد الجبار. ودخلت أباعر العباسيين إلى صحن الجامع الأموي وظل إصطبلاً لدوابهم وجمالهم سبعين يوماً، وقتل يومئذ على رواية

المنبجي من النصارى واليهود خلق كثير، ونبشت قبور بني أمية في دمشق وغيرها وأحرقوهم بالنار، ولم يبقوا على غير قبر عمر بن عبد العزيز في دير سمعان، اعترافاً بفضله وتقواه، ونقضوا سور دمشق حجراً حجرا. قيل: إن أهل دمشق لما حاصرهم عبد الله بن علي، اختلفوا فيما بينهم ما بين عباسي وأموي، وقيل: وقعت بينهم العصبية في فضل اليمن على نزار، ونزار على اليمن، حتى اقتتلوا، فقتل بعضهم بعضاً، وذكروا أنه قتل فيها في هذه المدة نحو من خمسين ألفاً. ولما جاءها عبد الله ابن علي وحاصرها فضيق حصارها، بلغ بالناس الجهد فاستغاثوا، ووجهوا إليه يحيى بن بحر يطلب لهم الأمان، فخرج إليه فسأله الأمان، فأجابه إليه فدخل فنادى في الناس بالأمان، ثم قال له يحيى بن بحر: اكتب لنا أيها الأمير كتاب الأمان، فدعا بدواة وقرطاس، ثم ضرب ببصره نحو المدينة، وإذا بالسور قد غشيه المسوّدة عسكر بني العباس فقال له: قد دخلتها قسراً. فقال يحيى: لا والله ولكن غدراً. فقال عبد الله: لولا ما أعرف من مودتك لنا أهل البيت لضربت عنقك، إذ استقبلتني بهذا، ثم ندم فقال: يا غلام خذ هذا العلم فأركزه في داره، وناد من دخل دار يحيى بن بحر فهو آمن، فانحشر الناس إليها، فما قتل فيها، ولا في الدور التي تليها أحد، ونادى المنادي بعد أن قتل خلق كثير: الناس آمنون إلا خمسة: الوليد بن معاوية، ويزيد بن معاوية، وأبان ابن عبد العزيز، وصالح بن محمد، ومحمد بن زكريا. وصار عبد الله بن علي إلى المسجد فخطبهم خطبته المشهورة، التي يذكر فيها بني أمية، وجورهم وعداوتهم، ويصف ما استحلوا من المحارم والمظالم والمآثم، قال ما يقوله العدو في عدوه. وأي عداوة أعظم من عداوة المتنازعين على الملك والسلطان، وبينهم الطوائل والأحقاد القديمة والجديدة؟ وهذه الخطبة أشبه بكلام العلويين في الأمويين، والأمويين في العلويين، يقصد بها إثارة النفوس، لينزع منها حب الدولة السالفة، ويفسح مجال الأماني للناس ويرغبوا في الدولة الخالفة.

فتح فلسطين وإهلاك رجال الأمويين:

فتح فلسطين وإهلاك رجال الأمويين: أقام عبد الله بن علي في دمشق خمسة عشر يوماً، رويت خلالها سيوفه من أعداء دولته، ثم سار وراء مروان بن محمد في خمسين ألف مقاتل، وأخذ الوليد بن معاوية بن عبد الملك وعبد الجبار بن يزيد بن عبد الملك، فحملهما إلى أبي العباس السفاح، فقتلهما وصلبهما بالحيرة، وأمر أبو العباس عمه عبد الله بن علي أن يجدّ السير نحوها، وهنأه بما أصاب من أموال بني أمية، فسار يريد فلسطين فنزل نهر الكسوة ووجه منها يحيى بن جعفر الهاشمي إلى المدينة، ثم ارتحل إلى الأردن فأتوه وقد سودوا، ثم نزل بيسان، ومنها سار إلى مرج الروم فنهر أبي فطرس، ولما قدم فلسطين أظهر للناس أن أمير المؤمنين وصاه ببني أمية، وأمره بصلتهم وإلحاقهم في ديوانه ورد أموالهم عليهم، فقدم عليه من أكابر بني أمية وخيارهم ثلاثة وثمانون رجلاً، وفي رواية الطبري أنهم كانوا اثنين وسبعين رجلاً وقد أعد لهم مجلساً على نهر العوجاء فيه أضعافهم من الرجال ومعهم السيوف والأجرزة، فأخرجهم عليهم فقتلهم وسحبوا، وطرحت عليهم البسط وجلس عليها، ودعا بالطعام فأكل وجماعته، وما زال بعض القتلى يئن، وقال: يوم كيوم الحسين بن علي ولا سواء. وكان في جملة قتلاه عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك، وكان قد بذّ العابدين في زمانه، وسبق المجتهدين في عصره، واتخذ أموالاً معجبة، تطرد فيها المياه والعيون، فقتله، ثم استقصى ماله ومال من قتل من سادات بني أمية وصناديدهم، ومنهم من قتلوا لأنهم أبوا أن يصيروا أموالهم إلى السفاح. وقد قتل في قلنسوة شمالي العوجاء بعض بني أمية. وقصارى القول أن فاتح الشام للعباسيين بطش في الأمويين ومن والاهم من أهل هذه الديار بطش الجبارين. وسار من الجور سيرة لم يسرها أحد قبله. تتبع العباسيون بني أمية في الحجاز والعراق فقتلوا منهم أناساً كثيرين ولم يفلت إلا أفراد، منهم عبد الرحمن بن معاوية الذي فر إلى الأندلس وهناك أقام الخلافة الأموية الغربية، فدامت مائتين وثماني وستين سنة،

انتقاض الجنوب والشمال والاعتقاد بالسفياني:

ولم تطل إليه ولا إلى آله أيدي العباسيين حتى انقرضت دولتهم. ومنهم من فرّ إلى الحبشة، وبقي فيها هو وذريته إلى خلافة المهدي العباسي. وبعد مقتل بني أمية واشتداد خوفهم، وتشتت شملهم، واختفاء من قدر على الاستتار منهم، أصدر السفاح إلى سليمان بن علي كتاباً عاماً إلى البلدان يعطي فيه الأمان للأمويين. فكان هذا أول أمان بني أمية. وكان سليمان بن علي كتب إلى السفاح أنه وفد وافد من بني أمية علينا، وأنا إنما قتلناهم على عقوقهم لا على أرحامهم، فإننا يجمعنا وإياهم عبد مناف والرحم تبلّ توصل ولا تقطع، وترفع ولا توضع. انتقاض الجنوب والشمال والاعتقاد بالسفياني: لما أفنى بنو العباس بني أمية في فلسطين ندمت عرب الشام على ما فعلت لما ركبهم من العار، وتسليط العجم من أبناء خراسان عليهم، ينزلون منازلهم، ويأخذون أموالهم، فهاجت لذلك واضطربت، وامتنعوا من البيعة. وفي السنة التي دخل فيها العباسيون أرض الشام، بَيَّضَ حبيب ابن مرة المريُّ، وأها حوران والبَثَنّية، ومدينتها أذرعات، أي لبس شعار الأمويين وهو البياض، ونصب رجلاً من بني أمية، فقاتلهم عبد الله ابن علي بأرض البلقاء والبَثَنّية وحوران، وكان بينه وبينهم وقعات. وحبيب بن مرة من قواد مروان وفرسانه. وكان سبب تبييضه الخوف على نفسه وقومه، فبايعه قيس وغيرهم ممن يليهم من أهل تلك الكور، فلما بلغ عبد الله بن علي تبييضُ أهلِ قنسرين في الشمال، دعا حبيب بن مرة إلى الصلح وأمنه ومن معه. وكان الداعي إلى خلع قنسرين طاعة بني العباس، قائد من قواد مروان أيضاً اسمه أبو الورد الكلابي وكان دخل في طاعتهم، ثم نزع الطاعة لما قدم أحد قواد عبد الله بن علي إلى بالس والناعورة، وأتشأ يَعْبَث بولد مَسْلَمة بن عبد الملك ونسائهم، فشكا بعضهم ذلك إلى أبي الورد، وكان قد اجتمع معه جماعة من أهل قنسرين وكاتبوا من يليهم من أهل حمص وتدمر، فقدم منهم ألوف عليهم أبو محمد زياد بن عبد الله بن

خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان ودعوا إليه. وقالوا هذا السفياني الذي كان يذكر. والغالب أن أنصار الأمويين وضعوا بعد سقوط دولتهم ملحمة زعموا فيها أنهم يعرفون ما يحدث في المستقبل من الزمان والآتي من الأيام، من ظهور أمرهم ورجوع دولتهم، وظهور السفياني في الوادي اليابس من أرض الشام، في غسان وقضاعة ولخم وجُذام وغاراته وحروبه، ومسير الأمويين من بلاد الأندلس إلى الشام، وأنهم أصحاب الخيل الشهب والرايات الصفر، وما يكون لهم من الوقائع والحروب والغارات والزحوف، على ما نقله المسعودي. والاعتقاد بظهور السفياني كما قال صديقنا أحمد تيمور باشا يشبه الاعتقاد بظهور المهدي ويروون فيه أحاديث وأقاصيص الله أعلم بها. وفي البدء والتاريخ أن الروايات بشأن السفياني فيها حشو كثير ومحالات مردودة. ومسألة السفياني تدبير للأمويين حتى لا ينقطع الأمل من رجوع دولتهم ويخيفوا أعداءهم على الدوام. وربما كانت دعوى قرب ظهور السفياني أيضاً واسطة لفتك العباسيين بكل من توهموا فيه شيئاً من الرائحة السفيانية ولم تكد تنقطع هذه النغمة في الشام. وفي سنة 294 زعم رجل أنه السفياني فحمل هو وجماعة معه من الشام إلى باب السلطان فقيل إنه موسوس. كان أتباع زياد في نحو أربعين ألفاً فعسكروا بمرج الأخرم بنواحي سَلَمْيَة ودنا منهم عبد الله بن علي ووجه إليهم أخاه عبد الصمد بن علي في عشرة آلاف. وكان أبو الورد هو المدبر لعسكر قنسرين وصاحب القتال. فناهضهم وكثر القتل في الفريقين، وانكشف عبد الصمد ومن معه وقتل منهم ألوف، ولحق بأخيه عبد الله فأقبل عبد الله معه وجماعته القواد، فالتقوا ثانية بمرج الأخرم فاقتتلوا قتالاً شديداً وثبت عبد الله فانهزم أصحاب أبي الورد وثبت هو في نحو من خمسمائة من قومه وأصحابه فقتلوا جميعاً، وهرب أبو محمد ومن معه حتى لحقوا بتدمر، وأمَّن عبد الله أهل قنسرين وسوَّدوا وبايعوه ودخلوا في طاعته، ثم رجع إلى دمشق وكان قد خرج من بها عن الطاعة أيضاً، ونهبوا أهل عبد الله بن علي، فلما

انتقاض العباسيين على أنفسهم:

دنا عبد الله من دمشق هربوا ثم أمَّنهم، قال المؤرخون: إن العباسيين قتلوا من الشاميين ما لا يحصى، ثم أذكوا العيون على الأمويين يقتلون رجالهم ونساءهم، وينبشون عن قبورهم فيحرقونهم، فمن ثَم سمي عبد الله ابن محمد بن علي السفاح وفيه يقول الشاعر: وكانت أُمية في ملكها ... تجول وتظهر طغيانها فلما رأى الله أن قد طغت ... ولم تطق الأرض عدوانها رماها بسفاح آل الرسول ... فجزَّ بكفيه أذقانها انتقاض العباسيين على أنفسهم: هذا ما كان من أمر من خلعوا طاعة بني العباس من عصبية بني أمية في الجنوب والشمال، ولم يكن أثر تلك العصبية قد زال على شدة العباسيين في قطع شأفة الأمويين. ولما هلك أبو العباس السفاح، قام عمه عبد الله ابن علي عامل الشام، يدعو إلى نفسه بالخلافة، وقد استمال من معه من جنود خراسان فمالوا معه، وكان صالح بن علي بمصر على طاعة أبي جعفر، فلما بلغه أن عبد الله بن علي، قد خلع أبا جعفر وأنه قد عزم على حربه أقبل بمن معه من أهل خراسان، منكراً لفعل عبد الله بن علي، حتى لقي الحكم بن ضبعان الجذامي، ومع الحكم خلق كثير من أهل الشام في طاعة عبد الله بن علي، فهزمهم صالح باللجون وقتل منهم ناساً كثيراً وأفلت الحكم حتى أخذه بعدُ يزيد بن روح اللخمي بأرض بعلبك، وكان يزيد عاملاً لصالح بن علي ببعلبك، فضرب عنق الحكم وبعث برأسه إلى صالح بن علي، ونقل يزيد بن روح عند قتله الحكم بن ضبعان إلى ولاية دمشق. هذه رواية ابن عساكر، وقال غيره: إن صالح بن علي لما جاء فلسطين من مصر طلب أحياء العرب، وجعل يذبحهم حتى أتى على آخرهم وانتهب أموالهم ومواشيهم. وعلل صاحب البدء والتاريخ خروج عبد الله بن علي، على أبي جعفر بقوله: إنه لما مات أبو العباس، ادعى الخلافة عبد الله بن علي وبايعه أهل الشام والجزيرة، وذلك أن أبا العباس لما ظهر أمره، وضع سيفاً

وقال: من تقلد هذا السيف وسار إلى مروان فقاتله فله الخلافة بعدي، فتحاماه الناس وقام عبد الله بن علي فتقلده، وسار فقاتل مروان فقتله، فلما مات أبو العباس قام بالخلافة وبايعه الناس على ذلك، وكان أجلدهم وأشجعهم، فهال ذلك أبا جعفر واستشار أبا مسلم فقال: الرأي أن تعاجله ولا تتأنى به، وكان عبد الله بن علي في مائة ألف مقاتل ومائة ألف من الفعلة، وحفر الخندق من جبل نصيبين إلى نهرها، وجعل فيه ما يحتاج إليه من العدة والآلة، ونصب المجانيق والعرّادات وبث الحسك، وسد الطريق على من يقصده من العراق، وجعل الخصب والقرى وراءه. ولما وجه أبو جعفر المنصور أبا مسلم الخراساني قال له: أيها الرجل إنما هو أنا أو أنت. فإما أن تسير إلى الشام، فتصلح أمرها أو أسير أنا. قال أبو مسلم: بل أسير أنا. فاستعد في اثني عشر ألفا من أبطال جنود خراسان، حتى إذا وافى الشام انحاز إليه من كان بها من الجنود جميعهم، وبقي عبد الله بن علي وحده، فعفا أبو مسلم عنه، ولم يؤاخذه بما كان منه وقيل: بل أسيره وحمله إلى أبي جعفر، فخلده الحبس إلى أن مات، وهذا هو الأصح، وأبو مسلم من أقرب الناس إلى سفك الدماء، وقد قتل في دولته ستمائة ألف إنسان، ولكنه تحامى أن يقتل عم الخليفة، واكتفى من عقوبة الثائر بالاستيلاء على خزائنه، وكانت عظيمة، لأنه استولى كما تقدم على ذخائر خلفاء بني أمية ونعمتهم، وذلك بعد حروب كثيرة في أرجاء نصيبين في الموضع المعروف بدير الأعور، وصبر الفريقان شهورا على حروبها. ومع هذا تعاقب على حلب كثير من ولد عبد الله بن علي بن العباس نحو مائة سنة. وكان هوى أهل الشام مع عبد الله بن علي يوم قام على المنصور، فلما هزم عبد الله عفا المنصور عن الشاميين، وكان العباسيون كالأمويين يولون في مبدإ أمرهم الولايات لآل بيتهم وأولياء عهد الخلافة.

نزع اللبنانيين والفلسطينيين طاعة العباسيين:

نزع اللبنانيين والفلسطينيين طاعة العباسيين: ومن كوائن هذا الدور ما وقع في سنة 135 من نهب المقدم الياس في لبنان البقاع ونهب قراها وأهلها، فأرسل والي الشام من قبل أبي العباس إليه رسلا لعقد الصلح، ثم هاجمه في قرية المرج وقتله، وبعد رجوع عسكر الشام، رجع أصحابه ودفنوه بقرب الجامع الذي في القرية. ثم أقيم مقدما على الجيش سمعان ابن أخت المقتول فسارت إليه عساكر الشام، وكانت الحرب بينهم في قرية الشوير، فانكسر العسكر الشامي وارتد راجعا، ودام القتال على ما في تواريخ الموارنة بين عساكر المسلمين ونصارى تلك الكورة مدة طويلة. ويقول البلاذري: إنه خرج قوم بجبل لبنان شكوا عامل خراج بعلبك، فوجه صالح بن علي من قتل مقاتلتهم وأقر من بقي منهم على دينهم، وردهم إلى قراهم، وأجلى قوما من أهل لبنان. وقد كتب الإمام الأوزاعي إلى صالح رسالة طويلة في تخطئته في طريقته التي سار عليها في مقاتلة اللبنانيين، حفظ منها ما يأتي: وقد كان من إجلاء أهل الذمة من جبل لبنان، ممن لم يكن لهم ممالئا لمن خرج على خروجه، ممن قتلت بعضهم ورددت باقيهم إلى قراهم، ما قد علمت، فكيف تؤخذ عامة بذنوب خاصة، حتى يخرجوا من ديارهم وأموالهم؟ وحكم الله تعالى أنْ لا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وهو أحق ما وقف عنده، واقتدي به وأحق الوصايا أن تحفظ وترعى وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه قال: من ظلم معاهدا وكلفه فوق طاقته فأنا حجيجه. ثم ذكر كلاما. روى ابن عساكر أن الروم دخلوا طرابلس في زمان واليها رباح بن عثمان لصالح بن علي أمير الشام ومصر، ثم ظهر رجل من أهل المنيطرة، وذلك في سنة اثنتين أو سنة ثلاث وأربعين ومائة، وسمى نفسه الملك، ولبس التاج وأظهر الصليب واجتمع عليه أنباط جبل لبنان وغيرهم، ثم استفحل أمرهم فسبوا بعض قرى البقاع، فقتلوا المسلمين وأخذوا ما وجدوا وكتب بندار

قيس ويمن والفتن الداخلية والخارجية:

الملك إلى أهل بعلبك يعلمهم بمصيرهم ويأمرهم بقتالهم، فتأهبوا وقاتلوهم في أسفل جبل لبنان، ثم أظهروا الهزيمة فأمعنوا في الطلب، فلما بعدوا عن الجبل كرت عليهم خيل بعلبك، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وانهزم بقيتهم، ثم هاجموهم في قلعتهم فظهروا عليهم وامتلكوها منهم، وهرب بندار إلى ملك الروم، فكتب حينئذ صالح بن علي يأمر بإخراج من بقي في الجبل، وتفريقهم في كور الشام. وصالح بن علي من أعظم رجال العباسيين هو الذي كسر الروم في نوبة مرج دابق وكانوا في مائة ألف أو يزيدون. وبعد صالح بن علي وجه أبو جعفر المنصور محمد بن الأشعث إلى الشام، وكتب إليه أن يخرج عمال صالح بن علي، فجهزه وعقد له وضم إليه من قواده جماعة، وكتب أمير المؤمنين إلى صالح بن علي أن يسلم دمشق إلى محمد بن الأشعث، فأتاها فأقام بها مدة، ثم أتاه كتاب أمير المؤمنين يأمره أن يسير إلى الأردن ويخرج عمال صالح بن علي من الأردن والبلقاء وفلسطين فأخرجهم. قيس ويمن والفتن الداخلية والخارجية: وفي سنة 168 نقض الروم الصلح، فوجه علي بن سليمان وهو يومئذ على الجزيرة وقنسرين يزيد بن بدر في سرية إلى الروم، فغنموا وظفروا. ولم يغفل العباسيون عن غزو الروم الصوائف وغيرها على مثال بني أمية. وفي هذه السنة رد المهدي ديوان أهل بيته من دمشق إلى المدينة. ومن الفتن فتنة سنة 176 هاجت بدمشق بين المضريين واليمانيين، وكان على دمشق عبد الصمد، فسعى الرؤساء في الصلح فأجاب بنو القين، واستمهلت اليمانية ثم ساروا إلى بني القين وقتلوا نحو ستمائة، فاستنجدت بنو القين قضاعة وسليحا فأبوا، فاستنجدوا قيسا فساروا معهم إلى الصواليك، من أرض البلقاء، فقتلوا من اليمانية ثمانمائة، وكثر القتل منهم، ثم عزل الرشيد عبد الصمد عن دمشق، وولاها إبراهيم بن صالح، وكان هواه مع اليمانيين، واستخلف إبراهيم على دمشق ابنه إسحاق فحبس جماعة من قيس وضربهم، ثم وثبت غسان برجل من ولد قيس العبسي فقتلوه، واستنجد

أخوه بالزواقيل اللصوص من حوران فأنجدوه، وقتلوا من اليمانية نفرا. قال ابن كثير في حوادث سنة 176 إنه وقعت فتنة بين النزارية واليمانية، وهذا كان بدء العشران بحوران وهم قيس ويمن، أعادوا ما كانوا عليه في الجاهلية في هذا الأوان، فقتل منهم بشر كثير، فلما تفاقم الأمر بعث الرشيد من جهته موسى بن يحيى ومعه جماعة من القواد ورؤوس الكتاب، فأصلحوا بين الناس وهدأت الفتنة، واستقام أمر الشام، وحملوا جماعات من رؤساء الفتنة إلى مدينة السلام، فرد أمرهم الرشيد إلى عامله خالد فعفا عنهم وأطلقهم ففي ذلك يقول بعض الشعراء: قد هاجت الشام هيجاً ... يشيب رأس وليده وصبّ موسى عليها ... بخيله وجنوده فدانت الشام لما ... أتى نسيج وحيده دامت هذه الفتنة نحو سنتين، وسببها فيما قيل أن رجلا من بني القين قطع بطيخة من حائط بالبلقاء لرجل من لخم أو جذام. وفي رواية أن الفتنة لما هاجت بالشام بين النزارية واليمانية، وولى الرشيد سنة 176 موسى بن يحيى الشام جميعه، أقام به سنتين حتى أصلح بينهم. قال ابن الأثير: إن سبب هذه الفتنة بين المضرية واليمانية، ورأس المضرية أبو الهيذام عامر بن عمارة أحد فرسان العرب المشورين، أن عاملا للرشيد بسجستان قتل أخاً لأبي الهيذام فخرج أبو الهيذام بالشام وجمع جمعا عظيما. وهذا السبب أرجح إذ لا يعقل أن تنشب الفتنة بين قبيلين من أجل بطيخة قطعت من بستان. أما أبو الهيذام فاستولى على دمشق، وقاتل في قومه فهزم أكثر الجيوش التي قابلته، وكان معه فريق كبير من أعراب الشام. وفي سنة 180 تفاقم أمر هذه الفتن، فعقد الرشيد، أيام عصيبة أبي الهيذام، لجعفر بن يحيى البرمكي على الشام، فأتاهم وأصلح بينهم وقتل المتلصصة منهم، ولم يدع بها محاربا ولا فارسا، فعادوا إلى الأمن والطمأنينة وقال بعض الشعراء في ذلك:

الحمصيون وفتنة السفياني:

لقد أوقدت بالشام نيرانُ فتنةٍ ... فهذا أوان الشام تخمد نارها إذا جاش موج البحر من آل جعفرٍ ... عليها جنت شهبانها وشرارها رماها أمير المؤمنين بجعفرٍ ... وفيه تلاقي صدعها وانجبارها رماها بميمون النقيبة ماجدٍ ... تراضى به قحطانها ونزارها وفي سنة 187 ثارت العصبية أيضاً بالشام بين المضرية والنزارية وجمعوا جموعاً كثيرة، وكانت بينهم في ذلك فتن قتل فيها من المضرية نحو من خمسمائة، والوالي على دمشق شعيب بن حازم، قال ابن عساكر: وذكروا منه تعصباً فوجه أمير المؤمنين الرشيد محمد بن منصور بن زياد إلى أهل دمشق، وأمره بدعاء الفريقين جميعاً إلى الرجوع عما هم عليه، على أن يحمل من بيت ماله ما كان بينهم من الدماء ويعفو عنهم ويولي من أحب الفريقان، فاطفئت الفتنة. وفي سنة 881 كان غزو إبراهيم بن جبريل الصائفة، أدرب من درب الصفصاف فيما ذكر أربعون ألفاً وسبعمائة. الحمصيون وفتنة السفياني: وفي سنة 190 وثب أهل حمص بواليهم فخرج الرشيد نحوهم، فلما صار بمنبج لقيه وفدهم يعطون بأيديهم فعفا عنهم. وفي سنة 191 خرج أبو النداء بالشام، فوجه الرشيد في طلبه يحيى بن معاذ، وعقد له على الشام. وفيها نقض أهل قبرس العهد فغزاهم معيوف بن يحيى فسبى أهلها. وفي سنة 194 اختلف أهل حمص مع عاملهم إسحاق بن سليمان، فانتقل عنهم إلى سلمية فعزله الأمين، واستعمل مكانه عبد الله بن سعيد الحرشي، فقاتل أهل حمص حتى سألوا الأمان فأمنهم، ثم هاجوا فضرب أعناق عدة منهم. وفي سنة 195 أي في أيام الخليفة الأمين، ظهر بالشام السفياني علي بن عبد الله بن خالد بن يزيد بن معاوية الملقب بأبي العَمَيْطر كسفرجل لأنه زعم أنها كنية الحرذون فلقبوه به. وكان من بقايا بني أمية بالشام، ومن أهل العلم والرواية، فدعا إلى نفسه وسمي خليفة، وكان أصحابه يوم ادعى الخلافة يدورون في أسواق دمشق ويقولون للناس:

قوموا بايعوا مهدي الله. وكان يفتخر بقوله: أنا ابن شيخي صفين يعني عليّاً ومعاوية، لأنه كان ينتسب لبني أمية من جهة أبيه ولآل أبي طالب من جهة أمه، وكان أكثر أصحابه من كلب، وتعصب له اليمانية، وقاومه القيسية فنهب دورهم وأحرقها وقتلهم وفتك بأهل دمشق، وطرد منها سليمان بن أبي جعفر المنصور عاملها بعد حصره إياه، وكان عامل الأمين عليها، فلم يفلت منها إلا بعد اليأس، وأعانه الخطاب بن وجه الفُلس مولى بني أمية، وكان قد تغلب على صيدا، وقاومه محمد بن صالح بن بيهس الكلابي فخرج إلى قرية الحرجلة، فقتل من ظفر به من بني سليم ونهبها وأحرقها، وجعل يطلب من بدمشق من القيسية. وكان القرشيون وأصحابه من اليمن يمرون بالدار من دور دمشق فيقولون: ريح قيسي نشم من هذه الدار، فيضربونها بالنار، فهرب القيسية من دمشق، وكان من لم يبايعه سمَّر عليه بابه، وكان إذا خرج من الخضراء وهو راكب يمشي بين يديه خمسمائة رجل على رؤوسهم القلانس الشاميات وفي أيديهم المقارع. كتب أبو العَمَيْطر إلى ابن بَيهس الكلابي: بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد فالعجب كل العجب لتخلفك عن بيعة أمير المؤمنين، يعني نفسه وجحدانك نعم آبائه عليك، ولست ولا أحدٌ من سلفك إلا في نعمته، وأنت تعلم مكان حرمتك بقرية تلفياثا، وأن عشيرتك بالغوطة كرش منثورة، وأمير المؤمنين يحلف لك بالله لئن سمعت وأطعت، ليبلغن بك أقصى غاية الشرف، وليولينك ما خلف بابه، ولئن تخلفت وتأخرت ليبعثن إليك ما لا قبل لك به من الزحوف، التي تتلوها الحتوف، بشاهد السلاح المعدّ لأهل الخلاف والمعصية. وقد بعث إليك أمير المؤمنين شعراً فتدبره وكتب في أسفل كتابه: لئن كان هذا الجد منك لقد هوى ... بك الحَيْن في أهويّة غيرَ طائل أبعد اجتماع الشام سمعاً وطاعة ... إليَّ وإذلالي جميع القبائل وتوجيهيَ العمال في كل بلدةٍ ... وزحفي إليها بالقنا والقنابل رجوت خلافي أو تمنيت جاهلاً ... إزالة ملك ثابت غير زائل

فإن تعط سمعاً أو تعلقْ بطاعة ... تُقَلْ من ملمات شداد الزلزل وإن تعصِ لا تسلم وفي السيف واعظ ... لذي الجهل ما لم يتعظ بالرسائل فلم يجبه ابن بيهس على كتابه، وأقبل أبو العَمًيْطر على طلب القيسية فكتبوا إلى ابن بيهس، فاقبل إليهم في ثلاثمائة فارس من الضباب ومواليه، واتصل الخبر بأبي العميطر فوجه إليه يزيد بن هشام في اثني عشر ألفاً فاقتتلوا، فلم يزل القتل في أصحاب يزيد بن هشام حتى دخلوا أبواب دمشق، فبلغ القتلى ألفي رجل وأسر ثلاثة آلاف، فدعا بهم ابن بيهس فحلق رؤوسهم ولحاهم، وأحلفهم بأنهم يصيرون إلى باب أبي العَمَيْطَر فيصيحون نحن عتقاء ابن بيهس، فاشتدت شوكته وتوهن أمر أبي العميطر السفياني، فجعل ابن بيهس يغير كل يوم على ناحية فيقتل ويأسر. ولما فرغ ابن بيهس من حرب يزيد بن هشام، نزل قرية سكا، واجتمع إلى أبي العميطر وزراؤه فقالوا له: لا يهولنك محاصرة ابن بيهس إياك فإن الحرب سجال، فكتب أبو العميطر إلى السواحل والبقاع وبعلبك وحمص فأتاه خلق عظيم، واشتبكت الحرب بين شبعا وقرحتا وتقاتلوا قتالاً طويلاً. واجتمعت نمير على مسلمة بن يعقوب، وبذلوا له البيعة بالخلافة، فقبل منهم وجمع مواليه ودخل على السفياني أبي العميطر في الخضراء فقبض عليه وقيده، وقبض على رؤساء بني أمية فبايعوه وأدنى قيساً وجعلهم خاصته. وجمع ابن بيهس رؤساء بني نمير فقال لهم: قد كان من علتي ما ترون فارفقوا ببني مروان بن الحكم وألطفوا بهم، وعليكم بمسلمة بن يعقوب فبذل له بنو نمير البيعة. وبعث مسلمة إلى رؤساء بني أمية عن لسان أبي العَمَيْطر يأمرهم بالحضور فجعل كل من دخل يقال له: بايع، والسيف على رأسه فيبايع. وأدنى مسلمة القيسية، ولبس الثياب الحمر، وجعل أعلامه حمراء، وأقطع بني نمير ضياع المرج، وجعل لكل رجل من وجوه قيس بمدينة دمشق منزلاً وولاهم، ثم أقبل ابن بيهس حتى نزل قرية شبعا وأصبح منها غادياً إلى دمشق، وصاح الديدبان بالسلاح، وخرج مسلمة وخرجت معه القيسية، فتقاتلوا ذلك اليوم مع

مسلمة قتالاً شديداً وكثرت الجراحات في الفريقين، وانصرف ابن بيهس وخاف القيسية على أنفسهم، وذهبوا إلى ابن بيهس وأحكموا الأمر معه، وصبح دمشق بالخيل والرجالة والسلالم، ونشب القتال وصعد أصحاب ابن بيهس السور بناحية باب كيسان فلم يشعر بهم أصحاب مسلمة، واستولى ابن بيهس على دمشق لعشر خلون من المحرم سنة ثمان وتسعين ومائة، ولم يزل يحارب أهل المزة وداريا وبيت لهيا إلى أن صالحه أهل بيت لهيا، وأقام على حرب أهل المزة وداريا وهو مقيم بدمشق أميراً متغلباً عليها، إلى أن قدم عبد الله بن طاهر دمشق سنة ثمان ومائتين وخرج إلى مصر ورجع إلى دمشق سنة ست عشرة ومائتين، وحمل ابن بيهس معه إلى العراق. وولى الأمين 196 عبد الملك بن صالح بن علي على الشام، وأمره بالخروج إليها. وفرض له من رجالها جنوداً يقاتل بها طاهراً وهرثمة. وعبد الملك هذا هو الذي كان يقول في أهل الشام: قوم قد ضرستهم الحروب وأدبتهم الشدائد، وإن أهل الشام أجرأ من أهل العراق، وأعظم نكاية في العدو. ووقعت فتنة في عسكره بين الخراسانيين وأهل الشام وكثر القتل، وأظهر عبد الملك النصرة للشاميين، وانتصر الحسين بن علي للخراسانيين وتنادى الناس بالرجوع، فمضى أهل حمص وقبائل كلب فانهزم أهل الشام واتصلت الحروب 198 بين سكان الشام وجماعة العباسيين، وكان يعقوب بن صالح الهاشمي يحارب الحاضر حاضر حلب، فلم يبق منهم وافترقوا أيدي سبا، فصار أكثرهم إلى مدينة قِنَّسْرين، وضرب يعقوب الحاضر وكان فيه عشرون ألف مقاتل. وذكر المسعودي أن عبد الملك بن صالح توفي بالرقة سنة 197، وكان العامل على الجزيرة وجند قنسرين والعواصم والثغور، واضطربت البلدان بعد وفاته، وتغلب كل رئيس قوم عليهم، وصار الناس حزبين، حزب يظاهر بمحمد، وحزب يظاهر بالمأمون، فلم يبق بلد إلا وفيه قوم يتحاربون، لا سلطان يمنعهم ولا شيء يدفعهم. ولما أفضت الخلافة إلى المأمون كان بقورس وما والاها من كور العواصم العباس بن زفر الهلالي، وبالحيار وما والاها من كور قِنسرين عثمان بن عثامة العبسي،

فتنة نصر بن شبث:

وبالحاضر الذي إلى جانب حلب منيع التنوخي. وقد كان يعقوب بن صالح الهاشمي يحارب الحاضر، فهرب أهل قنسرين، وكان بمعرة النعمان وتل منس وما والاها من إقليم حمص الحواري بن خيطان التنوخي. وبحماة وما والاها حراق البهرائي، وبشيزر وما والاها بنو بسطام، وبمدينة حمص بنو السمط، وأقام بدمشق والأردن وفلسطين جماعة من رؤساء القبائل حتى ولى المأمون عبد الله بن طاهر. ولم تكد الشام تستريح من فتنة أبي العميطر حتى قام في أول عهد المأمون بدمشق رجل من بني أمية أيضاً، أسمه سعيد بن خالد الأموي العثماني الفدّيني، وادعى الخلافة، قام بعد أبي العميطر وأغار على ضياع بني شهيب شرنبث؟ السعديين، وتطلب القيسية وقتلهم، وتعصب ليمن، فجهز له محمد بن صالح ابن بيهس أخاه يحيى بن صالح، فلما صار بالقرب من حصنه المعروف بالفدّين هرب، فوقف يحيى حتى هدمه وخرب زيزاء، وتحصن سعيد في قرية ماسوح، ثم إنه جمع عليه جمعاً عظيماً زهاء عشرين ألفاً، فلم يجد محاربه إلى أن أجلاه عن مكانه وصار بعد ذلك إلى حسبان وفيه حصن حصين، فأقام به وتفرق عنه أصحابه. فتنة نصر بن شبث: وهكذا لم يخل عهد السفاح والمنصور والمهدي والهادي والرشيد والأمين والمأمون من خلفاء بني العباس من فتن في هذه الديار، وبقيت نار العصبيات تتأجج. واليمانيون مع الأمويين، والقيسيون مع العباسيين، والدعوة للسفياني الذي وعد بإرجاع ملك بني أمية تهب وتنام، وقد ابتدأت أوائل خلافة المأمون بشيء من هذا القبيل. فقد عصى عليه نصر بن شبث العقيلي، وكان يسكن كيسوم شمالي حلب، وكان في عنقه بيعة للأمين وله فيه هوى، فلما قتل الأمين أظهر نصر الغضب وتغلب على ما جاوره من الكور، وملك سميساط واجتمع عليه خلق كثير من الأعراب وأهل الطمع وقويت نفسه، وعبر الفرات إلى الجانب الشرقي،

المأمون وحكمه على قيس ويمن:

وحدثته نفسه بالتغلب عليه. فلما رأى الناس ذلك منه كثرت جموعه وزادت عما كانت عليه وقوي أمره 199 بالجزيرة وأتاه نفر من شيعة الطالبيين فقالوا: قد وترت بني العباس وقتلت رجالهم، وأعلقت عنهم العرب فلو بايعت لخليفة كان أقوى لأمرك فقال: من أي الناس؟ قالوا: نبايع لبعض آل علي بن أبي طالب فقال: أبايع أولاد السوداوات، فيقول إنه خلقني ورزقني. قالوا: فنبايع لبعض بني أمية فقال: أولئك قد أدبر أمرهم والمدبر لا يقبل أبداً، ولو سلّم عليّ رجل مدبر لأعداني بإدباره، وإنما هواي في بني العباس، وإنما حاربتهم محاماة عن العرب لأنهم يقدّمون عليهم العجم. قوي أمر نصر فأرسل عليه المأمون أحد عظام قواده طاهر بن الحسين فلقيه نصر وكسره، فسير إليه المأمون عبد الله بن طاهر القائد العظيم ابن ذاك القائد العظيم، فحصره في كيسوم من مدن العواصم وأخذه بعد وقائع كثيرة، واحتوى على الشام جميعه وهدم عدة أسوار من المدن المجاورة لحلب ومنها كيسوم. وسار عبد الله بن طاهر يستقري الشام بلداً بلداً، لا يمر ببلد إلا أخذ من رؤساء القبائل والعشائر والصعاليك اللصوص، وهدم الحصون وحيطان المدن، وبسط الأمان للأسود والأبيض والأحمر وضمهم جميعاً، ونظر في مصالح البلدان، وحط عن بعضها الخراج، فلم يبق مخالف ولا عاص إلا خرج من قلعته وحصنه، وعاد عبد الله بن طاهر إلى مدينة السلام يحمل معه المتغلبين على الشام، أمثال ابن السرج وابن أبي الجمل وابن أبي الصقر، ودام عصيان نصر خمس سنين. المأمون وحكمه على قيس ويمن: لم يطفئ الفتنة التي أثارها نصر بن شبث في الشمال والتي أثارها غيره

في الوسط والجنوب غير أعاظم قواد بني العباس، أطفئوها بالعقل والتؤدة، وقد رأينا أن عصبية الأمويين لم تنقطع على شدة العباسيين في استئصالها، وكان كل حين يثور ثائر باسم السفياني، ويثور معه جماعته ولا سيما من أهل القرى والبوادي. وكانت الأحوال أخذت تهدأ على عهد الرشيد والمأمون، فتفرغا لإجراء الإصلاح. وكان الرشيد تولى شمال الشام أيام كونه ولياً للعهد، والمأمون زار الشام ثلاث مرات يقيم فيها نصاب العدل، ويوطد دعائم المدينة، وعدّ عهده أبيه من أجمل عصور التاريخ الإسلامي. المأمون الخليفة العادل، وممثل التسامح المحمدي العجيب، ومحكّم العقل في أحكامه ومعتقداته، وقلما اجتمعت صفات كصفاته وعقل كعقله وعلم كعلمه لخليفة من خلفاء الإسلام. وكأن ما وقع في أوائل عهد العباسيين من الغوائل التي غالت أهل البوادي والحواضر في هذه الديار كان عقوبة لأهلها عما قدمت أيديهم من خيانة عهد بني أمية ونفض أيديهم من مروان بن محمد لأول ظهور قوة خصمه وإدبار الأمر عنه، حتى قاتلوه وطاردوه، على مثل ما قاتله جيش خراسان العباسي وزيادة، فتعجلوا انقراض دولة الأمويين معلقين آمالهم على الدولة الفتية. ولذلك زعم بعضهم أن الملك في الشام لا يثبت، لعدم الثبات المغروس في فطرة أهله، ولتلون الطبائع فيه تلوّن أقاليمه وسمائه وهوائه. وكان من أثر العادة التي حملها العرب معهم من جزيرتهم، وهي عادة الغزو المتأصلة في غير سكان المدن، أن نشبت الثورات وكثر قتل الأنفس وغرست هذه الاضطرابات في أرض الشام فنمت، خصوصاً وجبالها أكثر من سهولها على الأكثر، وتصلح للدفاع والهزيمة والاستمرار على المشاكسة لصاحب القوة. بالغ العباسيون في إهراق الدماء لأول أمرهم، وقضوا على آثار بني أمية، وهي كثيرة جداً، ومع ذلك كان اسم الأموي والسفياني يرنّ في الآذان، والمستعدون للثورة يمتشقون الحسام عند أول داعية يسمعهم صوته، أو ثائر يستتبع الناس ويعدهم الوعود الخلابة. نعم إن التنازع بين القيسيين واليمانيين كان في هذا القرن على أشد حالاته، وهذه العداوة

سبب تباغض النزارية واليمانية وحكمة حكيم:

بين الفريقين العظيمين من العرب أضرت ضرراً بالغاً. وكان القيسيون حزب العباسيين على الأغلب واليمانيون حزب الأمويين والمنافسة بينهما على الملك والسلطان. تعرض رجل للمأمون بالشام مراراً فقال له: يا أمير المؤمنين انظر لعرب الشام كما نظرت لعجم أهل خراسان فقال: أكثرت عليّ يا أخا أهل الشام، والله ما أنزلت قيساً من ظهور الخيل إلا وأرى أنه لم يبق من مالي درهم واحد، وأما اليمن فوالله ما أحببتها ولا أحبتني قط. وأما قضاعة فسادتها تنتظر السفياني وخروجه فتكون من أشياعه، وأما ربيعة فساخطة على الله منذ بعث نبيه من مضر، ولم يخرج اثنان إلا خرج أحدهما ثائراً، أعزب فعل الله بك. سبب تباغض النزارية واليمانية وحكمة حكيم: تأصلت البغضاء بين النزارية واليمانية منذ كان للعرب في الشام سلطان. وكثيراً ما تظهر بوادر هذه العداوة لسبب تافه. فقد ذكروا أن الكميت الشاعر المعروف، مدح النزارية فأفحش في مدحه، ففخروا بذلك على اليمانية، وأغدق بنو هاشم المال على الكميت مكافأة له، وقام دعبل الخزاعي يمدح اليمانيين ويعيب غيرهم، فكان هذا أول الشنآن بين النزارية واليمانية، ومنها تخرب الناس بالمناقب وثارت بينهم في البدو والحضر، إلى أن قام محمد الجعدي متعصباً لقومه، فانحرف الناس للدعوة العباسية وتقلقل الأمر إلى انتقال الدولة من بني أمية إلى بني هاشم، ولم يبق معهم إلا من فرّ بنفسه مستخفياً. وكان رجال الإدارة والسياسة إذا أحبوا نشر العدل بين هذين الحيين العظيمين من أحياء العرب يتعذر عليهم ذلك إلا بغمط حقوق الفريق الثاني، ولذلك عدّ من حسن سياسة إبراهيم بن محمد المهدي المنبوز بأبن شكلة الهاشمي أخي الخليفة الرشيد لما ولي دمشق، ما اتخذه أو ابتدعه من طريقة

جديدة أرضى بها قيساً ويمناً، فإنه لما جاء غوطة دمشق وافاه الحيان من مضر ويمن، فلقي كل من تلقاه بوجه واحد، فلما دخل المدينة أمر حاجبه بإحضار وجوه الحيين وأمره بتسمية أشرافهم، وأن يقدم من كل حي الأفضل فالأفضل منهم، وأن يأتيه بذلك، فلما أتاه به أمر بتصيير أعلى الناس من الجانب الأيمن مضرياً، وعن شماله يمانياً، ومن دون اليماني مضري، ومن دون المضري يماني، حتى لا يلتصق مضري بمضري، ولا يماني بيماني، فلما قدم الطعام قال قبل أن يطعم شيئاً: إن الله عز وجل جعل قريشاً موازين بين العرب فجعل مضر عمومتها، وجعل يمن خؤولتها وافترض عليها حب العمومة والخؤولة، فليس يتعصب قرشي إلا للجهل بالمفترض عليه. ثم قال: يا معشر مضر كأني بكم وقد قلتم إذا خرجتم لإخوانكم من يمن: قد قدَّم أميرنا مضر على يمن، وكأني بكم يا يمن قد قلتم وكيف قدمكم علينا، وقد جعل بجانب اليماني مضريا، وبجانب المضري يمانيا، فقلتم: يا معشر مضر إن الجانب الأيمن أعلى من الجانب الأيسر، وقد جعلت الأيمن لمضر والأيسر ليمن، وهذا دليل على تقدمته إيانا عليكم. ألا إن مجلسك يا رئيس المضرية في غد من الجانب الأيسر ومجلسك يا رئيس اليمانية في غد من الجانب الأيمن. وهذان الجانبان يتناوبان بينكما يكون كل من كان في جهته متحولا عنه في غده إلى الجانب الآخر. فانصرف القوم وكلهم حامد. وهذا من ألطف أساليب السياسة واستمالة القلوب بدون خسارة. فافتخر إبراهيم بن المهدي بقوله: ما أعلم أحدا ولي جند دمشق فسلم من لقب يلقبه به أهل ذلك الجند غيري، وذلك أن كل ملقب ممن ولي إمرة الشام، لم يكن إلا ممن ينحرف عنه من اليمانية أو المضرية، فكان إن مال إلى المضرية لقبته اليمانية، وإن مال إلى اليمانية لقبته المضرية، فعاملهم إبراهيم معاملة واحدة في الاجتماع وقضاء المصالح. فكانت الحاجة تعرض لبعض الحيين فيسأل قبل أن يقضيها له، هل لأحد من الحي الآخر حاجة تشبه حاجة السائل، فإذا عرفها قضى الحاجتين في وقت واحد. قال: فكنت عند الحيين محمودا لا أستحق عند واحد منهم ذمّاً

قيس ويمن وفتنة المبرقع:

ولا عيباً ولا نبزاً أنبز به. وقال إبراهيم: إنه ولي دمشق سنتين ثم أربع سنين بعدهما لم يقطع على أحد في عمله طريق. وأخبر أن الآفة كانت في قطع الطريق في عمل دمشق من ثلاثة نفر: دعامة والنعمان موليان لبني أمية، ويحيى بن أرميا من يهود البلقاء، وأنهم لم يضعوا أيديهم في يد عامل قط، فكاتبهم فارعوى الاثنان وأبى الثالث أداء الجزية فقتل في معركة، وساد الأمن في القطر. ولكن هذه السياسة لم يجر العمل بها دائما، فقد ذكروا أن إبراهيم ابن صالح والي دمشق في خلافة الرشيد لما خرج منها في الوفد الذي قدم به على الرشيد استخلف ابنه إسحاق على دمشق، وضم إليه رجلا من كندة يقال له الهيثم بن عوف. فغضب الناس وحبس رؤساء من قيس، وأخذ أربعين رجلا من محارب فضربهم وحلق رؤوسهم ولحاهم، وضرب كل رجل ثلاثمائة، فنفر الناس بدمشق وتداعوا إلى العصبية ونشبت الحرب ورجعوا إلى ما كانوا عليه من القتل والنهب فلم يزالوا على ذلك أشهراً. قيس ويمن وفتنة المبرقع: ولي دمشق بعد إبراهيم بن المهدي سليمان بن المنصور فانتهبه أهل دمشق وسبوا حريمه، وولي بعده منصور بن المهدي، وكانت على رأسه الفتنة العظمى ولم يؤد القوم طاعة بعد ذلك، إلى أن افتتح دمشق عبد الله ابن طاهر في سنة عشر ومائتين. ووقعت بدمشق فتن على عهد الأمين، وسببها على ما ذكروه أنه كان يعجبه البلور فدس عامله فأخذ له قلة دمشق من جامعها فلما شعر الدمشقيون قالوا: لا صلاة بعد القلة فصارت مثلا وافتتن الناس وامتدت فتنتهم، ولما ولي المأمون أرجع القلة إلى محلها. ولعل مسألة القلة أوجدها أنصار المأمون على الأمين حتى لا تبقى ناحية في المملكة إلا وتشعر بكراهة الأمين. وكتب المأمون في سنة 218 إلى عامله على دمشق في التقدم إلى عماله في حسن السيرة وتخفيف المؤونة وكف الأذى عن أهل محله. قال: فتقدم إلى عمالك في ذلك أشد التقدمة، واكتب إلى عمال خراجك بمثل ذلك. وكتب بهذا إلى جميع

عماله في أجناد الشام جند حمص والأردن وفلسطين. وفي أيام المعتصم 224 خرجت رجال دمشق على أبي المغيث الرافعي واليها في طلبهم محمد بن أزهر، وكان قد عاث في مرج دمشق ونفر أهلها وأجلاهم عنها، فخرج رجل من بني حارثة اسمه يزيد في جماعة وغيرهم من يمن، واجتمعت قيس بمرج دمشق وأقبل محمد بن أزهر، فلما صار إليهم خرجوا عليه وجرح وقتل من الجند خلق، ووثب ابن لمحمد بن صالح على بعض أمراء السلطان وأخذه في جماعة من قيس بحوران، وأقبل إلى مرج دمشق وصار مع يزيد وحاصر دمشق حصارا شديدا، وغلقت أبواب دمشق ولم يخرج أحد إلا اختطف. ولما مات المعتصم 227 ثارت القيسية بدمشق وعلى رأسهم ابن بيهس الكلابي فعاثوا وأفسدوا وحصروا أميرهم فبعث الواثق إليهم رجاء بن أيوب، وكانوا معسكرين بمرج راهط، فنزل بدير مران ودعاهم إلى الطاعة فلم يرجعوا، فواعدهم الحرب بدومة فوافاهم فقاتلهم فهزمهم وقتل منهم نحواً من ألف وخمسمائة، وقتل من أصحابه نحو من ثلاثمائة وهرب مقدمهم ابن بيهس وصلح أمر دمشق. وقال ابن عساكر: إن الذين ثاروا هم أهل الغوطة والمرج، ومن قرى الغوطة الثائرة كفر بطنا وجسرين وسقبا وقرى جرش ومن انضوى إليهم، وأصيب من ذلك جماعة كثيرة، وقاتلهم العامل في مجمع عسكرهم بكفر بطنا وهي لقيس، وثار الناس من النواحي، وقتلوا الأطفال وجرحوا النساء وهزمهم. وسار رجاء إلى فلسطين لقتال تميم اللخمي، ويعرف بأبي حرب ويلقب بالمبرقع الخارج بها في لخم وجذام وعاملة وبلقين، فقاتله فانهزم المبرقع وأخذ أسيراً سنة 227، وكان المبرقع من أهل الغور خلع الطاعة ودعا إلى نفسه فتبعه خلق كثير من الحراثين وغيرهم وقالوا: هذا هو السفياني المذكور أنه يملك الشام، واستفحل أمره جدا واتبعه نحو مائة ألف فأنفذ المعتصم إليه جيشا، فلما قدم الأمير رأى أمة كبيرة قد اجتمعت حوله، فخشي أن يناجزه والحالة هذه فانتظر حتى جاء وقت حرث الأرض، فتصرَّم عنه الناس إلى أرضهم، وبقي في شرذمة قليلة من

فتن أهلية وعصبيات حمصية ولبنانية ودمشقية

أصحابه فناهضه فأسره. وروى الطبري: أن سبب خروج المبرقع على السلطان أن بعض الجند أراد النزول في داره وهو غائب عنها وفيها إما زوجته وإما أخته، فمانعته ذلك فضربها بسوط أصاب ذراعها فأثر فيها، فلما رجع أبو حرب إلى منزله بكت وشكت إليه ما فعل بها وأرته الأثر الذي بذراعها من ضربه، فأخذ أبو حرب سيفه ومشى إلى الجندي وهو غارٌّ فضربه حتى قتله، ثم هرب وألبس وجهه برقعاً كي لا يعرف، فصار إلى جبل من جبال الأردن، ولما كثرت غاشيته من الحراثين استجاب له جماعة من رؤساء اليمانية وأرباب البيوت منهم. وروى أيضا أن خروجه كان في سنة 226 بالرملة وصار في خمسين ألفا من أهل اليمن وغيرهم، وأن القائد العباسي قاتله بالرملة فقتل من أصحابه في وقعتين خمسة وعشرون ألفاً حتى أسر. فتن أهلية وعصبيات حمصية ولبنانية ودمشقية وفلسطينية ومعرية: في سنة 231 جرى بين الأمير هانيء والمردة حروب في جبل لبنان، انتصر عليهم ولقب بالغضنفر أبي الأهوال، وبلغ خبره خاقان التركي خادم الرشيد، فكتب كتابا يشكره على ما فعل ويحثه على الحرب، ويخبره أنه بلغ حسن سلوكه إلى مسامع الخليفة. ومن أهم الأحداث في سنة 240 وثوب أهل حمص بعاملهم، فوجه المتوكل محمد بن عبدويه عاملا عليهم، فسكنهم وأقام بديارهم عدة شهور، ثم وثبوا فشغبوا عليه، فسكنهم ومكر بهم وأخذ جماعة منهم، فحملوا إلى باب المتوكل ثم ردوا إليه فضربهم بالسياط حتى ماتوا، وصلبهم على أبواب منازلهم، وتتبع رجال الفتنة فأفناهم. ووثب أهل دمشق بعامل المتوكل سالم بن حامد لظلمه وعسفه فيهم وقتله جماعة من أشرافهم ورؤسائهم، فقتلوه على باب الخضراء. قال ابن عساكر: إن سالما كان سيئ السيرة أذل قوما من أهل دمشق، كان بينه وبينهم طائلة ودماء في أول دولة بني العباس وآخر دولة بني أمية. وكان لبني بيهس ولجماعة من قريش دمشق وسائر العرب من

السكون والسكاسك وغيرهم قوة ونجدة، فقتلوه على باب الخضراء وقتلوا من قدروا عليه من رجاله، وسلطوا الموالي على رجالهم وأموالهم فسلبوها. وغضب المتوكل لمقتل عامله وقال: من لدمشق وليكن في صولة الحجاج؟ فقيل له: أفريدون التركي. فأمره وجهزه إليها في سبعة آلاف، وأحلَّ له القتل والنهب ثلاثة أيام، فنزل بيت لهيا فبات بها، فلما أصبح قال: يا دمشق إيش يحل بك اليوم مني. فقدمت له بغلة وهمَّ ليركبها، فلما وضع رجله في الركاب ضربته بالزوج في صدره، فسقط ميتاً. وبعد ثلاث سنين جاء المتوكل ليسكن دمشق هرباً مما كان يحاذره من شدته على العراقيين فنقل دواوين الملك إليها ثم رجع بعد أشهر وهناك قتل. وفي سنة 248 شغب أهل حمص على عاملهم أيضاً، فوجه الخليفة إليهم عاملاً آخر فأخذهم وقتل منهم خلقاً كثيراً، وحمل مائة رجل من عيونهم إلى سامرّا. وفي هذه السنة غزا الصائفة وصيف، وكان مقيماً بالثغر الشامي ثم دخل أرض الروم وفتح بعض الحصون. وفي السنة التالية كان غزو جعفر بن دينار الصائفة، فافتتح حصناً ومطامير، ثم غلب وقتل جماعة كثيرة من جيشه. وفي سنة 250 وثب أهل حمص بعاملهم فقتلوه، فوجه إليهم المستعين من حاربهم فهزمهم بين حمص والرّستن، وافتتح حمص وقتل من أهلها وفيهم خلق من نصارى المدينة ويهودها، فقتل مقتلة عظيمة وأحرقها. وكان المتوكل أمر بإخراج النصارى من حمص، لأنهم كانوا يعينون الثوار. ووثب أيضاً أهل حمص بعاملهم مرة أخرى فقتلوه. وخافوا عامل دمشق فزحفوا إليه فوجه إليهم بعسكر من البابكية وغيرهم فهزموهم وانصرفوا إلى حمص. وثاروا مرة فأرسل عليهم الخليفة عاملاً آخر فدخل بلدهم عنوةً وأباحها ثلاثة أيام وطرحت النار في منازلها. وكان الواثب بحمص العطيف بن نعمة الكلبي في خلق عظيم من عشيرته وغيرهم. وكثر وثوب أهل حمص، وبعبارة أعم، وثوب أهل جند حمص بعمالهم، لأنهم يمانية نزاع إلى الثورة، ونار الإحن بينهم وبين القيسية لا تزال موقدة، ثم إنه كان لهم من السكان

الأصليين من غير المسلمين من كانوا يحرضونهم على شق عصا الطاعة، فلذلك كثرت ثوراتهم وما برحوا يثورون حتى أيام المهدي. فقد ثاروا بمحمد بن إسرائيل، فخرج هارباً ولحقه ابن عكار، فكانت بينهما وقعة قتل فيها ابن عكار، ورجع ابن إسرائيل على البلد. وفي أيام المستعين وثب بالأردن رجل من لخم، فطلبه صاحب الأردن فهرب، فقام مكانه رجل يعرف بالقطامي وكثف جمعه، فجبى الخراج وكسر جيشاً بعد جيش أنفذهم إليه عامل فلسطين. فلم تزل هذه الحالة حتى قدم مزاحم بن خاقان التركي في جمع من الأتراك وغيرهم، ففرق جمعهم ونفاهم. ووثب بالمعرة المعروف بالقصيص وهو يوسف بن إبراهيم التنوخي فجمع جموعاً من تنوخ، وصار إلى مدينة قنسرين فتحصن بها، فلم يزل بها حتى قدم محمد المولد مولى أمير المؤمنين فاستماله، واستعمل عطيف بن نعمة وصار إليه، ثم وثب بعطيف بن نعمة فقتله، وهرب القصيص فصار إلى الجبل الأسود واجتمعت قبائل كلب بناحية حمص على الامتناع على المولد، فسار إليهم فواقعهم فكانت عليهم، ثم ثابوا عليه فهزموه وقتلوا خلقاً عظيماً من أصحابه، وانصرف إلى حلب في فلّه، ورجع القصيص إلى قنسرين والتحم مع كلب، وعزل المولد وولي أبو الساج الأشروسي وكتب إلى القصيص يؤمنه وصير إليه الطريق والبذرقة ثم ولاه اللاذقية ونحوها. وفي سنة 252 عقد لعيسى بن الشيخ بن السليل الشيباني على الرملة فأنفذ خليفته أبا الغراء إليها واستولى على فلسطين جميعها، وتغلب على دمشق وأعمالها وامتنع من حمل المال إلى العراق، فحمل ابن مدبّر، صاحب خراج مصر إلى العراق سبع مائة ألف وخمسين ألف دينار فنهبها عيسى بن الشيخ في الطريق. وفي سنة 256 عزل عيسى عن الشام، وولي أماجور الشام فسار واستولى عليه بعد قتال بينه وبين أصحاب عيسى على باب دمشق وانتصر أماجور واستقر، وكان عيسى يومئذ في زهاء عشرين ألفاً، وأماجور في مائتين إلى أربعمائة وقيل ألف، فتغلب قليله على كثير خصمه. وكان أماجور أميراً مهاباً، ضابطاً لعمله، حشماً شجاعاً،

الحكم على الدور الأول للعباسيين:

لا يتجاسر أحد على أن يقطع الطريق في جميع أعماله، وله في باب تأديب العصاة وسلبة الطرق حكايات أثرت عنه. الحكم على الدور الأول للعباسيين: مضت اثنتان وعشرون ومائة سنة على الشام بعد انقراض دولة بني أمية، وهو لا يخلو من فتن وتسمع فيها اسم السفياني والأموي العثماني أو غيرهم من أرباب العصبيات من العرب، قيس ويمن. فتن أهلية يثور بركانها، ثم يهمد إلى حين، ونزّاع إلى الملك والسلطان، ولم يسد السلام إلا على عهد الرشيد والمأمون وكانت الفتن في أيامهما لا شأن لها لأنهما كان يوليان على الشام أقدر رجالهما. والشاميون يرضيهم من الخلفاء حسن سياستهم، والنظر بعطف على مصالحهم. ولقد كانت الشام أوائل الفتح العباسي تتناوبها يدا عبد الله بن علي وصالح بن علي العباسيين وأولادهما، ثم أخذ عقلاء الخلفاء منهم يولون أولادهم واخوتهم شؤونها. فقد رأينا المهدي ولى ابنه هارون الرشيد أيام كونه ولياً للعهد ولاية قنسرين أو شمالي الشام، ورأينا الرشيد ولى أخاه إبراهيم بن المهدي دمشق، ورأينا الرشيد ندب أحد عظام رجاله يحيى البرمكي إلى دمشق، كما رأينا ابنه عهد إلى طاهر بن الحسين بولاية مصر والشام، وسوّغه خراج مصر سنة وهو ثلاثة آلاف ألف دينار ففرقه على الناس وهو على المنبر، ولم ينزل منه إلا وقد اقترض عشرة آلاف دينار ليعطيها لرجل جاء متأخراً والمصلحة تقتضي برّه. وقد رأينا حسن أثر السياسة التي اتبعها إبراهيم بن المهدي في وضع التوازن بين القيسيين واليمانيين في الشام، فدل على عقل راجح، وإرادة هاشمية قوية، وكان بسياسته حائلاً دون المشاغبات الباطلة، ونشر الأمن مدة ست سنين، وكانت الشام من قبل تأجج فيها نيران العصبيات الجاهلية. ولكن المتوكل الخليفة المحمق، أوسع مجال الخلف بينه وبين رعيته، وأكبر أمر فتنة حدثت في دمشق، فأباحها لعامله التركي، فأطلّ الشعب في بغداد دمه لخرقه، وهلك عامله قبل أن يباشر بجبروته فتكه

وسبيه ونهبه، على نحو ما ارتكب العمال قبله في المتوثبين على العمال من أهل حمص. وأهم الأغلاط التي ارتكبها المعتصم إدخال الأتراك في جنده، فكان الاعتماد عليهم في الجيش العباسي كالاعتماد على أهل خراسان الأعاجم لأول الفتح من أهم الدواعي في إغضاب العرب، فأدى هذا الإيثار إلى نزع الحكم من العباسيين، حتى دخل الوهن بدخول الأتراك على الدولة، فآضت الخلافة العباسية بصنيعهم اسمية دينية فقط لا تتعدى قرى بغداد إلا قليلاً، وغدا الحكم الفصل لمن قويت شكيمته من الدخلاء واستجاش الأنصار والأعوان. وبعد أن كانت بغداد ترسل إلى الشام أولاد خلفائها وأعاظم قوادها من الأصول أصبحت ترسل إليها من الفروع أفريدون التركي وخاقان التركي ومحمد المولد من الموالي فظهر الفرق في صورة الحكم، لأن الحكم كان في الغالب فردياً لا علاقة للجماعة به إلا إذا أحبّ صاحب الأمر استشارة أهل الرأي استشارة خاصة ودية وله الحرية أن يعمل بما ارتأوه، ولا أحد يكرهه على قبول رأيه. فمن ثم اقتضى أن يكون العامل في الغاية أصالة ونبالة وعلماً ونزاهة. أفضى هذا التساهل مع الأعاجم والاعتماد عليهم، إلى جر البلاء على الخلفاء من بني العباس، وبعد أن كانت وصية إبراهيم الإمام الذي مات في سجن مروان الجعدي إلى أبي مسلم الخراساني صاحب الدعوة: انظر إلى هذا الحي من اليمن فالزمهم، واسكن بين أظهرهم، فإن الله لا يتم هذا الأمر إلا بهم، واتهم ربيعة في أمرهم، وأما مضر فإنهم العدو القريب الدار، واقتل من شككت فيه وإن استطعت أن لا تدع بخراسان من يتكلم بالعربية فافعل، وأيما غلام بلغ خمسة أشبار واتهمته فاقتله أصبحت تفتح للأتراك أبواب دار الخلافة ولكل دخيل على العرب ولم يعد حكم لقيس ولا يمن بل للأعاجم من الفرس والترك والديلم. وفي أيام المأمون نشأت الدعوة الشعوبية أي الحط من قدر العرب وتفضيل العجم عليهم، فتبدلت روح الدولة، وأخذ العربي يبغض العجمي والعجمي ينال من العربي، منذ كانت السلطة لأبناء خراسان، أما بدخول

الأتراك فالمسألة بلغت أقصى حدودها الخطرة، وكادت مقاليد الخلافة تخرج من أبناء هاشم بعد عصر المعتصم. كانت مسألة دخول الأتراك في الدولة بادئ بدء لا شأن لها في الظاهر وهي أن المعتصم جمع الأتراك وشراهم من أيدي مواليه فاجتمع له منهم أربعة آلاف فألبسهم أنواع الديباج، والمناطق والحلية المذهبة، وأبانهم بالزي عن سائر جنوده واصطنع قوماً من اليمن وقيس وسماهم المغاربة وأعدّ رجال خراسان من الفراعنة وغيرهم والأشروسية فلما تم هذا كثرت شكاية الناس أولاً من إيذاء الأتراك لعوام بغداد، وكلما زادت الشكاية توغل الأتراك في جسم المجتمع العباسي. وحاول من جاء بعده مثل المعتز أن يتخلص منهم، ولكنهم كانوا تأصلوا في جسم الدولة وأفسدوا عليها أمرها، ولكل أجل كتاب.

ظهور الدولة الطولونية وانقراضها

ظهور الدولة الطولونية وانقراضها من سنة 254 إلى 292 بداية الطولونيين: ظهرت بوادر الضعف في العباسيين، وكادت تصبح سلطتهم اسمية، وخلافتهم دينية لا دنيوية، ساعد على ذلك اشتغال الخلفاء بعد المعتز بأنفسهم، وتغلب كثير من الأمراء على الأطراف، وأصبحت البلاد رهن أيدي المتغلبة من العمال، وكان معظم الخلفاء الأول إلى ما بعد المعتصم على غاية من العلم والأخلاق وحسن السياسة، ومن النادر أن يتسلسل هذا الرقي في الأخلاق في آل بيت واحد على اطراد جميل، كما تسلسل في بني هاشم لأول أمرهم، ولكن منهم من ساعدهم الطالع ومنهم من خانه، والسعادة أكثر من الشقاء في الجملة. وبينما كانت دولة الأمويين في الأندلس في إبان عزّها في القرن الثالث، كانت دولة العباسيين تضطرب وتضيق بقعتها في هذا الشرق القريب، خصوصاً في النصف الثاني من المائة الثالثة، وعمال فارس ومصر والشام وغيرها يقطعون الخراج عن دار الملك، ويستبدون بالأمر، وليس للخليفة العباسي إلا الخطبة والسكة، وقد يقرن المتغلب على قطر اسمه إلى اسم الخليفة في الدعاء، ويضرب السكة باسمه أو باسميهما معاً. وكانت الدولة إلى هذا العهد لا تقوم لها قائمة إلا إذا جمعت بين السلطتين الدينية والدنيوية، فإذا ضعفت إحداهما في القائم بأمر المسلمين، أصاب القوة الثانية ضعف عطلها عن العمل النافع.

أحمد بن طولون وسيما الطويل وأحداث أخرى:

وكلما اعتمد خلفاء بني العباس على الأعاجم، في ولاية عمالاتهم ومقاطعاتهم وقيادة جيوشهم، كانت الدولة العباسية تقترب من الانقراض، فسدت عصبية العرب كما قال ابن خلدون في بني العباس لعهد دولة المعتصم وابنه الواثق، لاستظهارهم بالموالي من العجم والترك والديلم والسلجوقية أي التركمان وغيرهم، ثم تغلب الأولياء على النواحي، وتقلص ظل الدولة، فلم تكن تعدو أعمال بغداد حتى زحف إليها الديلم وملكوها وصار الخلائف في حكمهم. وقال المقريزي: اختص المعتصم الأتراك ووضع من العرب وأخرجهم من الديوان وأسقط أسماءهم ومنعهم العطاء، وجعل الأتراك أنصار دولته وأعلام دعوته، وكان من عظمت عنده منزلته قلده الأعمال الجليلة الخارجة عن الحضرة، فيستخلف على ذلك العمل الذي تقلده من يقوم بأمره ويحمل إليه ماله ويدعى له على منابره كما يدعى للخليفة، وقصد المعتصم ومن بعده من الخلفاء بذلك العمل مع الأتراك محاكاة ما فعله الرشيد بعبد الملك بن صالح والمأمون بطاهر بن الحسين، ففعل المعتصم مثل ذلك بالأتراك فقلد اشناس، وقلد الواثق إيتاخ، والمتوكل بغا ووصيف، وقلد المهتدي أماجور وغير من ذكرنا من أعمال الأقاليم، فضعفت الدولة العباسية بعد الاستفحال، وتغلب على الخليفة فيها الأولياء والقرابة والمصطنعون، وصار تحت حجرهم من حين قتل المتوكل فتغلب على النواحي كل متملك. أحمد بن طولون وسيما الطويل وأحداث أخرى: وكان من أهم من فتوا في عضد الخلافة أحمد بن طولون في مصر والشام، وكان في ظاهره يظاهر الخليفة، فهو أول متغلب ظفر حقيقة بالانفراد بالسلطة، فما وسع العباسيين إلا مصانعته بعد أن حاولوا محاربته فعجزوا، كانت ديار مصر قد أقطعها بايكباك من قواد الأتراك وكان مقيماً بالحضرة أي في عاصمة الملك فاستخلف بها من ينوب عنها، وكان طولون والد أحمد بن طولون أيضاً من الأتراك ومن أنسبائه، وقد نشأ بعد والده على طريقة مستقيمة، وسيرة حسنة، فالتمس بايكباك من يستخلفه بمصر فأشير

عليه بأحمد بن طولون فولاه المعتز بالله سنة 254 مصر. وفي سنة 264 توفي أماجور بدمشق واستخلف ابنه علي، فحرك ذلك أحمد بن طولون على فتح الشام فكتب إلى عليّ يخبره بأنه سائر إليه وأمره بإقامة الأنزال والميرة لعساكره، فرد علي بن أماجور أحسن جواب، وخرج ابن طولون في المطوعة من مصر وفلسطين فبلغ الرملة فتلقاه محمد بن رافع خليفة أماجور عليها وأقام الدعوة بها فأقره عليها، ومضى إلى دمشق فتلقاه علي بن أماجور وأقام له بها الدعوة واحتوى على خزائن أماجور وأقام بها أحمد حتى استوثق له أمرها، ثم استخلف عليها احمد بن دوغباش، ومضى إلى حمص فلقيه عيسى الكرخي خليفة أماجور عليها فسلمها إليه، ثم بعث إلى سيما الطويل التركي وهو بإنطاكية يأمره بالدعاء له فلم يجبه سيما، فتحصن بإنطاكية في جيش من الأتراك وغيرهم، وامتنع، فحاصره أحمد ورمى حصنها بالمنجنيق، وطال حصاره لها فاشتد ذلك على أهلها فبعثوا إلى أحمد بن طولون فخبروه بالموضع الذي يمكنه أن يدخل إليها منه فقصده، وعاونه أهلها على سيما فدخلها في المحرم سنة خمس وستين ومائتين فقتل سيما واستباح أمواله ورجاله. وكان قبل نزول ابن طولون على إنطاكية 264 وقع بين سيما وبين أحمد المؤيد حروب كثيرة ببلاد جند قنسرين والعواصم، وكان سيما قد عم أذاه أهلها فعاث ابن طولون ساعة بإنطاكية ثم ارتحل يؤم الثغر الشامي، وبهذا استولى ابن طولون على الشام أجمع والثغور وامتد حكمه من مصر إلى الفرات، ومن مصر إلى المغرب، وكان ذلك مدة اشتغال لموفق أبي أحمد طلحة بن المتوكل بحرب الزنج. كان ابن طولون أول من اقتطع جزءاً من المملكة الإسلامية عن الخلافة، وجمع بين ملك مصر والشام في الإسلام، فكان لمن بعده من المستبدين بالنواحي قدوةً ومثالاً. وأخذ يستكثر من مشترى المماليك والديالمة حتى بلغت عدتهم أربعة وعشرين ألف مملوك وأربعين ألفاً من الزنج، واستكثر من العرب حتى بلغت عدتهم سبعة آلاف. وذكر بعض المؤرخين أن ابن طولون كان أعد بأمر الخليفة جيشاً مؤلفاً من مائة ألف إنسان لقتال أحد الخوارج على الخلافة في الشام، وكانت هذه الكتلة من

الجند سببا في قوته وسلطانه فأخذ ملك الروم يهاديه ويطلب رضاه لاتساع مملكته ومكانتها بين مملكة الشرق ومملكة الغرب الإسلاميتين، ولم يلبث أحمد بن طولون أن أخذ على الجند والشاكرية والموالي وسائر الناس البيعة لنفسه، على أن يعادوا من عاداه ويوالوا من والاه ويحاربوا من حاربه من الناس جميعاً. وانفرد بخراجها، وأدرك رجال السياسة في بغداد أن ابن طولون التركي لم يقضِ على دولة سيما الطويل التركي حباً بسواد عيون الخلفاء، بل ليستأثر بالأمر دونهم عندما تسنح الفرص. وكان ابن طولون لعدله وحسن سياسته يفضله الناس على بعض الخلفاء، وفي الحق أنه كان على جانب من العدل، وحسن السيرة، وعلو الهمة وبعد النظر، والتفكر في عمران مملكته حتى زاد خراجها، وكان هديه في ذلك هدي المعتصم العباسي، وكان هذا يحب العمارة ويقول إن فيها أموراً محمودة أولها عمران الأرض التي يحيى بها العالم، وعليها يزكو الخراج، وتكثر الأموال، وتعيش البهائم، وترخص الأسعار، ويكثر الكسب، ويتسع المعاش، وكان يقول لوزيره محمد بن عبد الملك: إذا وجدت موضعاً متى أنفقت فيه عشرة دراهم جاءني بعد سنة أحد عشر درهماً فلا تؤامرني فيه. فاستعان ابن طولون بما تدر عليه مصر من الخراج على تقوية سلطانه وكثرت صدقاته، وما يجريه على القراء والفقهاء، حتى كان يرسل كل سنة مائة ألف دينار لفقراء بغداد عدا كساوي الصيف والشتاء وعدا ما يرسل به إلى الثغور وإلى الحرمين. وجاء المعتضد إلى الخلافة وهو من أعقل خلفاء العباسيين فعرض عليه أبو الجيش خمارويه بن طولون أن يصهر إلى ولي عهد الخلافة ويزوجه ابنته قطر الندى، فقال الخليفة: بل أنا أتزوجها وقال: ما قصدت بهذا الزواج إلا إفقار بني طولون لأنهم يضطرون أن يجهزوها بجهاز لم تجهز به عروس من قبل، وكان الأمر كما قال، فإنها جهزت بما استفرغ خزائن صاحب مصر والشام. قيل: إنه كان في جهازها ألف هاون ذهبا. . وكانت قطر الندى من أجمل بنات عصرها، وأكثرهن أدباً وفضيلة. وقد عقد لها على المعتضد سنة 281 وشرط المعتضد على أبيها أن يحمل كل سنة بعد

القيام بجميع وظائف مصر وأرزاق أجنادها مائتي ألف دينار. وفي رواية أن المعتضد جعل لخمارويه الصلاو والخراج والصلاة وجميع الأعمال على أن يحمل في كل عام مائتي ألف دينار عما مضى، وثلاثمائة ألف للمستقبل، وأن وزير المعتضد عبيد الله بن سليمان سعى مع أبي الجيش خمارويه، على أن يقتصر على حمص ودمشق والأردن وفلسطين ومصر وبرقة وما والاها، وينجلي عما كان في يده من ديار مضر وقنسرين والعواصم وسقي الفرات والثغور، فأجاب إلى ذلك وكتب سجلاً أشهد فيه على المعتضد وعلى خمارويه. دام ملك أحمد بن طولون في مصر والشام اثنتي عشرة سنة، ومات لست عشرة سنة من ولايته مصر، ولولا سفكه الدماء لعدَّ بعدله وعقله وسخائه من أفراد العالم. ومن الأحداث في عهده ما وقع من العصبية بفلسطين 257 بين لخم وجذام فتحاربوا حرباً أخذت من الفريقين. وما وقع بين الأمير نعمان الذي حصن سور مدينة بيروت وقلعتها وبين المردة في لبنان من قتال على نهر بيروت دام أياماً حتى انهزموا، وقتل بعضهم وأسر بعضاً، فأرسل الرؤوس والأسرى إلى بغداد، فعرض الأمر على الخليفة وأكرموا رُسُله، وكتب المتوكل إليه كتاباً يمدح شجاعته ويحرضه على القتال، وأقره على ولايته هو وذريته، وأرسل له سيفاً ومنطقة وشاشاً أسود، وكتب إليه الموفق وغيره كتباً يمدحونه بها فاشتد أمره وعظم شأنه، وفي بعض الروايات أن القتال على نهر الكلب دام سبعة أيام، فانكسر عسكر المسلمين وقتل المقدم سمعان وأقيم مكانه خاله المقدم كسرى وهو الذي ذهب إلى القسطنطينية ثم عاد إلى بلاده، وكانت خربت من تواتر الغارات عليها فعمرها وسميت باسمه كسروان. ومنها خروج رجل من ولد عبد الملك بن صالح الهاشمي، يقال له بكار بين سَلَميْة وحلب وحمص فدعا سنة 268 لأبي أحمد الموفق، فحاربه ابن عباس الكلابي فانهزم الكلابي، ووجه إليه لؤلؤ صاحب ابن طولون قائداً في عسكر كثيف، فرجع وليس معه كثير أحد. ومنها مخالفة لؤلؤ غلام ابن طولون على مولاه سنة 269 وكان في يد لؤلؤ

عهد أبي الجيش خمارويه وجيشه:

حمص وقنسرين وحلب وديار مضر من الجزيرة وسار إلى بالس ونهبها، وكاتب ابن طولون الخليفة المعتمد في المصير إليه، فمنعه الموفق واشتد الخلاف بين الموفق ولي عهد الخلافة وبين ابن طولون، فخلع ابن طولون الموفق من ولاية العهد في مدينة دمشق وأقبل يلعنه على منابر مصر والشام والموفق يلعنه على منابر العراق وما إليها، وابن طولون يوهم أنه ينصر الخليفة. وفي سنة 269 غزا الصائفة من ناحية الثغور الشامية خلف الفرغاني عامل ابن طولون، فقتل من الروم بضعة عشر ألفاً وغنم الناس. وبلغ ابن طولون قدوم عرب من الحجاز إلى حوران، فأرسل إلى صحراء أذرعات نحو خمسين ألفاً فتلقاهم الأمير عامر الملقب بالأذرعي بخمسة عشر ألفاً فكسرهم. والأمير عامر هو من نسل الحارث بن هشام المخزومي، الذي أرسله الخليفة الثاني إلى الشام مع أبي عبيدة بن الجراح أميراً على بني مخزوم فسكن ولده حوران وتولوا الأعمال للأمويين، ثم للعباسيين وسموا ببني شهاب نسبة للأمير شهاب المخزومي والي حوران المتوفي سنة 173. عهد أبي الجيش خمارويه وجيشه: خلف أحمد بن طولون ابنه أبو الجيش خمارويه، وكان على قدم أبيه في الاستكثار من العَدد والعُدد وترتيب الرواتب الدارة والمشاهرات والجرايات لجيشه وغيره. وقد بلغ جيشه في الشام ومصر نحو أربعمائة ألف فارس على ما روى بعض أصحاب السير، وهو عدد مبالغ فيه كثيراً والغالب أن جيشه لم يتجاوز المائة ألف، ولا شك أن مثل هذا الجيش، وما يلحقه من الرجالة والمتطوعة تفتح به ممالك الخلافة العباسية كلها. وربما كان جيشه وجيش أبيه من قبله أول جيش جعل على الدوام تحت السلاح. ولما بايع الجند أبا الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون بعد وفاة أبيه، أمر بقتل أخيه العباس لامتناعه عن مبايعته، وعقد لأبي عبد الله أحمد الواسطي على جيش الشام، وعقد لسعد الأعسر على جيش آخر، وبعث بمراكب

في البحر لتقيم على السواحل الشامية، فنزل الواسطي فلسطين وهو خائف من خمارويه أن يوقع به لأنه كان أشار عليه بقتل أخيه العباس، فكتب إلى أبي أحمد الموفق يصغر أمر خمارويه ويحرضه على المسير إليه، فأقبل من بغداد وانضم إليه إسحاق بن كنداج ومحمد بن أبي الساج، ونزل الرقة فتسلم قنسرين والعواصم وسار إلى شيزر، فقاتل أصحاب خمارويه وهزمهم ودخل دمشق، فخرج خمارويه في جيش عظيم، فالتقى وأحمد ابن الموفق بنهر أبي فُطرس واقتتلا، فانهزم أصحاب خمارويه وكان في سبعين ألفاً وابن الموفق في نحو أربعة آلاف، واحتوى على عسكر خمارويه بما فيه ومضى خمارويه إلى الفسطاط، وأقبل كمين له، عليه سعد الأعسر، ولم يعلم بهزيمة خمارويه فحارب ابن الموفق حتى أزاله عن المعسكر وهزمه اثني عشر ميلاً ومضى إلى دمشق فلم يفتح له، وسار سعد الأعسر والواسطي، فملكا دمشق، وخرج خمارويه من مصر فوصل إلى فلسطين، ثم عاد إلى مصر، ثم خرج سنة 272 فقتل سعداً الأعسر ودخل دمشق. قال ابن عساكر: وسعد الأعسر ويقال الأعسر التركي ولي إمرة دمشق من قبل أبي الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون 272، ولما قتل في قصر نخلة فيما بين الرملة وبيت المقدس اضطرب الناس بدمشق. وكان سعد الأعسر قد فتح طريق الشام للحاج، لأن الأعراب كانوا قد تغلبوا على الطريق قبل ولايته، وكان قد بطل الحج من طريق الشام قبل ثلاث سنين، فخرج سعد إلى الأعراب وواقعهم وقتل منهم خلقاً عظيماً وفتح الطريق للحاج، وكانت وقائعهم في المحل المعروف بالقسطل، فأحبه أهل دمشق، واغتموا لقتله، فصاح الناس بدمشق وضجوا في المسجد الأموي ودعوا على من قتله، وافتتن البلد حتى وافاهم أبو الجيش ابن خمارويه فمهد الأمور وبعث إلى طريق الحاج من أصلحها، وفرق في دمشق مالاً عظيماً على الفقراء والمساكين والمستورين وأهل العلم، ومال إليه أهل دمشق وأحبوه. ولما تغلب الأعراب على بعض النواحي وجه

عهد جيش بن خمارويه وظهور القرامطة الطولونية:

إليهم طباره جي، فقتل منهم مقتلة عظيمة. ثم سار أبو الجيش خمارويه لقتال ابن كنداج، ثم اصطلحا وتظاهرا وكاتب خمارويه أبا أحمد الموفق في الصلح فأجابه إلى ذلك، وكتب له كتاباً بولاية خمارويه وولده ثلاثين سنة على مصر والشامات، أي أنه ولاه من الفرات إلى برقة، فأمر خمارويه بالدعاء لأبي أحمد الموفق، وترك الدعاء عليه بعد أن كان خلعه أبوه من ولاية عهد الخلافة. ثم بلغ خمارويه مسير محمد بن أبي الساج إلى أعماله الشمالية، فخرج إليه ولقيه في ثنية العقاب من دمشق فانهزم أصحاب ابن أبي الساج وثبت هو، فحاربه حتى هزمه أقبح هزيمة، واستبيح عسكره قتلاً وأسراً، واتبعه جيش إلى الفرات. وفي ذلك يقول البحتري: وقد تولت جيوش النصر منزلة ... على جيوش أبي الجيش بن طولونا يوم الثنية إذ ثنى بكرته ... خمسين ألفاً رجالاً أو يزيدونا عهد جيش بن خمارويه وظهور القرامطة الطولونية: وفي أيام خمارويه بن طولون استقامت شؤون الديار المصرية، ومع أن أيام المعتضد العباسي كانت أيام فتوق فقد حمدت سيرته. وليَ والدنيا خراب، والثغور مهملة، فقام قياماً مرضياً حتى عمرت مملكته، وكثرت الأموال، وضبطت الثغور، وكان قوي السياسة، شديداً على أهل الفساد، حاسماً لمواد أطماع عساكره عن أذى الرعية، محسناً إلى بني عمه من آل أبي طالب. وفي سنة 282 ذُبح أبو الجيش خمارويه في دمشق على فراشه، ولما بلغ المعتضد ذلك قتل من خدمة الذين باشروا قتله نيفاً وعشرين خادماً. وكان مقتل خمارويه في قصره بسفح قاسيون، بعد أن فتح الشام كله، ولم يسع الخليفة إلا إقراره على عمله والاكتفاء بمال يحمل إليه في بغداد، وخلفه ابنه جيش بن خمارويه فخلعه طغج بن جف أمير دمشق سنة 283 واختلف جيش جيشٍ عليه لتقريبه الأرذال وتهديده قواد أبيه، فثاروا عليه وقتلوه، ونهبوا داره ونهبوا مصر وأحرقوها، وأقعدوا هارون بن خمارويه في الولاية، وعصى هارون بن خمارويه على الخليفة، وبعد حروب

كثيرة عقد الصلح بين الخليفة العباسي وبين هارون سنة 286، فبقيت حلب للخليفة وما زالت الدولة بالفعل بالشام ومصر لبني طولون وبالاسم لبني العباس حتى سنة 292، وقد بعث المكتفي العباسي، مع محمد بن سليمان جيشاً فاستولى على دمشق، ثم سار إلى مصر وذبح بني طولون وهم عشرون إنساناً، ذبحهم بين يديه هم وقوادهم كما تذبح الشياه، وأشخص من أبقى عليه من آلهم وقوادهم إلى بغداد، فانقرضت بذلك الدولة الطولونية. لا جرم أن روح الطولونيين هي روح العباسيين تطورت بتطور الأقطار التي استولوا عليها. وعلى كثرة ما بذل الطولونيون من أسباب التقرب من خلفاء بغداد لم يسكت العباسيون عنهم. تقربوا إليهم بالصهر والأموال والطاعة فلم يرضوا عنهم. ولما قوي جيش العباسيين قرضوهم وقتلوا قوادهم. وفي استيلاء الطولونيون على الشام شعرت الأمة أنها مستقلة عن العباسيين، وأن في استطاعتها إذا جهزت لها جيشاً عظيماً كجيش أحمد ابن طولون وابنه خمارويه أن تستقل، لأن قوة بني العباس لم تعد كما كانت، بمعنى أن ابن طولون هتك ستر الخلافة، فطمع فيها عمال الأطراف. والدولة الطولونية دولة عمران، عمرت الأرجاء في أيامها، ورأت مصر والشام أنهما إذا ألفتا حكومة واحدة تصبحان دولة قوية يرهب بأسها. وقد أكثر الشعراء من رثاء الدولة الطولونية ومما قاله بعضهم: فمن يبك شيئاً ضاع من بعد أهله ... لفقدهم فليبك حزناً على مصر ليبك بني طولون إذ بان عصرهم ... فبورك من دهر وبورك من عصر

دور الدولة العباسية الأوسط

دور الدولة العباسية الأوسط الإخشيدية والحمدانية والفاطمية 292 - 364 القرامطة والبوادي والخوارج: اشتدت شوكة القرامطة 289 في الشام جاءوها من المطرق، وهزموا جيش طغج بن جف أمير دمشق للأمويين بوادي القردان والأفاعي ثم حاصروا دمشق فاجتمعت عليهم العساكر وقتلوا مقدمهم يحيى المعروف بالشيخ فقام في القرامطة أخوه الحسين وتسمى بأحمد وأظهر شامة بوجهه زعم أنها آيته فسمي بصاحب الشامة، وكثر جمعه فصالحه أهل دمشق على مال دفعوه، وتقرمط أكثر من حولها من أهل الغوطة وغيرها وعاضدوه، ثم انصرف عن دمشق إلى حمص فغلب عليها وخطبوا له من منابرها وتسمى بالمهدي أمير المؤمنين، ثم سار إلى حماة والمعرة وغيرهما وقتل أهلها حتى الأطفال والنساء وأخذ سلمية بالأمان فبدأ بمن فيها من بني هاشم وكانوا جماعة فقتلهم أجمعين، ثم قتل البهائم وأباد أهل بعلبك، وعندها صحت

جماعة فقتلهم أجمعين، ثم قتل البهائم وأباد أهل بعلبك، وعندها صحت عزيمة الخليفة المكتفي فأرسل من العراق جيشاً، والى الطولونيين فأرسلوا من مصر جيشاً آخر فواقعوهم في كناكر وكوكب، فأصبح القرامطة بين جيشين جيش الطولونيين من أمامهم وجيش الخليفة من ورائهم. وكان من أمر جيش العراق أن وصل من طريق الموصل إلى وادي بطنان قرب حلب وفي جملة قواده أبو الأغر فنزع فيما ذكر جماعة من أصحابه ثيابهم، ودخلوا الوادي يتبردون بمائه، وكان يوماً شديد الحر، فبينما هم كذلك إذ وافى جيش القرمطي فكبسهم على تلك الحالة فقتل منهم خلقاً كثيراً، وانتهب العسكر وأفلت أبو الأغر في جماعة من أصحابه، فدخل حلب وأفلت معه مقدار ألف رجل، وكان في عشرة آلاف بين فارس وراجل، وكان قد ضمّ إليه جماعة ممن كان على باب السلطان من قواد الفراغنة ورجالهم، فلم يفلت منهم إلا اليسير، ثم صار أصحاب القرمطي إلى باب حلب فحاربهم أبو الأغر ومن بقي معه من أصحابه وأهل البلد، فانصرفوا عنه بما أخذوا من عسكره من الكراع والسلاح والأموال والأمتعة، ومضى المكتفي بمن معه من الجيش حتى انتهى إلى الرقة فنزلها وسرّح الجيوش إلى القرمطي جيشا بعد جيش. وفي سنة 290 أيضا تحارب القرمطي صاحب الشامة وبدر مولى ابن طولون، فانهزم القرمطي وقتل من أصحابه خلق كثير ومضى من سلم منهم نحو البادية فوجه المكتفي في أثرهم الحسين بن حمدان وغيره من القواد. وكان المكتفي عهد بإمارة الشام إلى أحمد بن كيغلغ سنة 291 وصار هذا إلى مصر لقتال الخليجي الثائر، فواقعه بالقرب من العريش فانهزم أقبح هزيمة فطمعت القرامطة في دمشق لغيبة ابن كيغلغ عنها، فنهبوا فيها وساعدهم أن بعض السكان دانوا بمذهبهم، ثم سار القرامطة إلى طبرية 293 وقتلوا أكثر أهلها رجالا ونساء وأولادا. وقال المسعودي: إن القرمطي الذي خرج يكنى أبا غانم وقد خرج في جمع من كلب وقوي أمره وكثر أتباعه، فوجه الخليفة إلى القرامطة الحسين بن حمدان بن حمدون فحاربهم إلى أن ظفر بهم وأحضر رأس صاحبهم إلى بغداد، وكان القرمطي في طريقه إلى طبرية مر بمدينتي بصرى وأذرعات

فحارب أهلها ثم أمنهم، فلما استسلموا له قتل مقاتلهم وسبى ذراريهم واستاق أموالهم، ثم نهض إلى دمشق فخرج إليه من كان بقي بها مع صالح بن الفضل خليفة أحمد بم كيغلغ، فقتل صالحا وفض عسكره، ولم يطمع في دمشق إذ دافعهم أهلها عنها. وبالحزم الذي أظهره المكتفي في قتال القرامطة بالشام وبالجيوش التي سرحها من بغداد وسرحت له من مصر اضمحل أمر الباطنية، ولم يبق لهم أمل في ملك، وانقض عنهم الأعراب والمتلصصة ومن قال بقولهم وشايعهم على قيام أمرهم: ولولا الحزم لأوشكوا أن ينشئوا لهم ملكا بالشام، كما حاول الزنج في العراق أن ينشئوا لهم دولة لولا قيام الموفق ولي عهد الخلافة العباسية ذلك القيام المحمود في قمع شأفتهم. وكان ادعى القائمون بالقرمطة الشرف وأنهم يمتون بالقرابة إلى آل البيت. قال بعض المؤرخين: إن القرمطي في الشام المكنى أبا القاسم كان ينتمي إلى آل أبي طالب. وفي سنة 291 سار نائب طرسوس المعروف بغلام زرافة نحو بلاد الروم ففتح مدينة إنطاكية وقتل خمسة آلاف وأسر مثلهم واستنفد من الأسارى خمسة آلاف وأخذ لهم ستين مركبا فحمل فيها ما غنم من الأموال والمتاع والرقيق وقدر نصيب كل رجل ألف دينار فاستبشر المسلمون بذلك. عاث بنو تميم في أعمال حلب وأفسدوا إفسادا عظيما وحاصروا واليها زكا ابن الأعور. فكتب المقتدر بالله إلى الحسين بن حمدان في إنجاد زكا بحلب، فكانت وقعة بين الحسين بن حمدان وأعراب كلب والنمر وأسد وغيرهم 294 فاجتمعوا عليه وهزموه حتى بلغوا به باب حلب ثم أسر منهم وقتل. وفي سنة 298 كان دخول الروم إلى ساحل الشام فافتتح صاحبهم حصن القبة بعد حروب طويلة وعدم مغيث يغيثهم من المسلمين وافتتح مدينة اللاذقية فسبى منها خلقا كثيرا. ومن أهم الأحداث ما وقع من الهيج بدمشق في زمن وصيف البكتمري الذي ولي إمارة دمشق في أيام المقتدر بعد هلال بن بدر 316 وفي أيامه خلع المقتدر المرة الثانية ثم رجعت إليه الخلافة فطلب الأولياء من

الدولة الإخشيدية:

البكتمري البيعة له بدمشق فامتنع عليهم، فركبوا إلى داره بالسلاح والنفاطات. وكانت دار الإمارة في تلك الأيام خارج لؤلؤة الصغيرة على نهر بانياس فأحرقوها وبقيت عرصته. وفي هذا الدور سار 319 طريف بن عبد الله السبكري الخادم والي حلب إلى بني القصيص التنوخيين وحاصرهم في حصونهم باللاذقية وغيرها فحاربوه حربا شديدة ثم نزلوا على الأمان. ومن أهم الكوائن في خاتمة القرن الثالث ظهور ابن الرضا وهو محسن ابن جعفر بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد في أعمال دمشق، وكانت له مع أبي العباس أحمد بن كيغلغ وقعة فقتل صبرا، وقيل قتل في المعركة وحمل رأسه إلى مدينة السلام فنصب على الجسر الجديد بالجانب الغربي ذكر ذلك المسعودي. ولو تم الأمر لابن الرضا لقامت دولته قبل دولة الفاطميين. الدولة الإخشيدية: ظن بنو العباس أنهم نجوا من ثائر يناصب دولتهم العداء في الشام ومصر يوم قضوا على أبناء طولون وقوادهم وقرضوا الدولة الطولونية آخر الدهر، وقتلوا ابن الرضا القائم بتأسيس دولة علوية جديدة، كما قتلوا القرمطي القائم بدعوة متدرعة بالعلوية، وقضوا على صاحب الزنج في البصرة، وما كانوا يظنون أن تظهر لهم في الحال دولة أخرى قامت على أنقاض الطولونية وإن لم تكن مثلها استعدادا وعدلا فليست دونها من أكثر الوجوه والاعتبارات. ظهرت لهم الدولة الإخشيدية أو دولة بني طغج. والإخشيد كلمة فارسية معناها ملك الملوك ومعنى طغج عبد الرحمن، ورأس هذه الدولة أبو بكر محمد بن طغج بن جف بن بلتكين بن فوري ابن خاقان. وكان جف جد الإخشيد قد سار من فرغانة إلى المعتصم العباسي، فأكرمه وأقام معه إلى أن توفي المعتصم، فصحب ابنه الواثق إلى أن توفي، ثم صحب أخاه المتوكل إلى أن توفي جف. ولما توفي ابن طولون صار طغج مع ابنه أبي الجيش فولاه دمشق وطبرية إلى أن

قتل أبو الجيش. ولما بويع هارون بن أبي الجيش، ولى طغج دمشق وطبرية، وتولى طغج قتال صاحب الخال القرمطي سنة تسعين ومائتين إلى أن ظفر به. وكان لطغج من الولد سبعة ذكور الإخشيد أحدهم. ولم يزل طغج على دمشق وطبرية وابنه محمد المعروف بالإخشيد يخلفه على طبرية. وكان بطبرية أبو الطيب محمد بن أبي حمزة العلوي، وكان وجه طبرية شرفا وملكا وقوة وعفافا. فكتب الإخشيد إلى أبيه طغج يذكر له أنه ليس له أمر ولا نهي مع أبي الطيب العلوي، فكتب إليه أبوه: أعز نفسك. فأسرى محمد بن طغج على أبي الطيب في بستان له فقتله. ولم يزل طغج أيام أبي الجيش على دمشق وطبرية وأيام جيش وأيام هارون ابن أبي الجيش إلى أن قتل هارون وانقرضت الدولة الطولونية. فمات طغج في حبس العباس بن المحسن وزير العباسيين، ونجا من محبسه بعد مدة ابنه الإخشيد، وهرب إلى الشام قاصدا أحمد بن بسطام عاملها، وبقي معه يخدمه ثم تقلد ابن بسطام مصر فسار معه الإخشيد، وكان معه إلى أن توفي سنة سبع وتسعين ومائتين، فصار مع ابنه أبي القاسم علي وحضر الإخشيد مع تكين الخاص وقعة حسن فيها أثره، فولاه تكين عمَّان وجبل الشراة. واتفق له وهو على عمان والشراة في سنة 306 أن حاج الشام، وفيهم جماعة من أهل العراق قعد له جمع من لخم وجذام فجمع عسكره ولقيهم ومعه أخوه علي بن طغج فهزمهم فصار له شأن في العراق وذاعت كفايته وأمانته. وتقلد محمد بن طغج الملقب بالإخشيد مصر من جهة الراضي، وكان قبل ذلك تولى مدينة الرملة سنة 316 من جهة المقتدر وأقام بها إلى سنة 318 فوردت إليه كتب المقتدر بولايته دمشق فسار إليها وتولاها، وكان حينئذ المتولي على مصر أحمد بن كيغلغ، فلما تولى الراضي عزل أحمد بن كيغلغ وولى ابن طغج مصر وضم إليها البلاد الشامية، فاستقر ابن طغج بها سنة 323 وما نشب - وهو يتولى أعمال المعاون في الشام علاوة على أعمال المعاون في مصر، وقلد بدراً الخرشني دمشق، وأحمد بن سعيد الكلابي شيخ قبيلة بني كلاب حلب، حتى كثر بذلك الكلابيون

وزاد نفوذهم - أن خلع طاعة الخليفة العباسي، فندب الخليفة محمد بن رائق إلى الشام وأقطعه إياها على أن يستخلصها من الإخشيدية، فاستولى ابن رائق سنة 328 عليها وطرد بدراً نائب الإخشيد وولي إمرة دمشق محمد بن يزداد الشهرزوري، فلم يزل عليها إلى أن قتل محمد بن رائق بالموصل 330 فقدم الإخشيد محمد بن طغج فاستأمن إليه محمد بن يزداد فأقره على إمرة دمشق خلافة له. وبلغ ابن رائق العريش يريد مصر، فخرج إليه الإخشيد واقتتلا فانهزم ابن رائق إلى دمشق. ثم جهز الإخشيد إلى ابن رائق جيشا مع أخيه واقتتلوا، فانهزم عسكر الإخشيد وقتل أخوه، فأرسل ابن رائق يعزي الإخشيد في أخيه ويقول له: إنه لم يقتل بأمري، وأرسل ولده مزاحم وقال له: إن أحببت فاقتل ولدي به. فخلع الإخشيد على مزاحم وأعاده إلى أبيه. فاستقرت مصر للإخشيد إلى حد رملة فلسطين، والشام لابن رائق من طبرية. وفي السنة التالية بعث الإخشيد من مصر قائده كافورا إلى الشام في جيش عظيم، فهزم عامل ابن رائق واستولى على حلب، وأفسد أصحابه في جميع النواحي وقطعت الأشجار التي كانت بظاهر حلب وكانت عظيمة جداً، ونزل عسكر الإخشيد على الناس بحلب وبالغوا في أذاهم. وبعد سنة عقد الصلح بين الإخشيد وابن رائق، فاستأثر هذا بولاية حلب، وانفرد الإخشيد بدمشق يصادر أغنياءها ويستصفي أموالها، وكان ظالما مستبدا. وقد وجد بداره قبل مسيره عن مصر إلى الشام رقعة مكتوب عليها: قدرتم فأسأتم، وملكتم فبخلتم، ووسع عليكم فضيقتم، وأدرت عليكم الأرزاق، فقطعتم أرزاق العباد، واغتررتم بصفوا أيامكم، ولم تتفكروا في عواقبكم، واشتغلتم بالشهوات واغتنام اللذات، وتهاونتم بسهام الأسحار وهن صائبات، ولا سيما إن خرجت من قلوب قرحتموها، وأكباد أجعتموها، وأجساد أعريتموها، ولو تأملتم في هذا حق التأمل لانتبهتم، أو ما علمتم أن الدنيا لو بقيت للعاقل ما وصل إليها الجاهل، ولو دامت لمن مضى ما نالها من بقي، فكفى بصحبة ملك يكون في زوال ملكه فرح للعالم، ومن المحال أن يموت المنتظرون كلهم حتى لا يبقى

منهم أحد، ويبقى المنتظر به، افعلوا ما شئتم فإنا صابرون، وجوروا فإنا بالله مستجيرون، وثقوا بقدرتكم وسلطانكم فإنا بالله واثقون، وهو حسبنا ونعم الوكيل. قالوا: وقد بقي الإخشيد بعد سماع هذه الرقعة في فكر، وسافر إلى دمشق فمات فيها سنة 334 ولم تطل دولته غير سنتين، فهو في الحقيقة مؤسسها سنة 323 وأيام حكمه من حيث المجموع كانت إحدى عشرة سنة سافر فيها خمس مرات من مصر إلى أعداء يقاتلهم. لما زحف عليه سيف الدولة بن حمدان فخف إليه واقتتلا بقنسرين ثم اصطلحا وتصاهرا وتقاربا. وفي أواخر أيام الإخشيديين 352 خرج في برية الشراة خارجي من بني سليم يسمى محمد بن أحمد السلمي، واجتمع إليه خلق كثير من العرب ومن غيرهم ومن أهل الطمع، وقوي أمره وكثر جمعه، فبلّغ كافور الإخشيد خبره وكان الشام يومئذ بيده، فأنفذ عسكراً خوفاً من حادث يحدث، وتقدم إلى أصحابه أن لا يبتدئوه بحرب ولا قتال، وطال مقامه وإياهم على تلك الحال، فأسرى إليه في بعض الليالي رجل من العرب يعرف بثمال الخفاجي من بني عقيل وأخذه أسيراً وحمله إلى مصر فشهر بها راكباً فيلاً، واعتقل مدة ثم عفي عنه وخلي سبيله. ولما تفرد كافور بالأمر 355 جعل الحسن بن عبيد الله بن طغج على الشام مستخلفاً من قبله، وكان في بيت المقدس وال يعرف بمحمد ابن إسماعيل الصنهاجي اضطهد بطريق القدس، وكان أبي مقابلته فهجم عليه الوالي في أشياعه وأحرق أبواب كنيسة القيامة، وسقطت قبتها، ونهبوا كنيسة صهيون وأحرقوها. قال ابن بطريق: وهدم اليهود وخربوا أكثر من المسلمين، ثم قتل البطريق ولما مات كافور 356 ونصب مكانه أحمد بن علي الإخشيد، وكان عمره إحدى عشرة سنة، على أن يخلفه ابن عم أبيه الحسن بن عبيد الله بن طغج وكان بالشام، فوقع الخلاف بين الإخشيدية، وصار كل واحد يتسمى بالأمير وكثر التحاسد، فكتب جماعة منهم إلى المعز الفاطمي صاحب المغرب يستدعون منه إنفاذ

الدولة الحمدانية:

جيشه إلى مصر ليتسلمها، وضمنوا له المعونة، وعلى هذا انتهت أيام الإخشيديين. الدولة الحمدانية: بعث الخليفة العباسي محمد بن رائق لينقذ الشام ومصر من الإخشيد محمد بن طغج، فلم يضرب ابن رائق ابن طغج ضربة قاسية، واكتفى بأن ترك له مصر إلى الرملة، رملة فلسطين 329 وقعد في القسم الأكبر من الشام - مقابل جزية سنوية قدرها مائة وأربعون ألف دينار - أميراً يحاول أن يقيم له فيه دولة، عصى بالشام فقام يناجزه ناصر الدولة ابن حمدان القتال، وكان هذا استأثر بالموصل والجزيرة، فقتل ابن رائق 330 وكتب بالأمر إلى الخليفة المتقي بالله، فحل ذلك من نفسه محلاً عظيماً، ولقبه ناصر الدولة ولقب شقيقه علياً سيف الدولة وهذا هو صاحب الدولة التي اشتهر أمرها في حلب وما إليها. وبنو حمدان بطن من بني تغلب بن وائل من العدنانية. سار سيف الدولة 333 إلى حلب فلقي فيها يأنس المؤنسي، ففارقها يأنس، واستأمن إليه في قطعة من الجيش، فاستولى عليها سيف الدولة، وسار إلى دمشق وأقام الدعوة للمستكفي ولأخيه ولنفسه، فخلع المستكفي على سيف الدولة وعلى الإخشيد لأن هذا أقام الخطبة له بمصر وما تحت حكمه من الأصقاع. ولما بويع للمطيع بالخلافة سار مع الإخشيد وابن حمدان بسيرة المستكفي على قدم التوازن السياسي، فكتب إلى الإخشيد بالتقليد، فتكافأ الإخشيد وسيف الدولة، وهدأت الفتن واستقامت الطرق. ولما بلغ الإخشيد أن سيف الدولة سار إلى حمص جرد عسكراً كبيراً وجعل عليه أربعة قواد، فساروا إلى دمشق وعبوا عساكرهم، ثم ساروا إلى حمص، فالتقوا مع سيف الدولة بالرّستن من أرض حمص فهزمهم سيف الدولة، فعادوا إلى دمشق ثم خرجوا عنها يريدون الرملة، ثم قصدوا إلى مصر وسار سيف الدولة في إثرهم يريد دمشق، وكتب إلى

جماعة الأشراف والعلماء والأعيان والمستورين كتاباً قرىء على منبر جامعها وفيه: وقد علمتم أسعدكم الله، تشاغلي بجهاد أعدائي وأعداء الله الكفرة، وسبيهم وقتلي فيهم، وأخذي أموالهم، وتخريبي ديارهم، وقد بلغكم خبر القوانين؟ في هذه السنة، وما أولانا الله وخولناه، وأظفرنا به، واستعملت فيهم السّنّة في قتال أهل الله فما أتبعت مدبراً، ولا ذففت على جريح، حتى سلم من قد رأيتم، وقد تقدمنا إلى وشاح بن تمام بصيانتكم وحفظكم، وحوط أموالكم، وفتح الدكاكين، وإقامة الأسواق، والتصرف في المعاش، إلى حين موافاتنا إن شاء الله. كتب الرجحان لجيش سيف الدولة على جيش الإخشيدية، وسار كافور بعساكر مولاه إلى مصر، فأقام سيف الدولة بدمشق وجبى خراجها، وجعل يطالب أهلها بودائع الإخشيد وأسبابه، وكان أحداث دمشق قد نهبوها في يوم موت الإخشيد، وظن ابن حمدان أن الأمر تم له فجمع إلى ملكه في الجزيرة ملك الشام، وربما تطالّ بعد ذلك إلى مصر ولم يعرف ما خبأته له الأقدار حتى زحزحته عن ملك دمشق، واقتصرت دولته على حلب وما إليها. وذلك أنه اتفق أن كان يسير هو والشريف العقيقي بضواحي دمشق، فقال سيف الدولة: ما تصلح هذه الغوطة إلا لرجل واحد. فقال له العقيقي: هي لأقوام كثيرة فقال سيف الدولة: لئن أخذتها القوانين السلطانية ليتبرءوا منها. فأعلم العقيقي أهل دمشق بذلك، فكاتبوا كافوراً يستدعونه من مصر، فجاءهم ومعه أنوجور بن الإخشيد فخرج سيف الدولة إلى اللّجون، وأقام أياماً قريباً من عسكر الإخشيدية بقرية أكسال وكان في خمسين ألفاً، وتفرق عسكر سيف الدولة في الضياع لطلب العلوفة، فعلم به الإخشيدية فرجعوا، وركب سيف الدولة فرآهم زاحفين في تعبية، فعاد إلى عسكره فأخرجهم فنشبت الحرب فقتل من أصحابه خلق وأسر كذلك، وانهزم سيف الدولة إلى دمشق وسار من حيث لم يعلم أهل دمشق بالوقعة 335 وجاء إلى حمص وجمع جمعاً لم يجتمع له قط مثله من بني عقيل وبني نمير وبني

كلب وبني كلاب، وخرج من حمص، وشخص عساكر الإخشيدية من دمشق، فالتقوا بمرج عذراء على ساعتين من دمشق، وكانت الوقعة أولاً لسيف الدولة ثم آخرها عليه، فانهزم وملكوا سواده، وتقطع أصحابه فهلكوا وتبعوه إلى حلب فعبر الرقة. لم يستطع سيف الدولة بعد وقعة أكسال ومرج عذراء أن ينال من الإخشيدية، وبقيت لهم دمشق وما وراءها حتى مصر لأن أهل دمشق خافوا من مصادرات سيف الدولة، يوم طالبهم بودائع الإخشيد وأحب أن يملك غوطتهم، فقلبوا له ظهر المجن، ولم يغنه جيشه العظيم لانصراف القلوب عنه، فاقتضى له أن يقاتل جيشين: جيش الطامعين في تلك الديار وجيش البلاد نفسها، وظلت حلب لسيف الدولة لأنه لم يأت فيها باديء بدء ما أتاه من أفعال الظلم. وحلب أقرب إلى مهد عصبيته وهي الثغور الشامية والجزرية وديار مضر وديار بكر. واصطلح سيف الدولة والإخشيد وصاهره وتقرر لسيف الدولة حلب وحمص وإنطاكية، ومن الأحداث في هذه الحقبة أن شبيب بن جرير العقيلي تقلد عمان والبلقاء وما بينهما من البر والجبال - على عهد كافور فعلت منزلته واجتمعت إليه العرب وكثرت حوله وسولت له نفسه أخذ دمشق والعصيان بها، فسار إليها في نحو عشرة آلاف وقاتله أهلها وسلطانها واستأمن إليه جمهور الجند الذين كانوا بها وغلقت أبوابها، فنزل بعض أصحابه على الثلاثة الأبواب التي تلي المصلى يشغلهم بهم، ودار هو حتى من الحميريين على القنوات حتى انتهى إلى باب الجابية وحال بين الوالي وبين المدينة ليأخذها فهلك وانهزم أصحابه لما رأوا مصرعه فخالفوا إلى الموضع الذي دخلوا منه فأرادوا الخروج منه فقتل أربعمائة فارس وبضعة عشر. وكانت علائق الإخشيديين كصلات الحمدانيين اسمية مع خلفاء بغداد، واشتهر الإخشيديون وهم عجم بشحهم، والحمدانيون العرب بكرمهم، وكان الإخشيديون من أهل السنة، والحمدانيون يرون رأي الشيعة.

مغازي سيف الدولة:

مغازي سيف الدولة: كان سيف الدولة يحمل بين جنبيه نفساً عظيمة، ولطالما حارب الروم وغزاهم، ومن الأحداث في أيامه إحراق حصن فامية سنة 338 نازله الدوقس في ثلاثين ألفا وحاصره سبعة أشهر وأشرف على أخذه فدفعه عنه صمصامة والي دمشق فقتل الدوقس وقتل من عسكره أربعة عشر ألفا وأسر منهم خلق كثير وكسروا بعد أن ظهروا. ومنها أخذ سيف الدولة حصن برزويه من الأكراد بعد أن قاتلهم مدة. وفي السنة التالية خرج بسيل ملك الروم إلى الشام وفتح شيزر بالأمان لقلة رجالها. وفي سنة 345 سار سيف الدولة إلى الروم فغنم وسبى وفتح عدة حصون ورجع إلى أذنة فأقام بها ثم ارتحل إلى حلب. ومن غزواته غزوة سنة 349، أوغل في الروم وفتح حصوناً، فلما أراد الخروج من أرضهم أخذوا عليه الدرب الذي أراد الخروج منه، فقطعوا الأشجار وسدوا بها الطرق ودهدهوا الصخور في المضايق على جيشه، والروم وراء الناس مع الدمستق يقتلون ويأسرون. وكان مع سيف الدولة أربعمائة أسير من وجوه الروم فضرب أعناقهم، وعقر جماله وكثيراً من دوابه. وأحرق الثقل وقاتل قتال الموت ونجا في نفر يسير قيل في ثلاثمائة من غلمانه، واستباح الدمستق أكثر الجيش وأسر الأمراء والقضاة، ووصل سيف الدولة إلى حلب ولم يكد، وكان جيشه ثلاثين ألفا. وأرسل الدمستق إلى سيف الدولة يطلب الهدنة فلم يجبه إليها مع ما حل به منه، ثم جهز سيف الدولة جيشاً فدخلوا بلد الروم من ناحية حران فغنموا وأسروا، وغزا أهل طرسوس أيضا في البر والبحر، ثم سار سيف الدولة من حلب إلى آمد ديار بكر فحارب الروم وخرب الضياع. قال مسكويه في وقعة 349: وخرج أهل طرسوس من طريق آخر فسلموا، والسبب في سلامتهم ومصاب سيف الدولة، أن هذا الرجل كان معجباً، يحب أن يستبد برأيه، وألا تتحدث نفسان أنه عمل برأي غيره، وكان أشار عليه أهل طرسوس بأن يخرج معهم، لأنهم علموا أن الروم قد ملكوا عليه الدرب الذي يريد الخروج منه

وشحنوه بالرجال، فلم يقبل منهم ولجّ فأصيب المسلمون بأرواحهم، وأصيب هو بماله وسواده وغلمانه. وأغار الروم مرة على أطراف الشام فسبوا وأسروا، فساق وراءهم سيف الدولة ولحقهم فقتل منهم مقتلة واسترد ما أخذوه. واستولى الروم سنة 351 على حلب دون قلعتها وعلى الحواضر، وحصروا المدينة وثلموا السور، وقاتل أهلها الروم أشد قتال فتأخر الروم إلى جبل جوشن، ثم وقع بين الحلبيين نهب فلم يبق على السور أحد، فهجم الروم على البلد وفتحوا أبوابه وأطلقوا السيف وسبوا بضعة عشر ألف صبي وصبية وغنموا كثيراً وأحرقوا ما بقي. وكان سيف الدولة غائباً وقاتل الدمستق عند عودته فقتل غالب أصحابه، وظفر الدمستق بدار سيف الدولة في الدارين من أرض حلب فأخذ منها ثلاثمائة وخمسين بدرة من الدنانير ما عدا السلاح والدواب. وكانت عدة عسكر الروم مائتي ألف رجل منهم ثلاثون ألفاً بالجواشن، وثلاثون ألفاً للهدم وإصلاح الطرق من الثلج، وأربعة آلاف بغل يحمل الحسك الحديد. وفي رواية أن جيش الروم كان ثمانين ألف فارس ما عدا السواد وهو كثير جداً، وأن سيف الدولة نادى في حلب من لحق بالأمير فله دينار، وأنه انهزم إلى ناحية بالس بعد أن قتل من جيشه من أهل حلب مدة ستة أيام جملة كثيرة من الناس. قال الذهبي: وقتلوا الأسرى ثم عادوا إلى القلعة فإذا طلائع قد أقبلت نحو قنسرين، وكانت نجدة للروم، فتوهم الدمستق أنها نجدة لسيف الدولة فترحل خائفاً. وفي سنة 355 سار صاحب الروم إلى الشام فعاث وأفسد، وأقام به نحو خمسين يوماً فنزل على منبج وأحرق الرّبض وخرج إليه أهلها، فأقرهم ولم يؤذهم، ثم سار إلى وادي بطنان وسار سيف الدولة متأخراً إلى قنسرين، وقد ضيق رجاله والأعراب الخناق على الروم، وأخذت

الروم أربع ضياع بما حوت، فراسل سيف الدولة ملك الروم وبذل له مالاً يعطيه إياه في ثلاثة أقساط فقال: لا أجيبه إلا أن يعطيني نصف الشام، فإن طريقي إلى ناحية الموصل على الشام. فقال سيف الدولة: لا أعطيه حجراً واحداً. ثم جالت الروم بأعمال حلب، وتأخر سيف الدولة إلى ناحية شيزر، وأنكب العرب في الروم غير مرة وكسبوا كثيراً، ونزل عظيم الروم على إنطاكية يحاصرها ثمانية أيام ثم رحل عنها. قل المنتقضون على سيف الدولة لبطشه، وممن خالفه بنو كلاب 343 فحاربهم وكان اصطنعهم حتى استطالوا على العرب، وأوقع ببني عقيل وقشير وبني العجلان وبني كلاب حين عاثوا في عمله وخالفوا عليه. وهذه الغزوات تعد في باب المناوشات لا الحروب مثل غزوة سيف الدولة للمبرقع الذي دعا الناس إلى نفسه، والتفت عليه القبائل، وافتتح مدائن من أطراف الشام وأسر أبا وائل تغلب بن داود بن حمدان، وهو خليفة سيف الدولة على حمص، وألزمه شراء نفسه بعدد من الخيل وجملة من المال، فأسرى سيف الدولة من حلب حتى لحقه في اليوم الثالث بنواحي دمشق فأوقع به ووضع السيف في أصحابه فلم ينج إلا من سبق فرسه، وعاد سيف الدولة إلى حلب ومعه أبو وائل وبين يديه رأس الخارجي على رمح. وممن خالفه أهل إنطاكية سنة 354 وعليهم رشيق النسيمي فسار إلى جهة حلب وحاصر قلعتها ثلاثة أشهر وعشرة أيام، وقاتل قرعويه غلام سيف الدولة وعامله قتالاً شديداً، وكان هذا بميافارقين، فأرسل عسكراً مع خادمه بشارة فقتل رشيق وهرب أصحابه إلى إنطاكية، ولما عاد سيف الدولة اجتمع على حرب ابن الأهوازي والديلمي اللذين قاما مقام رشيق، فقتل هذا الثائران، وقتل من ولاتهما وقضاتهما وشيوخهما خلق. وذهب قرعويه إلى إنطاكية فجرت بينه وبين الديلمي وقعة انهزم فيها قرعويه وعاد إلى حلب، وسار الديلمي في أثره إلى حلب، فلقيه أصحاب قرعويه ودفعوه إلى إنطاكية. قال ابن قاضي شهبة في حوادث سنة 355: إن أهل إنطاكية خرجوا عن طاعة سيف الدولة لاشتغاله بنفسه، فتفرغ لهم وقاتلهم قتالاً شديداً ثم انتصر وأسر خلائق من أهلها، فصادر أعيانهم

محاسن سيف الدولة ومقابحه:

وأخذوا خطوطهم بأموال عظيمة وقتل خلقاً منهم، حتى قيل: إنه قتل نحو خمسة آلاف رجل، وكتب إلى ولده أبي المعالي كتاباً يبشره بذلك وقال فيه: ما شاهدت عسكراً، على كثرة مشاهدي للحرب، استولى على جميع رؤسائه وأتباعه مثل هؤلاء، ولا غنم عسكر مثل ما غنم منهم. وسار ملك الروم بجيوشه إلى الشام 355 فعاث وأفسد، وقيل: إن أهل إنطاكية راسلوه وبذلوا له الطاعة وأن يحملوا إليه مالاً، وكان الذي حركه وأحنقه إحراق بيعة القدس، وكان البطريق كتب إلى كافور صاحب مصر يشكو قصور يده عن استيفاء حقوق البيعة، فجاءه من الناس ما لم يطق دفعه وقتل البطريق، وأحرقت البيعة وأخذوا زينتها، فراسل كافور ملك الروم بأن يرد البيعة إلى أفضل ما كانت فقال: بل أنا أعيدها بالسيف. فلما خرج ملك الروم أصعد سيف الدولة أهل المدينة إلى قلعة حلب، وانجفل الناس وعظم الخطب، وأخليت نصيبين، ونزل صاحب الروم على منبج وأحرق الربض، وخرج إليه أهلها فأقرهم ولم يؤذهم، وأنكت العرب في الروم غير مرة وكسبوا ما لا يوصف، وحاصر الروم إنطاكية ثمانية أيام ليلاً ونهاراً، وبذل الأمان لأهلها فأبوا فقال: أنتم كاتبتموني ووعدتموني، فردوا عليه رداً قبيحاً وحاربوه أشد حرب. محاسن سيف الدولة ومقابحه: توفي سيف الدولة بن حمدان سنة 356 بعد أن غزا الروم أربعين غزوة له وعليه، فحفظ بغزواته بيضة العرب والإسلام، ولولاه لتقدم الروم في الشام، وربما استصفوها كلها بعد ما ثبت من ضعف العباسيين. وكان جمع من نفض الغبار الذي يجتمع عليه في غزواته شيئاً وعمله لبنة بقدر الكف، وأوصى أن يوضع خده عليه في لحده فنفذت وصيته في ذلك. ترجمه الأزدي بقوله: كان معجباً برأيه، محباً للفخر والبذخ، مفرطاً في السخاء والكرم، شديد الاحتمال لمناظريه، والعجب بآرائه،

سعيداً مظفراً في حروبه، جائراً على رعيته، اشتد بكاء الناس عليه ومنه. نعم كان سيف الدولة جائراً على رعيته يخرب قرية ليجيز شاعراً، ولما تربع في دست الملك بحلب استكثر من القصور له ولآله وقواده، وجعلها كحضرة بني العباس كعبة العلم والأدب، فوافاه الشعراء والعلماء من الأقطار، وكان كريماً مفضلاً خصوصاً على مداحه. ينفق نفقات طائلة على علماء بغداد ومهاداة وزرائها وأرباب النفوذ فيها، فكان حماته في دار الخلافة كثاراً استمال بهم الرأي العام البغدادي، فرضي الخلفاء ولم يخالفوه لأنه أبقى لهم الخطبة وإن ضرب السكة باسمه. ولقد استحل سيف الدولة للقيام بهذه الأبهة الضخمة في مملكته الصغيرة مصادرة رعيته، فكان قاضيه أبو الحصين يقول: كل من هلك فلسيف الدولة ما ترك ولذلك كثرت مصادرة كل غني من التجار وغيرهم، فخربت الأصقاع الشمالية في أيامه. وذكر المؤرخون أن أبا الحصين الرقي قاضي حلب قتل في إحدى المعارك، فداسه سيف الدولة بحصانه وقال: لا رضي الله عنك فإنك كنت تفتح لي أبواب الظلم. على أن هذا لا ينجي سيف الدولة من المؤاخذة لأنه كان يتيسر له صرفه عن القضاء، وليس أبو الحصين من أرباب العصبيات حتى يخافه. ومن كثرة مظالم سيف الدولة أن بني حبيب وهم أبناء عم بني حمدان، كانوا ينزلون نصيبين فأكبَّ عليهم بنو حمدان بصنوف الجور، حتى خرجوا بذررايهم في اثني عشر ألف فارس إلى الروم. وتنصروا بأجمعهم، ثم عادوا إلى بلاد الإسلام على بصيرة بمضاره، وعلم بأسباب فساده وقلوبهم تضطرم حقداً على ما قال ابن حوقل، وأخذوا يخربون القرى في الجزيرة والشام وأطمعوا صاحب الروم بإنطاكية وحلب. وكانت لسيف الدولة طرق غريبة في الرحمة، من ذلك أنه سار مرة بالبطارقة الذين في أسره إلى الفداء، وكان في أسر الروم ابن عمه أبو فراس وجماعة من أكابر الحلبيين والحمصيين فأخذ بالفداء، ولما لم يبق معه من أسرى الروم أحد اشترى الباقين كل نفس باثنين وسبعين ديناراً حتى نفد ما عنده من المال، فاشترى الباقين ورهن عليهم بدنته درعه الجوهر المعدومة

ابتداء الدولة الفاطمية:

المثل ثم لما لم يبق أحد من أسرى المسلمين كاتب نقفور ملك الروم على الصلح. قال ابن الوردي: وهذه من محاسن سيف الدولة. ومن حسناته أنه أنفق في سنة 355 على فداء الأسرى خمسمائة ألف دينار، وكان ورث هذا المبلغ من أخته. وذكر المؤرخون أنه كان يقف على مائدة سيف الدولة أربعة وعشرون طبيباً، لينصحوا له بتناول ما ينفع مزاجه، وأنه كان من أهل الأدب وغيرهم من يتناول رزقين وثلاثة. وفي باب كرمه وإسرافه غرائب، منها أنه أنفق تسعمائة ألف دينار في جهاز ابنته وعرسها، وضرب دنانير في كل دينار ثلاثون ديناراً وعشرون وعشرة. قال الأزدي: ويقال إنه جاد بما لم يجد به أحد. قالوا: إنه كان لا يملك نفسه، ويجود بكل ما لديه إذا قصده من يريد إكرامه، كل هذا على ما فيه من المفاخر يحمل في مطاويه الظلم وإعنات الرعية. فسيف الدولة ممن خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً وحسناته أكثر. ابتداء الدولة الفاطمية: كان كافور آخر ملوك الإخشيديين مملوكاً حبشياً ذا عقل ودراية وحسن إدارة، استولى بالفعل على زمام الحكم في مصر والشام على عهد أبي القاسم أنوجور محمود وأبي الحسن علي، ولدي محمد بن طغج الإخشيدي رأس الدولة الإخشيدية، ثم تولاه مستقلاً بنفسه، وقام بالأمر بعده أبو الفوارس أحمد، بمعنى أن الدولة الإخشيدية امتدت أربعاً وثلاثين سنة من سنة 323 إلى 357 ولما آذنت شمسها بالأفول انتشرت الفوضى في المملكة، فرأى عقلاء مصر أنه لا ينجيها مما صارت إليه إلا إلقاؤها في أحضان دولة قوية فتية تنقذ الأمة من بلائها، وكان للقائم بالدولة الفاطمية أو العُبَيدية التي نشأت في المغرب وامتد سلطانها هوى في هبوط مصر ففاوضوه في أمرها، وكان حاول غير مرة أن يستولي عليها فرده عنها جيش بني العباس. وبلغ المعز الفاطمي اختلاف الأهواء وتفرق الآراء، فجهز العسكر

إليها بإشارة المصريين، فهربت العساكر الإخشيدية من القائد جوهر الذي جاء مصر في مائة ألف محارب وألف وخمسمائة جمل تحمل الذهب والفضة، واتفق أن ورد القرامطة إلى دمشق، وأتوا عليها وعلى سائر أعمالها، وساروا إلى الرملة ولقيهم الحسن بن عبيد الله بن طغج، ووقع بينهم حرب عظيمة بظاهر الرملة في ذي الحجة سنة 357، فانهزم ابن عبيد الله من الشام ودخل إلى مصر، فاستولت القرامطة على الرملة واستباحوها، فقاطعهم أهلها على مائة وخمسة وعشرين ألف دينار، شروا بها أنفسهم منهم وأخذوا من أعمالهم بشراً كثيراً. وإذ رأى الروم أن مصر قد عبثت بها الفوضى، وأن الشام في ضعف ووهن، أغاروا على الشام 358 فقتلوا وسبوا في حمص والثغور وقتلوا خلائق وسبوا نحو مائة ألف إنسان، وخاف المسلمون، ولم يشكوا في أن الروم يملكون الشام ومصر والجزيرة وديار بكر لخلو الجميع عن المانع. فأقام جوهر الخطبة للمعز الفاطمي. قال المسبّحي: لما استقر المعز بمصر انفرد بها ولم يدخل تحت طاعة الخلفاء العباسية وادعى الخلافة لنفسه بمصر وقال: نحن أفضل من الخلفاء العباسية لأننا من ولد فاطمة بنت رسول الله. ولما استقرت قدم جوهر بمصر، سير جمعاً كثيراً مع جعفر بن فلاح إلى الشام فبلغ الرملة وبها الحسن بن عبيد الله بن طغج، وجرت بينهما حرب أُسر عقيبها ابن طغج واستولى جعفر على فلسطين، وجبى أموالها ثم سار إلى طبرية، فوجد أهلها قد أقاموا الدعوة للمعز قبل وصوله، فجهز منها من استمال من بني مرة وفزارة لحرب بني عقيل بحوران والبثنية وأردفهم بعسكر من أصحابه، فواقعوا بني عقيل وهزموهم إلى أرض حمص، وسار هو من طبرية إلى دمشق، فقاتله أهلها فظفر بهم وملكها بعد فتن وحروب ونهب بعضها وأحرق الآخر. وأقام الخطبة للمعز سنة 359 وقطعت الخطبة العباسية، واستقرت دمشق للمعز الفاطمي. وأصبح بنو عبيد الفاطميون خلفاء مصر والشام والمغرب. وكان رئيس الثورة بدمشق سيدها وصدرها في عصره أبو القاسم بن أبي يعلى الهاشمي العباسي. فأخذه جعفر بن فلاح وشدَّه على جمل،

وفوق رأسه قلنسوة، وفي لحيته ريش، وبيده قصبة وبعث به إلى مصر. وضرب الفاطميون على دمشق دية عم الناسَ البلاء في جبايتها، وتطلب حمال السلاح فظفر بقوم منهم، وضرب أعناقهم وصلب جثثهم، وعلق رؤوسهم على الأبواب. وفي سنة 360 أنفذ جعفر غلامه فتوحاً على عسكر إلى إنطاكية، وكان لها في أيدي الروم نحو من ثلاث سنين، وسير إلى أعمال دمشق وطبرية وفلسطين فجمع منها الرجال، وبعث عسكراً بعد عسكر إلى إنطاكية، وكان الوقت شتاء فنازلوها حتى انصرم الشتاء وهم مُلِحُّون في القتال، فلم يظفر بطائل، وانهزم عسكره آخر الأمر وقتل منهم كثيرون. وبلغ جعفر بن فلاح مسير القرامطة إلى الشام وقد أمدّهم صاحب بغداد لقتال جيش الفاطميين فاستهان بهم وواقعهم. فانهزم منهم قرب دمشق وقتل في المعركة، وملك القرامطة دمشق وأمنوا أهلها ثم ساروا إلى الرملة فملكوها واجتمع إليهم كثير من الإخشيدية. قتل القرامطة جعفر بن فلاح مخافة أن يفوتهم حمل المال الذي كان تقرر بينهم وبين ابن طغج، وهو ثلاثمائة ألف دينار في السنة، وساروا يريدون الرملة، وعليها سعادة بن حيان فالتجأ إلى يافا، ونزل عليه القرمطي، وقد اجتمعت إليه عرب الشام فناصبها القتال حتى أكل أهل المدينة الميتة وهلك أكثرهم جوعاً، وسير جوهر من مصر نجدة إلى أصحابه المحصورين بيافا، ومعهم ميرة في خمسة عشر مركباً، فأرسل القرامطة مراكبهم إليها فأخذوا مراكب جوهر ولم ينج منها غير مركبين غنمتهما مراكب الروم. اصطلح قرعوية 360 مولى سيف الدولة بن حمدان متولي حلب وأبا المعالي شريف بن سيف الدولة، فخطب له قرعوية بحلب، وخطبا في معاملتيهما لإمام المعز الفاطمي بحلب وحمص. بمعنى أن بني حمدان وهم شيعة أسرعوا في نزع أيديهم من أيدي العباسيين، ووضعوا أيديهم في أيدي الفاطميين الشيعة، بيد أن الفاطميين لم يجدوا نصيراً قوياً في الشام، لأن السواد الأعظم من أهل السنة والجماعة كانوا يخالفونهم في مذهبهم، وقد بلغهم ما صارت إليه مصر من تغيير مذهب أهلها ومصطلحهم في

أذانهم وصلواتهم، فشق عليهم ذلك وعزموا أن يقفوا للفاطميين بالمرصاد. ومن ذلك ما وقع سنة 361 من التقاء سعد أمير عرب الشام بحسان بن جراح الطائي في عربه، واتفقا على أن ينزعا حكم مصر من الشام، وكان جيش المعز حارب عرب الشام في حوران حرباً دامية، فأرسل المعز إلى حسان ووعده بمائة ألف دينار إن خذل أمير الشام. ولما دارت الحرب بينهما انهزم حسان بالعرب فضعف جانب سعد وقوي عليه المعز وكسره. وقطعت خطبة المعز من دمشق أيام القرامطة وبقيت إلى أن استردها سنة 363 وأرسل المعز قائده ظالم بن موهوب والياً على دمشق فعظم أمره وكثرت جموعه ثم وقع بينه وبين أهلها فتن دامت إلى سنة 364. وتفصيل ذلك أن المعز سير القائد أبا محمود يتبع القرامطة فنزل بظاهر دمشق، وامتدت أيدي أصحابه بالعبث والفساد وقطع الطرق، فاضطرب الناس وخافوا، فوقعت فتنة عظيمة بين عسكره وبين العامة، وجرى بين الطائفتين قتال شديد وظالم بن موهوب مع العامة، فأحرق جانب من المدينة وهلك جماعة من الناس، وعادت الفتنة بعد أن اصطلح المتقاتلون إلى شدتها بينهما 364 واتفقوا على إخراج ظالم من البلد، ووليه جيش بن الصمصامة، وعاد المغاربة أي جيش الفاطميين وعاثوا وأفسدوا فثار العامة وقاتلوهم، ثم زحف جيشه في العسكر إلى البلد وقاتله أهله فظفر بهم وهزمهم، وأحرق من المدينة ما كان سلم، ودام القتال بينهم أياماً، فاضطرب الأهلون وخافوا وخربت المنازل وانقطعت المواد، وانقطع الماء والميرة عن البلد، وهلك الفقراء على الطرقات جوعاً وبرداً، ووصل الخبر إلى المعز فأنكر ذلك واستبشعه، فأرسل إلى القائد ريان الخادم والي طرابلس يأمره بالسير إلى دمشق لمشاهدة حالها وكشف أُمور أهلها. واتفق أن أفتكين غلام عضد الدولة انهزم في خلال هذه الأيام من المدائن فنزل على حمص في طائفة من الترك والأعراب، وكان الأحداث قد غلبوا على دمشق وليس للأعيان معهم حكم، فخرج أشرافها وشيوخها يظهرون السرور بمقدم أفتكين ويبايعونه على الطاعة لينقذهم من المصريين، فنزل على دمشق وأخذها من ريان الخادم. وأقام العدل في الناس وكفَّ

أيدي الأعراب الذين كانوا عاثوا في الأرض فساداَ، وأخذوا عامة المرج والغوطة، ودخل البلد وخطب للطائع العباسي، وأبان في جميع مواقفه عن شجاعة وقوة نفس وحسن تدبير، فأذعنت له العرب، وأقطع الأرضين، وكثر جمعه، وتوفرت أمواله وثبتت قدمه، وكاتب المعز يداريه ويظهر له الانقياد.

دور الفاطميين

دور الفاطميين من سنة 364 - 394 الدول الثلاث وغزوات الروم: تقلبت على الشام ثلاث دول في مُدَد متقاربة، وهي الإخشيدية والحمدانية والعبيدية. انبثقت الدولتان الأوليان من أصل الدولة العباسية، بمعنى أن الإخشيديين والحمدانيين كانوا كالطولونيين من عمال العباسيين، قوي أمرهم فاستبدوا بالشام. وأنشئوا لهم ملكاً لم يتعاقب فيهم عدة بطون وأجيال. أما دولة العبيديين فعلى خلاف هذا، كانت دولة شيعية قامت سنة 296 بالمغرب، وأول من ولي منهم أبو محمد عبيد الله بن محمد بن عبد الله بن ميمون بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، دعا الدعاة أولاً بالمغرب إلى محمد والد المهدي عبيد الله وكان أولاً بسَلَمْيَة من الشام، ولما توفي أوصى إلى ابنه عبيد الله المهدي وأطلعه على حال الدعاة. وشاع ذلك في أيام المكتفي فطُلب فهرب عبيد الله وابنه أبو القاسم محمد الذي ولي بعد المهدي وتلقب بالقائم، وتوجها نحو المغرب ونزل تاهرت، وعظم شأنه في القبائل واستجابت لدعوته، وملك ومن بعده معظم شمالي إفريقية وجزائر البحر المتوسط مثل صقلّية وساردنية ومالطة وغيرها. والخليفة المعز الذي فتح مصر والشام هو رابع خلفائهم. نشأت الدولة العبيدية أو الفاطمية أو العلوية كالدولتين الأموية والعباسية

بالشام، وقامت بالمغرب، ونمت في مصر، وماتت فيها. ولم تكن على نسبة تينك الدولتين بقوة سلطانها وتأثيراتها، ولذا ظلت دولة أخرى في أقصى الشام تقاسمها السلطة، وهي الدولة الحمدانية، اتفقت معها سياسةً اتفاقها معها مذهباً. وفي سنة وفاة كافور 357 جرت بين فنك بن عبد الله مولى كافور الإخشيدي، وكان جهزه مولاه لأخذ دمشق ثانية، وبين أهل هذه المدينة مناوشة وقتال وإحراق ونهب، وبلغه خبر الروم وأخذهم حمص فنادى في دمشق بالنفير إلى ثنية العقاب بسبب الروم فخرج الناس إلى دومة وحرستا وانتهز الفرصة في خلو دمشق ورحل عنها وتوجه بأثقاله نحو عقبة دمر متوجهاَ إلى الساحل، فنهب أهل دمشق بعض أثقاله وقتلوا من بقي من رجاله. لما هلك كافور وهلك سيف الدولة وتولى الفاطميون أمر مصر وفتحوا الشام بقي سعد الدولة 356 ابن سيف الدولة في مملكة حلب، ولم يكن كأبيه عقلاً وتدبيراً فعصى عليه جند حلب سنة 357، فنازلها وبقي القتال عليها مدة واستولى الرعيلي على إنطاكية، وجاءت الروم فنزلوا عليها وأخذوها وهرب الرعيلي من باب البحر هو وخمسة آلاف إنسان ناجين بأنفسهم من الروم، فأسر هؤلاء أهل إنطاكية وقتلوا أُناساً من أكابرها. وقال عظيم الروم لما ضيقوا عليه: أرحل وأخرب الشام كله وأعود إليكم من الساحل، ورحل في اليوم الثالث ونازل معرة مصرين، فأخذها وغدر بهم وأسر منهم أربعة آلاف ومائتي نسمة، ثم سار إلى عرقة فافتتحها، ثم سار إلى طرابلس فأخذ ربضها، وأقام في الشام أكثر من شهر ورجع فأرضاه أهل إنطاكية بمال عظيم. وأحرق حمص وقد أخلاها أهلها وملك ثمانية عشر منبراً، وعاد إلى بلاده بالأسرى والأموال. وقال الإنطاكي: إن نقفور لما توجه إلى الشام، خافه سعد الدولة، فخرج عن حلب إلى بالس، واستخلف فيها قرعويه الحاجب، ونزل الملك على إنطاكية وأقام يومين ورحل في اليوم الثالث، ونزل على معرة مصرين وأمن أهلها من القتل، وكانت عدتهم ألفاً ومائتي نفس وسيرهم

إلى بلد الروم، وفتح معرة النعمان وحماة وحمص، وأخذ منها رأس القديس يوحنا المعمداني، ونزل على طرابلس، وأحرق ربضها وحاصر مدينة عرقة تسعة أيام، وكان لها حصن منيع ففتحه بالسيف وأخذ منها خلقاً كانوا التجئوا إليه من الأقاليم المجاورة وأخذ منه مالاً كثيراً، وكان في الحصن أمير طرابلس أحمد بن تحرير الأرغلي، وكان أهل طرابلس قد طردوه لجوره، وكان مأسوراً ومعه مال جزيل، فأسره وأخذ جميع ماله، ورجع إلى بلدان الساحل فأتى عليها، وحصل في يده من السبي ما لا يحصى عدده، وفتح حصن انطرطوس ومرقبة وحصن جبلة، وصالح أصحاب اللاذقية عليها، وخرب كثيراً من القرى، وعبر بإنطاكية وميز السبي الذي معه وأعتق عليها من الشيوخ والعجائز زهاء ألف نفس، وبنى حصن بغراس مقابل إنطاكية في فم الدرب ورتب فيه رئيساً يقال له ميخائيل البرجي، ورسم لسائر أصحاب الأطراف طاعته ورتب معه ألف رجل ورجع إلى القسطنطينية. وفي تاريخ العلويين أن اليهود كانوا يقطنون في القرن الرابع في أرجاء صهيون، وينزل النصارى في اللاذقية، والنصيريّة في الجبل، ولما استولت الروم على أرجاء اللاذقية في سنة 357 شعر العلويون - أي النصيرية - بالتنظيمات الإدارية والعسكرية وأعلنوا الثورة على الروم وكان يرأسهم حسين ابن إسحاق الضلعيني العلوي ففاز واستقل باللاذقية سنة 368، ثم حكم محمد بن إسحاق التنوخي ثم أخوه إبراهيم. وفي سنة 359 ملك الروم إنطاكية بالسيف، وقتلوا أهلها وسبوا وقصدوا حلب فتحصن قرعويه بالقلعة، وملكوا المدينة بعد حصارها 27لا يوماً، ثم اصطلحوا على مال يحمله قرعويه كل سنة وقدره ثلاثة قناطير ذهب عن حق الأرض، وسبعة قناطير ذهب عن خراج حلب وقنسرين وحمص وحماة وجوسية وسلمية والمعرة وكَفْرطاب وأفامية وشيزر وجبل السماق ومعرة مصرين والأثارب وغيرها، وعن كل حالم دينار في السنة سوى ذوي العاهات، وأن يكون لملك الروم صاحب يقوم بحلب يستخرج أعشار الأمتعة الواردة إليها، فرحلت الروم ومعهم الرهائن على ذلك،

وقد عقدوا هدنة مؤبدة وصارت الكور سائبة لا مانع للروم عنها، فطمع نقفور ملك الروم في ملك الشام جميعه، ولم يعترف سعد الدولة بالمعاهدة التي جرت بين قرعوية وبين الروم، وظل في معرة النعمان، فأخرب الروم حمص حتى يضطروه إلى الإذعان، ولكن جاءته نجدات فعمرها، وفي سنة 363 سار أبو محمود بن جعفر بن فلاح إلى الشام، في عسكر يقال إنه عشرون ألفاً ودخل دمشق وتمكن بها، وغادر الروم أرض الشام سنة 364 بعد أن فتحوا بعلبك وأخربوها وأخذوا جماعة من أهلها وصالحتهم صيدا وافتتحوا بيروت عنوة وسبوها ونهبوها، وجرى مثل ذلك على جبيل. وقاطعوا أهل دمشق على ستين ألف دينار يحملونها إليهم في كل عام، وكتبوا عليهم بذلك كتاباً وأخذوا فيه خطوط أشرافهم وأخذوا جماعة منهم رهينة وأنفذوا إليهم صليباً بالأمان فتلقوه بالإكرام. ثم انقطع حمل المال المفروض على الشام للروم، فأغضوا عن ذلك لاشتغالهم بالحرب في آسيا الصغرى. وفي سنة 365 وصل بارقطاش مولى سيف الدولة إلى شريف ابنه وهو بحماة من حصن برزويه وخدمه وعمر له حمص بعد خراب الروم، وتقوى بكجور مولى قرعويه ونائبه، وقبض على قرعويه بحلب وحبسه بالقلعة واستولى على حلب، فكاتب أهلها أبا المعالي شريفاً فجاءهم، وأنزل بكجور بالأمان وولاه حمص واستقر أبو المعالي بحلب. ومن الأحداث في هذا الزمن أن وشاح السلمي ولي إمارة دمشق من قبل الحسن بن أحمد القرمطي المعروف بالأعصم، وكان الوالي إذ ذاك بها صالح بن عمير العقيلي البدوي فخرج صالح عنها، فلما رجعت القرامطة إلى الأحساء رجع صالح بن عمير إلى دمشق وتعصب له أحداثها فأخرجوا وشاحاً عنها قهراً وسلموها إلى صالح 368. ومنها أن بسيل الملك ردّ ولاية اللاذقية إلى كرمروك لشنه الغارة على طرابلس وما يليها وقتله وأسره من أهلها ومن المغاربة خلقاً كثيراً. وورد عسكر المغاربة إلى عمل إنطاكية مع أمير لهم يعرف بالصنهاجي، فاستظهر عليه كرمروك وقتل جماعة من أهله، فسار نزال وابن شاكر من طرابلس إلى اللاذقية 370 وحاصر حصنها

وسار الدمستق الدومستيقس إلى حلب 371 ووقع الحرب على باب اليهود في اليوم الثاني من نزوله. وطالب سعد الدولة بمال الهدنة على أن يحمل للروم في كل سنة أربعمائة ألف درهم فضة نقية صرف كل عشرين درهماً بدينار. وخالف مفرج بن دغفل بن الجراح على العزيز بالله وجاهر بخلع الطاعة فسير إلى الشام رشيقاً العزيزي 371 فطرده عنها وهزمه. وسار ابن الجراح بعد هزيمته يريد الحجيج ليقطع عليهم الطريق عند رجوعهم، فأنفذ العزيز مفلح الوهباني في عسكر ليلقاهم ويدفع عنهم، فأوقع به ابن الجراح بأيلة وقتله وجميع من معه، وعاد الحجيج إلى مصر فعاود ابن الجراح الشام فلقيه رشيق الحمداني دفعة ثانية وهزمه ودخل إلى البرية والتجأ إلى بكجور في حمص فأجاره، وقصد إنطاكية ملتمساً من بسيل الملك النجدة فأطلق له صلة ودفعه إلى الشام والتمس من العزيز الأمان فأجابه إليه. ولما تفرغ الروم من مشاكلهم قصدوا إلى الشام سنة 371 فاضطر سعد الدولة إلى تمديد الهدنة معهم معترفاً لهم بالسيادة، ومتعهداً بأداء الجزية ليتخلص من حكم الفاطميين 373. ثم عاد فأبى أداءها، فاستولوا على كليس وأوقعوا بجماعة من الحمدانية وحاصروا أفامية وقاتلوها أشد قتال، وجاءوا إلى حلب، وسار قرعويه إلى دير سمعان فحاصره ثلاثة أيام وفتحه بالسيف وقتل جماعة من رهبانه، وسبى خلقاً التجئوا إليه من إنطاكية ودخلوا بهم إلى حلب وأشهروا بها وأنفذ الدومستيقس سرية من عسكره إلى كفرطاب فأوقعت بجماعة العرب والحمدانية، واستولى المغاربة على حصن بانياس ولم يقبل الروم بالصلح مع صاحب حلب سنة 376 إلا على شرط أن يدفع ما تأخر عليهم من الجزية لهم، ورحل بسيل ملك الروم إلى الشام فحاصر حلب وفتح حمص وشيزر وأقام على طرابلس، ودامت معاهدة صاحب حلب مع الروم إلى حين وفاته سنة 392. وهكذا أصبحت الدولة الحمدانية بعد عزها على عهد سيف الدولة، ذليلة خاضعة لسلطان غيرها في عهد خلفه.

تجاذب السلطة بين العباسيين والفاطميين:

تجاذب السلطة بين العباسيين والفاطميين: هلك المعز الفاطمي وتولى ابنه العزيز 365 فقصد أفتكين المستولي على دمشق سواحل الشام وعمد إلى صيدا فحاصرها وبها ابن الشيخ ومعه رؤوس المغاربة ومعهم ظالم بن موهوب العقيلي فقاتلهم، وكانوا في كثرة فطمعوا فيه وخرجوا إليه فاستجرهم حتى أبعدوا ثم عاد عليهم فقتل منهم نحو أربعة آلاف، وطمع في أخذ عكا، فتوجه إليها وقصد طبرية ففعل فيها من القتل والنهب مثل صيدا وعاد إلى دمشق. ثم أرسل العزيز القائد جوهراً في العساكر إلى الشام، فلما سمع أفتكين بمسيره جمع أهل دمشق وعاهدهم فبايعوه على الطاعة وبايعهم على الذبّ عنهم، فوصل جوهر إلى دمشق 365 ورأى من قتال أفتكين ومن معه ما استعظمه، ودامت الحرب شهرين قتل فيها عدد كثير من الطائفتين، فلما رأى أهل دمشق طول مقام المغاربة عليهم أشاروا على أفتكين بمكاتبة الحسن بن أحمد القرمطي ملك القرامطة واستنجاده، فجاءهم القرمطي واجتمع إليه من رجال الشام والعرب نحو من خمسين ألفاً، فرحل جوهر من دمشق خوفاً من أن يبقى عدوين، وتبعه أفتكين والقرمطي والتقوا بيافا وحصروه في عسقلان فعاين الهلاك هو وأصحابه من الجوع نحو سبعة عشر شهراً، فبذل لأفتكين مالاً ليمنّ عليه ويطلقه، فرحل أفتكين عنه وسار جوهر إلى مصر، وأعلم العزيز بالحال، فسار العزيز بنفسه إلى الشام في سبعين ألف مقاتل، ووصل الرملة، فقاتله أفتكين والقرامطة بظاهرها قتالاً شديداً، فنصر العزيز وقتل وأسر كثيراً المحرم 367 وقد قتل من المغاربة جيش الفاطمي نحو من عشرين ألفاً. وجعل العزيز لمن يحضر أفتكين مائة ألف دينار، وطلب أفتكين في هزيمته بيت صاحبه مفرج بن دغفل الطائي، فأسره مفرج في بيته وأعلم العزيز به فأعطاه الجعل، وأحضر أفتكين 368 فأطلقه العزيز وأصحابه، وبقي عنده معظماً حتى مات بها. وبعث العزيز إلى الأعصم زعيم القرامطة وهو منهزم فأدركه بطبرية وأعطاه عشرين ألف دينار فسار إلى الأحساء.

سوء حالة دمشق واضطراب الأحكام المصرية:

ودلّ العزيز بكفه عن قتل أفتكين على بعد نظره، وانه أثر فيه ما أسداه من الجميل لقائده جوهر في نوبة عسقلان بإطلاقه سراحه وسراح من معه، فقابل العزيز أفتكين على جميله بمثله. خصوصاً وأن أفتكين لم يقصر منذ استولى على دمشق بمجاملة خليفة مصر العلوي، وإن كان من جهة ثانية نزع خطبته وأرجع الخطبة العباسية في كثير من مدن الشام، وأكرم العزيز ملك القرامطة الذي ندبه الدمشقيون على لسان أفتكين أن يعاونهم على الخلاص من الدولة المصرية لظلم عمالها ومخالفتها لهم في المذهب، وذلك ليستميل قلبه حتى لا يعود ثانية إلى نصرة أحد من أهل بلاده عليه. سوء حالة دمشق واضطراب الأحكام المصرية: لما فارق أفتكين دمشق إلى فلسطين قدّم على أهلها رجلاً اسمه قسام الحارثي من الأبطال المعروفين، وقيل: من أرباب الدعارة العيارين، كان أصله من قرية تلفيتا في سنير، يعتاش بنقل التراب على الحمير، وتنقلت به الأحوال حتى صار له ثروة وأتباع، وغلب على دمشق وما إليها من الأصقاع، بحيث لم يبق معه لنوابها من الفاطميين أمر ولا نهي، ودام ذلك سنين. وكان القائد أبو محمود بن إبراهيم المغربي قد عاد إلى البلد والياً عليه للعزيز فلم يتم له مع قسام أمر، وامتدت أيدي أصحاب أبي محمود بالعيث والفساد وقطع الطرق فاضطرب الناس وخافوا، وانتزح أهل القرى منها لشدة نهب المغاربة أموالهم وظلمهم لهم، ووقعت فتنة عظيمة بين عسكر أبي محمود وبين العامة، فألقى عسكره النار من باب الفراديس فأحرقوا تلك الناحية، وكانت فيها أجمل قصور دمشق، وحرق كثير من أحياء البلد، وهلك فيه جماعة وما لا يعد من الأثاث والأموال، ثم صالحوا القائد أبا محمود ثم انتقضوا ولم يزالوا كذلك إلى سنة 364. ولما خاف الفاطميون عاقبة قسام الحارثي؛ إذا استلذ طعم الانتصار غير مرة، سيروا لحربه الأمير الأفضل فحاصر دمشق وضاق بأهلها الحال، فخرج قسام متنكراً فأخذته الحرس فقال: أنا رسول. فأحضروه إلى

خوارج على دولة الجنوب ودولة الشمال:

الأفضل فقال له: أنا رسول قسام إليك لتحلف له وتعوضه عن دمشق بلداً يعيش به وقد بعثني اليك سراً، فحلف الأفضل، فلما توثق منه قام وقبل يديه وقال: أنا قسام. فأعجب الأفضل ما فعله وزاد في إكرامه ورده إلى البلد وسلمه إليه، وقام الأفضل بكل ما ضمنه وعوضه موضعاً عاش به، فلما بلغ ذلك العزيز أحسن صلته. ذكر هذا القفطي وأورد الذهبي رواية أخرى في أمر قسام قال: إنه تقدم لقتاله سليمان بن جعفر بن فلاح إلى دمشق فنزل في ظاهرها ولم يمكنه دخولها فبعث إليه قسام بخطه أنا مقيم على الطاعة، وبلغ العزيز ذلك فبعث البريد إلى سليمان يرده فترحل سليمان من دمشق وولى العزيز عليها أبا محمود المغربي ولم يكن له أيضاً مع قسام أمر ولا حل ولا عقد. قال ابن تغري بردي: ولعل الذي ذكره الذهبي كان قبل توجه عسكر أفتكين والأفضل، فإن الأفضل لما سار بالجيوش أخذ دمشق من قسام وعوضه بلداً آخر وهو المتواتر. وكان من سياسة قسام الحارثي أن كان يدعو للعزيز بالله العلوي على المنابر. وقبل أن يحاربه المصريون وصل إليه أبو تغلب بن حمدان صاحب الموصل وحط رحاله في حوران، فمنعه قسام من دخول دمشق، فاستوحش أبو تغلب وجرى بين أصحابه وأصحاب أبي تغلب شيء من قتال، فرحل أبو تغلب إلى طبرية، وورد من عند العزيز القائد الأفضل في جيش فقاتله وجماعته حتى قتل في الرملة 369 وخلت الديار، وأتت بنو طيىء على الناس وشملهم البلاء منهم. خوارج على دولة الجنوب ودولة الشمال: كان مفرج بن الجراح أمير بني طيىء وسائر العرب في فلسطين قد كثرت جموعه وقويت شوكته، وعاث في فلسطين وخربها، وهلك من فيها فكان الرجل يدخل إلى الرملة يطلب فيها شيئاً يأكله فلا يجده، ومات الخلق بالجوع وخربت الأعمال، فخاف العزيز عاقبة أمره بعد أن رأى ما أتعب دولته من أمر الخوارج أفتكين والأعصم وقسام وابن حمدان، فجهز العساكر لحربه مع قائده بلتكين التركي فسار إلى الرملة، واجتمع

إليه العرب من قيس وغيرهم، ولقي ابن الجراح وقد كمن لهم بلتكين من ورائهم، فانهزم ومضى إلى إنطاكية فأجاره صاحبها. وصادف خروج ملك الروم من القسطنطينية إلى الشام فخاف ابن الجراح وكاتب بكجور عامل حمص لأبي المعالي بن سيف الدولة ولجأ إليه فأجاره. وكان بكجور والي حمص يمد دمشق أيام هذه الفتن والغلاء ويحمل الأقوات من حمص إليها. وكانت دمشق في هذا العهد قد خربها العرب وأهل العيث والفساد، وانتقل أهلها إلى حمص فعمرت. وربما كان هذا القرن أشأم القرون السالفة في الشام ودمشق خاصة، وكان كل أذى ينزل بها وبأهلها. قال ابن بطريق: سار بكجور إلى أبي المعالي بن سيف الدولة من حلب وهو يومئذ بحمص فخلع عليه أبو المعالي وولاه حلب، وعاد بكجور إلى حلب وأقيمت له الدعوة فيها وفي سائر أعمالها، ووافق بكجور سائر غلمان الدولة على القبض على قرعويه، وسار أبو المعالي إلى حلب وأخرجه من حمص وقبض على قرعويه، وسار أبو المعالي من حلب وفتح المعرة وما يليها في شوال سنة 366، ونزل إلى حلب ومعه بنو كلاب، ووقع القتال بينه وبين بكجور، واستظهر أبو المعالي عليه واستقر الأمر بينه وبين بكجور على ولاية حمص. ثم عصى بكجور على سعد الدولة واستدعى جيوش العزيز فسارت معه ونزل على حلب وتحاربوا يومين، سار الدمستق إلى حلب، وورد خبره على بكجور فرحل إليه، فوقع القتال وجرى بينه وبين سعد الدولة مراسلة واستقر الحال بينهم على أن يحمل إليه سعد الدولة مال سنتين أربعين ألف دينار، وسار الدمستق وقصد حمص وسبى أهلها، وأحرق بها جماعة اعتصموا في المغاور وسار بكجور إلى دمشق وتقلدها. وكان بكجور يكاتب العزيز الفاطمي بما يقوم به من الخدم فاستنجز وعد العزيز إياه بولاية دمشق فولاه إياها سنة 73 إلا أنه أساء السيرة في أهلها وقتل أناساً وصادر آخرين وجمع الأموال لنفسه، فجهزت العساكر عليه من مصر مع منير الخادم وكتب إلى نَزّال عامل طرابلس بمظاهرته. وجمع بكجور العرب وخرج للقائه فانهزم، ثم خاف من وصول نزال

فاستأمن إليه، وتوجه إلى الرقة فاستولى عليها، ودخل منير دمشق واستقر في ولايتها وأحسن السيرة في أهلها، وارتفعت منزلته عند العزيز وجهزه لحصار سعد الدولة بحلب. وكان بكجور بعد انصرافه من دمشق سأل سعد الدولة العودة إلى ولايته حمص فمنعه لأنه كان نزع يده من الدولة الحمدانية ووضعها في يد الدولة الفاطمية، فلما أخفق عاد إلى دولته الأولى فرفضته وأجلبت عليه، فاستنجد بكجور الملك العزيز لحرب سعد الدولة فبعث إلى نزّال بمظاهرته، فسار إليه بالعساكر، وخرج سعد الدولة من حلب للقائه وقد أضمر نزال الغدر ببكجور، واستعد سعد الدولة للقائهم، وقد استمد عامل إنطاكية للروم فأمده بجيش كبير، وداخل العرب الذين مع بكجور في الانهزام عنه وكانوا وعدوه ذلك من أنفسهم، فلما تراءى الجمعان وشعر بكجور بخديعة العرب استمات وحمل على الصف بقصد سعد الدولة فقتل لؤلؤاً الكبير مولاه، ثم حمل عليه سعد الدولة فهزمه، فسار إلى بعض العرب ثم حمل إلى سعد الدولة فقتله، وسار إلى الرقة فملكها وقبض جميع أمواله وكان شيئا كثيرا. وزاد مسكويه في تفاصيل هذه الحادثة ما يلي: كان لبكجور رفقاء بحلب يوادونه فكاتبوه وأطعموه في الأمر، وأعلموه تشاغل سعد الدولة باللذات، فاغتر بأقوالهم وكتب إلى صاحب مصر يبذل له فتح حلب، ويطلب منه الإنجاد والمعونة، فأجابه إلى كل ملتمس، وكتب إلى نزّال الغوري والي طرابلس بالمسير إليه متى استدعاه من غير معاودة. وكان نزّال هذا من قواد المغاربة وصناديدهم، فتلكأ نزّال، وكاتب سعد الدولة بسيل ملك الروم يعلمه عصيان بكجور عليه، وسأله إنجاده بالبرجي صاحبه بإنطاكية فسار إليه، وبرز سعد الدولة في غلمانه وطوائف عسكره، ولم يكن معه من العرب إلا خمسمائة فارس إلا أنهم أولو بأس. وتقارب العسكران ووقع الطراد، وكان الفارس من أصحاب سعد الدولة إذا عاد

حملة الفاطميين على الحمدانيين واستنجاد هؤلاء

إليه وقد طعن أو جرح خلع عليه وأحسن إليه. وكان بكجور شحيحاً فإذا عاد إليه رجل من رجاله على هذه الحال أمر بأن يكتب اسمه لينظر مستأنفا في أمره. فقضى شح بكجور عليه حتى أسلمه إلى خصمه فقتله. وقد أعطى سعد الدولة سلامة الرشيقي عهدا بالإبقاء على آل بكجور وأموالهم على أن يسلمه حصن الرافعة، وهو بلد متصل بالرقة، فخرجوا منها ومعهم من الأموال والزينة ما كثر في عين سعد الدولة، فإنه كان يشاهدهم من وراء سرادقه، وبين يديه ابن أبي الحصين القاضي. وقال له: ما ظننت أن حال بكجور انتهت إلى ما أراه من هذه الأثقال والأموال. فقال ابن أبي الحصين: إن بكجور وأولاده مماليكك وكل ما ملكه وملكوه فهو لك، لا حرج عليك فيما تأخذه منهم، ولا حنث في الإيمان التي حلفت بها، ومهما كان من وزر وإثم فعليَّ، فلما سمع هذا القول أصغى إليه، وغدر بهم وقبض جميع ما كان معهم. قال مسكويه: فما كان أسوأ محضر هذا القاضي الذي حسن لسعد الدولة تسويل الشيطان، وأفتاه بنقض الأيمان، ثم لم يقنع بما زين له من غدره، ولبّس عليه من أمره، حتى تكفل له بحمل وزره، وهل أحد حامل وزر غيره، أما سمع قول الله تعالى في أهل الضلالة: (وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون). حملة الفاطميين على الحمدانيين واستنجاد هؤلاء بالروم: مات سعد الدولة فقام بعده ابنه أبو الفضائل ووصيه لؤلؤ فأخذ هذا العهد على الأجناد لأبي الفضائل، وتراجعت العساكر إلى حلب، فرأى العزيز أن الوقت قد حان لاستصفاء الشام بأسرها وإنقاذها من هذا التذبذب بين الدولتين، جنوبها للعزيز وشمالها للحمدانيين، ولا يفتأ كل فريق يدس للآخر، فسير جيشا كثيفا على حلب وعليه منجوتكين أنفق عليه ألف ألف دينار ونيفا، فلما وصل إلى دمشق تلقاه أهلها وقوادها وعساكر الشام كلها، فأقام بها مدة ثم رحل إلى حلب. قال ابن ميسر:

بل كانت بينه وبين أهل دمشق حروب آلت إلى ظفره. وقد استعد واحتشد ونزلها في ثلاثين ألف رجل، وتحصن بها أبو الفضائل ولؤلؤ. ووقع القتال بين منجوتكين والحمدانية على أفامية فانهزم الحمدانية 382 وقتل وأسر جماعة منهم، ونزل منجوتكين على حلب ووقع الحرب في جميع جوانب المدينة ودخل إلى أعمال الروم بسبب اعتقال البرجي لرسوله، ونزل على حصن عم ضيعة البرجي في بلد أرتاح فقاتله وفتحه وسبى وقتل وسار إلى إنطاكية فرشقه الإنطاكيون بالنشاب وعاد منجوتكين إلى منازلة حلب وراجع القتال. وعصى المسلمون في اللاذقية فسار البرجي إليهم وسباه وحملهم إلى الروم، وعاد منجوتكين من دمشق ونزل على أفامية فسلمها إليه وفاء خادم سيف الدولة 383 ورحل إلى شيزر وقاتلها وتسلمها من سوسن غلام سعد الدولة وعاد إلى منازلة حلب. وكان أبو الفضائل كتب إلى بسيل ملك الروم يستنجده وهو يقاتل البلغار، فأرسل بسيل إلى نائبه بإنطاكية ميخائيل البرجي يأمره بإنجاد أبي الفضائل؛ فسار في خمسين ألفا حتى نزل على الجسر الحديد بالعاصي، فلما سمع منجوتكين الخبر سار إلى الروم ليلقاهم قبل اجتماعهم بأبي الفضائل، وعبر إليهم العاصي وأوقع بالروم فهزمهم وولوا الأدبار إلى إنطاكية وكثر القتل فيهم، وجمع من رؤوس قتلاهم نحو عشرة آلاف رأس وحملت إلى مصر. قال الإنطاكي: قتل من الروم في هذه الوقعة التي دعيت بوقعة المخاضة 384 زهاء خمسة آلاف ويمم منجوتكين إلى إنطاكية ونهب رساتيقها وأحرقها، وكان وقت إدراك الغلة فأنفذ لؤلؤاً وأحرق ما يقارب حلب منها إضرارا بالعسكر المصري. وعاد منجوتكين إلى حلب فحصرها وأقام عليها ثلاثة عشر شهرا. فقلت الأقوات فيها وعاد صاحب حلب إلى مراسلة ملك الروم والاعتضاد به، فلما قلت الأقوات إلى العزيز على نفسه أن يمد عسكره بالميرة من غلات مصر، فحمل مائة ألف تلّيس في

الخوارج على الفاطميين واستنجاد أمراء المسلمين

البحر إلى طرابلس ومنها على الظهور إلى أفامية. فكان يوقع للغلمان بجراياتهم وقضيم دوابهم إلى أفامية على خمسة وعشرين فرسخا فيمضون ويقبضونها ويعودون بها. وبنى وأصحابه الحمامات والخانات والأسواق. وعاد منجوتكين إلى منازلة حلب ومحاصرتها وفتح حصن إعزاز وملك سائر أعمال حلب وولى عليها وبنى حصنا مقابل حلب، وأنجد ملك الروم صاحب حلب وكان قد استنجده وأرسل إليه ملكوثا السرياني، فقطع المسافة من بلاد البلغار إلى حلب وهي ثلاثمائة فرسخ في بضعة أيام. ولما أقبل الروم أحرق منجوتكين الخزائن والأسواق والأبنية التي كان استحدثها ورحل في الحال منهزما ووافى بسيل فنزل على باب حلب، وخرج إليه أبو الفضائل ولؤلؤ ولقياه، ثم عاد ورحل في اليوم الثالث إلى دمشق وفتح حمص ونهب، ونزل على طرابلس فمنعت جانبها منه، فأقام نيفا وأربعين يوما فلما أيس منها عاد إلى الروم، وعاد منجوتكين غازيا إلى إنطاكية، ثم سار إلى حلب ورحل عنها إلى أنطرطوس، وقاتل الحصن أياما وسار عامل الروم إلى أنطرطوس ليدفع عنها، وأرسلت مصر أسطولا مؤلفا من أربعة وعشرين مركبا مشحونا بالرجال فكسر الأسطول بريح عاتية، وخرج رجال المراكب إلى البر، فانهزم منجوتكين وجميع عسكره وخرج المقيمون في أنطرطوس وأخذوا ما سلم من المراكب وأسروا من رجالهم خلقا. الخوارج على الفاطميين واستنجاد أمراء المسلمين بالروم: ظن بعد انصراف ملك الروم عن الشام ورجوع الحمدانيين إلى حلب أن الدولة الفاطمية يطمئن بالها، وما كان يجول في الفكر أن ينقلب عليها أحد قوادها الذي كانت اصطفته ليدفع عن القطر ما يتهدده من الشر وأعني به منجوتكين. فقد عصى على خليفته وأراد أن يستنجد الروم فلم يلتفتوا إليه، فندب الخليفة العساكر من مصر لقتاله وقدموا أبا تميم بن جعفر عليها، وأمدوه من الأموال ما أسرفوا فيه، وسار أبو تميم من مصر، ورحل منجوتكين من الرملة بعد أن ملكها. والتقى الجيشان بعسقلان وتواقعا فأجلت الوقعة عن هزيمة منجوتكين وأصحابه، فأسر وحمل إلى

مصر، وسار أبو تميم فنزل طبرية وأنفذ أخاه عليا إلى دمشق، فامتنع أهلها عليه ومنعوه الدخول، وكاتب أخاه بعصيانهم، واستأذنه في قتالهم، فكتب أبو تميم إلى متقدميهم من الأشراف والشيوخ، وحذرهم عواقب فعل سفهائهم، فخافوا وخرجوا إلى علي مذعنين بالطاعة ومنكرين لما فعله أهل الجهالة، فلم يعبأ بقولهم وزحف إلى البلد فملكه، وأحرق وقتل وعاد إلى معسكره. ووافى أبو تميم في غد فأنكر على أخيه ما فعله، وتلقاه وجوه الناس فشكوا إليه ما أظلهم، فأحسن لقاءهم وأمنهم، فسكنوا وعادوا إلى معايشهم. وركب أبو تميم إلى المسجد الجامع في يوم الجمعة بزي أهل الوقار، واجتاز في البلد بسكينة، وبين يديه القراء وقوم يفرقون الدراهم على أهل المسكنة، وصلى الجمعة وعاد إلى القصر الذي نزله بظاهر دمشق، وقد استمال قلوب العامة بما فعله، ثم نظر في الظلامات وأطلق من الحبوس جماعة من أهل الجنايات فازدادوا له حبا، واستقرت قدمه واستقام أمره، وعدل من بعد إلى النظر في أحوال الساحل فهذبها، وولى أخاه طرابلس وصرف عنها جيش بن الصمصامة. ذكر كل هذا مسكويه، وزاد أن أبا تميم كان مع سياسته مستهترا باللذات، فلم يشعر إلا بهجوم المشارقة والعامة على قصره فخرج من دمشق هاربا، ونهبوا خزائنه وأوقعوا بمن كان معه من كتامة، وعادت الفتنة واستولى الأحداث على دمشق، وثار أهلها مع ما كان فيها من الأولياء المشارقة على ابن فلاح فخرج عن البلد هاربا إلى مصر، وتغلب الأحداث ورأسهم رجل منهم يعرف بالدهيقين، فسارت جيوش الحاكم إلى دمشق مع محمد بن الصمصامة للقاء الدمشقيين والدهيقين، فسار الدهيقين إلى مصر وطلب الأمان. وقال ابن ميسر في حوادث سنة 387: إنه كانت وقعة بين منجوتكين وبين ابن فلاح في الرملة قتل فيها نحو مئة ألف كذا من أصحاب منجوتكين وانهزم ابن الجراح. وفي سنة 388 وقعت النار في أفامية واحترق ما كان فيها من القوت فسار أبو الفضائل بن سعد الدولة صاحب حلب في عسكر الحلبيين،

وقاتلها مدة ثم رجع عنها لما سار إليها دوفس إنطاكية، وحاصرها هذا أشد حصار، فاستنجد الملايطي المقيم بها بجيش بن الصمصامة بدمشق، فسار إليه في عساكر ضخمة، وانتشبت الحرب بينهم، واستظهر عليه الدوقس، وقتل منهم مقتلة عظيمة وأخذت البادية سواد عسكر المغاربة، وبلغت الهزيمة إلى بعلبك، وقتل الدوقس فعادت الهزيمة على الروم فقتل منهم زهاء ستة آلاف وأسر أبناء الدوقس وجماعة من رؤساء عسكره، وحملوا إلى مصر وأقاموا بها عشر سنين ثم فودي بهم. وسار جيش بن الصمصامة إلى شيزر فخف ملك الروم بنفسه ففتحها وشحنها بالأرمن، وسار عنها إلى حصن أبي قبيس فأخذه بالأمان وسار إلى حصن مصيات. فملكه أيضاً وأخربه وسار إلى رفنية فأحرقها وسبى أهلها وتوجه يحرق ويسبي إلى أن بلغ حمص فنزلها وتحصن منها نفر في كنيسة مار قسطنطين تحرماً بهاً. فلما علم الرؤوس من أهل عسكره أحرقوها، وكانت كنيسة معجزة وحمل نحاسها ورصاصها، وسار الملك إلى قرب بعلبك واستصرخ جيش من دمشق إلى مصر بكتبه ووصف كثرة الجموع التي للروم فجردت إليه العساكر وكوتب كل والٍ بالشام بالمسير معه، فساروا حتى اجتمع بدمشق من العساكر كما قال الأنطاكي ما لم يجتمع فيها للإسلام مثله، ورجع ملك الروم عن طريق الساحل وأحرق عرقة وهدم حصنها ثم نزل على طرابلس 389 وحاربها براً وبحراً، ثم رحل إلى إنطاكية، وافتتح حصن أبي قبيس بالأمان. وامتدت ولاية منجوتكين في إمرة الجيوش الشامية إلى ما بعد سنة 386 وكان ظالماً جباراً ساءت سيرته في ولايته دمشق وحمص وكثر ظلمه. وولي إمرة دمشق بشارة الإخشيدي من قبل برجوان الخادم الحاكمي 388 وكان ولي طبرية قبل أن يلي دمشق مدة سنين. وكان أهل صور قد عصوا 387 وأمَّروا عليهم رجلاً ملاحاً يعرف بعلاقة. ضرب السكة باسمه وكتب عليها عز بعد فاقة الأمير علاقة فأرسل عليه الفاطميون أسطولاً فاستجار علاقة بملك الروم فأنفذ إليه عدة مراكب مشحونة بالرجال والمقاتلة، والتقت هذه المراكب بمراكب المسلمين فاقتتلوا فظفر المسلمون

وملكوا مركباً من مراكبهم، وقتلوا من فيه وانهزمت بقية المراكب. وهكذا استنجد بالروم في هذه الحقبة أميران على بني جنسهما ودينهما ليستمتعا بالملك وهما أبو الفضائل في حلب وعلاّقة بصور. وكان المفرج بن دغفل قد نزل على الرملة وعاث فساداً في أرضها، وانضاف إلى حادثته وحادثة علاّقة نزول الدوقس صاحب الروم في عسكر كثيف على حصن أفامية، فاصطنع برجوان جيش بن الصمصامة وقدمه، وجهز معه عسكراً وسيره إلى دمشق، وبسط يده في الأموال ونفذ أمره في الأعمال، وسار جيش بن الصمصامة ونزل على الرملة وعليها وحيد الهلالي والياً فتلقاه طائعاً وصادف أبا تميم بها فقبض عليه قبضاً جميلاً، وندب الحسين بن ناصر الدولة بن حمدان في عسكر إلى صور بعد أن كان أنفذ إليها مراكب في البحر مشحونة بالرجال فأحاطت العساكر بها براً وبحراً وضعف أهل صور عن القتال وأخذ علاقة فحمل إلى مصر فسلخ وصلب بها وأقام ابن حمدان والياً عليها. وسار جيش بن الصمصامة لقصد مفرج بن دغفل فهرب من بين يديه وعاذ بالصفح فكف جيش عنه، وعاد سائراً إلى عساكر الروم النازل على حصن أفامية، فلما وصل إلى دمشق تلقاه أهلها في أشرافها ووجوه أحداثها مذعنين له بالانقياد، راغبين في استصحابهم للجهاد، فجزاهم خيراً فأقبل جيش على رؤساء الأحداث وبذل لهم الجميل، ونادى في البلد برفع المؤن، وإباحة دم كل مغربي يتعرض لفساد، فاجتمعت الرعية وشكروه، وسألوه دخول البلد والنزول بينهم فلم يفعل، ثم سار ونزل بحمص واجتمعت العساكر وتوجه إلى حصن أفامية، فوجد أهلها وقد اشتد بهم الحصار، فنزل بإزاء عسكر الروم بينه وبينهم نهر العاصي. ثم التقى الفريقان من بعد، وكان المسلمون يومئذ في عشرة آلاف من الطوائف وألف فارس من بني كلاب، فحملت الروم على المسلمين فزحزحوهم عن مصافهم، وانهزمت الميمنة والميسرة، واستولى الروم على كراعهم وعطفت بنو كلاب على أكثر ذلك فنهبوه، وثبت بشارة الإخشيدي

في خمسمائة فارس، ورأى من في حصن أفامية من المسلمين ما أصاب إخوانهم فأيسوا من نفوسهم. قالوا: وكان الدوقس عظيم الروم في هذه الوقعة بعد أن تراجع المسلمون على رأسه راية وبين يديه ولداه وعشرة خيالة، فقصده أحمد بن الضحاك الكردي على فرس جواد، فظنه عظيم الروم مستأمناً، فلما قاربه طعنه الكردي فقتله فانهزمت الروم وتراجع المسلمون فركبوا أقفيتهم قتلاً وأسراً وألجئوهم إلى مضيق في الجبل وأسروا ولد الدوقس، وحمل إلى مصر من رؤوسهم عشرون ألف رأس وألف أسير. وعاد جيش إلى دمشق فاستقبله أهلها، فخلع على وجوه الأحداث وحملهم على الخيل والبغال، ووهب لهم الجواري والغلمان، وعسكر بظاهر البلد وأخلوا له قرية بيت لهيا ليكون مقامة بها، وتوفر على استعمال العدل وتخفيف الثقل، فاستخص رؤساء الأحداث واستحجب جماعة منهم، ثم أوقع بهم كلهم، ودخل البلد وثلم السور من كل جانب، واستغاث الناس به ولاذوا بعفوه، فكفّ عنهم واستدعى الأشراف استدعاء حسن ظنهم فيه، فلما حضروا أخرج رؤساء الأحداث وأمر بضرب رقابهم بين أيديهم، ثم صلب كل واحد في محلته. وجرد إلى المرج والغوطة قائداً وأمره بوضع السيف فيمن بها من الأحداث فقال: إنه قتل ألف رجل منهم، حتى إذا فرغ من ذلك كله قبض على الأشراف وحملهم إلى مصر واستأصل أموالهم ونعمهم، ووظف على البلد خمسمائة ألف دينار. وكان عدد من قتلهم ثلاثة آلاف رجل، واحتال للقضاء على هؤلاء الأحداث بأن جعل يبسط الطعام كل يوم لهم ولمن يجيءُ معهم من أصحابهم، فكان يحضر كل إنسان منهم في جمع من أصحابه وأشياعه، وأمرهم إذا فرغوا من الطعام أن يحضروا إلى حجرة يغسلون أيديهم فيها، وأمر أصحابه إذا دخل رؤساء الأحداث الحجرة أن يغلقوا بابها عليهم ويضعوا السيف في أصحابهم، فلما كان الغد حضروا الطعام، وقام الرؤساء إلى الحجرة، فأغلقت الأبواب عليهم وقتل من أصحابهم نحو ثلاثة آلاف رجل.

تولى جيش نيابة دمشق غير مرة، وكان ظالماً سفاكاً للدماء ظلم الناس كثيراً. قالوا: وعم الناس في ولايته البلاء من القتل وأخذ المال حتى لم يبق بيت في دمشق ولا بظاهرها إلا امتلأ من جوره؛ خلا من كان ظالماً يعينه على ظلمه. وممن ولي دمشق للمصريين وساءت سيرته ختكين القائد ثم القائد طرملة بن بكار البربري، وكان عبداً أسود، فجار على أهلها كما جار ختكين وظلمهم وأخذ أموالهم، وفر إلى مصر وحمل بعض ما كان معه إلى الحاكم، فتمكنت حاله عنده وولاه دمشق فأقام والياً عليها إلى سنة 394، ثم صرف عنها بخادم من خدم الحضرة.

تتمة دور الفاطميين من سنة 394 - 463

تتمة دور الفاطميين من سنة 394 - 463 خوارج ومذاهب جديدة وفتن: ظهر في أعمال حلب سنة 395 رجل اسمه احمد بن الحسين ويعرف بالأصفر تزيّا بزي الفقراء وتبعه خلق من العرب وسكان القرى، وصحبه رجل من وجوه العرب يعرف بالجملي، ونازل شيزر وأسرى في جماعة من العرب وغيرهم ممن اجتمع إليه ولقي عسكر الروم وكبس والي أرتاح وسار نحو جسر الحديد يريد إنطاكية، في مهروية على فرسخين من إنطاكية بطريق يقال له بيغاس في عسكر كان معه، فقتل الجملي وانهزم الأصفر إلى سروج، ونزل قرية كفر عزون وكانت حصينة، ففتحها العامل الرومي وأسر منها اثني عشر ألف أسير وأخذ غنائم كثيرة، وكان قد اجتمع عرب بني نمير وبني كلاب مع وثاب بن جعفر صاحب سروج في زهاء ستة آلاف فارس على الرومي فلقيهم وهزمهم، وتوسط لؤلؤ صاحب حلب أن يعتقل الأصفر بقلعة حلب فأخذ واعتقل، وبقي فيها معتقلاً إلى أن دخلت حلب في حكم الفاطميين 406. وأمر الحاكم 404 باروح التركي الملقب علم الدولة على جيوشه ولقبه أمير الأمراء وولاه الشام وسيره إليها وحمل باروح معه زوجته وهي ابنة الوزير يعقوب بن يوسف بن كلس وحملا معهما أموالهما في قافلة مع التجار، فاعترضهم ظاهر غزة المفرج بن دغفل بن الجراح وأولاده فأوقع بهم وحاز جميع ما كان معهم وأخذ باروح أسيراً وقتله. وسار ابن الجراح

إلى الرملة ودخلها، وأباح للعرب نهبها وصادر الأموال وأقام الدعوة لأبي الفتوح الحسن بن جعفر الحسني أمير مكة يومئذ وأسماه أمير المؤمنين ولقبه الراشد لدين الله، وضرب له السكة واستحوذت العرب على جنوب الشام وملكوه من الفرما إلى طبرية وحاصروا حصون السواحل مدة طويلة ولم يمكنهم أخذ شيء منها. واستدعى ابن الجراح أبا الفتوح الحسني من مكة فسار إلى الشام ووصل إلى الرملة ودخلها راكباً فرساً ونزل في دار الإمارة بها، وأنشأ كتاباً قرىء على الناس بأن لا يقبل له أحد الأرض، وأن هذا شيء ينفرد به الله عز وجل، وجلب معه أموالاً كثيرة من الحجاز فأكلها العرب وحجزوا عليه وأشرف على ضعف أمره. وقد كان الحاكم بذل فيه أموالاً جسيمة لحسان بن المفرج فأشار على أبي الفتوح بالرجوع إلى طاعة الخليفة العلوي وأوصلوه إلى مأمنه، فلما عاد إلى مكة أقام الدعوة للحاكم على الرسم السالف بعد أن كان أقامها لنفسه، وكتب إلى الحاكم يعتذر فقبل عذره ووصله وأحسن إليه. وحصل الشام في أيدي بني الجراح وأقاموا متغلبين عليه إلى المحرم سنة أربع وأربعمائة وعظمت مصادرتهم للناس مرة بعد أخرى وعسفهم إياهم، فهرب من النصارى خلق كثير توجهوا إلى الروم وقصد أكثرهم اللاذقية وإنطاكية وقطنوهما. استقل ابن الجراح سنتين وخمسة أشهر في الشام ولم يرسل الحاكم عليه عسكراً، ثم سير القائد علي بن فلاح في جيش كبير جمع فيه معظم رجال مملكته، وكوتبت الجيوش في دمشق والسواحل بلقائه، وسارت العساكر من الجهتين نحوه فاتفق في الحال أن مات المفرج بن دغفل بن الجراح واتصل بأولاده، قصد العساكر إليهم فذهبوا مع العرب إلى البرية وتخلوا عن الرملة وغيرها من الأقاليم التي غلبوا عليها. ولى الحاكم عهده لأبي القاسم عبد الرحمن بن الياس وجعله الخليفة بعده 404 ودعي له على المنابر ونقش اسمه على السكة، وحصل بدمشق وفسح لأهلها في شرب القهوة وسماع الأغاني فأحبوه ومقته الجند

لشحه، وأذاع بعض الدرزية دعوته في قوم من المسلمين في وادي التيم، فتجاهر الذين استجابوا لدعوته بمذهبهم، فغزاهم أمير الأكراد ابن الشليل فقتل منهم وسبى وأحرق وأهلك خلقاً. واستشعر ولي العهد بعد ما جرى في أمرهم إنكار الحاكم ما فعل بهم، وحذر أن يحنق عليه بسببهم، فأنفذ صاحباً له يعرف بابن الخرقاني إلى حسان بن المفرج بن الجراح ليقرر له معه أن يكون من جهته، فشغب عليه الجند وقتلوا الخرقاني بدمشق ونهبوا دار ولي العهد، فاستغاث بالدمشقيين والغوطيين، فأحاطوا بالقصر الذي ينزله بظاهر دمشق فانتشبت الحرب بينهم وبين الجند واندفع الدمشقيون عنه ونهب الجند القصر، وكان عند تواصل الأخبار إلى الحاكم بعصيان ولي العهد ندب صاعد بن عيسى بن نسطورس للخروج إلى الشام، وأعطاه من العدد السلطانية والآلات الجليلة ما لم يعط لغيره، وتقدمت مكاتبة الحاكم إلى ولي العهد يأمره بالحضور إلى مصر فبادر بالرحيل وسار العسكر معه إلى الرملة ولما أيقن الحاكم امتثاله أمره زالت الشبهة عنه من نفسه، وكتب يرسم له بالرجوع إلى دمشق وقلد تقليداً ثانياً. وثار بدمشق بعد مسير ولي العهد عنها رجل من أهلها يعرف بمحمد بن أبي طالب الجزار، واجتمع إليه جمع كثير من أحداثها ومن رعاع أهل حوران امتعاضاً لولي العهد، وحاربوا الجند، وطرح العسكر النار في المدينة فأحرقت منها قطعة كبيرة، ولما عرف محمد بن أبي طالب الجزار عودة ولي العهد سار للقائه واجتمعوا في لدّ وسار محمد بن أبي طالب إلى دمشق، وقد اجتمع إليه خلق كثير ودخل دمشق بغتة، وراجع الحرب واستظهر على الجند وأخرجهم من المدينة، وأرسل إليه ولي العهد في تسكين الفتنة فلم يطعه وقتل قاضي دمشق وتسلط هو والأحداث عليها، وقتل أيضاً جماعة من الناس ونهبهم، وتوقاه أهل السلامة وخافوا منه، وغلت الأسعار بقيام الفتنة فاجتمع على الناس الجوع والحريق والنهب والقتل. وكان محمد بن أبي طالب قد سدّ الباب الشرقي، فوجد الدمشقيون فرصة وفتحوه، وقبضوا عليه وقتلوه وصلبوه على باب الجابية، وقتلوا جمعاً ممن كان على رأيه، واستقام أمر دمشق وصلح حال ولي

تقسيم الأقاليم بين القبائل ودولة بني مرداس:

العهد وأطلق يده في مصادرة جماعة من الدمشقيين والمتهمين بقيام الفتنة فتنكروا عليه وأبغضوه واجتمع أهل البلد والجند على كراهيته. تقسيم الأقاليم بين القبائل ودولة بني مرداس: كان لؤلؤ غلام ابن حمدان وولده منصور بن لؤلؤ قد استوليا على حلب بعد موت أبي الفضائل بن سعد الدولة، وضيق منصور بن لؤلؤ على ابني أبي الفضائل فقصدا الحاكم في مصر، وهرب أبو الهيجاء بن سعد الدولة من حلب أيضاً في زي النساء والتجأ إلى بسيل ملك الروم ومات لؤلؤ في المحرم سنة 399 وآلت الإمارة لولده الصغير منصور بن لؤلؤ، وكرهه كثير من الحلبيين ورغبوا في أبي الهيجاء، وكذلك أمراء بني كلاب المدبرون بلد حلب، وسار أبو الهيجاء إلى ميافارقين فأنفذ معه حموه ابن مروان صاحباً له في دون المائتي فارس وسار إلى الجزيرة، ولقيه جماعة أمراء بني كلاب وضمنوا له أن يعاضدوه، وخافه منصور بن لؤلؤ فاستصلح بني كلاب وشرط لهم أن يعطيهم الإقطاعات الكثيرة ويجعلهم مساهمين له في الضياع والأعمال ظاهر حلب، واستنجد بالمغاربة جيش الفاطميين، فأسرع إليه علي بن عبد الواحد بن حيدرة قاضي طرابلس في عسكر منيع، فاتفقت موافاته حلب مع نزول أبي الهيجاء، فانهزم هذا وذهب إلى القسطنطينية، ومات فيها عند صاحب الروم، وعاد ابن حيدرة إلى طرابلس، وأقام منصور بن لؤلؤ يخطب لصاحب مصر ولقبه الحاكم مرتضى الدولة، ثم فسد ما بينه وبين الحاكم وعاد الكلابيون يلتمسون من منصور بن لؤلؤ ما شرط لهم، فحضر منهم زهاء سبعمائة رجل فيهم جميع أمراء بني كلاب وذوي الرئاسة والشجاعة جميعاً وأمر ببذل السيف فيهم، وحبس منهم جماعة، وكان في جملة المحبوسين صالح بن مرداس فتوصل في الحبس إلى أن صعد من السور وألقى نفسه من أعلى القلعة إلى تلها، فسار إلى أهله وجمع ألفي فارس وأسر ابن لؤلؤ وقيده بقيده الذي كان في رجله ولبته الحديد. وكان لابن لؤلؤ أخ فنجا وحفظ المدينة، وبذل ابن لؤلؤ لصالح

ابن مرداس مائتي ألف دينار فأطلقه على شرط أن يطلق كل أسير عند ابن لؤلؤ من بني كلاب. وبنو كلاب بطن من عامر بن صعصعة ملكوا حلب ونواحيها، وأول من ملك منهم صالح بن مرداس هذا، وكان لهم في أيام سيف الدولة بن حمدان شأن، وغزاهم غير مرة بعد أن اصطنعهم واصطفاهم من بين قبائل العرب. انقرضت دولة بني حمدان سنة 406 وآخرهم في حلب المنصور، وقد دامت حكومتهم في حلب وحماة وحمص والمعرة وإنطاكية زهاء سبعين سنة عزيزة مستقلة في أولها، ذليلة خاضعة لسلطان غيرها في آخرها. وفي شوال 411 سلم محمد بن خليد النهراني إلى الروم حصن الخوابي في جبل نهران ومدينة مرقبة على ساحل البحر وكانت خراباً فأحسن إليه بسيل الملك. وتسلم نواب الفاطميين الشام حتى موت الحاكم بأمر الله 411هـ - 1021م وعندها اجتمع حسان أمير بني طيىء، وصالح بن مرداس أمير بني كلاب، وسنان بن عليان أمير بني كلب، فتحالفوا واتفقوا على أن يكون من حلب إلى عانة لصالح بن مرداس، ومن الرملة إلى مصر لحسان، ودمشق لسنان، فقصد صالح حلب وبها رجل يقال له ابن ثعبان يتولى أمرها للمصريين، فسلم أهل البلد لصالح لإحسانه إليهم ولسوء سيرة المصريين معهم، وسلمت القلعة إليه سنة 414 وملك من بعلبك إلى عانة وأقام بحلب ست سنين. افتتح حسان بن المفرج بن الجراح أمير الطائيين مدينة الرملة 415 وأتى عليها حريقاً ونهباً وأسراً. وحاصر سنان بن عليان مدينة دمشق 416 وجرت بينه وبين أهلها حرب شديدة وخرب داريا وأعمالها. وبقيت حال الشام على هذا إلى سنة 419 وقد مات سنان بن عليان أمير الكلبيين، ودخل ابن أخيه رافع بن أبي الليل بن عليان إلى الظاهر الفاطمي فاصطنعه وعقد له الإمارة على الكلبيين وسير معه عسكراً، وانضافت إليه العساكر المقيمة في الشام، واجتذب إليه جماعة من العرب، وقصدوا بأجمعهم حرب حسان بن المفرج بن الجراح وورد إليه صالح بن مرداس وبنو كلاب لمعاونته، واتفقا على لقائهم وتصافوا للحرب في طبرية في

موضع يعرف بالأقحوانة 420 وقتل صالح ومع علم حسان والعرب بقتله انهزموا بأسرهم إلى الجبال وقتل منهم جماعة، ولما عرف أصحاب صالح المقيمون في بعلبك وحمص وصيدا ورفنية وحصن ابن عكار قتله تخلوا عن جميعها واستعادها أصحاب السلطان. واستولى نصر وثمال ابنا صالح على حلب وأعمالها وعلى الرحبة وبالس ومنبج. وكان بإنطاكية عامل للروم فجمع جيشاً وسار قاصداً حلب بغير أمر ملكه، فتلطف معه ابنا صالح بعد أن كبست العرب معسكره وقتلت منه جماعة، ثم سار ملك الروم بنفسه 421 إلى غزو حلب واتصل بحسان ابن الجراح ما عزم عليه ملك الروم من غزو الشام، فأنفذ إليه جماعة من أهله برسالة يقوي بها عزمه على ما همّ به ويبذل له الخدمة في غزاته والمسير بين يدي جيوشه بعشيرته وأصحابه، وأنفذ أيضاً نصر وثمال ابنا صالح بن مرداس مع آل جراح ابن عمهما مقلد بن كامل بن مرداس يبذلان مثل ذلك عن نفوسهما وعشيرتهما وأصحابهما، وأن يعطي جميعهم رهائنهم على مناصحتهم إياه، وصحة وفائهم بما بذلوه، ووفد جميعهم إلى الملك فنزل هذا بجيشه على تبّل من بلد أعزاز فطاردهم العرب وانهزم أكثر المقاتلة وثبت بعضهم وقتل من الفريقين جماعة، وأسرت العرب من الروم المنهزمين عدداً كبيراً وعاد الباقون إلى معسكرهم، ثم اضطر الملك إلى العودة إلى دياره، وكان معه جماعة كثيرة من الأرمن فوضعوا أيديهم في النهب وزادت الفتنة، ثم كتب نصر بن صالح إلى ملك الروم يستعطفه ويعتذر إليه ويلتمس منه أن يجريه على ما كان أبوه عليه وغيره، ممن ملك حلب مع من تقدمه من أسلافه الملكين الماضيين بسيل وقسطنطين. قال ابن الأثير: لما خرج ملك الروم بنفسه من القسطنطينية إلى الشام هذه المرة كان في ثلاثمائة ألف مقاتل، فلما بلغ قريب حلب نزل على يوم منها، ولحقه عطش شديد فهلك كثير من جيشه عطشاً، فعاد وجماعته أدراجهم. وقيل في عوده: إن جمعاُ من العرب ليس بالكثير عبر على عسكره وظن الروم أنها كبسة فانهزموا لا يلوون على شيء. وذكر ابن

المهذب المعري أن خروج أرمانوس ملك الروم إلى حلب في سنة إحدى وعشرين وأربعمائة، وكانوا ستمائة ألف، ومعه ملك البلغار وملك الروس والألمان والخزر والأرمن والبلجيك والفرنج وغنم المسلمون منهم ما لا يحصى وأسرت جماعة من أولاد ملوكهم. وفي قول ابن المهذب نظر. لأن هذا الجيش العظيم وهذه الأمم التي عدها يستحيل أن تسير مع ملك الروم إلا إذا كان دعاهم باسم حماية النصرانية في الأرض المقدسة، ويستحيل أن تقترب منها أو أن تفتحها وفي الشام أمامها دول وإمارات. وملك الروم 422 قلعة أفامية، وسبب ملكها أن الظاهر الفاطمي سير إلى الشام الدزبري وزيره فملكه، وقصد حسان بن المفرج الطائي، فألح في طلبه فهرب منه ودخل بلد الروم، ولبس خلعة ملكهم وخرج من عنده وعلى رأسه علم فيه صليب، ومعه عسكر كثير، فسار إلى أفامية فكبسها وغنم ما فيها وسبى أهلها وأسرهم. وفي سنة 423 اجتمع في جبل السماق جماعة من الدرزية وجاهروا بمذهبهم وأخربوا المساجد، وتحصن دعاتهم وكثير من عوامهم في مغاور شاهقة منيعة، وقصدهم وانضوى إليهم خلق كثير من أهل نحلتهم، وتوفر عددهم واستضاموا المسلمين المجاورين لهم من أهل بلدان حلب، ووعدوا أنفسهم وأطمعوا عوامهم بقوة أيديهم وكثرة استيلائهم على الأعمال القريبة والبعيدة. فرأى قطبان إنطاكية مبادرتهم قبل تفاقم أمرهم وتخطيهم إلى الفساد والعيث، ورسم لمن يجاورهم من طراخنته قصدهم برجاله وأصحابهم، فتلطفوا في أن قبضوا على دعائهم وأماثلهم وقتلوهم، وحاصروا باقيهم في تلك المغاور، فنصبوا عليها القتال اثنين وعشرين يوماً إلى أن التمسوا الأمان وخرجوا منها هاربين، وتتبع الروم المسلمين في أعمالهم وأخذوهم واضمحلوا ودثروا. وهذه ثاني وقعة للدروز في الشام والوقعة الأولى في وادي التيم بعد قيام دعوتهم على عهد الحاكم بأمر الله الفاطمي.

وكان الحاكم هذا في جملة تحكماته الباردة على سكان مملكته أن أمر بهدم الكنائس، فهدم كنيسة في دمشق وكنيسة القيامة بالقدس وغيرها من الكنائس العظمى، ونقض بعض الكنائس بيده، وأمر بأن تعمر مساجد للمسلمين، وأمر بالنداء: من أراد الإسلام فلسلم. ومن أراد الانتقال إلى الروم كان آمناً إلى أن يخرج، ومن أراد المقام على أن يلتزم ما شرط عليه فليقم. وبعد أن مضى الحاكم لسبيله اشترط ملك الروم على الظاهر 424 في الهدنة التي عقدها معه أن يعمر الملك كنيسة القيامة ببيت المقدس ويجددها من ماله ويصير بطريركاً على بيت المقدس، وأن تعمر النصارى جميع الكنائس الخراب التي في مملكة الظاهر. بقي شبل الدولة مالكاً لحلب إلى سنة 429، فأرسل إليه أنوشتكين الدزبري العساكر المصرية، فلقيهم عند حماة فقتل في المعركة، وملك الدزبري حلب، وصفت له الشام بأجمعها، وأباد المفسدين ومهد الأمور، حتى أمنت السبل، وعظم أمره وكثر ماله، وأرسل يستدعي الجند الأتراك، فبلغ المصريين أنه عازم على العصيان فتقدموا إلى أهل الشام بالخروج عن طاعته ففعلوا، فقصد حماة فعصى عليه أهلها، فكاتب محمد ابن منقذ الكفرطابي فحضر إليه في نحو ألفي رجل فاحتمى به وسار إلى حلب 433 وتوفي بعد شهر واحد. وكان أنوشتكين نائب الشام للمستنصر، شجاعاً مقداماً، عظيم الهيبة، حسن السياسة، طرد الأعراب من الشام، وأباد المفسدين ومهد أحوال القطر وفسد بموته الشام وزال النظام، وخرجت العرب في الأقاليم، فخرج أبو علوان ثمال بن صالح بن مرداس الملقب بمعز الدولة بالرحبة وجاء حلب فملكهاً تسليماً من أهلها، وسار 440 ناصر الدولة بن حمدان أمير دمشق وشجاع الدولة جعفر بن كلشيد والي حمص بجماعة من الجند وقبائل العربان من الكلابيين وغيرهم إلى حلب، لقتال متوليها ثمال بن صالح بن مرداس، فخرج أهل حلب فهزمهم واختنق بالنهر منهم جماعة فرجع بغير طائل، ثم قلد قطز الصقلبي دمشق وقبض على ابن حمدان وصادره واعتقله بصور ثم بالرملة، وقبض على

راشد بن سنان أمير بني كلاب وحمله إلى صور فاعتقله بها، وخرج أمير الأمراء رفق الخادم على عسكر تبلغ عدته نحو ثلاثين ألفاً بلغت النفقة عليه أربعمائة ألف دينار يريد الشام ومحاربة بني مرداس، فحاربه الحلبيون فانهزم المصريون وأُسر رفق ومات في حلب. قال ابن ميسر: وتقدم المستنصر إلى جميع ولاة الشام بالانقياد لرفق، فوافى بالرملة رسول ملك القسطنطينية واصلاً بالصلح بين المستنصر وبني مرداس فقتل رفق، وجرت بالرملة ودمشق أمور آلت إلى حرب بين العسكر مدة أيام بباب توماء من دمشق. وجهز ثمال إلى معرة النعمان والياً أساء التدبير فانحرف عنه القوم وآل أمره إلى الهرب، فبادر جعفر أمير حمص وتجهز إلى المعرة بنفسه ولقيه مقلد بن كامل بن مرداس فأوقع به وقتله وشهر رأسه بحلب. وحصر ثمال امرأة الدزبري وأصحابه بالقلعة أحد عشر شهراً وملكها سنة 434. وكان ثمال جمع للمصريين خمسة آلاف فارس وراجل فقاتلهم ثلاثة أيام، فلما رأى المصريون صبر ثمال وكانوا ظنوا أن أحداً لا يقوم بين أيديهم، رحلوا عن المدينة. والسبب في قتال ثمال أنه كان قرر على نفسه أن يحمل كل سنة عشرين ألف دينار عما في يده ويد عشيرته إلى صاحب مصر، فتأخر الحمل سنتين. ثم أرسل الهدايا إلى المصريين وأصلح أمره معهم، ونزل لهم عن حلب فانفذوا إليها الحسن بن علي ابن ملهم فتسلمها من ثمال سنة 449 بعد حروب طويلة. وفي سنة 446 نقض الروم الهدنة مع الخليفة الفاطمي وكانوا تعهدوا بأن يطلقوا له أربعمائة ألف أردب من الغلال بسبب الغلاء في مصر، ولم يوفوا بالعهد، فجهز المستنصر عسكراً قدّم عليه ابن ملهم لقصد اللاذقية، فخرج في عساكر جمة وحاصرها وأتبعهم بعسكر ثان وعسكر ثالث، ونودي في الشام بالغزو إلى الروم، وحاصر ابن ملهم قسطون بالقرب من أفامية، وضيق على أهله، وجال في أعمال إنطاكية ونهبها وسبى منها. وفي سنة 447 سير المستنصر فقبض على جميع ما في كنيسة القيامة بالقدس، لأن صاحب الروم أذن لرسول طغرلبك السلجوقي أن يصلي في

جامع القسطنطينية، فخطب للقائم العباسي، فغضب الخليفة الفاطمي. قال ابن ميسر: وكان هذا من الأسباب الموجبة لفساد ما بين المصريين والروم. وفي هذه السنة تجمع كثير من التركمان بحلب وغيرها، فأفسدوا في أعمال الشام. حدثت فتنة بين بعض السودان وأحداث حلب، فسمع ابن ملهم أن بعض الأحداث من سكانها قد كاتب محمود بن شبل الدولة ليسلموا إليه البلد، فقبض على جماعة منهم فاجتمع أهلها، وراسلوا محموداً وهو منهم على مسيرة يوم يستدعونه، وحصروا ابن ملهم، فسيرت مصر ناصر الدولة بن حمدان أمير دمشق لقتال من بها لأجل قطع خطبة المستنصر، فلما قارب البلدة خرج محمود عن حلب إلى البرية، واختفى الأحداث جميعهم، ولم يمكن ناصر الدولة أصحابه من دخول حلب ونهبها، وسار في طلب محمود فالتقيا بالفُنَيْدق، فانهزم أصحاب ابن حمدان وثبت هو فخرج وحمل إلى محمود أسيراً، فأخذه وسار إلى حلب فملكها وملك القلعة في سنة 452 فجهز المصريون ثمال بن صالح إلى ابن أخيه، فحصره في حلب، فاستنجد محمود خاله منيع بن شبيب النميري صاحب حران، فجاء إليه، فلما بلغ ثمالاً مجيؤه سار عن حلب إلى البرية 453 وعاد منيع إلى حران، فعاد ثمال إلى حلب وخرج إليه محمود ابن أخيه، فاقتتلوا وقاتل محمود قتالاً شديداً، ثم انهزم محمود، فمضى إلى أخواله بني نمير بحران. وتسلم ثمال حلب وخرج إلى الروم فغزاهم. وذكر ابن ميسر: أن البازوري وزير مصر سير أموال الدولة جميعها لفتح بغداد، وكان ذلك سبباً لخروج الغز إلى الشام وملكهم إياه. وقال في حوادث سنة 451 إن حادثة قتل البساسيري وقطع خطبة المستنصر من بغداد وإعادتها للقائم، كانت آخر سعادة الدولة المصرية، فإن الشام خرجت من أيديهم بعدها بقليل ولم يبق لهم سوى ملك مصر. ولما توفي ثمال 454 أوصى بحلب لابن أخيه عطية بن صالح فملكها، ونزل به قوم من التركمان فقوي بهم، فأشار أصحابه بقتلهم فأمر أهل البلد بذلك، فقتلوا منهم جماعة ونجا الباقون، فقصدوا محموداً بحَرّان،

واجتمعوا معه على حصار حلب فحصرها وملكها. وفي سنة 455 نُدب بدر الجمالي لولاية دمشق على حربها وندب معه على الخراج أبو الحسين الزيدي، ولم يلبث بدر أن انصرف عن ولاية دمشق هرباً من أهلها، فولى المستنصر عليها حصن الدولة حيدرة، ثم ولاه الشام بأسره 458. وفي سنة 459 بعث المستنصر إلى محمود بن الروقلية المتغلب على حلب يطالبه بحمل المال وغزو الروم وصرف ابن خاقان ومن معه من الغز فلم يجبه وقال: إنه لا مال له وأنه هادن الروم وأعطى ولده رهينة على مال اقترضه منهم فندب المستنصر بدرا الجمالي إلى محاربته فدخل ابن عمار صاحب طرابلس بينهما وأصلح الحال. وفي سنة 460 كانت حرب دمشق بين أمير الجيوش وبين عسكريته. وفي سنة 461 وقع الخلف بدمشق بين العسكرية وبين أهلها وطرحت النار في جانب منها فاحترقت، واتصل الحريق بالمسجد الجامع من غربيه ولم يبق منه إلا حيطانه الأربعة. واستولى في هذه السنة على دمشق معلى ابن حيدرة الكتامي من غير أن يؤمر له بذلك عند خلو دمشق من متول بعدما هرب أمير الجيوش بدر الأرمني، فأساء السيرة في أهلها وصادرهم وبسط العقوبة عليهم، إلى أن خربت أعمال البلد وجلا كثير من أهلها، ووقعت بينه وبين حامية البلد وحشة خاف منهم على نفسه فهرب إلى بانياس فصور فطرابلس فأخذ واعتقل ومات من الضرب. وفي سنة 463 استولى القفي على دمشق وطرد نواب أمير الجيوش واستولى على صور ابن أبي عقيل، وعلى طرابلس قاضيها ابن عمار، وعلى الرملة والساحل ابن حمدان، ولم يبق غير عكا وصور، ونزل هذه السنة أمير الجيوش في العسكر المصري على صور محاصراً لابن أبي عقيل القاضي الغالب عليه، فاستنجد هذا الأمير ترلو مقدم الأتراك بالشام، فأنجده بستة آلاف فارس، فرحل عنها أمير الجيوش ثم عاودها وحاصرها من البر والبحر سنة بدون طائل. وفتح الروم منبج وأحرقوها وبقيت معهم سبع سنين.

آخرة الفاطميين:

آخرة الفاطميين: كان على حلب عند هلاك الحاكم عزيز الدولة فاتك الوحيدي، وقد استفحل أمره وعظم شأنه وحدث نفسه بالعصيان، فلاطفته ست الملك عمة الظاهر لإعزاز دين الله وكفيلته، وهي التي قامت بتدبير مملكة الفاطميين بعد مهلك الحاكم، وساست الناس أحسن سياسة أربع سنين، أعادت الملك فيها إلى غضارته وعمرت الخزائن بالأموال واصطنعت الرجال - فلاطفته وبعثت إليه بالخلع والخيل بمراكب الذهب وغيرها، ولم تزل تعمل عليه حتى أفسدت غلاماً له يقال له بدر فقتله وحفظ الخزائن ووهبت له جميع ما خلفه وقلدته حلب. ولو لم يقبض الله لملك الفاطميين مثل هذه السيدة بعد الأحوال التي تمت على عهد الحاكم لكان الانقراض إلى دولتهم قريباً جداً. ثم جاء ابنه الظاهر لإعزاز دين الله وكان حسن السيرة فرفع أيدي المتغلبين على الملك، المتوثبين على سلطان الفواطم، واستقام له الأمر مدة. أما أيام الخليفة المستنصر بالله خامس خلفائهم الذي بقي في الخلافة ستين سنة وأربعة أشهر فقد كانت على هذا المنوال من التسرع في نصب العمال وصرفهم والشام تشكو وتئن. والبؤس أكثر من السعادة، والمتغلبة منذ الثلث الأول من القرن الرابع كل يوم في شأن، تارة يقوم فيها مثل سيف الدولة الذي كان يُلبس على علاته، وتارة يقوم ابنه ومملوكه يستنجدان بالروم على المسلمين. ويرضيان بإعطاء الجزية لهم، ويدلانهم على عورات الجيران، بعد أن كان مؤسس دولتهم سيف الدولة يقاتلهم، ويظهر لهم من الشمم حتى يوم هزيمته ما يبيض وجه العرب والمسلمين. كان الفاطميون زمن المعز والعزيز على جانب من القوة، فتح المعز مصر فدخلها من الغرب في مائة وقيل في مائة وأربعين ألف مقاتل، واستكثر من العساكر من كتامة وروم وصقالبة وبربر ومغاربة، حتى قيل لم يطأ الأرض بعد جيوش الإسكندر بن فيلبس الرومي الكبير أكثر من جيوش المعز الفاطمي، وربما فاقت بعددها الجيوش التي جمعها أبو الجيش

خمارويه بن أحمد بن طولون صاحب مصر والشام في القرن الثالث. فبمثل هذه الجيوش استقام أمر الفاطميين لأول عهدهم في مصر والشام، فحكموا إلى الفرات ومكة والمدينة والقدس والخليل وصارت مصر والمغرب مملكة واحدة، والخلفاء من بني العباس يحكمون من الفرات إلى بغداد وأعمالها إلى سائر المشرق، ويخطب لكل خليفة منهما في الجهات التي تحت حكمه باسمه فقط، ولما ضعف أمرهم أصبح يحكم دمشق حمال التراب، ويحكم صورا الملاح، وثلاثة من البدو يتقاسمون ملك الشام، والعباسيون في الشرق والفاطميون في الجنوب لا يبدون ولا يعبدون، وعندهم القواد والأجناد، وللأحداث أي فتيان العامة في حلب ودمشق القول الفصل، يرفعون ويضعون، ويتحكمون ويعبثون بالناس وأموالهم، ويا بؤس بلاد يكون القول الفصل فيها لفوضى العامة. كان حكام الشام يأتونها من الحجاز والعراق، فأصبحوا يكتسحونها في هذه الأعصار من مصر والشمال، وكان العمال والقواد عربا من بني أمية وبني هاشم ومن والاهم، فصاروا مزيجا من العجم والتركمان، وكلهم سواء في ارتكاب المظالم والمغارم، متى قوي سلطان الجار يهاجم جاره، فتطل دماء الأبرياء على غير طائل. ولم تستقر المملكة على حالة معينة بضع سنين فكانت العوامل الجنسية والمذهبية تتنازعها وأهلها، وبعد أن كانت الشام في القرن الأول وثلث القرن الثاني مصدر الحياة العربية، ومنبعث القوة الحربية، أمست في القرون التالية ألعوبة أهواء الدخلاء، وطعمة الطامعين من أهل البوادي ومن جرت عليهم أحكام الرقيق من العبيد والبرابرة، وبعد أن كان للعصبيات فيها شأن في القرنين الأولين أصبحت في القرون الثلاثة التالية ضعيفة ضئيلة، لا يتعدى تأثيرها المصالح الخاصة، ولا يفكر القائمون بها في غير السلب والاعتداء. إن تسامح العباسيين بإدخال أهل غير عصبيتهم فيهم أدى إلى انتشار كلمتهم وتمزيق جامعتهم، وما كل القواد والعمال كإبراهيم بن المهدي وجعفر بن يحيى وطاهر بن الحسين وعبد الله بن طاهر، ولا كل المتوثبين على الملك في عقلهم وسياستهم كأحمد بن طولون وسيف الدولة بن حمدان.

دثرت تلك الطبقة الممتازة المختارة، وخلف من بعدها خلف من القواد والرجال ليسوا في الأكثر على شيء من حسن السياسة والإدارة. إذا كان لهم جيش عظيم رهبهم الناس، وإلا فالحكم للصعاليك والسلبة، وهم أول الطامعين في السلطان، العاملين على نقض بنيان الأوطان، والناس بين مظلوم وظالم، ومتخوف ومخيف. والمنافسة بين الأمراء على أشد حالاتها، والشام مقسم الأجزاء بين كثيرين في سياسته الداخلية والخارجية، مصر من الجنوب تشده، وبغداد من الشرق تريد أن تسترده، والطامعون فيه من الترك والتركمان والروم والقرامطة والعبيد والخدم والمماليك يسطون عليه فيدمرون عمرانه، ويهلكون أهله وسكانه، والناس في الواقع لا يعرفون لهم سيدا معينا لتفرق قلوبهم، وتباين منازعهم. وصاحب حمص غير صاحب حلب، وصاحب دمشق غير صاحب صور أو الرملة، مملكة هذا حالها تموت بحكم الطبيعة، ولا تستريح من الغوائل نحال. والجسم يعيش بروح واحد وتعدد الأرواح يستلزم تعدد الأجسام. بعد أن قتل القرامطة الباطنية أهل مدن برمتها من هذا القطر استنجد أهل أعظم مدينة فيه بهم، فوافوا يجوسون خلال ديارهم لينقذوها من دولة الفاطميين المسلمين، وبعد أن ثبت أن الروم هم أعداء الشام بلا مراء، أصبح أمراؤه يستغيثون بهم على أبناء ملتهم ليصفو لهم ملكهم الذي يريدون أن يعيشوا فيه قيد الأسر لعدوهم الخارجي، ويستكثروا من القصور والجواري والمماليك والحاشية والغاشية ليكون كل صاحب مقاطعة في أبهته كخليفة الوقت وزيادة. يسلبون نعمة الرعية لينعموا بما سلبوا، كمن يحاول نقض أساس بيته، يجمل خارجه بإطار جميل، أو يذهب شرفته، وجدرانه. وبينما كان العزيز الفاطمي يبث دعاته لنشر التشيع في الأقطار التي انضوت إلى علمه، ويقتل هو وآله علماء المالكية لتشددهم في التسنن، كان جمهور المسلمين غاضبين في مصر والشام لأنه وسد الأمر بمصر لرجل من الأقباط اسمه نسطورس، وقلد أموال الشام لإسرائيلي اسمه منشا يجمعان الأموال، يوليان أبناء نحلتهما الأعمال، ويعدلان عن الكتاب والمتصرفين من المسلمين، فعمد بعضهم في القاهرة إلى مبخرة

من حديد وألبسها ثياب النساء وزينها بإزار وشعرية، وجعل في يدها قصة على جريدة، وكتب فيها رقعة ليراها العزيز عند مروره وهي: بالذي أعز جميع النصارى بنسطورس وأعز جميع اليهود بمنشا وأذل جميع المسلمين بك إلا ما رحمتهم وأزحت عنهم هذه المظالم فتوسطت ست الملك ابنة العزيز لنسطورس بالعفو. فحمل إلى الخزانة ثلاثمائة ألف دينار، وأعاده إلى ما كان ناظرا فيه وشرط عليه استخدام المسلمين في دواوينه وأعماله. أما منشا فقتل إذ لم يستشفع فيه أحد. تناقض في التسامح غريب في بابه، وأصول في الإدارة لم يلاحظ فيها نزع العلة التي يشتكي منها، بل كان ينظر فيها لمنفعة الخزانة، أما الرعايا فأمرهم لله، وحسابهم على سواه. ولقد جاء في الفاطميين وزراء عقلاء مثل الوزير ابن كلس المتوفى سنة 380 الذي نصح للعزيز في مرض موته بقوله: سالم يا أمير المؤمنين الروم ما سالموك، واقنع من الحمدانية بالدعوة والسكة، ولا تبق على المفرج بن دغفل بن الجراح متى عرضت لك فيه فرصة وكان ذلك غاية الغاية في سياسة الملك لأن الروم أُمة قوية عزيزة لا تخنع لجيرانها خلفاء مصر ولا لخلفاء بغداد، وهي تراهم مختلفة كلمتهم جد الاختلاف متعبين في داخليتهم، مشتغلين بالمنتقضين على سلطانهم، فقد أجاب العزيز الروم سنة 377 إلى الصلح واشترط شروطاً شديدة التزموا فيها كلها. منها أنهم يحلفون أنه لا يبقى في مملكتهم أسير إلا أطلقوه. وأن يخطب للعزيز في جامع قسطنطينية كل جمعة، وهادنهم سبع سنين. أما الدولة الحمدانية فإنه على ما يظهر لم يعجل انقراضها إلا اعتصامها في آخر أمرها بالروم، ونفضها يديها من طاعة العباسيين وطاعة الفاطميين معا، فاستهان بها عدوها وصديقها، ودب الفساد ودخلت الدسائس وكان في ذلك زوالها، وأما المفرج بن دغفل أمير بني طيىء وسائر العرب بأرض فلسطين، فإنه كان عدوا لدودا للفاطميين، قريبا من دار ملكهم يهددهم كل يوم، وربما استطاع أن يستنجد بملوك الشرق على نقض عرى الملك الفاطمي. فهو بدوي والأعراب أي البادية ما دخلوا بلدا إلا أسرع إليه

الخراب، وقيام الملك يحتاج إلى حسن تدبير وتقدير أكثر من البطش والجبرية، ولذلك لم تتم لأمراء بني طيىء في الجنوب، ولا لبني مرداس الكلابيين في الشمال دولة تعاقبت عليها بطون كثيرة في الشام وكيف في الشام وكيف كان حال هذا الدول فإن قاعدة الحكيم ابن خلدون في أن للدول أعمارا طبيعية كالأشخاص لا تنتقض في الدول التي يحكمها الأفراد حكما استبداديا، وسعادة الدولة لا تدوم كالأفراد أكثر من أربعة بطون: الأول يفتح ويجمع، والثاني ينظم ويرتب، والثالث ينعم ويتمتع، والرابع يفرق ويخرب، تعالى الله.

دور السلجوقيين

دور السلجوقيين من سنة 463 - 490 أصل السلجوقيين والتركمان والفتح السلجوقي: كانت الشام في معظم دور الفاطميين ككرة الصوالجة تتقاذفها القوات المختلفة. وقد قام الفاطميون بعقب انقراض الدولة الإخشيدية في مصر، وورثوا تراثهم في قسم من هذه الديار، ثم انقرضت دولة الحمدانيين في الشمال، وكانت في آخر أمرها تفزع إلى دولة الروم البيزنطية لتحميها بأس خلفاء المصريين من بني عبيد. وقامت دولة بني مرداس ودولة بني الجراح ودولة بني سنان أي دول بني كلاب والطائيين وبني كلب إلى غيرهم من الدول الجديرات بأن يطلق على القائمين بها خوارج على الفاطميين، وكلهم أمراء عرب البادية أخضعوا المدن لسلطانهم مدة، وكان قيامهم دليلا على ضعف الدولة وسوء سياسة عمالها. انقضى عهد الفاطميين أو كاد وكانت معظم أيامهم فتوحا وفتوقا، ولم يخفق علمهم على الشام كله مدة طويلة، بل كان إذا خضع الساحل خاصم الداخل، وإذا أطاع الجنوب نشز الشمال. وهكذا كان الشقاء في أيامهم أكثر من السعادة، والأهواء مشتتة، والآراء ممزقة، ولئن كان أول خافائهم ممن ملك الشام المعز ثم العزيز يحبان العدل والإنصاف، ولهما من الحزم قسط وافر، إلا أن الولاة الذين تولوا الشام على عهدهما أيضا كانوا في الأكثر ظلمة يسفكون الدماء ويستحلون أموال الرعية. فخرب القطر

في أيامهما وضعف أهله وغلت الأسعار ولا سيما على عهد العزيز، وكانا يبادران حالا إلى إبدال العمال مخافة أن ينزعوا إلى العصيان. أما عهد الحاكم فكان الخلل المطلق، لخلل في عقله وخرق في سياسته، وكانت الشام بعده تختلف باختلاف العامل الذي ترسله مصر. وبينا القطر متقلقل في سياسته أقبلت من الشرق قوة عظيمة لا قبل له بدفعها. قوة الدولة السلجوقية التركمانية الجديدة جاءت لتقضي على الدولة الفاطمية العربية التي نزل بها الهرم أو كاد. والسلجوقيون نسبة لسلجوق من صغار أمراء الترك في أرجاء بخارى، يقسمون إلى ثلاثة فروع، فرع العجم وهذا الذي استولى على العراق والجزيرة، ثم على الشام والحجاز واليمن، وفرع الروم أي آسيا الصغرى، وفرع كرمان. والتركمان قبائل كانت لأول أمرها تنزل بين بحيرة آرال وبحر الخزر، وهم من أول الأتراك الذين دانوا بالإسلام وخدموا بني العباس، هاجروا إلى فارس والعراق وآسيا الصغرى. وهم أصل الترك العثمانيين سكان الأناضول، وأعظم الشعوب التركية. والفرق طفيف بين لسانهم ولسان اويغور أي الجغتاي. وتنقسم الألسنة التركية إلى خمسة أقسام وهي الجغتاي أو اويغور والنوغاي أي التتري والقرغيز والياقوت واللسان العثماني. فإذا أطلق اسم الترك فالمقصود منه الجنس الجامع لهذه الشعوب الخمسة، وإذا قيل التركمان أريد به أعظم شعب في الترك، وكلا الإطلاقين جائز. والتركمان على جانب عظيم من الشجاعة والفروسية، أظهروا من الجلادة منذ وطئوا هذا القطر ما خلدوا به أعظم المفاخر، وأسسوا في الشام حكومات منها المحمود، ومنها دون ذلك. لما سار السلطان آلب أرسلان ثاني ملوك السلجوقيين بجيوشه إلى الشام، كانت مملكته تمتد إلى الصين شرقاً، ومن أقصى ديار الإسلام شمالاً، إلى أقصى اليمن جنوباً، وجاء إلى حلب وأقام الحصار عليها وعظم القتال بين عساكره وحامية حلب لصاحبها محمود بن نصر بن صالح بن مرداس، ثم استسلم هذا وخلع عليه السلطان آلب أرسلان، وأعاده إلى بلده فبعث إليه مالاً جزيلاً. وفي تلك السنة 463 قطع خطبة المستنصر العلوي

فتح دمشق:

وخطب للقائم العباسي، وبدأ ظل الدولة الفاطمية يتقلص، وكان الحامل لآلب أرسلان على فتح الشام أن ناصر الدولة بن حمدان الحاكم المتحكم في الدولة المصرية أرسل يسأله أن يسير له عسكراً من قبله ليقيم الدعوة العباسية وتكون مصر له، فتجهز آلب أرسلان من خراسان في عساكر جمة، وكان جيشه فيما قيل لا يقل عن أربعمائة ألف. وخلف آلب أرسلان في الشام طائفة من عسكره فجمع أتسز بن اوق من أمراء السلجوقيين الأتراك الغز، وسار إلى فلسطين ففتح الرملة، وسار منها إلى بيت المقدس وحصره، وفيه عسكر المصريين ففتحه، وملك ما يجاوره ما عدا عسقلان، وقصد دمشق فحصرها وتابع نهب أعمالها حتى خربها وقطع الميرة عنها، فضاق الأمر بسكانها فصبروا ولم يمكنوه من ملك البلد فعاد عنه، وأدام قصد أعماله وتخريبها كل سنة حتى قلّت الأقوات عندهم، فكان يأخذ الغلات عند إدراكها فيقوى بها هو وعسكره ويضعف أهل دمشق وجندها. ولما ملك السلطان ملكشاه بن آلب أرسلان 465 سير أخاه تاج الدولة تتش إلى الشام، وقرر معه فتح ديار مصر والمغرب واستخلاصهما من العلويين، وأمر مملوكيه بزان صاحب الرّهما وآق سنقر صاحب حلب أن يطيعاه على هذا الغرض. وكان ملكشاه الملقب بالسلطان العادل وأبوه آلب أرسلان من قبل المثل السائر في آل سلجوق بعدلهما، ولم يكن للخليفة العباسي معهما سلطان في الحقيقة، على نحو ما كان العباسيون في الدهر السالف مع سلاطين بني بويه الأعاجم. عرفت الشام ذلك وكان مما يفتح القلوب لحكم السلجوقيين أنهم من أهل السنة يخطبون بأسم بني العباس. وجميع هذه المزايا كانت مفقودة في الدولة العلوية المصرية. فتح دمشق: وفي سنة 467 حاصر السلاجقة ثغر عكا وقتلوا واليها وساروا عنها إلى طبرية، وسار أتسز إلى دمشق فحصرها وأميرها المعلى بن حيدرة من قبل الخليفة المستنصر ولم يقدر عليها فانصرف عنها، وكان المعلى أساء

السيرة مع الجند والرعية وظلمهم، فكثر الدعاء عليه وثار به العسكر، وأعانهم العامة فهرب منها، فخرجت دمشق وأعمالها وجلا عنها أهلها، وهان عليهم مفارقة أملاكهم وسلوهم عن أوطانهم، بما عانوه من ظلمه، وخلت الأماكن من قاطنيها، والغوطة من فلاحيها. ولما رحل المعلى عن دمشق اجتمعت المصامدة الفاطميون وولوا عليهم انتصار بن يحيى المصمودي وغلت بها الأسعار حتى أكل الناس بعضهم بعضاً، ووقع الخلاف بين المصامدة وأحداث البلد، وعرف أتسز ذلك فعاد إلى دمشق فحصرها، فعدمت الأقوات وبيعت غرارة القمح إذا وجدت بأكثر من عشرين ديناراً، فسلموها إليه بالأمان وخطب بها للخليفة العباسي، وكان آخر ما خطب فيها للعلويين المصريين. وتغلب على أكثر الشام ومنع الأذان بحي على خير العمل، ففرح أهلها فرحاً عظيماً، وظلم أهلها وأساء السيرة فيهم. قال ابن عساكر: إن أتسز التركماني لما دخل دمشق وكان حاصرها دفعات، أنزل جنوده دور الدمشقيين، واعتقل من وجوههم جماعة، وشمسهم بمرج راهط حتى افتدوا نفوسهم بمال أدوه له، ورحل جماعة منهم عن البلد إلى طرابلس إلى أن أريحوا منه بعد. وقال ابن الأكفاني: نزل أتسز محاصراً لدمشق ثم انصرف عنها، ثم عاد إلى منازلتها، ثم رحل عنها، ثم رجع إليها فحاصرها، ثم إنه فتح البلد صلحاً، ودخلها هو وعسكره سنة 468 وسكن دار الإمارة وخطب بها للمقتدي العباسي، وكتب إليه يذكر له تسليمها إليه، وغلو الأسعار بها، وموت أهلها، وأن غرارة القمح بيعت بمائتي دينار مما لم يعهد مثله. وأن أتسز نظر في أمور دمشق بما يعود بصلاح أعمالها، وأطلق لفلاحي المرج والغوطة الغلات للزراعات فصلحت الأحوال ورخصت الأسعار. ولما فتح أتسز دمشق وأقام الخطبة العباسية طمعت نفسه في ملك مصر، فسار 469 من دمشق فيمن استطاع من الأحداث والجند ورجع خائباً بعد أن قتل من جنده جملة كثيرة جداً، ثم أقام بدمشق وجاءه التركمان من الروم ولم يستخدم غيرهم، وعصى عليه الشام وأعيدت خطبة صاحب

مصر في جميع الشام، قام بذلك المصامدة والسودان. وكان أتسز وأصحابه تركوا أموالهم بالقدس، فوثب القاضي والشهود ومن بالقدس على أموالهم ونسائهم فنهبوها واستعبدوا الأحرار، فخرج من دمشق فيمن انضوى إليه، ودخل القدس فقتل ثلاثة آلاف إنسان، واحتمى قوم بالصخرة والجامع فقرر عليهم الأموال لأنه لم يقتلهم وأخذ مالا كثيرا، وسار إلى الرملة فلم ير فيها من أهلها أحدا، فجاء إلى غزة وقتل كل من فيها فلم يدع بها عينا تطرف، وجاء إلى العريش فأقام فيه وبعث سرية فنهبت الريف وعادت، ثم مضى إلى يافا فحصرها وهدم سورها، ثم عاد إلى دمشق ولم يبق من أهلها عشر العشر من الجوع والفاقة، بل لم يبق من أهلها سوى ثلاثة آلاف إنسان بعد خمسمائة ألف أفناهم الوباء والغلاء والجلاء. وكان بها مائتان وأربعون خبازا فصار بها خبازان والأسواق خالية، والدار التي كانت تساوي ثلاثة آلاف دينار ينادي عليها بعشرة دنانير فلا يشتريها أحد، والدكان الذي كان يساوي ألف دينار ما يشترى بدينار، وأكلت الكلاب والسنانير والفيران، وكان الناس يقفون في الأزقة الضيقة فيأخذون المجتازين فيذبحونهم ويشوونهم. وعاد الفاطميون يحاولون فتح دمشق وعليهم ناصر الدولة الجيوشي فحاصروها مدة 471 وترحلوا، ثم حاصروها مرة ثانية واستولوا على أعمالها وأعمال فلسطين، فاضطر صاحبها أتسز إلى الاستنصار بتاج الدولة، فلما عرف ناصر الدولة الخبر رحل عن دمشق وقصد الساحل. وكان ثغرا صور وطرابلس في أيدي قاضييهما قد تغلبا عليهما، ولا طاعة عندهما لأمير الجيوش الفاطمي، ويصانعان الأتراك بالهدايا والألطاف. ووصل تاج الدولة إلى عذراء في عسكره لإنجاد دمشق فخرج أتسز إليه وخدمه ثم قبض عليه وقتله وملك تاج الدولة دمشق، واستقام له الأمر وأحسن السيرة في أهلها بالضد من فعل أتسز وملك أعمال فلسطين، ثم قصد حلب وملك حصن بزاعة 470 وقتل جميع من فيه، وملك البيرة وأحرق ربض عزاز وغيرها من الحصون مع ما غلب عليه من القلاع المجاورة.

أول جمهورية عربية ومقتل آخر أمير عربي:

أول جمهورية عربية ومقتل آخر أمير عربي: وفي سنة 472 انقضت دولة بني مرداس بحلب، وكان قصدها تتش ابن آلب أرسلان فحاصرها أربعة أشهر ونصفا، ثم رحل عنها فنازلها مسلم ابن قريش صاحب الموصل، وتعهد لملكشاه السلجوقي أن يحمل إليه كل سنة ثلاثمائة ألف دينار فكتب له تقليدا، وعادت رياستها شورى في مشيختها وطاعتهم لمسلم بن قريش. ومعنى أن حلب أصبحت رياستها شورى في مشيختها أن الحلبيين لما نفضوا أيديهم من حام يحمي بلدهم ألفوا جمهورية من شيوخهم أدارت شؤونهم زمنا، وجعلوا ملكهم صاحب الموصل. وذكر المؤرخون أن الحلبيين أحسنوا في هذه الحكومة ولم يختلفوا ونفذت قواعد العدل واستقر الأمر في نصابه. وسبب ميل الحلبيين إلى مسلم بن قريش أن تتش بن آلب أرسلان حصر مدينتهم المرة بعد المرة واشتد عليها الحصار، فكان ابن قريش يواصلهم بالغلات وغيرها، ولما دخلها حصر القلعة واستنزل منها سابقا ووثابا ابني محمود بن مرداس، وأنفذ إلى السلطان يخبره بملك البلد، وأنفذ مع الرسول شهادة فيها خطوط المعدلين بحلب بضمانها، وسأل أن يقرر عليه الضمان، فأجابه السلطان إلى ما طلب. وفي سنة 473 ملك جلال الملك ابن عمار قاضي طرابلس وصاحبها حصن جبلة. وكان ابن عمار غلب على تلك الأصقاع سنين وعجز والي الفاطميين بدر الجمالي عن مقاومته. وفي سنة 475 جمع تاج الدولة تتش جمعا كثيرا وسار عن بغداد وقصد بلاد الروم إنطاكية وما جاورها، فلما سمع شرف الدولة صاحب حلب الخبر خافه فجمع أيضا العرب من عقيل والأكراد وغيرهم، فاجتمع معه خلق كثير، فراسل الخليفة بمصر يطلب منه إرسال نجدة إليه ليحصر دمشق فوعده بذلك. فلما سمع تاج الدولة الخبر عاد إلى دمشق وحصرها وقاتله أهلها. وفي بعض الأيام خرج إليه عسكر دمشق وقاتلوه، وحملوا على عسكره حملة صادقة فانكشفوا وتضعضعوا، وانهزمت العرب وثبت شرف الدولة وأشرف على الأسر وتراجع إليه أصحابه. فلما رأى ذلك

ورأى أن مصر لم يصل إليه منها عسكر وأتاه من بلاده الخبر أن أهل حران عصوا عليه، رحل عن دمشق إلى بلاده وأظهر أنه يريد بلاد فلسطين. رحل أولا إلى مرج الصفر فارتاع أهل دمشق وتاج الدولة واضطربوا، ثم سار من مرج الصفر مشرقا في البرية، وجد في مسيره فهلك من المواشي الكثير مع عسكره وانقطع خلق. وكان مسلم بن قريش الذي أحبه أهل حلب وأطاعوه من جملة عمال آلب أرسلان، وكان سليمان بن قتلمش السلجوقي صاحب قونية وأقصرا وملاطية ومن عمال السلجوقيين وأنسبائهم أشار إليه ملك السلجوقيين الأكبر السلطان ملكشاه أن يستولي على إنطاكية 477 ففعل، ولما استقر فيها بعث إليه مسلم بن قريش يطلب منه المال الذي كان يحمله صاحب إنطاكية الرومي إليه فأبى وقال: أنا لا أدفع الجزية لأني مسلم، فنهب مسلم بن قريش إنطاكية، ونهب سليمان بن قتلمش حلب، ثم جمع مسلم ابن قريش الجموع من العرب والتركمان ومعه أمير التركمان جبق في أصحابه وسار إلى إنطاكية ليحصرها، فسار إليه سليمان بن قتلمش فالتقيا على نهر سبعين في موضع يقال له قُرزاحل واقتتلا، فمال تركمان جبق إلى سليمان فانهزمت العرب وتبعهم مسلم بن قريش منهزما، فقتل بعد أن صبر وقتل بين يديه أربعمائة غلام من أحداث حلب، وسار سليمان إلى حلب فحصرها 478 ولم يبلغ منها غرضا. وفي هذه الوقعة التي قتل فيها سليمان بن قتلمش التركي مسلم بن قريش العربي انتقل ملك الشام من أيدي العرب إلى الترك ولم يحكم في الشام بعده إلا أمراء وملوك من التركمان والأتراك والشراكسة والأكراد. وكان الأتراك يأتون الشام منذ أوائل القرن الثالث عمالا للعباسيين، فلم تكن مقاتلهم بادية للعيان لأنهم كانوا يحكمون باسم الدولة التي يعملون لها، وكان أكثرهم على جانب من حسن الأدب والإدارة نشأوا نشأة عربية، وها قد جاء دور يعمل الأتراك فيه أحراراً لحساب أنفسهم، بعد أن ختم الحكم العربي بمقتل مسلم بن قريش العقيلي. وعاد سليمان بن قتلمش في السنة التالية وقصد حلب فبلغه أن تاج الدولة

تنازع السلجوقيين والفاطميين وانقسام السلجوقيين:

تتش قد تأهب لقصده فرحل عنها، والتقى عسكره وعسكر تاج الدولة في موضع يعرف بعين سيلم على ثلاثة أميال من حلب، فكسر جيش تاج الدولة عسكر سليمان وقتل هذا في الهزيمة وملك تاج الدولة عسكره وسواده ونزل على حلب فتسلمها. ثم وصل ملكشاه وانهزم أخوه تاج الدولة من حلب وملكها ملكشاه مع إنطاكية. أي إن سليمان بن قتلمش أحد عمال السلطان ملكشاه السلجوقي، قتل بأمر مولاه مسلم بن قريش ليأخذ بلاده، فقام تتش أخو ملكشاه فقتل سليمان، ثم قام تتش يريد الاستئثار بالملك دون أخيه، وقد فاته أن ملكشاه تهتز الدنيا من جيوشه، وأخوه في الشام لا يخرج عن كونه واليا من ولاته، والغالب أن تاج الدولة عرف هذا من نفسه فلم يسعه إلا أن يخدم أخاه. ولما نزل ملكشاه بحلب دخل ابن منقذ صاحب شيزر في طاعته، وسلم إليه اللاذقية وكفرطاب وأفامية، فأقره السلطان على سيزر وسلم حلب إلى قسم الدولة آق سنقر جد البيت الأتابكي أصحاب الموصل والشام، ووالد عماد الدين زنكي، وجد نور الدين محمود بن زنكي. ولما استقر آق سنقر في حلب وأعمالها بسط العدل في أهلها، وحمى السابلة وتتبع المفسدين وأبادهم. وكان ملكشاه في سنة 479 مَلَك حران وقلعة جعبر على الفرات، ثم ملك منبج وحلب، أما دمشق فكانت بيد تاج الدولة تتش منذ سنة 471 أقطعه إياها أخوه السلطان ملكشاه مع ما يفتحه من بلاد الخليفة العلوي. وكانت جيوش الفاطميين تغزو بعض المدن الساحلية وتستردها من التركمان أحياناً، وسلطة الفاطميين تتقلص اللهم إلا من فلسطين، فإنهم بعد أتسز الخوارزمي أخذوا يستردونها وخرج 478 أمير الجيوش بدر الجمالي بجيوش مصر فحصر دمشق وبها تاج الدولة تتش وضيق عليه فلم يظفر بشيء فارتحل عائدا إلى مصر. - تنازع السلجوقيين والفاطميين وانقسام السلجوقيين: لم ينقطع أمل الفاطميين من ملك الشام بعد أن قطعت خطبتهم من أهم

مدنها مرات ثم عادت إليها، وبعثوا سنة 482 جيشاً قصد الساحل وفتح ثغر صور، وكان تغلب عليها ابن أبي عقيل وامتنع عليهم ومات فوليها أولاده ودخلوا تحت راية تاج الدولة تتش، فلما حصرهم عسكر المصريين سلموها إليهم، ثم فتح الجيش الفاطمي صيدا وعكا وجبيل. ونزل تاج الدولة 483 على حمص ومعه آق سنقر وبزان وفيها خلف بن ملاعب الكناني، فضايقوها إلى أن ملكوها بالأمان. وخرج ابن ملاعب وسافر إلى مصر، ثم عاد وأعمل الحيلة حتى ملك حصن أفامية، واستخلصه منه قسيم الدولة آق سنقر في السنة التالية. وقيل: إن القتال كان على بعلبك وإن من حاربوا خلف ابن ملاعب قالوا له: أنت خطبت للمستنصر العلوي، فلما أخافوه طلب الأمان. وفي سنة 484 فتح تاج الدولة عرقة وقلعة أفامية، ثم سار إلى طرابلس فحصرها وبها صاحبها ابن عمار ابن أخي القاضي أبي طالب بن عمار قاضي طرابلس والمتغلب عليها، وكان معه آق سنقر وبزان ونصب عليها المجانيق. فاحتج عليهم ابن عمار بأن معه منشور السلطان ملكشاه بإقراره على طرابلس فلم يقبل منه تتش ذلك وتوقف آق سنقر عن قتاله فقال له تتش: أنت تبع لي فكيف تخالفني؟ فقال: أنا تبع لك إلا في عصيان السلطان. فغضب تتش ورجع إلى دمشق. وذكر ابن الأثير: أن ابن عمار لما رأى جيشاً لا يدفع إلا بحيلة أرسل إلى الأمراء الذين مع تاج الدولة وأطمعهم ليصلحوا حاله، فلم ير فيهم مطمعاً، وكان مع آق سنقر وزير له اسمه زر بن كمر فراسله ابن عمار فرأى عنده ليناً، فأتحفه وأعطاه فسعى مع صاحبه آق سنقر في إصلاح حاله ليدفع عنه، وحمل له ثلاثين ألف دينار وتحفاً بمثلها، وعرض عليه المناشير التي بيده من السلطان. وفي سنة 486 خرج من مصر عسكر كثير إلى صور لما عصى واليها منير الدولة، وكان أهل صور أنكروا عصيانه فحين اشتد القتال نادوا بشعار المستنصر بالله العلوي، فهجم العسكر المصري على البلد وأخذها، وفرض على أهلها ستين ألف دينار، وفي هذه السنة تحرك تتش من دمشق لطلب السلطنة بعد موت أخيه ملكشاه الذي توفي في السنة الماضية، واتفق

معه آق سنقر صاحب حلب، وباغي سيان صاحب إنطاكية، وبزان صاحب الرُّها، وسار معه آق سنقر فافتتح نصيبين والموصل وديار بكر، وسار إلى أذْرَبيجان، وكان بركيارق بن ملكشاه قد استولى على جانب كثير منها، فلما رأى آق سنقر ذلك تخلف عن معاونة تتش وقال: نحن إنما أطعنا تتش لعدم قيام أحد من ألاد السلطان ملكشاه، أما إذا كان بركيارق بن السلطان قد تملك فلا نكون مع غيره. وخلى آق سنقر تتش ولحق ببركيارق فضعف تتش لذلك، وعاد من أذْرَبيجان إلى الشام وأخذ في جمع العساكر وكثرت جموعه 487 وجمع آق سنقر العسكر بحلب، وأمده الأمير بركيارق بالأمير كربغا صاحب الموصل، فاجتمع كربغا مع آق سنقر، والتقوا مع تتش عند نهر سبعين على ستة فراسخ من حلب واقتتلوا، فخامر بعض عسكر آق سنقر مع تتش وانهزم الباقون، وثبت آق سنقر فأخذ أسيراً وأحضر إلى تتش فقال تتش لآق سنقر: لو ظفرت بي ما كنت صنعت، قال: كنت أقتلك، قال تتش: فأنا أحكم عليك بما تحكم عليّ به. فقتل آق سنقر وسائر أصحابه صبراً، وسار تتش إلى حلب فملكها. ورحل تاج الدولة عن حلب بعد أن ملكها وحصونها إلى الفرات، واستولى على حران وسروج والرُّها وكاتب ولده فخر الملوك رضوان بدمشق يأمره بالمسير إليه في من بقي من الأجناد في الشام، فسار إلى حلب ومنها إلى العراق فالري، واستصحب معه جماعة من أُمراء العرب وأتراك حلب القسيمية، نسبة لقسيم الدولة آق سنقر، فجرت وقعة بين السلطان بركيارق بن ملكشاه وبين عمه تاج الدولة تتش على عانة من عمل الجزيرة، فانفلَّ عسكر هذا وتفرق ونهب سواده، وأسر أكثر جنده وقتل منه خلق كثير. واغتال بعض أصحاب آق سنقر تاج الدولة تتش فقضى عليه. ولما بلغ الخبر فخر الملوك رضوان في دمشق ما تم على أبيه تاج الدولة أغذّ السير إلى حلب ففتحت له أبوابها، ووصل إليه أخوه شمس الملوك دُقاق من ديار بكر، وراسله الأمير ساوتكين الخادم المستناب في قلعة حلب والبلد، وقرر له ملك دمشق سراً، فخرج في الحال من حلب، وجلس على سرير أبيه في دمشق، واستقام له الأمر واستمرت على السداد

الدولة الأتابكية وطغتكين وبنو أرتق:

الأحوال. وفي سنة 490 قدم على الأفضل بمصر رسل فخر الملوك رضوان بن تتش صاحب إنطاكية، يبذل له الطاعة في إقامة خطبة المستعلي بالشام، فأجيب بالشكر والثناء وخطب للمستعلي. تطال تتش إلى ملك أخيه ملكشاه فصده عنه ابنه بركيارق وقتله. وقتل تتش آق سنقر لأنه لم يوافقه على رغائبه من نزع الملك السلجوقي من ابن ملكشاه، وحنق تتش على آق سنقر منذ قال له يوم طرابلس وهو يريده على قتال صاحبها: نحن نطيعك إلا في عصيان السلطان. فقتل آق سنقر وجوزي تتش بأن قام من صنائع قتيله من يأخذ بثأره فقتله أيضاً واستراح آل ملكشاه من تصدي تتش للملك وهو الذي لم يقنع بملك الشام، وكان فيه الملك الأعظم بعد مقتل آق سنقر. وتصرفت الأقدار بأن تتسلم زمام الأمر في هذا القطر ذرية تاج الدولة تتش، ريثما ينتقل منها الحكم إلى مملوك آخر اسمه طغتكين، وهو يسلمه إلى حفيد آق سنقر نور الدين محمود بن زنكي. - الدولة الأتابكية وطغتكين وبنو أرتق: كان آق سنقر زبُزان صاحبا حلب وإنطاكية من مماليك السلطان ملكشاه، وكان من أمرهما في الغناء والوفاء ما كان في الشام حتى مضيا لسبيلهما. ثم قام مملوك آخر طالت مدته أكثر منهما وكان له في الدولة بالشام اليد الطولي والكعب المعلى، ونعني به أبا منصور ظهير الدين أتابك طغتكين، من مماليك تاج الدولة تتش بن آلب أرسلان ملك الشام، ومعنى أتابك مربي أولاد الملك أو قائد الجيوش. قال ابن القلانسي: حظي هذا الأمير وهو في حداثة سنه عند السلطان تاج الدولة فقدمه على أبناء جنسه من خواصه وبطانته، وسكن إلى شهامته وصرامته، وسداد طريقته، فجعله مقدم عسكره، واستنابه في تدبير أمر دمشق، وحفظها أيام غيبته، فأحسن السير فيها، وأنصف الرعية من أهلها، وبسط المعدلة في كافة من بها، فكثر الدعاء له والثناء عليه، فعلت منزلته وامتثلت أوامره، ولم يلبث أن شاع ذكره بنجابته، وأشفقت

النفوس من هيبته، فولاه ميافارقين وديار بكر وهي أول ولايته؛ وسلم إليه ولده شمس الملوك دقاق واعتمد عليه في تربيته وكفالته، فساس أمرها بالهيبة والتدبير، وأصلح فاسدها وقوّم منآدها. قال: وتنقلت به الأحوال إلى أن توجه مع تاج الدولة إلى الري وشهد الوقعة التي استشهد فيها تاج الدولة، وحصل في قبضة الاعتقال مع من أُسر من المقدمين، وأقام مدة إلى أن أفرج عنه 488 فتلقاه شمس الدولة دُقاق بدمشق وعسكره وأرباب دولته، وبولغ في إكرامه واحترامه، ورد إليه النظر في قيادة الجند، واعتمد عليه في تدبير المملكة، وسياسة البيضة، واقتضت الحال فيما بينه وبين الملك وأمراء الدولة العمل على الأمير ساوتكين والإيقاع به، وتمم عليه الأمر وقتل، وعقدت الوصلة بينه وبين ظهير الدين أتابك وبين الخاتون صفوة الملك والدة شمس الملوك دقاق ودخل بها، واستقامت له الحال بدمشق وأحسن السيرة فيها، وأجمل في تدبير أهليها، وسكنت نفس شمس الملوك إليه اه. فانظر إلى غرائب التوفيق في الأرض كيف ينشأ مملوك، ربما كانت يد النخاس مرت على رأسه، يكفل ابن السلطان ويربيه ويتزوج بأمه ويتصرف في ملكه ويدبر أمره، ثم يصبح بتجاربه وعقله ملكاً ترغب الملوك في التقرب منه، ويخاف العدى بأسه وسطوته، ويظهر في مظهر من طيب الأخلاق لا يضاهيه من تسلسل فيهم الحكم والملك، وتنقلوا في السلطان كابراً عن كابر، لكن هي التربية إذا حسنت أتى صاحبها بالعجائب، والنفوس إذا صفت جبل الخلق على حبها، والإرادات متى سلمت استمات الناس دونها، وبهذا كان الناس ولا يزالون يحكم كبارهم صغارهم، ويصبح المملوك ملكاً مطاعاً والمسود الخامل سيداً نابهاً، وكم من عصامي أفلح، ومن عظامي أخفق. قد يدرك الشرف الفتى ورداؤه خَلَق وجيب قميصه مرقوع ومن المماليك حكموا في الشام فأصبحوا ملوكاً في هذا الدور أيضاً بنو أُرْتُق، نسبةً لجدهم أُرتق بن أكسك وقيل أكسب التركماني ومن مماليك ملكشاه بن آلب أرسلان. تغلب أُرتق على حلوان والجبل

وكان منصوراً لم يشهد حرباً إلا وكان الظفر له، ثم أمره مولاه ملكشاه سنة 477 أن يذهب مع فخر الدولة بن جهير لضبط الموصل، وبينما كان مسلم بن قريش محصوراً في آمد، راسله أُرُتق وأخذ منه مالاً وافراً وفتح له طريقاً سار منه، فأنهى ابن جهير ذلك إلى ملكشاه فخاف أُرُتق وذهب إلى دمشق والتحق بصاحبها تاج الدولة تتش، وعاونه على الاستيلاء على حلب، وساعده في كثير من المواقف، فأقطعه فلسطين، أخذها من أصحاب أتسز أرتق الخوارزمي 584. فلما توفي صارت القدس وعملها لولديه ايلغازي وسقمان ابني أُرتق، حتى خرج عسكر خليفة مصر فاستولوا على القدس بالأمان في سنة 489 بعد أن بقيت في حكم الأرتقية ثلاث عشرة سنة وأياماُ. وسار سقمان وأخوه إيلغازي من القدس فاجتاز سقمان بدمشق وكان صاحبها متغيباً عنها فقاتله أهلها ومن فيها من الأجناد. وفي سنة 490 برز الملك رضوان صاحب حلب وياغي سيان صاحب إنطاكية إلى ناحية شيزر وعزما على معاودة دمشق لفتحها، فوقع الخلف بين مقدمي العسكر فرجع ملك حلب، وورد عليه كتاب المستعلي بالله الفاطمي يريده على الدخول في طاعته، وإقامة الدعوة لدولته، وكذلك كتاب الأفضل يتضمن مثل ذلك، فأجابهما إلى ما التمساه وأمر أن يدعى للمستعلي على المنبر وللأفضل بعده، ثم يدعى له بعدهما، ودامت الخطبة على ذلك أربع جمع. وكان الملك رضوان قد بنى الأمر في ذلك على الاجتماع مع العسكر المصري والنزول على دمشق لأخذها من أخيه الملك دقاق. فأنكر سقمان بن أرتق وياغي سيان على الملك الدخول في الأمر، واستبدعاه من فعله، وأشارا عليه بإبطاله واطراح العمل به، فقبل ما أشير عليه وأعاد الخطب إلى ما كانت عليه أي للعباسيين. وجرى الاتفاق على أن يخطب في دمشق لرضوان قبل أخيه دقاق، وذلك بعد أن يخطب للخليفة ثم للسلطان، وفي هذه السنة خرج العسكر من مصر ونزل على صور بعصيان واليه المعروف بالكتيلة، ولم يزل منازلها إلى أن فتحها بالسيف قهراً وقتل فيها خلق كثير، ونهب منها المال الجزيل، وأخذ الوالي فقتل.

الحروب الصليبية

- الحروب الصليبية من سنة 490 - 500 الحملة الصليبية الأولى: لم يخل الجو لملوك التركمان السلاجقة وأتباعهم في الشام زمناً طويلاً بعد مقتل مسلم بن قريش العربي، فكانت المدة بين مقتله وورود الأخبار بخروج عسكر الصليبيين إلى الأرض المقدسة ثلاث عشرة سنة كما مضى مثل هذا العدد من السنين بين استيلاء أول تركي واستيلاء أول إفرنجي. وكان القطر خلال ذلك في هرج ومرج، يتطاحن أمراؤه يمزق بعضهم بعضاً. تتعاوره أيدي ملكشاه وأخيه تتش بن آلب أرسلان ثم أولاده رضوان ودقاق والمماليك آق سنقر وبزان وطغتكين وأولاد أرتق ايلغازي وسقمان، والسلاجقة هنا يميلون إلى الخلافة العباسية، وإذا رأى بعضهم القوة لأصحاب الخلافة المصرية يغمضون الطرف عنهم، والفاطميون لا يملكون غير بعض الساحل، وأصبح القطر للتركمان، ويصعب على عرب الجزيرة إنجاده لبعد المسافات، وبغداد مهد العرب مشتغلة بنفسها. ربما كان في استيلاء التركمان على الشام خير لم تعرف حكمته إلا بعد حين، وهو قيام دولة فتية لها جيش جرار اشتهر بالشجاعة حتى قيل: إن آلب أرسلان لما جاء المرة الأولى إلى شمالي الشام كان في أربعمائة ألف مقاتل، ومثل هذا الجيش لا تستطيع العراق والشام والجزيرة أن تجنده لدفع جيوش الفرنج الجرارة، هذا على فرض أن قواها موحدة، وروحها

في الدفاع واحد، فالشام إذاً اعتز بالتركمان. ثم إن السلجوقيين كانت بأيديهم الدروب أو المنافذ إلى آسيا الصغرى أو طريق الإفرنج من أوروبا إلى الشام على طريق البر، فتولي دولة التركمان القيادة العامة جمع بالطبيعة حولهم العرب من سكان هذه الديار وما إليها. إن حكم التركمان الشديد عجل على ما يظهر في خروج الصليبيين إلى الشام. وإليك البيان: أثخن بنو سلجوق أصحاب آسيا الصغرى في جيش صاحب قسطنطينية بإيعاز السلطان ملكشاه، وضايق الأمير برسق الروم، حتى قرر على القسطنطينية في كل سنة حمل ثلاثمائة ألف دينار للسلطان، وثلاثين ألف دينار له، جزية يؤديها، فخاف ملك القسطنطينية كثيراً على مملكته من هجوم المسلمين، فكتب يستنهض ملوك أوروبا أن يأتوا لمساعدته، ورضي بطريرك القسطنطينية بأن يقدم خضوعه لبابا رومية، إذا كانت ممالك أوروبا تجهز جيشاً لتخليص المملكة اليونانية مما يتهددها من هجوم التركمان والمسلمين، فكاتب ملوك أوروبا بذلك. قال صالح بن يحيى في سبب استيلاء الصليبيين على ديار المسلمين: إنه لما قويت دولة بني سلجوق ضعفت حال الخلافة ببغداد، فلما مات ملكشاه السلجوقي سنة خمس وثمانين وأربعمائة وقع الخلف بين ولديه محمد وبركيارق، ودام الحرب بينهما نحو اثنتي عشرة سنة فاضطربت ممالك الشرق لذلك، ووافق هذا خلافة الآمر بأحكام الله بمصر وكان صغيراً، ولما كبر كان مستهتراً بالمملكة فخلا للصليبيين الجو. وفي التاريخ العام أن حجاج النصارى كانوا يرمون إلى أخذ القبر المقدس من أيدي المسلمين، وإن كان هؤلاء يتركونهم وشأنهم يقومون بعبادتهم بسلام، ولكن كان يتراءى للنصارى أن سيدهم المسيح يرضى عن عملهم إذا أنقذوا قبره من غير المؤمنين بدينه. وروى بعض المؤرخين أن الفاطميين هم الذين فاوضوا الصليبيين وأرادوهم على غزو الشام لينجوا من السلجوقيين الذين كانت قويت دولتهم. وهذا مما يستبعد، وإن كان العقل لا يستبعد شيئاً في السياسة، ولكن ظهر أن الفاطميين حاولوا غير مرة رد الصليبيين عن السواحل وعن فلسطين.

واتفق أن بعض زوار الأوروبيين في الأرض المقدسة شاهدوا شيئاً من العنف في بيت المقدس لم يكن لهم عهد به في أدوار الحكومات العربية القوية، وانقلبت سماحة العرب بجفاء من خلفوهم من التركمان، فعاد الزوار إلى ممالكهم يقصون ما لقوا من الشدة في الشام ويعظمون الأمر، وكان التعصب الديني يومئذ على أشد حالاته في الغرب، ومعظم حكوماته تدين بدين البابا وتخضع لسلطانه القاهر، ولم يكن ظهر إذ ذاك المذهب الإنجيلي، وكان مذهب الروم الأرثوذكس آخذاً بالضعف ليس له روابط الكنيسة البابوية ولا سلطتها على الأرواح والأشباح، فأوعز البابا إلى أمم النصرانية في الغرب ليهبوا كلهم إلى إنقاذ القبر المقدس من أيدي المسلمين. وقد ذكر أهل الأخبار من الأوروبيين في تعليل الحروب الصليبية، أن المسيحيين والمسلمين كانوا حتى القرن الحادي عشر للميلاد على صلات سلمية إلا قليلاً، يحمل العرب إلى مصر والقسطنطينية حاصلات مختلفة من بلاد الهند والشرق الأقصى، فتستبضعها من المدن الإيطالية باري وبيزة وجنوة وأمالفي والبندقية فيبيعونها في أوروبا. وكان العرب يسمحون للزوار أن يأتوا زرافات إلى فلسطين، فيشخص إليها جماهير عظيمة من عامة نصارى الغرب يسجدون أمام القبر المقدس. وتضاعفت الحماسة الدينية في ذاك الزمن وتداعى الحكم العربي القائم على التسامح في قارة آسيا، وقام مقامه المحاربون من الترك المعروفين بتعصبهم وبسالتهم. فاستولى السلجوقيون على أرمينية والشام ونيقية ودانت لهم في سنة 469هـ - 1076م القدس فاختلت العلائق الاقتصادية بين آسيا وأوروبا، وخافت المدن التجارية في البحر المتوسط أن يغلق الأتراك أمامها أسواق الشرق. نعم نشأت الحملة الصليبية الأولى من الحماسة الدينية بصنع البابوية التي كانت إذ ذاك الحاكمة المتحكمة في كل شيء. ولقد تأثر البابا أوربانوس الثاني بشكاوي الزوار القادمين من فلسطين. وقلق للارتقاء المخوف الذي بلغه المسلمون في الأندلس، ولا سيما عقبى وقعة الزلاقة سنة 480هـ - 1087م وقد أثبت العرب فيها كفاءتهم الحربية، كما أثبتوا من قبل ومن بعد كفاءتهم المدنية، واغتنم فرصة اجتماع المجمع الديني العظيم الذي التأم في مدينة

كلرمون وحضره ألوف من الفرسان، ليحرض المؤمنين من النصارى على حمل الصليب لفتح القبر المقدس. فوعد جمهور كبير من جميع طبقات الشعوب أن يرحلوا إلى فلسطين. واتخذوا شعار الحملة الصليبية صليباً من القماش الأحمر يجعل على الكتف الأيمن. وكثر المشتركون بهذه الحملة في إيطاليا وإنكلترا ولا سيما في فرنسا. ومنحهم البابا غفراناً عن جميع خطاياهم، وشجب كل من يمس أموالهم مدة سفرهم. ولم ينتظر العامة ريثما تجمع الجيوش المتحدة التي أبطأ تنظيمها، بل سافروا بدون سلاح، غير آخذين بالحزم في التأهب للرحلة. وكان هذا شأن عصابات البائسين الذين جمعهم بطرس الراهب وغوتيه المعدم سانزافور ومن لم يهلك من هذه العصابات في الطريق أهلكه الترك. وفي أواخر سنة 490هـ - 1096م اجتمع في القسطنطينية أربعة جيوش متحالفة من اللورين والألمان بقيادة بودوين دي هينو، وفرنسيين من الشمال بقيادة القومس فرماندوا ودوق نورمنديا، وبرفنسيون بقيادة قومس طولوز، ونورميون من إيطاليا بزعامة بوهيموند دي ترانت وتنكري ولم يكن مع هذه الأمم ملك من ملوكهم، ولم يتفق رأي الغزاة على نصب ملك يرتضونه ويرجعون إليه. وكان الأمير الكسيس كومنين ملك الروم يرجو استخدام الجيوش الصليبية لفتح آسيا الصغرى، واسترجاعها من أيدي المسلمين، فصانعوه ولكن ما لبث البيزنطيون واللاتين أن تباغضوا واحتقر بعضهم بعضاً. وبعد سنتين ونصف مضت في المصائب الهائلة والجدال العنيف، استولى الصليبيون في طريقهم على نيقية لحساب الإمبراطور، وكسروا جيش سليمان في دوريليوم أسكيشهر واستولوا على الرُّها 1097 وعلى إنطاكية 1098 وبلغوا القدس واستولوا عليها 492هـ 1099م. وربما هلك في هذه الحملة نصف مليون من

الصليبيون في شمالي الشام:

الرجال حتى تهيأ للصليبيين أن ينشئوا أربع إمارات: إمارة القدس وإمارة إنطاكية وإمارة الرها وإمارة طرابلس، قسمت أقطاعاً على الفرسان الغربيين. أما المدن الكبرى في الساحل الشامي فقسمت مستعمرات أوروبية أنشأت فيها مارسيليا والمدن الإيطالية أحياء برمتها. وبذا رأينا أنه دعا إلى الحملات الصليبية تعصب أوروبا الديني، وحب الغارة والتجارة، والأسباب التي دعت إليها واهية لا محالة. قال أحد كتاب روسيا: كان في الإمكان اجتناب وقوع الحروب الصليبية، وساعد على حدوثها الجهل والأوهام الدينية والسياسية ومصلحة البابوية. وكم من أحزان وآلام وجرائم جديدة كان يمكن أن تتوفر على الإنسانية لو لم يوقف شارل مارتل العرب سنة 110 للهجرة فإن المدنية الزاهرة التي كان يحملها أولئك الذين دعاهم الصليبيون في حال سخطهم وبغضهم بأبناء إسماعيل عبدة الأصنام والكفار والوثنيين، كانت هذه المدنية تؤثر في أوروبا الغربية وتعمل عملها في المدنية الفرنجية والرومانية. - الصليبيون في شمالي الشام: هذا ما كان من جهة الغرب وسر الحملة الصليبية الأولى على هذا الجزء الصغير من الشرق، ولو كانت كلمة القابضين إذ ذاك على زمام الأمر في آسيا الصغرى وأرض الشام متحدة، وحكوماتهم قوية منظمة، لتعذر كل التعذر على الصليبيين أن يزحفوا على إنطاكية، ثم يسير جيشهم حتى يأخذ الساحل ويبلغ البيت المقدس على كثرة عدده، فقد قيل: إن الحملة الأولى كانت مليون محارب ومحاربة، لأن بعض الصليبيين كانوا يصحبون معهم أزواجهم وأولادهم. وفي رواية ميشو أن الحملة الأولى كانت ستمائة ألف محارب على حين كان جيش الإسكندر الذي فتح به آسيا ثلاثين ألفاً فقط. ومع هذا فإن الشام كان في ذاك العهد بحالة من تجزؤ الحكم بحيث لا تستطيع أن تجهز نصف جيش الفرنج، وهي تحتاج إلى حاميات عظيمة في الثغور والحصون والمدن الكثيرة. وكان المسلمون إذ ذاك كنصارى الأوروبيين مشتتة أهواؤهم غير منظمة قواهم. ومع

هذا فقد روى مؤرخونا أن الأخبار لما وصلت سنة 490هـ إلى الشام بظهور عسكر الفرنج من بحر القسطنطينية في عالم لا يحصى عدده كثرة، شرع الملك داود بن سليمان بن قتلمش، وكان أقرب إليهم داراً في الجمع والاحتشاد، واستدعى التركمان فوافاه منهم مع عسكر أخيه العدد الكثير وعادوا إليه، واستظهروا عليه، وكسروا عسكره فقتلوا منهم وأسروا، ونهبوا وسبوا، وانهزم التركمان واشترى ملك الروم من السبي خلقاً كثيراً وحملهم إلى القسطنطينية. ولما اتصلت هذه الأنباء بأمراء الشام، قر رأي أصحاب إنطاكية وحلب ودمشق وغيرهم من صغار الأمراء على الاستصراخ والاستنجاد، وتحصين إنطاكية وإخراج النصارى منها، ولم تلبث عساكر الفرنج أن نزلت على حصن بغراس وأعادوا الكرة على أعمال إنطاكية فعصى من كان في الحصون والمعاقل المجاورة لها، وقتلوا من كان فيها وهرب من هرب منها، وفعل أهل حصن ارتاح مثل ذلك واستدعوا المدد من الفرنج. وكان نهض من عسكر الفرنج فريق يناهز الثلاثين ألفاً فعاثوا في الأطراف ووصلوا إلى حصن البارة وفتكوا بأهله، وكان عسكر دمشق وصل إلى ناحية شيزر لإنجاد ياغي سيان، فقتل الفرنج منهم جماعة، وعاد الفرنج إلى الروج بين حلب والمعرة، وتوجهوا إلى إنطاكية وجعلوا بينهم وبينها خندقاً لكثرة الغارات عليهم من عسكرها. وكان الفرنج عند ظهورهم عاهدوا ملك الروم ووعدوه بأن يسلموا إليه أول بلد يفتحونه، ففتحوا نيقية فلم يسلموها إليه على الشروط المقررة، وافتتحوا في طريقهم بعض الثغور والدروب وفتحوا الرها وما إليها وجاءوا إنطاكية فحاصروها تسعة أشهر حتى واطأهم قوم من الزرادين ومنهم أرمن على تسليم إنطاكية إليهم، وذلك لإساءة صدرت من صاحبها ياغي سيان إلى الأرمن فصادرهم وأرهقهم، ووجدوا الفرصة في برج من أبراج البلد مما يلي الجبل فباعوه من الفرنج وأطلعوهم إلى البلد منه. فانهزم ياغي سيان بعد أن ظهر من شجاعته وجودة رأيه وحزمه واحتياطه ما لم يشاهد من غيره، وخرج في خلق عظيم فلم يسلم منهم شخص، ولما حصل بالقرب

من أرمناز قرب معرة مصرين سقط عن فرسه فمات. وقد قتل في إنطاكية وأسر وسبى من الرجال والنسوان والأطفال خلق كثير. ولما سقطت إنطاكية عادت عساكر الشام فتجمعت، وحاصر المسلمون إنطاكية حتى عدم القوت منها، وأكل الفرنج الميتة، فزحفوا وهم على غاية من الضعف إلى عساكر الإسلام، وهم في الغاية من القوة والكثرة، فكسروا المسلمين وفرقوا جموعهم. والسبب في هذه الهزيمة أن كربوغا صاحب الموصل كان في عسكره على حصار إنطاكية مع أمراء دمشق وحلب حمص وغيرهم، فأساء السيرة فيمن اجتمع معه من الملوك والأمراء وتكبر عليهم، فخبثت نياتهم على كربوغا فهزمهم عدوهم وهو في ضعف وهم في قوة. قال صاحب التاريخ العام: وكان الجيش الإسلامي الذي دافع عن إنطاكية وأنجد صاحبها مؤلفاً من مائتي ألف محارب، ولو استطاع هذا الجيش أن يصل كله إلى إنطاكية لقضى على الصليبيين جملة، ولم تلبث الحرب أن نشبت بين الصليبيين فاختلف البرفنسيون والنورميون، حتى إن الفرسان هددوا المتحاربين من الفرنج أن يخربوا المدينة التي كانوا يتنازعون ملكها. وظلت الحرب على إنطاكية أربعة أشهر ففتحت بعد مذبحة هائلة قتل فيها من الفريقين أُلوف. ولما انهزم المسلمون أمام الفرنج على إنطاكية، سار هؤلاء بجملتهم إلى المعرة وضموا إليهم الأرمن الذين كانوا في طاعتهم وبعض النصارى الشاميين، فاستولوا عليها ووضعوا السيف في أهلها، وقتلوا منها ما يزيد على مائة ألف إنسان في أكثر الروايات، وسبوا مثلهم وأقاموا بالمعرة أربعين يوماً، ثم زحفوا عنها بعد أن قتلوا أهلها وقطعوا أشجارها. قال ميشو: إن الفرنج قتلوا جميع من كان في المعرة من المسلمين الذين اعتصموا بالجوامع واختبئوا في السراديب، فأصبحت خاوية على عروشها، وفقد الفاتحون كل زاد وساءت حالهم، ثم وقع الخلاف بينهم وصاروا في رواية يأكلون جثث الموتى، وهدموا أسوارها وأبراجها، وأحرقوا المساجد وكسروا المنابر وهدموا الدور، ثم ساروا إلى عرقة وحصروها أربعة أشهر ونقبوا سورها عدة نقوب، فلم يقدروا عليها، ثم ساروا إلى حمص فصالحهم

فتح الصليبيين القدس والساحل:

أهلها وراسلهم صاحب شيزر على الصلح وعصت طرابلس عليهم لما بدا من شمم صاحبها ابن عمار واستنجاده بالملوك، فصالحه صاحب إنطاكية وهاداه على أن يكون للفرنج ظاهر طرابلس ولا يقطع الميرة والمسافرين عنها، وبهذا تيسر للفرنج أن يحفظوا خط رجعتهم في طريقهم براً إلى القدس. وخرجوا على طريق النواقير إلى عكا فلم يقدروا عليها. فتح الصليبيين القدس والساحل: وبعد فتح الفرنج المعرة وغدرهم بأهلها ومن احتمى فيها، وقطعهم على أهل البلد القطائع التي لم يفوا بشيء مما قرروه فيها، ومطالبتهم للناس بما لا طاقة لهم به، رحلوا إلى بيت المقدس على طريق الساحل فأجفل الناس، وكانت حلب على قيد غلوة من خطر استيلاء الفرنج، ولكنهم أعلنوا يوم وصولهم أنهم لا يقصدون إلا الاستيلاء على ما كان للروم من المدن، ليصرفوا فكر حكام الشام عن نجدة أهل إنطاكية، ولكن أمراء الأقاليم لم يصغوا لهذه الدعوة، ونزل الفرنج بعد أن اجتازوا معظم الثغور على الرملة فملكوها، وانتقلوا إلى بيت المقدس فضيقوا عليه، فجاءهم الأفضل في العسكر الدثر من مصر للإيقاع بهم وإنجاد البلد، فشدوا في قتاله ولازموا حربه، فانهزم الناس وملك الفرنج البلد ولبث الفرنج يقتلون في المسلمين بالقدس أُسبوعاً، وقتل من المسلمين في المسجد الأقصى ما يزيد على سبعين ألف نفس، منهم جماعة كثيرة من أئمة المسلمين وعلمائهم وعبادهم وزهادهم ممن جاور في ذلك الموضع الشريف، وغنموا ما لا يقع عليه الإحصاء. وجمع الفرنج اليهود في الكنيسة وأحرقوها عليهم، وهدموا المساجد وقبر الخليل، وأحرقوا المصاحف. قال ميشو: وقد ارتكب الصليبيون في فتح القدس أنواع التعصب الأعمى الذي لم يسبق له نظير، حتى شكا من ذلك المنصفون من مؤرخيهم، فكانوا يُكرِهون العرب على إلقاء أنفسهم من أعالي البيوت والبروج ويجعلونهم طعاماً للنار، ويخرجونهم من الأقبية وأعماق الأرض ويجرونهم في الساحات، ويقتلونهم فوق جثث الآدميين. ودام الذبح في المسلمين أسبوعاً حتى قتلوا منهم كما اتفق على لك مؤرخو الشرق والغرب سبعين

ألف نسمة، واليهود كالعرب لم ينجوا من الذبح أيضاً، فوضع الصليبيون النار في المذبح الذي لجأ إليه أبناء إسرائيل وأهلكوهم كلهم بالنار. ذكر ابن خلكان أن الأفضل كات تسلم القدس من سقمان بن أُرتق وولى فيه من قبله فلم يكن لمن فيه طاقة بالفرنج فتسلموه منهم، ولو كان في يد الأرتقية لكان أصلح للمسلمين. وكان الأفضل راسل الأمير سقمان وإيلغازي ابني أُرتق ليسلماه بيت المقدس بدون حرب فلم يجيباه، فقاتل البلد ونصب عليها المجانيق وهدم منها جانباً فلم يجد بداً من الإذعان له فسلماه إليه، وكان الأمير أتسز بن أُوق الخوارزمي انتزع القدس من يد المصريين سنة نيف وستين وأربعمائة قبل ملكه دمشق، ثم لما كسر بمصر سنة 469 قام على أصحابه فئة فأخرجوهم ثم أعاد الدعوة العباسية، ولم يزل القدس بيده إلى أن قتله تاج الدولة تتش بن أرسلان سنة 472 ثم انتزعه تاج الدولة سنة 474 ثم سلمه إلى الأمير ظهير الدين أُرتق أواخر سنة 478 فعمره وأسكن به ولده، ولم يزالوا به إلى سنة 491 حتى تسلمه المصريون. وجاء الأفضل وقد فات الأمر فانضاف إليه عساكر الساحل، ونزل بظاهر عسقلان منتظراً وصول الأسطول في البحر، فنهض عسكر الفرنج إليه وهجموا عليه في خلق عظيم، فانهزم العسكر المصري إلى ناحية عسقلان ودخل الفرنج إليها، وتمكنت سيوفهم من المسلمين، فأتى القتل على الرجالة والمطوعة وأهل البلد، وكانوا زهاء عشرة آلاف نفس ونُهب العسكر الإسلامي، وتوجه الأفضل في خواصه إلى مصر، وضايقوا عسقلان فقتل من أهلها وغيرهم سوى أجنادها ألفان وخمسمائة نفس. ولما توغل الصليبيون في الشام، وكانوا في كل بلد يدخلونه يقتلون أهله، ويخربون عمرانه، ويحرقون كتبه ومتاعه وآثاره، هام الناس على وجوههم في البراري ومنهم من قصد إلى داخلية الشام، ومنهم من فرَّ إلى مصر على حالة رثة. وفي سنة 485 ملك الفرنج ما حول بيت المقدس مثل صور وعكا والرملة ويافا، أما بقية الساحل كطرابلس وبيروت واللاذقية فبقيت تقاوم إلى حدود سنة 500 معتصمة وراء أسوارها محصورة في بقعة ضيقة من أرباضها، معتمدة على معاونة الفاطميين لها من البحر.

وكان الفرنج أول ما ملكوا من هذه الأرجاء الرُّها وما حولها من الحصون الفراتية قبل ملكهم إنطاكية والمعرة. وظلت بيروت في أيدي المسلمين إلى سنة 503 حتى فتحها بغدوين بعد أن حاصرها حصاراً شديداً وقتل من أهلها عالماً كثيراً. ودام ملوك الفاطميين ينجدون الساحل والداخل بجنودهم، ولولاهم لتيسر للفرنج اكتساح هذه الأرجاء بمجرد سير جيوشهم الجرارة، وحالت أسوار المدن بينهم وبين ما كانوا يؤملون، وصحت نيات القائمين بالأمر فيها، ولا سيما في المدن الداخلية، على الدفاع، فكانت هجمات العدو يُبددها في الغالب دفاع السكان على ضعف قواهم وتشتت أهوائهم، وموقف المدافع أسهل من موقف المهاجم. ومن أهم الأحداث بعد دخول الفرنج إنطاكية خروج صاحبها بيمند سنة 493 إلى حصن أفامية، فوصل الخبر إلى الدانشمند التركماني صاحب ملاطية وسيواس وعسكر قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش صاحب قونية وأقصرا، فقتل من عسكر الفرنج عدداً عظيماً، وحصل بيمند في قبضة الأسر مع نفر من أصحابه، ونفذت الرسل إلى نوابه في إنطاكية يلتمسون تسليمها. قال صاحب الكامل: لم يفلت أحد من الفرنج في هذه الوقعة وكانوا ثلاثمائة ألف غير ثلاثة آلاف هربوا ليلاً وأفلتوا مجروحين. ووصل كدفري صاحب بيت المقدس إلى عكا، وأغار عليهم فأصابه سهم فقتله، وكان قد عمر يافا وسلمها إلى طنكري، فلما قتل كدفري سار أخوه بغدوين القمص صاحب الرُّها إلى بيت المقدس في خمسمائة فارس وراجل، فجمع صاحبا دمشق وحمص الجموع ولقياه بالقرب من بيروت، فسارع نحوه صاحب حمص في عسكره فظفر به وقتل بعض أصحابه. وفيها افتتح الفرنج حيفا على ساحل البحر وأرسوف بالأمان وأخرجوا أهلها منها، وفتحوا قيسارية وقتلوا أهلها ونهبوا ما فيها وأعانهم الجنويون عليها. وكان الجنويون والبيزيون يبعثون كل سنة بمراكب إلى ثغور الشام. وأرسل عبد الله بن صليحة المتغلب على ثغر جبلة إلى صاحب دمشق، يلتمس منه إنفاذ من يراه من ثقاته ليسلم إليه جبلة، فانتدب ولده تاج الملوك فتسلمها، وأساء هو وأصحابه إلى أهلها وظلموهم، فشكوا حالهم

إلى ابن عمار صاحب طرابلس فأنهض إليهم عدة وافرة من عسكره، فدخلت الثغر واجتمعت مع أهله على التركمان فقهروهم وأخرجوهم منه وملكوه، وحملوا تاج الملوك إلى طرابلس فدمشق معززاً. وفي رواية أن الفرنج استولوا على جبلة هذه السنة. وفيها خرج من مصر عسكر كثيف مع سعد الدولة المعروف بالقوامسي ووصل إلى عسقلان لجهاد الفرنج ورحل عنها، فنهض من الفرنج ألف فارس وعشرة آلاف راجل والتقى الفريقان فكسرت ميمنة المسلمين واستشهد سعد الدولة وعاد المسلمون على الفرنج وتذامروا عليهم وتحاضوا على قتالهم، وبذلوا النفوس في الكرة عليهم فهزموهم إلى يافا وقتلوا منهم وأسروا. وفيها نزل صنجيل على طرابلس، وكان جاءه أربعون مركباً مشحونة بالرجال والمال، فعطب بالرياح أكثرها، فكتب صاحبها إلى دمشق يستصرخ، فسار عسكرها مع صاحب حمص إلى أنطرطوس والتقوا بالفرنج، فانهزم صاحب حمص وعاد الفرنج إلى قتال طرابلس وعاد ابن عمار إلى الاستصراخ بصاحبي حمص ودمشق، فدفعوا الفرنج عنه بعد أن قتل من أهل طرابلس سبعة آلاف رجل، ونازل صنجيل طرابلس وحصرها وأتاه أهل الجبل فأعانوه على حصارها، وكذلك أهل السواد وأكثرهم نصارى، ثم هادنهم على مال حملة أهل طرابلس إلى صنجيل، فسار إلى أنطرطوس ففتحها وقتل من بها من المسلمين، ثم رحل إلى حصن الطوبان وهو يقارب رفنية، ومقدمه يقال له ابن العريض فقاتلهم فنصر عليه أهل الحصن وأسر ابن العريض منه فارساً من أكابر فرسانه، فبذل صنجيل في فدائه عشرة آلاف دينار وألف أسير فلم يجبه ابن العريض إلى ذلك. ثم سار صنجيل وحاصر حصن الأكراد فجمع تاج الدولة صاحب حمص العسكر ليسير إليه فوثب به باطني واغتاله، ولما بلغ صنجيل ذلك رحل عن حصن الأكراد إلى حمص ونازلها وملك أعمالها. وفي هذه السنة أطلق الدانشمند صاحب سيواس بيمند الفرنجي صاحب إنطاكية من الأسر وأخذ منه مائة ألف دينار، ولما خلص من الأسر عاد إلى إنطاكية فقويت نفوس أهلها به،

تخاذل أمراء المسلمين وبلاد طغتكين وابن عمار:

ولم يستقر حتى أرسل إلى أهل العواصم وقنسرين وما جاورها يطالبهم بالأتاوة، فورد على المسلمين من ذلك ما طمس المعالم التي بناها الدانشمند. تخاذل أمراء المسلمين وبلاد طغتكين وابن عمار: جهز ملك مصر في سنة 496 عسكراً بقيادة ابنه شرف المعالي، وسير الأسطول في البحر فاجتمع بالعسكر الذي خرج سنة 495 وعليه سعد الدولة القوامسي بيازور على ساحل الرملة، والتقيا مع عسكر الفرنج فهزموهم، وحاصروا شرف المعالي قصراً كان الأفشين قد بناه قريباً من الرملة وملكه قهراً، وقتل من كان به من الفرنج فحضر في البحر عدة مراكب نجدة لهم وحاصروا عسقلان، فرحل شرف المعالي من الرملة إلى عسقلان، فارتحل الفرنج عنها، وكتب الأفضل إلى شمس الملوك دُقاق صاحب دمشق يستنجده على الفرنج فاعتذر عن ذلك. وفي سنة 497 وصلت مراكب الفرنج في البحر إلى ظاهر اللاذقية مشحونة بالتجار والأجناد والحجاج وغير ذلك، فاستنجد بهم صنجيل المنازل لطرابلس في مضايقتها والمعونة على ملكها، فاجتمعوا معها على منازلتها، فقاتلوها أياماً ورحلوا عنها، ونزلوا على ثغر جبيل، فقاتلوه وضايقوه وملكوه بالأمان ثم غدروا بأهله وصادروهم، واستنفذوا أموالهم بالعقوبات وأنواع العذاب. وفيها التقى عسكر الأميرين سقمان بن أرتق صاحب آمد وجكرمش صاحب الموصل بعسكر بيمند وطنكري في عسكريهما من ناحية إنطاكية فانتصر المسلمون. ونزل بغدوين صاحب بيت المقدس على ثغر عكا - وواليها من قبل المصريين زهر الدولة الجيوشي - ومعه الجنويون والمراكب في البحر والبر، وهم الذين كانوا ملكوا ثغر جبيل في نيف وتسعين مركباً فحصروه من جهاته، ولازموه بالقتال إلى أن عجز واليه ورجاله عن حربهم، وضعف أهله عن المقاتلة وملكوه بالسيف قهراً. ونزل الفرنج على حصن بَسَرفوت ورموه بالمناجيق ففتحوه بالأمان وأطلقوا من كان فيه، وكان من أمنع حصون جبل بني عليم من حيز حلب. وظهر ابن عمار صاحب طرابلس

في عسكره وأهل البلد وقصد الحصن الذي بناه صنجيل عليهم، وهجم على غرة ممن فيه، فقتل من به ونهب ما فيه وأحرق وأخرب، وأخذ منه السلاح والمال والديباج والفضة، هذا وملوك الإسلام إذ ذاك مشتغلون بقتال بعضهم بعضاً وقد تفرقت الآراء وتمزقت الأموال. وقصد الفرنج حران فاتفق صاحب الموصل وصاحب حصن كيفا وماردين ومعهم العرب والتركمان واجتمعوا بالفرنج على الخابور على نهر البليخ فهزم الفرنج وأسر ملكهم القومص. وفي سنة 498 خرج صاحب حلب عازماً على قصد طرابلس لمعاونة صاحبها ابن عمار على الفرنج النازلين عليه، وكان الأرمن في حصن أرتاح قد سلموا إليه الحصن لما شملهم من جور الفرنج ونزل عليها فوقع المصافُّ بين المسلمين والفرنج عند شيزر، فثبت راجل المسلمين وانهزمت الخيل، ووقع القتل في الرجالة ولم يسلم منهم إلا القليل ووصل الفلُّ إلى حلب، وحين عرف ذلك من كان في أرتاح من المسلمين هربوا بأسرهم منها فملكها الفرنج، ثم قصدوا حلب فأجفل أهلها منهم واضطربت أحوال من بالشام. وفي هذه السنة خرج من مصر عسكر كثيف يزيد على عشرة آلاف فارس وراجل مع شرف المعالي ولد الأفضل، وكوتب صاحب دمشق بالاستدعاء للمعونة فنزل هذا على بُصرى ثم قصد ظاهر عسقلان، فتجمع الفرنج وقصدوا عسقلان فالتقى الفريقان بين يافا وعسقلان، واستظهر الفرنج على المسلمين وقتلوا والي عسقلان، وانهزم عسكر مصر إلى عسقلان، وعسكر دمشق إلى بصرى، وكان صاحبها أيتكين الحلبي راسل بغدوين ملك الفرنج للاستنجاد به، وتوجه أيتكين وأرتاش بن تاج الدولة نحو بغدوين، وأقاما عنده مدة يحرضانه وقومه على المسير إلى دمشق، ويبعثانه على الإفساد في أعمالها فلم يجبهما، فلما يئسا توجها إلى ناحية الرحبة. وتوجه صاحب دمشق إلى بعلبك، وقرر أمورها وكف الأذى عن واليها كمشتكين الخادم التاجي، وتوجه إلى حمص وقصد رفنية ونزل عليها، ووفد عليه خلق كثير من جبل بهراء في عمل حمص، فهاجموا رفنية على حين غفلة من أهلها، وغرة من مستحفظيها، وقتلوا من بها

حرب طغتكين للصليبيين:

وبأعمالها وأحرق ما أمكن إحراقه من الحصن المحدث عليها من الفرنج وغيره، وملكت أبراج رفنية وهدم الحصن وقدم من كان فيه. وفي سنة 499 سار الفرنج إلى أفامية وحاصروها وملكوا البلد والقلعة وقتلوا القاضي المتغلب عليها، وكان هذا كتب إلى صاحب حلب لإنقاذ البلاد من المستبد بها خلف بن ملاعب الكلابي الذي كان دأبه إخافة السبل، فقتله والتجأ ابنه مصبح إلى طنكري صاحب إنطاكية وحرضه على العود إلى أفامية وأطمعه في أخذها لقلة القوت بها، فنهض إليها ونزل عليها وضايقها إلى أن تسلمها بالأمان. والغالب أن الإسماعيلية هم الذين ملكوا حصن أفامية باسم الملك رضوان صاحب حلب، وكان بنى لهم بحلب دار دعوة وهو أول من عملها. وكان بأفامية رجل من دعاتهم، يقال له أبو الفتح السرميني فقرر ذلك لمنه أهلها، فنقبوا السور وهجموا على ابن ملاعب وقتلوه ونادوا بشعار الملك رضوان. وبقي الحصن في أيديهم حتى أخذه الفرنج منهم في سنة 500. وفي سنة 499 ملك صنجيل مدينة جبلة، ثم سار وأقام على طرابلس فحصرها وبنى بالقرب منها حصناً، وبنى تحته ربضاً وهو المعروف بحصن صنجيل، فخرج صاحب طرابلس فأحرق الربض وهلك صنجيل على أثر حرق بجسمه ودام الحرب بين أهل طرابلس والفرنج خمس سنين وظهر من صاحبها ابن عمار صبر عظيم، وقلَّت الأقوات بها وجلا الفقراء وافتقرت الأغنياء. قال ابن الأثير: وكانت طرابلس من أعظم بلاد الإسلام تجملاً وثروة، فباع أهلها من الحلي والأواني الغريبة ما لا حد عليه حتى بيع كل مائة درهم نقرة بدينار. حرب طغتكين للصليبيين: خرج الفرنج إلى سواد طبرية 499 وشرعوا في عمارة حصن علعال بين السواد والبثنية، أو بين الغور وجبل الشراة، وكان من الحصون الموصوفة بالمنعة، فلما عرف صاحب دمشق هذا العزم منهم نهض، فملك الحصن وقتلهم وأسرهم. قال ابن الأثير: وقد قال طغتكين للمقاتلة يومئذ:

من أحسن قتال الفرنج وطلب مني أمراً فعلته معه. ومن أتاني بحجر من حجارة الحصن أعطيته خمسة دنانير، فبذل الرجالة نفوسهم وصعدوا إلى الحصن وخربوه وحملوا حجارته إلى طغتكين فوفى لهم بما وعدهم، وأمر بإلقاء الحجارة في الوادي وأسروا من بالحصن فأمر بهم فقتلوا كلهم واستبقى الفرسان، ثم سار إلى حصن رفنية فحصره وملكه، وقتل به خمسمائة رجل من الفرنج. وفي السنة التالية 500 زاد عيث الفرنج في أعمال السواد وحوران وجبل عوف عجلون، فنهض صاحب دمشق بالعسكر وخيم في السواد. وهجم عز الملك والي صور على ربض حصن تبنين في جبل عامل من عمل الفرنج وقتل من كان فيه، فنهض بغدوين من طبرية، وسار صاحب دمشق إلى حصن بالقرب من طبرية فيه جماعة من فرسان الفرنج فقاتله وملكه وقتل من كان فيه. وأقطع صاحب دمشق الأمير الأصفهيد التركماني وادي موسى ومآب والشَّراة والجبال والبلقاء، وكان الفرنج قد نهضوا إلى هذه الأعمال وقتلوا من فيها وسبوا ونهبوا، فلما وصل إليها وجد أهلها على غاية الخوف من الفرنج، ونهض هؤلاء لما عرفوا خبره من ناحية البرية وكبسوه على غرة، فانهزم واستولى الفرنج على سواده. وتتابعت المكاتبات من صاحبي دمشق وطرابلس إلى محمد بن ملكشاه السلجوقي بعظيم ما ارتكبه الفرنج، وتملك الحصون والمعاقل، والفتك بالمسلمين ومضايقة ثغر طرابلس، والحض على تدارك الناس بالمعونة، فوقع خلاف بين الأمراء الذين انتدبهم صاحب حلب ودمشق وغيرهما في جهات الرحبة، والتقوا مع عسكر قلج أرسلان في أراضي الموصل، ونسوا الغرض الذي نُدبوا إليه. وقلج أرسلان التركماني هو الذي أعان ملك الروم في القسطنطينية على بيمند ملك الفرنج، فاستظهر الروم والتركمان على الفرنج وكسروهم كسرة شنيعة أتت على أكثرهم بالقتل والأسر وتفرق الباقي منهم عائدين إلى ديارهم.

حروب الصليبيين ودولة طغتكين

حروب الصليبيين ودولة طغتكين وبقايا السلجوقيين من سنة 500 إلى 522 هدنة طغتكين للصليبيين وشدته عليهم: انسلخ القرن الخامس، وأهم ما دهم القطر فأوقع الاضطراب فيه، انهيال جيوش الصليبيين عليه، وتبلج القرن السادس والصليبيون في الشام، منذ عشر سنين، استصفوا الساحل وبعض الداخل، والحرب بين أمراء الشام وبين الفرنج على أشد حالاتها، وشعر أمراء المسلمين بالخطر المداهم لكن القوى لم توحد، وكيف يخضع صاحب آمد لصاحب دمشق أو صاحب حلب لصاحب الموصل؛ وكل منهم يدعي التفوق ويود لو ينال من جاره ليكون له الأمر كله، وكان طغتكين صاحب دمشق يحمل العبء الثقيل لأن مملكته تتاخم أرض فلسطين، وملوك الأطراف أبعد دياراً، وكان همه قتال الأعداء من الجنوب والغرب، وحفظ الموازنة مع صاحب حلب حتى لا يستخذي فتسقط دمشق بل الشام بأسره. وأهم الأحداث في العقد الأول من هذا القرن إقامة صاحب القدس على تل المعشوقة في صور 501 بناء، ومصانعة واليها على سبعة آلاف دينار، واشتداد الأمر بابن عمار في طرابلس لحصار الفرنج ومضيه إلى بغداد مستنجداً، وقد استناب ابن عمه أبا المناقب، فنادى بشعار الأفضل صاحب مصر، فقبض عليه وحمل إلى حصن الخوابي. وطال مقام ابن عمار في مدينة السلام على غير طائل، وأنفذ الأفضل من مصر إلى طرابلس

في البحر الغلة والميرة ووالياً من قبله فتسلم البلد. وأسرى صاحب دمشق إلى طبرية وفرق عسكره فرقتين، نفذت إحداهما إلى فلسطين، وأغار بالثانية على طبرية، وأحاطت الخيل بصاحب طبرية وبأصحابه فقتل أكثرهم. ونهض صاحب القدس إلى صيدا براً وبحراً ونصب برج الخشب عليه، ووصل الأسطول المصري فظهر على مراكب الفرنج وعسكر البر واتصل بهم نهوض العسكر الدمشقي لحماية صيدا فرحلوا عنها. وتسلم الفرنج عرقة بالأمان 502، وكان أنجدها صاحب دمشق فعاقته الثلوج والأمطار عن الوصول إليها، فرجع إلى حصن الأكمة مقاتلاً، ثم رحل عنه شبه المنهزم إلى حمص. ونزل الفرنج على طرابلس وشرعوا في قتالها ومضايقة أهلها زهاء أربعة أشهر، فشمل اليأس أهلها لتأخر وصول الأسطول المصري في البحر، فملكها الفرنج بالسيف ونهبوا ما فيها وأسروا رجالها وسبوا نساءها وأطفالها وحصل في أيديهم من أمتعتها وذخائرها ودفاتر دار علمها، وما كان منها في خزائن أربابها، ما لا يحد عدده ولا يحصر، ونزل بأهلها أشد البلاء، وتقرر بين الفرنج والجنويين على أن يكون للجنويين الثلث من البلد وما نهب منه، والثلثان لريمند بن صنجيل وأفردوا للملك بغدوين من الوسط ما رضي به. وذكر النويري أن السبب الذي دعا أهل طرابلس إلى التسليم، أنهم بينا كانوا ينتظرون وصول النجدة بحراً من مصر، جاءهم رسول منها على مركب يطلب منهم لاسم الخليفة الفاطمي جارية جميلة كانت في طرابلس وخشب مشمش يصلح لعمل عود وغيره من آلات الطرب. وبعد فتح طرابلس سار الفرنج إلى جبلة، وسار جاولي إلى بالس، فهرب من بها من أصحاب الملك رضوان صاحب حلب، فحصرها خمسة أيام وملكها بعد أن نقب برجاً من أبراجها. وافتتح السرداني المتغلب على عرقة حصن بانياس، ونزل على ثغر جبيل وفيه ابن عمار فخرج منه بالأمان، ووصل الأسطول المصري بعد أخذ طرابلس فأقام بالساحل مدة وفرقت الغلة في جهاتها، وتمسك به أهل صور وصيدا وبيروت، وشكوا ضعفهم عن مقاومة الفرنج. وفيها كان المصاف بين جاولي وبين

طنكري صاحب إنطاكية، وسبب ذلك على ما رواه ابن الأثير أن الملك رضوان كتب إلى طنكري يعرفه ما عليه جاولي من الغدر والمكر والخداع ويحذره منه ويعلمه أنه على قصد حلب، وأنه إن ملكها لا يبقى للفرنج معه بالشام مقام، وطلب منه النصرة والاتفاق على منعه، فأجابه طنكري إلى منعه، وبرز من إنطاكية، فأرسل إليه رضوان ستمائة فارس. ولما وقعت الحرب لم يبق غير هزيمة صاحب إنطاكية، ثم انهزم جاولي وبقية عسكره، وقتل من المسلمين خلق كثير، ونهب صاحب إنطاكية أموالهم وأثقالهم وعظم البلاء عليهم من الفرنج، وهرب القمص وجوسلين إلى تل باشر، والتجأ إليهما خلق كثير من المسلمين ففعلا معهم الجميل وداويا الجرحى وكسوا العراة وسيراهم إلى بلادهم. وفيها كانت حرب شديدة بين طغتكين والفرنج على طبرية، واشتد القتال فانهزم المسلمون، ثم نادى طغتكين بالمحاربين وشجعهم، فعاودوا الحرب وكسروا الفرنج وأسروا ابن أخت ملك القدس، وحُمل إلى طغتكين فعرض طغتكين عليه الإسلام فامتنع، وبذل في فداء نفسه ثلاثين ألف دينار وإطلاق خمسمائة أسير، فلم يقنع طغتكين منه بغير الإسلام وقتله بيده. ثم اتفق طغتكين وبغدوين ملك الفرنج على وضع الحرب أربع سنين. ولما انهزم طغتكين على طرابلس ووصل إلى حمص بعسكره على أقبح حال أرسل إليه ملك القدس يقول له: لا تظنن أنني أنقض الهدنة للذي تم عليك من الهزيمة، فالملوك ينالهم أكثر مما نالك ثم تعود أمورهم إلى الانتظام والاستقامة، وكان طغتكين خائفاً أن يقصده بعد هذه الكسرة فينال من بلده كل ما أراد. وهادن صاحب دمشق ملك بيت المقدس على أن يكون السواد وجبل عوف أثلاثاً، للتركمان الثلث وللفرنج والفلاحين الثلثان. وجاء ابن عمار إلى دمشق فأقطعه صاحبها الزبداني وأعمالها 503 وكان لابن عمار البلاء الحسن بل الأحسن في دفع عادية الصليبيين عن بلده، لم يترك باباً من أبواب الخلاص ليصدهم عن طرابلس إلا طرقه، حتى دفعهم بعقله وحسن إدارته عن تملكها عشر سنين. وكان في طريق رجعتهم كالحسكة

في الحلق، وفي معاملة ملوك الأطراف نموذج الدهاء السياسي، وهو على صغر جرم مملكته يطاول ويحاول وينازل ويصاول ويلين ويقسو. ونهض الفرنج 503 إلى رفنية وترددت بينهم وبين أمراء الشام مراسلات أفضت إلى تقرير الموادعة على أن يكون للفرنج ثلث مغل البقاع، ويسلم إليهم حصن المنيطرة وحصن عكار، وأن لا يتعرض لحصن مصياف والخوابي وحصن الأكراد وحصن الطوبان، وأن يحمل إليهم مال عنها وعن حصن الطوبان، وأقاموا على ذلك مدة ثم عادوا إلى الفساد، وخرج صاحب إنطاكية واستولى على طرطوس وقرر على شيزر عشرة آلاف دينار وتسلم حصن الأكراد وعاد إلى إنطاكية، ونزل بغدوين صاحب القدس وابن صنجيل صاحب طرابلس إلى بيروت، وسار إليهم جوسلين صاحب تل باشر لمعاونتهم واستنجادهم على الأمير مودود ابن التونتكين صاحب الموصل. وجاء الأسطول المصري مؤلفاً من 19 مركباً وفيه الرجال والميرة فدخلوا ثغر بيروت فقويت نفوس أهلها، فبعث بغدوين إلى الجنوية في ثغر السويدية فجاءوا في أربعين مركباً، وزحفوا براً وبحراً وفعلوا ما فعلوه في طرابلس من القتل والحرق والنهب وملكوا بيروت، ثم نزل بغدوين على صيدا فسلمها أهلها واستمهلوه مدة عينوها فأجابهم وأخذ منهم إتاوة. وراسل والي بعلبك كمشتكين الفرنج بالتماس المصافاة، وبعثهم على شن الغارات على الأطراف، فزحف صاحب

اجتماع كلمة أمراء المسلمين وإنجاد بغداد الشام:

دمشق عليه فجنح المقاتلة إلى الدخول في الطاعة، واستولى على البلد وعوض واليها عن بعلبك بحصن صرخد. اجتماع كلمة أمراء المسلمين وإنجاد بغداد الشام: اجتمع صاحب أرمينية وميافارقين وصاحب الموصل وغيرهم على جهاد الفرنج، وقصدوا الرها وضايقوها فأشرف من بها على الهلاك لقلة القوات، فشرع أصحاب إنطاكية وطرابلس والقدس بالذود عنها، ونهض صاحب دمشق في عسكره وخيم على سَلمية، وظهر الفرنج في رَفَنية فقاتلهم واليها شمس الخواص، ورحل الفرنج إلى قصد الرُّها فخف صاحب دمشق إلى الرقة وقلعة جعبر وقطع الفرات، وتلوَّم هناك إلى أن عرف خبر الفرنج وأنهم قد أحجموا عن العبور لتفرق سرايا العساكر الإسلامية وطلائعهم في عامة المسالك إلى الفرات. ولما أدرك المسلمون قرب الفرنج منهم اتفقت الآراء على الإفراج لهم ليتمكنوا من لقائهم في الفضاء من شرقي الفرات، ورحلوا عن الرُّها ونزلوا أرض حران مكراً وخديعة، ففطن الفرنج لهذا التدبير فأجفلوا ناكصين على الأعقاب إلى شاطئ الفرات، فنهض المسلمون في أثرهم وغنموا سواد الفرنج وأثقالهم، وأتوا على العدد الدثر من أتباعهم قتلاً وتغريقاً في الفرات. وفي هذه الأيام تأكدت أسباب الألفة بين صاحب دمشق وملوك الشمال. لما تفرقت العساكر الإسلامية أغار بغدوين على الرها، وكانوا رتبوا فيها جماعة من الأرمن لحفظها، وبلغ ذلك صاحب حلب وما أصاب الفرنج من الهزيمة فاستعاد ما كان غلب الفرنج عليه وأغار على إنطاكية. ثم جاء الفرنج عقيب ذلك فأفسدوا في أعمال حلب وقتلوا واسروا خلقاً كثيراً. وعاد طنكري على الأثارب وملكها بعد طول حصارها كما ملك زردنا، واستقرت الموادعة بعد ذلك بين صاحب حلب وطنكري على أن يحمل إليه الأول من مال حلب كل سنة عشرين ألف دينار وأن يفك الأسرى. ووصل بعض ملوك الفرنج في البحر في نيف وستين مركباً مشحونة بالرجال لقصد الحج والغزو في ديار الإسلام، فاجتمع مع صاحب بيت المقدس ونزلا على صيدا وضايقاها براً وبحراً، فلما عاين من بصيدا ذلك ضعفت نفوسهم وأشفقوا أن يصيبهم ما أصاب بيروت، وقد قتل الفرنج يوم أخذوها واليها وأعيانها، فخرج إليهم قاضيها وجماعة من شيوخها وطلبوا الأمان، فأمنهم فاستحلفوه على ذلك، وخرجت الحامية وخلق من أهلها إلى دمشق، وقرر بغدوين على من أقام بها نيفاً وعشرين ألف دينار فأفقرهم واستغرق أموالهم. وأغار بغدوين على عسقلان 504، وكان صاحبها شمس الخلافة يراسله، فاستقرت الحال بينهما على مال يحمله إليه ويرحل عنه، وانتهى

الخبر إلى الأفضل بمصر فأنكر ذلك، وجهز عسكراً كثيفاً إلى عسقلان، فلما قرب منها أظهر شمس الخلافة على الأفضل فغالطه الأفضل، وخاف شمس الخلافة من أهل البلد فاستدعى جماعة من الأرمن فأثبتهم في عسقلان، ثم وثب به قوم من كتامة وقتلوه. وسار إلى بغداد رجل من أشراف الهاشميين في حلب وجماعة من الصوفية والتجار والفقهاء، وانزلوا الخطيب في جامع السلطان عن المنبر وكسروه، وصاحوا وبكوا لما لحق الإسلام من الفرنج، ومنعوا الناس من الصلاة، وعملوا في الجمعة التالية مثل ذلك في جامع الخليفة، فأوعز السلطان إلى الأمراء المقدمين بالتأهب للمسير إلى الجهاد. ووصل رسول ملك الروم بمراسلات للبعث على قصد الفرنج والاجتماع على طردهم قبل إعضال خطبهم، ويقول إنه منعهم من العبور إلى أرض المسلمين وحاربهم، وإذا ضعفت عزائم قومه عن المقاومة، اضطر إلى مداراتهم وإطلاق عبورهم الديار الإسلامية، وبالغ في الحث على حربهم، ونقض بغدوين الهدنة المستقرة بينه وبين صاحب دمشق، فخرج هذا إلى اللجاة ونهض الفرنج في أثره إلى الصنَمين، ففرق صاحب دمشق العسكر من عدة جهات، وبث في المعابر والمسالك خيلاً يمنعهم من حمل الميرة إليهم حتى ألجأهم إلى المسالمة، على أن يكون لبغدوين النصف من ارتفاع جبل عوف والسواد والحيَّانية مضافاً إلى ما في يده من هذه الأعمال التي تليها في أيدي العرب من آل جراح. لما قرر ملك بغداد إنهاض العسكر عقيب استغاثة الشاميين بالخليفة والسلطان تقدم من الأمراء لإنجادهم على قتال الصليبيين صاحب الموصل، فافتتح تل مراد وعدة حصون هناك بالسيف والأمان. ووصل إليه الأمير أحمديل الكردي في عسكر كثيف، والأمير قطب الدين سقمان من بلاد إرمينية وديار بكر وصاحب همذان فنزلوا على تل باشر ونقبوه فأنفذ جوسلين صاحب تل باشر إلى الأمير أحمديل يلاطفه ويهاديه ويبذل له الكون معه والميل إليه، وكان أكثر العسكر مع أحمديل وسأله الرحيل عن الحصن فأجابه إلى ذلك على كراهية من باقي الأمراء، وعادوا عن

غارات المسلمين وغارات الصليبيين:

تل باشر إلى حلب وعاثوا في أعمالها وفعلوا أقبح من فعل الفرنج، ووصل إليهم في حلب صاحب دمشق ومعه رجال حمص وحماة ورفنية وسائر المعاقل الشامية، فلم ير منهم عزيمة صادقة في جهاد ولا حماية بلاد، واستجرهم إلى المعرة فظهر له من سوء نية المتقدمين فيه ما أوحشه منهم، وجعل يحرضهم على قصد طرابلس فلم يفعلوا وتفرقوا أيدي سبا، فلما علم الفرنج برحيل العساكر نزلوا أفامية وفي رأسهم أصحاب القدس وطرابلس وإنطاكية، وقد صاروا بعد التباين والمنافرة والخلف يداً واحدة على المسلمين، وكانت خيل هؤلاء مثل الفرنج إلا أن راجلهم أكثر، وناوشوا الفرنج على غير طائل. غارات المسلمين وغارات الصليبيين: وملك فرنج إنطاكية حصن الأثارب وقتلوا منه ألفي رجل وأسروا الباقين، ثم ملكوا زردنا ففعلوا كذلك وقصدوا منبج وبالس فوجدوهما خاليتين فعادوا أدراجهم. ووقع الخوف في قلوب أهل الشام من الفرنج، فبذل لهم المسلمون أموالاً وصالحوهم، صالحهم صاحب حلب على اثنين وثلاثين ألف دينار، وأهل صور على سبعة آلاف دينار، وصاحب شيزر على أربعة آلاف دينار، وصاحب حماة على ألفي دينار. وذلك لأن الفرنج امتنعوا من مهادنة ملوك الشام إلا على قطيعة يأخذونها إلى مدة يسيرة. ولو كان ملوك الشام إذ ذاك على شيء من الوحدة في الرأي، لما أقطعوا الفرنج القطائع، ولما هادنوهم، خصوصاً وقد خرق الفرنج مرات قانون المهادنات والموادعات، وبعض المنكرين يعذرونهم على عملهم الفظيع في تلك العصور لأنهم كانوا دون المسلمين في كل أمر من أمورهم العلمية والحربية والاجتماعية. وفي هذا العقد 505 جهز السلطان محمد عسكراً، فيه صاحب الموصل وغيره من أصحاب الأطراف إلى قتال الفرنج بالشام، فساروا ونزلوا على الرها فلم يملكوها، ووصلوا إلى حلب فخافهم صاحبها ولم يفتح لهم أبوابها، ثم ساروا إلى المعرة وتفرقوا. وفيها أنجد صاحب

دمشق أهل صور، وكان أغار عليهم بغدوين، وسار وخيم ببانياس وبث سراياه ورجاله في أعمال الفرنج، ونهض إلى حصن الحبيس في السواد، فملكه بالسيف وأغار على صيدا وأحرق عشرين مركباً من مراكب الفرنج، وبعد أن عمل الفرنج كباشاً كبيرة لتعلق على السور رماها أهل صور بالنفط والزيت مرات، وأقاموا على محاصرة صور أربعة أشهر ونصف، ثم قصدوا عكا وتفرقوا في أعمالهم. نزل أهل صور 506 عن بلدهم لصاحب دمشق لما أعيتهم الحيل في الدفاع فتسلمها، وأقام الدعوة والسكة على ما كانت عليه لصاحب مصر ولم يغير لهم رسماً، مع أن سائر الشام كانت طاعتها للعباسيين ودعوتها لهم، وذلك حباً بدوام الصلات مع صاحب مصر حتى لا ينقطع مدده عن الساحل. وضبط صاحب القدس القافلة الدمشقية بينا كانت سائرة إلى مصر، بدلالة أناس من العرب البدو، واشتمل الفرنج على ما فيها من الأمتعة والبضائع، وحصل لبغدوين منها خمسون ألف دينار وثلاثمائة أسير، ولم يبق بلد في الشام إلا أصيب بعض تجاره وأهله بأموالهم. وتواترت غارات بغدوين على عمل البثنية، وجمع صاحب الموصل عسكره من الأتراك والأكراد وقطع الفرات إلى الشام، وكذلك صاحب سنجار وصاحب ديار بكر، وكان الصليبيون يكاتبون صاحب دمشق على أن يتركوا له حصن تبنين وجبل عامل ويعوضوا عن ذلك بحصن الحبيس حبيس جلدك الذي في السواد ونصف السواد من البلقاء ويتركوا التعرض لشيء من أعمال دمشق، ولا يعرض هو لشيء من أعمال الفرنج، فلم يجب إلى ذلك، ونهض في جيشه للقاء صاحب الموصل والاجتماع به على الجهاد، فاجتمعا بمرج سليمة واتفق رأيهما على قصد بغدوين، وسارا وقد استصحب صاحب دمشق جميع العسكر ومن كان بحمص وحماة ورفنية، ونزلا بقدس فعين الجر بالبقاع فوادي التيم ثم نزلا على بانياس، ونهضت فرقة من العسكر فقصدت ناحية تبنين، فلم يظفروا منها بمراد، ووصل إليها بغدوين، وقد كان لما يئس من إجابة صاحب دمشق إلى

الموادعة واصل الغارات والفساد، ثم نهض صاحب دمشق ونزل على الأقحوانة على بحيرة طبرية، فنشب الحرب بين المسلمين والفرنج غربي جسر الصنبرة مقابل عقبة أفيق، فانتصر المسلمون بعد ثلاث كرات وغرق من الفرنج خلق كثير في البحيرة، وقتل نحو ألفي رجل من أعيانهم وأبطالهم، وأقام المسلمون على الجبل وطلع الفرنج إليه وتحصنوا به وهو من غربي طبرية، واستنفر أمير دمشق العرب الطائيين والكلابيين والخفاجيين فوصلوا بخلق كثير بالمزادات والروايا والإبل لحمل الماء، وصعدت الطلائع إلى الجبل من شماله، وعلم المسلمون أن الظفر قد لاحت دلائله، والعدو قد ذل، وأغارت بعض سرايا المسلمين على أرجاء القدس ويافا ونهبت بيسان ولم يبق بين عكا والقدس ضيعة عامرة. ثم تفرق المسلمون وعادوا إلى كورهم. وأرسل ملك القدس إلى والي صور 507 يريده على المهادنة والموادعة لتحسم أسباب الأذية عن الجانبين فأجابه إلى ذلك، وأمنت السابلة والتجار والسفار، واستقرت الحال بينهما على المهادنة فأمنت المسالك وصلحت الأحوال، بعد أن ذاق الفرنج بأس ملوك الشام والجزيرة على الأقحوانة. وكان صاحب القدس من أعظم ملوك الفرنج بالشام جيشاً ومكانة. وكان من جملة من حضر في هذه الوقعة عند طبرية الأمير مودود بن التون تكش صاحب الموصل. وفي سنة 508 قُتل آلب أرسلان بن رضوان صاحب قلعة حلب، قتله غلمانه بقلعتها وأقاموا بعده أخاه سلطانشاه بن رضوان، وكان لما ملك حلب جرى على قاعدة أبيه في أمر الإسماعيلية، وكان بنى لهم بحلب دار دعوة، فطلبوا منه أن يعطيهم القلعة فأجابهم إلى ذلك، فقبح عليه القاضي ابن الخشاب فعله، فأخرجهم بعد أن قتل منهم ثلاثمائة نفس وأسر مائتين وطيف برؤوسهم في البلد. وأمر السلطان محمد بن ملكشاه 508 الأمراء وأصحاب الأطراف بالمسير صحبة آق سنقر البرسقي لقتال الفرنج بالشام، وجرى بين البرسقي وإيلغازي بن أرتق صاحب ماردين قتال انتصر فيه إيلغازي وهرب البرسقي، ثم خاف إيلغازي من السلطان، فسار إلى صاحب دمشق فاتفق

بقية الغارات:

معه وكاتبا الفرنج واعتضدا بهم. قال ابن الأثير: وكان طغتكين قد استوحش من السلطان لأنه نسب إليه قتل مودود، فاتفقا على الامتناع والالتجاء إلى الفرنج والاحتماء بهم فراسلا صاحب إنطاكية وحالفاه، فحضر عندهما على بحيرة قدس في حمص وجددوا العهود، وعاد إلى إنطاكية وعاد طغتكين إلى دمشق. وأرسل السلطان محمد ملكشاه 509 عسكراً ضخماً لقتال صاحب دمشق وصاحب ماردين فعبروا الفرات من الرقة وقصدوا حلب، فعصت عليهم، ثم فتحوا حماة عنوة ونهبوها ثلاثة أيام ثم سلموها إلى قيرخان ابن قراجة صاحب حمص، واجتمع بأفامية طغتكين وإيلغازي وملوك الفرنج صاحب إنطاكية وصاحب طرابلس وغيرهم، وأقاموا بأفامية ينتظرون تفرق المسلمين، ثم تفرق وسار طغتكين إلى دمشق وإيلغازي إلى ماردين. وفتح المسلمون كفرطاب وقتلوا من بها من الفرنج وساروا إلى المعرة ثم إلى حلب فكبسهم صاحب إنطاكية في الطريق فانهزموا، ووضع الفرنج السيف في المسلمين فهرب من سلم منهم. واستولى الفرنج على رفنية فاسترجعها منهم صاحب دمشق وقتل من بها منهم، وهادن الأفضل مدبر مملكة الآمر الفاطمي بغدوين صاحب القدس، وكان قد أخذ قافلة عظيمة من المسلمين بالسبخة فرأى الأفضل مهادنته لعجزه عنه. وجمع صاحب طرابلس 510 جموعه ونهض إلى البقاع لإخرابه، فخف إليه صاحب الموصل وصاحب دمشق في بعض عسكرهما، وسارا إلى البقاع، والفرنج غارّون في مخيمهم، فأطلق السيف فيهم قتلاً وأسراً ففقد منهم ما يزيد على ثلاثة آلاف وعاد صاحب الموصل إلى بلده بعد استحكام المودة بينه وبين صاحب دمشق، والموافقة على الاعتضاد في الجهاد، متى حدث أمر أو حزب خطب. بقية الغارات: وفي العقد الثاني من القرن السادس هادن 511 المتولي أعمال حلب

الفرنج ووادعهم وسلم إليهم حصن القبة، وهجم الفرنج على ربض حماة وقتلوا من أهلها، وخاف أهل حلب من الفرنج فسلموا البلد إلى نجم الدين إيلغازي، فلما تسلمه لم يجد فيه مالاً ولا ذخيرة لأن الخادم لؤلؤاً الذي كان مستولياً على صاحبها سلطانشاه بن رضوان كان فرق كل ما فيها. وسار طغتكين 512 عن دمشق لقتال الفرنج، فنزل بين دير أيوب وكفر بصل فخفيت عنه وفاة بغدوين ملك القدس، حتى سمع الخبر بعد ثمانية عشر يوماً وبينهم نحو يومين، فأتته رسل ملك الفرنج بطلب المهادنة فاقترح عليه طغتكين ترك المناصفة التي بينهم من جبل عوف والحيانية والصلت والغور فلم يجب إلى ذلك وأظهر القوة، فسار طغتكين إلى طبرية فنهبها وما حولها، وسار منها نحو عسقلان وسلم بنو أخي القاضي شرف الملك بن الصليعة حصن بلاطنس لروجار صاحب إنطاكية فأقطعهم في أعمال اللاذقية عوضاً منه وسكنوا تحت يده. وبرز 513 صاحب إنطاكية فيمن حشده من طوائف الفرنج ورجالة الأرمن في ثلاثة آلاف فارس وتسعة آلاف راجل سوى الأتباع إلى سرمد وقيل دانيث البقل بين إنطاكية وحلب وقيل تل عفرين، فطار إليهم المسلمون بقيادة صاحبي حلب والموصل في عساكر التركمان والأكراد والعرب في عشرين ألفاً، فقتلوا الفرنج بحيث لم يفلت منهم غير من يخبر خبرهم، وقتل ملوكهم روجر وبقيت إنطاكية شاغرة من حماتها، ثم فتح المسلمون الأثارب وزودنا. وعاد إيلغازي إلى حلب وقرر أمرها وأصلح حالها بعد أن أخربها الفرنج ونازلوها، وكان في جملة الأسرى نيف وسبعون فارساً من مقدميهم حملوا إلى حلب فبذلوا في نفوسهم ثلاثمائة ألف دينار فلم يقبل منهم. قال ابن الأثير في وقعة الفرنج في تل عفرين وكانوا يظنون أن أحداً لا يسلك إليهم لضيق الطريق فأخلدوا إلى المطاولة، وكانت عادة لهم إذا رأوا قوة من المسلمين. وسار جوسلين صاحب تل باشر ليكبس بني ربيعة، فوقع بينهم قتال انتصر فيه أمير بني ربيعة، وأسر من الفرنج عدة كثيرة. وجمع صاحب

ماردين التركمان وغيرهم والتقى مع الفرنج عند دانيث البقل وجرى بينهم قتال شديد انتصر فيه صاحب ماردين وانهزم الفرنج. ووصل كندهري ملك الفرنج في المراكب، وملك أكثر المعاقل، ووقعت الهدنة بين صاحب حلب وبين الفرنج وتقررت المسالمة، وقيل: إن جوسلين أغار على العرب والتركمان النازلين بصفين قرب قرية جعبر على الفرات وغنم منهم وفي عوده خرب حصن بزاعة. وأغار كندهري على أذرعات وأطراف دمشق وكان صاحبها بالبثنية فبعث بولده بوري مع الجيش وأقام هو موضعه ردءً له فالتقوا فظهر الفرنج على بوري، فعاد إلى أبيه ودخلا دمشق، ومضى طغتكين إلى حلب مستصرخاً بنجم الدين إيلغازي وكان أول ما ملكها فأقام عنده وشرع بجمع العساكر، واغتنمت الفرنج غيبته فقصدوا دمشق، ووصلوا إلى حوران فالتجأ أهله إلى اللجاة، فتأثرهم الفرنج إلى وعرة اللجاة فقتلوا وأسروا، ولما بلغ أهل إنطاكية هذا جمعوا وحشدوا وقصدوا حلب في خمسة آلاف فارس وثمانية آلاف راجل فخرج إيلغازي وعمل كميناً، فلما التقى الفريقان ظهر الكمين وضربوا البوقات والطبول فظنوه صاحب دمشق قادماً من ورائهم، وكان نجم الدين إيلغازي أشاع أن طغتكين واصل من دمشق وما كان إلا جريدة عنده فانهزم الفرنج وعمل فيهم السيف قتلاً وأسراً. وفي سنة 514 نهض الأمير معن من البقاع بعشيرته ورهطه ونزل في جبل الشوف، وكان قفراً خالياً من السكان، وجعل له مودة مع آل تنوخ أمراء عرب جبل لبنان، وكان أميرهم إذ ذاك الأمير بحتر التنوخي فبنى له ولخاصته دوراً ليستعيض بها الأمير معن عن المضارب، وأخذ يقصد دياره أهل كل ديار استولت عليها الفرنج وبقي أميراً فيه نحو ثلاثين سنة وهو أصل الأمراء آل معن وإليه ينتسبون. وصار الجبل ينسب إليهم فيقال جبل بيت معن كما يقال جبل بني عوف وجبل بني هلال. وكان بين نور الدين بلك بن أرتق 515 وبين جوسلين على

الرها حرب انتصر فيها بلك وقتل من الفرنج، وأسر جوسلين وأسر معه ابن خالته وأسر جماعة من فرسانه المشهورين عند سروج وبذل جوسلين في نفسه أموالاً كثيرة فلم يقبلها بلك وسجنه وأصحابه في قلعة خرتبرت، وفي سنة 515 عصى سليمان بن إيلغازي بن أرتق على أبيه بحلب، حسن له ذلك إنسان من حماة من بني قرناص، وكان قدمه إيلغازي على أهل حلب، وبلغ إيلغازي ذلك فسار مجداً من ماردين وهجم حلب وقطع يدي ابن قرناص ورجليه وسمل عينيه، وهرب ابنه إلى طغتكين بدمشق واستناب ابن أخيه عبد الجبار، وخرج صاحب حلب 516 في عسكره وقطع الفرات وصادف الفرنج فأتلف ما ظفر به في أعمالهم. وتوفي إيلغازي بن أرتق وكان بحلب ابن أخيه سليمان بن عبد الجبار فبقي فيها إلى أن أخذها ابن عمه، فسلم سليمان قلعة الأثارب إلى الفرنج، فعظم ذلك على بلك بن بهرام وعلم عجزه عن حفظ بلاده فقوي طمعه في ملكها، فسار إليها ونازلها وضايقها ومنع الميرة عنها وأحرق زروعها، فسلم إليه ابن عمه البلد والقلعة بالأمان سنة 517. ووصل الأسطول المصري إلى صور، وحمل والي صور سيف الدين مسعود إلى مصر، وكانت عاقبة خروجه منها خروجها بالأمان من أيدي المسلمين إلى الفرنج بعد سنتين. ونهض بغدوين 517 في عسكره إلى ناحية حلب، وصاحبها منازل حصن كركر، فالتقيا بالقرب من منظرة فكسره وأسره مع جماعة من وجوه عسكره، واعتقله في جب قلعة خرتبرت مع جوسلين ومقدمي الفرنج الذين كان أسرهم قبل عامين، واستنجد صاحبا دمشق وحلب بالخليفة الآمر في مصر فجهز أسطولا مؤلفاً من أربعين شينياً فيها عشرون أميراً وهدايا فسار العسكر إلى يافا وأقام عليها ستة أيام ورحل عنها، وقد تخاذل عنه ملوك الشرق ورجع إلى مصر، فوافاه الفرنج على يبنى، فانكسر العسكر المصري من غير مصاف. وملك الأمير بلك حصن البارة وأسر أسقفها. وهرب بغدوين وجوسلين وغيرهما من مقدمي الفرنج من أسر الأمير بلك في خرتبرت وملكوا القلعة فاستعادها الأمير من الفرنج الواثبين عليها. وهزم جيش الفرنج جيش

المسلمين، وفيهم جيش دمشق على قلعة عزاز، وتفرق المسلمون بعد قتل من قتل وأسر من أسر. قلنا: إن الفرنج ملكوا مدينة صور 518 بالأمان بعد حصار طويل، وكانت للخلفاء العلويين أصحاب مصر، وقد ثبت أهل صور نحو خمس وعشرين سنة على قتال الفرنج مع قلة المنجد لهم من مصر، يقول ابن تغري بردي: إن سبب سقوط صور خروج سيف الدين مسعود منها، وكان قد حمل إلى مصر وأقام الوالي الذي بها في البلد، وهذه زيادة في النكاية للمسلمين من صاحب مصر فإن سيف الدين المذكور كان قائماً بمصالح المسلمين، وفعل ما فعل مع الفرنج من قتالهم وحفظ سور المدينة هذه المدة الطويلة، فأخذوه منها غصباً ودخلوا البلد مع من لا قبل له بمحاربة الفرنج، فكان حال المصريين في أول الأمر أنهم تقاعدوا عن نصرة المسلمين والآن بأخذهم سيف الدين من صور صاروا نجدة للفرنج. وكانت صور آخر ما ملكه الفرنج من الساحل. وفي سنة 518 ملك آق سنقر البرسقي حلب وقلعتها وسبب ذلك أن الفرنج لما ملكوا مدينة صور، طمعوا وقويت نفوسهم، وتيقنوا الاستيلاء على الشام كله، ثم وصل إليهم دبيس بن صدفة صاحب الحلة فأطمعهم طمعاً ثانياً لا سيما في حلب وقال لهم: إن أهلها شيعة وهم يميلون إلي لأجل المذهب، فمتى رأوني سلموا البلد إلي، وبذل لهم على مساعدته بذولاً كثيرة، وقال: إنني أكون ههنا نائباً عنكم ومطيعاً لكم، فساروا معه إليها وحصروها وقاتلوا قتالاً شديداً، ووطنوا نفوسهم على المقام الطويل. وأخذ الفرنج في بناء بيوت لهم ظاهر حلب فعظم الأمر على أهلها، ولم ينجدهم صاحبها تمرتاش بن إيلغازي بن أرتق لإيثاره الدعة والرفاهة، فكاتب أهل حلب آق سنقر البرسقي صاحب الموصل فسار إليها، فأجفل الفرنج منهزمين، ثم صلحت أحوال حلب وعمرت أعمالها بعد أن حاصرت مدة ولقي أهلها شدة حتى أكلوا الميتة، ولم يكن عندهم أمير، وإنما تولوا حفظ الأمن بأنفسهم وأبلوا بلاءً حسناً حسنت به العاقبة. وأخذ البرسقي

مزايا حكم طغتكين:

519 كفرطاب من الفرنج وسار إلى عزاز، فاجتمعت الفرنج لقتاله فاقتتلوا، فانهزم البرسقي وقتل من المسلمين خلق كثير وانهزموا راجعين أدراجهم. وقصد صاحب بيت المقدس حوران للعيث فيها فخرج إليه صاحب دمشق في التركمان وأحداث دمشق والغوطة والمرج وأحداث الباطنية فانهزم المسلمون وتتبع الفرنج المنهزمين حتى وصلوا إلى عقبة سحورا وقربوا من شرحوب مع بعد المدى. وقصدت الفرنج رفنية واستعادوها من المسلمين. واجتمع المسلمون والفرنج في مرج الصفر عند قرية شقحب من عمل دمشق واشتد القتال فانهزم صاحب دمشق والخيالة وتبعهم الفرنج، ونهب بعض الجند مخيم الفرنج وأثقالهم، ورجع الفرنج في أثر المنهزمين ورأوا رجالتهم قتلى وأموالهم منهوبة وظلوا منهزمين لا يلوي الأخ على أخيه، وكان هذا من الغريب أن طائفتين تنهزمان كل واحدة منهما من صاحبتها. مزايا حكم طغتكين: كان الفرنج منذ وطئوا تراب الشام أوائل العقد الأخير من القرن الخامس إلى أواخر العقد الثاني من القرن السادس يتساندون وقل أن يقع شغب بينهم، وربما تقاتلوا ثم اجتمعوا على سلام، وتواكلوا وتآنسوا لأن موقفهم يدعوهم إلى جمع الكلمة، ولئن ألفوا أربع إمارات متحدة فهي إمارة واحدة في الواقع، والنجدات تأتيهم بحراً على مراكب أهل بيزة وجنوة مرة ومرتين في السنة، لتعذر قطع البحار إلا في فصل الصيف. فرجال الحملة الصليبية الأولى هي التي كانت افتتحت ما افتتحت من الأصقاع ومادتها القليلة من الزوار والتجار من البحر. وملوك الشام يأتيهم المدد من مصر والعراق والجزيرة وديار بكر وديار مضر. ولو كتب للشمال أن يكون في عاصمته حلب رجل عاقل كما كتب لدمشق أن يكون فيها مثل طغتكين، لتيسر إنقاذ البلاد والإجهاز على أعدائها، ولما استطاع الفرنج أن يجبوا إتاوة من حلب وحماة وحمص ولنجت كما نجت دمشق من إرضاء الفرنج بالمال على عهد طغتكين. حكم طغتكين دمشق منذ سنة 497، وحكمه كان في الحقيقة قبل عشر

سنين من تاريخ حكومته، حكمها بصورة شرعية بعد وفاة الملك دقاق ابن تتش بن آلب أرسلان وكان خطب أولاً لابن دقاق، وكان دقاق خلف طفلاً له سنة واحدة، فقطع طغتكين وخطب لبكتاش بن تتش عم هذا الطفل، ثم قطع خطبة بكتاش وأعاد خطبة الطفل، وهو آخر من خطب له بدمشق من بني سلجوق، واستوحش بكتاش من طغتكين خوّفته والدته منه وقالت: إنه زوج والدة دقاق وهي لا تتركه حتى يقتلك ويستقيم الملك لولدها، فخاف وحسن له من كان يحسد طغتكين مفارقة دمشق وقصد بعلبك وجمع الرجال والاستنجاد بالفرنج، وكان بكتاش في الثانية عشرة من عمره ومعه ايتكين الحلبي صاحب بصرى. استمر طغتكين في ملك دمشق خمساً وعشرين سنة حتى مضى لسبيله سنة 522 وكان على غاية العدل والبعد عن الظلم، أعاد إلى الرعية كثيراً من أملاكهم التي اغتصبها منهم ولاة الجور، وجرت عليها أحكام المقاسمة، وأرجعها إلى خراجها القديم، وأحيا الأراضي المعطله، وباع ما كان منها شاغراً للناس ليعمروه، وصرف ما حصل من ثمنها في الأجناد المرتبين للجهاد، فعمرت عدة ضياع وأجريت عيون، وحسنت بإيالة طغتكين دمشق وأعمالها، وعمرت الأقاليم بجميل سياسته وحسن تدبيره، وكثرة إحسانه، وانبسطت الرعية في عمارة الأملاك في باطن دمشق وظاهرها، ولذلك اشتد حزن الدمشقيين عليه، ولم تبق محلة ولا سوق إلا والمآتم قائمة فيه عليه. قال ابن عساكر: كان طغتكين شهماً مهيباً مؤثراً لعمارة ولايته، شديداً على أهل العيث والفساد. وقال آخر في وصفه: إنه لا يشبه غيره من ملوك الطوائف، وكان على شيء من التدين حتى إنه لما عاون أهل صور على دفع الصليبيين سنة 505 ولم يفوا له بما كانوا بذلوه له من تسليم البلد قال: إنما فعلت ما فعلت لله تعالى وللمسلمين لا لرغبة في مال ولا مملكة. وكأن طغتكين كان مبشراً بظهور آل زنكي وآل أيوب في هذه الديار يردون حملة الغرب عن الشرق، ويكفونها معرّة التفرق، ويجمعون كلمتها على الحق والمطالبة به فتصبح مملكة برأسها، تأتمر الأقطار المجاورة

بأمرها، وتسير معها إلى الغاية التي هي تنشدها من رد عادية الصليبيين. وكان في حذقه بسياسته كما قيل يستخدم الفضائل والرذائل في الناس كما تستخدم الطبيعة فضول الأغذية فتجعلها في أشياء تنتفع بها. ولقد أوقف طغتكين سير الصليبيين عن التوغل في أحشاء المملكة، وقصر حكمهم على الساحل وعلى إنطاكية والقدس وطبرية، ولولا قيامه ذاك القيام المحمود لفتح الصليبيون دمشق وحلب، وكثيراً ما كانوا يغزون ربضهما وضاحيتهما، واكتفى المسلمون والفرنج بإضعاف قوى بعضهم بعضاً تارة، وعقد المهادنات طوراً، ولم تسفّ دمشق إلى دفع الغرامات للصليبيين على عهد طغتكين معتبرة نفسها الأم والعاصمة أكثر من غيرها من حواضر الشام، ولو أخذت دمشق لاستصفي الشام كله ولا نقطع ما بين مصر وهذا القطر من الاتصال، وصعب بعد ذلك إخراج الفرنج منه، فبقاء الرابطة مع مصر من البر ومن البحر إلى أن سقطت صور، حصر الفرنج في بقعة معينة لا تتعدى الطريق إلى بيت المقدس عن طريق الساحل. ولو كان جميع أمراء الشام على مثل سيرة طغتكين، لخلفت وطأة الفرنج كثيراً في هذه الثلاثين سنة، وماذا يرجى من خير الأمراء إذا كان صاحب بعلبك يطلعهم على عورات المسلمين، وصاحب أفامية يقطع السابلة وابنه يحث الفرنج على قصد بلد أبيه، وصاحب حمص يشارك قطاع الطريق وكذلك ابنه خير خان، وبأمثال هذه الطبقة لا تخلص الرعية ويتعذر سوق القوم إلى طريق الخير، وهم لا يزالون مختلفين لأنهم يرون من عملهم أن يستبعدوا من صاروا إليهم وينعموا ولو بإهلاكهم، لا أن يحافظوا على ملك ويدافعوا عن ذمار. ولذلك كان ظهير الدين بسياسته الحسنة مع ملوك الأطراف المرجع في الشام، أطلق الخليفة العباسي يده فيه منذ سنة 509 حرباً وخراجاً، وجعل ارتفاعه على إيثاره واختياره، لما بان من حسن بلائه وجميل سيرته في رعيته. على حين بدلت حلب عدة ملوك خلال دوره، وكان بعضهم يتنازعون ويتفاشلون ويتقاتلون. كانت أخبار المسلمين تصل إلى الفرنج بسرعة، والغالب أن هؤلاء برعوا في التقاط الأخبار أكثر من الذين نزلوا عليهم، فكان الفرنج عندما

مؤاخذة الفاطميين وتوقيف سير الفرنج:

يبلغهم حادث في المسلمين يغيرون خططهم الحربية، وبالطبع كانوا يستخدمون لذلك أناساً من أبناء نحلتهم من الأرمن وغيرهم، وربما كان للمسلمين أيضاً شأن في ذلك طمعاً في مال أو انتقاماً من سلطان، ولعل الصليبيين وفقوا إلى إمساك بعض ما كان ملوك الطوائف، يطيرونه من حمام الزاجل، ويحلون البطائق الصادرة عن بعض الأمراء والقواد، فتنكشف لهم أسرار خصومهم. فقد ذكر المؤرخون أن صاحب إنطاكية الصليبي أرسل إلى عز الدين مسعود صاحب حلب يخبره بقتل والده قسيم الدولة آق سنقر البرسقي صاحب الموصل بيد الباطنية قبل أن يصل إليه الخبر، وكان قد سمعه الفرنج قبل لشدة عنايتهم بمعرفة الأحوال الإسلامية. مؤاخذة الفاطميين وتوقيف سير الفرنج: ولقد آخذ المؤرخون الدولة الفاطمية على تهاونها في الغزو والجهاد حتى روى ابن تغري بردي، أن الآمر كان يتناهى في العظمة ويتقاعد عن الجهاد، حتى استولت الفرنج على غالب السواحل وحصونها في أيامه، ولئن كان وقع لأبيه المستعلي أيضاً فأخذ القدس في أيامه، فإنه اهتم لقتال الفرنج وأرسل بدراً الجمالي بالعساكر فوصلوا بعد فوات الوقت أما الآمر فإنه لم ينهض لقتال الفرنج البتة، وإن كان أرسل مع الأسطول عسكراً فهو كلا شيء. قال: ولم ينهض أحد من المصريين لقتال الفرنج لما دخلوا الشام، فعلمت الفرنج ضعف من بمصر، وظهر عدم اكتراث أهل مصر بالفرنج من كل وجه. الأول من تقاعدهم عن المسير في هذه المدة الطويلة، والثاني لضعف العسكر الذي أرسلوه مع أسطول مصر، ولو كان لعسكر الأسطول قوة لدفع الفرنج عن البحر، والثالث عدم خروج الوزير الأفضل بالعساكر المصرية كما كان فعل والده بدر الجمالي في أوائل الأمر، هذا مع قوتهم من العساكر والأموال والأسلحة. ويغلب على الظن أن الفاطميين دهشوا لغزو الفرنج الشام ولم يريدوا أن يثيروا حفائظهم لئلا يحصروا وكدهم بفتح دار ملكهم، وفتح مصر أسهل من الشام، لأنها سهول ليس فيها حصون طبيعية، وأفضل للبيت

العلوي أن تبقى له الديار المصرية ولو ذهب الشام بما فيه، ولذلك كان الفاطميون ينجدون الشام في الأحايين لأول عهد دخول الفرنج إليه إنجاداً ضعيفاً، وأكثر نجداتهم وحملاتهم لم تثمر الثمرة المطلوبة بل خففت جزءاً صغيراً من الشر مدة، وقوّى ذلك قلوب بعض أهل الأرجاء المحصورة، ونفّس خناقهم، وأوهمهم أن وراءهم قوة الفاطميين عند مسيس الحاجة يستصرخون بها فتنجدهم. والحقيقة أن الفاطميين على قوتهم من العدد والعدد لم يستطيعوا أن يذبوا حقيقة عن عسقلان، ولا عن صور وصيدا وبيروت وطرابلس دع الأصقاع الأخرى، وإذا عرفنا أن الدولة الفاطمية كانت في أواخر أيام ضعفها هان علينا أن لا نطلب منها أن تعمل عمل الشباب. وقد أنجدت الدول المجاورة الشام نجدات مهمة على بعد المدى وقلة المواصلات. وأبلى جند التركمان والأكراد مع عرب الشام والموصل البلاء الحسن في هذه السبيل، ولكن كانت القوى الصليبية عظيمة جداً لا قبل لهم بدفعها، فكان موقف المسلمين على الأغلب موقف المدافع لا المهاجم، وكان لأمراء التركمان في هذا الدور غيرة شديدة في الجهاد، ولم يكن داخلهم الفساد الذي يدخل على البيوت والدول، ولو كانت الآراء متجهة إلى مقصد واحد لاستطاع المسلمون أن يدفعوا الفرنج عن هذا القطر على كثرة جيوشهم الجرارة قبل أن يتأصلوا فيه، ويطلعوا على مبلغ قوات أُمرائه، ويتعلموا بحكم المجاورة ما كان ينقصهم من أصول الحرب، وبعض الصناعات وأعمال المدنية التي وجدوها في الشام يومئذ على حصة موفورة، فاقتبسوها ونقلوها بعد إلى أُممهم غنيمة نافعة من الشرق. وقد حرص الفرنج أن يستولوا على قرى حلب والبقاع وحوران والسواد والبلقاء في الأكثر ليتقووا بغلاتها لأن معظم القرى في فلسطين كانت ساحات حرب لا تقوم بإطعام جيوشهم. وكان الفرسان في حصون الفرنج يملكون القرى ويحبون الأموال من أهلها الأصليين، ويسلبون قوافل المسلمين. وفي التاريخ العام: كانت الحرب في الشرق كما هي في الغرب تجارة رابحة، يقوم فرسان الفرنج ويغزون أرض المسلمين، وينهبون

القرى ويخطفون السكان ويأخذونهم أسرى ويضطرونهم إلى أن يفتدوا أنفسهم. وعلى الجملة فإن أُمراء المسلمين في هذا الدور لم يتلكئوا في الحقيقة عن تخفيف بلاء المهاجمين عن الشام، وقاتلوا فانهزموا وهزموا، وطاولوا وراوغوا، وهادنوا وعاهدوا، وقاربوا وسادوا. ولكن الشام والجزيرة، ومعهما العراق ومصر على قلة، لا تستطيعان دفع جيش مؤلف من أكثر أُمم أوروبا، ومتى كانت قوة قطر صغير، توازي قوى برّ كبير، ومن أين لأمراء صغار لا تربطهم رابطة محكمة، أن يقفوا في وجوه ملوك من ورائهم قوة الباباوية، وناهيك بها من قوة في ذاك العصر. انتهى الجزء الأول من خطط الشام ويليه الجزء الثاني وأوله الدولة النورية.

الدولة النورية

الدولة النورية من سنة 522 إلى سنة 569 فتنة الإسماعيلية ووقعة دمشق لم يكف الشام تفرق كلمة أمرائه واستصفاء الفرنج لسواحله في الربع الأول من القرن السادس، حتى مُني بعدو داخلي يقاتل أهله في عُقر دارهم ويستنجد بالفرنج على إرهاقه، ونعني بهم الباطنية الذين كانوا يسمون القرامطة قديماً ويدعون في هذا الدور بالباطنية أو الإسماعيلية. فقد انتشر مذهبهم في كل بلد وكثر الدعاة إليه، وكانت دار الدعوة في حلب ودمشق، موطن التنفيذ والعمل. فإن أَبناءَ هذا المذهب ودوا لو يؤسسون دولة في العراق أو الشام، ولكنهم أخفقوا غير مرة، ولما شعروا بضعف أمراء الشام وتشتتهم، واشتغال قلوب معظمهم بقتال الصليبيين، أَيقنوا أن الفرصة قد سنحت فسار داعيتهم بهرام من العراق إلى الشام، ودعا بدمشق إلى مذهبه، فتبعه خلق كثير من العوام وسفهاء الجهال والفلاحين، وواثقه الوزير المزدقاني فأظهر دعوته علناً، بعد أن كان يختفي ويطوف المعالم والمجاهل ولا يعلم به أحد، فعظمت به وبشيعته المصيبة. وسكت عن هؤلاء الباطنية العلماء وحملة الشريعة خوفاً من بطشهم، ولما استفحل أمرهم في حلب ودمشق اضطر صاحب دمشق طغتكين أن يسلمهم قلعة بانياس دفعاً لشرهم، ليسلطهم على الفرنج ويقطع تسلطهم على المسلمين، فعدَّ الناس ذلك من غلطاته. عظم أمر بهرام بالشام وملك عدة حصون بالجبال وقاتل أهل وادي التيم، وكان سكانه من النصيرية والدروز والمجوس وغيرهم، واسم أميرهم الضحاك بن جندل، ثم قتل بهرام وقام مقامه في قلعة بانياس رجل منهم اسمه إسماعيل، وأقام الوزير

المزدقاني عوض بهرام بدمشق رجلاً اسمه أبو الوفا، وعظم أبو الوفا حتى صار الحكم له بدمشق، فكاتب الفرنج ليسلم إليهم دمشق، ويعوضوه بصور، وجعلوا موعدهم يوم الجمعة ليجعل أصحابه على باب الجامع، وعلم صاحب دمشق بالأمر فقتل الوزير المزدقاني وأمر الناس فثاروا بالإسماعيلية فقتل بدمشق ستة آلاف إسماعيلي 523 وقال سبط ابن الجوزي: وكان عدة من قتل من الإسماعيلية عشرة آلاف على ما قيل ولم يتعرضوا لحُرمَهم ولا لأموالهم، ووصل الفرنج في الميعاد وحصروا دمشق فلم يظفروا بشيءٍ، واشتد الشتاء فرحلوا كالمنهزمين، وتبعهم صاحب دمشق بالعسكر فقتلوا عدة كثيرة منهم، وسَلّم إسماعيل الباطني قلعة بانياس إلى الفرنج وصار معهم. قال ابن الأثير: ولما بلغ الفرنج قتل المزدقاني والإسماعيلية بدمشق عظم عليهم ذلك وتأسفوا على دمشق إذ لم يتم لهم ملكها، فاجتمعوا كلهم صاحب القدس وصاحب إنطاكية وصاحب طرابلس وغيرهم من الفرنج وقمامصتهم، ومن وصل إليهم من البحر للتجارة والزيارة في خلق عظيم نحو ألفي فارس، وأما الراجل فلا يحصى. وروى ابن القلانسي أنهم كانوا يزيدون على ستين ألفاً فارساً وراجلاً، وساروا إلى دمشق ليحصروها، ولما سمع تاج الملوك بذلك جمع العرب والتركمان فاجتمع معهم ثمانية آلاف فارس، ووصل الفرنج فنازلوا البلد وأرسلوا إلى أعمال دمشق لجمع الميرة والغارة على الكور، فلما سمع تاج الملوك أن جمعاً كثيراً قد سار إلى حوران لنهبه وإحضار الميرة، كما نهب صاحب القدس 521 وادي موسى وسبى أهله وشردهم، سير إليهم أميراً من أمرائه يعرف بشمس الخواص في جمع من المسلمين، فلقوا الفرنج فواقعوهم واقتتلوا وصبر بعضهم لبعض، فظفر بهم المسلمون وقتلوهم فلم يفلت منهم غير مقدمهم ومعه أربعون رجلاً، وأخذوا ما معهم وعادوا إلى دمشق لم يمسسهم قرح، فلما علم من عليها من الفرنج ذلك داخلهم الرعب فرحلوا عنها شبه منهزمين، فتبعهم المسلمون يقتلون كل من تخلف منهم. ولما استولى الفرنج على قلعة بانياس بنزول صاحبها الباطني عنها وانضمامه إليهم وسقطت بأيديهم أيضاً قلعة القدموس وكانت للباطنية. وبإحراز هاتين القلعتين قوي أمر الفرنج وإن عظمت خسائرهم المادية، وعاد الناس فأمنوا وخرجوا بعد فشل

دخول آل زنكي الشام:

الصليبيين في فتح دمشق وأيقنوا أن الفرنج لا يكاد يجتمع لهم بعد هذه الكائنة شمل لفناء أبطالهم واجتياح رجالهم وذهاب أثقالهم. دخول آل زنكي الشام: كانت مملكة حلب للبرسقي وبها ولده مسعود فلما قتل البرسقي استخلف مسعود الأمير قيماز بحلب وسار إلى الموصل ثم استخلف على حلب قتلغ أبه السلطاني فأساء السيرة ومد يده إلى أموال الناس لا سيما التركات، وتقرب إليه الأشرار فنفرت قلوب الناس منه. وكان سليمان بن عبد الجبار ابن أُرتق الذي كان صاحبها أولاً مقيماً بحلب، فاجتمع إليه أحداثها وملكوه المدينة وقتلغ في القلعة، وسمع الفرنج اختلافهم فجاءهم جوسلين صاحب إنطاكية فصافوه بمال، فرحل بعد أن خندق الحلبيون حول القلعة، فمنع الداخل والخارج إليها من ظاهر البلد، وأشرف الناس على الخطر العظيم، وأرسل عماد الدين زنكي صاحب الموصل عسكراً مع القائد قراقوش إلى حلب، ومعه توقيع السلطان محمود بالشام فأجاب أهل حلب إليه، وتقدم عسكر زنكي إلى سليمان وقتلغ بالمسير إلى زنكي فأجابا، فلما وصلا الموصل أصلح زنكي بين سليمان وقتلغ ولم يرد واحداً منهما إلى حلب، وسار زنكي إلى حلب وملك في طريقه منبج وبزاعه وتلقاه أهل حلب ودخل ورتب الأمور وملكها وقلعتها 522. قال ابن الأثير: ولولا أن الله تعالى قد منّ على المسلمين بملك أتابك لبلاد الشام لملكها الفرنج لأنهم كانوا يحصرون بعض البلاد الشامية. ثم عزم عماد الدين زنكي على الجهاد وأرسل صاحب دمشق يلتمس منه المعونة على حرب الفرنج، وبادر إلى تجريد وجوه عسكره، وكتب إلى ولده بهاء الدين سونج بحماة يأمره بالخروج في عسكره والاختلاط بالعسكر الدمشقي، فخرج من حماة إلى مخيم عماد الدين أتابك فأحسن لقاءه ثم غدر به وقبض عماد الدين على سونج وعلى جماعة المقدمين واعتقلهم في حلب، وزحف من يومه على حماة وهي خالية من حماتها فملكها، ورحل إلى حمص، وكان صاحبها قيرخان بن قراجه معه، وطلب منه تسليم حمص فراسل نوابه وولده فيها فلم يلتفتوا إلى مقاله،

استنجاد بعض الصليبيين بالمسلمين واستقرار حال

فأقام عماد الدين عليها مدة طويلة يبالغ في محاربة أهلها فلم يتهيأ له ما أراد فرحل عنها إلى الموصل. وطلب صاحب دمشق إلى صاحب الموصل أن يطلق ولده ومن اعتقلهم من الأمراء والمقدمين فطلب عنهم خمسين ألف دينار، فأجاب تاج الملوك إلى تحصيلها، ولم يطلق عماد الدين ابن تاج الملوك سونج ومن معه من الأمراء إلا في سنة 525. ومات الخصي صاحب صرخد فاستولت سُرِّيّته على قلعتها، وأرسلت إلى دُبيس بن صدقة صاحب الحلة تستدعيه من العراق للتزوج به، وتسليم صرخد بما فيها من مال وغيره إليه، فسار دبيس إلى الشام فضلَّ به الأدلاء بنواحي دمشق فنزل بناس من كلب كانوا شرقي الغوطة فحملوه إلى صاحب دمشق تاج الملوك، ولما سمع عماد الدين زنكي بأسر دبيس أرسل إلى تاج الملوك يطلبه، ويبذل له إطلاق ولده سونج ومن معه من الأمراء فأجابه تاج الملوك إلى ذلك وأطلق عماد الدين سونج ورفاقه. وفي سنة 524 جمع عماد الدين عساكره وسار من الموصل إلى الشام، وقصد حصن الأثارب، وكان أهله على اتصال بالفرنج يقاسمون الحلبيين على جميع أعمال حلب الغربية، فالتقوا وعسكر عماد الدين واشتد القتال وانتصر المسلمون وانهزم الفرنج ووقع كثير من فرسانهم في الأسر وكثر القتل فيهم، وأخذ المسلمون الأثارب عنوة وقتلوا وأسروا كل من فيها ثم خربها عماد الدين. استنجاد بعض الصليبيين بالمسلمين واستقرار حال دمشق: بينا كانت دمشق مغتبطة بتاج الملوك بوري لشجاعته، وقد سد مسد أبيه في كفايته وكفاحه، ناداه الأجل سنة 526 عقيب جرح كان به من الباطنيّة، ووصى بالملك بعده لولده شمس الملوك إسماعيل، ووصى ببعلبك وأعمالها لولده شمس الدولة محمد. ولما استقر إسماعيل بن بوري في ملك دمشق، واستقر أخوه في بعلبك استولى محمد على حصن الرأس وحصن اللبوة، فكاتب إسماعيل أخاه في إعادتهما فلم يقبل، فسار صاحب دمشق وفتح حصن اللبوة ثم فتح حصن الرأس وقرر أمرهما، ثم حصر أخاه في بعلبك فسأله الصلح فأجابه إليه، وأعاد عليه بعلبك وأعمالها واستقرت أمورهما.

ودخلت سنة 527 فسار إسماعيل صاحب دمشق على غفلة من الفرنج إلى حصن بانياس وفتحه، وذلك لما بلغه من عزمهم على نقض الموادعة المستقرة، وهال الفرنج ما وقع لقلعة بانياس وأكثروا التعجب من تسهل الأمر في فتحها مع حصانتها وكثرة الرجال فيها في أقرب مدة. وفتح إسماعيل حماة وقلعتها وقتل من كان بها، وحصر قلعة شيزر فصانعه صاحبها بمال حمله إليه. وفي هذه السنة اجتمعت التراكمين وقصدوا طرابلس، فخرج من بها من الفرنج إليهم واقتتلوا فانهزم الفرنج، وسار القومص صاحب طرابلس ومن في صحبته فحصرهم التركمان في قلعة بعرين وهرب القومص منها. ثم جمع الفرنج جموعهم وقصدوا التركمان ليرحلوهم عن بعرين فاقتتلوا وانحاز الفرنج إلى نحو رفنية وعاد التركمان عنهم. وقع الخلاف بين الفرنج من غير عادة جارية لهم بذلك، ونشبت الحرب بينهم وقتل منهم جماعة، والسبب في ذلك اختلاف طفيف نشأ بين أمرائهم حدا بصاحب يافا على أن يستنجد بالمسلمين في عسقلان فساعدوه حتى خربت تلك الأرجاء إلى حدود مدينة أرسوف، وعقد صاحب يافا معاهدة مع المسلمين فجاء صاحب القدس وحاصره، ولكن المسلمين اهتبلوا الغرة فجاسوا خلال ديار الفرنج وأخذوا يناوشونهم القتال، فخاف صاحب بيت المقدس العاقبة وأراد مشاغلة المسلمين فأغار على أطراف حلب، فنهض إليه الأمير سوار النائب في عسكر حلب ومن انضاف إليه من التركمان وتحاربوا أياماً وتطاردوا إلى أن وصلوا إلى أرض قنسرين، فحمل الفرنج عليهم فكسروهم كسرة عظيمة، فعاود سوار النهوض إليهم في من بقي من عسكره والأتراك، فلقوا فريقاً من الفرنج فأوقعوا به وكسروه، فانكفأت الفرنج إلى أرضها مهزومة، وانتهى إلى سوار خبر خيل الرُّها فنهض هو وحسان البعلبكي فأوقعوا بهم وقتلوهم عن آخرهم، وأغار سوار على الفرنج في تل باشر فقتل منهم ألف فارس وراجل وقاتلهم أيضاً في موضع يعرف بنوار في عسكر حلب وما انضاف إليه من التركمان، وكانت الحرب بين الفريقين سجالاً. واشترى الإسماعيلية قلعة القدموس من صاحبها لبن عمرون وصعدوا إليها وقاموا بحرب من يجاورهم من المسلمين والفرنج، وكانوا كلهم يكرهون مجاورتهم. وفي سنة 528 سار صاحب دمشق إلى شقيف تيرون وانتزعه من ابن ضحاك ابن جندل التيمي المتغلب عليه. وانتهى إليه أن الفرنج اعتزموا على نقض المستقر

خيانة صاحب دمشق وقتل أمه له:

من الهدنة وقصد أعمال دمشق، وشرعوا بإخراب أُمهات الضياع في حوران، فوقع التطارد بين الفريقين عدة أيّام، ثم أغفلهم صاحب دمشق وقصد بلادهم عكا والناصرة وطبرية وما جاورها فظفر وغنم وسبى ورجع سالماً في نفسه وجملته، فذل الفرنج وطلبوا تقرير الصلح بينهم. خيانة صاحب دمشق وقتل أمه له: ومما خدم عماد الدين زنكي أن شمس الملوك إسماعيل صاحب دمشق كان لأول جلوسه على عرش أبيه أقر الولاة على حالهم وسار بسيرته مدة، فنفس من خناق الأهلين وساعده اختلاف الصليبيين ثم تغيرت نيته وكثرت قبائحه ومصادرة المتصرفين، والأخيار المستورين، بفنون قبيحة في العقوبات، وأضمر السوء لأصحاب أبيه وقبض على خواصهم وأركان دولته فنفرت القلوب منه. وكان 527 وثب عليه أحد مماليك جده طغتكين وهو في الصيد بناحية صيدنايا وجبة عسال فأخطأه، وقرره شمس الملوك فقال: ما أردت إلا راحة المسلمين من شرك وظلمك ثم أقرّ على جماعة من شدة الضرب فضرب شمس الملوك أعناقهم من غير تحقيق، وقتل أخاه الأكبر سونج صاحب حماة الذي كان في أسر عماد الدين، قتله بالجوع في بيت، فعظم ذلك على الناس، ونفر من ظلمه المساكين والضعفاء والصناع والمتعيشون والفلاحون وامتهن العسكرية والرعية. وأهم ما قضى عليه على ما يظهر اضطهاده رجال الدولة فتآمروا عليه ورأوا السبيل إلى النيل منه، خصوصاً لما بعث إلى عماد الدين زنكي حين عرف اعتزامه على قصد دمشق لمنازلتها يحثه على سرعة الوصول إليها ويمكنه من الانتقام من كل من يكرهه من المقدمين والأمراء والأعيان بإهلاكهم وأخذ أموالهم وإخراجهم من منازلهم، وكتب إليه أنه إذا تأخر استدعى الفرنج وسلم إليهم دمشق بما فيها، وأسرّ ذلك في نفسه ولم يبده لأحد من وجوه دولته وأهل بطانته، وشرع في نقل المال والمتاع إلى حصن صرخد. فاجتمع أعيان الدولة وأنهوا الحال إلى والدته الخاتون صفوة الملك، فدبرت عليه من قتله من غلمانها، غير راحمة له ولا متألمة لفقده، لما عرفت من قبيح فعله وفساد عقله وسوء سيرته. ونودي بشعار أخيه شهاب الدين محمود بن تاج الملوك. وجاء عماد الدين زنكي وخيم بأرض عذراء، فلما طال الأمر

توحيد الحكم على يد زنكي وقضاؤه على إمارة

راسل في طلب الصلح على أن يخرج شهاب الدين محمود إليه لوطء بساط ولد السلطان الواصل معه ويخلع عليه ويعيده إلى بلده، فلم يجب إلى ذلك، وتقررت الحال على خروج أخيه تاج الملوك بهرام شاه. قُتل شمس الملوك باتفاق رأي والدته مع أرباب الدولة في دمشق لما بدا من ظلمه واستصراخه الإفرنج بعد يأسه من معونة عماد الدين زنكي، وكان جده طغتكين مثلاً سائراً في غزوة لهم المرة بعد المرة، ومداراتهم أحياناً بالحيلة، وجمع أمراء الشام على قصدهم أبداً، ومصانعة خلفاء بغداد وخلفاء مصر طلباً لنجدتهم، ولو بالقليل من قوتهم المادية والمعنوية، ولكن ابن ابنه سلك غير طريقته فقتلته أمه ورجال دولته. وكانت هذه الأعمال المنكرة من بعض صغار الملوك الذين لا يحرصون إلا على مصلحتهم الخاصة، وإذا تأثرت أقل تأثر عمدوا إلى وضع أيديهم في أيدي أعدائهم من موجبات بقاء الأفرنج في ثغور الشام وإنطاكية والرُّها وطبرية والناصرة والقدس واستيلائهم على كثير من المعاقل. ولو لم يكن شجر الخلاف بين ملوك الفرنج في هذا الدور لسهل عليهم ملك المدن الأربع دمشق وحماة وحمص وحلب، بالنظر لخلل الدول المستولية عليها واضطرارها إلى قتال أعدائها من المسلمين وأعدائها من الصليبيين، بل وأعدائها في الداخل أمثال شمس الملوك. وللناقد البصير بعد هذا أن يقول إن دولة أتابك طغتكين كانت عزيزة الجانب في أولها فأصبحت ذليلة وعبئاً ثقيلاً على الشام بعد بطنين من مؤسسها. توحيد الحكم على يد زنكي وقضاؤه على إمارة صليبية: بعد تقلقل أمر آل طغتكين أخذت روح آل زنكي تسري في القطر، فنهض سوار نائب زنكي في حلب سنة 530 فيمن انضم إليه من التركمان، وجرد جيشه على الأعمال الفرنجية فاستولى على أكثرها، وغزا اللاذقية وأعمالها بغتة، وعاد من هذه الغزاة إلى شيزر ومعه زيادة عن سبعة آلاف أسير بين رجل وامرأة وصبي وصبية ومائة ألف دابة، واجتاح أكثر من مائة قرية كبيرة وصغيرة فامتلأت الشام من الأسارى ورجعوا بهم إلى حلب وديار بكر والجزيرة. هذا ما وقع من الأحداث في العقد الثالث من القرن السادس، وأهم ما حدث ظهور دولة عماد الدين زنكي صاحب الموصل في حلب وإيقانه أنه لا سبيل إلى دفع

الصليبيين عن الشام إلا إذا رجع أمر المسلمين إلى ملك واحد، وأنه إذا تقدم بجيشه قليلاً بعد أخذه حلب يستولي على دمشق، وينقذ الأمة من فوضى آل أتابك طغتكين وضعفهم، وكثر هجوم عماد الدين على حمص 530 فتسلمها صاحب دمشق من أولاد قيرخان بن قراجه وعوضهم عنها تدمر، فتابع عسكر زنكي بحلب وحماة الغارة على حمص لما رأوا خروجها إلى صاحب دمشق، فأرسل هذا إلى عماد الدين في الصلح فاستقر بينهما. وكف عسكر عماد الدين عن حمص وحدثت فتنة بدمشق بين صاحبها والجند وعاد عماد الدين فنازل حمص 531 وبها صاحبها معين الدين أتسز فلم يظفر بها، فرحل عنها إلى بعرين وحصر قلعتها وهي للفرنج وضيق عليها، فجمع الفرنج ملوكهم ورجالهم وساروا إلى زنكي ليرحلوه عن بعرين، فلما وصلوا إليه جرى بينهم قتال شديد فانهزمت الفرنج، وعاود عماد الدين حصار الحصن فطلب الفرنج الأمان، فقرر عليهم تسليم الحصن وخمسين ألف دينار فأجابوا إلى ذلك، وكان زنكي مدة مقامه على حصار بعرين قد فتح من الفرنج المعرة وكفرطاب، ومنع زنكي في هذه الوقعة عن الفرنج كل شيء حتى الأخبار، فكان من بحصن بعرين منهم لا يعلم شيئاً من الأخبار لشدة ضبط الطرق وهيبته على جنوده. وملك زنكي حصن المجدل 532 وكان لصاحب دمشق، ودخل مستحفظ بانياس إبراهيم بن طرغت تحت طاعته، وسار إلى حمص وحصرها ثم رحل عنها إلى سلمية بسبب نزول ملك الروم على حلب، ثم عاد إلى حمص فسلمت إليه المدينة وقلعتها، وكان شرع أهل حلب في تحصينها وحفر خنادقها والتحصن من الروم بها، وأغارت خيل الصليبيين على أطراف حلب، وتملكوا حصن بزاعه ثم نصبوا خيامهم على نهر قويق فخرجت إليهم فرقة وافرة من أحداث حلب فقاتلتهم وظفرت بهم، ونهض سوار في عسكر حلب وأدرك الصليبيين في الأثارب، فأوقع بهم وقهرهم ونزل ملك الروم هذه السنة 532 على بزاعة وحاصرها حتى ملكها بالأمان وأسر من فيها ثم غدر بهم، ونادى مناديه من تنصر فهو آمن ومن أبى فهو مقتول أو مأسور، فتنصر منهم نحو أربعمائة إنسان منهم القاضي والشهود ثم رحل عنها إلى شيزر وترك فيها والياً يحفظها مع جماعة وأقام عشرة أيام يدخن على مغارات اختفى فيها جماعة فهلكوا بالدخان وكان سكان بزاعة خمسة آلاف وثمانمائة نسمة، وعاد زنكي وحاصرها حتى ملكها وخرب الحصن والبلد عامر. وفي

سنة 533 سار من مصر عسكر إلى وادي موسى فحاصر حصن الوعيرة ثمانية أيام، وعاد بعد ما توجه إلى الشوبك وأغار عليها وترك هناك أميرين على الحصار. وتزوج عماد الدين أم شهاب الدين محمود صاحب دمشق زمرد خاتون بنت جاولي وهي التي قتلت ابنها شمس الملوك إسماعيل وذلك طمعاً من عماد الدين في الاستيلاء على دمشق لما رأى من نفوذ هذه المرأة في الدولة. وكثيراً ما كانت الكلمة النافذة للنساء من آل بيت الدولة والغيرة الصادقة في وقايتها من السقوط. وكان متملك الروم خرج في السنة الفائتة واشتغل بقتال الأرمن وصاحب إنطاكية وغيره من الفرنج وعمر ميناء الإسكندرونة ثم سار إلى بزاعة وملكها وغدر بأهلها ثم رحل عنها إلى حلب، فجرى بينه وبين أهلها قتال كثير فعاد عنها إلى الأثارب وملكها وسار نحو شيزر وحاصرها أربعة وعشرين يوماً فأنجدها عماد الدين حتى اضطر متملك الروم إلى الرحيل فظفر عماد الدين بكثير ممن تخلف منهم. وكان يرسل إلى ملك الروم يوهمه بأن فرنج الشام خائفون منه، فلو فارق مكانه تخلفوا عنه، ويرسل إلى فرنج الشام يخوفهم من ملك الروم ويقول لهم: إن ملك بالشام حصناً واحداً ملك بلادكم جميعاً، فاستشعر كل من صاحبه فرحل ملك الروم عنها. ونهض هذه السنة الأمير بزواج في فريق وافر من العسكر الدمشقي والتركمان إلى ناحية طرابلس فظهر إليه قومصها والتقيا فكسره بزواج وقتل منهم جماعة وافرة وملك حصن وادي ابن الأحمر وغيره. ونهض ابن صلاح والي حماة في رجاله إلى حصن الخربة فملكه. قويت دولة عماد الدين زنكي بعد استيلائه على حلب وحماة وحمص والمعرة وكفرطاب وبعلبك وغيرها، وإفحاشه القتل في الفرنج واستيلائه على بعض معاقلهم، فلم يسع شهاب الدين محموداً صاحب دمشق إلا مهادنته على قاعدة أحكمت بينهما، وأصبح القول الفصل لعماد الدين دون شهاب الدين في شؤون الشام. أما الفرنج في إنطاكية فلما ارتاح بالهم من جهة ملك الروم وصالحوه على ما اشترط، عادوا هذه السنة فنقضوا الهدنة مع عماد الدين وقبضوا على إنطاكية على خمسمائة رجل من تجار المسلمين وأهل حلب والسفار. وبينا كان عماد الدين يدبر ويفكر ويهتم لأخذ دمشق نعى الناعي 533 شهاب الدين محمود بن تاج الملوك بوري، قتله غلمانه في فراشه فتولى بعده أخوه جمال

الدين محمد صاحب بعلبك فبعثت والدته الخاتون صفوة الملك والدة شهاب الدين إلى زوجها عماد الدين زنكي، وهو على الموصل، تبعث همته على النهوض لطلب الثأر، فجاء وفتح الأثارب وبعلبك. وقال بعض المؤرخين: إن زنكي أمن قلعة بعلبك وتسلمها ثم غدر بأهلها فأمر ببعضهم فصلبوا فاستقبح الناس ذلك منه. ولما رأى صاحب دمشق أن دولة عماد الدين زنكي ستكون لها الغلبة على دولته اعتضد بالفرنج على مال يحمل إليهم ليدفعوا عن دمشق عادية عماد الدين، فسار هذا طالاً للقاء الفرنج إن قربوا منه ثم عاد إلى الغوطة ونزل بعذراء فأحرق عدة ضياع من المرج والغوطة إلى حرستا التين ورحل متثاقلاً. وكان الشرط بين الفرنج وصاحب دمشق أن يكون في جملة المبذول لهم انتزاع ثغر بانياس من يد إبراهيم بن طرغت، فاتفق أن نهض هذا إلى ناحية صور للإغارة عليها، فصادفه ريمند صاحب إنطاكية واصلاً في الفرنج على إنجاد أهل دمشق، فالتقيا فكسره وقتل في الوقعة ومعه نفر يسير من أصحابه، وعاد من بقي منهم إلى بانياس فتحصنوا بها وجمعوا إليها رجال وادي التيم فنهض إليها معين الدين أتسز في عسكر دمشق وحارب بانياس بالمنجنيقات، ومعه فريق وافر من عسكر الفرنج ففتحها وسلمها إليهم. وجاء عماد الدين بعسكره هذه السنة أيضاً إلى دمشق وقرب من السور، وكان قد فرق عسكره في حوران والغوطة والمرج وسائر الأطراف للغارة، ونشبت الحرب بينه وبين عسكر دمشق، ثم سار عائداً على الطريق الشمالية بالغنائم الدثرة. وسار عماد الدين إلى أرض الفرنج فأغار عليها واجتمع ملوك الفرنج وساروا إليه. وفي الروضتين أنه لقيهم بالقرب من حصن بارين وهو للفرنج، فصبر الفريقان صبراً لم يسمع بمثله، فحاصره حصراً شديداً فراسلوه في طلب الأمان، وكان حصن بارين من أضر كور الفرنج على المسلمين، فإن أهله كانوا قد خربوا ما بين حماة وحلب من الأرضين ونهبوها وتقطعت السبل، كان عماد الدين استولى على هذا الحصن سنة 531 وأعطى الأمان لمن فيه وقرر عليهم تسليمه، ومن المال خمسين ألف دينار يحملونها إليه. وظهرت عسكرية عسقلان على خيل الفرنج 535 الفائزين عليها فعادوا مفلولين. وملك الباطنية حصن مصياف، وكان واليه مملوكاً لبني منقذ أصحاب شيزر، فاحتال عليه الإسماعيلية ومكروا به حتى صعدوا إليه وقتلوه

الحال بعد نصف قرن من نزول الصليبيين:

وأغار الأمير لجه التركي 536 النازح عن دمشق إلى خدمة عماد الدين على بلد الفرنج وظفر بخيلهم وفتك بهم فقتل منهم سبعمائة رجل. وظهر 537 صاحب إنطاكية في ناحية بزاعة فثناه عنها النائب في حفظ حلب وحال بينه وبينها. وظهر متملك الروم في الثغور دفعة ثانية وبرز إليه صاحب إنطاكية وأصلح أمره معه. وفي سنة 537 خرجت فرقة وافرة من الفرنج إلى ناحية بعلبك للعيث فيها فقتل المسلمون أكثرهم وعادوا إلى بعلبك سالمين. وظفر عسكر بفرقة كبيرة من التجار والأجناد خارجين من إنطاكية تريد أرض الفرنج فأوقعوا بها وقتلوا من كان معها من فرسانهم. وفي سنة 539 فتح عماد الدين زنكي الرّها من الفرنج ثم تسلم مدينة سروج وسائر الأماكن التي كانت بيد الفرنج شرقي الفرات. وكان لا يمر بعمل من أعمالها ولا معقل من معاقلها فينزل عليه إلا سلم إليه في الحال، وهزم التركمان الفرنج الذين انتدبوا من إنطاكية لإنجاد أهل الرّها شر هزيمة، وتمكن السيف في أكثر الراجل وتفرقوا في أعمالهم ومعاقلهم مفلولين. أي أن عماد الدين أتى ببأسه على إمارة الشمال الصليبية برمتها وهي إحدى الإمارات الأربع التي أقامها الصليبيون في الشام، فلم يبق لهم إلا إمارة إنطاكية وهي تمتد إلى قيليقية وإمارة طرابلس وإمارة القدس. الحال بعد نصف قرن من نزول الصليبيين: نصف قرن مضى على دخول الصليبيين الشام وهي إذا ما خلا فيها سيد قام سيد، يشتد في دفعهم أو يحافظ على الحالة الحاضرة، وكلما رأى من يعتد بعقلهم وغيرتهم من أمراء المسلمين عدم وفاء الصليبيين للعهود زادوا في قتالهم وأمعنوا في تخريب حصونهم وأرضهم، وهذه الأراضي أي القرى والمزارع كانت ملك الفلاحين من المسلمين والمسيحيين، والويل لمن كان صعقهم في طريق المهاجمين والمدافعين فإن مزرعته وداره إلى بوار، ولا سيما في أعمال حلب وطرابلس لقربهما من إمارتين إفرنجيتين قويتين وأعمال حوران والسواد والبلقاء وجبل عوف وجبل الشراة فإن المتكفل بغزوها صاحب القدس وهو أقوى ملوك الفرنج في الشام. وإليه يرجع في المهمات والقضايا العظيمة، وهو ينجد أصحاب الرها وإنطاكية وطرابلس يوم الشدائد.

وكان آل تنوخ وآل معن حجازاً في أعالي سواحل لبنان بين أملاك الصليبيين وأملاك صاحب دمشق ولهم الأثر المذكور في ذلك، ولذلك كان يتنازعهم المستولي على دمشق والمتولون للساحل ولكن خدمتهم للمسلمين أكثر بالطبع وهواهم مع أبناء دينهم وعلى نحو ذلك كان الدروز وقد قاتلوا في صفوف المسلمين فأظهروا من الشجاعة والنجدة ما تقر به العيون. ومن الغريب أن شيعة جبل عاملة كانت مع الصليبيين على إخوانهم المسلمين إلا قليلاً، وكأنهم اضطروا إلى ذلك اضطراراً لأن أرضهم في قبضة الصليبيين، كما كان هوى الموارنة لمكان الدين مع الصليبيين، ومن الموارنة أدلاء لهؤلاء وعمال وتراجمة، وكان بطاركة أهل الصليب ينتقلون في قرى لبنان الساحلية ولهم السلطان الأكبر على أمراء الفرنج. وكانت قوى فريق المسلمين وفريق الدخلاء متعادلة في الغالب، ينال كل منهما من جاره ويغزوه في عقر داره، ويعود وقد ملئت أيدي المتحاربين بالغنائم والأسرى. والفرنج يأتيهم المدد كل سنة على طريق البحر، والبحر لا يحمل الناس كالبر، والمسلمون تأتيهم النجدات من مصر في الجنوب ومن العراق في الشرق ومن ديار بكر وديار مضر وآسيا الصغرى. والفرنج مؤلفون بحسب عناصرهم من طليان وفرنسيين وألمان، وجيوش المسلمين مؤلفة من تركمان وأكراد وعرب. وما غفل فريق عن فريق سنة واحدة خلال هذه المدة. ولم يكتب لأحد عظماء الأمراء من أهل الإسلام أن يطول عهده وترسخ قدمه في الملك والسلطان حتى يحمل حملة رجل واحد على الفرنج، فإن دمشق وحلب وعليهما في الجنوب والشمال المعول في الحرب لأنهما المعسكران العظيمان كثيراً ما شغلا بأنفسهما ورد دسائس الذين يتربصون الدوائر بملوكهما، والفرقة الباطنية التي كان المقصد من الإغضاء عنها أن تقف سداً في وجه الأعداء لما عرف به أربابها من الشدة والمضاء، أصبحت آلة شر على المسلمين لا لهم في أكثر الأحيان، ولم يخلصوا لمن انشقوا عنهم مذهباً وإن لم ينشقوا عنهم قوميةً. فاقتضت الحال أن يتولى أمر الأمة بعد تتش وآق سنقر وبزان وابن عمار وابن منقذ ومسعود وطغتكين وبوري وزنكي أمراء من عيار أرقى وبسلطة أعظم، تكون اجزاء حكومتهم أكثر تجانساً من ذي قبل، وليس الزمن زمن ملك وإمارة، ولا عهد سكة مضروبة، وخطبة مخطوبة، بل العهد عهد عمل بالقرائح والعقول،

صفات عماد الدين زنكي وتولي ابنه نور الدين:

وعمل بالسلاح والكراع، وعمل بالخطط العسكرية والخدع الحربية، وقت كله جد في جد، وإلا فالعدو يتقدم، والإسلام يهلك ويعدم، وعمل عظيم كهذا متوقف على قيام زعيم كبير يلتف الناس حوله عن رضى، ويجذب قلوبهم بصالح أعماله لا ببهرج مقامه ولطف مقاله، ويبهرهم بلامع إخلاصه، لا ببريق الذهب على كرسيه وتاجه. صفات عماد الدين زنكي وتولي ابنه نور الدين: بدأ العقد الرابع من القرن السادس وفيه قتل عماد الدين زنكي على قلعة جعبر بيد جماعة من مماليكه. وكانت صفاته صفات حربية راقية اشتهر بشجاعته ونجدته، اشتهاره ببطشه وشدته، وكان يحب التوسع في الملك والذَّب عن حوزة الإسلام، ويدرك بثاقب نظره أن الأعداء محيطة بمملكته لا ينجيها منهم إلا القضاء على إحدى إماراتهم في الرُّها وما إليها، ولا يتقى بأسهم بمناوشات وحروب تستصفى معها بعض القلاع والحصون ثم يستعيدونها وبالعكس، وما دامت دمشق لم تدخل في سلطانه لا يقوى ملكه بالشام الإسلامية مع ملكه الموصل على ردّ عوادي الدهر ودفع غوائل العدو. توفرت في شخصه شروط التوسع في الملك، وعرف إدارة الممالك بالعمل ورثها من أبيه آق سنقر وبذَّه فيها، فكان مربياً فاضلاً شهماً مشهوداً له بذلك، دفع إليه السلطان محمود لما تولى الموصل ولديه آلب أرسلان وفروخ شاه المعروف بالخفاجي ليربيهما فلذا قيل له أتابك. ومن صفات عماد الدين أنه كان ينهى أصحابه عن شراء الملك ويقول: إن الأقطاع تغني عنها، ومتى كانت البلاد لنا فلا حاجة إليها، ومتى ذهبت البلاد منا ذهبت الأملاك معها، ومتى كان لأصحاب السلطان مِلك تعدوا على الرعية وظلموهم، على حين كانت الاقطاعات في عهده للأمراء والقواد وأرباب الدولة شائعة غير منكرة عند المسلمين وعند الصليبيين في هذه الديار. قيل للشهيد أتابك زنكي: إن هذا كمال الدين بن الشهرزوري يحصل له في كل سنة منك ما يزيد على عشرة آلاف دينار أميرية وغيره يقنع منك بخمسمائة دينار. فقال لهم: بهذا العقل والرأي تدبرون دولتي؟! إن كمال الدين يقلُّ له هذا القدر وغيره يكثر له خمسمائة دينار. فإن شغلاً واحداً يقوم به كمال الدين خير من مائة ألف دينار. وكان كما

قال. وهذا أكبر دليل على حرصه على رجاله وإيقانه أن الدولة لا تقوم إلا بأمثال الوزير الشهرزوري. وكانت لعماد الدين عناية بأخبار يتنشّدها ويغرّم عليها الأموال الطائلة، فيقف على أخبار الملوك ساعة بساعة، وإذا جاءه رسول لا يمكنه من الحديث مع أحد الرعية لئلا ينتشر الخبر في البلد. وكان يفرق الأموال في القلاع والبلدان فلا يجعلها في مكان واحد ويقول: إذا كانت الأموال في موضع واحد وحدث حادث وأنا في موضع آخر وذهبت لم انتفع بها، وإذا كانت متفرقة لم يحل شيء بيني وبينها رجعت إلى بعضها. وكانت المملكة قبل أن يملكها خراباً من الظلم وتنقل الولاة ومجاورة الفرنج فعمرها وامتلأت أهلاً وسكاناً، وقبل أن يجيء زنكي إلى الشام اشتدت صولة الصليبيين واتسعت مملكتهم من ناحية ماردين وشيحان إلى عريش مصر وانقطعت الطرق إلى دمشق إلا على الرحبة والبر، وجعلوا على كل بلد جاورهم خراجاً وإتاوة يأخذونها منهم ليكفوا أذيتهم عنهم. وكان مهيباً شديد الوطأة على من يعبثون بحياة الأمة. بلغه أن بعض الولاة تعرض لامرأة فقلع عينيه وجب مذاكيره فخاف الولاة وانزجروا، وكان شديد الغيرة ولا سيما على نساء الأجناد. وكان يقول: إن لم تحفظ نساء الأجناد وإلا فسدت لكثرة غيبة أزواجهن في الأسفار. ترجمة العماد الكاتب بقوله: كان زنكي ابن آق سنقر جباراً عسوفاً، بنكباء النكبات عصوفاً، نمري الخلق، أسدي الحنق، لا ينكر العنف، ولا يعرف العرف، قد استولى على الشام من سنة 522 إلى أن قتل في سنة 541 وهو مرهوب لسطوه اه. وبعض هذه الصفات تنزهت منها نفس ابنه نور الدين محمود وهذا الرجل الذي كان ينتظر لإنقاذ الشام مما حل به من الويلات، فإنه جمع الصفات الحسنة في أبيه وتجرد عن الصفات الرديئة فيه. كان نور الدين في قلعة جعبر يوم مقتل أبيه عماد الدين بيد المماليك فسمي الشهيد، فأخذ في الحال خاتمة وهو ميت من إصبعه وسار إلى حلب فملكها، وأرسل كبراء دولة زنكي إلى ولده سيف الدين غازي بن زنكي يعلمونه الحال وهو بشهرزور، فسار إلى الموصل واستقر في ملكها. قال ابن عساكر: وسير نور الدين الملك آلب أرسلان بن السلطان محمود بن محمد إلى الموصل مع جماعة من أكابر دولة أبيه وقال لهم: إن وصل أخي سيف الدين غازي إلى الموصل فهي له، وأنتم في

الحملة الصليبية الثانية وغزوتها دمشق:

خدمته، وإن تأخر فأنا أقرر أمور الشام وأتوجه إليكم. ولما انتهى نعي عماد الدين إلى صاحب دمشق خف في الحال إلى حصن بعلبك وحصره وكان متوليه نجم الدين أيوب بن شادي والد صلاح الدين يوسف، فخاف أن لا يتمكن أولاد زنكي من إنجاده بالعاجل فصالح صاحب دمشق وسلم القلعة إليه، وأخذ منه إقطاعاً ومالاً وملكه عدة قرى من عمالة دمشق. ولم يكد نور الدين يتربع في دست الحكم بحلب حتى بدت آيات فضله، وصحة حكمه وعقله وحزمه، وباستيلائه على الأعمال ظهر نبوغه فدخلت الشام في حياة سياسة جديدة، بعد تقلقل أمر الدولة الأتابكية بدمشق، ودخول الوهن على فروعها بزوال أصلها الثابت ظهير الدين طغتكين. وسار نور الدين على قدم أبيه عماد الدين في التقرب من ملوك الأطراف فخطب ابنة معين الدين أتسز الملك الحقيقي لدمشق، والحاكم المتحكم في سياستها ليتم له بالصهر والقرابة ما كان أبوه يرمي إليه بزواجه بأم شهاب الدين محمود فلم يتم له، وتزوج نور الدين بعد ذلك بابنة صاحب قونية واقصرا فأمن بهذا الزواج من غارة يغيرها صاحب آسيا الصغرى على الشام، ونم تسرب عسكر الصليبيين عن طريق الروم إلى مملكته. بعد أن أصيب جوسلين صاحب الرها بتمزيق شمل إمارته قبل سنتين على يد عماد الدين زنكي، جمع الفرنج من كل ناحية وقصد مدينة الرها على غفلة بموافقة النصارى المقيمين بها فاستولى عليها وقتل من بها من المسلمين. فنهض نور الدين 541 فيمن انضاف إليه من التركمان فاستعاد البلد وقتل كثيراً من أرمنها، ومحق السيف كل من ظفر به من نصاراها. واستنجد صاحب دمشق بنور الدين على قتال والي صرخد الذي كان خرج إلى ناحية الفرنج للاستنصار بهم، فجاء نور الدين في عسكر حسن فاجتمع الجيشان على حلب، وبلغ صاحبي حلب ودمشق أن الفرنج احتشدوا قاصدين بصري فحال عسكر المسلمين بينهم وبين الوصول إليها، واستظهر عسكر المسلمين على الفرنج فولوا الأدبار فتسلم صاحب دمشق حصني بصرى وصرخد. الحملة الصليبية الثانية وغزوتها دمشق: وفتح نور الدين في السنة التالية 542 مدينة ارتاح بالسيف وحصر ثامولة؟

وبسرفوث وكفرلاما من أعمال الفرنج. قال صاحب الكامل: كان الفرنج بعد قتل والد نور الدين قد طمعوا وظنوا أنهم بعده يستردون ما أخذه، فلما رأوا من نور الدين هذا الجد في أول أمره علموا أن ما أملوه بعيد وخاب ظنهم وأملهم وبينا كان نور الدين يجمع شمله لضرب الفرنج في مقتل من مقاتلهم للقضاء على قوتهم التي ظهر له ضعفها يوم استرد أبوه منهم الرّها، وردت الأخبار من قسطنطينية أن حملة عظيمة قادمة من بلاد الفرنج وهي المعروفة بالحملة الصليبية الثانية مؤلفة من فرنسيس بقيادة لويز السابع، وألمان بزعامة كونراد الثالث، وفي الجيش إنكليز وفلامنديون وطليان، ومن هؤلاء البنادقة والجنوية والبياسنة البيزيون وذلك لإنجاد الصليبيين في الشام، إذ ساءت حالهم بعد سقوط الرّها وقلّ فارسهم وراجلهم لأن سيوف التركمان والأكراد والعرب قد حصدتهم، وعلى كثرة تناسلهم مدة نصف قرن اصبحوا في قلة وأصبح أعداؤهم في كثرة. تجمعت هذه الحملة بتحميس القديس برناردوس في الغرب، وكان له كما لرؤساء الدين السلطان الأكبر على النفوس يصرفها كما يشاء. وذكر المؤرخون أن عدد هذا الجيش كان ألف ألف عنان من الرجالة والفرسان وقيل أكثر من ذلك. وفي التاريخ العام أن كلاً من الجيش الألماني والجيش الفرنسي كان مؤلفاً من سبعمائة ألف فارس ما عدا الرجالة الذين لا يحصى عددهم، وأن الروم قدروا مجموعه سبعمائة ألف رجل. قال وهو تقدير ظاهر المبالغة. واختار هذا الجيش طريق البر وعرض عليه روجر صاحب بوليه وصقلية أن يسافر بحراً لأنه كان ينوي الاستعانة بجيش الصليبيين ليدفع المسلمين عن دياره، وكانوا احتلوا سركوزة، فلقي جيش الصليبيين من صاحب القسطنطينية وأمراء بني سلجوق في آسيا الصغرى ضروب القهر والموت. قال مؤرخونا: واستمر القتل فيهم أي في الصليبيين إلى أن هلك العدد الدثر منهم، وحل بهم من عدم القوت والعلوفات والمير وغلاء السعر ما أفنى الكثير منهم. وصلت مراكب الفرنج 543 إلى ساحل البحر كصور وعكا، وأجمع من كان بها من الفرنج بعدما فني منهم أي من القادمين من طريق البر بالقتل والمرض والجوع نحو مائة ألف إنسان أن يقصدوا بيت المقدس. ولما قضوا مفروض حجهم عاد من عاد بعد ذلك إلى أوطانهم في البحر، وبقي ملك الألمان أكبر

ملوكهم ومن هو دونه، وصلى الصليبيون في القدس صلاة الموت، وعادوا إلى عكا وفرقوا المال في العسكر وكان مقدار ما فرقوه سبعمائة ألف دينار ولم يعينوا لهم وجهة وما كانت وجهتهم إلا فتح دمشق فورّوا بغيرها وهرّبوا المسلمين بين أيديهم. ولم يشعر أهل دمشق إلا وملك الألمان قد ضرب خيمته على باب مدينتهم في الميدان الأخضر. وكان الفرنج في نحو خمسين ألفاً من الخيل والرجل وقيل أكثر من ذلك. ويقول ابن منقذ: إن ملك الألمان لما وصل إلى الشام اجتمع إليه كل من في أرجاء الساحل من الفرنج، فقصدوا أولاً المنزل المعروف بمنازل العسكر فصادفوا الماء مقطوعاً عنه، فقصدوا ناحية المزة ووصلت طلائعهم إلى الميدان الأخضر فنشبت الحرب بين الفريقين، واجتمع عليهم من الأجناد والأتراك والتركمان وأحداث البلد والمطوعة والغزاة الجمّ الغفير، وكانت المكاتبات قد نفذت إلى ولاة الأطراف بالاستصراخ، وأخذت خيل التركمان تتواصل، فلما ضاق الأمر بالفرنج بعد أربعة أيام ورأوا شدة عزيمة المسلمين في قتالهم رحلوا مفلولين. ويرى مؤرخو الحروب الصليبية من الفرنج أن جيش الحملة الصليبية الثانية كان أكثر نظاماً وقيادة من جيش الحملة الأولى، ليس فيه المتشردون والأشقياء، وكان مؤلفاً من فرسان وبارونات وغيرهم أخذوا بالحماسة الدينية وساروا في قيادة ملكين عظيمين. وفي التاريخ العام أن هذه الحملة الصليبية الكبرى لم تجد نفعاً البتة حتى استغربت حالها أمم النصرانية فبحث بعضهم عن الخطايا التي استحقت بارتكابها هذه الكارثة، ونسبت أخرى هزيمة الحملة لخداع الروم أو لخيانة نصارى الشرق وذكروا أن الصليبيين في القدس قد ارتشوا من أمير دمشق بمبلغ مائتين وخمسين ألف دينار وأن الأمير أرسل المال زيوفاً أو نحاساً طلي بالذهب. انكسر الجيش الذي قاتل دمشق بقيادة كونراد الألماني ولويز السابع الفرنسوي وبودوين الثالث ملك القدس في بساتين المزة ولحق فلّهم بالساحل، بعد أن قطعوا أشجار الحدائق للتحصن بها وأحرقوا الربوة والقبة المهدوية. وقد وصف أبو الحكم الأندلسي جيش الفرنجة على دمشق في مخيمه ومعتركه ومجتلده ومنهزمه وصفاً جميلاً قال: بشطى نهر داريا ... أمُورٌ ما تؤاتينا وأقام رأَوا سفك ال ... دما في جِلَّقٍ دينا

أتانا مائتا ألفٍ ... عديداً أو يزيدونا فبعضهمُ منَ اندلسٍ ... وبعضٌ من فلسطينا ومن عكا ومن صورٍ ... ومن صيدا وتَبنينا اذا أبصرتهم أبصر ... ت أقواماً مجانينا ولكن حرقوا في عا ... جل الحال البساتينا وجازوا المرج والتعدي ... ل أيضاً والميادينا تخالهمُ وقد ركبوا ... قطائرها حراذينا وبين خيامهم ضموا ال ... خنازر والقرابينا وراياتٍ وصلباناً ... على مسجد خاتونا ومن توفيق صاحب دمشق يومئذ وهو مجير الدين أبق أن تدبير المملكة كان لمعين الدين أتسز مملوك جده طغتكين، وكان عاقلاً ديناً محسناً لعسكره فاستنجد بصاحب الموصل سيف الدين غازي وصاحب حلب نور الدين محمود، فجاء الشقيقان في جيش لجب، وانضم جيشهما بل روحه وروح أبيهما إلى روح مملوك طغتكين مؤسس الدولة الأتابكية، مع تحمس الأمة ومعرفتها حق المعرفة أن الفرنج إذا أخذوا دمشق سقطت الشام كلها، وربما تعدوها إلى الحجاز وهناك الطامة العظمى على المسلمين، وكان اجتماع آل زنكي الأقوياء مع صاحب دمشق الضعيف في سلطانه فاتحةً لعمل عظيم يتوقع منهم في الشام، وأن ملكها سيؤول إليهم بحكم الطبيعة. ولم يرض سيف الدين ولا نور الدين أن يناقشا مجير الدين ومعين الدين الحساب عما قدماه وقالاه، بل مرا بالأحقاد مرّ الكرام، وجعلا الأقاويل دبر آذانهما وعند الشدائد تذهب الأحقاد. ذكروا أن معين الدين أتسز كان قد كاتب سيف الدين غازي صاحب الموصل قبل نزول الصليبيين على دمشق، يستصرخ به ويخبره بشدة بأسهم ويقول له أدركنا، فسار سيف الدين في عشرين ألف فارس ونزل في إقليم حمص وبعث إلى معين الدين يقول: قد حضرت بجند طمّ ولم أترك ببلادي من يحمل السلاح، فإن أنا جئت الفرنج وكانت علينا الهزيمة وليست دمشق لي ولا لي بها نائب لم يسلم منا أحد وأخذت الفرنج دمشق وغيرها فإن أحببت أن أقاتلهم فسلم البلد إلى من أثق به، وأنا أحلف لك إن كانت النصرة لنا عليهم أنني لا أدخل إلى

دمشق وأرجع إلى بلادي فمطله معين الدين وبعث إلى السواحل يقول: هذا ملك الشرق نازل على حمص وليس لكم به طاقة، فإن رحلتم وإلا سلمت دمشق إليه وهو يبيدكم وأنا أعطيكم بانياس أي إن معين الدين أتسز آثر أن يتخلى عن بانياس مفتاح دمشق الأكبر من جهة الفرنج، ولا يجعل لسيف الدين غازي إصبعاً في بلده، لعلمه أن دولة آل زنكي في عنفوان أمرها غضة الإهاب ودولتهم هرمة، والفتى يغلب الهرم ويخلفه بحكم الطبيعة. تقدم نور الدين في فتوحه: ولما رحل الفرنج عن دمشق كتب القومص صاحب طرابلس إلى معين الدين وإلى نور الدين يستنجدهما على ولد ألفنس صاحب صقلية الذي أخذ منه حصن العريمة، ويريدهما على أخذه خوفاً منه على بلده، وكتبا إلى سيف الدين يطلبان منه المدد فأمدهما، فحصروا الحصن ونقبوا السور، فأذعن الفرنج واستسلموا وألقوا بأيديهم، فملك المسلمون الحصن وأخربوه وأخذوا كل من فيه. وعاد عسكر سيف الدين إلى الموصل وعسكر نور الدين إلى حلب وأخذ هذا بجمع أطرافه وتوجه إلى ما دانى أرضه من أرض الفرنج وظفر بعدة وافرة منهم، وجمع صاحب إنطاكية رجاله فصد نور الدين على حين غفلة منه، ونال من عسكره حتى اضطر نور الدين أن يهرب بنفسه وعسكره إلى حلب. وفي هذه السنة 543 نادى منادي نور الدين في حلب بإبطال الأذان بحي على خير العمل في أواخر أذان الغداة، وأعاد أذان أهل السنة ففرح الناس وأبطل بذلك أثراً عظيماً من آثار الدولة العلوية الفاطمية. لم تثبط هزيمة نور الدين يوم إنطاكية من عزيمته، وقصد الفرنج فكان بينه وبينهم مصاف بأرض يغري من العمق فانهزم الفرنج إلى حصن حارم وكانوا هزموا المسلمين أولاً بهذا الموضع، وقتل منهم وأسر جماعة كثيرة فأرسل منهم جماعة مع غنائم كثيرة إلى أخيه سيف الدين صاحب الموصل. وفي هذه السنة سار نور الدين إلى بصري وقد اجتمع الفرنج قضهم وقضيضهم، فالتقى بهم هنالك واقتتلوا أشد قتال فهزمهم نور الدين. وكثر عيث الفرنج في صور وعكا والثغور 544 بعد رحيلهم عن دمشق

وفساد شروط الهدنة المستقرة بين صاحب دمشق وبينهم، وكانوا يعيثون في عمل دمشق، ويفحشون في التخريب ويمعنون في الغارة، فأغار عليهم العسكر الشامي والتركماني والأعراب إلى أن اضطروا إلى تجديد الهدنة مع صاحب دمشق سنتين. وأغار صاحب إنطاكية على الأعمال الحلبية فدفعه نور الدين صاحبها، وكان عسكر نور الدين يناهز الستة آلاف فارس سوى الأتباع والسواد، والفرنج في زهاء أربعمائة فارس طعانة وألف راجل مقاتلة سوى الأتباع، فلم ينج منهم إلا نفر يسير ثم نزل نور الدين في العسكر على باب إنطاكية وقد خلت من حماتها فاستمال أهلها في التسليم فأمهلوا، ثم نهض إلى أفامية فسلم الفرنج إليه البلد بعد حصارها واجتمع من بالشام من الفرنج وساروا نحو نور الدين ليرحلوه عنهم، فلم يصلوا إلا وقد ملك حصن أفامية وملأه ذخائر وسلاحاً ورجالاً، واقتضت الحال بعد ذلك مهادنة من في إنطاكية وتقرر أن يكون ما قرب من الأعمال الحلبية لنور الدين، وما قرب من إنطاكية لهم. وقد عاون نور الدين في هذه الوقعة الأمير بزان في عسكر دمشق وعسكر أخيه سيف الدين غازي والجزيرة، وقتل من الفرنج ألف وخمسمائة وأسر مثلهم، وقتل البرنس وحمل رأسه إلى نور الدين. قال العماد: وكانت هذه الكسرة على إنب، وإنب حصن من أعمال عزاز. وظهرت الفرنج في الأعمال الدمشقية للعيث فيها واتصل بنور الدين إفسادهم في الأعمال الحورانية بالنهب والسبي فعزم على التأهب لقصدهم فسار وكف أيدي أصحابه عن العيث والفساد في الضياع، وأمر بإحسان الرأي في الفلاحين والتخفيف عنهم. وكتب إلى دمشق يستدعي منهم المعونة على ذلك بألف فارس، وقد كان رؤساؤها عاهدوا الفرنج أن يكونوا يداً واحدة على من يقصدهم من عساكر المسلمين فاحتج عليه وغولط، فلما عرف ذلك رحل ونزل بمرج يبوس وبعض العسكر بيعفور، ثم رحل من منزله بالأعوج ونزل على جسر الخشب المعروف بمنازل العسكر، وراسل مجير الدين والرئيس بدمشق بأنه لم يقصد محاربتهم وإنما دعاه إلي ذلك كثرة شكاية المسلمين من أهل حوران والعربان وعجز أمراء دمشق عن حفظ أعمالها واستصراخهم بالفرنج على محاربته، وبذلهم لهم أموال الضعفاء والمساكين من الرعية ظلماً لهم، فكان الجواب عن هذه الرسالة ليس بيننا وبينك إلا السيف وسيوافينا من الفرنج ما يعيننا على دفعك إن

انحلال دولة مجير الدين وتوفيق نور الدين:

قصدتنا ونزلت علينا فلما عاد الرسول بهذا الجواب أكثر التعجب منه والإنكار له، وعزم على الزحف إلى دمشق. وما ندري إذا كان ذلك الجواب صدر قبل وفاة معين الدين أتسز والي دمشق وصاحب أمرها نيابة عن أولاد طغتكين، وكان أتسز صالحاً عادلاً محسناً كافاً عن الظلم متجنباً للمآثم، محباً للعلماء والفقراء، بذل مجهوده في حفظ بيت سيده طغتكين فلما مات أخذ ملك مجير الدين في الانحلال. انحلال دولة مجير الدين وتوفيق نور الدين: آذنت شمس دولة أبناء طغتكين بالمغيب، لهلاك الرجال الغيورين عليها، ولأن أربابها أخذوا يتقوون بالفرنج على أبناء نحلتهم حباً بأن يبقوا في ملكهم ورفاهيتهم. ولكن دولة نور الدين التي أصبح لها المقام الأسنى في الشام بعد أن حالف التوفيق أعلامها أكثر من مرة في سنين قليلة أخذت النفوس تتطلع إليها، وتعلق الآمال الطيبة عليها. وقد كانت دمشق التي أجابت نور الدين بهذا الجواب الفظ نشبت فيها هذه السنة فتنة بين الأجناد والمقدمين والرعاع والفلاحين وذلك لاستيحاش الرئيس في دمشق من مجير الدين صاحبها، ولم تزل الفتنة ثائرة إلى أن أبعد من التمس إبعاده من خواص مجير الدين وسكنت الفتنة. ولكن هذه الفوضى في دمشق يصعب دوامها، وليست المسألة مسألة تقريب رجل أو رجال من أركان الدولة أو اصطلام ثائر وخارج على الجماعة، وقد سرت روح الغضب حتى إلى أقرب الناس من الآل الملوكي، وقوة نور الدين تشتد وشائجها، ودعوته تزداد انتشاراً اليوم بعد اليوم، فلم يسع أولي الأمر في دمشق سنة 540 إلا تقرير الصلح بينهم وبينه، فأقيمت الخطبة لنور الدين على منبر دمشق بعد الخليفة والسلطان، وضربت السكة باسمه وخلع نور الدين على مجير الدين خلعة السلطنة والطرق والسوارين وخلع على الرئيس ابن الصوفي خلعة الوزارة فبذلا له الطاعة وأعادهما إلى عملهما وطيب قلوبهما ورحل إلى حلب والقلوب معه لما غمر العالم من خيره. عمل مجير الدين وابن الصوفي هذا العمل مكرهين أمام قوة قاهرة، عملاه وهما يسران حسراً في ارتغاء، على أمل أن ينتقما من نور الدين باعتصامهما بالصليبيين حتى اضطر في السنة التالية 546 أن يسوق عسكره إلى دمشق فنزل أوائل جنده على أرض عذراء، وقصد فريق وافر منهم ناحية السهم

والنيرب في سفح قاسيون، وكمنوا عند الجبل لعسكر دمشق، ثم وصل نور الدين في جنده ونزل على عيون فاسريا بين عذراء ودومة، وامتد عسكره إلى ضمير ونزلوا في أرض حجيرا وراوية في خلق كثير، ثم نزل في أرض مشهد القدم وما والاه من الشرق والغرب، وكان منتهى الخيم إلى المسجد الجديد قبلي البلد أي أن العسكر النوري أحاط بدمشق من أطرافها الأربعة فنزل كما قال المؤرخ منزلاً ما نزله أحد من مقدمي العساكر فيما سلف من السنين، وأرسل نور الدين إلى مجير الدين يقول: كنت اتفقت معكم وحلفت لكم، والآن قد صح عندي أنكم ظاهرتم الفرنج فإن أعطيتموني عساكركم لأجاهد في سبيل الله رجعت عنكم فلم يرد جواباً. وجرى بين أوائل العسكر وبين من ظهر إليه من البلد مناوشات ولم يزل نور الدين مهملاً للزحف على البلد إشفاقاً من قتل النفوس وإثخان الجراح في مقاتلة الجهتين حتى انطلقت أيدي المفسدين من الفريقين في العيث، وحصدت زراعات المرج والغوطة وضواحي البلد، وخربت مساكن القرى ونقلت أنقاضها إلى بلد، وزاد الإضرار بأربابها من التنّاء والفلاحين وتزايد طمع الرعاع والأوباش في التناهي والفساد، ثم رحل العسكر النوري ونزل في أراضي فذايا وحلفبلتا المصاقبة للبلد، ونشبت المطاردة وكثرت الجراح في خيالة البلد ورجالته، ثم رحل نور الدين إلى ناحية داريا لتواصل الإرجاف بقرب عسكر الفرنج من البلد للإنجاد ليكون قريباً من معابرهم، وبعد ذلك رحل إلى ناحية الزبداني استجراراً لهم، وجعل من عسكره أربعة آلاف فارس ليكونوا في أعمال حوران مع العرب لقصد الفرنج ولقائهم، ونزل الفرنج على نهر الأعوج، وخرج مجير الدين ومؤيده في خواصهما واجتمعا بملكهم وما صادفوا عنده شيئاً مما هجس في النفوس من كثرة ولا قوة، وتقرر بينهم النزول بالعسكريين على حصن بصرى لتملكه واستغلال أعماله. ثم رحل عسكر الفرنج إلى رأس الماء ولم يتهيأ خروج العسكر الدمشقي إليهم لعجزهم واختلافهم، وقصد من كان بحوران من العسكر النوري ومن انضاف إليهم من العرب ناحية الفرنج للإيقاع بهم فالتجأ عسكر الفرنج إلى اللجاة للاعتصام بها. ثم زحف نور الدين على دمشق وقد رأى خيانة صاحبها ومماشاته للفرنج حرصاً على هذه العاصمة من السقوط في يد العسكر النوري البالغ ثلاثين ألفاً يزداد كل يوم قوة وعسكر دمشق ضعفاً. وتحرج نور الدين من

مقاصد نور الدين وفتحه دمشق:

قتال المسلمين وما زال يميل إلى حقن الدماء لعلمه بأن خيانة حكومتها لا تكون ولن تكون سبباً للعبث بالغرض المقدس الذي يرمي إليه من إنقاذ الأمة ولطالما قال: إني أرفه المسلمين ليكون بذل نفوسهم في مجاهدة أعدائهم. ولما تجلت لمجير الدين غلطته في مفاوضة الصليبيين للخلاص من نور الدين لم يستطع حفظاً لملكه إلا قبول الشروط التي وضعها نور الدين عليه، ودخل مجير الدين على نور الدين في حلب فبالغ هذا في إكرامه وقرر معه تقريرات اقترحها. مقاصد نور الدين وفتحه دمشق: كانت همة نور الدين منصرفة في كل أطواره إلى توحيد الإمارات الإسلامية وهذه، كما في التاريخ العام، كانت على عهد الحروب الصليبية تتألف وتتمزق على الدوام بحسب طوالع الحروب والدسائس التي تقوم ثورتها بين الأمراء، وبحسب انتقال الملك وتقسيمه، وامتيازات الأسر. وكان في جبال الشام خاصةً من الأمراء من لم تكن أرضهم تتجاوز ربض قلاعهم وضاحيتها كصاحب شيزر، ولذلك عامل نور الدين مجير الدين صاحب دمشق على ما بدر منه من الأغلاط النابية عن حد الوطنية والقواعد الشرعية معاملة رفق وإغضاء، لأن المقصد جمع الشمل والسؤدد مع السواد. ومما أفاد في هذا العقد وصول الأسطول المصري إلى الساحل في سبعين مركباً حربياً مشحوناً بالرجال واقترابه من يافا فقتل وأسر وأحرق واستولى على عدة وافرة من مراكب الفرنج والروم، ثم قصد ثغر عكا وصيدا وبيروت وطرابلس وفعل فيها مثل ذلك. قال ابن ميسر: وظفر الأسطول المصري بجماعة من حجاج الفرنج فقتلوهم عن آخرهم، وبلغ ذلك نور الدين محمود بن زنكي ملك الشام فهمّ بقصد الفرنج في البر ليكون هو في البر والأسطول المصري في البحر فعاقه عن ذلك الاشتغال بإصلاح دمشق، ولو اتفق مسيره مع الأسطول لحصل الغرض من الفرنج، وكان من جملة ما أنفقه العادل بن السلار على هذا الأسطول ثلاثمائة ألف دينار. لم تقف همة نور الدين عند هذه الغاية بل اهتبل الغرة وشغل المحتلين في الساحل بما نزل عليهم من بلاء الأسطول المصري، فغزا الشمال وأسر جوسلين صاحب تل باشر وملك قلاعه وهي تل باشر - وكان الأمير حسان المنبجي قد فتحها بأسم نور الدين وهو على أبواب دمشق 546 - وعينتاب ودلوك - وكان القتال على هذه شديداً جداً - وعزاز وتل خالد وقورس والراوندان وبرج الرصاص وحصن البارة وكفرسود وحصن بسرفوت بجبل بني عليم وكفرلاثا ومرعش ونهر الجوز وذلك في أيام يسيرة. وهذا الفتح والفتح الذي تم على يده في السنة الفائتة 545 من تسلم قلعة أفامية جعل نور الدين صاحب الشام. وكان جوسلين فارس الفرنج غير مدافع قد جمع الشجاعة والرأي، سار في عسكره نحو نور الدين فالتقوا واقتتلوا وانهزم المسلمون وقتل منهم وأسر جمع كثير، وكان في جملتهم سلاحدار نور الدين فسيره إلى الملك مسعود بن قلج أرسلان صاحب قونية وأقصرا وقال له: هذا سلاحدار زوج ابنتك وسيأتيك بعده ما هو أعظم منه. فلما علم نور الدين الحال عظم ذلك عليه وأعمل الحيلة على جوسلين وهجر الراحة ليأخذ ثأره. وأحضر جماعة من الأمراء التركمان وبذل لهم الرغائب إن هم ظفروا بجوسلين وسلموه إليه لأنه علم بعجزه عنه في القتال فيما قيل، فجعل التركمان عليه العيون فخرج متصيداً فظفر به طائفة منهم وحملوه إلى نور الدين أسيراً. وقال ابن الأثير: وعظمت على الفرنج المصيبة بأسر جوسلين،

وخلت بلادهم من حاميها وثغورهم من حافظها، وسهل أمرهم على المسلمين بعده، وكان جوسلين كثير الغدر والمكر، لا يقف على يمين ولا يفي بعهد، طالما صالحه نور الدين وهادنه، فإذا أمن جانبه بالعهود والمواثيق نكث وغدر، فلقيه غدره، وحاق به مكره، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله. فلما أُسر تيسر فتح كثير من بلاد الفرنج وقلاعهم. وعني نور الدين بتجهيز ما فتح من الحصون بالميرة والسلاح، وكان كلما فتح حصناً نقل إليه من كل ما تحتاج إليه الحصون خوفاً من نكثة تلحق المسلمين من الفرنج فتكون بلادهم غير محتاجة إلى ما يمنعها من العدو. وكان نور الدين وأبوه إذا فتحا قلعة جعلا فيها من المؤنة والذخائر ما يكفيها عشر سنين. وأغار هذه السنة فريق وافر من التركمان على ظاهر بيسان فقتلوا من الفرنج وأسروا ولم يفلت منهم غير الوالي ونفر يسير. وقصد الفرنج ناحية البقاع فاستباحوا عدة وافرة من الضياع من رجال ونسوان وشيوخ وأطفال فلحقهم صاحب بعلبك واسترجع منهم بعض ما أخذوا وعادوا على أقبح صفة من الخذلان.

وافتتح نور الدين 547 حصن انطرطوس وقتل من كان فيه من الفرنج وطلب الباقون الأمان، وملك عدة من الحصون بالسيف والسبي والإحراق والخراب والأمان ومنها دلوك ويحمور، بعد أن اقتتل مع الفرنج أشد قتال رآه الناس وصبر الفريقان ثم انهزم الفرنج، وتوجه مجير الدين في العسكر إلى ناحية حصن بصرى ونزل عليه محاصراً واليه لمخالفته وجوره، وما زال به حتى نزل على حكمه. وأراد مجير الدين المصير إلى حصن صرخد لمشاهدته فاستأذن مجاهد الدين واليه في ذلك، إذ لا سبيل إلى استقرار حالة دمشق إذا كان المستولون على بصرى وصرخد يمتّون إلى الفرنج بصلة من الصلات للاحتفاظ بمعاقلهم في أيديهم كما فعل سيف الدين الطنطاش نائب صاحب بصرى وصرخد واستعان بالفرنج على المسلمين فاضطر معين الدين أتسز إلى قتاله ونازل القلعتين فملكهما. وقوي عزم نور الدين 548 على جمع العساكر والتركمان من البلدان للغزو ونصرة أهل عسقلان على الفرنج، وكان هؤلاء شغلوا بأمر عسقلان منذ السنة الغابرة لإمداد صاحب مصر فظفر المسلمون بمن كانوا مجاورين لهم، ووصل الأسطول المصري إلى عسقلان فقويت نفوس من بها بالمال والرجال والغلال وظفروا بقوة وافرة من مراكب الفرنج ثم هجم الفرنج على عسقلان وداهموها من جوانب سورها فهدموه وقتل من الفريقين خلق كثير، وألجأت الضرورة إلى طلب المال فأجيبوا إليه فخرج أهلها في البر والبحر إلى ناحية مصر فملك الفرنج مدينة عسقلان، وكانت لخلفاء مصر والوزراء يجهزون إليها المؤن والسلاح، ولو لم تختلف أهواء أهل الدولة المصرية ويقتل العادل ابن السلار لما جرأ الفرنج على حصر عسقلان والظفر بمن فيها والتحكم في ضرب غرامة عليها. وملك نور الدين 548 حصن أفليس وقتل من كان فيه من الفرنج والأرمن ونهض عسكره طالباً بانياس. وفي سنة 549 وصل نور الدين في عسكره لإمداد أسد الدين شيركوه وكان أرسله إلى دمشق في كتيبة، وخيم بناحية القصب من المرج. ونزل نور الدين بعيون فاسريا ورحل في الغد ونزل بأرض بيت الآبار من الغوطة وزحف إلى البلد من شرقيه، وخرج إليهم من عسكره وأحداثه الخلق الكثير، ووقع الطراد بينهم ثم عاد كل من الفريقين إلى مكانه، ولم يبرح نور الدين يزحف يوماً بعد يوم حتى افتتح دمشق على أيسر وجه، والنفوس فيها متطلعة

الداعي لنور الدين على فتح دمشق:

إلى طلعته لما كان يبلغ القاصي والداني من عدله وحسن سيرته، ولما أحس صاحب دمشق مجير الدين أبق بالغلبة انهزم في خواصه إلى القلعة فأنفذ إليه وأمنه على نفسه وماله فخرج إلى نور الدين فطيب نفسه، ونادى نور الدين بالأمان وخرجت دمشق من أيدي أحفاد الأتابك طغتكين آخر الدهر بعد أن دانت لسلطانهم اثنتين وخمسين سنة. الداعي لنور الدين على فتح دمشق: والسبب في فتح نور الدين دمشق تغلب الفرنج بناحية دمشق بعد ملكهم عسقلان حتى استعرضوا كل مملوك وجارية بدمشق من النصارى، وأطلقوا قهراً منهم كل من أراد الخلاص، فخشي نور الدين أن يملكوا دمشق، فاستمال أهلها في الباطن ثم حاصرها وفتحها. وفي الكامل أن سبب حرصه على ملكها أن الفرنج لما ملكوا في العام الماضي مدينة عسقلان ولم يكن لنور الدين طريق إلى إزعاجهم عنها لاعتراض دمشق بينه وبين عسقلان، فلما ملك الفرنج عسقلان طمعوا في دمشق. وعلل هذا الفتح سبط ابن الجوزي بما ظهر من مجير الدين من الظلم ومصادرة الدمشقيين وسفك دمائهم وأخذ أموالهم، وقبضه على جماعة من الأعيان واستدعى سيف الدولة بن الصوفي الذي ولاه رئاسة دمشق لما أخرج أخاه وجيه الدولة منها فقتله في القلعة ونهب داره وأحرق دور بني الصوفي ونهب أموالهم. وتكاثرت مكاتباته إلى الفرنج يستنجدهم ويطمعهم في البلاد. وكان مراد نور الدين من أخذ دمشق إنقاذ القدس من الفرنج والساحل وكانت دمشق في طريقه. وطمع الفرنج في مجير الدين وكان قد أعطاهم بانياس، فكانوا يشنون الغارات إلى باب دمشق فيقتلون ويأسرون ويسبون، وكان مجير الدين قد جعل للفرنج كل سنة قطيعة يأخذونها منه، وذل الإسلام وأهله في أيامه، وساءت سيرته وكثر فساده، فكان الأمراء والأعيان بدمشق أصحاب نور الدين يقولون: الغياث الغياث وقالوا: إن شئت حصرناه في القلعة. فرأى نور الدين أخذ مجير الدين باللطف وقال: إن أخذته بالقوة استغاث بالفرنج وأعطاهم البلاد فيكون وهناً عظيماً على الإسلام. وكان من أشد الأمور على الفرنج أن يأخذ نور الدين دمشق لأنه كان أحرق

قلوبهم وحرق أرضهم، وكان في كل وقعة يغني غناء حسناً، هذا ودمشق ليست له فكيف إذا أصبحت في حكمه، لا جرم أنه يتقوى بها وتقوى كلمته ولذا عدل إلى ملاطفة مجير الدين ومكاتبته وبعث إليه بهدايا فأنس به وصار يكاتبه ويستشيره فكان نور الدين يكتب إليه إن فلاناً يكاتبني فتارة يقبض مجير الدين عليهم وتارة يبقيهم، فخلت دمشق من الأمراء ولم يبق عنده غير عطاء بن حفاظ، وكان صاحب بعلبك قد رد إليه مجير الدين أمر دولته وكان ظالماً، فكتب نور الدين إلى مجير الدين يقول: قد نفر عليك عطاء بن حفاظ قلوب الرعية فاقبض عليه لعلم نور الدين أنه لا يتم له أمر في دمشق مع وجود عطاء فقبضه مجير الدين وأمر بقتله فقال له عطاء: لا تقتلني فإن الحيلة قد تمت عليك وذهب ملكك وسترى، فلم يلتفت إليه وقتله وحينئذ قوي طمع نور الدين في دمشق، وأرسل إلى أحداثها وأعيانها فأجابوه، فسار إليها ونزل عليها وكتب مجير الدين إلى الفرنج يستنجد بهم وبذل لهم بعلبك وأموالاً كثيرة، وبلغ نور الدين فأرسل إلى الأحداث ففتحوا له الباب الشرقي فدخلها وحصر مجير الدين في القلعة، وبلغ ذلك الفرنج فتوقفوا ولما دخل نور الدين صاح أصحابه نور الدين يا منصور وامتنع الأجناد والرعية من القتال لما هم عليه من بغض مجير الدين وظلمه وعسفه للرعية ومحبتهم لنور الدين لعدله وخيره. سئمت النفوس في دمشق من سوء إدارة المتغلبين على أحكامها أمثال الوزير حيدرة ومجاهد الدين بزان وعطاء وغيرهم، ممن لم يكونوا يهتمون بغير إملاء بطونهم وجيوبهم من دماء الرعية، ولو أصبحوا عبيداً أرقاء لأعدائهم. أما مجير الدين آخر ملوك الأتابكية في دمشق فإن نور الدين لما غلبه بذل له إقطاعاً من جملته مدينة حمص، فسلم مجير الدين القلعة إلى نور الدين وسار إلى حمص فلم يعطه إياها وأعطاه عوضها بالس فلم يرضها مجير الدين وسار عنها الى العراق وأقام ببغداد حتى مات بها. وهذا من غريب ما يحكى في باب العدل فإن الملوك جرت عادتهم في تلك العصور إذا أخذوا ملكاً أن يقتلوه فلم يفعل ذلك نور الدين تحرجاً من إهراق الدم الحرام واستحكام الطوائل والثارات والأحقاد في أمة أشد ما تكون إلى التضافر. أعطى نور الدين حمص أقطاعاً لمجير الدين حتى لا يقطع له أمله ثم عوضه عنها ببالس لأن حمص على مقربة من كور الصليبيين.

ومن خان أمته وهو في عهد عزه أقرب إلى خيانتها في دور شقائه وذله، أما بالس مسكنة فبعيدة عن حركة التطاحن بين الشرق والغرب. وماء الفرات أسوغ للعاصي مجير الدين من ماء بردى والعاصي. والمقصد في الحقيقة من الفتح توحيد كلمة الإسلام، وهذا قد تم لنور الدين بفتح أبواب دمشق لعدله العمري، وخروج آخر الأتابكيين من أولاد طغتكين منها بسلام. لم يتبدل شيء بفتح نور الدين دمشق إلا إبطال المظالم والمغارم، ورفع الحيف عن الضعاف، وجمع القوة إلى مقصد واحد لا تتزلزل بالتردد والدسائس، كانت معظم وقائع نور الدين يحالفها التوفيق وفي السنة التي وصفت الديار له أخذ من الفرنج تل باشر. وفي سنة 550 تقررت الموادعة بين نور الدين وبين ملك الفرنج مدة سنة، وقبض نور الدين على ضحاك والي بعلبك وتسلم القلعة وفي السنة التالية 551 ظفر عسكر نور الدين بالفرنج الذين عاثوا في أعمال حلب تقررت الموادعة والمهادنة بينه وبينهم مدة سنة وان المقاطعة المحمولة إليهم من دمشق ثمانية آلاف دينار صورية، ثم نقض الفرنج الهدنة لوصول عدة وافرة من الفرنج في البحر وقوة شوكتهم بهم، ونهضوا إلى الشعراء المجاورة لهم ووقع من المندوبين لحفظ أهل القرى من الأتراك تقصير، فانتهز الفرنج الفرصة واستاقوا جميع ما وجدوه وأفقروا أهله منه مع ما أسروه من تركمان وغيرهم. وأغار الفرنج 552 على أرجاء حمص وحماة وأطلقوا أيديهم بالنهب، وأغاروا على بانياس، فانتصر المسلمون، ومحقت السيوف عامة رجالة الفرنج ومسلمي جبل عاملة المضافين إليهم، وملك الفرنج جبلة وكانت في أيدي المسلمين منذ سنة 473 وثب عليها قاضيها ابن ضليعة التنوخي واستعان بابن عمار صاحب طرابلس فأخرج منها الروم، وكانت بيدهم منذ سنة 357، وظفر أسد الدين في جماعة من شجعان التركمان بسرية وافرة من الفرنج في ناحية الشمال فانهزمت. وافتتح نور الدين بانياس قهراً عسكره في ناحية هونين بسرية من أعيان مقدمي الفرنج وأبطالهم فلم يفلت منهم إلاّ اليسير، وعسكر الفرنج على الملوحه بين طبرية وبانياس فنهض إليهم نور الدين في عسكره من الأتراك والعرب فكتب له النصر عليهم، وشاغل نور الدين الفرنج هذه السنة للزلازل التي حدثت في الشام ولكنهم شغلوا أيضاً

مرض نور الدين وإبلاله وتتمة فتوحه وهزيمته في

بما أصابهم من أضرارها في الساحل. وملك نور الدين بعلبك وقلعتها، وكانت بيد الضحاك البقاعي فامتنع بها فلم يمكن نور الدين محاصرته لقربه من الفرنج فتلطف معه حتى ملكها. وفيها كان انفساخ الهدنة بين الفرنج وملك مصر فبعث بسرية إلى غزة نهبت أطرافها وسارت إلى عسقلان فأسرت وغنمت وعادت بالغنائم إلى مصر، ثم سيّر عسكر آخر فمضى إلى الشريعة فأبلى بلاء حسناً، وندب مراكب في البحر فسارت إلى بيروت وغيرها فأوقعت بمراكب الفرنج فأسرت منهم وغنمت، وسيّر عسكر إلى الشوبك والطفيلة فعاثوا في أرجائهما ورجعوا بجر الحقائب يحملون الأسرى، وسير الأسطول المصري إلى عكا فأسر من أهلها نحو سبعمائة نفس بعد حروب، وندب سرية أردفها بأخرى فوصلت غاراتهم إلى أعمال دمشق فغنموا وعادوا. وملك الفرنج حصن حارم 553 وشنوا الغارة على الأعمال الشامية وأطلقوا أيديهم بالنهب والإخراب في أعمال حوران والإقليم، وقصدوا داريا وأحرقوا منازلها وجامعها وتناهوا في إخرابها، فخرج إليهم من العسكرية والأحداث العدد الكثير فهموا بالرجوع. وأغار عسكر نور الدين على أعمال صيدا وما قرب منها، فغنموا أحسن غنيمة وخرج إليهم من كان بها من خيالة الفرنج ورجالتها وقد كمنوا لهم فغنموهم وقتل أكثرهم وأسر الباقون. وتجمع الفرنج فنهض نور الدين للقائهم فانهزم هذه المرة نور الدين لتفرق عسكره وسار عسكر مصري إلى بيت المقدس فعاث وخرب، وجرت وقعة على طبرية انكسر فيها الفرنج وأقلعت خمس شوان من مصر فدوخت ساحل الشام وظفرت بمراكب الفرنج وعادت بالغنائم والأسرى. وفي سنة 554 حشد ملك الروم ووصل إلى الشام وجمع نور الدين عليه العساكر فعادوا من حيث أتوا وغنمهم المسلمون. مرض نور الدين وإبلاله وتتمة فتوحه وهزيمته في البقيعة: من أعظم البلاء على ممالك الإسلام قديماً مسألة وراثة الملك، فلم تكن قائمة على قاعدة ثابتة لا تتصل فيها إلا القوة، وصاحبها قد يحرم غيره ممن هم أقرب نسباً من السلطان المتوفى، فلقد مرض نور الدين 554 مرضاً شديداً وأرجف بموته بقلعة حلب فجمع أخوه أمير ميران بن زنكي جمعاً وحصر هذه القلعة وكان

شيركوه بحمص وهو من أكبر أمراء نور الدين فسار إلى دمشق ليستولي عليها. وبها أخوه نجم الدين أيوب، فأنكر عليه أيوب ذلك وقال: أهلكتنا والمصلحة أن تعود إلى حلب فإن كان نور الدين حياً خدمته في هذا الوقت، وإن كان قد مات، فإنا في دمشق نفعل ما نريد من ملكها، فعاد شيركوه إلى حلب مجدّاً، وجلس نور الدين في شباك يراه الناس، فلما رأوه حياً تفرقوا عن أخيه أمير ميران. ولما أبّل نور الدين من مرضه واستقامت الأحوال أخذ حران من أخيه لطمع هذا في ملك نور الدين عندما كاد الناس ييأسون من سلامته. وقصد صاحب صيدا 556 من الفرنج نور الدين محموداً ملتجئاً إليه فأمنه وسير معه عسكراً يمنعه من الفرنج أيضاً فظهر عليهم في الطريق كمين للفرنج فقتلوا من المسلمين جماعة وكان زهر الدولة بن بحتر التنوخي والياً على ثغر بيروت ومقيماً بحصن سرحمور فولاه نور الدين القنيطرة وثعلبايا بالبقاع وظهر الأحمر من وادي التيم وبرج صيدا والدامور والمعاصر الفوقانية وشارون ومجدل بعنا وكفرعميه ورتب له علائف لمحاربة الفرنج، وكان أبوه شرف الدولة قاطناً في عرمون الغرب فربط له طريق الدامور على الفرنج. نازل نور الدين 557 قلعة حارم وهي للفرنج مدة فاجتمع الفرنج وراسلوه ولاطفوه وكانوا خلقاً عظيماً فرحل عنها، ومن أعظم الوقائع التي أصيب بها نور الدين بالفشل أكثر من كل وقعة له مع الفرنج هزيمته 558 يوم البقيعة بينا كان نازلاً تحت حصن الأكراد فلم يشعر نور الدين وعسكره إلا وقد أطلت عليهم صلبان الفرنج وقصدوا خيمة نور الدين فركب نور الدين فرسه بسرعة وفي يده السّبحة فنزل إنسان كردي فقطعها فنجا نور الدين وقتل الكردي وسار نور الدين إلى بحيرة حمص فنزل عليها وتلاحق به من سلم من جيشه. وقد نقل سبط ابن الجوزي في تعليل هذه الكسرة بأنه لم يكن للمسلمين برك أثقال ولا طليعة ظناً من نور الدين أنهم لا يقدمون عليه قال: وكان ذلك من قلة الحزم حيث غفلوا عن العدو ولم يستظهروا بالبرك والطلائع قال: وكان من عزم الفرنج قصد حمص فلما بلغهم نزول نور الدين على البحيرة قالوا: ما فعل هذا إلا عن قوة، وتوقفوا ثم تفرقوا وخاطبوه بالصلح فلم يجبهم وتركوا عند حصن الأكراد من يحميه وعادوا إلى أرضهم.

حملة نور الدين على مصر:

ولما أصيب نور الدين يوم البقيعة استنجد أصحاب الموصل وماردين والحصن وذكر لهم ما تم عليه فأنجدوه بجيوش ضخمة وكانت سنة 559 كلها فتوحاً نافعة كان فيها مبدأ سعادة نور الدين، فتح فيها حارم وقتل بالقرب منها عشرة آلاف وأسر ألوفاً ومن جملتهم صاحب إنطاكية والقومس صاحب طرابلس والدوك مقدم الروم وكثر الأسرى من الفرنج حتى بيع الواحد بدينار ثم فاداهم نور الدين. وكان قد استفتى الفقهاء فقال قوم: يقتل الجميع وقال آخرون: يفادى بهم. فمال نور الدين إلى الفداء فأخذ منهم ستمائة ألف دينار معجلاً وخيلاً وسلاحاً وغير ذلك. فكان نور الدين يحلف بالله أن جميع ما بناه من المدارس والربط والمارستانات وغيرها من هذه المفاداة وجميع ما وقفه منها وليس فيها من بيت المال درهم واحد. قال المؤرخون: وكان الصليبيون جاءوا لنجدة حارم في حدهم وحديدهم وملوكهم وفرسانهم وقسوسهم ورهبانهم وكان الصليبيون استولوا على حارم سنة 491 وزادوا في تحصينها وجعلوها ملجأ لهم إذا شنوا الغارات فحاصرها نور الدين سنة 551 وسنة 557 ثم فتحها هذه السنة، وكانت قلعة حصينة في نحور المسلمين. وفي سنة 559 فتح نور الدين قلعة بانياس بعد عودته من حارم وكان الفرنج والأرمن على حارم ثلاثين ألفاً ووقع بيمند في أسره وباعه نفسه بمال عظيم أنفقه في الجهاد. حملة نور الدين على مصر: فتح نور الدين تلك الفتوح ورايته منصورة وسطوته محذورة، استصفى من ضعاف أمراء المسلمين ما اتصل إليهم بالإرث من الأقاليم فنزلوا له عنها طوعاً أو كرهاً، واقتصد في إهراق دماء المسلمين وأسرف في إزهاق أرواح الصليبيين، واسترجع من الأعداء مدناً وحصوناً مهمة جعلت إماراتهم الثلاث الباقية تهتز أعصابها، وتخاف بأس حملاته وغزواته، ولم يخامرهم شك وهم يستنشئون أخباره أنهم ابتلوا برجل وحّد قوى الشام وجمع القلوب ووجّهها إلى قتالهم واسترجاع القطر منهم. ولما تمّ له هذا وقع خلاف في مصر بين شاور وضرغام من وزرائها 559

وكانت غدت الوزارة في دولة الفاطميين أشبه بالوزارة في دولة العباسيين يتولاها من يستطيع أن يستجيش له أنصاراً وأعواناً. ولما استلب ضرغام من شاور وزارته وعجز في مصر عن مقاومته لحق بنور الدين صاحب الشام ليعينه على خصمه باذلاً له ثلث أموال مصر بعد رزق جندها إن هو أعاده إلى الوزارة. فرأى نور الدين أن معاونة الوزير المستنجد به لا تخلو من فائدة عظيمة أقلها أنها تفتح له سبباً إلى التدخل في شؤون مصر ربما أعقب استيلاءه عليها وضمها إلى مملكته أو تقاضي ما وعد به شاور من الأموال ينفقها في وجوه المصالح والمرافق في الدولة. فإرسال حملة على مصر محسوسة الفائدة لنور الدين بل للإسلام من عدة وجوه. اقتضى رأي نور الدين بعد تدبّر أمر مصر أن يندب لها رجلاً من أعظم رجاله دهاء وحنكة، فأرسل أسد الدين شيركوه بن شاذي وأصحبه بابن أخيه صلاح الدين يوسف، وكانت كفاية هذا أخذت تبدو لرجال الدولة واستخصه نور الدين وألحقه أي صاحب شرطتها بخواصه فكان لا يفارقه في سفر ولا حضر وكان في تلك السنة شحنة دمشق فأخاف اللصوص وقضى على نائره الفتن وفي تلك الفتن قال عرقلة الشاعر: ذر الأتراك والعَرَبا ... وكن في حزب من غلبا بجلّق أصبحت فتنٌ ... تجر الويل والحربا لئن تمت فوا أسفا ... وإن تخرب فواعجبا ذهبت الحملة إلى مصر وأعاد أسد الدين شيركوه الوزير شاوراً إلى وزارة العاضد العلوي، ولما قبض على زمام الوزارة لم يف لنور الدين بشيء مما شرط على نفسه، فشق ذلك على أسد الدين، وسار فاستولى على بلبيس والشرقية فأرسل شاور واستنجد بالفرنج على إخراج أسد الدين شيركوه من الديار المصرية فسار الفرنج واجتمع معهم شاور بعسكر مصر وحصروا شيركوه ببلبيس ثلاثة أشهر. وبلغ الفرنج ما أصابه نور الدين في الشام من التوفيق وأنه أخذ حارم فراسلوا شيركوه في الصلح وفتحوا له طريقاً فخرج من بلبيس يمن معه من العسكر وسار بهم ووصلوا إلى الشام سالمين. هذا ما كان من مبدإ دخول الجند النوري إلى مصر وما لقيه من الشدائد بمبدأ أن قائدهم عرف أمراضها وخللها واطلع على مداخلها ومخارجها، فكان إنجاد

نور الدين شاوراً واستنجاد هذا بالفرنج درساً نافعاً لدولة نور الدين أدركت به أنه لا سبيل إلى إنقاذ الشام إلا بالاستيلاء على مصر خصوصاً والفاطميون كانوا يخافون الفرنج خوفاً شديداً ولا يطيقون مقاتلتهم. كان هذا أيام كان لهم شيء من السلطان على النفوس وقوة على التناحر والتغادر فما بالك بهم وقد دب الضعف في كيان دولتهم وعبث العابثون بعزتها ومنعتها. وإلا كان نصيب خطته المرسومة في قتال الصليبيين عقيماً، لأن الروح الخبيث سرت لصغار الأمراء من المسلمين في الاعتصام بأعدائهم إذا ضاقت بهم حالهم وأتاهم سلطان أعظم من سلطانهم، ولئن كانت الشام قد تطهرت من جراثيم هؤلاء العمال بفضل الدولة النورية فمصر إذا استهانت بمقدساتها أيضاً يصبح البقاء في الشام خطراً دائماً. وبينا كان نور الدين يحرّق الأرّم على شاور وفي نفسه منه حزازات لأنه لم يف له بما وعده، واستعان على قتال جيشه بالصلبيين، عاد شاور على عادته يظلم ويقتل ويصادر ولم يبق للعاضد معه أمر ولا نهي فبعث يستنجد بنور الدين على شاور، فما عتم نور الدين أن جهز أسد الدين شيركوه ثانية 562 إلى مصر بعسكر جيد عدتهم ألفا فارس وأمر أيضاً أن يخرج معه ابن أخيه صلاح الدين يوسف إلى مصر فامتنع صلاح الدين وقال: يا مولانا يكفي ما لقينا من الشدائد. فقال: لا بدّ من خروجك، فما أمكنه مخالفة نور الدين. وكان في ذهاب صلاح الدين إلى مصر سعادته وسعادة أمته إذ فتح مصر وأصبح بعد ذلك ملك مصر والشام على ما سنلم به في الصفحات المقبلة. قال المؤرخون: أحب نور الدين مسير صلاح الدين إلى مصر وفيه ذهاب الملك من بيته، وكره صلاح الدين المسير وفيه سعادته وملكه. ورب زارع لنفسه حاصد سواه. فاستولى أسد الدين على الجيزة وأرسل شاور إلى الفرنج واستنجدهم فساروا في أثر شيركوه إلى جهة الصعيد فهزمهم واستولى شيركوه على إقليم الجيزة واستغلها ثم سار إلى الإسكندرية وملكها. وجعل أسد الدين ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب في الإسكندرية وعاد إلى الصعيد فاجتمع عسكر مصر والفرنج وحصروا صلاح الدين بالإسكندرية ثلاثة أشهر، فسار شيركوه إليهم فاتفقوا على الصلح على مال يحملونه إلى شيركوه ويسلم إليهم الإسكندرية ويعود إلى الشام، فتسلم المصريون الإسكندرية وعاد شيركوه إلى دمشق، واستقر الصلح بين الفرنج والمصريين على أن يكون للفرنج

بعض غزوات نور الدين:

بالقاهرة شحنة وتكون أبوابها بيد فرسانهم، ويكون لهم من دخل مصر كل سنة مائة ألف دينار. ولكن الحال في مصر لم يسر سيراً حسناً لأن الفرنج لم يخلصوا، ومن الخطأ الفاحش استنجاد شاور وزيرها بهم واستعانته بهم على إخراج أسد الدين شيركوه منها فأرسل الخليفة العاضد يستغيث بنور الدين 564 ثانية وكان الفرنج ملكوا بلبيس وحصروا القاهرة، فأحرق شاور مصر لئلا يملكها الفرنج وأمر أهلها بالانتقال إلى القاهرة وبقيت النار تحرقها أربعة وخمسين يوماً، وصانع شاور الفرنج على ألف ألف دينار. ولما قارب شيركوه مصر للمرة الثالثة هرب الفرنج وخلع عليه العاضد وأجرى عليه الإقامات، وماطله شاور فيما كان بذل لنور الدين من تقرير المال وإفراد ثلث خراج مصر، وعزم شاور أن يقبض على شيركوه فقبض العسكر النوري عليه وقتل، ودخل شيركوه القصر فخلع العاضد عليه خلع الوزارة ولقبه الملك المنصور أمير الجيوش وتولى شيركوه الأمر شهرين وخمسة أيام ثم هلك، فأحضر العاضد صلاح الدين وولاه الوزارة ولقبه بالملك الناصر، وثبتت قدم صلاح الدين بمصر أنه نائب لنور الدين، وتمكن منها وضعف أمر العاضد فكان لا يجري في القصر صغيرة ولا كبيرة إلا بأمر صلاح الدين، وأصبح يدعى له على منابر مصر بعد نور الدين. بعض غزوات نور الدين: ولم يغفل نور الدين في غضون ذلك عن الإثخان في الفرنج وإرهاف الحد في قتالهم، وقويت عزيمته بعد أن أخذ حارم وبانياس 559 على التقدم في فتوحه وكان كلما طالت أيامه أيقن أن القوة القليلة المنظمة أفعل من القوة الكبيرة المبعثرة. ولم ينغصه في عمله سوى مقاومة أحد اخوته أمير ميران له حتى اضطره إلى حربه فمضى أخوه أمير ميران إلى صاحب الروم وعفا عنه نور الدين. كأن السعادة التي أقبلت على هذا الفاتح من كل وجه أبت الطبيعة إلا أن تكدرها عليه بمشاكسة أحد اخوته له، وكان بالأمس لما أُرجف بموت نور الدين في حلب قام يطالب بمملكة أخيه فحاربه، واليوم يحمل أخاه على دفع عاديته ثم يتجاوز عما بدر من سيئاته.

قيام بني شهاب من حوران وحربهم الصليبيين:

وفي سنة 561 فتح نور الدين حصن المنيطرة وخرب قلعة اكاف في البرية وفتح العريمة وصافيتا وحاصر حلبة وخربها وحاصر عرقة وعصا عليه غازي بن حسان صاحب منبج فأعطاه الرقة. واجتمع بأخويه 562 قطب الدين وزين الدين بحماة للغزاة وساروا إلى بلاد الفرنج فخربوا هونين. وفي سنة 565 سارت الفرنج إلى دمياط وحصروها خمسين يوماً وشحنها صلاح الدين بالرجال والسلاح والذخائر وغرم على ذلك أموالاً عظيمة، وخرج نور الدين فأغار على كورهم بالشام فرحلوا عائدين على أعقابهم ولم يظفروا بشيء منها. وفيها سار نور الدين إلى الكرك وحاصرها فجمع ملوك الساحل فجاءوه فتأخر إلى البلقاء وقال بعضهم: إن الفرنج أغاروا على حوران وهم في جمع غلبت كثرته الخبر والعيان، ونزلوا في قرية شمسكين فركب نور الدين وهو نازل بالكسوة ثم نزلوا بالشلالة ونزل نور الدين في عشترا. وبينا هو في البلقاء حدثت زلزلة هائلة في الشام فخربت معظم أسوار الحصون ففرق عساكره في القلاع خوفاً عليها من العدو وكانت قلاعهم المجاورة لبعرين ولحصن الأكراد وصافيتا وعريمة وعرقة في بحر من الزلازل غرقى ولا سيما حصن الأكراد، فإنه لم يبق له سور وأغارت سرية لنور الدين 565 في بعلبك فانهزم الفرنج وعمهم القتل والأسر لم يفلت منهم إلا من لا يعتد به وقتل فيمن قتل رأس مقدم الاسبتار صاحب حصن الأكراد وكان من الشجاعة بمحل كبير وشجىً في حلوق المسلمين. وغزا نور الدين 566 الفرنج قرب عسقلان وعاد إلى مصر ثم حصر أيلة في العقبة المصرية بحراً وبراً وفتحها. وغزا عرقة 567 وفتحها وغنم الناس غنيمة عظيمة. واستولى نور الدين على صافيتا وعريمة عنوة، وقارب طرابلس وهو ينهب ويخرب ويحرق ويقتل وفعل جيشه في أرجاء إنطاكية مثل ذلك، فراجعه الفرنج وبذلوا له جميع ما أخذوه من المركبين اللذين خرجا هذه السنة من مصر إلى اللاذقية وأخذهما الفرنج وهما مملوءان من الأمتعة والتجارة، وكان بينهم وبين نور الدين هدنة فنكثوا وغدروا فلما خربت عمالتهم أذعنوا. قيام بني شهاب من حوران وحربهم الصليبيين: وفي سنة 568 كان قيام آل شهاب من حوران إلى وادي التيم قال الشهابي:

وكان الكبير منهم في ذلك الوقت الأمير منقذ، ولما عزموا على القيام جمع الأمير منقذ الأمراء من بيت شهاب ووجره القبيلة وقال لهم: أنتم تفهمون النفور الكائن بين السلطان نور الدين سلطان الديار الشامية والحلبية والسلطان صلاح الدين سلطان الديار المصرية ولا بد أن السلطان نور الدين يتمم ما ينويه وقد دس العساكر في حوران وتعلمون ما لنا عند السلطان صلاح الدين من المحبة والمنزلة الرفيعة وأنا أرى أنه يلزم علينا القيام من حوران قبل ظهور حال من تلك الأحوال، فلما سمع الحاضرون ما قاله الأمير منقذ قالوا له: هذا هو الصواب وليس فينا أحد يخالف مقالك، ثم عزموا على القيام وشدوا ظعونهم وحملوا أحمالهم، ورحلوا من حوران بعشائرهم وقصدوا غربي الديار الشامية ونزلوا حذاء الجسر اليعقوبي. ولما سمع السلطان نور الدين بقيام آل شهاب من حوران أرسل يسألهم عن السبب الداعي لقيامهم، وأرسل لهم الخلع والعطايا النفيسة، وطلب منهم أن يرجعوا إلى أوطانهم آمنين، فأبوا الرجوع بسبب خراب ديارهم، وطلبوا أن يسمح لهم بالذهاب إلى مكان آخر فسمح لهم بذلك، فنزلوا في وادي التيم وكان نزولهم في بيداء الظهر الأحمر من الكنيسة إلى الجديدة وكانوا في خمسة عشر ألفاً والأرض التي نزلوها تحت استيلاء الفرنج، فلما سمع هؤلاء بنزول آل شهاب جيشوا عليهم نحو خمسين ألفاً بين فارس وراجل. وكان بطريقهم الكبير يقال له قنطورا استمد من صاحب قلعة الشقيف فأمده بخمسة عشر ألفاً فالتقوا مع عسكر الفرنج ودام القتال ثلاثة أيام قتل من الفرنج ثلاثة آلاف ومن آل شهاب ثلاثمائة، ونقب بنو شهاب حيطان قلعة حاصبيا مدة عشرة أيام وأخذوا قنطورا وجماعته، وكانوا ثلاثمائة وقتلوهم وأرسلوا رؤوسهم إلى نور الدين فسر كل السرور وأعطى ذاك الإقليم لآل شهاب ملكاً لهم. ولما سمع صاحب قلعة الشقيف ما حل بالفرنج في حاصبيا أرسل للأمير منقذ يطلب منه الصلح. وهكذا أدى بنو شهاب خدمة عظيمة للدولة، قاموا لما شعروا بجفاء بين السلطانين نور الدين وصلاح الدين، والغالب أن صلاح الدين كان استمال قلوب رؤسائهم حتى لا يسهلوا لنور الدين طريق الحملة على صلاح الدين في مصر، فلما رأو أنهم لا قبل لهم بنور الدين عرجوا على وادي التيم فكان في ذلك خيرهم وخير دمشق خاصة لأنهم وقفوا في غربها وقفة محمودة وردوا عنها عادية الصليبيين.

الفتور بين نور الدين وصلاح الدين:

الفتور بين نور الدين وصلاح الدين: قلنا إنه حدث جفاء بين السلطانين والسبب فيه أنه لما قويت سلطة صلاح الدين في مصر وولي ملكها بعد مهلك عمه أسد الدين شيركوه وأصبح الآمر الناهي أرسل نور الدين إليه يأمره بقطع الخطبة العلوية وإقامة الخطبة العباسية، فراجعه صلاح الدين في ذلك خوف الفتنة، فلم يلتفت نور الدين إلى ذلك وأصر عليه فأمر صلاح الدين الخطباء أن يخطبوا للمستضيئ العباسي فامتثلوا، وكان العاضد قد اشتد مرضه فلم يعلمه أحد من أهله بقطع خطبته ولما هلك جلس صلاح الدين للعزاء واستولى على قصر الخلافة وعلى جميع ما فيه وكان شيئاً كثيراً جداً فقويت بذلك شوكته وأصبح ملك مصر حقاً وصدقاً. وضيق على آل الخليفة الفاطمي حتى لا يتطال أحدهم لدعوى الخلافة بعد العاضد واستدعى من الشام أباه واخوته، وكان نور الدين مع هذا لا يخاطبه تواً بل يخاطب أمراءه بمصر ومن جملتهم صلاح الدين، ولقد توطد ملك مصر لصلاح الدين والخطبة له فيها بعد نور الدين يدعى لهذا بعد الخليفة العباسي، وكلما مضى شهر يزداد نور الدين استيحاشاً من صلاح الدين مع أن صلاح الدين سد أبواب الشك على نور الدين، فقام بجميع رسوم التعظيم له، وكان معه كقائد مع سلطانه، وكان صلاح الدين نازل الشوبك وهي للفرنج ثم رحل عنه خوفاً أن يأخذه نور الدين، واعتذر بأنه ربما نشبت الفتنة في تغيبه عن مصر ودعا دعاة العبيديين إلى إرجاع دولتهم. ولما جاء نور الدين الكرك من قابل وحصرها 568 كان قد واعد نور الدين أن يجتمعا على الكرك وسار نور الدين من دمشق حتى وصل إلى الرقيم بالقرب من الكرك، فخاف صلاح الدين من الاجتماع بنور الدين واعتذر بمرض أبيه وأنه يخشى أن يموت فتذهب مصر، فقبل نور الدين عذره في الظاهر، وفي الواقع أن أيوباً والد صلاح الدين قضى نحبه في تلك المدة. كان في نفس كل من نور الدين وصلاح الدين شيء على صاحبه، فلم يخرج صلاح الدين بعساكره إلى الشام لحصار الكرك والشوبك ونهب أعمالها إلا لما أيقن أن نور الدين ابتعد عن سمت الشمال وقصد بلاد قليج أرسلان ملك الروم لفتح مرعش وبهسنا حتى لا

وفاة نور الدين وصفاته الطيبة:

يجتمع به. والسبب الذي دعا صلاح الدين إلى حصار الكرك والشوبك وقتل بعض العربان ونهب ديارهم هناك أن جماعة من الأعراب النازلين بأرض الكرك كانوا ينقلون الأخبار إلى الفرنج وإذا أغاروا على البلد دلوهم على مقاتل المسلمين. وكان الكرك والشوبك طريق الديار المصرية ويغير أهلها على القوافل منها فقصد تسهيل الطريق لتتصل البلاد بعضها ببعض. وكان صلاح الدين منذ تأيد سلطانه في مصر يخاف وآله من نور الدين، وكان استقدمهم إليه فاتفق رأيهم على تحصيل مملكة غير مصر وإذا قصدهم نور الدين في مصر قاتلوه، فإن هزمهم التجئوا إلى تلك المملكة، فجهز صلاح الدين أخاه توران شاه إلى النوبة فلم تعجبهم ثم سيره بعسكر إلى اليمن ففتحها واستقرت اليمن في ملك صلاح الدين يخطب فيها للخليفة العباسي ثم لنور الدين ثم لصلاح الدين على أن صلاح الدين لم يستطع إرسال العسكر من مصر لأول مرة إلا بعد استئذان نور الدين. فهذا وغيره من الأسباب التي أقلقت نور الدين على ملكه وحاذر أن تكون عاقبة هذا الأدب والخضوع انتزاع ملكه منه أو إنشاء صلاح الدين مملكة جديدة أعظم وأغنى من مملكة نور الدين القديمة. وفاة نور الدين وصفاته الطيبة: بينا صلاح الدين يحاذر من نور الدين وهذا يتجهز للدخول إلى مصر لأخذه أتى نور الدين اليقين، ومملكته الحقيقية لم تتعد الشام والجزيرة وخطب له بمصر واليمن والحرمين، ففرق الموت شمل من كان يتخوف أحدهما من صاحبه، وبكت الأمة الملك العادل نور الدين أبا القاسم محمود بن عماد الدين أتابك لما ظهر من عدله وحسن سيرته بحيث قلَّ في الملوك الغابرين أمثاله. قال ابن الأثير: قد طالعت تواريخ الملوك المتقدمين قبل الإسلام وفيه إلى يومنا هذا فلم أر بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز أحسن سيرة من الملك العادل نور الدين، ولا أكثر تحرياً للعدل والإنصاف منه، قد قصر ليله ونهاره على عدل ينشره، وجهاد يتجهز له، ومظلمة يزيلها، وعبادة يقوم بها، وإحسان يوليه، وإنعام يسديه، فلو كان في أمة لافتخرت به فكيف ببيت واحد، أما زهده وعبادته وعلمه فإنه كان مع سعة ملكه وكثرة ذخائر بلاده وأموالها، لا يأكل ولا يلبس ولا يتصرف فيما

يخصه إلا من ملك كان له قد اشتراه من سهمه من الغنيمة ومن الأموال المرصدة لمصالح المسلمين. أحضر الفقهاء واستفتاهم في أخذ ما يحل له من ذلك فأخذ ما أفتوه بحله ولم يتعده إلى غيره البتة. وأسقط كل ما يدخل في شبهة الحرام فما أبقى سوى الجزية والخراج وما يحصل من قسمة الغلات وكتب أكثر من ألف منشور بذلك. وأطلق المظالم بحلب ودمشق وحمص وغيرها وأسقط من دواوينه عن المسافرين الضرائب والمكوس وحرمها على كل متطاول إليها، فكان مبلغ ما سامح به في حلب وما إليها فقط في السنة 156 ألف دينار وما وقفه وتصدق به مائتي ألف دينار، وتقدير الحاصل من ارتفاعه في كل سنة ثلاثون ألف دينار، وأقطع أمراء العرب لئلا يتعرضوا للحاج وجدد قني السبل ووقف الكتب الكثيرة، وأجرى على العلماء والقراء. ولقد رأى أصحابه على ما روى ابن الأثير كثرة خرجه فقال له أحدهم: إن لك في بلادك إدرارات وصدقات كثيرة على الفقهاء والفقراء والصوفية والقراء فلو استعنت بها في هذا الوقت لكان أصلح فغضب من ذلك وقال: والله إني لا أرجو النصر إلا بأولئك فإنما أنتم ترزقون وتنصرون بضعفائكم. كيف أقطع صلات قوم يقاتلون عني وأنا نائم على فراشي بسهام لا تخطيء وأصرفها إلى من لا يقاتل عني إلا إذا رآني بسهام قد تصيب وقد تخطيء. وهؤلاء القوم لهم نصيب في بيت المال كيف يحل لي أن أعطيه غيرهم؟ وكان يأخذ مال الفداء ويعمر به الجوامع والبيمارستانات وأخذ من أحد ملوك الفرنج ثلاثمائة ألف دينار وشرط عليه أن لا يغير على ديار الإسلام سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام وأخذ منه رهائن على ذلك وبنى بالمال المستشفى النوري بدمشق، ولما بلغ الملك الفرنجي مأمنه هلك. وكان يبعث بما يصل إليه من هدايا وغيرها إلى القاضي يبيعه ويعمر به المساجد المهجورة ولا يتناول منه شيئاً، وأمر بإحصاء مساجد دمشق فأحصيت مائة مسجد فوقف الأوقاف على جميعها، وكانت وقوفه في الشام سنة وفاته 108 آلاف دينار صورية ليس فيها ملك فيه كلام بل حق ثابت بالشرع باطناً وظاهراً صحيح الشراء. وكان آية الرحمة على الفقراء والعدل في الرعية غضيضة عن الشر عينه ثقيلة عن الباطل قدمه. حضر جماعة من التجار عنده وشكوا أن القراطيس كان ستون منها بدينار وتزيد وتنقص فيخسرون فسأل الملك العادل عن كيفية الحال، فذكروا أن عقد المعاملة على اسم الدينار

ولا يرى الدينار في الوسط وإنما يعدون إلى القراطيس بالسعر تارة ستين بدينار وتارة سبعة وستين بدينار، وأشار كل واحد من الحاضرين على نور الدين أن يضرب الدينار باسمه وتكون المعاملة بالدنانير الملكية وتبطل القراطيس بالكلية، فسكت ساعة وقال: إذا ضربت الدينار وأبطلت المعاملة بالقراطيس فكأني ضربت بيوت الرعية. فإن كل واحد من السوقة عنده عشرة آلاف وعشرون ألف قرطاس، أي شيء يعمل به فيكون سبباً لخراب بيته. قالوا، والحق ما قالوا، إن نور الدين جدد للملوك اتباع سنة العدل والإنصاف، وترك المحرمات وعاقب من يأتيها، فإنهم كانوا قبل ذلك كالجاهلية همة أحدهم بطنه وفرجه، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، حتى جاء الله بدولته فكانت مصباح الحق ومنار العدل، وقف مع أوامر الشرع ونواهيه، وألزم بذلك أتباعه وذويه فاقتدى به غيره منهم، وكان يروي الحديث ويرويه، وقد ألف كتاباً في الجهاد، وكان يباشر الإشراف على خيل الجند وسلاحهم بنفسه، ولا يتكل على خواده، ولا يقطع أمراً قبل أن يستأذن الخليفة ببغداد. وكان في السياسة والدهاء على جانب عظيم، تجلى ذلك يوم خيانة مجير الدين صاحب دمشق ولما أخذه أغضى عنه، وكان يكره إهراق الدماء والحرب على غير طائل، مع شجاعة ليس بعدها مزيد ومعرفة بالرماية تضرب بها الأمثال، ومن جيد الرأي ما سلكه مع مليح بن قيون ملك الأرمن صاحب الدروب فإنه ما زال يخدعه ويستميله حتى جعله في لدمته سفراً وحضراً؛ وكان يقاتل به الفرنج ويقول: إنما حملني على استمالته أن بلاده حصينة وعرة المسالك، وقلاعه منيعة وليس لنا إليها طريق، وهو يخرج منها إذا أراد فينال من الإسلام، فإذا طُلب انحجز فيها فلا يقدر عليه، فلما رأيت الحال هكذا بذلت له شيئاً من الأقطاع على سبيل التآلف حتى أجاب إلى طاعتنا وخدمتنا وساعدنا على الفرنج. وكان متملك الروم خرج من القسطنطينية وتوجه إلى الشام طامعاً في تسلم إنطاكية فشغله عن مرامه بالمراسلة إلى أن وصل أخوه قطب الدين في جنده من المواصلة وجمع له الجيوش والعساكر، فأيس الرومي من بلوغ ما كان يرجو وتمنى منه الصلح فاستقر رجوعه إلى بلاده. وقال مترجموه: إنه كان يكثر إعمال الحيل والمكر والخداع مع الفرنج وأكثر ما ملكه من بلادهم بهذه الأساليب، أما أعماله في رد المظالم وتخفيف المغارم

فسيرته فيها سيرة عمرية، وأما إنشاؤه المدارس والجوامع وعمارة الطرق والجسور ودور المرضى والبائسين والخانات فمما لنم يسبق إليه، أقام الأبراج على الطرق بين المسلمين والفرنج جعل فيها من يحفظها ومعهم الطيور الهوادي أي الزاجل فإذا رأوا من العدو أحداً أرسلوا الطيور فأخذ الناس حذرهم واحتاطوا لأنفسهم، وبنى مكاتب للأيتام وأجرى عليها وعليهم وعلى معلميهم الجرايات الوافرة فصارت الشام بعد خلوها من العلم وأهله مقر العلم ومباءة الفقه. هذه حال ملك القرون الوسطى وحسن بلائه في خدمة أمته وهو يقاتل الأعداء في الغرب والجنوب، وقد فتح نيفاً وخمسين حصناً وأقام المعالم وهو مشتغل بحفظ الأوطان، لم يدخل اليأس على نفسه ولم يخامره الشك بأن العاقبة المحمودة تكون له وللمسلمين، وأنه سيظهر على عدوه فيدفعه عن حماه. مع أن مدة ملكه في الشام لم تتجاوز أربعاً وعشرين سنة. لا جرم أن ظهور بني زنكي نعمة أنعمت بها الأقدار على هذه الديار، فخرجت بها من انقسام الكلمة وتشتت الأهواء والآراء، ومن خيانة الملوك والأمراء، والاعتضاد بالمحاربين من الأعداء إلى تماسك وتعاضد، ومن ظلمة الجهل والغرور إلى ضياء العلم والنور، ومن سلب أموال الأمة إلى إمتاعها بالعدل الشامل والأمن الكامل. بسقت فروعها في أيسر زمن وأحرج العصور، فخطب الناس ودها في كل مكان وودوا لو كان لها الحكم عليهم، ورجا أولياؤها أن تطول أيامها لأنها لا تسوق الناس إلا إلى طرق فلاحهم وسعادتهم.

الدولة الصلاحية

الدولة الصلاحية من سنة 569 إلى سنة 589 أولية صلاح الدين والملك الصالح: توفي نور الدين محمود بن زنكي وكان له السلطان الأكبر على القلوب تحبه رعيته ويخافه أعداؤه ويحترمونه، وبعدله وسيرته وجميل سياسته وإداراته، وطد أساس ملكه، ووحد كلمة الشام ومصر والجزيرة، وأنشأ عظماء في دولته كانوا ساعده الأيمن وعضده الأقوى ففتحوا الفتوح باسمه ويُمن نقيبته، وصدروا كلهم عن رأيه ومشورته، ومن أعظمهم بل أعظمهم صلاح الدين يوسف بن نجم الدين أيوب. وأصل صلاح الدين من دوين بلدة في آخر عمل أذربيجان من جهة إيران وبلاد الكرج وهم أكراد زوادية وهي قبيلة كبيرة تعد من أشراف الأكراد، وانتقل أهله من هناك إلى العراق ثم عين نجم الدين أيوب والد صلاح الدين محافظاً لقلعة تكريت وفيها وُلد ابنه هذا، وكان نجم الدين أيوب بن شاذي حسن الخلق عادلاً شجاعاً كريماً ديناً محسناً ربي في الموصل ونشأ شجاعاً باسلاً وخدم السلطان محمد بن ملكشاه السلجوقي، فرأى منه أمانةً وعقلاً وسداداً وشهامة، فولاه قلعة تكريت فقام في ولايتها أحسن قيام، حتى عمرت أرضها وأمنت سبلها ثم أُضيفت إليه ولايتها، وكان نجم الدين عظيماً في أنفس الناس بالدين والخير وحسن السياسة، واتصل بنور الدين محمود فكان من جملة قواده ونوابه. وهذا الرجل العظيم هو الذي أولد رجلاً أعظم وهو صلاح الدين. وكأن الزمن العصيب الذي ظهر فيه ظهير الدين ثم نور الدين ثم صلاح الدين كان يتطلب ملوكاً كفاة أثبتوا بالعمل مقدرتهم السياسية والحربية، وأبرزوا

من آثار نجدتهم وجلادتهم ما تطأطىء أمامه الرؤوس فلا يصفق الناس لهم زوراً ورياء ولا يدعون لهم على المنابر بما لا يقبل ولا يسمع إن لم يكن بين جنوبهم نفوس عالية ممتازة قلَّ في طبقة قواد الأمم مثلها. ولم يبق في الحقيقة بعد نور الدين من يصلح لهذا الأمر مثل صلاح الدين لأنه أنبغ رجاله وأكبرهم مقاماً وشأناً وأقربهم إلى قلوب الأمة، وهو ملك مصر حقاً، ومن ملك مصر كان حرياً بأن يملك الشام، خصوصاً والشام يحبه، لما بدا من غنائه ومضائه في نصرة الملة والدولة. ولكن نور الدين قد خلف ولداً يقضي قانون الوراثة في الملوك في تلك الأعصر بأن يرث الابن ملك أبيه كما يرث قصره ومزرعته مهما كانت سنه، ويتولى رجال الدولة أمره ويكفله من يعطفون على دولته ومن غذوا بنعمة أبيه وآله، بيد أن الحالة السياسية في الشام ومصر وما إليهما من الممالك كانت بحيث يقتضي الشذوذ عن هذه القاعدة ولو إلى حين، فيوسد الملك إلى من جمعت أشخاصهم الكفاءة قبل كل شيء لتخرج المملكة من مأزقها الحرج، وهذا لا يتيسر أن ينهض به ولد يافع بلغ من العمر إحدى عشرة سنة، ونعنى به ابن نور الدين الملك الصالح إسماعيل. فانظر كيف تصرفت الأقدار بما فيه الخير، ولم تترك مصالح الدولة للأصُول السخيفة في توسيد الملك للكبير والصغير على السواء. توفي في دمشق نور الدين في سنة 569 وبالحال ملك ابنه الصالح إسماعيل وحلف له العسكر بدمشق وأطاعه صلاح الدين وخطب له بمصر وضرب السكة باسمه، ودبر دولته شمس الدين بن المقدم من أعظم أُمراء أبيه، واستولى سيف الدين غازي شقيق نور الدين محمود على الديار الجزرية وهي لنور الدين، وكان صلاح الدين في مصر، فجعل الملك للملك الفتى كما كان لأبيه من قبل. بيد أنه من المتعذر إدارة المملكة في ذاك العصر إذا لم يحكمها رجل عظيم استوفى شروط الحكم، فيصدر عن رأي واحد يمحضه أولاً بمشورة رجال دولته ويكون هو المرجع فيه والمسؤول عنه، يهتم لملكه اهتمامه بابنه وابنته، وهل يتيسر ذلك إذا تشعبت الآراء. وكان صاحب الملك الرسمي قاصراً وأوصياؤه يدبرونه وربما كان فيهم من تطمح نفسه إلى الاستئثار بالسلطة، ومتى كان الوكيل كالأصيل، والمتنفل كالمكلف: ممالكٌ لم يدبرها مدبّرها ... إلا برأي خصيِّ أو بعقل صبي

اختلاف الآراء واستيلاء صلاح الدين على الشام:

اختلاف الآراء واستيلاء صلاح الدين على الشام: ولما بدأت نواجذ الاختلاف تبدو بين الأمراء في الشام شعر صلاح الدين وهو بمصر أن هذا الفراغ الذي حدث بموت نور الدين يستلزم أن يملأه رجل تجمع القلوب على حبه، وأن يصل السلسلة المقطوعة بمهلكه وإلا انفرط العقد كله، وتصبح الديار فوضى وتفتح أبوابها على مصاريعها لدخول الدخلاء يستصفونها وتصبح بالشقاق الداخلي أبشع صورة مما كانت على عهد أواخر الدولة الأتابكية أخلاف الأتابك ظهير الدين. واتفق نزول الفرنج بعد وفاة نور الدين على الثغر وقصدهم بانياس فخرج إليهم شمس الدين بن المقدم وراسل الفرنج وخوفهم بقصد صلاح الدين لأرضهم وقال لهم: أنتم تعلمون أن صلاح الدين كان يخاف لأن يجتمع بنور الدين، والآن فقد زال ذلك الخوف وإذا طلبناه إلى بلادكم لا يمتنع، فعلموا صدقه وصالحوه، وتكلموا في الهدنة وحصلوا بقطيعة استعجلوها واستطلقوا عدة من أُساراهم وتمت المصالحة. وفي تهديد ابن المقدم للفرنج بصلاح الدين أعظم دليل على مكانته في قلوب رجال الدولة وأن الصليبيين عرفوا أنهم ابتلوا بداهية لا يقل عن نور الدين بحسن تدبيره وشجاعته. بلغ صلاح الدين ما تم بين ابن المقدم والفرنج فأنكره ولم يعجبه، وكتب إلى جماعة الأعيان كتاباً يقرعهم فيه ويلومهم، ويقول إنه تجهز وخرج وسار أربع مراحل ثم جاءه الخبر بالهدنة المؤذنة بذل الإسلام فعاد إلى مقره. وقد استصغر أمر أهل الشام وعلم ضعفهم وقال: إن استمرت ولاية هؤلاء تفرقت الكلمة المجتمعة، وضاقت المناهج المتسعة، وانفردت مصر عن الشام. قال ابن شداد: لما تحقق صلاح الدين وفاة نور الدين وكون ولده طفلاً لا ينهض بأعباء الملك، ولا يستقل بدفع العدو عن البلاد تجهز للخروج إلى الشام إذ هو أجلُّ بلاد الإسلام. وقد كان صلاح الدين ينوي أن يتولى تربية ابن مخدومه نور الدين وكتب: إن الوفاء إنما يكون بعد الوفاة، والمحبة إنما تظهر آثارها عند تكاثر أطماع العداة. ولكن الأمراء في الشام أخذ كل منهم يعمل على شاكلته، ويريد أن يستأثر بالأمر دونه وهو أحق منهم وأولى.

ثم إن شمس الدين بن الداية مقدم العساكر المقيم بحلب ورضيع نور الدين وأكبر أُمرائه أرسل سعد الدين كمشتكين إلى دمشق يستدعي إلى حلب الملك الصالح بن نور الدين ليكون مقامه بها، ولما استقر بحلب وتمكن كمشتكين قبض على شمس الدين بن الداية واخوته وعلى الرئيس ابن الخشاب وإخوته، واستبد سعد الدين بتدبير الملك الصالح مخافة ابن المقدم وغيره من الأمراء الذين بدمشق، وكاتبوا صلاح الدين في مصر واستدعوه ليملكوه عليهم 570 فسار صلاح الدين جريدة في سبعمائة فارس فوصل إلى بصرى وكان صاحبها يستحثه على القدوم، ولما بلغ دمشق خرج كل من كان بها من العسكر والتقوه وخدموه، وعصت عليه القلعة وكان فيها من جهة الملك الصالح خادم اسمه ريحان فراسله صلاح الدين واستماله فسلم القلعة إليه، فصعد إليها صلاح الدين وأخذ ما فيها من الأموال. ثم كتب إلى الملك الصالح بن نور الدين كتاباً يتواضع له فيه ويخاطبه بمولانا وابن مولانا ويقول: إنما جئت من مصر خدمة لك لأؤدي ما يجب من حقوق المرحوم، فلا تسمع ممن حولك فتفسد أحوالك وتختل أُمورك، وما قصدي إلا جمع كلمة الإسلام على الفرنج. فعرض الملك الصالح ذلك على أُمراء دولته فأشاروا عليه بأن يكاتبه بالغلظة فكتب إليه منكراً عليه، وينسبه إلى كفر النعمة وجحد إحسان والده ووعده وهدده فساء ذلك صلاح الدين وأغضى على القذى وكظم غيظه. ولما قرر صلاح الدين أمر دمشق استخلف بها أخاه سيف الإسلام طغتكين بن أيوب وسار إلى حمص وكانت حمص وحماة وبارين وسلمية وتل خالد والرُّها في إقطاع فخر الدين مسعود بن الزعفراني فلما مات نور الدين لم يمكن فخر الدين المقام بحمص وحماة لسوء سيرته مع الناس، وكانت هذه العمالة له بغير قلاعها فإن قلاعها كان فيها ولاة لنور الدين وليس لفخر الدين معهم في القلاع حكم الإبارين، فملك صلاح الدين مدينة حمص وعصت عليه القلعة فترك عليها من يضيق عليها ودكوها ورحل إلى حماة فاستغاث صاحبها بالإسماعيلية وأعطاهم ضياعاً ومالاً ليستعين بهم على صلاح الدين، فلم يلبث أن ملك مدينة حماة وكان بقلعتها عز الدين جرديك أحد المماليك النورية فامتنع في القلعة فذكر له صلاح الدين أنه ليس له غرض سوى حفظ البلاد للملك الصالح إسماعيل وإنما هو نائبه، وقصده من جرديك المسير إلى حلب في رسالة فاستخلفه جرديك على ذلك

تملك صلاح الدين ومحاولة اغتياله وسر نجاحه:

وسار إلى حلب برسالة صلاح الدين واستخلف في قلعة حماة أخاه، فلما وصل جرديك إلى حلب قبض عليه كمشتكين وسجنه، فلما علم أخوه بذلك سلم قلعة حماة إلى صلاح الدين، ثم سار هذا إلى حلب وحصرها وبها الملك الصالح إسماعيل، فجمع أهل حلب وقاتلوا صلاح الدين وصدوه عن مدينتهم، وأرسل سعد الدين كمشتكين إلى سنان مقدم الإسماعيلية أموالاً عظيمة ليقتلوا صلاح الدين فأرسل سنان جماعة فوثبوا بصلاح الدين فقتلوا دونه، واستمر صلاح الدين محاصراً لحلب ورحل عنها بسبب نزول الفرنج على حمص، فعاد إليهم فرجعوا أدراجهم، ووصل صلاح الدين إلى حمص فحصر قلعتها وملكها ثم سار إلى بعلبك فملكها. تملك صلاح الدين ومحاولة اغتياله وسر نجاحه: ولما استقر ملك صلاح الدين أرسل الملك الصالح إلى ابن عمه سيف الدين غازي صاحب الموصل يستنجده على صلاح الدين فجهز جيشه، وطلب أخاه الأكبر عماد الدين زنكي بن مودود صاحب سنجار ليسير في النجدة أيضاً فامتنع مصانعة لصلاح الدين، ووصل عسكر الموصل وانضم إليه عسكر حلب وساروا إلى صلاح الدين، فأرسل صلاح الدين يبذل حمص وحماة وأن تقر بيده دمشق، وأن يكون فيها نائباً للملك الصالح، فلم يجيبوا إلى ذلك وساروا إلى قتاله، واقتتلوا عند قرون حماة فانهزم عسكر الموصل وحلب، وحينئذ قطع صلاح الدين خطبة الملك الصالح بن نور الدين وأزال اسمه عن السكة واستبد بالسلطنة فراسلوا صلاح الدين في الصلح على أن يكون له ما بيده من الشام، وللملك الصالح ما بقي بيده منه، فصالحهم على ذلك ورحل ثم ملك قلعة بارين كما صالح بني رزيك على أن يكون له إلى حد المعرة ولهم ما يلي ذلك فنقض الحلبيون الصلح الذي كان بينهم وبين صلاح الدين وجاء سيف الدين غازي في عساكر الموصل وديار بكر وحلب وعدتهم عشرون ألفاً بين فارس وراجل، وعسكر صلاح الدين ستة آلاف عدا ما جاء بعد من مصر. وقال رسول سيف الدين لصلاح الدين إنه رأى صلاح الدين في خيمة صغيرة على بساط لطيف وتحته سجادة وبين يديه مصحف وهو مستقبل القبلة وإلى جانبه زرديته وسيفه وقوسه وتركاشه جعبته معلق في عمود الخيمة،

فلما رأيته وقع في خاطري أنه المنصور لأنني فارقت سيف الدين والأمراء وهم على طنافس الحرير والخمور تراق والطبول تعمل، وليس في خيامهم خيمة إلا وفيها أنواع المحرمات، فأديت إليه الرسالة وجاء وقت الظهر فضج العساكر بصوت الآذان وفي كل خيمة إمام. قال سبط ابن الجوزي: إن صلاح الدين لما هزم جيش سيف الدين عاد إلى خيامهم فوجد سرداق سيف الدين مفروشاً بالرياحين، والمغنون جلوس في انتظاره، والخمور تراق ومطابخه بقدورها، وفيه أقفاص الطيور فيها أنواع من القماري والبلابل والهزارات، فأرسل صلاح الدين بما كان في السرداق من المغنين والخمور والطيور إليه وقال للرسول: قل له اشتغالك بهذا أليق من مباشرتك الحروب ولا تعد إلى مثلها. وكان هذا المصاف بين السلطان صلاح الدين وسيف الدين غازي في سنة 571 فهرب سيف الدين والعساكر التي كانت معه وكان استنجد بعد هزيمته في قرون حماة بصاحب حصن كيفا وصاحب ماردين وغيرهما ثم سار صلاح الدين إلى بزاعة فحصرها وتسلمها وقصد منبج فحصرها وافتتحها عنوة. ولما جلس يستعرض أموال صاحبها وذخائره كان في جملة أمواله ثلاثمائة ألف دينار ومن الفضة والآنية الذهبية والأسلحة ما يناهز ألفي ألف دينار، فحانت من السلطان التفاتة فرأى على الأكياس والآنية مكتوباً يوسف فسأل عن هذا الاسم فقيل له: ولد يحبه ويؤثره اسمه يوسف كان يدخر هذه الأموال له فقال السلطان: أنا يوسف وقد أخذت. خبيء فتعجب من ذلك رواه ابن أبي طي. ثم سار السلطان إلى عزاز ونازلها وتسلمها فوثب إسماعيلي على صلاح الدين في حصاره عزاز فضربه بسكين في رأسه فجرحه فأمسك صلاح الدين يدي الإسماعيلي وبقي يضرب بالسكين فلا يؤثر حتى قتل الإسماعيلي على تلك الحال ووثب آخر عليه فقتله أيضاً وجاء السلطان إلى خيمته مذعوراً وعرض جنده وأبعد من أنكره منهم. وهكذا فإن صاحب حلب أو نائبه أو جماعة دولته، وصاحب حماة أو نائبه أو حملة غاشيته صمموا على اغتيال صلاح الدين بأيدي الخوارج حرصاً على ملك قد يسلم لهم فيستمتعون به زمناً أو لا يستمتعون، ولو وفقوا إلى قتله لقتلوا به أمة بأسرها حتى يعيشوا سنين في دعة ومجد، وما أكثر الأدعياء في كل زمن في حب دينهم وقوميتهم، فإذا لم ينالوا رغائبهم ساروا على العمياء لحظ أنفسهم فقط.

وبعد تسليم عزاز لصلاح الدين جاء حلب فحاصرها وبها الصالح بن نور الدين فسألوا صلاح الدين في الصلح فأجابهم إليه وسألوه قلعة عزاز فسلمها إليهم، ورفع على حلب علمه الأصفر، ورحل عنها في المحرم 572 ورجع من كورة الإسماعيلية وحصر قلعة مصياف، فسأله خاله شهاب الدين الحارمي صاحب حماة الصفح عنهم بسؤال سنان فرحل عنهم إلى مصر، وسنان هذا هو أبو الحسن سنان بن سليمان بن محمد الملقب راشد الدين صاحب قلاع الإسماعيلية ومقدم الفرقة الباطنية بالشام وإليه تنسب الطائفية السنانية وهو الذي كتب إلى صلاح الدين جواب كتاب كان هدده فيه على ما نقل ذلك ابن خلكان وافتتحه بقوله: يا ذا الذي بقراع السيف هدَّدنا ... لا قام مصرع جنبي حين تصرعه قام الحمام إلى البازي يهدّده ... واستيقظت لأسود البرّ أَضْبُعه أَضحى يسدّ فم الأفعى بإصبعه ... يكفيه ما قد تلاقي منه إصبعه ثم أردف هذه الأبيات بكتاب كله تهديد لصلاح الدين وقد كتب إليه مرة أخرى: بنا نلت هذا الملك حتى تأثلت ... بيوتك فيها واشمخرَّ عمودها فأصبحت ترمينا بنبلٍ بنا استوى ... مغارسها منا وفينا حديدها وفي ذلك بيان لقوة الإسماعيلية في عصر صلاح الدين وكانوا يتهددونه كما يتهددهم ولذلك كان يغضي في الغالب عنهم وإن حاولوا اغتياله غير مرة. ولما بلغ عسقلان 573 وشن الغارات على الفرنج طلعوا عليه وهو في بعض العسكر فقاتلهم أشد قتال، وقاربت حملات الفرنج السلطان فانهزم إلى مصر على البرية ومعه من سلم، فلقوا مشقة وعطشاً وأسر الفرنج العسكر المتفرق في الإغارة، وأسر الفقيه عيسى من أكبر أصحاب صلاح الدين فافتداه بعد سنين بستين ألف دينار هذا مع أن جيش صلاح الدين كان نحو عشرين ألفاً وقعت الكسرة عليهم لأنهم كانوا متفرقين في الغارات وكسروا ومعظمهم لم يعلم بالهزيمة. وفي هذه السنة حصر الفرنج حماة طمعاً بهزيمة صلاح الدين وبعده وكادوا يمكلونها فجد المسلمون في القتال ثم رحلوا عنها إلى حارم. وفيها قبض الملك الصالح على كمشتكين متغلباً على الأمر وكانت له حارم فعذب كمشتكين وأصحابه ليسلموا

فتوح صلاح الدين ووفاة الملك الصالح:

قلعة حارم فأصروا على الامتناع حتى مات من العذاب، ووصل الفرنج من حصار حماة، وحصروا حارم أربعة أشهر فداراهم الصالح بمال فرحلوا عنها بعد بلوغ أهلها الجهد، ثم أرسل الملك الصالح عسكراً فحصروها وملكوها. فتوح صلاح الدين ووفاة الملك الصالح: أرسل صلاح الدين 574 إلى شمس الدين بن المقدم ليسلم بعلبك إلى توران شاه فعصى بها فحصروه صلاح الدين تسعة أشهر ثم عوض عنها وسلمها إلى توران شاه 575 وبعث السرايا والغارات إلى أرض الفرنج بعد موت ملكهم، وكان هذا يريد أن يغير على دمشق فأخذه رجال صلاح الدين وأسروه وغنموا ما مع جماعته، وفتح صلاح الدين حصناً كان بناه الفرنج عند مخاضة الأحزان بالقرب من بانياس، وكان الفرنج انتهزوا فرصة مقام صلاح الدين على بعلبك واشتغاله بأمرها فبنوا حصناً على مخاضة بيت الأحزان وبينه وبين دمشق مسافة يوم وبينه وبين صفد وطبرية نصف يوم، فراسل السلطان الفرنج في هدمه فأجابوا أنه لا سبيل إلى هدمه إلا أن يعطينا ما غرمنا عليه فبذل لهم السلطان ستين ألف دينار فامتنعوا فزادهم إلى أن بلغ مائة ألف دينار، وكان الداوية أصحاب الحصن يقطعون هناك الطرق على القوافل فخربه المسلمون، وكانت الحرب بين عسكر صلاح الدين ومقدمهم ابن أخيه تقي الدين عمر وبين عساكر قليج أرسلان يبن مسعود صاحب الروم، وسببها أن حصن رعبان كان بيد شمس الدين بن المقدم فطمع فيه قليج أرسلان وأرسل إليه عسكراً كثيراً ليحصروه وكانوا قريب عشرين ألفاً فسار إليهم تقي الدين في ألف فارس فهزمهم وكان تقي الدين يفتخر ويقول هزمت بألف عشرين ألفاً. وفي هذه السنة أحرق الإسماعيلية أسواق حلب وافتقر أهلها بذلك وكانت إحدى الجوائح التي أصابت الشهباء وسكانها. وسار صلاح الدين 576 إلى مملكة قليج أرسلان صاحب الروم ووصل إلى رعبان ثم اصطلحوا فقصد صلاح الدين ولاية ابن ليون الأرمني وشن فيها الغارات فصالحه ابن ليون على مال حمله وأسرى أطلقهم. وفي سنة 577 عزم صاحب الكرك الفرنجي على المسير إلى المدينة المنورة للاستيلاء على تلك النواحي، وسمع ذلك عز الدين فرخشاه نائب عمه صلاح

الدين بدمشق فقصد الكرك وأقام عليها، ففرق صاحب الكرك جموعه وانقطع عزمه عن الحركة. وفي هذه السنة توفي الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين وعمره نحو 19 سنة وأوصى بملك حلب إلى ابن عمه عز الدين مسعود صاحب الموصل فسار إليها بعد موت الصالح ومعه مجاهد الدين قيماز واستقر في ملكها فكاتبه أخوه زنكي بن مودود صاحب سنجار على أن يعطيه حلب ويأخذ سنجار وأشار قيماز بذلك فأجاب وعاد إلى الموصل. قال ابن الأثير: إن بعضهم قال للملك الصالح وهو يوصي بالملك بعده: إن عماد الدين ابن عمك أيضاً وهو زوج أختك وكان والدك يحبه ويؤثره وهو تولى تربيته وليس له غير سنجار فلو أعطيته البلد حلب لكان أصلح ولعز الدين من الفرات إلى همذان ولا حاجة به إلى بلدك فقال له: إن هذا لم يغب عني ولكن قد علمتم أن صلاح الدين قد تغلب على عامة الشام سوى ما بيدي، ومتى سلمت حلب إلى عماد الدين فعجز عن حفظها ملكها صلاح الدين ولم يبق لأهلنا معه مقام، وإن سلمتها إلى عز الدين أمكنه حفظها بكثرة عساكره وأرضه فاستحسنو قوله وعجبوا من جودة فطنته مع شدة مرضه وصغر سنه. وفي سنة 578 قصد صلاح الدين الشام من مصر وأغار في طريقه على الفرنج وغنم، واجتمع الفرنج قرب الكرك ليكونوا على طريقه لما سار، فانتهز فرخشاه نائب صلاح الدين بدمشق الفرصة وفتح بعسكر الشام الشقيف وأغار على ما يجاوره وفتح دبورية وجاء إلى شقيف حبس جلدك بالسواد من أعمال طبرية وهو حصن يشرف على أرض المسلمين ففتحه. ونزل صلاح الدين قرب طبرية وشن الغارات على بيسان وجنين واللجون والغور من مملكة الفرنج حتى بلغت عساكره مرج عكا فغنم وقتل وحصر بيروت وأغار على تلك الأرجاء ونهب بلدها وكان قد أمر الأسطول المصري بالمجيء في البحر إليها فساروا ونازلوها وأغاروا عليها وعلى بلدها، وكان عازماً على ملازمتها إلى أن يفتحها فأتاه الخبر وهو عليها أن البحر قد ألقى إلى دمياط بطسة للفرنج فيها جمع عظيم منهم كانوا قد خربوا لزيارة بيت المقدس فأسروا من بها بعد أن غرق منهم كثير، فكان عدة الأسرى 1676 أسيراً. ثم عبر السلطان الفرات إلى البيرة فصار معه مظفر الدين كوك بوري صاحب حران واستمال ملوك الأطراف فصار معه نور الدين محمد بن

قرا أرسلان صاحب حصن كيفا وحاصر الرها وملكها وسلمها إلى كوك بوري ثم أخذ الرقة وقرقيسيا وماكسين وعربان والخابور جميعاً ثم ملك نصيبين وقلعتها ثم حصر الموصل وبها صاحبها عز الدين مسعود ومجاهد الدين قيماز وقد شحنت رجالاً وسلاحاً وحاصر سنجار وملكها وأتاه الخبر أن الفرنج قصدوا دمشق ونهبوا القرى ووصلوا إلى داريا وأرادوا تخريب جامعها فأرسل النائب بدمشق إليهم جماعة من النصارى يقول لهم: إن أخربتم الجامع جددنا عمارته وأخربنا كل بيعة لكم في أرضنا ولا نمكن أحداً من عمارتها فتركوه. قصد الفرنج المقيمون بالكرك والشوبك المسير لمدينة الرسول لينبشوا قبره الشريف وينقلوا جسده الكريم إلى بلادهم ويدفنوه عندهم ولا يمكنوا المسلمين من زيارته إلا بجعل فأنشأ البرنس أرناط صاحب الكرك أسطولاً في بحر أيلة العقبة وجعله فرقتين فرقة حصرت حصن أيلة وفرقة سارت نحو عيذاب يفسدون في السواحل بغتة، ولم يعهد بهذا البحر فرنج قط، فعمر الملك العادل أبو بكر بن أيوب نائب الناصر بمصر أسطولاً في بحر عيذاب وأرسل به مع حسام الدين لؤلؤ الحاجب متولي الأسطول بمصر، فأوقع لؤلؤ بمحاصري أيلة فقتل وأسر، ثم طلب الفرقة الثانية وقد عزموا على دخول المدينة ومكة فبلغ رابغ، فأدركهم بساحل الحوراء وقاتلهم أشد قتال فقتل أكثرهم وأسر الباقين وأرسل بعضهم إلى منى لينحروا بها وعاد بالباقين فقتلوا عن آخرهم بمصر. وملك صلاح الدين آمد 579 وكان وعد بها محمد بن قرا أرسلان صاحب حصن كيفا وسقط فيها على خزانة كتب فيها ألف ألف وأربعون ألف كتاب فوهبها لوزيره القاضي الفاضل فانتخب منها حمل سبعين جملاً، وكان فيها من الذخائر ما يساوي ثلاثة آلاف ألف دينار، فوهبها لابن قرا أرسلان هذا، فلما قيل له في ذلك قال: لا أضن عليه بما فيها من الأموال فإنه قد صار من أتباعنا وأصحابنا ونحن إنما نريد أن يسير الناس معنا على قتال الأعداء فقط، وليس قصدنا من الفتح البلاد بل العباد، هذا وبعد مدة قلّ المال لنفقة الجند فاستدان صلاح الدين من أخيه العادل 150 ألف دينار لإطعامهم. وفتح صلاح الدين تل خالد من أعمال حلب ثم عينتاب ثم تسلم بعد المحاصرة حلب من زنكي بن مودود وأعطاه سنجار، وشرط عليه الحضور إلى خدمته بنفسه وعسكره إذا

استدعاه، ولا يحتج بحجة عن ذلك. ومن الاتفاقات العجيبة أن محيي الدين بن الزكي قاضي دمشق مدح السلطان بقصيدة منها: وفتحكم حلباً بالسيف في صفرٍ ... مبشرٌ بفتوح القدس في رجب فوافق فتح القدس في رجب سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة. ثم سار صلاح الدين من حلب بعد أن تسلم حارم ونظم أمر تلك الأرجاء وتجهز من دمشق فأحرق بيسان وشن الغارات على تلك النواحي وأرسل إلى أخيه العادل بمصر أن يلاقيه إلى الكرك فاجتمعا عليها وحصراها ثم رحلا عنها. وسار في السنة التالية 580 من دمشق فنازل الكرك وكتب إلى مصر فسار إليه عساكرها فضيق على من به وملك ربض الكرك، ولم يتيسر له الاستيلاء على قلعتها فرحل عنها لامتناعها عليه، فسار إلى نابلس وأحرقها ونهب ما بتلك النواحي وقتل وأسر وسبى فأكثر ثم سار إلى سبسطية فاستنقذ من بها من أسرى المسلمين. وفي سنة 581 حصر الموصل مرة ثانية فسير أتابك عز الدين صاحبها والدته ومعها ابنة عمه نور الدين محمود وغيرهما من النساء وجماعة من أعيان الدولة يطلبون المصالحة وكل من عنده ظنوا أنهن إذا طلبن منه الشام أجابهن إلى ذلك لا سيما ومعهن ابنة مخدومه وولي نعمته نور الدين فلما وصلن إليه اعتذر بأعذار غير مقبولة وأعادهن خائبات فأسف العامة لرده النساء، وندم صلاح الدين بعد ذلك على ردهن، وجاءته كتب القاضي الفاضل وغيره يقبحون فعله وينكرونه. وسار صلاح الدين عن الموصل إلى خلاط وملك ميافارقين. وغزا صاحب الكرك 582 وأسر قافلة من المسلمين فطلبهم السلطان بحكم الهدنة فأبى فنذر صلاح الدين قتله بيده. وكان أرنلط من أغدر الفرنجة وأنقضهم للمواثيق المحكمة والأيمان المبرمة. وكان كفيل القومص صاحب طرابلس قد حنق على جماعته الفرنج لأن زوجة ريمند بن ريمند الصنجيلي هويت رجلاً من الفرنج اسمه كي وأخرجت كفيل ابنها من ملك طرابلس وكان طمع فيه، فراسل صلاح الدين وانتمى إليه واعتضد به، وطلب منه المساعدة على بلوغ غرضه من الفرنج، ففرح صلاح الدين والمسلمون بذلك ووعده النصرة والسعي له في كل ما يريد، وضمن له أن يجعله ملكاً مستقلاً للفرنج قاطبة، وكان عنده جماعة من فرسان القومص فأطلقهم، فحل ذلك عنده أعظم محل، وأظهر طاعة صلاح الدين ووافقه على ما فعل جماعة من الفرنج فاختلفت كلمتهم. قال صاحب الكامل:

وقعة حطين وفتح فلسطين:

وكان ذلك من أعظم الأسباب الموجبة لفتح بلادهم واستنقاذ البيت المقدس منهم. وقعة حطين وفتح فلسطين: كانت سنة 583 سنة مباركة جداً على صلاح الدين وعلى المسلمين، كما كانت عليه سنة 564 بفتح مصر وإنقاذها من أيدي الفاطميين. ضرب صلاح الدين الفرنج ضربة لم ينلهم مثلها منذ وطئوا أديم الشام سنة 491 فبدأ بمضايقة الكرك 583 خوفاً على الحجاج من صاحبها فأخرب كما قال من رسالة إلى أخيه سيف الإسلام عماراتها وأحرق غلاتها، وقطف ثمراتها، وأزعج ساكنيها، وأخاف آمنيها، وأجلى عنها فلاحيها، وأقام النوائح عليها في نواحيها. وأغار بعض عسكره على عكا وغنموا ثم حصر مدينة طبرية ومعه الجاندارية والخراسانية والحجارون والنقابون ففتحها بالسيف وكانت للقومص صاحب طرابلس، وكان مهادن السلطان فاجتمع إلى الفرنج للحرب - وكانت طبرية تقاسم على نصف مغل الصلت والبلقاء وجبل عوف والحيانية والسواد وتناصف الجولان وما يقربها إلى كورة حوران. واجتمعت ملوك الفرنج فارساً وراجلاً وساروا إلى صلاح الدين فركب إليهم من طبرية، والتقى الجمعان واشتد القتال بينهم وأحدق المسلمون بالفرنج من كل ناحية وأبادوهم قتلاً وأسراً على قرية حطين بالقرب من طبرية وأسر في جملة من أسر ملك الفرنج الكبير وصاحب الكرك وصاحب جبيل وغيرهم من قمامصتهم وأمرائهم. وكان الفرنج في حطين خمسة وأربعين ألفاً فلم يسلم منهم سوى الفلّ وقتل الباقون واستأسروهم فقتل منهم أربعون ألفاً وقيل أقلّ من ذلك، ولما انقضى المصاف جلس السلطان خيمته وأحضر ملك الفرنج وأجلسه إلى جانبه وكان الحر والعطش به شديداً فسقاه السلطان ماءً مثلوجاً وسقى ملك الفرنج منه البرنس أرنلط صاحب الكرك فقال له السلطان: إن هذا الملعون لم يشرب الماء بإذني فيكون أماناً له، ثم كلم السلطان البرنس ووبخه على غدره غير مرة وعلى قصده الحرمين الشريفين، وقام السلطان بنفسه فضرب عنقه فارتعدت فرائص ملك الفرنج فسكن جأشه. قالوا: وقد عرض السلطان الإسلام على الداوية والإسبتار، فمن أسلم منهم استبقاه، ومن لم يسلم قتله فقتل خلق عظيم، وبعث بباقي الملوك والأسارى إلى

فتح القدس والرملة:

دمشق. ثم عاد السلطان إلى طبرية وفتح قلعتها بالأمان، ثم سار إلى عكا وحاصرها وفتحها بالأمان وكان فيها ثلاثون ألف إفرنجي وأربعة آلاف أسير مسلم، وأرسل أخاه الملك العادل فنازل مجدل بابا وفتحه عنوة بالسيف، ثم فرق السلطان عسكره ففتحوا الناصرة وقيسارية وحيفا وصفورية ودبورية والفولة وجنين وزرعين والطور واللّجون والقيمون والزيب ومعليا والبعنة وإسكندرونة ومنواث وأرسوف وعقربلا وأريحا سنجيل والبيرة وقلونية وصرفند ومجدل الحباب وجبل الجليل وتل الصافية والتل الأحمر وقريتا وصوبا وهرمس والسلع عدا ما تخللها من القرى والأبراج والقلاع. فتح كل ذلك بالسيف وفتح عسكره سبسطية ونابلس وقلعتها بالأمان، وفتح العادل يافا عنوة ثم فتح السلطان تبنين، وتسلم صيدا خالية ثم بيروت بالأمان بعد حصارها. وكان من جملة الأسرى صاحب جبيل فبذل جبيلاً فأطلق. وحضر المركيس في سفينة إلى عكا وهي للمسلمين وأقلع إلى صور فاجتمع عليه الفرنج الذين بها وملك صوراً. وذكر المؤرخون إن إطلاق أمراء الفرنج من الأسر وحملهم إلى صور كان من أعظم أسباب الضرر وقوة الفرنج ورواح عكا. فتح القدس والرملة: حصر السلطان عسقلان وتسلمها ثم فتح الرملة والداروم وغزة وبيت لحم وبيت جبريل وتبنين والنطرون ومشهد الخليل ولدّ وغيرها ثم نازل القدس وبه من الفرنج عدد لا يحصى وضايقه بالنقابين واشتد القتال، وطلب الفرنج الأمان فقال: آخذها مثل ما أخذت من المسلمين بالسيف فعاودوه فأجاب بشرط أن يؤدي كل رجل عشرة دنانير وكل امرأة خمسة وكل طفل دينارين ومن عجز أسر وتسلم المدينة في رجب وكان فيها بالضبط ستون ألف رجل ما بين فارس وراجل سوى من تبعهم من النساء والولدان قال ميشو: إنه كان فيها مائة ألف صليبي وكان عددهم لما فتحوه 6100 فارس و 48 ألف راجل ولم يكن فيها لما فتحها صلاح الدين سوى ربان واحد من اليهود وكان يدفع إتاوة كبيرة في السنة للملك حتى يبقى فيها. قال ابن الأثير في معنى ارتضاء صلاح الدين بالفداء من الفرنج في القدس: إن الفرنج لما رأوا شدة قتال المسلمين وتحكم المنجنيقات بالرمي المتدارك، وتمكن

النقابين من النقب أرسلوا باليان بن نيرزان صاحب الرملة إلى صلاح الدين يطلب الأمان فأبى السلطان وقال: لا أفعل بكم إلا كما فعلتم بالمسلمين حين ملكتموه سنه إحدى وتسعين وأربعمائة من القتل والسبي فقال له باليان: أيها السلطان اعلم أننا في هذه المدينة في خلق كثير، وإنما يفترون عن القتال رجاء الأمان، فإذا رأينا أن الموت لا بد منه فوالله لنقتلن أولادنا ونساءنا ونحرق أموالنا ولا نترككم تغنمون منا ديناراً ولا درهماً ولا تسبون وتأسرون رجلاً أو امرأة، فإذا فرغنا من ذلك أخربنا الصخرة والمسجد الأقصى. ثم نقتل من عندنا من أسارى المسلمين وهم خمسة آلاف أسير، ولا نترك لنا دابة ولا حيواناً إلا قتلناه، ثم خرجنا إليكم كلنا وحينئذ لا يقتل الرجل منا حتى يقتل أمثاله، ونموت أعزاء ونظفر كرماء، فاستشار صلاح الدين أصحابه فأجمعوا على إجابتهم إلى الأمان وأن لا يحرجوا ويحملوا على ركوب ما لا يدري عاقبة الأمر فيه، فأجاب صلاح الدين حينئذ إلى بذل الأمان للفرنج. وكان رأي صلاح الدين أخذ الفداء فتغلب رأيه على ما كان يراه بعض جماعته أولاً من إهراق دماء الفرنج كما أهرق أجدادهم دماء المسلمين، وهذا التهديد من سفير الصليبيين في الصلح لا شأن له مع صلاح الدين، وهو في تلك القوة والمنعة، ولكن صلاح الدين يرمي إلى مقصد أعلى من جميع مقاصد جماعته وجماعة الصليبيين، كان يريد بما فعل من قبول الفداء تعليم الصليبيين درساً في سماحة الإسلام، وأن لا يثير الحفائظ وهو على يقين من أن أوربا ما جيشت إلا قليلاً لفتح القبر المقدس فإذا قتل من فيه وفيهم الأمراء والسادة والقادة وغيرهم يقيم في كل دار في الغرب مأتماً وتزيد الطوائل بين الفريقين، ويهب الفرنج في الغرب إلى جمع شملهم، أكثر مما جمعوا في القرن الماضي ومنتصف هذا القرن وتعود الشام إلى خرابها. وما الفائدة من القتل إذا كان يجلب الويلات على فاعله وعلى ذويه. على أن صلاح الدين لو قتل فرنج القدس لما كان خرج عن مألوف عادة تلك العصور وما عُدَّ عمله شيئاً فرياً، إذ يكون قد كال لهم بالكيل الذي كالوا به لأمته. بيد أن السماحة التي بدت منه أكسبته وقومه في الغرب اسماً عطراً لا يزال يردد بالخير على كرور الأيام، ودب الفشل في نفوس القابضين على زمام الأمر فلم

يعودوا كما كانوا في الثمانين السنة الأخيرة يأتمرون في الحال بأوامر الكنيسة البابوية، ويحسمون الناس ليسيروا بهم على العمياء إلى الأرض المقدسة. وبهذا العمل انحلت العقدة المهمة الأولى من حروب الصليبيين، وكان الخطب سهلاً بعد ذلك في عهد صلاح الدين وأخلافه فصدق في وصفه شاعره عبد المنعم الجلياني حيث قال من قصيدة: وفيت لهم حتى أَحبوك ساطياً ... بهم ووفاءُ العهد قيد المخاصم فخانوا فخابوا فانتدبوا فتلاوموا ... فقالوا خُذلنا بارتكاب الجرائم وخص صلاح الدين بالنصر إذ أتى ... بقلبٍ سليمٍ راحماً للمسالم فخطوا بأرجاء الهياكل صورة ... لك اعتقدوها كاعتقاد الأقانم يدين لها قسٌّ ويرقي بوصفها ... ويكتبه يشفى به في التمائم مر الرحالة ابن جبير الأندلسي بالشام وصلاح الدين محاصر للكرك فتعجب من أن نيران الفتنة تشتعل بين الفئتين مسلمين وإفرنج وربما يلتقي الجمعان ويقع المصاف بينهم، وأرفاق المسلمين والنصارى تختلف بينهم دون اعتراض عليهم. واختلاف القوافل من مصر إلى دمشق على بلاد الفرنج غير منقطع، واختلاف المسلمين من دمشق إلى عكة كذلك، وتجار الصليبيين أيضاً لا يمنع أحد منهم ولا يعترض، وللنصارى على المسلمين ضريبة يؤدونها في بلادهم، وهي من الأمنة على غاية، وتجار النصارى أيضاً يؤدون في بلاد المسلمين على سلعهم والارتفاق بينهم والاعتدال في جميع الأحوال، وأهل الحرب مشتغلون بحربهم، والناس في عافية والدنيا لمن غلب. قال: وهذه سيرة أهل هذه البلاد في حربهم، وفي الفتنة الواقعة بين أمراء المسلمين وملوكهم كذلك ولا تعترض الرعايا والتجار، فالأمن لا يفارقهم في جميع الأحوال سلماً أو حرباً. وقال بعد أن ذكر استيلاء صلاح الدين على نابلس وإطلاق أيدي جيشه في جميع ما احتازته: وخرجنا نحن إلى بلاد الفرنج وسببهم يدخل بلاد المسلمين، وناهيك من هذا الاعتدال في السياسة. وبعد أن قرر السلطان أمور القدس، وأمر بعمل الرُّبُط والمدارس الشافعية، رحل عنها ولم يبق معه مما أخذه من مال الفداء شيء وكان مائتي ألف دينار وعشرين ألفاً ففرقها على الأمراء والعلماء والفقراء، وأطلق كثيراً من الفقراء بدون فداء، وأدى أخو السلطان الملك العادل فدية عن ألفي صليبي، واقتدى به

السلطان نفسه، وعفوا عن كثيرين، فلم يبق سوى أربعة عشر ألفاً يخرج منهم الصبيان والبنات الذين أدى الصليبيون فداءهم، وأغضى عن جواهر الصليبيين وناضهم من الذهب والفضة، فكان يخرج من القدس حراً بدون منازع، وعامل النساء من الفرنج معاملة لا تصدر عن أرقى رجل مهذب في القرون الحديثة. ذكروا أنه كانت بالقدس ملكة رومية متعبدة مترهبة استعاذت بالسلطان فأعاذها، ومنَّ عليها وعلى من معها بالإفراج، وأبقى عليها من مصوغات صلبانها الذهبية المجوهرة ونفائسها وكرائم خزائنها، وكذلك خرجت زوجة الملك المأسور كي وهي ابنة الملك أموري وكانت مقيمة في جوار القدس مع مالها من الخدم والخول والجواري فاستأذنت بالإلمام بزوجها وأقامت عنده، وكان مقيماً في برج بنابلس أسيراً يرسف في قيده. وخرج البطرك الكبير الذي للفرنج، ومعه من أموال البيع والمساجد منها الصخرة والأقصى والقيامة وغيرها ما لا يعلمه إلا الله تعالى، وكان له من المال مثل ذلك فلم يعرض له صلاح الدين، فقيل له ليأخذ ما معه يقوي به المسلمين فقال: لا أغدر به ولم يأخذ منه إلا عشرة دنانير إلى غير ذلك من مزاياه العالية التي علم بها أعداءه كيف تكون مكارم الأخلاق. رحل السلطان إلى عكا ومنها إلى صور، وقد حصنت بالرجال وحفر خندقها من البر إلى البحر، ونزل على صور وحاصرها وضايقها وطلب الأسطول فوصل إليه في عشرة شوان فاتفق أن الفرنج كبسوهم في الشواني وأخذ خمسة شوان ولم يسلم من المسلمين إلا من سبح ونجا وأخذ الباقون، وطال الحصار عليها فرحل السلطان عنها في الشتاء وأقام بعكا وأعطى العساكر الدستور فسار كل واحد إلى بلده وبقي السلطان بعكا وقد قنع الفرنج بصور، وأرسل إلى هونين ففتحها بالأمان كما فتح قلعة أبي الحسن من عمل صيدا وشقيف أرنون وأقام رجالاً على صفد وكوكب يحاصرونهما وهما حصنان عظيمان للداوية والاسبتارية وكان شديداً على رجال هاتين الرهبنتين لما عرفوا به من الشجاعة والمكر ويقتلهم في الغالب إذا وقعوا في يده فلم يبق للفرنج من كل ما كان لهم في فلسطين من المدائن والثغور سوى صور استصفيت كلها. ولما انسلخ الشتاء 584 سار السلطان من عكا بمن معه بعد أن ولى أعمال الخليل وعسقلان وغزة والداروم وما والاها، وأمر بنقل الغلات من البلقاء لتقوية الفلاحين وإعانة المقطعين وكذلك أمر بنقل الغلات من مصر إلى

بقية الفتوح الصلاحية:

أعمال عسقلان ليعيد إليها الزراعة والعمران. ومن كتاب فاضلي يصف فيه بعض مدن فلسطين في الفتح الصلاحي: وهذه البلاد مدن ما كان عزم قبل منها مدنياً. وعمارات ما كان أمل إليها مفضياً. بل طال ما كان عنها مغضياً. مثل بيسان وكفربلا وزرعين وجينين كلها بلاد مشاهير لها قرى مغلة، وبساتين مظلة، وأنهار مقلة، وقلاع مطلة، وأسوار قد ضربت على جهاتها، وأحاطت بجنباتها، واتخذتها المدن سياجاً على قصباتها. بقية الفتوح الصلاحية: اتجهت همة صلاح الدين العالية إلى فتح ما بقي في أيدي الصليبيين من ثغور الساحل. وقصد إلى دمشق ولما اجتمعت العساكر من الأطراف سار منها فنزل على بحيرة قدس غربي حمص وأتته العساكر بها فرحل ونزل على أنطرطوس فوجد الفرنج قد أخلوها فأحرقها وأحرق البسية وهي بيعة عظيمة عندهم محجوج إليها من أقطارهم. وسار إلى مرقبة فوجدهم قد أخلوها أيضاً وسار إلى المرقب وهو للإسبتار فوجده لا يرام وتسلم جبلة وبلدة من غربي النهر على شاطئ البحر وسار إلى اللاذقية ولها قلعتان فحصر القلعتين وزحف إليهما فطلب أهلهما الأمان فأمنهم وتسلم القلعتين وعمر البلد وحصن قلعتها. ولما كان على اللاذقية طلب مقدم أسطول صقلية من السلطان الأمان ليحضر عنده فأمنه وحضر وقبل الأرض بين يديه وقال ما معناه: إنك سلطان رحيم كريم وقد فعلت بالفرنج ما فعلت فذلوا فاتركهم يكونون مماليكك وجندك تفتح بهم الممالك وترد عليهم بلادهم، وإلا جاءك من البحر ما لا طاقة لك به، فيعظم عليك الأمر ويشتد الحال فأجابه صلاح الدين بنحو من كلامه من إظهار القوة والاستهانة بكل من يجيء من البحر وأنهم إن خرجوا أذاقهم ما أذاق أصحابهم من القتل والأسر ورحل السلطان إلى صهيون فتسلمها بالأمان فلم يجبهم إلا على أمان أهل القدس فيما يؤدونه فأجابوه إلى ذلك وتسلم قلعة صهيون، ثم فرق عسكره في تلك الجبال فملك حصن بلاطُنُس وكان الفرنج قد أخلوه، وملك حصن العيذو وحصن الجماهيرية، ووصل إلى قلعة بكاس فأخلاها أهلها وتحصنوا بقلعة الشغر فحصرها ووجدها منيعة فضايقها فطلب أهلها الأمان، وحصر ابنه الملك الظاهر غازي قلعة سرمين وضايقها وملكها، واستنزل أهلها على قطيعة قررها عليهم وهدم

القلعة وعفى أثرها. وكان في هذه القلعة وفي الحصون المذكورة من أسرى المسلمين الجم الغفير، فأُطلقوا وأُعطوا الكسوة والنفقة، ثم سار من الشغر إلى بَرْزُيه وملكها بالسيف وسبى وأسر وقتل أهلها وأسر السلطان صاحب برزيه هو وأصحابه وامرأته وأولاده ومنهم بنت له معها زوجها فتفرقهم العسكر، فأرسل صلاح الدين في الوقت وبحث عنهم واشتراهم وجمع شمل بعضهم ببعض، فلما قارب إنطاكية أطلقهم وسيرهم إليها. وكانت امرأة صاحب برزيه أخت امرأة بيمند صاحب إنطاكية، وكانت تراسل صلاح الدين وتهاديه وتعلمه كثيراً من الأحوال التي تؤثر فأُطلق هؤلاء لأجلها. ثم سار فنزل على جسر الحديد ومنه إلى دربساك فتسلمها بالأمان على شرط أن لا يخرج أحد منها إلا بثيابه فقط. وسار إلى بغراس وحصرها وتسلمها بالأمان على حكم أمان دربساك. وأرسل بيمند صاحب إنطاكية إلى السلطان يطلب منه الهدنة والصلح وبذل إطلاق كل أسير عنده فأجابه إلى ذلك واصطلحوا ثمانية أشهر، ثم عاد إلى دمشق فأشير عليه بتفريق العساكر ليريحوا ويستريحوا فقال السلطان: أن العمر قصير والأجل غير مأمون. وكان صلاح الدين لما سار إلى الشمال قد جعل على الكرك وغيرها من يحصرها، وخلّى أخاه العادل في تلك الجهات يباشر ذلك فأرسل أهل الكرك يطلبون الأمان فتسلمها صلاح الدين مع الشوبك وما إليها، ثم سار السلطان إلى صفد فحصرها وضايقها وتسلمها بالأمان وشخص إلى كوكب فضايقها وتسلمها بالأمان وسير أهلها إلى صور. ولما سقطت القدس واستولى صلاح الدين على جميع الأقاليم التي كانت بيد الفرنج ولم يبق لهم إلا يافا وصور وطرابلس تجمع أهل الأقاليم التي أخذها صلاح الدين في ثغر صور فكثر جمعهم، وأرسلوا إلى الغرب يستصرخون وصوروا صورة المسيح وصورة عربي يضربه وقد أدماه وقالوا: هذا نبي العرب يضرب المسيح. فخرجت النساء من بيوتهن. ووصل من الفرنج في البحر عالم لا يحصون كثرة، وساروا إلى عكا من صور ونازلوها وأحاطوا بسورها من البحر إلى البحر ووقعت وقائع على عكا قتل فيها من الفرنج نحو عشرة آلاف ومن المسلمين ألوف أيضا، وعاد السلطان في السنة التالية 586 إلى قتال الفرنج على عكا.

الحملة الصليبية الثالثة:

الحملة الصليبية الثالثة: بينا كان صلاح الدين على عكا يغادي الفرنج القتال ويراوحهم، جاءت الأخبار من الروم أن ملك الألمان قام لنجدة الصليبيين في الشام في مائة ألف محارب، فدخل اليأس على الناس وهذه هي الحملة المعروفة عند الفرنج بالحملة الصليبية الثالثة، ولكن سلط على ملك الألمان الوباء والغلاء وغرق في نهر كان يغتسل فيه في الروم، ولم يصل مع ابنه سوى ألف مقاتل فقط. يئس النس لأنهم ذهبوا إلى أن الفرنج لا تقوم لهم قائمة بعد وقعة حطين بل بعد استصفاء أكثر المدن والمعاقل التي كانت لهم ولا سيما القدس العلة الأولى في هذه الغزوات التي ألبسوها لباس الدين، وكانت هذه الحملة الثالثة مؤلفة من ثلاثة ملوك: فريدريك باربروس ملك ألمانيا، وفيليب أوغست ملك فرنسا، وريشاردس قلب الأسد ملك إنكلترا. فخف الأول إلى نجدة فرنج الشام قبل صاحبيه فكان من أمره ما كان أما الآخران فجاءا إلى عكا في البحر، وبعد أن فتح ريشاردس جزيرة قبرس تمكن الصليبيون من أخذ عكا وقتل من المسلمين جمهور كبير. قال ميشو: إن الوقعة التي حارب فيها ريشردس في بحر صور سفينة كبرى للعرب، كانت من أول الانتصارات ومقدمة الغنائم للبحرية الإنكليزية، وقال أمغلطاي: إن الفرنج حاصروا عكا من البر ومن البحر، وكانت عدتهم مائتي ألف وأربعين ألفاً، ونصبوا عليها المجانيق من كل جهة، وفتحوا فيها مواضع كثيرة حتى خربت ودثرت وصارت مثل الطريق، فغُلب المسلمون وطلبوا الأمان. وقال غيره: إن السلطان كان عمر في بيروت بطسة وشحنها بالعُدد والآلات، وفيها نحو سبعمائة رجل مقاتل، فلما توسطت في البحر صادفها ملك الإنكليز وأحاطت بها مراكبه وحصل القتال بين الفريقين، فلما رأى مقدمها اشتداد الأمر، نزل فخرقها حتى غرقت، وكانت هذه الحادثة أول حادثة حصل بها الوهن للمسلمين. ثم رحل الفرنج عن عكا نحو قيسارية، والمسلمون يسايرونهم ويتحفظون منهم، ثم ساروا من قيسارية إلى أرسوف، ووقع بينهم وبين المسلمين مصاف أزالوا المسلمين عن موقفهم، ووصلوا إلى سوق المسلمين فقتلوا منهم خلقاً كثيراً، ثم

سار الفرنج إلى يافا وقد أخلاها المسلمون فملكوها، ورأى السلطان تخريب عسقلان مصلحة فخربها وخرب الرملة وكنيسة لدّ وكان هدم سور طبرية وهدم يافا وأرسوف وقيسارية وهدم سور صيدا وجبيل ونقل أهلهما إلى بيروت، وكان معظم أهل صيدا وبيروت وجبيل مسلمين وكانوا في ذلة من مساكنة الفرنج. وسار إلى القدس وقرر أموره وعاد إلى مخيمه بالنطرون. ثم تراسل الفرنج والسلطان في الصلح على أن يتزوج الملك العادل أخو السلطان بأخت ملك إنكلترا ويكون للملك العادل القدس ولامرأته عكا، فأنكر القسيسون عليها ذلك إلا أن ينتصر الملك العادل فلم يتفق بينهم حال. وذكر بعض المؤرخين أن ملك إنكلترا هو الذي عرض على العادل أخته، وكانت أرملة ملك كبير من ملوكهم وهو صاحب صقلية توفي عنها، ورغب أن يتزوجها العادل ويجعل له الحكم على الساحل، وهو يُقطع الداوية والاسبتار من المدن والقرى دون الحصون، وتكون أخته مقيمة بالقدس وأن الإنكليز لما عنفوا المرأة واتهموها في دينها، اعتذر ملك إنكلترا بعدم موافقتها إلا أن يدخل العادل في دينها فعرف أنها خديعة كانت منه. قال ابن شداد في وصف ريشاردس ملك الإنكليز: وهذا ملك الانكتار شديد البأس بينهم، عظيم الشجاعة، قوي الهمة، له وقعات عظيمة، وله جسارة على الحرب، وهو دون الفرنسيس عندهم في الملك والمنزلة، لكنه أكثر مالاً منه، وأشهر في الحرب والشجاعة. قال: وكانوا ملوكهم يتواعدوننا به فكان المستأمنون منهم يخبروننا عنه أنهم موقنون فيما يريدون أن يفعلوا من مضايقة البلد أي عكا حين قدومه، فإنه ذو رأي في الحرب مجرب، وأثر قدومه في قلوب المسلمين خشية ورهبة. وقال بعد أن ذكر كيف كان ملك الإنكليز يكرر الرسائل إلى الملك لتعرف قوة النفس وضعفها، وكيف كان يوهن المسلمين على تعرّف ما عنده من ذلك أيضاً: فانظر إلى هذه الصناعة في استخلاص الغرض باللين تارة والخشونة أُخرى، وكان مضطراً إلى الرواح وهذا عمله مع اضطراره، والله الولي في أن يقي المسلمين شره، فما بلينا بأعظم حيلة وأشد إقداماً منه. بقي صلاح الدين في كل يوم يقع بينه وبين الفرنج مناوشات فلقوا من ذلك شدة شديدة واستولوا سنة 588 على قلعة الداروم وخربوها وأسروا من فيها.

مزايا صلاح الدين ووفاته:

عرض لملك انكلترا ما يشغل قلبه من جهة بلاده فأحب أن يصالح صلاح الدين، فرضي السلطان بالصلح بعد الذي أصاب جيشه من الفشل على عكا، وفشل عكا هو الوحيد الذي أصابه، وذلك لتكاثر جيوش الصليبيين عليه، وقد ملّ الجند الحرب التي دامت أعواماً، وخرج المسلمون من عكا وأخذوا أمان الفرنج على أن يخرجوا بأموالهم وأنفسهم على تسليم البلد ومائتي ألف دينار وألف وخمسمائة أسير من المجهولين ومائة أسير من المعروفين وصليب الصلبوت، وعشرة آلاف دينار للمركيس وأربعة آلاف دينار لحجابه، وعقدت بين الصليبيين والمسلمين هدنة عامة في البحر والبر جعلت مدتها ثلاث سنين وثلاثة أشهر على أن يستقر بيد الفرنج يافا وعملها وقيسارية وعملها وأرسوف وعملها وحيفا وعملها وعكا وعملها، وأن تكون عسقلان خراباً، واشترط السلطان دخول عمالة الإسماعيلية في أرض الهدنة، واشترط الفرنج دخول صاحب إنطاكية وطرابلس في عقد هدنتهم، وأن تكون لدّ والرملة مناصفة بينهم وبين المسلمين، فاستقرت القاعدة على ذلك. واتفقت وفاة السلطان بعد الصلح بيسير، فلو اتفق ذلك في أثناء وفاته كان الإسلام على خطر. وفي التاريخ العام أن صلاح الدين لما فتح القدس بهت المسيحيون في أوربا فأخذ أوربانوس الثالث يحمس الناس في الغرب. وأن إمارات الصليبيين لم تقاتل مدة نصف قرن سوى صغار أمراء سورية والموصل. وكان مسلمو مصر يعيشون بسلام معهم، وهذا كان عهد نجاح تلك الإمارات، ولما قضى صلاح الدين على الدولة الفاطمية وقامت مقامها دولة حربية من المماليك، لم يستطع المسيحيون، ومصر تهاجمهم، أن يقاوموا زمناً طويلاً، على ما ظهر من انتصارات صلاح الدين، وإذا احتفظوا ببقايا الإمارات قرناً آخر فذلك لأن ملوك الإسلام لم يرضوا أن يقضوا عليها. لا جرم أن هذه الحرب كانت حرباً مقدسة في نظر المسلمين والمسيحيين اه. مزايا صلاح الدين ووفاته: ولا عجب إذا انتثر سلك الإمارات الصليبية في الجنوب والغرب جملة فإن تنظيم الجيش الصلاحي كان آية الآيات، والنجدات كانت تأتيه سراعاً دراكاً،

والفكر متجه إلى مقصد واحد. استمات المسلمون في تأييد سلطانهم، وحاربوا بكل ما لديهم من ضروب الكر والفر وصنوف الدهاء والخديعة، وما الحرب إلا خدعة - قاتلوا كما قال شاهد العيان من المؤرخين، مرة بالأبراج، وأُخرى بالمنجنيقات، ورادفة بالدبابات، وتابعة بالكباش، وآونة باللوالب، ويوماً بالنقب، وليلاُ بالسرابات، وطوراً بطم الخنادق، وآناً بنصب السلالم، ودفعة بالزحوف في الليل والنهار، وحالة في البحر بالمراكب، ولكن الحرب سجال والدهر دول، وما كل يوم يكتب النصر للغزاة، ويحالف التوفيق أعلامهم، وما كل خطة يقررها صاحب الأمر بادئ الرأي تكون سديدة من كل وجه، فقد انتقدوا على صلاح الدين بعد وقائعه مع الصليبيين وظفره الباهر بهم في الأردن والجليل وبيت المقدس كيف فتح لأعدائه السبل ليذهبوا إلى صور، ويجتمع هناك فلّ جيوشهم حتى تألفت منهم كتلة قويت بما جاءها من البحر من الإنكليز والفرنجة، فكان ما كان من هزيمة جيشه على عكا، ولو كان حياً لدافع عن نفسه دفاعاً معقولاً مقبولاً فيما نحسب، ولعلَّ ذلك يدخل في باب مراحمه التي تجلت فيها نفسه العظيمة يوم فتح القدس، فلم يعامل أعداءه إلا بما اقتضته سياسته وسيرته. كان صلاح الدين يُعنى بجنده ويتعهده ويسأل عن صحة أمرائه ومن دونهم في راحتهم ومنامهم وأكلهم وشربهم، يحارب المحارب ساعات مخصوصة من النهار أو الليل ثم يستريح أو يحارب مدة معينة ثم يذهب إلى ذويه، على أرقى الأصول المتعارفة في الحروب الحديثة. والغنائم تقسم بين المحاربين بحيث يغتني أفرادهم وجماعاتهم دع ما لهم من الأموال الدارة من أموال الجباية والرسوم على التجار وما خصوا به من الحرمة ورفعة الشأن، يأخذون إما رواتب أو إقطاعات، ولم تكن إقطاعاتهم كإقطاعات الغرب تورث على الأغلب بل تزول عن صاحبها بموته أو بعزله، ولذلك كان المحاربون متعلقين أبداً بسلطانهم وأميرهم، متفانين في إحسان الخدمة كأنهم يدافعون عن بيوتهم وأطفالهم. جاء صلاح الدين إلى دمشق بعد عقد الصلح مع الفرنج في فلسطين، وكان يحب دمشق ويؤثر الإقامة فيها. فلقي الأهل والولد بعد تغيب أربع سنين وذهب يتصيد مع أخيه الملك العادل خمسة عشر يوماً فكان عمله كأنه وداع لأهله وأولاده ومرابع نزهه وأنسه. ثم مرض أياماً وهلك حميد الأثر فضجت الأمة لفقده،

وبكت العيون، وانتحبت النفوس، لأنه لم يحي مصر والشام، بل أحيا بعمله المسلمين والإسلام، وكان كما ذكره ابن شداد: رؤوفاً رحيماً، ناصراً للضعيف على القوي، يجلس للعدل في كل يوم اثنين وخميس، في مجلس عام يحضره الفقهاء والقضاة والعلماء، ويفتح الباب للمتحاكمين حتى يصل إليه كل أحد من كبير وصغير، وعجوز هرمة وشيخ كبير، وكان يفعل ذلك سفراً وحضراً، على أنه كان في جميع زمانه قابلاً لجميع ما يعرض عليه من القصص في كل يوم، ويفتح باب العدل وكان يجلس مع الكاتب ساعة إما في الليل أو في النهار، ويوقع على كل قصة بما يجريه الله على قلبه، ولم يرد قاصداً أبداً، وما استغاث إليه أحد إلا وقف وسمع قضيته وكشف ظلامته واعتنى بقصته. مات صلاح الدين وقد ملك مصر أربعاً وعشرين سنة والشام تسع عشرة سنة، وملك الجزيرة واليمن، ولم يحفظ ما تجب عليه الزكاة، فإن صدقة النفل استنزفت جميع ما ملكه من الأموال، فملك ما ملك ولم يخلف في خزانته من الذهب والفضة إلا سبعة وأربعين درهماً ناصرياً وجرماً واحداً ذهباً، ولم يخلف ملكاً ولا داراً ولا عقاراً ولا بستاناً ولا قرية ولا مزرعة ولا شيئاً من أنواع الأملاك، وكان رحمه الله يهب الأقاليم، ويعطي في وقت الضيق كما يعطي في حال السعة، وكان نواب خزائنه يخفون عنه شيئاً من المال حذراً أن يفاجئهم مهمٌّ، لعلمهم بأنه متى علم به أخرجه. وكان كثيراً ما يقول: إن مرادنا من البلاد رجالها لا أموالها وشوكتها لا زهرتها ومناظرتها للعدو لا نضرتها. وقد ذكر القاضي ابن شداد وعماد الدين الكاتب من خلال صلاح الدين ومواظبته على القواعد الدينية وملاحظته للأمور الشرعية، وعدله وكرمه وشجاعته، واهتمامه بأمر الجهاد وصبره واحتسابه، وحلمه وعفوه ومحافظته على أسباب المروءة، ما هو العجب العجاب، وبعضه إذا جمع في شخص كان مفخراً من المفاخر على توالي الأحقاب. ملأت خيرات صلاح الدين جميع الأقطار التي خفق علمه عليها، وملأت أوقافه مصر والشام وهي غير منسوبة إليه. قال ابن خلكان: ولقد أفكرت في نفسي في أمور هذا الرجل وقلت إنه سعيد في الدنيا والآخرة، فإنه فعل في هذه الدنيا هذه الأفعال المشهورة من الفتوحات الكثيرة وغيرها ورتب هذه الأوقاف العظيمة، وليس فيها شيء منسوباً إليه في الظاهر اهـ.

بل قد تجد لمماليكه وخواصه أوقافاً نسبت إليهم ولم ينسب إليه إلا قليل وكان مماليك صلاح الدين وخواصه وأمراؤه وأجناده أعفّ من الزهاد والعباد، والناس على دين ملوكهم. ومن كرم صلاح الدين أنه أخرج في مدة مقامه على عكا ثمانية عشر ألف دابة من فرس وبغل سوى الجمال، وأما العين والثياب والسلاح فإنه لا يدخل تحت حصر، وما كان يركب فرساً إلا وقد وعد بأن يعطيه لطالب من جماعته، وقد فرَّق من ذخائر الفاطميين لما فتح مصر ما يفوق الإحصاء ولم يبق منه قليلاً ولا كثيراً. ومن رسالة له إلى الديوان العزيز ببغداد: فقد علم أن الخادم بيوت أمواله، في بيوت رجاله، وأن مواطن نزوله، في مواقف نزاله، ومضارب خيامه، أكنة ظلاله، وأنه لا يذخر من الدنيا إلا شِكَّته، ولا ينال من العيش إلا مسكته. كان صلاح الدين يعيش عيش المتوسطين، وينفق بحيث تكاد تعده إلى الإسراف، ويكتفي من اللباس بالكتان والقطن والصوف، ومجلسه منزه عن الهزء ومحافله حافلة بأهل الفضل، وكان لمداومته الكلام مع الفقهاء ومشاركته القضاة في القضاء أعلم منهم بالأحكام الشرعية، وكان من جالسه لا يعلم أنه مجالس السلطان، بل يعتقد أنه مجالس أخ من الإخوان. كان من عظماء الشجعان، قوي النفس، شديد البأس، عظيم الثبات، لا يهوله أمر. وصل في ليلة واحدة من الفرنج نيف وسبعون مركباً إلى عكا وهو لا يزداد إلا قوة نفس، وكان يعطي دستوراً أن يسرح عسكره في أوائل الشتاء ويبقى في شرذمة يسيرة في مقابلة عدتهم الكثيرة، إذ كان عدد جيشهم لا يقل عن خمسمائة إلى ستمائة ألف فيما قالوا، ومع هذا تراه صابراً هاجراً في محبة الجهاد في سبيل الله أهله وأولاده ووطنه وسكنه وسائر ملاذه، قانعاً من الدنيا بالسكون في ظل خيمة تضربها الرياح يمنة ويسرة، وكان لا بد له من أن يطوف حول العدو كل يوم مرة أو مرتين إذا كان قريباً منهم، وإذا اشتد الحرب يطوف بين الصفين، ويخرق العساكر من الميمنة إلى الميسرة، يرتب الأطلاب ويأمرهم بالتقدم والوقوف في مواضع يراها وكان يشارف العدو ويجاوره. انهزم المسلمون في يوم المصاف الأكبر بمرج عكا حتى القلب ورجاله، ووقعت الكوسات والعَلَم وهو ثابت القدم في نفر يسير، فانحاز إلى الجبل يجمع الناس ويردهم ويخجلهم حتى يرجعوا، ولم يزل كذلك حتى عكس المسلمون على العدو

في ذلك اليوم وقتل منهم زهاء سبعة آلاف ما بين راجل وفارس، ولم يزل مصابراً لهم وهم في العدة الوافرة، إلى أن ظهر له ضعف المسلمين فصالح وهو مسؤول من جانبهم، فإن الضعف والهلاك كان فيهم أكثر، ولكنهم كانوا يتوقعون النجدة، والمسلمون لا يتوقعونها، وكانت المصلحة في الصلح. سئل ابن بيرزان يوم انعقاد الصلح عن عدة الفرنج الذين كانوا على عكا وهو جالس فقال للترجمان: قل له كانوا خمسمائة ألف إلى ستمائة ألف قتل منهم أكثر من مائة ألف وغرق معظمهم. وكان صلاح الدين يدور على الأطلاب أي الكتائب ويقول وهل أنا إلا واحد منكم. وذكروا من مراحم صلاح الدين أنه كان للمسلمين لصوص يدخلون خيام الفرنج في الليل ويسرقونهم، فسرقوا ليلة صبياً رضيعاً، فباتت أُمه تبكي طول الليلة فقال لها الفرنج: إن سلطانهم رحيم القلب، فاذهبي إليه فجاءته وهو على تل الخروبة راكب فعفرت وجهها وبكت فسأل عنها، فأخبروه بقصتها فرق لها، ودمعت عيناه، وتقدم إلى مقدم اللصوص بإحضار الطفل، ولم يزل واقفاً حتى أحضروه، فلما رأته بكت وأخذته فأرضعته ساعة وضمته إليها، وأشارت إلى ناحية الفرنج فأمر أن تحمل على فرس وتلحق بالفرنج ففعلوا. قال سبط ابن الجوزي: ويقال إن صلاح الدين فتح ستين حصناً وزاد على نور الدين بمصر والحجاز والمغرب واليمن والقدس والساحل وبلاد الفرنج وديار بكر ولو عاش لفتح الدنيا شرقاً وغرباً. قلنا: إن نابغة الدهر السالف صلاح الدين يوسف كان في أُمته صلاحاً لدينها ودنياها.

الدولة الأيوبية

الدولة الأيوبية من سنة 589 إلى سنة 637 أبناء صلاح الدين واختلافهم ودهاء عمهم العادل: اهتزت أعصاب المملكة لمهلك صلاح الدين يوسف بن أيوب صاحب مصر والشام واليمن والبلاد الشرقية لأنه الفاتح الثاني لبيت المقدس كما كان عمر بن الخطاب الفاتح الأول. وقد خلف صلاح الدين سبعة عشر ذكراً وابنة واحدة، وناب بعض أولاده عنه في أكثر أقاليمه وخلف أخاه الملك العادل أبا بكر، وكان ينوب عنه في مصر والشام في حياته فوقع الخلف بين بنيه وعمهم في الباطن أولاً، ثم أعلن كل واحد لصاحبه خصومته. وكان كثير ممن ربوا في نعمة الدولة الصلاحية ورأوا من عدلها ما لم يكد يسبق له مثيل إلا في دولة نور الدين، يتخوفون أن تصير حال الدولة بعد صلاح الدين إلى الشقاق والنزاع، ومن الذين أوجسوا خيفة من ذلك القاضي الفاضل وزير صلاح الدين الأكبر فقد كتب إلى ولده الملك الظاهر ساعة موت السلطان من كتاب إن وقع اتفاق فما عدمتم إلا شخصه الكريم، وإن كان غير ذلك فالمصائب المستقبلة أهونها موته وهو الهول العظيم. وكان الملك الأفضل نور الدين علي أكبر أولاد صلاح الدين قد حلف له الناس عندما اشتد مرض والده فاستقر في ملك دمشق وما إليها، وبالديار المصرية الملك العزيز عماد الدين عثمان، وبحلب الملك الظاهر غياث الدين غازي، وبالكرك والشوبك والأقاليم الشرقية الملك العادل أبو بكر بن أيوب، وبحماة وسلمية والمعرة ومنبج وقلعة نجم الملك المنصور ناصر الدين محمد بن الملك المظفر تقي الدين عمر وببعلبك الملك الأمجد مجد الدين بهرام شاه، وبحمص والرحبة وتدمر شيركوه بن

محمد، وببصرى الملك الظافر خضر بن صلاح الدين، وكان في خدمة أخيه الملك الأفضل، وبيد جماعة من أمراء الدولة مدن وحصون، منهم سابق الدين عثمان بن الداية وبيده حصن شيزر وحصن أبي قبيس، وناصر الدين بن كورس وبيده صهيون وحصن برزية، ودلدرم بن بهاء الدين ياروق وبيده تل باشر، وأسامة الحلبي وبيده كوكب وعجلون، وإبراهيم بن شمس الدين ابن المقدم وبيده بعرين وكفرطاب وأفامية. ولما ألقي للملك الأفضل زمام السلطنة بعهد أبيه استوزر ضياء الدين بن الأثير الجزري فحسن له طرد أمراء أبيه ففارقوه إلى أخويه العزيز بمصر والظاهر بحلب، ولما اجتمعوا بمصر حسنوا للملك العزيز الانفراد بالسلطنة، ووقعوا في أخيه الأفضل فحصلت الوحشة بين الأخوين الأفضل والعزيز واستحكم الفتور 590 بينهما فسار العزيز في عسكر مصر وحصر أخاه الأفضل بدمشق عشرة أشهر وقطع الماء عنها. فأرسل الأفضل إلى عمه العادل وأخيه الظاهر وابن عمه الملك المنصور صاحب حماة يستنجدهم، فساروا إلى دمشق وأصلحوا بين الأخوين وعاد كل ملك إلى بلده. قال العماد الكاتب: ولما انفصلت العساكر عن دمشق شرع الأفضل في اللهو واللعب، واحتجب عن الرعية وانقطع إلى لذاته، فسمي الملك النوّام، وفوض الأمر إلى وزيره الجزري، وحاجبه الجمال محاسن بن العجمي، فأفسدا عليه الأحوال وكانا سعيا لزوال دولته واستبدلا أراذل الناس بكبراء الأمراء والأجناد ففسدت أمور العباد. وفي هذه السنة استعادت الفرنج حصن جبيل وأخذ الأفضل من الفرنج جبلة واللاذقية. وفي السنة التالية عاود الملك العزيز عثمان صاحب مصر قصد الشام ومنازلة أخيه الملك الأفضل، فسار ونزل الفوار من أرض السواد فاضطرب بعض عسكر العزيز عليه وهم طائفة من الأمراء الأسدية وفارقوه فعاد العزيز إلى مصر. وكان الأفضل استنجد بعمه العادل لما قصده أخوه، فلما رحل العزيز إلى مصر رحل الملك الأفضل وعمه العادل ومن إليهما من الأسدية، وساروا في أثر العزيز طالبين مصر فنزلوا على بلبيس، وقصد الملك الأفضل مناجزة من فيها من جند العزيز فمنعه عمه العادل وقال: مصر لك متى شئت. وكاتب العادل العزيز وأمره بإرسال القاضي الفاضل ليصلح بين الأخوين. وكان القاضي الفاضل قد اعتزل عن ملابسة أولاد صلاح الدين لما رأى من فساد أحوالهم على ما رواه

المؤرخون - والقاضي الفاضل هو الذي كان صلاح الدين يقول في ملإ من الناس: لا تظنوا أني ملكت البلاد بسيوفكم بل بقلم الفاضل وكان يستشيره في أموره - فدخل الملك العزيز على القاضي وسأله أن يتوجه من القاهرة الى الملك العادل ففعل واجتمع به واتفقا على أن يصلحا بين الأخوين فأصلحا بينهما وأقام العادل بمصر عند العزيز ابن أخيه ليقرر أمور مملكته وعاد الأفضل إلى دمشق وأموره بيد الجزري يدبرها برأيه حتى كثر شاكوه وقل شاكروه. وكان الاعتماد على مشورة الوزير الجزري الذي زين للملك الأفضل إقصاء أمراء أبيه ليخلو له الجو أول خطوة نحو خراب بيت بني أيوب، وبعبارة أصح أبناء صلاح الدين يوسف. وقوة الدولة على نسبة عقل القائمين بها، الدافعين عن حوزتها، الغيورين على بقائها، وقد خالف الملك الأفضل سيرة أبيه فأقصى العقلاء وكان أبوه يفادي بكل مرتخص وغال لاستمالة قلوبهم وكان لسان حال العادل وقد رأى اختلاف أبناء أخيه المثل المأثور لم آمر بها ولم تسؤني. قال سبط ابن الجوزي لما عاد الأفضل إلى دمشق ازداد وزيره الجزري من الأفعال القبيحة وآذى أكابر من الدولة، والأفضل يسمع منه ولا يعدي أحداً ولا يخالفه، فكتب قيماز النجمي وأعيان الدولة إلى العادل يشكونه، فأرسل العادل إلى الأفضل يقول: ارفع يد هذا الأحمق السيئ التدبير القليل التوفيق فلم يلتفت، واتفق مع العزيز على النزول إلى الشام فسار إلى الشام فاستشار الأفضل أصحابه فكل أشار عليه أن يلتقي عمه وأخاه ولا يخالفهما إلا الجزري فإنه أشار عليه بالعصيان فاستعد للحصار وحلف الأمراء والمقدمين وفرقهم في الأبراج وعلى الأسوار. اتفق العادل مع العزيز على أن يأخذا دمشق وأن يسلمها العزيز إلى العادل لتكون الخطبة والسكة للعزيز في جميع المملكة كما كانت لأبيه، فخرجا وسارا من مصر فأرسل الأفضل إليهما فلك الدين وهو أحد أمرائه وهو أخو الملك العادل لأمه ونزل العادل والعزيز على دمشق وقد حصنها الأفضل، فكاتب بعض الأمراء من داخل البلد العادل وصاروا معه وأنهم يسلمون المدينة إليه، فزحف العادل والعزيز فدخل الأول من باب توما والثاني من باب الفرج، فأجاب الملك الأفضل إلى تسليم القلعة وانتقل منها بأهله وأصحابه، وأخذت بصرى من الملك الظافر خضر أخي الأفضل وكان معاضداً له، وأعطي الأفضل صرخد

استئثار العادل بالملك الصلاحي:

فسار إليها بأهله، واستوطنها وأخرج وزيره الجزري في الليل في جملة الصناديق خوفاً عليه من القتل فأخذ أموالاً عظيمة وهرب إلى بلده. سلم الأفضل دمشق لعمه العادل على حكم ما كان وقع عليه الاتفاق بينهما، فتسلمها العادل على أن يكون ثلث البلاد للعادل والثلثان للأفضل وهو السلطان، ورحل العزيز وأبقى له العادل السكة والخطبة بدمشق. استئثار العادل بالملك الصلاحي: توفي الملك العزيز عثمان في مصر 595 وعمره سبع وعشرون سنة وأشهر وكان في غاية السماحة والكرم والعدل. والرفق بالرعية والإحسان إليهم ففجعت الرعية بموته فجعة عظيمة لأنه شبل من أسد، وكان الغالب على دولته فخر الدين جهاركس فأقام في الملك ولد العزيز الملك المنصور محمد واتفقت الآراء على إحضار أحد بني أيوب ليقوم بالملك، وعملوا مشورة بحضور القاضي الفاضل فأشار بالملك الأفضل وهو حينئذ بصرخد فأرسلوا إليه فسار محثاً، ووصل إلى مصر على أنه أتابك أي مربي الملك المنصور بن الملك العزيز، وكان عمر الملك المنصور حينئذ تسع سنين وأشهراً. ولما وصل الأفضل إلى بلبيس التقاه العسكر فتنكر منه فخر الدين جهاركس وفارقه وتبعه عدة من العسكر وساروا إلى الشام، وكاتبوا العادل وهو محاصر ماردين، وأرسل الظاهر إلى أخيه الأفضل يشير عليه بقصد دمشق وأخذها من عمه العادل، وأن ينتهز الفرصة لاشتغال العادل بماردين، فبرز الأفضل من مصر وسار إلى دمشق، فبلغ العادل مسيره، ونزل الأفضل على دمشق وجرى بين العم وابن أخيه قتال، وهجم بعض عسكر الأفضل المدينة حتى وصل إلى باب البريد ولم يمدهم العسكر، فتكاثر أصحاب العادل وأخرجوهم من البلد، ثم تخاذل العسكر فتأخر الأفضل إلى ذيل عقبة الكسوة، ثم وصل إلى الأفضل أخوه الظاهر فعاد إلى مضايقة دمشق، ودام الحصار عليها وقلت الأقوات عند العادل وعلى أهل البلد، وأشرف الأفضل والظاهر على ملك دمشق، وعزم العادل على تسليم البلد لولا ما حصل بين الأخوين الأفضل والظاهر من الخلف. روى سبط ابن الجوزي أنه لما اشتد الحصار على دمشق وقطعت أشجارها

ومياهها الداخلة إليها وانقطعت عن أهلها الميرة وضجوا، بعث العادل إلى الظاهر يقول له: أنا أسلم إليك دمشق على أن تكون أنت السلطان وتكون دمشق لك لا للأفضل، فطمع الظاهر وأرسل إلى الأفضل يقول: أنت صاحب مصر فآثرني بدمشق. فقال: دمشق لي من أبي وإنما أخذت مني غصباً فلا أعطيها أحداً، فوقع الخلف بينهما ووقع التقاعد. وكان إلقاء الخلف بين الأخوين من جملة دهاء عمهما. ودخلت سنة 596 والأفضل والظاهر يحاصران دمشق، وقد أحرق جميع ما هو خارج باب الجابية من الفنادق والحوانيت، وأحرق النيرب وأبواب الطواحين، وقطعت الأنهار وأحرقت غلة حرستا في بيادرها، وحفر على دمشق خندق من أرض اللوان إلى أرض يلدا شرقاً احترازاً من مهاجمة من دمشق لهما، ولما تغير الظاهر على أخيه الأفضل ترك قتال العادل، فظهر الفشل في العسكر، فتأخر الأفضل والظاهر عن دمشق وأقاما بمرج الصُّفَّر، ثم سار الأفضل إلى مصر والظاهر إلى حلب، ولما تفرق خرج العادل من دمشق وسار في أثر الأفضل إلى مصر، وضرب مع الأفضل مصافاً فانكسر الأفضل وانهزم إلى القاهرة، ونازلها العادل ثمانية أيام، فأجاب الأفضل إلى تسليمها، على أن يعوض عنها ميافارقين وخاني وسميساط، فأجابه العادل إلى ذلك ولم يف له به، ثم سار الأفضل إلى صرخد وأقام العادل بمصر على أنه أتابك الملك المنصور محمد بن العزيز عثمان مدة يسيرة، ثم أزال العادل الملك المنصور، واستقل العادل في السلطنة، فقطع أولاً خطبة ولد العزيز بعد أن جمع الفقهاء وقال هل يجوز ولاية الصغير على الكبير فقالوا: الصغير مولى عليه وقال: فهل يجوز لكبير أن يولي عليه وينوب عنه قالوا: لا لأن الولاية من الأصل إذا كانت غير صحيحة فكيف تصح النيابة. فقطع خطبة ابن العزيز وخطب لنفسه ولولده الكامل محمد من بعده، وكان ذلك على الحقيقة مبدأ سلطنة العادل الكبرى، فإن استئثاره بالخطبة والسكة في مصر سهل عليه فيما بعد ملك الشام وما إليها من ديار الشرق. لما تم الأمر بمصر للعادل كاتب الظاهر صاحب حلب عمه الملك العادل عمه بالمعنيين شقيق أبيه وأبو امرأته وصالحه وخطب له بحلب وأقاليمها وضرب السكة باسمه، واشترط العادل على صاحب حلب أن يكون خمسمائة فارس من خيار

الأحداث في عهد العادل واهتمامه بحرب الصليبيين:

عسكر حلب في خدمة العادل كلما خرج إلى الحرب والتزم الظاهر بذلك إلا أنه أخذ بتحصين حلب خوفاً من عمه العادل وأرسل المنصور للعادل يعتذر مما وقع منه من أخذه بعرين من ابن المقدم، فقبل العادل عذره وأمره بردها إلى صاحبها الأول. وسار 597 الظاهر وملك منبج وخرب قلعتها وملك قلعة نجم وأفامية وكفرطاب من ابن المقدم، وأرسل إلى المنصور صاحب حماة يبذل له منبج وقلعة نجم على أن يصير معه على العادل، فاعتذر صاحب حماة باليمين في عنقه العادل، فلما أيس الظاهر منه سار إلى المعرة وأقطع إقليمها واستولى على كفرطاب، ثم سار إلى أفامية وبها قراقوش نائب ابن المقدم، فلم يسلم هذا القلعة إلا بعد الحرب الشديدة، فرحل الظاهر وتوجه إلى حماة وقاتلها أشد قتال، فلما لم يحصل على غرض صالح المنصور على مال يحمله إليه قيل إنه ثلاثون ألف دينار صورية، ثم رحل الظاهر إلى دمشق وبها المعظم ابن العادل فنازلها الظاهر هو وأخوه الأفضل، وانضم إليهما ميمون القصري صاحب نابلس، ومن وافقه من الأمراء الصلاحية، واستقرت القاعدة بين الأخوين الأفضل والظاهر أنهما متى ملكا دمشق يتسلمها الأفضل ثم يسيران ويأخذان مصر من العادل ويتسلمها الأفضل، وتسلم دمشق حينئذ إلى الظاهر، بحيث تبقى مصر للأفضل، ويصير الشام جميعه للظاهر. وفي سنة 598 سار العادل من دمشق ووصل إلى حماة ونزل على تل صفرون وقام المنصور صاحب حماة بجميع وظائفه وكلفه، وبلغ الظاهر صاحب حلب وصول عمه العادل إلى حماة بنية قصده ومحاصرته بحلب فاستعد للحصار، وراسل عمه ولاطفه وأهدى إليه، ووقعت بينهما مراسلات ووقع الصلح وانتزعت منه مفردة المعرة، واستقرت للمنصور صاحب حماة، وأخذت من الظاهر أيضاً قلعة نجم، وسلمت إلى الأفضل، وكان له سروج وسميساط، وسلم العادل حران وما معها لولده الأشرف موسى وسيره إلى الشرق. ولما استقر الصلح بين العادل وابن أخيه الظاهر، رجع العادل إلى دمشق وأقام بها وقد انتظمت الممالك الشامية والشرقية والديار المصرية كلها في سلك ملكه وخطب له على منابرها وضربت السكة فيها باسمه. الأحداث في عهد العادل واهتمامه بحرب الصليبيين: مضت تسع سنين على وفاة الملك الناصر صلاح الدين يوسف حتى استقر ملك الشام لأخيه العادل أبي بكر بن أيوب وتخلص من أبناء أخيه الأفضل

والظاهر وغيرهما بل توفق إلى مقاصده باستفتاء العلماء بأن ملك مصر وأنقذها من حفيد أخيه صلاح الدين، وكان أخذه مصر مقدمة لاستيلائه على ملك أخيه إلا قليلاً، ومقدمة لتسلسل الملك في أولاده، إذ ليس في أبناء أخيه من يدانيه في الحقيقة بحسن السياسة وبعد النظر وكثرة التجارب والدهاء، وكان صلاح الدين يحبه ويحترمه ويستشيره في معضلات الأمور فيبين عن رأي وحنكة وسار بعض الأمراء الصلاحية الذين غذوا بنعمة صلاح الدين سيراً لا يدل على غمط نعمة ونكران جميل، ولكن كان الأفضل والظاهر والعزيز متخالفين متشاكسين، وكل منهم يطمع في الملك ويسر لأخيه وعمه حسواً في ارتغاء، فكان اختلافهم من حظ عمهم العادل وهو بتجاربه يشبه أخاه صلاح الدين من أكثر الوجوه. أما الأفضل فقد ركب هواه، وأخلد إلى اللذات والمنكرات لأول مرة واستسلم لوزيره ابن الأثير، وكان هذا صاحب دعوى عريضة، لا يراعي الحال ولا يعرف الزمان، فكتبت الغلبة للعادل، ولو ترك الأخوان الأفضل والظاهر وشأنهما بدون أن يعدل عمهما من جماحهما لاشتد غزو أحدهما لأخيه، وهلك الناس بسببهما، وكثرت الغوائل والحصارات، هذا إن لم نقل إنه كان للعادل يد في توسيع شقة الخلاف بين أولاد أخيه، فقد اتخذ العادل سياسة غريبة معهم يريد أن يوفق بينهم في الظاهر ولكن انتهى توفيقه بالاستيلاء على مصر والشام وبلاد الشرق، وذلك بأن أخذ بعض المشاكسين لحزبه وكان بعد ذلك يغتنم فرصة حمل الأخ على أخيه فيملك الولايات على نحو ما ملك مصر، ويخطب له فيها وتضرب السكة باسمه ويزال اسم أبناء صلاح الدين. مثل أبناء صلاح الدين صورة من خلاف الإخوة بعد موت أبيهم، والسبب في ذلك أن أباهم على بعد نظره لم يكتب لهم عهداً يبين لكل واحد حقه من هذا الملك الذي فتحه ووطد أساسه، بل ترك الأمر للأقدار. وإذا خلف العسكر في دمشق لأكبر أولاده الأفضل فإن المملكة ليست عبارة عن دمشق، بل حلب والقاهرة تنازعانها فضل التقدم، ولو كانت أصول الوراثة في الملك متبعة في ذلك العصر لتوفر على الأمة وأبناء الدولة عناء كبير وشر مستطير، ولما تعب الفتح بفتوحه وخلف لأبنائه ميراثاً يورثه هماً وغماً، ويجنون بعملهم على الأمة الجناية بعد الأخرى.

هذا وبقايا الصليبيين لم تبرح نازلة في عكا وصور وطرابلس، ومن حسن الطالع أنهم لم يتحركوا للفتنة طول هذه المدة سوى مرة واحدة 593 وقد وصل جمع عظيم منهم إلى الساحل واستولوا على قلعة بيروت، فسار العادل ونزل بتل العجول، وأتته النجدة من مصر ووصل إليه سنقر الكبير من القدس وميمون القصري من نابلس، ثم سار العادل إلى يافا وهجمها وملكها بالسيف وخربها وقتل المقاتلة، وكان هذا الفتح ثالث فتح لها. وخرب صيدا أيضاً ونازلت الفرنج تبنين فأرسل العادل إلى العزيز صاحب مصر فسار العزيز بنفسه بمن بقي عنده من عساكر مصر، واجتمع بعمه العادل على تبنين فرحل الفرنج إلى صور ثم عاد العزيز إلى مصر وترك غالب العسكر مع عمه العادل وجعل إليه أمر الحرب والصلح، فطاول العادل الفرنج فطلبوا الهدنة واستقرت بينهم ثلاث سنين ورجع إلى دمشق. ومن الأحداث على عهد العادل بعد أن صفا له ملك الشام ومصر وخضع أبناء أخيه صلاح الدين له ظاهراً وإن لم يخضعوا باطناً، حصار ابنه الأشرف ماردين وسعى الظاهر 599 في الصلح، فأجاب العادل إلى أن يحمل إليه صاحب ماردين مائة وخمسين ألف دينار ويخطب له ببلاده ويضرب السكة باسمه، ويكون بخدمته متى طلبه، فأجيب إلى ذلك. وسار المنصور صاحب حماة إلى بعرين مرابطاً للفرنج، وكتب العادل إلى أميري بعلبك وحمص بإنجاده فأنجداه، واجتمعت الفرنج من حصن الأكراد وطرابلس وغيرهما وقصدوا المنصور ببعرين واتقعوا معه، فانهزم الفرنج ثم خرج الاسبتار من حصن الأكراد والمرقب، وانضم إليهم جموع من الساحل والتقوا مع المنصور وهو على بعرين فانتصر عليهم ثانياً، وأسر منهم عدة كثيرة وهادنهم 600 وأرسل العادل وانتزع ما كان بيد الأفضل وهي رأس عين وسروج وقلعة نجم ولم يترك بيده غير سميساط وتوسلوا إليه في إبقاء ما كان بيده فلم يجب إلى ذلك. وخرج الفرنج 600 لقصد بيت المقدس فهرع العادل من دمشق ونزل على الطور وجرت الهدنة بينه وبينهم وسلم إلى الفرنج يافا والناصرة ونزل عن مناصفات لدّ والرملة. جاءت الفرنج 601 إلى حماة بغتة وأخذوا النساء

الغسالات من باب البلد على العاصي وامتلأت أيديهم من الغنائم وخرج إليهم المنصور بن تقي الدين وأبلى بلاء حسناً، وكسر عسكره، وحاصر الحلبيون المرقب وكادوا يفتحونها لولا قتل مقدمهم مبارز الدين، ثم هزمت فرنج طرابلس الحلبيين وقتل خلق من المسلمين وصالح العادل الفرنج، ووقعت الهدنة بين صاحب حماة وبينهم. وأغارت الأرمن 602 على أعمال حلب فتسارع إليهم العسكر فبيتوهم وهزموهم، وذهب الأرمن بالغنائم، ثم تتابعت الغارات من صاحب سيس ابن لاون الأرمني على الديار الحلبية وهابته العسكر. قال سبط ابن الجوزي: وبلغ الظاهر صاحب حلب إغارة ابن لاون على حلب فخرج من حلب ونزل مرج دابق، وجاء إلى حارم فهزم ابن لاون إلى بلاده وكان قد بنى قلعة فوق دربساك فأخربها الظاهر وعاد إلى حلب. ونازل العادل 603 عكا فصالحه أهلها على إطلاق جمع من الأسرى ثم سار إلى حمص واستدعى العساكر فأتته من كل جهة ونازل حصن الأكراد وفتح برج اعناز وأخذ منه خمسمائة رجل، ثم نازل طرابلس وعاث العسكر في ربعها وقطع قناتها وأخذ بالأمان القليعات وخربه، حتى وقعت الهدنة بينه وبين الفرنج 604 واستولى الملك الأوحد أيوب بن العادل على خلاط، ووصل للعادل التشريف من الخليفة الإمام الناصر وتقليد بالبلاد التي تحت حكمه، وخوطب الملك العادل شاهنشاه ملك الملوك خليل أمير المؤمنين، وكثر هذه السنة الفرنج الذين بطرابلس وحصن الأكراد وأكثروا الغارة على حمص وولايتها فأنجد الظاهر غازي صاحب حلب صاحب حمص فمنعوا الفرنج عن ولايته. وقطع العادل 606 الفرات وجمع العساكر والملوك من أولاده ونزل حران ونازل سنجار ثم خامرت العساكر التي صحبته، ونقض الظاهر الصلح معه، فرحل عن سنجار واستولى على نصيبين والخابور وعاد العادل 607 إلى دمشق وقصدت الكرج خلاط وحصروا الملك الأوحد بها وبعد أن نال ملكهم منه حمل ملك الكرج إلى الملك الأوحد فرد على الملك الأوحد عدة قلاع وبذل إطلاق خمسة آلاف أسير ومائة ألف دينار وعقد الهدنة مع المسلمين ثلاثين سنة وشرط أن يزوج ابنته من الملك الأوحد فتسلم ذلك منه

وتحالفا، وتوفي الملك الأوحد من قابل فسار أخوه الملك الأشرف وملك خلاط عاصمة إرمينية الوسطى، واستقل بملكها مضافاً إلى ما بيده من الأرجاء الشرقية. وفي سنة 607 أرسل نساء دمشق إلى سبط ابن الجوزي الواعظ المشهور شعورهن لتستعمل في الأدوات اللازمة للجهاد فعمل منها شكالاً للخيل وكرفسات ولما صعد المنبر في الجامع الأموي أمر بإحضارها فحملت على الأعناق وكانت ثلاثمائة شكال فلما رآها الناس صاحوا صيحة عظيمة وقطعوا مثلها ثم المجاهدون ولحقوا بالملك المعظم بنابلس فخربوا في الأقاليم الواقعة تحت حكم الفرنج وقطعوا أشجارها وأسروا جماعة منهم ولم يجسر أحدهم أن يخرج من عكا وخاف الفرنج فأرسلوا إلى العادل وصالحهم. وقبض المعظم 609 على عز الدين أسامة صاحب قلعتي كوكب وعجلون بأمر العادل متهماً بمكاتبة الظاهر، فقال له المعظم بعد أن لاطفه: أنت شيخ كبير وبك تقوس وما تصلح لك قلعة سلم إليّ كوكب وعجلون وأنا أخلفك على مالك وملكك وجميع أسبابك وتعيش معنا مثل الوالد، فامتنع وشتم المعظم وذكر كلاماً قبيحاً فلما أيس المعظم منه اعتقله في الكرك واستولى على قلاعه وأمواله وذخائره وخيله، فكانت قيمة ما أخذ منه ألف ألف دينار. وحبس أُسامة في الكرك إلى أن مات، وأمر العادل بتخريب كوكب وتعفية أثرها فخربت، وأبقى عجلون ومَلّك المعظم عمالة جهاركس وهي بانياس وما معها لأخيه العزيز عماد الدين، وأعطى صرخد مملوكه أيبك المعظمي، وأعطى العادل ولده المظفر غازي الرُّها وميافارقين، وفيها استولى البال القبرسي على إنطاكية فرميت تلك الأعمال منه بداهية، وتابع الغارات على تركمانها فشردهم فتجمعوا وأخذوا عليه المضايق وحصل في واد فقتلوه وجميع رجاله وطافوا برأسه في أعمالهم ثم حملوه في البحر إلى العادل بمصر. واستولى 612 الملك المسعود ابن الملك الكامل على اليمن واستولى ابن لاون الأرمني على إنطاكية من الفرنج وتوفي 613 الظاهر غازي ابن السلطان صلاح الدين صاحب حلب وأوصى بالملك لولده الصغير الملك العزيز محمد لأنه من بنت عمه العادل وطلب بذلك أن يستمر الأمر له لأجل جده العادل وأخواله وأولاده وبعد ذلك يكون الملك لولده الكبير الصالح صلاح الدين

الحملة الصليبية الخامسة:

أحمد، وبعدهما لابن عمهما المنصور محمد بن عبد العزيز بن عثمان، وحلف الأمراء والأكابر على ذلك، وجعل الحكم في الأموال والقلاع إلى شهاب الدين طغريل الخادم، وكانت مدة ملك الظاهر لحلب إحدى وثلاثين سنة، وكان فيه بطش وإقدام على سفك الدماء ثم أقصر عنه، وهو الذي جمع شمل البيت الناصري الصلاحي ولكن اختلافه مع أخيه الأفضل كان من أهم الأسباب في زوال الملك من ذرية صلاح الدين وكان الظاهر ذكياً فطناً. قال سبط ابن الجوزي: كان مهيباً له سياسة وفطنة وكانت دولته معمورة بالعلماء والفضلاء، مزينة بالملوك والأمراء، وكان محسناً إلى الرعية ملجأ الفقراء والغرباء وكهفاً للملهوفين. الحملة الصليبية الخامسة: بينا كانت المملكة مشتغلة بالنصب والغزل وتقاتل أبناء البيت الواحد على الملك والسلطان، اجتمعت الفرنج من داخل البحر ووصلوا إلى عكا في جمع عظيم وهذه هي الحملة الصليبية الخامسة 1219 - 1221م وكانت مؤلفة من ألمان ومجر أما الحملة الرابعة فكانت توقفت في طريقها إلى الشام واستولت 1204 - 1261م على القسطنطينية فانفسخت بذلك الهدنة بين المسلمين والفرنج وخرج العادل بعساكر مصر ونزل على نابلس فسارت الفرنج إليه، ولم يكن معه من العساكر ما يقدر به على مقاتلتهم، فاندفع قدامهم إلى عقبة فيق فأغاروا على أرض المسلمين وكانوا في خمسة عشر ألفاً ووصلت غارتهم إلى نوى ونهبوا ما بين بيسان ونابلس وبثوا سراياهم فقتلوا وغنموا من المسلمين شيئاً كثيراً وبلغوا خربة اللصوص والجولان ثم صعدوا إلى الطور ثم رجعوا إلى عكا ووصلت حملة منهم قدرها خمسمائة من صيدا إلى جزين فانهال عليهم الميادنة من الجبال فلم يفلت منهم سوى ثلاثة أشخاص. قال المؤرخون: لما قتل كند من أكناد الفرنج المشهورين على الطور تشاءموا بالمقام عليه، ورجعوا إلى عكا واختلفوا هناك فقال ملك الهنكر: الرأي أنّا نمضي إلى دمشق ونحاصرها فإذا أخذناها ملكنا الشام، فقال الملك النوّام، قالوا: إنما سمي بذلك لأنه كان إذ نازل حصناً نام عليه حتى يأخذه أي أنه كان صبوراً على حصار القلاع واسمه دستريج ومعناه المعلم بالريش لأن أعلامه كانت الريش فقال: نمضي إلى مصر فإن العساكر مجتمعة عند العادل

وفاة العادل:

ومصر خالية، فأدى هذا الاختلاف إلى انصراف ملك الهنكر مغاضباً إلى بلده فتوجهت باقي عساكرهم إلى دمياط فوصلوها، والعادل نازل على خربة اللصوص بالشام وقد وجه بعض عساكره إلى مصر. وأقام العادل بمرج الصُّفّر وأرسل إلى ملوك الشرق مستحثاً لعساكرهم. ثم سار الفرنج إلى الديار المصرية ونزلوا على دمياط وسار الكامل من مصر ونزل قبالتهم، وأرسل العادل العساكر التي عنده لدفعهم. وخرب المعظم قلعة الطور 615 بعد أن غرم المسلمون على بنائها أموالاً كثيرة واشتغلت فيها جيوش، وذلك مخافة أن تكون سبباً للاستيلاء على دمشق. ولما مات الظاهر صاحب حلب وأجلس ابنه العزيز وكان طفلاً، طمع صاحب الروم كيكاوس في الاستيلاء على حلب، وكان موت الملك ونصب طفل من أبنائه سبباً كبيراً لطمع أعداء المملكة بأخذها. فاستدعى الأفضل صاحب سمسياط واتفق معه كيكاوس أن يفتح حلب وعمالتها ويسلمها إلى الأفضل، ثم يفتح الأصقاع الشرقية التي بيد الأشرف بن العادل ويتسلمها كيكاوس، وتحالفا على ذلك فاستولى كيكاوس على رعبان وسلمها إلى الأفضل، فمالت إليه القلوب لذلك، ثم سار إلى تل باشر فأخذها لنفسه فنفر الأفضل منه وتغيرت الخواطر عليه، ووصل الأشرف إلى حلب لدفع كيكاوس عن المملكة، ووصل إليه بها مانع بن حديثة أمير العرب في جمع عظيم وكان كيكاوس سار إلى منبج وتسلمها لنفسه، واتقع بعض عسكر الأشرف مع عسكر كيكاوس فانهزمت مقدمة هذا فولى كيكاوس منهزماً، ثم حاصر الأشرف تل باشر واسترجعها مع رعبان وغيرها وتوجه الأفضل إلى سميساط. وفي هذه السنة ورد الأمر إلى المعتمد والي دمشق بالاهتمام والاستعداد واستخدام الرجال وتخريب دروب قصر حجاج والشاغور وطرف البساتين ونقل غلة داريا إلى القلعة وتغريق أراضيها بالماء فإن الفرنج مظهرون قصدها. والتقى المعظم بالفرنج على القيمون فانتصر عليهم وقتل منهم مقتلة عظيمة وأسر من الداوية. وفاة العادل: توفي الملك العادل في عالقين في الجيدور 615 وكان نازلاً بمرج الصفر وقد أرسل العساكر إلى مصر وولده الكامل بالديار المصرية ومدة ملكه نحو 19 سنة. وكان حازماً متيقظاً غزير العقل سديد الآراء ذا مكر وخديعة، توصل بدهائه إلى أن يرشي نساء قواد الصليبيين بالجواهر والمصنوعات الدمشقية

فيخدمنه مقابل ذلك بخدمات مهمة ويتجسسن له على قومهن. وكان صبوراً حليماً يسمع ما يكره ويغضي عنه، واتته السعادة واتسع ملكه وكثرت ذريته وخلف ستة عشر ذكراً عدا البنات، ورأى في أولاده ما يحب ولم ير أحد من الملوك الذين اشتهرت أخبارهم في أولاده من الملك والظفر ما رآه الملك العادل في أولاده وقد خلف آثاراً مهمة في الولايات التي تولاها، لا يزال بعضها ماثلاً وطهر جميع ولاياته من الكرخ إلى همدان والجزيرة والشام ومصر والحجاز واليمن من النساء والخمور والخواطي والقمار والمخانيث والمكوس والمظالم، وكان الحاصل من هذه الجهات من دمشق على الخصوص مائة ألف دينار. واستمتع العادل بالملك وخدم الدولة خدمة طيبة، وساعده على ذلك ضعف الصليبيين عن الحرب بعد إيقاع أخيه بهم وتشتت كلمة أبناء صلاح الدين. ولما هلك العادل لم يكن عنده أحد من أولاده حاضراً فحضر إليه ابنه المعظم عيسى وكان بنابلس وكتم موته، وأخذه ميتاً في محفة وعاد به إلى دمشق، واحتوى المعظم على جميع ما كان لأبيه من الجواهر والسلاح والخيول وغير ذلك، وكان في خزائنه سبعمائة ألف دينار، وحلف له الناس وكتب إلى الملوك من اخوته وغيرهم يخبرهم بموته، ولما بلغ الكامل موت أبيه وهو في قتال الفرنج عظم عليه جداً واختلفت العساكر عليه، فتأخر عن منزلته، وطمعت الفرنج ونهبت بعض أثقال المسلمين، وكان في العسكر عماد الدين المشطوب وكان مقدماً عظيماً في الأكراد الهكارية، فعزم على خلع الملك من السلطنة، وحصل في العسكر اختلاف كثير، حتى عزم الكامل على اللحوق باليمن. وبلغ المعظم ذلك فرحل من الشام ووصل إلى أخيه الكامل وأخرج عماد الدين ونفاه من العسكر إلى الشام فانتظم أمر الكامل، وقويت مضايقة الفرنج لدمياط وضعف أهلها بسبب الفتنة التي حصلت في عسكر الكامل من ابن المشطوب. وكان العادل قد قسم المملكة في حياته بين أولاده فجعل بمصر الكامل محمداً وبدمشق والقدس وطبرية والأردن والكرك وغيرها من الحصون المجاورة لها ابنه المعظم عيسى، وجعل بعض ديار الجزيرة وميافارقين وخلاط وأعمالها

فتح الصليبيين دمياط وذلتهم بعد العزة:

لابنه الأشرف موسى وأعطى الرها لولده شهاب الدين غازي، وأعطى قلعة جعبر لولده الحافظ أرسلان شاه. فلما توفي ثبت كل منهم في المملكة التي أعطاه إياها أبوه واتفقوا اتفاقاً حسناً، ولم يجر بينهم من الاختلاف ما جرت العادة أن يجري بين أولاد الملوك بعد آبائهم، بل كانوا كالنفس الواحدة كل منهم يثق بالآخر بحيث يحضر عنده منفرداً من عسكره ولا يخافه. قال ابن الأثير: فلا جرم زاد ملكهم ورأوا من نفاذ الأمر والحكم ما لم يره أبوهم، ولعمري إنهم نعم الملوك فيهم الحلم والجهاد والذب عن الإسلام. ودخلت سنة 616 والأشرف مقيم بظاهر حلب يدبر أمر جندها وإقطاعاتها، والكامل بمصر في مقابلة الفرنج وهم محاصرون لثغر دمياط، وكتب الكامل متواصلة إلى اخوته في طلب النجدة، ثم سقطت دمياط في أيدي الفرنج، فأرسل المعظم عيسى وخرب أسوار القدس مخافة أن يصيبها ما أصاب دمياط، ولما استولى الفرنج على دمياط، عظم الأمر على آل أيوب فكتب المعظم إلى الواعظ سبط ابن الجوزي: أريد أن تحرض الناس على الجهاد وتعرفهم ما جرى على إخوانهم أهل دمياط، وإني كشفت ضياع الشام فوجدتها ألفي قرية منها ألف وستمائة أملاك لأهلها وأربعمائة سلطانية، وأريد أن تخرج الدماشقة ليذبوا عن أملاكهم الأصاغر منهم والأكابر. فأجابوا بالسمع والطاعة ثم تخلفوا، فأخذ الثمن والخمس من أموالهم لتقاعسهم، ثم فتح المعظم قيسارية وسار إلى النهر ففتحه وهدمه وخرب في بلاد الفرنج. وفي تاريخ العلويين أن النصيرية هدموا جبلة في الحروب الصليبية ولم يبق سوى تل التويني قرب جبلة واتحد الإسماعيليون مع الأكراد في الحروب الصليبية على العلويين فاستنجدوا بالأمير حسن المكزون السنجاري فجاءهم سنة 617 في خمسة وعشرين ألفاً من العلويين ونزل على عين الكلاب بقرب قلعة أبي قبيس وعلى سطح جبل الكلبية فتجمع الإسماعيلية مع حلفائهم الأكراد واجتمعوا في مصياف وأغاروا ليلاً على جناح الأمير وعساكره وغلبوه فرجع إلى سنجار خائباً. - فتح الصليبيين دمياط وذلتهم بعد العزة: وفي سنة 618 قوي طمع الفرنج المتملكين دمياط في مدينة المنصورة التي

اختلاف بين أبناء العادل وتقدم الكامل عليهم:

بناها الكامل، وأشتد القتال بين الفريقين براً وبحراً وكتب الكامل إلى اخوته وأهل بيته يستحثهم على إنجاده فسار المعظم عيسى صاحب دمشق والأشرف صاحب الولايات الشرقية وأصحاب حلب وحماة وبعلبك وحمص فوصلوا القطر المصري والقتال مشتد بين المسلمين والفرنج، ورسل الكامل وأخويه مترددة إلى الفرنج في الصلح وقد بذل المسلمون لهم تسليم القدس وعسقلان وطبرية واللاذقية وجبلة وجميع ما فتحه صلاح الدين من الساحل ما عدا الكرك والشوبك، على أن يجيبوا إلى الصلح ويسلموا دمياط إلى المسلمين، فلم يرض الفرنج بذلك وطلبوا ثلاثمائة ألف دينار عوضاً عن تخريب أسوار القدس، وقالوا لا بد من تسليم الكرك والشوبك. وبينا الأمر متردد في الصلح عبر جماعة من عسكر المسلمين في بحر المحلة إلى الأرض التي عليها الفرنج من بر دمياط ففجروا فجرة عظيمة من بحر النيل، وكان ذلك في قوة زيادته، فركب الماء تلك الأرض وصار حائلاً بين الفرنج وبين دمياط، وانقطعت عنهم الميرة والمدد فبعثوا يطلبون الأمان على أن ينزلوا عن جميع ما بذله المسلمون لهم ويسلموا دمياط ويعقدوا الصلح. فنجت الشام ومصر من الفرنج في هذه النوبة بفضل فرجة من النيل دهمتهم ولم يكونوا من المعرفة بحيث يقدرون منازلهم، ومُنازلهم، فخابت آمالهم وخذلتهم قوتهم وتحكم فيها من كانوا يستطيلون عليهم ويشتطون في مطالبتهم وكانت مدة إقامتهم في ديار الإسلام ما بين الشام والديار المصرية أربعين شهراً وأربعة عشر يوماً. ولما انكسر الفرنج على دمياط دخل الناس كما قال ابن أبي شامة كنيسة مريم بدمشق بفرحة وسرور ومعهم المغاني والمطربون فرحاً بما جرى وهموا بهدم الكنيسة قال: وبلغني أن النصارى ببعلبك سودوا وسخموا وجوه الصور في كنيستهم حزناً على ما جرى على الفرنج فعلم بهم الوالي وأمر اليهود بصفعهم وضربهم وإهانتهم. اختلاف بين أبناء العادل وتقدم الكامل عليهم: وقصد المعظم عيسى حماة، لأن الناصر صاحبها كان قد التزم له بمال يحمله إليه إذا ملك جماة فلم يف، ونزل بعرين وغلقت أبواب حماة فجرى بينهما قتال قليل. ثم ارتحل المعظم إلى سلمية فاستولى على حواصلها

وولى عليها، ثم توجه إلى المعرة فاستولى عليها. وبلغ الأشرف ما فعله أخوه المعظم بصاحب حماة فعظم عليه ذلك، واتفق مع أخيه الكامل على الإنكار على المعظم وترحيله فأرسل إليه الكامل ناصح الدين الفارسي فوصل إلى المعظم وهو بسلمية وقال له: السلطان يأمرك بالرحيل فقال: السمع والطاعة، وكانت أطماعه قد قويت في الاستيلاء على حماة فرحل عنها مغضباً، وتسلم المظفر سلمية من أخيه الناصر، واستقر بيد هذا حماة والمعرة وبعرين، ثم سار الأشرف من مصر واستصحب معه خلعة وسناجق سلطانية من أخيه الكامل العزيز صاحب حلب وعمره عشر سنين، ووصل الأشرف بذلك إلى حلب وأركب العزيز في دست السلطنة، ولما وصل الأشرف بالخلعة إلى حلب اتفق مع كبراء الدولة الحلبية على تخريب قلعة اللاذقية فأرسلوا عسكراً وهدموها إلى الأرض. كان الأشرف أنعم على أخيه المظفر غازي بخلاط الأرمنية وهي مملكة عظيمة، وكان قد حصل بين المعظم عيسى صاحب دمشق وبين أخويه الكامل والأشرف وحشة بسبب ترحيله عن حماة، فأرسل المعظم وحسّن لأخيه المظفر غازي صاحب خلاط العصيان على أخيه الأشرف، فأجاب المظفر إلى ذلك وخالف أخاه الأشرف، وكان قد اتفق مع المعظم والمظفر غازي صاحب إربل مظفر الدين كوكبوري فسار مظفر الدين وحصر الموصل عشرة أيام ليشغل الأشرف عن قصد أخيه بخلاط، ثم رحل مظفر الدين عن الموصل لحصانتها وسار الأشرف إلى خلاط وحصر أخاه شهاب الدين غازي فسلمت إليه مدينة خلاط، وانحصر أخوه غازي بقلعتها إلى الليل فنزل من القلعة إلى أخيه الأشرف واعتذر إليه فقبل عذره وعفا عنه وأقره على ميافارقين وارتجع باقي الإمارات منه. وذكر أبو شامة في حوادث سنة 620 أن الأشرف بن العادل عاد من مصر إلى الشام قاصداً بلاده بالشرق، فالتقاه أخوه المعظم ملك الشام وعرض عليه النزول بالقلعة فامتنع. وبعد أن ذكر كيف عصا أخوه عليه في خلاط قال: إنه كتب إلى أخيه شهاب الدين غازي يطلبه فامتنع من المجيء إليه فكتب إليه: يا أخي لا تفعل أنت ولي عهدي والبلاد والخزائن بحكمك فلا تخرب بيتك بيدك وتسمع كلام الأعداء فوالله ما ينفعوك، فأظهر العصيان فجمع الأشرف

عساكر الشرق وحلب وتجهز للمسير إلى خلاط، وكان صاحب حمص قد مال إلى الأشرف فسار المعظم إلى حمص ووصل إلى حماة ونزل على بعرين وعاد إلى حمص وخرج إليه العسكر فظهروا عليه ونهبوا أصحابه فعاد إلى دمشق ولم يظفر بطائل. وفي سنة 622 توفي الملك الأفضل نور الدين علي بن صلاح الدين يوسف وليس بيده غير سميساط، وكان حسن السيرة وتجمعت فيه الفضائل والأخلاق الحسنة وكان مع ذلك قليل الحظ وله شعر جيد. وفي سنة 622 كان بأيدي الإسماعيلية ثمان قلاع وهي قلعة الكهف والعليقة والقدموس والخوابي والمينقة والمصياف والرصافة والقليعة فإن ابن صباح لم يمت حتى ملك جبل عاملة وتلك الحصون. قال ابن ميسر: إن الذين بالشام منهم يقال لهم الحشيشية، ومن كان بألموت يقال لهم الباطنية والملاحدة، ومن كان بخراسان يقال لهم التعليمية وكلهم إسماعيلية. وفي سنة 623 سار المعظم عيسى بن العادل ونازل حمص وكان قد اتفق مع جلال الدين بن خوارزم شاه ببلاده الشرقية، ثم رحل المعظم عن حمص إلى دمشق، وورد عليه أخوه الأشرف طلباً للصلح وقطعاً للفتن، فبقي مكرماً ظاهراً وهو في الباطن كالأسير معه، ولما رأى الأشرف حاله مع أخيه المظفر وأنه لا خلاص له منه إلا بإجابته إلى ما يريد إجابة 624 كالمكره إلى ما طلبه منه وحلف له أن يعاضده ويكون معه على أخيهما الكامل، وأن يكون معه على صاحبي حماة وحمص، فلما حلف له على ذلك أطلقه المعظم. قال ابن الأثير: إن اتفاق الملوك أولاد الملك العادل أبي بكر بن أيوب كان سبباً لحفظ بلاد الإسلام وسر الناس أجمعون بذلك. وفي سنة 624 قدم رسول الأنبرور ملك الفرنج البحرية على المعظم بدمشق بعد اجتماعه بالكامل، يطلب منه الإمارات التي كان فتحها عمه صلاح الدين، فأغلظ له وقال: قل لصاحبك ما أنا مثل العزيز ما له عندي إلا السيف. ولما استقرّ الأشرف بأرضه رجع عن جميع ما تقرر بينه وبين أخيه المعظم، وتأول في أيمانه التي حلفها أنه مكره، ولما تحقق الكامل صاحب مصر اعتضاد أخيه المعظم بجلال الدين خاف من ذلك، وكاتب الأنبرور ملك الفرنج

في أن يقدم إلى عكا ليشغل أخاه المعظم عما هو فيه، ووعد الأنبرور أن يعطيه القدس، فسار الأنبرور إلى عكا فبلغ المعظم ذلك فكاتب أخاد الأشرف واستعطفه. قال ابن الأثير: إن الكامل لما سار من مصر إلى دمشق خاف المعظم أن يأخذ دمشق منه، فأرسل إلى أخيه الأشرف يستنجده فسار إليه جريدة فدخل دمشق، فلما سمع الكامل بذلك لم يتقدم إليه لأن البلد منيع وقد صار به من يمنعه ويحميه، وأرسل إليه الأشرف يستعطفه ويعرفه أنه ما جاء إلى دمشق إلا طاعة وموافقة لأغراضه والاتفاق معه على قتال الفرنج فأعاد الكامل الجواب يقول: إنني ما جئت إلى هذه البلاد إلا بسبب الفرنج فإنهم لم يكن في البلاد من يمنعهم عما يريدونه، وقد عمروا صيدا وبعض قيسارية ولم يمنعوا، وأنت تعلم أن عمنا السلطان صلاح الدين فتح بيت المقدس فصار لنا بذلك الذكر الجميل على تقضي الأعصار وممر الأيام فإن أخذه الفرنج حصل لنا من سوء الذكر وقبح الأحدوثة ما يناقض ذلك الذكر الجميل الذي أدخره عمنا، وأي وجه يبقى لنا عند الناس وعند الله تعالى، ثم ما يقنعون حينئذ بما أخذوه ويتعدون إلى غيره، وحيث قد حضرت أنت فأنا أعود إلى مصر واحفظ أنت البلاد، ولست بالذي يقال عني أني قاتلت أخي أو حصرته حاشا لله تعالى، وتأخر عن نابلس إلى الديار المصرية. وانتزع هذه السنة الأتابك طغريل الشغر وبكاس من الصالح أحمد بن الملك الظاهر، وعوضه عنها بعينتاب والراوندان وفيها توفي المعظم عيسى ابن العادل، وكان شجاعاً عالماً وعسكره في غاية التجمل، يجامل أخاه الكامل ويخطب له ولا يذكر اسمه معه ولا يحب التكلف والعظمة. ذكر سبط ابن الجوزي أن المعظم كان في أيام الفتح من الفرنج يرتب النيران على الجبال من باب نابلس إلى عكا وعلى عكا جبل قريب منها يقال له الكرمل كان عليه المنورون وبينهم وبين الجواسيس علامات، وكان له في عكا أصحاب أخبار وأكثرهم نساء الخيالة فكانت طاقاتهم في قبالة الكرمل، فإذا عزم الفرنج على الغارة فتحت المرأة الطاقة، فإن كان يخرج مائة فارس أوقدت المرأة شمعة واحدة، وإن كانوا مائتين شمعتين، وإن كانوا يريدون قصد

الحملة الصليبية السادسة:

حوران أو ناحية دمشق أشارت إلى تلك الناحية، وكذا إلى نابلس، فكان قد ضيق على الفرنج الطرق وكان يعطي النساء والجواسيس في كل فتح جملة كثيرة. وترتب في مملكة المعظم وأعمالها ولده الناصر صلاح الدين داود، وقام بتدبير مملكته مملوك والده وأستاذ داره عز الدين أيبك وكان لأيبك صرخد. ولم يطل الأمر على الناصر داود في دمشق حتى طلب منه عمه الكامل صاحب مصر حصن الشوبك فلم يعطه الناصر ذلك ولا أجابه إليه، فسار الملك الكامل من مصر إلى الشام ونزل على تل العجول بظاهر غزة وولى على نابلس والقدس وغيرهما من أملاك ابن أخيه الناصر داود، فاستنجد الناصر بعمه الأشرف فجاءه من الشرق فوقع الاتفاق أن يسير الناصر داود والمجاهد شيركوه مع الأشرف إلى نابلس فيقيم الناصر داود بنابلس، ويتوجه الأشرف إلى أخيه الكامل إلى غزة، شافعاً في ابن أخيهما الناصر داود ففعلوا ذلك، ولما وصل الأشرف إلى أخيه الكامل وقع اتفاقهما في الباطن على أخذ دمشق من ابن أخيهما الناصر داود، وتعويضه عنها بحران والرها والرقة من أملاك الأشرف، وأن تستقر دمشق لالأشرف ويكون له إلى عقبة فيق، وما عدا ذلك من بلاد دمشق يكون للكامل وأن ينتزع حماة من الناصر قليج أرسلان وأن ينتزع سلمية من المظفر محمود وكانت إقطاعه ويعطي لشيركوه حمص. ووقعت سنة 625 وقعة بين المسلمين والفرنج على باب صور فلم يسلم من الفرنج سوى ثلاثة أنفس وكانت وقعة عظيمة وذلك لتحرك الفرنج في الساحل بسبب انقضاء الهدنة. الحملة الصليبية السادسة: كانت الحملة الصليبية السادسة 1228 - 1229م بزعامة الأنبرور فريدريك الثاني وكان سياسياً داهية فلم يدخل في حرب مع المسلمين بل فاوض الكامل وتسلم القدس وبيت لحم والناصرة لمدة عشر سنين وإليك ما قاله مؤرخونا في هذا الشأن: استولى الأنبرور فريدريك صاحب صقلية وبولية وانكبرديه على صيدا، وكانت مناصفة بين المسلمين والفرنج وسورها خراب فعمر الفرنج سورها واستولوا

عليها، وتم لهم ذلك بسبب تخريب الحصون القريبة منها تبنين وهونين وغيرهما. وبينا كانت الرسل تتردد بين الملك الكامل وبين الأنبرور رحل الناصر داود وهو بنابلس إلى دمشق وكان قد لحقه بالغور عمه الأشرف وعرفه ما أمر به عمه الكامل، وأنه لا يمكنه الخروج عن مرسومه فلم يلتفت الناصر إلى ذلك فسار الأشرف في أثره وحصره بدمشق، وكانت الفتنة بين الملكين الكامل والناصر قبالة باب الجديد وفي الميدان وما بين ذلك والنصر فيه لأهل دمشق، ووقع الحريق والنهب في باب توما، وأحرقت بعض الطواحين ونهبت الدور ووقع الجرح والقتل وخربوا بعد أيام قريات من قرى الغوطة وأخرجوا منها أهلها مثل جوبر وجدبا وزملكا وسقبا وغيرها. قال في الذيل: وسمعت والدي وجماعة من المشايخ الذين شاهدوا الحصارات المتقدمة في دولة أولاد صلاح الدين يحكمون أنهم ما رأوا أشد من هذا الحصار. وفي هذا الحصار أحرق الناصر للتحصن مدرسة أسد الدين وخانقاه خاتون وما يليهما من الخانات والدور والبساتين والحمامات والخانقاهات. طال الأمر ولم يجد الملك الكامل بداً من المهادنة فأجاب الأنبرور إلى تسليم القدس إليه، على أن تستمر أسواره خراباً ولا يعمرها الفرنج، ولا يتعرضوا إلى قبة الصخرة ولا إلى الجامع الأقصى، ويكون الحكم في الرساتيق إلى والي المسلمين ويكون لهم من القرى ما هو على الطريق من عكا إلى القدس فقط، ووقع الاتفاق على ذلك وتحالفا عليه وتسلم الأنبرور القدس فقامت القيامة في جميع بلاد الإسلام واشتدت العظائم، وأقيمت المآتم وقال الوعاظ والعلماء: يا خجلة ملوك المسلمين لمثل هذه الحادثة. قال ابن أبي شامة: جاءنا الخبر بأن الكامل أخلى البيت المقدس من المسلمين وسلمه إلى الفرنج فصالحهم على ذلك وعلى تسليم جملة من القرى فتسلموه ودخلوه مع ملكهم الأنبرور، وكان هذا من الوصمات التي دخلت على المسلمين، وكانت سبباً في أن توغرت قلوب أهل دمشق على الكامل ومن معه وقد ذكر سبط ابن الجوزي نكتة في تساهل الغالبين والمغلوبين إذ ذاك قال ما نصه: كان الكامل قد تقدم إلى شمس الدين قاضي نابلس أن يأمر المؤذنين ما دام الأنبرور في القدس أن لا يصعدوا المنائر ولا يؤذنوا في الحرم، فأنسي القاضي أن يعلم المؤذنين وصعد عبد الكريم المؤذن في تلك الليلة في وقت السحر والأنبرور نازل في دار القاضي فجعل يقرأ الآيات التي تختص بالنصارى مثل

اختلافات جديدة بين آل العادل:

قوله تعالى: ما اتخذ الله من ولد. ذلك عيسى بن مريم ونحو هذا. فلما طلع الفجر استدعى القاضي عبد الكريم وقال له: إيش عملت السلطان رسم كذا وكذا قال: فما عرفتني النوبة فلما كانت الليلة الثانية ما صعد عبد الكريم المئذنة، فلما طلع الفجر استدعى الأنبرور القاضي، وكان قد دخل القدس في خدمته وهو الذي سلم إليه القدس فقال له: يا قاضي أين ذاك الرجل الذي طلع البارحة المنارة وذكر ذاك الكلام، فعرفه أن السلطان أوصاه، فقال الأنبرور: أخطأتم يا قاضي تغيرون أنتم شعاركم وشرعكم ودينكم لأجلي، فلو كنتم عندي في بلادي هل أبطل ضرب الناقوس لأجلكم؟ الله الله لا تفعلوا، هذا أول ما تنقصون عندنا، ثم فرّق في القوّام والمؤذنين والمجاورين جملة أعطى كل واحد عشرة دنانير ولم يقم بالقدس سوى ليلتين وعاد إلى يافا وخاف من الداوية فإنهم طلبوا قتله. اختلافات جديدة بين آل العادل: بعد أن أحيط بدمشق من كل جانب وحلّ بها من الخراب والفساد العجائب. واشتد عليها الحصار عوّض الناصر داود عنها بالكرك والبلقاء والصلت والأغوار والشوبك، وأخذ الكامل لنفسه البلاد الشرقية التي كانت عينت للناصر وهي حران والرّها وغيرهما التي كانت بيد الأشرف، ثم نزل الناصر داود عن الشوبك وسأل عمه الكامل في قبولها فقبلها، وتسلم دمشق الأشرف، وتسلم الكامل من الأشرف الديار الشرقية المذكورة، ولما سلم الكامل دمشق إلى أخيه الأشرف سار من دمشق ونزل على مجمع المروج ثم نزل على سلمية وأرسل عسكراً نازلوا حماة وبها صاحبها الناصر قليج أرسلان. وكان في العسكر الذين نازلوه شيركوه صاحب حمص فاستسلم إليه وأخذه الى الكامل وهو نازل على سلمية فشتمه وأمر باعتقاله وأن يتقدم إلى نوابه بحماة بتسليمها إلى الكامل، فأرسل الناصر قليج أرسلان علامته إلى نوابه بحماة أن يسلموها إلى عسكر الكامل، فامتنع من ذلك الطواشيان بشر ومرشد المنصوريان، وكان بقلعة حماة أخ للناصر يلقب المعز بن الملك المنصور صاحب حماة فملكوه حماة، وقالوا للكامل، لا نملك حماة لغير واحد من أولاد تقي الدين.

فأرسل الكامل يقول للملك المظفر محمود صاحب حماة: اتفق مع غلمان أيبك وتسلم حماة وكان المظفر نازلاً على حماة من جملة العسكر الكاملي فراسل المظفر الحكام بحماة فحلفوا له وواعدوا المظفر أن يحضر بجماعته خاصة وقت السحر إلى باب النصر ليفتحوه له فدخل البلد وتسلم القلعة، وفوض تدبير حماة إلى الأمير سيف الدين علي الهدباني، ولما استقر المظفر في ملك حماة انتزع الكامل سلمية منه وسلمها إلى شيركوه صاحب حمص ورسم الكامل لأخيه المظفر أن يعطي أخاه الناصر قليج أرسلان بعرين بكمالها، ولم يبق بيد المظفر غير حماة والمعرة، ثم رحل الكامل عن سلمية إلى الديار الشرقية التي أخذها من أخيه الأشرف عوضاً عن دمشق، وأرسل الأشرف أخاه صاحب بصرى الصالح إسماعيل بن العادل بعسكر فنازل بعلبك وبها الأمجد بهرام شاه، ولما طال الحصار عليها سلمها الأمجد، وعوضه الأشرف عنها الزبداني وقصير دمشق ومواضع أخر. وقصد الفرنج حصن بارين ونهبوا بلاده وأعماله وأسروا وسبوا ومن جملة من ظفروا به طائفة من التركمان كانوا نازلين في ولاية بارين فأخذوهم ولم يسلم منهم إلا النادر الشاذ. وفي سنة 627 شرع صاحب حمص شيركوه في عمارة قلعة شميميس فأراد المظفر صاحب حماة منعه من ذلك ثم لم يمكنه ذلك لكونه بأمر الكامل. وفيها جمعت الفرنج من حصن الأكراد وقصدوا حماة فخرج إليهم صاحبها المظفر محمود والتقاهم عند قرية بين حماة وبعرين يقال لها أفيون وكسروهم كسرة عظيمة. وفي سنة 628 سار الكامل من مصر إلى دمشق فسلمية واجتمع معه ملوك أهل بيته في جمع عظيم ثم سار بهم إلى آمد وحصرها وتسلمها من صاحبها المسعود ابن الملك الصالح محمود، وكان سبب انتزاع الكامل آمد من المسعود لسوء سيرته وتعرضه لحريم الناس، وحاصر المظفر صاحب حماة أخاه الناصر ببعرين بأمر العادل خوفاً من أن يسلمها للفرنج لضعفه عنهم، وانتزعها منه وأكرمه وسأله الإقامة عنده بحماة فسار إلى أخيه الكامل في مصر. وسار الكامل من مصر 631 إلى قتال كيقباذ ملك الروم وقد استصحب معه ستة عشر ملكاً من ملوك الشام والجزيرة من أخوته وآل بيته في عسكرهم وقطعوا الفرات وانهزم العسكر الكاملي على خرتبرت، وذلك لأن الملوك الذين في خدمته

خامروا عليه خاتلوه وتقاعدوا عن الحرب لأن شيركوه صاحب حمص سعى إليهم وقال: إن السلطان ذكر أنه متى ملك بلاد الروم فرقها على الملوك من أهل بيته عوض ما بأيديهم من الشام، ويأخذ الشام جميعه لينفرد بملك الشام ومصر، فتقاعدوا عن القتال وفسدت نياتهم فرجع الكامل إلى مصر وعاد كل واحد من الملوك إلى بلده. وفي سنة 633 سار الناصر داود من الكرك إلى بغداد ملتجئاً إلى الخليفة المستنصر لما حصل عنده من الخوف من عمه الكامل. وسار الكامل من مصر واسترجع حرّان والرّها من كيقباذ صاحب الروم، وكان استولى عليهما في السنة الماضية بعد رحيل الكامل عن أرضه. وبدت في هذه السنة طلائع الشر قال سبط ابن الجوزي: وكانوا في مائة طلب كل طلب خمسمائة فارس. وتوفي العزيز صاحب حلب حفيد صلاح الدين يوسف بن أيوب، وكان حسن السيرة في رعيته عن ثلاث وعشرين سنة وستة أشهر، وتقرر في الملك بعده ولده الناصر يوسف وعمره نحو سبع سنين وقام بتدبير الدولة شمس الدين لولو الأرمني وعز الدين عمر بن مجلي وجمال الدين إقبال الخاتوني، والمرجع في الأمور إلى والدة العزيز ضيفة خاتون بنت الملك العادل. وقويت الوحشة بين الكامل وبين أخيه الأشرف وكان ابتداؤها ما فعله شيركوه صاحب حمص لما قصد الكامل بلاد الروم فاتفق الملك مع صاحبة حلب ضيفة خاتون أخت الكامل ومع باقي الملوك على خلاف الكامل خلا المظفر صاحب حماة، فلما امتنع تهدده الأشرف بقصد بلاده وانتزاعها منه فقدم خوفاً من ذلك إلى دمشق، وحلف للملك الأشرف ووافقه على قتال الكامل وكاتب الأشرف كيخسرو صاحب بلاد الروم واتفق معه على قتال أخيه الكامل إن خرج من مصر. وتوجه عسكر حلب مع المعظم توران شاه عم العزيز فحاصروا بغراس وكان قد عمرها الداوية بعدما فتحها صلاح الدين يوسف وخربها وأشرف عسكر حلب على أخذها ثم رحلوا عنها بسبب الهدنة مع صاحب إنطاكية، ثم إن الفرنج أغاروا على ربض دربساك وهي حينئذ لصاحب حلب فوقع بهم عسكر حلب وولى الفرنج منهزمين وكثر فيهم القتل والأسر وعاد عسكر حلب بالأسرى ورؤوس الفرنج وكانت هذه الوقعة من أجل الوقائع.

وفاة الملك الكامل وحال الشام بعده:

توفي الأشرف 635 وتملك دمشق بعده أخوه الصالح إسماعيل بعهد منه. قال أبو الفداء: وكان الأشرف مفرط السخاء يطلق الأموال الجليلة النفيسة، وكان ميمون النقيبة لم تنهزم له راية، وكان سعيداً ويتفق له أشياء خارقه للعقل. وعلّل الأشرف سبب الوحشة بينه وبين أخيه الكامل ثم صاحب مصر أن الأشرف لم يبق بيده غير دمشق وعمالتها، وكانت لا تفي بما يحتاجه وما يبذله وقت قدوم أخيه الكامل إلى دمشق، ولما فتح الكامل آمد وما إليها لم يزده منها شيئاً وبلغه أن الكامل يريد أن ينفرد بمصر والشام وينتزع دمشق منه فتغير بسبب ذلك، ولما بلغ الكامل في مصر وفاة أخيه الأشرف سار إلى دمشق وكان الصالح إسماعيل قد استعد للحصار ووصلت إليه نجدة الحلبيين وصاحب حمص، فنازل الكامل دمشق وأخرج الصالح النفاطين فأحرق العقيبة جميعها وما بها من خانات وأسواق، وفي مدة الحصار وصل من عند صاحب حمص رجالة يزيدون على خمسين رجلاً نجدة للصالح إسماعيل، فظفر بهم الكامل فشنقهم بين البساتين عن آخرهم، وحال نزول الكامل على دمشق أرسل توقيعاً للمظفر صاحب حماة بسلمية ثم سلم الصالح إسماعيل دمشق إلى الكامل وتعوض عنها بعلبك والبقاع مضافاً إلى بصرى. قال ابن أبي شامة في هذا الحصار: إنه كان أكثر خراباً في ظاهر البلد وحريقاً ومصادرة وأقل غلاءً ولم تطل مدته فإن الصلح جرى، ووافق اليوم الذي كسرت فيه الفرنج على دمياط اليوم الذي فتحت فيه آمد. وفاة الملك الكامل وحال الشام بعده: توفي الكامل بدمشق هذه السنة 635 بعد أن حكم في مصر نائباً وملكاً نحو أربعين سنة، حكم نائباً نحو عشرين سنة وملكاً نحو عشرين، وكان ملكاً جليلا مهيباً حازماً حسن التدبير أمنت الطرق في أيامه وكان يباشر تدبير المملكة بنفسه. قال ابن خلكان: كان سلطاناً عظيم القدر جميل الذكر، محباً للعلماء متمسكاً بالسنة النبوية حسن الاعتقاد، معاشراً لأرباب الفضائل، حازماً في أموره، لا يضع الشيء إلا في موضعه من غير إسراف ولا إقتار. وكان يخطب له بمكة: مالك مكة وعبيدها، واليمن وزبيدها، ومصر وصعيدها، والشام وصناديدها الخ.

وكان مع الكامل بدمشق الناصر داود صاحب الكرك فاتفقت آراء الأمراء على تحليف العسكر العادل أبي بكر بن الكامل، وهو حينئذ نائب أبيه بمصر فحلف له جميع العسكر وأقاموا في دمشق الملك الجواد يونس بن مودود بن العادل نائباً عن العادل أبي بكر بن الكامل، وتقدمت الأمراء إلى الناصر داود بالرحيل عن دمشق وهددوه إن أقام، فرحل إلى الكرك وتفرقت العساكر. وأرسل صاحب حمص فارتجع سليمة من صاحب حماة، وقطع القناة الواصلة من سلمية إلى حماة فيبست بساتينها، ثم عزم على قطع نهر العاصي عن حماة فسدّ مخرجه من بحيرة قدس بظاهر حمص فبطلت نواعير حماة والطواحين. لما بلغ الحلبيين موت الكامل اتفقت آراؤهم على أخذ المعرة ثم أخذ حماة من صاحبها المظفر لموافقته الكامل على قصدهم، ووصل عسكر حلب إلى المعرة وانتزعوها من يد المظفر وحاصروا قلعتها، وخرجت المعرة عن ملك المظفر، ثم سار العسكر الحلبي ونازلوا حماة ونهبوا أرجاءها، ولما لم يبق بيد المظفر غير حماة وبعرين خاف أن تخرج بعرين بسبب قلعتها فتقدم بهدمها فهدمت إلى الأرض. وجرى بين الناصر داود صاحب الكرك وبين الملك الجواد يونس المتولي على دمشق مصاف بين جينين ونابلس، انتصر فيه الجواد يونس وانهزم الناصر داود هزيمة قبيحة، وقوي الملك الجواد بسبب هذه الوقعة وكان في عسكر مصر والشام، وتمكن من دمشق ونهب عسكر الناصر وأثقاله. واستولى الصالح أيوب بن الكامل على دمشق وأعمالها بتسليم الجواد يونس وأخذ العوض عنها سنجار والرقة وعانة، ولما استقر ملك الصالح بدمشق وردت عليه كتب المصريين يستدعونه إلى مصر ليملكها، فذهب وجعل نائبه في دمشق، ولده الملك المغيث فتح الدين عمر، وكان الجواد لما يئس من ملك الشام فرق الضياع على الأمراء وخلع عليهم، وفرغ الخزائن وكان فيها تسعمائة ألف دينار. وفي رواية أنه فرق من خزائن دمشق ستة آلاف ألف دينار وخلع خمسة آلاف خلعة. وفي سنة 637 هاجم الصالح إسماعيل صاحب بعلبك ومعه شيركوه

صاحب حمص مدينة دمشق وحصروا القلعة فخربت بذلك دور ومدارس تحت القلعة ثم تسلم الصالح إسماعيل القلعة وحاصر الصالح نجم الدين أيوب حمص. ولما بلغ استيلاء عمه إسماعيل على دمشق رحل من نابلس إلى الغور، وكان هناك قاصداً إلى مصر للاستيلاء عليها، ففسدت نيات عساكره عليه، وشرعت الأمراء ومن معه من الملوك يحركون نقاراتهم ويرحلون مفارقين الصالح أيوب إلى الصالح إسماعيل بدمشق، فلم يبق عند الصالح أيوب بالغور غير مماليكه فأصبح لا يدري ما يفعل ولا له موضع يقصده، فأمسكه الناصر داود صاحب الكرك واعتقله عنده مبجلاً. وقصد الناصر داود القدس وكان الفرنج قد عمروا قلعتها بعد موت الكامل فحاصرها وفتحها وخرب القلعة وضرب برج داود. وتوفي الملك المجاهد شيركوه صاحب حمص وكان عسوفاً لرعيته وملك حمص نحو ست وخمسين سنة ملكه أياها صلاح الدين يوسف.

انقراض الأيوبيين وظهور دولة المماليك البحرية

انقراض الأيوبيين وظهور دولة المماليك البحرية وظهور التتر من سنة 637 إلى سنة 690 ظهور الخوارزمية: بينا كان أبناء أيوب يتقاتلون على الملك والصليبيون قد أخلدوا إلى السكون بعد هدنة صاحب مصر معهم واكتفوا بما ملكوه من مدن الساحل والقدس، جاء الخوارزمية يعيثون في الديار الشامية ويروعون أهلها ويقتلون فيهم ويخربون العامر. الخوارزمية عسكر جلال الدين منكبرتي أحد ملوكهم الذي استولى على إيران والعراق وأذربيجان وكرجستان، وكانت عاصمة ملكه تبريز. جاءوا سنة 634 إلى البلاد الشرقية فاستخدمهم الصالح أيوب بن الكامل وكان في آمد وحصن كيفا وحران وغيرها نائباً عن أبيه. جاءوا بعد أن قتلوا ملكهم وانضموا إلى كيقباذ ملك الروم وخدموا عنده وكان فيهم عدة مقدمين، فلما مات كيقباذ وتولى ابنه كيخسرو وقبض على بركت خان أكبر مقدميهم، ففارقت الخوارزمية حينئذ خدمته وساروا عن الروم ونهبوا ما كان على طريقهم، فاستمالهم الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل واستأذن أباه في استخدامهم فأذن له واستخدمهم، فما زال هؤلاء العسكر يتقدمون حتى نازلوا حمص مع صاحب حماة الملك المظفر. كثر عيث الخوارزمية وفسادهم بعد مفارقة الصالح أيوب البلاد الشرقية وساروا إلى قرب حلب 638 فخرج إليهم عسكرها مع المعظم تورانشاه ابن صلاح الدين ووقع بينهم القتال فانهزم الحلبيون هزيمة قبيحة وقتل منهم

خلق كثير، منهم الصالح بن الأفضل بن صلاح الدين، وأسر مقدم جيش المعظم، واستولى الخوارزميون على أثقال الحلبيين وأسروا منهم عدة كثيرة. وكانوا يقتلون بعض الأسرى ليشتري غيره نفسه منهم بماله فأخذوا بذلك شيئاً كثيراً، ثم نزل الخوارزمية على حيلان وكثر عيثهم وفسادهم ونهبهم في أرجاء حلب، وأحرقوا الأقوات في القرى، ودخلوا مدينة حلب واستعد أهلها للحصار، وارتكب الخوارزمية من الفواحش والقتل ما ارتكبه التتر، ثم سار الخوارزمية إلى منبج وفعلوا فيها من القتل والنهب مثل ما تقدم ورجعوا إلى حران وما معها. ثم قصدوا إلى الجبول ثم إلى تل عزاز ثم إلى سرمين ودخلوا دار الدعوة الإسماعيلية ووافوا المعرة وهم ينهبون ما يجدونه، وقد جفل الناس من بين أيديهم. وكان قد وصل المنصور إبراهيم بن شيركوه صاحب حمص ومعه عسكر من عسكر الصالح إسماعيل المستولي على دمشق نجدة للحلبيين، فاجتمع الحلبيون مع صاحب حمص المذكور وقصدوا الخوارزمية واستمرت الخوارزمية على ما هم عليه من النهب حتى نزلوا على شيزر ونزل عسكر حلب على تل السلطان، ثم رحلت الخوارزمية إلى جهة حماة ولم يتعرضوا إلى نهب لانتماء صاحبها المظفر إلى الصالح أيوب، ثم سارت الخوارزمية إلى سلمية فالرصافة طالبين الرقة، وسار عسكر حلب من تل السلطان إليهم ولحقتهم العرب فألقت الخوارزمية ما كان معهم من المكاسب وأطلقوا الأسرى. ووصلت الخوارزمية إلى الفرات ولحقهم عسكر حلب وصاحب حمص قاطع صفين فعمل لهم الخوارزمية ستائر ووقع القتال بينهم إلى الليل، فقطع الخوارزمية الفرات وساروا إلى حران فسار عسكر حلب إلى البيرة وقطعوا الفرات منها، وقصدوا الخوارزمية واتقعوا قريب الرها، فولى الخوارزميون وركب صاحب حمص وعسكر حلب أقفيتهم يقتلون ويأسرون. ثم سار عسكر حلب إلى حران فاستولوا عليها، وهربت الخوارزمية إلى عانة وبادر صاحب الموصل إلى نصيبين ودارا وكانت للخوارزمية فاستولى عليهما، وخلص من كان بهما من الأسرى، وكان منهم المعظم توران شاه أسيراً في دارا من حين أسروه في كسرة الحلبيين، واستولى عسكر حلب على الرقة

اختلاف بني أيوب واعتضاد بعضهم الفرنج وعودة

والرها وسروج ورأس عين وما مع ذلك. واستولى المنصور إبراهيم على الخابور ثم سار عسكر حلب ووصل إليهم نجدة من الروم وحاصروا المعظم ابن الصالح أيوب بآمد وتسلموها منه وتركوا له حصن كيفا وقلعة الهيثم. - اختلاف بني أيوب واعتضاد بعضهم الفرنج وعودة الخوارزمية: كان الملك الجواد يونس بن مودود قد استولى بعد ملك دمشق على سنجار وعانة، فباع عانة من الخليفة المستنصر بمال تسلمه منه وسار لولو صاحب الموصل وحاصر سنجار ويونس غائب عنها فاستولى عليها ولم يبق بيد يونس من الملك شيء، فسار على البرية إلى غزة وأرسل إلى الصالح أيوب صاحب مصر يسأله في المصير إليه فلم يجبه إلى ذلك، فسار يونس حينئذ ودخل عكا، وأقام مع الفرنج فأرسل الصالح إسماعيل صاحب دمشق حينئذ وبذل مالاً للفرنج وتسلم الملك الجواد من الفرنج واعتقله ثم خنقه 638. وكان قد قوي خوف الصالح إسماعيل صاحب دمشق من ابن أخيه الصالح أيوب صاحب مصر فسلم الصالح إسماعيل صفد والشقيف إلى الفرنج ليعضدوه ويكونوا معه على ابن أخيه صاحب مصر مما لم يعهد له مثال في تاريخ بني أيوب اللهم إلا ما كان من مفاوضة الكامل صاحب مصرب لملك الفرنج سنة 624 في أن يَقْدُم إلى عكا ليشغل أخاه المعظم عما هو فيه ووعده له بإعطائه القدس، وكان ذلك خديعة من الكامل لأخيه المعظم حتى لا يستنجد بأحد من ملوك الأطراف عليه إذا لم يتم شيء من ذلك. وقد أنكر على الصالح إسماعيل كل من شيخ الشافعية والمالكية بدمشق فعزلا من وظائفهما وسجنا بقلعة دمشق. وكان في سنة 640 مصاف بين الخوارزمية، ومعهم المظفر غازي صاحب ميافارقين، وبين عسكر حلب ومعهم المنصور إبراهيم صاحب حمص، وذلك بالقرب من الخابور، فانهزم الخوارزمية وصاحبهم أقبح هزيمة، ونهب منهم عسكر حلب شيئاً كثيراً، ونهبت وطاقات الخوارزمية ونساؤهم.

وتوفيت هذه السنة ضيفة خاتون والدة الملك العزيز وابنه الملك العادل، وكانت تصرفت في ملك حلب تصرف السلاطين وقامت بالملك أحسن قيام، وكان عمر ابن ابنها الملك الناصر يوسف بن العزيز نحو ثلاث عشرة سنة فأشهد عليه أنه بلغ وحكم واستقل بمملكة حلب وما هو مضاف إليها، والمرجع في الأمور إلى جمال الدين إقبال الأسود الخصي الخاتوني. وفي السنة التالية قصدت التتر مملكة صاحب الروم السلجوقي فاستنجد بالحلبيين فأرسلوا إليه نجدة مع ناصح الدين الفارسي فانهزم الروم والحلبيون. وسار الصالح وحاصر عجلون ولم يقدر على فتحها. وفيها كانت المراسلة بين الصالح أيوب صاحب مصر والصالح إسماعيل صاحب دمشق في الصلح، واتفق الصالح إسماعيل مع الناصر داود صاحب الكرك واعتضدا بالفرنج وسلما أيضاً إلى الفرنج عسقلان وطبرية. فعمر الفرنج قلعتيهما وسلما أيضاً إليهم القدس بما فيه من المزارات. ووصلت الخوارزمية 642 إلى غزة باستدعاء الملك الصالح أيوب لنصرته على عمه الصالح إسماعيل، وكان مسيرهم على حارم والرُّوج إلى أطراف دمشق حتى وصلوا إلى غزة ودمروا بيت لحم، ووصل إليهم عدة كثيرة من العساكر المصرية، وأرسل الصالح إسماعيل عسكر دمشق مع صاحب حمص ودخل عكا، فاستدعى الفرنج على ما كان قد وقع عليه اتفاقهم ووعدهم بجزء من مصر وكان أعطاهم الشقيف فخرجت الفرنج بالفارس والراجل، واجتمعوا أيضاً بصاحب حمص وعسكر دمشق والكرك ولم يحضر الناصر داود ذلك، والتقى الفريقان بظاهر غزة فانهزم الفرنج وولى عسكر دمشق وصاحب حمص والكركيون، وتبعهم عسكر مصر والخوارزمية فقتلوا منهم خلقاً عظيماً. قيل: إن القتلى زادوا على الثمانمائة وإنه أسر من الفرنج ثمانمائة. قال ابن أبي شامة: كسرت الفرنج ومن انضم إليهم من منافقي المسلمين كسرة عظيمة في عسقلان وغزة وغنم منهم أموال عظيمة وأُسر من الفرنج خلق من ملوكهم وكبرائهم وقتل منهم مقتلة عظيمة. واستولى الصالح أيوب صاحب مصر على غزة والسواحل والقدس ثم أرسل باقي عسكر مصر مع معين الدين بن الشيخ، واجتمع إليه من بالشام من عسكر

مصر والخوارزمية، وساروا إلى دمشق وحاصروها وبها صاحبها الصالح إسماعيل وإبراهيم بن شيركوه صاحب حمص ولما ضاق صاحب دمشق ذرعاً بحصار صاحب مصر له سير الصالح إسماعيل وزيره أمين الدولة إلى العراق مستشفعاً بالخليفة ليصلح بينه وبين ابن أخيه فلم يجب الخليفة إلى ذلك. وتسلم عسكر الملك الصالح أيوب دمشق من الصالح إسماعيل بن الملك العادل على أن يستقر بيد الصالح إسماعيل بعلبك وبصرى والسواد وتستقر حمص وما هو مضاف إليها بيد صاحبها. ثم إن الخوارزمية خرجوا من طاعة الصالح أيوب فإنهم كانوا يعتقدون أنهم إذا كسروا الصالح إسماعيل وفتحوا دمشق يحصل لهم من الإقطاعات ما يرضي خاطرهم، فلما لم يحصل لهم ذلك خرجوا من طاعة الصالح أيوب وصاروا مع الصالح إسماعيل، وانضم إليهم الناصر داود صاحب الكرك وساروا إلى دمشق وحصروها فقاسى أهلها شدة عظيمة. قال الذهبي: واشتد البلاء بدمشق واحترقت العقيبة والخوانيق، ودام الحصار والويل خمسة أشهر، وهلك العوام موتاً وجوعاً، وقل الشيء بالبلد حتى بلغت غرارة القمح ألفاً وستمائة درهم وأُبيع الخبز كل أوقيتين بدرهم، وأكلوا الميتة وأُبيعت الأملاك والأمتعة بالشيء اليسير، وأُبيع رطل اللحم بتسعة دراهم، وأنتن البلد بالموتى على الطرق، وعظم الخطب وأُولئك يقاتلون على الملك، والخمور الفاحشة مضمنة بالبلد والمكوس شديدة. وقال غيره: وقطعت الخوارزمية على الناس والطرق وزحفوا إلى البلد من كل ناحية ورموا النيران في قصر حجاج وضربوا بالمناجيق وكان يوماً عظيماً، وبعث الصالح إسماعيل الزراقين فأحرقوا جوسق العادل وزقاق الرمان إلى العقيبة بأسرها، ونهبت أموال الناس واحترق بعضها. وزاد سبط ابن الجوزي: إنه أحرق قصر حجاج والشاغور واستولى الحريق على مساجد وخانات ودور عظيمة، ثم نصبت على دمشق المناجيق ورميت به من بابي الجابية والصغير، ونصبت مناجيق أيضاً من داخل البلد، وترامى الفريقان وأمر بتخريب عمارة العقيبة خارج باب الفراديس وباب السلامة وباب الفرج وأحرق حكر السماق وخارج باب النصر. وأرسل الصالح إسماعيل فأحرق جوسق والده العادل. قال المؤرخون: وجرى بدمشق أمور شنيعة بشعة جداً لم يتم عليها مثلها قط.

وفي هذه السنة تسلمت نواب المنصور صاحب حماة سلمية وانتزعوها من صاحب حمص وفي سنة 642 اجتمعت الفرنج من بلاد الشقيف وبلاد عامل وقصدوا وادي التيم فجمع الأمير عامر الشهابي عساكره وفرسان عشيرته ونهض لملتقاهم، واستنجد بالأمير عبد الله المعني فجمع أهالي الشوف وسار لنجدة الأمير عامر، والتقى الجمعان في مرج الخيام وصدمتهم الفرنج ودام القتال ثلاثة أيام، وهلك من الفريقين خلق كثير وفي اليوم الرابع هجمت عساكر آل معن وآل شهاب على الفرنج فنكسوا أعلامهم وولوا مدبرين، عظمت بعد ذلك إمارة الأمير عامر واشتهرت صولته وأخذ قطائع في البقاع وأنشأ فيها مغارات عديدة. وفي سنة 644 اتفق الحلبيون والمنصور صاحب حمص وصاروا مع الصالح أيوب وقصدوا الخوارزمية فرحلت الخوارزمية عن دمشق وساروا نحو الحلبيين وصاحب حمص، والتقوا على بحيرة قدس فانهزمت الخوارزمية هزيمة قبيحة تشتت شملهم بعدها، ومضت طائفة من الخوارزمية إلى التتر وصاروا معهم وانقطع منهم جماعة وتفرقوا في الشام وخدموا به. ورحل حسام الدين الهذباني بمن عنده من العسكر بدمشق، ونازل بعلبك وبها أولاد الصالح إسماعيل وحاصرها وتسلمها بالأمان، وحمل أولاد الصالح إسماعيل إلى الصالح أيوب بديار مصر فاعتقلوا هناك، وكذلك بعث بأمين الدولة وزير الصالح إسماعيل فاعتقل، فلم يبق في دمشق وعملها من يدفع عنها، فأرسل صاحب مصر عسكراً مع يوسف ابن الشيخ إلى الناصر داود صاحب الكرك فاستولى فخر الدين على بلاده وحاصر الكرك وخرب ضياعها وضعف الناصر ولم يبق بيده غير الكرك، وصادف وفاة صاحب عجلون سيف الدين بن قليج فتسلم الملك الصالح أيوب عجلون أيضاً. وفتح 645 ابن الشيخ قلعتي عسقلان وطبرية بعد محاصرتهما مدة وكان عمّرها الفرنج بعد استيلائهم عليهما سنة 641. وسلم الأشرف صاحب حمص قلعة شميميس للملك الصالح أيوب فعظم ذلك على الحلبيين لئلا يحصل الطمع للصالح في ملك باقي الشام. وفي سنة 646 أرسل الناصر صاحب حلب عسكراً مع شمس الدين لولو الأرمني فحاصروا الأشرف بحمص فسلمهم إياها،

وفاة الملك الصالح ومبدأ دولة المماليك:

وتعوض عنها بتل باشر مضافاً إلى ما بيده من تدمر والرحبة. ولما بلغ ذلك الصالح أيوب شق عليه وسار من مصر إلى الشام لارتجاع حمص من الحلبيين ونصب عسكره عليها منجنيقاً مغربياً يرمي بحجر زنته مائة وأربعون رطلاً بالشامي مع عدة منجنيقات أُخر، ثم رحل عنها لمرض عرض له، ولوصول الفرنج إلى دمياط ولمجيء رسول الخليفة والسعي في الصلح بين الصالح أيوب والحلبيين وأن تستقر حمص بيد الحلبيين. ثم استولى الصالح أيوب على الكرك أعطاه مفاتيحها الأمجد فوهبه خمسين ألف دينار. وفاة الملك الصالح ومبدأ دولة المماليك: توفي الملك الصالح أيوب في سنة 647 وكان ملك مصر والقسم الأعظم من الشام. وصفه أبو الفداء بأنه كان مهيباً عالي الهمة عفيفاً شديد الوقار والصمت جمع من المماليك الترك ما لم يجتمع لغيره من أهل بيته، حتى كان أكثر أمراء عسكره مماليكه، ورتب جماعة من المماليك الترك حول دهليزه دعوا بالبحرية لأنهم كانوا ينزلون في ثكنات لهم في جزيرة الروضة على البحر بحر النيل وكانوا أول كتلة اجتمعت من هذا الجيل من الناس وألفوا دولة المماليك البحرية. مات الملك الصالح ولم يوص بالملك إلى أحد فأحضرت شجرة الدر، وهي جارية الملك الصالح، فخر الدين بن الطواشي وجمال الدين محسناً وعرفتهما بموت السلطان، فكتموا ذلك خوفاً من الفرنج، وجمعت شجرة الدر الأمراء وقالت لهم: السلطان يأمركم أن تحلفوا له ثم من بعده لولده المعظم تورانشاه المقيم بحصن كيفا، فجاء وتسلم ملك مصر إلا أنه مدته لم تطل أكثر من شهرين وأياماً، فقتله المماليك البحرية الذين أنشأهم والده، وكان أول من ضربه ركن الدين بيبرس الذي صار سلطاناً فيما بعد ولقب بالملك الظاهر، والسبب في قتله أنه اطرح جانب أمراء أبيه ومماليكه واعتمد على بطانته التي وصلت معه من حصن كيفا وكانوا أرذال. وأقام رجال الدولة شجرة الدر زوجة الملك في المملكة وخطب لها على المنابر وضربت السكة باسمها، وأرسل المصريون رسولاً إلى من بدمشق من الأمراء في موافقتهم على ذلك فلم يجيبوا إليه، وكاتب الأمراء القيمرية الناصر يوسف صاحب حلب فسار إليهم وملك

دمشق وعصت عليه بعلبك وعجلون وشميميس مدة ثم سلمت جميعها إليه، ولما ورد الخبر بذلك إلى مصر قبضوا على من عندهم من القيمرية وعلى كل من اتهم بالميل إلى الحلبيين. ثم اتفق كبراء الدولة على إقامة شخص من بني أيوب في السلطنة فسلطنوا الملك الأشرف موسى بن يوسف. وكان بغزة جماعة من عسكر مصر فسار إليهم عسكر دمشق فاندفعوا إلى الصالحية واتفقوا على طاعة المغيث صاحب الكرك وخطبوا له بالصالحية، ولما جرى ذلك اتفق كبراء الدولة بمصر ونادوا أن المملكة للخليفة المستعصم، ثم جددت الأيمان للملك الأشرف موسى بالسلطنة ولأيبك التركماني بقيادة الجيش، ورحل فارس الدين أقطاي الصالحي مقدم البحرية متوجهاً من مصر إلى غزة ومعه تقدير ألفي فارس فلما بلغها اندفع من كان بها من جهة الناصر بين يديه. وبعد مقتل المعظم تورانشاه بيد المماليك البحرية غضب معظم رجال الدولة في مصر والشام، وكاد الإجماع يقع على سلطنة أحد من آل أيوب حتى لا يخرج الأمر عنهم بالمرة، وهذا ما حدا ببعض بقايا الأيوبيين في الشام إلى أن يجمعوا شملهم ويسيروا إلى مصر للمطالبة بسلطنتهم وسلطنة آبائهم. فسار الناصر صلاح الدين يوسف بن العزيز صاحب دمشق بعساكره من عاصمته وصحبته من ملوك أهل بيته الصالح إسماعيل والأشرف موسى تورانشاه وأخوه نصرة الدين والأمجد حسن والظاهر شاذي أبناء الناصر داود بن المعظم وتقي الدين عباس بن العادل قاصدين مصر لفتحها فاهتم المصريون لقتالهم، والتقى العسكران المصري والشامي بالقرب من العباسية فكانت الكسرة أولاً على عسكر مصر، ولما انكسر المصريون تبعتهم العساكر الشامية ولم يشكوا في النصر، بقي الناصر تحت السناجق السلطانية فحمل المعز التركماني بمن معه عليه، فولى الناصر منهزماً طالباً الشام وأسر معظم أهل بيته من الملوك واستقر الصلح 651 بين الناصر يوسف صاحب الشام وبين البحرية بمصر على أن يكون للمصريين إلى نهر الأردن وللناصر ما وراء ذلك، وكان نجم الدين الباذرائي رسول الخلافة هو الذي حضر من جهة الخليفة وأصلح بينهم على ذلك ورجع كل منهم إلى مقره.

ثم اغتال المعز أيبك المستولي على مصر خوشداشه أقطاي الجمدار، فلما علمت البحرية بذلك هربوا من ديار مصر إلى الشام، وكان الفارس أقطاي يمنع أيبك من الاستقلال بالسلطنة، وكان الأسم للأشرف موسى فلما قتل أقطاي استقل المعز بالسلطنة وأبطل الأشرف موسى منها بالكلية، وبعث به إلى عماته، والأشرف آخر من خطب له من بيت أيوب بالسلطنة في مصر. ولما وصلت البحرية إلى الناصر يوسف صاحب الشام أطمعوه في ملك مصر فرحل من دمشق بعسكر ونزل الغور وأرسل إلى غزة عسكراً فنزلوا بها وبرز المعز أيبك صاحب مصر إلى العباسية، ومشى نجم الدين الباذرائي في الصلح بين المصريين والشاميين واتفقت الحال أن يكون للناصر الشام جميعه إلى العريش ويكون الحد بين الورادة والعريش، وقتلت شجرة الدر المعز أيبك التركماني الصالحي، وكانت امرأة أستاذه الملك الصالح أيوب ثم تزوج بها، وكان سبب ذلك أنه بلغها أن المعز أيبك قد خطب بنت بدر الدين لولو صاحب الموصل فقتلته في الحمام، ونصبوا نور الدين علي بن المعز أيبك ولقبوه الملك المنصور سلطاناً على مصر والشام. ونقل إلى الناصر يوسف صاحب دمشق أن البحرية يريدون أن يفتكوا به فاستوحش منهم وتقدم إليهم بالانتزاح عن دمشق فساروا إلى غزة، فأرسل عسكراً في أثرهم فكبس البحرية ذلك العسكر ونالوا منه. ثم إن عسكر الناصر بعد الكبسة كسروا البحرية فانهزموا إلى البلقاء وإلى زعر ملتجئين إلى المغيث صاحب الكرك، فأنفق فيهم المغيث أموالاً جليلة وأطمعوه في ملك مصر فجهزهم بما احتاجوه. وسارت البحرية إلى جهة مصر وخرجت عساكر مصر لقتالهم، والتقى المصريون مع البحرية وعسكر المغيث، فانهزم عسكر المغيث والبحرية، وفيهم بيبرس البدقداري إلى جهة الكرك. وكان المغيث خيم بغزة وجمع الجموع ومعه البحرية وخرجت عساكر مصر مع مماليك المعز أيبك فالتقى الفريقان فكانت الكسرة على المغيث ومن معه فولى منهزماً إلى الكرك في أسوأ حال.

هولاكو التتري

هولاكو التتري وبينا كان آخر ملوك الشام ومصر من بني أيوب يتنازعون مع المماليك البحرية وقد خرجت مصر عن حكم الأيوبيين، وكانت دخلت في حكمهم أولاً فأسسوا هناك بنيانها ولما انهار البناء كانت البِنْيَة الأولى أول ما هدمت وبقيت بعدها الأطراف وهي الشام وما إليها مدة قليلة جاء هولاكو التتري 656 واستولى على بغداد وقتل الخليفة المستعصم بالله وقرض الخلافة العباسية، ثم أخذ التتر يتقدمون إلى الجزيرة فأرسل الناصر يوسف صاحب دمشق ولده العزيز محمد وصحبته زين الدين محمد المعروف بالحافظي بتحف وتقادم هدايا إلى هولاكو ملك التتر، وصانعه لعلمه بعجزه عن ملتقى التتر، وكان بين البحرية بعد هزيمتهم من المصريين وبين عسكر الناصر يوسف صاحب دمشق ومقدمهم مجير الدين بن أبي زكري مصاف بظاهر غزة انهزم فيه عسكر الناصر يوسف وأسر مجير الدين، وقوي أمر البحرية بعد هذه الكسرة وأكثروا العيث والفساد، وسار الناصر يوسف، وقد عرف ما تم على جنده، ومعه صاحب حماة بعسكره إلى جهة الكرك، وأقام على بركة زيزاء محاصراً للمغيث صاحب الكرك بسبب حمايته البحرية، فقبض المغيث على من عنده من البحرية، وعلم ذلك في الحال ركن الدين بيبرس البندقداري فهرب في جماعة من البحرية، ووصل بهم إلى الناصر يوسف فأحسن إليهم، وقبض المغيث على من بقي عنده من البحرية وأرسلهم إلى الناصر فبعث بهم إلى حلب فاعتقلوا بها، واستقر الصلح بين الناصر وبين المغيث صاحب الكرك. وقدم هولاكو 657 إلى شرقي الفرات ونازل حران وملكها واستولى على الديار الجزرية وأرسل ولده سموط إلى الشام فوصل إلى ظاهر حلب وكان الحاكم فيها المعظم توران شاه نائباً عن ابن أخيه الناصر يوسف، فخرج عسكر حلب لقتالهم وخرج المعظم ولم يكن من رأيه الخروج إليهم، وأكمن لهم التتر في باب الله فتقاتلوا عند بانقوسا فاندفع التتر قدامهم حتى خرجوا عن البلد. ثم عادوا عليهم وهرب المسلمون طالبين المدينة والتتر يقتلون فيهم، اختنق في أبواب البلد جماعة من المنهزمين، ثم رحل التتر إلى عزاز فتسلموها

بالأمان، ولما بلغ الناصر يوسف قصد التتر حلب برز من دمشق 658 إلى برزة وجفل الناس بين أيدي التتر، وسار من حماة إلى دمشق المنصور صاحب حماة ونزل معه ببرزة وكان هناك مع الناصر يوسف بيبرس البندقداري فاجتمع عند الناصر ببرزة أُمم عظيمة من العساكر والجفال، وبلغ الناصر أن جماعة من مماليكه قد عزموا على اغتياله والفتك به فهرب من الدهليز إلى قلعة دمشق، وبلغ مماليكه الذين قصدوا ذلك علمه بهم فهزموا إلى جهة غزة، وكذلك سار بيبرس البندقداري إلى غزة وأشاع المماليك الناصرية أنهم لم يقصدوا قتل الناصر إنما كان قصدهم أن يقبضوا عليه ويسلطنوا أخاه الظاهر غازي، ولما جرى ذلك هرب الظاهر هذا خوفاً من أخيه الناصر فوصل إلى غزة واجتمع عليه من بها من العساكر وأقاموا سلطاناً، وكاتب بيبرس البندقداري المظفر قطز صاحب مصر فبذل له الأمان ووعده الوعود ففارق بيبرس الشاميين وسار إلى مصر في جماعة من أصحابه. وسبب استيلاء التتر على حلب أن هولاكو عبر الفرات بجموعه ونازل حلب وأرسل إلى الملك المعظم تورانشاه نائب السلطنة يقول له: إنكم تضعفون عن لقاء المغل ونحن قصدنا الناصر والعساكر، فاجعلوا لنا عندكم بحلب شحنة وبالقلعة شحنة، ونتوجه نحن إلى العسكر، فإن كانت الكسرة على الإسلام كانت البلاد لنا، وتكونون قد حقنتم دماء المسلمين، وإن كانت الكسرة علينا كنتم مخيرين في الشحنتين، إن شئتم طردتموهما وإن شئتم قتلتموهما، فلم يجب المعظم إلى ذلك وقال: ليس لكم عندنا إلا السيف. فتعجب هولاكو من هذا الجواب وتألم، لما علم من هلاك أهل حلب بسبب ذلك. وأحاط التتر بحلب وقتلوا مقتلة عظيمة حتى لم يسلم من أهلها إلا من التجأ إلى دار شهاب الدين بن عمرون ودار نجم الدين أخي مردكين ودار البازيار ودار علم الدين قيصر وخانقاه زين الدين الصوفي وكنيسة اليهود وذلك لفرمانات كانت بأيديهم. وقيل أنه سلم بهذه الأماكن ما يزيد على خمسين ألف نفس. ونازل التتر القلعة وحاصروها وبها المعظم ومن التجأ إليها من العسكر واستمر الحصار عليها ومضايقة التتر لها نحو شهر ثم سلمت بالأمان، وأمر هولاكو أن يمضي كل من سلم إلى داره وأن لا يعارض وجعل النائب

بحلب عماد الدين القزويني. قال ابن العديم: واحترز نواب حلب وجمعوا أهل الأطراف والحواضر واجتمعوا كلهم داخل البلد، وكانت حلب في غاية الحصانة والقوة لأسوارها المحكمة البناء وقلعتها العظيمة، ولم يكن في ظن أحد أنها تؤخذ بسرعة قال: وخرج العوام والسوقة واجتمعوا كلهم بجبل بانقوسا ووصل جمع التتر إلى أسفل الجبل، وكمنوا على القرية المعروفة ببابلا ثم كر التتر منهزمين ثم رجعوا وقتلوا من المسلمين جمعاً كثيراً من الجند والعوام. وقتل هولاكو في حلب أكثر ممن قتل في بغداد. وقال ابن تغري بردي: إن هولاكو حاصر حلب ستة أيام ثم أوقع بها خمسة أيام حتى لم يبق بها أحد، ووصل إلى هولاكو على حلب الملك الأشرف صاحب حمص موسى بن إراهيم فأكرمه وأعاد عليه حمص، ثم رحل هولاكو إلى حارم وطلب تسليمها فامتنعوا أن يسلموها لغير فخر الدين والي قلعة حلب فأحضره هولاكو وسلموها إليه، فغضب هولاكو من ذلك وأمر بهم فقتل أهل حارم عن آخرهم وسبى النساء، ثم رحل هولاكو إلى الشرق وجعل مكان عماد الدين القزويني بحلب رجلاً أعجمياً وأمر هولاكو بخراب أسوار قلعة حلب وأسوار المدينة فخربت عن آخرها وأمر الأشرف موسى صاحب حمص بإخراب سور قلعة حماة فخربت وأُحرقت زردخانتها، ولم تخرب أسوار المدينة لأنه كان بحماة رجل يقال له إبراهيم بن الفرنجية بذل لخسروشاه نائب هولاكو في حلب جملة كثيرة من المال وقال: الفرنج قريب منا في حصن الأكراد ومتى خربت أسوار المدينة لا يقدر أهلها على المقام فيها، فأخذ منه المال ولم يتعرض لخراب الأسوار وكان قد أمر هولاكو الأشرف موسى صاحب حمص بخراب قلعة حمص أيضاً فلم يخرب منها إلا شيئاً قليلاً لأنها بلده، وأما دمشق فإن نائب هولاكو قدم إلى أهلها بالفرمان والأمان فتلقاه كبراء المدينة وأنفذت مفاتيح دمشق إلى هولاكو. قال سبط ابن الجوزي: وكثرت الأراجيف بدمشق بسبب التتر فهرب كثير من الدمشقيين وباعوا أصلهم وخرجوا على وجوههم متفرقين في البراري والجبال والحصون، وصادف ذلك أيام الشتاء وقوة البرد فمات كثير منهم ونهب آخرون. وقال القلقشندي في كلامه على البيت الهولاكو هي:

ولو تمكنوا من دمشق لمحو آثارها وأنسوا أخبارها، وأن ملكها يومئذ صاهر صاحب قبرس ليتقوى به. ولم يتعرض عسكر هولاكو إلى قتل ولا نهب وعصت قلعة دمشق عليه فحاصرها التتر، وجرى على أهل دمشق بسبب عصيان القلعة شدة عظيمة، ثم تسلموا القلعة بالأمان ونهبوا جميع ما فيها، وجدوا في خراب أسوار القلعة وإعدام ما بها من الزردخانات والآلات، ثم توجهوا إلى بعلبك ونازلوا قلعتها وأخذوا نابلس بالسيف وتسلموا قلعة عجلون واستولوا على قلاع الصلت وعجلون وصرخد وبصرى والصبيبة وهدموها ووقعوا على العرب عند زيزاء وحسبان فهزموهم، وغنموا أولادهم ونساءهم وأنعامهم واستاقوا الجميع، وهرب سلطان تلك الأرجاء الناصر يوسف بن محمد إلى البراري فساقوا خلفه وأخذوه ثم قتلوه. واستولى التتر من أرض الفرنج على صيدا ونهبوها وأسروا منها ثلاثمائة أسير. وعاثوا في حوران ونابلس وبلغت غاراتهم غزوة وبيت جبريل والخليل والصلت وما إليها وجاءوا بالأسرى إلى دمشق فمنهم من افتدى نفسه ومنهم من هرب. وظل التتر يتنقلون في الشام حتى فتحوه إلى غزة واستقرت شحائنهم فيه لأن الناصر صاحب دمشق لما بلغه أخذ حلب رحل من دمشق في عسكره إلى الديار المصرية وفي صحبته المنصور صاحب حماة، فلما رأى كبراء حماة تخلي ملكهم عنهم توجهوا إلى حلب ومعهم مفاتيح بلدهم وحملوها إلى هولاكو وطلبوا منه الأمان لأهل حماة وشحنة تكون عندهم فأمنهم هولاكو وأرسل إلى حماة شحنة رجلاً أعجمياً اسمه خسروشاه فقدم حماة وأمن الرعية. واستولى التتر 658 على ميافارقين بعد أن حاصروها سنتين حتى فنيت أزوادهم وفني أهلها بالوباء والقتل فقتلوا صاحبها الكامل محمد بن المظفر ابن العادل أبي بكر بن أيوب وحملوا رأسه على رمح وطافوا به في الأرجاء فمروا بحلب وحماة ودمشق بالمغاني والطبول وعلقوه في شبكة بسور باب الفراديس إلى أن عادت دمشق إلى المسلمين. قال الذهبي: إن نصارى دمشق شمخت أثناء مجيء هولاكو إلى البلاد ورفعوا الصليب في البلد وألزموا الناس بالقيام له من الحوانيت، ونقضوا العهد

وصاحوا: ظهر الدين الصحيح دين المسيح. فلما انتصر المسلمون على هولاكو على عين جالوت بين بيسان ونابلس وقتل مقدمهم كتبغا جاء الخبر إلى دمشق في الليل فوقع النهب والقتل في النصارى وأُحرقت كنيستهم العظمى. وقال أبو الفداء: إن النصارى استطالوا بدمشق على المسلمين بدق النواقيس وإدخال الخمر إلى الجامع. قال في المذيل: إن النصارى بدمشق قد شمخوا بسبب دولة التتر وتردد ايل شبان وغيره من كبارهم إلى كنائسهم، وذهب بعضهم إلى هولاكو وجاء من عنده بفرمان لهم اعتناء منهم وتوجه في حقهم، ودخلوا به البلد من باب توما وصلبانهم مرتفعة وهم ينادون حولها بارتقاء دينهم دون دين الإسلام، ويرشون الخمر على الناس بأبواب المساجد، فركب المسلمين من ذلك همٌّ عظيم، فلما هرب التتر من دمشق أصبح الناس إلى دور النصارى ينهبونها ويخربون ما استطاعوا فيها وخربوا كنيسة اليعاقبة وأخربوا كنيسة مريم حتى بقيت كوماً والحيطان حولها تعمل النار في أخشابها، وقتل منهم جماعة واختفى الباقون وجرى عليهم أمر عظيم اشتفى به بعض الاشتفاء صدور المسلمين، ثم هموا بنهب اليهود فنهب قليل منهم ثم كفوا عنهم لأنهم لم يصدر منهم ما صدر من النصارى اه. اجتمعت العساكر الإسلامية بمصر هرباً من التتر، فلما انتظمت أحوالهم واستجمعوا قواهم عزم المظفر قطز مملوك المعز أيبك على الخروج إلى الشام لقتال التتر، وسار معه صاحب حماة المنصور وأخوه الأفضل علي حتى التقى مع التتر في الغور، وكان كتبغا نائب هولاكو على الشام ومعه صاحب الصبيبة الملك السعيد فانهزم التتر هزيمة قبيحة على عين الجالوت وقتل مقدمهم كتبغا واستؤسر ابنه وتفرقوا في الأرجاء ومنهم من قصد الشرق فأفناهم المسلمون، وجرد قطز ركن الدين بيبرس في أثرهم فتبعهم إلى أطراف الأصقاع الشرقية، وكان في صحبة التتر الملك الأشرف موسى صاحب حمص ففارقهم وطلب الأمان من المظفر قطز فأمنه، وأقره على ما بيده وهو حمص ومضافاتها، وأسرا صاحب الصبيبة وضربت عنقه، وأقر المنصور على حماة وبارين والمعرة وأخذ منه سلمية وأعطاها أمير العرب، ودخل دمشق فتضاعف شكر المسلمين على هذا النصر العظيم، فإن القلوب كانت قد يئست من النصرة على التتر

مقتل المظفر قطز وسلطنة الظاهر بيبرس وأحداث:

لاستيلائهم على معظم ديار الإسلام، ولأنهم ما قصدوا إقليماً إلا فتحوه، وما تواقعوا مع عسكر إلا هزموه. قال ابن أبي شامة: ومن العجائب أن التتر كسروا وأهلكوا بأبناء جنسهم من الترك وقيل في ذلك: غلب التتار على البلاد فجاءهم ... من مصر تركي يجود بنفسه بالشام أهلكهم وبدد شملهم ... ولكل شيء آفة من جنسه وقد رتب المظفر قطز شمس الدين أقوش البرلي أميراً بالسواحل وغزة وجهز عسكراً إلى حلب لحفظها، وفوض نيابة السلطنة بدمشق إلى الأمير علم الدين سنجر الحلبي ونيابة السلطنة بحلب إلى الملك السعيد بن بدر الدين لولو صاحب الموصل ولما استقر هذا في نيابة حلب سار سيرة رديئة وكان دأبه التحيل على أخذ مال الرعية. مقتل المظفر قطز وسلطنة الظاهر بيبرس وأحداث: سار الملك المظفر قطز إلى مصر بعد أن ظفر بالتتر ورد فلّهم إلى الشرق وكان اتفق بيبرس البندقداري وبعض أعيان الدولة على قتله، فساروا معه وقتلوه في القصير وتسلطن بيبرس البندقداري وتلقب بالملك الظاهر، ودخل مصر ففتحت له واستقرت قدمه في المملكة. ولما بلغ نائب السلطنة بدمشق علم الدين سنجر قتل قطز وسلطنة الظاهر جمع الناس وحلفهم لنفسه بالسلطنة، فأجابوه إلى ما أرادهم عليه، ولم يتأخر عنه أحد ولقب نفسه الملك المجاهد وخطب له بالسلطنة وضربت السكة باسمه وكاتب المنصور صاحب حماة في ذلك فلم يجبه وقال صاحب حماة: أنا مع من يملك الديار المصرية كائناً من كان. أما السعيد نائب السلطنة بحلب فحمله أمراؤها إلى الشغر وبكاس معتقلاً لما اندفع العسكر الحلبي من بين أيدي التتر على البيرة، وقدموا عليهم حسام الدين الجوكندار العزيزي. ثم سار التتر إلى حلب وملكوها وأخرجوا أهلها إلى قرنبيا شرقي حلب، فأفنوا غالبهم بالسيف، واستولوا على اعزاز وخربوا قلعتها، واستولوا على حارم وقتلوا أهلها عن آخرهم وسبوا النساء، وملكوا حلب وأعمالها نحو أربعة أشهر. وقارب التتر حماة فخرج منها صاحبها وباقي العسكر واجتمعوا بحمص مع سائر الأجناد فوقع بين التتر

وعساكر المسلمين مصاف في حمص، وكان التتر أكثر من المسلمين فانهزم التتر وهاموا على وجوههم إلى أفامية ومنها إلى الشرق، ومنهم من دخل في خدمة المسلمين. وجهز الملك الظاهر 659 صاحب مصر عسكراً إلى الشام لقتال علم الدين سنجر المستولي على دمشق، فخرج هذا لقتالهم فانهزم إلى جهة بعلبك فتبعه العسكر وقبضوا عليه وحمل إلى الديار المصرية فاعتقل ثم أطلق واستقرت دمشق في ملك الظاهر بيبرس، وأقيمت له الخطبة بها وبحلب وحمص وغيرها، ثم استقر أيدكين البندقداري الصالحي في دمشق لتدبير أمورها. وفي سنة 660 وصل من مصر إلى دمشق عسكر مقدمه الأمير عز الدين الدمياطي وقبض على علاء الدين طيبرس الوزيري نائب السلطنة بدمشق وقبض حواصله، وكان طيبرس قد أهلك أهل دمشق بإخراجهم من بلدهم والترسيم عليهم وإخراج عيالهم وإهانتهم، وضيق على الناس وخوفهم من التتر. ولما بلغ هولاكو وهو في بلاد العجم كسرة عسكره بعين جالوت وقتل نائبه كتبغا ثم كسرة عسكره على حمص ثانياً غضب من ذلك وأحضر الناصر ابن أيوب وأخاه الظاهر غازي وكانا في أسره وقال للناصر: أنت قلت إن عسكر الشام في طاعتك فغدرت بي وقتلت المغول فقال الناصر: لو كنت في الشام ما ضرب أحد في وجه عسكرك بالسيف ومن يكون ببلاد توريز كيف يحكم على بلاد الشام؟ فضربه هولاكو. فقال الناصر: يا خَوَند الصنيعة، فنهاه أخوه الظاهر وقال: قد حضرت ثم رماه فقتله. ثم أمر بضرب رقاب الباقين فقتلوا الظاهر أخا الناصر والصالح ابن صاحب حمص والجماعة الذين كانوا معهم واستبقوا العزيز بن الناصر لأنه كان صغيراً. وكان الملك الناصر يوسف هو آخر من ملك دمشق من بني أيوب. قبض عليه لما دخل دمشق جيش هولاكو فجهز وولده وأخوه ومعهم جماعة من أعيان أهل دمشق إلى مخيم هولاكو فأمر بقتلهم. والملك الناصر هو صاحب حلب تملك حران والرها والرقة ورأس عين

وحمص ودمشق وبعلبك والأغوار والسواحل إلى غزة، وعظم شأنه وكسر عساكر مصر وخطب له بمصر وكان قد غلب على الديار المصرية لولا هزيمته وقتل مدبره شمس الدين لولو الأرمني ومخامرة مماليك أبيه العزيزية. وكان الناصر حليماً وتجاوز به الحلم إلى حد أضر بالمملكة فكان إذا حضر إليه القاتل عفا عنه وقال: الحي أفضل من الميت. فانتشرت اللصوصية وأصبح المسافر في أيامه من دمشق إلى حماة وغيرها لا يقدر على السفر إلا برفقة من العسكر، وكثر طمع العرب والتركمان في أيامه. وبقتل الناصر والظاهر قل الرجال الذين يصلحون للملك من آل أيوب وضعفت عصبيتهم وأنصارهم من الأكراد وغيرهم، وكان انقراضهم بيد المماليك البحرية الذين غذوا بنعمتهم فلم يعرفوا لهم بيض أياديهم وبيد السفاك هولاكو وجماعة من التتر. وكان شأن بني أيوب في هذا المعنى شأن بني عباس مع الأتراك أدخلوهم في خدمتهم وأحسنوا إليهم ورفعوا منزلتهم وولوهم الأعمال، فما كان منهم إلا أن نقضوا بنيان تلك الدولة وفتحوا السبيل لعدوها يستبيح حماها ويستصفي أرضها. ولم يشبع المغول بما سفكوا من الدماء، وعادوا سنة 659 إلى حلب فانهزم جميع أهل القرى والمدن فتقدم قائدهم أن يخرج أهل القرى والمدن إلى ظاهر البلد ويبقى أهل كل مدينة وقرية بمعزل بحيث يعدّونهم ويسيّرون كل قوم إلى مكانهم وموطنهم، ويسلمهم المغول كأنهم يسيرون إلى ضياعهم وعندما يبعدون يقولون لهم: أنتم لو كانت قلوبكم معنا صافية لما انهزمتم من قدامنا فقتلوهم عن آخرهم ولم يفلت منهم غير أهل حلب لأنهم لم ينتقلوا عنها. حروب الظاهر وفتوحه: وكان الملك الظاهر صاحب مصر والشام بين عاملين في خلال هذه المدة. عامل دفع المغول وعامل دفع الصليبيين، والغالب أنه ترجح عنده معاناة الثاني فأفلح فيه. وقد جهز سنة 659 من مصر بدر الدين الأيدمري فتسلم الشوبك من المغيث صاحب الكرك ثم سير حملة إلى حلب 660 وكان مقدمهم

شمس الدين سنقر الرومي فأمنت بلاد حلب وعادت إلى الصلاح بعد إفساد المغول فيها، ثم أوعز إلى صاحب حماة وصاحب حمص وسنقر الرومي أن يسيروا إلى إنطاكية للإغارة عليها، فساروا إليها ونهبوها ولم يتيسر لهم فتحها. وقبض الظاهر على نائبه بدمشق علاء الدين طيبرس الوزيري وكان رديء السيرة في أهل دمشق حتى نزح عنها جماعة كثيرة من ظلمه، وقتل الظاهر صاحب الكرك المغيث بتهمة أنه كتب إلى التتر يطمعهم في ملك مصر والشام وقيل: لأنه أكره امرأة الملك الظاهر لما قبض المغيث على البحرية وأرسلهم إلى الناصر يوسف صاحب دمشق، وهرب الظاهر وبقيت امرأته في الكرك، فانتقم الظاهر منه بأن أسلمه إلى زوجته في قلعة الجبل بمصر وأمرت جواريها فقتلنه بالقباقيب. وفي سنة 661 أرسل الظاهر وهو نازل على الطور عسكراً هدموا كنيسة الناصرة وأغاروا على عكا فغنموا وعادوا، ثم ركب الظاهر بنفسه وأغار ثانية على عكا وهدم برجاً كان خارج البلد. وأغار صاحب سيس على العمق والمعرة وسرمين والفوعة. ومات هذه السنة الملك الأشرف صاحب حمص وكان آخر من ملكها من بيت شيركوه فانقرض بموته ملكهم، وأولهم شيركوه بن شاذي. وكانت بقيت في أيدي الإسماعيلية إلى آخر سنة 662 ثمان قلاع بالشام وهي الكهف والعليقة والقدموس والخوابي والمينقة ومصياف والرصافة والقليعة. وروى ابن ميسر أن التتر لما ملكوا الشام سلموا إليهم أربع قلاع، فلما كسرهم قطز عادت الأربع قلاع إليهم فتسلمها رئيسهم وقتل أصحابه الذين سلموها للتتر قال: وكان الضرر على المسلمين وملوكهم منذ خرج ابن صباح وإلى سنة بضع وعشرين وستمائة عظيماً. وقد استخدمهم الظاهر في قتل صاحب مرقبة والأمير ادوارد من أمراء إنكلترا. وفي سنة 663 سار الملك الظاهر من مصر ونازل قيسارية وضايقها وفتحها من الفرنج وأمر بها فهدمت، ثم سار إلى أرسوف ونازلها وفتحها وفتح القليعات 664 وحلبا وعرقة ونزل على صفد وضايقها وفتحها ثم قتل أهلها عن آخرهم. وجهز عسكراً ضخماً من دمشق وقدم عليهم المنصور صاحب حماة وأمرهم بالمسير إلى عمالة الأرمن فانهزموا وأسر ابنان لصاحبهم وامتلأت

أيدي العسكر الإسلامي من الغنائم. وعندما توجه الملك الظاهر من دمشق لملتقى عساكره العائدة من غزوة سيس أصدر أمره لما نزل على قارا بين دمشق وحمص بنهب أهلها وقتل كبارهم فنهبوا وقتل منهم جماعة، وكانوا نصارى يسرقون المسلمين ويبيعونهم خفية من الفرنج. وأخذت صبيانهم مماليك فتربوا بين الترك في الديار المصرية فصار منهم أجناد وأمراء. وشن الظاهر الغارة على الفرنج 665 من أطرافهم واستدعى بالمجانيق من دمشق. وفي سنة 666 توجه الملك الظاهر بعساكره المتوافرة من مصر إلى الشام ففتح يافا من الفرنج وهدمها وقلعتها وملك الباشورة بالسيف وعوض أهل القلعة أربعين ألف درهم، ثم قصد قلعة الشقيف تيرون فنزل تحتها في وادي العواميد وحاصرها فلم يقدر على أخذها، ثم صعد إلى أعلاها وكشف ماءها وبعد هزيع من الليل ذبح في قناتها عدة من الغنم والبقر وقطع كروشها ورماها فيها، فلما أصبحوا وجدوا ماءهم منتناً وهودم عبيط فسلموها بعد حصار عشرة أيام، ووجد بها أربعمائة وثمانين رجلاً فأرسلهم إلى الفرنج في صور، ورتب عليها قوماً من جماعته وبني برجاً على باب القلعة. ثم أغار الظاهر على طرابلس فقطع أشجارها وغور أنهارها وضرب أربعاً وعشرين من قراها. فانهالت عليه المردة من الجبال فذهب إلى حصن الأكراد، ومن هناك زحف على إنطاكية فنازلها بغتة، وبعد حصار أربعة أيام ملكها بالسيف فقتل أهلها وأحرق كنائسها وغنم منها أموالاً كثيرة، وأحصي من قتل بإنطاكية هذه المرة فكانوا نيفاً وأربعين ألفاً، ثم أطلق من كان بها م ن الأسرى، وفي رواية أنه قتل من حماتها بين 16 و17 ألف صليبي وأخذ مئة ألف أسير وأحرقها وقلعتها، ونال من غنائمها ما لا يدخل تحت حصر، وخرج جماعة من أهلها يطلبون الأمان وشرطوا شروطاً لم يجب الظاهر إليها وزحف عليها فملكها. وكانت إنطاكية للبرنس بيمند بن بيمند وله معها طرابلس، ولما فتحت إنطاكية هرب أهل بغراس منها وتركوا الحصن خالياً فأرسل الظاهر واستولى عليه. ووقع الصلح بين الظاهر وهيتوم صاحب سيس الأرمني على أنه إذا أُحضر

وفاة الملك الظاهر وسلطنة ابنه الملك السعيد ثم

صاحب سيس سنقر الأشقر من التتر، وكانوا أخذوه من قلعة حلب لما ملكها هولاكو، وسلم مع ذلك بهسنى ودربساك ومرزبان ورعبان وشيح الحديد يطلق له ابنه ليفون الذي كان في أسر الملك الظاهر، فسلمه صاحب سيس البلاد خلا بهسنى ودخل صاحب سيس على أبغا ملك التتر وطلب منه سنقر الأشقر فأعطاه إياه، وتسلم الظاهر بلاطنوس من عز الدين عثمان صاحب صهيون، وأغار 668 على عكا وتسلم حصن مصياف من الإسماعيلية وفتح من حصونهم الكهف والقدموس والمنيقة والعليقة وأمّر عليهم حسن بن المشغراني، وفرض عليه أن يرفع إليه في كل عام مئة ألف درهم. ونازل السلطان 669 حصن الأكراد فملكه بالأمان وملك حصن عكار بعد حصاره له بالأمان، فتذلل له صاحب طرابلس وبذل له ما أراد وهادنه عشر سنين وتسلم حصن القرين بالأمان وهدمه. وأغارت التتر على عينتاب وعلى الرّوج وقسطون إلى قرب أفامية ثم عادوا. فاستدعى الظاهر عسكراً من مصر وتوجه بهم إلى حلب ونازل التتر على البيرة وأراد عبور الفرات إلى بر البيرة ونصبوا عليها المجانيق وضايقوها فقاتله التتر على المخاضة فاقتحم الفرات وهزم التتر فرحلوا عن البيرة. وشنّ الغارة 669 بفرقة من العسكر ومعه ولده الملك السعيد بفرقة أخرى على جبلة واللاذقية والمرقب وعرقة والقليعات وحلبا وصافيتا والمجدل وأنطرطوس. وفي سنة 673 توجه السلطان إلى ديار الأرمن ودخلها بعساكره المتوافرة وغنموا ثم عادوا إلى دمشق. وعاد التتر 674 ونازلوا البيرة فتوجه الظاهر إليهم وبلغه رحيلهم وهو بالقطيفة فأتم السير إلى حلب وعاد التتر 675 فزحفوا على الشام وخرج إليهم الظاهر وقاتلهم فكسرهم وقتل منهم خلائق وتبعهم إلى نحو الابلستين فكانت بينهما هناك وقعة قيل إنه قتل فيها من الفريقين نحو مئة ألف إنسان. ثم سار إلى قيسارية واستولى عليها ووصل إلى عمق حارم فدمشق. وفاة الملك الظاهر وسلطنة ابنه الملك السعيد ثم سلطنة المنصور قلاوون: توفي الملك الظاهر 676 بعد أن بطش البطشة الكبرى بالصليبيين في الشام، ودفع عادية المغول عنه ما أمكن، وغزا الأرمن الذين أصبحوا يبدون

لدولته نواجذ الشر، فخرب ديارهم وأباد خضراءهم وغضراءهم. وكان ملكاً جليلاً شجاعاً عاقلاً مهيباً وصل إلى الملك بقتل آخر ملوك بني أيوب، وما زال يتدرج في مراتب القوة حتى ملك الديار المصرية والشامية وفتح الفتوح الجليلة. أصله مملوك قبجاقي الجنس وقيل برجعلي وكان ذا همة شماء يتنقل في ممالكه فلا يكاد يشعر به عسكره إلا وهو بينهم، ولولا أنه جد في قتال الصليبيين لما كفّر عما أتاه من قتل ابن أيوب، وبنو أيوب أحبهم الناس على علاتهم لغناء أكثرهم في خدمة الملة والدولة. ترجم سوبرنهايم في المعلمة الإسلامية للظاهر بيبرس بقوله: إنه كان السبب بتوسيد ملك الشام إلى قطز لما أبلى البلاء الحسن في وقعة عين جالوت فأقطع قطز الأمراء من بني أيوب الإقطاعات التي كانت لهم قبل غارات المغول، ولكن بيبرس الذي كان يرجو أن توسد إليه حلب مكافأة على شجاعته لم ينل شيئاً فعزم على الانتقام لنفسه من هذا الظلم، فقتل السلطان في الصيد ونادى به زعماء الجند وغيرهم سلطاناً، وكانت المملكة المصرية والشامية محاطة من كل جانب بالأعداء: في الشمال ملك أرمينية المسيحي، وفي الغرب الصليبيون ينزلون على جميع شاطيء الشام، وفي الداخل الحشيشية الإسماعيلية الأشداء، ومن الشرق المغول الطامعون في الغنائم والانتقام، وفي جنوبي مصر أهل النوبة المجاربون، وفي الغرب البربر الصعب قيادهم، وكان يخشى أن ينجم له ناجم في الداخل من بني أيوب ويسمو إلى السلطنة، فيجد على دعوته أنصاراً على أيسر وجه، فرأى أن يبايع لأحد ذرية بني العباس بالخلافة بعد أن قرضها المغول من بغداد، فتوفق إلى ذلك وبايع له في مصر، لأن من مصلحته أن يظهر أمام العالم الإسلامي بأنه حامي الخلافة، وبذلك أصبح له نفوذ على حكومات مكة والمدينة، وعرف كيف يداري معظم أمراء الفرنج الشرقيين. هادن الظاهر الاسبتار بحصن الأكراد والمرقب سنة خمس وستين وستمائة لمدة عشر سنين متوالية وعشرة أشهر وعشرة أيام وعشر ساعات على أن يكون النصف من غلات قرى جميع المملكة الحمصية والشيزرية والحموية وبلاد الدعوة للملك الظاهر، والنصف لبيت الاسبتار. واستقرت الهدنة بين الملك الظاهر بيبرس أيضاً وبين ملكة بيروت في سنة سبع وستين وستمائة

حين كانت بيدها لمدة عشر سنين متوالية على أن يكون جميع المترددين من بلاد الملكة إلى بلاد الظاهر وبالعكس آمنين مطمئنين على نفوسهم وأموالهم وبضائعهم براً وبحراً ليلاً ونهاراً، وعلى أن الملكة لا تمكن أحداً من الفرنج على اختلافهم من قصد مملكة السلطان من جهة بيروت وما إليها، وتمنع من ذلك وتدفع كل متطرق بسوء وتكون الأقاليم من الجهتين محفوظة من المتجرمين المفسدين. وعقدت هدنة بين الظاهر وولده الملك السعيد وبين الفرنج الاسبتارية على قلعة لدّ في سنة تسع وستين وستمائة على أن تكون قلعة لدّ والجهات المذكورة إلى آخر الزائد للملك الظاهر ولا يكون لبيت الاسبتار ولا لأحد من الفرنجة فيها تعلق ولا طلب بوجه ولا سبب. وعقد محالفات مع الملك مانفريد دي هوهانستوفن، ثم عقد محالفة مع شارل دانجو وجاك داراغون والفونس دي كاستيل، وعقد معاهدة مع ميشل باليولوغ الرومي الذي طرد الصليبيين، وكانت له صلات حسنة مع ملوك السلاجقة في آسيا الصغرى ومع صاحب اليمن. ثم إن الظاهر رأى في الصليبيين أشد الأعداء خطراً على المملكة واستفاد من تفرق كلمتهم وكان المدد الذي يأتيهم من أوروبا قد ضعف، وكان في موت شارل التاسع إنقاذ بيبرس من أعظم خصومه من الفرنج، وهكذا فإن الظاهر ظلّ ظافراً بجميع أعدائه، ولم يتوقف عن شيء لبلوغ غايته، وكثيراً ما كان يعد وعوداً كاذبة ويكتب كتباً مزورة ليحمل فيها قواد الحصون على الاستسلام له، وكان نجاحه مناط قريحته في التنظيم وسرعته وشجاعته المتناهية، وكان البريد يدور ويروح في المملكة بسرعة حتى ليصل الخبر من مصر للشام في ثلاثة أيام وكان أسعد سلطاناً من سلاطين المماليك وأقدرهم. وروى شمس الدين سامي أن السلطنة الإسلامية صارت ذات بهاء في أيامه وأنه مات مسموماً بدمشق. كان الظاهر قد حلف العسكر لولده بركة بن بيبرس ولقبه الملك السعيد وجعله ولي عهده إلا أنه خبط وخلط وأراد تقديم الأصاغر على الأمراء الأكابر ففسدت نيات الكبار عليه وقرروا خلعه من السلطنة، بعد أن دخل سيس 677 وشن الغارة عليها وغنم، فحصره العسكر في قلعة الجبل بالقاهرة فخلع نفسه على أن يعطى الكرك فأجابوه إلى ذلك فلحق بها وهلك بعد قليل.

واتفق الأمراء لما خلع الملك السعيد نفسه على إقامة بدر الدين سلامش ابن الظاهر بيبرس في المملكة، ولقبوه العادل، وعمره إذ ذاك سبع سنين وشهور، ثم خلعوه وأجلسوا على تخت السلطنة الملك المنصور قلاوون الصالحي. ولما اضطرب أمر المملكة استأثر بالشام سنقر الأشقر الذي كان الظاهر اشترط على صاحب سيس أن يتوسط لدى ملك التتر لإطلاقه من الأسر ففعل، ونسي سنقر هذه اليد للظاهر، وجلس على سرير السلطنة بدمشق وحلف له الأمراء والعسكر وتلقب بالملك الكامل شمس الدين سنقر، فجهز المنصور قلاوون عساكر الديار المصرية مع علم الدين سنجر، فبرز سنقر بعساكر الشام إلى ظاهر دمشق، والتقى الفريقان فولى الشاميون وسنقر منهزمين، فجعل الأمير لاجين المنصوري نائب السلطنة بالشام، وهرب سنقر الأشقر إلى الرحبة وكاتب أبغا بن هولاكو ملك التتر وأطمعه في هذه الديار، وكان عيسى بن مهنا ملك العرب في الشام مع سنقر الأشقر وقاتل معه وكتب بذلك إلى أبغا أيضاً، موافقةً له، ثم سار سنقر الأشقر من الرحبة إلى صهيون واستولى عليها وعلى برزيه وبلاطنس والشغر وبكاس وعكار وشيرز وأفامية وصارت هذه القلاع له. وأحرق 677 عسكر الشام عمالة الغرب وجبيل وبيروت وذلك أن قطب الدين السعد بعد أن استقطع قرية كفر عمية من أمراء الغرب آل تنوخ وجد فيها ذات يوم مقتولاً فاتهم بقتله نجم الدين بن جحى وكان أبوه وذو قرابته معتقلين في مصر فتوجهت اليه العساكر والعشران من ولاية بعلبك والبقاع وصيدا وبيروت وأحرقت قراه، وتفرق التنوخيون أيدي سبا إلى أن أمنهم الملك فرجعوا إلى مساقط رؤوسهم. وجاء التتر إلى حلب 679 فعاثوا وقتلوا من كان بظاهرها وملكوا ضياعها ونهبوا وسبوا وأحرقوا الجامع والمدارس المعتبرة ودور السلطنة والأمراء وأقاموا بها يومين وعادوا من حيث أتوا، فهب الملك المنصور قلاوون إلى غزة لدفعهم فرحلوا قبل أن يوافيهم، قال ابن أبي الحديد: وكانت للتتر نهضات وسرايا كثيرة إلى الشام، قتلوا ونهبوا وسبوا فيها حتى انتهت خيولهم إلى حلب، فأوقعوا بها وصانعهم عنها أهلها وسلطانها، ثم عمدوا إلى بلاد كي خسرو صاحب الروم فجمع لهم هذا قضه وقضيضه وجيشه ولفيفه،

واستكثر من الأكراد العتمرية من عساكر الشام وجند حلب فيقال إنه اجتمع مائة ألف فارس وراجل فلقيه التتر في عشرين ألفاً، فجرت بينه وبينهم حروب شديدة قتلوا فيها مقدمته، وكانت المقدمة كلها أو أكثرها من رجال حلب وهم أنجاد أبطال فقتلوا عن آخرهم وانكسر العسكر الرومي، وهرب صاحب الروم حتى انتهى إلى قلعة له على البحر تعرف بإنطاكية فاعتصم بها، وتمزقت جموعه وقتل منهم عدد لا يحصى. واستأذن نائب السلطنة بحصن الأكراد في الإغارة على المرقب لما اعتمد أهله من الفساد عند وصول التتر إلى حلب فأذن له السلطان في ذلك، فجمع عساكر الحصون فاتفق هروب المسلمين ونزول الفرنج من المرقب فقتلوا من المسلمين جماعة. وترددت الرسل بين السلطان وسنقر الأشقر، واحتاج السلطان لمصالحته لقوة التتر وتفادياً من الاشتغال بالعدو الداخلي والعدو الخارجي، ووقع بينهما الصلح على أن يسلم سنقر قلعة شيزر إلى السلطان ويتسلم سنقر الشغر وبكاس، وكانتا قد ارتجعتا منه وحلفا على ذلك واستقر الصلح بينهما، كما استقر الصلح بين المنصور قلاوون وبين خضر بن الظاهر بيبرس صاحب الكرك. وبعد أن استقر الصلح بين الأميرين المتوثبين على السلطنة كان المصاف العظيم 680 بين المسلمين وبين التتر بظاهر حمص، فجمع قلاوون العساكر من مصر والشام ومن جملتهم عسكر سنقر الأشقر، وجاء الأمراء كلهم في جيوشهم، وكان التتر في ثمانين ألف فارس وفي رواية مائة ألف منهم خمسون ألفاً من المغول والباقي حشود وجموع من أجناس مختلفة مثل الكرج والأرمن والعجم وغيرهم، والمسلمون في خمسين ألفاً فانهزم التتر وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون. وعقد قلاوون هدنة مع المقدم افرتر كليام ديباجون مقدم بيت الداوية بعكا والساحل وبين جميع الإخوة الداوية بأنطرطوس لمدة عشر سنين، لا ينال بلاده ولا بلاد ولده ولا حصونهما ولا قلاعهما ولا ضياعهما ولا عساكرهما ولا عربهما ولا تركمانهما ولا أكرادهما ولا رعاياهما على اختلاف الأجناس ضر ولا سوء ولا غارة ولا تعرض ولا أذية. وسارت العساكر الإسلامية إلى فتح جبهة بشري 681 وحاصروا إهدن

حصاراً شديداً وبعد أربعين يوماً ملكوها فنهبوا وقتلوا وسبوا وهدموا القلعة التي في وسط القرية والحصن الذي على رأس الجبل، وفتحوا بقوفا وقضوا على أكابرها وهدموها وضربوا حصرون وكفر حارون وخربوا حدث البشري وبنوا برجاً قبالة المغارة ووضعوا فيه عسكراً يكمنون للعصاة وهدموا جميع الأماكن العاصية وملكوا قلعة حوفا بتسليط الماء عليها من فوقها فملكوها بقوة الماء لأنها داخلة الشير. وتوجهت العساكر أيضاً إلى أرض الأرمن فخربت فيها وسبت عقوبة لهم عمّا أتوه من معاونة المغول على المسلمين. وقصد المغول دمشق في سنة 683 ثم ذهبوا إلى وادي التيم فأحرقوها وسبوا أهلها وقتلوا منهم سبعمائة نفس وملكوها وفتح السلطان حصن المرقب 684 بعد أن نقب جنده حصنها بسرعة، وكان هذا الحصن للاسبتار فنزل أهله بالأمان. في هذه السنة عقد الملك المنصور وولي عهده الملك الصالح وولده الأشرف صلاح الدين هدنة مع دام مرغريت بنت سير هنري ابن الابرنسي مالكة صور جاء في كتابها وليس للفرنج أن يجددوا في غير عكا، وعثليث وصيدا مما هو خارج عن الأسوار في هذه الجهات الثلاث سوراً لا قلعة ولا برجاً ولا حصناً قديماً ولا مستجداً، وعلى أن شواني مولانا السلطان وشواني ولده إذا عمرت وخرجت لا تتعرض بأذية إلى البلاد الساحلية التي انعقدت الهدنة عليها، وإذا قصدت الشواني المذكورة جهة غير هذه الجهات وكان صاحب تلك الجهة معاهداً للحكام بمملكة عكا فلا تدخل إلى البلاد التي انعقدت عليها الهدنة ولا تتزود منها، وإن لم يكن صاحب تلك الجهة التي تقصدها الشواني معاهداً للحكام بمملكة عكا فلها أن تدخل إلى بلادها وتتزود منها، وإن انكسر شيء من هذه الشواني والعياذ بالله في مينا من المواني التي انعقدت الهدنة عليها وسواحلها فإن كانت قاصدة إلى من له مع مملكة عكا أو مع من له عهد فيلزم كفيل المملكة بعكا ومقدمي البيوت بحفظها وتمكين رجالها من الزوادة وإصلاح ما انكسر منها والعود إلى بلاد إسلامية ويبطل حركة ما انكسر منها أو يرميه في البحر، فإن لم يكن للذي تقصده الشواني معهم عهد وانكسرت فلها أن تتزود وتعمر رجالها من البلاد المنعقدة عليها الهدنة وتتوجه إلى الجهة المرسوم بقصدها ويعتمد هذا الفصل من الجهتين. وفتح

حصن الكرك 685 بالأمان وجهز عسكراً كثيفاً من العساكر المصرية والشامية إلى قلعة صهيون فتسلمها من سنقر الأشقر بالأمان. ثم سار جيش السلطان إلى اللاذقية، وكان بها برج للفرنج يحيط به البحر من جميع جهاته، فركب طريقاً إليها في البحر بالحجارة وحاصروا البرج وتسلموه بالأمان وهدموه وفتح طرابلس 688، وكان البحر يحيط بغالب أطراف هذه المدينة ولا تقاتل إلا من جهة الشرق، ولما نازلها نصب عدة منجنيقات كبيرة وصغيرة وألح عليها بالحصار ففتحها بالسيف، ودخلها العسكر عنوةً بعد حصار 33 يوماً، فهرب أهلها إلى المينا وركبوا في المراكب وقتل غالب رجالها وسبيت ذراريهم، وغنم منهم المسلمون غنيمة عظيمة، وأمر السلطان فهدمت طرابلس ودكت إلى الأرض. وكان في البحر قريباً من طرابلس جزيرة وفيها كنيسة تسمى كنيسة سنطماس وبينها وبين طرابلس المينا، فلما أخذت طرابلس هرب إلى الجزيرة المذكورة وإلى الكنيسة التي فيها عالم عظيم من الفرنج والنساء، فاقتحم العسكر الإسلامي البحر وعبروا بخيولهم سباحة إلى الجزيرة، فقتلوا جميع من فيها من الرجال وغنموا من بها من النساء والصغار - نقلت معظم هذا من تاريخ أبي الفداء، ويقول ميشو: إن المسلمين لما استعادوا طرابلس أهلكوا ساكنيها من الصليبيين إلا قليلاً وأمر السلطان بإحراق المدينة وهدمها وكان فيها مصادر الثروة والرخاء وكل ما يزهو به السلام ويستخدم في الدفاع زمن الحرب فخرب كل ذلك تحت الفأس والمطرقة قال: لما أنزل الصليبيون عسكرهم على سواحل الشام سنة 1366م واستولوا على طرابلس أوقدوا النار فيها وكان حظ طرطوس واللاذقية وعدة مدن فينيقية مثل ذلك. ولما فتحت طرابلس كتب محيي الدين بن عبد الظاهر كتاباً يصف هذا الفتح قال فيه: إن الحصار استمر من مستهل ربيع الأول إلى يوم الثلاثاء رابع عشر ربيع الآخر فزحف عليها في بكرة ذلك النهار زحفاً يقتحم كل هضبة ووهدة، وكل صلبة وصلدة، وطلعت سناجق الإسلام الصفر على أسوارها. وكان أخذها من مائة سنة وثمانين سنة في يوم الثلاثاء واستردت في يوم الثلاثاء وفي رسالة أخرى أنها قامت بيد الإفرنج مائة سنة وستاً وثمانين سنة.

وفاة قلاوون وسلطنة ابنه الأشرف خليل وإثخانه في

وقال مؤرخو لبنان: إن الكسروانيين والجرديين نزلوا من الجبال لنجدة الفرنج في طرابلس وقتلوا من عسكر السلطان خلقاً كثيراً فبرز الأمر من حسام الدين باستئصالهم. ومن ذلك الوقت خربت كسروان والذين سلموا من أهلها تشتتوا في كل صقع. قالوا: ومن جملة أوامر حسام الدين إلى أمراء غرب بيروت التنوخيين إذا توجهوا إلى كسروان وجرده بجموعهما، أن كل من سبى امرأة منهم كانت له جارية، أو صبياً كان له مملوكاً، ومن أحضر منهم رأس رجل فله دينار. وذكروا أن الخراب استولى على الأقطار الشمالية بسبب تقلقل أحوال ملوك مصر والشام، والحروب الثائرة مع التتر من جهة ومع الفرنج من أخرى، فكان الناس يرغبون في سكنى الجبال العالية الصعبة المسالك وقدم إلى جبل لبنان في ذلك الحين خلق كثير ومنهم أهل وادي التيم وخلا هذا الوادي من السكان خمسة أعوام ولم يكن فيه بلد عامراً سوى حاصبيا وكذلك البقاع. ثم عاد الناس وعمروا بعض القرى في جبل حاصبيا فقط. وفاة قلاوون وسلطنة ابنه الأشرف خليل وإثخانه في فرنج الساحل: توفي المنصور قلاوون 689 وكان ملكاً مهيباً حليماً قليل سفك الدماء كثير العفو، شجاعاً أقام منار العدل وأحسن سياسة الملك أحسن قيام وفتح الفتوح الجليلة التي لم يجسر أحد من الملوك مثل صلاح الدين وغيره على مثلها وهو الذي وطد حكم المماليك على الشام وأصلح كما في المعلمة الإسلامية بالتدريج ما أحدث المغول فيه من التخريب، وقام بأعمال مهمة من مثل ترميم قلعة حلب وبعلبك ودمشق. وهو الوحيد من ملوك المماليك الذين تسلسل الملك في أعقابهم وألفوا دولة فإن أعقابه حكموا إلى سنة 783هـ 1382م خمسة بطون. وقد عقد معاهدات مع الدول التي يخشى بأسها ويمكن الانتفاع بحسن الصلات معها، مثل المعاهدة التجارية مع جمهورية جنوة ومعاهدة دفاعية مع الملكين الفونس ملك قشتاله وجاك ملك صقلية. وعقدت هدنة بين الملك المنصور قلاوون الصالحي وولده الملك الصالح علي ولي عهده وبين حكام الفرنج بعكا وما معها من بلاد سواحل الشام في شهور سنة اثنتين وثمانين وستمائة وهي يومئذ بأيديهم لمدة عشر سنين وعشرة أشهر وعشرة أيام وعشر

ساعات على أن لا يكون للفرنج من البلاد والمناصفات إلا ما شرح في هذه الهدنة وعين فيها من البلاد، وعلى أن الفرنج لا يجددون في غير عكا وعثليث وصيدا مما هو خارج عن أسوار هذه الجهات الثلاث المذكورات لا قلعة ولا برجاً ولا حصناً ولا مستجداً. ومما جاء فيها أن شواني السلطان وولده إذا عمرت وخرجت لا تتعرض بأذية إلى البلاد الساحلية وإن انكسر شيء من هذه الشواني في مينا من مواني البلاد التي انعقدت عليها الهدنة وسواحلها فإن كانت قاصدة من له مع مملكة عكا ومقدمي بيوتها عهد فيلزم كفيل المملكة بعكا ومقدمي البيوت بحفظها وتمكين رجالها من الزوادة وإصلاح ما انكسر منها والعود إلى البلاد الإسلامية، ومتى تحرك أحد من ملوك الفرنجة وغيرهم من جُوّا البحر لقصد الحضور لمضرة السلطان وولده في بلادهما المتفقة عليها هذه الهدنة فيلزم نائب المملكة والمقدمين بعكا أن يعرفوا السلطان وولده بحركتهم قبل وصولهم إلى البلاد الإسلامية الداخلة في هذه الهدنة لمدة شهرين وإذا قصد البلاد الشامية عدو من التتر وغيرهم في البر وأغارت العساكر الإسلامية من قدام العدو ووصل العدو إلى القرب من البلاد الساحلية الداخلة في هذه الهدنة وقصدوها بمضرة فيكتب إلى كفيل المملكة بعكا والمقدمين بها أن يدرأوا عن بيوتهم ورعيتهم وبلادهم بما تصل قدرتهم إليه. وإن حصل جَفل من البلاد الإسلامية إلى البلاد الساحلية الداخلة في هذه الهدنة فيلزم كفيل المملكة بعكا والمقدمين بها حفظهم والدفع عنهم ومنع من يقصدهم بضرر ويكونون آمنين مطمئنين بما معهم. وعقد الملك المنصور قلاوون صاحب الديار المصرية ودمشق وحلب مع الأشكري صاحب القسطنطينية سنة 680 هدنة على أن لا يحارب أحدهما الآخر ويرعبا التجار في بلادهما. وكانت سفراؤه تغدو وتروح إلى أمبراطور بيزنطية والأمبراطور رودولف دي هابسبورغ وملك اليمن وأمير سيلان وغيرهم من أمراء الشرق. ولهذا السلطان آثار جليلة في العمران في القدس ودمشق وغيرهما من ربوع الشام تدل على بعد نظره وحبه للمصالح. وجلس في السلطنة بعد قلاوون ابنه الأشرف صلاح الدين خليل وسار على قدم أبيه في جهاد الصليبيين. وكان أول عمل اتجهت إليه همته بعد أن قدم تجار الفرنج إلى عكا وقتلوا من كان بها من المسلمين 689 أن نهض

الحملة الصليبية السابعة وانتهاء الحروب الصليبية:

من مصر لفتح عكا بالعساكر المصرية والشامية فهرب جماعة من أهلها من الفرنج في المراكب لما هاجمها المسلمون كما فعلوا في طرابلس على عهد والده واستنزل الأشرف جميع من عصى بالأبرجة التي كانت داخل البلد، وهي بمنزلة قلاع دخلها عالم عظيم من الفرنج وتحصنوا بها فاستنزلهم السلطان وأمر بضرب أعناقهم عن آخرهم حول عكا، ثم أمر بالمدينة فهدمت إلى الأرض ودكها دكاً. وكانت كما قال الذهبي من أحسن المدائن بالعمارة والبناء الفاخر فلما فتحها الأشرف وهدم سورها هرب أهل المدينة منها وصارت خراباً، وصار الناس من حينئذ ينقلون منها الرخام الملون مدة طويلة. ومما وجد مكتوباً على باب كنيسة من كنائس عكا أبيلت لابن ضامر الضبع: أم الكنائس إن تكن عبثت بكم ... أيدي الحوادث أو تغير حال فلطال ما سجدت على أبوابكم ... شمُّ الأنوف جحاجح أبطال صبراً على هذا المصاب فإنه ... يوم بيوم والحروب سجال ولما فتحت عكا رُعب الفرنج في الساحل فأخلوا صيدا فأخربها السلطان وجزيرتها وقلعتها الجنوبية والشمالية. واستولى على بيروت فهدم سورها ودك قلعتها وكانت حصينة جداً واستولى على صور وكان أهلها مثل سائر الساحل. وكذلك عثليث وكانوا أوقدوا فيها النار. وسلمت أنطرطوس بالأمان وطرد السلطان الفرنج من جبيل وهدمها ودك قلعتها. وهربوا من أنفة والبترون وصرفند وإسكندرونة بالقرب من عكا وذلك في مدة سبعة وأربعين يوماً وكان فتحاً مبيناً. خرب الساحل كما رأيت بهذه الضربة الأخيرة ولكن استقلت الشام ونجت من بقايا الصليبيين الذين كانوا ينغصون عيش الدولة والأمة، ولا يؤخذ على الأشرف استئصاله شأفة أعدائه وإهلاكه لهم عن آخرهم، فقد كان على الصليبيين بعد وقعة حطين وفتح القدس أن يغادروا القطر جملة واحدة وظنوا تسامح صلاح الدين يوسف معهم يومئذ ضعفا وأدرك كل من تولى زعامة الشام بعده أنه يستحيل الخلاص من الفرنج إلا بإفنائهم، وآخر الدواء الكي. الحملة الصليبية السابعة وانتهاء الحروب الصليبية: دخلت الجيوش الصليبية الشام سنة 491 وخرج منها آخر المنهزمين سنة

690 أي إنهم ظلوا مئتي سنة يحاربون الشام ومصر. تعاقبت فيهما عدة دول إسلامية على البلاد، وكلها حاربت هؤلاء الدخلاء بما وسعها أن تحارب، وربما قتل من الفريقين خلال ذينك القرنين ما لا يقل عن بضعة ملايين من الأنفس، ولو لم تنقطع الرغبات في الغرب وتبطل النجدات بل الحملات الكبرى التي أصبح الباباوات والملوك يوجهونها في وجهات أُخرى لقتال المسلمين لطال أمدها أكثر مما طال. قلنا: إن الحملة الصليبية السادسة كانت بقيادة الأمير فريدريك الثاني، وهي الحملة التي عقدت معاهدة مع ملك مصر والشام تنازل فيها هذا عن القدس وبيت لحم والناصرة عشر سنين، فلما انتهت المدة عادت القدس إلى المسلمين وعندها عمد سان لوي ملك فرنسا أن يسترجعه منهم، وكان السبب في تأليف الحملة الصليبية السابعة والثامنة. جاء في الأولى إلى دمياط وانهزم مع جيشه هزيمة فاضحة في المنصورة بمصر وأُسر هو وجميع من معه من الرجال وعدتهم ثلاثون ألفاً، فاضطر أن يدفع فدية عظيمة عن نفسه وعن جماعته ثم عاد إلى فرنسا فزين له أخوه أن يغزو تونس ومنها يذهب ليفتح مصر والشام فهلك في تونس بالطاعون 1270م وبذلك انتهت الحروب الصليبية. نشأت في فرنسا وانتهت بفشل ملكها ثم بهلاكه. ولقد عدّ الفرنج من الفوائد التي جنوها من الحروب الصليبية أنهم أوقفوا سير المسلمين عن التقدم، وتعلم ملايين منهم أُموراً ما كانوا يحلمون بوجودها، وأخذوا عن الروم والعرب ما كان عندهم من أسباب المدنية التي لم يكن للفرنج عهد بها. فإن كثيراً من أصناف البقول نقلوها إلى أوروبا وشاعت هناك ولم تكن تعهد عندهم، وقد تعلم صناعة الورق رجلان إفرنسيان كانا أسيرين في دمشق، وأدخلا صناعته إلى فرنسا، فكان للشام على فرنسا هذا الفضل، ومنها شاع صنعه في سائر ممالك الغرب، وتعلموا صنع الأقمشة الدمشقية والسيوف وغيرها من الصنائع الجميلة. قال مكسيم بتي في تاريخ الشعوب العام أثناء كلامه على إخفاق الحملة الصليبية الأولى ما تعريبه: لئن كان الصليبيةن متحمسين تحمساً دينياً فقد كان ينقص هذه الستمائة ألف رجل وحدة القيادة والتجانس والامتزاج،

وما كان لنواب البابا أدنى سلطة أدبية ولم تكن وحدة الغاية المراد بلوغها لتحول دون ظهور المطامع والمنافسات والدسائس. ويضاف إلى هذا السبب في الضعف أسباب أخرى مادية وهي صعوبة الطريق وقلة أسباب التموين وتدني القوى الحربية بسبب تفوق الجيوش في المدن المفتوحة أو رجوع بعض الصليبيين إلى الغرب إلى ما هنالك من قحط وأوبئة وخسائر في الحرب. وقال في الحملة الصليبية الثانية: إن قلة إيمان الكسيس وصعوبة التموين وقلة المؤنة جعلت الحملة شؤمى فقتل الثلاثمائة والخمسون ألف رجل الذين كانت تتألف منهم قتلاً ذريعاً في مريسوان واركلي. ومع كثرة ما بذله أخلاف صلاح الدين من الجهد في قتال الصليبيين أمثال العادل والكامل وبيبرس وقلاوون وابنه صلاح الدين خليل، فإن الصليبيين كان يتعذر القضاء عليهم في الشام لو لم ينقطع المدد عنهم من البحر وتنصرف وجهة الصليبيين إلى قتال العرب في الأندلس. وفي الحق أن تلك الحملات الصليبية كانت شعبة من شعب الجنون فقدت فيها أوروبا أكثر مما ربحت من الأنفس والأموال. وما يدرينا أن تتقدم دولة السلاجقة في آسيا الصغرى على سمت الشمال وتقضي على مملكة الروم البيزنطية ثم تتقدم في فتوحها إلى أوروبا لو لم يشتغل ملوك المسلمين بهذه الحملة قرنين كاملين. وكانت الشام من جملة ممالك السلجوقيين وربما تبعتها مصر ففتحها صلاح الدين أو غيره باسمهم بدلاً من أن يفتحها باسم نور الدين، وما نور الدين إلا صنيعة السلاجقة، وما جده وأبوه إلا عاملان من عمالهم. شغلت أوروبا بمسألة إنقاذ القبر المقدس من أيدي المسلمين قرنين، وتطوعت شعوبها في هذه السبيل، ومن الأمم من لم ينلها إلا قتل رجالها وذهاب أموالها وكان الرابح على الأكثر أهل إيطاليا فإنهم حاربوا حرباً تجارية ربحوا من سفنهم وتجارتهم وخصوصاً البنادقة والجنويون والبيسيون. أما الألمان والبريطانيون والفرنسيون والهولانديون والسويسريون والنروجيون فإنهم خسروا خسارة كبيرة. ساق الفرنج إلى الحروب الصليبية الدين والتجارة فلما فترت نغمة الدين بهلاك من كانوا يحسنون هناك الضرب على أوتارها، ولم ير التجار في هذا

الشرق ما يكفي لسد نهمتهم وأيقنوا أن الأمر يطول إذا أرادوا القضاء على جميع الممالك الإسلامية في آسيا فترت هممهم بالطبع، لكن الشام بعد ذلك وإن كانت الدول الأتابكية والنورية والصلاحية ودولة بيبرس وقلاوون وابنه يعمدون حالاً إلى ترميم ما خربه الأعداء لإيقانهم أنها بلادهم ولا بدلهم من دفع أعدائهم عنها، وأنهم يسترجعونها لا محالة وسيدالون منهم، مهما طال مقام من استصفوا بعض السواحل وبيت المقدس فكان الأمر كما اعتقدوا. وكلما طال احتلال الصليبيين كانت الأمة تستمرىء طعم الموت لطردهم، وكلما رأت من ملك أو أمير تغاضياً عنهم أو اتقاء عاديتهم بالمعاهدات والمهادنات كانت تستهين به وتدعو أن لا تدوم أيامه. وعلى ما بذل الصليبيون من استمالة جيرانهم ما عدّهم هؤلاء قط إلا غاصبين أرضهم، دخلاء على الملك الإسلامي. ولو لم يؤسس الدولة في الشام ومصر ملك عاقل عادل مثل نور الدين ويتم عمله عاقل عادل من طرازه أي صلاح الدين لما تمّ الفتح الأخير على يد الأشرف خليل، ولما تمم أخلافه بعده الخطة المرسومة. ولو كان الملك لا يوسد إلا للكفاة من أبناء الملك أو لأكبرهم سناً، ولو لم يكن شجر الخلاف بين آل أيوب، لضرب الصليبيون الضربة القاضية الأخيرة بعد مهلك صلاح الدين بعشر أو بعشرين سنة على الأكثر، إذ كان يتأتى للمسلمين أن يجمعوا قواهم بعد فشل جيش صلاح الدين على عكا بما جاء الصليبيين من النجدات العظيمة في البحر. ولكن مات صلاح الدين قبل أن يطبق خطته، وشغل أخوه وأولاده بالتنازع على الملك، وعدوا الهدنة الطبيعية التي مضت بين أخذ عكا واستلام القدس ثانية من المسلمين نعمة عليهم لتشبع نفس كل طامع منهم بالملك والسلطان، وغفلوا عن أعدائهم الذين لم يكد يغفل عنهم نور الدين وصلاح الدين سنة واحدة إلا ريثما يجمعان قواهما، وقد كانا لهذا الغرض يصانعان ملوك الأطراف ليسيروا معهما على قتال الأعداء، أما أخلافهم فكانت سياستهم في الأكثر موجهة إلى اختراع الطرق لقضاء بعضهم على بعض، أو لاستئثار قويهم بملك مصر أو دمشق أو حلب أو الكرك والشوبك أو ماردين أو خلاط، فشغلوا بداخليتهم أكثر من اشتغالهم بأمور الجهاد وهي أهمّ وأعظم، هذا وأكثر أولئك الملوك كانوا قد تشبعت نفوسهم بالتربية العالية والعلم والأدب الغزير،

وكانوا على معرفة تامة بفتح المعاقل والحصون، ومعرفة بعلل الحروب وقواعد السلم، وإعطاء العهد وعقد الهدنة والصلح، ورثوها واقتبسوها من أخلاق البانيين لمجدهم نور الدين وصنيعته صلاح الدين. ومما أخر القضاء عشرات من السنين على بقايا الصليبيين في الساحل ظهور التتر في القطر بعد قضائهم في منتصف القرن السابع على الخلافة العباسية، فأصبحت الشام بين عدوين أتى الأول من الغرب فأقام وطال مقامه، وجاءها الثاني من الشرق، والشر قد يأتي من الشرق، فكان يخرب في أصقاعها ويغنم ويقتل ثم يذهب ثم يعاودها. ولكن ما حدث من حروب الخوارزمية ثم أخلاف هولاكو في هذا القطر يعدّ مناوشات إذا قيس بالحروب والخراب الذي حدث بعد ذلك فأهلك الأخضر واليابس، وغدا القطر غرض النابل، وفريسة الصائل. وفي التاريخ العام أنه كان من نتائج الحروب الصليبية إذا صرف النظر عمن هلك فيها من ملايين الخلق، إحداث إمارات كاثوليكية في الشرق انتزعت من المسلمين والبيزنطيين واحتلها فرسان فرنسيون وتجار طليان. وقد طرد هؤلاء الأوروبيون لقلتهم بدون أن يتركوا سوى آثار معاقلهم في المواني وعلى صخور يونان والشام، ولكن هيأ الصليبيون لنصارى أوربا أن يكونوا على صلات متصلة مع الشرق مدة قرنين اه قلنا: وهذه النتيجة من ربط الصلات مع الشرق كان يتأتى لأوروبا الحصول عليها بدون إهراق هذه الدماء وإتلاف الأموال العظيمة وغرس البغضاء في نفوس من نزلوا عليهم. وفي تاريخ الشعوب العام أن من جملة فوائد الحروب الصليبية أنها أوقفت سير المسلمين نحو أوروبا، وقربت بين شعوب أوروبا وجمعتهم تحت لواء واحد وأشعرت قلوبهم حب الوحدة الأدبية وساعدت على إيجاد فكرة أوربية. وأخذ المسلمون والنصارى يعرف كل منهم الآخر ويعرفون كيف يحترم بعضهم بعضاً، وعقدت بينهم المعاهدات والصلات خلال المهادنات والانقطاع عن استعمال السلاح. وقد جهز ريشاردوس فئة من العرب جعلهم فرساناً، وعقد أنكحة بين الطائفتين ودخل التسامح المتبادل في الأخلاق. وما خلت الصناعات والهندسة والفنون والأزياء واللباس والفنون الحربية من تأثيرات الشرق وقد دخلت المدنية الشرقية في مدنية الغرب دون أن تستغرقها أهـ.

وفي تاريخ فلسطين أن من أضرار الحروب الصليبية في الشام إيقاد جذوة التعصب الديني بين المسلمين والمسيحيين، ورأى هؤلاء أن مسلمي العرب أحسنوا إليهم يوم الفتح أكثر مما رأوا من هؤلاء الفرنج الذين أنكروا أبناء دينهم. ومنها تخريب البلدان وقطع الأشجار حتى زادت الأسعار ستة أضعاف ما كانت عليه ومنها تلطيخ الدين المسيحي والازدراء بتعاليمه، لأن مسيحيي الصليبيين كانوا أبعد الناس عن دينهم. وقد أجمع المؤرخون على أن المسلمين تقيدوا بالفضائل الدينية وراعوا المصلحة الإنسانية أكثر من الفرنج الناكثي العهود والقاتلي الأسرى، والذين أفحشوا في سفك الدماء لما دخلوا القدس وحقروا الديانة المسيحية اه. لا جرم أن الصليبيين افتضحوا في هذا الشرق بأخلاقهم وقلة معرفتهم، وعرفوا بعد أن أخفقت الحملة الثامنة واصطلموا من الساحل مبلغ قوة أعدائهم، وأنهم في أرضهم، وهم يحتاجون إلى الرحيل أشهراً في البر وفي البحر. وذكر ميشو أن الفرنسيس والنور مانديين وسائر شعوب شمالي أوروبا المتوحشة في القرن الثاني عشر للميلاد كانوا في حالة البداوة وهذا ما ساعدهم على إعلان الحروب الصليبية في الشرق، فلما نشأت المدنية الحديثة في القرن السادس عشر وتسربت أولاً إلى الملوك أصبحوا لا يرون الاغتراب عن أوطانهم ولا الشعوب أن تفارق مساقط رؤوسها، وعمت الصناعات وحسنت الزراعة وانتشر العلم، وغدا ذكرى كل مدينة وكل أسرة وتقاليد كل شعب وقطر والألقاب والامتيازات والحقوق المستحصلة والأمل في تنميتها، كل ذلك قد غيّر من أخلاق الفرنج وبدل من ميلهم لحياة التنقل والارتحال وجعلها صلات تربطهم بالوطن. وقد كتب التوفيق للملاحة في القرن التالي واكتشفت أميركا واجتاز الملاحون رأس الرجاء الصالح فنشأ من هذه الاكتشافات تبدل كثير في التجارة، وأخذت الأفكار تتجه وجهة جديدة وأنشأت المضاربات الصناعية التي كانت قائمة بالحروب الصليبية تسير نحو أميركا والهند الشرقية، ففتحت أمام الغربيين ممالك كبرى وأقطار غنية تسد مطامعهم وتشبع نهمة التائقين إلى المجد والثروة والوقائع. فأنست حوادث العالم الجديد ما في الشرق من عجائب اهـ.

هذا ما قاله مؤرخ ثقة من مؤرخيهم في القرن الماضي، وإليك ما قاله أديب كبير من أدبائهم المحدثين كلود فارير: في سنة 732 للميلاد حدثت فاجعة ربما كانت من أشأم الفجائع التي انقضت على الإنسانية في القرون الوسطى، فغمرت العالم الغربي مدة سبعة أو ثمانية قرون إن لم نقل أكثر في طبقة عميقة من التوحش، لم تبدأ بالتبدد إلا على عهد النهضة، وكاد عهد الإصلاح يعيدها إلى كثافتها الأولى، وهذه الفاجعة هي التي أريد أن أمقت حتى ذكراها، وأعني بها الغلبة المكروهة التي ظفر فيها على مقربة من بواتيه برابرة المحاربين من الفرنج بقيادة الكارولنجي شارل مارتل على كتائب العرب والبربر ممن لم يحسن الخليفة عبد الرحمن جمعهم على ما يقتضي من الكثرة فانهزموا راجعين أدراجهم. وفي ذلك اليوم المشئوم تراجعت المدنية ثمانية قرون إلى الوراء، ويكفي المرء أن يطوف في حدائق الأندلس أو بين العاديات التي لا تزال تأخذ بالأبصار مما يبدو من عواصم السحر والخيال إشبيلية وغرناطة وقرطبة وطليطله ليشاهد والألم الغريب آخذ منه ما عساها أن تكون بلادنا الفرنسية لو أنقذها الإسلام الصناعي الفلسفي السلمي المتسامح - والإسلام مجموعة كل هذا - من الأهاويل التي لا أسماء لها، وكان منها أن أنتجت خراب غاليا القديمة التي استعبدها أولاً لصوص أوسترازيا ثم اقتطع جزءاً منها قرصان النورمانديين ثم تجزأت وتمزقت وغرقت في دماء ودموع، وفرغت من الرجال بما انبعث في أرجائها من الدعوة للحروب، ثم انتفخت بالجثث بما دهمها من الحروب الخارجية والأهلية الكثيرة، حدث ذلك على حين كان العالم الإسلامي من نهر الوادي الكبير إلى نهر السند يزهر كل الإزهار في ظل السلام تحت أعلام أربع دولات سعيدة: الأموية والعباسية والسلجوقية والعثمانية.

دولة المماليك

دولة المماليك من سنة 690 إلى 790 فتوح أرمينية وعصيان الموارنة بعوامل صليبية: أصبحت مصر والشام بعد انقضاض الصليبيين من السواحل، ووضع السيف في بقاياهم، واعتصام جزء قليل منهم بالموارنة في لبنان مملكة واحدة لا يتخللها أرض لغير مالكها، ولا ينازعها سلطان من غير المسلمين، وأصبحت حوادثها وطنية محلية يدور محورها على الاستئثار بالملك، والذهاب بفضل السبق، والتفكر فيما يدفع العوادي عن حدود القطر أو يوسعها إلى المدى المقدّر لها، وبعد أن كانت الشام مصدر الأعمال والسياسة نازعتها مصر في هذا الشأن، فابتلع القطر المصري الشام وعده كما كان زمن الفاطميين جزءاً متمماً لمصر لا قطراً مستقلاً بنفسه وسياسته. أي إن القوة أصبحت بعد عهد العادل تستمد في الشام من مصر لأنها مقر السلطان، ومصر بين أقطار تحيط بها الصحاري من أطرافها، لا سبيل كل حين إلى غزوها كما تغزى الشام من أطرافها الأربعة، وليس في أمراء برقة وطرابلس وتونس والنوبة والسودان والحبشان من يستطيع أن يغزو مصر ويحلم بفتحها، ولذلك كانت الشام بعد غهد الأمويين أشبه بإمارة سلطانها الأكبر في مصر ويتولاها نائبه أو نوابه. ولم يكتب للشام أن تصبح دار ملك بعد عهد الدولتين النورية والصلاحية، وكان أهم عدو مجاور لها صاحب سيس، فإن الأرمن كانوا قد جمعوا شملهم بعد أن قضت على سلطانهم الدولة الأيوبية، وانتزعت منهم خلاط أوائل

القرن السابع، وكانت خلاط قاعدة أرمينية الوسطى أخذها بنو أيوب لمكانهم فيها من عصبية الأكراد، وهي قسم من أرمينية الكبرى وقاعدتها سيس، وقد ذهب الملك الأشرف سنة 691 في عساكره المصرية والشامية وقصد قلعة الروم وهي على جانب الفرات يقيم بها خليفة الأرمن كيتاغيكوس فأخذه ومن معه أسرى، ورمَّ ما تخرب من تلك القلعة الحصينة. تقدم أن فرنج الساحل لما أصابتهم الضربة القاضية اعتصم بعضهم بأهل جبل لبنان ونزلوا عليهم، وعاد آخرون إلى بلادهم في المراكب، وقد أثار هذا القسم اللاجئ إلى لبنان في نفوس بعض أهله فكره العصيان فعصوا، فتوجست دولة الأشرف منهم خيفة فأرسلت عليهم حملة من دمشق 691 بقيادة بدر الدين بيدرا، فسار إلى جبل كسروان في العسكر وعدة من الأمراء فانحل عزمه لما تمكن الكسروانيون من بعض العساكر في تلك الجبال ونالوا منهم، وعاد العسكر شبه المكسور وحصل لأهل الجبل الطمع والقوة، فأطلق محابيس لهم بدمشق من أرباب الجرائم العظيمة، وحصل لهم من جميع المقاصد ما لم يكن في حسابهم. قال مغلطاي: وكل ذلك من الطمع وسوء التدبير. وفي كتاب الهدنة التي عقدت بين الملك الأشرف صلاح الدين خليل بن الملك المنصور سيف الدين قلاوون صاحب الديار المصرية والبلاد الشامية بين حاكم الريدارغون صاحب برشلونة من بلاد الأندلس وأخويه دون وفلدريك ودون بيدرو وبين صهريه دون شانجه ملك قشتالة وطليطلة وليون وبلنسية وقرطبة وأشبيلية ومرسية وجيان والغرب الكفيل بمملكته أرغون وبرتقال دون ألفونس ملك برتغال في تاريخ 692 أمر الملك دون حاكم وأخويه وصهريه يفسح كل منهم لأهل بلاده وغيرهم من الفرنج أنهم يجلبون من الثغور الآسيوية الحديد والبياض والخشب وغير ذلك. وأن سائر أصناف البضائع المتأخرة على اختلافها تستمر على حكم الضرائب المستقرة في الديوان المعمور. وجاء الأشرف 692 لتجهيز العسكر لقصد سيس فوردت عليه رسل صاحبها يطلب الصلح ورضا السلطان عليهم، فرضي على أن يسلموا لنواب

السلطان ثلاث قلاع وهي: بهسنى ومرعش وتل حمدون. وكانت بهنسى قلعة حصينة في فم الدربند وباب حلب، فلما انتقلت من أيدي المسلمين إلى أيدي الأرمن وقت مجيء التتر كان منها على المسلمين أذى، فلما فتح السلطان قلعة الروم وأخذ خليفة الأرمن حصل للأرمن خوف عظيم فصانعوا عن أنفسهم بهذه القلاع. قال مغلطاي: ورسم السلطان في هذه السنة للأمير عز الدين الأفرم بأن يسافر إلى الشوبك وأن يخرب قلعتها فراجعه في إبقائها فنهره فسافر وأخربها وكان هذا غاية الخطأ وسوء التدبير فإن هذا الملك كان طالعه يقتضي الخراب فإنه أخرب في قلعة الجبل أكثر بنيانها، وكذلك في قلعة دمشق أخرب قاعات كثيرة وبظاهر دمشق من حد الميدان إلى تحت القلعة، وكان على يده خراب جميع الساحل وتعطلت بلاده من جميع الأصناف التي تجلب من البحر وبقيت الشام معطلة. قلنا: ولكن هذا السلطان وأبوه دفعا الصليبيين عن القطر واجتثا أصولهم وفروعهم وأدخلاه في عهدهما في دور عز وقوة ووحدة حقيقية. واتسعت مملكة قلاوون حتى خطب باسمه في إفريقية تونس قال ابن إياس: وكان من أجل الملوك قدراً وأعظمهم نهياً وأمراً وأكثرهم معروفاً وبراً، وقد جبلت القلوب على محبته سراً وجهراً اه. وقد خلف آثاراً مهمة ومصانع خالدة في مصر وبعض الشام تدل على ذوق وحسن هندسة، وتسلسل الملك في أولاده وأحفاده لأن الرعية كانت تحبه فأحبت آل بيته، وخفت وطأة المماليك في أيامه ثم عادت تدريجياً إلى القوة والعرامة. اغتيل 693 الأشرف صلاح الدين خليل بيد بعض أعيان الدولة بمصر واتفق قاتلوه على سلطنة بيدرا وتلقب بالقاهر، ثم اتفق الحزب القوي منهم فبايعوا للناصر ولد المنصور ثم تغلب 694 زين الدين كتبغا نائب السلطنة على سرير المملكة، واستحلف الناس على ذلك وخطب له بمصر والشام، ونقشت السكة باسمه وجعل الناصر في قلعة الجبل وحجب الناس عنه فتزعزعت أعصاب المملكة لهذه الحوادث المشئومة التي تورث النفوس كآبة وأعمال الناس فتوراً. ولما عاد العادل كتبغا من دمشق إلى مصر بالعساكر 696 ووصل إلى نهر العوجا تفرقت مماليكه وغيرهم فركب حسام الدين لاجين المنصوري نائب

الملك العادل كتبغا ومعه فريق من الأمراء فهرب كتبغا إلى دمشق ودخل قلعتها واهتم في جمع العساكر والتأهب لقتال لاجين فلم يوافقه عسكر دمشق ورأى منهم التخاذل فخلع نفسه من السلطنة وأرسل إلى لاجين يطلب منه الأمان وموضعاً يأوي إليه فأعطاه صرخد. وأما حسام الدين لاجين فإنه لما هزم العادل كتبغا نزل بدهليزه على نهر العوجا واجتمع معه الأمراء الذين وافقوه على ذلك، وشرطوا عليه شروطاً التزمها، منها أن لا ينفرد عنهم برأي ولا يسلط مماليكه عليهم كما فعل بهم كتبغا. فأجابهم لاجين إلى ذلك وحلف لهم فعند ذلك حلفوا له وبايعوه بالسلطنة ولقب بالملك المنصور حسام الدين لاجين المنصوري، ورحل بالعساكر إلى الديار المصرية، وأرسل إلى دمشق سيف الدين قبجق المنصوري وجعله نائب السلطنة بالشام. ومن أهم ما وقع من الحوادث في عهد هذا الملك دخول غازان من أحفاد هولاكو 696 دمشق ثم ارتجاعه عنها بعد أن بذل له أهلها مالاً عظيماً. ثم تجريد السلطان العسكر الكثيف من مصر والشام 697 لشن الغارات على سيس فضاقت على الأرمن الأرض بما رحبت وهلكوا من كثرة ما قتل المسلمون منهم، وغنموا حتى اضطر ملكهم أن يبذل الطاعة لصاحب مصر والشام، والإجابة إلى ما يرسم به سلطان الإسلام، وإلى الاعتراف بأنه نائب السلطان في بلاده فطلب منه العسكر أن يكون نهر جيحان حداً بين المسلمين والأرمن، وأن يسلم كل ما هو جنوبي نهر جيحان من الحصون والمدن، فأجاب عظيمهم إلى ذلك وأخذ حموص وتل حمدون وسرفندكار ومرعش وحجر شغلان وغيرها من الحصون والقلاع. وفي سنة 697 أيضاً وفد أحد مقدمي المغول إلى المنصور لاجين وطلب نجدة ليعود إلى الروم فجرد معهم من حلب عسكراً مقدمهم بكتمر الجلمي، وساروا مع المقدم سلامش المغولي حتى تجاوزوا بلد سيس فخرجت عليهم التتر واقتتلوا معهم، فقتل الجلمي وجماعة من العسكر الإسلامي وهرب الباقون. وفي سنة 698 وحشت نفوس الدولة مما يأتيه منكوتمر من إمساك الكبار وسقي بعضهم، وذهب نائب دمشق قبجق بالعساكر فنزلوا بأرض حمص وهناك بكتمر السلحدار بطائفة من المصريين فتكلموا في مصلحتهم، وأن

وقائع التتر:

منكوتمر لا يفتر عنهم فاتفقوا على المسير إلى غازان ملك التتر لعلمهم بإسلامه فسارا إلى حمص ونزلا بخواصهما، فأخذا على ناحية سلمية وعديا الفرات فلم يكن بعد عشرة أيام من مسيرهم إلا وقد جاء البريد بقتل المنصور حسام الدين لاجين المنصوري وقتل منكوتمر نائبه وعلم الأمراء المخامرون بقتلهما، فاتفق رأي أرباب الدولة في مصر على إعادة الناصر محمد إلى مملكته فجيء به من الكرك وجلس على سرير سلطنته للمرة الثانية. ووصلت هذه السنة إلى بيروت مراكب كثيرة وهي ثلاثون بطسة وفي كل واحدة سبعمائة مقاتل من الفرنج للطلوع إلى الساحل والإغارة على ديار المسلمين فأصابتهم عاصفة أغرقت سفنهم ورجع الباقون خائبين. وقائع التتر: لم تكد نازلة الصليبيين تنحسم حتى كان المصاف العظيم بين المسلمين والتتر في سنة 699 فسار غازان بن أرغون خان بن هولاكو بن تولي بن جنكيز خان، بجموع عظيمة من التتر والكرج والمزندة وغيرهم وعبر الفرات ووصل بجموعه إلى حلب ثم إلى حماة ونزل على وادي مجمع المروج، وسارت العساكر صحبة الناصر إلى جهة المجمع، وكان سلار والجاشنكير متغلبين على المملكة فداخل الأمراء الطمع ولم يكملوا عدة جندهم فنقص العسكر كثيراً مع سوء التدبير ونحو ذلك من الأمور الفاسدة التي أوجبت هزيمة العسكر. والتقوا بالقرب من مجمع المروج شرقي حمص فولت ميمنة المسلمين ثم الميسرة وثبت القلب وأحاطت به التتر وجرى بينهم قتال عظيم وتأخر السلطان إلى جهة حمص، فولت العساكر الإسلامية تبتدر الطريق وتمت بهم الهزيمة إلى ديار مصر وانهزم السلطان إلى نحو بعلبك بعد أن تلاقى عسكر مصر وعسكر التتر على مرج راهط تحت جبل غباغب جنوبي دمشق ووقعت بينهما وقعة عظيمة. وكان مع العسكر المصري من العسكر الشامي وعربان من جبل نابلس نحو مائتي ألف إنسان في بعض الروايات ومع غازان مثل ذلك أو أكثر. تتبع التتر المنهزمين من المسلمين في وقعة مجمع المروج حتى بلغوا دمشق واستولوا عليها ونهبوا ضياعها وسبوا أهلها، وساروا في أثر الجفّال إلى غزة

والقدس والكرك. ولما استولى غازان على دمشق أخذ سيف الدين قبجق الأمان لأهلها ولغيرهم منه. وكانت قلعة دمشق عصت على غازان فحاصرها وكان الأمير بها أرجواش المنصوري فقام في حفظها أتم قيام وصبر على الحصار ولم يسلمها - هذا ما قاله أبو الفداء وابن إياس -. ووصف مغلطاي ما حل بدمشق وضواحيها من التتر وما جرى على العساكر المصرية والشامية، وما تم من تخريم الدور والمساكن بظاهر دمشق مثل الصالحية والحواضر البرانية من العقيبة والشاغور وقصر حجاج وحكر السماق وقد خرب منها واستبيح ما لم يصبه الحريق من الأماكن قال: إنهم أسروا من الصالحية نحو أربعة آلاف نسمة وقتلوا نحو ثلاثمائة أو أربعمائة أكثرهم في التعذيب على المال. ودام التتر نحو أربعة أشهر. وكان عدد من دخلوا دمشق من التتر أربعة آلاف مقاتل. وقد احترقت أماكن حول قلعة دمشق منها دار الحديث الأشرفية وما قبالتها إلى العادلية الصغرى والعادلية الكبرى وأحرقت دار السعادة وكانت مقر نواب السلطنة وما حولها، واحتاط التتر بهذه النواحي والأماكن التي لم يصل إليها الحريق فنهبت ونقضت أخشابها، وقلع ما فيها من الرخام وأخذ ما فيها من الأثاث، وكذلك فعل بجميع الصالحية. وعقيب أن تم كل هذا الحيف جاء رسول التتر إلى دمشق بالأمان ومما شرطه في تقليده وكان مكتوباً بالعربية، أن لا يتعرضوا لأحد من أهل الأديان على اختلاف أديانهم من اليهود والنصارى والصابئة، فإنهم إنما يبذلون الجزية عنهم من الوظائف الشرعية. وقال صاحب التتر: إنه حارب حكام مصر والشام لأنهم خارجون عن طريق الدين غير متمسكين بأحكام الإسلام، ناقضون لعهودهم، حالفون بالأيمان الفاجرة، ليس لديهم وفاء ولا ذمام، وشاع من شعارهم الحيف على الرعية، ومد الأيدي العادية إلى حريمهم وأموالهم، والتخطي عن جادة العدل والإنصاف. قال مغلطاي: إنه حمل إلى خزانة غازان ثلاثة آلاف ألف دينار وستمائة ألف دينار سوى ما لحق من التراسيم المقررات والبراطيل والاستخراج لغيره من الأمراء والوزراء وغير ذلك. وقال الصفدي: وإلى شيخ الشيوخ الذي نزل بالعادلية ما قيمته ستمائة ألف درهم وإلى الأصيل بن نصير الدين الطوسي مائة ألف درهم.

ولعلي الأوتاري الدمشقي في هذه الموقعة من قصيدة: أحسن الله يا دمشق عزاكِ ... في مغانيك يا عماد البلادِ وبرستاق نيربيك مع المز ... ة مع رونق بذاك الوادي وبأنس بقاسيون وناس ... أصبحوا مغنماً لأهل الفساد طرقتهم حوادث الدهر بالقت ... ونهب الأموال والأولاد وبنات محجبات عن الشم ... تناءت بهن أيدي الأعادي وقصور مشيدات تقضت ... في ذراها الأيام كالأعياد وبيوت فيها التلاوة والذك ... وعالي الحديث بالإسناد حرقوها وخربوها وبادت ... بقضاء الإله رب العباد وكذا شارع العقيبة والقص ... ر وشاغورها وذاك النادي أقام غازان بمرج الزنبقية من ضواحي دمشق. ثم عاد إلى بلاده تبريز وقرر في دمشق قبجق ولم يستفد إلا التخريب وقتل بعض جيشه وجيشي مصر والشام، فلما بلغ العساكر مسير غازان عن الشام خرجوا من مصر وخرج السلطان إلى الصالحية، ثم اتفق الحال على مقام السلطان بالديار المصرية ومسير سلار وبيبرس الجاشنكير بالعساكر إلى الشام فسارا بالعساكر، وكان قبجق وبكتمر والالبكي قد كاتبوا المسلمين في الباطن وصاروا معهم، فلما خرجت العساكر من مصر هرب قبجق ومن معه من دمشق وفارقوا التتر وساروا إلى مصر، وبلغ التتر بدمشق ذلك فخافوا وساروا من وقتهم إلى الشرق، ورتب جمال الدين أقوش الأفرم في نيابة السلطنة بدمشق، وأقر سنقر في نيابة السلطنة بحلب، وقطلوبك في نيابة السلطنة بالساحل والحصون، والأمير كتبغا زين الدين المنصوري بحماة. وسار جمال الدين أقوش من دمشق وصحبته من الرجالة والفلاحين جمع كثير إلى جبال كسروان لقتال أهلها عقوبة لهم عما قدمت أيديهم مما كانوا فعلوه مع المسلمين وأخذ عددهم، فدخل الكسروانيون تحت الطاعة وقرر عليهم جملة مستكثرة من المال فالتزموا به وحملوه وأقطعت ديارهم وأراضيهم. وكان الأرمن لما وصل غازان بجموع المغول إلى الشام طمعوا في الأرجاء التي افتتحها المسلمون منهم وعجز المسلمون عن حفظها، فتركها الذين بها من

العسكر والرجالة فاستولى الأرمن عليها، ولم يبق مع المسلمين من تلك القلاع غير قلعة حجر شغلان، واستولى الأرمن على غيرها من الحصون والعمالات التي كانت جنوبي نهر جيحان، فجردت مصر والشام عسكراً إلى سيس ونهبت وخربت. وعاد المغول فجرد صاحبهم غازان 700 مرة ثانية عسكراً على الشام بدعوى أن عساكر صاحب مصر والشام أغارت على ماردين وبلادها فطرقت القطر على حين غفلة من أهلها وهتكوا المحارم فأتاه أهل ماردين وما إليها مستصرخين ملهوفين فحركته الحمية الإسلامية - وكان دان بالإسلام حديثاً - فلاقى العسكر وفرق شملهم، وسبب رحيله المرة الأولى عن الشام أن الرعية تضررت بمقامه لكثرة جيوشه ومشاركتهم الرعية في الشراب والطعام، فرحل وترك عندهم من يحرسهم من تعدي بعضهم على بعض ويحفظ الشام من أعدائه المتقدمين وأكراده المتمردين. ولما عبر المغول الفرات في المرة الثانية جفل الناس منهم، ودخلوا حلب وعاثوا في أرجائها، وسار نائب السلطنة بحلب إلى حماة ووصلت العساكر من دمشق واجتمعوا بظاهر حماة وأقام المغول بأرجاء سرمين والمعرة وتيزين والعمق وجبال أنطاكية وجبل السماق ينهبون ويقتلون، وسار السلطان من مصر بالعساكر المصرية ووصل إلى نهر العوجا فلم يمكنه اطراد السير لكثرة الأمطار والأوجال فرجع إلى مصر. وأقام المغول يتنقلون في الديار الحلبية نحو ثلاثة أشهر ثم عادوا إلى مواطنهم. والمغول هم والتتر شيء واحد والتتر صنف من أُمم المغول. فقول المؤرخين المغول أو التتر من الألفاظ المترادفة تقريباً. وفي سنة 702 فتحت جزيرة أرواد وهي ليعقوب الطرطوسي وكان اجتمع فيها جمع كثير من الفرنج وبنوا فيها سوراً وتحصنوا وكانوا يطلعون منها ويقطعون الطريق على المسلمين المترددين في ذلك الساحل، فأقلع أسطول من مصر فجرى بين الفرنج والمسلمين قتال شديد انتصر فيه المسلمون وملكوا الجزيرة وقتلوا وأسروا جميع أهلها وخربوا أسوارها، وكان القتلى نحواً من ألفين والأسرى نحو خمسمائة. وفي هذه السنة نزلت الفرنج على نهر الدامور بين صيدا وبيروت، ورفعت الشكايات إلى نائب دمشق الأفرم في الجرديين

والكسروانيين - وكانوا أعواناً للفرنج والحكومة في دمشق تعمل جهدها لمنع الفرنج عن الاجتماع بأهل كسروان - فحشدت جيوش الشام لمقاتلتهم، فحمل الكسروانيون على الجيش الشامي فقتلوا أكثره وغنموا أمتعتهم وسلاحهم، وأخذوا أربعة آلاف رأس من خيلهم وقدمت الأكراد لنجدتهم، فصدهم كمينان في الفدار والمدفور فلم يخلص منهم إلا القليل وخربوا بعض الغرب، وكان أمراء الغرب التنوخيون مع جيش دمشق فعاد الجرديون فغزوا عين صوفر وشليخ وعين زيتونة وبحطوش وغيرها. ويقول صالح بن يحيى: إن السبب في قتالهم أن الهاربين من وجه التتر من العسكر 699 حصل لهم أذية من المفسدين وخصوصاً من أهل كسروان وجزّين وأكثرهم أذية للهاربين أهل كسروان فإنهم بلغوا إلى أن أمسكوا بعضاً منهم وباعوهم للفرنج، وأما السلب والقتل فكان كثيراً إلى أن عاملت الدولة الكسروانيين بما تقدم. وفي هذه السنة عاودت التتر قصد الشام وساروا إلى الفرات وأقاموا عليها مدة في أزوارها وسار منهم عشرة آلاف فارس، وكانوا كلهم نحواً من خمسين ألفاً عليهم خطلوشاه نائب غازان، وأغاروا على أحد أرجاء القريتين وكانت العساكر قد تجمعت في حماة بقيادة أسندمر الكرجي نائب السلطنة بالساحل ومعاونة عسكر حلب وحماة فاقتتلوا مع التتر في الكوم قريب من عُرض بين تدمر والرصافة فانهزم التتر وقتلوا عن آخرهم، وكان المسلمون ألفاً وخمسمائة فارس والتتر ثلاثة أضعافهم. ثم سار التتر بجموعهم العظيمة صحبة قطلوشاه نائب غازان بعد كسرتهم على الكوم ووصلوا إلى حماة فاندفعت العساكر الذين كانوا بها بين أيديهم، واجتمعت عساكر مصر والشام بمرج الزنبقية ثم ساروا إلى مرج الصفّر لما قاربهم التتر وبقي العسكر منتظرين وصول الناصر، وسارت التتر إلى دمشق طالبين العسكر ووصلوا إليهم عند شقحب بطرف مرج الصفّر فالتقى الفريقان واشتد القتال فانهزم التتر ولحق المسلمون أثر المنهزمين إلى القريتين يقتلون فيهم ويأسرون. ووصل التتر إلى الفرات وهو في قوة زيادته فلم يقدروا على العبور والذي عبر فيها هلك، فساروا على جانبها إلى بغداد فانقطع أكثرهم على شاطئ الفرات، وأخذ العرب منهم جماعة كثيرة ورجع غازان من حلب

غزوة الأرمن والكسروانيين وتزعزع السلطنة:

في ضيق صدر من كسرة أصحابه وتمزقهم لبعد المسافة وتخطف أهل الحصون لهم. قال شرف الدين الوحيد في انتصار التتر مرة وكسرتهم تارة أُخرى. وجاءت ملوك المغل كالرمل كثرة ... وقد ملكت سهل البسيطة والوعرا فأنصفت الأيام في الحكم بيننا ... فكانت له الأولى وكانت لنا الأخرى وقال شمس الدين السيطي: يا مرج صفر بيضت الوجوه كما ... فعلت من قبل والإسلام يؤتنف أزهر روضك أزهى عند نفحته ... أم يانعات رؤوس فيك تقتطف غدران أرضك قد أضحت لواردها ... ممزوجة بمياه الغل تغترف دارت عليهم من الشجعان دائرة ... فما نجا سالم منهم وقد زحفوا ونكسوا منهم الأعلام فانهزموا ... ونكصوهم على الأعلام فانقصفوا ففي جماجمهم بيض الظبا زبر ... وفي كلاكلهم سمر القنا قصف فروا من السيف ملعونين حيث سروا ... وقتلوا في البراري حيثما ثقفوا فما استقام لهم في أعوج نهج ... ولا أجارهم من مانع كنف غزوة الأرمن والكسروانيين وتزعزع السلطنة: ولما ارتاح ذهن صاحب مصر والشام من التتر عاد فجرد عسكراً من مصر وحماة وحلب 703 ودخلوا سيس وحاصروا تل حمدون وفتحوها بالأمان وارتجعوها من الأرمن وهدموها إلى الأرض. ووقع الاتفاق مع صاحب سيس على أن يكون للمسلمين من نهر جيحان إلى حلب وللأرمن حد النهروان. وكان من نتائج معاونة التنوخيين في غرب لبنان لجيش دمشق على قتال الكسروانيين أن تأصلت العداوة بين الفريقين حتى إذا كانت سنة 704 أرسل أقوش الأفرم نائب دمشق إلى الجبليين والكسروانيين الشريف زين الدين عدنان، يأمرهم أن يصلحوا شؤونهم مع التنوخية ويدخلوا في طاعتهم، ثم أرسل إليهم الأمام ابن تيمية في صحبة بهاء الدين قراقوش فلم يحصل اتفاق، فأفتى العلماء حينئذ بنهب ديارهم بسبب استمرارهم على العصيان وإبائهم الدخول في الطاعة، وفي الدر المنظوم أن أقوش فتح كسروان من جهتها الشمالية ولذلك دعيت فتوحاً وقال آخر: إن الأفرم جمع رجال الدروز 706

وكانوا عشرة أمراء بعشرة آلاف مقاتل والتقت الجموع عند عين صوفر وجرى بينهم قتال عظيم وكانت الدائرة على الأمراء فهربوا بحرمهم وأولادهم وأموالهم ونحو ثلاثمائة نفس من رجالهم واجتمعوا في الغار غربي كسروان المعروف بغار تيبية فوق أنطلياس فدافعوا عن أنفسهم، ولم يقدر الجيش أن ينال منهم. ثم بذلوا لهم الأمان فلم يخرجوا فأمر نائب دمشق أن يبنوا على الغار سداً من الحجر والكلس وهالوا عليه تلاً من التراب وجعلوا قطلوبك حارساً عليهم مدة أربعين يوماً حتى هلكوا داخل الغار، ثم أحاط العسكر بتلك الجبال ووطئوا أرضاً لم يكن أهلها يظنون أن أحداً من خلق الله يصل إليها، فخربوا القرى وقطعوا الكروم وهدموا البيع وقتلوا وأسروا جميع من صادفوا من الدروز والكسروانيين وغيرهم فذلت تلك الجبال المنيعة بعد عزتها. ويقول مؤرخو لبنان: إن الأفرم في هذه الحملة كان في خمسين ألف فارس وراجل. ويقول أبو الفداء وابن الوردي: إن هذه الحملة 705 كانت على بلاد الظنينين غيرهم من المارقين عن الطاعة وكانوا يتخطفون المسلمين ويبيعونهم من أعدائهم ويقطعون الطرق. وفي تاريخ بيروت أن سيف الدين أسندمر نائب طرابلس كان نسب إلى مباطنة الكسروانيين فأفحش فيهم القتل لينفي عنه هذه التهمة اللاحقة به وأن الكسروانيين بادوا وتشتتوا وأقطع هذا النائب بعضهم أملاكاً من حلقة طرابلس وجازى بعضهم بالرواتب. وفي سنة 705 أرسل نائب السلطنة بحلب مع طشتمر مملوكه في عسكر حلب للإغارة على سيس أيضاً، وكان ضعيف العقل قليل التدبير، ففرط في حفظ العسكر ولم يكشف أخبار العدو واستهان بهم، فجمع صاحب سيس جموعاً كثيرة من التتر وانضمت إليهم الأرمن والفرنج ووصلوا على غرة إلى طشتمر فالتقوا بالقرب من أياس فلم يكن للحلبيين قدرة بمن جاءهم فتولوا يبتدرون الطريق. وتمكنت التتر والأرمن منهم فقتلوا وأسروا غالبهم واختفى من سلم في تلك الجبال.

ولم يحدث بعد ذلك من الكوائن المهمة شيء يستحق التدوين حتى سنة 708 وقد خرج الناصر محمد بن قلاوون من مصر يظهر التوجه إلى الحجاز، فلما وصل إلى الكرك أمر الأمراء الذين حضروا في خدمته بالمسير إلى الديار المصرية وأعلمهم أنه جعل السفر إلى الحجاز وسيلة إلى المقام بالكرك. وكان سبب ذلك استيلاء سلار وبيبرس الجاشنكير على المملكة واستبدادهما بالأمور، وتجاوزا الحد في الانفراد بالأموال والأمر والنهي، ولم يتركا له غير الاسم فاشتور الأمراء فيما بينهم واتفقوا على أن تكون السلطنة لبيبرس الجاشنكير، فجلس على سرير السلطنة على أن يكون سلار مستمراً على نيابتها. وفي السنة التالية سار جماعة من المماليك على حمية من الديار المصرية مفارقين طاعة بيبرس الجاشنكير الملقب بالملك المظفر، ووصلوا إلى السلطان بالكرك وأعلموه بما الناس عليه من طاعته ومحبته، فأعاد السلطان خطبته بالكرك ووصلت إليه مكاتبات عسكر دمشق يستدعونه وأنهم باقون على طاعته، وكذلك وصلت إليه المكاتبات من حلب ثم جاء من الكرك إلى حمان، وعاد فرجع إلى الكرك واستمرت العساكر على طاعته وانحلت دولة بيبرس الجاشنكير وجاهره الناس بالخلاف بعد أن ساعفته الأيام، ولم يهم أنه ستخونه الأقدار، ولا تظنى أن ما بناه على شفا جرف هار. ولما تحقق الملك الناصر صدق العساكر الشامية وبقاءهم على طاعته وولائه عاود المسير إلى دمشق فسار إلى البرج الأبيض من أعمال البلقاء، فأطاعه جند دمشق وجند حماة والساحل، وطلب نائب السلطنة الأفرم الأمان فأمنه، ولما تكاملت العساكر الشامية عند السلطان بدمشق سار إلى مصر وبلغ بيبرس الجاشنكير ونائبه ذلك فجردا عسكراً ضخماً أقاموا في الصالحية بطريق مصر. ولما وصل السلطان إلى غزة قدم إلى طاعته عسكر مصر أولاً فأولاً ثم تتابعت الأطلاب والكتائب، وبويع له بالسلطنة للمرة الثالثة، ولما تحقق بيبرس الجاشنكير ذلك خلع نفسه من السلطنة وطلب الأمان وأعطاه السلطان صهيون ومئة مملوك ثم قبض عليه وقتل، وكذلك فعل بسلار. وأكثر مصارع العقول تحت بروق المطامع. وفي سنة 709 وقعت فتنة في حوران بين اليمنية والقيسية وحشدوا وبلغت

الغزوات في الشمال وظهور دعوة جديدة:

المقتلة ألف نفس وكانت بقرب السويداء. وفي سنة 710 أقام السلطان ملكاً على حماة إسماعيل بن علي الملقب بأبي الفداء وهو آخر من بقي من سلالة الملوك الأقدمين في الشام. ولولا حسن سياسة أبي الفداء ما وصل إلى هذا المنصب لأن الدور أصبح دور المماليك والدخلاء وجميع مواطن النيابة أصبح فيها مماليك السلطان أو مماليك والده أو مماليك مماليك والده، وجميعهم مرتبون من الأبواب الشريفة. ولم يكن كل ملك أو قيل من هؤلاء الملوك والأقيال حراً بمملكته كما زعم بعضهم، بل كانوا حتى من تسلسل فيهم الملك في بلدان صغيرة من الشام أشبه بأصحاب إقطاعات لا يزالون في حربهم وسلمت تحت أمر السلطان. وإذا شذ في الأحايين بعضهم وعدوا على سلطانهم فإنهم لم يخرجوا عن كونهم ولاة أو عمالاً خرجوا على السلطان ليس إلا. الغزوات في الشمال وظهور دعوة جديدة: وفي سنة 711 قصد قراسنقر كبير الأمراء في حلب أمير العرب مهنا بن عيسى وكان على مسيرة يومين من حلب يستنصره، وكان في ثمانمائة مملوك على الملك وكان يريد أن يبطش به. فركب مهنا فيمن أطاعه من أهله، واستنفر من العرب نحو خمسة وعشرين ألفاً، وقصدوا حلب وأحرقوا باب قلعتها وتغلبوا عليها، واستخلصوا منها مال قراسنقر ومن بقي من أهله ولم يتعدوا إلى سوى ذلك ودخلت سنة 715 فأرسل السلطان محمد بن قلاوون عساكر الشام ومصر إلى ملطية ففتحوها، وسبب ذلك أن حكومتها كانت تعتدي على أبناء السبيل ومن جاورها من سكان القلاع، وأن المسلمين كانوا بها يختلطون بالنصارى حتى إنهم زوجوا النصراني بالمسلمة، وثبت أنهم كانوا يطلعون التتر والأرمن على أخبار المسلمين، ثم رجع الجيش إلى مرج دابق قرب حلب، وترددت الرسل إلى صاحب سيس الأرمني في إعادة ما في جنوبي جيحان من البلدان وزيادة القطيعة أي الإتاوة، فجعلها نحو ألف ألف درهم. وصدر أمر السلطان بأن لا تكون بحماة حماية لدعوة الإسماعيلية أهل مصياف، بل يتساوون مع رعية حماة في أداء الحقوق والضرائب الديوانية وغير ذلك. وأغار سليمان بن مهنا بن عيسى بجماعة من التتر والعرب على التراكمين

والعرب النازلين قريب تدمر ونهبهم ووصل في إغارته إلى قرب البيضاء بين القريتين وتدمر وعاد بما غنمه إلى الشرق. وجهز نائب السلطنة 717 بحلب عدة كثيرة من عسكر حلب وغيرهم من التركمان والعربان والطماعة ما يزيد على عشرة آلاف فارس فساروا إلى آمد ونهبوا أهلها المسلمين والنصارى وبالغوا في النهب الحرام فخلت آمد من أهلها. وظهر في جبال بلاطنس من عمل اللاذقية رجل من النصيرية وادعى أنه محمد بن الحسن العسكري ثاني عشر الأئمة عند الإمامية، وقيل: زعم تارة أنه المهدي المنتظر، وأخرى أنه علي بن أبي طالب، وطوراً أنه محمد المصطفى وأن الأمة كفرة. فتبعه خلق من النصيرية نحو ثلاثة آلاف، وهجم مدينة جبلة والناس في صلاة الجمعة فنهب أموال أهل جبلة، وجرد إليه عسكر من طرابلس فلما قاربوه تفرق جمعه وهرب واختفى في تلك الجبال فتتبع وقتل وباد جمعه ولم يعد لهم ذكر، بعد أن قتل مائة وعشرون رجلاً من رجاله. وفي سنة 720 تقدمت مراسيم السلطان بإغارة العساكر على سيس فسار الجند الشامي من الساحل ودمشق وحماة وحلب فنازلوا قلعتها حتى بلغوا السور، وغنموا منها وأتلفوا الزراعات وساقوا المواشي ونهبوا وخربوا. وسار جمع عظيم من العساكر الشامية والعرب في أثر آل عيسى، وكانت منازلهم في سليمة، حتى وصلوا إلى الرحبة فعانة فهرب آل عيسى إلى ما وراء الكبيسات، وأقام السلطان موضع مهنا محمد بن أبي بكر، ثم رضي السلطان 722 على الأمير فضل بن عيسى وأقره على إمرة العرب موضع محمد بن أبي بكر أمير آل عيسى. وجردت بعض العساكر المصرية والشامية والساحلية إلى سيس ونازلوا اياس فهربت الأرمن منها وأخلوها وألقوا النار فيها فملكها المسلمون، وخربوا ما قدروا على هدمه وعاد كل عسكر إلى بلده. وهدأت الأحوال في هذه الحقبة ولم يحدث سوى أمور طفيفة مثل قدوم مراكب فرنج جنوية 734 إلى بيروت، قاتلوا أهلها يومين ودخلوا البرج وأخذوا الأعلام السلطانية والمراكب. وكان السلطان يعتقل بعض الخوارج عليه أو من يرى في سيرهم ما يدعو إلى الشبهة ثم يطلقهم وينعم عليهم، وربما أخر

إهلاك من يخافهم على السلطنة مثل تنكز نائب الشام عشر سنين ثم قتله، وكان قتل خلقاً فارتاحت الناس، وما كانت أفكار السلطنة موجهة إلا إلى قتال الأرمن، فكانوا يغزون كل مرة وآخر ما نالهم من غزوة المسلمين غزوة عسكر حلب 735، وكان الأرمن ملكوا مدينة سيس وطردوا من كان بها من المسلمين فخربوا في أذنة وطرسوس وأحرقوا الزروع واستاقوا المواشي وغنموا وأسروا وما عدم سوى شخص واحد غرق في النهر، وكان العسكر عشرة آلاف سوى من تبعهم، فلما علم أهل اياس بذلك أحاطوا بمن عندهم من المسلمين التجار وغيرهم وحبسوهم في خان ثم أحرقوه وقلّ من نجا، فعلوا ذلك بنحو ألفي رجل من التجار والبغاددة وغيرهم. وبعد مدة سار العسكر من مصر والشام بقيادة ملك الأمراء بحلب علاء الدين ألطنبغا إلى بلاد الأرمن 737 ونزلوا على مينا أياس وحاصروها ثلاثة أيام، ثم قدم رسول الأرمن من دمشق ومعه كتاب نائب الشام بالكف عنهم على أن يسلموا المدن والقلاع التي شرقي نهر جيحان، فتسلموا ذلك منهم وهو ملك كبير ومدن كثيرة كالمصيصة وكوبرا والهارونية وسرفندكار واياس وباناس ونجيمة والنقير وغير ذلك، فخرب المسلمون برج اياس الذي في البحر. قال ابن الوردي: وهذا فتح اشتمل على فتوح، وترك ملك الأرمن جسداً بلا روح. وفي سنة 740 وقع حريق بقيسارية القواسين والكفتين وسوق الخيل من دمشق دام يومين بلياليها فعدم فيها نحو خمسة وثلاثين ألف قوس وعدم الناس أموالاً عظيمة منها للتجارة ما مبلغه ألف ألف وستمائة ألف دينار وخربت أماكن كثيرة فوقعت التهمة على بعض كتاب النصارى وأقروا أن اثنين قدما من القسطنطينية ليجاهدا في الملة الإسلامية ومعابدها وقدما نفسيهما على ذلك وأنهما يعلمان صناعة النفط فقتل أحد عشر رجلاً وأنكر صاحب مصر على نائب دمشق تنكز قتل النصارى قائلاً إن ذلك إغراء لأهل القسطنطينية. سياسة المماليك مع أكبر عمالهم ووفاة الناصر وتولي المنصور: كانت حكومة المماليك تكثر من نصب الولاة وعزلهم ولا سيما في دمشق فتولي في كل وقت نائباً جديداً وربما في كل شهر، ولم تطل مدة واحد من

الولاة كما طالت نيابة تنكز فإن ولايته دامت من سنة 712 إلى 740 قال الكتبي: وهابه الأمراء بدمشق ونواب الشام وأمن الرعايا، ولم يكن أحد من الأمراء ولا أرباب الجاه يقدر أن يظلم أحداً آدمياً أو غيره خوفاً من بطشه وشدة إيقاعه. قال: وكان الناس في أيامه آمنين على أموالهم ووظائفهم. وهو صاحب الأبنية العظيمة في دمشق وغيرها من الشام وكان ممن ينشط الزراعة ولما أخذه ملك مصر وقتله في الإسكندرية تأسف عليه أهل دمشق. وتوفي الناصر محمد بن قلاوون سنة 741 بعد أن خطب له ببغداد والعراق وديار بكر والموصل والروم، وضرب الدينار والدرهم هناك باسمه كما يضرب له بالشام ومصر، وتألم الناس لفقده لأنه أبطل المكوس وأنشأ جوامع ومدارس وكانت أيامه أيام أمن وسكينة، فتولى الملك بعده ابنه المنصور أبو بكر وكان تسلطن قبل موت والده. وملك الناصر محمد بن قلاوون ثلاث مرات مدتها ثلاث وأربعون سنة وتسعة أشهر وسبعة عشر يوماً، تملك المرة الأولى بعد وفاة أخيه الأشرف سنة كاملة، والمرة الثانية بعد قتل لاجين، ومدة ملكه ثانيةً عشر سنين وستة أشهر واثنا عشر يوماً، والدولة الثالثة أقام بها ثنتين وثلاثين سنة وثلاثة شهور وخمسة أيام، وكان في الثالثة حاكماً متصرفاً ليس له منازع يخالف أمره بخلاف المدتين الأوليين. وشأن ابن قلاوون قليل في الملوك، لأنه ندر من يتخلى عن الملك أو يخلع من الملوك أن يعود إلى دست السلطنة مرة ثانية فكيف بثلاث مرات. ومن غريب ما وقع له أيضاً أنه تسلطن ثمانية من أولاده لصلبه، وهذا مما يعد في باب سعادة آل قلاوون. وفي سنة 741 فتح علاء الدين أيدغدي الزراق ومعه عسكر حلب قلعة خندروس من الروم، وكانت عاصية وبها أرمن وتتر يقطعون الطرقات، وفي السنة التالية 742 بايع المنصور أبو بكر الخليفة الحاكم بأمر الله أبا العباس أحمد بن المستكفي بالله أبي الربيع سليمان وكان قد عهد إليه والده بالخلافة فلم يبايع في حياة الناصر فلما ولي المنصور بايعه بمصر وجلس معه على كرسي الملك وبايعه القضاة وغيرهم، وكان الخليفة من أولاد العباس يقيم في مصر كعامل كبير محترم من عمال السلطنة ويبايع السلطان عند جلوسه

خلع الملك المنصور ومقتل غير واحد من اخوته

خلع الملك المنصور ومقتل غير واحد من اخوته الذين خلفوه: خلع المنصور أبو بكر فاحتج عليه قوصون الناصري ولي نعمة أبيه بحجج ونسب إليه أموراً، فأخرجه إلى قوص فقتله واليها، وأقام الملك أخاه الأشرف كجك وهو ابن ثمان سنين. أي إن الخوارج على السلطنة بعد أن سكنوا بحسن سياسة الناصر محمد بن قلاوون مدة بعد خلعه نفسه ومكثه في الكرك حتى رجع إلى السلطنة وقد أطاعه عسكر الشام ومصر، ثم عادوا يبدون نواجذ الشر ويقتلون ملكهم، فقتل الملك الجديد ونصب أخوه الصبي ليكون الحكم لقوصون الناصري كما وقع ذلك في أدوار مختلفة، ثم أرسل قوصون مع قطلبغا الفخري الناصري عسكراً لحصار أحمد بن الملك الناصر بالكرك، وسار الطنبغا نائب دمشق والحاج أرقطاي نائب طرابلس بإشارة قوصون إلى قتال طشتمر بحلب، لأن هذا أنكر على قوصون ما اعتمده في حق أخيه المنصور أبي بكر، ونهب الطنبغا بحلب مال طشتمر وهرب هذا إلى الروم، واستمال الناصر في الكرك قطلبغا الفخري، وكان ذهب لقتاله وحاصره أياماً فبايعه وبايع للناصر من بقي من عسكر دمشق المتأخرين عن المضي إلى حلب صحبة الطنبغا، ثم سار الفخري إلى ثنية العقاب وأخذ من مخزن الأيتام بدمشق مالاً ولما بلغ الطنبغا ما جرى بدمشق رجع على عقبه فأرسل إليه الفخري لما قرب من دمشق القضاة، وطلب الكف عن القتال، فقويت نفس الطنبغا وأبى ذلك، وطال الأمر على العسكر فلما تقاربوا بعضهم من بعض لحقت ميسرة الطنبغا بالفخري ثم الميمنة، وبقي الطنبغا وجماعته في قليل من العسكر، فهرب الطنبغا ومن معه من القواد إلى جهة مصر، فجهز الفخري وأعلم الناصر بالكرك وقد خطب له بدمشق وغزة والقدس، فلما وصل ألطنبغا إلى مصر وهو قوي النفس بقوصون تغير أمر قوصون. وكان قد غلب على الأمر لصغر الملك الأشرف، ثم قبض جماعة الأمراء على قوصون وأرسلوه إلى الإسكندرية وأهلك بها، وقبضوا على الطنبغا وحبسوه، وسافر الناصر أحمد من الكرك وعمل أعزيه لوالده وأخيه، وأمر بتسمير والي قوص لقتله المنصور وخلع الأشرف الصغير، وجلس الناصر على الكرسي هو والخليفة ثم أعدم الطنبغا وغيره، وتواتر عزل الولاة والنواب بحلب، جرى كل هذا في مدة يسيرة. وجرى

في هذه السنة 742 من تقلبات والنواب واضطرابهم ما لم يجر في مئات من السنين على رأي ابن الوردي. ولم يصف جو السلطنة للناصر أحمد في مصر، وسافر إلى الكرك وحصنها واتخذها مقاماً له، ولما حصل بها وقتل بها طشتمر والفخري قتلة شنيعة 743 أنقلب عليه عسكر الشام وهو بالكرك وكاتبوا مصر فخلع الناصر، وأجلس أخوه الملك الصالح إسماعيل، واستناب آل ملك وحصر الملك الناصر بالكرك، واجتمع عليه أخوه الصالح بما أخذه من أموال بيت المال، وخرج بيبرس الأحمدي من مصر بعسكر لحصار الكرك وكذلك من دمشق، فحاصروا الناصر بالكرك ووردت المراسيم إلى الأعمال الشامية بتجريد العشران وغيرهم إلى الكرك، فذهبوا إليها سنة 743 ووجدوا في القلعة مع السلطان أحمد خلقاً كثيراً، وقد نصبوا على القلعة في أعلاها خمسة مجانيق ومدافع كثيرة، وأغار التركمان مرات على سيس فقتلوا ونهبوا وأسروا وشفوا الغليل بما فتكت الأرمن ببلاد قرمان، وعاد العسكر 744 المجهز إلى سيس وما ظفروا بطائل، وكانوا قد أشرفوا على أخذ أذنة وفيها خلق عظيم وأموال عظيمة وجفال من الأرمن، فارتشى أقسنقر مقدم عسكر حلب من الأرمن، وثبط الجيش عن فتحها واحتج بأن السلطان ما رسم بأخذها. وحاصر يلبغا النائب بحلب قراجا بن دلغادر التركماني بجبل عسر إلى جانب جيحان فاعتصم منه بالجبل، وقتل في العسكر وأسر وجرح، وما نالوا منه طائلاً فكبر قدره بذلك واشتهر اسمه وكانت هذه حركة رديئة من يلبغا ثم أوقع دلغادر بالأرمن وفتح قلعة كابان 746 وبعد فتحها قصد النائب بحلب أن يستنيب فيها من جهة السلطان فعتا ابن دلغادر عن ذلك، فجهزوا عسكراً لهدمها ثم أخذتها الأرمن. وفي سنة 745 حوصرت الكرك ونقبت، وأخذ الناصر أحمد وحمل إلى أخيه الصالح بمصر فكان آخر العهد به، وفي هذه السنة كانت الوقعة بين أهل البقاع ووادي التيم وقتل من الفريقين خلق كثير، وأحرق ابن صبح قرية من وادي التيم، وانقطعت السبل. وتوفي الصالح إسماعيل بن الناصر محمد ابن قلاوون 746 وجلس مكانه أخوه الكامل شعبان. وفي سنة 747 خرج نائب الشام يلبغا إلى ظاهر دمشق وشق عصا الطاعة وعاضد أمراء مصر حتى

أحداث وكوائن وعصيان ومخامرات:

خلع الكامل شعبان وأجلسوا مكانه أخاه المظفر أمير حاج، وسلموا إليه أخاه الكامل فكان آخر العهد به، وكان هذا الكامل شعبان سيىء التصرف يولي المناصب غير أهلها بالبذل، ويعزلهم عن قريب ببذل غيرهم، وكان يقول عن نفسه أنا ثعبان لا شعبان. وفي سنة 748 سافر ناصر الدين بن المحسني بعسكر من حلب لتسكين فتنة ببلد شيزر بين العرب والأكراد قتل فيها من الأكراد نحو خمسمائة نفس. وفيها عزمت الأرمن على نكبة اياس، فأوقع بهم أمير اياس محمد بن داود الشيباني، وقتل من الأرمن خلقاً وأسر خلقاً، وأحضرت الرؤوس والأسرى إلى حلب واقتتل سيف الدين بن فضل أمير العرب وأتباعه مع أحمد فياض من الأمراء في جمع عظيم قرب سلمية فانكسر سيف الدين ونهبت أمواله، وجرى على المعرة وحماة وغيرهما من العرب أصحاب سيف وأحمد فياض من النهب وقطع الطرق ما لا يوصف، وكانت هذه الحرب ضربة قاضية على بادية حماة فطفق البدو ينهبون القرى، ويغيرون على حماة والمعرة ففر الفلاحون ودرست القرى. وفي هذه السنة قتل السلطان الملك المظفر أمير حاج بمصر وأقيم مكانه أخوه الناصر حسن، وكان الملك المظفر قد أهلك أخاه الأشرف كجك وفتك بالأمراء وقتل من أعيانهم نحو أربعين أميراً. أحداث وكوائن وعصيان ومخامرات: ومن الأحداث أن نائب الشام يلبغا اليحياوي هرب فتبعه جماعة من عسكر دمشق فتقاتل معهم فقتل. وفي مصر سنة 750 دخل جبغا نائب طرابلس مدينة دمشق في جماعة كثيرة، وكان أرغون شاه نائب الشام مقيماً بالقصر الأبلق فدخل عليه الأمير جبغا وهو نائم بين عياله وقبضه، فلما أصبح الصباح طلب جبغا القضاة والأمراء بدمشق وأخرج لهم مرسوم السلطان بالقبض على أرغون شاه فسكن ما كان بين الناس من الاضطراب، وظنوا أن ذلك صحيح فسجنه واحتاط على موجوده، ثم وجدوا أرغون شاه مذبوحاً في السجن فشاع بأن ذلك من فعل جبغا فوثب عليه عسكر دمشق وحاربوه فهرب فلم يتبعه أحد من العسكر وخافوا عقبى ذلك، وكاتب أمراء دمشق

السلطان بما وقع من جبغا فأنكر ما وقع لأرغون شاه، ورسم لأمراء دمشق أن يحاربوا جبغا فخرج عليه عسكر دمشق قاطبة، وحاربوه وهو في طرابلس فانكسر وقبضوا عليه وشنقوه. وفي سنة 754 قدمت على رواية ابن سباط مراكب الفرنج إلى صيدا فقتلوا طائفة من أهلها وأسروا جماعة وقتل منهم خلق كثير وكسر مركب من مراكبهم، فوصل الصريخ إلى دمشق، فاجتمعت العساكر من صفد ودمشق وأسرعوا إلى فك الأسرى، وأخذوا من ديوان الأسرى ثلاثين ألفاً وأعطوا عن كل رأس خمسمائة درهم. وإن الخلل الذي طرأ على السلطنة بمصر بعد ذهاب عظماء السلاطين من أولاد قلاوون وسرعة قتلهم واستخلاف غيرهم من المماليك، قد سرى من شرارته شيء كثير في هذه الحقبة من الزمن، ومسألة اليحياوي مع أرغون شاه مثال منها. ومن أمثلة الخلل في تلك الدولة خروج بيبغا أروس نائب حلب عن الطاعة، وكذلك بكلمش نائب طرابلس، وأحمد نائب حماة، الطنبغا برقاق نائب صفد، ولم يبق على الطاعة إلا نائب دمشق أرغون الكاملي، فأرسل يخبر السلطان في مصر بما جرى من النواب، ثم اضطر نائب الشام إلى الهرب تحت الليل هو ومماليكه وتوجه إلى غزة، ليعلم السلطان والأمراء بما جرى، والتف على بيبغا أروس العربان والعشائر مع العساكر الحلبية والشامية وكان معه نحو ستين أميراً لما فتح دمشق واستعرض العساكر بها ثم أرسل إلى نائب قلعة دمشق يطلب منه إطلاق أمير كان مسجوناً فيها فاعتذر عن ذلك إلا بمرسوم السلطان، وحصن القلعة تحصيناً عظيماً، وركب عليها المكاحل بالمدافع، وأرسل يقول لأهل المدينة: لا تفتحوا دكاناً ولا سوقاً ولا تبيعوا عسكر حلب شيئاً، فلما بلغ بيبغا ذلك اشتد به الغضب، وأمر عسكره بأن ينهبوا ضياع دمشق والبساتين ويقطعوا الأشجار، فلما سمعوا هذه المناداة ما أبقوا مكناً من الأذى والفساد، فنهبوا حتى النساء والبنات والقماش، وجرى على أهل دمشق من بيبغا ما لم يجر عليهم من عسكر غازان لما دخل دمشق. ثم إن سلطان مصر جهز عسكراً عظيماً وجعل عليهم من أمراء الطبلخانات

والعشراوات نحو ثمانين أميراً وكان صحبته القضاة الأربعة والخليفة الإمام أحمد الحاكم بأمر الله فأمر بقتال جماعة بيبغا فانهزم هذا ولحق ببلاد التراكمة، وجيء بجماعته في القيود يرسفون. وهذا السلطان هو الصالح صلاح الدين صالح وهو العشرون من ملوك الترك وأولادهم، والثامن من أولاد الناصر محمد بن قلاوون. ثم قتل نائب حلب بيبغا ونائب طرابلس بكلمش ونائب حماة أحمد وكانوا هربوا إلى التركمان. وخلع السلطان على أرغون الكاملي واستقر به نائب حلب وجرد أرغون إلى قراجا بن ذي القدر أمير التركمان في مرعش وحواليها، وذنبه أنه وافق بيبغا أروس على العصيان، فلما وصل إليه أرغون هرب منه فتبعه إلى أطراف الروم فقبض عليه وأرسله إلى السلطان بمصر فسمره على جمل. وفي سنة 760 توجه بيدمر الخوارزمي نائب حلب إلى سيس وحاصر أهلها فطلبوا منه الأمان فتسلمها وكذلك المصيصة، وفتح في تلك السنة عدة قلاع ثم رجع إلى حلب. وفي سنة 762 أظهر بيدمر الخوارزمي نائب الشام العصيان وملك قلعة دمشق وقتل نائب القلعة وقد وافقه على ذلك جماعة من النواب فاضطرب السلطان بمصر لهذه الأخبار وخرج قاصداً الشام، ولما بلغ دمشق أرسل له أماناً فقبض عليه وقيده. وفي سنة 765 جاء الفرنج إلى قلعة اياس وحاصروها فخرج إليهم نائب حلب فلما سمعوا به رحلوا عنها ثم قصدوا نحو طرابلس وكانوا ثلاثة ملوك وهم صاحب قبرس وصاحب رودس وصاحب الاسبتار فجاءوا في مائتي مركب حربي إلى طرابلس، وكان النائب غائباً عنها فطمعوا في أخذها ثم خرج إليهم بعض عسكرها فانكسر عسكر طرابلس ودخل الفرنج المدينة ونهبوا أسواقها وقتلوا بها من المسلمين نحو ألفي إنسان فقاتل الأهلون الفرنج وكسروهم فرحلوا عن طرابلس.

قتل الأشرف شعبان والأحداث بعده:

وفي سنة 767 عصا على السلطان نائب دمشق بيدمر واجتمع إليه مقدموا البلدان فأرسل السلطان إليه جيشاً وبعد حصار شهرين تسلم دمشق وقبض على النائب وقتله. وفي سنة 771 تشاجر الأمير جبار من آل الفضل ونائب حلب طشتمر المنصوري فخرج هذا بالعساكر الحلبية وقاتل الأمير جبار فقويت العربان على نائب حلب فقتل في المعركة. قتل الأشرف شعبان والأحداث بعده: وفي سنة 778 قتل في القاهرة الأشرف شعبان، قال ابن إياس: وكان من محاسن الزمان في العدل والحلم وكان ملكاً هيناً ليناً محباً للناس منقاداً للشريعة محسناً وكانت الدنيا في أيامه هادئة من الفتن والتجاريد إلى الديار الشامية فساد العرب وساس الناس أحسن سياسة. وتولى الملك بعده ابنه الصالح أمير حاج وله من العمر نحو إحدى عشرة سنة وهذا آخر من تولى السلطنة من ذرية بني قلاوون وبه زال الملك عنهم وقد أقامت السلطنة في قلاوون وذريته مائة سنة وثلاث سنين وأشهراً. وفي سنة 776 خرج نائب حلب إلى سيس وفتحها وكانت في أيدي الأرمن. وفي سنة 779 خامر جميع نواب الشام وخرجوا عن الطاعة فساقت مصر تجريدة عليهم. وفي سنة 780 خرج نائب الشام بيدمر الخوارزمي عن الطاعة وقصد الهرب إلى التركمان ببركه ورجاله فقبضه عسكر دمشق وسجنوه فأرسل سلطان مصر وأخذه منها وسجنه ثم أطلقه بعد ثلاث سنين وأُعيد إلى منصبه. وفي سنة 780 نازل الفرنج طرابلس في عدة مراكب فالتقاهم يلبغا الناصري فهزمهم، ثم أمر العسكر أن يتأخروا فطمع فيهم الفرنج وتبعوهم إلى أن أبعدوا عن البحر فرجع عليهم بالعسكر فهزمهم وقتل منهم جمع كبير وقبض على أكثرهم وأقلع من بقي في المراكب. وثار أقبغا عبد الله 781 وجماعة معه على نائب دمشق وكان قد تجرد مع نائب حلب في عسكر البلدين بسبب التركمان فوقعت بينهم وبين أقبغا ومن معه وقعة فكسرهم نائب الشام وهرب أقبغا إلى نعير أمير عرب الفضل. وفي سنة 783 نهبت طائفة من التركسان بعد ضياع حلب وعاثوا وأفسدوا وعَين لهم الأتابك برقوق في مصر تجريدة

وخرج إليهم ثلاثة من الأمراء المقدمين وخمسمائة مملوك فالتقوا مع التركمان وكسروهم وقتلوا منهم جماعة كثيرة ونهبوا أموالهم وطردوهم إلى ملطية. وفي سنة 784 حضر إلى القاهرة رسول صاحب سيس ومعه كتاب يخبر فيه أن الأرمن مات كبيرهم فأمروا عليهم زوجته فحكمت فيهم مدة ثم عزلت نفسها، فاتفق رأيهم أن يفوضوا أمرهم لصاحب مصر فيختار لهم من يوليه عليهم، فانتقى لهم ملك مصر أحد الأسارى الأرمن ممن يسكنون ظاهر القاهرة ويبيعون الخمور فأخذوه معهم فملكوه عليهم، وفي السنة التالية جاءت رسل أصحاب سنجار وقيسارية وتكريت يسألون صاحب مصر أن يكونوا تحت حكمه ويطبوا باسمه فأجيب سؤلهم وكتب لهم بذلك تقاليد وخلع عليهم. وفي هاتين الواقعتين دليل على أن صاحب مصر والشام في تلك الفترة كان أقوى من جاوره من الملوك خطب وده الأتراك والأكراد والأرمن من مجاوريه. وفي سنة 785 وقعت بين قبلاي نائب الكرك وخاطر أمير العرب بها مقتلة عظيمة فانكسر قبلاي. وفيها نازل الفرنج بيروت في عشرين مركباً فراسلوا نائب الشام فتقاعد عنهم واعتلّ باحتياجه إلى مرسوم السلطان فقام إينال اليوسفي فنادى الغزاة في سبيل الله فنفر معه جماعة فحال بين الفرنج وبين البحر وقتل بعضهم ونزل إليه بقية الفرنج فكسرهم وقبض من مراكبهم ستة عشر مركباً. وكان الفرند دخلوا صيدا فوجدوا المسلمين قد بدءوا بهم فخبئوا أموالهم وأولادهم بقرية خلف الجبل فوجد الفرنج بعض أمتعتهم فنهبوها وأخذوا ما وجدوا من زيت وصابون وأحرقوا السوق وقصدوا بيروت فتداركهم المسلمون وانكسر الفرنج ثم عادوا إلى مباهلة بيروت فتيقظ لهم أهلها فحاربوهم. وفي سنة 785 وقعت فتنة بين نعير بن مهنا أمير العرب وابن عمه عثمان ابن قارا، فساعد يلبغا الناصري عثمان فكسر نعير ونهبت أمواله. وفيها سار يلبغا الناصري بالعساكر الحلبية وبعض الشامية إلى جهة التركمان، فنازلوا أحمد بن رمضان التركماني عند الجسر على الفرات فكسر التركمان وأُسر إبراهيم

سلطنة برقوق وحالة المماليك البحرية والشراكسة:

ابن رمضان وابنه وأبوه، فوسطهم يلبغا الناصري، ثم تجمع التركمان وواقعوا الناصري عند أذنة فانكسر العسكر وقلعت عين الناصري وجرح ثم تراجع العسكر ولم يفقد منه إلا العدد اليسير، فطردوا التركمان إلى أن كسروهم فغدر التركمان بنائب حماة وبيتوه فانهزم ثم ركب يلبغا الناصري فهزمهم. وفي سنة 787 توجه نواب الشام إلى قتال التركمان فانكسر العسكر وفتك فيهم التركمان وقتلوا سودون العلائينائب حماة وغيره. وكان السلطان أمر نواب الشام بالتوجه إلى قتال سولى بن دلغادر ومن معه من التركمان فوصلوا إلى طيون بين مرعش وابلستين فالتقى بهم سولى فقتل سودون نائب حماة في المعركة وكذا سودون نائب بهسنى فشق ذلك على السلطان ولم يزل يعمل الحيلة حتى دس على سولي من قتله وقتل أخاه. سلطنة برقوق وحالة المماليك البحرية والشراكسة: دخل الهرم في دولة الأتراك المصرية وزاد فساد العربان في البلاد، وخامر غالب النواب في الشام وخرجوا عن الطاعة، فاجتمع الأتابك برقوق متولي الأمر والقضاة مع الخليفة وسائر الأمراء في مصر فرأوا الحاجة ماسة إلى سلطان كبير تجتمع عليه الكلمة ويسكن الاضطراب فتكلم القضاة الأربعة مع الخليفة في سلطنة الأتابكي برقوق فخلعوا الملك الصالح أمير السلطنة وسلطنوا الأتابك برقوق 784 وهو أول ملوك الشراكسة بمصر والشام. وكانت هذه الدولة التركية الشركسية عجباً في ضعف الإدارة وقيام الخوارج لأن الملك على الأكثر كان ضعيفاً يُنزله عن عرشه كل من عصا عليه، واستكثر من المماليك وقد أن يتسلط على عقول السذج من العربان وأرباب الدعارة والطمع من الناس والمماليك السلطانية الذين جرت العادة على أنهم يفعلون الأمور المشهورة عنهم من أخذ أموال الناس وهتك حريمها. والقاهرة لا شأن لها بعد أن يتقاتل المتقاتلون على الملك أو يقاتل القواد العصاة ويظفر أحد المتنازعين على السلطنة، أو الأمير الذي وسد إليه اجتثاث دابر العاصي، إلا أن تزين أسواقها سبعة أيام أو ثلاث أيام على الأقل. تفعل ذلك لأقل حادث يحدث حتى ولو قبض جماعة السلطان على أحد صعاليك المماليك ممن خامر

عليه واستتبع أُناساً من الغاغة. وكانت دمشق في أيام الأتراك ثم في أيام الشراكسة أخلافهم تزين سبعة أيام لأقل ظفر يقع، فيفرح السلطان وتدق البشائر. وكان من سلاطين المماليك أهل خير تغلب عليهم الرحمة وحسن السياسة، وكان ضعفهم آتياً من جماعتهم المماليك لأن لكل أمير منهم جوقة يتفانون في حبه إذا تغلب عليه خصمه سجنهم أو أقصاهم أو نكبهم، فلا يزالون يعملون على إثارة الخواطر حتى يطلق سراحهم ثم يعودون إلى ما نهوا عنه وهكذا دواليك. والأمة من أجل هذا تخرب ديارها، وتهلك أبناؤها وتذهب أموالها وعروضها، حتى يسعد الطالع أحد المتخاصمين فيتغلب على من يريد التغلب عليه. وهناك خليفة في مصر يعتضد به السلاطين يوم الشدائد، ويبايعهم يوم تنصيبهم، وربما سجنوه وأقصوه عن أنظار الأمة إذا شعروا بأن هواه مع غيرهم أو يمكن أن يكون كذلك: اتخذوه آلة كما كان خلفاء العباسيين مع المتغلبة من سلاطين السلجوقيين والبويهيين وغيرهم في بغداد.

وقائع تيمورلنك

وقائع تيمورلنك من سنة 790 إلى 803 بداءة تيمورلنك ومناوشة جيشه: بينا كانت أمور الدولة في الشام ومصر مختلة معتلة، لا تستقر على حال، والمتوثبون على السلطنة يكثرون ويقلون بضعف الملك وقوته، جاء تيمورلنك من الشرق، بجيوش جرارة لا قبل للمالكين زمام الأمر بدفعها فأصبح الشام بين عدوين داخلي وخارجي، كما أصبحت في أواسط القرن السابع بين عدوين أحدهما من الشرق وهم التتر والآخر من الغرب وهم الصليبيون. وتيمور هو ابن ترغاي بن أبغاي مؤسس مملكة المغول الثانية، ومعنى تيمور الحديد واللنك الأعرج أو الكسيح بلغتهم. سمي بذلك لأن راعياً ضربه فيما قيل بسهم في فخذه أدخله به في زمرة العرجان، وفي رواية أنه أصيب بسهم في الحرب في صباه. ولد تيمورلنك في قرية خواجه أيلغار من أعمال كش من مدن ما وراء النهر سنة 737هـ 1336م ومات في اوترار سنة 807 - 1405 بينا كان ذاهباً لفتح بلاد الخطا في الصين وجيء به إلى سمر قند فدفن فيها. وكان تيمورلنك يمتُّ بقرابة بعيدة إلى آل البيت الملوكي من المغول ذرية جنكيز خان، وذلك من جهات الأمهات لا الآباء، ورأس أبوه قبيلة برلاس التركية وحكم ولاية كش وقد تيتم صغيراً وسلبه جيرانه إمارته، فتوسل تيمور إلى أمير كشغر ملك الجغتاي فأنعم عليه بولاية ما وراء نهر جيحون، ثم نزع يده من يد أمير كشغر وانضم إلى عمه حسين، ولما ماتت زوجته، وقيل إنه هو الذي قتلها بيده، أصبح تيمور في حل من أمره وداهم حسيناً وتغلب عليه واستولى على بلخ فاصبح ملكاً على بلاد الجغتاي كلها،

ولما استولى على ما وراء النهر وفاق الأقران تزوج بنات الملوك فزادوه في ألقابه كوركان وهو بلغة المغول الختن وكان عهد تيمور كله عهد حروب وفظائع يقتل الناس بالألوف وعشرات الألوف، إذا لم يخضعوا لسلطانه في الحال قال السخاوي: وكان يقرب العلماء والسمراء والشجعان والأشراف وينزلهم منازلهم ولكن من خالف أمره أدنى مخالفة استباح دمه، فكانت هيبته لا تدانى بهذا السبب، وما أخرب البلاد إلا بذلك، فإنه كان من أطاعه من أول وهلة أمن، ومن خالفه أدنى مخالفة وهى، أنجد تيمور أحد الخانات على اوروس خان ملك قسم من روسيا الجنوبية الشرقية ثم فتح خراسان وهرات وطوريس وقارص وتفليس وشيراز وأصفهان وكشغر ومازندران والعراق بأسره، وخرب حفيده محمد بولونيا وروسيا ودخل الهند فنازل مملكة المسلمين حتى غلب عليها وفتح أفغانستان وجلب من الهند إلى مملكته المهندسين والنقاشين. ثم حارب السلطان بايزيد العثماني 805 وغلبه. وباستيلائه على إزمير اضطر إمبراطور القسطنطينية أن يؤدي إليه الجزية. هذا الفاتح خرب عاصمتي الشام حلب ودمشق، وكم خرب من مدن عامرة في آسيا، وكان ملوك أوربا يخافونه وكثيراً ما أرسلوا الوفود لتهنئته بانتصاراته. هذا الرجل الجبار لم يحمل على الشام حملته المشئومة إلا بأسباب أوجدها النواب والأمراء والملوك على الأرجح، فقد كان ذكر ابن حجر في حوادث سنة 798: أن اطلمش قريب تيمورلنك قبض عليه قرا يوسف التركماني صاحب تبريز وأرسله إلى الظاهر فاعتقله، فكانت هذه الفعلة أعظم الأسباب في حركة تيمورلنك إلى الديار الشامية. وقال في حوادث سنة 799 وصلت كتب من تيمورلنك فعوقت رسله بالشام وأرسلت الكتب التي معهم إلى القاهرة ومضمونها التحريض على إرسال قريبه اطلمش الذي أسره قرا يوسف، فأمر السلطان اطلمش المذكور أن يكتب إلى قريبه كتاباً يعرفه فيه ما هو عليه من الخير والإحسان بالديار المصرية، وأرسل ذلك السلطان مع أجوبته ومضمونها إذا أطلقت من عندك من جهتي أطلقت من عندي من جهتك والسلام. فالقائمون بالأمر هم الذين فتحوا لتيمورلنك السبل للغزو فيما بعد،

القتال على الملك:

غزوة أذلت العزيز وأفقرت الغني وخربت العامر. قال ابن حجر أيضاً: لما رجع تيمورلنك إلى الشرق وكان هذا دأبه إذا بلغه عن مملكة كبيرة وملك كبير لا يزال يبالغ في الاستيلاء عليها إلى أن يحصل مقصوده فيتركها بعد أن يخربها ويرجع، فعل ذلك بالمشرق كله وبالهند وبالشام وبالروم. أرسلت مصر في سنة 790 عسكراً على تيمورلنك في سيواس فانكسر عسكر تيمورلنك وهذه الوقعة من الوقائع الأولى بين تيمورلنك وعسكر الشام. القتال على الملك: خامر يلبغا الناصري نائب حلب 791 وخرج عن الطاعة وقتل سودون المظفري نائب حلب قبله، وأمسك حاجب الحجاب بحلب وجماعة من أمرائها، وأظهر يلبغا العصيان والتف عليه جماعة كثيرة من مماليك الأشرف شعبان، وكان من جملة من التف على يلبغا تمربغا الأفضلي المدعو منطاش مملوك الظاهر برقوق، وعهد سلطان مصر إلى إينال أتابك العساكر بدمشق ليكون نائب حلب وحلّف السلطان الأمراء من الأكابر والأصاغر بأن يكونوا معه على يلبغا الناصري فحلفوا على ذلك جميعهم، وأرسل إلى يلبغا تجريدة. وانتشب القتال بين أمراء الغرب التنوخية وبين عشران البر أهل كسروان والأمراء أولاد الأعمى، وكان التنوخية ميالين إلى الملك الظاهر والكساروة مع أرغون نائب منطاش في بيروت، فاستظهر أهل كسروان على أمراء الغرب وقتلوا منهم نحو 90 نفراً وأمسكوا جماعة فسمروا بعضهم ووسطوا آخرين وأحرقوا عدة قرى من الغرب وتلقبوا بعشران البر. ثم إن العساكر الظاهرية زحفت على تركمان كسروان وجرت بين الفريقين وقعة في الساحل فقتلوا منهم جماعة كثيرة، ولما استولى كمشبغا على قلعة حلب عمر أسواق هذه المدينة أحسن عمارة في أسرع وقت وكانت من وقعة غازان خراباً، فلما انتصر كمشبغا على أعدائه قتل غالب أهل محلة بانقوسا وكانوا زيادة على أربعة آلاف نفس وقتل كبيرهم أحمد بن الحرامي وخربها إلى أن جعلها دكاً. عوامل الخراب قيس ويمن: ذكر الأسدي أن السبب في خراب الشام في القرن الثامن انتشار الشرور

بين قيس ويمن ووقوع الحرب والقتال بينهم، والسبب في ذلك تغيير العوائد والتدليس على الملوك والحكام وولاة الأمور، بالإغراء والتسلط على الفلاحين بالظلم وطلب العاجل، والعسف في الحكم والميل مع القوي، وإنهاك الضعيف وعدم رد لهفة الملهوف، ومع تغيير العوائد وقع التحاسد بينهم فاضطر كثير من أهل الزرع والضرع إلى التمرد والتشرد وتسلطت العربان والعشران وتراكمت الأهواء ووقع التحاسد والإغراء، فنهبت الأموال وقتلت الرجال وتخلت العشائر وعظمت الفتن بين القبائل، وجلا أهل الزرع والضرع من الفلاحين عن أراضيهم فأوجب ذلك الخراب في كثير من أرجاء الشام، وصارت دمناً يشهد لذلك الديوان من أسماء القرى التي صارت مزارع وتسمى بالخراب الدائر، والموجب لهذا جميعه سوء التدبير مع نقص القوة ونقض سنة العدل، إلى أن صار الحكم لمقدمي الفلاحين ورؤساء العشران، وصار الأعيان منهم يظهرون الطاعة للسلطان ويبطنون المخالفة والعصيان، ويستخرجون الأموال بالظلم والطغيان، ويرضون ببعضها من له في الدولة سلطة، وبما يحملونه للأعوان من الهدايا والأموال، فيسعى لهم ويلبسون التشاريف الملوكية بين يدي الملك والأمير والسلطان، فيصير كل واحد منهم في بلده وإقليمه إذا عاد إليه ذا قوة وسلطان، وسطوة وأعوان، وإقطاعات ونعم وديوان. قلنا: وهذا الاختلاف الدائم بين قيس ويمن كان يقوى ويضعف بحسب الوازع، فإذا وفقت الديار إلى حاكم يسوي بينهم ويعدل فيهم تسكن نغمة القيسي واليماني، وإلا فيتقاتلون ويخربون العمران ويقتلون الإنسان. وكانت هذه النغمة شديدة في أرض دون أُخرى من أرض الشام، فقد كانت في القديم في حمص حتى ضرب المثل بها فقالوا: أذلُّ من قيسي بحمص وذلك أن حمص كلها لليمن ليس بها من قيس إلا بيت واحد. ثم كانت ترى آثارها في حوران ولبنان وربما انتقلت نغمتها من حوران منذ جلاء كثير من الأسر المسيحية إلى جبل لبنان وبقيت في هذا الجبل إلى القرن الماضي ثم اضمحلت.

وفي هذه الأثناء ركب عسكر طرابلس على النائب وقتلوا من أمراء طرابلس جماعة، وركب مماليك نائب حماة مع عسكر حماة وأرادوا قتله فهرب إلى دمشق، فوقعت الفتنة. ولما تحقق برقوق أن المملكة افتتنت خاف وأمر نائب القلعة بمصر بأن يضيق على الخليفة ويمنعه من الاجتماع بالناس، وكان مسجوناً بالقيد في برج القلعة، وأصدر أمره بالتضييق على السادة أولاد السلاطين في دور الحرم، ووصلت التجريدة من مصر إلى دمشق والتقى عسكر مصر مع عسكر يلبغا الناصري فأوقعوا معه بظاهر دمشق واقعة عظيمة حتى جرى الدم بينهم وقتل من الفريقين كثيرون، فانكسر عسكر السلطان وانتصر عليهم يلبغا، ثم جيش يلبغا وساق جيشه إلى مصر فالتف أكثر أمراء مصر عليه وقاتل قليلاً حتى اضطر السلطان برقوق إلى ترك سرير السلطنة وأُعيد الملك الصالح أمير حاج بن الأشرف شعبان سلطاناً على مصر والشام، وأخذ الظاهر برقوق إلى قلعة الكرك فسجن فيها ثم انتدبوا لقتله رجلاً فقتل الرجل، واستولى برقوق على القلعة بعد أن قاسى من المحن أمراً عظيماً، وأتاه مماليكه الذين كانوا بقوص وقتلوا واليها والتحقوا به، والتف عليه العربان وقصد دمشق فجاءه نائب غزة في خمسة آلاف مقاتل فأوقعوا مع الظاهر برقوق وقعة عظيمة انكسر فيها نائب غزة، فنهب عسكر برقوق عسكر غزة فتقووا بتلك الغنيمة، وكان الظاهر كلما مر بقرية يخرج إليه أهلها ويلاقونه ومعهم العلف والضيافة، ولما بلغ برقوق قرية شقحب خرج إليه عسكر دمشق فتقاتلوا فقتل من أمراء دمشق ستة عشر أميراً، ومن المماليك نحو خمسين مملوكاً، وقتل من عسكر برقوق نحو ذلك. وصادف أن خرج عن الطاعة كمشبغا الحموي نائب حلب واستولى أبناء اليوسفي على قلعة صفد وهو من جماعة الظاهر فقويت شوكته ودخل الظاهر برقوق دمشق، ونزل في الميدان فكبس عليه أهل دمشق وأخرجوه من المدينة إلى ظاهر البلد، لأن بعض مماليكه عبث ببعض السوقة وأخذ منه شيئاً من البضائع بالغصب فاستغاث ذلك السوقي فحضر إليه جماعة وتعصبوا له فاستطال ذلك المملوك وضربهم فرجمه أهل دمشق، فرمى المماليك على عوام دمشق بالنشاب، وتكاثرت على المماليك العوام بالحجارة والمقاليع،

الخوارج على ملوك مصر:

فكسروا المماليك كسرة قوية فركب الظاهر برقوق ومن معه من الأمراء وخرجوا من دمشق إلى قبة يلبغا فدخل العوام إلى الميدان ونهبوا بَرَك برقوق وأُغلقت أبواب دمشق، وكان برقوق أشرف على أخذ قلعة دمشق وراج أمره فتعطل بسبب ذلك. ثم جرد المنصور أمير حاج عسكراً من مصر وجاء الشام لينزع الملك من برقوق، فلما وصل العسكر إلى غزة تسحب أكثر عسكر المنصور إلى برقوق لأن هواهم كان معه، ووقعت بين عسكر المنصور وعسكر الظاهر وقعة شقحب 792 فانكسر برقوق كسرة قوية وهرب برقوق في نفر قليل من العسكر وتوارى خلف الجبل الذي تحته الملك المنصور والخليفة والقضاة، فأتى إليه بعض العرب وأخبره بأن الملك المنصور تحت ذلك الجبل، وكان على يوم من دمشق فكبس عليهم برقوق بمن معه من العسكر وكانوا نحو أربعين إنساناً فذُعر عسكر المنصور وغُلت أيديهم عن القتال، فنزل عليهم برقوق كالباز على الطائر واحتوى على كل ما معهم من البرك والأثقال والقماش والسلاح وخزائن المال، وتسامع بذلك الناس فجاءوا إليه أفواجاً من كل مكان، وبلغ ذلك منطاش وحضر ومعه عساكر دمشق وغيرهم فوقعت بينهم واقعة أعظم من الواقعة الأولى وقتل بها كثير فانكسر الأتابكي منطاش وعسكر دمشق فولوا هاربين وأقام برقوق بمنزلة شقحب، ثم إن شخصاً من الصالحين يقال له الشيخ شمس الدين الصوفي مشى بين الظاهر برقوق وبين المنصور حاج في أن يخلع هذا نفسه ويسلم الأمر إلى برقوق، فأجاب المنصور إلى ذلك، وأحضر الخليفة المتوكل والقضاة الأربعة وخلع نفسه من الملك وأشهدوا عليه بذلك. فبايع الخليفة الظاهر برقوق بالسلطنة وذلك بمنزلة شقحب ثم رحل إلى مصر فدخلها بلا منازع، وكان مماليكه قد وطدوا له الأمن قبل وصوله وخطبوا له على المنابر فعاد واستولى على مصر والشام. وبرقوق هو الذي قرض جيش المماليك البرجية. الخوارج على ملوك مصر: وملك منطاش 792 مدينة بعلبك والتف عليه جماعة من عسكر دمشق

وصفد وطرابلس ومن عربان جبل نابلس ونهب عدة ضياع، وأرسل منطاش شخصاً يسمى تمان تمر الأشرفي إلى مدينة حلب، وكان نائب حلب كمشبغا الحموي قد ثقل أمره على أهل حلب فما صدقوا بهذه الحركة فحاصروا نائب حلب أشد المحاصرة وتعصبوا لمنطاش فنقبوا القلعة من ثلاثة مواضع، فصار كمشبغا نائب حلب يقاتلهم من داخل النقب على البرج، واستمروا على ذلك نحو ثلاثة أشهر، فانتصر كمشبغا نائب حلب على تمان تمر الأشرفي الذي ولاه منطاش على حلب فانكسر تمان تمر وولى هارباً ثم توجه منطاش إلى طرابلس فحاصرها حتى ملكها وهرب من كان بها من الأمراء والنائب وهرب أكثر أهلها إلى دمشق، ثم حاصر منطاش دمشق فاتفق عوامها على أن يسلموه المدينة ليلاً وكانوا يحبونه أكثر من برقوق. فما بلغ ذلك أمراء برقوق خرجوا إلى ظاهر دمشق وأوقعوا مع منطاش ومع عوام دمشق واقعة قتل فيها من الفريقين نحو ألف إنسان، ثم رجع عسكر دمشق إلى المدينة وتوجه منطاش إلى عينتاب فالتف عليه جماعة من التركمان، فحاصر المدينة حصراً شديداً فملكها وهرب نائبها، فلما دخل الليل جمع نائب عينتاب جماعة من التركمان وكبس منطاش فقتل من عسكره نحو مائتي إنسان وهرب منطاش نحو الفرات، ثم إن منطاش جمع قوته وخامر على السلطان أكثر التركمان والعربان والتفوا على منطاش 793 فتوجه إلى دمشق وحاصرها فخرج إليه نائبها فهرب منطاش إلى جبل يقرب من طرابلس فتبعه نائب دمشق، فجاء منطاش من وراء ذلك الجبل وجاء إلى دمشق فلم يجد بها أحداً من الأمراء ولا النائب، ففتح له عوام دمشق باباً فدخل منه إلى المدينة ونهب الأسواق وأخذ أموال التجار والخيول، والتف عليه جماعة من عسكر دمشق فقويت شوكته. بلغ السلطان في مصر ما وقع في الشام فقوي عزمه على الخروج إلى منطاش في دمشق، ونادى فيها الأمان لأن أهلها لما خرج الظاهر برقوق من الكرك ودخل مدينتهم رجموه وأخرجوه هائماً على وجهه ونهبوا أثقاله وقماشه، فضج أهل دمشق له بالدعاء، وسكن ما كان عندهم من الاضطراب، ولما

توجه إلى حلب جاء نعير بن جبار أمير آل فضل ونهب ضياع دمشق، وكان نعير عاصياً على السلطان وهو من أنصار منطاش وأخرب غالب إقليم دمشق ونهب ضياعها، فلما بلغ نائب دمشق مجيء نعير خرج إليه وأوقع معه واقعة قوية في قرية الكسوة فانكسر نائب دمشق وقتل من عسكره جماعة. أما منطاش فلما بلغه مجيء السلطان من مصر هرب إلى التركمان. ولما عاد سلطان مصر إلى عاصمته 794 هجم نحو خمسة عشر مملوكاً وقيل خمسة أنفس على نائب قلعة دمشق وتوجهوا نحو السجن الذي بها وأخرجوا من كان به من المحابيس من عصبة منطاش وكانوا نحو مائة مملوك، فقويت شوكتهم بالسجناء وهجموا على نائب القلعة وقتلوه وملكوا القلعة، فقاتلهم عسكر دمشق وحاصروا من بالقلعة فقتل من عسكر دمشق جماعة ثم هجم العسكر على باب القلعة وأحرقوه ودخلوا إليها وقبضوا على المماليك كلهم ووسطوهم أي قطعوهم نصفين تحت باب القلعة وأمسكوا الثائرين فلم يبق منهم إلا من هرب. وعاد منطاش 794 فحاصر حلب مع التركمان فخرج إليه عسكرها وأوقعوا معه واقعة فكسروه ورجع هارباً إلى الفرات، ثم اتفق منطاش ونعير بن جبار أمير العربان 795 بمن معهما من العسكر وحاصروا حماة فخرج إليهم نائبها فأوقع معهم واقعة قوية فانكسر نائب حماة وهرب، فدخل منطاش ونعير إلى المدينة ونهبوا أسواقها وأخذوا أموال التجار، فلما بلغ ذلك نائب حلب ركب هو في عساكر حلب وكبس على بلاد نعير ونهب أمواله وأخذ أورده ونساءه وأحرق بيوته وقتل من عربانه كثيراً، فأرسل نعير يطلب من نائب حلب أولاده ونساءه الذين أسرهم فأرسل نائب حلب يقول له: ما أُطلق لك أولادك ونساءك حتى تسلمنا منطاش. وكان منطاش قد تزوج من بنات نعير واستنسل منهم. فلما رأى نعير أن السلطان ونائب حلب عليه وقد نهبوا أمواله ومواشيه وأسروا أولاده ونساءه، قصد أن يرضي السلطان بإمساك منطاش حتى يزول ما عنده مما جرى منه في حق السلطان، فندب نعير إلى منطاش أربعة قبضوا عليه فلما وقع في أيديهم أخرج من تكته حجراً شق به بطنه فغشي عليه فحمله العبيد وأتوا به إلى نعير فقيده وأرسله إلى نائب

وفاة برقوق وسلطنة ابنه الناصر فرج والخوارج

حلب ثم حمل إلى القاهرة، وجعل الموكل بحمله يعاقبه ويعصره ويقرره على الأموال التي غصبها فلم يقر بشيء، ودخل عليه النزع فقطع رأسه ووضعه في علبة وحمله إلى السلطان في مصر ثم أرسل السلطان إلى نعير خلعة وأقره على عادته أمير آل فضل. قال ابن إياس، وعنه أخذنا هذه الحوادث: فما صدق الناس بأن فتنة منطاش قد خمدت عنهم حتى استؤنفت لهم فتنة أُخرى، فوردت الأخبار بأن تيمورلنك أخذ تبريز وشيراز، وركب برقوق إلى الشام وجاءه في حلب قاصد من عند ابن عثمان ومعه مطالعات مضمونها أن يكون هو والظاهر يداً واحدة على دفع تيمورلنك فأجابه الظاهر إلى ذلك ورد له الجواب بما يطيب به خاطره، ثم حضر إليه قاصد طقتمش خان صاحب بسطام وعلى يده مطالعات تتضمن ما قاله ابن عثمان فأجابه الظاهر كما أجاب ابن عثمان. فلما أقام الظاهر بحلب بلغه أن أعلام عسكر تيمورلنك قد وصلت إلى البيرة. ثم بلغه أن تيمورلنك رجع إلى مملكته، فلما تحقق ذلك عاد هو إلى مصر. وفي سنة 799 أخذ عسكر تيمورلنك مدينة أرزنجان وقتل أهلها ونهب ما فيها، فلما بلغ سلطان مصر والشام ذلك أرسل إلى نوابه في الشام أن يتوجهوا إلى شاطئ الفرات فخرجوا كلهم وأقاموا هناك، وكانت أرزنجان من جملة الأصقاع التي خطب بها للملك الظاهر برقوق كما خطب له في تبريز والموصل وماردين وسنجار ودوركي، وضربت السكة باسمه في هذه الأماكن. وفي سنة 801 تحرك ابن عثمان ملك الروم على بلاد السلطان سكان مصر والشام ووصلت طلائعه إلى الابلستين، وهو قاصد حلب فوقع الاتفاق في مصر على محاربته والخروج عليه، وأن يؤخذ من أجرة الأملاك شهر واحد يتقوى بها العسكر على دفع العدو، ثم ظهر أن ابن عثمان وصل إلى ملطية وملكها ولم يشوش على أحد من أهلها وأمر عسكره بأن لا ينهبوا لأحد من الرعية شيئاً، فأقام بملطية أياماً ثم رجع إلى مملكته فبطل أمر التجريدة عليه. وفاة برقوق وسلطنة ابنه الناصر فرج والخوارج على الملك: وفي سنة 801 توفي الظاهر برقوق وتولى السلطنة بعده ابنه الناصر فرج

الحرب الأولى مع تيمورلنك:

وله من العمر نحو اثنتي عشرة سنة فكانت وفاته من سوء طالع الشام، كَثُر طمع القريب والبعيد في اكتساحها. وكان من ذلك الحظ الأكبر لتيمورلنك حتى إنه لما بلغه موت الظاهر برقوق فَرِحَ وأعطى من بشره بذلك خمسة عشر ألف دينار، وتهيأ للمسير إلى الشام فجاء إلى بغداد وأخذها ثانية. وفي سنة 802 خامر نائب الشام وأظهر العصيان وأطلق من كان مسجوناً من الأمراء بقلعة دمشق ثم جمع النائب وكان اسمه تنم عسكراً عظيماً من الشام وقصد نحو الديار المصرية ووصل أوائل عسكره غزة، فجيش الملك الناصر فرج وسار إلى الشام، فلما وصل كان أقبغا اللكاش نائب غزة خرج هو ونائب حماة ونائب صفد إلى قتال الملك فدهش النواب، فكان أول من دخل تحت طاعته نائب حماة ثم نائب صفد. فلما رأى عسكر الشام دخول النواب تحت طاعة السلطان - وكان مع تنم نائب الشام نواب طرابلس وحلب وحماة وصفد وكثير من العربان وظن نفسه أنه أصبح سلطاناً - خامر الجميع على تنم نائب الشام وتوجهوا إليه في غزة فملك السلطان غزة وبلغ ذلك نائب دمشق فخرج منها هو وبقية الأمراء وأتوا إلى الرملة فصار السلطان في غزة وهم في الرملة، فراسلهم السلطان في الصلح فأبوا فتلاقى العسكران على مكان يسمى الحبتين فكان بينهم وقعة عظيمة كُسر بها تنم وأمسك واحتاطوا على بركه ودوابه، وقبض الناصر فرج على جملة من الأمراء الذين خامروا عليه وقيدهم وحبسهم في قلعة دمشق. ودخلها في موكب عظيم وقدامه تنم نائب دمشق. وهو مقيد راكب على كديش أبلق ومعه عشرة من أمراء دمشق وهم في قيود فحبسهم في القعلة، ثم قتل وخنق عدة أمراء منهم. الحرب الأولى مع تيمورلنك: وفي هذه السنة انكسرت طليعة جيش تيمورلنك في وقعة صاحب بغداد القان أحمد بن أويس وقرا يوسف أمير التركمان، فلما انكسر التتر أتوا ملطية وكانوا نحو سبعة آلاف إنسان فأرسلوا إلى نائب حلب يقولون له عين لنا مكاناً ننزله، فلما سمع نائب حلب بذلك ركب هو ونائب حماة فتوجهوا إلى عسكر تيمورلنك فأوقعوا معهم وقعة عظيمة فانكسر نائب حماة وقتل من عسكر

حلب جماعة فأمر السلطان نواب دمشق وصفد وطرابلس بأن يجمعوا العساكر ويتوجهوا إلى حلب يقيمون بها، فأرسل تيمورلنك إلى دمرداش نائب حلب يعده بأن يبقيه على نيابته بشرط أن يمسك سودون نائب الشام، فأطلع دمرداش على ذلك سودون فوثب على الرسول فضرب عنقه، فلما بلغ ذلك تيمورلنك نازل حلب، ولكن تيمورلنك إذا تظاهر الشراكسة بالقوة أمامه يعرف ما تندمج عليه نفوسهم وتصل إليه قرائحهم، وإذا انكسر له فيلق صغير لم يكن إلا على أتم المعرفة بما عند من يريد فتح ديارهم، وكان له جواسيس في جميع البلاد التي ملكها والتي لم يملكها، فكانوا ينهون إليه الحوادث الكائنة على جليتها ويكاتبونه بجميع ما يروم، فلا يتوجه إلى جهة إلا وهو على بصيرة من أمرها، وبلغ من دهائه أنه كان إذا أراد قصد جهة جمع أكابر الدولة وتشاوروا إلى أن يقع الرأي على التوجه في الوقت الفلاني إلى الجهة الفلانية، فيكاتب جواسيس تلك الجهات فتأخذ الجهة المعينة حذرها ويأمن غيرها، فإذا ضربوا النفير وأصبحوا سائرين ذات الشمال عرّج بهم ذات اليمين، فإلى أن يصل الخبر الثاني يكون دهم هو الجهة التي يريد وأهلها غافلون. وذكر ابن حجر أنه كان ابتداء حركة تيمورلنك إلى البلاد الشامية في سنة اثنتين وثمانمائة. وأصل ذلك أن أحمد بن أويس صاحب بغداد ساءت سيرته وقتل جماعة من الأمراء وعسف على الباقين، فوثبوا عليه فأخرجوه منها، وكاتبوا نائب تيمورلنك بشيراز أن يتسلمها فتسلمها، وهرب أحمد إلى قرا يوسف التركماني بالموصل فسار معه إلى بغداد فالتقى به أهل بغداد فكسروه، واستمر هو وقرا يوسف منهزمين إلى قرب حلب، وقيل بل غلب على بغداد وجلس على تخت الملك، ثم صار صحبة قرا يوسف فوصلا جميعاً إلى أطراف حلب وسألا أن يطالع السلطان بأمرهما فكاتب أحمد بن أويس يستأذن في زيارته مصر، فأجيب بتفويض الأمر إلى النائب فخشي دمرداش نائب حلب أن يقصد هو وقرا يوسف حلب فسار نائب حلب ومعه طائفة قليلة منهم نائب حماة ليكبس أحمد بن أويس بزعمه، فكانت الغلبة لأحمد فانكسر دمرداش وقتل من عسكره جماعة، ورجع منهزماً وأُسر نائب حماة وفدي بستمائة ألف درهم، ثم جمع نعير والنائب ببهنسي جماعة والتقوا مع أحمد بن أويس

تيمورلنك على أبواب حلب:

فكسروه واستلبوا منه سيفاً يقال له سيف الخلافة وصحفاً وأثاثاً كثيرة. فوصلت الأخبار إلى القاهرة فسكن الحال بعد أن كان أمر السلطان بتجريد العساكر لما بلغه هزيمة دمرداش وأرسل بريدياً إلى الشام بالتجهيز إلى حلب. تيمورلنك على أبواب حلب: وصل تيمورلنك بعد فتح عينتاب إلى الباب وبزاعا بالقرب من حلب وأرسل إلى نائب حلب قاصداً ومعه المكاتبات من تيمورلنك فيها عبارة خشنة لنائب حلب. وذكر ابن حجر أن كتاب تيمورلنك إلى نائب حلب جاء فيه: إنا وصلنا في العام الماضي إلى البلاد الحلبية لأخذ القصاص ممن قتل رسلنا بالرحبة ثم بلغنا موته يعني الظاهر، وبلغنا أمر الهند وما هم عليه من الفساد فتوجهنا إليهم فأظفرنا الله تعالى بهم، ثم رجعنا إلى الكرج فأظفرنا الله بهم، ثم بلغنا قلة أدب هذا الصبي ابن عثمان فأردنا عرك أذنه فشغلنا بسيواس وغيرها من بلاده ما بلغكم، ونحن نرسل الكتب إلى مصر فلا يعود جوابها فنعلمهم أن يرسلوا قريبنا أطلمش وإن لم يفعلوا فدماء المسلمين في أعناقهم والسلام. حنق نائب حلب وأمر بضرب أعناق قصاد تيمورلنك، فاضطربت عند ذلك أحوال مدينة حلب وحصنوا سورها بالمدافع والمكاحل والمقاتلين، وقد ارتكب نائب حلب خطأ فاحشاً بقتل الرسول، ظاناً وجماعته من الحلبيين أن لهم قوة تقاوم قوة تيمورلنك. قال بعض المؤرخين: لما كان أهل حلب وصاحبها يتشاورون في دفع عادية تيمور عنهم قال نائب طرابلس: إننا نطير إلى الآفاق أجنحة البطائق إلى الأعراب والأكراد والتراكمة فيتسلطون عليه من الجوانب. وفي ذلك دليل آخر على جهل أمراء الشام بقوة تيمورلنك وعجزهم عن كشف أخبار جيوشه وتقدير مبلغ قوته. وذكر بعض المؤرخين أن عسكر تيمورلنك كان لما أسر سلطان العثمانيين أربعمائة ألف فارس وستمائة ألف راجل وقيل: إن ديوان تيمور اشتمل على ثماني مائة ألف مقاتل. لما بلغ تيمورلنك ما فعله الحلبيون بقصاده زحف إلى قرية حيلان وأحاط بمدينة حلب ونهب ما حولها من الضياع فخرج عساكر حلب وسائر النواب

بعساكرهم، وخرج لقتال تيمور حتى النساء والصبيان من أهل حلب، وأوقعوا مع تيمور فكان بينهم ساعة تشيب منها النواصي، وقد دهمتهم عساكر تيمور كأمواج البحر المتلاطمة، فلم تثبت معهم عساكر حلب وولوا على أعقابهم مدبرين إلى المدينة، وقد داست حوافر الخيل أجساد العامة، وكان احتمى بالمزارات والمساجد الجم الغفير من النساء والأطفال، فدخل التتر إليهم وأسروهم وقرنوهم بالحبال وأسرفوا في قتل النساء والرجال، وصارت الأبكار تفتض في المساجد وآباؤهن يشاهدونهن، ولم يرعوا حرمة الجوامع وأصبحت كالمجزرة من القتلى واستمر ذلك أربعة أيام. وفي كنوز الذهب أن جيش تيمورلنك لما دخل إلى حلب نهب وأحرق وسبى وقتل وصاروا يأخذون المرأة ومعها ولدها الصغير على يدها فيلقونه من يدها ويفعلون بها ما لا يليق ذكره، فلجأ النساء عند ذلك إلى جامعها ظناً منهن أن هذا يقيهن من أيدي الكفرة وصارت المرأة تطلي وجهها بطين أو بشيء حتى لا ترى بشرتها من حسنها، فيأتي عدو الله إليها ويغسل وجهها ويجامعها في الجامع. قال: وحكى بعض من حضر الوقائع بأن تيمور عرض الأسرى من ديار الشام ونواحيها فكانوا ثلاثمائة ألف أسير وستين ألف أسير. رأى دمرداش نائب حلب عين الغلب فنزل من القلعة هو وبقية النواب، وأخذوا في رقابهم مناديل وتوجهوا إلى تيمورلنك يطلبون منه الأدمان؛ فلما مثلوا بين يديه خلع عليهم أقبية مخمل أحمر وألبسهم تيجاناً مذهبة، وقال لهم: أنتم صرتم نوابي، ثم أرسل معهم جماعة من أمراته يتسلمون القعلة، وكان فيها من الأموال والذخائر والحلي والسلاح ما تعجب الفاتح من كثرته، حتى أخبر بعض أخصائه أنه قال: ما كنت أظن أن في الدنيا قلعة فيها هذه الذخائر، فاستنزلوا ما كان بها وهم في قيود وغدر بهم بعد أن أمنهم، وأخذ جميع ما كان فيها من الأموال والمتاع ثم خرب القلعة وأحرق المدينة. واستمر مقيماً على حلب نحو شهر، وعسكره ينهبون القرى التي حول المدينة ويقطعون الأشجار التي بها ويهدمون البيوت، وقد أسرفوا في القتل ونهب الأموال، وصارت الأرجل لا تطأ إلا على جثة إنسان لكثرة القتلى، حتى قيل: إنه بنى من رؤوس القتلى عشرة مآذن، دور كل مئذنة نحو عشرين ذراعاً، وصعودها

تيمورلنك على حماة وسليمة وحمص:

في الهواء مثل ذلك، وجعلوا الوجوه فيها بارزة تسفو عليها الرياح، وتركوا أجساد القتلى في الفلاة تنهشها الكلاب والوحوش. فكان عدة من قتل في هذه الواقعة من أهل حلب من صغار وكبار ونساء ورجال نحواً من عشرين ألف إنسان، عدا من هلك من الناس تحت أرجل الخيول عند اقتحام أبواب المدينة وقت الهزيمة وهلك من الجوع والعطش أكثر من ذلك - هذا ما قاله ابن تغري بردي وابن حجر وابن إياس -. وقال ابن حجر: إن أعظم الأسباب في خذلان العسكر الإسلامي ما كان دمرداش نائب حلب اعتمده من إلقاء الفتنة بين التركمان والعرب حتى أعانه بعض التركمان على أموال نعير فنهبها فغضب نعير من ذلك وسار قبل حضور تيمورلنك فلم يحضر الوقعة أحد من العرب. وقال بعضهم: إن دمرداش كان باطن تيمور لكثرة ما كان تيمورلنك خدعه ومناه. تيمورلنك على حماة وسليمة وحمص: ووصل تيمورلنك إلى حماة وسليمة فأرسل جماعة من عسكره إلى نحو طرابلس فتاهوا عن الطريق فدخلوا في وادٍ بين جبلين فوثب عليهم جماعة من عربان جبل نابلس فقتلوا منهم جماعة كثيرة بالنشاب والحجارة فولوا مدبرين. وذكروا أن ابن رمضان أمير التركمان جمع عساكره وجاء حلب بعد رحيل تيمورلنك وطرد من بها من عساكره بحلب. وفعل تيمورلنك بأهل حماة كما فعل بأهل حلب من القتل والنهب وأحرق معظمها، ولم تطل يده إلى حمص فوهبها كما قال لخالد بن الوليد. قال ابن حجر: وذكر بعض من يوثق به أنه قرأ في الحائط القبلي بالجامع الأموي النوري بحماة منقوشاً على رخامة بالفارسي ما نصه: إن الله يسر لنا فتح البلاد والممالك حتى انتهى استخلاصنا إلى بغداد، فحاورنا سلطان مصر والشام فراسلناه لتتم المودة فقتلوا رسلنا، فظفرت طائفة من التركمان بجماعة من أصلنا فسجنوهم، فتوجهنا لاستخلاص قريبنا من أيدي مخالفينا واتفق في ذلك نزولنا بحماة في العشرين من شهر ربيع الآخرة. تيمورلنك على دمشق: وجاء تيمورلنك دمشق فنزل عند سفح جبل الثلج الشيخ في قطنا وإقليم البلان

ميسنون وقوي عزمه على فتح دمشق لما بلغه أن الملك فر منها إلى مصر، فأرسل تيمورلنك إلى نائب دمشق رسولاً من قبله فقتله قبل أن يسمع كلامه. جرى في ذلك على ما جرى عليه نائب حلب فزاد تيمورلنك حنقاً. ومن الغريب أن نائبي حلب ودمشق لم يقدرا قوة تيمورلنك حق قدرها وهي منهما على قيد غلوة وظنا أنهما باعتصامهما في قلعتي المدينة، وبالقليل ممن عندهما من العسكر وأحداث البلدين يستطيعان أن يتغلبا على جيوش تيمورلنك المؤلفة كما قال عربشاه: من رجال توران، وأبطال إيران، ونمور تركستان، وفهود بلخشان، وصقور الدشت والخطا، ونسور المغول وكواسر الجتا، وأفاعي خجند، وثعابين أبدكان، وهوام خوارزم، وجوارح جرجان، وعقبان صغانيان، وضواري حصار شادمان، وفوارس فارس، وأسود خراسان، وضباع الجبل، وليوث مازندران، وسباع الجبال وتماسيح رستمدار وطالقان، وأهل قبائل خوز وكرمان، وطلس أرباب طيالس أصبهان، وذئاب الري وغزنة وهمدان، وأفيال الهند والسند وملتان، وكباش ولايات اللور وتيران، وشواهق الغور، وعقارب شهرزور، وحشرات عسكر مكرم وجندي سابور. قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم ... طاروا إليه زرافات ووحدانا مع ما أضيف إليهم من أعيار الخدم، وفواعل التراكمة والأوباش والحشم، وكلاب النهاب من رعاع العرب وهمج العجم، وحثالة عباد الإنسان، وأنجاس مجوس الأمم، ما لا يكتنفه ديوان، ولا يحيط به دفتر حسبان اه. غلطة ارتكبها نائب دمشق المغرور بقوة سلطانه ومن معه من المتعصبة والمتلصصة وأرباب الدعارة من الشطار والأحداث الأغيار، قضت على أعظم مدينة في الأرض كانت في غابر الأيام. كان بين أهل دمشق وبين عسكر تيمورلنك في أول يوم واقعة فقتل من عسكر تيمورلنك نحو ألفي إنسان، فأرسل يطلب من أعيان دمشق رجلاً من عقلائهم، يمشي بينه وبين أهل دمشق في الصلح، فلما أتى قاصد تيمورلنك بهذه الرسالة اشتور أهل دمشق فيمن يرسلونه فوقع الاختيار أن يرسلوا القاضي تقي الدين بن مفلح الحنبلي، فإنه كان إنساناً طلق اللسان يعرف بالتركي وباللسان العجمي، فأرخوه من أعلى السور بسرياق ضخم، ومعه خمسة أنفس من أعيان دمشق، فغاب عند

وصف أفعال تيمورلنك في دمشق:

تيمورلنك ساعة ثم رجع من عنده فأخبر بأن تيمورلنك تلطف معه في القول وقال له: هذه بلد فيها الأنبياء وقد أعتقها لهم. وشرح من محاسن تيمورلنك شيئاً كثيراً وجعل يخذل أهل الشام عن قتاله ويرغبهم في طاعته، فصار أهل البلد فرقتين فرقة ترى ما رآه ابن مفلح وفرقة ترى محاربته، وكان أكثر أهل البلد يرون مخالفة ابن مفلح، ثم غلب رأيه ورأي أصحابه، فقصد أن يفتح باب النصر فمنعه من ذلك نائب قلعة دمشق وقال لهم: إن فعلتم ذلك أحرقت البلدة جميعها، ولكن نائب القلعة لما رأى عين الغلب سلم إليهم القلعة بعد ستة وعشرين يوماً قال: ثم قبض تيمورلنك على ابن مفلح وأصحابه وأودعهم في الحديد. وصف أفعال تيمورلنك في دمشق: ذكر ابن تغري بردي أنه لما قدم الخبر على أهل دمشق بأخذ حلب نودي في الناس بالرحيل من ظاهرها إلى داخل المدينة والاستعداد لقتال العدو، فأخذوا في ذلك فقدم عليهم المنهزمون من حماة فعظم خوف أهلها، وهموا بالجلاء فمنعوا من ذلك، ونودي من سافر نهب فعاد إليها من كل خرج منها، وحصنت دمشق ونصبت المجانيق على قلعتها ونصبت المكاحل على أسوارها واستعدوا للقتال، ثم نزل تيمورلنك بعساكره على قطنا، فملأت الأرض كثرة، وركب طائفة منهم لكشف الخبر فوجدوا السلطان والأمراء قد تهيئوا للقتال، وصفت العساكر السلطانية فبرز إليهم التمرية وصدموهم صدمة هائلة، وثبت كل من العسكريين ساعة فكانت بينهم وقعة انكسرت فيها ميسرة السلطان، وانهزم العسكر الغزاوي وغيرهم إلى ناحية حوران وجرح جماعة، وحمل تيمورلنك بنفسه حملة عظيمة شديدة ليأخذ دمشق، فدفعته ميمنة السلطان بأسنان الرماح حتى أعادوه إلى موقفه، ونزل كل من العسكريين بمعسكره وبعث تيمورلنك إلى السلطان في طلب الصلح وإرسال أطلمش أحد أصحابه إليه وأنه هو أيضاً يبعث من عنده من الأمراء المقبوض عليهم في واقعة حلب. ثم هرب الملك لأنه بلغه أنهم يسلطنون غيره في مصر فاراً بجماعته. وكان اجتمع في دمشق خلائق كثيرة من الحلبيين والحمويين والحمصيين وأهل القرى ممن خرج جافلاً من تيمور، ما عدا العساكر الدمشقيين الذين

تخلفوا في دمشق ولما أصبحوا وقد فقدوا السلطان والأمراء والنائب غلقوا أبواب المدينة، وركبوا الأسوار ونادوا بالجهاد، فتهيأ أهل دمشق للقتال وزحف عليهم تيمورلنك بعساكره فقاتل الدمشقيون من أعلى السور أشد قتال، وردوهم عن السور والخندق، وأسروا منهم جماعة ممن اقتحم باب دمشق، وأخذوا من خيولهم عدة كبيرة وقتلوا منهم نحو الألف وأدخلوا رؤوسهم إلى المدينة، ولما أعيا تيمور أمرهم جعل يخادعهم فأرسل يريد الصلح. وطلب تيمور الطقزات أي التسعة الأصناف من المأكول والمشروب والملبوس وغيره وهذه كانت عادته في كل بلد يفتحه صلحاً. فأجابه الدمشقيون إلى ما طلب بإقناع ابن مفلح لهم، وتقرر أن يجبي تيمور من دمشق ألف ألف دينار ففرض على الناس فقاموا به من غير مشقة لكثرة أموالهم، فلم يرض تيمور وقال: إن المطلوب بحساب له عشرة آلاف ألف دينار أو ألف تومان والتومان عشرة آلاف دينار من الذهب. قال ابن حجر: واستقر الصلح على ألف ألف دينار فتوزعت على أهل البلد ثم رجع تيمور فتسخطها وقال: إنه طلب ألف تومان فنزل بالناس باستخراج هذا منهم ثانياً بلاء عظيم، ولما أخذه ابن مفلح وحمله إلى تيمور قال هذا لابن مفلح وأصحابه: هذا المال لحسابنا إنما هو ثلاثة آلاف دينار وقد بقي عليكم سبعة آلاف دينار؟ وظهر لي أنكم عجزتم، ثم سلمت أموال المصريين وكراعهم وسلاحهم وأموال الذين هربوا من دمشق، ولما كمل ذلك ألزمهم أن يخرجوا إليه جميع ما في البلد من السلاح فأخرجوه، فلما فرغ من ذلك، قبض على ابن مفلح ورفقته وألزمهم أن يكتبوا له جميع خطط دمشق وحاراتها وسككها، فكتبوا ذلك ودفعوه إليه، ففرقه على أمرائه وقسم البلد بينهم فساروا إليها بمماليكهم وحواشيهم، ونزل كل أمير في قسمه وطلب من فيه وطالبهم بالأموال فحينئذ حلّ بأهل دمشق من البلاء ما لا يوصف، وجرى عليهم من أنواع العذاب وهتك الأعراض شيء تقشعر منه الجلود، واستمر هذا البلاء تسعة عشر يوماً فهلك في هذه المدة بدمشق بالعقوبة والجوع خلق لا يعلم عددهم، ثم أمر أمراءه فدخلوا دمشق ومعهم سيوف مسلولة مشهورة وهم مشاة، فنهبوا ما قدروا عليه من آلات الدور وغيرها، وسبوا نساء دمشق بأجمعهن، وساقوا الأولاد والرجال

وتركوا من الصغار من عمره خمس سنين فما دونها، وساقوا الجميع مربوطين في الحبال، ثم طرحوا النار في المنازل والدور والمساجد، وكان يوماً عاصف الريح فعم الحريق جميع البلد حتى كاد لهيب النار أن يرتفع إلى الحساب، وعملت النار في البلد ثلاثة أيام بلياليها، ثم رحل تيمور عنها بعد أن أقام ثمانين يوماً وقد احترقت كلها وسقطت سقوف جامع بني أمية من الحريق وزالت أبوابه وتقطر رخامه ولم يبق غير جدره قائمة، وذهبت مساجد دمشق ودورها وقياسرها وحماماتها وصارت أطلالاً بالية ورسوماً خالية ولم يبق بها إلا أطفال. قال ابن تغري بردي: ولقد ترك المصريون دمشق أكلة لتيمور، وكانت يوم ذاك أحسن مدن الدنيا وأعمرها. قال بهاء الدين البهائي ير في دمشق المظلومة ويصف ما حلّ بها من التتر في سنة ثلاث وثمانمائة ويذكر حلب وحماة: لهفي على تلك البروج وحسنها ... حفت بهن طوارق الحدثان لهفي على وادي دمشق ولطفه ... وتبدل الغزلان بالثيران وشكا الحريق فؤادها لما رأت ... نور المنازل أبدلت بدخان جناتها في الماء منها أضرمت ... فعجبت للجنات في النيران كانت معاصم نهرها فضية ... والآن صرن كذائب العقيان ما ذاك إلا تُركهم ولجت بها ... فتخضبت منها بأحمر قان كرهت جداولها حوافر خيلهم ... فتسابقت هرباً كخيل رهان خافت خدود الأرض من أفعالهم ... فتلثمت بعوارض الريحان لو عاينت عيناك جامع تنكز ... والبركتين بحسنها الفتان وتعطش المرجين من أورادها ... وتهدم المحراب والإيوان لأتت جفونك بالدموع ملوناً ... دمعاً حكى اللولو على المرجان قطرات جفن ترجمت عن حرقتي ... فكأنهن قلائد العقيان أبني أمية أين يُمن وليدكم ... والمغل تفتل في ذرى الأركان شربوا الخمور بصحنه حتى انتشوا ... ألقوا عرابدهم على النسوان

الخراب الأعظم وأخلاق تيمور ونجاة فلسطين منه:

ومنها: لهفي على كتب العلوم ودرسها ... صارت معانيها بغير بيان أعروسنا لك أُسوة بحماتنا ... في ذا المصاب فأنتما أختان غابت بدور الحسن عن هالاتها ... فاستبدلت من عزها بهوان ناحت نواعير الرياض لفقدهم ... فكأنها الأفلاك في الدوران حزني على الشهباء قبل حماتنا ... هو أول وهي المحل الثاني لا تدّعي الأحزان يا شقراءنا ... السبق للشهباء في الأحزان رتعت كلاب المغل في غزلانها ... وتحكمت في الحور والولدان لهفي عليك منازلاً ومنازهاً ... ومقام فردوس وباب جنان ثم رجع ورثي دمشق فقال: لم أدر من أبكي وأندب حسرة ... للقصر للشرفين للميدان للجبهة الغراء أم خلخالها ... للمزّة الفيحا أم اللوّان - الخراب الأعظم وأخلاق تيمور ونجاة فلسطين منه: وعلى ما منيت به دمشق من قتل سكانها وسبي نسائها وأولادها، وإحراق مصانعها وبيوتها، واستخراج أموالها وطرائفها، أصابتها من تيمور مصيبة لا تقل عن تلك في إرجاعها القهقري وإضعافها إضعافاً لا يجبر كسره في قرون وإليك ما قاله ابن عربشاه في تفصيل هذا الهول العظيم: وبينا كان رجال يحاصرون قلعة دمشق أخذ هو يتطلب الأفاضل وأصحاب الحرف والصنائع، واستمر نهب عسكر تيمور لدمشق ثلاثة أيام، وارتحل وجماعته وقد أخذ من نفائس الأموال فوق طاقتهم، فجعلوا يطرحون ذلك في الدروب والمنازل، وذلك لكثرة الحمل وقلة الحوامل، وأصبحت القفار والبراري، والجبال والصحاري، من الأمتعة والأقمشة، كأنها سوق الدهشة، وكأن الأرض فتحت خزائنها، وأظهرت من المعادن والفلزات كامنها، وأخذ تيمور كل ماهر في فن من الفنون بارع من النساجين والخياطين والحجارين والنجارين والاقباعية والبياطرة والخيمية والنقاشين والقواسين والبازدارية وبالجملة أهل أي فن كان، وأخذ جملة من العلماء والأعيان والنبلاء، وكذلك كل أمير من أمرائه

وزعيم من زعمائه، وأخذ من الفقهاء والعلماء، وحفاظ القرآن والفضلاء، وأهل الحرف والصناعات، والعبيد والنساء والصبيان والبنات، ما لا يسعه الضبط. ولما رحل تيمور عن دمشق، وقد أصبحت أطلالاً لا مال ولا رجال ولا مساكن ولا حيوان، صار من بقي فيها من عسكر السلطان ومن أهلها يجتمعون ويترافقون، ويخرجون من دمشق إلى الديار المصرية فيخرج عليهم العربان والعشير، وينهبون ما معهم ويعرونهم ولم يتركوا لهم غير اللباس في وسطهم، فجرى عليهم من العربان والعشير ما لم يجر عليهم من عسكر تيمور، فذهبت حرمة المملكة ولم يبق للسلطان قيمة ولا للترك حرمة، فعزم السلطان الناصر على العود إلى دمشق، ثم بلغه أن تيمور رحل عن دمشق وهو مريض فعدل عن حملته، وأرسل تيمور إلى صاحب مصر سودون نقيب قلعة دمشق يعتذر له مما قد جرى، ويطلب قريبه الذي كان أسر في أيام الظاهر برقوق، وأنه إذا أطلقه يطلق ما عنده من الأسرى، فأطلقه وكساه السلطان وأحسن إليه، فلما وصلوا إلى تيمور أكرمهم وقبل مراسيم السلطان وتفارش وبكى واعتذر مما وقر منه وقال هذا كان مقدراً. رحل تيمور عن دمشق ولم يتعدها إلى فلسطين، وكان علماء القدس انتدبوا رجلاً وجهزوه بمفاتيح الصخرة إلى تيمور لما بلغهم أخذه دمشق فلما كان بالطريق بلغه رجوعه فرجع. وكانت أكثر المدن الصغرى في أواسط الشام قد خضعت وصافت بحكم الطبيعة ومنها طرابلس أحضر له منها مال وقد اجتاح بعلبك ونهبها، ولما وصل الجبول في عودته لم يدخلها وأمر بتخريبها وإحراقها، وحرق حلب مرة ثانية وهدم أبراج القلعة وأسوار المدينة والمساجد والجوامع والمدارس، وقتل وأسر كل من وجدهم في طريقه، وأخذ من كان في قلعة حلب من المعتقلين خلا القضاة فأطلق موسى الأنصاري وعمر بن العديم وجماعة معهما، وأخذ بقيتهم فمنهم من هرب من الطريق، ومنهم من وصل معه. قفل تيمور راجعاً بعد أن أذاق الشام كأس الذل والحمام، وربما إذا جمعت جملة تخريباته لا يتأتى وقوع مثلها في مئات من الأعوام عملها بجيشه الجرار في عشرات من الأيام وقال: إن ما فعله كان مقدراً فكأنه شعر بعظم تبعته على عادة الفاتحين السفاكين، بيد أنه كان مغرى

بغزو المسلمين والتخلي عن غيرهم، صنع ذلك في الروم والهند وغيرهما، ولكن ما فعله لم يكن كله عن غير علم بل أخذ بما يؤخذ به كل من تفانى في الوصول إلى غرض، ويستحيل بعد أن فتحت عليه الأقاليم وفتح ثلث آسيا تقريباً بالقهر والسيف وجعل جيشه مؤلفاً كالجيش العثماني من جميع العناصر التي كانت تحت حكمه أن لا يكون على شيء من العلم وبعد النظر. وكان يصحب معه في رحلاته زمرة من العلماء المحققين. ولو قدّر للدولة أن يكون فيها سلطان يحسن الانتفاع بالقوة، ويحالف ابن عثمان صاحب الروم وغيره من أمراء الشرق الذين فاوضوا ملك مصر والشام في أمر تيمور قبل انهيال جمهرة جيوشه على ديارهم ونظموا قواهم واستعملوا اللين تارة والشدة أخرى، ولم يفتحوا للفاتح العظيم باباً من أبواب الحجج التي يحجهم بها في عرف السياسة والفتح، لأمنت هذه الديار عادية تيمور أو لكان اكتفى بمعاهدة تضمن له بعض الغرامات فرحل بسلام، لأن تيمور يعرف بأن مملكته أوسع مجالاً يتيسر بقاؤها لآله لقربها من مهد عصبيته ودار ملكه. بيد أنه لم يكن في مصر ولا الشام على ذاك العهد رجل سياسي بعيد النظر والغور في السياسة كالظاهر برقوق والظاهر بيبرس مثلاً فكان ما كان لأن الديار أصبحت بلا راع يرعاها، وغدا الحكم لمماليك الطبقة الثانية من عماله، ولمن يتحمسون لأول وهلة ثم يقودون أمتهم بجهلهم إلى الخراب، والغالب أن السبب في رجوع تيمور انتشار الجراد حتى أكل الناس أولادهم فأصبح من المتعذر عليه بعد ذلك تموين جيشه العظيم، وبهذا الرأي قال ابن حجر فذكر أن رحيل تيمور إنما كان لضيق العيش على من معه فخشي أن يهلكوا جوعاً. وقيل: إن تيمور أراد أن يفتح مصر فأرسل جماعة من قواده يكشفون له الطرق فلما عادوا قصوا عليه ما رأوه وهو ساكت حتى أتوا على حديثهم فقال لهم: إن مصر لا تفتح من البر تحتاج إلى أسطول لتفتح من البحر ولذلك صرف النظر عن فتحها، وهكذا نجت مدن الجنوب في الشام من تخريبه وكذلك مصر وما إليها من بلاد إفريقية وسلمت الدولة الشركسية.

عهد المماليك الأخير

عهد المماليك الأخير من سنة 803 إلى 922 البلاد بعد الفتنة التيمورية ومخامرة العمال: خرجت حلب وحماة ودمشق خصوصاً من بين مدن الشام بعد فتنة تيمور كالهيكل من العظم لا لحم ولا دم، وأصيبت بنقص في الأنفس وخراب في العمران، يبكي لها كل من عرف ما كانت عليه من السعادة قبل تلك الحقبة المشؤومة، ولم يقيض للقطر سلطان عاقل قوي يداوي جراحاتها وينهض بها نهضة تنسيها آلامها. ولما رحل تيمور عن دمشق نصب صاحب مصر المقر السيفي تغري بردي في نيابة دمشق ورسم له أن يخرج إلى الشام من يومه ليعمر ما أفسده تيمور في دمشق، ونصب نواباً آخرين على نيابات الشام ممن كانوا في أسر تيمور فأطلقهم، مثل نواب الكرك وطرابلس وحماة وبعلبك وصفد وغيرهم، وأمرهم أن يعمروا البلاد المخربة، وهيهات أن يعمر في قرن ما خربه تيمور في ثلاثة أشهر. وبعد حين رجم أهل دمشق 804 نائب الشام تغري بردي وأرادوا قتله فهرب إلى نائب حلب، فلما بلغ سلطان مصر ذلك أرسل تقليداً إلى أقبغا الجمالي بنيابة الشام. وخامر أمير غزة وخرج عن الطاعة واسمه صرق، فقتل في المعركة، وخرج أيضاً عن طاعة نائب طرابلس شيخ المحمودي. وخرج دمرداش نائب حلب إلى الأمير دقماق المحمدي الذي خلفه في نيابتها وأوقع معه واقعة قوية فانكسر دمرداش. وفي سنة 806 نازل الفرنج طرابلس فأقاموا عليها ثلاثة أيام فبلغ ذلك نائب الشام فنهض إليهم مسرعاً فانهزموا فأوقع بهم وكان ذلك مبدأ سعادته.

ثم توجه الفرنج إلى بيروت وكانوا في نحو من أربعين مركباً فواقعهم دمرداش ومن معه من الجند والمطوعة وقتل بعض الناس من الفريقين وجرح الكثير، وكان نائب الشام ببعلبك فجاءه الخبر فتوجه من وقته وأرسل إلى العسكر يستنجد به ومضى على طريق صعبة إلى أن وصل إلى طرابلس ثم توجه من فوره إلى بيروت فوجدهم قد نهبوا ما فيها وأحرقوها وكان أهلها قد هربوا إلى الجبال إلا المقاتلة منهم، فوقع بين الفريقين مقتلة عظيمة فأمر النائب بإحراق قتلى الفرنج، ثم توجه إلى صيدا ومعه العساكر فوجدهم في القتال مع أهلها ولم يتقدمه أحد بل كان معه عشرة أنفس، فحمل على الفرنج فكسرهم وفروا في مراكبهم راجعين إلى ناحية بيروت ثم نزلوا لأخذ الماء فتبعهم بعض أصحاب النائب فغلبوه على الماء وأخذوا حاجتهم وتوجهوا إلى جهة طرابلس. ودامت الفوضى في القطر حتى خامر النواب إلا قليلاً في الشام 806 وأصبح الناس فرقتين فرقة مع الملك الناصر وفرقة عليه إلى أن خلع سنة 808 وفي سنة 806 أوقع نائب الشام بعرب آل فضل وكان كبيرهم علي بن فضل قد قسم الشام سنة ثلاث وثماني مائة فطمع أن يفعل ذلك هذه السنة، فقبض عليه النائب ونهب بيوته، ووقع بين نعير أمير عرب آل فضل وبين حجا بن سالم الدوكاري وقعة عظيمة قتل فيها ابن سالم وانكسر عسكره وغلب نعير وأرسل برأس ابن سالم إلى القاهرة. وكان عسكر ابن سالم طاف في أعمال حلب كعزاز وغيرها وأفسد فيها الفساد الفاحش، وكان وقع بينه وبين نعير قتال بين جعبر وابلستين واستمرا أياماً إلى أن قتل ابن سالم. وقع بين دمرداش والتركمان وقعة عظيمة فانكسر دمرداش. وفي أيام الناصر فرج نصب نوروز الحافظي على دمشق وجكم العوضي نائباً على حلب، فلما توجها إلى عملهما أظهر كل منهما العصيان والمخامرة على السلطان فتسلطن جكم العوضي بحلب وقبل الأمراء الأرض بين يديه وتلقب بالملك العادل ووضع يده على البلاد الحلبية وكتب إلى نواب الشامات فأطاعوه إلا القليل منهم، وأخرج أوقاف الناس وجعلها إقطاعات وفرقها مثالات على عسكر حلب وصار يحكم من الشام الى الفرات فانتزعت يد الناصر من الديار الشامية والحلبية وصار حكمه لا يجاوز غزة.

وقائع التركمان مع الناشزين على السلطان:

وفارق جكم حلب 807 فثار بها عدة من أمرائها ورفعوا لواء السلطان بالقلعة فاجتمع إليهم العسكر وتحالفوا على طاعة السلطان، وقام بتدبير أمور حلب الأمير يونس الحافظي وامتدت أيدي عرب ابن نعير والتركمان إلى معاملة حلب فقسموها ولم يدعوا لأحد من الأمراء والأجناد شيئاً. ومدحه المؤرخون بأنه كان يتحرى العدل ويحب الإنصاف، ولا يتمكن أحد معه من الفساد. وفي سنة 807 حاصر دمرداش نائب حلب إنطاكية وبها فارس ابن صاحب الباز التركماني فأقام مدة ولم يظفر بها بطائل وكان جكم مع فارس فتوجه جكم بعده إلى طرابلس فغلب عليها ثم توجه إلى حلب فنازلها وبها دمرداش فالتقيا وجرى بينهما قتال فانكسر دمرداش وخرج من حلب فركب البحر إلى القاهرة. وملكها جكم ثانية ثم خرج إلى جهة البيرة وغزا التركمان وأسر منهم جماً كبيراً. والتف نوروز الحافظي على شيخ المحمودي نائب طرابلس وأظهرا العصيان والتف عليهما جماعة من النواب وصاروا يأكلون الأقاليم الشامية والحلبية من غزة إلى الفرات وليس بيد الملك الناصر سوى مصر. وخربت صفد وأعمالها خراباً شنيعاً وذلك لأن شيخاً المحمودي ومن معه من النواب والتركمان حاصروها مدة لأن واليها بكتمر جلق لم يوافقهم على رغائبهم من جهة سلطان مصر. وخرج نعير بن مهنا الحياري البدوي 808 على أعمال دمشق فأخرج يلبغا العساكر وتواقعوا بالقرب من قرية عذراء خارج دمشق فانهزمت عساكر الشام وأمراء غرب بيروت واستولت العرب على دمشق وزادوا في الجور والضرب. واستولى التركمان على كثير من العمالات بقيادة رأسهم اياس ووصلوا إلى حماة فغلبوا عليها ثم ردوا عنها. وقائع التركمان مع الناشزين على السلطان: وفي سنة 808 كانت الوقعة العظمى بين جكم نائب حلب والتركمان ورئيسهم فارس ويدعى إياس بن صاحب الباز صاحب أنطاكية وغيرها، وكان قد غلب على أكثر الأصقاع الشمالية ودخل حماة وملكها، وعسكره يزيد على ثلاثة آلاف فارس غير الرجالة فواقعه جكم بمن معه فكسره كسرة فاحشة، وعظم قدر جكم بذلك وطار صيته، ووقع رعبه في قلوب التركمان

وغيرهم، ثم إنه واقع نعيراً ومن معه من العرب فكسره، ثم توجه جكم إلى إنطاكية وأوقع بالتركمان فسألوه الأمان وأن يمكنهم من الخروج إلى الجبال مواطنهم القديمة ويسلموا إليه جميع القلاع التي بأيديهم، فتقرر الحال على ذلك وأرسل إلى كل قلعة واحداً من جهته ودخل إلى حلب مؤيداً منصوراً، فسلم فارس بن صاحب الباز لغازي بن أوزر التركماني وكان بينهما عداوة فقتله وقتل ولده وجملة من جماعته. وكان قد استولى على معظم معاملة حلب ومعاملة طرابلس فصار في حكمه إنطاكية والقصير والشغر وبغراس وحارم وصهيون واللاذقية وجبلة وغير ذلك، فلما أحيط به تسلم جكم الكور ورجعت معاملة كل بلد على ما كانت أولاً. وبرز جكم إلى دمشق فالتقى مع ابن صاحب الباز وجمعهم من التركمان فكسرهم كسرة ثانية وضرب أعناق كثير منهم صبراً وقتل نعيراً وأرسل برأسه إلى القاهرة، واستعد نائب الشام لقتاله، ووصل دمرداش توقيع بنيابة حلب عوضاً عن جكم من القاهرة، فتجهز صحبة نائب الشام ثم وصل إليهم المعجل بن نعير طالباً ثأر أبيه وكذلك ابن صاحب الباز طالباً ثأر أبيه وأخيه، وكان معهم من العرب والتركمان خلق كثير، ووصل توقيع المعجل بن نعير بأمرة أبيه ووصل نائب الشام ومن معه إلى حمص وكاتبوا جكم في الصلح ووقعت الواقعة بينهم فانكسر عسكر دمشق، ووصل إليها شيخ ودمرداش منهزمين، وكانت الواقعة في الرستن ثم رحل نائب دمشق إلى مصر، ودخل جكم إلى عاصمة الشام وبالغ في الزجر عن الظلم، وعاقب على شرب الخمر فأفحش، حتى لم يتظاهر بها أحد، وكانت قد فشت بين الناس. ذكر هذا ابن حجر، وقال في وفيات سنة 808: إن فارساً صاحب الباز التركماني كان أبوه من أمراء التركمان فلما وقعت الفتنة اللنكية جمع ولده هذا فاستولى على إنطاكية ثم قوي أمره فاستولى على القصير ثم وقع بينه وبين دمرداش في سنة ست وثماني مائة فانكسر دمرداش، وكان جكم مع فارس ثم رجع عنه، فاستولى فارس على البلاد كلها وعظم شأنه، واستولى على صهيون وغيرها من عمل طرابلس، وصارت نواب حلب كالمحصورين معه لما استولى على أعمالهم، فلما ولي جكم ولاية حلب تجرد له وواقعه فهزمه ونهب ما معه

واستمر جكم وراءه إلى أن حاصره بإنطاكية سنة ثمان وثماني مائة، ولم تزل الحروب بينهما إلى أن طلب فارس الأمان فأمنه ونزل إليه وسلمه لغازي بن أوزر، وكان عدوه فقتله وقتل معه ابنه وجماعة منهم، واستنقذ جكم الأقاليم كلها من أيدي صاحب الباز وهي إنطاكية والقصير والشغر وحارم وغيرها وانكسرت بقتل فارس شوكة التركمان. وفي سنة 809 بعث شيخ إلى نابلس جيشاً قبضوا على عبد الرحمن ابن المهتار وأحضروه له إلى صفد فقتل بحضرته، وكان قد عصى بأخرة على الناصر، واتفق شيخ ونوروز فأرسله إلى نابلس فصادر أهلها وبالغ في ظلمهم فكانت تلك عاقبته. ووقعت وقعة بين شيخ والحمزاوي عند حلبين فقتل في المعركة أناس من الأمراء وقبض على الحمزاوي. واستولى تمربغا المشطوب على حلب وذلك أنه لما هرب من الوقعة التي كانت بين جكم وبين قرابللك جاء مع طائفة من المغل إلى جهة حلب فوجد ابن دلغادر قد جمع التركمان وحاصرها فأوقع بهم وكسرهم ودخل البلد وعصت عليه القلعة. ولما بلغهم قتل جكم سلموها فاستولى على ما بها من الحواصل وعلى ما بحلب أيضاً من الخيول والمماليك المخلفة عن جكم. ثم قدم الملك الناصر من مصر فانهزمت العرب ودخل السلطان دمشق وبنى ما كان هدم. وفي سنة 809 ثارت طائفة من المماليك ومعهم عامة حلب على شركس المصارع. وهكذا كثرت الفتن في الشام في العقد الأول من القرن التاسع وكلما قوي أمير قتل رجال الأمير الذي كان قبله، وشأن الظلم في الرعايا عجيب، والمصادرات قائمة على ساق وقدم، وبالجملة فقد كانت الدولة التي تولت أمر مصر والشام على حالة سيئة وكثير من ملوكها لم يتم لهم في الملك أشهر معدودة، وناهيك بهذا التبدل قال ابن تغري بردي: وكثرت المصادرات بدمشق وغيرها في أيام هذه الفتن 810 وأُخرجت الأوقاف عن أربابها وخربت بلاد كثيرة بمصر والشام، لكثرة التجاريد وسرعة انتقال الأمراء من إقطاع إلى إقطاع. وقال ابن حجر: وفيها كملت عبارة قلعة دمشق وكان ابتداؤها في العام الماضي وصرف على عمارتها مال كثير جداً، وظلم بسببه أكثر الخلق من الشاميين وغيرهم. وبسط نوروز يده في المصادرات بدمشق

فبالغ في ذلك حتى إن بعض التجار كانوا يترحمون على تيمور وفرض على جميع الجهات مثليها، وتناول حتى الخانات والحمامات وأرباب المعايش حتى انقطعت الأسباب وتعطلت الأرزاق. ونازل التركمان حلب 810 فحصرها علي بك بن خليل بن قراجا بن دلغادر ومعه عدة من أمراء التركمان وعدة من أمراء العرب ونازلوها أياماً وقاتلهم العوام ومن بها، وكان بها يومئذ تمربغا المشطوب فدخلوا ولم يظفروا بطائل، وكان لعلي بك ولد محبوس بقلعة حلب فصانع أهل حلب أباه بإرساله مكرماً فما أفاد ذلك وجد في الحصار ونازل المعجل بن نعير حماة وحاصرها ونهب علي بك ومن معه القرى التي حول حلب وجدوا في الحصار، وبالغ أهلها بالذب عن أنفسهم واشتدوا للقتال وهان عليهم الأمر خشية على أموالهم وحريمهم بحيث أنهم كانوا كل يوم لا يرجعون إلا وقد أنكوا في التركمان نكاية كبيرة، وأوقع نوروز بالمعجل ومن معه من العرب على حماة وكسرهم. وجرت في هذه السنة وقعة في وادي عقيبة من كروم بعلبك بين أنصار السلطان وبعض أمراء المماليك الفارين من القاهرة فكاثرهم نوروز وقتل منهم وحملت رؤوسهم إلى مصر. وتصافى شيخ ونوروز بعد الخلاف وتوجها بعسكرهما إلى أقليم ابن بشارة ونهبوه وهرب ابن بشارة. وقصد تمربغا المشطوب نائب حلب النزول على التركمان فبيتوه وكسروه ورجع منهزماً، ونهب نوروز للعرب إبلاً كثيرة فكبسوا عليها واستنقذوها وحاصر شاهين دويدار شيخ صهيون فغلب عليها فضربت البشائر بدمشق. وجاء الأمير شيخ والأمير نوروز من غزة في عساكر كثيفة 811 فلما سمع الناصر بذلك خرج هو والأمراء على الهجن فتلاقى العسكران على السعيدية وكان بينهما واقعة عظيمة فانكسر الناصر ورجع إلى القاهرة وهو مهزوم، فتبعه شيخ ونوروز ودخلا إلى القاهرة، ثم قوي حال الناصر على شيخ ونوروز فكسرهما فرجعا إلى الشام مهزومين، وقتل في هذه الحركة جماعة كثيرة من الأمراء والمماليك. وفيها تعين نوروز لنيابة الشام ثم تنحى عنها، وأرسل السلطان تقليداً إلى شيخ بنيابة الشام وتقليداً إلى دمرداش بنيابة حلب، ثم عين نوروز إلى القدس بطالاً، ثم كتب إلى دمرداش نائب حلب بالحضور إلى مصر ورسم

لشيخ بنيابة طرابلس مع نيابة حلب وخامر شيخ بعد ذلك على السلطان فجرد إليه ورجع على غير طائل. ثم إن نوروز قصد صفد ليحاصرها فقدم عليه الخبر بحركة شيخ إلى دمشق وكان قد جمع من التركمان والعرب جمعاً وسار من حلب فرجع نوروز فسبقه إلى دمشق، فتراسل شيخ ونوروز في الكف عن القتال ولم ينتظم لهما أمر، وصمم شيخ على أخذ دمشق وباتا على أن يباكرا القتال فأمر شيخ بإيقاد النيران في معسكره واستكثر من ذلك، ورحل جريدة إلى سعسع فنزلها، وأصبح نوروز فعرف برحيله وسار نوروز إلى سعسع فلقي بها شيخاً وهو في نفر قليل نحو الألف فالتقيا فانكسر نوروز ويقال: إنه كان معه أربعة آلاف نفس ولم يكن مع شيخ سوى ثلاثمائة نفس، وركب شيخ أقفيتهم ودخل دمشق ثم رحل إلى ملطية وأرسل شيخ عسكرا ورحل نوروز إلى حلب لمحاصرتها ثم لحق عسكر شيخ بالتركمان بأنطاكية وأوقعوا بهم واستنقذوها منهم. وألزم النائب أهل دمشق بعمارة مساكنهم والأوقاف التي داخل البلد وضرب فلوساً جدداً ثم نودي عليها كل مائة وأربعين بدرهم، وكتب الناصر إلى الشام بإسقاط ما على الناس من البواقي من سنة ثمان وتسعين إلى سنة اثنتي عشرة وفي السنة التالية ألزم الناس في دمشق بعمارة ما خرب من المدارس. وفيها توجه الدويدار إلى البقاع للاستعداد لبرديك لما طرق الشام، فوصلت كشافة برديك إلى عقبة سحورا ثم نزل هو شقحب، فتأهب من بالقلعة بدمشق وخرج العسكر مع سودون وحمل هو على عسكر برديك فكسرهم ثم انهزم برديك على خان ذي النون ورجع إلى صفد. واشتد الحصار على نوروز ودمرداش بحماة فقتل بينهما أكثر من كان معهما من التركمان وانضم أكثر التركمان إلى شيخ ووصل إليه المعجل بن نعير نجدة له بمن معه من العرب فخيم بظاهر حماة، فوقع القتال بين الطائفتين واشتد الخطب على النوروزية فمالوا إلى الخداع والحيلة ولم يكن لهم عادة بالقتال يوم الجمعة فبينما الشيخية مطمئنين هجم النوروزية عليهم وقت صلاة الجمعة فاقتتلوا إلى قبيل العصر فكانت الكسرة على النوروزية وتفرق أكثر العساكر عن نوروز ولحق كثير منهم بشيخ، وكتب إلى دمشق فدقت بشائره وزينوا البلد وكبس أصحاب نوروز

الملك السكير وقتله:

المعجل بن نعير ليلاً فأنجده شيخ وكتب دمرداش إلى الناصر يستنجده ويحثه على المجيء إلى الشام وإلا خرجت عنه كلها فإنه لم يبق بيده منها إلا غزة وصفد وحماة وكل من بها من جهته في أسوأ حال. قال ابن حجر في حوادث سنة 813: إنه وصل الفرنج الذين استأذنوا الناصر في العام الماضي لما دخل القدس أن يجددوا عمارة بيت لحم فوصلوا إلى يافا ومعهم عَجَل وصناع أخشاب فأخرجوا المرسوم فاستدعوا الصناع للعمل بالأجرة فأتاهم عدة وشرعوا في إزاحة ما بطرقهم من الأدغال ووسعوا الطريق بحيث تسع عشرة أفراس ولم تكن تسع غير فارس وأحضروا معهم دهناً إذا وضعوه على الصخر سهل قطعها، فلما رجع الناصر إلى دمشق عرفه نصحاؤه بسوء القالة في ذلك فكتب إلى أرغون كاشف الرملة بمنعهم من ذلك والقبض عليهم وعلى من معهم من الصناع والآلات والسلاح والجمال والدهن فختم على مخازنهم وحملهم ومعهم ما رسم به الناصر. وفي سنة 814 ارتفع الطاعون عن دمشق وما حولها وأحصي من مات من أهل دمشق خاصة فكانوا نحواً من خمسين ألفاً وخلت عدة من القرى وبقيت الزروع قائمة لا تجد من يحصدها. الملك السكير وقتله: وبقي أمر الشام متقلقلاً لأن ملك مصر على هذه الصورة من السخافة والضعف وهو شارب الليل والنهار تصدر الأعمال عنه مختلة كلها، فقطع شيخ المحمودي ونوروز الحافظي اسم الناصر من الخطبة بدمشق وأعمالها، ونفرت قلوب المماليك من الناصر وصار منهم جماعة 814 يتسحبون تحت الليل ويتوجهون إلى نوروز الحافظي وشيخ المحمودي، يأتون الشام من العقبة إلى غزة فتسحب من العسكر نحو الثلث، فقويت شوكة الحافظي والمحمودي والتف عليهما سائر النواب في الشام وغالب عسكر مصر وكثير من العشير وعربان نابلس، واجتمع عندهما من الأمراء ما يزيد على أربعة وعشرين أميراً. ولما تحقق الناصر ذلك جرد عليهم جيشاً فكانوا يتوجهون في كل يوم من بلد إلى بلد والناصر خلفهم ليلاً ونهاراً فأتعب العسكر وانقطع

منهم جماعة من شدة السوق والتعب. ووصل الناصر إلى اللجون 815 فتلاقى والنواب بعد العصر وكان الناصر قد اصطبح وهو لا يعي من شدة السكر فأراد الكبس على النواب في تلك الساعة فمنعه الأمراء فأبى، فلما رأوا ذلك تسحبوا من عنده مع عسكره فلم يبق معه إلا القليل من العسكر فكبس على النواب فانكسر الناصر وهرب بمن بقي معه من العسكر إلى نحو دمشق، واستولى شيخ ونوروز على أثقاله وخزائن المال وانتصرا عليه. فلما دخل شيخ ونوروز إلى دمشق طلعا إلى دار السعادة واجتمع هناك الأمراء وأحضروا القضاة الأربعة ورسموا بأن يكتبوا محضراً بأفعال الناصر بأنه سفاك للدماء مدمن للخمر فكتبوا محضراً بذلك وشهد فيه جماعة كثيرة من أعيان الناس، ثم خلعوا الناصر من السلطنة واشتوروا فيمن يولونه فقال نوروز لشيخ: لا أنا ولا أنت نتسلطن. ولكن اجعلوا الخليفة العباسي هذا هو السلطان، ويكون الأمير شيخ أتابك العساكر ومدبر المملكة في مصر، ويكون الأمير نوروز نائب الشام ويحكم في الديار الشامية من غزة إلى الفرات، يولي من يختار ويعزل من يختار، فتراضوا على هذا وحلف جميع الأمراء وتعاهد شيخ ونوروز ثم سلطنوا الخليفة واستمر نوروز الحافظي نائب الشام. وأما ما كان من أمر الناصر فرج بعد الكسرة التي وقعت له على اللجون فإنه ولى منهزماً إلى نحو دمشق، وأرسل إلى شيخ يطلب منه الأمان، وكان نوروز صهر الناصر زوج أخته، فلو طلب منه الأمان أولاً لما أصابه شيء ولكن قصد شيخاً فأرسل إليه من قيده وأحضره إلى السجن بقلعة دمشق، ثم إنهم أثبتوا عليه الكفر كما قيل ودخل عليه بعد أيام جماعة من الفداوية وقتلوه بالخناجر وهو بالبرج بقلعة دمشق، وألقوه على مزبلة خارج البلد وهو عريان مكشوف الرأس، ليس عليه غير اللباس في وسطه، وصار الناس يأتون إليه أفواجاً ينظرون إليه، ولو أمكن مماليك أبيه أن يحرقوه لفعلوا به ذلك مما قاسوه منه فأقام على ذلك ثلاثة أيام ثم دفنوه وكانت الدنيا على أيامه حائلة وحقوق الناس ضائعة، وقد خرب غالب البلاد الشامية في أيامه من تيمورلنك ومن عصيان النواب وخربت أوقاف الناس في الشام، وكم قتل من أبطال ويُتم من أطفال، وجرت في أيامه أمور شتى يطول شرحها قال المقريزي:

الخليفة السلطان وسلطنة شيخ:

لم تزل أيام الناصر كلها كثيرة الفتن والشرور والغلاء والوباء. طرق الشام تيمور فخربها كلها وحرقها وعمل بالقتل والنهب والأسر حتى فقد منها جميع أنواع الحيوانات وتمزق أهلها في أقطار الأرض، ثم دهمها بعد رحيله عنها جراد لم يترك بها خضراء، فاشتد الغلاء على من تراجع إليها من أهلها وشنع موتهم واستمرت بها مع ذلك الفتن. الخليفة السلطان وسلطنة شيخ: عهد الأمراء الذين قضوا على سلطان الناصر بالسلطنة إلى الخليفة العباسي وكان المسكين أشبه بعامل محترم من عمال الشراكسة لا عصبية له ولا جيش، والغالب أن العهد بالسلطنة إليه كان دسيسة سياسية من الأميرين نوروز وشيخ يوم قال الأول للثاني وهما يتفاوضان فيمن يوسدان إليه السلطنة: لا أنا ولا أنت نتسلطن فاستولى شيخ على ملك مصر بالفعل وإليه قيادة الجند، واستولى نوروز على الشام يحكم فيها حكم الملك، وبقي الأمر على ذلك إلى سنة 816 وقد بلغ نوروز الحافظي أمير الشام أن المؤيد شيخ خلع الخليفة العباسي في مصر وتسلطن عوضه، فعزّ عليه ذلك ولم يقبل الأرض للملك المؤيد شيخ وأظهر العصيان واستمر نوروز يخطب باسم الخليفة العباسي على منابر دمشق وأعمالها ولم يخطب باسم المؤيد شيخ ولا ضرب باسمه سكة، واستمر مستأثراً بملك الشام من غزة إلى الفرات. وفي سنة ست عشرة وثمانمائة ظهر الخارجي الذي أدعى أنه السفياني قال ابن العماد: وهو رجل عجلوني يسمى عثمان بن ثقالة اشتغل بالفقه قليلاً في دمشق، ثم رجع إلى الجيدور ودعا إلى نفسه فأجابه بعض الناس فأقطع الإقطاعات ونادى أن مغلّ هذه السنة مسامحة ولا يؤخذ من أهل الزراعة بعد هذه السنة التي سومح بها سوى العشر، فاجتمع عليه خلق كثير من عرب وعشير وترك، وعمل له ألوية خضراء وسار إلى وادي الياس وبث كتبه في النواحي يحث الناس على الانضمام إليه فارسهم وراجلهم مهاجرين إلى الله ورسوله ليقاتلوا في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا، فثار عليه غانم الغزاوي وجهز إليه طائفة وطرقوه بجامع عجلون فقاتلهم فقبضوا عليه وعلى ثلاثة من أصحابه

هلاك المؤيد شيخ وسلطنة ابنه في القماط:

فاعتقل الأربعة وكتب إلى المؤيد بخبره فأرسلهم إلى قلعة صرخد. وفي سنة 817 خرج المؤيد شيخ من مصر في العساكر قاصداً إلى دمشق للقضاء على نوروز. وكان قد حصن دمشق وركب على سورها المدافع من كل جانب، فحاصره المؤيد شيخ حصاراً طويلاً ونصب حول دمشق عدة مجانيق حتى غُلب نوروز وسلم نفسه إلى شيخ فقطع رأسه، وكان نوروز مهاباً شديد البأس سفاكاً للدماء، ما كان في عسكر إلا انهزم ولا ضبط أنه ظفر في وقعة قط، وهو الذي عمر قلعة دمشق بعد تيمورلنك. ومهد المؤيد شيخ الديار الشامية وعزل من عزل وولى من ولى، وخلع على قانباي المحمدي واستقر به نائب الشام وخلع على إينال الصصلاني واستقر به نائب حلب، وخلع على سودون بن عبد الرحمن واستقر به نائب طرابلس، وخلع على جاني بك البجاسي واستقر به نائب حماة، ولم يلبث هؤلاء النواب 818 أن خامروا على الملك المؤيد شيخ وخرجوا عن الطاعة، فجرد إليهم المؤيد ثانياً، وخرج إليهم بنفسه وأوقع معهم فانتصر عليهم، وقبض على قانباي المحمدي نائب الشام وقطع رأسه، ثم قبض على إينال الصصلاني وقتله على صدر أبيه ثم قتل الأب بعد ذلك، ثم ولى جماعة من الأمراء نواباً غير هؤلاء ورجع إلى الديار المصرية، فلم يقم سوى مدة يسيرة حتى خامر النواب أيضاً فجرد إليهم ثالث مرة وخرج بنفسه فلما بلغ النواب مجيئه هربوا من وجهه وتوجهوا إلى قرا يوسف أمير التركمان فنصب الملك المؤيد نواباً غيرهم ممن يثق بهم، ومهد الأقاليم الدمشقية والحلبية وقطع شأفة النواب الذين عصوا سلطانه، ومن الأحداث في هذا الدور دخول قرا يوسف التركماني من العراق إلى حلب 821 في نحو ألف فارس فجفل من كان خارج مدينة حلب بأجمعهم، واضطرب من بداخل سور حلب وألقوا بأنفسهم من السور ولم تسكن الحالة إلا بعد رحيله. هلاك المؤيد شيخ وسلطنة ابنه في القماط: هلك الملك المؤيد شيخ سنة 824 وكان ملكاً جليلاً كفؤاً للسلطنة وافر العقل مقداماً في الحرب عارفاً بمكايدها وحيلها وقت التقاء الجيوش

حتى ضرب به المثل فكان يقال: نعوذ بالله من ثبات شيخ ومن حطمة نوروز الحافظي. هذه رواية ابن إياس بيد أن المقريزي يقول: إنه حدث في أيام هذا الملك أكبر خراب مصر والشام لكثرة ما كان يثيره من الشرور والفتن أيام نيابته بطرابلس ودمشق، ثم ما أفسده في أيام ملكه من كثرة المظالم ونهب البلاد وتسليط أتباعه على الناس، يسومونهم الذلة ويأخذون ما قدروا عليه من غير وازع ولا عقل ولا ناه من دين. وتولى بعد الملك المؤيد شيخ ابنه المظفر أبو السعادات أحمد وهو في القماط فخامر نائب دمشق جقمق الأرغوني ونائب حلب يشبك المؤيدي وكذلك بقية النواب في الشام، وكان الأتابكي ألطنبغا القرشي لما توجه في العسكر المصري أوقع معهم بمن معه من الأمراء فهربوا إلى نحو صرخد، ثم إن الأتابكي ألطنبغا جمع العربان والعشير ورجع إلى دمشق وأوقع مع نائب الشام جقمق فانكسر جقمق، فملك الأتابكي دمشق وقلعتها، فلما بلغه وفاة الملك المؤيد وسلطنة ابنه أظهر العصيان وأقام بدمشق وحصنها ونصب على سورها المكاحل بالمدافع، والتف عليه العربان والعشير، وبلغ الأمراء بمصر ذلك فخلعوا على ططر واستقروا به أتابك العسكر عوضاً عن ألطنبغا القرشي. ثم اتفق الحال على أن الأتابكي ططر يأخذ السلطان معه في محفة ويتوجه هو والعسكر إلى دمشق بسبب ألطنبغا القرشي والنواب، فخرج ططر من القاهرة وصحبته المظفر أحمد في محفة والمرضعة معه، وكانت أمه خوند سعادات صحبة ابنها في المحفة لما خرج إلى الشام لتأمن عليه من القتل، فدخل المظفر إلى دمشق وألقى الرعب في قلب ألطنبغا وجقمق فحضر ألطنبغا وفي رقبته منديل فقبل الأرض قدام الملك المظفر وهو في المحفة، فلما وقعت عليه عين الأتابكي ططر قبض عليه وسجنه بقلعة دمشق، ثم قبض على جقمق وأمر بخنق جقمق وألطنبغا، ثم قبض على جماعة من النواب وقتل منهم البجاسي نائب دمشق، وقبض على أربعين أميراً من الأمراء المؤيدية وعلى جماعة من المماليك المؤيدية. ثم خلع المظفر أحمد من السلطنة وتسلطن عوضه بدمشق وخطب باسمه على المنابر وكان معه الخليفة المعتضد بالله داود، فكان مثل ططر في هذه الحيلة مثل أكثر عمال هذه السلطنة الشركسية متى اشتد ساعدهم استأثروا بالملك والسلطان.

وفاة ططر وسلطنة ابنه ثم تولي الأشرف برسباي:

وفاة ططر وسلطنة ابنه ثم تولي الأشرف برسباي: هلك ططر بعد أن ملك ثلاثة أشهر وأياماً وخلفه في السلطنة ابنه الصالح محمد وله من العمر نحو من إحدى عشرة سنة وجعل جاني بك الصوفي أتابكه ومدير مملكته، فعز ذلك على بقية الأمراء فوثب برسباي وقيده وسجنه فاجتمعت الكلمة على برسباي وصار صاحب الحل والعقد فتعصب له جماعة من الأمراء وخلعوا الصالح وسلطنوا برسباي 825 فكانت مدة سلطنة الصالح ثلاثة أشهر وأربعة عشر يوماً. وخلع برسباي على المقر السيفي جاني بك البجاسي واستقر به نائب الشام واستقامت أحواله في السلطنة. وفي سنة 836 سار الأشرف برسباي في حملة من مصر قيل أنه غرّم عليها خمسمائة ألف دينار وقصد الشام وسار منها إلى آمد فحاصرها وكانت لابن قرابلك فلم ينل منها طائلاً، فمشى بعض الأمراء بالصلح على أن لا يتعدى على بلاد السلطان فحلف صاحب آمد على ذلك. ولما عاد الجيش المصري عاد صاحبها إلى العصيان قال ابن إياس: والملك الأشرف هو آخر من جرد من الملوك وخرج بنفسه إلى البلاد الشامية. توفي الأشرف برسباي سنة 841 وقد ساس الملك ونالته السعادة ودانت له البلاد وأهلها وخدمته السعود حتى مات، وفتحت في أيامه أقاليم كثيرة استرجعت من أيدي الباغين من غير قتال، وفتحت قبرس وأسر ملكها. قال المقريزي: وكانت أيامه أيام هدوء وسكون إلا أنه كان له في الشح والبخل والطمع مع الجبن والحذر وسوء الظن ومقت الرعية وكثرة التلون وسرعة التقلب في الأمور وقلة الثبات أخبار لم نسمع بمثلها، وشمل مصر والشام في أيامه الخراب وقلت الأموال بها وافتقر الناس، وساءت سيرة الحكام والولاة مع بلوغ آماله وقهر أعاديه وقتلهم بيد غيره. وقد عقد برسباي معاهدة مع فرسان رودس وقهر صاحب مملكة ذي القدرية وكان الذي يثير عليه الفتن في الشام شاه رخ بن تيمورلنك لأن سفراءه أُهينوا في مصر كما أُهين تجاره في جدة، وأبى عليه صاحب مصر أن يكسو الكعبة المشرفة. وقال ابن إياس: إن الملك الأشرف كان منقاداً إلى الشريعة، وكانت معاملته أحسن المعاملات من أجود الذهب والفضة ولا سيما

الأشرفية البرسبيهية فإنها من خالص الذهب، وكان عنده معرفة بأحوال السلطنة كفؤاً للملك، كثير البر والصدقات، وله معروف وآثار، لكنه كان عنده طمع زائد في تحصيل الأموال محباً لجمعها من المباشرين وغيرهم قال: وكان من خيار ملوك الشراكسة. وكان تولي رجل عظيم مثل برسباي زمام السلطنة بعد سخافة فرج وأبنه الطفل وسخافة ططر وأبنه من أجمل الموافقات. لأعاد إلى السلطنة عزها الذي أولاها إياه مؤسسها برقوق. وبرسباي لا يقلّ عنه تدبيراً وحنكة وربما أمتاز عنه بأمور. الملك العزيز يوسف والملك الظاهر جقمق: تولى الملك بعد الأشرف برسباي ابنه يوسف وسمي الملك العزيز وله من العمر أربعة عشرة سنة وجعل الأتابكي جقمق العلائي نظام المملكة ثم خلع 842 وجعل جقمق سلطاناً ولم يملك العزيز سوى ثلاثة أشهر وخمسة أيام. وفي سنة 837 ندب السلطان العساكر إلى قتال الأرمن فملكوا مدينة إياس. وفي سنة 843 خرج إينال الجكمي نائب دمشق عن الطاعة وأظهر العصيان على السلطان وكذلك تغري برمش نائب حلب فعين السلطان لهما تجريدة من مصر، وخلع على المقر السيفي أقبغا التمرازي واستقر به نائب دمشق عوضاً عن إينال الجكمي، وخلع على المقر السيفي يشبك السودوني واستقر به أتابك العساكر عوضاً عن أقبغا التمرازي فأوقعا مع النائبين العاصيين وأسراهما وقطعا رأسيهما وأرسلاهما إلى القاهرة. وفي سنة 855 طرق صور زهاء عشرين مركباً للفرنج ونهبوا من بها فأدركهم ابن بشارة مقدم العشير وقاتلهم قتالاً شديداً حتى أزاحهم عن البلد بعد أن قتل من الفريقين جماعة وأمسك من الفرنج جماعة وقطع رؤوسهم. وفي سنة 856 ركب طوغان نائب الكرك بمماليكه فكبس بعض عرب الطاعة وقاتلهم حتى ظفر بجماعة منهم فأسرف في قتلهم ثم نزل بمكان هناك فكثر عليه جماعة منهم فقاتلهم ثانياً فكسروه وقتلوه أسوأ قتلة. وهدأ القطر من الفتن والتجاريد على عهد الظاهر جقمق المتوفى سنة 857 وكانت مدة سلطنته

المنصور والأشرف والمؤيد والظاهر خشقدم

بالديار المصرية والبلاد الشامية وما مع ذلك أربع عشرة سنة وعشرة أشهر وكان ملكاً جليلاً ديناً خيراً متواضعاً كريماً وفعل الخير وقد كانت علائقه حسنة مع سلطان العثمانيين وملوك آسيا الصغرى. المنصور والأشرف والمؤيد والظاهر خشقدم والظاهر بلباي والأشرف قايتباي: وخلف الظاهر جقمق المنصور فخر الدين عثمان فخلع بعد ثلاثة وأربعين يوماً وتسلطن بعده الأشرف إينال العلائي وكانت أيامه لهو وانشراح وقيل: إنه لم يسفك دماً بغير وجه شرعي فعد ذاك من النوادر وتوفي سنة 865 وخلفه المؤيد أحمد وكان حسن السياسة بصيراً بمصالح الرعية قمع مماليك أبيه عما كانوا يفعلونه من الأفعال الشنيعة إلا أن مدته لم تطل سوى أربعة أشهر وثلاثة أيام، وخلفه الظاهر خشقدم وكان أهل الدولة يريدون سلطنة جانم نائب الشام، فلما أبطأ عليهم سلطنوا الظاهر خشقدم 865 يقول ابن إياس: إن الملك الناصر أبي سيف الدين خشقدم الناصري المؤيدي هو الثامن والثلاثون من ملوك الترك وأول ملوك الروم بمصر إن لم يكن أيبك التركماني من الروم ولا لاجين من الروم فخشقدم أول ملوك الروم بمصر وأصله رومي الجنس. وسار جانم إلى مصر فأرجعه الملك الجديد إلى الشام، ولما بلغها أرسل السلطان إلى نائب قلعة الشام مراسيم بأن يقبض على جانم نائب الشام فرمى عليه بالمدافع وهو جالس في دار السعادة فهرب إلى الرها، وأستمر في هياج وعصيان وأرسل عليه سلطان مصر تجريدة بقيادة جاني بك وعين المقر السيفي تنم المؤيدي نائب الشام. وفي سنة 872 تحرك شاه سوار صاحب مملكة ذي القدرية على حلب فرسم خشقدم للأمير برديك الجمقدار نائب حلب أن يخرج إليه فخرج، ثم التف عليه وأظهر العصيان على السلطان وقصدا التوجه إلى الشام، فأرسل سلطان مصر عليهما تجريدة وانهزم الجند الذين أرسلتهم مصر لقتال شاه سوار ودخلوا حلب وهم في أسوأ حال، ثم أرسل السلطان تجريدة أخرى فهزمها سوار أيضاً، فاحتال عليهم حتى أدخلهم في مواضع ضيقة بين أشجار فخرج عليهم السواد الأعظم من التركمان بالقسي والنشاب والسيوف والأطبار فقتلوا من العسكر عدداً كبيراً

مصائب القطر الطبيعية ثم السياسية:

وقتل من مشايخ جبل نابلس وعربانه والعشير والتركمان والغلمان عدد كبير وأشرف سوار أن يأخذ حلب ثم خمدت نائرتة. توفي الظاهر خشقدم، وملكه نحو ست سنين ونصف، وخلفه الظاهر بلباي وخلع بعد سلطنة ستة وخمسين يوماً وبه زالت الدولة المؤيدية، وخلفه الأتابكي تمربغا ودامت سلطنته ثمانية وخمسين يوماً وخلفه الملك الأشرف قايتباي. مصائب القطر الطبيعية ثم السياسية: بعد أن نجت الشام من فتن التتر وتيمور خاصة، ووقائع الصليبيين وويلاتها عاودتها الأوبئة والمجاعات والزلازل فزلزلت حلب مرات سنة 806 فخرب كثير من معابدها ومساجدها وكانت كثيرة جداً، وفي سنة 820 كان بحلب غلاء عقبه طاعون مات فيه سبعون ألفاً وخلا البلد من السكان، وفي سنة 863 وقع الطاعون بحلب فأربى من هلك فيها وفي ضواحيها على مائتي ألف إنسان، وفي سنة 874 اشتد الغلاء والفناء بحلب وكانت الحال في القطر كله على ذلك فجارت عليه الطبيعة وكانت من قبل يجور عليها أمراؤها. وقال الدويهي في حوادث سنة 875: ومن أخبار هذا العصر يستدل على أنه في دولة المقدمين وأحكامهم العادلة توفرت الراحة لأهل لبنان وكثرت عندهم المدارس والكنائس. وبينا كانت الشام تدافع الخارجين على المماليك أو تشترك معهم أحياناً وقد غضب عليها جبار الأرض وجبار السماء، ظهر لها بل لدولة المماليك الشركسية في مصر والشام عدوان لدودان أو حكومتان مسلمتان نجت من شر الأولى ووقعت في شر الثانية ونعني بهما دولة حسن الطويل ودولة ابن عثمان. ودولة حسن الطويل هي المعروفة بدولة الحمل الأبيض آق قيونلي. استولى حسن الطويل على ديار بكر سنة 871 وقتل جهانشاه ومرزا حاكم دولة الحمل الأسود قره قيونلي وأبا سعيد حفيد تيمور فأصبح ملك العراقيين العربي والعجمي وفارس وكرمان، وأنشأ دولة كبرى جعل تبريز عاصمتها. أما دولة ابن عثمان في الروم أي الأناضول فقد قويت على ذاك العهد ولا سيما بعد أن غلب السلطان محمد الثاني حسناً الطويل أوزون حسن سنة 877.

في سنة 872 أرسل سلطان مصر والشام عسكراً على شاه سوار فانكسر كسرة شنيعة وقتل وجرح كثير من أمراء المماليك ونهب أثقال الأمراء والعسكر قاطبة وعاد الذي سلم إلى حلب في أسوأ حال، وقد قوي أمر سوار وتوجه إلى عينتاب وحاصر قلعتها ثم قوي عسكر سوار بما نهبه من عسكر الشام ومصر وكان جيشاً جراراً فقوي عزمه على مداهمة حلب، فجرد سلطان مصر تجريدة ثانية فكسرها عسكر سوار وفي هذه السنين كثر تبديل نواب حلب وفي شبه هذا قال ابن الوردي: هذي أمورٌ عظامٌ ... من بعضها القلب ذائب ما حال قطر يليه ... في كل شهرين نائب وفي سنة 875 تحرك حسن الطويل لأخذ الديار الحلبية وأظهر العداوة لسلطان الشام ومصر وقد طمع في عسكر مصر لما رأى من هزيمتهم وهزيمة الشاميين مرتين أمام شاه سوار، واستظهر عليهم فثار السلطان لهذا الخبر وقصد أن يخرج إلى حلب بنفسه خصوصاً لما بلغه أن سواراً استولى على سيس وقلعتها، وأرسل السلطان إلى شاه سوار الأمير يشبك الدوادار الكبير وفوض إليه أمور البلاد الشامية والحلبية وغيرها وجعل له التصرف في جميع النواب والأمراء ما خلا نائب حلب ونائب دمشق، ففلّ يشبك عسكر شاه سوار على نهر جيحان، وقتل منهم جمهور كبير، وأرسل سوار يطلب الصلح من الأمير يشبك وأن يكون نائباً عن السلطان في قلعة درنده وأنه يرسل ولده بمفاتيح القلعة فما وافق السلطان إلا أن يحضر سوار بنفسه ويقابل السلطان، ثم قبض عليه في قلعة زمنوطو وحمل إلى مصر فقتله سلطان مصر هو واخوته وأقاربه. وخمدت فتنة سوار كأنها لم تكن بعد ما ذهبت فيها أموال وأرواح وقتل جماعة كثيرة من الأمراء وكسر الأمراء ثلاث مرات ونهب بركهم، وانتهكت حرمة سلطان مصر عند ملوك الشرق وغيرهم، حتى إن الفلاحين طمعوا في الترك وتبهدلوا عندهم بسبب ما جرى عليهم من سوار، وكادت تخرج المملكة عن الشراكسة، وقد أشرف سوار على أخذ حلب وخطب له. وفي سنة 877 جمع حسن الطويل ملك العراقيين جنداً جراراً وزحف

على الشام واستولى في طريقه على كخيا وكركر فانتدب ملك مصر الأمير يشبك الدوادار لقتاله كما كان انتدب لقتال سوار في السنة الفائتة. وقبض نائب حلب 877 على بعض رجال حسن الطويل في حلب وجماعة آخرين نسبوا إلى المواطأة معه وكانوا يكاتبونه بأخبار المملكة، فأمر نائب حلب بصلبهم، وأرسل الأمير يشبك نائب حلب جيشاً إلى البيرة لقتال الطويل فخذل عسكره بعدما عدوا الفرات وطرقوا الأصقاع الحلبية من أطرافها، وتلاشى أمر حسن الطويل فأرسل يكاتب الفرنج ليعينوه على قتال عسكر مصر، وأرسل ابن عثمان ملك الترك قاصده إلى الأمير يشبك بأن يكون عوناً على قتال حسن الطويل وكان هذا استعان بالفرنج ليقاتلوا صاحب مصر والشام وصاحب الروم ابن عثمان بحراً وهو يقاتلهم براً ولكنه عاد في سنة 879 يرسل إلى سلطان مصر معتذراً عما كان منه حتى عفا السلطان عما بدر منه. وفي سنة 880 صدرت من برهان الدين النابلسي وكيل السلطان قايتباي قبائح عظيمة بأهل دمشق فرجموه ورموا عليه السهام وأحرقوا داره وأرادوا قتله، فركب نائب قلعة دمشق وتلطف بالعوام حتى سكنت هذه الفتنة قليلاً، وقد كادت أن تخرب دمشق في هذه الحركة بسبب ظلم النابلسي وكان قد طغى على الناس وتجبر. وكان النابلسي يخرب البلاد الشامية بنفسه وبولده أحمد وقد قال ابن عربشاه في كتابه إيضاح الظلم والعدوان، في تاريخ النابلسي الخارجي الخوان؛ ووصف مظالم ابنه بما تقشعر منه الأبدان: وكان طالع النابلسي أحمد الخراب، صادر أهل طرابلس وهتك ستر نائبها وصادر كثيرين في دمشق، وأراد أن يعرج على حلب فمنعه صاحبها من إتيان ما عمل في دمشق. أما ابنه فاحتكر الأقوات وطفف الكيل وغش الحبوب وأدار باسمه الطواحين والأفران وتسبب في الجزية على المدارس وأنقص معاليم الطلبة وجمع من الأموال ما لا يحصيه العد، وكثر تظلم الناس من ظلمه حتى أرسل ملك مصر قاصداً حاسبه على الأموال فظهر اختلاسه فنكل به، وأقام الناس عليه الشكاوي كما نكل بأبيه في مصر لما أتى من المساويء هناك، وقبض عليهما في وقت واحد. وذهب نائب حلب تمرباي في العسكر إلى التركمان وانكسر عسكر

وقعة مشؤومة وأحداث:

حلب كسرة عظيمة، وفيها بعث ابن حسن الطويل يستنجد بنائب حلب على أبيه فجهز نائب حلب معه جنداً فقاتلوا عسكر الطويل فانكسر عسكر حلب وقتل منهم جماعة. وفي سنة 883 خرج سيف بن نعير الغاوي وقرابته عن الطاعة فقاتله نائب حماة فكسر النائب وقتل من عسكره كثير، ثم خرج إليه نائب حلب وأوقع معه ففر منه فتبعه، وقد اضطربت أحوال حماة بسبب ذلك. مات حسن الطويل ملك العراقيين 883 وكان انقراض دولة بني أيوب على يده، وتحرش بابن عثمان ملك الروم يأخذ من ملكه شيئاً فما قدر عليه، ثم تحرش بسلطان مصر وجرى له مع الأشرف قايتباي أمور وكان الأشرف يخشى من سطوته لأنه كان ملكاً جليلاً عاقلاً سائساً كثير الحيل والخداع. وفي سنة 885 كبس عمرو بن غانم في جماعة من العرب محمد بن أيوب نائب القدس بأريحاء الغور وحصلت فتنة قتل فيها جماعة. وقعة مشؤومة وأحداث: كانت سنة 885 من أشأم السنين على دولة الأشرف قايتباي فإن يشبك الدوادار كان قد ندب أيضاً من مصر لقتال سيف أمير آل فضل، فسار ومعه جيش من مصر في صحبته نواب دمشق وحلب وطرابلس وحماة مع العسكر الشامي والمصري وغيرهم من العساكر فتوجه إلى الرها واجتمع معه نحو عشرة آلاف رجل، وكان المتولي أمر الرها شخص يقال له بابندر أحد نواب يعقوب بك بن حسن الطويل، فحصر يشبك مدينة الرها وكان يريد بعد أخذها أن يسير لفتح العراق فعاد عليه بابندر وكسر جيشه وأسره مع النواب الذين في جملته وشتت شمل جيشه وأخذ يشبك وقتله وقتل من أمراء الشام عدداً كبيراً وكذلك من العسكر حتى كانت حوافر الخيل لا تطأ إلا على جثث القتلى. قال ابن إياس: وكانت هذه الكسرة على عسكر مصر من الوقائع الغريبة وكانت مصيبة عظيمة هائلة. وكان يشبك باغياً على بابندر فإنه قصد محاربته من غير سبب ولا موجب لذلك فكان كما قيل: من لاعب الثعبان في وكره ... يوماً فلا يأمن من لسعته

أول مناوشة مع الأتراك العثمانيين:

اضطربت الشام ومصر من غزوة عسكر يعقوب بن حسن الطويل حلب ودمشق، فإن النواب قاطبة كانوا في أسره وسحق جيش سلطان مصر والشام، فأعد السلطان له جيشاً آخر قال ابن إياس: ولولا فعله ذلك لخرجت من يده غالب جهات حلب. وثار عامة حلب بمحمد بن الصرا نائب قلعة حلب بسبب مظالم أحدثها فقتلوه وقتلوا حاجب الحجاب بحلب. وفي سنة 878 وقعت فتنة بين طائفة الدارية وطائفة الأكراد بالقدس فحصل بينهما تشاجر فقتل من الفريقين ناس واستنفر كل من الطائفتين من ينتصر لها من العشير، فدخلوا المدينة ونهبوا ما فيها إلا القليل وخربت أماكن وكان الأمر عظيماً. أول مناوشة مع الأتراك العثمانيين: وفي سنة 889 قتل كثير من أمراء حلب والشام في الوقعة التي جرت بين المصريين والتركمان، وفيها خرج نائب حلب وتقاتل مع علي دولات أخي سوار وأمده ابن عثمان بجمع كثير من عساكره ووقعت بينهما وقعة انهزم فيها العسكر الحلبي وقتل نائب حلب وجماعة من العسكر الحلبي والمصري. وكانت هذه الوقعة أول فتنة تحرش فيها ابن عثمان بملك الشام ومصر. ولما حصلت هذه الكسرة لعسكر حلب ركب تمراز هو وأزدمر والعسكر المصري وتوجهوا إلى علي دولات فقاتلوه فانكسر هو وعسكره وعسكر ابن عثمان ونهبوا جميع بركهم وأخذوا سناجق ابن عثمان ودخلوا بها إلى حلب وهي منكسة واستمرت الفتن يومئذ بين السلطان وابن عثمان. وفي سنة 890 استولى جند ابن عثمان على قلعة كولك من حلب وفي السنين التالية استولى على سيس وطرسوس وغيرهما وطمع في الاستيلاء على عمالات من الشام فأخذت حكومة مصر ترسل بالتجريدة إثر التجريدة فساءت حال الشام وخربت الأصقاع الشمالية منها. ولكن الجند المصري أو جيش المماليك الشركسي وقع له مصاف سنة 891 في أرض حلب مع عسكر ابن عثمان وانتصر عليه وقتل منهم جماعة كثيرة قدروهم بأربعين ألفاً وأسر أحمد بك هرسك قائد جند ابن عثمان ومن أجل أمرائه وصفدوا عدة من أمرائه في الحديد. قال ابن طولون: إنه شاع

أن بايزيد بن عثمان أرسل إلى أهل دمشق نحو ثلاثين اتفاقية من النصارى ووضع عنهم جزية ثلاث سنين لقتال أهلها، وكل إشاعة من هذا القبيل كانت تفتح السبيل لنائب دمشق فيجمع من أهلها مالاً فإذا صحت استعان بها والغالب أنها لا تصح. وفي هذه الأثناء 892 فحش أمر خضر بك نائب القدس وتزايد ظلمه وسفكه الدماء وأخذ أموال الناس. وفي سنة 893 استقر الأمير دقماق في نظر الحرمين ونيابة القدس والخليل ببدل عشرة آلاف دينار للخزائن الشريفة غير ما تكلفه لأركان الدولة قال ابن أبي عذيبة: وكان ذلك من أقبح الأمور وأبشعها فإن ناظر الحرمين ناصر الدين بن النشاشيبي كان من أهل الخير والصلاح فأبدل بظالم فاجر. وفي سنة 893 استولى عسكر ابن عثمان على قلعة اياس من غير قتال وبعث ستين مركباً من البحر مشحونة بالسلاح والعسكر إلى جهة باب الملك ليقاطع بها على العسكر المصري فما تم له ما أراد. واستخلص جيش السلطان باب الملك من ابن عثمان فجاءت العاصفة وغرقت غالب المراكب ومن طلع إلى البر من العسكر العثماني قتله العسكر المصري. قال ابن إياس: وكانت لهم النصرة على الجنود العثمانية وكانت على غير القياس. ووقعت 893 معركة بين عسكر مصر وعسكر ابن عثمان في أطراف الولاية الحلبية قتل فيها من الفريقين ألف وانهزم العثمانيون، وشرع العسكر المصري في حصار الجند العثماني في أذنة، ودام حصارها ثلاثة أشهر قتل فيها من الفريقين خلق حتى استولى عليها عسكر المماليك، ثم رجع في السنة التالية فطمع عسكر ابن عثمان في أخذ الديار الحلبية فأرسل سلطان مصر تجريدة لحفظ مدينة حلب ثم جرد تجاريد أخرى على ابن عثمان. قال ابن إياس: وطال الأمر بين السلطان وبين ابن عثمان في أمر هذه الفتن فزحف العسكر المصري والعسكر الشامي على أطراف مملكة ابن عثمان ووصلوا إلى قيسارية وأحرقوها وفتكوا بأهلها وكذلك فعلوا في كثير من عمالاته. وفي سنة 894 كان الفناء العظيم والغلاء الشديد في الديار المصرية والشامية ومات خلق لا يحصى، واشتد ظلم نائب القدس على من اتهم بالتقصير في المهم الشريف ببلاد الروم، وقبض على بني إسماعيل مشايخ جبل نابلس، ومن الناس

وفاة الأشرف قايتباي وتولي ابنه ناصر الدين محمد:

من تسحب وقبض على من يكون منسوباً إليه من أقاربه وأصحابه وجيرانه وباع بعض بناتهم بيع الرقيق وتفاحش الأمر. وفي سنة 896 حدثت في حلب فتنة كبيرة بين نائبها وجماعة من أهلها فقتل سبعة عشر من مماليك النائب وخمسون من أهل حلب ثم أحرق جماعة من حاشية النائب بالنار، وكادت حلب أن تخرب عن آخرها فأخمد هذه الفتنة قانصوه الغوري حاجب الحجاب بحلب، وضاق الأمر بالناس لأن المماليك أو سلاطينهم كانوا كلما أرادوا إرسال تجريدة على عدو لهم يضربون الضرائب الفاحشة على الناس ويسلبون أموال التجار والمساتير. وفي سنة 897 اشتد الوباء بالقدس ودمشق وحلب وبلغ عدد الهالكين بدمشق كل يوم ثلاثة آلاف وبحلب في كل يوم ألفاً وخمسمائة وبغزة في كل يوم أربعمائة. وبالرملة مائة. وفي سنة 898 ثارت فتنة كبيرة بدمشق ورجم أهلها قانصوه اليحياوي. وفي سنة 899 تغلب العربان على الكرك والشوبك وحدثت فتن هائلة. وكان في سنة 900 وقعة بين أهل داريا وغوطة دمشق فخرج العسكر وقتل ما يربو على مائة قتيل، وتوفي نائب دمشق وخلت من الحكام وكثر النهب والفسق ووقع الاختلاف بين القيسية واليمنية، ولما بلغ السلطان قانصوه خرج بالعساكر المصرية فالتقى الجمعان عند جب يوسف فكانت الهزيمة على المصريين. وفاة الأشرف قايتباي وتولي ابنه ناصر الدين محمد: توفي الأشرف قايتباي المحمودي سنة 901 وخليفة الوقت بمصر الإمام المتوكل على الله أبو العز عبد العزيز العباسي. وكانت مدة سلطنة الأشرف بالديار المصرية والبلاد الشامية تسعاً وعشرين سنة وأربعة أشهر وأحد عشر يوماً وهو الحادي والأربعون من ملوك الترك وأولادهم في العد، والخامس عشر من ملوك الشراكسة وأولادهم بالديار المصرية، وكان كفؤا للسلطنة وافر العقل سديد الرأي، عارفاً بأحوال المملكة يضع الأشياء في محلها، ولم يكن عجولاً في الأمور، بطيء العزل لأرباب الوظائف يتروى في الأمور قبل وقوعها، وكان لا يخرج إقطاع أحد من الجند إلا بحكم وفاته، ولا من أبناء الناس المقطعين إلا

بحكم وفاته. قال ابن إياس بعد إيراد ما تقدم: ولكنه كان محباً لجمع الأموال ناظراً لما في أيدي الناس، ولولا ذلك لكان يعد من خيار ملوك الشراكسة على الإطلاق، ولكنه كان معذوراً في ذلك، تحرك عليه في أيام سلطنته شاه سوار وحسن الطويل وابن عثمان وغيرهم من ملوك الشرق وجرد عليهم تجاريد وهو ثابت على سرير ملكه ولم يتزحزح، حتى قيل ضبط ما صرفه على نفقات التجاريد التي جردها في أيام سلطنته إلى أن مات فكانت نحواً من سبعة آلاف ألف دينار وخمسة وستين ألف دينار خارجاً عما كان ينفقه عند عودهم من التجاريد. وهذا من العجائب التي لم يسمع بمثلها. وكان قايتباي أعظم ملك في المماليك البرجية وكان في الخارج أعظم ملك في الإسلام، قال فيه سوبرنهايم في معلمة الإسلام بأنه كان محتاجاً لعمارته وحملاته إلى مواد كثيرة وتحلل في المالية لم يستطع جباية الخراج إلا بالقوة، وقد انتقده المؤرخون انتقاداً شديداً ونرى أن ما عمله من الواجب عليه وأنه أمر مفهوم بذاته في مملكته ليهيئ الأسباب اللازمة للدفاع عنها، وقد أدى قلة النظام في الجباية إلى خراب مملكة المماليك من أجل هذا كان السلطان مضطراً إلى استعمال الشدة في جباية الأموال. وكان مغرماً بشراء المماليك حتى قيل لولا الطواعين التي وقعت في أيامه لكان تكامل عنده ثمانية آلاف مملوك. وكان مولعاً بالبنيان الفاخر خلف آثاراً كثيرة في أرجاء مملكته، وصادر اليهود والنصارى مرتين في أيامه، وخلفه ابنه ناصر الدين محمد، وبدأت أمارات الضعف في أعصاب المملكة لصغر سنه وكان أبوه لا يريد سلطنته بعده، ولكن عاجله النزع فعمل الأمراء من عند أنفسهم، وكان الفساد مستشرياً في مصر منذ تولي، وكثيراً ما كان السلطان يتخوف على نفسه من الأمراء فيحضر لهم المصحف العثماني ويحلفهم وقد حلفهم أربع مرات وكانت أيمانهم كاذبة فاجرة. وكان هذا الضعف ينال الشام منه قسط عظيم حتى خرب ولا سيما شماله لكثرة غارة الأعداء. قال ابن طولون في حوادث سنة 906 وقفت حال الناس وقطعت الطرق من كثرة العرب المفارجة وبني رام خارج دمشق وأطرافها وكثر الظلم والاختلاف والناس مرتقبون الفتن. وفي هذه السنة وقع قتال بين الأمير علي الشهابي في جماعة من وادي التيم ورجال الشوف وبين الأمير بكر

الملوك المتأخرون وآخرهم الغوري:

الشهابي عمه في مرج الشميسة فنال ابن الأخ من عمه وقتله بيده مع ثلاثين من أصحابه وسار إلى حاصبيا فالتقاه بقية الأهلين والأمراء وساس الرعية أحسن سياسة. الملوك المتأخرون وآخرهم الغوري: توفي الناصر محمد وكانت مدة سلطنته نحواً من سنتين وثلاثة أشهر وتسعة عشر يوماً وكانت أيامه كلها فتناً وشروراً وكان في ذاته سيئ التدبير. وتسلطن بعده الملك الظاهر قانصوه ولم تطل مدته أكثر من سنة وثمانية أشهر وثلاثة عشر يوماً، وكان ملكاً مسلوب الإرادة مع الأمراء وتسلطن بعده الأشرف جان بلاط بن يشبك وكانت مدة سلطنته ستة أشهر وسمي بالملك العادل طومان باي من قانصوه أبي النصر الأشرفي قايتباي وفي سنة 906 تولى السلطنة الأشرف قانصوه الغوري. وفي سنة 903 عصا اقبردي الدوادار وذهب إلى الشام فاستولى على غزة، ثم جاء دمشق وحاصرها فلم يقدر عليها فنهب الضياع التي حولها وخرب غالبها وحاصر حماة وأخذ منها أموالاً لها صورة وحاصر حلب شهرين وأحرق من قراها، وكان إينال السلحدار يومئذ نائب حلب وكان من عصبة أقبردي، فقصد أن يسلمه المدينة فرجمه الحلبيون وطردوه من بلدهم وحصنوها بالمدافع على الأسوار، ثم هرب أقبردي إلى علي دولات بعد أن جرد السلطان حملة عليه. وفي هذه السنة زحف ابن عثمان على الشام وأرسل إلى نائب حلب يقول له: اغزل ابن طرغل فأجابه إلى ما طلب، وكثر تبديل النواب وساءت الحال وبطلت التجارة بين مصر والشام. ولما بلغ عسكر ابن عثمان رجوع العسكر المصري طمع في أخذ الديار الحلبية فأرسل سلطان مصر تجريدة لحفظ حلب، ثم تفاوض صاحب الروم وصاحب مصر والشام في الصلح وحمل ابن عثمان إلى صاحب مصر مع قاصد مفاتيح القلاع التي كان ابن عثمان قد استولى عليها، فسلمها إلى السلطان في القاهرة. وفي سنة 904 أغار كرتباي الشركسي نائب دمشق على عرب هتيم بأرض الزرقاء وكان كرتباي على رواية الغزي حسن السيرة بالنسبة إلى غيره من الأمراء. وجرى الصلح بين الأمراء المصريين

سلطنة طومان باي:

وبين أقبردي الدوادار، وكانوا انتدبوا لقتاله فوجه عليه السلطان نيابة طرابلس بعد أن ساءت الحال بفتنته. وفي سنة 905 خرج قصروه نائب الشام عن الطاعة وأظهر العصيان واستولى على قلعة دمشق وأموالها وطرابلس وقلعتها، وكان السلطان حاول أن يولي قصروه الشام فاختفى السلطان في الفتنة وخلفه في الملك الأشرف أبو النصر جان بلاط، فلما تسلطن السلطان أرسل إلى قصروه في الشام بالبشارة فلم يزدد إلا عصياناً. وفي هذه السنة ولي نيابة الشام قانصوه المحمدي فأتى إلى البقاع فهرب منه مقدمها ابن حنش، وجرت بينهما أمور. ثم وقعت الفتنة بين أهل دمشق ونائبها فأحرق حي الشاغور وجرت بينهم غوائل ثم وقع الصلح عن يد ابن الكسيح شيخ الإسلام بدمشق. وفي سنة 907 هجم العربان على أطراف دمشق ونهبوا مغلاً كثيراً وخربت بلدان، ذكر هذا ابن طولون. سلطنة طومان باي: وانتدب السلطان أحد المقدمين إلى الكرك لقتال بني لام واجتمع السلطان بالأمراء وتشاوروا في أمر قاصروه نائب الشام فأشاروا عليه بأن يرسل قاصداً، وكان قصروه قد استولى على غزة وأعمالها والقدس وغير ذلك من النواحي، فعزم السلطان على إرسال تجريدة لنائب الشام، وكان دولات باي نائب حلب معه في شق عصا الطاعة، ولكن لم تنفع التجريدة وأعلن طومان باي سلطنته بالشام وتلقب بالملك العادل، وكان العسكر المصري نزل بسعسع بالقرب من دمشق فركب قصروه نائب الشام في نفر قليل من عسكره وأظهر أنه طائع فاطمأن له العساكر، وكان غالب الأمراء من ندمائه، ولما حضر إليهم دخل معهم إلى دمشق واجتمعوا في القصر الأبلق، ثم ثارت فتنة بالقلعة، وأمر قصروه وطومان باي بالقبض على جماعة من الأمراء وسجنهم. وحضر إلى دمشق دولات باي بن أركماس نائب حلب الشهير بأخي العادل وتعصب لطومان باي وتكلم في سلطنته فأحضر قضاة الشام وكتب

صورة محضر في خلع الأشرف جان بلاط من السلطنة وبايعوا طومان باي من غير خليفة وتلقب بالملك العادل أبي النصر وأحضر له شعار الملك فأفيض عليه. فلما تم أمره عين لأتابكية مصر قصروه نائب الشام وعين لنيابة الشام دولات باي نائب حلب وعين لنيابة حلب أركماس بن ولي الدين وهكذا عين سائر نواب الشام وخطب باسمه على منابر دمشق. ثم ذهب إلى مصر مع من أطمعهم بالمناصب من الأمراء وكان تقدم إلى من في مصر من الأمراء فخلع عليهم ونصبهم قبل حضوره وتسلطن فيها. وفي سنة 908 حدثت فتنة بالشاغور بدمشق حرقت فيها المحلة وقتل أناس وضرب النائب على أهل دمشق مالاً لأجل مشاة تخرج معه إلى حلب تجريدة لقتال الخارجي حيدر الصوفي وذلك مع وقوف حال الناس من الظلم وكثرته - قاله ابن طولون - وزاد أن ورد المرسوم الشريف من مصر بأن يرمي على كل سكرة دراهم ليستفاد بها على إزالة ضرر العرب بالحجاز قال: وهذه رمية أخرى غير الرمية التي أخذت بحجة حيدر الصوفي. وفي سنة 909 جهز ابن حنش مقدم البقاع خمسة آلاف مقاتل على عبد الساتر ابن بشارة في قرية شيحين فقتل من جماعة ابن حنش نحو مائتين. ومن الأحداث في هذه الأيام تجهيز نائب دمشق العسكر على جوان بك الفرنجي الدوادار سنة 910 إلى البقاع فقتل الدوادار عند جسر كامد اللوز وقتل معه نحو ثلاثمائة شخص وكانت الوقعة بينهم وبين فخر الدين بن معن أمير الشوف. قال ابن طولون: في حوادث هذه السنة: اتفق رأي المباشرين أن تعرض المشاة من كل حارة بدمشق وكذلك الجند إرهاباً للعدو فعرض عليهم غوغاء ميدان الحصا والقبيبات بالميدان الأخضر وازداد طغيان زعرهم أحداثهم وعلموا عجز أرباب الدولة ثم قام بالشاغور أزعرهم أبو طاقية وجمع زعر الغوغاء وما حولها من القرى وزعربقية حارات دمشق وأخذوا من أموال الناس شيئاً كثيراً وأعاره الأمير أركماس شيئاً كثيراً من آلة الحرب ثم خرجوا أطلاباً أطلاباً بترتيب يعجز عنه أرباب الدولة حتى عرضوا بالميدان الأخضر فاستقل الترك بأنفسهم ولم يعد لهم حرمة ثم ركب متسلم دمشق ودار بهم حول

القضاء على مملكة ذي القدرية وطبيعة دولتي

المدينة وبين يديه منادٍ وينادي بالأمان وترك حمل السلاح، وكثرت بعد سنة 911 الرميات والغرامات على حارات دمشق فهاج الناس وصعد أهل القبيبات إلى مئذنة الجامع الأموي وكبروا على المتسلم حتى أفرج عن المحبوسين. واشتد الجور سنة 916 في لبنان فهجر أكثر الناس مواطنهم إلى البلدان البعيدة ومن اللبنانيين من هاجر إلى قبرس، ثم عادوا منها بعد ثلاث سنين للضيق العظيم الذي حصل فيها بسبب الجراد وكثرة الضرائب التي فرضها الحكام على الرعية. القضاء على مملكة ذي القدرية وطبيعة دولتي المماليك البحرية والبرجية: وأهم ما وقع من الحوادث التي عجلت في سقوط الشام بعد ذلك في أيدي العثمانيين استيلاء السلطان سليم سنة 921 على مملكة ذي القدرية التركمانية وكانت عاصمتها مرعش تارة والبستان تارة أخرى، واستولت على بهنسي وملاطية وخربوت، قامت هذه الدولة سنة 780 وتولاها عشرة أمراء أولهم زين الدين قره جه وآخرهم علاء الدولة بن سليمان الذي قتله سنان باشا وأخاه وبعض أولاده في المعركة واستولى على ديارهم باسم سلطان العثمانيين، فبذلك سقطت الأنحاء الشمالية من الشام في يد عدوة الدولة الشركسية، وكان أمراء ذي القدرية يغزون الشام حتى استولوا على مملكة حماة فردهم الظاهر برقوق. ومنها ذهب سلطان مصر إلى دمشق سنة 922 فنثر على رأسه بعض تجار الفرنج ذهباً وفضة، وفرش برسباي تحت حافر فرسه الشقق الحرير وخرج إلى المصطبة التي يقال لها مصطبة القابون ورسم لبعض حجاب دمشق بعمارتها وأقام بها تسعة أيام. وكان ذلك الذهب المنثور شؤماً على السلطان ومملكته انتثر بعدها سلك ملكه. هذه أهم الأحداث التي حدثت قبيل دخول العثمانيين إلى الشام وخروجها من ملوك الشراكسة بعد أن ملكوها بسلطنة الأتابك برقوق 139 سنة وكان المماليك البحرية ملكوها منذ سنة 651هـ والاختلاف لا يكاد يذكر بين روح دولة المماليك البحرية ودولة الشراكسة فكلتاهما أعجميتان، ولكن القائمين بهما لا يخرجون في التخاطب والتكاتب والأصول عن اللغة العربية

والشريعة الإسلامية، وقد كان من تينك الدولتين المماليك والأتراك والشراكسة رجال عظام مثل بيبرس وقلاوون وابنه وبيبرس الجاشنكير وقايتباي وبرسباي ولكن جاء بعدهم ملوك ممخرقون وصبيان آل إليهم الأمر فأفسدوه أو من كفلوهم فلم يحسنوا كفالتهم من رجال الدولة. وقد وفقت هذه الدولة أي المماليك البحرية والبرجية لإخراج بقايا الصليبيين من الساحل فنجحت في التنكيل بهم حتى دثرت بقاياهم، ولكنها لم تقو على إنقاذ الشام من غارات التتر والمغول فقاست منهما ألوان العذاب والخراب. وكان سلطان مصر والشام متى دهم الشام مداهم يعتصم بمصر وينعم ويلذّ في قصوره، ويكتفي بإرسال تجريدة قد تكون ضعيفة، أو يصدر أمره لنائب حلب أن ينجد دمشق ولنائب دمشق أن ينجد حلب مثلاً، ولا يخرج الأعداء من هذه الديار إلا إذا أرادوا، وأتوا على الناطق والصامت وألحقوا العامر منها بالغامر، وباتت أمور السلطنة ألعوبة في كثير من الأدوار بأيدي ضعاف الأحلام من أسرة ذاك المملوك فتهيأت السبل لقيام دولة أخرى وهي الدولة العثمانية. أما قانصوه الغوري آخر ملوك الشراكسة الذين حكموا الشام، ومن حكمه انتقلت إلى العثمانيين، فلم يكن بالذي ترجح حسناته على سيئاته، بذل جهده لدفع عادية العثمانيين فلم يفلح وطال عهده نحو ست عشرة سنة فكانت أيامه فتناً وغوائل ومخاوف، حتى قضى الله في دولته بأمره، واستطال عليها سلطان أقوى. ولقد رأينا في دولة المماليك البحرية والبرجية أو التركية أو الشركسية عجائب القوة وعجائب الضعف، رأينا منهم أغلب الذي طالت أيامه يعمل كل نافع للقطرين، ورأينا الملك المأمون منهم يتولى الملك أشهراً ولا يسجل له الفوضى وسوء الإدارة، وقليل ممن لم تطل أيامهم من هؤلاء الملوك الصعاليك من جمع في نفسه أدوات السياسة والإدارة، وكان النواب في هذه الحقبة كما يفهم من ابن طولون إذا ظفر نائب دمشق أو أحد قواده ببعض الناشزين عن الطاعة من العربان تزين دمشق سبعة أيام على غلاء النفط وسوء حالة البلاد وكانت نفقة أحد النواب بدمشق أي واليها كل يوم ألف دينار. وقال في

حوادث سنة 909 أمر النائب بإنهاء النائب والنداء بصيام ثلاثة أيام والتوبة والخروج إلى الصحراء وزيارة المزارات لينقطع الوباء قال الشافعي المولوي ابن الفرفور: قد كثر الظلم فلو أبطلتموه كان حسناً. فلم يسهل على النائب ذلك وأسمعه ما يكره.

الدولة العثمانية من سنة 922هـ إلى 1000هـ

- الدولة العثمانية من سنة 922هـ إلى 1000هـ حالة الشام قبيل الفتح العثماني: كانت الشام أخت مصر في آخر الدولة الشركسية تقاسمها شقاءها شق الأبلمة، فيستبد المتغلبة من المماليك بالأحكام بحسب ضعف صاحب مصر وقوته، والصالح في نوابها وملوكها قليل. ولم يسعد القطران بعد فتنة تيمورلنك بسلطان عادل يطول عهده ليعرف مواقع الضعف فيسد خللها، ويزيح بحسن الإدارة عللها. وشغل ملوك الشراكسة بالتجاريد على حسن الطويل وشاه سوار وابن عثمان من الملوك في شمالي المملكة وشرقها يجردونها فيجردون بها الرجال والأموال، وقد خرج الناس بعد وقائع الصليبيين والمغول وما أعقبها من الأوبئة والزلازل والمجاعات أعرى من مغزل، وأزمنت الفوضى في أرجائها فساءت حالتها الاقتصادية والاجتماعية. أحي أكثر الناس بما عرض للدولة من الضعف فأخذوا يتطلعون إلى الدولة العثمانية، وكانت إلى الشام ومصر أقرب الدول الإسلامية الكبرى، هذا والدولة العثمانية إذ ذاك في إبان شبابها، وقد وقرت في النفوس منذ أسس بنيانها السلطان عثمان التركماني سنة 699 على أنقاض دولة السلجوقيين، ولا سيما بما قام به محمد الثاني فاتح القسطنطينية من الغزوات والفتوحات، وتوفق له من فتح عاصمة الروم البيزنطيين بعد أن حاول كثير من ملوك العرب وغيرهم ذلك فلم يفلحوا لبعدها عن مواطن قواتهم، ولقوة سلطان القسطنطينية في تلك العصور، والأمور مرهونة بأوقاتها.

مقاتل الغوري ومقدمات الفتح:

هذا والناس لا فرق عندهم إذا استولى عليهم الترك الأعاجم، وقد حكمهم أجناس من المماليك زمناً طويلاً ما داموا كلهم غرباء يستعبدونهم وينالهم من ضعفهم ضعف، ومن قوتهم بعض راحة وسعادة، ولا فرق في الإسلام بين عربي وأعجمي في الحقوق والواجبات، وأقصى ما يتطلبه الناس سلطان عادل عاقل في الجملة، وكانت الأمة تفنى بأسرها في سلطانها خلال القرون الوسطى. مقاتل الغوري ومقدمات الفتح: كان السلطان قانصوه الغوري آخر من ملكوا الشام من الشراكسة على شيء من الدهاء، أعدَّ للأيام عدتها وأدرك ما يحيق بمملكته من خطر ابن عثمان، ولكن ما ينفع التدبير إذا كانت المعنويات في حكومته مريضة ضئيلة، والقوى في جيشه غير موحدة، وداء الهرم قد استحكم منه ومن دولته. كان في الثمانين من عمره يوم صحت نية السلطان سليم العثماني، رجل الإرادة القوية والجيش الجرار، على أخذ الشام ومصر، والقضاء على دولة المماليك. وكان الغوري على رواية كامل باشا لا يعرف على من يعتمد عليه من رجاله وأمرائه غريب الأطوار في ذاته، فكان ذلك من دواعي خروج الأمر عنه ووقوع الخلل في جيشه، وكان يعتقد بعلم الجفر، وقد ذكر أحد أدعياء هذا العلم أن الشر يأتيه من رجل يبدأ سمه بحرف السين، فصار يتطير من كل من يبدأُ اسمه بذلك الحرف، ومنهم سيباي كافل الشام. ترجم للغوري أحد من عاصروه من الفرنج بقوله: إنه من مماليك الغور في أفغانستان، كان حاجب الحجاب في حلب سنة 893هـ 1490م ورأس محكمة عسكرية ووفق إلى قمع ثورة فأبان فيها عن كفاءة، وكان وزيراً لما حنق المماليك على طومان باي واختاروه للملك، فتردد كثيراً في قبوله لأنه كان تجاوز الستين من عمره وأخذ مكوساً وضرائب من كل إنسان حتى من البوابين وضرب نقوداً زائفة أضرت بالتجارة الداخلية والخارجية، فاستلزم عمله حنق الناس وانتقاد من عاصروه فعجل بخراب المالية وذلك لوضعه رسوماً فاحشة على البضائع، وعلى البضائع التي تمر بأرضه واستعمل جزءاً من هذه الضرائب

في إقامة القلاع ولا سيما في حلب وأنشأ طرقاً وآباراً في الحجاز. وكانت المكوس التي تجبى في المواني ورسوم البضائع الصادرة من الهند إلى أوروبا من طريق مصر آتية من عدن وجدة والسويس وإسكندرية، أو من طريق الشام ذاهبة من البصرة وحلب من أهم واردات المملكة. وتفادياً من أداء هذه الرسوم الفادحة حرص البرتغاليون على أن يكشفوا طريقاً في البحر إلى الهند على يد ملاحهم فاسكو دي غاما وكتب لهم النزول إلى شاطئ الهند وبعثوا إلى أوروبا تواً بسفنهم النقالة الكبرى عن طريق رأس الرجاء الصالح، فتحاموا أداء المكوس الفاحشة التي كانت تؤخذ في المواني المصرية عن البضائع التي ينقلونها وعن نفقات النقل في البر فاستفاد البرتغاليون من ذلك، ولم يسع الغوري أن يسكت عما يلحق المسلمين من مظالم البرتغاليين فحارب الأسطول البرتقالي غير مرة في بحري الهند والأحمر ونال منهم ونالوا منه قليلاً. قال: وساءت حالة الغوري حتى لم يستطع أن يدفع رواتب المماليك في أوقاتها بحيث فقدت حكومته كل معاونة قوية، وكانت سياسته الخارجية تعسة لأنه اضطر أن يحالف عدوه اللدود إسماعيل شاه خوفاً من السلطان سليم العثماني ولم يخْفَ ذلك عن السلطان سليم عرفه بواسطة جواسيسه اه. وبينا كان قانصوه الغوري يغوص في أحلامه وأوهامه، كان سليم الأول وهو التاسع من آل عثمان الملقب بياوز أي الشديد الجبار يجيش الجيوش ويُعدّ الزحوف ويستجد السلاح، فبدأ بقتل الشيعة في تخوم الأناضول وكانوا أربعين ألفاً، ثم زحف سنة 920 على الشاه إسماعيل الصفوي صاحب شروان وأذربيجان وتبريز والعراق العجمي وفارس وكرمان وديار بكر وبغداد وباكو ودربند وخراسان وانتصر في وقعة جالديران المشهورة، وانهزم عسكر الشاه إسماعيل شر هزيمة وجرح الشاه في المعركة وفتح السلطان سليم ديار بكر والأقاليم الكردية، فهب قانصوه الغوري من مصر لإنجاده فيما قيل والأرجح أنه هبّ للدفاع عن مملكته. وكان نائب سلطان مصر على البيرة رجلاً اسمه علاء الدولة بن سليمان وهو صاحب مرعش والبستان فلما اجتاز السلطان سليم بالبيرة يريد قصد الشاه الصفوي أمر علاء الدولة أهل مرعش أن لا يبيعوا شيئاً لعسكر سليم، فهلك كثير من رجالهم ودوابهم جوعاً، فشق ذلك على

صلات العثمانيين مع المماليك ووقعة مرج دابق:

السلطان وشكا ما وقع له إلى الغوري فقال: إن علاء الدولة لم يصدر عن أمره وأنه عاصً عليه وأنه إذا قتله يكون له شاكراً، وكتب الغوري إلى علاء الدولة يحمله على متابعة عمله، فأحس سليم بأن الغوري يكيد له وزاد علاء الدولة بأن سرق بعض أحمال من ذخائر عسكر سليم، فلما عاد هذا من غزاته قتل علاء الدولة وأولاده وأرسل رؤوسهم إلى الغوري. بمعنى أن سنان باشا استولى سنة 921 باسم السلطان سليم على مملكة ذي القدرية التي كانت في مرعش والبستان وملطية وبهنسي وخربوت وما إليها، وكانت الدولة العثمانية جعلت حكومة أبناء رمضان التركمانية التي نشأت سنة 780 في جهات أذنة وطرسوس وسيس تحت ظلها، وكانت علائق أمرائها الثلاثة الأول مع دولة المماليك الشركسية أصحاب الشام ومصر مسترخية، ففتحت السبل والمنافذ إلى الشام وصارت الجيوش العثمانية تأمن على مقدمتها وعلى خط رجعتها. ولما أضعف السلطان سليم مملكة كبرى وهي مملكة الصفوي، وقضى على مملكة صغرى وهي مملكة ذي القدرية، طمحت نفسه إلى فتح الشام ومصر ونزعهما من دولة المماليك ليضمهما إلى مملكته فتدخل في طور العظمة وتكون ممالك في مملكة. وكان أبوه وجده من قبله يقاتلان بعض حاميات الشام يتعرفان بذلك مبلغ قوة المماليك، ويدفعان أمراء الأطراف أمثال أمراء ذي القدرية وغيرهم إلى مجاذبة ملوك الشراكسة حبل السلطة على التخوم. وكان أولئك الأمراء كثيراً ما يسيرون مع المماليك سيرة الصغير مع الكبير، لعلمهم بأن إثارة العثمانيين لهم على المماليك لا لخيرهم بل لينتقموا بهم ثم ينتقموا منهم ويضعفوهم ويضعفوا بهم. صلات العثمانيين مع المماليك ووقعة مرج دابق: وذكر مؤرخو الترك أن الصلات السياسية بين ملوك الشراكسة أصحاب مصر والشام وبين سلاطين آل عثمان كانت مسترخية منذ عهد محمد الفاتح، ولما سمت همة السلطان سليم إلى فتح الشام ومصر 922 أرسل جيشاً إلى ديار بكر يورّي بأنه يريد قصد إيران، ولأدنى سبب أخذ الجيش يتوجه صوب الجنوب، فبعث قانصوه الغوري بعض رجاله يتوسطه في الصلح فقتل

السلطان سليم رجال السفير وأراد أن يقتل السفير نفسه فوقع وزيره على قدميه وشفع فيه، وقال له: إن ذلك مخالف لحقوق الدول فالسفراء لا يقتلون، فاكتفى السلطان بحلق شعر السفير ولحيته، وأركبه على حمار أعرج أجرب إلى صاحبه الغوري جزاء ما قدمت يداه فيما يقال من امتهان الغوري رسل السلطان العثماني. وترددت الرسل بين السلطانين في مرج دابق أولاً، وكان ابن عثمان فوض إلى رسله أن يتظاهروا بطلب سيدهم للصلح ليثني بذلك عزم الغوري عن القتال، وقد أحضر سلطان العثمانيين فتاوي من علماء مملكته يجيزون له قتل الشاه إسماعيل الصفوي، وأرسل يقول للغوري: أنت ولدي وأسألك الدعاء لكن لا تدخل بيني وبين الصفوي - بينا الأمر على ذلك - وقد خلع الغوري على قصاد ابن عثمان الخلع السنية، وأرسل إليه ابن عثمان يطلب منه سكراً وحلوى وأرسل له منها مائة قنطار في علب كبار عدا الهدايا والتحف، هجم سلطان العثمانيين على ملك الشراكسة وكسره شر كسرة في وقعة دامت من طلوع الشمس إلى ما بعد الظهر، فقتل من عسكر ابن عثمان ومن عسكر الغوري خلق كثير، فلما تحقق الغوري أنه غُلب أصابه للحال فالج أبطل شقه وأرخى حنكه، واستعد للركوب فمشى خطوتين وانقلب عن الفرس إلى الأرض وفاضت روحه من شدة قهره، وأكثر المؤرخين على أنه لم تظهر جثته في المعركة. ويقول بعض مؤرخي الترك: إن جاويشاً من الجيش العثماني أُمر بأن يبحث عن جثة قانصوه الغوري فقطع رأسه وقدمه إلى السلطان سليم، فامتعض منه السلطان وأمر أن يُضرب عنقه لتزلفه إلى مولاه بقطع رأس الملك المقتول، ولولا أن الوزراء توسطوا له لما صرف السلطان النظر عن قتل الجاويش مكتفياً بعزله. وذكروا أن الغوري قد خانه لأول الأمر ثلاثة عشر ألفاً من جيشه، وامتنعوا عن الحرب عند الصدمة الأولى وأبوا قتال الأتراك، ومن الأمراء الذين كانوا موالسين على الغوري وضَلْعهم مع السلطان سليم خير بك نائب حلب وجان بردي الغزالي نائب حماة، فإن السلطان سليماً كان فاوضهما

قوة الغالب والمغلوب:

سراً ليوليهما الشام ومصر على ما قيل إذا ساعداه على فتح هذا القطر، فلما انهزمت ميمنة الغوري وقتل الأتابكي سودون العجمي وملك الأمراء سيباي نائب الشام، انهزم جانب كبير من العسكر وانهزم خير بك وهرب فانكسرت الميسرة وكان ابن معن وأمراء الساحل صحبة خير بك والغزالي فقال الأمير ابن معن لمن معه من رجاله وقومه: دعونا ننفرد لننظر لمن تكون النصرة فتقاتل معه. ولما اضطرمت نار الحرب فرّ الغزالي وخير بك إلى ناحية عسكر السلطان سليم بمن معهم من أمراء الديار الشامية وبقي الغوري بعسكر المصريين أي عسكر الشام والمغول عليهم من أمرائها من الشراكسة والوطنيين قد استمالهم السلطان فقاتلوا في صفوفه بدلاً من أن يقاتلوه، ونائب الشام سيباي الذي كان يتطير منه الغوري لأن اسمه يبدأ بحرف السين قد هلك دونه في المعركة يدافع عن ملك سيده لا كما كان هذا يتوهم. قوة الغالب والمغلوب: اختلف تقدير المؤرخين لقوة العثمانيين والمماليك فأغلبهم على أن ابن عثمان كان في أربعين ألف مقاتل مجهزين بمدافع حسنة، وروى نامق كمال أن العثمانيين كانوا في ثمانين ألفاً وثمانمائة مدفع، وأن الغوري كان في خمسين ألفاً لا مدافع لهم. وذكر الغزي أن الغوري أتى من حلب إلى دابق في ثلاثين ألفاً وقال ابن طولون: إن السلطان سليماً وصل إلى دمشق في عساكر عظيمة لم تر العين مثلها يقال: إن عدتها مائة ألف وثلاثون ألفاً. وذكر بعض المؤرخين أن السلطان سليماً أمر أن تعد القتلى من الفريقين في مرج دابق فكان قتلى الشراكسة ألف نفس وقتلى الروم أي الترك أربعة آلاف. وكان فقدان المدافع من جيش الغوري وخيانة ربع جيشه وعدم ثقته بأحد من دواعي القضاء عليه وعلى سلطانه، وأهم ذلك خيانة بعض قواده وامتناع الأمراء عن الدفاع في صفوفه أو يظهر لهم الغالب قويت نفس السلطان سليم بما أصاب جماعته من الانتصار الباهر، وما قتل من رجال الغوري، ثم تحول من مرج دابق ودخل حلب من غير ممانع، ونزل في الميدان الذي كان السلطان الغوري نزله، وانتشر خبر الهزيمة وقتل

دخول السلطان سليم حلب ودمشق:

الغوري في أنحاء الشام، فوثب الناس بعضهم على بعض ونهبوا الزروع وأخذوا الأموال، واضطربت العمال أيما اضطراب، ونهبت حارة السمرة بدمشق وقتلوا جماعة وأخذوا أموالهم، وكذلك فعلوا بتجار الفرنج ونهبوا أموالهم، وكانت فتنة هائلة ونهبوا بيوت أعيان دمشق من القضاة والتجار، فخرج غالب الصدور منها بسبب ذلك وبسبب فتنة ابن عثمان وفساد الأحوال بمصر والشام وتوجه أمراء الغوري وعسكره المهزوم إلى حلب، فوثب عليهم أهل حلب قاطبة، وقتلوا جماعة من العسكر ونهبوا سلاحهم وخيولهم وأثقالهم، ووضعوا أيديهم على ودائعهم التي كانت بحلب، وجرى عليهم من أهل حلب ما لم يجر عليهم من عسكر ابن عثمان كما قال ابن إياس. وكان بين أهل حلب والمماليك السلطانية إحنٌ منذ توجهوا قبل خروج السلطان من القاهرة إلى حلب فنزلوا في بيوت أهلها واغتصبوا نساءهم وأولادهم، وآذوا الحلبيين كل الإيذاء، فما صدق أهل حلب أن وقعت لهم هذه الكسرة حتى يأخذوا بثأرهم. وعلى الجملة فإن ما نال السكان أواخر حكم المماليك مما عجل بالقضاء على الدولة المالكة وفتح القلوب للسلطان سليم الأول، وخدمه كثير من أهل الشأن قبل مجيئه فكانوا يوافونه بالأخبار تترى عن مقاتل الغوري ومواطن الضعف من دولته، وقد بدءوا يتجسسون للعثمانيين منذ أواخر القرن الماضي فكان ذلك من العوامل القوية في الفتّ في عضد الجيش الشركسي وإمالة القوة إلى الجيش التركي ففتحت الشام في وقعة واحدة ولم يبك على دولة المماليك إلا من كانوا باسمها يتمتعون بالخيرات وينالون مظاهرها ويسلبون نعمة الأمة. دخول السلطان سليم حلب ودمشق: وافى السلطان سليم مدينة حلب فاستقبله أهلها بالمصاحف والأعلام يجهرون بالتسبيح والتكبير ويقرءون (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) وطلبوا منه الأمان فأمنهم وأنعم عليهم ثم أخذ يجمع مالاً من التجار سماه مال الأمان ورأى خلفاء أرباب الطرق الصوفية فسأل عنهم وهم يحملون أعلامهم ويرحلون إلى دمشق وأشار عليه خير بك بأن يقتلهم وكانوا نحو ألف نفس، واستسلم

نائب قلعة حلب فأرسل السلطان إليه شخصاً من جماعته أعور أعرج وفي يده دبوس خشب ليقول بلسان الحال إنه أخذ حلب بأضعف جنده. وطلع السلطان سليم إلى القلعة فرأى فيها ما أدهشه من مال وسلاح وتحف وكان بها على رواية ابن إياس نحو مائة ألف ألف دينار وثمانمائة ألف دينار. وقال مؤرخو الترك: إنه كان فيها مليون دوكا. ورأى السلطان سليم من أنواع الأسلحة والزينة ما جمعه الغوري من وجوه الظلم والجور والتحف التي أخرجها من الخزائن من ذخائر الملوك السالفين من عهد ملوك الترك حكام مصر والشام الأيوبيين وذلك عدا ما كان في بيوت الأمراء وغيرهم من رجال الدولة. ووجه ابن عثمان الجيش إلى مرعش ففتحها وملك معها ثلاث عشرة قلعة من مملكة الغوري وأحرز ما فيها من مال وسلاح. وذكروا أن العثمانيين عثروا في خيمة الغوري في مرج دابق على مائتي قنطار من الفضة ومائة قنطار من الذهب وفي رواية أن هذه الخزينة كان فيها ما قيمته مليون ليرة وقيل: إنه وجد في قلعة حلب ثلاثمائة ألف ثوب كامل. وأقام السلطان العثماني في حلب ثمانية عشر يوماً وبايعه أهلها بحضور واليها خير بك، وتوجه إليه أمير المؤمنين المتوكل على الله العباسي، وكان جاء مع الغوري من مصر ومعه القضاة الثلاثة فأجلس السلطان الخليفة وجلس بين يديه وخلع عليه وأنعم عليه بمال ورده إلى حلب، ووكل به أن لا يهرب أي إنه أسره بأسلوب لطيف، وصلى الجمعة في الجامع الكبير فأطلق الخطيب على السلطان العثماني لقب خادم الحرمين الشريفين فكان ذلك كما قال راسم فأل خير بأن السلطان سليماً سيكون صاحب دولة إسلامية كبرى. قال: وكان خيره باي خير بك أحد أمراء الغوري استأمن السلطان العثماني لما تقهقر جيش مصر فأنقذ نفسه. وولى السلطان على حلب قراجا باشا. وسار في جيشه إلى حماة وحمص ففتحت له أبوابهما، وبايعه أهلهما على الطاعة كما بايعه أهل طرابلس والقدس. وجاء السلطان دمشق فاستقبله أهلها ورضوا به ملكاً عليهم، فكأنه بدخوله دمشق عاج ببعض بلاده القديمة. قال ابن طولون: وفي يوم الخميس الثامن والعشرين شعبان 922 وصل متسلم ملك الروم الأتراك إلى القابون الفوقاني واسمه مصلح ميزان، ثم وجه من يكشفون له هل يسلم أهل دمشق أم يقاتلون،

مقابلة أمراء البلاد سلطانهم الجديد وتغير الأحكام:

وقد كانت اتفقت أكابرها ومشايخ الحارات على تسليمها فسلموها. وفي يوم الجمعة التاسع والعشرين منه دخل نائب دمشق الجديد من قبل ملك الروم واسمه يونس باشا، وخطب في هذا اليوم في الجامع الأموي المولوي ابن فرفور باسم ملك الروم وكذلك في سائر الجوامع، ثم تتابع دخول العسكر، وفي يوم السبت مستهل رمضان منها وصل ملك الروم إلى المصطبة السلطانية بأرض برزة في عساكر عظيمة يقال: إن عددها مائة ألف وثلاثون ألفاً وعزل عن نيابة دمشق يونس باشا وولى مكانه أحمد بن يخشي. وفي يوم الاثنين العشرين من ذي القعدة وهو خامس شهر كانون الأول ورابع الأربعينيات الشتوية سافر ملك الروم من دمشق إلى مصر لأخذها من يد الشراكسة. مقابلة أمراء البلاد سلطانهم الجديد وتغير الأحكام: قابل الأمراء السلطان سليماً ومنهم الأمير فخر الدين المعني الأول أمير الشوف فخطب أمامه بالنيابة عن أمراء البر خطبة جميلة استمالت بها قلب الفاتح، فأحسن إليه وخلع عليه وسماه سلطان البر وأفضل عليه وعلى رفاقه من الأمراء مثل الأمير جمال الدين الأرسلاني اليمني الذي جعله والياً على بلاد الغرب والأمير عساف التركماني أمير بلاد كسروان وبلاد جبيل، وأمرهم أن يحسنوا السياسة لقومهم وأن يسعوا بكل ما يؤول إلى عمران بلادهم، وقدمت إليه الناس من كل جانب إلا الأمراء التنوخيين القيسيين فإنهم لم يأتوا لأنهم كانوا من حزب الدولة الشركسية. وقال كامل باشا: أن أمير العرب ناصر الدين ابن الحنش وكان عهد إليه الدفاع عن دمشق من قبل الشراكسة قَبِل بالصلح الذي اقترحه عليه خيرباي وخضع للسلطان سليم، فنزل هذا في القصر الأبلق فجاءه محافظو قلاع سورية وأمراء العرب والدروز يعرضون الطاعة له. ويقول ابن إياس: إن الأمير ناصر الدين بن الحنش، أمير عربان حماة لما بلغه أن ابن عثمان أرسل طلائع عسكره وقد وصلت إلى القابون بالقرب من دمشق، لقيهم ابن الحنش وحصل بينه وبين عسكر ابن عثمان مقتلة عظيمة وقتل منهم جماعة وأطلق عليهم الماء من أنهر دمشق حتى صار كل من دخل في تلك المياه بفرسه يوحل فلا يقدر على الخلاص فهلك من عسكر ابن عثمان جماعة كثيرة.

السلطان في دمشق وفي الطريق لفتح مصر:

ولما استقرت الحال بالشام ضرب السلطان سليم المكوس على الناس وعلى الأحكام الشرعية فتعطلت الحدود. قال الغزي: ولما بلغ الإمام علي بن محمد المقدسي أن العثمانيين ضربوا الجزية حتى على المومسات تنخع الدم من كبده وتمنى الموت، للقهر الذي أصابه وللغيرة على دين الإسلام وتغير الأحكام وقال في دخول السلطان سليم دمشق هذه الأبيات: ليت شعري من على الشام دعا ... بدعاء خالص قد سمعا فكساه ظلمة مع وحشةٍ ... فهي تبكينا ونبكيها معا قد دعا من مسه الضر من ال ... ظلم والجور اللذين اجتمعا فعلا الحجب دعا فانبعثت ... غارة الله بما قد وقعا فأصاب الشام ما حل بها ... سنة الله التي قد أبدعا هذا ما رواه مؤرخ ذاك العصر، وربما وكان فيما بلغه مبالغة نشأت من تعصب للدولة الشركسية أو رجاء أخفق، وكان يظن أنه يتم على يد ابن عثمان من إقامة الحدود ورفع المظالم شيء كثير في مدة قصيرة، وما خلت دولة مهما بلغ من سخفها وسخف القائمين بها من أنصار لها على الحق والباطل، وكثير من الأمور إذا نظرت إليها من وجهها راقتك، وإذا ملت إلى الوجه القبيح أحصيت عليها بعض العيوب. السلطان في دمشق وفي الطريق لفتح مصر: جهز السلطان سليم جيشه في دمشق وقضى فصل الشتاء فيها يعمر بعض المباني. وقال صولاق زاده: إن السلطان سليماً كان مدة إقامته في دمشق يختلف في الأوقات الخمسة إلى الشيخ محمد بلخشي في جوار جامع بني أُمية وإن السلطان سليماً لما كان يعتقد بالاستمداد من أرواح الأنبياء العظام الطاهرة، وأرباب المقامات الشريفة لم يغفل هذا المقصد مدة إقامته في دمشق، ولما رأى قبر العارف بالله محيي الدين بن عربي قد تداعى وخربت تربته أمر بتعميره على ما يجب، وأنشأ بجواره جامعاً على أجمل طرز، وعمر زاوية بقربه، ووقف على ذلك عدة قرى ومزارع. وقال أيضاً: إن السلطان سليماً صرف الأمراء

والجند فأخذوا دستوراً إلى مواطنهم ليقضوا فيها فصل الشتاء بعد أن استراح اثني عشر يوماً في المصطبة. وذكر ابن طولون أن النائب بدمشق ابن يخشي نادى في 2 ذي الحجة 922 بالأمان والاطمئنان، وأن لا ظلم ولا عدوان، ولا يحمل أحد سلاحاً، وأن لا يتكلم أحد فيما لا يعنيه. سار السلطان عن طريق البر إلى غزة فعصت عليه ففتحها حرباً، والتقى جيش العثمانيين مع جيش المصريين في خان يونس بين غزة والعريش، فشتت الجيش العثماني الجيش المصري، ثم عصت غزة والرملة فقمع ثائر الغزاة فيها، وكانت الوقعة المهمة بين عسكر مصر وعسكر ابن عثمان على الشريعة بالقرب من بيسان اندحر فيها المصريون وقاد جندهم الغزالي. قال ابن طولون: وفي 16 ذي الحجة 922 التقى سنان باشا الوزير الأعظم لملك الروم مع جان بردي الغزالي وكسر الغزالي فدقت البشائر بقلعة دمشق وسيب بها نفط كثير ثم نادى النائب بالزينة واستمرت مدة أسبوع. ذهب السلطان سليم في جيشه إلى مصر وقتل الملك الذي كان بايع له المصريون بعد هلاك السلطان الغوري واسمه طومان باي، ففتح القطر المصري على أيسر سبب، قال ابن طولون: ولما وردت البشائر بفتح مصر زينت دمشق سبعة أيام ودارت مبشرو الأورام على بيوت الأكابر والحارات بالطبول والنايات ثم أتبعوها بزينة سبعة أيام لما ورد الخبر بأن السلطان سليماً أفنى الشراكسة. وعاد السلطان عن طريق البر إلى الشام بعد تغيبه ثمانية أشهر ودخل دمشق 11 رجب 923 وفي يوم 22 منه طلبت العساكر النزول في البيوت فهجموا على النساء وتضرر الخلق بذلك ضرراً زائداً وتحقق أن السلطان عزم على الإقامة بدمشق فغلت الأسعار وعند ذلك شرع بعمارة تربة ابن عربي وصرف عليها عشرة آلاف دينار. ومن غريب التوفيق أن السلطان سليماً كان أعد في ذهابه إلى مصر خمسين ألف جمل لحمل المياه في الصحراء التي تفصل الشام عن مصر فأمطرت السماء مطراً غزيراً أغنى جيشه من ماء الروايا، وسهل عليه قطع صحراء التيه. وبينا كان السلطان سليم سائراً إلى مصر تأخر من جماعته من في الرملة، أناساً

فشاع الخبر أن أهل المدينة قتلوهم، وبلغ ذلك السلطان فأمر بقتل أهل البلد فقتلوا عن آخرهم ولم يبق فيها ديار ولا نافخ نار. ويقول القرماني: إن السلطان أمر بقتل عامة أهل الرملة عند عودته من مصر وقد بلغه الثقات أن أهلها قتلوا من كان عندهم من العسكر المجروحين. وقال ابن إياس: إن الغزالي لما تلاقى مع سنان باشا على الشريعة أشيع في غزة أن الغزالي قد انتصر على عسكر ابن عثمان وقتل سنان باشا وعسكر ابن عثمان، فبادر على باي دوادار نائب غزة وأجناده فنهبوا وطاق العثمانيين وأحرقوا خيامهم وقتلوا ممن كان في الوطاق والمدينة من العثمانية نحو أربعمائة إنسان ما بين شيوخ وصبيان وممن كان بها مريضاً، فلما ظهر أن الكسرة على عسكر مصر وقتل من قتل من الأمراء رجع سنان باشا إلى غزة فوجد من كان بها قد قتل ونهب الوطاق، فجمع أهل غزة قاطبة وقال لهم: من فعل ذلك بنا؟ قالوا: علي باي دوادار نائب غزة، وأجناد غزة، ولم نفعل نحن شيئاً من ذلك، فأمر سنان باشا بكبس بيوت غزة فوجدوا فيها قماش العثمانية وخيولهم وخيامهم فقال لهم سنان باشا: نحن لما دخلنا غزة هل شوشنا على أحد منكم قالوا: لا. فقال لهم: كيف فعلتم بعسكرنا ذلك، فلم يأتوا بجواب ولا عذر ولا حجة فعند ذلك أمر عسكره أن يلعبوا فيهم بالسيف فقتلوا منهم كثيرين وراح الصالح بالطالح. ونصب السلطان والياً على مصر خير باي نائب حلب، ووالياً على دمشق جان بردي الغزالي نائب حماة، وأضاف إلى هذا القدس وغزة وصفد والكرك، وأما حمص وطرابلس والمدن البحرية فجعلها بأيدي عماله من الأتراك، وبقي الحال على ذلك مدة طويلة. وكانت ولاية دمشق تمتد من المعرة إلى عريش مصر على مال معين قدره مائتا ألف دينار وثلاثون ألف دينار. قال شمس الدين سامي: إن جانبردي الغزالي كان قائداً عاماً للجيش الذي أرسله طومانباي لقتال السلطان سليم فغُلب في الوقعة التي جرت في غزة وفرّ ثم رأى أن يستأمن السلطان سليماً ويخدمه، فأعانه على قهر طومانباي وفتح مصر ثم كان سبباً لقتل طومانباي. ومكافأة لخدمته نصبه السلطان والياً على دمشق، أما حلب فقد نصب عليها قره جه أحمد باشا ودام فيها والياً ثلاث عشرة سنة لغنائه وكفايته في خدمة دولته.

فتوق وغارات وتأذي السكان:

فتوق وغارات وتأذي السكان: ولما مهد السلطان سليم الديار الشامية والمصرية عصى عليه محمد بن الحنش المتغلب على صيدا والبقاعين وشيخ الأعراب 924 ثم هرب واتهم الأمير زين الدين والأمير قرقماز والأمير علم الدين سليمان أنهم من حزبه فقبض عليهم الغزالي وبعث برأس ابن الحنش ورأس ابن الحرفوش إلى السلطان سليم في حلب وأطلق سراح هؤلاء المعتقلين، وكان ابن الحنش كثير العصيان على نواب حلب وعلى سلاطين مصر. ولما ملك ابن عثمان دمشق امتنع من مقابلته، ثم اضطربت أحوال جبل نابلس وصار العربان ينهبون الضياع التي حول حاضرتها ويقتلون أهلها. وفي مدة إقامة السلطان سليم في حلب لدن عودته من فتح دمشق ومصر قتل بعض أشرار حارة بانقوسا، ولما بلغه أن الشاه إسماعيل الصفوي يريد أن يهاجم حلب أخذ يطيب خاطر الحلبيين ورفع عنهم ما كان أثقل كواهلهم به من الضرائب والمكوس وأنشأ يعنى بتحصين حلب. ومن أعمال الغزالي استيلاء العربان 925 على الحاج الشامي فخرج إليهم ومعه نائب غزة ونائب الكرك، فاقتتل مع العربان وقتل منهم جماعة وغنم أموالهم. وفي السنة التالية أتى الفرنج إلى ساحل بيروت وحاصروا من بها فكسروهم وملكوا بيروت وظلوا فيها ثلاثة أيام، فلما بلغ نائب الشام ذلك عين دواداره ومعه الجمّ الكثير من العساكر فتوجهوا إلى بيروت واقتتلوا مع الفرنج. وكان بين الفريقين واقعة قتل فيها كثير منهم وأُسر ثلاثمائة إنسان منهم وغنموا منهم أشياء كثيرة من سلاح وقماش، وقيل: أسروا جماعة من أولاد الملوك الفرنج وملكوا ثلاثة من كبار مراكبهم. ويقول ابن طولون: إنه قتل من المسلمين مائة ومن الفرنج أربعمائة جاءوا في زي الأورام وجيء برؤوس الإفرنج إلى دمشق 926.

محاسن السلطان سليم ومساويه ومهلكه:

وفي ذهاب السلطان إلى مصر وعودته إلى الشام قاسى الشاميون من اعتداء جنده كثيراً، فقطع الأجناد الأشجار ورعوا الزروع وأخرجوا أهلها من بيوتهم في كل بلد واحتلوا وتعدوا على أعراض الناس، فتضرر الناس بذلك وعرفوا أنهم أخطئوا في نفض أيديهم من أيدي الشراكسة لأول ما بدا لهم من قوة العثمانيين، وخاب رجاؤهم في أن تغيير الدول قد يكون منه رحمة، خابت الظنون لما جاء دور العمليات وغلط في الحساب من كانوا يتوقعون من الدولة الجديدة كل الخير وأن الحظ يحظهم متى خفقت أعلامها عليهم، وكانوا يرقبون طلعة العثمانيين منذ سنين رقبة هلال العيد، للاستمتاع بحكمهم الرشيد وعهدهم السعيد، ولطالما ساء فأل من يهتمون للأمر الجديد، ويفتحون له قلوبهم وصدورهم بادئ الرأي مع علمهم أحياناً بتهورهم، وأي فشل أعظم لمن كانوا يطلعون الدولة الخالفة على عورات الدولة السالفة، حباً بأن يكون لهم شيء من الراحة والهناء إذا تغيرت الدولة. محاسن السلطان سليم ومساويه ومهلكه: صرف السلطان سليم سنة وشهراً في فتح الشام ومصر وهلك بعد مغادرته القطرين بنحو ثلاث سنين 926 وقد بالغ مؤرخو الترك في وصف فضائله خصوصاً من كتبوا بلسان الرسميات. وكثيراً ما يكون في الروايات الرسمية نظر كبير إذا وضعت على محك النقد التاريخي. وكان مؤرخو العرب أقرب إلى الثقة في وصف هذا الفاتح الذي هو بلا أمراء نابغة العثمانيين أو من نوابغهم بعد محمد الفاتح. ترجمه النجم الغزي في الكواكب السائرة بقوله: كان السلطان سليم سلطاناً قهاراً، وملكاً جباراً، قوي البطش، كثير السفك، شديد التوجه إلى أهل النجدة والبأس، عظيم التجسس عن أخبار الملوك والناس، وربما غير لباسه وتجسس ليلاً ونهاراً، وكان شديد اليقظة والتحفظ، يحب مطالعة التواريخ وأخبار الملوك، وله نظم بالفارسية والرومية التركية والعربية. ومما قال ابن إياس فيه: إنه لم يجلس بقلعة الجبل بمصر على سرير الملك جلوساً عاماً، ولا رآه أحد، ولا أنصف مظلوماً من ظالم، بل كان مشغوفاً

بلذته وسكره، وإقامته في المقياس بين الصبيان المرد، ويجعل الحكم لوزرائه بما يختارونه، فكان ابن عثمان لا يظهر إلا عند سفك دماء الشراكسة، وما كان له أمان، وكلامه ناقض ومنقوض، لا يثبت على قول واحد كقول الملوك وعادتهم في أفعالهم. وقال أيضاً: إن السلطان سليماً قتل يونس باشا الصدر الأعظم وكان مقرباً جداً عنده ولكن ابن عثمان ليس له صاحب ولا صديق ولا أمان منه لأحد من وزرائه ولا من عسكره ومن طبعه الرهج الشغب والفتنة والخفة، ويحب سفك الدماء ولو كان لولده، ويقال: إنه قتل أباه واخوته، لأجل مملكة الروم، وآخر الأمر إنه قتل يونس باشا لكونه صار له عليه يد قديمة. وفي الواقع أن السلطان سليماً قتل وزيره حسن باشا في رحيله إلى مصر لأن هذا لاحظ أن في قطع الصحراء هلاك الجيش فضرب السلطان عنقه، ولما غادر السلطان مصر وألف جمل تحمل أمامه منها إلى الأستانة ما غنمه من الذهب والفضة قتل وزيره الآخر يونس باشا في صحراء قطبة والسبب في ذلك أن السلطان اقترب من الصدر الأعظم وهو سائر معه وقال له: أرأيت كيف مصر الآن وراءنا وغداً نبلغ غزة. فلم يتمالك الصدر أن أجاب السلطان: نعم ولكن أي ثمرة حصلت من هذا التعب والمشقة، إن لم يكن هلاك نصف الجيش السلطاني في الحروب ووسط الرمال، وبقيت حكومة مصر بعد هذا في أيدي الخونة. فلما قال الصدر ذلك استشاط السلطان غضباً فضرب عنق الوزير في الحال ودفن في الخان الذي كان أنشأه بين مصر والشام يونس بن عبد الله التركي الدوادار بالقرب من غزة، فدفن يونس باشا في خان سميه يونس الدوادار، وعهد السلطان بالصدارة إلى بيري باشا. وقال الشرقاوي: إن خير بك لما دفع إلى السلطان سليم مفاتيح مصر ردها عليه وولاه عليها إلى أن يموت فشاوره على أن أبناء الشراكسة يريدون الدخول في جملة الأجناد فأجازه بذلك، وشاوره في إبقاء أوقاف الشراكسة وهي نحو عشرة قراريط من أرض مصر فأجازه بإبقائها على ما كانت عليه، فتشوش وزيره وقال: فني مالنا وعساكرنا، وتبقى لهم أوقافهم يستعينون علينا بها، فقال السلطان سليم: أين الجلاد وكانت إحدى رجليه في الركاب فضرب عنق

الوزير ووضع رجله الثانية في الركاب. وقال: عاهدناهم على أنهم إن مكنونا من بلادهم أبقيناهم عليها وجعلناهم أمراءها، فهل يجوز لنا أن نخون العهد ونغدر؟ وإذا أدخلنا أبناءهم في جندنا فهم أولاد مسلمين ويغارون على ديارهم، وأما أراضيهم فأصلها ملك القائمين ومنهم من وقف معهم من قامت ذريته عليه من بعده، فهل يجوز أن ننازع الملاك في أملاكهم؟ وأنا أزلت الوزير كراهة أن يغير عليَّ اعتقادي بتكرار كلامه اه. كان القتل عند السلطان سليم أسهل أمر وألطفه، وكان شديداً جداً على وزرائه قتل منهم سبعة لأسباب تافهة. وقال القرماني: إنه خنق اخوته وغيرهم من أهل بيته وعددهم سبعة عشر نفراً وذلك حين توليه الملك وجرى عند الأتراك في حكم الأمثال قولهم: من أراد الموت فليكن وزيراً للسلطان سليم، لأن لقب وزير كان شهادة على الموت العاجل. وقال صولاق زاده: في عصر سليم كان الوزراء أبداً عرضة للتنحية ثم للقتل بعد شهر من تنصيبهم، ولذلك اعتادوا أن يحملوا معهم صكوك وصاياهم، وكلما كانوا يخرجون من مجلس السلطان يعتقدون أنهم عادوا إلى الحياة بعد الموت. وقد وصفه فوسكولو المؤرخ البندقي بأنه أقسى قلباً لا يحلم بغير الفتوح والحرب اه. ولم يكن السلطان سليم يراعي من جميع رجاله إلا المفتي الأعظم زنبيللي علي أفندي، وكان هذا قوالا بالحق وكثيراً ما كان يرده عن مظالمه، ويحول بينه وبين إزهاق النفوس بلا حق، وقد أنقذ بعمله من القتل مئات من البشر، وهذا المفتي العظيم تولى مشيخة الإسلام ستاً وعشرين سنة على عهد ثلاثة سلاطين وهم بايزيد الثاني وسليم الأول وسليمان الأول. لم يطل عهد هذا الفاتح الجبار أكثر من ثماني سنين وثمانية أشهر، ولم يعمل في الشام إلا أن أقرَّ القديم على قدمه في أُسلوب الأحكام، وغنم ما تيسر من ثروة المماليك والأغنياء، وزاد في الضرائب والمكوس، ونصب حكاماً ممن استأمنوا إليه أو خانوا الدولة الأولى وتقربوا إليه منذ دخل حلب ووضع قيد الأسر للخليفة أمير المؤمنين المتوكل على الله آخر خلفاء بني العباس بمصر، وأخذه معه لما انصرف إلى الأستانة، ثم ألقى الاختلاف بينه وبين أولاد عمه أبي بكر وأحمد. وقال ابن إياس: إن السلطان سليماً تغير خاطره على الخليفة

خارجي خان أولا وثانيا:

المتوكل على الله وأرسله إلى مكان عسر يقال له الست أبراج والمظنون أنه كان هناك آخر العهد به فقتله وأشاع بين الملإ أنه مات، ولا يستكثر ذلك من ملك قتل أباه لأجل الملك فضلاً عن اخوته وآله. ويقول نامق كمال: إن الخليفة العباسي قد تخلى لآل عثمان عن حقه في الخلافة في جامع أياصوفيا علناً. وفي رواية أن الخليفة بقي إلى زمن السلطان سليمان وأنه أطلق من سجنه ووسع عليه وقال بعضهم: إنه أذن له بالسفر إلى مصر فسافر إليها ومات بها. وروى المؤرخون أن السلطان سليماً كان يريد أن يعمل عملاً نافعاً للأمة بأسرها. كان ينوي أن يجعل اللغة العربية لغة الدولة الرسمية بدلاً من التركية فعاجلته المنية قبل إتمام هذا العمل الجليل. والغالب أنه نشأ له هذا الفكر يوم افتتح مصر والشام وخطب له في الحرمين الشريفين فسمي فاتح ممالك العرب، فرأى أن العرب في مملكته أصبحوا قوة لا يستهان بها، وأن الترك هم عنصر الدولة الأصلي لا يشق عليهم أن يستعربوا دع سائر العناصر من البشناق والأرناءوط والكرد واللاز والشركس والكرج. ولو وفق السلطان سليم إلى إنفاذ هذه الأمنية لخلصت الدولة العثمانية في القرون التالية من مشاكل عظيمة، ودخلت في جملة العرب عناصر كثيرة مهمة، ولزاد انتشار اللغة العربية فأصبحت الأستانة موطناً لها كما كانت بغداد ودمشق والقاهرة وقرطبة وغرناطة. خارجي خان أولاً وثانياً: أصبحت الشام بالفتح العثماني آمنة غزوات الشمال والشرق والجنوب، وصارت بين أملاك الدولة الفاتحة فأمنت من هذه الوجهة ولكن أصبح أعداؤها في داخلها ومن أهل دولتها. فتحت الشام ومصر في وقعتين مهمتين وما عداهما فمناوشات لا يؤبه لها. فلما رحلت القوة وخلا الجو لجان بردي الغزالي نائب دمشق حدثته نفسه بالخروج عن الطاعة وصعب على طبعه إلا أن يخون سيده الثاني كما خان سيده الأول: ومن يتعود عادة ينجذي لها ... على الكره منه والعوائد أملك ففاوض بعض أمراء لبنان والعربان فوعدوه أن يمالئوه على عمله، ودعا لنفسه بالسلطنة في دمشق وبايعه الناس على ذلك طوعاً أو كرهاً، ووافقه على

عصيانه الأعراب والمماليك ولقب نفسه بالملك الأشرف صاحب الفتوحات، وزينت له دمشق ثلاثة أيام وأوقدت له الشموع على الدكاكين، وقبل له الأمراء الأرض وقد جمع العسكر الكثير، وخطب باسمه على منابر دمشق وضربت السكة باسمه على الذهب والفضة. وأرسل إلى أمير الأمراء بمصر ليقوم معه لنزع حكم العثمانيين عن مصر والشام فنمَّ عليه للسلطان، فقام الغزالي وحده مدفوعاً بتنشيط زعانف السكان والمماليك والعربان والأكراد أتباع كل ناعق، وكثر الملتفون عليه حتى تسحب المماليك إليه من مصر وكثروا سواده. وذكروا أن من اجتمع عليه من الجند كان خمسة عشر ألفاً من المماليك والتركمان وثمانية آلاف ممن يضربون البنادق. ولما بلغ قراجه باشا والي حلب موت السلطان كان بعسكره في حيلان فرجع إلى حلب وحصنها واستخدم خلقاً كل إنسان بثلاثمائة درهم، وأنفق عليهم من مال السلطان شهرين، وأعطى الانكشارية كل واحد ألفين والاصباهية كل واحد ألفاً زيادة على الراتب، وخرج إلى قرية سرمين وقرية داريخ ونهبهما، فخرج إليه أمير شيزر من جهة الغزالي فأخذ منه جميع المكسب وغنم منه جماعة وجهز رؤوسهم إلى دمشق، ودخل نائب حلب إليها مكسوراً ووصل عسكر الغزالي إلى الأنصاري وخرج إليه عسكر حلب. فأرسلت الدولة على الغزالي فرهاد باشا في ثمانية آلاف انكشاري عدا من انضم إليه من قوى الأناضول وكان معهم ثمانية عشر مدفعاً كبيراً. سار الغزالي إلى حلب ليستولي عليها فحاصرها مدة ولم يقدر عليها لصدق أهلها في قتاله، وداهمه الجيش العثماني بما أتاه من المدد فانكسر، وجاء إلى حماة فتبعه العسكر العثماني واقتتلوا معه فهرب منهم، وقصد التوجه إلى دمشق وخرَّب في طريقه قناطر الرستن على العاصي فتبعوه فكانت بين الفريقين معركة دارت خارج دمشق قتل فيها نحو عشرة آلاف إنسان وقيل أكثر من ذلك، بينهم عربان ومماليك وجماعة من عوام دمشق وفيهم أطفال وصغار من أهل الضياع وغيرهم ممن حضر القتال. قال ابن إياس: وكانت هذه الوقعة تقرب من وقعة تيمورلنك لما ملك الشام وجرى منه ما جرى من قتل ونهب وسبي وحرق ضياع وما أبقوا في ذلك ممكناً. وليس الخبر كالعيان.

ثم نودي في دمشق بالأمان سنة 927 وقد خرب نحو ثلثها من ضياع وحارات وأسواق وبيوت، وأصاب حلب وحماة وحمص من خراب القرى وهلاك الأنفس وذهاب الأموال شيء كثير. كان الغزالي لما جاء دمشق مهزوماً من الجيش العثماني قتل خمسة آلاف انكشاري جعلهم السلطان سليم حامية عندما فتحها، وذلك مخافة أن يلتحقوا بجيش فرهاد باشا فأولم لهم وليمة وقتلهم على بكرة أبيهم شر قتلة. ثم دارت الدائرة عليه وتشتت جيشه فقتله خازن أمواله وجاء برأسه إلى القائد التركي، فذهب ودولته الموهومة لم ينل الشام منه إلا الضغط والشدة بعدها. قال المقار: إن الغزالي استولى على دمشق وطرابلس وحمص وحماة وحلب وخطب له بالجامع الأموي بأنه سلطان الحرمين الشريفين ولقب بالأشرف، وأن الدولة أرسلت عليه جيشاً من ثلاثين ألفاً وأربعة آلاف انكشاري ومعهم مائة وثمانون عربة، فالتقى عسكره وعسكرها عند قرية الدوير، وتواصل العسكر الرومي وركب السلطان من المصطبة ببقية عسكره فما كان لحظة حتى انكسر وقطع رأسه، ثم تلاحق العسكر الرومي ببقية العسكر الهاربين إلى الصالحية ونواحي دمشق وارتجف الناس رجفة عظيمة وقتل من شباب الصالحية نحو الخمسين ومن كل حارة نحو المائة وكذا من القرى، وقيل: إن عدد القتلى 7070، وهجم العسكر على الصالحية والأحياء والقرى، فكسروا الأبواب وحواصلها وبيوتها ودكاكينها وغير ذلك وآذوا النساء فضلاً عن الرجال فلم يحترموا صوفياً ولا فقهياً ولا كبيراً، وكانت النساء قد اجتمعن بجامع الحنابلة ومدرسة أبي عمر وغيرهما فهجموا عليهن وعروهن وأخذوا بعض نساء وجوارٍ وعبيد وصبيان، وجهز الباشا رأس الغزالي ومعه نحو ألف أذن من المقتولين إلى السلطان سليمان. وبعد هذه الوقعة اقتسم العثمانيون نيابات الشام فجعل إياس باشا في دمشق، وفرحات بك في طرابلس، وقره موسى في غزة. أما فرهاد باشا فاتح الشام ثانية ومنقذها من الغزالي فقد ضج الناس من شدته وبأسه وتمثيله بالبريء والمجرم على السواء.

طبيعة الدولة العثمانية:

طبيعة الدولة العثمانية: بقي أرباب المقاطعات في الدولة العثمانية كما كانوا في دولة المماليك. يضمنون الجراج مقابل أموال يتعهدون بها، ويعرقون اللحم والعظم بعد ذلك لحسابهم، مثل أمير عرب الشام مدلج بن ظاهر بن آل جبار وكانت منازل قومه في سلمية وعانة والحديثة، والأمير فخر الدين المعني الأول حاكم الشوف، وجمال الدين الأرسلاني حاكم الغرب، وبني شهاب في وادي التيم، وبني الحرفوش في بعلبك، وبني ساعد أُمراء البر وحوران وعجلون وغيرهم في غيرها، وكلهم أشبه بأمراء صغار يخضعون الخضوع التام لحكام المدن، والمقتدر منهم الذي كان على صلات حسنة مع الوالي التركي القريب من عمله، ومن يجعل له وكيلاً يرجع إليه في أعماله في دار السلطنة، وإذا غضب الوالي على الأمير المتغلب يرسل عليه جيشاً من الانكشارية كما فعل والي دمشق سنة 930 مع أمير الشوف، فيخرّب العسكر قراه ويستصفي أمواله ويأسر أهله ورجاله ويسبي نساءه، فعلوا ذلك مرات في لبنان والبقاع وبعلبك ووادي التيم وغيرها، وينشأ هذا الغضب من تأخرهم عن تأدية الجراج، أما المظالم التي تنزل بالناس فحدث ما شئت أن تحدث عنها. كان من قواعد الدولة العثمانية إذا فتحت مصراً أن تولي أمورها الكبرى لولاتها وقضاتها والصغرى لأبناء البلد المفتوح، وتلقي حبلها على غاربها لا تهتم لتنظيمها اهتمامها لفتح أراض جديدة، وإذ كان الولاة يبتاعون مناصبهم على الأغلب بالمزاد في دار الملك، كان المزايدون في الأكثر من الساقطين في أخلاقهم، لا يتأخرون عن ارتكاب كل محرم ليسلبوا الرعية ما أمكن فيملئوا خزائنهم وخزائن من حملوهم على رقاب الأمة. وساعد على إيغال العمال في الفساد قلة المواصلات، وبعد دار السلطنة عن أكثر الولايات، فبين دمشق والأستانة مثلاً 1100 كيلومتراً و 386 ساعة، وإن قدّر لأرباب الظلامات فوصلوا العاصمة رغم هذه المصاعب لبث شكواهم إلى السلطان، كان بعض أصحاب الشأن يحولون دون ذلك، فكانت الشام كله يستأثر بها والٍ أو واليان يحكمان فيها بحسب مزاجهما بدون مراقب إلا من ذمتهما، فإذا

كانا ممن تجردا منها فهناك البؤس والنحس، وضياع الحقوق وفساد النظام. قال جودت في تاريخه: إن الدولة العلية لما انتقلت من دور البداوة إلى دور الحضارة لم يتخذ رجالها الأسباب اللازمة لهذا الانتقال، وحصروا أوقاتهم في حظوظ أنفسهم وشهواتهم، يقيمون في العاصمة القصور الفخمة، ويفرشونها بأنواع الأثاث والرياش مما لا يتناسب مع راوتبهم فاضطروا إلى الارتشاء وبيع المناصب بالمال وتلزيم الأقاليم وإقطاعها بالأثمان الفاحشة، فضاق ذرع الأهلين، واضطر كثير من أهل الذمة أن يهجروا الأرض العثمانية إلى الخارج، وترك غيرهم القرى وجاء الآستانة فراراً من الظلم فلم يبق مكان في الآستانة، وتلاصقت الدور وتضايقت أنفاس الناس وكثر الحريق والأوبئة، وصعب تدارك ما يلزم هذه المدينة الضخمة من الحبوب فأصبحت الحكومة تأتي بها من القاصية، والتجارة ليست من شأن الحكومة اه. من أمثال الترك السمكة تفسد من رأسها، وحقيقة أن فساد الولايات كان ينبعث من العاصمة أيام كان يقبض فيها على زمام الأحكام غالباً جهلاء ظلام وصموا بسلب الناس بكل حيلة، حتى ينعموا بما يجمعون في قصورهم ومصايفهم على ضفاف الخليج والمضيق في فروق. وإذا صادفت العناية أن تولى الصدارة رجال عظام على شيء من حسن الإدارة وقوة الإرادة، فإن رئاسة النظار كثيراً ما تولاها في السلطنة العثمانية الندماء والسخفاء بل الطباخون والطبالون والمزينون والبساتنة وغيرهم من المقربين من نساء القصر الملوكي، أو الزنوج الخصيان الذين كانوا يولون ويعزلون كما يشاءون ويشاء ضيق عقولهم. ولا عجب في حكومة هذا شأن نصب الرئيس فيها إذا كان الوزراء والعمال على هذا النحو، فلطالما ولي المشيخة الإسلامية في الترك أغبياء أدنياء في منشئهم ومسلكهم ممن ليس لهم من العلم الديني إلا قشوره وشارة أهله وعلى نسبة وسائط بعضهم وكثرة ما يعرف من المقربين من السلاطين كان ارتقاء أحدهم إلى المناصب العليا، وهذه الطبقة لا تقرب إلا من كانوا على شاكلتها من الجهل والفساد. ومثل هؤلاء الرجال إذا كان لهم قوة يستندون

كوائن داخلية وأمراء المقاطعات:

إليها وهي جيش الانكشارية فهناك الخراب بلفظه ومعناه. فإن هذا الجيش الذي قدم للدولة لأول أمره خدمات جلى وفتحت به الفتوحات عاد فمحق باختلاله واعتدائه على الرعايا كل حسنة سلفت له. ولئن خلف السلطان سليماً ابنه السلطان سليمان القانوني وهو العاشر من ملوك آل عثمان سنة 926 وكان على جانب من العقل وحب القانون، إلا أن الشام أصبحت في أيامه الطويلة التي دامت 48 سنة في معزل لأن السلطان مشغول بفتوحاته حارب اثنتي عشرة مرة وخرج في أكثرها ظافراً، فلا يهمه كأكثر أجداده وأحفاده من كل ما يفتح إلا أن تضرب السكة وتقام الخطبة باسمه وتجبى الجبايات ولا يتأخر الولاة عن إنفاذها إلى دار الملك، فكانت الشام جزءاً صغيراً بالنسبة لضخامة ملكه، فلم ينلها منه شيء من العدل والإشراف ينسيها ما لاقته في القرن السالف من التقلقل والانحلال. وكان السلطان سليمان بطاشا كأبيه ولكن لم يشتهر شهرته، هاج مرة أهل حلب في أوائل حكمه وقتلوا في الجامع القاضي والمفتي فصدرت إرادته السنية بقتل جميع أهل حلب لولا أن كان في الصدارة إذ ذاك رجل عاقل اسمه إبراهيم باشا، فألغى هذا الأمر البربري واكتفى بقتل زعماء الثورة. وإبراهيم باشا كان على جانب من الأخلاق الحسنة والذكاء تولى الصدارة من سنة 929 - 942 أي 17 سنة وقام بإصلاحات مهمة ثم قتله السلطان وندم على قتله، ولا عجب إذا استسهل سليمان القتل فقد قتل ابنه الأكبر مصطفى وحفيده وابنه بايزيد وأولاده الخمسة على أفظع صورة. كوائن داخلية وأمراء المقاطعات: ومن الأحداث في الشام بعد فتنة الغزالي ما وقع في سنة 927 من ثورة جماعة من عربان دمشق على النائب اياس باشا، خرج إليهم فانكسر وجرح ورد إلى دمشق وهو مكسور وقتل من عساكر دمشق كثير ومن عربان نابلس أيضاً، وكانت فتنة بدمشق. وفي سنة 928 كان مقتل حسن وحسين أولاد الأمير عساف في بيروت، وذلك لما كان من الاختلاف بينهما وبين أخيهما الأمير قائد بيه على الحكم فتوسط بينهما حتى طلبا الصلح ونزلا على أخيهما قائد بيه

فغدر بهما وقتلهما فحكم قائد بيه جبل كسروان حتى مات سنة 930 وخلفه الأمير منصور ابن أخي الأمير حسن وامتد حكمه إلى عكار. وكانت طرابلس بيد النواب يستأجرها محمد أغا شعيب من أهل عرقة ويستأجر الأمير منصور جبيل والبترون وجبة بشرة والكورة والزاوية والضنية. وفي سنة 930 جهز والي دمشق خرم باشا حملة لقتال الدروز في الشوف فانتصر عليهم وأحرق قرية الباروك وثلاثاً وأربعين قرية، وأرسل إلى دمشق أربعة أحمال من رؤوسهم فعلقت على القلعة ورجع ومعه مجلدات من كتب الدروز، ثم أرسل أربعة أحمال من رؤوسهم وأحرق نحو ثلاثين قرية ونهب قرية البرج وسبى نحو 360 من النساء والأطفال وغنم ما لا يحصى من البقر والجمال والغنم وغير ذلك. وفي سنة 935 وقع قتال بين أولاد شعيب وأولاد سيفا أمير التركمان وقتل علي الشعيبي في عرقة وتولى أولاد سيفا عكار، ثم قتلوا محمد آغا شعيب حاكم طرابلس قدام القاضي فأعطاهم القاضي فتوى بأنهم أبرياء من دمه وأنه هو ألزمهم بذلك. وفي سنة 940 وقعت فتنة أهلية في العاقورة وجبة المنيطرة في لبنان نشأت من خصام بين مالك اليمني وهاشم العجمي من مشايخ العاقورة، وكثرت الدسائس بين بني الحرفوش أمراء بعلبك وآل سيفا حكام طرابلس، وأخذ أبناء العم يقتلون أولاد عمهم للاستئثار بالإمارة، وخربت بعض تلك الديار ومن القرى ما نزح سكانه عنه. قال الشهابي: وكبر قدر بني حبيش عند ابن سيفا وصاروا متصرفين في تدبير حكمه وبقيت العاقورة خراباً سبع سنين لم يقطن فيها أحد. ثم إن القيسية سكنوا في طرابلس واستحصل اليمنية أمراً من نائب دمشق ورجعوا فبنوا العاقورة ثانية وفي سنة 951 توفي الأمير فخر الدين بن عثمان بن معن الذي حكم من حدود يافا إلى طرابلس وبني بنايات وقلاعاً عظيمة واستراح الناس في حكمه وأطاعته العرب وخلفه ولده الأمير قرقماز، وبعد وفاة فخر الدين امتد حكم الأمير منصور بن عساف من نهر الكلب ببيروت إلى حدود حمص وحماة وقوي بماله ورجاله.

مهلك السلطان سليمان وتولي سليم السكير:

مهلك السلطان سليمان وتولي سليم السكّير: توفي سليمان القانوني سنة 974 ولا شأن للشام في عهده إلا أن تظهر شعورها بأخبار انتصاراته وغاراته، وفتح قلاعه ومعاقله التي كان يملأها بجند الانكشارية ولكي يكون له جيش دائم على استعداد للحرب كل ساعة كان يقتضي له من النفقات الباهظة ما تنوء به قوة الرعايا، كان أهل الإسلام يودون بعد تكبير رقعة الملك في آسيا أن تصح إرادة الدولة على فتح فارس وقد بدت أمارات الهرم فيها فتتصل بالهند، وذلك خير من أن تفتح المجر وتحارب إمبراطور ألمانيا وتؤلب عليها دول أوربا. ذكر ضياء باشا أن الأتراك بددوا شملهم في الحروب والقلاع والأرجاء البعيدة وجعلوا أنفسهم في أوربا وراء سور من المرابطين يقلي علمهم وتربيتهم يوماً فيوماً، وفيه أمم من الخرواتيين والبلغار والروم لم تختر ملة الإسلام، وفي آسيا العرب والأكراد والزيدية والشيعة نشئوا وكبروا ببذر الفساد الذي بذره الشاه إسماعيل، فكان الأولون خصماء للإسلام والآخرون خصوم الأتراك، كانت مناداتهم بنصر السلطان من الألسن لا من القلوب اه. خلف السلطان سليمان ابنه سليم الثاني، وهذا لم يذكر اسمه في الشام إلا على منابرها فقط لأنه كان شريباً خميراً حتى لقب بسليم السكير وله من أعمال الخلاعة ما يخجل منه، ولم يخرج من الآستانة للغزاة، وهو أول ملك من آل عثمان تخلى عن الحراب بنفسه، ومات على سريره في قصره، على حين كان أجداده يموتون في الحرب وفي طريق الغزو والفتح. وفي أيام سليم الثاني فتحت قبرس وكانت للبنادقة وهلك وأسر من أهلها نحو ثلاثمائة ألف إنسان في بعض الروايات. هلك سليم الثاني سنة 982 بعد أن حكم ثماني سنين وستة أشهر وخنقوا أولاده الخمسة يوم دفنه على ما جرت بذلك عوائدهم القبيحة. وفي أيامه جاء أمثال محمد الباشا الصقللي من الصدور العظام، الذي تدارك بعمله الدولة من السقوط بما قام به من الإصلاحات، وأهمها إثخانه في العصاة وأرباب الدعارة، وجاء غيره من الرجال الذين يعدهم الأتراك من العظام. ولكن الشام لم تر

عهد السلطان مراد الثالث وحملات على أرباب

طلعة هذا الملك كما أنها لم تشهد من والده من قبل شيئا من خطط الإصلاح ولا من القوانين النافعة، ولا شاهدتهم أو وكلاءهم يشرفون على الشام ليرفعوا الضيم عن أهله، وفي عهده 980 وزع القشلق أي العساكر المشتية على الشام ونهب عسكر الدولة لبنان وما إليه وسلبوا سائمته وأسرفوا في الظلم، حتى كادت الناس تسأل الموت لنفوسها، وأقفرت في لبنان قرى كثيرة وفي الدر المنظوم أنه قتل من الموارنة في تلك المعمعة نحو ثلاثين ألفاً كذا عدا الذين قتلوا في ليماسول في جزيرة قبرس حين حاصرها الأتراك وفتحت سنة 978. عهد السلطان مراد الثالث وحملات على أرباب الدعارة: وفي سنة 982 تولى الملك مراد الثالث فقتل اخوته الأربعة وكانت همته مصروفة إلى توسيع حدود مملكته أيضاً وفي أيامه 991 وجه عسكراً إلى لبنان لحرب الموارنة للشكاوي التي قدمت إليه من طائفة الروم في سواحل طرابلس بأنهم أخربوا تلك الكور. وفي سنة 993 ولي السلطان خسرو باشا إيالة الشام وجاء دمشق وتخاصم مع محمد علي باشا الوند الوالي السابق مدة شهر، ثم استقرت الحال على تولية علي باشا وانفصل خسرو باشا، وكانت مدة ولايته سبعة أشهر فعزل ثم خلفه جامورجي محمد باشا وبقي في الولاية أربعة أشهر ثم خلفه علي باشا مرة ثانية وبقي والياً أربعة أشهر. وفيها سرقت الخزينة السلطانية في جون عكار في طريقها من مصر إلى الآستانة فوجهت الدولة إبراهيم باشا وضربت على أيدي المعتدين، وسار جعفر باشا حاكم طرابلس وأحرق إقليم عكار، وتقدمت الشكايات من حاكم طرابلس على الأمير محمد بن عساف وعلى أمراء الدروز بأنهم هم الذين سلبوا الخزينة، فسار إليهم إبراهيم باشا ولما وصل إلى عين صوفر حضر إليه عقال الدروز فغدر بهم وقتل منهم نحو ستمائة رجل. ويقول كامل باشا: إن إبراهيم باشا لما جاء من مصر إلى الشام كان في عشرين ألف جندي ودعا أمراء الدروز إلى المعسكر فأبى ابن معن أن يجيب الدعوة لأن والي دمشق مصطفى باشا كان استدعى أباه وغدر به وقتله فأقسم هو ألا يجيب دعوة أحد من رجال العثمانيين، فأحرق الجيش العثماني 24 قرية من قرى ابن معن وقتل الدروز القائد أويس باشا مع خمسمائة

بنو عساف وبنو سيفا وابن فريخ وخراب البلاد:

من جنده، وطلب إبراهيم باشا ترحيله فأرسل إليه ابن معن مئة ألف دوكا و480 بندقية وخيلاً وأشياء ثمينة، ولما تسلمها الوزير العثماني أمر بإحراق 19 قرية من قرى ابن معن وأعدم ثلاثمائة من رجاله، وفي خلال ذلك كان الأسطول العثماني أخرج إلى صيدا أربعة آلاف جندي وضرب الساحل وأخذ ثلاثة آلاف أسير. قال البوريني: إن إبراهيم باشا لما خرج من مصر خرج بأموال عظيمة وتحف كثيرة منها أنه جعل للسلطان مراد تختاً من الذهب مرصعاً بالجواهر العظيمة ورجع ومعه عساكر مصر، وجمع عساكر الشام وحاكمها إذ ذاك أويس باشا وكبس جبل الشوف فقتل ونهب وحرق وأخذ منهم أموالا جمة وحاصرهم محاصرة عظيمة حتى إن أميرهم قرقماز بن معن مات قهراً. وفي سنة 944 أراد جماعة من أقارب الأمير علي الحرفوش صاحب بعلبك أن ينزعوا حكومتها من يد أبي علي الشهير بالأقرع بن قنبر لأنه من غير أولاد الأمراء، وحكومة بعلبك متوارثة لبني الحرفوش، فعرف ابن الأقرع ما دبّر له فجاءه ألفا رجل جمعهم بنو حرفوش من كسروان والشوف وعين دارة وأرادوه على أن يخرج بعياله وبمن يلوذ به حيث شاء فأبى إلا قتالهم، واستنجد بالأمير قرقماز بن الفريخ أمير البقاع وبغيره من التركمان والعرب فولى الدروز هاربين فتبعهم أهل بعلبك يقتلونهم، وقتلوا منهم ألفاً وثمانين قتيلاً ولم يقتل من جماعته سوى شخص واحد. قال البوريني: وكان أصلح له ولجماعته طعاماً قبل المعركة فقاتل أعداءه ورجع والطعام لم يبرد وأرسلت الرؤوس لدمشق لتعرض فيها. ثم قتل علي بن الحرفوش ابن الأقرع وندم على قتله، وأخذت الدولة بعد ذلك الأمير ابن الحرفوش إلى دمشق بالأمان وقتلته وقتلت معه عسافاً الكذاب الذي ادعى انه ابن طرباي أمير اللجون. بنو عساف وبنو سيفا وابن فريخ وخراب البلاد: وفي سنة 999 جمع الأمير محمد بن عساف الرجال وسار لطرد يوسف باشا بن سيفا من عكار، فلما بلغ يوسف باشا ذلك جمع رجاله وكمن له في العقبة بين البترون والمسيلحة وقتله هناك، ولم يكن له ولد فانقطع نسله، وكان لبني

عساف في كسروان 232 سنة فانقرضت دولتهم تلك السنة. ذكر المؤرخون في حوادث سنة 999 أن منصور بن فريخ أعيد إلى لواء صفد وأعطى قرقماز لواء نابلس وصاحبه الدالي على لواء عجلون، وذلك بالتزام مال لجهة السلطنة قدره ثمان كرات كل كرة مائة ألف دينار غير ما ينوبها من الكلف. وقد خرب ابن فريخ هذا كوراً كثيرة وقتل خلقاً، وكان في أول أمره بدوياً من خدام ابن الحنش فترقى به الحال إلى أن التزم مالاً عظيماً على لوائي صفد ونابلس وإمارة الحج وعمر عمارات عظيمة بالبقاع بقرية قب الياس، وشرع في عمارة دار عظيمة خارج دمشق واستعمل فيها العملة بالسخرة، وقد خنق في قلعة دمشق لظلمه وتخريبه العمالات التي استولى عليها خصوصاً البقاع وصفد ونابلس. وفي سنة 1000 أمر قاضي دمشق مصطفى بن سنان بقيام النواب من المحاكم وإغلاق أبوابها فأغلقت أسواق البلد كلها، وسبب ذلك أن الدفتردار محموداً ارتشى من ابن الأقرع بخمسة عشر ألف دينار وولاه على بعلبك بدل ابن الحرفوش فأدى ذلك إلى خراب بعلبك ظاهرها وباطنها، ورحل أكثر أهلها حتى تعطلت الأحكام الشرعية بها وعتا بها ابن الأقرع وأتباعه وصادر الناس مصادرة ليوفي بها المال الذي التزم به للسلطنة. وكان المكس في هذه الحقبة حتى على الخمور والخمارات يتقاضاه كل من كان باشا دمشق يلتزمه صاحب الشحنة وهو من كبراء الانكشارية بمال كبير يدفعه للباشا ويحرق الأخضرين في جبايته، وكان من الولاة في ذلك الدور في الشام الصالح والطالح مثل سليمان بن قباد باشا الذي تولى نيابة القدس وقطع دابر المفسدين ثم تولى محافظة دمشق 990 وكان ينوع العذاب للسراق وقطاع الطريق. ومنهم من خلفوا آثاراً مثل خسرو باشا وعادلي محمد باشا وبهرام باشا من ولاة حلب فإنهم بنوا مدارس وجوامع فخمة في الشهباء ومنهم لالا مصطفى باشا الذي ولي دمشق سنة 981 خمس سنين وقد مدحه ابن بدير والمقار ووصفه هذا بأنه صاحب الخيرات والحسنات وأنه عمر تحت القلعة بدمشق الخان والحمام اللذين لا نظير لهما وأثنى أيضاً على مراد باشا الذي

حالة البلاد في الحكم العثماني:

تولى دمشق سنة 976 وعمر جامعاً في السويقة المحروقة وهو صاحب خيرات وحسنات أيضاً. وأثنى المؤرخون على أحمد بن الأمير قانصوه الغزاوي الساعدي الذي تولى إمارة عجلون وما والاها من كور الكرك والشوبك بعد وفاة أبيه، وباشر الإمارة في هاتيك النواحي في زمن سلطنة مراد بن السلطان سليم وقالوا: إنه كان قليل الأذى للرعايا وهو من قوم لهم قدم في الإمارة في هاتيك الديار، كانوا في زمن الشراكسة أمراءها وكان من أجداده محمد بن ساعد أميراً في جبل عجلون. ومنهم درويش باشا نائب دمشق وصاحب الجامع المنسوب إليه وخان الحرير 987 ومن ظلمتهم والي حلب حسين باشا المتوفي 949 كان كثير القتل سفاكاً للدماء على صورة قبيحة من تكسير الأطراف والإحراق بالنار والمحرق حي وغير ذلك، متناولاً للرشى لا نفع له سوى مضرة اللصوص، ومن سفاكيهم العظام سنان باشا فاتح اليمن وصاحب الجامع المنسوب إليه بدمشق وقد ذكر ابن المقار جريدة مخلفاته التي أرسلت إلى الاستانة بعد موته فإذا هي تساوي بضعة ملايين من الدنانير. وقد قال مؤرخو الترك: إن الخيرات التي قام بها سنان باشا في ممالك مختلفة من جوامع ومدارس وتكايا وخانات تقدر نفقاتها بمليوني ليرة ذهب بسكة زماننا، وإن ما عمره من المعاهد والمباني الفخمة في الأقطار التي نزلها تناهز المائة. لا جرم أنه من العتاة الطغاة الذين يجيزون خراب الولايات ليعمروا جيوبهم وخزائنهم، وأعمالهم الخيرية قد تأتي بالعرض أو لحب الشهرة. وأقبح بصدقة أو عمل خير يكون أصل ما أنفق عليه من قتل الأنفس والمال الحرام. حالة البلاد في الحكم العثماني: حكم الشام في هذه الحقبة من الزمن أي مدة 78 سنة أربعة من ملوك آل عثمان وهم سليم الأول وسليمان القانوني وسليم الثاني ومراد الثالث، وظلت روح الدولة في هذه الديار لم تتغير. ولئن جاء فيهم واضع القوانين المدعو بالقانوني السلطان سليم وطال عهده على ما لم يقع له مثال في تاريخ هذه الدولة، فإن الشام كانت حالة بعد الفتح العثماني تنتقل من سيئ إلى أسوأ، والوالي أو

الولاة في هذه الديار يكونون على الأغلب ممن لا ذمم لهم ولا قدرة إلا على جلب المغانم لأنفسهم، وإزهاق الأرواح في ذاك العصر من الأمور الهينة التي لا تستغرب. بعد الفتح العثماني واندحار المماليك في مرج دابق والضرب على أيدي العصاة في فلسطين، كان الرجاء معقوداً أن تخلد الشام إلى الراحة ويرفرف عليها طير السعد، فزادت المكوس والضرائب على وجهٍ قاسٍ، وكثر فساد جيش الدولة من الانكشارية والسباهية، فكان يأتي على الأخضر واليابس في المدن والقرى، خصوصاً إذا جاء البلاد منهم فوق حاميتها كتائب أخرى لتشّي فيها، وهناك يزيد الاعتداء على البيوت والأعراض والأموال. وربما تخطفوا النساء والأولاد في الأزقة رابعة النهار، وفي أول حكم السلطان سليمان أي بعد أربع سنين من الفتح كان ما كان من عصيان الغزالي فهلك كثير من الأبرياء في دمشق وحلب، وارتكب الوزير فرهاد باشا لتسكين الفتنة والضرب على يد الثائر من الشدة ما عج بالشكوى منه كل إنسان. ويمكن حصر مصائب هذا الدور في أمور ثلاثة: ظلم الوالي ويكون في الغالب عاتياً مرتشياً، وظلم الجند في حلهم وترحالهم، وشقاء الديار بصغار الأمراء من أهلها، في الجبال والسهول، وكبار أرباب النفوذ في المدن. وهذه الطبقة تطورت تطوراً جديداً في عهد العثمانيين فكانت من أكبر الأسباب في فساد البلاد، ولو صلحت وسلمت من ظلم بعضها بعضاً لما استطاع الوالي التركي والقاضي التركي والقائد التركي أن يعملوا مباشرة في هذا القطر عملاً مضراً. وأهمُّ من هذا وذاك أن الدولة العثمانية على عهد عزها لم تفكر إلا في الفتوح، وفي حرب من يجاورها من صغار الأمراء والملوك، حتى إذا كانت أيام إدبارها وهي تبدأ من أواخر سلطنة سليمان القانوني، كانت همتها مصروفة إلى قمع الفتن الأهلية، ورد عادية أعدائها عن مملكتها الواسعة. إن ابن الشام لا يهتم كثيراً إذا بلغت جيوش الدولة العثمانية أواسط أوربا في فتوحها وفتحت بودابست وأشرفت على فينا، وإذ فتح سليمان زهاء ثلاثمائة حصن وقلعة، وأصبح اسمه في الغرب مضرب الأمثال في الرهبة، فكانت بعض الأمهات يخوفن أبناءهن باسمه إذا أردنهم على الرقود والكف علن البكاء،

ولا يهتم ابن الشام أيضاً إذا كثرت الخيرات على العاصمة بما يصرف فيها من أموال المغانم والمغارم، ما دامت طرق الجباية عنده منهكة لقواه، وما دام الولاة يسفون لأخذ المكوس لأنفسهم من الحانات ومن المسكرات، وما دامت الضرائب تستوفي حتى من المغنيات والمومسات، وما دامت المناصب الكبيرة دع الصغيرة يتوصل إليها بطرق دنيئة على سبيل الضمان والإيجار، وما دام الأمن مختل النظام وأهل البادية ولصوص الأعراب على عاداتهم في السلب والنهب، ومن المتعذر أن ينتصف المظلوم من الظالم، وأن تعمل الدولة في باب العمران جزءاً مما تأتي في تخريبه. وضع السلطان سليمان قوانينه وما ندري إذا كانت وصلت إلى هذه الديار، وهب أنها انتهت إليها فهي في السجلات محفوظة، لم يطبق منها إلا ما لا ينفع العلم به ولا يضر الجهل بمضامينه. وما دام القانون السماوي الذي عملت الشام به منذ الفتح الإسلامي غير نافذ على ما يجب، فما الحال بقانون يعمله رجال قد يغيرون من الغد اجتهادهم وهو يتعذر تطبيقه وإنفاذه؟ بدأت الدولة منذ دور سليمان بالرسميات وأخذت تلقي الشغب بين العلماء، وذلك برتب اخترعتها لهم وجرايات أدرتها عليهم، فزادت لأجل هذه النفقات الضرائب والخراج على الأمة وكثر التنافس بينهم، وقلّ القولون بالحق من رجال العلم، وأنشأ معظمهم يدلسون ويوالسون ويمتدحون السلطان مهما ضل وغوى، وسهل بعد ربط العلماء بروابط الرتب والرواتب أن يستصدر السلاطين كما قال ضياء باشا فتاوى بقتل الأبرياء ممن تغضب عليهم الدولة، وكان الذين يقتلون كل سنة على هذه الصورة عدداً من الناس لا يستهان به وفيهم العاقل والراكة، وكل من في قتله راحة للدولة أو مصلحة يتوهمها السلطان وبعض الزبانية الطغاة من ولاته، وقد تعاقب على دمشق خلال القرن العاشر أي مدة 78 سنة خمسة وأربعون والياً وعلى حلب سبعة عشر، ولم يحس الناس بتبدل نافع في حكم العثمانيين من عهد المماليك حتى بعد ثمانية عقود من السنين.

العهد العثماني من سنة 1000إلى 1100

العهد العثماني من سنة 1000إلى 1100 عهد محمد الثالث وأمراء الإقطاعات وفتن: دخل القرن الجديد والشام تسير من بؤس إلى بؤس، وتعاقب تبدل الولاة عليها والسعيد منهم من كان يحول عليه الحول، وأكثرهم يقيمون فيها أشهراً ثم يصرفون ويستبدل غيرهم بهم، ومنهم من كان يقيم أياماً ومنهم سبعة أيام ومنهم ثلاثة، وتعاقب على دمشق خلال هذا القرن واحد وثمانون والياً وعلى حلب تسعة وأربعون والياً، فكان الوالي لا يتمكن من الإصلاح إن أراده وقلبه متعلق أبداً بثبات منصبه، والغالب أنه لا يتوفر على غير جمع المال بالطرق المنوعة ليوفي ما عليه من المقرر لجماعة الآستانة من الأموال، وكان الولاة يبتاعون الولاية ابتياعاً والمزايد الأكبر هو الذي توسد إليه قال راسم في تاريخه: أمر السلطان مراد أن يكتب إلى أحمد باشا كوجك والي الشام بأن يدفع إلى السلحدار باشا عشرين ألف ليرة ويبقى في منصبه فاضطر الوالي أن يؤدي المبلغ. ومن أهم أدوات التخريب في هذا القرن خروج جند الانكشارية عن حد الاعتدال وكثرة اعتدائهم على الرعية، يستطيلون على أموالها وأعراضها ويثلمون شرفها ويذلون أعزتها، وهم القوة القاهرة وأذاهم لاحق بالكبير والصغير. وكثيراً ما حاول الولاة أن يخففوا من غلوائهم ليستأثروا بالقوة دونهم أو يرفعوا عن عاتق الأمة التعسة بعض شرورهم، فيسفر قتالهم عن زيادة إيصال الشرور إلى الناس على ما يأتي تفصيله في هذا الفصل المغموسة حوادثه بالدماء.

كان المتغلبون على أكثر البر في أوائل القرن، الأمير شديد بن الأمير أحمد حاكم العرب من آل جبار وكان كلقبه واسمه ظالماً جباراً عنيداً. قال كاتب جلبي: وما زال آل عثمان يعطون لواء سلمية لأمراء العرب وأمراؤهم هم عرب آل جبار وهم قبيلتان آل حمد وآل محمد يمتد حكمهم إلى أرجاء حلب والرقة. وكان قرقماز المعني في لبنان، وأحمد بن رضوان في غزة بعد قانصوه أمير عجلون وما والاها من الكرك، والأمراء بنو الحرفوش في بعلبك، والأمراء بنو شهاب في وادي التيم، وأحمد بن طرباي أمير اللجون في نابلس، ومنصور بن فريخ البدوي على البقاع تغلب عليه بعد ابن الحنش وحكم نابلس وصفد وعجلون وانحاز إليه جماعة من جند دمشق، وأخاف الدروز ثم شن الغارة وقتل منهم مقتلة عظيمة، وقد خرب العمران وقتل الخلق حتى أخذه وزير دمشق وقتله في سنة 1002 وذهب على حصار قلعة الشقيف النفوس والأموال، حاصرها والي دمشق ونازل قلعتي الشقيف وبانياس، وبلية القلاع كبلية المدن غرض لهجمات المهاجمين فقد أخذ المحارزة قلاع القدموس والعليقة والمينقة مراراً، وكان الإسماعيليون يستردونها بعد مدة، وفي سنة ألف تقريباً هجم الإسماعيليون على القدموس عندما كان العلويون مشغولين بالعبادة في يوم الغدير وقتلوا من المشايخ ثمانين شخصاً عدا العوام وتملكوا القدموس قاله في تاريخ العلويين. وفي سنة 1003 توفي مراد الثالث وخلفه ابنه محمد الثالث فقتل يوم جلوسه تسعة عشر أخاً له وعشر جوار حاملات من أبيه ثم ابنين له، وكان مع ذلك على رواية المحبي صالحاً عابداً ساعياً في إقامة الشعائر الدينية وأوصافه كلها حسنة وهو مظفر في وقائعه عالي الهمة. ولم ينل الشام شيء من تدين محمد الثالث، وطالبت الحكومة الأهلين بأموال سنتين فلقوا شدة وعنتاً. ذكر المقدسي في حوادث سنة 1004 أنه جاء ساع من الباب العالي يأمر بأن يجتمع العلماء والصلحاء والمشايخ والفقراء وأولاد المكاتب في الجامع الأموي، ويقرأوا القرآن ويدعوا لعساكر الإسلام بالنصر، وما أعجبها من قضية جمع فيها بين ظلم المذكورين وطلب الدعاء منهم، فليت شعري بأي لسان يدعون وقد اشتهر أنهم يطالبون الرعايا بعوارض سنتين جديدة وعتيقة وطالبوا

اليهود بمال عظيم اهـ وقال أيضاً في حوادث سنة 1005. إنه استقر في دمشق كيوان منشئ الظلم بالشام قائداً بباب صاحب الشحنة، فشرع يصادر ويسلب، وكثرت القتلى في أزقة دمشق، وكان الإنسان يمشي فلا يسمع إلا من يقول غرموني أربعين قرشاً ومن يقول سبعين قرشاً وثلاثين وعشرين وأكثر وأقل. واصطلم الناس من كثرة الظلم وبقي من يخشى الفضيحة يحمل الجزية إلى كيوان المذكور قبل أن يرسل إليه. هذا ما كان يجري في عاصمة الشام على مرأى ومسمع من القريب والغريب، فما بالك بما كان يجري في الأقاليم التي تقل فيها المراقبة وتضعف المقاومة، فقد تهيأ لأخبارها هنا من دونها أو بعضها حتى وصلت إلينا، وهناك ضاعت أخبارها لقلة المدونين. وظهر في أيام أحمد مطاف باشا كافل حلب 1005 - 1008 فساد كثير من العربان في أنحاء حلب فأرسل عليهم ابنه درويش بك فاقتتلوا فانهزم عسكر حلب وكانوا ألف فارس وأخذ عرار أمير العرب يتبعهم ويقتل منهم ويغير عليهم. وفي سنة 1007 كانت الواقعة في نهر الكلب بين ابن معن وابن سيفا فانكسر ابن سيفا وتشتتت جيوشه، وتولى فخر الدين المعني كسروان وبيروت. واستولى يوسف باشا سيفا على جهات طرابلس لما أهلك رؤساء عصاة ابن جانبولاذ التركماني، واستقل بها وأخرج بواسطة عسكر السكبان جند الانكشارية من عمالته ونكل بهم وصار له بذلك نفوذ وسلطان. وقال نعيما في حوادث سنة 1008: إن عسكر الانكشارية في دمشق جاءوا حلب بحجة جباية أموال الدولة، وتسلطوا على فقرائها وعملتها وتجاوزوا الحدود في الاعتداء، وأساءوا استعمال سلطانهم في الرعية، فقطع والي حلب رأس سبعة عشر رجلاً منهم، ودام الشقاق بين الأهالي والانكشارية مدة طويلة أدى إلى سفك دماء كثيرة بغير حق اه. ومن ذلك اعتداء خداويردي قائد حلب على الناس وفتكه ونهبه وتعديه حتى ضجر منه أهاليها وحكامها، حين قامت الحرب بينه وبين نصوح باشا، وبينه وبين ابن جانبولاذ، وكان هو وأحفاده قد عاثوا في الأرض فساداً ومنه نشأ طغيان العسكر الشامي. ومن فتن هذه الأيام خروج عبد الحليم اليازجي رأس جماعة درويش

عهد أحمد الأول وفتنة ابن جانبولاذ وغيرها:

الرومي حاكم صفد، وإرسال خسرو باشا نائب الشام عسكراً إلى درويش ليسلم الولاية إلى آخر، فقاتل اليازجي عن مخدومه بالسيف فأخذ درويش إلى دمشق وصلب بأمر السلطان. أما اليازجي وجماعة درويش فساروا على ساحل البحر إلى طرابلس ثم إلى جانب حلب ودخلوا مدينة كلز فتنبه لهم نائب حلب وأرسل جيشا لمحاربتهم، فقتلوا من أصحاب اليازجي مقتلة عظيمة، وخرج بمن بقي معه من أصحابه المفلولين، وما زال يحارب جيوش السلطنة في الأناضول حتى هلك سنة 1010. وفي سنة 1011 باغت الأمير يونس بن الحرفوش جبة بشري، فلما بلغ ذلك يوسف باشا سيفا جمع السكبان الذين عنده وهاجم مدينة بعلبك فاجتمع ببيت الحرفوش في القلعة، ونهب بنو سيفا بعلبك وحاصروا قلعة حدث بعلبك خمسين يوماً وملكوها ثم نادوا بالأمان. وفي سنة 1014 كانت وقعة جونيه بين يوسف باشا سيفا والأمير فخر الدين المعني فانكسر عسكر سيفا. عهد أحمد الأول وفتنة ابن جانبولاذ وغيرها: في سنة 1012 توفي محمد الثالث وخلفه أحمد الأول ولم يتغير شيء في الشام وغاية الأمر أن الخوارج في أيام السلطان الجديد اشتدت شوكتهم فنال الأمة منهم كل حيف، ودخل القطر في هرج ومرج. وفي أيامه ظهرت الخوارج في جهات حلب وما زالت الأمور في تخبط حتى خرج جانبولاذ وادعى السلطنة واضطربت الأحوال على ما سيجيء. قال القرماني: وفي أيام هذا السلطان قام الطغاة والبغاة، وانمحت من الوجود أمهات الأمصار وشملها البوار، أما القرى والقصبات والرساتيق والمزدرعات فأكثر من أن تحصر. وقال العرضي: كانوا يرسلون من قديم الزمان في دولة بني عثمان شرذمة من عساكر دمشق وعليهم شوربجي بحوالات أموال السلطنة فيحصل لهم الانتفاع ويخدمون عند الدفتردار وفي دار الوكالة وفي باب القنصل الفرنجي وفي كل مدة يرسلون غيرهم وعليهم شوربجي، حتى قطن بحلب أعداد كثيرة منهم واتسعت أموالهم وكبر جاههم، واستولوا على أغلب قرى السلطنة يعطون مال السلطان عن القرية ويأخذون من أهلها أضعافاً مضاعفة،

وتبقى أهل القرية جميعاً خدمة لهم وجميع ما يجمعونه لغيرهم لا لأنفسهم. ومن الكوائن أن خارجياً من السكبانية اسمه رستم جاء إلى كلز ومعه من البغاة أجناد كثيرة، وكان ضابط كلز عزيز كتخدا من جماعة حسين باشا بن جانبولاذ أمير الأمراء بحلب، فبعث واستنجد بعسكر حلب ومنهم العسكر الجديد فخرجوا لنصرته، فتقابلت الأجناد وقامت بينهم سوق الحرب والضرب فانتصر رستم على عسكر كلز وحلب وقتل عزيز كتخدا وقتل من العسكريين كثير وولوا منهزمين فنهب الخارجي كلز وصادر أعيان القرى. ولما ولي نصوح باشا نيابة حلب - وكان متغلباً في حكمه عسوفاً قوي النفس شديد البأس كما قال المحبي - كان لجند دمشق أي الانكشارية الغلبة والعتو يذهب منهم كل سنة طائفة إلى حلب وينصب عليهم قائد من كبارهم وكان بعض عظماء الجند قد تقووا في حلب وفتكوا وجاروا خصوصاً طواغيتهم خداويردي وكنعان الكبير وحمزة الكردي وأمثالهم، حتى رهبهم أهلها وصاهرتهم كبراؤها، واستولوا على أكثر قراها، فلما رأى نصوح باشا ما فعلوه حتى قلّت أموال السلطنة، وصارت أهالي القرى كالأرقاء أجلاهم عن الأقاليم ووقعت بينه وبينهم فتنة بل فتن، وعجز عن إخراجهم فاستعان بحسين بن جانبولاذ فبعث هذا ابن أخيه الأمير علي بعسكر عظيم، فاستولى نصوح باشا على قلعة حلب ووضع متاريس تحتها واستعد للقتال، فأخذ العسكر الدمشقي باب بانقوسا وجمعوا جموعهم، وهم لا يعلمون أن حسين باشا جانبولاذ بعث عسكره، ودخل الأمير علي في اليوم التالي بالعساكر المتكاثفة فتبعهم نصوح باشا والأمير علي إلى قرية كفر طاب فوقع بينهم حرب فانهزم الدمشقيون بعدما قتل منهم جم غفير. ثم خرج نصوح باشا في عسكره إلى كلز فقابل حسين باشا بعسكره والتقت الفئتان فانكسر نصوح باشا وقتل أكثر عسكره ودخل حلب منهزماً وأخذ في جمع الأجناد وبذل الأموال لتكثير العدد والأعتاد. وبينا هو على ذلك جاء الأمر بأن حسين باشا عين كافلاً للممالك الحلبية وعزل نصوح باشا، فلبس نصوح باشا جلد النمر، وامتنع من تسليم حلب لحسين باشا، وأقبلت بعد أسبوع عساكر الوالي الجديد حسين باشا إلى قرية حيلان فاستقبلهم نصوح باشا بالحرب فانكسر أيضاً،

ونزل حسين باشا بعساكره في أحياء حلب خارج السور وأغلق نصوح باشا أبواب المدينة وسدها بالأحجار، وفتح باب قنسرين وحرسه، وقطع حسين باشا الماء عن حلب ومنع الميرة والطعام عن المدينة، ونصب نصوح باشا المتاريس على الأسوار وصف عسكره عليها مع المكاحل، وقامت بين الواليين حرب شعواء، وأخذ حسين باشا في حفر الخنادق والاحتيال على أخذ البلدة، وأنشأ نصوح باشا يحفر السراديب، وعم الحلبيين البلاء من المبيت على الأسوار وحفر السراديب، ومصادرة الفقراء والأغنياء كل يوم وليلة لطعام عسكر السكبان وعلوفاتهم، وأغلقت الدكاكين وتعطلت الصناعات، وحرقت الأخشاب للطعام والقهوة، واشتد غلاء الحاجيات وعدم قوت الحيوان والإنسان واستمر الحصار نحو أربعة أشهر وأياماً، ثم تصالح نصوح باشا وحسين باشا فخرج الأول واستولى حسين باشا على الديار الحلبية، وشحنها بالسكبان وصادر الأغنياء والفقراء لأجل علوفة السكبان. ولما قتل حسين باشا خرج ابن أخيه علي بن طاعة السلطنة، وجمع جمعاً عظيماً من السكبانية حتى صار عنده منهم ما يزيد على عشرة آلاف، ومنع المال المرتب عليه، وقتل ونهب في تلك الأطراف، إلى أن تعهد ابن سيفا صاحب عكار للسلطنة بإزالة الأمير علي عن حلب فجمع له الجند من دمشق وطرابلس والتقى بابن جانبولاذ جانبلاط قرب حماة فكانت الغلبة على ابن سيفا، فاستولى ابن جانبولاذ على مخيمه ومخيم عسكر دمشق واستولى ابن جانبولاذ على طرابلس، واستخرج الأموال من أهلها وأخذ دفائن كثيرة لهم، ولم يستطع فتح قلعتها، ثم سار مع حليفه ابن معن وكان هو وابن شهاب وابن الحرفوش خرب بعلبك وأحرق قراها، وخرب ابن جانبولاذ البقاع ووصل إلى دمشق، واقتتل ابن جانبولاذ مع العسكر الدمشقي فانفل العسكر الدمشقي وأرضوا ابن جانبولاذ بمال حتى فرج عن دمشق، واستمر النهب في أطرافها ثلاثة أيام، ثم سار إلى حلب وجاءته الرسل من السلطنة تقبح عليه فعله في دمشق، فكان تارة ينكر فعلته، وطوراً يحيل الأمر على عسكر دمشق، ويشرع بسد الطرق ويقتل من يعرف أنه سائر إلى أطراف السلطنة إبلاغ ما صدر منه، حتى أخاف الخلق ونفذ حكمه من أدنة إلى نواحي غزة، وصاهر ابن سيفا

فامتثل هذا أمره، وانقطعت أحكام السلطنة عن هذه الديار نحو سنتين، وكان ابن سيفا بعد أن غلبه ابن جانبولاذ على دمشق ونهب ولايته التجأ إلى أحمد بن طرباي الحارثي أمير لواء اللجون. قال القرماني: إن ابن جانبولاذ لما ولي حلب جمع كل شقي من القبائل والعشائر، ليأخذ ثأره من جماعة الإنكشارية فالتقوه في مدينة حماة ومعهم محمد باشا الطواشي نائب دمشق وعامة الجيوش من الكماة، فانهزم عسكر الدولة واستمر ابن جانبولاذ في أثرهم إلى حدود دمشق فاستقبله الأمير فخر الدين بن معن بمن معه من الدروز وطائفة السكمانية، ثم التقى ابن جانبولاذ مع العساكر الشامية فاستولى على أموالهم. ولما حدث ما حدث من الفتن والغوائل عهد السلطان إلى مراد باشا أن يعيد الشام إلى حكم الدولة لأنه ثبت أنه خرج عن حكمه، فجاء في عشرين ألف فارس وعشرين ألف راجل وقيل في أكثر من ذلك، فبرز إليه ابن جانبولاذ في أربعين ألفاً فُغلب ابن جانبولاذ وهرب إلى الآستانة وأقنع السلطان بحسن حاله، وجاء مراد باشا بعد أن كسر ابن جانبولاذ في سهل الروج قرب المعرة وقتل من جماعته أحد وعشرين ألفاً وتسلم قلعتها بالأمان، وبالغ في قطع شأفة الأشقياء والسكبانية. وكان علي باشا جانبولاذ لما انكسر مع مراد باشا حصن قلعة حلب ورفع إليها عياله وأسبابه وولى عليها أطلي طوماش باشا وأمره بحفظها لمدة ثلاثة أشهر ريثما يرجع إليه بالنجدة من سلطان العجم، ثم تجهز للسفر وحال خروجه من أراضي حلب وصل مراد باشا الوزير ومعه أحمد باشا حافظ الشام ويوسف باشا سيفا وشددوا الحصار على حلب وافتتحوها، ووعد أطلي طوماش بالنيابة على حلب فاطمأن وسلم القلعة ثم قبض عليه وقتله وضبط القلعة، وباع عيال علي باشا جانبولاذ بيد الدلال فبيعت والدته بثلاثين قرشاً، ثم وقعت المناداة على المحافظين فقتلوهم في أماكن مختلفة وأتوا برؤوسهم إلى الوزير ولم ينج منهم إلا القليل، وكان الرجل يقتل العشرة منهم، ومهد الوزير أمور حلب وخدمته أمراء العرب. وقالوا: إن الأمير فخر الدين فرَّ إلى البادية في جماعة الدروز والعربان بعد تلك الوقائع لأنه أعان الخوارج على السلطنة. وللقيم محفوظ الدمشقي مرتجلاً

ومؤرخاً واقعة دخول السكبانية مع ابن جانبولاذ إلى دمشق في أوائل سنة ست عشرة بعد الألف نقلها في التذكرة الكمالية. دخل الشام جيوش ... كجمال قد رغوا كل كردي غبي ... بهم الناس لغوا ودروز ولئام ... لمقال ما صغوا نهبوا الشام وآذوا ... وعلى الناس بغوا نهبوها في جمادى ... أفحشوا أرخ طغوا ولم تقتصر فتنة ابن جانبولاذ على دمشق وحلب بل تناولت بعلبك والبقاع وطرابلس وغيرها. قال النجم الغزي: إن كافلي الشام وطرابلس دخلاً على أهل حماة وحمص وأمرا أهلهما بإخلاء المدينتين وكان ابن جانبولاذ في أثرهما، فدخل هو وعساكره حماة وحمص ونهبوهما ونهبوا قراهما، واتفق كيوان رئيس سرية دمشق مع ابن معن على العصيان وعلى مساعدة ابن جانبولاذ، فذهبا إليه واجتمعا به في الجون بالقرب من نهر البارد، فاستولوا على حماة وحمص وعكار وجبلة واللاذقية والحصن وطرابلس وغزير وبيروت، ثم اجتمع ابن جانبولاذ وابن معن وكيوان وحاصروا دمشق على ما تقدم قال: وكان الأمر مهولاً واجتمع أكثر الناس بدمشق. وقال ابن المقار في حوادث 1016: إنه ظهرت طائفة من الخوارج يقال لهم السيمانية أظهروا في الأرض أنواع الفساد، وحدث بين أمراء الشام حروب وفتن عظيمة عم فيها النهب وخربت أكثر البلاد. ومن الأحداث في تلك الأيام ما رواه مؤرخو لبنان في حوادث سنة 1016 من أن الجند المشتى قيشلق السلطاني تفرق على البلدان من حلب إلى الشوف، وكان عدده نحو أربع كرات والكرة مائة ألف. كذا قالوا وكانت الناس في ضيق عظيم من الغلاء ومن الضرائب التي كانت على الضياع والأدبار. ووقع في زمن تولية كوجك سنان باشا دمشق وكان يتولاها سنة 1017 أن فرقة من عرب آل جبار المعروفين بأولاد أبي ريشة نفروا من العراق فوصلوا إلى تدمر، وانضم إليهم قوم من طائفة السكبانية المنهزمين من وقعة علي بن

الأمير فخر الدين المعني وآل شهاب وفتن:

جانبولاذ. فعاثوا في تلك الديار وقطعوا الطريق، ولما ورد من حلب العسكر المصري الذي كان قد طلب لقتال كبير السكبانية محمد بن قلندر والأسود سعيد، التقى جيش السلطان مع جيش البُغاة فغُلب عسكر السلطان وهرب منهم جمع، ومن جملة الهاربين الجماعة المذكورون وكانوا نحو أربعمائة سكباني، فلما انضموا إلى العرب المذكورين كان السكبان يضربون بالبندق والعرب يضربون بالرماح والسيوف، وأخذوا قلعة القسطل وقلعة القطيفة ونهبوا المعصرة وقتلوا من بها من الرجال والنساء. فلما بالغوا بالقتل والنهب والغارة والعدوان قصدهم سنان باشا ومعه العسكر الدمشقي، وانضم إليهم عرب المفارجة وكبيرهم عمرو بن جبير فأدركوا العرب والسَّكبان في نواحي قلعة القطرانة، فقتلوا من السكبان نحو ثلاثمائة رجل وقبضوا على آخرين ودخلوا بهم إلى دمشق على متون الجمال وعلى كتف كل واحد منهم خشبة طويلة وهي وتد خازوق وفي اليوم الثاني أتلفوهم وفرقوا أجسادهم على أحياء دمشق. الأمير فخر الدين المعني وآل شهاب وفتن: تخوفت الدولة من الأمير فخر الدين المعني الثاني لتحصينه القلاع وامتداد سلطته في أصقاع الشام، فأرسلت عليه في سنة 1020 الحافظ أحمد باشا كافل دمشق وكافل حلب وكافل ديار بكر وكافل طرابلس وأمراء الأكراد في جيوشهم ونحو النصف من الفرسان في جيش مؤلف من ثلاثين ألفاً، وحاصر ابن معن تسعة أشهر فلم يقدر أن يأخذ قلعة من القلاع، فلما أعيته الحيلة أرسل رجلاً من جماعته لمن في القلاع يقول: أنا مالي عندكم غرض بل إن للوزير الأعظم شأناً مع الأمير فقولوا له أن ينزل إلى خيامنا وعليه أمان الله ونأخذ منه دراهم للسلطان وللوزير ونُقرّه في أماكنه فقالوا: الأمير ذهب في المركب إلى ديار الفرنج فلما تحقق ذلك رضي بنزول أم فخر الدين فقالت: نحن ما ضبطنا بلداً بغير اسم السلطان، ولا انكسر عندنا مال، فعند ذلك أعطت السلطان مائة ألف قرش وأعطت الوزير خمسين ألفاً والحافظ أحمد باشا مثلها وانفصل الأمر على ذلك. هرب الأمير فخر الدين إلى إيطاليا تاركاً الحكم في لبنان وما إليه لابنه

الأمير علي وأقام فيها خمس سنين وشهرين تعرف خلالها إلى ملوك طسقانه من أسرة ميديسيس المشهورة في فلورنسة، وأطلع على طرف من المدنية الأوربية ثم عاد إلى وطنه بعد مهلك خصمه والي دمشق فاستلم زمام الأحكام ولا سيما المسائل الحربية، بقوة أعظم وتدبير أحكم، مستصحباً معه كثيراً من المهندسين لبناء القلاع وعمل الذخائر الحربية، وكان ابنه الحاكم في الظاهر وهو الحاكم في الحقيقة، وأخذ يحصن كوره ويكثر الصلات الحسنة مع الفرنج ولا سيما مع الطليان، وعقد معاهدة دفاعية هجومية مع أصحاب طسقانه كأنه ملك مستقل، فخافت الدولة منه وكانت تعده من قبل عاصياً قوي الشكيمة، وأخذت تحاذره وتنظر إليه نظرها لعاص عارف بمقاتلها، وأنه لا بد له يوماً أن يستقل عنها ببلاد الشام، إذ بلغ أتباعه نحو مائة ألف من الدروز والسكبان ولم يستول فقط على الشوف وجبل عاملة بل تعداهما إلى عجلون والجولان وحوران وتدمر والحصن والمرقب وسليمة، وسرى حكمه من صفد إلى أنطاكية وملك نحو ثلاثين حصناً مثل صفد ونيحا وشقيف تيرون وعجلون وقب الياس وبعلبك والمرقب والبترون. وفي سنة 1021 خرج أحمد باشا بالعساكر من دمشق إلى وادي التيم ونزل في خان حاصبيا وهرب بين شهاب أصحاب وادي التيم منها فهدم دورهم وأتلف أملاكهم ونهب حاصبيا 1022 وفي سنة 1023 خرج الحافظ أحمد باشا من دمشق إلى قب الياس واجتمع إليه حكام صفد وصيدا وبيروت وغزة وحماة وعشائرهم وأمراء الغرب وبعلبك ووادي التيم، فوقع بين أهل الجرد والغرب والمتن وأهل الشوف قتال بقرب نهر الباروك انكسر فيه أهل الغرب والجرد والمتن وعسكر الدولة كسرة عظيمة، فأحرق أحمد باشا قصر بيت معن في دير القمر وكان رئيسهم إذ ذاك الأمير يونس كما أحرق قرية عبيه. ثم جرت وقعة بين جماعته وجماعة من حزب المعنيين على قلعة الشقيف فانكسر جماعة أحمد باشا وقتل منهم نحو خمسمائة قتيل وأكثرهم من السكبان وكان عسكر الدولة نيفاً وعشرين ألفاً ثم امتنع 1024 يوسف أغا من أن يتسلم حصن الشقيف وحصن ارنون إلى أن يخرج منهما بنو معن أولاد العرب ويتصرف بهما الأتراك تمام التصرف، فشق ذلك على الأمير يونس وأخذ في

عهد مصطفى الأول وعثمان الثاني:

هدمهما، ولما انتهى الخبر إلى الوزير فرح جداً وأمر بخرابهما، ولبث المسلمون في تخريبهما أربعين يوماً. وجرت 1025 وقائع بين أولاد ابن معن وأصحاب المقاطعات في لبنان وحرق الشوف والجرد والغرب والمتن وهلك كثيرون وكانت النصرة للقيسية خربت بيت معن، وكان بنو تنوخ أمراء الغرب منذ سنة 542 يميلون إلى بني معن، فلما حاربتهم الدولة انتهز علي بن علم الدين اليمني والي الشوف الفرصة وقبض على أعيان المعنيين وقتلهم واستصفى أموالهم، ثم سار إلى قرية عبيه فدعاه الأمراء التنوخيون إلى مأدبة في سرايتهم فاغتالهم وقتلهم كلهم صغاراً وكباراً فانقرض التنوخيون بموتهم. عهد مصطفى الأول وعثمان الثاني: في سنة 1026 توفي أحمد الأول وخلفه مصطفى الأول المعروف بالأبله فخلع بعد ثلاثة أشهر وخلفه عثمان الثاني ولم يجر في أيامه ما يستحق أن يدون في الشام اللهم إلا ما كان من حرب بين ابن معن وابن سيفا 1028 فخرب ابن معن قرية عكار وسرايا بيت سيفا في طرابلس وخرب هذه كما خرب قلعة جبيل. ثم عاد مصطفى الأول سنة 1031 فتولى الملك أربعة عشر شهراً وخلع بعدها. إذ لم يعد في الإمكان ستر نقصه الذي كان يتولاه العلماء ليحكموا باسمه فأبرزوه في صورة ولي من الأولياء وما هو إلا أبله من البلهاء. فزادت الدولة خلال هذه الحقبة تغاضياً عن الشام حتى قويت شوكة المتغلبين وأرباب النفوذ في المدن والقرى والسهول والجبال، وأصبح القطر بلا راعٍ خصوصاً بعد الضعف الذي ظهر من الدولة في العقد الثاني من هذا القرن في فتنة ابن جانبولاذ وحصار حصون ابن معن، وتجلى لأذكياء المتغلبة موقف الدولة معهم، فأصبحوا يزدادون في إرهاق الرعية. والولاة ليسوا دونهم في العنت والتخريب والقتل والنهب. وكان نائب حلب محمد باشا 1031 ظلوماً غشوماً أخذ أموالاً كثيرة من كل قرية من غير سبب، وقضى أن لا تباع البضائع كلها إلا لمن عينه من جماعته ثم تباع من أحد السوقة بعد ذلك، فكان ظلمه مزدوجاً على المدني والقروي، وفي هذه السنة خرب صاحب الشرطة جميع قرى القنيطرة

عداء على الفرنج وفتن داخلية:

وفي السنة التالية 1032 خرب الأمير فخر الدين بن معن كرك نوح وسرعين نكاية ببني الحرفوش. عداء على الفرنج وفتن داخلية: وبينا كان ابن معن يهيئ السبل للفرنج حتى تزيد متاجرهم مع أهل الساحل ويكثر سوادهم في مدنها ولا سيما في موانيها، ويرخص لهم بتأسيس قنصليات ويدخل المبشرين إلى لبنان، ارتكب ابن سيفا حاكم طرابلس سنة 1032 أمراً عظيماً نفر الفرنج من غشيان المواني لاستبضاع القطن والحبوب، وذلك أنه ضبط مركبين فرنساويين كان معهما ثمانون ألف قرش لابتياع بضائع، فأرسل ابن سيفا وأمسك ولدين صغيرين من المركبين وعلمهما أن يقولا: إن المركبين للقرصان، وإنهما أخذا في طريقهما مركب تجارة للمسلمين، وزعم أنه وجد في المركبين أساباً لمداخلة المسلمين، ولم يكن ذلك صحيحاً ولكنه جعل ذلك طريقاً لضبط جميع ما في المركبين من البضائع والأموال، وأمسك جميع من فيهما من التجار والنوتية وقتلهم جميعاً. وبعد ذلك باع المركبين بثلاثة آلاف قرش. قال الشهابي: ومن حين حدوث هذه الفعلة لم يدخل ميناء طرابلس من تجار الفرنج أحد، وتوجه أناس من الفرنج إلى الباب العالي للشكوى على ابن سيفا، ولكن لكثرة عزل الوزراء لم يلتفت أحد إليهم وراحت على من راح. ومن الفتن الأهلية ما حدث سنة 1032 من دخول أحمد الشهابي وحسن الطويل بلاد عجلون ومقابلة أهل القرى لهما وتجمع أهالي نابلس وعربها، وحرقت من القرى فارا والخزبة وحلاوى وكانت من أكبر قرى عجلون، وحرق الأمير علي الشهابي قرية سرعين في البقاع وجميع قرى بعلبك وتحصن أهل بعلبك في القلعة. وجرت فتنة بين عساكر دمشق والأمير يونس الحرفوش - وكان هذا ظالماً متجاهراً بالظلم - وكرد حمزة سنة 1033 فاغتنم الانكشارية الفرصة وأغاروا على المستضعفين من الأهلين وتعاقب تغيير الولاة وانحاز بعض الخوارج إليهم ونقل الناس أمتعتهم وأثقالهم من خارج مدينة دمشق إلى داخلها مراراً، وحارب العسكر الدمشقي أولاد الحرفوش لإخراجهم من بعلبك.

حملات على الأمير فخر الدين المعني وغيره:

وكان كيوان أحد كبراء الأجناد في دمشق خلال هذه المدة ينزع إلى التعدي ولا شكيمة ترد جماحه، ولا وازع يكف من غربه، فأخذ الناس بالتهمة وتطاول إلى أخذ أملاكهم حتى استولى على أكثر بساتين الربوة والمزة من ضواحي دمشق وضم بعضها إلى بعض، وكان إذا أخذ حصته من مكان احتال على الشركاء فيه حتى يأخذ حصصهم طوعاً أو كرهاً، وكان نواب محكمة الباب وأعيان شهودها يساعدونه على عدوانه حتى أهلك الحرث والنسل. وذكر الغزى أن كيوان الطاغية أعيا أهل دمشق ظلماً وفتنة، وكانت بداية كيوان نهاية أويس ثم تجاوز عنه بمراتب، فطمع هو وقائد الصالحية أولاً في أملاك الفلاحين، واستخلاص ما ملكوه بالشراء أو بالمغارسة، فكان يعمل الحيلة لأحدهم حتى يوقعه في مخالب صاحب الشحنة ولو بالتهمة والاستتباع. وقد اقترف يوسف السقا من الأجناد الدمشقيين ضروب المظالم، وصادر الناس في أموالهم وعقارهم، وقبض على غالب أعيان دمشق وشيوخها وهرب بعضهم، واغتصب من تجارها المشاهير وبعض أهلها الضعفاء مالاً جزيلاً أناف على مائتي ألف دينار ومن التحف والأقمشة ما لا يحصى. ومثل هذه الشؤون كانت تجري على مشهد من الولاة ويتغاضون عنها لأنها قد تكون بإيعازهم وهم لا محالة شركاء أولئك الزعماء. حملات على الأمير فخر الدين المعني وغيره: أدركت الدولة أن خطر فخر الدين المعني على حياتها في هذه الديار زاد عن سنة 1020 وأنه تأصلت أحكامه بعد عودته من إيطاليا، وما كانت في حملتها الأولى والثانية لتغضي عن تخريب الأقاليم إلا اضطراراً، فساق هذه المرة مصطفى باشا والي دمشق 1033 جيشاً على فخر الدين فاستظهر هذا بالأمير محمد الشهابي حاكم وادي التيم كما استظهر حاكم الشام بابن سيفا حاكم طرابلس وابن الحرفوش صاحب بعلبك فهلك جمهور من عسكر دمشق قدر بمائتي قتيل ولم يقتل سوى رجال قلائل من جماعة ابن معن، وكانت الوقعة في عين الجر عنجر. وقبض جماعة ابن معن على والي دمشق فجاء الأمير فخر الدين وقبل ذيله، وقيل شفع بالوالي علماء دمشق

وكبراؤها لدى ابن معن، ورجع عسكر دمشق مفلولين وفي رواية أنهم خامروا على الوالي وأطلق الأمير فخر الدين والي دمشق مكرماً، فعاد إلى الفيحاء ينتقم ممن كان السبب في غزو ابن معن. وهذه الوقعة زادت في مكانة أمير لبنان في نظر الدولة والأمة، ودلت على أنه كان مع قوته عاقلا بعيد النظر، وأنها عاجزة عن أخذه إلا بتجهيز جيش عظيم لأنها حاولت غير مرة ذلك فرجعت بالخيبة خصوصاً وقد علمت محالفته لكوسموس الثاني كبير دوجات طسقانه، وأن فخر الدين لما استظهر بأسطول فرديناند الطسقاني استولى على ساحل الشام وغلب جيش الدولة غير مرة. وفي سنة 1033 أيضاً جلس جماعة الوالي بدمشق على الطرق ومعهم الريش يضعونه على رأس كل من يرونه وينادون عليه مستاهل لم يقدر أن يرفعها من شدة الخوف قال المقار: فلما كملوا أرسلوهم إلى اليمن فقتلوا كلهم هناك. ومعنى ذلك أن الدولة كانت تريد تجنيد أناس لترسلهم من الشام إلى اليمن فلم تر أظرف ولا أعدل من هذه الطريقة في التجنيد. وفي سنة 1038 عين والي دمشق شرذمة من العسكر لمنازلة بني شهاب في وادي تيم الله بن ثعلبة فنهبوا قراهم وأحرقوها. وقد وزعت الدولة عسكرها على كور الشام ليشتي فيها سنة 1041 وكان جيشاً كبيراً فخض دمشق منهم أثنا عشر ألف جندي ما عدا أتباعهم، وكان مأكلهم ومشربهم من أهل دمشق وأقاموا بها أربعة أشهر، فلما عزموا على السفر أخذوا ترحيلة من أهل دمشق خمسين قرشاً من كل دار فاضطرب أهل دمشق اضطراباً عظيماً. وقال أبو بكر العمري من قصيدة وصف بها سنة القشلق: قوم من الأتراك عاثوا بها ... على خيول ضمّر شبق من جهة الشرق لقد أقبلوا ... والشر قد يأتي من المشرق في رقعة الشام غدت خيلهم ... وذلت الأرخاخ للبيدق أجلوا أهالي الدور عن دورهم ... بالسيف والدبوس والبندق واتخذوها مسكناً دونهم ... بالفرش من خز واستبرق وحملوهم كلفاً أعجزت ... غنيهم جهداً فكيف الفقير

القضاء على الأمير فخر الدين المعني:

قال المحبي: أن القشلق من عسكر السلطان مراد بن أحمد كانوا عينوا لمحاربة شاه عباس فدهمهم الشتاء دون الوصول إلى خطة العجم فأمروا أن يشتوا في دمشق وأطرافها من القرى وضيقوا على الناس أمر المعيشة وبالغوا في التعدي ونهب أموال الناس. وفي سنة 1043 جاء السردار الأعظم محمد باشا إلى حلب يحمل مرسوماً سلطانياً بقتل نوغاي باشا لأنه تهامل في قتل من يجب قتلهم من الأشقياء واكتفى منهم بمصادرة أموالهم، فقتل وأرسل رأسه بلحيته البيضاء إلى جانب السلطنة. قال نعيما: وهذا الوزير ممن سبقت لهم خدم جلي للدين والدولة وهو من أقدر الوزراء. وفي هذه السنة تجمع نحو خمسمائة من أرباب الفساد من الانكشارية وثاروا بوالي حلب فقتل منهم خمسون وجرح كثيرون، ثم جاء رؤساؤهم معتذرين للوالي بما صدر من أوباشهم فتأثر جميع النافخين في بوق الفتنة وقتل الجرحى والهاربين منهم فسكنت الثائرة. وفي هذه السنة خرجت عساكر من دمشق وباغتوا أمير وادي التيم فنهبوها وأحرقوا قراها وباغت صاحبها العسكر الدمشقي فظفر بهم ورجعوا عن أقليمه. القضاء على الأمير فخر الدين المعني: فس سنة 1043 قويت كلمة فخر الدين بن معن الثاني وكانت الدولة منذ ثلاث وعشرين سنة تنظر إليه نظر الخارج عن طاعتها، وحاولت غير مرة أخذه فلم تستطع لأنه كان بجيشه أقوى من الجيوش التي تساق عليه، وأرضه حصينة بطبيعتها وحصونه كثيرة ممتنعة، ولولا أن الدولة مرتبكة بغوائل خارجية لضمت قوى كثيرة من قوتها وأخذته أخذ عزيز مقتدر، فلما استراح بالها من مشاكلها أرسلت عليه جيشاً من الأناضول بقيادة أحمد باشا الأرناؤدي كافل دمشق فانتصر عليه الأمير فخر الدين في وقعتين قرب صفد، ثم انتصر عليه القائد العثماني في وادي التيم وقتل ابنه علياً وتوفي أخوه متأثراً من جراحاته، وكانت أرسلت الدولة عليه أسطولاً من البحر فغلب على أكثر سواحله وعاون بنو سيفا وأصحاب الأحزاب بعسكر وافر الجيوش العثمانية ومشوا مقابل المراكب على طريق البرفتشتت المعنيون،

وكانت الدولة تحاذر من معاونة أسطول البنادقة أو الطسقانيين له، ولجأ الأمير إلى شقيف تيرون فضاقت نفسه وفي رواية أنه هام على وجهه في الجبال سنة ودل جماعته عليه، ثم عمد إلى مغارة في جزين فاضطر أن يسلم نفسه إلى الوزير العثماني فدخل به إلى دمشق بموكب حافل وهو مقيد على الفرس خلفه، ثم حمل إلى الآستانة فقابله السلطان مقابلة لا بأس بها ولامه على أفعاله فقدم أعذاره، واحتج بأنه جمع الرجال لأمور مختصة بالوزراء والنواب وما قتل غير العصاة على السلطنة، وأن القلاع التي استولى عليها وفتحها كانت بيد العصاة وسلمها للسلطنة فاقتنع السلطان من كلامه وعفا عنه ولكنه أبقاه مخفوراً. ولما قام حفيده الأمير ملحم وكسر جيش والي دمشق ونهب صور وبيروت وعكا صدر أمر السلطان بقطع رأس الأمير فخر الدين وخنق ابنه الأكبر. وذكر الشهابي أن الأمير علي بن علم الدين اليمني الذي وسد إليه حكم لبنان بعد أسر الأمير فخر الدين قد ضبط جميع أرزاق بيت معن وقبض على تابعيهم وقتل بعضهم، ثم باغت الأمراء بيت تنوخ وكانوا في الحمام في السراي التي تحت القرية فقتلهم وردم البرج على أولادهم الصغار، ولم يترك من بني تنوخ ذكراً يخلفهم، ولما بلغ ذلك الأمير ملحم بن معن جمع من كان معه من القيسية وركب على اليمنية فقتل منهم كثيراً وقدر من قتل من الفريقين بنحو أربعمائة نفس، وانهزم الأمير علي بن علم الدين إلى دمشق وخرج منها بعسكر نحو خمسمائة رجل وعندما وصل تحت قب الياس نزل سعيد أحمد أبو عذرا إلى مقاتلتهم برجال العرقوب في نحو أربعمائة رجل، فأخلت له الدولة الخيام حتى دخل بالرجال ثم أطبقوا عليه فما سلم منهم إلا القليل، فرجع الأمير ملحم واختبأ في الشوف وتجددت عند ذلك الشكايات على الأمير فخر الدين وعندها أمر السلطان بقتله. قال المرادي: إن أملاك الأمير فخر الدين وهبها السلطان مراد إلى أحمد باشا الكوجك، وكان عمر التكية خارج باب الله بالقرب من مسجد القدم بدمشق فوقف عليها ذلك من متعلقاته في بلعلبك وصيدا وريشيا وحاصبيا وكانت أملاكاً لفخر الدين. وبهلاك الأمير فخر الدين وضعف سلطة الأمراء المعنيين استراح الأمراء المجاورون أمثال بني سيفا في طرابلس والأمير أحمد بن طرباي الحارثي أمير

اللجون في نابلس، وقد وقعت بين هذا وبين الأمير فخر الدين حروب كثيرة، وكان ابن معن توجه لقتاله ثلاث مرات ورحل ابن طرباي إلى الرملة وكان في كل مرة يكسر عسكر ابن معن ويدحره، وأشهر وقعاته معه وقعة يافا وكان هو وحسن باشا حاكم غزة محمد بن فروخ أمير نابلس فقتل من جماعة ابن معن مقتلة عظيمة وغنم غنيمة وافرة. وحارب مرة بدو الساحل على نهر العوجا وبدد جموعهم ولكن أهل كورة حارثة في جينين حاصروه في قلعة هذه المدينة وأخرجوه منها. هلك فخر الدين بن معن الثاني بعد أن كاد يستولي على أكثر الأقاليم بأخذه أملاك بني سيفا وبني الحرفوش في طرابلس وبعلبك، وقد كان واسع الصدر بعيد الغور والنظر متسامحاً يسير مع المدنية سير تعقل، وأخذ في آخر أمره يعمر في بيروت حديقة للوحوش تقليداً لملوك إيطاليا، وعمر قلعة صرخد وقلعة شميميس وقلعة فوق أنطاكية وجهزها بالعساكر. فشكته حكومة حلب للباب العالي. قال المحبي: إن ابن معن بلغ مبلغاً لم يبق وراءه إلا دعوى السلطنة، وعلل البوريني سبب أخذ الدولة له أنه أخذ يحصن قلعة الشقيف عدة أعوام وأخذ لواء صفد، فعظم شأنه وارتفع مكانه وبعد وصيته، وكثرت أمواله لأنه تصرف في أرض ما خطر في بال أحد من الأمراء التصرف فيها، وكان ملك كفر كنّه وعكا والساحل وصفد وبلاد ابن بشارة والشقيف وبيروت وصيدا وجبل كسروان وجبة المنيطرة وجبيل وأنطلياس والبترون والجرد والغرب والمتن والشوف والمقيطع والشحار والبقاع وبعلبك وصور والمعشوقة، وحصن قلعة الشقيف وجددها وشحنها بالأرزاق الكثيرة وجعل بها من آلات الحصار شيئاً كثيراً واستمر في ذلك التحصين نحو عشرة أعوام فتفطن له الأمراء والوزراء. وقال نعيما: إن قلاع الشقيف وبانياس ودير القمر كانت محصنة في عهد ابن معن فصعب استيلاء الجند العثماني عليها لما عصى على الدولة، وإن من قتلوا في برهة قليلة من عصاة الدروز بلغ نحو ثلاثة آلاف وأُحرقت بيوتهم وقراهم، وإن عهده وما بعده في الجبل مضى مع الدولة تارة في حرب وطوراً في سلم وصلح اه. ومن الحصون التي رممها وأنشأها قلعة قب الياس وبانياس وبرج الكشاف في بيروت وبرج البحصاص في طرابلس ورأس بعلبك واللبوة وحدث

بعلبك والصلت وحيفا ونوله وسمر جبيل وطرابلس وصافيتا والمرقب وحصن الأكراد. وكانت له في باب قوة الإرادة آيات منها أنه لما حدث اختلاف بينه وبين بيت سيفا أصحاب طرابلس، أتى بنو سيفا وأحرقوا ونهبوا الشوف فأقسم كما قيل هكذا: وحق زمزم والنبي المختار لعمرك لأعمرك يا دير بحجر عكار. وهكذا كان فإنه لما فاز على بني سيفا وحاصر قلعة الحصن وأخذها وهدمها، جعل الجمال بالألوف تجلب الحجارة من عكار إلى دير القمر وبني الدور القديمة في الدير ووزع في جدرانها من حجارة عكار الصفراء. كان ابن معن يجمع إلى الحسنات سيئات فمن حسناته أنه كان يميل إلى عمران إماراته ويتسامح مع الأجانب حتى تكثر صلات الشاميين بهم للتجارة، وكان عنده على الدوام عشرة آلاف جندي تحت السلاح ويستطيع أن يجند مثلها وقيل: إنه كان يستطيع أن يجند أربعين ألفاً. وقد سئل لما كان في إيطاليا كم يقدر أن يجهز من العسكر فقال: كنت أجمع نيفاً وعشرين ألفاً ما عدا الذين يتأخرون في البلاد للمحافظة، وكان يفضل على الأدباء والعلماء وكذلك كان يفعل خصومه بنو سيفا. أما سيئاته فكان مفرطاً بأخذ الأموال من الناس ولا سيما بعد أن زار إيطاليا وتعلم منها البذخ حتى اشمأزت منه رعيته، وقد بلغت جبايته تسعمائة ألف ليرة يعطي الدولة نحو ثلثها ويتمتع بالباقي. وكان نزوعاً إلى العلى محافظاً على صلواته مع الجماعة وعلى عاداته الإسلامية حتى في إيطاليا، وبنى جامعاً ومئذنة في البلدة التي نزلها، ولما كان في الغرب عرض عليه ملك اسبانيا أن يدين بالنصرانية ويتولى مملكة أعظم من مملكته فاعتذر بلطف. ذكر هذا مؤرخه الخالدي إلا أن المعلمة الإسلامية تقول: إن الأمير فخر الدين لما وفر إلى ليفورنا 1022 واستقبله كوسموس الثاني الدوق العظيم باحتفال حافل لم يتحقق الأمل الذي كان عقده من العودة في الحال بجيش معاون من المسيحيين للقضاء على السلطة التركية في الشام. وعبثاً حاول أن يظهر أن الدروز من نسل مسيحي اسمه الكونت دي درو وأنه هو أيضاً من أبناء كودفري دي بوليون من أمراء الصليبيين. ولم يوفق أن يحمل المسيحيين على إعلان حرب صليبية جديدة. وربما كانت قواه إذا قيست بقوى ابن سيفا صاحب طرابلس

فتن في الساحل:

متكافئة لأن الدولة كانت تعضد ابن سيفا سراً حتى لا يتعاظم نفوذ ابن معن، ولكن شتان بين الرجلين في الغناء وبعد النظر. فتن في الساحل: وفي سنة 1044 حارب الأمير عساف بن يوسف سيفا الأمير علي بن عساف وأحرق بلاد جبيل والمنيطرة وقتل من جماعة عساف كثيرون، وكثرت الحكام والأحزاب في لبنان وظلموا الرعايا وأخذوا المال الأميري مرتين، وقبضوا على رؤساء القرى وشددوا عليهم ليخبروا عن أرزاق بيت معن وبيت الخازن، وفي السنة التالية باغت الأمير علي بن سيفا قرية أميون وأحرقها، فجمع خاله الأمير عساف الرجال ودارت الحرب بينهما في أرض عرقة فانكسرت جماعة الأمير علي، ثم أعاد هذا الكرة على خاله في عناز من بلاد الحصن فظفر به الأمير عساف وقتل من جماعته مقتلة كبيرة واشتد الضيق بالناس. وفي سنة 1046 قصد أحمد الشمالي آغا الانكشارية مقاتلة الأمير علي بن علم الدين لتأخره في أداء المال السلطاني ومعه متولي صفد وبيروت وطرابلس فانهزم قدامهم، ورحل معه يمنية الغرب والجرد والمتن والشحار والشويفات بعيالهم ومواشيهم وكانوا نحو سبعة آلاف نفس فدخلوا كسروان، وانهزم من قدامهم القيسية وكسروهم في مرحاتا، ثم طردوهم من كسروان فساروا إلى عكار وسار عسكر الدولة على طريق الساحل ودخلوا طرابلس وخرجوا إلى نهر البارد فانهزموا من أمامهم ولحقوهم بأرض الجون فكسروهم وسبوا حريمهم وأخذوا مواشيهم، ثم إن طروبه البدوي تداخل بالصلح بين الأمير عساف وابن أخته علي فرجع ابن علم الدين إلى بيروت. ولما حدث ذلك الاختلال في الساحل ظهر الأمير ملحم بن معن وحكم الشوف، وجمع بيت الحرفوش سكمانهم وعربانهم لاسترجاع بعلبك فخرج إليهم نائب دمشق بعسكره ووقع بينهم الحرب فظفر النائب ببيت الحرفوش وقتل منهم مقتلة عظيمة. أي إن الحال لم تستتب في لبنان بهلاك الأمير فخر الدين المعني، وقد جرت شؤون كثيرة من خراب وقتل وشنق في السنين التي أعقبت قتله حتى آخر عهد مراد الرابع.

إبراهيم الأول وسفاهته:

وكان الوالي بدمشق سنة 1046 درويش محمد باشا الشركسي ففتك بأهلها وتجاوز في ظلمهم الحد وفي آخر أيام 1047 اجتمع العامة على القاضي واشتكوا من الظلم وبالغوا في التوسل، فلما بلغه ركب وكان مخيماً في الوادي الأخضر بدمشق وأتى مغضباً وسفك دم بعضهم ثم عزل وصار أمير الأمراء بطرابلس. وهذه القاعدة مما كانت تسير عليه الدولة في نقل الولاة فمن ترتضيه ويوافق مصلحتها تنقله إلى مكان آخر إذا قامت عليه الشكايات مهما عظمت وثبتت لديها، كأن الولاية الأخرى ليست من ملكها ولا يهمها أمر أهلها، وأن الوالي بمجرد نقله يغير أخلاقه. إبراهيم الأول وسفاهته: توفي مراد الرابع سنة 1049 بعد أن حكم سبع عشرة سنة وكان من الشدة على جانب عظيم منهمكاً في شهواته ولذاته، قيل إنه قتل مائة ألف إنسان منهم خمسة وعشرون ألفاً بنفسه وأمام عينيه ولكنه أمن على حدود الولايات الشرقية باستيلائه على بغداد، وهو الذي قضى على فخر الدين المعني الثاني، ولولا ذلك لاستقل هذا بالشام وربما امتد حكمه إلى أبعد من ذلك من الأقطار والممالك، ولم ترتح هذه الديار بعد مراد الرابع، كما أنها لم ترتح على عهده فخلفه السلطان إبراهيم وكان خالعاً ماجناً فسدت المملكة في أيامه بأخلاقها ومشخصاتها، وكان أبداً في شاغل عن الأمة إلا بما كان من تحقيق شهواته، وكان غريباً فيها. وقد عقد مراد بك في تاريخه أبو الفاروق فصلاً في سلطنة النساء استغرق جزءاً برمته نلخصه هنا ليتبين للقارئ كيف يكون حال مملكة سلطانها سخيف ضعيف. ومما ذكر فيه استرسال السلطان أحمد في الشهوات حتى قضى في الثامنة والعشرين شهيد الغواني والكؤوس، أما السلطان إبراهيم هذا فهو أعظم زير ابتلي بحب النساء حتى كان كل أسبوع يبني ببكر ويجرى له عرس وتقام الأفراح في قصره، وكان كلما سمع هو أو والدته كوسم والدة أو أحد حاشيته وحملة حاشيته ووزراؤه وعماله بغانية حسناء يقدمونها لسلطانهم، حتى عجز سلطان عن ملامسة النساء لكثرة إفراطه فجاء جنجي خواجه وكتب نسخ

الأدوية والعقاقير النافعة في القوة حتى أصبحت المملكة تفاخر بأن سلطانها يستطيع أن يقترب من أربع وعشرين بكراً في الأربع والعشرين ساعة! وأصبح القول الفصل في القصر السلطاني للجواري والسراري، وكان على نسبة اشتداد أعصاب السلطان يضعف عقله وهو لا عمل له إلا الأفراح والنساء والغناء والخلاعة ودخول الحمام واقتناء الجواري والحلي والزهور والأموال والطرائف، وإصدار الأوامر بقتل الأنفس بمعنى وبلا معنى، وأخذ يستريح إلى رؤية المناظر الفظيعة من القتل شأن قياصرة رومية في أواخر أيامهم. وكان تقرر جعل النساء الرسميات أربعاً ثم أبلغت والدة السلطان عددهن إلى ثمان نساء، لأن نسل بني عثمان كاد ينقرض، وأحبت كوسم والده تكثير نسلهم على هذه الصورة، ولكل واحدة من تلك الجواري من الخدم والخادمات والوصيفات والندماء والنديمات والخازنات والملبسات عشرات وربما مئات، تجبى واردات الولايات العظيمة لتعطى إلى المقربين والمقربات، والوظائف تباع بيع السلع بالمزاد ولا سيما على عهد الأغوات بكتاش آغا ومراد آغا ومصلح الدين آغا وأمثالهم، ولم يبق أحد لا يرتشي من الصدر الأعظم فنازلاً، لأن السلطان يطلب من كل عامل عنده جعلاً يليق بشأنه سلطانه، حتى تعدت الحال في طلب الأموال إلى كبار التجار في الاستانة، وأخذ رجال القصر ونساؤه يسلبون من الأمة ما يقدرون عليه، واضطر كثير من التجار إلى الاختفاء وإغلاق حوانيتهم تخلصاً من مطالب جماعة السلطان، ولا تسل عن رواج سوق الحليّ والجواهر والعربات المرصعة والطسوت المحلاة والنعال المزينة بالأحجار الكريمة والإسراف في استعمال الذهب واللؤلؤ والزبرجد وسائر المعادن النفيسة في الآنية والزينة والنقش فإنه مما لا تتصوره العقول. وكانت واردات لواء سنجاق تعطى من قبل نفقة لنساء القصر فأصبحت أيالة الشام على طولها وعرضها يخصص ريعها وجبايتها للمرأة السابعة بحسب الأصول الحديثة على العهد الإبراهيمي. ولم يرض النساء أن تجبى لهن الأموال الولاة وبكوات الألوية، بل كنّ يعين جباة من قبلهن يجبون باسمهن ريع الولاية أو اللواء. وقد كان الذي عهدت إليه جباية واردات الشام محمد آغا الذي اشتهر فيما بعد في التاريخ العثماني باسم محمد باشا الكوبرلي الكبير،

وهو ممن حالوا بتدبيرهم دون سقوط الدولة العثمانية. قال أبو الفاروق: ولا غرو فقد توجد الدرة النفيسة بين الكناسات والقمامات. ولم يكتف السلطان بما كان يقدم له من النساء بل كان يطوف العاصمة وضواحيها، فإذا رأى من أعجبته وتردد وليها في إرسالها يلقى جزاءه في الحال. وبلغ السلطان مرة أن امرأة ايبشر مصطفى باشا في جهات سيواس على غاية من الجمال، فأرسل إلى واردار علي باشا ثلاثين ألف ليرة ليبعث إليه بزوجة مصطفى باشا فنفر علي باشا من اقتراح سلطانه وأجاب بالرفض، فقرر السلطان إهلاكه، ولكن علي باشا رفع راية العصيان وجعل عالي الأناضول سافلها، وقرر السلطان أن يأتي بزوجة ايبشر مصطفى باشا ويعريها ويجعلها في أحد الشوارع المهمة بين عمودين يربط إليهما رجلاها ويداها ويطلق للعامة والعسكر أن يلمسوها حتى تموت، فلم يقنع السلطان أصحابه بالرجوع عن هذا العمل البشع إلا بعد اللتيا والتي. وقرر هذا السلطان الأخرق يوماً أن يقتل النصارى بأسرهم في مملكته فاحتال عليه شيخ الإسلام قائلاً: إن في قتلهم نقص واردات السلطنة، وإن مائتي ألف إنسان إذا قتلوا في العاصمة تخف الجباية لا محالة، وبهذا استرجعوا من هذا المعتوه الفاجر إرادته المختلة وهكذا حتى خلع وقتل سنة 1058 بعد سلطنة ثمان سنين وتسعة أشهر. وقد قتل عدة من رجاله وقتل الصدر الأعظم مرة لأنه بعث في طلبه لتدارك حطب للقصر فقال له الوزير: إن هذا الطلب ليس من الأمور المهمة التي يفكر فيها من يفكر في أمور السلطنة فمثّل به في الحال ولم يجرأ بعدها على تولي الصدارة إلا من كان على جانب من الرياء والنفاق ليرضي السلطان. وذكر مؤرخو الترك أن سلطان زاده محمد باشا الذي تولى الصدارة على عهد السلطان إبراهيم ثلاث سنين خرب خلالها في جسم الدولة ما لا يقع مثله في ثلاث قرون، وبلغ من ريائه مع سلطانه ما لم يوفق إليه أحد، وجاءه أمر من السلطان ذات يوم يقول فيه: إن الخزينة نضبت أموالها ولا بد أن يسترجع ما أهداه أجداده السلاطين إلى حرمي مكة والمدينة من المجوهرات ليسد العجز فقال الصدر الأعظم على دهائه وريائه وهو يقرأُ هذه الإرادة السلطانية:

لقد سقطت الدولة إلى هذه الحالة بفيلق من الجواري الناقصات من بنات الروس وبولونيا والمجر وفرنسا. ومما ذكروه في باب إسراف ذاك الدور أنه كان عند دفتر دار محمد باشا 47 طاهياً و 7 رؤساء طهاة ولكل طاه خدامه وخيامه وأشياؤه وبغاله وجماله حاضرة على الدوام وفي بيت مؤنته من الأواني المرصعة والمذهبة والمفضضة وغيرها ما يبلغ مجموع ثمنه ثروة كبرى. وهكذا أسرف السلطان ورجاله في كل شيء وفسدت الأخلاق ولا من يجسر أن يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر حتى قال أبو الفاروق: إن معظم كبراء الأمة ومن كان لهم علاقة بقصر السلطان إبراهيم كانوا يتقربون إليه بتقديم الأبكار الحسان فرأوا القيادة والدياثة أحسن شافع لهم عنده للترقي والاغتناء. فإذا كان على هذا النحو حال دار الملك وحال قدوة رجال الأمة فيها، فما الحال بالولايات ولا سيما البعيدة كهذا القطر، وكان ولاته كولاة غيره من جماعة القصر ينصب أكثرهم بشفاعة النساء والقوادين والقوادات. على هذا المثال كان أغوات القصر الأغبياء ينصبون الولاة ولا يتركون لهم مجالاً ليقفوا على حال البلد الذي يقضي عليهم إدارته، بل يبدلونهم بغيرهم بعد مدة وجيزة ويبعثون بآخر من هذا الطراز. كل ذلك من مقتضيات الجهل والطمع والشفاعة، فاقتضى أن يكون الوالي من صنائع بعض العظيمات أو العظماء، وكثيراً ما يكون ما جمعه من المال في ولايته داعياً إلى توجيه النظر إليه فيقتل لتصادر أمواله، ولطالما كان قتل العمال مما يروق السلطان لأنه يقبض على أكثر موجودهم، وكم من مرة كانت امرأة أحدهم أو قصره البديع في المضيق في فروق سبباً في الغضب عليه والحسد له، حتى يورده الوزير الأكبر أو غيره حتفه ليتمتع بعده بزوجته أو ليسكن قصره أو ينال غير ذلك. وذكر أبو الفاروق عند كلامه على مصطفى سلطان وكيف تجرد في قصره عن العالم وحصر وكده في شهواته أن آل عثمان من القديم تفردوا بغلبة شهواتهم عليهم، وقد وقع عارض لمراد الثالث فأخذ أهل القصر السلطاني يتعلمون أدوية الباه من الشرق والغرب وهو يسيء استعمالها.

فتنة وال أخرق في حلب:

فتنة والٍ أخرق في حلب: ومن الأحداث في أيام السلطان إبراهيم فتنة ثار وقدها بين الانكشارية ورؤسائهم في حلب، كان السبب فيها أن الانكشارية طلبوا من رؤسائهم أن يعطوهم غروشاً بدلاً من الأقجات، وطلبوا عزل وكيل رئيسهم وكاتبه، فقتل منهم جملة، ثم وقعت بينهم وبين رجال الصدر الأعظم فتنة قتل فيها نحو خمسين رجلاً من الطرفين وانتهت القضية بقتل آغتهم ووكيله وكاتبه. ومنها ما رواه نعيما في حوادث سنة 1054 قال: إنه كان في بر حلب رجل اسمه الأمير عساف يتولى إمارة البادية، وقد أخذ يسلب أرباب القرى أموالهم وسلط أشقياء العربان عليهم، فأنشئوا يقطعون السابلة حتى عم شرهم وصعب استئصال شأفتهم، فدبر والي حلب إبراهيم باشا تدبيراً أخرق وذلك بأن دعاه إلى مأدبة ليغتاله في خلالها، وعلم الوالي أن الرجل لا يوافي حلب فارتأى أن يأدب المأدبة على خمس ساعات من المدينة، فخرج الوالي في جنده وخرج عامة أهل البلد لابسين أحسن بزة، راكبين الخيول المطهمة، حتى وافوا محل الضيافة التي أقامها الوالي لأمير البر، وكان الوالي أوعز إلى جنده أن يطلقوا النار على الأمير عندما يقترب منه لتقبيل الركاب على العادة فأتمروا بأمره، ولكن الأمير كان يلبس ثلاث دروع فلم يؤثر فيه سلاحهم وركب فرسه من ساعته، وكان معه زهاء ستة آلاف فارس مدججين بالرماح، فحملوا على جند الوالي حملة منكرة وقتلوا منهم جماعة، وأحاطوا بالأهالي فسلبوهم ثيابهم وخيولهم، ولم يكونوا أقل من خمسة آلاف وقد جُرح أكثرهم، ورجع الوالي إلى حلب لم يظفر بمبتغاه فأثرت هذه الحادثة، وأخذ الأمير عساف يعادي الدولة العثمانية علناً وطمعت البادية فأخذوا يطيلون أيدي اعتدائهم أكثر من قبل فاضطرت الدولة إلى تنحية واليها الفاسد الرأي السيئ التدبير، وبذل الوالي اللاحق وجماعته أنواع اللطف مع الأمير عساف حتى أعادوه إلى حظيرة الطاعة للسلطنة في الجملة، وطفق يهادي عمال السلطنة بالخيول ويرسل إلى الحكومة جزءاً من الجباية. وما كان يألفه بعض العمال من إعطاء الأمان للخوارج أو غيرهم ثم اغتيالهم في مائدة أو إدخال السم عليهم أو صلبهم علناً قد أدى إلى رفع ثقة الناس من عهودهم ومواثيقهم. وغلطة

محمد الرابع وصدارة كوبرلي:

واحدة ارتكبها والي حلب الأحمق أدت إلى ما أدت إليه من الفساد والبلبلة. قال الشهابي في حوادث 1054 أنه عزل محمد باشا الأرناؤوط عن إيالة طرابلس وتولاها حسن باشا وكانت الناس لكثرة المظالم تبيع كل ثلاثة شنابل قمح بقرش، ثم أعيد إلى طرابلس محمد باشا الأرناؤوط وأجرى المظالم على الرعايا حتى خربت قرى كثيرة ورحل أهلها. محمد الرابع وصدارة كوبرلي: بويع محمد الرابع بالسلطنة سنة 1058 بعد السلطان إبراهيم فطال عهده إلى سنة 1099 أي إحدى وأربعين سنة، وإذ كان طفلاً عهدت والدته، بعد تغيير كثير من الصدور، بالصدارة العظمى إلى رجل عاقل من رجال الدولة وهو محمد باشا كوبرلي وكان أمياً إلا أنه أتي بأعمال وطدت دعائم الملك بعد تزعزعه في عهد السلطان السابق بسلطة النساء، واشترط في تولي الصدارة أن يكون حراً في عمله لا ينازعه منازع، ولا تقبل فيه وشاية ولا يعين للمناصب إلا من يريد، وقتل ستة وثلاثين ألف إنسان حتى ألقى الرهبة في النفوس، وأمن قيام الخوارج والنزاع إلى الثورة من الزعماء وأرباب الدعارة والجند والعصاة، وخلفه ابنه أحمد باشا كوبرلي الذي كان حاكم دمشق وقاتل الدروز وانتصر عليهم. وكان على غاية من العلم والعمل. ثم خلفه في الصدارة قره مصطفى باشا فأخرج الصدارة عن طورها لأنه كان جماعاً للمال له وعنده ألوف من الخيل وكلاب الصيد والبزاة و1500 حصان و1500 سرية و700 خصي. وخلفه مصطفى زاده من أسرة كوبرلي أيضاً وكان من المضاء والشجاعة وحسن الإدارة والاستقامة على جانب عظيم، واشتد على المزورين والمرتشين وقضاة السوء وملأ خزانة الدولة بأموال اللصوص. وكان يقتل من يتناول التبغ من قبل، فجعل تجارته حرة على أن توضع عليه رسوم فاحشة، وقضى أن لا يؤخذ من الرعايا مسلمين كانوا أم مسيحيين غير المقرر من الجزى والخراج، وقسم المكلفين إلى ثلاثة أقسام يدفع الأول منهم دوكاً واحدة، والثاني دوكاً اثنين، والثالث أربع دوكات، وهذا هو النظام الجديد الذي بقي بعد هذا الوزير

زمناً، وخلفه صدر آخر كان ابن أخت الكوبرلي الأول اسمه حسين عموجه زاده وكان على قدم أجداده بعد نظر وحسن إدارة، فصح في هذه الأسرة ما قاله أحد مؤرخي الفرنجة من أن الوزير الأول منهم لقب بالكبير أو القاسي والثاني بالسياسي والثالث بالصالح والرابع بالحكيم. ولكن تأثيرات هؤلاء العظماء من الصدور لم تكن إلا في الشام لبعد المسافة عن العاصمة، ولأن طريق الالتزام في جباية الأموال كانت سقيمة تدعو إلى إضعاف المملكة، ولأن الوالي كانت له لا مركزية واسعة يعمل بقريحته على الأغلب. وفي تاريخ فلسطين أن حكومة سورية في القرن الثامن عشر كانت حكومة لا مركزية أي إقطاعات أو حكومة أمراء ومشايخ يقوم كل منهم بحكم منطقته. فكان مشايخ أبو غوش أو البراغثة يحكمون بني مالك وبني حسن وبني زيد وبني مرة وبني سالم، فإذا اختلف اثنان كانا يتقاضيان عند الشيخ ويقبلان حكمه لا محالة، ومن خالف العادات أو أخلّ بتقاليدهم يسجن في سجنهم، وكان الشيخ أو الأمير يجبي الضرائب ويقدم المقطوع عليه للوالي ويأخذ الزيادة، وإذا حدثت فتنة أو خيف من وقوعها كان يطلب الوالي المعاونة من أمراء منطقته فيخرجون بأنفسهم ومن ورائهم رجالهم وفرسانهم. وكثيراً ما كان يستبد هؤلاء المشايخ بالفلاحين ابتغاء مرضاة الأمراء والولاة فأدى هذا النظام إلى انتشار الفوضى واختلال الأمن وسبب للحكومة خسراناً كبيراً في الأموال والرجال. ولقد حاول السلطان محمد الرابع لما كبر وترعرع أن يقتل شقيقيه سليمان وأحمد فمنعته والدته من قتلهما وحال بينه وبين القتل المفتي الأعظم، مورداً له كلام الله مخوفاً له من عذابه، وبذلك انقضى دور قتل أبناء ملوك آل عثمان وتسلطن شقيقاً محمد الرابع بعده. ووقعت في سلطنة أحمد الرابع في الشام كوائن كثيرة منها الوقعة التي حدثت سنة 1600م في وادي القرن من عمل لبنان الشرقي، وذلك أن ابن علم الدين أغرى ابشير باشا والي إيالة الشام بالزحف على ابن معن حاكم لبنان فالتقت عساكر الشام والمعنية عند وادي القرن وكانت الدائرة على عسكر الشام. ويقول مؤرخو الترك: بل كانت على عسكر ابن معن وكان اسم ابن معن الأمير ملحم ولي كما قال

المحبي بلاد عمه أي الشوف والغرب والجرد والمتن وكسروان وكان حازم الرأي عاقلاً حسن التصرف فلهذا أبقي مدة تزيد على عشرين سنة لم ينغص له فيها عيش إلا مرة واحدة لما قصده ابشير باشا وكان ذلك بإغراء بعض المفسدين وانتصر في تلك الوقعة. وفي خلال ذلك كان درويش الشركسي المعروف بالمجنون والياً على تدمر فكان يغير على العربان وينهبهم ويأسر منهم ويدخل إلى دمشق بالمواكب الحافلة، ثم ولي لواء عجلون فثار بينه وبين أهلها حروب كثيرة وكسروه. وروى نعيما 1065 عند كلامه على والي حلب ابازه حسن باشا أنه كان من أبناء الجد بلغ المناصب بصور غريبة وهو شقي يميل إلى الفساد والمظالم، وإذا أريد تسطير ما أتاه من الجور على الرعايا لاستلاب أموالهم اقتضى ذكر مجمله كتاباً ضخماً. وأن الحكام كانوا يجبون الجباية ضعفين فيأخذون ممن يقضي عليه أداء عشرة آلاف عشرين ألفاً، ومن يغرم الخمسين مائة أو مئات، ولم يكن لتعديهم غاية ولا لظلمهم حد يقف عنده، فتهلك القرى والدساكر بمظالم الجند الذين يرسلهم الولاة والقضاة ممن كانوا يبتاعون بالرشاوى مناصبهم فيغضي عنهم الكبراء لأنهم شركاؤهم فكان من يرفعون ظلاماتهم إلى الآستانة لا يجدون أذناً صاغية وربما انعكس الأمر عليهم وصدّق رجالها الوالي الظالم وسفه أحلام المتظلمين فيزيد الظالمون في ظلمهم. قال: وكان الفقراء يرتحلون عن أراضيهم فأصبحت القرى المعمورة والقصبات المشهورة مروجاً ينعق فيها غراب الخراب، وإذا كان من يحاولون الجلاء عن أرضهم أغنياء يسوق الوالي عليهم الأربعمائة والخمسمائة من جنده ينهبهم ويسبيهم اه. ومن الغريب أن يكون حسن أبازه باشا والياً على حلب على عهد صدارة الوبرلي الذي يقدسه العثمانيون بإدارته ولعلهم يحكمون على الرجل من رجالهم بحسن الإدارة والإصلاح بمجرد بطشه بالعصاة وإجهازه على من لا تروقه أعمالهم أو ينازعونه في سلطانه، أما تقاضي الجباية مرتين من الرعايا وإلقاء الفتن الدائمة بينهم فليس من المسائل الجوهرية في قائمة أعمالهم! وحسن أبازه باشا، خرج عن طاعة الدولة في حلب ومات في تلك النواحي وانضم إليه السكبان وخمسمائة جندي كانوا مع نائب دمشق أحمد باشا الطيار فعينت الدولة

لقتاله الوزير مرتضى باشا فتقابل الجيشان وانكسر مرتضى ثم أخذ بالحيلة وقتل هو وأعيان جماعته وتفرق عسكره وكان ذلك سنة 1069. وفي سنة 1071 قدم والياً على دمشق أحمد باشا كوبرلي ابن الصدر الأعظم محمد باشا وكان في الخامسة والعشرين من عمره. قال المحبي: وكانت الشام مختلة فأصلحها وركب على أولاد معن وبني شهاب فأزالهم عن بلادهم وقمع أهل الفتن. وذكر المؤرخون أن هذا الوالي لما كان بسعسع كاتبه بنو شهاب وعرضوا عليه جانباً من المال فما قبل وسار إلى وادي التيم فهدم سرايات بيت شهاب في حاصبيا وراشيا وبيوت مدبريهم وقطعوا نحو خمسين ألف شجرة من توتهم في مرج عيون والبقاع، وأعطى ولاية وادي التيم لأولاد علم الدين مع المقدم زين الدين وابن أخيه عبد الله. فزال بذلك حكم الشهابيين عن وادي التيم. وما أسخف هذه الطريقة في التأديب التي هي عبارة عن تخريب العمران. هذا وابن الكوبرلي من خير من ولي الشام ومن رجال الإصلاح والعلم. وأقام ابن الكوبرلي على صيدا باشا وجعلت باشاوية من ذلك الوقت حتى يرفع حكم أولاد العرب وأعطاها علي باشا الدفتردار. ولما بلغه ما صار من والي طرابلس واليمنية من حرق دور بيت أبي اللمع وبيت الخازن وبيت حمادة وقطع أرزاقهم وما وقع من الخراب في وادي علمات وإتلاف حراج مشمش ولحفد وأرض جبيل والبترون وجبة المنيطرة والعاقورة، ولما بلغه ذلك وأن الرعايا ضاقت به وخربت ديارها أمر بصرف العساكر ورجع إلى الشام، وعلي باشا هو الذي طلب مالاً من ناظر كنيسة مار جرجس في بيروت وإذ لم يقبل النصارى أمر أن تصير الكنيسة جامعاً وبنى لها مئذنة وسميت مقام الخضر. وفي سنة 1071 قدم علي باشا إلى صيدا وهو أول من تولاها من الباشاوات وكانت فتنة عظيمة بينه وبين مشايخ المتأولة فأوقع بالقيسية ونهب إقليمهم فارتحلوا عنه وبعد سنتين نصر الوالي القيسية. وفي سنة 1073 قتلت الدولة منصور بن شهاب أمير وادي التيم والأمير علي ابن عمه لموافقتهما رؤساء جند دمشق في وقعة مرتضى باشا لما ولي نيابة دمشق وقارب أن يدخلها، فأرسلا جنداً من وادي التيم تجمع في دمشق وانضم إلى من قام فيها من رؤساء الأجناد والأوباش والتقوا مرتضى باشا في القطيفة فهرب

منهم. ولما كتب النصر للدولة نزلت العقوبة بالثائرين وفي مقدمتهم الأمير منصور وأخوه والشهابيون على ما قاله المحبي في وصف إدارتهم وسيرتهم على عهده: وجورهم بالنسبة إلى أمراء بلاد الشام كالدروز بني معن والرافضة بني الحرفوش وبني سرحان مقصور على أنفسهم من حيث المعتقد فحسب، ومالهم في القديم والحديث كثرة أذية للمسلمين. ومن مساوي حكومة الإقطاعات أن صغار أمرائها من الشاميين كانوا يضطرون كل الاضطرار إلى المصانعة فتراهم أبداً مع القوي الذي تدوم سعادته إذا ولت عنه ولووا وجوههم، وفي هذا السبيل كانوا يقتلون رجالهم بل يقتل أبناء الأسرة الواحدة بعضهم بعضاً وتخرب بيوتهم وبيوت شملهم وحاشيتهم. والولاة يشدون مع هذا ويرخون لذاك شأنهم مع كل صاحب سلطة وقوة. وهكذا كانوا في معاملتهم لليمنية والقيسية يقوى تارة هؤلاء وطوراً أولئك، فقد وقعت سنة 1075 في الغلغول عند برج بيروت وقعة بين القيسية واليمنية قتل فيها عبد الله بن قائد بيه ابن الصواف وانكسرت اليمنية وانهزموا إلى دمشق. واشتدت الحالة على الشام في هذه السنة بسبب الطاعون المنتشر في أرجائها الذي أقفلت به بيوت كثيرة لموت جميع سكانها حتى إن قاضي حلب ضبط الأموات في حلب فبلغوا 140 ألفاً وكان القحط عم القطر قبل أربع سنين فجيء بالقمح من مصر وبيعت غرارة الحنطة بثمانين قرشاً. ولم تفتر الحكومة مع ذلك عن حرق الدور والقرى فقد استنجد 1082 بنو حيمور أمراء البقاع بحكومة دمشق فأنجدتهم بعسكر فداسوا وادي التيم وحرقوا دور بني شهاب وقراهم. واشتد ظلم بني حمادة في عمل طرابلس وظلموا الرعايا، فخربت القرى وكان في خلال ذلك 1081 والياً في حلب حسين باشا المعروف بصاري حسن يتلطف بالرعايا وينتقم من ذوي الكبر والمناصب. كما أن ظلم والي دمشق ومتسلمه اشتد سنة 1083 فأغلقت المدينة مرتين احتجاجاً على عمله. وفي سنة 1086 - 1087 حرقت قرى البترون وفي السنة التالية حرقت قرى جبيل والبترون أيضاً وخلت جبيل من سكانها. وفي سنة 1087 أمر والي طرابلس بحريق وادي علمات وهي فرحة وعلمات وعشاق وطورزيا والحصون

واهمج وجاج وقرى جبة المنيطرة وهي كفر جال والمغيرة ولاسا والمنيطرة وأفقا ولما رجع للعسكر جاء مشايخ بيت حمادة وأحرقوا قصوبا وتولا عبد الله وبسبينا وصغار وشبيطن. وفي سنة 1090 تولى خليل بن كيوان على صيدا فظلم الرعية كثيراً. وفيها كانت التجريدة على الأمراء آل شهاب من والي صيدا ووالي دمشق وكان النصر للباشاوات. وفي السنة التالية باغت الأمير عمر الحرفوش مع آل حمادة جماعة الأمير فارس شهاب في نيحا قرب الفرزل فقتله وقتل خمسين رجلاً من شيوخ وادي التيم، فجمعت أسرة شهاب العساكر وساروا إلى بعلبك فتداخل الأمير أحمد بن معن بالصلح وجعل جزية على آل الحرفوش كل سنة خمسة آلاف قرش ورأسين من أطايب الخيل. وفي سنة 1096 تولى ابن معن صاحب الشوف جميع مقاطعات بيت حمادة فأحرق ايليج ولاسا وأفقا والمغيرة وقطع أملاكهم. وفي سنة 1098 لما وفر الأمير شديد إلى جبيل نزل إلى العاقورة فأحرق من ضياع بيت المشايخ بيت حمادة نحو أربعين ضيعة وقطع أشجارها. وكانت مصيبة القطر في هذا الدور واحدة في الظلم، فكان الوالي في حماة مثلاً إذا غضب على رجل يضعه على الخازوق، وإذا غضب على امرأة وضعها في خيش مع شيء من الكلس وألقاها في العاصي، وأصبح الناس لكثرة المصادرات يكتمون أموالهم ويدفنونها في الأرض لتنجو من المصادرات والسرقات ويتظاهرون بالفقر، وربما مات أحدهم فجأة ولا يعلم أولاده بدفينته في جدار البيت أو الحائط فيقع المال بعد مدة في يد من تنتقل إليهم الدار. قال المحبي: ولكثرة جور الحكام في حماة على الأهلين في القرن الحادي عشر هاجر أغلب سكانها إلى دمشق. أما في جهات لبنان الغربي والشرقي فإن الوالي أو المتسلم أو المستبد إذا غضب على رجل أحرق قريته كلها أو عاقبه بقطع شجره، ولذلك كان من الدعاء على الرجل في لبنان الله يقطع رزقه أي أشجاره أو يخرب زوقه أي بيته، والزوق البيت، وفي سنة 1098 ورد الأمر لعلي باشا النكدلي متولي إيالة طرابلس أن يقتصّ من الأمير شديد الحرفوش لتخريبه قرية رأس بعلبك وهدمه حصنها، فكتب إلى الأمير أحمد بن معن أن يوافيه بالرجال فلجأ

عهد سليمان الثاني والحكم على الخوارج:

الأمير شديد إلى المشايخ الحمادية فأحرق علي باشا قرية العاقورة وأربعين قرية من قرى بني حمادة، ثم نزل عسكر للباشا على عين الباطية فباغته ليلاً آل حمادة والحرافشة وقتلوا منهم خمسة وأربعين رجلاً وانهزم العسكر. عهد سليمان الثاني والحكم على الخوارج: توفي محمد الرابع سنة 1099 وتولى السلطان سليمان الثاني والأمور في عهده الطويل لم تتبدل والمرض واحد، وهو سوء الإدارة وخراب العمران وهلاك المال وهتك الأعراض وقتل الرجال. وتم القرن والشام غرض الرماة تصيبها مطامع الولاة والأمراء وأرباب الإقطاعات والألوية وأهم ما كان فيه مظالم بني سيفا وبني معن وثورة ابن جانبولاذ، والولاة نسق واحد لأنهم نسخة من عصرهم، وإذا كانت أحوال القصر السلطاني ومن فيه مختلة كانت الولايات حقيقة بأن تباع فيها الأرواح بيع السماح، تساوى في ذلك البوادي والحواضر، والناس في أمر مريج لا يستقرون في بلد ويتنقلون في الأرجاء وإذا اشتد الظلم في مكان هجروه إلى موطن يتوهمونه أقل مظالم ومغارم، وأنى لهم مكان يسكنون إليه ويأمن فيه سربهم. وإذا امتاز هذا القرن بنبوغ آل الكوبرلي الذين تولوا الصدارة فإن ما أصاب الشام من عنايتهم جزء صغير جداً لا يكاد يشعر به، وعهد أولئك السلاطين كإبراهيم الفاجر ومصطفى الأبله ينسي عهد محمد الرابع ومراد الرابع. ولم يؤثر عن هذا القرن أنه أنشئ فيه غير قليل من الجوامع والمعاهد مثل جامع ابشير باشا وخان الوزير بحلب وكان بعض الولاة في القرن الذي قبله يرهقون الرعية ويقيمون شيئاً باسم العمران أما هذا القرن فغاية ما يقال فيه أنه تخريب الموجود. وممن حمدت سيرته من الولاة حسين باشا البالجي أمير صفد ثم طرابلس 1002 فقد كان من أنصف الحكام على ما قال المؤرخون، وإذا كتب لأحدهم أن كان على شيء من الأخلاق ينازعه المنازعون على ولايته في الآستانة فلا يتقلد زمامها إلا بمقدار ما يتعرف إلى أهلها ويدرس طبائعهم ويستقري ديارهم ثم يشخص إلى العاصمة ويستبدل غيره به وهكذا دواليك. هذا وأهمّ ما كان من حوادث هذا القرن فتنة ابن جانبولاذ التركماني

التي زال بها حكم الدولة عن القطر سنتين وذلك من أذنة إلى غزة ولم يطل أمد هذا الاستيلاء كثيراً إذ كانت دعامته القوة الموقتة، وهو ابن ساعته لم تعدّ له الأسباب بجملتها. أما الأمير فخر الدين بن معن الثاني فإنه كاد يستولي بالفعل على الديار لتنظيم جيشه وتعزيز قلاعه وبسط يده بالعطاء حتى استمال رجال الآستانة أنفسهم، وعني بإدخال روح التجدد في إمارته ودعي سلطان البركجده الأمير فخر الدين الأول ولو كان لحلفائه دوجات طسقانه إذ ذاك شيء من القوة وأنجدوه بقليل من رجالهم وذخائرهم، ولو لم يشتغل بال البابا وملك إسبانيا وكبير دوجات فلورنسة بحرب الثلاثين سنة لكانوا أعانوه على نيل أمانيه في الاستقلال خصوصاً وهم الذين كانوا يزينون له من قبل الاستيلاء على أنطاكية، فلو قدّر لهم أن ينجدوه لسهل عليه الاستقلال بالشام من عريشه إلى فراته بعد أن تمت له كل معداته، والعقل رائده والحزم قائده، خصوصاً وكان معوّله في قوته على الدروز وهم في هذه الديار على التحقيق منذ القديم من أشجع العناصر التي عرفت بمتانتها ومضائها في الحروب. وكان كثير من مدبريه ورجاله من المسيحيين ولمحبة قومه له ادعته أهل المذاهب الثلاثة في إمارته، فالموارنة يقولون له كان مارونياً والدروز درزياً والحقيقة أنه مسلم سني - خلافاً للمحبي والمرادي - يحسن السياسة والإدارة وينظر إلى رعيته نظر المساواة ويأخذ لخدمته الكفاة من كل طائفة. فهو بلا مراء مثال الأبطال في عصره، وكان على أتم الاستعداد للحرب وعلى معرفة بالإدارة وطبائع الأمة، ولو لم تصرف الدولة العثمانية قوتها كلها في قتاله لعمل في الشام في القرن الحادي عشر ما عمله محمد علي الكبير في مصر في القرن الثالث عشر ولم يكن دونه ذكاء ومضاء ودهاء.

العهد العثماني من سنة 1100 إلى 1200

العهد العثماني من سنة 1100 إلى 1200 حال الشام أول القرن الثاني عشر: تبلج فجر القرن الثاني عشر للهجرة والدولة لا تفكر في غير مصائبها الخارجية، والمملكة التي كانت تمتد من أسوار فينا إلى جنوب جزيرة العرب، ومن فارس إلى الغرب الأقصى لا وحدة فيها، ولا جامعة تجمعها، وليست متجانسة ولا متماثلة، تكافحها الثورات الداخلية، وتساورها الحروب الخارجية فلا تهتم للأولى اهتمامها للثانية، وتفني في سلطانها ويستعبدها أرباب الأقطاعات ويستبد بها الجند والولاة، وسكان هذا القطر كسائر الأقطار العثمانية كأرقاء لا عمل لهم إلا إرضاء شهوات حكامهم من وطنيين وغرباء، ولم يكن اختلاف العناصر أقل ضرراً عليها من اختلاف الطبقات العسكرية أوجاقات من الانكشارية واللوند والسكبان والقبوقول، والنزاع بين هؤلاء الجند وبين رجال الإدارة قائم على ساق وقدم في أغلب السنين، بل بين كل صنف من أصنافهم ورؤسائه، والأرواح في هذه السبيل تباع بالمجان، فلم يحدث شيء مما يقال له الإصلاح لأن رجال الدولة لم يفكروا فيه حتى يتوسلوا بأسبابه وإذا توسلوا فلا يحسنون طرقه، وقد اعتادوا الأخذ ولم يعتادوا العطاء بتحسين الحالة، ليزيد الأخذ والعطاء معاً. وندر أن يجيء من الآستانة رجل صالح في أخلاقه، معروف باستقامته وكبر عقله وسعة معرفته، يحسن إدارة الناس ويكف الظالم عن ظلمه، وهل

يفارق فروق إلا من أكره، وهناك النعيم والهناء وضروب الشهوات البشرية، وإذا جاء هذه الديار والٍ كبير من العمال فلإملاء هميانه على الأكثر بأموال الأمة ليعود إلى العاصمة سريعاً، يعيش عيشاً طيباً وينعم في قصورها بأمواله وطرائفه، ويجني في سنة ثروة كبرى تكفيه وأولاده وأحفاده على غابر الدهر. لم يكن ابن الشام يتبرم بنظام الدولة لزيادة في الجباية، بل لأن الجباية كانت على غير قاعدة مطردة، قد تجبى جباية سنتين أو ثلاث في غير أوقاتها في آن واحد، ولا تراعى في الجبايات أعوام القحوط والجدوب والمصائب، وإذا ضاقت الحال بأحد العقلاء أو ببعض الجماعات فرفع صوته بالشكوى عدوه خارجياً وقاتلوه وحرَّفوا دعوته على ولاة الأمر في الاستانة، ولبّسوا على العامة في أمره، حتى يسكتوا نأمته ويزيفوا دعوته، وإلا فلا يعقل أن يسكت جميع الناس عما ينال الأمة من هذه الطريقة المعوجة في الإدارة، فالخير في الناس ما انقطع ولن ينقطع، ومهما بلغ من انحطاط شعب لا يخلو من نبهاء يجاهرون بالحق، ولو كان في المجاهرة حتفهم أحياناً. وقد مهر رجال هذا الدور في تزيين الباطل وإلباسه ثوب الحق، وتقليل عدد الهالكين والشاكين والثائرين والناقمين، وإذا نشبت ثورة أو حدثت فتنة أو تألف جماعة لمقصد شريف، وكثيراً ما يصورون العذاب الأليم في صورة نعيم مقيم، ولا يعرضون على السلطان إلا المسائل الكبرى، كأن تتقد ثورة في الشام لا يمكن تلافيها إلا بإرسال جيش كبير من آسيا الصغرى، وتحتاج إلى مال لا بد من استصدار إرادة سنية بأدائه من خراج الولاية الفلانية. وغدا قتل الإنسان وسبي النساء والصبيان وخراب العمران، من الأمور المألوفة في تلك الأزمان. وفي هذا القرن بدأ الحكام وأرباب المقاطعات ينوعون أسماء الجباية كأن يقولوا الشاشية والبزرية، لسد عوزهم والقيام بواجب الضمانات الدولية، وكثير من الفتن كان الداعي إليها تأخر المقطعين عن تأدية ما عليهم من الجباية للدولة في أوقاتها، فتعدهم عصاة عليها وتسوق عليهم قوة تكون عاقبتها نكالاً على صاحب الإقطاع أو المتسلم، وخراباً على البلاد وأهلها من كل وجه.

والدولة قلما سعت إلى استئصال شأفة الشر، وما بحثت في أسبابه قط فتلافتها قبل وقوعها، وقلما اهتمت للفتن إلا إذا التهب شرارها وخشي منها على سلطانها، وندر أن أعدت المستعدين، ورفعت ظلامة المظلومين، ولماذا تهتم وكل قطر نشز عليها تضر به بعسكر من أهل القطر الأقرب إليه، إن لم تستطع ضربه بأبناء بلده أنفسهم، وإذا خافت من والٍ أو صاحب إقطاع قوة تسلط عليه خصمه أو جاره، فالناس أبداً متعادون متشاكسون، والألفة ارتفعت من بين أهل البلد الواحد فكيف تأتلف العناصر، وما ذلك إلا لتنفيذ رغائب السلطان الذي لا يرى لمملكته بقاء إلا إذا تباغض الناس وتربص كل فريق بالفريق الآخر الدوائر. بدأ القرن وعبدون باشا والي صيدا يوغل في مظالمه، وجعفر باشا والي دمشق ليس دونه في إنشاء المظالم، أما الأمراء المتغلبة من أبناء الأقاليم فكان أكثرهم من أحفاد الذين سبقوهم في غزة ونابلس وعكار ولبنان ووادي التيم وبعلبك وحوران والكرك وسليمة. قال راشد: إن بعض أعيان دمشق أغراهم المال والإقبال فأرادوا الخروج عن الطاعة ومفارقة الجماعة، فكادوا لواليهم حمزة باشا وطردوا عسكره إلى خارج دمشق وقاموا بأفعال شنيعة رافعين علم الثورة، فنقل حمزة باشا إلى إيالة طرابلس وأخذ الأهلون عند رحيله يطالبونه بما كانوا أهدوه إليه من الكراع والبسط وغيرها ونهبوا أتباعه. ثم عين أحمد باشا مكانه فلم يساعده الوقت على التنكيل بهم وخلفه مصطفى باشا مكانه فاضطر أيضاً لإلقاء حبلهم على غاربهم. ولما عين كورجي محمد باشا أجريت عليه التنبيهات اللازمة ليطهر الأرض من هؤلاء الأعيان فدعا الوالي تسعة منهم كما دعا العاصين محمد آغا صدقة ومحمد آغا قوشجي وبطش بهم وأرهب غيرهم من الخوارج. هذا ما قاله راشد في هذه الفتنة، ولم يقل إن والي دمشق ارتشى من الناس وظلمهم حتى ثاروا عليه، بل قال: إنهم أهدوا إليه أيام ولايته وطالبوه بهداياهم لما رحل عنهم فأبانوا عن صغر نفوسهم، وهذا مما يظهر ذهنية الدولة في تلك الأيام، وأن الوالي يجب أن تهدى إليه الخيول والطنافس والأعلاق وربما الدنانير والدراهم من غير نكير. وما ندري كيف تكون الرشوة إن لم تكن هذه الهدايا هي الرشوة بعينها.

دور أحمد الثاني وفتن:

وفي تقرير لأحد قناصل البندقية أن منصب الوالي كان في الاستانة يكلف من 80 إلى 100 ألف دوكا ومنصب الدفتر دار يباع من 40 إلى 50 ألف دوكا ومنصب القاضي يساوي أقل من هذه القيمة، وكلهم إذا جاءوا البلد الذي عينوا له يسلبون النعمة ويعرقون اللحم ويكسرون العظم. دور أحمد الثاني وفتن: توفي سليمان الثاني سنة 1102 فتولى السلطنة أخوه أحمد الثاني وهو الحادي والعشرون من ملوك آل عثمان والسادس عشر منهم في القسطنطينية. وفي أيامه 1103 عاقبت الدولة أعيان دمشق على ما بدا منهم في معاملة حمزة باشا على ما تقدم، وأرسلت حملة على أبناء سرحان حمادة 1103 النازلين في جبال طرابلس وكان لهم قبائل وعشائر، فاتفقوا مع أبناء معن حكام صيدا وبيروت، فصاروا يلتزمون أموال الحكومة ولكن لا يؤدون إليها مطاليبها في آخر السنة، حتى قلت واردات الدولة فأوعزت إلى محافظ الإيالة المذكورة الوزير علي باشا فجمع ما تيسر له من الأجناد وذهب إلى جبالهم التي امتنعوا فيها فقتل منهم كثيرين وأخذ زعماءهم وجعلهم طعاماً لسيوف رجاله، وطلب أبناء معن الأمان فأجيبوا إليه وتخلصت المقاطعات من تعديهم وظلمهم. ونزع الحكم من آل حمادة وكانوا في بعلبك والهرمل وعكار وجبيل والبترون والضنية والزاوية والجبة وانهزموا على طريق العاقورة فلحقتهم العساكر ومات منهم ومن عيالهم نحو مائة وخمسين نفساً من الثلج، ولما وصلوا إلى قرية الفرزل أتتهم العساكر وأبادتهم ولو لم يعف عنهم المشايخ الخوازنة ما سلم أحد منهم، وحُرّقت القرى وفتشوا عنهم وقرضوهم على بكرة أبيهم. وتوجه 1103 الأمير يونس شهاب من وادي التيم ودخل بلاد بشارة بعسكر عظيم فقتل ونهب ثم أرسل والي طرابلس إلى ابن معن يعرض عليه القطائع التي كانت لآل حمادة فلم يقبل وأجاب أنه لا يمكنه إجابة الطلب بسبب خراب الأقاليم، وأخذ والي طرابلس يتأثر من بقي من بني حمادة في السهل والجبل حتى أفناهم واستعان بولاة دمشق وصيدا وحلب وغزة على

دور مصطفى الثاني وانقراض دولة بني معن:

قتال ابن معن فساقوا عليه ثلاثة عشر ألفاً فهرب ووُسد الأمر إلى الأمير موسى اليمني بن علم الدين. في سنة 1105 على رواية راشد رأت الحكومة أن أبناء سرحان حمادة عادوا فنجم ناجم شرورهم، وأخذوا يتقوون بمعاضدة ابن معن لهم، فأقامت الدولة الوزير طوسون باشا قائداً عاماً عليهم، فجمع من أطراف سورية ألف مقاتل من العرب والأكراد ثم جمع ما قدر عليه من الجند هو وحكام سورية فالتقى عشرون ألف مقاتل في بعلبك والبقاع، فلما علم العصاة بذلك أوجسوا خيفة وتأثرهم العسكر فقبضت عليهم وأوردتهم حتفهم وطهرت تلك الأرجاء منهم اه. وفي سنة 1106 عينت الدولة متسلماً على حماة اسمه سعد بن مزيد فأكثر التعدي والظلم فقام الحمويون وأخرجوه من البلد قهراً، فذهب إلى المعرة وأرسل شكاية إلى الدولة ينسب فيها التعدي للحمويين، وأن حسناً الدفتري المشهور بابن قنبق هو مثير الفتنة، فجاء الأمر بقتله فقتل في داره سنة 1106. وكأن لسان حال الدولة يقول: أيها الرعايا المستعبدون اخضعوا لعمالي مهما كانت سيرتهم وإلا قاتلتكم، ومن فتح فاه بالشكوى أنتقم منه بما يستحقه، فهذه خطتي، وبالرضى عنها تنالون حظوتي. دور مصطفى الثاني وانقراض دولة بني معن: توفي أحمد الثاني سنة 1106 وكانت مدة حكمه أربع سنين وثمانية أشهر، فتقلد السلطنة بعده مصطفى الثاني فكتب مصطفى باشا والي صيدا إلى السلطان الجديد يقول: إنه لا يمكن أن يحكم قطر الدروز سوى بيت معن وأظهر استعداد الأمير أحمد بن معن لذلك ودفع مائتي كيس للمطبخ، فورد العفو لابن معن مع أوامر الولاية على بلده، وزاد أرسلان باشا والي طرابلس 1108 في طلب المال فتشتت كثير من الرعايا عن مواطنهم من شدة الغلاء والظلم وركب والي دمشق على حاصبيا وقطع توتها.

توفي أحمد بن معن 1109 فانقرضت بموته الدولة المعنية لأنه لم يكن له ولد ذكر، فاجتمع المشايخ من السبع المقاطعات وهي الشوف والمناصف والعرقوب والجرد والمتن والشحار والغرب واختاروا الأمير بشير بن شهاب من أمراء وادي التيم على لبنان، فتولاها وأحبته الناس وأطاعوه لعدله وكرمه، وكانت البلاد يومئذ حزبين قيس ويمن والقيسية أكثر وأقوى وكانوا راضين بولاية الأمير بشير، وأما اليمنية فلم يرتضوا به ولكن لم يمكنهم التظاهر بالتعصب عليه لضعفهم وقلتهم. وفي سنة 1110 تولى إيالة طرابلس أرسلان باشا وإيالة صيدا أخوه قبلان باشا، وكان الشيخ مشرف بن علي الصغير حاكم بلاد بشارة قد قتل أناساً من رجال للدولة وقصد العصيان فاستنجد قبلان باشا بالأمير بشير الشهابي، فجمع الأمير بشير ثمانية آلاف رجل وكبسوا مشرفاً في مكان يقال له المزريعة، فقبض عليه الأمير بشير وعلى أخيه محمد وعلى حسين المرجي وسلمهم إلى الباشا فأمر بشنق حسين المرجي وأعطى الأمير بشير إيالة صيدا من صفد إلى جسر المعاملتين، وآجر قبلان باشا مقاطعة آل علي الصغير للأمير بشير فأقام عليها متسلماً الشيخ محموداً أبا هرموش. وفي هذه السنة أطالت عنزة وبنو صخر أيديها على الحجاج، وكان يعهد إلى هاتين القبيلتين بتسفير الحاج ولهما رواتب مقررة عليه، وقتل منهما خمسون رجلاً في القيود فانتقموا من الحجاج وأخذوا أموالهم وعروضهم، ودخل محمد باشا أبو قاوق إلى دمشق بصعوبة. وحوادث البادية تتكرر في العقد الواحد مرة أو مراراً فيهلك فيها من العربان وأبناء المدن خلائق وعيش البادية منذ القديم من الغزو، والدولة لم تفتح لهم موارد ليعيشوا منها ويكفوا أذاهم عن الحاج والتجارة. وتولى سنة 1114 إيالة الشام محمد باشا بيرام قال الناس وظلمه ماديكان وكان حبسه انحلال الحديد الأوطان من غير خيمة وكانت شمس النهار تؤذيهم وبرد الليل أعظم وكان يسمى حبسه المسطاح ولما عزل شكا أهل دمشق إلى الدولة وأنهم نهبوه وقتلوا من جماعته وأخذوا من خزنته أربعة جمال. ولقد أثنى الأجانب على وال من ولاة حلب اسمه يوسف باشا جاء في أوائل المئة السابعة عشرة للميلاد وقالوا إنه كان يحكم بدون أن يظلم ويسلب، وإن استقامته جلبت الخير والبركة

عهد أحمد الثالث وسياسة الدولة مع من ينكر الظلم

وقد جاء حلب في تلك الحقبة واليان اسم أحدهما قائم مقام يوسف باشا تولاها سنة 1112 ثلاث سنين والآخر اسمه طوبال يوسف باشا تولاها سنة 1125 ولا نعلم أيهما أثنى عليه الفرنج. عهد أحمد الثالث وسياسة الدولة مع من ينكر الظلم ووقعة عين دارة: وفي سنة 1115 خلع مصطفى الثاني بعد أن حكم ثمان سنين وتسعة أشهر وعشرة أيام، وتولى السلطان أحمد الثالث وهو الثالث والعشرون من آل عثمان. وفي تاريخ راشد أن محمداً نقيب أشراف القدس تغلب سنة 1118 على الحاكم والوالي وأخذ يبث الفساد في تلك الأرجاء فأرسلت الحكومة ألفي انكشاري وثلاثمائة جبه جي ومائة مدفعي لتقوية مركزها في القدس فوقع بينه وبين عسكر الدولة وقائع كثيرة فركن إلى الفرار واختفى في قلعة طرطوس، فبلغ واليها أمره فأرسل فقبض عليه وأرسله إلى الآستانة فقتل. وما ندري معنى لقول المؤرخ إن نقيب القدس أخذ يبث الفساد في تلك الأرجاء، بل نعتقد أن ثورته لرفع فساد العمال وسوء الإدارة، يعرف ذلك من عرف أن القوم اعتادوا في كتاباتهم الرسمية أن يلقبوا بالمفسدين كل من كانوا من المصلحين، بيد أنهم مفسدون لأمرهم، عاملون على نقض أساس مجدهم. كما وقع في هذه السنة أيضاً وقد أراد سليمان باشا البلطجي كافل دمشق أخذ قرض من تجارها وإحداث بعض مظالم، فمنعه أعيان دمشق ومنهم أسعد البكري وعبد الرحمن القاري المحاسني فنفاهم إلى صيدا وعرض للدولة أموراً عنهم لم يأتوها ثم أعيدوا إلى بلدهم واعتذر الوالي عما عزا إليهم. وفي سنة 1119 توفي الأمير بشير الشهابي وخلفه الأمير حيدر الشهابي فركب في السنة التالية لغزو المتاولة لأن المشايخ بني علي الصغير كانوا أخذوا بعد وفاة الأمير بشير بلاد بشارة من بشير باشا وبقي في يد الأمير حيدر حكم بلاد الشوف وكسروان، فغزاهم الأمير حيدر وتجمعت المتاولة في قرية النبطية فأوقع بهم هناك وظفر بهم وقتل منهم مقتلة عظيمة، ورجع إلى موطنه فعظم ذلك على بشير باشا فأرسل يقوي الأمراء اليمنية في الغرب والجرد

من بني علم الدين وغيرهم. وفي سنة 1121 تعاظم أمر اليمنية في الشوف وتظاهر الأمراء بنو علم الدين بذلك وساعدهم الأمير يونس أرسلان حاكم الشويفات ومال إليهم من القيسية الشيخ محمود أبو هرموش، ثم وسد الحكم إلى الأمير يوسف علم الدين وأخيه منصور، وكان زمام ولايتهما بيد الشيخ محمود أبو هرموش فجاروا على القيسية وظلموهم ولم يبقوا لهم منزلة ولا حرمة. وفي هذه السنة أحرق الأمير يوسف مع عسكر الدولة بلدة غزير ونهبها، وسار والي دمشق إلى جبل عجلون وباغت نابلس وقتل من أهلها مقتلة عظيمة وسبى عسكره نحو سبعمائة امرأة. وفي سنة 1122هـ 1711م أنفذ الأمير حيدر الشهابي أمراً إلى قيسية الشوف فتجمعوا في رأس المتن، فلما بلغ اليمنية ذلك أرسلوا إلى بشير باشا والي صيدا فحضر إلى حرج بيروت، وأرسلوا إلى نصوح باشا والي دمشق فحضر إلى البقاع واجتمع القيسية من الغرب والجرد والشوف إلى عين زحلتا في العرقوب، ثم انتقلوا إلى عين داره، وجرى الاتفاق أن تطلع عساكر الدولة المجتمعة في حرج بيروت إلى بيت مري في أول المتن، وأن يطلع نصوح باشا إلى المغيثة في طرف المتن، واليمنية إلى حمانا في وسط المتن، وتمشي الثلاث فرق في يوم واحد على القيسية، فأجمع رأي القيسية مع الأمير حيدر الشهابي أن يباغتوا اليمنية في الليل في عين دارة، فباغتوهم وأعملوا فيهم السيف، وقاتلت اليمنية أشد قتال وما زالوا كذلك حتى ملكت القيسية عين دارة، وما سلم من اليمنية غير قليل. وفي تلك الليلة قتل خمسة أمراء من بني علم الدين وأمسك الشيخ محمود أبو هرموش وقطع الأمير لسانه وأباهم يديه، فقويت شوكة القيسيين وعظم أمرهم، ونزح من كان يمنياً وخربت ديارهم، وزال ذكر اليمنيين من الشوف وحكم الأمير حيدر وأعطى الذين كانوا معه كل ما كان وعدهم به، وكثرت المشايخ في أيامه. وتعرف هذه الوقعة بوقعة عين دارة التي قتل فيها جميع الأمراء من آل علم الدين بيد الأمير حيدر الشهابي فانقرضت سلالتهم كما ضعفت شوكة اليمنيين.

فتن ومظالم مستجدة وظهور آل العظم:

فتن ومظالم مستجدة وظهور آل العظم: وفي سنة 1122 ركب نصوح باشا على الكرك وعمل لغماً ووضع فيه البارود وأعطاه النار فانهدم جانب من السور فصاح أهلها بالأمان وخرجوا عن القلعة فقتلهم وأسر الأولاد وسبى النساء. وفي سنة 1123 باغت ناصيف باشا والي دمشق المتن وأسر منها أُناساً وسبى النساء والأولاد. وفي سنة 1124 عهد والي صيدا بولاية بلاد بشارة إلى الأمير قاسم الشهابي حاكم حاصيبا فأنشأ بها مظالم كثيرة. وفي سنة 1129 تولى دمشق عبد الله باشا الكمركجي وكان عادلاً حكيماً لكنه لم تطل مدته أكثر من سنة. وفي سنة 1131 كانت وقعة القرية بين الأمير حيدر الشهابي والمشايخ المتاولة وكانت النصرة للأمير حيدر. وفي سنة 1133 كانت الفتنة بين مشايخ المتاولة والشيخ ظاهر العمر حاكم صفد وجرى بينهم قتال شديد فانهزم عسكر الصفديين وقتل منهم خلق كثير، ثم خرج عثمان باشا والي دمشق بالعسكر على صفد وقتل منهم أكثر من ثلاثمائة رجل وقتل البشناق أولاد مشايخ صفد. وفي سنة 1136 كان الظلم يداً وكثرت العوانية حتى صارت أرض الشام مشغولة بالظلم في شرورها وكثر الظلم واستلاب الأموال. وثارت 1137 فتنة بين القبوقول والانكشارية وظلت دمشق ثلاثة أيام مقفلة وقتلت فيها جماعات من القول والرعية وكذلك الحال في حلب. وفي تاريخ العلويين أن الحرب دارت بين الكلبية وبني علي من عشائر النصيرية مدة سبع سنين بدأت سنة 1140 ثم اتحدت العشائر الكلبية النراصرة والقراحلة والياشوطية والجهينية وبيت محمد وهجمت على عشيرة بني علي بالاتفاق وحرقوا قراها وحاصروا قلعة عين الشقاق لما تجمع بنو علي فيها بعد أن هدموا جميع قراها ولم يبق ملجأ لبني علي سوى الحصار، وداموا على الدفاع في القلعة. ثم دكتها الدولة العثمانية. قال صاحب تاريخ العلويين الذي أورد هذا: لم يكن العلويون يحاربون الأتراك فقط، بل كانوا يحارب بعضهم بعضاً أيضاً لأن المنطقة ضيقة والنفوس كثيرة، وفي عهد الأتراك أصبح الأخ يقتل أخاه ليأكل ما عنده. وعرف هذا الدور بظهور آل العظم حكاماً في الشام، واختلف الباحثون في أصلهم فمن قائل إنهم أتراك من قونية، ومن زاعم أنهم عرب من المعرة

عهد محمود الأول:

معرة النعمان. تولى دمشق 1137 إسماعيل باشا العظم وكان من قبل والياً على طرابلس وهو أول من تولى إيالة دمشق من بني العظم، وقال بعض المؤرخين: إن ناصيف باشا كان والياً على دمشق وقتل في الرملة سنة 1130 وعلى هذا فيكون هو أول من تولى دمشق من هذه الأسرة. ذكر ابن ميرو أن والد إسماعيل بن إبراهيم العظم كان جندياً سكن معرة النعمان وكان لأهلها مع التركمان التي ترد إلى جبلها شتاء وقائع جرح في بعضها والد المترجم فتوفي وأعقب المترجم إسماعيل وسليمان وموسى ومحمداً وكلهم أعقب خلا محمداً وكانت ولادة إسماعيل قبل السبعين وألف بالمعرة وبها نشأ، وتقلبت به الأحوال إلى أن صار حاكماً ببلده ثم بحماه، وأنعمت عليه الدولة بطوخين رتبة روملي ومالكانة حماة وحمص والمعرة وعلى أخيه سليمان، ومنصب طرابلس عليه وسر عسكر الجردة فبعد عوده من الجردة سنة 1138 تولى الشام وإمرة الحاج بالوزارة وحج ست سنين وحارب في السنة السادسة عرب حرب بين الحرمين وامتحن سنة 1143 وحبس بقلعة دمشق واستأصلوا أمواله مع أموال ذويه ثم أفرج عنه وأعقب السيد إبراهيم وأسعد وسعد الدين ومصطفى ومعظمهم تولوا الوزارة. وفي سنة 1143 توفي الأمير حيدر الشهابي حاكم لبنان بعد أن حكم ستاً وعشرين سنة على رواية المؤرخ الشهابي بالعدل والحلم والكرم وحسن التدبير وخلفه ابنه الأمير ملحم، والأمير حيدر هو الذي أحيا ذكر القيسية وألقى ابنه الفتنة بين المشايخ فاختلفوا، وكانت الدولة لا تقدر عليه على بغض أسعد باشا العظم والي صيدا له وسعيه به. عهد محمود الأول: تنازل أحمد الثالث عن ملكه باختياره 1143 بعد أن حكم ثماني وعشرين سنة وتسلطن محمود الأول وهو الرابع والعشرون من آل عثمان والتاسع عشر منهم في القسطنطينية، وكان السلطان أحمد الثالث غريباً في أطواره يحب الطيور والأزهار، ويقضي أوقاته في تسلية سراريه بالأفراح

والزين، ومع هذا يسجل له الفضل ورجاحة العقل في حسن اختياره صدوراً عظاماً شرفوا بأعمالهم عهده فلم يكن كبعض أجداده لا يعمل ولا يترك أحداً يعمل. وفي هذه السنة وقع بين القبوقول والانكشارية الحرب والقتال وأغلقت دمشق أربعة أيام وقتل من الفريقين شرذمة. وقعت بين رجال والي طرابلس عثمان باشا والانكشارية فتنة وضد الانكشارية قتل بها من الفريقين ناس، ثم تصالح الجندان على أن يلزم الانكشارية حماية الوالي ويعزل قائم مقامه وبعض الضباط ويخرج عسكره من المدينة. وفي سنة 1144 استأجر الأمير ملحم الشهابي بلاد بشارة وقبض على الشيخ نصار بن علي الصغير وباغت إخوته فهربوا ونهبت الدروز ذاك الإقليم وعاد أولاد الشيخ نصار واستأجروا المقاطعات من الأمير ملحم. قال الشهابي في حوادث سنة 1147 انتقل أسعد باشا العظم من صيدا إلى إيالة دمشق وكان والياً عليهما منذ سنة 1143 وتولى إيالة صيدا أخوه سعد الدين باشا والي طرابلس وتولى طرابلس سليمان باشا العظم وقويت شوكة بني العظم في بلاد العرب وعظمت دولتهم اه. عظمت دولتهم لأنهم أخلصوا في الغالب للدولة كل الإخلاص حتى أمنتهم ووسدت إليهم الأحكام في الشام وتركتهم يعملون ما يشاءون، وجاء دور وهم حكامها من أقصاها إلى أقصاها، وقل جداً في هذا القرن من تولى ولاية حلب أو دمشق أو طرابلس أو صيدا أو اللاذقية أو غزة بضع سنين. ومن بني العظم من زاد زمن ولايته على عشر سنين، فإن إسماعيل باشا العظم تولى دمشق ست سنين 1137 - 1143، وسليمان باشا العظم تولاها خمس سنين للمرة الأولى 1146 - 1151 وثلاث سنين للمرة الثانية 1154 - 1156 وأسعد باشا العظم تولاها أربع عشرة سنة 1156 - 1170 وكان تولى صيدا أربع سنين ومحمد باشا تولى دمشق مرتين اثنتي عشرة سنة، وكان بنو العظم كسائر الأسر القديمة التي تغلبت على بعض أصقاع الشام أمثال بني معن وبني شهاب وبني الحرفوش وبني سيفا وبني طرابيه ومنهم الصالح والطالح وهل هم إلا نموذج من عصرهم، ولا شك أنهم جمعوا أموالاً كثيرة لأن حكوماتهم طالت أيامها والولاية

بالالتزام، فكان الوالي منهم كسائر الولاة يرضي الآستانة بمبلغ ويبقى له بعد كل إسراف مبلغ كبير، وهو المتحكم في الأفراد والجماعات. وقد صادرت الدولة سليمان باشا العظم لما توفي سنة 1156 وعذب المفوض بذلك أسرته على أبشع وجه، وكذلك ضبطت أموال ابن أخيه أسعد باشا وأخرجت الدفائن من قصره وكان بعضها مخبوءاً في الأرض والجدران والأحواض وبيوت الخلاء وفعلت مثل ذلك بأتباعه ورجاله. قال الشهابي: إن أسعد باشا العظم بنى أبنية عظيمة في دمشق وجمع مالاً لا يحصى وسار بالحج مرات فأنعمت عليه الدولة العلية برتبة علامة الرضى وأمرت أن لا يشهر عليه سلاح ولا يقتل، ثم أرسلت إليه فقتلته في الحمام طمعاً بكثرة أمواله وضبطت ماله وأملاكه وقال: إنه كان جليلاً عاقلاً حسن التدبير مولعاً بالخيل الجياد حتى قيل: إنه كان عنده خمسمائة فرس من جياد الخيل لأجل ركوبه. وذكر الدويهي أن السلطان محموداً أنعم على عبد الرحمن أفندي 1165 محصل حلب بالولاية فوجه في الحال متسلمه حسن اغا إلى طرابلس فأمن الخواطر ونادى بالأمان وصار الفلاح ينزل إلى طرابلس آمناً على نفسه وأرخص الأسعار ومهد الأمور التي كانت متبلبلة من ظلم بيت العظم، وكذلك فعلوا بإسماعيل باشا في دمشق وبأخيه سليمان باشا والي صيدا وبياسين بك بن إبراهيم باشا والي اللاذقية من قبل أبيه وأسعد بك بن إسماعيل باشا والي حماة وحسن بك أخي إسماعيل باشا حاكم المعرة هؤلاء جميعاً سجنوهم وأخذوا أموالهم للسلطنة وولوا على صيدا أحمد باشا بن عثمان باشا أبو طوق اه. وقال فولنيه الرحالة الفرنسي: إن بني العظم كانوا من أحسن من جاء دمشق من الولاة. وترجم ابن ميرو أسعد باشا العظم فقال: إنه لما وسدت إليه الدولة مالكانة حماة سار فيها سيرة حسنة وعمر بها خانات وحمامات وبساتين ودوراً ليس لذلك كله في البلاد الشامية نظير، ثم ولي صيدا فاستعفى منها وطلب حماة منصباً بعد أن كانت مالكانة له ولعمه، فرفعت منه المالكانة ووجهت له منصباً ودخلها سنة أربع وخمسين ومائة وألف، وبذل الأموال إلى أن جعلها مالكانة له بعناية الوزير الكبير بكر باشا. وفي سنة ست وخمسين تولى دمشق وإمرة الحاج

فتن ومشاغب:

لموت عمه سليمان بات الوزير وحج بالحجيج أربع عشرة حجة وعزل عن دمشق وإمرة الحاج بالوزير حسين باشا مكي وولوه حلب ثم عزل عنها ونفي إلى جزيرة كريت ونسبوا له ما وقع بالحجيج وقتل بمدينة أنقره. وقال في ترجمة أسعد باشا أيضاً: إنه كان محموداً في ولايته وأهل الشام في زمانه في راحة وأمن وطمأنينة، وكان صبوراً صبر على الأشقياء حتى أخذهم الله على يده، وآذاه عرب حرب فصبر على أذاهم حتى انتقم الله له منهم عن يد الوزير عبد الله باشا جته جي. وقال جودت في وقائع سنة 1197: وفيها توفي والي الشام وأمير الحاج محمد باشا العظم بعد أن أقام في وظيفته اثنتي عشرة سنة ولما كان وزيراً مشهوراً من أهل الثروة والغنى عين مباشرون مخصوصون من الآستانة لضبط أمتعته وأمواله. وقد أثنى المرادي على محمد باشا العظم هذا فقال: إن له من المآثر في كل ولاية وليها ولا سيما في دمشق ما يحسن ذكره وأنه رفع المظالم وأنشأ المعالم قال: وبالجملة فهو من أحسن من أدركناه من ولاة دمشق وأكملهم رأياً وتدبيراً. والغالب أن الدولة كانت مرتاحة البال من ناحية بني العظم في الشام يقاتلون الخوارج عليها ولا تحدثهم أنفسهم بنزع أيديهم من يدها ويدفعون إليها الخراج في أوقاته ولذلك كانت ترعاهم على الجملة في حياتهم وتتركهم يستمتعون بنعمها، فإذا هلكوا جاءت ووضعت يدها على عروضهم وأموالهم كما هي عادتها، ولعلها استبطأت أسعد باشا في الولاية فخشيت شره فخنقته. وبالجملة فإن أحوال ذاك العصر يصعب الآن الحكم عليها لقلة من نظر في المؤرخين في الحوادث نظر الاستنتاج الصحيح. - فتن ومشاغب: رجع إلى سلسلة الحوادث. فقد توفي سنة 1048 الأمير محمد فروخ النابلسي وكان من شجعان الدنيا، تولى حكومة القدس ونابلس فأرهب العربان وكبر صيته وبقي في إمارة الحج ثماني عشرة سنة، وألقيت رهبته في قلوب العربان وكانوا إذا أرادوا أن يخوفوا أحداً منهم يقولون ها ابن فروخ أقبل

فتتلوى قوائمه. وفي سنة 1152 كبس وزير صيدا مقاطعة الشقيف وقتل الشيخ أحمد فارس وأولاده ورفعت القبو قول والأورط من الشام 1152 لخبث سيرتهم وهاجم 1156 الأمير ملحم الشهابي إقليم المتاولة ووصل إلى قرية نصار فالتقى بعساكرهم وانتشب بينهم القتال فكسرهم كسرة هائلة وقتل منهم ألفاً وستمائة قتيل وقبض منهم أربعة مشايخ ونهب أرضهم وأحرقها، وباغت والي صيدا ووالي طرابلس ووالي دمشق إمارة الأمير ملحم الشهابي في لبنان لتأخره عن أداء المال السلطاني وأحرقوا إقليم التفاح ومرج بشرة ثم وقع الصلح وأدى ما عليه. وجهز 1156 سليمان باشا العظم والي دمشق عسكراً على الظاهر عمر الزيداني بعد أن قبض على أخيه مصطفى وشنقه بدمشق، فلما وصل الوزير إلى قرب عكا لحصارها رشا ظاهر العمر أتباعه فأدخل على سليمان باشا السم في طعامه فمات وجيء به إلى دمشق في أكثر الروايات، وسليمان باشا هو ابن إبراهيم ولي طرابلس وصار جرداوياً لأخيه شقيقه الوزير إسماعيل ثم ولي صيدا، وبها صارت له الوزارة ثم ولي صيدا ثانية ثم ولي دمشق 1146 بإمارة الحج وحج خمساً بالحج الشامي ثم ولي مصر وعاد إلى دمشق فوليها سنتين. وفي سنة 1157 كانت الموقعة في مرج عيون بين المشايخ المتاولة وأهالي وادي التيم ومعهم دروز جبل الشوف وكانت الكسرة على الدروز وعسكر وادي التيم وقتل منهم نحو ثلثمائة قتيل وحرقت المتاولة جميع قرى مرج عيون. وفي سنة 1158 ملك الدالاتية قلعة دمشق فقاتلهم الانكشارية، وأمر أسعد باشا العظم حاكم دمشق أن يقصدوا سوق ساروجا وأطلقت المدافع فخربت الدور ونهبت دار رئيس الفتنة وخربت، وجرَّت القافية بقية الدور ولم يبق من سوق ساروجا إلا القليل وأعمل اسعد باشا السيف بكل عاص وقتل عسكره أناساً، وسلبوا الدور وأحرقوا بعضها، ثم صلب كثيرين وبقيت المشنقة أياماً لا تخلو من مصلوب اتهم أنه كان يمالئ أرباب الدعارة على رغائبهم، وتركت جثثهم أياماً أمام السراي تأكلها الكلاب وسلخت رؤوسهم وجعلت أكواماً، وصارت المدافع تطلق بكرة وعشية مدة شهرين، وكثر العزف بالأبواق وإطلاق السهام النارية في الفضاء.

وفي سنة 1160 غزا أسعد باشا العظم البقاع فركب الأمير ملحم الشهابي بعسكره إلى المغيثة ونزل إليه عند بر الياس فانكسر الباشا ووصل الأمير ملحم إلى سهل الجديدة ثم رجع وأحرق جميع قرى البقاع ورجع إلى إمارته منصوراً وهابته الدولة. والسبب في هذه الفتنة تأخر الأمير ملحم في دفع الأموال الأميرية علة العلل وأصل معظم الفتن، وغضب سليمان باشا العظم 1161 على الانكشارية في دمشق فأخرجهم عنها، فحضر رئيسهم أحمد آغا القلطقجي ومعه عدة أغوات إلى جبل الشوف، واجتمعوا عند المشايخ بني يزبك وكانوا ينزلون وينهبون من نواحي دمشق ويقطعون الطريق، وأحرق الأمير ملحم ديار بني تلحوق في الغرب وديار بني عبد الملك في الجرد. وحاصر سليمان باشا العظم الشيخ ظاهر العمر في قلعة طبرية 1160 ثلاثة أشهر فأدركه ركب الحج فارتفع عنها، ولما خرج الباشا إلى الحج أرسل الأمير ملحم عسكراً إلى بعلبك فطرد الأمير حيدراً الحرفوش وولى مكانه الأمير حسيناً، وخربت الدروز أرجاء بعلبك وقطعت أشجارها. وفيها حضر خط شريف بقتل أغوات الانكشارية بدمشق فقبض الوالي على بعضهم وقتل ابن الفلاقنسي. وذكر ابن بدير أنه بلغ متسلم دمشق سنة 1162 أن بعض الدروز من جماعة ابن تلحوق جاءوا دمشق ينهبون ويحرقون فأرسل إلى الموالي والمفتي والقاضي يأمرهم بأن يأخذوا معهم الأعلام وينادوا: هؤلاء خوارج فمن كان يحب الله والسلطان ليخرج إلى قتالهم. فخرج الناس فقتلت الحامية زمرة وكان الدروز يحتجون بأن قدومهم كان لإخراج إخوان لهم كانوا مسجونين فلما موطلوا نادوا في حارة الميدان والقبيبات كل من لا يخرج للقتال معنا ننهب ماله وداره، فانضم جماعة من الحارات ونزلوا إلى السويقة ووقع القتال بينهم وبين القبوقول والدالاتية، وأغلقت البلد حوانيتها وحصرت الحارات ونبه المتسلم على أهلها أن لا يخرجوا إلى الأزقة ليحرسوا دورهم، ثم جرت مقتلة بين الفريقين قتل فيها نحو خمسين قتيلاً من جماعة المتسلم والقبوقول، وفتح عسكر الباشا الدكاكين في باب الجابية ونهبوا ما فيها من طعام وهدموا مصاطبها وصيروها متاريس ومن الغد باكروا القتال

وزحفوا إلى السويقة ومعهم العملة والبناءون فحرقوا الدور والقصور وأطلقوا المدافع على الأشقياء فولوا الأدبار، فأمر المتسلم عسكره أن يقعوا في نهب الدور والدكاكين. وروي أنه أخرج فتوى وحجة وأمراً قاضياً بأن ينهب الجند من حد السويقة ويقتلوا ويهدموا ولا يعفوا عن إنسان فسلبوا الأموال وسبوا الحريم. ولما هرب الدروز نودي في البلد بالأمان وأن تفتح الأسواق ويكف عن النهب قال ابن بدير: وقد سرت مع من سار فرأيت فضائح الميدان، والقتلى مجدلة، والأبواب محطمة، والدكاكين مقفرة، ثم اضطرب أهل القبيبات والميدان والسويقة وباب المصلى وأخذوا ينقلون أثاثهم إلى داخل المدينة مثل باب السريجة والقنوات وغيرهما من الحارات. وخاف الأكابر والحكام والعامة فجعلوا يعزلون الدكاكين ويخبأون ما حوته في البيوت وبلغ عدد الدور المنهوبة في هذه الوقعة كما قيل ألفاً وتسعمائة دار وأما الحوانيت فكثيرة جداً. هذا وقد أخذ القبوقول يمسكون الناس ويأتون بهم إلى الحكام ويقولون: هذا كان يقاتل مع الأشقياء فيقتلهم المتسلم من غير حجة ولا إثبات، ولا قصد للقبوقول إلا أخذ ثارات لهم مضت مع الإنكشارية، إلى آخر ما أصاب دمشق في ذاك العام من حرق ونهب وغلاء وفضائح وفظائع. وكان من العادة أن تغلق أرتجة الفيحاء وحوانيتها جملة عند اندلاع لسان الفتن بين القبوقول والإنكشارية وبينهم وبين الدالاتية والأشراف والأكراد والدروز، حتى ينادي منادٍ من قبل الحاكم يأمر بفتح الدكاكين ويطمن الناس. وجاء دمشق 1161 أحد موالي أسعد باشا العظم وكان نقل بعد ولايته دمشق إلى حلب، فذكر الإنكشارية والعامة ظلمه أيام كان سيده حاكماً في دمشق فقاموا قومة رجل واحد فالتجأ إلى القلعة وحماه القبوقول، ولما أُريد على الخروج من دمشق أبى فأغلقت البلدة دكاكينها ومحالها وتجمع الإنكشارية وتبعهم الناس وتعصب العناتبة والأكراد والدالاتية مع القبوقول وأهل حارة العمارة وحدثت غارة في سوق الدرويشية وأُطلقت النيران على الإنكشارية ثم قاموا على أهل حي العمارة فانهزم أهلها منها وأحرقوها حتى صارت بلقعاً وراح أهلها إلى الجامع الأموي، ودامت الفتنة أياماً حتى قر رأي الأكابر والأمراء على إخراج مولى ابن العظم من دمشق فأخرج ولم تطفأ جذوة الفتنة، لأن

الثائرين ما زالوا يتلمظون بطعم الغنائم ويزدردون حلوى الغارة. وجاء الخبر بأن الجالين عن دمشق نهبوا الضياع في طريقهم وقتلوا الأنفس وهتكوا الأعراض وصادفوا جماعة من طائفة الحكام فسلبوهم وقتلوا منهم فريقاً. وأخذ القبوقول يطلقون النار على الرعية وظلت الفتنة قائمة في البلد بين القبوقول والإنكشارية والأشراف فقتل من هؤلاء نحو ثلاثين وبضعة أولاد وشبت الحرب في شوارع المدينة أياماً ثم عتا الإنكشارية على حاكم دمشق فصاح في جنده وركب إلى الميدان فهربوا أمامه فأعمل هو وجنوده السيف فيهم فقتلوا منهم خلقاً كثيراً ومن لم يمت بالسيف قادوه بالسلاسل والأغلال، وعم نهب العسكر الكبير والصغير والناس بين قتيل وأسير، ونهبت الدور والدكاكين وانتكبت نكبة عظيمة فعريت النساء وخطفت الجواري والعذارى، وتمنى العقلاء الموت، ثم نهض جماعة الحاكم إلى النهب فمنعهم وأمر بجمع ما نهبوه فما وصل إلا القليل أودعه بعض الجوامع وأمر منادياً ينادي لتأخذ الأسباب أصحابها، فأخذ بعضها وذهب الأكثر، وأما أتباع الوالي فطفقوا يقتلون كل من يصادفونه ويقطعون رأسه أو يحبسونه، وتناول أذاهم من في الدور وتعست الحال. ووصف ابن النجار هذه الفتنة فقال: إن السلطان أرسل والياً آخر غير الذي كان وجرت هذه الوقعة في عهده، فقتل الأشقياء من المسلمين والدروز والنصارى وخربوا وحرقوا الدور ونهبوا الأماكن قال: وتعطلت الأسواق والمعاملات بسببهم في دمشق قريباً من سنة لا تقام جمعة ولا يسمع آذان ولا يفتح جامع ولا يتمكن أحد من الخروج من منزله لحاجة ولا لغيرها، لفسادهم وإفسادهم وتعديهم على الخاص والعام. وإنما كان بسبب تمكنهم من ذلك عدم وجود وال بدمشق فإن واليها كان خرج منها إلى الحج أميراً فجاء الوالي الثاني وقتل منهم من قدر عليه وفر منهم من فر وسلب دورهم ومتاعهم وأثاثهم، ولحق دمشق وأهلها من ذلك الوالي وحاشيته وجنده كل بؤس، وذلك بسبب قيامهم على أولئك الأشقياء، وانتهبت غالب المنازل في دمشق وقتل خلق كثير من الأبرياء، نزل هذا الجند الكثير من دور الناس، وأخرجوا أهلها منها بالعنف وظهر من أتباع هذا الوالي ما أنسى أهل دمشق ما كانوا

فيه من الضنك والشدة قبل قدوم هذا الجند إليهم وقال: إن هذه الفتن وقعت سنة 1170 وأرسل عبد الله باشا الشجي والياً ليرفع الحيف عن الدمشقيين ويعيد الأمن إلى طريق الحج، واشتبك القتال كما تقدم بين القبوقول والإنكشارية ثم فرّ الإنكشارية طالبين البراري والقفار فتبعهم نفر من الجند وقتلوا منهم عدداً، ثم إن الجند أخذ في قتل من يراه كائناً من كان وشرعوا في النهب والسلب فانتهبوا معظم المنازل والحوانيت من الحقلة إلى باب الجابية، والجند يأتون بالرؤوس إلى الوزير، فقتل من الرعايا على هذه الحال عدد كثير وانتهب المال والمتاع، وظلم رئيسهم وحواشيه واختطفت النساء والغلمان جهاراً من غير مدافع، والجند يقولون إن جميع الدمشقيين كفرة وإنهم قوم يزيد. قال الشهابي في دخول والي دمشق الجديد إلى المدينة: إنه كان مع الشتجي ثلاثة عشر ألف رجل فاجتمعت أهالي دمشق إلى الميدان ليمنعوه من الدخول فدهمهم ليلاً وقتل منهم مقتلة عظيمة. وفي سنة 1163 حصل بين سعد الدين باشا العظم وبين أهل حلب وحشة فرحل عنها جرداوياً وكان عرض عليه منصب حوران فاستعفى من ذلك لأنه لم يتول هذه الإيالة في الدولة العثمانية أحد استقلالاً لقلة دخلها ووفرة خرجها فولوه طرابلس جرداوياً لأخيه أسعد باشا الوزير فأقام جرداوياً فيها وفي صيدا وحلب اثنتي عشرة سنة روى الشهابي في حوادث سنة 1171 أنه وقعت شرور كثيرة بين إنكشارية دمشق والقبوقول وكانت دروز الجبل تعين الإنكشارية في القتال فانتصروا وحاصرت القبوقول في القلعة وجرى بينهم أربع وقائع، والإنكشارية تنتصر بإمداد الدروز، ثم وقعت الفتنة بين عسكر الباشا وعسكر الإنكشارية فانكسر عسكر الوزير وخرج الإنكشارية من دمشق نحو ألف فارس ووقع القتال بين أهل البلد وعسكر الوزير فقتل من أهل البلد نحو مائة قتيل ثم نادى الباشا بالأمان. وعدد ابن بدير كثيراً من مظالم الدفتردار فتحي أفندي ومما قال: إن الأهلين لما ضاقوا به ذرعاً استعدوا الباب العالي فأعداهم فأحضر إلى العاصمة ليمثل بين يدي السلطان، فأخذ يمنح المنائح لأرباب المظاهر حتى أدخلوا على السلطان شخصاً آخر بدلاً منه وأوهموه أنه هو المشتكى منه فأمر

بقتله فقتل. أما فتحي فسفره أعوانه من النظار تحت جنح الدجى فآب إلى دمشق يفعل الأفاعيل المنكرة، حتى إذا ضاق الخناق ورد الأمر بقطع رأسه فقطع وجرّ في شوارع المدينة وترك للكلاب تنهشه ومثل ببعض أعوانه وصودرت أمواله. عهد عثمان الثالث ومصطفى الثالث وبعض الأحداث في أيامهما: وبينا كانت دمشق تموج بالفتن وتستل فيها الأرواح بسوء إدارة الولاة وتلاعب رؤساء الجند كان لبنان وهو ربيب القوة والمقاومة لا يخلو على ذاك العهد من فتن تدك العمران، وتفني الإنسان والحيوان، فقد ذكر المؤرخون أن المشايخ المناكرة تطاولوا 1163 على إقليم جزين فعظم ذلك على الأمير ملحم الشهابي وركب لحرب جباع الحلاوة فهربت المتاولة من وجهة وأحرق أكثر ضياعهم، وكان قد أصاب منهم جماعة في جبل الشوك فوق جباع وقتل من المتاولة نحو ثلاثمائة نفس وحرق حارة جباع وقطع الأشجار، وأحرق قليمي الشقيف وبشارة، ثم حدث بين جماعة الأمير ملحم الشهابي ووالي دمشق وقائع طفيفة بسبب الظلم الواقع في البقاع على المسافرين في طريق دمشق فقتل أناس من عسكر الفريقين، ثم وقع الصلح بين أمير لبنان ووالي دمشق على أن يؤدي الأول للثاني نفقة الحملة. وفي سنة 1165 وقعت فتنة بين المشايخ بني أبي نكد فغضب الأمير ملحم الشهابي عليهم وأرسل فنفاهم من البلاد فنزحوا إلى وادي التيم وهدم منازلهم في دير القمر ثم رضي عنهم. وكانت للسيد أحمد باشا الذي كان والياً في حلب سنة 1165 الحظوة عند رجال الآستانة قال أبو الفاروق: فعينوه والياً على قونية فسبقه إليها زوربا كورد محمد، وأثار أفكار أهلها عليه لما عرف به من مظالم، فحاربوه وهلك أناس في هذا السبيل، ثم عينته الدولة والياً على حلب فسبقه إليها كورد محمد أيضاً ومثل الرواية التي مثلها في قونية فحاصرت حلب لذلك خمسة أشهر. ودامت الحرب فيها مدة وأُحرقت البيوت وخربت البساتين وقطعت المياه عن البلدة. وفي سنة 1168 توفي محمود الأول بعد سلطنة خمس وعشرين سنة وتولى السلطنة السلطان عثمان الثالث وهو الخامس والعشرون من آل عثمان ولم يعمل

سيرة ظاهرة العمر الزيداني وسياسته:

عملاً يذكر اللهم إلا ما كان من تبديل وزرائه والإفراط في هذا التبديل، وكان يميل إلى الطرب والصفا ويعمر الأبنية في العاصمة وأسس بعض دور الكتب وفي خلال ذلك تولى دمشق وإمارة الحاج حسين باشا مكي ولم يكن شرهاً في جمع المال ويميل إلى العدل وحسن الرياسة غير أنه كما قال المرادي: كان بطيء الحركة عن شهامة الوزراء، فيسبب ذلك حصل من الجند الوطني والقبوقول الحرس وغيرهما من طوائف الأكراد والعسكر فتن وحروب وحصل للأعيان والرؤساء الضيق العظيم وقامت عليهم الناس. وفي سنة 1172 هلك السلطان عثمان بعد أن ملك ثلاث سنين وثمانية أشهر وخلفه مصطفى الثالث فافتتح بالإعلان بتبديل السياسة ولكن كان عهده كما قال مؤرخوا الفرنج عهد انهيار المملكة الانهيار التام وسيادة الاشمئزاز على الناس، ووضع ثقته في وزيره رجب باشا فأحسن وكان رجب ذكياً ومخلصاً. وفي سنة 1174 كان والياً على دمشق عثمان باشا الكرجي وكان يلقب بالصادق، وسبب هذا اللقب أنه كان من بعض مماليك أسعد باشا العظم وهذا يحبه لنباهته، ولما قتل أسعد باشا وضبطت الدولة داره وأمواله طلبوا عثمان هذا فأخبرهم بخزائن مولاه، ثم وجدت قائمة بين تلك الأموال فكانت مطابقة لكلامه فأنعمت عليه الدولة ولقبته بالصادق، وتولى ولاية دمشق إحدى عشرة سنة 1174 - 1185 ومما وقع في أيامه ركوبه لحرب محمد الجرّار إلى قلعة صانور، أرسل إلى الأمير يوسف فبعث بعسكره والتقى به عثمان باشا فعظم أمره عنده وأكرمه، وأصلح الأمير إسماعيل الشهابي حاكم حاصبيا قلعة بانياس وبنى ما كان قد هدم منها من زمان ابن معن وأقام بها فحاصره عثمان باشا الصادق مدة وجيزة ثم سلمه القلعة ونهب عثمان باشا كل ما كان فيها وأمر بهدمها. سيرة ظاهرة العمر الزيداني وسياسته: استراحت الدولة من ناحية الشام لوجود والٍ مخلص لها في دمشق عثمان باشا الكرجي الصادق، فتركته وشأنه يعمل باسمها ويقاتل أعداءها، فطالت ولايته على حين تقلبت حلب في مدة حكمه على دمشق إحدى عشرة سنة في أيدي

عشرة ولاية. وكانت الشام تتمخض في خلال ذلك بظهور رجلين في العقدين الأخيرين من هذا القرن كما تمخضت أواخر النصف الأول منه بظهور آل العظم، ونعني بهذين الرجلين الشيخ ظاهر العمر الزيداني وأحمد باشا الجزار. وقد اهتمت لعظم شوكتها الأمة والدولة، جاء الثاني على أثر الأول فبزه ظلماً وعدواناً. ولم يكن قيام أمر الرجل في ذاك العهد يتوقف على نباهة فيه وعلم وسياسة، بل غاية ما يحتاجه شيء من المعرفة بطبائع من يقوم فيهم، وتلطف باستمالة قلوب أفراد يعوّل عليهم، ورأس مال قليل يؤديه ثمن إقطاع أو نفقة الظهور، ومهارة في البطشة الكبرى الأولى ودهاء وحيلة، وعندها يزيد كل يوم قوة، ولا تلبث الدولة أن ترعاه، والأهلون أن يتفيأوا ظله وحماه. في أواسط القرن الحادي عشر جاء إلى جهات فلسطين الشمالية من الحجاز رجل يدعى زيدان وله ولد اسمه عمر ولعمر ولدان اسمهما ظاهر وسعد. ظعنوا عن ديارهم لخصومة وقعت بينهم وبين عدو أقوى منهم مراساً، فجاءوا وضربوا خيمتهم في الأطراف الشمالية من سهل البطوف في أرض يقال لها مسلخيت من عمل نابلس. ولما كانت قرية عرابة أقرب القرى إليهم جاء وجهاء القرية وزاروهم وحيوهم وسألوهم أن يأتوا إلى قريتهم يضربون خيامهم في أرضها لأنهم كانوا على أربعة أميال منها. وكان في قرية سلاّمة المعروفة اليوم بخربة سلامة الواقعة على منحدر الوادي المسمى بهذا الاسم شيخ درزي قوي الجانب برجاله الأشداء باسط أجنحة نفوذه على ما جاوره. مر بعرابة ذات يوم ووقع نظره على فتاة أعجبه حسنها وطمع فيها لنفسه. ونزل بيت أحد وجهاء القرية ودعا إليه الزعماء وطلب منهم الفتاة، فشق على سكان عرابة ذلك خصوصاً وهو درزي وهم سنة. وارتبك أهل القرية فسألهم زيدان عن السبب فذكروا له ما وقع فقال لهم: الخطب سهل على أن تعاهدوني أن تعملوا ما أسألكم إياه ولا تبوحوا به فقال: أجيبوا الدرزي إلى ما طلب وعينوا له وقتاً يوافيكم فيه لأخذ العروس، وإذا جاء مع جماعته رحبوا به فإذا استقر بهم المقام خذوا أسلحتهم ثم اتركوهم يهزجون ويرقصون إلى حين الرقاد، وكل واحد منكم يأخذ واحداً إلى داره ليؤويه ولما رقد الجميع هبَّ زيدان وأفنى جماعة الدروز، ثم أغار هو وجماعته على سلامة مع سكان

عرابة فبطشوا بمن بقي فيها وخربوها فعظم قدر زيدان وانضم إليه أُناس ممن يحبون الغزو والشقاوة، وألف منهم جيشاً يغزو بهم، فينزل بأرباب العمل الويل والخراب. ثم قتل زيدان بعض رجال المقادحة وكان منهم حاكما طبرية والناصرة، فأضحى المقادحة بلا زعماء فاحتل أهل عرابة نمرين وغيرها. ورزق ظاهر ستة أولاد ذكور وكفله سكان عرابة لدى والي صيدا فالتزم الجباية، وكان بعض السنين يتلكأ عن أداء ما تعهد به وأحياناً يؤدي للدولة حقها، حتى نمت ثروته وأقام في عكا فجعل أخاه سعداً في دير حنا، وأولاده علي في صفد، وعثمان في شفا عمرو، وسعيد في الناصرة وجهات مرج ابن عامر، وصليبي في طبرية، وأحمد في تبنة وجبل عجلون. كانت جبال بيروت وأعمالها بيد حكامها الأمراء الشهابيين يدفعون الأموال لوالي صيدا المعين من قبل الدولة، وكانت صور وعملها بيد المتاولة يضمنون أموالها من والي صيدا، وأما جبال عكا وما إليها فكانت بيد مشايخها ومن جملتهم بيت أبي زيدان كانوا يضمنونها من والي صيدا أيضاً، فما زال الأمر كذلك حتى ظهر الشيخ ظاهر العمر فصادق مشايخ المتاولة وتزوج نساء كثيرات فتكاثر بنوه وأقرباؤه حتى بلغوا مقدار خمسمائة نفس، وعمروا قلعة طبرية وقلعة صفد وغيرهما وبدءوا يسطون على عكا وصور، وأظهروا الشقاوة وقطع الطرق فضجر منهم والي صيدا واضطر أن يضمن مدينة عكا إلى الشيخ ظاهر العمر ويضمن صور للمشايخ المتاولة، وابتدأ الشيخ ظاهر العمر يبني في عكا سرايا عظيمة وسوراً وأبراجاً ويجمع إليه العسكر وانتشرت أعلامه في تلك البقعة وأطاعته مشايخ المتاولة ودخلت عرب البادية تحت حكمه وكان عادلاً في الرعية وسار معهم سيرة مرضية وساعدته المتاولة في أطراف لبنان فخافه السلطان وأوهمه أنه يجعله نائبه في القدس ويوليه عكا والناصرة وطبرية وصفد وسائر البلدان التي في تلك الأطراف وأنه أمير العرب فصدق وكف عن المحاربة. وذكر شوفيه وايزامبر: أن ظاهر العمر نشط الزراعة وقضى على غزو القبائل المجاورة له من العرب فوفق إلى توطيد الأمن في الأقاليم فكان المسيحيون والمسلمون يهرعون إلى نزول أرضه من جميع أطراف الشام لينعموا فيها بالراحة والتساهل الديني.

وقال واصفوه: إنه ما زال في ظهور حتى نشبت الحرب بين الدولة العثمانية والدولة الروسية فضعفت الدولة في الأقطار الشامية، فزاد ظاهر العمر قوة وعدا على والي صيدا وطرده منها وتملكها وأرسل لها حاكماً من عنده، واستمر يحارب الوزراء سبع سنين ولم يدفع مالاً للدولة، وله معهم وقائع انتصر فيها على عساكر الترك وعسكر الدروز والعربان. وفي هذه الأثناء صادق دولة روسيا بمشورة وكيله الخاص إبراهيم الصباغ من أهل عكا، وكان هذا صاحب عقل وتمييز إلا أنه يحب المال كثيراً، كما حالف الأمير فخر الدين المعني الثاني في القرن الماضي أمراء طسقانة. واستمر الشيخ ظاهر حاكماً على عكا نحو أربعين سنة إلى سنة 1189. والسبب في وقوع الفتن بين الشيخ ظاهر العمر وولاة الأطراف أن عثمان باشا الصادق والي دمشق لما وليها سنة 1174 وكان شديد المكر كثير الدهاء، ولى أولاده الاثنين صيدا وطرابلس، فصار يظلم رعية الشيخ ظاهر العمر ويطلب المال للسلطان، فبدأت الحرب بينهما فانكسر عثمان باشا وخلت خزائنه فأخذ يلح على الأهالي في طلب المال، فضج الناس من ظلمه، وعصاه أهل الرملة وغزة ويافا ولم يطيعوه إلا بعد حروب كثيرة، فوقعت البغضاء في قلوب إقليم القدس وتمنوا حكم علي بك صاحب مصر عليهم، وكان هذا قد قوي فأطاعته البلاد المصرية. وحاول عثمان باشا سنة 1183 أن يغزو ظاهر العمر بالاتفاق مع أمراء جبل الشوف فأرسل ظاهر يستنجد بوالي مصر علي بك، وكان هذا عزم على رفع لواء العصيان على الدولة، وفي قلبه حقد على عثمان باشا، فهش لاقتراح الشيخ ظاهر لأنه كان يريد امتلاك الأمصار من عريش مصر إلى بغداد، وكان قد راسل الملكة كاترينا المسكوبية طالباً منها أن تمده بالمراكب والرجال وهو يملكهم المدن البحرية في الشام. ولما وصلت إليه رسالة الشيخ ظاهر جهز له ستة سناجق كبار ورأس عليهم إسماعيل بك وأصحبهم بعشرة آلاف من الغز والعربان والمغاربة وأمرهم أن يكونوا في طاعة الشيخ ظاهر العمر وساروا إلى أراضي المزيريب في حوران، وكانوا نحو عشرين ألفاً، لقتال عثمان باشا فعدل إسماعيل بك عن الغزاة لما لاقى من تمرد أولاد الظاهر وعشيرته، فشكا

حملة أبي الذهب على الشام:

الشيخ ظاهر إلى الأمير علي بك ما لقي من إسماعيل بك فابتدأ الأمير علي يجهز العساكر والجنود على نية الخروج لتملك الشام. وفي هذه السنة قبض الأمير يوسف الشهابي على عدة من مشايخ آل حمادة فالتجئوا إلى وزير طرابلس وأتوا بعسكر إلى قرية بزيزا ووقع القتال بينهم في قرية ميون فانكسر عسكر طرابلس وحاصر بعضهم في برج في أسفل القرية ثم سلموا وساروا إلى طرابلس، وفيها بلغ الباب العالي ما فعله علي بك، فأمر والي دمشق أن يسير بخمسة وعشرين ألفاً لمنع جنود عكا من معاضدة علي بك فسار الوالي بالعساكر، فوافاه الشيخ ظاهر العمر في ستة آلاف بين جبل النيران وبحيرة طبرية ورده على أعقابه. حملة أبي الذهب على الشام: استكثر أمير مصر علي بك 1184 من جمع طوائف العسكر وأمر بسفر تجريدة إلى الشام وأميرها إسماعيل بك وكان أرسل أحد رجاله فقتل سليطاً شيخ عربان غزة هو واخوته وأولاده، فذهبت تجريدة من البر وأُخرى من البحر ووقعت بين جنده وحكام الشام وأولاد العظم حروب ومناوشات. وفي سنة 1185 أخرج علي بك من مصر تجريدة عظيمة وأميرها محمد بك أبو الذهب في جند كثير من المغاربة والترك والهنود واليمانية والمتاولة، وسافرت من طريق دمياط في البحر، فلما وصلوا إلى الديار الشامية حاصروا يافا وضيقوا عليها حتى ملكوها، ثم توجهوا إلى باقي المدن والقرى وحاربهم النواب والولاة فهزموا وقتلوا وفروا من وجه الجيش المصري، فاستولى على الممالك الشامية إلى حدود حلب. قال هذا الجبرتي، وقال غيره: إن محمد بك أبا الذهب لما وصل إلى الشام حضر إليه أولاد ظاهر العمر ومشايخ المتاولة وانضموا إلى عسكره فصار جيشاً عظيماً ينيف على الستين ألفاً، فسار محمد بك أبو الذهب طالباً دمشق، وكان عثمان باشا قد رجع من الحج فجمع العساكر لقتاله، فما لبث عثمان باشا أن انكسر فخيم أبو الذهب حول المدينة قاصداً حصارها، وأرسل إلى أهلها كتاباً يشير فيه إلى ما أتاه عثمان باشا من الظلم وإهانة الحجاج والزوار وظلم المسافرين والتجار، وأنه يريد أن يطهر هذه

الأرض منه نصرة للدين وغيرة على المسلمين، ويذكر ما فعله بعلماء غزة في العام السابق من دفنهم في الأرض أحياء، وأنه أخذ فتوى المذاهب الأربعة في قتاله، وصرف الأموال والعساكر ليردوا الظالم ويستردوا المظالم، فخرج العلماء والعوام من أهل دمشق كافة إلى محمد بك أبي الذهب وطلبوا منه الأمان فأمنهم وأكرمهم، ودخل المدينة وجلس في دار الوزارة ونادى بالأمان، وكانت القلعة لم تزل محاصرة فأمر بإطلاق المدافع عليها وطلب المحاصرون الأمان فتسلم القلعة. وتراجع عثمان باشا إلى حمص وجهز العساكر الكثيرة. وابتدأ إسماعيل بك يغير قلب محمد بك أبي الذهب على الشيخ ظاهر العمر فحصل بينهما فتور وخوفه عاقبة التمرد على السلطان فنهض بعساكره ليلاً من دمشق وسار طالباً الديار المصرية، وشاع رحيله من الغد فتعجب الأهلون من ذلك ولم يعلموا السبب فيه، ورجع أولاد ظاهر العمر والمشايخ والمناولة كل منهم إلى مكانه وقد تأسفوا على سعيهم. وفي رواية أن السبب في ترك العسكر المصري بزعامة محمد بك أبي الذهب حصار دمشق أن عثمان باشا واليها لما أشرف على الهلاك بعث إلى قائد المماليك بصرة ثقيلة بالدنانير للرجوع عن محاربته فارتشى منه، وأمر عسكره بترك المحاصرة وتركوا حصار قلعة دمشق، فلما رأى ظاهر العمر خيانتهم، وأنهم قد فارقوه وتركوه وحده عجز عن فتح القلعة فرجع إلى دياره، فتخلص عثمان باشا وعاد يجهز العساكر بعد مدة قليلة للخروج لمحاربة ظاهر العمر ودخل أراضيه وحاصره في عكا وجدّ في الحصار حتى صعب الحال على الشيخ، وكاد عثمان باشا يفتح عكا، فما نجا الشيخ في هذه المرة إلا بمساعدة ولديه. فقد جمعا العرب وهجما على الترك ليلاً فكسروهم وشردوهم فهرب منهم عثمان باشا، ثم جمع الشيخ ظاهر عساكره وحارب الدروز فغلبهم وتملك قراهم التابعة لعامل صيدا. ولما بلغ السلطان خبرُ فتوجه وهو مشتغل بحرب روسيا صعب الحال عليه، فأرسل السلطان إلى الشيخ يعرض عليه الصلح، وقد عزل عثمان باشا وولديه عن ولاية دمشق وصيدا وطرابلس، وأما الشيخ ظاهر فقد أضمر في نفسه أن يدخل في طاعته الشام كله وهو يستند في ذلك على مساعدة علي بك أمير مصر.

وذكر المرادي أنه كان مع محمد بك أبي الذهب تسعة ألوية وخمسة من أولاد الظاهر أمير بلدة عكا ومشايخ المتاولة والصفدية ونحو ثمانين مدفعاً وأربعون ألف مقاتل، وعينت الدولة لقتاله وال حلب ووالي كليس ووالي طرابلس فخرجوا مع وزير دمشق بالعساكر الشامية والأجناد، وصارت المعركة في سهل داريا وفي أقل من ساعة انكسر العسكر الدمشقي وفر هارباً كل من والي كليس، والي حلب وعساكرهما، وقتل منهم شر ذمة قليلة وثبت كافل دمشق عثمان باشا وولده محمد باشا والعساكر الدمشقية ودام القتال ثلاثة أيام، وفر أعيان البلد إلى حماة واستولى الفزع على الناس، وغص الجامع الأموي بأهالي القرى فنزلوا بأهلهم وأمتعتهم ومواشيهم إليه. ولما عاد أبو الذهب عن دمشق رجع عثمان باشا وولده محمد باشا ورئيس اليرلية يوسف أغا جبري من جبل الدروز ومعه خمسة آلاف درزي وبعد مدة ضرب عثمان باشا عنق ابن جبري، لأنه كان السبب في تقوية الدولة المصرية على العساكر الشامية طمعاً في قتل عثمان باشا وصيرورته مكانه كافلاً بدمشق. عاد أبو الذهب إلى مصر ورجع إلى دمشق عثمان باشا وحضر إليه الأمير يوسف الشهابي لأنه كان قد أرسل إليه نائبه يوسف أغا جبري يستنجده، وكان الأمير يوسف قد جمع عسكراً وتجهز للمسير فاتفق قيام أبي الذهب عند ذلك. ولما فرغ بال عثمان باشا وقتل نائبه يوسف أغا جبري رئيس الإنكشارية ونهب أمواله أقام مكانه رجلاً من أهل دمشق يقال له عثمان آغا شبيب، ثم خرج بعسكر عظيم إلى أرض الحولة يريد قتال الشيخ ظاهر العمر والمتاولة الذين كانوا السبب في تلك الفتنة فجمع ظاهر العمر رجاله واجتمعت المتاولة وكبسوا عثمان باشا في الليل فذعرت عساكره وقتل منهم خلق كثير. وهزمهم الشيخ ظاهر وما زال في إثرهم حتى وصلوا إلى بحيرة الحولة فألقى كثير منهم أنفسهم في البحيرة وماتوا غرقاً. وهرب عثمان باشا بنفر قليل فاستولى ظاهر العمر والمتاولة على أسبابه. وكتب الشيخ ظاهر إلى الأقاليم الشامية ودخل الناس كافة في طاعته. فخرج علي بك من مصر فالتقاه ظاهر العمر بالإكرام ودخل به إلى عكا فأرسل كتباً منه 1185 ومن الشيخ ظاهر العمر إلى ملكة المسكوب يسألانها معاضدتهما على الدولة العثمانية، وأن ترسل

إليهما المراكب الحربية ليسلماها الديار المصرية. وأقام علي بك ينتظر الجواب وقويت مشايخ المتاولة على الدولة، وتطاولت على أطراف جبل الشوف ومرج عيون والحولة، فاتفق الأمير يوسف وخاله الأمير إسماعيل حاكم وادي التيم الأدنى وجمع الأمير يوسف نحو عشرين ألف جندي وسار قاصداً قرية جباع الحلاوي وأحرق إقليم التفاح وحرق جباعاً وقطع أشجارها وهدم بنيانها. وكان عسكر المتاولة المجتمع في النبطية نحو ثلاثة آلاف، ولما وصل الأمير يوسف الشهابي إلى كفر دمان أحرقها وتوجه إلى النبطية فالتقى بشر ذمة من عسكر المتاولة نحو خمسمائة خيال ووقع بينهم قتال انكسر فيه عسكر الأمير يوسف كسرة هائلة، ومات كثير من عسكره تعباً وعطشاً ومنهم من اختلت عقولهم، وفقد من عسكره في هذه الوقعة أكثر من ألف وخمسمائة قتيل، وركب الشيخ كليب نكد من حاصبيا إلى دير القمر وغزا المتاولة في قرية علمان فهزمهم ومنعهم من الحضور إلى إقليم الخرنوب وتلك الأطراف، وسارت عساكر الدولة مع عسكر الأمير يوسف لحصار مدينة صيدا وإنقاذها من يد ظاهر العمر وكانوا في أكثر من عشرين ألفاً معهم المدافع والزنبركات فأقاموا على حصارها سبعة أيام. وجاءت المراكب الروسية إلى عكا التي استنجد بها ظاهر العمر فأرسلها إلى صيدا فأطلقت مدافعها على جيش الدولة وجيش لبنان، وساق ظاهر العمر عسكره وقدروه بعشرة آلاف جندي والتقى بعسكر لبنان وجيش الدولة في سهل الغازية، وانتشب القتال فانكسر عسكر الدولة وقتل منه نحو خمسمائة نفس وانقلب راجعاً إلى دمشق، وأما المراكب الروسية فسارت إلى بيروت وملكت جانباً منها وأحرقت بعض الأبراج، فهربت الشهابية من المدينة وخرج أهلها إلى البر، ودخلت الفرنج بيروت ونهبت كل ما وجدته فيها، ثم رحلت إلى عكا بعد أن أعطاها حاكم لبنان 7500 قرش تعويضاً، ثم عادوا وأطلقوا على بيروت ستة آلاف مدفع دفعة واحدة كذا قال المؤرخ، حتى ظن الناس أن القيامة قامت وسمع صوت المدافع على ما قيل إلى قبة اليسار فوق دمشق كالرعد القاصف، وأحاطوا بالمدينة بحراً مدة أربعة أشهر ليل نهار، فتضايق المتحاصرون فيها ونفد ما عندهم من الزاد فكانوا يأكلون لحوم

عهد عبد الحميد الأول وتتمة أخبار أبي الذهب:

الخيل والحمير والكلاب، وهناك اضطر الجزار إلى التسليم وطلب الأمان عن يد ظاهر العمر وتسلم الأمير يوسف بيروت وغرم المسلمين ثلاثمائة ألف قرش وسلمها للسفن المسكوبية. قال أحد المؤرخين: ضرب الروس بيروت ونهبوها في القرن الثامن عشر وكانت فيها بيوت أمراء الجبل ومشايخه، وكانوا بنوا فيها خانات وقيساريات وكان الفرنسيون يدعونها باريز الموارنة الصغرى وكثير من الموارنة كانوا قناصل لفرنسا. ووقعت هذه السنة بين الشهابيين والحماديين في العاقورة والقلمون واقعة. وفي سنة 1186 أخذ سيد أحمد من والي دمشق حكم البقاع فتوجه إلى قب الياس وبنى ما كان هدم فيها من الزلازل وحصنها بالمدافع والرجال. وفي هذه السنة أحرق يوسف الشهابي بعض قرى الضنية لما بلغه من خيانة المشايخ بني رعد حكام الضنية مع المشايخ بني حمادة. وفي سنة 1187 حمل عثمان باشا والي دمشق في خمسة عشر ألف جندي على الأمير يوسف الشهابي حاكم لبنان في جهات البقاع. وجرت عدة وقائع بين العسكرين وانهزم والي دمشق في الليل تاركاً المدافع والذخائر ثم انفصل الفريقان على غير نتيجة. عهد عبد الحميد الأول وتتمة أخبار أبي الذهب: هلك أحمد الثالث 1187 وخلفه ابنه عبد الحميد الأول وفي أيامه استولى العجم على العراق ولم يبلغه الخبر إلا بعد خمس سنين، وهو السابع والعشرون من آل عثمان، مضت مدة على رحيل أبي الذهب من الشام وبقي ظاهر العمر بعد اعتصامه بروسيا وكسرته والي دمشق غير مرة واتهام أبي الذهب بالخيانة أمام والي مصر ممتعاً بولايته حتى سنة 1189، وفيها سافر أبو الذهب إلى الديار الشامية - رواية الجبرتي - لمحاربة ظاهر العمر واستخلاص ما بيده من الأقاليم، وكانت الدولة أذنت له بالمسير إلى ظاهر العمر وخراب أرضه، فوصل إلى أرجاء غزة وارتجت الديار لوروده، ولم يقف أحد في وجهه وتحصن أهل يافا بها وكذلك ظاهر العمر تحصن في عكا، فلما وصل إلى يافا 1188 حاصرها وضيق على أهلها وامتنعوا هم أيضاً عليه وحاربوه من داخل وحاربهم من خارج، وألقى عليهم المدافع والمكاحل والقنابر عدة أيام وليال،

خاتمة ظاهر العمر وولاة حلب:

فكانوا يصعدون إلى أعلى السور ويسبون المصريين وأميرهم سباً قبيحاً، فلم يزالوا بالحرب عليها حتى نقبوا أسوارها وهجموا عليها من كل ناحية وملكوها عنوةً ونهبوها وقبضوا على أهلها وربطوهم بالحبال والسلاسل وسبوا النساء والصبيان وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، ثم جمعوا الأسرى خارج البلد وأعملوا فيهم السيف وقتلوهم عن آخرهم ولم يميزوا بين المسلم والمسيحي والإسرائيلي والعالم والجاهل والعامي والسوقي ولا بين الظالم والمظلوم. وبنوا من رؤوس القتلى عدة صوامع ووجوهها بارزة تنسف عليها الأتربة والرياح والزوابع، ثم ارتحل عنها طالباً عكا. ولما بلغ ظاهر العمر ما وقع بيافا اشتد خوفه وخرج من عكا هارباً فوصل إليها أبو الذهب ودخلها من غير مانع، وأذعنت له باقي المدن ودخلت تحت طاعته وهدم قلعة دير مار يوحنا ودير مار الياس في صفد وقتل رهبانهما. ويقول جودت: إن أبا الذهب قام من مصر في ستين ألف جندي إلى يافا، وبعد حصارها خمسين يوماً استولى عليها وأعمل السيف في أهلها كبيرهم وصغيرهم، وأن ظاهر العمر طلب مدداً من الأمير يوسف الشهابي حاكم لبنان فأبى أن يمده فلم يسعه إلا الهرب من عكا والتجأ إلى عرب غزة، ولما حصل أبو الذهب في عكا استولت الدهشة على الناس حتى إن بعض الأسر الكبيرة هاجرت بيروت خوفاً وهلعاً، أما الأمير يوسف حاكم لبنان فقدّم هدايا إلى أبي الذهب طيب بها قلبه، وجاء متسلم صيدا أحمد آغا الدكزلي ملتمساً رضاه مظهراً طاعته، فأمنه على نفسه ومركزه، كما جاء مشايخ بني متوال فأكرمهم أبو الذهب ثم استدعى أن يولى أمور مصر والشام فجاءه من السلطنة المنشور بذلك ولكن كان قد قضى نحبه وتفرقت جموعه وعادوا إلى مصر، فلم تنل الدولة مأربها من ظاهر العمر ولم تستفد الشام سوى أن قتل من أهلها جمهور كبير ولا سيما في حصار يافا. وجرى على أثر هذه الواقعة بين المتاولة والغز الذين في صيدا قتال عظيم فانكسرت المتاولة كسرة هائلة وقتل منهم جماعة. خاتمة ظاهر العمر وولاة حلب: قال جودت: لما سمع ظاهر العمر بوفاة أبي الذهب عاد إلى عكا وأخذ

يطيل أيدي الأذى أكثر من قبل، فأرسلت عليه الدولة سنة 1189 قائد البحر حسن باشا الجزائري، وكتب إلى والي دمشق إذ ذاك محمد باشا العظم وإلى والي صيدا وإلى الجزار أحمد باشا الذي نُصب محافظ السواحل الشامية وإلى متصرف القدس، فبعث قائد البحر أولاً يطلب من الظاهر ما في ذمته للدولة من الأموال الأميرية وهي خراج سبع سنين فلم يوافق على ذلك مستشار ظاهر العمر إبراهيم الصباغ، وكان بيده جميع أموال ظاهر العمر، وقال له: إن الدولة لا يرضيها شيء وأراد سيده على المقاومة ولكن استمال متسلم صيدا عسكر ظاهر العمر وقال لهم: لا يجوز مقاتلة عسكر السلطان فأبوا أن يقاتلوه. فلما علم ظاهر العمر بالأمر فرّ على وجهه لا يلوي على شيء هو وأولاده، فضبط قائد البحر أمواله وذخائره وجيء بإبراهيم الصباغ فأخذت منه أموال ظاهر العمر ثم قتل. ويقول بعض المؤرخين: إن ما وجد من أموال ظاهر العمر اثنان وثمانون ألف كيس من النقد قال جودت: سبحان الله! بمثل هذا المال والنوال ومتسلم صيدا أحمد آغا الدكزلي يطلب عشر معشاره لإرضاء الدولة فتشح نفس إبراهيم الصباغ فيجلب البلاء على نفسه ويكون سبباً لخراب بيت مولاه بيت آل زيدان. وذكر بعض من استوفوا سيرة ظاهر العمر أنه في أواخر سنة 1189 حضر قائد البحر حسن باشا الجزائري بالأسطول لأن السلطان عبد الحميد الأول لما عقد الصلح مع الدولة الروسية سنة 1187 التفت لتنظيم الولايات فوجه قائد البحر إلى حيفا، وذلك بعد موت أبي الذهب ورجوع العساكر المصرية بمدة قليلة، وأن مطالب القائد كانت أموال سبع سنين متراكمة، فادعى الظاهر أن ليس عنده مال وأنه مستعد لحرب قائد البحر لأن عنده باروداً وقذائف وثلاثة مدافع، فأطلق قائد البحر أربعة أيام النار على عكا، وكان عدد قنابله 7750 قنبلة ولم يحدث منها ضرر بل هدمت قليلاً من المحلات، وقيل بل سقطت قنبلة على مخزن البارود فاحترق، فخرج الشيخ ظاهر بعياله فقتله أحد المغاربة في الطريق في محل يسمى الرقايق، وكان قاتله عبداً من عبيده منذ خمس عشرة سنة فقتله القائد التركي به لخيانته سيده، وحزوا رأسه وحمل إلى الآستانة ونهب العسكر المدينة ساعتين. وكان قائد السفينة الفرنسية التي جاءت

لحماية تجار عكا الفرنسيين وحملتهم إلى وطنهم نبه على التجار الفرنسيين بأن كل من عنده وديعة لإبراهيم الصباغ ولكل من يلوذ به ملزم بحسب أوامر السلطان أن يقدمها إلى قائد البحر العثماني فأعطوها وكانت 36 ألف كيس ذهب عدا الجواهر والتحف، وضبطت حواصله وكانت مشحونة بأصناف البضائع وضبط مبلغ كبير ممن يلوذ بإبراهيم الصباغ الذي أخذ وقتل في الآستانة، وكذلك أحمد آغا الدكزلي الذي خان مولاه فقد صلبه قائد البحر في صاري المركب، وسلم قائد البحر ولاية عكا إلى أحمد باشا الجزار، سلمه عكا وصيدا وما يليهما، فاحتال الجزار على أولاد ظاهر العمر وأقام الشيخ عثمان الظاهر شيخ المشايخ ويقول مشاقة: إن حسن باشا طلب من ظاهر العمر خمسين ألف قرش تبلغ بأسعار ذاك الوقت خمسة وعشرين ألف ريال فرنسا فأشار أكثر معتمدي الشيخ بالدفع إلا الطبيب التاجر إبراهيم الصباغ فإنه خالف رأي الجماعة، وقيل: إنه وصل من أموال ظاهر العمر وأولاده وإبراهيم عبود الصباغ إلى خزينة السلطان ثلاثمائة وثمانون ألف كيس تساوي خمسة ملايين ليرة وخمسة وعشرين مليون فرنك خلا ما اختلسه حسن باشا لنفسه. وفي أوائل 1190 رجع حسن باشا الجزائري بالأسطول إلى عكا وحضر محمد باشا العظم والي دمشق بعسكره وإبراهيم باشا والي القدس بعسكره ونصبوا معسكراتهم خارج مدينة عكا وطلع معهم أحمد باشا الجزار بعساكره وساروا جميعاً مع أمير البحر قاصدين البطش بأولاد ظاهر العمر فأمنوهم وحملهم قائد البحر إلى الآستانة وقتل في الطريق أحدهم واسمه أحمد لأنه طعن فيه جهاراً وبقي أحد أولاد الظاهر واسمه الشيخ علي يتنقل في البراري، فبلغ الدولة خبره فأرسلت إلى محمد باشا العظم أن يرسل إليها رأس علي الظاهر أو يقتل هو به، فأرسل والي دمشق رأس ابن الظاهر مع ثلاثة رؤوس من جماعته وأنكر جماعة أحمد باشا الجزار الرأس المحمول، وقالوا: إنه ليس رأس الشيخ علي الظاهر فأحضرت الحكومة ولديه الحسن والحسين وكانا في الآستانة وقالت لهما هل تعرفان هذه الرؤوس المقطوعة فلما رأياها بكيا فقيل لهما: ما يبكيكما؟ فأجابا هذا رأس والدنا علي الظاهر وقد عرف من كبر عارضيه لأنه كان يدعى أبو سبعة شنبات، وبذلك انقضت دولة الظاهر واندثر ذراريها

وقامت دولة الجزار أحمد باشا الذي ضيق على أولاد الظاهر وذراريه وبعث أحد جواسيسه إلى ابنه علي وقتله في مرج علما الخيط. والغالب أن الشيخ ظاهر العمر الذي حكم صيدا وعكا ويافا وحيفا والرملة ونابلس وإريد وصفد وجميع المتاولة كانت تحت أمره، كان إلى السذاجة والفطرة، استسلم لوكيله إبراهيم الصباغ، وكان هذا مثلاً سائراً في الإمساك وحب المال، فحاول أن يخلص سيده من دفع خمسة آلاف كيس مع أن لديه أضعاف أضعافها من الذهب، دع سائر العروض والجواهر، واغتر ظاهر العمر بقوته الضئيلة فكان في ذلك ذهاب دولته وهلاكه وهلاك وكيله، ولم يثمر جمع الأموال الثمرة المرجوّة، ولو قدرّ له أن يعمل بما رسمه له السلطان سنة 1188 من العفو عن جميع ما تقدم من ذنوبه وذنوب غيره على شرط أن يؤدي الخراج لبقي في عزه إن كانت الدولة تريد دوام العز لأحد. كانت الشكوى قليلة من إدارة ظاهر العمر فإن ما جمعه في أربعين سنة قد جمع غيره من حكام الأقاليم مثله في مدة قليلة. ذكر فولنه أن علي باشا المعروف بجتالجه لي الذي تولى حلب مرتين آخرها سنة 1193، وكان معاصراً للجزار جمع في خمسة عشر شهراً زهاء أربعة ملايين ليرة الغالب أن الليرة هي الفرنك الطلياني وأنه سلب جميع أرباب الحرف حتى انتهى سلبه إلى منظفي الغلايين. وقال غيره إن مدينة حلب التزمها ملتزم من الآستانة بثمانمائة كيس أو نحو أربعين ألف جنيه ويعطي الوالي 8330 جنيهاً في السنة لنفقات الولاية لكنه يكثر ابتزاز الأموال الطائلة من الأكراد والتركمان وسائر السكان، وقد جمع منهم عبدي باشا الذي كان والياً قبل عهد فولنه 160 ألف جنيه في سنة واحدة وضرب ضريبة على كل واحد وكل صناعة. قال بعض من عاصره: وقد فر من حلب غالب تجارها ووجوه الناس ومن له شهرة وسجن الأعيان، وأن الكوسح خادمه لما خرج إلى قتال التركمان صار يخرب القرى ويسلب أموالها حتى قام أهالي حلب وحاصروه وأخرجوه من البلدة. ونقل في أعلام النبلاء في حوادث سنة 1194 أن عبدي باشا والي حلب جاء في جيش عظيم إلى كلز لتأديب الأشقياء وأصدر أمره إلى أهل البلدة أن يخرجوا منها أهل العرض والرعايا إلى طرف الباشا ويبقي الأشقياء، فأجابوه

بلسان واحد: ليس في بلدتنا أهل عرض أصلاً بل كلنا أشقياء، فزحف الوالي على البلد فحاصرها وفتحها ووقع القتل والنهب في كلز، وهتكت الأعراض وذبحت الأطفال. وأن الوالي أخذ يسلب أموال الناس في حلب وفي سجونه من الأكابر والمشايخ والأشراف خلا الرعايا وأهل الذمة مقدار عظيم، وعسكره كثير يرتكب في حلب أنواع الرذائل، وبلغ من سوء فعل أتباعه أن كسروا غراريف بساتين حلب ودواليبها وأخشاب بيوتها وطياراتها من حدود قرية بابلا باب الله إلى قرب بستان الدباغة، وحرقوها وحرقوا أخشاب قرى البلد بأجمعها، وسلبوا متاعها ونهبوا مواشيها وتركوها قاعاً صفصفاً إلا ما حماه الله من القرى البعيدة، وجاء الوالي الجديد فنبه أن لا يحمل أحد سلاحاً وكل من وجد من أهالي المحلات خارجاً عن الطريق المستقيم فعلى جيرانه أن يخبروا عنه ليقتله، ومن شهد جيرانه بحسن حاله فلا سبيل لأحد عليه، وصار يقتل كل من أخبر بسوء حاله، وأمر الناس أن يفتحوا دكاكينهم وأرباب القرى أن يتعاطوا زراعتهم وأن ما مضى لا يعاد، ومن لم يفتح دكانه ينهبها ويشنق صاحبها. وروي في أخبار الحاج يوسف باشا ابن العظم الذي تولى حلب بعد عبدي باشا أنه صار يأخذ بالمجان مماليك وجواري من أصحابها قهراً، ويحضر التجار وغيرهم ويكرمهم ويقول لهم: أنا وزير إقشعوا خاطري، لا يعلم بها أحد حتى لا يمشيها غيري وأرسل فطلب من كل بلداً حصاناً. وجاء بعده عبدي باشا وسار على أقدام سميه الأول في الظلم والجور على صورة لم يسبق لها مثيل، وأنشأ يأخذ بدل القرش أربعة، وصادر القوم وعذبهم وصارت حبوسه ملأى بالناس. وصف فولنه ظاهر العمر بأنه لم تشهد له الشام مثيلاً في الأزمان الغابرة، وكان داهية باقعة في السياسة حكيماً محنكاً ولكنه كان طماحاً طماعاً، ومن محاسن صفاته أنه لم يكن يحب الاحتيال ويجاهر بما يضمر ولو قاسى من ذلك العنت وأنه أحب المسيحيين ورفع شأنهم وعدل في الناس. وقال من عاصره: حكم الظواهرة البلاد نحو ثمانين سنة وامتد نفوذهم من حدود جبل عامل شمالاً إلى أطراف جبال القدس جنوباً ومن البحر

أولية الجزار:

المتوسط غرباً إلى جبل عجلون شرقاً، وكانوا يرجعون في أحكامهم إلى أصول العشائر حسبما توحيه إليهم ضمائرهم، وقد شادوا في الأقاليم أبنية ضخمة فرم ظاهر العمر بعض ما تمكن من ترميمه مما خربته الحروب الصليبية ورفع سور عكا الداخلي، وشاد فيها جامع محلة الجرنية وبنى علي في صفد القلعة الباقي شيء من آثارها إلى اليوم، وبنى صليبي في طبرية السرايا المعروفة اليوم باسم الصقرية نسبة إلى عرب الصقر الذين صال عليهم صليبي واكتسحهم، وعمر الجامع الواقع جنوب السراي، ورم عثمان قلعة قرية شفا عمرو وعمرها، وبنى أحمد قلعة تبنة، وشيد سعد قلعة دير حنا. وهذه القلاع الثلاث لا تزال موجودة، وعمر في دير حنا الجامع الموجود إلى اليوم وكان بناؤه سنة 114هـ. أولية الجزار: أخذ الجزار بعد استلام ولاية صيدا سنة 1191 يقوى وتشتد شكيمته خصوصاً وقد ولي دمشق مع بقاء عكا عليه، ثم استقل بولاية عكا وأخذ يغزو متغلبة تلك الأرجاء فوقعت بينه وبين الأمير يوسف الشهابي وقعة سنة 1191 في نقار السعديات بين صيدا وبيروت فلم يسلم من جماعة الشهابي إلا القليل، وأحرق عسكر الجزار المكاس والجديدة والدكوانة في لبنان وقتل أناساً من أهلها، ثم وقعت بين عسكر الدولة عسكر لبنان في المغيثة عدة وقائع انتصرت الدولة فيها على أهل الجبل وقتل منهم قتلى كثيرة وأكثرهم من المتن وداهم عسكر الدولة بني الحرفوش في بعلبك وأحرقت الدولة زحلة. وقوي الجزار بمجيء ستمائة فارس من اللوند وكانت الدولة أمرت بقتل جماعتهم وكانوا ستة عشر ألفاً، فلم يسلم منهم إلا الذين جاءوا الجزار، ولما عزم على الإقامة في عكا ابتدأ بإصلاح أسوارها وإتقان بنيانها وجعل على كل قرية أن يحضر أهلها جميعاً ثلاثة أيام في الأسبوع بالسخرة لأجل العمارة. وجرت حروب كثيرة بين الشيخ علي بن الشيخ ظاهر العمر وعساكر الجزار حتى قتل على ما سلف، وكذلك بين الجزار والأمير يوسف الشهابي والتقى مرة في طريق صيدا وعسكر الجزار بالنكدية وكانوا يكمنون له فقتل

الجزار أكثرهم وقبض على بعض أعيانهم، فجعل الأمير يوسف يعتذر للجزار ويستشفع في إطلاقهم مقابل مئة ألف قرش، ولما طلب الأمير المال من الجبل أبى الأمراء الدفع فطلب الأمير من قائد عسكر الجزار أن يتلف أشجار بيروت ففعل وقتل جماعة من رجالهم، ثم سار إلى بعلبك وعظم أمره، وحينئذ خرجت بيروت من يد الأمير يوسف ودخلت في حكومة الجزار، واقتتل الأمير يوسف مع الجزار فانهزم في عدة مواقع ثم تصالح الشهابي والجزار. وأرسل أحمد باشا الجزار 1191 أحد رجاله من الأكراد في جماعة منهم فاجتازوا قب الياس فعلم أهلها فحصنوها، وردوهم عنها بإطلاق المدافع فذهب الأكراد إلى بعلبك وصادروا كبار المتاولة، ولا سيما الأمير محمد الحرفوش وسجنوه، ثم شنوا الغارة على سعد نايل وقتلوا بعض سكانها ونهبوها، ثم حاربوا الدروز في البقاع وقتلوا بعضهم وأحرقوا قرى كثيرة في البقاع وهاجموا سغبين ثم عادوا عنها، وقد قتل منهم نحو مائتين ثم أمرهم الجزار فعادوا إليه، وكان سبب إرسالهم أن الأمراء اللمعيين لم يدفعوا الضريبة الشاشية التي فرضها الجزار على اللبنانيين في السنة السابقة. وفي سنة 1192 أو 93 نقل الجزار مركزه إلى عكا لحصانتها. وزاد الجزار 1194 المكوس والمغارم على لبنان. وفي سنة 1195 وقعت فتن ومناوشات بين عسكر الجزار وعسكر الأمير سيد أحمد وعسكر دمشق في أرض قب الياس في البقاع قتل فيها كثيرون وانتصر الجزار ووقعت وقعة في الظهر الأحمر في وادي التيم، وفي سنة 1197 استولى الجزار على بلاد بشارة بعد وقعة مع مشايخها من بني متوال، وتسلم هونين وتبنين وشقيف أرنون، أخذ هذه القلعة الأخيرة بالأمان وقتل من بها وتسلم جباعاً وباد اسم بني علي الصغير وبني منكر. وفي هذه السنة توفي محمد باشا العظم وكان وزيراً عادلاً مهاباً على قول ميخائيل الدمشقي وقال المرادي: إنه كان من رؤساء الوزراء عقلاً وكمالاً وعدلاً وديناً وسخاء ومروءة وشجاعة وفراسة وتدبيراً وكان واسع الرأي مهاباً وضرب على أيدي البغاة وقطاع الطريق، وراقت دمشق وما والاها في أيامه، وصفا لأهلها العيش ونامت الفتن، وعين محمد بن عثمان باشا وكان ظالماً قاسياً ثم تولى أخوه درويش

الحكم على القرن الثاني عشر:

باشا ثم تولى محمد بطال باشا وكان حدثاً جاهلاً ليست له خبرة بالمقاطعات. وقتل 1197 الوزير حسين مكي باشا والي غزة وصادرت الدولة أمواله وكان حارب بني صخر وعرب الوحيدات بعسكره فاستأصلهم. وفي سنة 1198 تولى أحمد باشا الجزار ولاية دمشق وفي سنة 1199 وقعت فتن أيضاً بين عسكر الدولة واللبنانيين قتل فيها فريق من الطرفين. ومن جملة الفتن ما ذكروه من عصيان يوسف الجرار وتحصنه في قلعة صانور، فحاصرها الجزار بنفسه فلم يظفر بطائل فطمع أهل نابلس وأخذوا ينهبون الناس، فذهب الباشا ونهب بعض قراها وقتل أناساً كثيرين ثم حاصر صانور ثانية، وأصبحت مقاطعة نابلس في فوضى والجزار كل مرة يغزوها ويخرب في قراها ويقتل من أهلها ولم ينل أحمد الجزار من يوسف الجرار ما كان يتطال إليه حتى مات الجرار. قال بعضهم: إن نابلس لم تبرح بعصيانها تقلق الإدارة التركية وكان العصاة فيها يعتصمون بقلعة صانور. هذا وقد تولى حلب في هذا القرن سبعون والياً قضى معظمهم أشهراً في الولاية وأكثرهم لم يتجاوز الخمس سنين وكان ولاة دمشق في هذا القرن ستة وأربعين والياً كان منها نحو خمس وأربعين سنة في حكم آل العظم. الحكم على القرن الثاني عشر: قرن كله ذل ومسكنة، وتقاتل وتشاحن، عرف بتغلب القيسية على اليمنية بعد وقعة عين دارة، ورجوع ابن معن إلى الإمارة في لبنان، وانقراض دولة المعنيين بموت الأخير منهم، وظهور بني شهاب حكام وادي التيم بمظهر جديد خلفوا المعنيين في لبنان، وبظهور أبناء علي الصغير في بلاد بشارة وانقراضهم كانقراض آل حمادة من شمالي لبنان، وظهور بني العظم حكاماً في الولايات الشامية وتراجع أمرهم، ثم ظهور ظاهر العمر في عكا وما إليها ودوام حكومته أربعين سنة، ثم إرسال والي مصر تجريدة بقيادة إسماعيل بك وأخرى بقيادة محمد أبي الذهب ورجوع هذا عن الديار الشامية بعد أن فتحها إلا قليلاً، واعتصام الظاهر عمر بملكة روسيا وحصار أسطول الروس بعض الساحل ولا سيما بيروت، ثم ظهور الجزار الذي قرض بيت ظاهر العمر.

والدولة قلما جهزت جيشاً خاصاً للقضاء على سلطة أحد المتغلبين اللهم إلا جيوشاً أشبه بنجدات يوم مجيء أبي الذهب لفتح الشام، واستغاثت بأبي الذهب لتنقذ الشام من ظاهر العمر فجاء بجيش من مصر، أي إن الدولة كانت تستعين بالجار على جاره وبابن العم على ابن عمه وتضعفهم جميعاً، ومعظم حملاتها كانت للانتقام ممن يتلكأ في تأدية الجباية لها، وقلما سمع بأنها نحت عاملاً كبيراً لسوء إدارته، وكثرة نهمته في جمع ثروته، والعاقل المستقيم من ولاتها لا تطول ولايته كثيراً حتى يتمكن من إصلاح بعض الشؤون، وكان الولاة في الحقيقة يستمتعون بلا مركزية واسعة لا يحتاجون معها إلى مراجعة الآستانة في كل أمر، ولكن أين العامل النشيط فيهم الذي يعرف يدبر أمور الناس، وإذا تهيأ الرجل فلا تحدثه نفسه بذلك حتى يتهم حالا بإدارة الاستقلال ويشي فيه جيرانه والطامعون في ولايته. أما سلاطين هذا القرن فكانوا وسطاً والوسط لا يعمل عملاً نافعاً، ولم ينشأ للسلطنة صدور عظام عرفوا بالمضاء وحب العمل أمثال أبناء كوبرلي وصوقوللي في القرن الماضي، بيد أن أعمالهم لم يصل إلى الشام منها إلا الصدى، ولم يخرج من الشام نابغة بعقله وإدارته من أرباب الإقطاعات وغيرهم كما كان في القرن المنصرم، وجل همهم مصروف إلى دفع عادية خصمائهم من أقربائهم أو غيرهم، وكانوا دون من يأتي من الآستانة من الولاة عقلاً وعدلاً، ومما ظهر في هذا القرن من النقص المحسوس قلة السكان فقلق العقلاء، وكان في حلب قبل استيلاء العثمانيين 3200 قرية يتقاضى منها الخراج فنزل عددهما إلى أربعمائة قرية حتى إن ابن معن لم يقبل أن يتولى مقاطعة بني حمادة لأنها خربت، وهام الفلاحون على وجوههم في المدن والجبال وهكذا الحال في ولاية دمشق وفلسطين. وقال فولنه: إن سكان كسروان وحده ضعفا سكان فلسطين. وهكذا كان السكان يكثرون في المقاطعات التي تتخلص مباشرة من إدارة الباب العالي مثل لبنان ووادي التيم ونابلس وعجلون، وإن لم تكن حالتها مما يستحب. أما أعمال العمران فلم يقم فيها إلا قصور لأرباب الدولة أمثال قصر لأسعد باشا العظم في دمشق وقصره في حماه إلى غير ذلك، وقامت من المدارس مدرسة

إسماعيل باشا العظم ومدرسة سليمان باشا العظم في دمشق، وبعض مدارس في حلب، ولكن بدأ خراب المدارس القديمة العظيمة بمقياس واسع، وتداعت المساجد والجوامع، ولم يقم من المشاريع النافعة ما يستحق الذكر كأن القطر لا صاحب له يغار عليه، فالمتغلبة من أبنائه والقادمون من الولاة عليه، لا يهتمون لمثل هذا الشأن، وسلاطينها ضعاف إن أفلح أحدهم فعمر له جامعاً ومقبرة خاصة في دار الملك عدوه محباً للعمران، متقرباً بعمله الصالح من البارئ الديان. انتهى الجزء الثاني من خطط الشام ويليه الجزء الثالث وأوله العهد العثماني من سنة 1200.

العهد العثماني من سنة 1200 إلى 1247

العهد العثماني من سنة 1200 إلى 1247 الجند أداة الظلم والتدمير: كان الشام في هذا القرن مهد القلاقل والثورات، يقع الاعتداء في الأكثر على النصارى واليهود وأهل السكينة من المسلمين. وأكثر الفوضى ناشئة من الجند الجاهل الذي تمادى في اللؤم والدناءة حتى آض كالوحوش الضارية. ويقسم هذا الجند إلى ثلاثة أقسام: الإنكشارية والقبو قولي وهما القسمان القويان، والقسم الثالث حرس الولاة الخاص وهو يتألف من المغاربة والتكارنة والترك والأرناؤد والدالاتية وغيرهم، والعداوات متأصلة بينهم. ولطالما قامت بسبب ذلك فتن، ووقعت ويلاتها على الشعب فيهرق دمه وتنهب أمواله، وتغلق حوانيته، وتقف الأعمال، ولا سيما في الحواضر كدمشق وحلب. ولا تنفض هذه المشاكل إلا بتدخل الولاة أو أحد الأعيان، ويتكرر ذلك أبداً لأن العلة الأولى فيها لم تستأصل ما دام المجرمون لا يعاقبون والأوباش لا يُحملون على حرمة الشريعة. ولذلك كانت شوارع المدن وأحياؤها كثيرة الأبواب والأرتجة وتقفل أيام الثورات، وساعة المخاصمات والمشاغبات، والأزقة ضيقة معوجة لتصلح لحرب المتاريس. وأكثر رجال الجندية نفوذاً الإنكشارية لكثرتهم وشدتهم وصداقتهم للوالي. وكان زعماء الجند يلقبون بالأغاوات. ويرسمون على أيديهم الوشم شعار الفرقة التي ينتمون إليها، ويرسم على أبواب المقاهي اسم الفريق الذي يختلف إليها، وليس لهم نظام خاص. والمحلات تخضع للأغا المقيم فيها

وهو يخضع لزعيم الفرقة. ولم تكن تكفيهم إدارتهم التي يتناولونها من مال الخزينة لكثرة أتباعهم، فيضطرون للعمل يذهبون إليه وهم مسلحون ليسهل عليهم الانضمام إلى فرقتهم متى دعت الحاجة، ولا شأن للخاملين وأهل الفسق إلا الاجتماع في المقاهي والحانات، وإطالة أيدي الأذى على الناس يصادرون أموالهم ويفترسون نساءهم وصبيانهم، وكثيراً ما يقتلون أحد أبناء السبيل لغير سبب كأن يجربوا بنادقهم أو سيوفهم في أول من تقع أعينهم عليه. تمادى الرعاع في قحتهم وفجورهم إلى الغاية، لضعف الحكام وقصورهم عن ردع القوي عن الضعيف، فنشأت فئة من الناس مسلمين ومسيحيين، اتكلوا في حفظ أنفسهم وأهلهم على أنفسهم وشدة بأسهم في الدفاع. وكان القوم يحترمون هؤلاء الأشداء ويخافونهم، وكان منهم من عرف بالشهامة والشمم بما يغبطون عليه ويخفف ويلات الشرور اللاحقة بالرعايا من اعتداء الجند أحياناً. وبلغ التعصب الديني أقصى شدته في هذا العصر حتى تجاوز القوم فيه حد الإفراط، يحسب المرء كل من لم يتدين بدينه ممن يجوز له قتله أو الاعتداء عليه، وابتزاز ماله وانتهاك عرضه، وانتشر هذا الروح حتى عمّ السواد الأعظم من الناس. قال مشاقة بعد إيراد ما لخصناه: وكان فريق من العلماء وأهل التقوى يرون معاملة الذمي بالحسنى تبعاً لقواعد الدين الشريفة ولكنهم لم يوفقوا لردع الرعاع في زمن عمت فيه الفوضى وساد الجهل والهمجية على القوم. من أجل هذا ساغ لنا أن نستنتج أن الشام كان أهلها وحكومتها بين ظالم ومظلوم، يشتد الوالي في إعنات الرعية لسلب أموالهم ويرسل إلى العاصمة بالمقرر عليه، وكثيراً ما يشاكسونه فلا يدفعون المفروض عليهم، أو ينتقضون عليه بإيعاز بعض أهل النفوذ وقد يكون الحق معه، والرعايا عرضة لاعتداء الجند وأغواتهم والأعيان وأتباعهم، تساوى في النظام المدني والقروي، وربما كان المدني أكثر تعرضاً للمهالك لقربه من هذه العوامل التي أخذت على نفسها تمثيل التخريب في مسارح الجهل على ضروبه وأشكاله. ظلمات بعضها فوق بعض، وسلاسل مفرغة من المصائب لا يدري أين طرفاها. وليت

حوادث الجزار وفتن الإنكشارية وغيرها:

شعري ما يرجى من عناية دولة بأُمتها وهي تعطي الوزير ثلاثة أطواخ والأطواخ أذناب خيل فالذنب معلق من أسفله في رأس عصاً وطولها نحو ثلاثة أذرع وشعره مسدول عليها، فإذا سافر الوزير يرسل الطوخ الواحد قبل سفره بيوم إلى محل نزوله فيستعدون لاستقباله وتهيئة ما يلزمه من المآكل والعلف للدواب بلا ثمن. وأما الطوخان الباقيان فيحملان أمام الوزير في السفر. ومعنى الأطواخ أن الدولة تحكم البلاد بأذناب خيلها قاله مشاقة ونحن نقول: إن الدولة التي يبلغ من غرورها هذا المبلغ لا تنجح في الحكم بحال. قال جودت في حوادث سنة ألف ومائتين: إن وظيفة جابي المال في حلب كانت منذ أربعين سنة مطمح أنظار الموظفين في الدولة لأنها تأتيهم بثروات إذا جاءوا بها إلى الأستانة ينالون بواسطتها رتبة الوزارة ورتبة ميرميران، وممن كان منه ذلك أحمد باشا فإنه أخذ العلم والطوخ واشتهر شهرة عظيمة، وما برحت هذه الوظيفة تباع وتشترى بالمزاد، وكثيراً ما كانت الدولة ترسل بمفتشين يشاركون المرتكبين من هؤلاء الجباة، وكثيرون ممن يتولون هذه الوظائف يرحلون بالأموال ينفقونها في شهواتهم حتى يهلكوا فقراً وقهراً، ولذلك كانت أموال الدولة تبدد ويسرف فيها. حوادث الجزار وفتن الإنكشارية وغيرها: بدأ القرن وأعظم وزير مسموع الكلمة في الأستانة قوي الشكيمة في ظلم الرعايا بالشام، أحمد باشا الجزار، تولى دمشق بعد ولاية عكا، وذهب أميراً مع الحج فرفع الدمشقيون الشكاوى عليه إلى دار الملك فعزل وذهب إلى الأستانة فعينته الدولة وزيراً على صيدا، وأقام في عكا وحصنها وضبط أملاك بيت شهاب في بيروت ورفع أيديهم عن حكمها، وأنشأ للثغر أرتجة وسوراً فسُر المسلمون بذلك، ونُصب على دمشق إبراهيم دالاتي باشا سنة إحدى ومائتين وألف وكان جسوراً مهيباً فحدث بينه وبين الأهالي اختلاف وتعصبوا عليه وحدثت فتنة، فأغلق أحمد آغا الزعفرنجي شيخ الإنكشارية القلعة وقتل من عسكر الوالي ثلاثمائة رجل وأراد لأن يضرب الوزير، فخرج

هذا إلى حمص وحماة وجمع عسكراً كثيراً، وأوعزت الدولة إلى الجزار وإلى الأمير يوسف الشهابي أن يعاوناه بعسكرهما ففعلا، وعاد الوالي إلى دمشق فارتاع أهلها وأرسلوا النساء إلى الجامع الأموي فكلمه أعيان المدينة فاشترط عليهم أن يلتزم الرحمة إذا خرج الزعفرنجي من القلعة وتسلمها رجاله، ودخل البلد وقتل بعض الأردياء قيل: إنهم مائة وخمسون رجلاً من جماعة القلعة، وكان جاء الوالي في عسكره إلى باب الله واجتمع العسكران ووقع قتال فهلك فيه من الفريقين خلق. وملك الوالي الميدان، واستمر ذلك مدة والعسكر محيطة بالقلعة حتى سُلمت. وأقام هذا الوالي أربع سنين في دمشق، وذهب أمير القلعة إلى أمير عرب الموالي فارّاً منه فأوعز إلى متسلم حماة أن يقتص من عربه لفسادهم في تلك الأرجاء، فساق عليهم من حلب وحماة جيشاً قتل منهم نحو ألف إنسان وانهزم الباقون. وكان عرب الموالي ثاروا هذه السنة في ضواحي حمص وحماة فنهبوا القرى وفتكوا بأغوات الدنادشة حكام المدينتين منهم وقتلوا كلاً من شيخ الكلبيين وشيخ النصيرية وعاثوا في تلك الجهات وفتكوا بأعيانها. وفي سنة 1201 دخل عثمان باشا إلى إنطاكية ونزل عسكره على الحريم وفعل فيها أفعالاً قبيحة، وأتى إدلب وصادرها وخرب جميع القرى التي مر عليها، وخرب الراموسة، واشتبك القتال بينه وبين أهل الشيخ سعيد عدة أيام فقتل من عسكره بالطاعون والسلاح عدد كبير، ونهب قرى في تلك الأرجاء، هذا والطاعون في حلب وأرجائها يفتك فتكاً ذريعاً. وخربت القرى وهلك الفقراء في فتنة الأمير جهجاه الحرفوش 1202 وكان قوي على إبراهيم باشا والي دمشق، وسرت شرارة فتنة الزعفرنجي إلى أهل دمشق حتى طلب الوالي عسكراً من جبلي نابلس والشوف ودقت طبول الوالي 1203 من دومة وفرق العساكر ثلاث فرق فدخل عمر آغا من الزفتية، وابنه على صفّ الجوز، والوزير على السلطاني، وأحرقوا القبيبات وحارة التركمان، وجرت الدماء من الصباح إلى العصر حتى أطاع أهل دمشق السلطان عبد الحميد الأول، وخرب الوالي القلعة وأهلك متوليها بمدافعه شرذمة قليلة من عسكر الوزير، وبقيت الحرب بين الفريقين ستة أيام بلياليها. وفي أيام إبراهيم باشا الكردي 1203 انتشبت الحرب في وادي أبي

عهد سليم الثالث وفتن وكوائن:

عباد فوق كامد اللوز في البقاع بين عسكر الجزار وعسكر الشهابين أُمراء لبنان ووادي التيم انكسر فيها عسكر الجزار كسرة عظيمة. ووقع بين عسكر الجزار والهوارة والدروز في جب جينين قتال انكسر فيه عسكر الأمير وقتل منه مقتلة عظيمة، ثم جمع الأمير يوسف عسكر لبنان وأرسلهم مع سليمان باشا والهوارة إلى عين دارة، فالتقوا بعسكر الجزار في قب الياس فانكسر أيضاً عسكر الأمير يوسف وحدثت عدة وقائع بين عسكر الأمير في جزين وعسكر الجزار في جباع كسر فيها عسكر الأمير يوسف. وكان عسكر الزعفرنجي يعيث خلال ذلك في مرج الغوطة، فيهلك الفلاحين ولا إهلاك الأوبئة ويرعى رجاله الزروع ولا أكل الجراد. عهد سليم الثالث وفتن وكوائن: هلك السلطان عبد الحميد الأول سنة 1203 وخلفه السلطان سليم الثالث وكانت أيامه كلها غوائل وفتناً: استقلت فيها القريم وأصبحت روسيا بما أخذته من أملاك الدولة على البحر الأسود دولة بحرية مهمة، وقبل بمعاهدة كوجك قينارجه 1188 مع روسيا وبها انحط مقام الدولة، وحارب روسيا مرتين. وقال مترجموه من الترك: إنه كان عادلاً حليماً تحبه الرعية. ويقول من عاصره: إن عبد الحميد الأول كان أخرق للغاية وإنه كان جاهلاً وليس فيه من الجودة الرأي والحزم والمضاء شيء، ولم يستطع أن يستفيد من الثورة السياسية والدينية التي نشبت في القافقاس، ولم يحسن الانتفاع من أسباب النجاح التي كانت متوقعة من بحريته وجيشه. وفي سنة 1204 وقعت فتنة بين الأمير قاسم الحرفوش وابن عمه جهجاه في سهل أبلح بالبقاع، فدحر قاسم عسكر الأمير بشير الشهابي فشق عليه فأرسل نجدة أخرى للأمير قاسم، فلما علم ذلك جهجاه هرّب سكان بعلبك وأتلف ما فيها ولم ينالوا من جهجاه، ثم استُصرخ الجزار فأمر بأن يمد بجيش فأرسل معه عسكر المغاربة والدولة ومشايخ الدروز فانتشبت الحرب بينهم وبين جهجاه فاندحروا وقلق الناس، ورحل كثير من السكان من تلك

مظالم الجزار واختلال الإدارة:

الأرجاء، ثم تغلب جهجاه على قاسم. وفي السنة التالية وقعت وقعة بين جهجاه وحاكم بعلبك إسماعيل فانهزم هذا وقتل من رجاله نحو مائتي رجل ولم يقتل من رجال جهجاه أحد. وفي سنة 1205 أحرقت عساكر الدولة وقيل عسكر الأمير بشير حاصبيا وأكثر القرى التي حولها. مظالم الجزار واختلال الإدارة: تولى أحمد باشا الجزار دمشق للمرة الثانية سنة 1205 وظل مقيماً في عكا وأرسل متسلمين منهم أُرفه أميني وكان كما قال مشاقة ظالماً قاسياً يشبه أُستاذه في إنشاء المظالم والحوادث الصعبة على المسلمين والنصارى واليهود. وكان الجزار مغتاظاً من أهل دمشق لعرضهم على الدولة مساوئه مما أدى إلى تنحيته عن عمله سنة إحدى، فأراد الانتقام من الساعين به هذه المرة. وبالحقيقة أن مدة حكم الجزار في دمشق وهي خمس سنين لم يرتح فيها الناس شهراً واحداً من طلب الأموال ظلماً وطرح المعاملة المتصل التي حدثت بها خسائر عظيمة وطرح بضائع متنوعة، ينهبها من جهات ويطرحها بأسعار زائدة على أخرى، وليس هناك صغير ولا كبير إلا ويناله الظلم والقهر، ونزح كثير من السكان وتركوا أوطانهم وعيالهم. سلسلة من المظالم لا حد لها. وكان كل سنة يقتل في قلعة دمشق بدون تحقيق أُناساً وقد قتل في إحدى السنين مائة وستين رجلاً خنقاً وذلك في ثاني سنة من ولايته. وفي السنة الثالثة قتل نحو ستين وكان كلما جاء دمشق مرة في السنة وهو ذاهب ليحج بالناس أو آيب منه يعمل هذه الأعمال للإرهاب ولم يقف أمر المظالم عند حد أوامر الجزار المجنونة، بل كانت الفتن في جهات أخرى من الشام على عادتها في القرون الماضية، من ذلك أنه جرت سنة 1206 عدة وقائع كانت سجالاً بين الجبل وعسكر الدولة الذين كانوا مع الأمير بشير، وأحرقت عسكر الدولة غريفة وبست نساء وأولاداً. واشتد الخصام بين بشير قاسم وحيدر ملحم الشهابين على الإمارة في لبنان، وكان بشير تعهد للجزار بخمسة آلاف كيس على مثل ما تعهد به يوسف، فأخذ يصادر كل من مالأ الأمير يوسف،

ومال الناس إلى الأمير حيدر للتخلص من الضرائب التي سامهم الأمير بشير دفعها، وسادت الفتن في اللبنانين الغربي والشرقي، وهاجم والي دمشق بعلبك للانتقام من الأمير جهجاه لأنه لم يخلد إلى السكينة، وقتل عشرات من الناس في بعلبك وسغبين وقتل من المعسكر أكثر من ذلك. وهجمت أهالي حلب على بطال آغا نوري ومحمد آغا وعلى عسكره وحصل بينهما مناوشة أدت إلى انهزامه خارج حلب، وتوجه إلى عينتاب وحاصرها خمسة أشهر إلى أن قتل وحمل رأسه أربعة وعشرين من العصاة إلى الأستانة. قال جودت: وكان هؤلاء الخونة يقتربون إلى رجال الأستانة بالأمور الدنيئة فينصبونهم حكاماً في بعض المقاطعات فيفسدون في الأرض ويتسلطون على عباد الله حتى ترفع الرعية علم العصيان وتقاوم الحكومة ولا تبعة في ذلك إلا على رجال الدولة. وفي سنة 1206هـ 1791م أخرج الجزار الفرنج من بيروت وبنى السور بحجارة أبنية الشهابية التي دكها ودك كنائسهم وجعلها إسطبلات. وفي هذه السنة قتل رجل من أهل بيروت خارج البلد فأغلقوا الأبواب وقبضوا على كل من وجدوه من أهل الجبل وكانوا نحو ستين رجلاً فقتلوهم جميعاً. وحدثني الثقة من أهل بيروت عن أبيه عن جده أن حكام بيروت المسيحيين اشتدت مظالمهم وعتوهم على المسلمين فكان الأمير يمر في شهر رمضان في المدينة يحملون أمامه الغليون للتدخين فينتصب المسلمون على الأقدام يحيونه فلا يتنازل أن يجيبهم بل يقول الخادم من ورائه: سلّم الأمير. فضاقت الحال بالمسلمين فشكوا أمرهم إلى قائد الأسطول العثماني وكان يأتي كل سنة ليحمل الأموال المقررة فقال لهم: الخطب سهل وهو أن تغلقوا أبواب المدينة متى رأيتمونا أقلعنا بسفننا وتذبحوا النصارى وبذلك ترتاحون منهم ففعل غوغاء المسلمين وقتل بهذا التدبير الجائر كثير من الأبرياء، وبذلك تبين أن الدولة لم تكن تهتم إلا لجبايتها، فإذا استوفتها فسواء لديها تقاتل رعاياها أم تصالحوا، والغالب أنها تحبهم أن يكونوا على خصام أبداً حتى يخلو لها الجو، وقاعدة فرق تسد من أهم قواعد حكمها. وفي سنة 1207 وهب الشهابيون الهرمل للأمير جهجاه الحرفوش فلم

يذعن له سكانها فحاربهم وقتل منهم نحو أربعين رجلاً وحرق البلدة وفي سنة 1208 قامت الفتن بين الأشراف والإنكشارية في حلب دامت عشرين يوماً قتل فيها بعض أهل اليسار والشرف ثم انكسر الأشراف وحصرهم الإنكشارية في جامع الأطروش وجرى من القبائح ألوان وأشكال. وفي سنة 1209 صدر أمر الجزار بمصادرة بعض صيارف دمشق من الإسرائيليين وقتل بعضهم وأدخل الرعب على أبناء نحلتهم، ونال مثل ذلك بعض أغنياء الأهالي على اختلاف مذاهبهم، وبدأ القتل والصلب وقطع الأنوف وحبس خلق وجرم الأبرياء وهام الناس على وجوههم، وفي هذه السنة غزا عسكر دمشق بعلبك فهرب الأمير جهجاه إلى رأس بعلبك فأحرق بعض بيوتها وكان رجال الدولة يحاذرون من شيء يقع على الشام بعد أن اعتصمهم الظاهر عمر بروسيا فقد ذكر شاني زاده أن والي صيدا عبد الله باشا كتب إلى الدولة بأن كنيستي عكا والناصرة وقلعة حيفا كلها مستحكمة البناء لا تخلو من محذور فاستفتى السلطان فأفتى بأن تهدم الكنيسة القديمة والجديدة معاً لثبوت مضرتها ونفذ الحكم. وكثيراً ما كان الولاة في العهد العثماني يوجسون خيفة من الديارات والبيع إذا كانت مستحكمة البناء فقد أخرج السلطان سليمان النصارى من ديرهم في سفح جبل بالقرب من قرية البعنة في صفد وكان قديماً يعرف بدير الخضر وأمر أحمد بن أسد البقاعي من الصوفية بالإقامة فيه مع أولاده. وفي سنة 1210 تولى دمشق عبد الله باشا العظم والقطر في حالة مزعجة وقد دام في ولايته هذه ثلاث سنين وبقي الجزار في عكا وفي هذه السنة وقع القتال بين عسكر أولاد الأمير يوسف في جبيل وبين الذين كانوا في قلعتها من عسكر الأمير بشير وكسروهم. وفي سنة 1211 أرسل عبد الله باشا العظم عسكراً إلى البقاع فأرسل الأمير بشير والجزار والي عكا عسكراً فالتقاهم الجزار، ووقع القتال في مندرة من قرى البقاع، فانكسر عسكر دمشق كسرة عظيمة وقتل منه جماعة. ولم يزل عسكر لبنان والهوارة مجداً في آثارهم إلى وادي المجدل وغنموا خيلهم وسلاحهم وذهب بعض اللبنانيين وأحرقوا البترونة قرب الزبداني. وفي سنة 1212 توجه والي دمشق إلى التفتيش كالعادة فلقي الطريق ممسوكة منافذها من عسكر الجزار فساءت حال رجاله ثم توجه إلى جنين

محاولة نابوليون فتح الشام واستيلاؤه على غزة

فطمع الأهلون فيه ولم يعطوه مال الدورة، فألحق به الجزار جنده قاصداً قهره وعسكره. فركب وركب العسكر وتوجه نحو عسكر الجزار فدارت بين الفريقين حرب انتصر فيها والي دمشق على الجزار، وقتل الأول من عسكر الثاني خلقاً، ورجع لم يعترضه أحد وقد جمع الأموال الأميرية برمتها. وفيها قامت الإنكشارية على أعيان حلب وقتلوا كثيراً منهم حتى كانوا يقتلون السيد وهو يصلي في المحراب، فعرض الحال على الدولة فجاء شريف باشا والياً على حلب فمنعته الإنكشارية من دخولها، فتعهد بأن يكون مسعفاً لهم فدخل وأتته الأشراف فقوي بأسهم على الإنكشارية وبعد ذلك أرسل إلى الإنكشارية سراً أن يثوروا بالسادات فكبسوهم ليلاً وقتلوا منهم مائتين وخمسين نفساً وأخذ منهم شريف باشا خمسمائة ألف قرش وقدمها للدولة، وقويت شوكة الإنكشارية في حلب. وفي سنة 1213 ضرب الجند الدالاتية جميع قرى دمشق وأكلوا مغلها وحرقوا دوابها وصار منهم قتل وسلب. قال ابن آقبيق: وقال أيضاً في حوادث هذه السنة: إنه كثرت الفتن وانحل الحكم حتى بقي إطلاق البارود من القلعة سبعة أيام. وانتشرت الفوضى في الأحياء والبلاد لا حكم فيها لحاكم ولا متسلم، وأفندية البلد دمشق مسجونون عند الباشا في المخيم وبقي ذلك حتى رحل الباشا، وبقي عسكره يومين وليلتين نهبوا في خلالها ما في القرى من مأكول ومنظور وعزم غالب أهلها على الرحيل لما أوقع فيهم الجند من الضرر. محاولة نابوليون فتح الشام واستيلاؤه على غزة ويافا: بينا كانت الفتن الأهلية بين العمال على المال، والشام قد ضعفت فيها كل قوة، والدولة كلما رأت عاملاً قوياً تكتفي بأن تضع في جواره عاملاً آخر تملي له من قوتها حتى يظل في خصام مع جاره، والضعف في الإدارة ظاهر كل الظهور، والناس من الجزار في قسم عظيم من ديار الشام في أمر مريج، وهي مفتحة الأبواب خالية من أسباب الدفاع إلا ما كان من أسوار

أُمهات مدنها أتى نابوليون بونابرت مصر 1213 وفتحها ولما شعر باجتماع الجيوش لمحاربته وأنه إن لم يفاجئ الدولة العلية في الشام قبل أن تتم استعداداتها الحربية تكون عواقب الأمور وخيمة عليه وأن من يحتل مصر لا يكون آمناً عليها إلا إذا احتل القطر الشامي فلهذه الدواعي قام من مصر ومعه ثلاثة عشر ألف مقاتل قاصداً الشام من طريق العريش. ولما بلغ أحمد باشا الجزار قدوم الجيش الفرنسي من مصر إلى عكا أسرع - على رواية نقولا الترك - بتدبير ما يحتاج إليه في الحصار، وأرسل إلى يافا العسكر وحصنها بالمدافع والقنابر، وامتد إلى مدينة غزة بعساكره وعشائره ووصلت جيوشه إلى قلعة العريش. وأقاموا فيها وتنبهت الغز للجهاد. وفي شهر شعبان سنة 1213 خرجت العساكر الفرنسية إلى مدينة بلبيس والصالحية وكتب إلى الجنرال كليبر أن يتوجه من دمياط في البر على طريق قَطية. ولما سيّر بونابرت العساكر أحضر علماء الدين وقال لهم: إن الغز المماليك الهاربين مني قد التجئوا إلى أحمد باشا الجزار فجمع لهم العساكر وحضر إلى العريش وعزموا على الحضور إلى الديار المصرية فلذلك أخذتني الغيرة وعزمت أن أسير إليهم بالعساكر وأن أخرجهم من قلعة العريش، ثم جاء الفرنسيون إلى هذه القلعة وكان فيها ألف وخمسمائة مقاتل فحاصرها ثمانية أيام، ولما فرغت مؤونتهم وبارودهم أرسلوا يطلبون الأمان، وأن يخرجوا من القلعة بغير سلاح، وبعد ذلك حضر قاسم بك المسكوبي في عسكر ومهمات فبلغ بونابرت وصوله وربطوا عليه الطريق وكبسوه ليلاً وذبحوا عساكره ولم يسلم منهم إلا القليل. وعندئذ أمر الجنرال دوكوا قائد مصر ووكيل بونابرت التجار أن تسير بالقوافل إلى الشام لينتفع بالمكاسب أصحاب التجارة وينتفع سكان الشام ببضائع مصر حسب العادة السابقة. وسار أمير الجيوش بالعساكر من قلعة العريش إلى خان يونس واستخلص غزة من الغز عساكر الجزار فوجد في غزة حواصل ذخيرة من بقسماط وشعير وأربعمائة قنطار بارود واثني عشر مدفعاً ومستودعاً كبيراً من الخيام والقنابر. ولما بلغ يافا بني المتاريس أمامها وأرسل يطلب إلى حاميتها التسليم وكانت نحو ثمانية آلاف فأبت وقتلت الرسول فأدار عليها المدافع وقوي الصدام فقتل

وقائع نابليون على عكا وفي مرج ابن عامر:

من العسكر ما ينيف على خمسة آلاف ومن أهالي البلد ألفان وهجم الفرنسيون على المراكب التي في الميناء وأخذوا منها بضاعة ثمينة. ومن الغد أطلق أمير الجيوش الأسارى وسرح الشاميين والمصريين وأمر بقتل الهوارة والأرناؤد جميعاً لأن بعضهم كان في قلعة العريش وحين أطلقهم أمرهم أن يذهبوا إلى بيوتهم فأتوا يافا وحاصروا بها فقتلهم واستبقى بعض الأغاوات الكبار. وجد الفرنسيون في قلعة يافا ثمانين مدفعاً وغنموا غنائم كثيرة من المراكب وغيرها. وقائع نابليون على عكا وفي مرج ابن عامر: وسار بونابرت بالعسكر قاصداً مدينة عكا على طريق الجبال، ولما وصلوا إلى ارض قاقون كانت عساكر الجزار والنابلسيون في الوادي، وحينما بلغهم قدوم الفرنسيون أخرجوا منهم من فم الوادي خمسمائة مقاتل وبدروا يرمحون تجاه العسكر وكان قصدهم أن يجروهم إلى ذلك الوادي، فلما علم أمير الجيوش مقصدهم قسم عساكره أثلاثاً ونشبت الحرب فقتل من عسكر المسلمين وولى الباقون منهزمين، ومن الغد سار عسكر الفرنسيين إلى وادي لاملح وكان بلغ الجزار اقترابهم من تلك الديار فأرسل إلى حيفا فأحضر الذخائر الحربية والعسكر، وعندما وصل الفرنسيون إلى حيفا خرج أهاليها لمقابلتهم وسلموا أمير الجيوش مفاتيح البلد والقلعة، ودخل الفرنسيون إلى حيفا فوجدوا بها قارباً صغيراً فيه جماعة من مراكب الإنكليز فأخذوهم أسرى، وبعد ذلك انتقل أمير الجيوش بالعساكر إلى مدينة عكا ونصبوا المضارب والخيام في محل يقال له أبو عتبة، وبنوا المتاريس الحصينة ووضعوا فوقها المدافع وسار الجنرال كليبر والجنرال منو إلى الناصة ونصب حاكم فرنسي على شفا عمرو وابتدأت الحرب على عكا خامس يوم من شوال سنة 1213 ودامت أربعاً وعشرين ساعة والجيش الفرنسي يضرب المدافع والقنابر، والمراكب العثمانية والإنكليزية تطلق المدافع من البحر حتى خيل للناظرين والسامعين أن مدينة عكا لم يبق فيها حجر على حجر، وهمّ الجزار أن يخرج فطمنه

الإنكليز وقالوا له: إننا أسرنا في عرض البحر ثلاثة مراكب مشحونة ذخيرة فضعف أمرهم، ثم أسر الفرنسيون مركبين كانا قادمين من الأستانة فيهما ذخائر ومدافع وستة وثلاثون ألف دينار مرسلة للجزار فسرّي على الفرنسيين، وحضر إلى أمير الجيوش قرب عكا الشيخ عباس بن ظاهر العمر فرحب به وأعطاه السلاح والكسوة وعشرة أكياس وكتب له أن يكون متولياً على مقاطعة أبيه. وحضر أيضاً مشايخ بني متوال فوسد إليهم حكم إقليمهم وساروا من عند أمير الجيوش إلى صور وقدموا له الذخائر وتسلموا القلعة التي كانت لآبائهم. وكان قد اجتمع من دمشق جند من المغاربة والهوارة والعربان والغز بلغوا ثلاثين ألف مقاتل بين فارس وراجل وانتهوا إلى مرج ابن عامر فبلغ كليبر خبرهم فسار إليهم في ألف وخمسمائة مقاتل، وحينما وصلوا وشاهدتهم تلك الجموع انهزموا أمامهم مكيدة لهم، ولم يزل الفرنسيون في أثرهم حتى وصلوا إلى أطراف المرج ومن هناك أحاطوا بالفرنسيين من كل جانب، ولما رآهم القائد كليبر قد أحاطوا بالعسكر قسم رجاله أربعة أقسام مع كل قسمة منهم مدفع. شاهد أهالي الناصرة كثرة جيوش دمشق وأن الفرنسيين إلى قلة فبادروا وأخبروا أمير الجيوش فأحضر حالاً القائد لتُرك وأمره بتحضير ثلاثة آلاف عسكري وأخذوا معهم أربعة مدافع، وأمر الجنرال بونابرت أن يسيروا على وادي عبلين وبعد ثلاث ساعات من مسيرهم ركب أمير الجيوش وسار وراءهم طالباً أثرهم، ووصل في منتصف الليل بعسكره إلى بئر البدوية وعند الصباح سار بالعسكر إلى أن نفذ إلى مرج ابن عامر وصعد إلى تل عال فكشف أرض المرج ونظر إلى الجنرال كليبر في وسط البيداء وعساكر المسلمين محيطة به والهجوم من كل ناحية وليس لهم عليه سلطان، ثم نشاهد جبلاً بعيداً وعليه المضارب والخيام وكان هذا جيش الغز، فنزل أمير الجيوش وعزل خمسمائة مقاتل، وأمرهم أن يقصدوا الجبل ويكبسوا الجيش وتوجه قسم منه حتى صارت العساكر المحاربة في وسطهم وأحاطوا بهم، ولما وصل أمير الجيوش إليهم ضرب مدفعاً واحداً ثم ضرب القسم الثاني ثم الثالث وحينما سمعت العساكر المحاربة المدافع ورأوا قدوم النجدة وعلموا أنهم صاروا

خطيئات نابليون في الشام:

في وسطهم ولوا منهزمين، ولما أصبح الصباح أرسل خمسمائة جندي إلى جنين وأمرهم أن ينهبوها ويحرقوها وأخرب قرى جبل نابلس لأنهم لم يطلبوا منه الأمان. ولما بلغ أمير الجيوش قدوم عسكر دمشق إلى صفد أمر الجنرال مُرات أن يسير بخمسمائة راكب فرحل بعسكر دمشق إلى جسر بنات يعقوب، وعلم الجنرال منو وهو في الناصرة أن في مدينة طبرية عسكر الجزار فنشب القتال بينهم، فانكسر عسكر الجزار وانهزم بعد أن قتل منه مائتا جندي، وظهر الطاعون في عسكر فرنسا فمات منهم خلق. وكانت الحروب قائمة على مدينة عكا الليل والنهار وهم يهجمون على الأسوار والقنابل تنهال عليهم كالمطر، وقد أهلكوا من العساكر الإسلامية والإنكليزية خلقاً كثيراً وهدموا أبراج عكا وأسوارها. ولما هلك بعض قواد الفرنسيين على أسوار عكا مع جملة صالحة من جندهم بدأ بونابرت يرجع إلى وطنه لأمر طرأ على مركزه هناك. وكانت إنكلترا أهاجت ملوك الفرنج على فرنسا فاضطر الفرنسيون أن يرجعوا عن عكا بعد أن فقدوا على سورها ثلاثة آلاف وخمسمائة جندي، ومات في الطاعون وعلى الطريق ما ينيف على ألف. وفي 11 ذي الحجة أمر أمير الجيوش بالقيام بجميع المضارب والخيام وانتقل إلى مدينة حيفا وكان فيها عدة حواصل قطن للجزار فأمر بإحراقها. وسار إلى يافا فأخذ ما كان لهم من الأمتعة والمدافع الكبار ودفنوها في الرمال، وقد كانوا أخذوا من العساكر العثمانية أربعة آلاف بندقية فألقوها في البحر وأحرقوا المراكب التي كانوا غنموها من المسلمين وأخذوا من فيها أسرى وسخروهم في نقل الجرحى والمرضى من عسكر الفرنسيين يحملونهم على ألواح خشب إلى مصر. خطيئات نابليون في الشام: هذا ما رواه المؤرخ نقولا الترك في دخول نابليون جنوب الشام وخروجه منها وما وقع له من الوقائع وكانت مدة مقامه في الشام شهرين لم تستفد منها

فرنسا سوى قتل بعض أبنائها، وكذلك خسرت الشام خسارة الضعيف مع القوي. ونابليون وإن عدوه نابغة القواد في عصره أخطأ كثيراً في توسعه في فتوحه. وفتحه الشام ومصر من جملة خطيئاته، ولم تربح أمته من حملتها على هذين القطرين إلا نشر مدنيتها على أيدي من استصحبهم نابوليون معه من العلماء والمهندسين والطبيعيين، وكانت مصر مباءة علمهم وعبقريتهم. وقد آخذ صاحب تاريخ الدولة العلية القائد بونابرت بأنه ارتكب قبل مغادرته يافا أمراً شنيعاً لم يسبق في التاريخ وهو قتله الجرحى والمرضى من عساكره حتى لا يعوقوه في سيره. وفي تاريخ فلسطين أن جنود الجزار في يافا يوم نابوليون كانت مؤلفة من عرب وأتراك ومغاربة وأرناؤد وأكراد وجركس، فانسحبوا لما فتحها نابوليون إلى بعض الحانات وأبوا التسليم قبل أن يؤمنهم على حياتهم فأجابهم القائد الفرنسي إلى طلبهم فاستأمن له أربعة آلاف شخص فساقهم إلى المعسكر. ولما رآهم نابوليون سأل قائده عن هذه الجموع المحتشدة فأخبره أنها حامية المدينة التي سلمت إليه أماناً وقبلهم حقناً للدماء فبهت وحار في أمره وقال: ماذا تريدون أن أفعل بهذا العدد أعندكم زاد يكفيهم ألكم مراكب تنقلهم إلى مصر أو فرنسا؛ ومن يتولى خفارتهم إذا أرسلناهم؟ يجب أن تعطوا الأمان إلى الأطفال والنساء والشيوخ لا للرجال الأشداء المقاتلين، ثم استشار ضباطه في قتلهم فخالفوه ولكنه أصر على رأيه وأمر بهم فقتلوا رمياً بالرصاص في 10 آذار سنة 1799 1هـ. ويقول مشاقة: إن بونابرت أمر قبل أن يغادر يافا إلى عكا بقتل الأسرى الذين وقعوا في قبضته ثلاثاً: في العريش وفي غزة وفي يافا، وكان يطلق سراحهم كل مرة بعد أن يأخذ عليهم العهود أن لا يعودوا إلى قتاله، ولما أسرهم هذه المرة وعددهم يربو على ثلاثة آلاف حنق عليهم وعلم أنهم لا يراعون ذمة ولا يحترمون الشرف العسكري، فأمر جنوده بإطلاق النار عليهم ولم يواروهم التراب، وبقيت أجسامهم طعاماً للطيور، وظلت رفاتهم مكشوفة مدة 1هـ. وهذا السبب معقول وله من القوانين الحربية ما يشفع به بعض الشيء أكثر من الرواية الأولى. وانتقد مستر مان على نابوليون ذبحه حامية يافا وكانت مؤلفة من أربعة آلاف أرناؤدي ووضعه السم لجنوده لدن عودته لأنهم أُصيبوا

بالطاعون. وفي رواية أنه وجد فيها ألفين من الأسرى الذين أطلقهم وكانوا عاهدوه في العريش ألا يحاربوه فقتلهم والحرب غشوم. وقال مشاقة: إن بونابرت بعد أن فرق جموع الأتراك على الحدود السورية أرسل كتاباً إلى الجزار ينصح له أن يجنح معه إلى السلم فلم يتنازل الجزار إلى إجابته، فأرسل إليه رسولاً ثانياً فقتله الجزار فحنق نابليون وتقدم برجاله البالغ عددهم آلاف مقاتل إلى غزة، وهزم من رجال الجزار أربعة آلاف فارس، وأسفرت وقعة يافا عن قتل ثلاثة آلاف من الجنود التركية، ودخلت رجال نابليون يافا، وتصرفت بما عثرت عليه من مال ومتاع، وهذه هي المرة الأولى والأخيرة التي سمح بها نابليون لرجاله بالتصرف والتمتع بمال المغلوب وأملاكه. وقال الشهابي: إن العساكر الفرنسية حاصرت يافا ثلاثة أيام وملكوها بالسيف، وكان عسكر المسلمين فيها ينيف على اثني عشر ألفاً فما سلم منه إلا القليل، وقتل كثير من النساء والأولاد حتى جرى الدم في أسواق يافا، وأرسلت دمشق عشرين ألف جندي إلى عكا فالتقاها ألف جندي من الفرنج وكسروها وقتلوا منها مقتلة عظيمة. ولما جاءت الأخبار إلى دمشق بأن عسكر الجزار وعسكر الإنكليز قتلوا من جند نابلين ثلاثة آلاف جندي زينت دمشق وضربت المدافع من قلعتها، وقد أصيبت الأقاليم التي وقعت فيها تلك الوقائع وما إليها بالخراب، ومن أهم خرابها تسلط الجند على ضعاف الرعايا فقد نهبت العساكر التي ذهبت من دمشق لمقاتلة الفرنسيين 1213 مدينة صفد وعملوا المنكرات أثناء طريقهم. فأصيبت فلسطين هذه المرة بغوائل كانت سواحل فينيقية وأعمالها تصاب بمثلها أو أكثر منها في القرنين الماضيين. وأصبحت مثل هذه الوقائع في هذا الجزء من الشام أي في اللبنانيين الغربي والشرقي وما جاورهما من الأمور العادية، وما ذلك إلا لقيام أمثال بني حمادة وبني معن وبني حرفوش وبني شهاب ممن كانوا يحاولون أن يظهروا بمظهر كبار الأمراء وهم صغار بمواقعهم ونقص تربيتهم الحربية وضعف أخلاقهم وقلة معارفهم، فكانوا بمقاومتهم

حال الشام بعد رحيل نابليون عنه:

بعض المقاومة لعمال الدولة من الترك يخربون ديارهم، ويهلكون من أخذوا على أنفسهم حمايتهم من ضعاف السكان. حال الشام بعد رحيل نابليون عنه: كان يظن بعد رحيل نابليون ومعاونة الإنكليز للدولة العثمانية على إخراجه من الشام، أن الدولة تبدل شيئاً من أصول إدارتها وترجع عن استسلامها لعمالها الذين يجبون الجبايات ويرضونها بجزءٍ منها ويحتفظون بالباقي لأنفسهم. ولكن الأحوال بقيت بحالها، وظن الجزار نفسه أنه هو الذي دفع جيش نابليون عن الشام، فعاد يمثل مظالمه ويحمل على الناس مغارمه، ويتناول استبداده المسلمين والنصارى واليهود على السواء، وجنونه فنون. ولم يكف فلسطين ما حلّ من ظلم الجزار ثم وقائع نابليون حتى قام محمد باشا أبو المرق يسومها العسف والخسف، يجور على أهل بيت المقدس والخليل وغزة والرملة ولدّ، حتى اضطر السادات الأشراف الأبرياء لكثرة مظالمه أن يبيعوا أولادهم كما تباع العبيد والجواري على ما ذكر ذلك أحمد باشا الجزار في كتاب صدر عنه سنة 1217 إلى وكيله في دمشق. ومن أحداث هذا الدور نهب العسكر الدمشقي 1214 جميع القرى في طريقه إلى غزير في لبنان، وتفرقت عساكر الدولة في ضياع كسروان ونهبوا كل ما وجدوه وذلك للضرب على أيدي الأمير بشير الذي كان على ما يظهر يحاول أن يأكل الخراج، ولذلك قاتله جيش الدولة 1215 مرة أخرى لما جاء إلى نواحي بعبدا في لبنان وقتل من أدركه في المتن، ورجع بشير إلى عاريا وكان عسكر الدولة أحرق عدة بيوت من بعبدا والحدث وسبي النساء وقتل العجائز والأولاد فاجتمع معه أربعة وخمسون رأسا من القتلى فأرسلوها إلى الجزار ونهبوا أموالا ومواشي وأحرقوا عاريا. وذهب والي دمشق سنة 1217 إلى حماة وفتحها وبالغ في الظلم حتى فر غالب أهالي حماة عن بلدهم اتقاء شره، وتفرقوا في دمشق وحلب وطرابلس وأصبحت حماة كالقرية لقلة سكانها.

قال ابن آق بيق: وفي سنة 1217 شغلت دمشق بالظلم وإكرامية الباشا من البلاد واشتغل حسن آغا بالظلم في دمشق وإرهاق القرى بالطروحة والإكراميات وفرض الذخائر ومعاونة الجردة وغير ذلك من المظالم التي لم يسمع لها أثر في السابق قال: ولما خرج عبد الله باشا العظم من دمشق سنة 1218 قاصداً إلى طرابلس ليحارب أهلها، وضرب عسكره بعض القرى ونهبها وظلوا على هذا التخريب حتى بلغوا طرابلس فحاصرها وخرج أهلها هائمين على وجوههم ووقع القتال بين عسكره وعسكر المتسلم وقتل من الفريقين خلق. وكان أحمد باشا الجزار يرسل النجدات إلى عبد الله باشا العظم. وقال أيضاً: إن الجزار كان يطلب من الأغنياء أموالا يأخذها منهم بعد الحبس والضرب وبقي الطرح على جميع الأصناف وأغلقت الدكاكين بدمشق وبات الناس في كرب والعسكر يحيط بالبلد، والأكراد والشيخ طه الكردي وجنوده يعذبون الخلق أنواع العذاب حتى يقروا لهم بالأموال، والطرح على الخلق أشكال وضروب من بنّ وتنباك وألاجه وحرير وشاشات وزنانير واستصفاء بيوت وخانات وبساتين وغير ذلك، وظهر في دار ابن عقيل وكيل الجزار بدمشق طمائر ذهب قدرت بنحو خمسمائة كيس. ولم يمن يمر يوم دون أن يقبض على أربعة أو خمسة من أرباب الوجاهة والثروة يسجنون في سجن القلعة ويعذبهم أكراد الجزار بالكماشات والحديد والعصي إلى أن يشرف المعذَّبون على الموت ويشتط العمال في طلب المال من المصادرين ويطوفون بهم في المدينة، فيضطرون إلى بيع جميع ما يملكون ليكفّ عنهم، ووصلت الحال بالأغنياء إلى التسول، وكان قتل النفوس على الأكثر في سبيل أخذ المال مشروعاً كان أو غير مشروع. فقد حدثت فتنة طفيفة بين ملتزم أموال بلاد بشارة، فأرسل الجزار على العصاة عسكراً قتلوا منهم ما ينيف على ثلاثمائة رجل وأسروا عدة، وأرسلوهم إلى عكا جعلوا على الأوتاد ثم أخذ الجزار أموالاً جزيلة من السكان. ومن الحوادث في أيام عبد الله باشا العظم بدمشق أن القبو قول قصدوا إثارة فتنة 1214 فأغلق آغا القلعة بابها، وحاصره الباشا فاضطر إلى التسليم بعد مدة، فقتل آغا القلعة وهمدت الفتنة، ثم سار عبد الله باشا لمحاربة

مساوئ أحكام الجزار:

مصطفى بربر متسلم طرابلس وحاصر قلعتها بشدة، وطال الأمر فالتجأ بربر إلى الجزار فسكت ولم يجبه لأنه كان يفاوض الأستانة لأخذ ولاية دمشق، وبينا الحال مشتدة على بربر وعبد الله باشا يحاصره بعسكره أرسل الجزار إلى وكيله بدمشق محمد بن عقيل ألفي جندي وأمره أن يقبض على عبد الرحمن المرادي وحسن دفتر دار المتسلم وابن سبح متسلم حمص ويقتلهم حالاً ونادوا باسم الجزار والياً. فبلغ ذلك عبد الله باشا وعلم أن الدولة متغيرة عليه، فخاف كثيراً وهام على وجهه في البادية يختبئ عند العرب. أما بربر طرابلس فرضي عنه الجزار وأقره متسلماً على بلده، ثم لامت الدولة الجزار على ما أتاه من قتل ابن المرادي كما يقتل العامة فتخلص الجزار مما أتاه وألقي تبعة قتله على وكيله ابن عقيل وقطعه إرباً مع أن الجزار هو الذي أمره خطاً بقتله. مساوئ أحكام الجزار: توفي الجزار سنة 1219 1804 بعد أن ضرب الأهالي ضربةً لم تصب بمثلها منذ أزمان. أصله بشناقي من جماعة علي بك أمير مصر هرب إلى الشام لما قتل مولاه، وأقام يختلف إلى لبنان فاطلع على أحواله وأحوال الديار التي كانت تحت حكم الظاهر عمر من أرض الجليل. ثم توجه إلى الأستانة فعين وزيراً على صيدا وحصّن عكا ورفع عن بيروت حكم بيت شهاب وضبط أملاكهم. وكان أحمد البشناقي هذا جزاراً سفاكاً لأنه لما كان كاشف البحيرة في مصر عهد إليه الانتقام من عربها لقتلهم عبد الله بك من المماليك فأسرف في القتل فلقب بالجزار. ولا غرو فالدم البشري في نظر احمد باشا الجزار، كدم الخرفان في نظر القصاب والجزّار. هاج المماليك على الجزار مرة يريدون قتله فيما يقال ولولا حذره الشديد لقتل، وتحصنوا في برج داخل عكا فطلبوا الأمان، ولما علم أن خيانتهم كانت بالاتفاق مع بعض سراريه غضب عليهم جميعا وخنقهم بالماء الحار. حج الجزار مرة بالناس فلما عاد ترامى إلى سمعه اتهام مماليكه بحريمه فلم يلبث أن أرسل المماليك في حملة على لبنان وأوقد ناراً كبيرة في داره، فكان خصيانه يأتونه بنسوته واحدة بعد

تفنن الجزار في إهراق الدماء وحكم المؤرخين عليه:

أخرى فيقبض بنفسه على عنق الواحدة ويطرحها في النار على وجهها، ويدوس على ظهرها ويضغط على رأسها، حتى يتم شيّها في النار وتهلك فيرفعها ويحضر غيرها، وعلى هذه الصورة الشنعاء أهلك الجزار سبعاً وثلاثين امرأة ولم تنج غير فتاة في الثامنة من عمرها. كان الجزار يقتل الكبير والصغير من وزراء وأفندية وعلماء وأغواتن ويرضي السلطان بالمال ويداريه فيتغاضى عنه، وكان إذا عامل أحد المغضوب عليهم بالرفق وعزف عن قتله يجذم أنفه، ثم يصلم أذنه اليمنى ثم يقلع عينه اليمنى ولو كان من خواص خدامه. وكم من بيت خربه بسلب ماله ظلماً، وكم من رجل قتله بعد أن صادره، وكان لا ذمة له ولا ذمام، خدمه رجال من بيوت معروفة فلما بدا له قتلهم وصادرهم واختلق لهم ذنوباً والقاهم في البحر. ولقد أكرمه الأمير يوسف الشهابي حاكم لبنان لما كان الجزار صعلوكاً متشرداً لأول أمره وعاونه لما أصبح والياً، فكانت النتيجة أن شنقه وألقاه ثلاثة أيام معلقاً، ولطالما أخذ النوتية والركاب في مراكب كانت قادمة من مصر قبل مجيء الفرنسيين إليها، وقتل جميع من فيها من أبناء مصر أو الشام وصادر جميع ما يحملون من البضائع. تفنن الجزار في إهراق الدماء وحكم المؤرخين عليه: وكان من عادة الجزار بعد أن يصادر المصادرين أن يقتلهم كما فعل سنة 1205 فقبض في دمشق على أولاد عبيد وأخذ منهم ستين ألف قرش ففروا إلى حلب ثم قبض على ثلاثين من أتباعه وسجنهم في القلعة ففدوا أنفسهم بمائتين وخمسين ألف قرش ثم قتلهم ليلاً، وقبض على خازن أمواله وأسبابه ونفاه إلى مصر، وقبض على مفتي عكا وإمامها وعلى رئيس مينائها فقتلهم صبراً. وظلم جميع أكابر دمشق وسلب أموالهم. وخرج ذات يوم في عكا قبل الشمس إلى باب السراي وأمر بإغلاق أبواب المدينة وقبض على كثيرين من العمال والكتاب والأهالي فسجنهم، وكانوا مائتين وثلاثين إنساناً وقبض على النواب وسجنهم، وكان كلما تقدم إليه

إنسان يكشف رأسه وينظر في وجهه فالذي يقول فيه نيشان يرجعونه إلى السجن، والذي يقول ما فيه نيشان يطلق، ثم أنه أحضر الفعلة أيضاً وصنع بهم كذلك وقبض منهم جملة وأحضر التجار وأرباب الصنائع والحمالين وعلى هذا المنوال عامل الجميع فامتلأت السجون، ومن الغد أحضر المغاربة وأمر أن يخرجوا السجناء كلهم خارج البلد ويقتلوهم ففعلوا ما أمرهم به؛ قال مدوّن وقائعه: وكان يوماً عصيباً لم تكن تسمع فيه إلاّ صراخ المقتولين ظلماً وعويلهم وأنينهم، وبقي القتلى كالغم مطروحين خارج البلد، ثم أمر أن ينادي المنادي في شوارع عكا ليخرج أهل القتلى لدفن موتاهم، وأشار إلى أن كل امرأة ترفع صوتها تُقتل حالاً، فخرج الناس ودفنوا القتلى. ثم ابتدأ يرسل جنوده يقبضون على الفلاحين ومشايخ القرى وأصحاب المقاطعات فمنهم من يقتله ومنهم من يصم أُذنه ويجدع أنفه ويطلقهم. ولم يذكر المؤرخون علة استرسال الجزار في قتل الناس على هذه الصورة من غير سبب ولعله أُصيب بمسٍ من الجنون أو أن جنونه أطبق هذه المرة فأزهق الأرواح، وإن امتاز في أدوار حياته بالفك والفتك. وذكر المؤرخون أن الجزار قبيل وفاته أمر أن يغرقوا من كان في سجنه في البحر فنفذ أمره. وفي التاريخ العام أن الجزار أوقد جذوة التعصب بين المسلمين في بيروت وأغراهم بقتل الموارنة حتى يضمن حكمه على بيروت. ولم يكن يُعرف فيما إذا كان الجزار خادماً مخلصاً للسلطان أو عاصياً وقحاً. وكان كثيراً ما تجيئه رسل جاويشية من الأستانة تحمل أبيه بعض الأوامر فيجز رأس القادم ويبعث به إلى ديوان الأستانة، وهناك يغدق الذهب على الوزراء والخصيان ونساء الحرم السلطاني. وكثيراً ما كان يقول وهو في حال السكر للمسيو دي توليس: السلطان كالبنات يعطي نفسه لمن يعطيه أكثر، فإذا حاول أن يقاومني فأنا أرده إلى الصواب بأن أهيج عليه مصر والشام وآسيا الصغرى، وأزحف على الأستانة في جيش القابسز وأكون قادراً مثل لويس الكبير إمبراطور فرنسا. وقد وصف كشاقة الجزار وصفاً معقولاً قال فيه: إنه كان داهية ذا بأس وحنكة واسعة، سلمت إليه الدولة إدارة شؤون إيالتها وعولت عليه في

إخضاع الشام وضمه تحت جناحها، على طريقة الغدر والخداع وإلقاء الفتن والحروب الأهلية بين الأمراء والمشايخ الذي كانوا يحكمون الرعية بالجور والعسف ويسومونهم الذل أنواعاً والظلم أشكالاً، وشريعة الرجل منهم إرادته السخيفة، والحاكم يشنق ويقتل ويشوه أخلاق الشعب، وكأن الحال قيضت لهم رجلاً كالجزار ينتقم منهم، وكان هؤلاء العتاة لاهين بالمنازعات العائلية والحروب الأهلية يكرهون العدل ويعشقون الظلم، لا يرحمون ضعيفاً ولا قريباً، ولم تكن معاملة الجزار للأمير يوسف أقسى من معاملة هذا الأمير لأنسبائه وإن ما لحقه من الجزار هو مما يستحقه. وقس على الأمير بقية المشايخ والأمراء الذين كانوا يستبيحون أموال الرعية وأعراضهم في سبيل أهوائهم. قال أن الجزار ظلم ولكنه خدم الدولة والشعب، وعادت خدماته على الدولة بالنفع فأخضع القطر لشوكتها فأطاع، ورد عنها بثباته أمام نابوليون خطراً كان يهددها يوم حصار عكا، وأفاد الرعية بأن أزال عنهم ضغط المشايخ والأمراء المستبدين فكان جوره بالنسبة لجور الأمراء والمشايخ قبله أقل وطأة. ولما جاءهم وضع حداً لظلمهم وزعزع سلطتهم وأرغم أنوفهم وأطلق الفلاح من عقالهم. وعلى الجملة فأنه عمل بما يوافق عصره وينطبق على أبنائه، فبموته سُرِّي عمن كان غضبه يهددهم ويوشك أن يوقع بهم. وقال أن الجزار على قبح أعماله حفظ المساواة بين الرعية مع تفرق مذاهبها، فيحبس علماء المسلمين وقسوس النصارى وحاخامي اليهود وعقال الدروز سوية، وهكذا في إجراء العذابات الجهنمية عليهم لا يفرق بينهم، وأكبر ما يحصى عليهم من الذنوب التوقف عن أداء الأموال التي يطلبها منهم وربما نشأ تلكؤهم من عجزهم. وقال إن الجزار كان يتأخر عن دفع الأموال الواجب عليه أداؤها للسلطنة ويعتذر عن الدفع بأنه محتاج إلى العساكر لإدخال لبنان في الطاعة، فسئمت الدولة من تعللاته الطويلة وكتبوا له أن المدة طالت ويظهر أنك غير قادر على تمهيده، فلذلك صممت الدولة على إرسال وزير مقتدر بعساكر كافية لإخضاع لبنان لسطوتها فكان جوابها أنني بعد أيام قليلة إن شاء الله أبشركم بفتحه لأنه ظهر عليهم الضعف عن المقاومة، وقد منعنا وصول الذخائر إليهم من البقاع والسواحل وهم لا يقدرون على العيش بدونها، لأن أراضي الجبل قليلة بالنسبة

لسكانه. وبعد مدة وجيزة بشر الدولة بشارة كاذبة مع الساعي فادعى أنه فتح الجبل وأنه وجد فيه من السكان النصارى مائة وعشرين ألف رجل ومن الدروز ستين ألفاً ومن الشيعة ثلاثين ألفاً ومثلهم من السنة، فأتحفته الدولة بسيف مجوهر ومدحته على همته، وأرسلت إليه بعد مدة أوراق جزية النصارى المعتادة وزادوا عليها مائة وعشرين ألف ورقة برسم نصارى لبنان، فسقط في يد الجزار واستدعى المعلم حاييم فارحي مدير خزانته واستطلعه طلع رأيه في هذه القضية فأجابه يجب الآن دفع هذه القيمة من خزانتك لما عرضته الدولة عن فتح الجبل وعن عدد النصارى فيه. ثم ننظر في هذه الزيادة فدفع ثمن هذه الأوراق. وبعد أشهر أرسل بشارة للدولة بأن نصارى الجبل دخلوا في الإسلام. ولما دخلت السنة الثانية أرسلت الدولة للجزار أوراق جزية لبنان كالسنة الماضية فأرجع الزيادة بقوله: إن نصارى لبنان تقدم العرض عن دخولهم في الإسلام وارتفعت عنهم الجزية شرعاً. قال: وهكذا كانت أمور الدولة في ذاك العهد تجري بلا تحقيق في صحة ما يعرضه عليها مأمورها. ولما هلك الجزار أرسلت الدولة راغب أفندي الذي صار والياً على حلب بعد ذلك لضبط متروكاته، وكانت قوانين الدولة يومئذ تقضي بأن يؤخذ كل ما يخلفه مستخدموها من أملاك وأموال وعروض، فحررت التركة مع سندات الأموال التي كان يحررها على الأمراء والمشايخ عدا الأموال الأميرية، فحسبت هذه الديون الظالمة من حقوق الدولة، ولما رأوا أنها وافرة وأنه من المتعذر تحصيلها جعلوها مقسطة على رعايا أُولئك الأمراء والمشايخ على عدة سنين، فكان لبنان يدفع المال مضاعفاً، فالمال الواحد يبلغ أربعمائة كيس وكان يجبى من لبنان مال الجوالي على النصارى ومال فريضة على الدروز، فكان القسط الواجب على اللبنانيين أداؤه من مطلوبات الجزار يبلغ مقدار ستة أموال أميرية وصار الأهالي يدفعون كل سنة مالين. ولم يعلم ما خلف الجزار من الأموال بعد حكم تسع وعشرين سنة ولكن الذي قاله المؤرخون أن أحد رجاله الشيخ طه الكردي أخذ ألف كيس وأرسلت الدولة رجلين من الأستانة للبحث عن موجوده، فما رأوه شيئاً مهماً غير ما كان أرسله إسماعيل باشا للدولة مع القبطان باشي في أول الأمر من مال

المتغلبة على الأحكام بعد الجزار:

وتحف، يقال إنها بلغت ثمانية آلاف كيس بيد أن إسماعيل باشا صرف أموالاً كثيرة على العساكر والأغوات، وعلى كل فهي قليلة بالنسبة لطول عهده، والغالب أنه كان معتدلاً في أخذ المال غير اعتداله في سفك دماء الرجال، أو أنه ادخر كميات من الذهب غير ما عثر عليه منها فضاعت عند وكلائه وخواصه. قاعدة المبالغة في الثروة والفقر، والظلم والعدل، والعلم والجهل، والقبح والجمال تناولت أعمال الجزار أيضاً، ولو كان في قلبه بعض الرحمة وعزوف عن سفك الدم الحرام إلا بما تقضي به الشريعة لعد مصلح عصره قياساً مع الصفات التي أوردها مشاقة. لا جرم أن التبعة في بعض أعماله تعود على عماله ورجاله، وأكثرهم من أبناء الديار. المتغلبة على الأحكام بعد الجزار: خرج الشام بعد هلاك الجزار مقلَّم الأظفار، معروق العظام، بل مقطع الأوصال، سيئ الحال، وأحدث موته فراغاً ففقدت به الدولة أعظم قوة تمثلها ونُفّس بهلاكه خناق أرباب المقاطعات المتغلبين من الأعيان، وكان في سجن الجزار في عكا رجل يقال له إسماعيل باشا أرناؤطي الأصل، وأصله من جملة عساكر الوزير الأعظم حين حضر إلى مصر لاستخلاصها من الفرنسيين. ولما قام الفرنج على المسلمين وأخرجوهم من مصر وتشتت العساكر في تلك الأقطار قصد إسماعيل باشا أحمد باشا الجزار، فدعاه إلى فتح يافا فظهرت منه خيانة مع محمد باشا أبو المرق فقبض عليه الجزار وسجنه وعذبه، كما كان يفعل بمن يقبض عليه وبقي في سجن الجزار إلى أن هلك هذا، فخرج إسماعيل باشا من حبسه وجعل مكان الجزار فاستولى على متروكاته حتى اضطرت الدولة إلى قتاله لعصيانه في قلعة عكا وأرسلت عليه حملة ودام الحصار أربعة أشهر حتى أُخذ وقتل فاستراحت الأمة من أحمد الجزار ومن خلفه. وعصا أهل وادي التيم فأرسل عليهم إسماعيل باشا جنداً كبس القرى وقتلوا زهاء مائتي قتيل وأخذوا مائتي أسير، وكبس الأمير بشير جنبلاط

بعساكر الدروز بعض قرى عكا وقتل من عساكر إبراهيم باشا جماعة، وإبراهيم باشا هو إبراهيم باشا الحلبي الذي نصبته الدولة مرة ثانية على دمشق وكان والياً على حلب. وكان حدث بموت الجزار اضطراب وخلت دمشق من الأحكام، فمهد الأمور وعهدت إليه الدولة مع ولاية دمشق بصيدا وطرابلس وأوعزت إلى الأمير بشير الشهابي حاكم الجبل أن يكون في طاعة إبراهيم باشا وعوناً له على إصلاح حال صيدا والساحل، فصدع والي الجبل بالأمر لأنه كان داهية يراعي الدولة ولا يتأخر عن قضاء لبانتها، ولا سيما الخراج والجزية يؤديهما في أوقاتهما. حاولت الدولة غير مرة القبض على مصطفى بربر متسلم طرابلس وظل في منصبه يسوم الناس مظالمه، وما لبد خصمه اللدود عبد الله باشا العظم أن تولى دمشق للمرة الثالثة بعد أن كانت الدولة غضبت عليه بوشايات الجزار وشردته في البادية ولكنه دعاها إلى الرضا عنه وداواها بما تداوى به في العادة بأكياس بينه وبين الوهابيين أمور عظيمة، وكانوا قد استولوا على الحجاز وتقدموا إلى الشام فهلك غالب عسكره وانتهب الحاج. عين سليمان باشا الكرجي من مماليك الجزار والياً على عكا فأقام حاكماً على يافا وعلى غزة محمد آغا أبو نبوت أحد مماليك الجزار، وبقي حاكمها إلى أن طمع بالاستقلال فيها، وعندما تحقق سليمان باشا ذلك ركب عليه بالعسكر فهرب إلى مصر ثم إلى الأستانة وشفع فيه الشافعون فنال رتبة الوزارة. وسليمان باشا هو الذي أراد أن يرفع بعض المظالم عن الرعايا ويحملها على الأجانب في عكا كأن يبيع الغلات والقطن والزيت من الأجانب فقط، تبتاع الحكومة ما يفضل عن عوز الأهلين وتخزنه في مخازن لها تبيعه من التجار الأجانب القادمين في مراكبهم بالأسعار التي تريدها. ومن الأحداث في سنة 1221 ما حدث من فتنة بين العسكر الوطنيين وجند الحرس في دمشق، فحاصرت القلعة وأغلقت المدينة كلها، ووضعت المتاريس داخل المدينة، وجرت بين العسكرين حرب المتاريس في الأزقة والشوارع والسطوح والمآذن فغلب الوطنيون الحرس وكسروهم

مقتل سليم الثالث ومصطفى الرابع وتولي محمود

وهزموهم إلى مئذنة الشحم ثم ارتدوا عليهم وأخذوا طالع الفضة، ونهب الخلق تلك الجهة كلها، وراح الحرس مكسورين ثم عادوا وهزموا الوطنيين عند الشيخ عمود فنال الفريقان أحدهما من الآخر على غير طائل. ولم يقف شقاء دمشق عند حد التقاتل بين الجند بل أسرف الوالي كنج يوسف باشا 1222 في ظلم الناس وأراد ستر ذنوبه فأرسل إلى الدولة ألف كيس من المال لإنعامها عليه بإمارة الحج وإيالة طرابلس مع ولاية دمشق وذهب إلى نابلس وقهر أهلها وجبى منهم أموالاً عظيمة ثم ذهب إلى جبل النصيريين وقاتلهم وانتصر عليهم وسبى نساءهم وأولادهم، وكان خيّرهم بين الدخول في مذهب أهل السنة والخروج من جبالهم فامتنعوا وحاربوا وخذلوا، وبيعت نساؤهم وأولادهم، فلما شاهدوا ذلك أظهروا التسنن فعفا عنهم وتركهم في أرضهم بعد أن حاربهم شهرين ونهب قراهم، ثم رحل إلى طرابلس ليقبض على مصطفى بربر متسلمها، فتحصن هذا في القلعة فوقع القتال، وكان الحصار أحد عشر شهراً وطرابلس خلال هذه المدة خالية من سكانها وقد جمعوا في الخانات سلعهم ومتاعهم وماعونهم، ثم دخل يوسف باشا البلد وأطلق لعسكره الأكراد والأرناؤد وغيرهم النهب فلم يبقوا على شيء فيها وأنزل عسكره في الدور فخربوها بأخذ خشبها للدفء والوقود. وتوسط سليمان باشا والي صيدا عند الدولة فعفت عن مصطفى بربر وتسلم يوسف باشا القلعة. وكان مصطفى بربر من خدام الأمير حسن أخي الأمير بشير فتوصل بذكائه وشجاعته إلى المناصب العالية وحاز اعتبار الوزراء وخشية الرعية. مقتل سليم الثالث ومصطفى الرابع وتولي محمود الثاني: في غضون سنة 1221 خلع سليم الثالث بيد الإنكشارية وقتل لأنه أراد أن ينفذ خطة في إصلاح الإدارة على الرغم من حروبه مع روسيا والنمسا وغيرهما من دول الغرب، وينشئ عسكراً جديداً يستعيض به عن الإنكشارية وكان هذا السلطان واسع النظر لكن الدهر خانه فلم يقدر أن يطبق إصلاحه،

وكان أراد أن يخفق علم التمدن الأوربي فوق مملكته فاستدعى إليه من فرنسا ضباطاً ومهندسين ورجالاً من أرباب الصناعات فجاءه العدد الكثير منهم. وخلفه مصطفى الرابع فألغى جميع خطط الإصلاح، ولكنه قتل كما قتل سلفه سليم ولم يطل عهده أكثر من أربعة عشر شهراً، وخلفه محمود الثاني 1223 متشبعاً بروح إصلاح سليم الثالث، يريد إخراج الدولة من سباتها، معتقداً أنه لا سبيل إلى نجاتها إلا بإيجاد قوة لها من غير عسكر الإنكشارية الذين عراهم الانحلال منذ مائة سنة، وأصبحوا يقتلون الملوك والوزراء ويخونون الدولة في ساحات الوغى، ويعبثون بشغبهم ومؤامرتهم بكيان الدولة، ذاهباً إلى أن من جملة الأسباب في بقاء الدولة أن يقلّد الفرنج في مناحيهم وعاداتهم. وهو الذي لبس الطربوش والألبسة الغربية. وأخذ يقيم الحفلات والمراقص وحفلات السماع على الطريقة الأوربية. وفي سنة 1223 مرّ ببلاد النصيريين طبيب إنكليزي فقتله الرعاع هناك، فصدرت الأوامر بالقبض على القتلة فأرسل سليمان باشا والي صيدا عسكراً بزعامة مصطفى بربر فاكتسح ديارهم وقتل سبعين رجلاً من كبارهم، وحشا رؤوسهم تبناً وبعث بها إلى الباشا، ثم امتنع النصيرية عن أداء المال فأرسل عليهم مصطفى بربر فنكل بهم وقتل خمسة وأربعين من رجالاتهم فأخلدوا إلى الطاعة. وكان من مقتل الطبيب وسيلة إلى الغارة على ضعاف الرعايا في زمن أصبح فيه شنّ الغارات صناعة يحترفها أناس مخصوصون في خدمة متغلب من المتغلبين. وفي سنة 1224 قوي الاختلاف بين والي دمشق وابن الشهابي وابن جنبلاط وكانا استوليا على أملاك عظيمة من الفلاحين في البقاع فلم يزرع أحد في تلك الرجاء. وكان الوهابيين قد استولوا خلال هذه المدة على الحجاز وأخذوا يجاذبون عمال الدولة حبل السلطة في الأرجاء التي بين الحجاز والشام. وذكر بعض المؤرخين أنهم ارتكبوا في بلاد حوران سنة 1225 أفعالا بربرية من سبي النساء وقتل الأطفال ونهب الأموال وإحراق المنازل والغلال حتى قيل إنهم أتلفوا نحو ثلاثة آلاف ألف درهم وفي تاريخ نجد 1225 أن سعوداً اجتاز بالقرى التي حول المزيريب وبصرى فنهبت الجموع ما وجدوا فيها من

فتنة كنج يوسف باشا:

المتاع وشعلوا فيها النيران ثم رجع إلى وطنه ومعه غنائم كثيرة من الخيل والمتاع والأثاث والطعام وقتل من أهل الشام عدة. وساق والي دمشق يوسف باشا حملة على مصطفى بربر متسلم طرابلس واستنجد بالأمير بشير الشهابي حاكم لبنان فلم ينجده معتذراً بفتن النصيرية والإسماعيلية وأن الجند اللبناني مضطر إلى أن يرابط الجبل، فنال والي دمشق من متغلب طرابلس بالإجاعة وطول الحصار. فتنة كنج يوسف باشا: صدر الأمر السلطاني في سنة 1225 إلى سليمان باشا والي صيدا أن يقتل والي دمشق كنج يوسف باشا ويصادر أمواله. لأن يوسف باشا عجز عن سوق قوة لقتال ابن سعود ورأى كما قال جودت، اشتغال الدولة بمشاكلها الداخلية والخارجية فرصة لادخار المال، وأكثر من الاعتداء على الأهلين وظلمهم، واختلس زيادة على هذا أموالاً كثيرة من مرتبات الحج. ومما قاله السلطان لوالي صيدا في أمره الصادر بهذا الشأن: إني آمل منك صداقة وحسن خدمة لأنك تربية الغازي الجزار أحمد باشا حتى لا يقال إن هذا راح ولم يخلف إنساناً!. ومعنى ذلك أن الدولة كانت راضية عن الجزار إذا ذكرته تذكره بأنه مثال رجالها الأمناء، وما ذلك إلا لأنه كان يؤدي لها الخراج في الجملة ويقاتل أعداءها ويرشي جماعة الأستانة بالمال على الدوام. أما سوء سيرته في الرعية وظلمهم وتقتيلهم فهذا لا ينقص بزعمها قدر الرجال، بل يجب على العمال أن يتقيلوا مثاله. ولما جاء سليمان باشا في جند من الدروز وغيرهم لأخذ دمشق من كنج يوسف باشا تعصب الدمشقيون لواليهم القديم، ووقع القتال في أرض الجديدة وداريا، فانهزم الدمشقيون وظفر العسكر اللبناني والعكاوي وقتل كثير من الدمشقيين. وفي هذه الوقعة يقول المعلم نقولا الترك في مدح الأمير بشير: وخاض غمار الحرب تحمل خلفه ... ثلاثة آلاف تصول وتخطر فلاقته فرسان المنايا مغيرة ... تنادي على الباغين: الله أكبر

سليمان باشا وأمراء راشيا وكوائن حلب:

وثار الوغى والسيف قد قارع القنا ... وغطى الفريقين الغبار المكدر فولى على أعقابه كل ظالم ... وفي سهل داريا الأعادي تقهقروا وكم من سراياهم ترامت جماجم ... كأوراق أشجار على الأرض تنثر وكان والي دمشق القديم قد جمع أمواله فبلغت كما قيل اثني عشر صندوقاً من الذهب وعشرة أحمال من الفضة، فتعرض بعض الجند لجماعته أثناء خروجهم ليلاً من السراي، فأفلت هو ووقع المال في أيدي الجند والعامة، فتقاسموه واغتنى أناس من هذه الغارة على أموال الوالي التي سببت نكبته، وجمعها من أموال الدولة ودماء الأمة، وتوجه يوسف باشا كنج إلى مصر فتوسط له محمد علي الكبير بالعفو ثم بعثت الدولة بعض رجالها فضبطوا ما خلفه الوالي السابق من الأموال في دمشق بعد أن نهب ما نهب، فكانت نحو ثمانية آلاف كيس من صافي الصابون وبعض أشياء كان يتجر بها. سليمان باشا وأمراء راشيا وكوائن حلب: وعدَّ مشاقة من حسنات سليمان باشا ضمه إقليم البلان إلى ولاية دمشق بعد أن كان مستقلاً تحت لواء أمراء راشيا الشهابيين قال وذلك لأن حكام ذلك الإقليم مستبدون، وكانت الأهالي تقاسي عذاباً وجوراً لا يطاقان، والأمراء يدفعون عن الإقليم مالاًً معلوماً لحفظ استقلالهم به وبراشيا معاً، والحكومة مشطورة مع الأهالي إلى شطرين حزب يناصر الأمير فندي وآخر الأمير منصوراً، وكان كل واحد منهما يراقب الآخر ويترصد الفرص ليفتك به، فيحتاج كل منهما بالطبع إلى عصابة ومال وحاشية. وقد أثنى مشاقة على سليمان باشا وقال: إنه خدم الدولة والرعية خمسة عشر عاماً بالعدل والأمانة، وكان الأسف عليه عاماً حتى شعرت الدولة بفقده 1819 م وقال: لما سلبت بلاد بشارة من أيدي مشايخها كثرت التعديات واضطرت حكومة صيدا إلى وضع عساكر كثيرة، فلما جاء سليمان باشا الكرجي والياً على عكا اقتصر على مائتي جندي من المشاة وخمسمائة فارس وأربعمائة خيال من الهوارة يتبعهم مشاة ضبطية في باب السراي وجماعة المدفعيين على أسوار المدينة وأقام في كل بلدة من المدفعيين والضابطة كفايتها.

وسليمان باشا من مماليك الجزار اشترك مع سليم باشا في حرب الجزار، ولما أفسد الجزار هذا العسكر على باب عكا هرب سليم باشا وسليمان باشا، إلا أن هذا عاد إلى مولاه تائباً فوجه عليه متسلمية صيدا. وكان سليمان باشا هذا لا يسمع وشاية ويحمي من يعينهم من جماعته ولا يسمع فيهم كلاماً، وإذا عين أحدهم لا يرفعه مهما وقعت عليه من الشكاوي، وإذا توفي أحد خدامه مسلماً كان أو مسيحياً يضع ولده مكانه إن كان له ولد ويجري عليه رزقه وإن كان لا ولد له يدرَ راتباً على عياله، وكان يعطي كل واحد من خدام بابه على حسب حاله من القرش إلى العشرة قروش كل يوم، وهذا لأكبر ما يكون من أرباب الوظائف. قال العورا مدون وقائعه: وكان عنده لما مات 22 دعبولة في كل دعبولة ألف كيس ريال فرنسا كل ريال بأربعة قروش عدا ما كان تحت صرافه حاييم وأخيه موسى وهو يربو على اثني عشر ألف كيس وعدا الديون التي للخزينة على تجار عكا وبيروت وما عند حريمه من الجواهر والتحف وخلا ما عنده من الغلات والكراع. هذا الرجل الذي خلف هذه الثروة وما ذلك بالأمر المستنكر على ولاة عصره، كان يتبجح بكلام العادلين والمصلحين مع أفراد من حاشيته ومن يغشون مجلسه، ليدل على حبه لإحقاق الحق وزهده في حطام الدنيا. شنشنة معروفة في بعض من يتولون الأمر يبرئون أنفسهم من حب الدنيا وهم سراق منظمون، ويستحلون في السر كل كبيرة وفي جهرهم أعفة أتقياء. هذا الرجل قال لوكيله وصرافه حاييم وكاتبه حنا العورا يوم استولى على دمشق وخلصها من يوسف كنج باشا: أنا قضيت حياة رأيت فيها الحلو والمر، فإذا أردتم أن تخدموني بالصداقة فأنا أشترط عليكم أن لا تظلموا أحداً، فلا أريد الظلم ولا أذية أحد ولا خراب بيت أحد. ولا عيني بمال أحد، وأريد ما أمكن سد باب الظلم، وليس لي حاجة في غير لقمة خبز طيبة وحصان مليح وجوبق دخان والكسوة الاعتيادية وامرأة واحدة ولست آذن ولا أرخص لأحد منكم أن يجمع لي مال عباد الله بالظلم ولا بالخطف، ولا بالحيلة ولا بوجه من الوجوه، ولا أريد إلا أخذ الأموال المرتبة بأمر السلطان فقط ولا

أشكر من يسعى لي بجلب الأموال من غير حلها بل أغضب عليه، وهاأنذا أشهد الله وملائكته ورسوله عليّ وعليكم بهذا جميعه، وأنا بريء الذمة من كل ما تفعلونه في هذه الدنيا وفي الآخرة، فهل تقبلون بشرطي هذا كي أسلمكم زمام أموري وأريح فكري، فأجابوه: نعم قبلنا وسمعنا وأطعنا فحينئذ قال لهم: وأنا سلمتكم مصلحتي بتمامها تصرفوا بها بحسب صداقتكم، وقد توكلت على الله وهو نعم الوكيل. كلام أشبه بكلام عمر بن عبد العزيز لأناس من حاشيته من زهاد التابعين وتابعي التابعين! وفي سنة 1226 حدثت فتنة بين الدروز القانطين في الجبل الأعلى من عمل حلب وبين أهالي تلك الأرجاء وجرت بينهم وقائع فاتفق جميع أهل تلك الأطراف فأرسلوا يستشفعون بالأمير بشير فكتب إلى حكام حلب، وأرسل مباشرين لإحضار الدروز من هناك وكانوا أربعمائة بيت وأعطاهم مائة ألف درهم لمعاشهم. وكثير ما كان يجري الخلاف في دمشق بين آغا القلعة والوالي فيعتصم الآغا وجماعته في القلعة ويشرع بإطلاق الرصاص والبارود والمدافع على جماعة الوالي ويصيب الأهالي من ذلك خطوب جسيمة كما وقع سنة 1227 فأخذ عسكر الوالي يحيط بالقلعة ويطلق من المآذن المجاورة النار عليها والجنود يطلقون النيران، ودام ضرب المدافع والحصار الشديد ليلاً ونهاراً بلا فتور، وقتل أُناس خارج القلعة واحترقت بعض الأماكن، ثم وضع عسكر الوالي سلالم ودخلوا القلعة من سورها وجرت المذبحة بين المحاصرين والمحصورين ونهب عسكر الوالي القلعة، وكان من يذهب قتلاً من الجند على نسبة من يقتل من الرعية. والقلاع آية البلاء على الرعية ولا ينتفع بها عند الاقتضاء إلا الوالي أو المتغلب انتفاعاً موقتاً. ومن الولاة الذين ملأوا حلب وأرجاءها ظلماً ابن جبار جلال الدين باشا 1227 كان مثلاً في المصادرات وقتل من يأبى إعطاء المال ولا يكاد يمضي يوم إلا ويقتل إنساناً وقد احتال على ثمانية عشر شخصاً من رؤساء الإنكشارية في حلب وأهلكهم فسكنت الفتن قليلاً وقطع من أوصال الإنكشارية وقبض على القياد بشدته وقلة ذمته في إهراق الدماء وروى في أعلام النبلاء أن

ابن جبار هذا عين اثنين يتجسسان أخبار الناس الذين تجب مصادرتهم فكان يرسل اثنين حاملين بلطة يأتيان بمن يجب مصادرته، فيزج في الحبس ويوضع في رقبته سلسلة لها شوك، ثم يطالب بما قرر عليه وهو جرم أو جرمان، والجرم أربعون كيساً والكيس خمسمائة قرش، فمن لم يدفع الجرم في ثلاثة أيام يخنق ويرمى تجاه باب القلعة، وكلما خنقوا واحداً أطلقوا مدفعاً فكان يعلم عدد المخنوقين في الليلة من عدد المدافع، وكان الوالي إذا أراد النزول إلى السوق أمر فزينت له الأسواق نهاراً فينزل ومعه البلطجية والعساكر عن يمينه وشماله فيدور في الأسواق، ومتى أدار وجهه إلى رجل فغن البلطجية يأتون ويضربون رقبة صاحب ذلك الحانوت، يفعل ذلك بثلاثة أو أربعة أشخاص ثم يعود، ولما تكرر منه هذا العمل الفظيع سأله وجوه البلد عن سبب قتل هؤلاء وما ذنبهم فكان يقول: لا ذنب لهم غير إني أقصد إرهاب الناس. وتعذيبه الناس وأخذهم بالتهم الباطلة من المأثور عنه المشهور به. وجاء بعده خورشيد باشا وكان يصلي ويصوم لكن أتباعه يفعلون كل كبيرة وهو عنهم ساكت، وحدث أن الأهالي هجموا على دار رئيس دائرته سليمان بك وقتلوه وحملوا سائر أتباعه بما عندهم من أدوات الفحش والخمر إلى القاضي فعد الوالي ذلك نشوزاً على السلطنة من أهل حلب فاستدعى عسكراً فجاءته جملة مستكثرة منهم، فوقعت وقعة بين العسكر والعصاة في محلة قسطل الحرامي 1235 فانكسر العصاة وهاجم العسكر البلدة وأخذوا يطلقون المدافع على أسوارها فخربوا جانباً منها ودام الحصار 111 يوماً وجرى القتال داخل البلد في الشوارع والأسواق، وكان القتال سجالاً بينهم إلى أن فر العصاة من الأهالي ودخل الولاة فيمن معهم من العسكر واحتلوا البلدة وقتلوا سبعة من كبار العصاة وأرسلوا برؤوسهم إلى الإستانة. وقد قال الأهالي إنهم ثاروا لشدة ما كانوا يلقونه من العنف وما كانوا ينوءون تحته من ضريبة الدور التي ضربت عليهم في سنة قحط وغلاء، وقد قتل بالطبع من الثائرين والأهالي والجند مئات. تولى دمشق سنة 1232 صالح الكوسج باشا وكان عادلاً حليماً فخماً وراقت الحال في أيامه ولم يحدث إلا نشوز عرب فليحان فأرسل عليهم جنداً

وقعة المزة واستسلام الدولة لوالي عكا:

فتحصنوا في اللجاة فقتلهم العرب ولم يسلم من الجند إلا القليل، وبعد سنتين تولى دمشق سليمان باشا وكان عادلا إلا أنه محب للمال. وذكر جودت أن جماعة من الحشاشين والأشقياء 1235 أخلوا بالأمن في حلب حتى كان الولاة يضطرون أن ينزلوا خارج البلد في مكان اسمه الشيخ بكير وأنه لم يمض على الثمانية عشرة شقياً الذين كان قتلهم بالخدعة جلال الدين باشا جبار واليها، حتى عدا الأشقياء فكثروا وأرادوا القيام بثورة، فتدارك الوالي الأمر باستدعاء الجنود الكثيرة، وحسم هذه النازلة. قال بعد أن ذكر أربعة أبرياء قتلوا في حلب بدلاً من أربعة مجرمين بواسطة أحد الأعيان: كان على ذلك العهد بين الأعيان كثير من الأردياء الأشرار، وهذه الحالة لم تكن خاصة بالأستانة ولا بالولايات، وكان قلن الإنسان في سهولته كتقطيع لحم الدجاج، حتى حدث مرة أن الأراجيف كثرت في الأستانة وبينا كان مجلس الوكلاء ينظر في طريقة الحسم مادتها قال حالت أفندي: إن أحسن طريقة أن يقطع رأس الحلاق المقيم في أوقجيلر باشي وبذلك يحدث للناس خوف ودهشة وتنقطع مادة الأراجيف، فقال له أحد الحضور: عفواً إن هذا حلاقي فقال حالت أفندي: ليس هذا الذي أردت أن أضرب عنقه بل الحلاق الذي يسكن في الطرف الآخر وبذلك يحصل المقصود. قال وبالجملة فقد كثر في تلك الأيام في الأستانة وخارجها من اسودت قلوبهم وقست أفئدتهم من الناس، وكانت الإدارة من كل وجه مختلة بحيث لا يتيسر وصفها ولم يبق من وسيلة إلا تجديد الأصول وإصلاح أُمور الدولة وتنظيمها، وقد نال هذا الشرف والي مصر محمد علي باشا والفضل للمتقدم 1هـ. وهذا كلام مؤرخ رسمي يكتب للسلطنة، والحقيقة أن الحالة كانت أسوأ مما وصفها به. وقعة المزة واستسلام الدولة لوالي عكا: تولى دمشق سنة 1235 درويش باشا، وفي أيامه اعتدى جماعته على مزارع ابن شهاب وابن جنبلاط في البقاع فاضطر والي الجبل إلى إرسال جند لمحاربته، وأرسل والي عكا جنداً ووقع القتال فانتصر والي الجبل على والي

دمشق، وبعثت الدولة والي حلب للنظر في هذه الفتنة بين الولاة، فرأى أن السبب في ذلك عبد الله باشا والي عكا، فحاصره والي حلب في عكا على غير طائل، ثم عزل درويش باشا عن إيالتي دمشق وصيدا وعفي عن عبد الله باشا، وهلك جمهور من الجند والناس في هذه الفتن التي كان منشؤها فيما قيل دسيسة من بعض الإسرائيليين هلك أحد أنسبائهم وتقربوا من درويش باشا فأثروا فيه. وذكر الشهابي في هذه الوقعة المعروفة بوقعة المزة لأن هذه القرية حرقت فيها، أن عبد الله باشا استمال بعض مشايخ جبل نابلس ووقعت الفتنة بين أهالي ذاك الإقليم فانقسموا فئتين ووقع القتال بينهم، وقالوا: إن سبب هذه الفتنة أن درويش باشا كان يريد تسلم عكا من عبد الله باشا بأمر الدولة فتشيّع الأمير بشير الشهابي لوالي عكا، وسار في عسكره من المشاة والفرسان من أهل الشوف والمناصف والمتن، وعسكر عبد الله باشا في الدالاتية والهوارة، وجعلوا مصافهم من كوكب إلى المعظمية من إقليم البلان وخرج درويش باشا إلى المزة فأقبل الأمير بشير، فلما علم عسكر درويش باشا بقدومه تحصنوا للحصار، وانتشب القتال بين الطرفين وطلقت عساكر دمشق المدافع والزنبركات أي المدافع الصغيرة، فهجم الأمير بعسكره هجمة واحدة وهدم أسوار البلدة، وكانت مبنية باللبن وامتلكها، ففرت عساكر دمشق وقد قتل منهم نحو مائتين وخمسين رجلاً وأخذوا منهم خمسمائة أسير، وغنم عسكر الأمير خياماً وذخائر وخيلاً وسلاحاً، ورجع إلى المعظمية وبلغت أسرى عسكر دمشق من أهلها 374 رجلاً عدا من قطعوا رؤوسهم. ومضت عدة أيام وفي نهر بردى تطفوا الغرقى من عسكر درويش باشا حتى بلغ عددهم ألف رجل ومائتي رجل بين قتيل وجريح، وقتل من عسكر عكا نحو سبعين رجلاً. وانتشب القتال بين الأمير خليل بن الأمير بشير وبين فيزو باشا أحد أتباع والي دمشق وهو قادم من نابلس في قرية مرجانة فقبض عسكر عبد الله باشا على مائة وخمسين أسيراً وقطعوا خمسة وعشرين رأساً وانهزم فيزو باشا إلى دمشق. وأرادت الدولة أن تضرب على يد عبد الله باشا 1237 والي عكا فأمدت والي دمشق بواليي حلب وأذنة ليتعاونوا على ضربه وقد تحصن فيها

سياسة الأمير بشير في لبنان وتقاتل الولاة وارتباك

بألفي جندي، فحاصره الولاة المذكورون تسعة أشهر فلم يستطيعوا الاستيلاء على عكا مع أنهم كانوا في ستة عشر ألف جندي. ولما عجزت الدولة عن أخذ هذا الثغر من عبد الله باشا وأصبح في يده معظم القطر الشامي حقيقة رتبت عليه خمسة وعشرين ألف كيس وهي تساوي نحو نصف مليون ليرة، وذلك بدل نفقات عسكرها في حصار عكا، وكان عبد الله باشا يوقع كتاباته هكذا أمير الحاج السيد عبد الله والي الشام وصيدا وطرابلس ومتصرف ألوية غزة ويافا ونابلس وسنجاق القدس الشريف حالاً. سياسة الأمير بشير في لبنان وتقاتل الولاة وارتباك الدولة: تولى دمشق مصطفى باشا 1237 وفي أيامه حدثت فتنة بين الأمير بشير وابن جنبلاط وعلي العماد كتبت النصرة فيها للأمير، وهرب المشايخ المذكورون إلى حوران فأمسكوا وقتلوا، واضطر الأمير بشير الشهابي بعد ذلك إلى التغيب في دمشق وحوران، ثم عاد بعد مدة إلى لبنان وتسلم زمام الأمر وطلب الأموال المتأخرة من اللبنانيين فثاروا عليه في اثني عشر ألف فارس وقيل في ثلاثة عشر ألف مقاتل وليس معه فيما قيل سوى ثلاثمائة. فقتل منهم على قلة عديده وأخضعهم لسلطانه، وعاونه الشيخ بشير جنبلاط على كبح جماحهم وكذلك والي عكا أرسل إليه عساكر الأرناؤد والهوارة والمغاربة والأكراد فنشب القتال بين الفريقين فقتل من جماعة الأمير بشير 15 رجلاً وأحضروا 29 رأساً من رؤوس محاربيهم. ثم قلب الأمير الشهابي ظهر المجن للشيخ جنبلاط وسعى بقتله، كما قتل أناساً من أهله وحاشيته وسمل عيونهم ليأمن شرّهم بزعمه، وذلك لأن ابن جنبلاط قويت شوكته وأثرى وكثر مشايعوه، فما كان من أمير الجبل إلا أن سعى بإهلاكه وألقى الفتنة بين الحزب اليزبكي والجنبلاطي ليخلو له الجوّ وسلم معظم لبنان لأناس من مشايخ الموارنة يحكمونه ويأتونه بالجزية والخراج ليدفع هو المقررعليه لوالي صيدا أو عكا، ويأمن جانب الدولة فتصفو الولايةله. وكان من سياسته أن يظاهر صاحب الظهور والقوة شأن الأمراء اللبنانيين في معظم أدوار تاريخهم.

وكثر الخلاف بين والي طرابلس ووالي دمشق ووالي صيدا ووالي عكا، والناس يقتلون بسبب هذا الاختلاف بينهم، وحاكم دمشق يحاصر حاكم عكا، والدولة ترضى عن هذا وتغضب على ذاك، وتسلب ولاية زيد لتعطيها لعمرو، تلاحظ في ذلك التوازن بين القوات، وتتحاشى رجوع الذين يعصون أمرها من الولاة. وأعقل الولاة وأدهاهم من كانت تدوم ولايته سنتين وكانت الوظائف الحسابية في هذا الدور بيد الإسرائيليين والكتابية بيد المسيحيين، وكان الولاة يصادرون بعض الإسرائيليين ويحبسونهم وربما يقتلونهم لاستحصال المال فيحتال هؤلاء لتمشية أمورهم، وحدث أن معظم الحامية والموظفين في دمشق كانوا مرة من أهل بغداد والموصل وكركوك فغضب الوالي عليهم فأمر بترحيلهم فهلك بعضهم في الطرق. كانت الشام تتخبّط بأيدي الولاة وأرباب الإقطاعات، والدولة غير مستريحة في داخليتها وخارجيتها، فاستقلت اليونان 1830 م بعد حرب هائلة فقدت فيها الدولة أسطولها وذهب قسم من الأسطول المصري، وكان الأسطول اليوناني ضرب بيروت 1241 1825، وتوسعت اختصاصات إمارتي الأفلاق والبغدان رومانيا حتى بلغتا الاستقلال أو كادتا، وفتحت روسيا لها طريق البحر الأسود، وما زالت حال الدولة على ذلك حتى نشأت ثورة الإنكشارية في الأستانة 1242 وكانت الدولة أخذت تنظم جنداً جديداً على الأصول الحديثة، فاستراحت بعض الشيء بعد إهلاك الإنكشارية، وكذلك حال الأمة المسكينة التي قاست الأهوال من اعتداءاتهم، وكان الفضل الأكبر في ذلك لمصلح الدولة السلطان محمود الثاني الذي أظهر من الثبات وقوة الإرادة في هذا الشأن ما لم يعرف به أجداده الذين قتلوا بأيدي الإنكشارية، واستناموا لما يأمرون به مخافة أن تزهق أرواحهم. وقضى أيضاً على أهل الطريقة البكداشية في الأستانة وما إليها مما ذكره له التاريخ بالإعجاب، وعاب بعضهم عليه شدته وأعجب بأعماله معاصروه من الأعاظم. فقد قال سفير روسيا في الأستانة بعد سنتين من قرض جيش الإنكشارية: إن السلطان محموداً بقضائه على هذا الجند المختل الذي تصعب إدارته قد ظفر بنور من النبوغ

محاولة الدولة قتل النصارى وفتنة نابلس:

بمثله تنجو الممالك من المهالك. وقال دي لاجونكيير: إذا كان السلطان محمود أقل سعادة من بطرس الأكبر في إرادة التجدد فإن منشأ ذلك بأن بطرس الأكبر قد وجد أمة لا تزال على الفطرة أي جديدة، وكان من الأسهل أن تنظم وتصاغ، وعلى العكس في محمود فإنه صادفته عقبات من الأوضاع القديمة، أوضاع نشأت وكبرت مع المملكة وكان منها فيما مضى قوتها وقدرتها، أوضاع وضعها السيف وأيدها الظفر وقدّسها الدين. تولى دمشق صالح باشا ثلاث سنين وثلاث مرات كل مرة سنة وأظهر شدة زائدة ثم تولاها ولي الدين باشا 1242 وكان أحمق مغفلاً مهملاً ثم عزل ونصب عبد الرؤوف باشا 1243 وكان عادلاً لطيفاً وطمعت الشام به لعدله وفي 1243 أحدث وزير دمشق مظلمة على سبع عشرة قرية من البقاع فأمر الأمير أهل القرى اللبنانيين أن يرجعوا بمالهم إلى إقليمهم فرجعوا فخرب البقاع فارتضى وزير دمشق حينئذ بأخذ عشرين ألف قرش من تلك القرى وكتب إلى الأمير أنه رتب العشرين ألف قرش عوضاً عن المال الميري والقسم أي الثلث. محاولة الدولة قتل النصارى وفتنة نابلس: وأرادت الدولة أن تنتقم من نصارى الشام بل من النصارى في أنحاء المملكة لثورة اليونان عليها ومطالبتها بالاستقلال يوم ثورة المورة 1244 وجزائر البحر المتوسط فأمرت والي دمشق أن يقتل المفسدين من كبراء طائفة الروم فعقد مجلساً من أعيان دمشق وتلا أمر الأستانة على مسامعهم، فكان جوابهم أنه لا يوجد من النصارى عندنا المفسدون وجميعهم ذميون سالكون بشروط الذمة فلا تجوز أذيتهم. لهم ما لنا وعليهم ما علينا، وأن الرسول عليه السلام أوصى بالذميين وقال: من آذى ذمياً كنت خصيمه يوم القيامة. ونحن لا نقدر أن نتحمل هذه التبعة، وكتبوا محضراً للدولة بحسن سلوك نصارى الإيالة وطاعتهم ودفعهم المرتبات الأميرية وأنهم يستحقون حسن الرعاية والمرحمة من السلطنة السنية. ولعمري أي علاقة للثائرين في جزائر البحر والمورة مع الآمنين من الرعايا في الشام، فقد أبان عقلاء دمشق إذ ذاك عن رأي سديد، ولكن لا

مقتل سليم باشا والي دمشق:

ندري إذا كان رأيهم راق لدى ولاة الأمر في الأستانة. وأي أمر جائر أكثر من هذا كأن النزّاع إلى الاستقلال من اليونان كانوا يصدرون عن آراء مسيحيي الشام أو آسيا الصغرى، أو أن هؤلاء يحثونهم على نزع أيديهم من أيدي الدولة، ولو استطاع المسلمون أنفسهم في ذلك الوقت أن يستقلوا عن الدولة لينجوا من خلل إدارتها لما تأخروا عن ذلك ساعة. وفي سنة 1246 1829 طلب والي عكا من الأمير بشير الشهابي أن يفتح قلعة صانور وكان أهل نابلس عصوا عليه وتحصنوا في قلعة صفد وأعجزوه فلم يقدر عليهم لأن معظم الأهالي انضموا إلى الثائرين، وكانت صانور منذ القرن الماضي تشغل بال رجال الدولة في عكا وصيدا والقدس، فنشبت بينه وبينهم عدة وقائع وبعد حصار ثلاثة أشهر وتخريب عدة قرى، أمر الوزير بهدم القلعة ودكها إلى الأساس ودك مغائرها وهدم آبارها، وسبب هذه الثورة الضريبة التي فرضها والي دمشق على الثائرين، ولما عجز عن جمعها أحيلت إلى عبد الله باشا فتعهد للدولة بدفع ألف كيس وأمر بجمعها من أهل نابلس، وكان من زعماء النابلسيين إذ ذاك أسعد بك طوقان والشيخ القاسم الأحمد، وفشل النابلسيون ولم يبق في القلعة عند تسليمها سوى 367 وكان فيها أكثر من ألف ومائتي نسمة قتل بعضهم وضرب الآخرون وذكر مشاقة أن سبب عصيان نابلس سلخ عبد الله باشا لها بأمر الدولة عن إيالة دمشق، لأن والي دمشق ادعى أن المطلوب منها ستمائة كيس لا تتحصل إلا بسوق حملة تستغرق المبلغ المتحصل منهم، فتعهد عبد الله باشا بأن تضم إليه ويدفع ألفي كيس عنها، وأن عسكر أمير الجبل الذي جاء نجدة لعبد الله باشا كان نحو خمسة آلاف رجل، وأن النابلسيين نزلوا على حكم الأمير بشير الشهابي فعفا عنهم جميعاً وهدم القلعة وحصل الأموال الأميرية بعد مناوشات طفيفة. مقتل سليم باشا والي دمشق: انقضى النصف الأول من هذا القرن أو كاد والقطر نَهْب أيدي الطامعين من الولاة والمتسلمين، يسيئون في الرعية الاستعمال، ويعبثون بما خولتهم

دار الملك من السلطة فيمثلون أعظم مظهر من مظاهر الحكم الاستبدادي الفردي الجاهل. ولم يكن يخطر في بال الدولة أن رعاياها يقوون على الانتقام من أعظم عمالها، وهم الموصوفون في معظم أدوارهم بالطاعة للملوك والزعماء والرضى بما يقتضي به الأقدار، ولو صحت عزيمة المظلومين مرة أو مرات أن يهلكوا من يحاول إهلاكهم وخراب أرضهم وديارهم، لما ساءت الحال، وبلغت الشام ما بلغته من الاختلال، نريد أن نقول أن الرعايا طالت أيديهم فقتلوا والياً عظيماً من ولاة السلطنة. ونعني به سليم باشا الصدر السابق مبيد جيش الإنكشارية. نصبت الدولة هذا الشيخ والياً على حلب ثم على دمشق سنة 1247، وكان ظاهره شجاعاً مهيباً وباطنه جباناً وقد همّ أن يغتال بعض أعيان المدينة فبدأ بمدينة حماة، وقتل بعضهم فأيقن القوم أن هذا القاتل لا يصعب عليه أن يهلك أناساً في دمشق ليصفوا للدولة الحال بزعمه، فلما جاء عاصمة الشام أراد أن يضع على كل سكرة أي عقار في دمشق مصريتين كما هو الحال في الأستانة فثارت العامة بإشارة الأعيان وكانوا عند المصائب الشديدة تتحد على الأغلب كلمتهم، اتقاء شر عظيم يقعون فيه، وكثيراً ما كانوا يدخلون الأوهام على الولاة؛ لئلا يشتطوا في مطالبهم وتكون المغانم مناصفة بين الأعيان المتغلبة والحاكم المنصوب، فضرب الوالي العامة من أبراج القلعة بالقنابل، حتى إذا ضاق عليه الخناق جاء في بعض رجاله إلى دار قرب باب البريد فتأثره العامة وهدموا على رأسه سقف المخدع وأحرقوه. وذكر بعضهم أن هذا الوالي تحصن برجاله في جامع مغلق أولاً والسَكمَان بالقلعة، فبدأ الحريق من باب الهواء وأخذ يمتد، فلما رأى ذلك داخله الوهم لقلة رجاله وكثرة الدماشقة فتحصن بالقلعة، وأخذ يحرق دار الحكومة ليشغل الناس ويفوز بنفسه، وكان الحريق هائلاً خرب كثيراً، ثم اعتمدوا على حصار القلعة وأخذ الوالي يطلق المدافع على البلد، وأقام الناس متاريس حول القلعة ثم في الحارات وحاصروا العسكر المرابط في جامع المعلق، وقتل في هذه المناوشات كثير من الأهالي وجماعة الوالي، وطال المطال وتألب الناس على الوالي حتى إن والي عكا أخذ يقوي أهل دمشق عليه، ولما ضاق به الحصار

خرج إلى بيت القاضي بجانب دار المشورة، فجاء سبعة رجال وكسروا الباب والنافذة عليه وألقوا النار بعد أن أخرجوا من عنده ابن أخيه والكيخية، ثم قطعوا أعناقهما افتراءً وعدواناً كما قال مدون هذه الوقعة إذ ليس لهما ذنب يوجب القتل حتى إن الباشا نفسه افتروا عليه لأنه لم يظهر منه أدنى أذى إليهم غير تمسكه بإتمام الأوامر التي بيده من الأستانة، وربما كان يضمر للأعيان شراً لا نعلمه وأما في الظاهر فليس لهم عذر سوى أنهم افتروا عليه وعلى جماعته على نوع مستغرب مناف للشرائع كلها ثم أخذوه عرياناً إلى القلعة، مع الاثنين خاصة بعد أن داروا برؤوسهم ودفنوهم داخل القلعة وتولى الشربجي الداراني ورشيد نسيب الشوملي أمر البلد، وبات الناس يتوجسون خيفة من رجال الأستانة، ولو كان ما أتوه في حالة راحة الدولة لأرسلت عليهم جنودها يفعلون بالأبرياء والجناة الأفاعيل المنكرة، ولكن الدولة كانت تتوجس خيفة من محمد علي والي مصر وما بلغه من القوة بجنده وبحريته واستعداده، ولها مشاكل في أُوربا تخاف أن تتجزأ قوتها إذا أرادت تأديب الدمشقيين. ولذلك لم تحب أن تناقش الأهالي الحساب ولم تسؤها فجيعتها بشيخ هِمّ قاتل، والقاتل مبشر بالقتل، ومن عادة الدول على الأغلب أن تفتك بعد حين فيمن استعملته آلة للفتك، ولذلك نرى مؤرخي الترك قد نطقوا بلسان الحكومة ولم يحركوا ساكناً كأنهم رأوا لعمل الدمشقيين مبرراً من حسن نيتهم. وقال مشاقة: لما قتل الدمشقيون سليم باشا اجتمع أعيانهم ورتبوا حكومة مؤقتة وأخذوا يترقبون ورود عسكر الدولة للانتقام منهم، فورد الخبر بخروج عساكر مصر لتأتي الشام فسكن روعهم بعض الشيء، ولما خرجت عساكر مصر صرفت الدولة النظر عما عمله أهالي دمشق وأرسلت والياً عليهم اسمه علي باشا. وأخذت الدولة تؤول عمل أهل دمشق وأصبحت كالمحامية عنهم تختلق لهم الأعذار عما بدر منهم لأن السياسة اضطرتها إلى ذلك. فقد جاء في تاريخ لطفي نقلاً عن جريدة تقويم الوقائع الرسمية أن سليم باشا لم يعمل بحسب الوقت لما جاء دمشق، وقد عين الحاج علي باشا والي قره مان لاستئصال الفتنة التي كان شبوبها يترامى إلى المسامع، بيد أن سليم باشا قتل قبل وصول خلفه، وتبين أن للغرباء يداً في هذه الفتنة، وأن تأديب المشاغبين بسوق قوة على دمشق يضر بأهاليها!

وقال المؤرخ إن سبب عصيان الدمشقيين أن سليم باشا مر بحماة عند شخوصه إلى دمشق وقتل بضعة رجال من عرب عنزة وقيد البرازي في القيود وأتى به معه إلى دمشق فدهش أهلها، وكان اقتراحه وضع ضريبة فأوقد جذوة الفتنة. وذكر أن الأهالي هجموا على السراي أولاً وأغلقوا دكاكينهم وانتشرت الفوضى. وقد كتب السلطان على محضر قدمه بهذا الشأن عاطف بك ابن خليل شقيق سليم باشا قال فيه: قد يتبادر إلى الذهن أن لبعض الأطراف يداً في حادثة دمشق، ومن الجائز أن يكون ذلك بصنع والي صيدا لأن هؤلاء ليسوا على ثقة تامة من دولتنا العلية وهم ينفرون منها على الدوام، وعلى هذا فإن أمور إيالة الشام إذا دخلت في النظام على ما يجب يحدث ذلك ضرراً لهم، وقد عرفوا هذا حق المعرفة، فيجوز أن يكونوا سبب هذه الفتنة لإيصال الحال إلى تلك الصورة. وقد ظهر من الأوراق الرسمية الأخرى التي نشرها لطفي في تاريخه أن السلطان ذهب مذهبين في هذه الفتنة فكان يقول في بعض أوامره قبل مقتل سليم باشا القائم بتطبيق قانون رسوم الاحتساب سداً لنفقة الجند: إن أهالي دمشق وحواليها وإن كانت أرضهم مباركة، لا يستنكف أكثرهم عن عار ولا يعرفون الحياء، وظاهر أنهم وسيرون بحول الله وقوته من أسباب التأديب ما يقفون به عند حدهم. وقال في كتاب آخر: إن وقوع هذه الحادثة في دمشق ليست منبعثة من جسارة الأهالي فقط، بل نشأت بلا ريب من إغواء الأطراف وتحريكها. وذكر المؤرخ أن السبب في فتنة سليم باشا تحريك محمد علي والي مصر ليجعل مقدمة لدخوله الشام، وفي رواية أخرى أن والي عكا عبد الله باشا كان هو السبب في ذلك. وقصارى القول أن سليم باشا مبيد جيش الإنكشارية الذي عجنت طينته بالدماء فقتله أعيان دمشق مخافة أن يبطش بهم كما بطش في حماة، خافوه ووجدوا فرصة للنيل منه لما جاء يطبق قانون الاحتساب، فأثاروا الرأي العام عليه ففعلوا وربما كانوا يريدون الاكتفاء بتهديده ليحملوه على الهرب، ولكن الأمر خرج من أيديهم إلى أيدي العامة فقتلوه غير حاسبين للعاقبة

الحكم على الموقف السياسي في نصف قرن:

حساباً، فكان قتله على غير رضى العقلاء من الأعيان، وكان هلاكه مخيفاً لمن يأتي بعده من الولاة. الحكم على الموقف السياسي في نصف قرن: ويجوز لنا بعد نقل حوادث نصف قرن أن نلخصها ونستنتج منها على الصورة التالية اً كان الظلم يقع على المسلمين والمسيحيين والإسرائيليين على السواء، ولما كان المسلمون هم السواد اعظم من السكان كان تأثير الظلم في مجموعهم أقل من تأثيره في مجموع الإسرائيليين مثلاً. 2ً أوغل أرباب الإقطاعات في الظلم فقلّم الجزار من أظافرهم ليستأثر وحده بالظلم والقتل، فحالفه التوفيق بطول المدة إلى الضرب على أيديهم بعض الشيء، فلما هلك عادت الحالة الأولى إلى سابق تعاستها من ظلم المستضعفين والفلاحين. 3ً مرَّت حملة نابليون بونابرت على جنوبي الشام كالسحابة، وكان من الجزار أن ضمّ قوى الأقاليم برأي انكلترا التي تولت حربه بحراً بأسطولها، وساعد أن حكومة الدير كتوار في باريز استدعت نابوليون فعاد أدراجه مسرعاً لا يلوي على شيء كما رجع ريشاردس قلب الأسد ملك انكلترا في الحروب الصليبية بعد أن عقد مع صلاح الدين يوسف ميثاقاً أنقذ به الصليبيين ومحاربيهم من القتل والقتال. 4ً الظلم الواقع على النصيرية وإرادتهم على تغيير معتقداتهم واتخاذ مقتل رجل غريب يمتُّ بنسبة إلى دولة أجنبية قوية ذريعة إلى تخريب جبالهم وقتل زعمائهم بدون تحقيق، على حين كان زعماء الأرجاء الأخرى من القطر يفعلون فعلهم وزيادة، ولا من يردعهم أو يقوى على نزع سلطانهم وتخفيف وطأتهم، مثل محمد باشا أبو مرق الذي عجت الأرض إلى السماء في فلسطين من مظالمه حتى أخذ الناس يبيعون أولادهم كما تباع الجواري والإماء فراراً من ظلمه وقياماً بما يفرضه عليهم من المغارم. 5ً قيام مصطفى بربر متسلم طرابلس واستعانته بكافل عكا على كافل دمشق وظلمه الرعية ومحاولة الدولة غير مرة أن تستريح من تسلطه فلم تستطع ذلك إلى أن أهلك حتف أنفه. 6ً انقضاء دولة بني العظم بهلاك عبد الله باشا آخر من ولي

منهم سنة 1223 ولم يقم بعده أحد من ذريتهم لتولي الأحكام. 7ً اشتغال الدولة بالغوائل التي أصابتها ولا سيما استقلال اليونان ومحاولتها لما نال اليونان ما أرادوا أن تنتقم ممن يدينون بدينهم في الشام، فرد حزم الحازمين إرادة المختلين من ولاة الأمر الظالمين بحجة دينية أيضاً. 8ً عدم توفيق سليم الثالث في تطبيق خطط الإصلاح وكذلك مصطفى الرابع حتى تولى السلطنة محمود الثاني فبدأ في إنفاذ إصلاحه بمقياس واسع، كان أوله مقتل جيش الإنكشارية في العاصمة والولايات، فعدّ مصلح عصره الذي أدخل دولته في المدنية الغربية طوعاً وكرهاً، وجعل لها مقاماً بين الدول لم يكن لها من قبل على اتساع أقاليمها، وخروج أكثر القاصية من حكمها فتبين لها أن عظمة الممالك بحسن إرادتها وكثرة مدنيتها لا بعظم رقعتها وخصب بقعتها، وأن دولة غناماها في عنفوانها وبذخها كما هي في ضعفها وشيخوختها، تُوَلّي رقاب الأمة ولو بالصورة الظاهرة، وجبوة خراجها ولو بالتغاضي عن بعضه للجباة لا للرعية لا تصلح ويصلح أهلها.

دور الحكومة المصرية

دور الحكومة المصرية من سنة 1247 إلى 1256 حالة الدولة العثمانية عند إذلال جيش محمد علي الكبير لها: كانت الدولة العثمانية إلى أواخر منتصف القرن الثالث عشر جسيماً كبيراً تعروه نوبات عصبية من حين إلى آخر فيردها بقوته، أو يطول زمنها عليه حتى تنتهي بطبيعتها. وصاحب المرض إذا طالت عليه معاودة النوبات قد يألفها ويظن أنه بريء من كل خطر، على حين تكثر آلامه، وتقرب منه حمامه، والأدوار العصبية أشد ظهوراً في ألم الجسم، وإذا تكررت على المصاب يصير إلى العجز فلا يستطيع أن يدفع ضراً ولا يجلب خيراً. فكانت الدولة العثمانية إذا نظر إلى ظواهرها يظن معها قوة، وفي الحقيقة هي إلى ضعف لكثرة ما استحكم فيها من أمراض وساورها من أوجاع، غفلت عن تعهد قوتها الحقيقية، فكانت تعلو وتسفل وتطفو وترسب، بحسب مقدرة القائمين عليها من الصدور والسلاطين، تقوم بالفرد ولا شأن للجماعة في معالجة ما يصلحها من تقنين وأُصول إدارة، وأهم ما امتاز به جندها الطاعة للرؤساء إلا أنها أصبحت في حروبها تستهلك أكثر مما تستحصل، لأن جيش الإنكشارية وهم مستندها في قوتها عراه الانحلال فغدت الوقعة التي كان يكتفي فيها بعشرة آلاف مقاتل تسوق إليها ثلاثين ألفاً ثم يشغب ولا يعمل عملاً. ولا عبرة بالعدد إذا كان المجموع أقرب إلى التفسخ، ومعنويات المقاتلين إلى الضعف. إن بعض الغوائل التي أُصيبت بها المملكة والشام من جملتها في هذا القرن والذي قبله كانت بصنع جيش الإنكشارية وتمرده على رؤسائه، وبضعف

الزعماء واختلافاتهم المتصلة مع الولاة في الخارج، والوزراء والملوك في دار الملك، فكان وضع السيف فيهم على عهد محمود الثاني، وصدور الأمر بقتلهم في الولايات مما نفس خناق الأمة. وإن كانت العقوبة التي نزلت بهم في الشام أخذ، لأن بعضهم وفيهم الرؤساء كانوا من الأهلين، فلما نزل ما نزل بجماعتهم غيروا ألقابهم وبدلوا طرازخم وثيابهم، وبعد أن تخلصت الدولة والأمة منهم صعب على العثمانية في بضع سنين أن تصلح ما فسد في عشرات بل في مئات، وهل من سبيل إلى ارتجال جيش منظم إلا إذا ساد السلام أعواماً طوالاً، وانتشر العلم وتعلم القواد على الأقل، وكيف يتأتى ذلك وطالع الدولة الحرب على الدوام لا تفتأ متنقلة من أزمة إلى أزمة، وكانت في هذه الحقبة خرجت من حرب الوهابية في الحجاز ودخلت في حرب اليونان. ولم يخطر ببال الدولة يوم قام محمد علي في مصر أن يتدرج بعد قتل المماليك في مراتب القوة والسيادة، حتى يقبض على زمام الأمر 1804م وينظم قوتيه البرية والبحرية، وينشط الزراعة والتجارة وتسمو به الهمة، أن لا يكتفي بما يملك بل ينزع إلى التوسع في فتوحه، لإيقانه أن الدولة وإن كانت في صدد إدخال الإصلاح على أوضاعها بفضل محمود الثاني سلطانها العاقل، لا تستطيع أن تلحق غبار مصر التي جرت على الأصول في تنظيم جيشها وإدارتها وسلطان العثمانيين على اتساع ولاياته وكثرة خيراتها، يتعذر عليه أن يقوم في مملكته بما قام به محمد علي في ولايته، لأن الإصلاح في الجسم الثقيل المختلف الأمراض، أصعب منه في جسم له مرض واحد، إذا عولج كان أقرب إلى الصحة والاستمتاع بالسلامة. كان الغرب في هذا القرن يسير إلى الارتقاء بخطى واسعة سريعة، والدولة العثمانية تنظر إلى هذه المظاهر باهتة، وقلما يبدو لرجالها أن يتحدثوا في سر هذا الارتقاء وعواقبه عليهم وعلى جيرانهم، إن لم يجاروهم في هذا المضمار. فأصبحت دولة بني عثمان لا تكفى عادية دولة من دول الغرب إلا إذا استعانت بأُخرى عليها، واستفادت من تخالفهم وتباين أغراضهم، بعد أن كانت أيام شبابها تنال من دولها مجتمعات ومنفردات. ولكن الجيش الذي يصل إلى أسوار فينا على عجلات البقر، ويقاتل المحاربين والمسالمين بالسيف والنشاب

لماذا تراجعت الدولة العثمانية:

غدا يحتاج إلى أسباب في النقل أسرع، وسلاح في الفتك أقطع، غدا يحتاج إلى علم وعُدد، أكثر من احتياجه إلى أسماء ضخمة وعَدَد، وأصبحت السياسة والإدارة والحرب علوماً عملية، والدربة والتنظيم رأس كل أمر، والجيوش بنظامها وقيادتها وعددها وذخيرتها وبالفكرة المتشبع بها أفرادها، فكيف تنجح بعد الآن دولة تعد الجهل من مظاهر القوة، وكيف لا تتجلى الفروق بين دولة جمدت ولم تعمل، ودول تحركت ونمت وربت، وبين أُمة فتحت أقطاراً واسعة منذ قرون وبقيت طول حياتها الطويلة تصارع عناصرها ويصارعونها، وهي عنهم غريبة وهم عنها غرباء ولم تتمثلهم ولم تتمثل فيهم كما فعل محمد علي فتمثل في مصر والمصريين. لماذا تراجعت الدولة العثمانية: نسب ميشو انحطاط الدولة العثمانية وإخفاقها في حكم الولايات التي افتتحتها إلى عدة أسباب أهمها الجهل والجمود والغرور قال ومن حسن طالع النصرانية أنه لما فترت الهمة في الحروب الصليبية التي يراد بها حماية أُوربا، أخذ الأتراك يضيعون شيئاً من قوتهم العسكرية التي أخضعوا لسلطانها الشعوب النصرانية، فكان العثمانيون بادئ بدء الأمة الوحيدة التي كان لها جيش دائم منظم تحت السلاح، وبه أحرزت الدولة التفوق على الأمم التي تريد إخضاعها لسطوتها. وغدت أُوربا في القرن السادس عشر، ولمعظم ممالكها جيوش يقاومون بها أعداءهم، وسرعان ما انتشر النظام والتربية العسكرية بين شعوب النصرانية. وأخذت المدفعية والبحرية تزيد كل يوم نظاماً ورقياً في الغرب، على حين كان الأتراك يزهدون في التجارب التي وصلت إليها الجيوش البرية والبحرية، ولا يستفيدون بتاتاً من العلوم التي انتشرت بين أعدائهم وجيرانهم، ويزاد على ذلك ما عبث بكيان الأتراك من الخرافات وقلة التسامح، فحال ذلك دون فتوحهم. كانوا إذا استولوا على ولاية يحاولون أن يحكموها بأنظمتهم، ويغرسوا فيها عاداتهم وعباداتهم، فاقتضى لهم من ثم أن يبدلوا وجه كل شيء ويقضوا على حياة كل شيء في

الأمصار التي ينزلونها، وأن يقضوا على أهلها أو يضعوهم بحيث لا يستطيعون أن يناجزوهم الشر، ويرفعوا رؤوسهم فيهم، ولذلك يلاحظ أن الأتراك استولوا مراراً على المجر، فكانوا يرحلون عنها بعد كل حملة يحملونها عليها، ولم يستطيعوا أن يؤسسوا فيها مستعمرة أو موطناً ثابتاً، وهم في انتصار يتلوه انتصار. والشعب العثماني الذي كفى لاحتلال ولايات مملكة الروم واستعبادها لم يكف لسكنى أقطار أبعد والاحتفاظ بها، وبهذا نجت ألمانيا وإيطاليا من غارات الأتراك، وربما استطاع العثمانيون أن يفتحوا العالم لو قدر لهم أن يُخَلّقوا الأقاليم التي ينزلونها بأخلاقهم ويُنزلوا فيها كثيراً من أبنائهم. قال: من الأسباب الرئيسية التي أضعفت القوة الجندية في الأتراك، الحروب التي كانوا أعلنوها على أوربا وفارس. فقد صدهم جهادهم الفرس عن حملاتهم على النصارى، وجهادهم في النصارى أضر بنجاحهم في حروبهم في آسيا. وكانت طريقة الأتراك في حربهم الفرس والشعوب النصرانية متباينة، فبعد أن قاتلوا زمناً مقاتلة ما وراء النهر والقفقاس، أصبحوا عاجزين عن قتال أوربا، فضعفوا عن قتال الفرس وعن قتال النصارى من أُمم الغرب. وظلوا بعدئذ بين عدوين تقريباً يهمهما زوالهم ويتحمسان بالحماسة الدينية. حمل الأتراك معهم مثل جميع البرابرة الذين أتوا من شمال آسيا نظام حكومة الإقطاعات، وكان أول عمل يأتيه أولئك الشعوب الرحالة تقسيم الأراضي بوضع بعض القيود والشروط لمقتطعيها، ومن هذا التقسيم نشأ نظام الإقطاعات. والفرق بين الأتراك وسائر البرابرة الذين فتحوا المغرب هو أن استبداد السلاطين المبني على الحسد والغيرة لم يترك مجالاً قط للإقطاعات أن تكون وراثية ليكون بجانبهم طبقة من الأشراف كما هو الحال في الحكومات الأوربية المطلقة، وهكذا لم تكن تشهد في المملكة العثمانية سوى سلطة رئيس مطلق إلى جانبها ديمقراطية عسكرية. شبهوا الأتراك بالرومان. وكانت بداءة هذين الشعبين واحدة، وما أشبه أشياع روملوس بأتباع عثمان. ويتفاوت الشعبان في نظر التاريخ، ذلك لأن العثمانيين ظلوا كما كانوا في الأصل. أما الرومان أيام فتوحهم فلم يزهدوا في معارف من فتحوا ديارهم. ولم يستنكفوا من الأخذ بعاداتهم ومعبوداتهم.

ولم يقتبس الأتراك من الأمم المغلوبة شيئاً، وتشددوا في أن يظلوا على بربريتهم. ولم تتأصل الأرستقراطية الوراثية في جانب الاستبداد المطلق، وربما كان ذلك أحد الأسباب التي قضي بها على الأمة العثمانية أن تبقى في حالة الهمجية. وكل من درسوا سير المجتمعات يدركون أن بالأرستقراطية تتهذب الأخلاق وتثقف عادات الشعوب، وبالطبقة المتوسطة تنتشر المعارف وتبدأ المدنية. إن فقدان طبقة الأشراف أو العالية في الحكومات الشرقية لم يبين لنا سرعة انحلال هذه الحكومات فقط، بل إنه حلّ لنا معنى جمود الفكر الإنساني في هذا الضرب من الحكومات، وكيف لم يتقد قيد غلوة. وما كان في المساواة المطلقة، ومن حكومة تغار من كل ما لا تكون هي منشأه ومصدره شيء من المنافسة والقدوة وحب المجد، وبدون هذه الأسباب يقضى على كل مجتمع أن يبقى في الجهل الأعمى الذي كان عليه لأول أمره، وأن يفقد معظم مزاياه ومصالحه. وبالنظر لزهد الأتراك في العلوم والآداب ظلت أعمال الصناعة والزراعة والملاحة في أيدي مواليهم وكانوا في الحقيقة أعداءهم، ذلك لأنهم كانوا يشمئزون من كل جديد، ومن كل ما لم يحملوه معهم من آسيا، فاضطروا أن يلجأوا إلى الأجانب في كل ما اخترع ونظم في أوربا، وهكذا لم يكن لهم نقض ولا إبرام في مصادر سعادتهم وقوتهم، وفي متانة جيوشهم وأساطيلهم. ولا يخفى ما أضاعه الأتراك بونائهم عن السير في معارج الرقي العسكري الذي أصاب منه الأوربيون قسطاً موفوراً، ولما كان الشأن في حروبهم لجيوش متحمسة بالتعصب كانت الغلبة لهم، فلما جاء دور العلوم البشرية وما أبرزته عقول الناس من المخترعات والمكتشفات، كان العقل المساعد هو المحد من الشجاعة. شبه بعضهم جيش الإنكشارية العثمانية بطوائف البرتوريان من الرومان، في حين كان هؤلاء منتخبين، وما جرى على خاطر الأتراك قط أن يختاروا أميرهم سواء في ذلك شعوبهم وجيوشهم. وكانت مصلحة الإنكشارية تقضي أن يلقوا الاضطراب في المملكة لئلا يخلو لها الجو فتستفيد شيئاً من الجديد. أما الأتراك الذين توطنوا في يونان فكانوا يحترمون العادات القديمة أكثر من

حملة محمد علي على الشام وهزيمة الأتراك:

غيرهم، كما يحترمون الأوهام وحب العمالات التي ينزلونها. ولما استولوا على مدينة الأستانة كانوا يوجهون أنظارهم على الدوام إلى المواطن التي أنشأتهم وتناسلوا فيها، فكانوا أشبه بسياح وفاتحين عابري سبيل في أوربا: من ورائهم قبور أجدادهم، ومهاد عباداتهم وكل ما يقدسونه ويحترمونه، وأمامهم شعوب يكرهونها، وأديان يريدون القضاء عليها، وأقطار يتراءى لهم أن الباري تعالى يلعنها. وأهم ما أخر الأتراك وقادهم إلى انحطاطهم، ذكرى مجد سالف، وإعجاب وطني لا تناسب بينه وبين ثروتهم وقوتهم، فكانوا يستهينون، ولهم القوة، بالأخطار التي تهددهم، فإذا كتب لهم النصر سكروا وقربوا القرابين وإذا غلبوا حملوا على رؤسائهم. هذا رأي المؤرخ الفرنسي في العثمانيين وعلة انحطاطهم وقال غيره وأغرق: إن شأن الأتراك العثمانيين في الولايات التي يفتحونها إذا رحلوا عنها شأن جماعة من البدو نزلوا منزلاً موقتاً ضربوا خيامهم فيه، إذا ترحلوا عنه من الغد لا تشاهد بعدهم في الأرض التي نزلوها سوى آثار أطنابهم، وعمد خيامهم فقط. حملة محمد علي على الشام وهزيمة الأتراك: أظهر والي مصر محمد علي وهو بعض عمال الدولة العثمانية مثالاً مجسماً من التجدد في الممالك، وبدت أمارات قوته بعد أن قرض المماليك من مصر، فلم يسع الباب العالي إلا الاعتراف بسلطته ومحاسنته، شأنه مع كل عامل أحرز قوة، على شرط أن يؤدي الجزية، ويعرف كيف يصانع رجال الدولة وسلطانهم. وكان محمد علي أسعد طالعاً من سلطانه، لأنه لم يصطدم يوم قام بإصلاحه بما اصطدم به السلطان محمود في تطبيق الإصلاحات، راى من المصريين قبولا لدعوته، واستعداداً للمدنية، وهو لم يقاوم الطبيعة كما قاومها الترك العثمانيون في السياسة التي استخدموها للقضاء على العناصر، بل استعرب وتمصر وألف بطانته من كل من يخدم مصر بدون عصبية. قام بما أراد في مملكته الصغيرة أحسن قيام، وفتح صدره لكل جديد،

بل فتحت مصر بفضله صدرها لذلك. بيد أن محمد علي لم يقف عند الحد الذي بلغه من الاسئثار بوادي النيل، وطمح إلى التوسع في الملك، شأن عظماء الفاتحين الطامعين في بسطة السلطان، ولكن أي البلاد يفتح؟ هل يتوسع في أفريقية؟ في صحراء ليبيا وصحراء النوبة وهي أصقاع لا توازي العناء. وربما صدمته دول الاستعمار عن التوغل في شمالي إفريقية أو في أواسطها، أم يقصد الشام وهي مفتاح كل فتح، وفيها من العمران ما يوازي العناء في استصفائها، وبينها وبين سكان مصر من وجه الشبه ما لا ينكر محله، ثم لا يصعب عليه إذا خفقت عليها أعلامه، أن يتقدم إلى الأمام، ويملك من أرض العرب والترك ما طاب له، ولا يعلم ما تحدثه الأيام. بحث محمد علي عن وسيلة لذلك فلم يلبث طالعه السعيد أن خلق له سبباً معقولاً لفتح الشام، وذلك أن بعض فلاحي الشرقية بمصر ضاقت نفوسهم من إعنات عماله بالجندية والضرائب، فهاجروا إلى جهات غزة ملتجئين إلى والي عكا، وكان عددهم ستة آلاف، فطلب منه محمد علي إرجاعهم خوفاً من كثرة عدد من يتبعهم إلى الشام، فامتنع الوالي من ذلك بدعوى أن القطرين تابعان لسلطان واحد، فاستشاط محمد علي غضباً خصوصاً وهو الذي استرضى خاطر الدولة على والي عكا وكانت غضبت عليه، ودفع عنه ستين ألف كيس غرامة اقتضتها منه لترضى عنه، فاتخذ عزيز مصر من ذلك حجة لفتح الشام فأمر سنة 1247 بإعداد جيش للسفر إليها عن طريق العريش وطريق البحر في آن واحد، وذلك لمحاصرة عكا من جهتين، وعين ولده إبراهيم باشا قائداً عاماً للجيوش، وسليمان بك الفرنساوي قائم مقام له، وجنّد ستة ألايات من المشاة وأربعة من الفرسان، ومعهم أربعون مدفعاً وكثير من مدافع الحصار الضخمة، وما يلزم ذلك من الأعتاد والمؤن. فوصل إبراهيم باشا مع الأسطول إلى يافا وفتحت له كما فتحت القدس ونابلس أبوابها، وكانت عكا أشهر مدن الشام بحصانتها وفيها خمسة آلاف مقاتل، فدام حصارها سبعة أشهر تحاصرها من البحر بوارج حربية مسلحة بالمدافع الكبيرة، ومن البر ثلاثون ألف جندي، وبريطانيا العظمى متغاضية عنه طوعاً أو كرهاً، إذ كان محمد علي من فرنسا نصير وظهير، وليست بريطانيا حرة مطلقة، في

تقدير مؤرخين وشاعر لغلبة محمد علي:

البحر المتوسط لتضرب أسطول محمد علي منذ أقلع من الموانئ المصرية إلى السواحل الشامية. قال المؤرخون: ولما كانت الجيوش المصرية تحاصر عبد الله باشا في عكا جاءه من نابلس ستمائة رجل واخترقوا صفوف العسكر المصري ودخلوا عكا لمساعدة وزيرها شاهرين سلاحهم ضاربين من عارضهم. وبعد فترة قليلة تمكنت الدولة من تجنيد عشرين ألف مقاتل بقيادة عثمان باشا والي حلب، فترك إبراهيم باشا قسماً من الجيش على عكا، والتقى في ضواحي حمص مع القسم الآخر بالجيش العثماني الذي كان كأخلاط الزمر لا نظام له ولا دربة، وأبلى المصريون بلاء حسناً حتى أوصلوا العثمانيين إلى العاصي وغرق كثير منهم فيه، واختفى عثمان باشا في حماة، ثم احتل إبراهيم باشا بعلبك وعاد إلى عكا وشدد الحصار عليها ففتحها بمعاونة العرب والدروز والموارنة الذين أتوه بأنفسهم طوعاً بعد أن ظهر على الأتراك في أرض حمص، وأتاه بشير الشهابي إلى المعسكر يريد الدخول في طاعته. فتحت عكا بضرب المدافع ثلاث ثغرات من سورها واستمر القتال بالسلاح الأبيض فاستسلمت الحامية، وأخذ عبد الله باشا واليها أسيراً وحمل إلى مصر مكرماً، ثم فتح الأسطول المصري سواحل الشام كاللاذقية وطرابلس وبيروت وصيدا وصور. وبعد أن فتح إبراهيم باشا عكا قصد دمشق ومعه الأمير بشير وأمراء حاصبيا وراشيا فجمع علي باشا والي المدينة عسكراً من الأكراد وأحداث البلد قدّر بعشرة آلاف، وكشف إبراهيم باشا بمنظاره خيول الأكراد ومقاتلة الدماشقة فوجه خيل الهنادي لمقاتلة الأكراد، ونبه على العسكر النظامي أن يقاتلوا الدمشقيين ولا يؤذوهم، بل يطلقون البنادق في الفضاء، فلما سمع الدمشقيون أصوات النار تهاربوا وقاتل الأكراد جهدهم حتى غلبوا، وفي إثرهم خيل الهنادي تقتل من تلحقه منهم. تقدير مؤرخين وشاعر لغلبة محمد علي: يؤخذ مما قاله البيطار أن إبراهيم باشا قد ساعده الأمير بشير الشهابي ورؤساء جبل نابلس، لأن عبد الله باشا والي عكا كان حاصر قلعة صانور وهدمها

وحصل منه ضرر لأهل نابلس وكان ذلك من أسباب الغلاء الذي وقع في الديار الشامية، وأن إبراهيم باشا بينا كان جيشه على عكا يقاسي الأهوال ويتجدل منه الرجال إثر الرجال جاء عباس باشا حفيد محمد علي باشا إلى البقاع وحصن بعض القلاع هناك ليقطع الطريق على العساكر العثمانية الآتية لقتالهم، وافترق أهل جبل لبنان وتلك النواحي فرقتين، فتابع النصارى منهم الأمير بشيراً المتفق مع إبراهيم باشا، وخالفهم الدروز وأظهروا الطاعة للسلطان، ثم قصد إبراهيم باشا إلى طرابلس وحمص ودخلهما بلا قتال. قال: وتوجه إبراهيم باشا إلى بعلبك وجاءه المدد من العساكر والذخائر وعاونه أهل الجبل من المسيحيين والدروز، وكان قبل ذلك وقعت بين هاتين الطائفتين فتن فرجع إليهم إبراهيم باشا وكسر شوكتهم فأطاعوه، ثم دخل عسكر إبراهيم باشا عكا من الأبراج على السلالم. وذكر بعضهم أن من جملة من قتل من عسكر إبراهيم باشا اثنا عشر ألفاً ومن عساكر عكا نحو خمسة آلاف. قال: وفي ثالث المحرم 1248 أرسل إبراهيم باشا إلى دمشق يطلب منهم أن يمكنوه من الدخول إليها فلم يرسلوا إليه جواباً ثم طلب ثانياً فأرسلوا إليه إنا لا نمكنك من الدخول أصلاً، وفي رابع عشر المحرم وصل بعض جيوشه إلى قرب قرية داريا فخرج إلى لقائهم خلق كثير من أهل دمشق فقاتلوهم قتالاً يسيراً، ولم يقصد كل من الفريقين إضرارا الآخر، وقتل من كل فريق رجل أو رجلان، ثم دخل إبراهيم باشا دمشق وقد فر منها واليها علي باشا وعسكره والقاضي والمفتي والنقيب ومحمد شوربجي الداراني وجميع أبناء الترك الموظفين وغالب أعيان دمشق، ثم عزم على قتال حمص فحصل بينه وبين العسكر السلطاني قتال قتل منهم نحو خمسة آلاف وأُسر نحو أربعة آلاف وفر باقي العسكر والباشوات وكانوا نحو ثلاثين ألفاً وغنم أموالهم وعتادهم وسار بعد ذلك إلى حماة فحلب فملكهما، ثم جاء إنطاكية وعينتاب واللاذقية واستولى على حصن الإسكندرونة وعلى حصن بيلان وكان فيه حسين باشا فحدثت بينهما مقتلة عظيمة. وفي البهجة التوفيقية أن الدولة جيشت جيشاً آخر بلغ عدده ستين ألف مقاتل بقيادة حسين باشا فالتقى الجيشان أمام حمص وانهزم الجيش التركي

وبلغ عدد القتلى من الترك 2000 والأسرى 3000 وتقهقر الجيش التركي إلى حلب، وحاول حسين باشا دخولها فمنعه أهلها خوفاً من انتقام إبراهيم باشا فتقهقر إلى بيلان فتقدم الجيش المصري ودخل حلب وتأثر الجيش التركي فهزمه وغنم منه خمسة وعشرين مدفعاً وكان غنم منه أولاً اثني عشر مدفعاً ثم غنم أربعة عشر مدفعاً آخر وقتل من العثمانيين أربعة آلاف ومن المصريين خمسمائة وخمسون، ووقع في يد إبراهيم باشا ألفان من العساكر النظامية أسرى من الأرناؤد والهوارة فأعطاهم الأمان وأدخلهم في جملة جنده، واختفى حسين باشا ولم يعرف له أثر، واجتاز إبراهيم باشا جبال طوروس وكان السلطان في هذه المدة جيش ستين ألف مقاتل آخر وفي رواية أُخرى مائة وخمسين ألف عسكري بالمدافع والمهمات ولم يكن مع إبراهيم باشا سوى ثلاثين ألفاً فالتقى الجيشان في سهول قونية ووقع القائد رشيد باشا أسيراً في أيدي المصريين وانهزم الأتراك وغنم المصريون منهم في هذه الوقعة نيفاً ومائة مدفع وكثيراً من الذخائر وأسروا عشرة آلاف عسكري بينهم كثير من الضباط والقواد وقتل منهم ثلاثون ألفاً. ويقول مشاقة: إن جيش حسين باشا لم يكن سوى أربعين ألفاً من الترك، على حين لم يكن مع إبراهيم باشا سوى اثني عشر ألفاً وكان أبقى من عسكره جانباً للمحافظة في الأقاليم المفتتحة وهلك الآخر في الحرب أو الوباء فغَلب، وهذا أقرب إلى المعقول. وقد استغرب كامل باشا لِمَ لم تستطع الدولة أن تجيش في الحال نحو عشرين إلى ثلاثين ألف جندي من حلب ودمشق وترسل أسطولاً إلى عكا يصد عنها أُسطول محمد علي أو يقيم العثرات في سبيله، كما أنه استغرب كيف أن العثمانيين لم يحفظوا خط رجعتهم ولم يقفوا موقفاً يردون به عادية أعدائهم، وانهزموا تحت نيرانهم إلى الإسكندرونة تاركين خمسة وعشرين مدفعاً وألقي أسير على حين لم يفقد من المصريين سوى عشرين جندياً. وقد وصف الشيخ أمين الجندي فعال الأتراك وهنأ عزيز مصر وولده إبراهيم وحفيده عباساً بفتح الشام فقال من قصيدة: والله غيَّر ما بهم من نعمة ... لما تغير حالهم وتبدلا وقد استباحوا المنكرات فلا تسل ... عما توقع منهم وتحصلا

وقضاتهم للسحت قد أكلوا فهل ... أبصرت حياً من مضرتهم خلا نبذوا الشريعة من وراء ظهورهم ... وطغوا وزادوا في الضلال توغلا وتمسكوا بالبدعة السوداء لا ... بالسنة الغراء فارتدوا على ومشايخ الإسلام أصبح علمهم ... جهلاً فلم تر قط منهم أجهلا وقال في وصف وقائع المصريين من الأتراك: فترى الكماة مبددين على الثرى ... والخيل من وقع القنابر جُفَّلا أضحت طعاماً للطيور لحومهم ... ودماؤهم للمشرفية منهلا واختل عقد نظامهم رعباً وقد ... غطوا الرؤوس ولم يغطوا الأسفلا وقال: وأتى بهم للرستن المشهور إذ ... بين المقابر قد تستر واختلا حيث الجهاديون حل وزيرهم ... في باب حمص وقد أبى أن يدخلا قامت بخدمته وطاعة أمره ... حمص إذ امتثلت ولم تبد القلا لما رأى السيف الإله أحدَّ من ... كل السيوف مدى الزمان وأطولا ألقى السلاح تأدباً وتواضعاً ... عند المزار وللضريح استقبلا حتى إذا نفدت ذخائره وما ... ألفى بحمص للعساكر مأكلا أمضى إلى أرض القصير ركابه ... يبغي العساكر أن تقوم وترحلا وهناك حاربهم وفرّق جمعهم ... في صولة والبر بالقتلى امتلا وقال: هل يغلب الأسد المجرب ثعلب ... مهما استعان بمكره وتحيلا وإلى حماة الشام سار وبعدها ... لمعرة النعمان يخترق الفلا حتى إذا اقتحم المضيق ببأسه ... وعلى الجبال سما وأشرف واعتلى تركوا الذخائر والخيام وكلها ... يخشون منه لدى الفرار تثقلا من يخبر الأتراك أن جيوشهم ... كسرت وأن حسينهم ولّى إلى والعز بالعرب استنار مناره ... ببزوغ شمس مراحم لن تأفلا

سقوط الأناضول وتضاؤل السلطان العثماني أمام

سقوط الأناضول وتضاؤل السلطان العثماني أمام الجيش المصري: وما زال الجيش المصري يتقدم في الأناضول حتى وصل إلى كوتاهية وأراد أن ينزل بورصة بحجة أن ليس له في أواسط الأناضول حطب ومؤنة في الشتاء، وكانت الطريق إلى الأستانة أمامه مهيعاً لا يقف فيها ما يوقف سيره، وأهل الأناضول والأستانة راضون عنه، وأشاع إبراهيم باشا أن مقصده من غزوته هذه توطيد دعائم السلطنة. وكان رجاله من الأوربيين يحثونه على أن يواصل السير ويفتح الأستانة، وأن لا يقتصر على فتح الشام وعلى ما أخذه من آسيا الصغرى ولو استمع إليهم لقامت الدولة المصرية في القسطنطينية بدلاً من دولة الأتراك، فأعاد محمد علي بذلك الدولة العربية. قال دي لاجونكيير: ولم يكن لمحمد علي هذا النظر البعيد وهذا الطموح، بل لم يكن يطلب غير الاستقلال والتوسع في الملك. وبقيت هذه المشكلة التي كان يتأتى أن يكون منها عراك بين قوميتين هما العربية والتركية، مقصورة على دائرة معينة من الحرب، لم تتعد حد القتال بين ملك وأحد عماله الناشزين عليه. ولما رأى السلطان محمود ما آلت إليه حاله، عرته الدهشة وداخله الفزع، فطلب معاونة الدول العظمى علناً لتعينه على محمد علي، وحرص خصوصاً على معاونة روسيا التي أصبحت بعد معاهدة أدرنة ترى نفسها حامية الدولة العثمانية، وليس من مصلحتها أن تكون هذه الدولة قوية، فأخرجت روسيا إلى الأستانة اثني عشر ألف جندي، واستدعى فيلق البغدان وهو مؤلف من أربعة وعشرين ألف مقاتل ليأتي إلى الأستانة، وعقدت معاهدة في كوتاهية على أن تبقى الشام وأذنة وجزيرة كريت لمحمد علي ويرحل عن الأناضول على مال معلوم يدفعه كل سنة قيل إنه ستون ألف كيس وذلك لمدة خمس سنين والسلطان لا سأل محمد علي غير ذلك، والخطبة تلقى في المساجد باسم السلطان. وعقدت روسيا معاهدة سرية مع الدولة العثمانية مدتها ثمان سنين، دعيت معاهدة خنكارا إسكله سي وهي دفاعية هجومية كان القصد منها جعل المضايق في قبضتها، فهلعت قلوب أوربا لذلك، وأخذت إنكلترا تحسب لهذه المعاهدة ألف حساب. ولما انتهت شؤون الفتح جعل إبراهيم باشا مقره في إنطاكية، فكان يحضر

أعمال إبراهيم باشا في إصلاح الشام:

أحيانا إلى حلب ودمشق وعكا ثم يرجع حتى يرقب عن أمم حالة بلاد الأكراد، وكانت منتقضة على الدولة العثمانية إذ ذاك. وكان إبراهيم باشا يوقع على كتاباته الرسمية الحاج إبراهيم والي جدة والحبشة وسر عسكر حالاً وبعد فتوح عكا صار توقيعه هكذا سر عسكر عربستان أي قائد جيوش بلاد العرب وفوض محمد علي ولاية دمشق إلى شريف باشا وماليتها إلى حنابك البحري، وكان هذا من المقربين جداً من محمد علي، ثم رأت الحكومة المصرية فصل حلب عن ولاية دمشق 1838م وأقامت واليا عليها إسماعيل بك ابن عم إبراهيم باشا حاكماً مستقلاً، ورجح مشاقة أن السبب في ذلك الثورات التي حدثت في الأقاليم والقلاقل التي ذهبت براحة الأهالي والتعدي والحروب التي أفنت معظم الرجال لأنها كانت كلها محصورة بإدارة واحدة وهي دمشق، ولذلك حصل للحاكم العام عثرات جمة في تنفيذ أوامره للبعد بين البلدان. وعهد تنظيم مالية حلب لجرمانوس البحري، وقيل: إن حكومة محمد علي كانت إلى الرفق بدمشق أكثر منها في حلب، لأن الحلبيين قاوموا إبراهيم باشا بعض المقاومة، ولم ينزلوا عن القلعة حالاً، وقال مشاقة: بل دخل بدون معارض فوضع عليهم غرامات حربية وغرمهم مالاً لاحتكار بعض الأصناف حتى يستفيد من ذلك أعوانه. أعمال إبراهيم باشا في إصلاح الشام: وكان من أول أعمال إبراهيم باشا الجليلة في الديار الشامية ترتيب المجالس الملكية والعسكرية، وإقامة مجلس الشورى وغيرها من النظم الحديثة، وترتيب المالية، جعل نظاماً لجباية الخراج ومعاملة الرعايا بالمساواة والعدل، لا تفاوت في طبقاتهم ومذاهبهم، ولذلك لم يلبث الأمراء والمشايخ وأرباب النفوذ أن استثقلوا ظل الدولة المصرية، وتمنوا رجوع العثمانيين ليعيشوا معهم كالحلمة الطفيلية تمتص دماء الضعفاء وينالهم من ذلك مصة الوشل ورأت الشام في أيام إبراهيم باشا إبطال المصادرات، وتقرير حق التملك، وتوطد الأمن في ربوعها، وأحييت الزراعة والتجارة والصناعة، وعمت تربية دود

فتوق وفتن وحصار الفلسطينيين لإبراهيم:

الحرير واستخرجت بعض المعادن ولا سيما الفحم الحجري في قرنايل. وفرض على لبنان 6782 كيساً يتقاضى الأمير ضعفيها ويدخر في خزانته الخاصة المال الزائد على المفروض. وأكد كثيرون أن بعمله هذا استعادت أكثر قرى حوران وعجلون وحماة وحمص وغيرها عمرانها القديم. وأخرب بعض القلاع التي كان يعتصم فيها الثائرون أحياناً مثل قلاع جبل اللكام وقلعة القدموس، وقرب العلماء والشعراء، ورخص للأجانب في إرسال معتمديهم إلى دمشق، وكانوا يمنعون من دخولها قبله، فينزل وكلاؤهم السواحل مثل صيدا وعكا وبيروت وطرابلس. ويقال على الجملة: إن الناس حمدوا حكومة محمد علي في الشام ولم يتبرموا بها لو لم يقم ابنه إبراهيم عملاً بايعاز أبيه بتجنيد الشبان ولو لم يثقل كاهل الأهلين بالضرائب - وأقل الضرائب الشخصية 15 قرشاً وأعظمها خمسمائة قرش - فإن هذا مما نفرت منه القلوب ولا سيما من كان يقع عليهم عبء معظمها مثل أهل حلب وأهل دمشق. فتوق وفتن وحصار الفلسطينيين لإبراهيم: لم تقع حوادث مهمة في السنين الأولى التي قضاها إبراهيم باشا في الشام اللهم إلا ما وقع في القدس سنة 1249 من فتنة بين المسيحيين قتل فيها خلق وما كان من عصيان النصيرية فانتدب الأمير بشير الشهابي لتأديبهم فأرسل عليهم عسكراً خيم في البهلولية فهرب النصيرية بقضهم وقضيضهم وتركوا مواشيهم وغلالهم وأمتعتهم ففتحها العسكر وأحرق لهم خمس عشرة قرية وقطع أشجارها ثم أحرق لهم ثلاثين قرية أخرى ثم خمسين أخرى وكانت مناوشات بين عسكر الأمير والنصيرية. وعلل مشاقة هذه الوقائع بأن المصريين لما شرعوا بتغيير عوائد العشائر، وطلب أموال أميرية زيادة على ما اعتادوا دفعه، نفرت قلوب الأهالي منهم، وصاروا يتمنون رجوع حكم الأتراك، وابتدأ الناس ينتقضون عليهم واضطر المصريون إلى الاستكثار من الجند لحفظ مركزهم الجديد، فعصت عليهم طائفة النصيرية في جبال اللاذقية وأرسل الحاكم عسكراً لقتالهم

من لبنان وحاصبيا وراشيا، فتوغلوا في تلك الجبال وامتلكوا عدة محال، ولعدم العناية واستخفافهم بالخصم آلت الحال إلى تراجعهم وقتل كثير من رجالهم، وآبوا إلى اللاذقية يتعثرون بأذيال الخجل، إلى أن جردت الحكومة على الجبال المذكورة عسكراً كثيراً وقهرت أهلها. وأوعز إبراهيم باشا إلى الأمير بشير أن يرسل ولده بألفي مقاتل إلى طرابلس سنة 1833م 1249هـ يجتمع هناك بسليم بك أحد قواد المصريين لتأديب العكاريين والحصنيين والصافيتين فذهب وقبض على بعض العصاة في طرابلس وعكار وكثير من الأعيان وجرت بينهم عدة وقائع. والغالب أن وقائع جبال النصيرية امتدت منها إلى صافيتا وعكار والحصن أو امتدت من هذه إلى تلك. وفي سنة 1250 حدث هياج في حلب ثم في بيروت وإنطاكية، واشتغل إبراهيم باشا بإدخال من وقع في يديه من الرجال في سلك الجندية، فهرب الناس وتشتتوا وتوقفت الأعمال، وطلب من نابلس إنفاذ قانون الجندية فخرج أهلها عن الطاعة وحاصروا إبراهيم باشا في القدس نحو شهرين وكان لبيت أبي غوش بين القدس ويافا يد طولى في هذه الفتنة ورئيسها قاسم الأحمد حاكم نابلس، فلما ضاق الحصار بإبراهيم باشا اضطر محمد علي أن يجيء بالذات إلى يافا وأرسل إلى قاسم الأحمد كتاباً يتلطف فيه مصحوباً بمال جسيم ويقول إنه لا يأخذ منه عسكراً ولا مالاً فرضى قاسم الأحمد وفك الحصار وخرج إبراهيم باشا حتى وصل إلى يافا، فوجد العساكر قد وصلت لنجدته، فرجع على عقبيه في الحال واشتغل بالقتال والنهب والسلب، فهرب قاسم الأحمد إلى الخليل فلحقه إبراهيم باشا بعسكره، واشتغل بالنهب والقتل حتى لم يبق ولم يذر. ثم دار على الساحل فأدب العصاة من أهله ولم يزل يتتبع آثار قاسم الأحمد حتى قبض عليه وقتله في دمشق، وقتل أربعة من أولاده وأمر بجمع السلاح من جميع البلدان. وفي تاريخ فلسطين أن إبراهيم باشا لما قضى بأخذ أموال ورجال من فلسطين ندم أصحاب الإقطاعات على سكوتهم، واجتمعوا في قرية بيت وزن غربي نابلس واتفقوا على محاربته، فنكث جماعة منهم مالوا معه ودلوه على الطريق والمياه، فعاجل المخالفين قبل أن ينظموا حركتهم، وفتح طريق

خطأ إداري لإبراهيم باشا ووقائعه في اللجاة ووادي

طول كرم ثم نابلس، وعطف على القدس فاحتلها، وقد تهافت الأهالي على قتاله من كل جانب فهاجمهم وكسر جمهور القبائل الشمالية عند شعفاط، ولكن أهالي الخليل هزموه عند برك سليمان وحصروه في القدس فاستعاد نشاطه وقارعهم ثانية وظفر بهم. خطأ إداري لإبراهيم باشا ووقائعه في اللجاة ووادي التيم: لا جرم أن إبراهيم باشا أخطأ في تطبيق قانون التجنيد في الشام على نحو ما فعل أبوه في مصر، وكان عليه أن يقنع والده بالعدول عنه إلى حين، لأن صاحب القطر الأصلي لم يقطع آماله من استرجاعه وهو يسعى بكل ممكن إلى استخلاصه من غاصبه، وكل ما تنفر منه قلوب الرعية يفرح به لأنه يخدم مصلحته. فمسألة التجنيد قللت من أنصار الحكومة المصرية في القطر لقلة اعتياد الناس الجندية في ذاك العصر، وقد أصبح القوم يعدون التجنيد من باب إلقاء النفس في التهلكة، وزال من الأفكار معنى الدفاع عن الوطن والذب عن مقصد شريف، وهذا الروح كان قد ضعف في الأمة بعد أن حكمها الغرباء قروناً بالعنف والقهر. قال في معلمة الإسلام: إن تجنيد الشعب في الشام أدى إلى هجرة عدد عظيم من أهلها إلى آسيا الصغرى والعراق. ووضع اليد على الحيوانات للأعمال العسكرية نتج منه انحطاط الزراعة والتجارة، ولئن كان أمن قد استتب في الأرجاء فإن الغضب العام لم يكن أقل منه. وجاء في تاريخ حماة أن إبراهيم باشا كان يحشر الناس لبناء الثكنة العسكرية في حماة ويقبض على كل من يجده في البلد فكانوا يفرون منه إلى رؤوس الجبال وتارة يختبئون في الأنهار وربما قلع الإنسان عين نفسه أو قطع إصبعه ليعفى من الخدمة العسكرية. ولقد اتفق دروز وادي التيم مع دروز حوران وعرب تلك الجهات وأبو تجنيد أولادهم، فأرسل والي دمشق 1251 عليهم جنداً فالتقوا به في جنوبي اللجاة في وعرة هناك كتبت فيها الهزيمة على المصريين، ثم أرسل عليها قائداً اسمه محمد باشا فقاتلوه وقتلوه وقتلوا خلقاً كثيراً، ثم أنفذ إبراهيم باشا أحد رجاله شريف باشا إلى قرية أم الزيتون في وادي اللوى في أربعمائة فارس فقتلهم

الشيخ حمدان الدرزي عن آخرهم ولم يبق إلا على مقدمهم. وذكروا في سبب هذه الوقائع أن إبراهيم باشا طلب 180 نفراً للجندية من جبل الدروز الشرقي كما طلب 1200 من دروز لبنان وأرسلهم إلى عكا، فطلب المشايخ إبدال ذلك بالمال وأوهموه الطاعة فلما عادوا إلى إقليمهم ثاروا عليه، فتوجه إليهم الجند بقيادة علي آغا البصيلي كبير طائفة الهوارة والصعايدة ومعه عبد القادر آغا أبو جيب فعقدوا هناك مع كبراء الدروز مجلساً للمشاورة في هذا الأمر، فامتنع الدروز من تسليم الأنفار وأرادوا الاستعاضة عنهم بالبدلات العسكرية. فقال البصيلي: إني أُرسل مراسلة استشير بها أفندينا. وعلى ذلك قرّ القرار. وفي تلك الليلة كبست الدروز العساكر وأذقانهم كؤوس المنية، وقتل أبو جيب وكان المتسلم في حوران وجبل الدروز، ولم يسلم من القتل سوى البصيلي وخمسة عشر نفراً، ثم جمع الدروز أمتعتهم ودخلوا اللجاة فجاءهم عسكر إبراهيم باشا فقتلوه. وهذه هي الوقعة التي قتل فيها الفريق محمد باشا. وقد بلغ عدد المقاتلة من الدروز والعرب عشرة آلاف. وفي مدونات مشايخ الدروز أنفسهم أن المقاتلة منهم لم يتجاوزوا الثمانمائة مقاتل ومعهم مائتان من عرب السلوط أحلافهم. وكانوا يربطون الطرق وينهبون القوافل بين بيروت ودمشق ويقتلون كل من وجدوه منفرداً من العسكر النظامي. وروى مشاقة أن العسكر المصري الذي أُرسل لأول مرة على دروز حوران كانوا 450 مقاتلاً من الهوارة قتلوا إلا قليلاً، فأرسل إبراهيم باشا عليهم نحو ستة آلاف من العسكر النظامي مجهزين بالمدافع مع أن الدروز يومئذ لم يكونوا أكثر من 1600 مقاتل. ولما عجز شريف باشا والي دمشق عن كبح جماح الدروز جاء إبراهيم باشا من شمالي الشام وكان هناك يرقب حركة الأتراك فساق قوة أُخرى، فرأى الرعب قد دبّ في قلوب عسكره من رهبة الدروز فعمد إلى ضربهم من جهة صرخد بفرسان الأكراد. ودارت رحى الحرب بينهم وتهارب الدروز من وجه إبراهيم باشا ورجاله إلى أن قادوهم إلى سهل دام، وهناك رجعوا عليهم وأعملوا السيف فيهم وفتكوا بجموعهم، ولما عرف إبراهيم باشا أن عسكره ذُعر من شجاعة الدروز عمد إلى تسميم الماء الذي كانوا يستقون منه فأرسل إلى الدكتور كلوت بك يستحضر منه

محلولاً قاتلاً فرفض هذا إجابة طلبه وحاول أن يمنعه من استعمال تلك الواسطة لما فيها من القسوة التي تشمل الحريم والأطفال معاً، أما إبراهيم باشا فكان يرى مصلحة الدولة أولاً والرعية ثانياً، ولما عجز عن إخضاع العصاة ألزم علماء الكيمياء بصنع محلول سليماني ألقاه في المياه وأعلم الدروز بذلك، فاضطر الدروز إلى ترك المكان بعد أن مات منهم عدد كبير عطشاً وأتوا إلى إقليم البلان. وكان دروز وادي التيم وإقليم بالبلان ينجدون دروز حوران بقيادة شبلي العريان ولما ضاق بهم ذراع إبراهيم باشا استدعى من مصر عسكراً من الأرناؤد فأمده أبوه بأربعة آلاف جندي بقيادة مصطفى باشا، وهم الذين حارب الدروز بهم في الوعرة أيضاً فلم يظفروا بهم. وكانت دروز الأقاليم تنجد دروز حوران سراً أولاً ثم أخذت تنجدهم علناً. أما نصارى لبنان فتجندوا أولاً مع العساكر المصرية وحضروا الوقائع التي حدثت بين المصريين والدروز في حوران ووادي التيم. وتجمع العصاة في قرية حينة من إقليم البَلاّن، فأطلق الأمير مجيد شهاب الغارة عليهم فانهزموا وقتل منهم 150 رجىً وبلغ شبلي العريان ذلك فحضر بعسكره من الوعرة وحاصر العسكر المصري في سراي حاصبيا فقتل من أمراء حاصبيا الأمير علي ثم أرسل العريان إلى الأمير محمود خليل أن يخرج من السراي ولا يشارك العسكر النظامي فخرج بجماعته اللبنانيين، واضطرمت نار الحرب بين العسكر المصري والعريان، ففر الجند المصري منهزماً نحو البقاع فتبعه العريان بمن معه وأعمل في أقفيتهم السلاح فقتل منهم نحو ثلاثمائة رجل وتشتت من عسكره في البقاع وعاد فخيم في قرية عيحا قرب راشيا، فأتته الدروز وتحصنوا قبالته في غابة هناك، وانتشب الحرب بينه وبينهم فلم يظفر بهم، ثم اشتبك الدروز مع عسكر إبراهيم باشا في وادي بكا فهجم عليهم إبراهيم باشا بعسكره وأطلق عليهم النار وأطبقت العساكر من كل جانب، فقتلوا من الجند المصري وقتل منهم مقتلة عظيمة اضطروا عقيبها إلى الفرار. قيل أنه قتل من الدروز في الوقعة الأولى 620 عدا من تأثرهم إبراهيم باشا وقتلهم، ثم حدثت وقعة في قلعة صخور وتفرق الدروز، وطلب العريان الأمان من إبراهيم باشا فأجابه إليه وجعله قائداً على ألف فارس هوارة. وفي سنة 1252 توجه الأمير مسعود

سياسة الأتراك والدول مع محمد علي:

الشهابي لحرب العرب العصاة في الصفا فاستسلموا له ومات من عسكره خمسون جندياً دنقاً. نعم بدأ الاشمئزاز من حكومة محمد علي سنة 1250 لما صدر أمره إلى ابنه إبراهيم باشا باحتكار أصناف الحرير للحكومة، وبضرب ضريبة جديدة على الأهالي، وبتجهيز عدة ألايات، وزاد الحنق لنزع السلاح، فابتدأت الثورة بجوار بحيرة لوط وعلى شواطئ الأردن، وفي هذه الوقعة التي انتهت بقتل قاسم الأحمد حاكم نابلس بدمشق، قتل إبراهيم باشا كثيراً من زعماء الأتراك ممن كانوا ساعدوا العصاة عليه، وأخذ الدلاوز والنصيرية والموارنة يستعدون للثورة يهيجهم عليها عمال الدولة العثمانية، وبريطانيا تحرض العثمانيين وتعلمهم كيف يسلكون. وقد روى كامل في تاريخه أن إبراهيم باشا فقد من جيشه في السنتين التايتين لأمر التجنيد نحو عشرين ألفاً. وممن انتقض على إبراهيم باشا أهالي الكرك فإنه لما فتح إقليمهم نظم إدارته وجعل له حامية من جنده، وبعد قليل تمرد السكان وذبحوا الحامية والموظفين على بكرة أبيهم، وقتلوا كتيبة من جنده كانت آيبة إلى مصر، فأضلوها الطريق وأهلكوا أكثرها. سياسة الأتراك والدول مع محمد علي: وكانت الدولة العثمانية بمعاونة الدولة البريطانية لا تفتأ منذ دخول المصريين إلى الشام تدس الدسائس في القطر، وتستميل رؤساء العشائر وأرباب الزعامات والأعيان، بالمال تارة والوعود الخلاّبة أُخرى. وبعد أن عقد محمد علي مع سلطان العثمانيين العقد الثاني وهو خمس سنين أيضاً ومضى أكثره وأدى المقرر عليه من المال، ارتأى العثمانيون بإيعاز بريطانيا العظمى أن يستخلصوا الشام وأذنة من محمد علي، فأرسل السلطان محمود سنة 1255 حافظ باشا في سبعين ألف مقاتل وفي رواية مائة ألف مجهزين بمدفعية مهمة ومعها طائفة من كبار ضباط روسيا وبروسيا وزحف إبراهيم باشا في أربعين ألفاً حتى انتهى الجيشان إلى سهل نِزّيب نصيبين، واشتبك القتال بين الجيشين ثماني ساعات ونصفاً فتراجع الجيش العثماني بعد أن قتل منه ستة آلاف وقيل أربعة وأُسر اثنا عشر

ألفاً، وغنم المصريون من العثمانيين في هذه الوقعة 166 مدفعاً و20 ألف بندقية، وقتل من المصريين أربعة آلاف وقتل المصريون من الأتراك في حال انهزامهم ما يبلغ خمسة أسداسهم. وذكر المصنف المجهول أن وقعة نزيب كانت يوم 11 ربيع الثاني 1255 24 حزيران 1839 وأن إبراهيم باشا استولى من العثمانيين على مائة وعشرين مدفعاً وعشرة آلاف بندقية وجميع مهماتهم وذخائرهم وعتادهم وقتل منهم أربعة آلاف وخمسمائة وجرح 18 ألفاً وأسر ثمانية آلاف وخمسمائة وقتل أمراء كثيرين. وقتل من جيش إبراهيم باشا أربعمائة وجرح ثمانمائة وفقد أربعمائة ثم قصد بيره جك البيرة فهرب العثمانيون وغنم منهم 32 مدفعاُ بعتادها. انتهى خبر الهزيمة إلى الأستانة بعد ثمانية أيام من وفاة السلطان محمود الثاني وجلوس ابنه عبد المجيد وهو فتى في السادسة عشرة من عمره. جلس السلطان الجديد وسلطنته مهددة بجيوش محمد علي، وليس للدولة جيش، وقد فقدت أسطولها في الإسكندرية، سلمه لمحمد علي أمير البحر أحمد فوزي باشا، فرأى السلطان أن يسادّ ويقارب، فأرادته الدول على أن يتربص ريثما يتوفق إلى حل مرضي بإجماع الآراء بينهن، فكان من ذلك حل المسألة المصرية العثمانية بالطرق السلمية الحربية، فاتفقت الدول العظمى ما خلا فرنسا أن لا تتجدد معاهدة خنكار إسكله سي بين العثمانية والروسية، وأن السلطان إذا اقتضت له معاونة لسلامة السلطنة تعاونه الدول، على أن تبقى المضايق والدردنيل تحت إشرافهن، وكان محمد علي يتذرع لدى الباب العالي أن تكون مصر والشام وأذنة ملكاً وراثياً له ولأولاده فأرضته الدول بمصر فقط ولم تنفعه معاضدة فرنسا، وقضي على محمد علي أن يخرج من أذنة والشام في عشرة أيام، وأن لا تبقى له مع مصر سوى باشاوية عكا أي فلسطين من أرض الشام. تقرر ذلك في مؤتمر لندرا 1840 بين إنكلترا وروسيا وبروسيا والنمسا بيد أن محمد علي أبى أن يخرج من الشام، فبعثت إنكلترا بأسطولها إلى السواحل بقيادة روبرت ستوبفورد فضربت بيروت واستسلمت باقي الثغور كطرابلس وصيدا وصور وقاومت عكا، وبعد أن أطلقت عليها البوارج الإنكليزية قذائفها ثلاث ساعات أصابت مستودع البارود فانفجر وقتل كثيراً من الرجال، ثم

انفراط عقد الحكم المصري:

اضطرت العساكر المصرية إلى العودة من طريق البر الذي كانت جاءت منه. وكانت فرنسا مناهضة هذه المرة للدول وقامت إلى جنب محمد علي تبرر عمله، وتناصره برأيها ومعاونتها الأدبية. ونشر السلطان عبد المجيد 1255 1839 خلال هذه المدة خط كلخانه أو البراءة السلطانية وهي أول قانون إصلاحي في السلطنة العثمانية يقضي بإعطاء العناصر العثمانية حقها وحريتها، ويضع نظاماً لاستيفاء الضرائب على نظام واحد، وتطبيق القانون العسكري وغير ذلك من الأمور الإدارية، فصفقت أوربا لقانونه ورجت الارتقاء لمملكته. وكان هذا القانون مما أوحت به بريطانيا واستملاه عقلاء الساسة من الأتراك في العاصمة. انفراط عقد الحكم المصري: ولما أحس أهل لبنان بواسطة دعاة البريطانيين أن الدول أزمعت إجلاء الجيش المصري عن الشام بالقوة إن لم ينجل مختاراً، أخذوا يناوشون الحامية المصرية وقتلوا بعض المتسلمين من المصريين، وكان الأمراء الشهابيون واللمَعيون يقوون العامة سراً ويحثونهم على الثبات، والإفرنج يخبرون الناس باتفاق الدول الأربع النمسا وبريطانيا وروسيا وبروسيا مع الدولة العثمانية على استخلاص الشام من محمد علي، ويحرضونهم على الدولة المصرية، ويؤكدون أن المراكب الحربية قادمة إليهم، واشتدت الفتنة بين أهل الجبل والأمير بشير وحرق إبراهيم باشا بعض قرى الجبل وقتل رهباناً وسبى حريماً. وكان أمير لبنان في ظاهره مع إبراهيم باشا خوفاً منه، وفي الباطن مع من يضمن له ولايته، وقبض المصريون على 57 رجلاً من أعيان لبنان بينهم أربعون من أمراء الشهابيين كانوا يدعون أهل بلادهم لخلع طاعة المصريين فنفاهم إبراهيم باشا إلى مصر ومنها إلى السودان، وأخذ أعوان أمير لبنان ينتقمون من الرعايا بجمع السلاح والخيل وطرح المغارم، وجاء على الأثر الأسطول العثماني والأوربي في أربعين قطعة صغيرة وكبيرة، تحمل خمسة

آلاف وخمسمائة جندي عثماني وألفي جندي أوربي، فأخذ إبراهيم باشا يجمع شمله في الداخل، ويستدعي جنوده من الساحل، وبحسب تقارير ضباط الإنكليز أن المقتول والمجروح والضائع من العسكر المصري لم يكن أقل من عشرين ألف جندي. وخرج إبراهيم باشا من دمشق 1256 بعد أن فرق ذخائره ومتاعه على المساجد والجوامع وبيوت الأرامل والأيتام، وأخذ معه جميع الحبوب والمواشي خارجاً من باب الله ونزل في سهل القدم، ومنها قصد إلى مصر عن طريق البر. وقبل رحيله عن دمشق أرسل خالد باشا التركي من الساحل أحمد آغا اليوسف في شرذمة من الجيش فخرج إليه إبراهيم باشا بجند قليل وهزمه شر هزيمة، فرجع إبراهيم باشا بالغنائم والذخيرة الوافرة، اما أحمد آغا فنزل بعسكره بعيداً عن دمشق في إحدى قرى الزبداني ينتظر إخلاء إبراهيم باشا المدينة، ثم خرج إبراهيم باشا صادعاً بالأمر الذي جاءه من والده بالجلاء عن الشام فخرج أهل دمشق لوداعه وخطبهم وحرضهم على الإخلاد إلى الطاعة والسكينة، ريثما تعود الحكومة العثمانية، وعينت الدولة علي باشا الذي كان والياً على الشام يوم دخول إبراهيم باشا، وكان أشد الأتراك تعصباً، وبقي قنصل بريطانيا المستر ودد الذي أثار الموارنة على إبراهيم باشا مفوضاً من الدولة التركية بمراقبة أعمال عمالها، وكان كثيراً ما يشير على الدولة بعزل هذا فتعزله ونصب ذاك فتنصبه، وكان الموظفون العثمانيون معه كموظفين صغار في خدمة آمر مطلق. أراد محمد علي أن يقاوم دول أوربا ويظل في الشام، ولكنه علم ببعد نظره أن ذلك متعذر، وأن أسطولاً ضرب بيروت وأحرق الأسطول المصري ونزل تسعة آلاف جندي إلى سواحل الشام، وأن الموارنة بعد أن كانوا عضد ابنه إبراهيم أصبحوا يعاونون الأوربيين على طرده من الشام، وتقدم أمير البحر بأبيه أمام الإسكندرية وأخذ من محمد علي معاهدة لم يترك له بها سوى مصر، وأنه من مقتضى معاهدة الدولة العثمانية مع الدول ترك الحق لبريطانيا بالاتفاق مع النمسا في محاصرة الموانئ ومساعدة كل من أراد خلع طاعة المصريين والرجوع إلى الدولة العلية، وبعبارة أخرى تحريضهم على العصيان لإشغال الجيش المصري في الداخل، كي لا يقوى على مقاومة السفن النمساوية والبريطانية

فضل حكم محمد علي:

وأن يكون لمراكب روسيا والنمسا وبريطانيا معاً حق الدخول في البوسفور لوقاية القسطنطينية متى تقدمت الجيوش المصرية نحوها. فضل حكم محمد علي: كانت حسنات حكومة محمد علي في الشام أكثر من سيئاتها. وضعت أصول الإدارة والجباية ورفعت أيدي أرباب الإقطاعات وأعطتهم من الخزانة رواتب تكفيهم، ولم يخلص من ذلك إلا الأمير بشير الشهابي والي لبنان، فإنه نال ولايته مباشرة من محمد علي في مصر، وظلّ يتصرف بلبنان، وبذلك رفعت سلطة المشايخ والأمراء المستبدين. قال مشاقة: كانت الدول التركية خبيرة بأحوال الشعب أكثر من الدولة المصرية فبعثت تدس الدسائس في المشايخ، وتغريهم بالمواعيد الفاحشة، ليحضوا الشعب على شق عصا الطاعة، طمعاً بإرجاع نفوذهم، وكان النصيرية أول من شق عصا الطاعة وتبعهم الدروز في حوران ووادي التيم، فقضى المصريون معظم أيام دولتهم في الشام بالحروب والقلاقل. ومن مآثر الحكومة المصرية التي عددها مشاقة تجفيفها المستنقعات وتصريف الأقذار في مجار خاصة، وتحديد أسعار اللحوم، والعدل بين الرعايا على اختلاف أديانهم وطبقاتهم، لا تكلف صاحب الحق نفقة لتحصيل حقوقه، وإنفاق كل مال في وجهه المخصص له، ومع ذلك ظل الشعب يسومها العداوة ويناقشها الحساب، لأنه اعتاد أن يكون محكوماً لا حاكم نفسه، عبداً لا حراً. وأكد أن البريطانيين استخدموا رجلاً من رجالهم السياسيين اسمه ودد فجاء كسروان بدعوى أنه يريد تعلم اللغة العربية، وأخذ يبث الدسائس حتى أعلن الكسروانيون العصيان، وقاتلوا جيشاً من جيوش إبراهيم باشا وجيوش الأمير بشير، ودام القتال أياماً، وتغلب العصاة على إبراهيم باشا مراراً، وهي المرة الأولى التي ذاق بها إبراهيم باشا طعم الانكسار. ومدح مشاقة الأمير بشيراً الشهابي الذي كان عضداً قوياً لإبراهيم باشا، وقد تولى حكومة الجبل من سنة 1785 إلى سنة 1840 وأرسلته الدولة لما استولت

رأي الغرباء في حكومة محمد علي:

على الساحل إلى مالطة وبقي منفياً فيها زمناً ولم يستطع أن يعود إلى إمارته. قال إنه كان شجاعاً مقداماً، وقائداً محنكاً، وسياسياً داهية، خدم الجزار بكل أمانة ونشاط، وخدم خلفه وحفيده مثله، وخدم الدولة التركية والدولة المصرية، وكان يعطي لكل خدمة ودولة حقوقها، وكان صادقاً إذا وعد أميناً على واجبه، ولكنه لم يخدم لبنان خدمة تذكر. وانتقد مشاقة حكومة محمد علي تقاعسها عن إشهار استقلالها عن الدولة التركية، مع أنه كان من أسهل الأمور بعد أن اكتسحت القطر، فلو نادى محمد علي بنفسه ملكاً مستقلاً وأرسل سفراء إلى عواصم الدول الأجنبية، وعقد معها المعاهدات الدولية لاعترفت له بالملك على الرغم من مقاومة دولة بني عثمان، ولو طلب منها الاعتراف بملكه واستقلاله عن الدولة التركية عقيب حادثة قونية، لأجبرتها على الاعتراف بسيادته لأنه استحال عليها إخراج جنوده من الشام، أو صد هجمات إبراهيم باشا وتقدمه إلى قلب عاصمتها، ولو فعل لكانت المملكة العثمانية عربية اليوم أو لكانت على الأقل أضيفت الشام إلى مصر وأصبح حظ القطرين واحداً. ولم يظهر سر امتناع محمد علي من الإقدام على هذا الأمر الخطير ولو فعل لغير حالة هذا الشرق القريب لا محالة. رأي الغرباء في حكومة محمد علي: أثبتت حكومة محمد علي في فتوحها أن المصري بل العربي إذا تهيأ له زعيم عاقل لا يقل عن الغربيين في سيرته وجلادته، وأنه لم يضره في القرون الماضية إلا فناؤه في الحكومة التركية، بدعوى أن الإسلام لا يفرق بين الأجناس، والعربي والتركي أخوان، وأن الظلم إذا جاء من مسلم كان مقبولاً!. وكانت حكومة محمد علي من أفضل ما رأت الشام من الحكومات منذ ثلاثة أو أربعة قرون، بل أن الشام في القرون الوسطى والحديثة لم تسعد بما يقرب منها فضلاً عما يماثلها. كتب المستر برانت قنصل بريطانيا في دمشق إلى سفير دولته في الأستانة سنة 1858م ما تعريبه: لما كانت الإيالة تحت حكم محمد علي باشا عاد كثير

إلى سكنى المدن والقرى المهجورة، وإلى حراثة الأرضين المهملة، وهذا ما حدث وخاصة في حوران وفي الأرجاء الواقعة حوالي حمص، وفي كل الجهات الواقعة على حدود البادية، وفي هذه الأماكن أكره العرب على احترام سلطة الحكومة، وجعل السكان بمأمن من اعتداءاتهم. وكان الشام بأسره تحت إدارة شريف باشا وقيادة الجيش الذي يبلغ عدده زهاء 40 ألف جندي نظامي وغير نظامي بإمرة إبراهيم باشا، فبحسن إدارة الأول تضاعف نجاح الأهلين وحسنت المالية في هذه النواحي، كما أن نشاط إبراهيم وحزمه وطد الأمن ومدّ رواق الثقة، وقد عدت الحكومة ظالمة لكنها في الحقيقة لم تكن تستطيع غير ذلك، إذ كان عليها أن تصلح غدة أمور مختلفة، وأن تبدل الفوضى والتعصب والقلاقل التي كانت سائدة بالعدل. وامتعض أصحاب المقامات العالية والأفندية والأغوات من ذلك كثيراً لأنهم كانوا يثرون من ابتزاز أصحاب التجارة والحرف وسائر الطبقات العاملة. وقد سر هؤلاء كل سرور لخلاصهم من الظلم الذي أنّوا تحت عبئه طويلا، واغتبط النصارى خاصة وفرحوا لنجاتهم من التعصب الذي أوصلهم إلى درجة من الذل لا تطاق. ولم يكن الفلاحون أقل سروراً منهم لأنه وإن كانت الضرائب المقررة تستوفي بكل شدة، لم يكن يستوفي منهم بارة زيادة، ولا تضبط حاصلاتهم وغلالهم، ولا يؤخذ منهم شيء دون دفع ثمنه، ولم يجبروا على تقديم خدمة دون بدل، وقد فرضت الخدمة العسكرية على المسلمين، وهذا الأمر الجديد كان ينبوع استياءٍ عظيم. أما النصارى الذين كانوا يدفعون الخراج فأعفوا من الخدمة العسكرية، والفلاحون الذين قطنوا القرى المهجورة أسلفوا مالاً لإصلاح بيوتهم وتموينها، وأعفوا من الضرائب مدة ثلاث سنين. وقصارى القول أن جميع هذه المساعدات بذلت لزيادة الحاصلات، وكم من مرة ذهبت الجنود بإمرة إبراهيم باشا لإتلاف بيوض الجراد وما نقف منها وبفضل هذا الحكم الحازم العادل المحترم من الجميع أخذت البلاد تترقى في مدارج النجاح والنماء، فلو طال الحكم المصري على الشام لاستعادت قسماً عظيماً من وفرة سكانها القدماء، وأصابت شطراً كبيراً من الثروة التي كانت في الماضي، وآثارها لم تزل ظاهرة للعيان في القرى والمدن العديدة في جهات

حوران، وفيما وجد في البادية حيث ترى فيها الطرق التي اختطها الرومانيون. قال: ولم يكد المصريون يطردون من القطر ويتقلص ظلّ سطوتهم وقد كانوا أخضعوا الجميع لحكمهم الشديد حتى عاد القوم إلى نبذ الطاعة وخلفت الرشوة والتبذير في إدارة المالية النزاهة والاقتصاد ومنيت المداخيل بالنقص، واستأنف عرب البادية غاراتهم على السكان فخلت القرى والمزارع المأهولة جديداً بالتدريج حتى أمكن القول إنه لا يوجد ثم ظل للأمن على الحياة والأملاك وكل شيء يدل على عودة حالة الفوضى إلى هذه الديار التي تركها المصريون. هذه أجمل صفحة في وصف حكم محمد علي في الشام كتبها إنجليزي. وقال برييه الفرنسي في كتابه الشام على عهد حكومة محمد علي ما تعريبه: ما من بلدة نالت ما نالته الشام من العمران والمجد في كل مظهر من مظاهر الحياة، وما من بلد عانى شقاءً كشقائها من تقلبات الزمان، وسقي أديمها بالدماء، فإن خصبها المدهش وجمال إقليمها وتنوعه، ومركزها المهم الذي يقرب إليه جميع الأجزاء القديمة التجارية من الأرض، كان يجعل منها في القديم النقطة المتوسطة للعلوم والتجارة في العالم، ولكن هذا المركز وهذه المنافع قد نبهت أطماع الفاتحين، وجلبت غير مرة على الشام ويلات الحروب. وكانت الشام على عهد الأتراك العثمانيين مقسمة إلى أربعة إيالات: حلب وطرابلس وعكا ودمشق، وقبل مجيء إبراهيم باشا إلى الشام كانت حكومة هذا القطر من الممالك العثمانية التي تتعب السلطنة، ولا يمكن حصر السلطة في يد واحدة، لأن معنى ذلك تسليم سلطة كبرى لرجل واحد تمكنه من العصيان وكثيراً ما كان السلطان سلطاناً بالاسم مع أن الشام كانت مقسمة إلى أربع إيالات كما حدث في زمن عبد الله باشا وغيره ممن شقوا عصا الطاعة وكثيراً ما كان الباشوات يشنقون كما حدث في حلب على جدران قصر الشيخ يابران ولطالما شنقت عليه باشاوات بيد الأهالي كما أحرقوا باشا دمشق. وكان الدم يجري لأقل شبهة والعذاب الأليم يحل فيشنق الباشاوات وتستل أرواحهم من أسفلهم ويجعلون العصاة على الحديد ويحزون الرؤوس وبذلك كان يتمكن الباشاوات من توطيد سلطانهم على الرعايا وإلا أصبحوا عرضة للحرق والشنق. قال: ومن المحقق أنه ليس إلا طريقة الإرهاب والقوة التي

حكمنا على أنفسنا وعلى غيرنا:

تؤثر الأثر المطلوب في شعوب الشام وتردهم إلى الطاعة، وقد عرف إبراهيم باشا كيف يؤثر في الشاميين وذلك بأن استمال إليه قلوب أشرافهم وأعيانهم وألقى بينهم الشقاق ضمناً عند الاقتضاء، وبذلك تيسر له حكم هذه الإيالات ووضع ضرائب شديدة عليها ما كان القوم يتحملونها لو لم يكونوا من عناصر وأديان مختلفة، وكان شريف باشا حاكماً على الشام كله وتحت يده الحكام، وكان طماعاً في المال. حكمنا على أنفسنا وعلى غيرنا: هذا هو الإنصاف في الحكم على حكومة إبراهيم باشا وما هي في الحقيقة إلا روح محمد علي الكبير التي كان يستمد منه ابنه، ولا يصدر إلا عنه في الخطوب ولا يقطع أمراً دون الرجوع إلى رأيه، حتى جاءت أحكام المصريين نموذجاً في الإدارة، ولو عزمت الدولة العثمانية أن تستفيد من هذا الدرس لأرادت عمالها على تطبيق خطط إبراهيم باشا في الإصلاحات التي قام بها خلال التسع سنين التي قضاها في هذا القطر، ولكن العثمانيين ابتلوا بالإهمال والغرور، لا يعمدون إلى حسن الإدارة ويتظاهرون بالإحسان إلا يوم الشدائد، فإذا زالت عادوا إلى طبائعهم في إعنات الرعية وإلقاء الحبل على الغارب، ونسوا ما أعطوا من عهود، وما وضعوا من القوانين. وهذا ما دعا إلى ظهور الفروق الكثيرة بين الإدارتين المصرية والعثمانية بعد رحيل جيش إبراهيم باشا عن هذه الديار، وهو الجلاء الذي اقتضته الدول الكبرى بل الدولة البريطانية التي حملت الدول على موافقتها على رأيها لآمال لها تريد تحقيقها في مصر والشام، لتكون هي الحاكمة المتحكمة في مصالحها لا الدولة المصرية الفتية التي تحب فرنسا وتساهمها سياستها أحياناً. وما مصر والشام إلا طريق الهند الأقرب، بل مفتاحها من البحر المتوسط، وإذا أردنا أن ننظر بعين المؤرخ المنصف نرى بريطانيا العظمى هي التي اقتضت سياستها القضاء على أماني محمد علي بل أماني العرب من إنشاء دولة عربية، كما أوجبت سياستها قبل ثلاثين سنة أن تدعو الدولة العثمانية إلى حرب الوهابيين في نجد والحجاز حرباً عواناً لأنه كان

يخشى أن يؤسسوا أيضاً دولة عربية جديدة ربما كانت عثرة في سبيل أماني تلك الحكومة في شبه الجزيرة العربية. ولو نظرنا إلى ما وقع لإبراهيم باشا في الشام لأول الفتح، لم نره إلا قتالاً مع العثمانيين أي قتال الجيش المصري مع الجيش العثماني، وإذا كان في الجيش الذي دافع عن عكا أو عن دمشق أو يوم حمص مثلاً أناس من الأكراد والهوارة فهؤلاء ليسوا شاميين وهم مستأجرون يحاربون مع كل من يعولهم ويرزقهم، على نحو ما وقع لإبراهيم باشا من هذه الفئة، أسرهم من صفوف الدولة ثم حولهم إلى صفوفه فأخذوا يقاتلون معه، ولم يلتو القصد على إبراهيم باشا إلا لما دخلت أصابع الأجانب، وأخذوا يثيرون عربان نابلس وسكان كسروان وجبال النصيرية ودروز لبنان ووادي التيم وجبل حوران وكل من عرفوا بالمضاء من سكان الجبال، وأما المدن والسواد الأعظم من الناس فقد استقبلوه وأخلصوا له وشعروا بحسن إدارته ولا سيما المسيحيون والاسرائيليون وكلهم أدركوا الفرق بين حكومته وحكومة الترك. ولقد تجلى في وقائع محمد علي في الشام تجلياً لا مجال للريب فيه، أن اختلاف المذاهب وتباين التربية، كان من العوامل القوية في إلقاء الفتنة بين أبناء هذا الوطن، وأن دول أوربا عند أغراضها تستحل بث بذور الشقاق بين المتآلفين، وتستخدم وسائل غريبة في تكدير صفاء الآمنين، وتعبث بعقول السّذّج المساكين، وأنها قلما اهتمت لمصلحة أمة من أمم الشرق، بل تهمها مصلحتها فقط، ولو كانت تريد الخير للشام لتركته يسعد ويرقى بحكم محمد علي الذي كان بإقرار رجالها من أرقى ما عهده القطر منذ قرون، ولعل أبناء الشام أيقنوا بخطإهم في الانتقاض على الحكومة المصرية وهي مثلهم عنصراً ولغة وعادات أنهم كانوا على ضلال في الحنين إلى حكم العثمانيين، وما كان من حقهم أن ينسوا في سنين قليلة كيف كان حكامهم يسارعون في الإثم والعدوان. وكان على الشاميين منذ عهد المصريين أن يدركوا أن الدولة دب فيها دبيب الفساد، وأن من العناء رياضة الهرم، وأن الهرم إذا نزل في الدول لا يرتفع.

العهد العثماني من سنة 1256 إلى 1277

العهد العثماني من سنة 1256 إلى 1277 رجوع الشام إلى سالف بؤسها على العهد العثماني وفتن الدروز والنصارى أشبه الشام بعد الحكومة المصرية حال من كان في محنة مستديمة وشظف عيش، ثم حسنت حالته بان عُلّم النظام والسكون، ومتّع ببعض الراحة، وغذي بالأطايب، فتغيرت طبيعته، وتبدلت نفسيته، وبمحاولة إرجاعه إلى سابق مألوفه، عُدّ من يحاول ذلك جانياً عليه. وما كان يحلم أولاً بأن يستمتع بغير ما كان له، وبرجوعه سيرته الأولى تجلى له الفرق وتنغص عيشه. تبين الفرق بين الإدارتين المصرية والعثمانية ولو طال عهد المصريين أكثر - وكانوا في صدد الفتح يتخوفون بادرة العثمانيين كل حين - لسعد القطر حقيقة وأيقن حتى من كانوا ينعمون من دماء الأمة على العهد العثماني أن طريقة المصريين في المساواة بين الطبقات والمذاهب المختلفة، والشدة في إنفاذ القوانين، وتقليد الغرب في كل أمر جوهري أفضل طريقة لراحة السكان، وكان يرجى أن يألفوا في مدة قصيرة ما تأصل في فطرهم على توالي القرون، وتعودوه من حكم أرباب الإقطاعات الذين صدهم المصريون عن تجارتهم الشائنة التي ألفوها زمن العثمانيين، وهي الاتجار بالجباية يجبونها أضعافاً، ويسلبون الباقي من الأمة بمرأى من الحكومة ومسمع. وراعي الشاة يحمي الذئب عنها ... فكيف إذا الرعاة لها ذئاب لم تكد تخلي الجنود المصرية أرض الشام حتى رجعت إلى حالتها القديمة وثارت العداوات في الصدور، وزادت الدسائس الأجنبية، وأخذت فرنسا

تساعد الموارنة، وبريطانيا تعاون الدروز، فتعدى هؤلاء على الموارنة في سنة 1257 ودخلوا دير القمر وارتكبوا فيه الفظائع المنكرة، وزحفوا على زحلة بثمانية آلاف، وانتسب القتال بينهم وبين أهلها، ومعهم أهل بعلبك، فانهزم الدروز شر هزيمة، ولولا تدخل الجيوش بشدة لامتدت الثورة. وانجلت حادثة دير القمر عن مائة وتسعة قتلى من النصارى وعدد كبير من الدروز قدره مشاقة بأكثر من خمسمائة لأنهم كانوا مهاجمين قال: ولما ظهر للنصارى غدر مشايخ الدروز بهم في هذه الحادثة نفروا منهم نفوراً تاماً، وطلبوا من الوزير حاكماً عليهم ورفع سلطة المشايخ عنهم فأجابهم إلى ذلك، لأن هذا ما كان يرغب فيه، ولولاه لما كان الأتراك يختمون عروض المحاضر طعناً على أمراء الجبل ويحضون أهله على الفتن. عاملت الدولة العثمانية بعد عودتها إلى القطر كل من ساعدها على مقاصدها وخدمها أو تظاهر بخدمتها وتجسس لها زمن الحكومة المصرية المعاملة التي ترضيه، فرجع أرباب النفوذ والإقطاعات إلى سالف مجدهم، المبني على تقطيع أوصال الشعب والتغذي بلحمه. وأقامت بدلاً من الأمير بشير الشهابي الأمير بشير قاسم الشهابي حاكماً على لبنان. وكان دون سلفه إدارة ومعرفة، وأقصت الأمراء الشهابيين عن وادي التيم، وأقامت شبلي العريان متسلماً لها لأنه خدم أتراك في حرب المصريين، نزع من النصارى سلاحهم وقدم للدروز باروداً وذخائر، وكان يرى سلب القرى المسيحية وإحراقها من عوامل الخدمة لطائفته ودولته. ولم يكن من مصلحة الدولة أن تسود الألفة بين الطوائف، وأن يتعامل أهل الوطن الواحد بالحسنى، فكان أكثر رجالها يوقدون جذوة التعصب الديني ويساعدون الدروز على النصارى في لبنان، حتى يتيسر للدولة أن تنزع الحكم من أرباب الإقطاعات وتقيم له والياً كما لطرابلس وصيدا والقدس وحلب ودمشق، ولذلك كثرت الفتن والمناوشات بين النصارى والدروز، فأثار الأمير قاسم الشهابي الدروز على الموارنة 1841م فقتلوهم ونهبوهم فتدخلت الدولة وعزلت الأمير قاسماً الشهابي لتقيم مكانه والياً عثمانياً، نصبت عمر باشا النمساوي ثم عزلته، وجعل الجبل قائم مقاميتين الأولى نصرانية والثانية

فتن أهلية في الجبال والمدن:

درزية، فلم ترتض الطائفتان ذلك، وأصبحت الأولى بيد فرنسا والثانية بيد إنكلترا، واختل الأمن في أرجاء الشام لمحاولة الدولة نزع السلاح من فئة أو أهل ناحية وإبقاءه في أيدي آخرين. كتب قنصل إنكلترا في دمشق سنة 1841م 1257هـ إلى نجيب باشا كتاباً قال له فيه: إذا كانت الحكومة ترغب حقيقة في استتباب الأمن ففي وسعها أن تبدأ بإظهار حسن نيتها فتمنع تخريب القرى وتدمير أماكن العبادة الكائنة على بضع خطوات من دمشق. إن نزع السلاح من يد الشاميين عامة أمر مرغوب فيه لو تسنى إتمامه دون التخوف من حدوث ثورة عامة، بيد أنا رأينا هذه الوسيلة مقصورة على نصارى لبنان الغربي ولبنان الشرقي، على حين سمح لسائر أتباع السلطنة بحفظ أسلحتهم، ومع ذلك لا ينبغي أن يغرب عن البال أن الباب العالي اعترف بصدق رعاياه النصارى وأمانتهم في هذه الأرجاء إذ لجأ إليهم قبل الجميع فوزع عليهم أسلحة لطرد عدو الطرفين يريد إبراهيم باشا المصري كما أن احتلال جنود حضرة السلطان الآن للشام هو نتيجة مساعدة اللبنانيين. فتن أهلية في الجبال والمدن: وفي سنة 1842 قبض عمر باشا النمساوي على زعماء الدروز فاجتمع أتباعهم وهجموا على سراي بيت الدين وكان هناك فتهددهم، وحضر شبلي العريان بجنده المنظم واجتمع في الطريق بفرقة من الأرناؤد قادمة إلى عمر باشا ليرسلها لتأديب الدروز فوقعت بين الفريقين موقعة فهزمهم جند عمر باشا في أقل من ساعة. وظلت مراجل الأحقاد في لبنان تغلي والحكومة تجهل أو تتجاهل السبيل لقطع شأفة الفتن من الجبل وغيره من الأصقاع الشامية. وقد عينت سنة 1260هـ رجلاً لجباية الأموال الأميرية من جبل النصيرية ومطاردة بعض الأشقياء، فلما بلغ ناحية البهلولية طلب مقدمي الكلبية ورؤساءهم فأرسلوا إليه رجلين وهما إسماعيل عثمان وحبيب مخلوف فأرسلهما في الحال إلى اللاذقية مقيدين وأخذ في تعذيبهما، وانتهى الخبر إلى الجبل فتجمع نحو خمسمائة رجل من أهله

ومضوا إلى اللاذقية وهاجموا دار الحكومة وكسروا السجن وأخذوا السجينين ومن معهما من المأمورين، فصدر الأمر بأن يجهز الجند الذي كان معه مع جميع الأهالي النازلين بين أنطاكية وصافيتا، فتألف منهم جيش عسكر في القرداحة، فأرسل النصيرية بعض نسائهم إلى القائد يحملن أعلام الأمان ويطلبن العفو، وأن يضمن لهن سلامة الأنفس والأموال والعيال، فأبى إلا إنزال العقوبة بالثائرين، وكان عددهم نحو ستمائة، وعدد العسكر النظامي والمقتلة من الأهلين نحو عشرين ألفاً وقيل ثلاثين ألفاً، وكان في قرية المران شيخ من أهل الدين والصلاح يعتمد العلويون عليه وكان يعرف علم الفلك فأخذ الطالع كما جاء في مصدر علوي وقال لهم: إنه لن يفقد منهم إلا رجل يصاب برجله ولا يموت وسألوه عن موعد الهجوم فقال: غداً الظهر فنزلت الطمأنينة على قلوب الثائرين خصوصاً وقد وعدهم أنهم لا يصابون بأذى، ولما حان وقت الظهر تجمهر الثائرون وانقسموا ثلاث فرق وهاجموا العسكر، ودارت الدائرة على الجيش وقتل القائد وهلك من عسكره على ما قيل نحو ألفي رجل وغنم النصيرية جميع الذخائر، فأرسلت الحكومة على الثائرين وفداً يدعوهم إلى الطاعة بصورة لطيفة ويضمن لهم سلامتهم فأطاعوا وسلموا الذخائر بأسرها إلى الحكومة. وفي سنة 1261 قام الدروز ثانية في لبنان وقتلوا النصارى واستمرت الفتن إلى سنة 1277. وفي سنة 1845 أرسل والي دمشق إلى دروز حاصبيا يحضهم، على رواية مشاقة، على قتل النصارى ويمدهم بالسلاح والذخيرة، وأوعز إلى دروز حوران أن يقدموا لمساعدتهم، وسأل مثل ذلك مسلمي البقاع فهرب نصارى حاصبيا قبل الإيقاع بهم. فانقض عليهم الدروز في جهات راشيا وفتكوا بمعظمهم وتشتتوا في تلك الأرجاء ومنهم من سلم وجاء زحلة، ومنهم من عاد إلى حاصبيا، ومنهم من قتل، وعينت الحكومة أحد أمراء الشهابين حاكماً على حاصبيا لكنها لم تسمح له بمعاقبة المعتدين وزعماء هذه الفتنة. وفي غرة محرم سنة 1267 وقعت فتنة بحلب سرت إلى حي باب النيرب وهي قرلق وبانقوسا فنهبت أحياء النصارى وأحرقت ثلاث كنائس ودام النهب ثلاثة أيام، ثم قام الأهالي على الوالي وطلبوا منه رفع الفردة والنظام

حرب القريم منشؤها في الشام وكوائن درزية

فامتنع من ذلك فضربه الأوباش، ثم انكسر سكان الحارات وانتشر الحريق في الأحياء المذكورة والنهب والقتل فقتل من الحلبيين نحو خمسمائة رجل كلهم من الرعاع ومن العسكر نحو ذلك وقبض على مثل هذا المقدار من الناس، ثم بحثوا عن أمتعة النصارى المسلوبة فأرجع إليهم غالب ما نهب منهم. وفي هذه السنة عصى محمد الحرفوش أمير بعلبك وجمع عسكراً من بعلبك وإقليم البلان، فأرسلت عليه الدولة قوة بقيادة مصطفى باشا فانهزم أمامه إلى قرية معلولا وتحصن بها مع اخوته وأولاد عمه فحصرهم الجنود إلى أن دخلوا عليهم بدلالة أهل القرية، فأسر الأمير محمد وطوق القائد العثماني بعلبك بثلاثة آلاف جندي فاستسلم أمراؤها فقبض عليهم وأرسلهم إلى دمشق فنفوا إلى كريت، وقضى بذلك على عامل من عوامل حكومة الإقطاعات. وفي نكبات الشام أن الحروب الأهلية التي حدثت في دير القمر وزحلة وغيرهما من الأنحاء سنة 1848 1265 انتهت بقتل ثلاثة آلاف رجل من النصارى قتلوا في لبنان والبقاع وبعضهم في المدن ونحو أربعمائة رجل من الدروز ولولا محاربة الدروز النصارى بالخيانة ومساعدة الحكومة لهم في كل مكان على نزع السلاح لكثر عدد القتلى وزاد على هذا القدر، وأما الخسائر المالية فلم تقدر في ذلك الحين. وفي سنة 1268 امتنع دروز حوران من دفع الخراج فندبت الحكومة لإخضاعهم والي دمشق محمد باشا القبرصي بفرقة من الجند فوقعت بينه وبينهم معركة دامت بضع ساعات فانهزم والي دمشق ووضع الدروز أيديهم على مهمات الجند والمدافع، ثم توسط قنصل بريطانيا فأرجع الدروز مسلوبات العسكر، وتعرف هذه الوقعة بوقعة صاري عسكر سر عسكر انتهت سنة 1269. حرب القريم منشؤها في الشام وكوائن درزية ونصيرية: وفي سنة 1268 حدثت في القدس وبيت لحم أمور تألفت منها الأسباب لنشوب الحرب العظمى بين الدولة العثمانية وروسيا وهي الحرب المعروفة بحرب القريم 1270 وذلك لاختلافات قديمة بين الروم واللاتين بسبب كنيسة

القيامة وكنيسة المهد في بيت لحم. ادعت كل من الطائفتين حق الريسة والتقدم على الأخرى باستلام مفاتيحها، وكانت روسيا طمعت في الشرق وقامت تطالب بحماية الروم الأرثوذكس أبناء مذهبها كما ادعت فرنسا حق المطالبة بحماية موارنة لبنان والطوائف البابوية منذ منتصف القرن الثامن عشر، وحاولت الدولة أن تغفل عن مطالبة قيصر روسيا، فاتخذ من ذلك حجة وقام يريد إنفاذ وصية بطرس الأكبر القاضية بافتتاح الأرض العثمانية والاستيلاء على الأستانة. هجم الأسطول الروسي في البحر الأسود على الأسطول العثماني وحطمه، فنشبت الحرب بين الروس والعثمانيين وانتصر الروس وكادوا يبلغون الأستانة، فأرسلت إنكلترا وفرنسا جيشاً وأساطيل إلى أرجاء البحر الأسود، وقاتلت الروس وانتصروا عليهم في سواستبول، وكذلك بعثت ساردينيا فرقاً من الجند الإيطالي، دفع الدول إلى ذلك أمر غير حب المحافظة على الدولة العثمانية، وهو الخوف من خروج روسيا إلى البحر المتوسط وبخروجها خطر على أوربا بل خطر على بريطانيا العظمى وطريق هندها، وبعد حرب ثلاث سنين 1856 ظفرت الدولة مع الدول الأخرى بالروس ودفعت بريطانيا نفقات الحرب، وحصلت الدولة الروسية على مطاليبها وامتيازاتها، ومن شروط المعاهدة ضمان استقلال المملكة العثمانية وسلامتها، والحظر على أية دولة أن تدخل في شؤون تركيا الداخلية ومساواة النصارى مع المسلمين في الحقوق. ولما رأى رجال الدولة أن الطريقة البالية القديمة في إدارة الملك العثماني تودي بها لا محالة أقنعوا السلطان بنشر الخط الهمايوني وبه قبلت الدولة 1856 في عداد الدول الأوربية فكان هذا العامل النافع من نتائج حرب القريم، وبان للدولة وجه خطأها في اعتزالها السياسة الدولية. وفي سنة 1273 وقعت فتنة بين الدروز والحوارنة في اللجاة فاز فيها الدروز وفي سنة 1275 1858 قهرت الدولة النصيرية بقهر زعيمهم إسماعيل هواش وجردتهم من كل رعاية وخصوصية، والسبب في هذه الفتنة أن طائفة الكلبية عصت أوامر الحكومة فأرسلت هذه خمسمائة فارس ضربت قرى الساحل، واتصلت الأخبار بالنصيرية فهاجموا الجند وقتلوا منهم فجهزت الحكومة بعد أيام عسكراً عظيماً وهاجمت الطائفة وجعلت قوة لها في الساحل وزحف النصيرية ولم يلبثوا

مبدأ المذابح المعروفة بحادثة سنة الستين وحادثة

أن أحاطت بهم العساكر من كل جهة فدافع النصيرية حتى فقدوا خمسة وعشرين رجلاً وفي اليوم التالي التحم القتال ودامت المناوشات والمقاومات أربع سنين حتى أرسلت الدولة عسكراً جراراً، وندبت كامل باشا لإجراء الصلح بين الدولة والنصيرية فتم ذلك على يده. مبدأ المذابح المعروفة بحادثة سنة الستين وحادثة بيت مري ودير القمر: استطال النصارى بعد حرب القريم، ولا سيما في لبنان، وأخذت الدولة تثير الدروز على النصارى على ما يؤكده الغربيون والنصارى، وبقيت الحوادث تتوالى والأصابع العثمانية والأجنبية تعبث بعقول المغفلين، وكانت الثورات على ما في تاريخ زحلة تتوالى والخصام يزداد اتساعاً، وعوامل الحقد تسكن القلوب فتحركها على جر الويل وإهراق الدماء، وكان ذلك من أهم ذرائع التنافس والتنابذ بين المسيحيين والدروز، وكأن البلاد ألفت التعصب فتوالى عليها من العصبيات القيسية واليمانية واليزبكية والجنبلاطية والمعلوفية والمكارمية والزحلية والقنطارية، ثم بدأت العصبية المسيحية والدرزية، فكانت الأخيرة أشر من الأولى، وتحفز الدروز للتنكيل بالمسيحيين ولا سيما سكان زحلة ودير القمر الذين أوغروا صدورهم ببسالتهم ونفوذ كلمتهم لدى إبراهيم باشا والأمير بشير لمعاضدتهم لهما. بدأت الفتنة العظمى بهجوم شراذم من الدروز على قرية بيت مري في لبنان يوم 30 آب 1859 فانهزم الدروز وأحرقوا ثلاث قرى مسيحية وقتل بعض رجالها، وفي الربيع التالي بدأت الدروز تفد على المختارة مركز آل جنبلاط كبار مشايخ الدروز. قال مشاقة: وفي شهر نيسان من تلك السنة ورد أمر إلى خورشيد باشا من السلطان بإهلاك النصارى عن آخرهم وإطلاق أيدي الأوباش، فألح خورشيد باشا على سعيد بك جنبلاط أن يصدع بالأمر فأوعز إلى رجاله بالهجوم على النصارى، فقتل الدروز بضعة عشر منهم في الطرق، ثم وقعت مناوشة في دير القمر وأرغم طاهر باشا قائد الحامية في دير القمر نصارى الدير على تسليم سلاحهم له، وبعد أن جمع سلاح النصارى سمح للدروز

مذابح حاصبيا وراشيا ورأي إنكليزيين في أصل

بالهجوم على المدينة فسالت الدماء أنهاراً ثلاثة أيام، ولم ينج من النصارى إلا عدد قليل، ثم أحرقوا المساكن وارتكبت الجنود التركية مع النساء على عادتها ما ارتكبت، وبلغ عدد قتلى الدير على رواية مشاقة ما يقرب ألفي نفس من الرجال البالغين والنساء والأطفال ثم أعمل الدروز سيوفهم في أهل جزين. فحوادث الشام سنة 1860 بدأت إذاً ببيت مري في السنة الماضية وثنت بدير القمر ومن هناك انتشرت في الأطراف. مذابح حاصبيا وراشيا ورأي إنكليزيين في أصل المذابح: طلب والي دمشق الخراج المتأخر من دروز حاصبيا وعين أحد الشهابيين في فرقة من العساكر لشد أزره، فتألب دروز وادي التيم وإقليم البلان على الشهابي في حاصبيا وهاجموها ولم يلاقوا مقاومة شديدة من النصارى لقلة عددهم وكان عدد القتلى متساوياً بين الفريقين ثم نزع من النصارى سلاحهم، وأخذ الدروز يفتكون بهم ويحرقون مساكنهم، ثم تنحى العسكر التركي وترك الدروز وشأنهم مع النصارى فقتلوا منهم 724 رجلاً وقتل من الدروز والأتراك أربعون. وفي اليوم الذي جرت فيه مذبحة حاصبيا باغت دروز حوران نصارى راشيا الوادي في بيوتهم وفي السراي على مرأى من الجنود التركية وبمساعدتهم أجهزوا على جموعهم وقتلوهم مع أمراء الشهابيين ولم ينج منهم سوى أميرين ثم نهبوا بيوتهم، وبلغ عدد قتلى راشيا الوادي خمسمائة رجل وطفل وامرأة. وهاجم دروز حوران بقيادة إسماعيل الأطرش مدينة زحلة فردهم أهلها مراراً، وطال القتال يومين فاضطر الدروز إلى الرجوع عنها، ثم عاد الدروز ومعهم الجند العثماني وأحرقوا جانباً من المدينة وأخذ الجند يرتكب الفاحشة واغتصبوا الراهبات ونهبوا الكنائس والأديار، فلم يبق لدى قناصل الدول شك في أن الدولة العثمانية تريد هذه المذابح وتدبرها حتى لا تطالبها الدول بحماية النصارى وتجد سبيلاً إلى مراقبة أعمالهم الجزئية والكلية مما يسقط من منزلتها، وقد هلك من الزحليين نحو مائة إنسان لأنهم لم يمكنوا الدولة من إدخال جندها إلى بلدهم. وإسماعيل الأطرش هذا قتل يوم جاء لمعاونة أبناء مذهبه في وقعتي

راشيا وزحلة 135 نصرانياً التجئوا من إقليم البلان إلى شيخ قرية كناكر. قال اللورد دوفرين: لم يبق أدنى ريب يحول دون نسبة المذابح الأخيرة وجميع الحروب والاضطرابات والمنازعات التي انتابت لبنان في مدى الخمس عشرة سنة الأخيرة إلى استياء الحكومة العثمانية من الاستقلال النوعي الممنوح للجبل، فجعلت مرمى سياستها أن تبرهن على أنه يتعذر العمل بطريقة الحكم التي منحتها الدول لبنان في سنة 1845، ولهذا كان الأتراك يغتنمون الفرصة لإثارة دفائن الأحقاد القديمة بين الدروز والموارنة، ولما ازداد تعجرف المسيحيين وتعصبهم بقوة المساعدات الأجنبية التي فازوا بها، ثقل على الأتراك احتمال وطأة استقلالهم، فعقدوا العزم على اتخاذ الدروز آلة ليوقعوا بهم ويضربوهم ضربة أشد إيلاماً مما تقدمها، بيد أن ما حدث في حاصبيا وراشيا ودير القمر قد جاء مجاوزاً الحد المنوي لعدم توفر شروط اللباقة في خورشيد باشا وأعوانه لإنفاذ سياسة دهاء كهذه، فأفرطوا فيها بحيث افتضح سر سياستهم وكان له دوي هائل في الأندية الأوربية. وقال أيضاً: لما زرت هذه الأصقاع لبنان قبل استيقاظ الفتنة ببضعة أشهر شاهدت أماراتها بادية في عواطف الفريقين، فالدروز كانوا مستعدين للقتال، والموارنة كانوا يعتقدون أن قد دنت ساعة فوزهم، كما أن دخل الجمارك يثبت أن قد أدخل إلى لبنان من كانون الثاني 1857 إلى ربيع 1860 أكثر من 120 ألف بندقية و20 ألف مسدس وكان من المشتهر انصراف المطران طوبيا وشركائه إلى إيقاظ الفتنة. إلى أن يقول فمن العبث وصف النصارى بأنهم شهداء قديسون فهم يضاهون جيرانهم الدروز في حروبهم همجية وظمأ إلى الدماء، وكثيراً ما كانوا يقتتلون بعضهم مع بعض ولا يعفون عن النساء. يؤيد ذلك ارتكابهم الفظائع مع المشايخ الخازنيين منذ سنتين، ومثل هذه المعايب كثيرة في تاريخهم، بيد أن الدروز هم من هذا القبيل أكثر شفقة من غيرهم فلا يقتلون بعضهم مع بعض ويحترمون النساء، وعليه فمن الخطأ وصف القتال الذي جرى بين الدروز والموارنة بمثابة اعتداء وثنيين برابرة على أتباع دين المسيح الودعاء، بل هو نتيجة تباغض طائفتين متساويتين في

مذابح دمشق ورأي الغريب والوطني في تعليلها:

الهمجية، أنزل الفائزون في أعدائهم البلية التي كانوا مهددين بها فيما لو تغلب هؤلاء، وإذا كان الدروز ارتكبوا في هذه الحروب فظائع أكثر بربرية من المعتاد فالسبب فيه تدخل الأتراك وشدة حقنهم على النصارى وقد أثاروه بتهديدهم وعجرفتهم. وقال قنصل إنكلترا في دمشق على ذاك العهد: لقد بقي من كل ما رتبه المصريون شيء واحد سالما وهو عتق النصارى من رقهم على أن هذا ربما يصير عاملاً جديداً لاستئناف الاضطرابات لضعف الإدارة العثمانية وظلمها، والظلم يدفع إلى المقاومة والضعف يزيد في التمرد، والسكان يؤلفون من طوائف مختلفة المذاهب معادية للسنة ومن طوائف نصرانية متعصبة يعادي بعضها بعضاً، والحكومة عاجزة عن بسط سيطرتها على الجميع ولهذا أمست مضطرة إلى إثارة طائفة عن أُخرى بإيقاد جذوة التحاسد والبغضاء بينها، وبمثل هذه المسائل تتمكن من حفظ بعض السيطرة لنفسها، بيد أنها تخسر ثقة الرعايا بها وتعكر كأس الوئام بين العناصر المختلفة، فتحول دون كل تقدم ونجاح. مذابح دمشق ورأي الغريب والوطني في تعليلها: وبعد هذه النصوص المعتبرة لم يبق شك في أن الدولة هي التي وضعت الخطة العوجاء لذبح النصارى ليتيسر لها أن تمتلكهم وتضعف من غلواء المسلمين أيضاً شأنها في معظم أحوالها في كل بلد نزلته. والموارنة كالدروز لا يخلون من المؤاخذة الشديدة، اغتر كل فريق بمن كان يزين له الشر ويحسن له العاقبة بعد ارتكابه فأتمر بما أُمر به، فكان ذلك وبالاً عليه وعلى جاره، ولم يخسر الدافع لهما شيئاً. وما كان يخطر بالبال أن هذه الشرارة تسري إلى دمشق مدينة التسامح واللطف ويقوم رعايا المسلمين بمعاونة الدروز يؤذون من أُمروا بالإحسان إليهم بعد أن عاشوا وإياهم ثلاثة عشر ثرنا في صفاء وهناء. ويؤخذ مما قاله مشاقة أن مذبحة دمشق لا علاقة لها بحوادث لبنان على ما قيل ولا تعزى لها الأسباب التي عزيت لتلك، ولأن من أسبابها الأولية عبث النصارى بالشريعة التي أحدثتها الدولة على أثر حرب القريم مكرهة من دولة

الروس، وهي مساواة الرعايا بالحقوق المدنية، وإعفاء النصارى من الخدمة العسكرية، وقيل: إن الدواة رغبت في وضع الشريعة التي يقال عنها المساواة وهي ليست على شيء منه لتثير خواطر شعبها على النصارى وتجعل لهم سبيلاً إلى بغضهم ومقتهم، ولو كان النصارى وقتئذ على شيء من الحكمة لرفضوا إعفاءهم من الخدمة العسكرية التي جردتهم من الوطنية، وأبكمت لسانهم عن المطالبة بحقوقهم. قال: وكان مسلمو دمشق عامة وسورية خاصة يسفهون عمل الدولة التركية الذي قامت به مضطرة عقب حرب القريم، وكثر تذمر المسلمين من الدولة مع التقريع، فأجابتهم أنها لم تفعل ذلك إلا مضطرة، وبلغ من حقد المتعصبين أنهم تآمروا وألفوا الجمعيات السرية يطلبون بها خلع الدولة التركية وإبدالها بدولة تعيد مجد الإسلام ولا تخضع لأهل النصرانية وبلغ الأتراك أمرهم فأوغروا صدورهم على النصارى ليلهوهم ويتخلصوا من شرهم. وبعد أن فصل هجوم النصارى على مطران الروم بدمشق يريدونه على أن يرفع عنهم حيف الحكومة، وطلبها بدل الخدمة العسكرية منهم، وذكر كيف عرض المطران على الوالي بأن النصارى تجمهروا جمهرة العصاة وأرادوا الإيقاع به، قال: إن الوالي لم يشأ أن يردع النصارى رأساً وأناط بتأديبهم رعاع المسلمين الذين كانت الحكومة تخشى بطشهم، ولا تتجاسر على مطالبتهم بدفع الضرائب، وكانت الحكومة غير راضية عنهم لفتكهم ببعض وزرائها وامتناعهم عن إجابة مطالبها. ورغبة أحمد باشا والي دمشق بإثارتهم على النصارى كي يتخلص منهم أو من بعضهم فيقل عددهم وتضعف شوكتهم ويصبح إخضاعهم لأوامر الحكومة مكفولاً فيرد عن دولته الخطر الذي كان يتهددها به مسلمو دمشق وقد جاهروا بخلع دولة الأتراك عنهم وراسلوا دولة مصر لتأتي لنجدتهم ولم يفلحوا. فرأى والي دمشق للوصول إلى هذا الغرض أن ينصب المدافع على أبواب الجامع الأموي وقاية للمسلمين الداخلين إليه في أوقات الصلاة من غدر النصارى! وأمر في عصر اليوم التاسع من تموز 1860 بإخراج الرعاع المسجونين من المسلمين بقصد تطوافهم في الشوارع وهم مكبلون بالقيود إرهاباً للثوار من المسلمين والدروز معاً، فلما وصلوا إلى باب البريد هجم بضعة من المسلمين على الخفر وبطشوا به وخلصوا رفاقهم ونادوا بالجهاد، فهجم الأوباش على

المسيحيين في بيوتهم ومحلاتهم ووضعوا السيف فيهم، قتلوا الرجال، وسبوا العيال، وهتكوا الأعراض، وراحوا بالعروض والأموال، وقتلوا بعض الرهبان الفرنسيسكانيين. وذكر برانت قنصل بريطانيا أن السبب الرئيسي في إيقاد جذوة الفتنة أن أولاد المسلمين أخذوا يرسمون صورة الصليب في الطرقات ويدرسونها ويهينون المسيحيين المارين، فقبض عليهم التفكجي باشي وقيدهم بالسلاسل وأكرههم على تكنيس الطرق، فهجمت الغوغاء وأنقذتهم فاشتعلت الفتنة. قال: وعندي أن أحمد باشا مخطئ في ضعفه مع مجلسه، وعدم اتخاذه الاحتياطات التي أشير عليه بها غير مرة، وإصراره على إبقاء رئيس التفكجية في مركزه، مع اشتهاره بعدم الكفاية رغما عن تحذير عدة أشخاص من جميع الطبقات منه قبل إيقاظ الفتنة بعدة أسابيع، وإهماله إنقاذ مسيحي حاصبيا وراشيا نكثاً بوعوده لما أخبر بالخطر المحدق بهم، وتقاعده عن استدراك مهاجمة زحلة وقلة اكتراثه بذبح الدروز النصارى إن لم نقل بتواطئه، وهو القائل، على ما روي، إنه يوجد في سورية آفتان كبيرتان هما المسيحيون والدروز فكلما ذبح أحدهما الآخر استفادت الحكومة العثمانية. وإن خطر حمل السلاح على النصارى والسماح به للمسلمين والدروز لا يمكن تأويله إلا بأن حكومة تلك الأيام كانت لا تهتم لفتنة تحدث أو أنها تود إحداثها أو لا تجسر أن تعامل الجميع بالسوية. وقال الماجور فرازر إن فؤاد باشا قال له: إن الدمشقيين يكرهون الأتراك، وأن من الضروري إلقاء الرعب في قلوبهم توطيداً لأركان الحكم العثماني فيتجنبون ركوب متن الفتنة. وقد علل مشاقة سبب فتنة دمشق تعليلاً مقبولاً فقال: إنه لم يكن لها تعلق بحادثة لبنان بل لها أسباب خصوصية نشأت عن تصرفات جهلة النصارى عندما عجز عقلاؤهم عن ردعهم، فلما وضعفت الدولة قوانين المساواة بين رعاياها من أي مذهب كانوا توسع جهلة النصارى في تأويل هذه المساواة بأن معناها أنه لا يجب على الصغير الخضوع الكبير ولا للوضيع أن يحترم الرفيع، وتوهموا أن أدنياء النصارى هم بمنزلة عظماء المسلمين، ولم يريدوا أن يفهموا أن المساواة هي في الحقوق الشرعية والنظامية، وأن من الواجب حفظ اعتبار

ضحايا مذابح دمشق وتخريبها:

أهل الاعتبار بالدرجة اللائقة بهم من أية طائفة كانوا خصوصاً النصارى نحو المسلمين، وعليهم أن يعرفوا بأن كبراء البلاد ومعتبريها هم منهم، والسلطنَةَ مع وزرائها وعسكرها وجميع عظمائها من المسلمين، وأن النصارى غي سورية هم الجزء الأصغر والأضعف في كل شيء، بل الوجوه يجب على المسيحيين تقديم الاحترام الوافر نحو المسلمين، والطاعة التامة لأولياء الأمور فيما يرسمونه لهم 1هـ. - ضحايا مذابح دمشق وتخريبها: قدّر قنصل الإنكليز عدد من ذبحوا من نصارى دمشق بزهاء 3500 نسمة، والغرباء الذي لجئوا إلى المدينة طلباً للنجاة نحو 2000 نسمة. وقال لورتيه: إن عدد من هلك من النصارى في فتن لبنان وحوادث دمشق بلغ اثني عشر ألفاً، وأن في دير القمر وحدها تربة بناها أبناء وطنه فيها ستة آلاف من الهالكين وهو عدد فيه نظر. وقد قتل بعض النصارى في محال منفردة مثل نصارى جباع من عمل صيدا، فإن الدروز انقضوا عليها وحرقوا بيوتهم ونهبوا القرى، وأن مائتين وخمسين نسمة من جزين كانوا في الغابات فطاردهم الدروز من محل إلى آخر وقتلوا بعضهم، ولم يصل منهم إلى قرب صيدا إلا خمسة عشر رجلاً فقط. وحرقت ميمس والكفير من عمل حاصبيا وهلك فيهما مائة وعشرون نصرانياً، وخربت ثمان قرى للنصارى في البقاع وحرقت، وقتل من بقي فيها من الشيوخ والأحداث بينهم النساء والأطفال واعتدي على العذارى، وشوهدت من بيروت ثنتان وثلاثون قرية تحترق وذلك يوم 28 و29 أيار وأمست بعض البلدان الزاهرة في لبنان مهجورة. وقال كراهام: إن ستين قرية وبلدة في لبنان قد دمرت وأصبح هذا الجبل بلقعاً ويتعذر معرفة عدد النصارى الذين قتلوا في مذابح جبل لبنان، فالتخمينات متباينة ويقدر بعضهم القتلى بأربعة آلاف وآخرون بعشرة، وهذا العدد الأخير مبالغ فيه كثيراً. قال وأرجح أنه لا يتجاوز الأربعة آلاف، فقد جمعت عدة أنباء موثوق بها وعارضتها بعضها على بعض فتبين لي أن عدد القتلى في دير قمر

يختلف بين 1100 إلى 1200 وفي حاصبيا وراشيا 700 وفي صيدا 550 وإذا أضفنا إليها 200 لاجئ قتلوا في 30 و31 أيار في جوار بيروت وألف نصراني ذبحوا في بيوتهم على ما أرجح فلا اعتقد أن عدد القتلى يتجاوز 3500 ذكر، وفقدهم يحرم القطر أيدي عاملة كان يتوقف عليها نجاحها. وزعم لنورمان أنه يريد أن يكتب تاريخاً لا رواية خيالية، ولكنه كان إلى المبالغة واستعمال أساليب الخطابة والخيال، ومع هذا ننقل بعض ما ذكره مما عساه قد فاتنا تفصيله. أما المبالغات في الأرقام فمما نكله إلى فطنة القارئ يردها ببصيرته لأن قناصل الوقت في هذه الديار أصدق قليلا، ورواياتهم أقرب إلى الصحة والسداد خصوصاً من لم يكن لدولهم رأي خاص إلا الحقيقة. فقد ذكر لنورمان أن ستين قرية في الغرب والمتن أصبحت في ثلاثة أيام خراباً يباباً، وأنه قتل في مقبرة صيدا مائة واثنان وعشرون رجلاً وقتل الضبطية 17 شخصاً على أبواب صيدا، وأن ألفاً ومائتي نصراني اختبئوا في غابة على أربعة فراسخ من صيدا فأحرقها الدروز والمسلمون فلم ينج منهم إنسان وهلكوا ذبحاً وحرقاً، وأنه قتل في دير المخلص على مقربة من صيدا مائة وخمسون راهباً وأخاً، عدا ما سلب منه من العروض والأموال التي جاء بها سكان الجوار وأودعوها الدير لأنه كان محترماً من الناس كافة قبل هذه الحوادث، وأنه قتل في حاصبيا تسعمائة وخمسة وسبعون مسيحياً لم ينج منهم إنسان، وقتل من أمراء الشهابيين في وادي التيم أحد وثلاثون رجلاً ولم ينج منهم سوى ثلاثة لأن ضلعهم كان مع فرنسا، وأنه أحرقت في أرجاء حاصبيا قريتا الكفير وشويا وفي عمل راشيا قرى بيت لهيا وكفر مشكة وعيحا وحرقت حاصبيا كراشيا كلها، ولما جاء جيش الاحتلال الفرنسي في شهر أيلول سنة 1860 إلى زحلة رأى نحو ستمائة جثة من جثث الدروز ملقاة على الأرض إلى جانب جثث قتلى النصارى، وأن المدينة خربت ولم يحدث فيها قتل إلا في دير اليسوعية والباقي من أهلها هلكوا في الدفاع عن بلدهم وأنه قتل في دير القمر 2200 إنسان وأن ثلاثمائة إنسان كانوا مختبئين في دار فلما جاء خورشيد باشا قائد بيروت قتلهم عن آخرهم، وأن مسلمي بيروت وفي مقدمتهم عمر بيهم أعظم تجار تلك المدينة فتحوا بيوتهم للاجئين إليهم من المسيحيين، وأخذوا يوزعون عليهم الأطعمة

عمل الدولة والدول عقبى الحوادث:

وحالوا بحكمتهم دون تدخل الرعاع من أبناء طائفتهم في الأمر فخففوا من غلوائهم. وذكر أن عدد الهالكين من 30 أيار إلى 20 حزيران في لبنان وسورية المجوفة كان أربعمائة إنسان في المتن والغرب وجوار بيروت، وألفاً وثمانمائة في صيدا وجزين والكور المجاورة، وألفين وخمسمائة في قضاءي حاصبيا وراشيا، ومائتين وخمسين في زحلة، وألفين ومائتين في دير القمر ومائة وواحداً وعشرين في بيت الدين، وخمسمائة في بعلبك أي 7771 شخصا من الرجال والنساء والأطفال، وأنه خربت 360 قرية وهدمت 560 كنيسة، وحرق 42 ديرا، وهدمت 28 مدرسة كان فيها 1830 تلميذا، وخسرت الأقاليم التي وقعت فيها الفتن جميع محاصيلها السنوية، وقدر مجموع ما فقد من أموال النصارى وعروضهم بخمسة وتسعين مليون فرنك يدخل فيها أربعة ملايين قيمة تعطيل التجار عن أعمالهم مدة شهرين. أما بشأن دمشق فقد أغرق في التقدير أيضا فقال: إن الحريق والنهب والقتل دام خمسة أيام من اليوم التاسع من تموز إلى اليوم الثالث عشر قتل في خلالها 8500 مسيحي ودمرت 3800 دار، وقدرت الخسائر بمائة مليون فرنك، ثم قدر عدد من هلكوا من النصارى بالأمراض والقلة بعد المذابح بثلاثين ألف نسمة! وقال: إذا أضفنا هذا العدد إلى من نكبوا في هذه المذابح بلغ من هلك في دمشق ولبنان 46300 إنسان خلال سنة واحدة بتعصب المسلمين والدروز. قلنا وجميع التقديرات تثبت أن القتلى ومن هلكوا بسبب مصائب تلك الفتنة والأمراض لا يتجاوزون ربع ما قدره صاحب كتاب مذابح الشام على أن هذا العدد لا يستهان به أيضا. عمل الدولة والدول عقبى الحوادث: ولما ترامت هذه الأخبار المشؤومة إلى الغرب أرسلت الدولة أحد كبار وزراء ذاك الوقت فؤاد باشا لإنزال العقوبة بالفاعلين من المسلمين والدروز، وأرسلت فرنسا عشرة آلاف جندي للمحافظة ومنع التعدي وكذلك باقي الدول

الأوربية، منها من أرسل مراكب حربية، ومنها من أرسل نوابا لإصلاح الحال. وخيم جند فرنسا في البقاع تسعة أشهر وظلت السفن الأجنبية راسية في موانئ الشام وعددها عشرون بارجة، وعقد في بيروت مؤتمر دولي مؤلف من وكلاء الدول الخمس إنكلترا وفرنسا وروسيا والنمسا وبروسيا، وضع أساس نظام جديد للبنان أقره السلطان عبد المجيد ووافقت الدول عليه 1861 1277 ثم عدل هذا النظام سنة 1281 واشتركت به دولة إيطاليا مع الدول السابق ذكرها. أعاد فؤاد باشا الأمن إلى نصابه ونفى بعض الأعيان من دمشق لأنهم لم يحولوا دون الأشقياء والسفلة وما أتوا من المنكرات، وقتل 111 مسلما رشقا بالرصاص وشنق 56 ونفي 145 وحكم بالأشغال الشاقة على 186 استخدموا في إنشاء الطرق وقضى غيابا بالقتل على 183 وفي عداد الذين قتلوا 18 شخصا من كبار الأسر وأناس ذوو وجاهة، وسمح للنصارى الذين دانوا بالإسلام كرها أن يعودوا إلى دينهم وعددهم خمسمائة، وأخليت ثلاث حارات في دمشق لسكنى النصارى، وجنّد ثلاثة آلاف جندي من هذه المدينة وجعل البدل العسكري مائتي ليرة، وأرسل زهاء ألف رجل للنفي والسجن إلى الأستانة وغيرها، وقتل والي دمشق المشير أحمد باشا رميا بالرصاص لتساهله في إطفاء الفتنة وقال هذا يوم قتل: إني مظلوم وسماه الأتراك بالشهيد، وكان من عظماء الدولة تربى تربية عالية في مدارس الغرب. وقيل: إن فؤاد باشا عجل بقتله مخافة أن تشيع الأوامر التي وردت إليه من الأستانة ونفذها، وأنه لذلك بادر بأخذ حقيبة أوراقه منه ساعة اجتماعه به، وقتل قائد حي النصارى وقائدي حامية حاصبيا وراشيا، وعزل خورشيد باشا قائد الجند في الساحل، وعوض على المنكوبين من مال الدولة والأهلين. وقال قنصل بريطانيا: إن الخسائر المالية بدمشق من حريق ونهب وأعلاق وعروض وغيرها لا تقل عن مليون وربع ليرة، وكان يرى أن خمسة ملايين ليرة لا تكاد تكفي للتعويض عن تخريب الأملاك، وعن خسارة الأموال والحلي والجواهر والأمتعة الثمينة والسلع والملابس قال ذلك لفؤاد باشا لما قال له أن يفرض غرامة قدرها 25 مليون قرش أي زهاء مائتي ألف جنيه. هذا عدا ما أصاب النساء من هتك

الأعراض وفض الأبكار وركوب العار وبيعهن من الأكراد وأهل البادية كما يباع الإماء كل واحدة بمائة إلى مائة وخمسين قرشا. أما الدروز في لبنان ووادي التيم ودمشق وحوران فقد نفي منهم نحو مائة إلى طرابلس الغرب، ولم يقتل أحد منهم لأن النصارى طلبوا محاكمتهم بالشرع، ولا بد في الشرع من شهود عدول، والنصارى في هذا الحادث لا تصح شهادتهم، والدروز لا يشهد بعضهم على بعض، وإلا فإن فؤاد باشا أراد فيما قيل أن يقتل منهم خمسمائة رجل، ولاحظ الماجور فرازر بقوله إنه إذا لم يحكم على غير سبعة وخمسين قاتلا فيستنتج من ذلك أن معظم من اشتركوا في المذابح لم يزالوا مطلقا سراحهم، لأنه من المستحيل أن يعتقد بأن أكثر من ثمانية آلاف شخص ذبحهم سبعة وخمسون رجلا دع النساء السبايا واللائي عبث بطهارتهن. وذكر آخر أن الدروز لم يرتكبوا الفاحشة مع النساء وتركوا ذلك لرعاع المسلمين. عمل العقلاء في دمشق وبيروت ورأي مؤرخ منصف في المسلمين: وهنا لا بد من التنويه بعمل أكثر عقلاء المسلمين في دمشق وبيروت خاصة، وما بذلوه لحقن دماء أبناء ذمتهم من النصارى، فقد أنقذوا ألوفا منهم على ما يقضي بذلك الدين والشرف، ولولا ذلك لم يبق منهم ديار، وفي مقدمتهم الأمير عبد القادر الحسني، فشكرته الدول النصرانية جمعاء ومما قالته الملكة فيكتوريا ملكة إنكلترا وإمبراطورة الهند في شكر صنيعه: إنها عرفت من سلوك سموه الفرق بين المسلم ذي العقل الراجح، والجبناء المتظاهرين بالتدين الذين عملوا بإثارتهم التعصب على إبادة كثيرين من النصارى العزّل. وقد كان للشيخ عبد الغني الميداني الغنيمي ومحمود أفندي حمزة وأسعد أفندي حمزة والشيخ سليم العطار وسعيد آغا النوري وعمر آغا العابد وصالح آغا المهايني والسيد عمر بيهم إلى عشرات غيرهم من أهل العلم والسراوة في دمشق وبيروت ممن فتحوا بيوتهم لإيواء مواطنيهم المنكوبين يد طولى في هذا الشأن تذكر فتشكر ولقد قال السيد محمود حمزة قصيدة في تقبيح ما صدر من رعاع الدمشقيين من أفعال القتل والنهب منها:

من المسؤول عن هذه الفتنة الشعواء:

يا وحوشاً صادفت في غابها ... آمناً فاستقبلته بالسهام إلى أن قال: بئس مصر قد خلت من حاكم ... جور سلطان ولا عدل العوام قال مشاقة خلال كلامه على فلاح مسلم رأى نصرانيا بين القتلى الذين أهلكهم الجزار على باب عكا فأخذوه إلى قريته وضمد جراحه ولما عوفي حمله إلى دمشق لئلا ينتقل خبره إلى ذاك الطاغية: فهذه القصة ذكرتني ما ورد في الإنجيل الشريف عن السامري الذي ضمد جراحات الواقع بين اللصوص، ولكن ما عمله هذا المسلم مع النصراني هو أعظم لأنه خاطر بنفسه لكي ينقذ الغريب عنه الذي لم يكن يعرفه قبلا، وهكذا يوجد من الصلاح والمروءة بين المسلمين من يسدون المعروف للغرباء عنهم، وكفى دليلا على ذلك ما شوهد بالعيان من أعمال حضرة الأمير عبد القادر الجزائري والمرحوم صالح آغا المهايني والكثير غيرهم من أتقياء المسلمين من طبقات مختلفة في حادثة سنة 1860 فقد صانوا ستة عشر ألف نسمة مسيحية عن الذبح بسيف الأشقياء والثائرين الذين لم تصنهم حكومة دمشق لغاية لم تعد مكتومة وهي لم تعترف بها ولكن القرائن أثبتتها والتفوه بها ممنوع اهـ. - من المسؤول عن هذه الفتنة الشعواء: كانت هذه الفتنة سبب خراب قسم عظيم من مدينة دمشق، كما خربت مئات من القرى في لبنان، وخربت زحلة وحاصبيا وراشيا ودير القمر إلا قليلا، وأهم ما خرب الكنائس والأديار القديمة والبيوتات التاريخية الجميلة، وهام كثير من نصارى دمشق وغيرها على وجوههم في الأرض، ومنهم من هاجر إلى مصر وقبرص واليونان والأستانة وأصيب المسلمون بأضرار كثيرة، ولربما نجا المجرمون وقتل من كان جرمهم خفيفا. والذنب كل الذنب على الحكومة وعمالها أولا لما أبدوه من الضعف ثم على الأقرب فالأقرب من الأعيان والمشايخ والخاصة ثم على العامة.

ولو قام كل واحد من الأعيان والمشايخ بواجبه لخفّ الشر كثيرا في دمشق، وربما امتنع عامة الأشقياء عن أعمالهم على الرغم من تحريض الحكومة لهم سرا أو من إبدائها تساهلا ظنوا معه أنها تدعوهم إلى عمل ما عملوا. فقد ثبت أن والي دمشق قال للأمير عبد القادر الجزائري وهو يستأذنه للمحافظة على النصارى وإطفاء الفتنة: ليس لي من الأمر شيء، وإذا كنت تستطيع أنت أن تحافظ بجماعتك المغاربة فلك ذلك فأجابه أن السلاح ينقصني، فأعطاه سلاحا لأربعمائة مقاتل. وفي تحفة الزائر أن الأمير عبد القادر استأذن الوالي يوم فتنة لبنان ودمشق في طلب مشايخ الدروز إلى بعض القرى خارج البلد والاجتماع بهم ليعظهم ويحذرهم سوء عاقبة ما اعتزموا عليه فأذن له وخرج إليهم وتكلم معهم بما أثر فيهم فأذعنوا لنصائحه ووعدوه بأنهم لا يحركون في دمشق ساكنا ولا يثيرون فتنة، ولما كان أمر الله لا يرد قويت بواعث الفتنة ولم ينجع فيهم نهي الحكومة ولا أثرت فيهم شدة انتقامها. قال واستمرت الفتنة قائمة ونارها موقدة أربعة عشر يوما في دمشق، وما أوقع أحمد باشا الشهيد وجماعة من رؤساء الجند إلا اغتراره بأقوال من كان يستعبد أن يقع في دمشق ما وقع في الجبل، لدعوى وجود البواعث المقتضية لذلك بين اللبنانيين وعدمها في دمشق. ومن القرائن القوية على أن لحكومة الأستانة يداً في إثارة هذه الفتنة، أنها أرسلت بعض رجالها قبل وقوع المذابح بأشهر إلى الشام وبعد ذلك تبدل وجه كل شيء وتغيرت معاملة الحكومة للنصارى. ومن يحسن الظن بالحكومة التركية ينسب ما جرى إلى إهمال العمال، وإلى ما كان لديهم من الوسائط القليلة والرجال وأن الحكومة أرادت أن تنتقم ممن كانوا يتطلعون إلى دولة أخرى تحكمهم كالدولة المصرية، ولسان حالها في الحقيقة بشأن هذه الفتنة المثل المشهور لم آمر بها ولا ساءتني وماذا يهمها قتل نحو أحد عشر ألف نسمة وخراب قُدّر ببضعة ملايين من الدنانير وغير ذلك من المقابح والمساوئ، إذا كان في ذلك تأييد سلطانها على قطر ما زالت سلطتها عليه اسمية منذ فتحته. وقد ذكر العارفون من العرب والفرنج أنه لولا انتداب الدولة لمثل الداهية فؤاد باشا لعقوبة الرعاع وغيرهم، لكانت أوربا اشتطت في معاملة الدولة

سوء أثر حوادث الشام في الدولة ومنازعة الدول لهل

وسابتها بعض ولايتها. ومن حسن الحظ أن هذه الفتنة لم تتعد دمشق وأواسط لبنان ونجا منها شماله بفضل رجل اسمه يوسف كرم حال دون انبعاث الدروز إلى جهاته، ولو اتصلت نيران الفتنة بأقاليم الجنوب والشمال ولم تبق محصورة في الوسط لكان الهول أعظم والخطب أدهى وأمرّ. ونجت جنوب الشام وشمالها لضعف الحكومة فيهما، ولأن القول الفصل في كل بلد كان لجماعة من عقلائها ووجوهها فإن الرعاع حدثتهم أنفسهم أن يبطشوا في حمص وحماة وحلب وطرابلس واللاذقية ويافا وغيرها فحال عقلاء تلك المدن دون الإيقاع بأحد من أهل وطنهم، ولم تبتل أقاليمهم بما ابتليت به سورية المجوفة. سوء أثر حوادث الشام في الدولة ومنازعة الدول لهل في سلطانها: سبع عشرة سنة مضت على الدولة وهي تحرك النُّعَرةَ الدينية لتضرب الدرزي بالنصراني وهذا بالمسلم، حتى وصلت إلى هذه النتيجة المرمضة من إهلاك من أهلكت وإضعاف من أضعفت، فانتقمت من الذين قتلوا بعض ولاتها قبل دخول المصريين، ثم عاونوا محمد علي الكبير معاونة فعلية وأدبية، وبالغت في عقوبتهم حتى أنستهم ما استمتعوا به على عهد حكومته الرشيدة، وخلصت من حماية فرنسا وانكلترا للموارنة والدروز، ولكن السياسة التي اتبعتها كادت تفشل ويخرج القطر كله من الحكم العثماني، لولا الشدة في عقاب من قضت السياسة بعقوبته والإسراع بتنفيذ الأحكام والتعويض عن المنكوبين. ولِمَ لم يقو فؤاد باشا إلا على المسلمين لأنهم لا سياج لهم إلا الدولة العثمانية، يؤثرونها على غيرها مع اعتقادهم ظلمها وسوء إدارتها، أما الدروز فإن لهم كالموارنة سنداً قوياً يحميهم. ولذلك لم يؤاخذ أشقياؤهم بما أجرموا، وهذا من غرائب السياسة في هذا العصر أن يجعل القاتل في حلٍّ مما أتاه. ولكن المسلمين من جهة ثانية انتفعوا بهذه العبرة التي وقعت لهم وإن كلفتهم كثيراً، فأصبحوا لا يثقون برجال الدولة على الجملة، ويعتقدون أن الظاهر من أقوالهم غير الباطن، وأن الدولة متى قضت مصلحتها تهلك أُمة حتى تستفيد فائدة صغيرة، وتخرب بلداً إذا كان من ذلك مغنم ترجوه. وبهذا العمل الأخرق الذي قصدت

به الدولة التفريق بين أجزاء قلوب بناء الوطن الواحد المشتركة منافعهم المتحدة مرافقهم، قد سلبت شطراً من سلطتها ففتحت أبواب ديارها لدول أوربا بأن أعطتها الحق لحماية طوائف من رعاياها، وكانوا لا يرون غيرها مرجعاً لخم في الشام، وأوجدت مسألة حماية الأقلية على مقياس واسع، فنتج من ذلك إنشاء حكومات داخل حكومة، وأصبح رؤساء الدين من النصارى يراجعون العمال في شؤون طوائفهم في التافهات والمهمات، ويريدونهم على تأييد مطالبهم وإن كانت جائرة أحياناً، وصار العمل إذا لم يخفض جناح الذل للرئيس الروحي على ما يجب يقيله من وظيفته بما لديه من الوسائط الفعالة. وأمست دور القناصل بعد الحادثة محاكم دائمة للنظر في قضايا من علقوا آمالهم على الدولة التي تمثلها تلك الدار. وغدا قنصل روسيا مسيطراً على مسائل الروم الأرثوذكس، وقنصل فرنسا الحاكم المتحكم في قضايا الباباويين، وقنصل بريطانيا العظمى مهيمناً فيما يعرض للبروتستانت والدروز، وغدا أهل كل نحلة يجعلون من الدولة التي يمتّون إليها معقد آمالهم، ويدعون في سرهم وجهرهم أن يقرب أيام حكمها مباشرة عليهم، ونزل كثير من الطوائف عن مشخصاتهم فأصبحوا عرباً بالدم متفرنجين بالتربية والعادات، يحتقرون ما كان عليه أجدادهم ويغالون في اقتباس ما عند غيرهم، خصوصاً إذا كانوا ينتحلون نحلتهم ويرون في الآخرة رأيهم. على أن الحادثة فتحت لجميع السوريين أبواب الأخذ عن الغرب وما كان ذلك مما أضر على إطلاقه، بل جاءت منه فوائد مهمة في باب الحضارة. والعبرة المهمة التي أخذها الناس من هذه الفتنة المشؤومة إيقان جمهور تلك الطوائف التي عبث بها العابثون، أن التبعة على قدر الفهم وأن القتلة وأرباب الدعارة نال شرهم الأبرياء من طوائفهم، وأنه لا يؤاخذ إذا جدّ الجد غير أهل المدارك وعيون الناس. وكم ذنب مولّده دلال ... وكم بعدٍ مولده اقتراب وجرم جره سفهاء قوم ... فحلّ بغير جارمه العقاب

العهد العثماني من سنة 1277 إلى 1300

العهد العثماني من سنة 1277 إلى 1300 بعد فتنة سنة الستين: خرج الأهلون في دمشق ولبنان بعد المذابح الفظيعة في تلك السنة المشؤومة، وقد خسروا مادياتهم ومعنوياتهم. هلكت النفوس التي حرم الله قتلها، وهلك ألوف من النصارى ومئات من المسلمين والدروز، وخسر أهل المدن والقرى أموالهم، وخربت الدور والقصور، وحرقت البيع والأديار. وكانت الخسائر في المعنويات أشد لأن الغرب أساء الظن بأهل هذه الديار، وأجمل حكمه عليهم كافة وعدّهم متوحشين ظالمين، ولم يستطع أحب الناس من الأوربيين للمسلمين أن يدافعوا حق الدفاع عنهم، مع علمهم بأن الفتنة أمر دُبر بدليل، والدولة هي المسؤولة أولاً وقد رجحت كفة الدروز في مدينة دمشق بما جاءهم من نجدات الحورانيين أبناء مذهبهم، فكان من الدروز أن اشتركوا أكثر من المسلمين في هذه المذابح. وكان للجند النظامي وغير النظامي من الأجناس المختلفة يد في قتل النصارى في ضواحي صيدا وبيروت ودير القمر وحاصبيا وراشيا وزحلة ودمشق وغيرها، وهم الذين هتكوا الأعراض على الأكثر فباءوا بالخزي والعار، وأخذت أوربا بعد أن قويت علاقاتها التجارية بالشام تسعى إلى تقليلها، لأن كابوس الفتنة استولى بعد تلك الوقائع على العقول في الغرب والشرق سنين كثيرة، وربما دام حتى انقرض من شهودها وسمعوا بفظائعها. جمعت الدولة للمنكوبين غرامات حربية من الأهلين بما زاد عن طاقتهم، ولم يصل إلى المصابين كما قال مشاقة أكثر من ربع الذي تكلفت له الدولة،

السلطان عبد المجيد وخلفه عبد العزيز:

فضاع الربع الثاني في النفقات اللازمة، والثالث أختلسه مأمورو الحكومة، والربع الرابع ربحه صيارفة اليهود، وبالجملة فإن الخسارة وقعت على الدولة والمسلمين والنصارى، ولكن الدولة استعاضت عما فقدت تذليل الرعايا وإخضاعهم لكل ما ترسمه عليهم، حتى لقد جبى فؤاد باشا بقايا الأموال في دمشق التي أعيا الولاة تحصيلها على أيسر وجه، ولم يبق للعشائر رؤساء تتعب الحكومة بمعارضة أوامرها. وخرج لبنان من فتنته ممنوحا استقلالا إداريا، وأخذ يستمتع منذ سنة 1281 بنظام خاص فينتخب له الباب العالي متصرفا نصرانيا بموافقة الدول الست العظمى ويعطي الدولة بالاسم ثلاثة آلاف وخمسمائة كيس خراجا سنويا، وبقيت تسد العجز في موازنة الجبل مدة طويلة، وأهم ما ربحه لبنان القضاء نهائيا على سلطة أرباب الإقطاعات. وأصبح كما قال بعضهم في عهده الجديد ملجأ للأحرار من كل نحلة كما كان بفضل الأمراء المتولين عليه من آل عساف وآل معن وآل شهاب ملجأ للطوائف الكاثوليكية. أما مسلمو دمشق فبدأت أيام ذلهم بالقضاء على كبرائهم، وكان في قتلهم وتشريدهم عبرة لمن خلفهم أو نجا من المعمعة، وأصبحوا عبيد الدولة حقيقة في كل ما تأمر به، حتى إن منهم من كانوا لا يراجعون الوالي وإن كان غلطه ظاهرا كل الظهور حتى لا يغضبوه بزعمهم، ولطالما حاول بعض الولاة العقلاء أن يعلمهم حسن الدفاع المعقول عن حقوق الأهالي، فكان جوابهم أن افعلوا يا مولانا ما تشاءون فإنا لا نحب المناقشة مع العظماء. إفراط في العهد الأول وتفريط في العهد الثاني. السلطان عبد المجيد وخلفه عبد العزيز: توفي السلطان عبد المجيد سنة 1277 1861 أي بعد مضي أشهر من انتهاء فتنة الشام، وكان عهده سيئا يحكم في شؤون المملكة السراري والجواري والمقربون في القصر السلطاني ويسرف السلطان في الأموال ويبدد ثروة السلطنة، وكان إسرافه مبدأ ارتباك الدولة في ماليتها، فإن عبد المجيد لما زوج ابنته فاطمة

من علي غالب بن رشيد باشا أنفق على الجهاز والعرس مليوني ليرة فرنسية. وكان كما قال دي لاجونكيير أكثر ملوك بني عثمان إنسانية، اكتشف عدة مؤامرات رتبت للإيقاع به فكان كل مرة يعفو عن المتآمرين، فحمل إلى قبره أسف أمته وحرمة أوربا له التي أثنت عليه على الرغم من فجائع الشام وجدة، وذلك لكونه لم يقض على عمل السلطان محمود في الإصلاحات ولأنه ساعد ما وسعته قوته على تأييدها والاحتفاظ بها. خلف عبد المجيد أخوه السلطان عبد العزيز، وأخذ لأول مرة يهتم لتنفيذ خطط الإصلاح التي وضعها أبوه وأخوه أولاً، وبدأ بنفسه في إصلاح المالية، فآلى أن لا يتزوج بغير امرأة واحدة، وأبطل الإسراف في نفقات قصره، فتخلى عن جزء مهم من مرتباته، ولم يلبث أن عاد إلى طبيعته في الترف، وعاد الإسراف في أموال السلطنة إلى أبشع صورة بحيث لم تأت سنة 1875م حتى أعلنت الدولة إفلاسها، وتمنت لو تقترض من مصارف أوربا بفائدة اثني عشر بالمائة. وفي التاريخ العام: ولسوء الحظ أن السلطان عبد العزيز نسي حالاً نياته الحسنة الأولى، وأصبح في الحرم تسعمائة امرأة وثلاثة آلاف خادم وخادمة، وكانت تمد كل يوم خمسمائة مائدة، ويجلس إلى كل واحدة منها اثنا عشر شخصاً. نشر أول قانون للولايات على أصول فرنسا سنة 1281 1864 وكان السلطان عبد المجيد في سنة 1272 1856 نشر خطاً سلطانياً يقضي بإدخال إصلاحات إدارية كثيرة في السلطنة العثمانية، عاقت حوادث الشام عن تطبيقها في ربوعه، فأخذ القطر بعد الحوادث المشؤومة يتدرج نحو المدنية، وقد تخلص من أرباب الإقطاعات، ولم يتخلص من أرباب النفوذ في المدن والقرى ممن كانوا يسرقون الأمة والحكومة معاً، ويقاسمون الولاة والعمال على الأرباح. أما الولاة في أول القرن والقرن الماضي فكانوا لا يهتمون إلا بالاحتفاظ بولايتهم ويبدلون بسرعة كما قال أحد العارفين من الأوربيين بمن يجهلون كثيراً أخلاق الشعب وإدارة الأحزاب السياسية، فينبذون وراء ظهورهم الاهتمام بإنجاح الولايات لأنهم موقنون بقصر مدة ولايتهم عليها، فيكبّون مدة حكمهم على جمع الأموال الوافرة بقدر ما تمكنهم الحال. وفي أواخر هذا القرن تبدلت

الأحوال فأصبحت الدولة تبعث إلى الشام بأعاظم رجالها يتولونها، وفيهم المستقيم العفيف عن أموال الناس العارف بأصول السياسة والإدارة. وفي سنة 1280 شب قتال شديد بين بني علي والكلبية وهاجم الكلبية والنواصرة بني علي حتى بلغوا قرية ست يللو ثم حرقوا بتغراموا وديروتان ومغسلة وخربوها وكان الرجال يحاربون والنساء يشتغلن بالتخريب والإحراق وهجم بنو علي على الفرقية وديرونة ورويسة البساتنة وحرقوها قاله في تاريخ العلويين. وفي سنة 1286 كانت الواقعة المعروفة في جبال النصيرية بوقعة الوالي، وسببها أن طائفة الكلبية النصيرية ظهر منها شقاوة، وخالفت أوامر الدولة فأرسلت هذه والياً لتمهيد الأمور وإرجاع العصاة إلى الطاعة، ومعه جيش قدر بعشرة آلاف فسار إلى قرية الجديدة ورابط، فأرسل الوالي يطلب مقدمي الكلبية ووجوه النصيرية ومقدميهم ومشايخهم المعتمد عليهم من قضاء صافيتا إلى ناحية البجاق ولما وافوه قبض عليهم جميعاً وسار الجيش إلى قرية المرج وأمر بحرق القرداحة أكبر دساكر تلك الجهة، كما أحرق بعض قرى الكلبية والنواصرة ثم مضى إلى بني علي وأحرق وأفسد وعذب جميع الطوائف النصيرية من عمل صافيتا إلى البجاق، ولما شفيت صدور الجيش من العذاب والتخريب، التأم مجلس إداري في جبلة فحكم بصلب ثلاثة من أعاظم الطائفة الكلبية وصلب آخر من بني علي، وأخذت الحكومة الباقين إلى بيروت فسجنتهم خمس سنين ثم برأتهم وأطلقت سراحهم. ويحدثنا الشيوخ أن أيام السلطان عبد المجيد وعبد العزيز كانت سعيدة على الشام في الجملة، وإن كان ذالك الدوران مبدأ تصفية حسابات الدولة، فقد أعلنت رومانيا في أيام عبد العزيز استقلالها، وتخلت الدولة عن الصرب، وطلب سكان كريت أن تدخل الإصلاحات على جزيرتهم، فلما رأوا إهمالاً من الدولة طلبوا ضمهم إلى اليونان ولكن الباب العالي قوي عليهم ونجحت سياسته. وفي سنة 1868 نزعت مصر عن الدولة، وأصبحت خديوية تدفع خراجاً معيناً للسلطنة، ثم هاج سكان البوسنة والهرسك وساءت حالة السلطنة وأصبحت

خلع عبد العزيز وتولية مراد الخامس:

الديون العمومية أربعة مليارات فرنك بعد أن كانت قبل عشر سنين 375 مليوناً أنفقها السلطان في خصوصياته. وبينا كان عسكر الدولة يحتاج إلى المال في بلغاريا، والموظفون لم يتناولوا رواتبهم منذ أشهر، كان عبد العزيز يفكر في نقل قسم من ثروته الخاصة على باخرة أجنبية إلى أودسا. هذا والثورة فاشية في بلغاريا، والصرب والجبل الأسود تحاربان الدولة، وأوربا تخاطب الحكومة في أمر النصارى الذين كانت تخشى على حياتهم مخاطبة الآمر للمأمور فتمسّ كل يوم عاطفتها، وشهرت الدولة إفلاسها ولم يصرف السلطان من الأموال التي اقترضها سوى واحد من خمسة عشر على الجيش والأسطول. برهان واضح على قبح الحكم المطلق كيف كان نوعه وحالة القائم به، وأنه إذا اتفق أن جاءت فيه بعض أيام راحة فهي نسبية لا تكون معياراً، ولم تربح الدولة من عهد عبد العزيز سوى تأسيس نظارتين مهمتين: العدلية والمعارف. خلع عبد العزيز وتولية مراد الخامس: شقيت السلطة بإدارة عبد العزيز وكادت تتداعى أركان الدولة وهو لاهً في أفراحه لا يبالي بما تخبؤه الأيام، ما دام كل من تحت سماء السلطنة عبيده الخاضعين، وأصبح لا ينفذ أمراً للوزارة، وكأنه عرف حالته فأخذ يفاوض إمبراطور روسيا سراً ليحميه فاطلع الوزراء على الأمر، فلما رأوا سوء المغبة عياناً تآمروا على خلعه، فاجتمع الصدر الأعظم مدحت باشا وناظر الحربية حسين عوني باشا ورشدي باشا المترجم من أعاظم رجال السلطنة بالاتفاق مع الشريف عبد المطلب، وكان ذلك برأي مدحت باشا أولاً، وأسرعوا في خلع عبد العزيز على حين فجأة، قبل أن ينقل ثروته إلى الديار الأجنبية، ويطلع على ما دبروا له فيبطش بالمتآمرين، وذلك بفتوى شيخ الإسلام حسن خير الله أفندي أثبت فيها عليه العَتَةَ والجهل بالأمور السياسية، والإسراف في أموال الأمة بما لا تستطيع تحمله وإنفاقه في شهواته، وإخلاله بعمله في أمور الدنيا والدين مما ساق الملك والملة إلى الخراب. ونصبوا بدله مراد الخامس. ولما كان عبد العزيز على جانب من عزة النفس وشمم السلطنة صعب عليه

عهد عبد الحميد الثاني:

الخلع فطلب مقراضاً يقص به شعره فانتحر بقطع بعض عروق يديه وقيل بل قتل بيد أثيمة وهو غير صحيح. وقد ساعد سفير إنكلترا رجال الدولة القائمين بهذا العمل، بأن استدعى قسماً من الأسطول الإنكليزي إلى ميناء الأستانة ليلجئوا إليه إذا انكشفت مؤامرتهم قبل إتمامها. ولما تربع مراد في دست السلطنة تنازل عن ستين ألف كيس من مخصصات القصر وترك للمالية ريع المناجم والمعامل على حين كان يرسف في قيود ديونه التي تراكمت عليه منذ ولايته العهد، وقد أنافت على مليون ليرة وليس في الخزينة من المال ما يكفي إلا لسدها وبعض زيادة طفيفة، والجند والموظفون لم يتناولوا رواتبهم منذ أحد عشر شهراً. وكان مراد ليلة خلع عبد العزيز ارتاع فأصابه مسّ من الجنون لما بشروه بالبيعة له بالسلطنة، على صورة لم يكن يتوقعها واشتد خلله بعد أيام من توليته عندما بلغه مقتل حسين عوني باشا فلم يتلطف مبلغه بالأمر وقال له إن الوزراء قتلوا فقال الآن جاءت نوبتي في القتل وبدأ معه الجنون المطبق، فلم يسع أهل الحل والعقد إلا خلعه بعد أن سكتوا على ذلك شهرين، فخلعوه بإثبات جنونه المطبق ونصب مكانه السلطان عبد الحميد الثاني يوم 16 شعبان سنة 1293، بعد أن تعهد لمدحت باشا بأن ينشر القانون الأساسي، ويؤسس في السلطنة حكومة دستورية. عهد عبد الحميد الثاني: تولى عبد الحميد زمام السلطنة وروسيا تهيج ممالك البلقان، والدولة مائلة إلى السقوط لإسراف عبد العزيز، فألغى جانباً كبيراً من نفقات المطبخ السلطاني وكانت نفقاته على عهد عبد العزيز أربعين ألف ليرة في الشهر فأنزل مبلغاً لا يستهان به، وقضى أن لا تخرج من المابين موائد الطعام بل أن يأكل فيه من له حق الأكل، وألغى الامتيازات التي كانت لوالدة السلطان، لأن والدته ماتت وهو صغير فتوفر بذلك 150 ألف ليرة نفقات سنوية، وأخذ يتولى بنفسه إدارة الشؤون ويتفنن في الجاسوسية ليطلع على الصغيرة والكبيرة. لكن روسيا أعلنت الحرب على الدولة فنزعت البوسنة والهرسك من أملاكها واستقلت الصرب والجبل الأسود، وانهزم العثمانيون أمام الروس وخرجوا من حربهم

وقد أضاعوا جزءاً مهماً من مملكتهم وما يربو على مائتي ألف كيلو متر مربع من الأراضي، وسبعة ملايين من الرعايا، وانسلخت جزيرة قبرص عن السلطنة وقضت معاهدة برلين 1294 أن لا تسلب من الدولة الإمارات التي كانت تابعة لها فقط، بل نصف أرضها في أوربا، وأن يتعهد السلطان بإصلاح مكدونية وكريت وأرمينية وتحملت السلطة غرامة باهظة. وأعلن السلطان القانون الأساسي في المملكة وسارع بتأليف مجلس نيابي ومجلس شيوخ واجتمع مجلس الأمة قبل أن يحضر نواب اليمن وبغداد والبصرة وطرابلس الغرب لبعد ولاياتهم واكتفوا بوجود ثلثي النواب، وانتهت معاملة أعضاء مجلس النواب بعد ثلاثة أشهر من نشر القانون السياسي، ولم يكن انتخاب النواب بالرأي العام بل بتعليمات مؤقتة بمعرفة مجالس الإدارة. ولما تناقش النواب في مسألة الصلح مع روسيا لم يرتضوا بالشروط الصعبة التي اقترحتها الدولة الظافرة وحدث في المجلس أخذ ورد، شق ذلك على عبد الحميد وربما بدرت بوادر من بعض النواب بحق السلطان فأمر بإقفال المجلس، وكان على حماة يرضى معها أن يتنازل عن ثلثي المملكة على أن يضمن له عرشه، فصدر أمره بتوقيف أعمال مجلس النواب إلى مدة غير معينة وأمر بإخراج عشرة من نواب الولايات في ثمان وأربعين ساعة من الإستانة، وكان منهم خمسة من ولايات الشام فأظهر بذلك أول صورة من صور استبداده خالف بها الأصول النيابية، ولم تتمتع الأمة بحرية الدستور سوى أربعة أشهر لأنه صعب على مانحه أن يسير على غير خطة الاستبداد، وندر أن يجيء من المستبد إلا مستبد، فزاد حنق الأحرار والغيورين على بقاء السلطة العثمانية، وأخذ هو يشتد خوفه على نفسه، ويقضي على من كان خلع عمه عبد العزيز على أيديهم من الوزراء، ولاسيما مدحت باشا الذي نقله إلى ولايات بغداد والشام وإزمير، ومنها إلى حبس الطائف فقتله هناك، وأخذ يستكثر من الجواسيس وأصبح ولا همّ له بعد سنين إلا اتخاذ الاحتياطات لذلك، وكثرت أوهامه وظنونه، وأنشأ يراقب المطبوعات مراقبة دقيقة مضحكة، ولا يسمح بنشر جريدة ولا كتاب على الأكثر إلا إذا طرز باسمه واختلقت له فيه الأماديج. وفي أول عهده 1881م أخذ الصهيونيون ينزلون فلسطين مئات كل سنة،

انسيال الدروز على جبل حوران ووقائعهم:

وهم مقدمة الصهيونية الذين كانوا يحاولون أن يقيموا بناء القومية اليهودية في فلسطين ويعيدوا لصهيون أي القدس مجدها بإنشاء المعبد الذي خرب وعرش داود. انسيال الدروز على جبل حوران ووقائعهم: مضت قرون على لبنان قبل منحه استقلاله النوعي عقيب حوادث الشام وهو بورة الفتن، ومنبعث الثورات والقلاقل، لأنه كان فيه كتلتان عظيمتان بل دينان مختلفان الموارنة والدروز. كل منهما يريد التوسع في السلطة، وكل منهما تعلم الطاعة لرؤسائه وعقاله، يسير بقيادتهم يوم الكريهة، أو يجتمع تحت لواء صاحب إقطاعه راضياً مختاراً، وكل منهما يستمد من قوة غريبة. والموارنة أقدم استمداداً وصلات بالأمم اللاتينية من جيرانهم، وجيرانهم أشد بأساً وأكثر مضاء أثبتوا في مقاتلتهم الصليبيين، فكان قتالهم لهم أشد من مناجزة بعض الطوائف الإسلامية من سكان أرجاء الساحل لهم. فلما وقع ما وقع في حوادث لبنان عام 1860 قضت الطبيعة على بعض رجال طائفة الدروز أن يهاجروا إلى جبل حوران فرحلوا إليه في فريق من إخوانهم أهل وادي التيم والجبل الأعلى وصفد وعكا وغوطة دمشق وإقليم البلان وكان منهم طائفة فروا من وجه القضاء في الأصقاع الأخرى، وآخرون أتوا حوران بدافع الحاجة، فكثروا سواد من كانوا حلوا في هذه الربوع أيضاً من أبناء مذهبهم، وأول نزول الدروز في حوران بعد وقعة عين دارة المشهورة في لبنان سنة 1710م 1122هج فتألفت كتلة منهم هناك وقويت عقيب حوادث الشام، وأخذ الدروز يرجعون إلى أخلاق البادية بعد أن أوشكوا أن يدخلوا في الحضارة في اللبنانيين الغربي والشرقي. اعتز قدماء الدروز بإخوانهم الذين جاءوهم وأخذوا يجمعون شملهم على عادتهم بإمرة قوادهم، وكان أهمهم بنو حمدان ثم أسرة بني الأطرش التي أصبح معظم الجبل بتدبير كبيرهم إسماعيل الأطرش خاضعاً لهم، وسلطة هذا البيت تتناول أكثر أنحاء الجبل والأكثرية معهم على الأغلب. ومنذ نزول الدروز في حوران ما برحوا يناوشون النصارى والسنيين من أهل القرى والبادية

القتال، حتى استقلوا به استقلالاً تاماً، وكانت أول وقائعهم المشهورة بعد وقائع إبراهيم باشا ما حدث سنة 1296 بينهم وبين أهل بسر الحريري من أجل فتاة، فهجم الدروز على بسر وقتلوا من أهلها ثمانية أو عشرة أشخاص وقتل من أهل بسر خمسة أثناء الدفاع عن أنفسهم، وعند ذلك تجمع الحورانيون ألوفاً، وأراد مدحت باشا أن يجيب الحورانيين إلى مطالبهم وهي إنزال العقوبة بثلاثة وعشرين رجلاً من الدروز، فأبى الدروز إلا أن يعطوا دية عن القتلى، وقصد أن يسوق قوة على حوران للتهديد لا للضرب، ثم حلت المسألة صلحاً. قال عثمان نوري في تاريخه: وعقيب ذلك طلب مدحت باشا إعفاءه من ولاية سورية، فاغتبط عبد الحميد بذلك لأنه كان يرى أن بقاءه طويلاً في هذه الديار لا يجوز، لأنه تذرع بعمرانها وهو منه موجس خيفة على الدوام. وقال كان النزاع والجدال قائمين على ساق وقدم بين أهالي سورية المتباينين في الدين والجنس، فلما وليها مدحت باشا دخلت في طور السكينة والأمن، ولا سبيل إلى تقرير الحكم العثماني في أرض تتأثر فيها الأفكار بالنفوذ الأجنبي إلا بانتظام الإدارة وإجراء العدل وتنظيم المالية، وهذا ما عمله مدحت باشا. وكان عبد الحميد يرائيه، ويحول دون أمانيه، بحيث أن السلطان لم يكن يتوقف ساعة عن بث بذور الاضطراب في الولاية لينتقم من مدحت باشا، وذلم بتحريض مثل المشير أحمد أيوب باشا وجميل باشا عليه اه. انتهت مسألة الدروز بعد أن ساقت الدولة عليهم قوة إلى القراصة من عمل نجران وقتلت منهم ستمائة واستأمن الرؤساء، ولم يكن سواد الدروز في الجبل إذ ذاك أكثر من عشرة آلاف، وتسمى هذه الوقعة بوقعة القراصة وهو ماء قرب نجران، ولما لم تحسن الدولة الإدارة في الجبل زادت جرأة الدروز إلى أن كانت سنة 1298 فهجموا على قريتي الكرك وأم ولد وذبحوا سكانهما على بكرة أبيهم ولم يبقوا حتى على الأطفال الرضع، فسيقت عليهم حملة بقيادة المشير حسين فوزي باشا أسفرت عن ربط دية شرعية مقسطة عليهم، وتأسيس قائم مقامية جبل الدروز مؤلفة من ثمان نواح وتعيين القائم مقام والمديرين منهم. كانت الدولة تقاسي الأمرين في تأديب عصاة الدروز كل مرة. قال مدحت باشا في مفكراته سنة 1297 والذي زاد في الطين بلة أن فرنسا تحمي الموارنة

المصلح مدحت باشا وطبقته من العمال:

الكاثوليك وإنكلترا تتشيع للدروز، وكل هذا من السياسات التي تريد بها هاتان الدولتان توسيع نفوذهما في سورية أو ضرب إحداهما بالأخرى، فلما أخذت الدولة أهبتها لتأديب الدروز قام سفير إنكلترا في الأستانة يشكو من ذلك، ويكرر التردد على المابين والباب العالي فأصبحت الأوامر ترد تترى بحل هذه العقدة حلاً سلمياً. ومن جملة تدخل فرنسا أنها تجاهرت بحماية يوسف كرم قائم مقام النصارى في شمالي لبنان لما ثار على متصرفه داود باشا لما أراد زيادة خراج لبنان من 3500 كيس إلى 7000 كيس ليزيل العجز من موازنة الجبل فنال من عسكر التصرف فاستنجد هذا بواليي دمشق وبيروت فأرسلا إلى متصرف الجبل زهاء عشرة آلاف مقاتل فسارت إلى كرم. وعندها تدخل قنصل فرنسا في الأمر ومنح الحماية الفرنسية ليوسف كرم فركب من بيروت على دارعة قاصداً إلى فرنسا وكان ذلك سنة 1866. المصلح مدحت باشا وطبقته من العمال: اضطر مدحت باشا أن يتخلى ويا للأسف عن ولاية سورية وقد طبق مفاصل الإصلاح في أرجائها الواسعة على أسرع ما يمكن، أنشأ الطرق والمكاتب والمدارس ونشط الصناعات والزراعة، وضرب على أيدي المرتشين، ونشر الحرية الشخصية، واقن الحكام والمحكوم عليهم دروساً في الوطنية والشعور بالواجب وكان يرجى للشام أن تسبق الأستانة في الحضارة بفضل إصلاحاته لو طالت أيامه وأيام غيره من الولاة المقتدين أمثال ضياء باشا في دمشق، ورستم باشا وداود باشا في لبنان، وكامل باشا في حلب ممن كانوا بسيرتهم معلمين للحكام، وضعوا لهم أصول الإدارة، وحرصوا حقيقة على إمتاع الناس بالعدل وأعمال العمران، فكانوا حجة على الدولة بأنها تستطيع الإصلاح إذا أرادته على قلة الرجال لديها على شرط أن تتركهم يعملون بوجداناتهم وعقولهم، وما عهد إليهم تنفيذه من القوانين الكافية بمعرفة أرباب النزاهة من رجال الشام. وقد تعاقب على دمشق خلال هذا القرن 61 والياً وعلى حلب 52 والياً

وهكذا سائر المتصرفيات الثانوية، لا يسلم الوالي إلا ريثما يُودّع، والطيب منهم هو الذي لا تطول أيامه خاصة، لأن حساده كثيرون في الأستانة وفي الولاية التي يتولاها وتقارير الجواسيس عند عبد الحميد مقبولة لا ترد، والدولة يصعب عليها أن تتفلت من قيودها القديمة قيود حكومة القرطاسيات أي المفاوضات الطويلة بالورق، فإذا رأت رجل جد من أبنائها يحاول أن يعلمها الصواب في المعاملات، لا تلبث أن ترميه بكل شنعاء، وكان حظ النوابغ في كل دور من أدوار العثمانيين ولا سيما في العهد الحميدي أن يغض منهم ويسعى إلى التخلص من إصلاحهم ومراميهم، ولسان الحال يناديهم لا نحب أن نخرج عم مألوفنا العاطل المجمع على عطله ونؤثر أن نموت فيه على سلوك سبل التجدد: من يهن يسهل الهوان عليه ... ما لجرح بميت إيلام

العهد العثماني من سنة 1300 إلى سقوط عبد

العهد العثماني من سنة 1300 إلى سقوط عبد الحميد الثاني الحالة في مبدإ القرن الرابع عشر وإصلاح جبال النصيرية والسبب في خرابها: غدت الدولة العثمانية أوائل هذا القرن قوية الشكيمة لسرعة الاتصال مع دار السلطنة، وتشعب الأسلاك البرقية وطرق البريد، وشدة مراقبة دول أوربا لأعمال السلطنة، وتسابق الدول في تأييد نفوذهن في الولايات. وامتاز لبنان الذي كان يكثر ترداد اسمه بثوراته وإقطاعاته الحين بعد الآخر، بأن انقطع ذكره بعض الشيء من باب المسائل المزعجة، وأصبح يعمل لنفسه بما متع به من امتياز خاص، ولم يعد الدرزي والماروني فيه يقتتلان كما كانا في القرن الماضي لتأييد سلطان ملك أو أمير، أو للأخذ بيد صاحب الإقطاع أو حباً بالغارة والقتل والنهب. ونشبت فتن في جبال النصيرية لأن هؤلاء لم يتأت لهم نصير من الغرب كما قام للبنانيين يأخذ بأيديهم إلى السعادة التي يتخيلها لهم، ويسوقهم إلى طريق الحكم الذاتي ولو على صورة ابتدائية، وكان أهل السنة المجاورين للنصيرية ينظرون إليهم نظر الازدراء، وهم في جبالهم يعدون قوة يحسب حسابها، وإذ كانوا طوع إرادة مشايخهم ورؤساء قبائلهم كانت سلطة الدولة عليهم قليلة. وإذا كتب للدولة أن أحرزت بعض سلطان عليهم في الشواطئ البحرية أو في الأماكن القريبة من ضفاف العاصي من جهة الداخل، فإن أعالي الجبال كانت معتصمهم، وربما كان فيها أماكن لم تدسها حوافر الخيول التركية لوعورة مضايقهم، وقد أرسل السلطان عبد الحميد رجلاً من خاصته اسمه

ضيا باشا جعله متصرفاً على لواء اللاذقية في مبدإ هذا القرن فرفع عن النصيرية الظلم، ووسد الحكم لبعض مشايخهم ووجوههم، بأن جعلهم أعضاء في المحاكم والمجالس ليشعر نفوس قومهم العزة بعد الامتهان والذلة، وأنشأ لهم جوامع ومدارس فأخوا يتعلمون ويصلون ويصومون، وأقنع الدولة بأنهم مسلمون فلم يعصوا له أمراً، ونفس من خناقهم فبدءوا يشعرون بأنهم بشر كسائر مواطنيهم وأنهم شركاء في هذا القطر لهم فيه حقوق سائر أرباب المذاهب وبعد أن ترك هذا المتصرف العاقل منصبه الذي دام بضع سنين على أحسن ما يكون، مع أنه كان بعلمه في درجة الأميين، خربت المدارس وحرقت الجوامع أو دُنست، وكانت الدولة في أكثر أدوارها لا تأخذ من معظم إقليم النصيرية شيئاً يذكر من الضرائب، والقائم مقام الذي يجبي منهم ضريبة السنة أو بقايا ضرائب السنين السالفة تصفق له الدولة وينال تقدير ولاة الأمر فيشرفونه برتب الدولة ومراتبها، وكانت جباية خمسين ألف قرش من النصيرية تستلزم إعداد حملة عليهم ينفق عليها ما يقرب من المبلغ المجبي أحياناً. قلنا: إن النصيرية كانوا ينظر إليهم نظر ازدراء. وقد سألنا عالم جبلهم في أيامنا الشيخ سليمان الأحمد عن رأيه في الحوادث الأخيرة، فكتب إلينا يقول ما نثبته بالحرف لأن قوله حجة في هذا الباب قال: كان أهل الحاضرة اللاذقية في هذا القرن يعدون ما يفعله جهلة العلويين النصيرية بفتيا علماء الدين، فيعصبونه بهم لدى الحكام ويغرونهم بهم وبالرؤساء، ويحرضونهم على الفتك بهم بكل واسطة، وكان الدين أعظم الوسائط التي توصل بها إلى هذه الوحشية والبربرية ومن جري ذلك المصاب العظيم الذي وقع على آل سعيد البهلولية من أشرف وأجل البيوت العلوية في حادثة سنة 1295 وما كان العلويون ليحملوا وزر مصائبهم على الدولة التركية، بل على وجهاء البلد ورؤسائه السنيين وعلمائهم، ثم على أهل الفساد من مقدميهم ورؤسائهم الذين كانوا يسارعون لما بين عشائرهم من الضغائن والأحقاد والغارات إلى الدخول بخاطر الأغوات ثم بخاطر الحكام عن أيديهم، ومن تم له الفوز جردت له الحكومة العساكر الجرارة، وسلمته قيادتهم الفعلية فيسطوا بهم وبعشيرته على عدوه. ولا تسل عما تفعل الهمجية. ومتى دوخت تلك العشيرة وقتل أشرافها

فتن درزية وفتن أرمنية:

وذللت، عاملت الحكومة العشيرة الظافرة نفس تلك المعاملة دواليك، حسبما تقتضي سياسة التفرقة والأحوال. ولا أدري إلى أي عصر تمتد سلسلة هذه الروايات المحزنة التي نرجو من الله أن يحسم أسبابها بأيدي المصلحين. والتبسط في شرحها لا يجدي أو لا ينتج إلا أن الشرقيين هم السبب الأعظم في بلاء أنفسهم وحجة الله فيه على المتسمين بسمات الدين، وتلك حزازة في نفوس المصلحين. والذي أراه أن قدم الحكومة التركية لم ترسخ في جبال العلويين حق الرسوخ وخاصة في مقاطعة الكلبية، وكانت الحكومة إذا أُحرجت جردت العساكر فنهبت وسلبت وحرقت وفتكت، فإذا رجعت العساكر، عادت العشائر إلى ما كانت عليه، يضبط الحاكم الحازم جماحهم، ومتى بُدل بحاكم ضعيف الإدارة أو مرتش، عم البلاء من الرؤساء الفسدة والأشقياء الجهلة. لما حكم إبراهيم باشا المصري قطع دابر أهل الفساد، وضرب الأمن أطنابه بحيث لم يكن يسمع في عرض البلاد وطولها نهب، ولا قطع سبيل، فرتع الأنام في بحبوحة الأمن مدة حكمه الذي كان مع صرامته نموذج العدل والإنصاف، فلما دالت دولته حصل من اختلال الأحوال ما لا يحصره المقال 1هـ. فتن درزية وفتن أرمنية: كان يظن بعد أن خمدت ثائرة الفتن في لبنان وما إليه من جبل اللكام أن الناس يرتاحون من الحملات والغارات إلا ما كان من غزو البادية بعضهم مع بعض فإن ذلك من المتعذر لأنه مرض قديم مستعص نشأ قبل الإسلام بقرون، ولم تقو جميع الحكومات التي تعاقبت على الشام أن تقضي عليه وتستأصله من أصوله، بيد أن القوة التي أحرزها جبل حوران بالدروز الذين هاجروا إليه جعل من الجبل موطن غارات وغزو، وأصبح هذا الجبل إبرة سفينة الأمن في الشام، وكان يتلبس بهذه الصفة جبل لبنان في القرون الماضية فيتعب سائر الأرجاء الشامية، ويضطر الحكومة أن تتقي شره بإثارة أهل الجوار عليه، وإلقاء الخلاف بين أمرائه ومشايخه. نشبت فتن في جبل حوران في أعوام مختلفة، وكثيراً ما كان بعض أشقياء

الدروز فيه يطيلون أيدي الاعتداء على سكان حوران والغوطة والمرج وجبل قلمون، فيتحد أشقياء المقرن القبلي منه مع عرب السردية ويغزون في البلقان وما إليها قبائل بني صخر والحويطات والسرحان وقرى حوران الجنوبية، وينضم أشقياء المقرن الشرقي إلى عرب الصفا يغزون تجار بغداد ودير الزور، ويتحد أشقياء المقرن الشمالي مع عرب الحسن ويهاجمون قرى جبل قلمون والنبك وحمص، ويتحد بعضهم مع عرب اللجاة فيسلبون قرى سفوح جبل جوران ويقتلون الموظفين ويمثلون بالعسكر إذا خلو بهم، ولا يدفعون الأموال الأميرية، وبذلك تأيدت شوكة الدروز وخافهم جيرانهم من أهل القرى والبادية، وتخوفت الدولة عاقبة أمرهم للرابطة القوية بين أفرادهم، وهم إذا جاءهم الغريب، والدماء تسيل بينهم كالسيول، لا يلبثون أن يكونوا عليه يداً واحدة ويصدقوا قتال عدوهم المشترك، بما فيهم من شمم وإباء عربي وعند الشدائد تذهب الأحقاد. رأى الدروز في سنة 1304 وقد ارتاشوا وتأثلوا ونما عددهم أن يستولوا على قرى اللجاة للتحصن بها عند الإيجاب واستثمار ما يمكن استثماره منها فاحتشد نحو خمسمائة فارس منهم بقيادة شبلي وفندي الأطرش، ووصلوا إلى المسمية وهاجموا قلعتها فردوا عنها. وفي سنة 1308 انقسم دروز حوران إلى فرقتين المشايخ والعامة وزادت بينهم العداوة والبغضاء فأدى ذلك إلى حدوث وقائع متعددة ودخل بعض المشايخ إلى قلعة المزرعة فأرسلت عليهم ست كتائب مشاة وألاي فرسان مع مدافع، وفي أثناء مغادرتهم ثكنة المزرعة تعرض لهم العامة فقابلهم العسكر بالضرب، فانهزم الدروز بعد أن تحملوا خسائر كلية ودخل الجند السويداء وأسرعوا ببناء ثكنة عسكرية. وتعرف هذه الوقعة بوقعة العامة ونال الدروز من الجند في سنة 1311 في طريق المزرعة وحاصروا قلعتها ثلاثة أيام. وفي سنة 1313 هجم الدروز على قرية الحراك وقتلوا أكثر أهلها وهدموا جامعها الحصين ونهبوها مع قرى المليحة الغربية والمليحة الشرقية وحريك ودير السلط وكحيل فأرسلت الدولة عليهم 1314 حملة بقيادة أدهم باشا ولما بلغ أول حدود الجبل تعرض له الدروز فقابلهم العسكر بالمثل، وبعد وقعة القراصة ونجران والسجن وأم العلق دخل العسكر السويداء.

ولو وضعت الإصلاحات الإدارية موضع العمل بجد ونشاط لاستقام الأمر كثيراً، ولقلت الفتن التي تقع بين الرعايا والعمال. وكانت الحكومة سنة 1315 تتذرع بتطبيق أصول الأعشار بصورة الأمانة على حسابها، فقتل الدروز ضابطاً كبيراً مع ثلاثين جندياً في عرمان، ومدير ناحية صرخد ورفقاءه من الدرك، وأكثر حراس الأعشار في جميع قرى الجبل فأرسلت عليهم الحكومة مفرزة مؤلفة من أربعمائة جندي وفي رواية درزية أربع كتائب قتلوها بالفؤوس والسيوف إلا قليلاً في محل يدعى العيون قرب عَرّمان وغنموا مدفعين وجميع الأسلحة والذخيرة وحاصروا ثكنة السويداء 28 يوماً ريثما وصلت القوة العسكرية بقيادة المشير طاهر باشا مؤلفة من 54 كتيبة، وحدثت بينهم وبين كتيبتين كانتا في آخر القوة حرب دامت ست ساعات وانهزم الدروز في وقعة الشبهة. وخوفاً من وقوع قتل عام رجع العسكر عنهم. وفي هذه المرة قبضت الحكومة على ستمائة رجل منهم مائتان من رؤساء العصابات، ونفتهم من الشام ثم أرجعتهم مكرمين من الأستانة فابتاعوا بالدراهم التي نالوها من إحسان الدولة سلاحاً في طريقهم ليقاتلوا به عمالها. وفي سنة 1319 ساقت الدولة على الدروز قوة من الفرسان والمشاة إلى الصفا واللجاة للتنكيل بهم، واسترداد ما سلبوه من المواشي وغيرها. وفي سنة 1321 وقع خصام بين طائفتي الحلبية والمغوشين من الدروز أسفرت عن قتل أكثر من أربعين شخصاً، فأرسلت الحكومة ثلاث كتائب لإجراء التحقيق. وهكذا توالت وقائع الدروز وأكثرها في مقاومتهم للدولة كلما أرادت أن تدخلهم في الطاعة، وتجري عليهم الأحكام التي تجري على جيرانهم من أخذ رسوم الأغنام، وتسجيل الأملاك أو النفوس أو أخذ الأعشار. ولكم جرت وقائع لذلك في قنوات ومفعلة والشوفي والحجلة والكفر ونجران، وكم من وقائع بين المساعيد والعزام وبين بني الأطرش الدروز وبني المقداد السنيين. وبعد جهاد أربعين سنة أصبح الدروز في جبل حوران الأكثرية المطلقة بعد أن كانوا أقلية في أواخر القرن الماضي وزادت نفوسهم ستة أضعاف عما كانوا قبل خمسين سنة.

الحملات على جبل الدروز وعلى الكرك:

- الحملات على جبل الدروز وعلى الكرك: وفي سنة 1324 اعتدى دروز حوران على عرب المعجل فغزا الدروز المعجل في النقرة من حوران فقتل المعجل منهم نحو سبعين رجلاً ثم اعتدى المعجل على قافلة درزية وقتلوا رجلاً من أكابر بيوتهم بالقرب من براق، فهاجمهم الدروز في ضمير من مرج الغوطة وقتلوا نحو أربعمائة من العرب، وأبقوا على النساء، وفي سنة 1328 غزا دروز حوران جيرانهم أهل قريتي معربة وغصم وسكانهما مسلمون ونصارى على أثر خصام وقع بين نواطير القرية ونواطير بصرى على الكرم فقتلوا 59 رجلاً وامرأة عدا الجرحى ونهبوا القسم الأعظم من قرى السهوة وجيزة وسماقية وطيسة، فأرسلت عليهم الدولة حملة مؤلفة من ثلاثين ألف جندي بقيادة سامي باشا الفاروقي فضربهم ضربة خفيفة قتل فيها زهاء ألف رجل منهم ونحو مئة وخمسين من الجند وأحرقت بعض القرى ولا سيما الكفر أهمّ موقع حربي في الجبل وحواليها دار معظم القتال، وغنم الجند والضباط ما فيها من متاع وحلي وأرزاق مما حشره الدروز فيها من أنحاء الجبل، ولم تستفد الدولة من هذه الحملة إلا إحصاء نفوس الجبل، واستأمن الدروز فحكم على بعض زعمائهم وأشقيائهم بالصلب فصلبوا في دمشق وجند بعض شبانهم وعفي عن بعض المجرمين وجرم بعض الأبرياء. وهكذا غرمت الدولة والأمة حتى امتلأ صندوق القائد فيما يقال ولم تنفذ خطط الإصلاح التي وضعت على العادة في كل مرة، ومنها ما يرضى به الدروز لكن تطبيقه يحتاج إلى إخلاص وحكمة. وقد أبان الدروز في هذه الحرب شأنهم في أكثر حروبهم وغاراتهم عن مهارة في الفنون الحربية وشجاعة متناهية. وأرادت الدولة في تلك السنة أن تحصي نفوس سكان لواء الكرك كما أحصت سكان لواء حوران، فانتقض أهل الكرك على الدولة لأنهم بادية على الأكثر والبادية تخاف الجندية أكثر مما يخاف منها أهل المدن والمزارع لأن عهدهم بالحكومة حديث وصعب التأليف بين طبائعهم ومعاملة الموظفين الفاسدين وكان لواء الكرك أُسس في سنة 1311 على سيف البادية بين الحجاز والشام، وقد ثبت للدولة أن المرسلين يعملون بنشاط لتنصير تلك الأصقاع، وكان ذاك الإقليم من قبل بعيداً عن كل سلطان ويحكمه رؤساء عشائره، ولم يكن أكثر قراهم

معموراً مأهولاً، وكانت ديارهم كأنها قطعة من الحجاز القاحلة لا الشام الخصيبة، وصادف أن قطعت مرتبات عرب بني صخر والخرشان وغيرهم من أهل الوبر، فقام البدو الذين حرموا رواتبهم وهي أربعة آلاف ليرة في السنة، وسطوا على بضع محطات السكة الحديدية الحجازية على طول أكثر من مائتي كيلو متر في أرض اللواء، ونهبوا قطاراُ بحمولته وقتلوا وجرحوا بعض موظفي الخط، وقام الكركيون باديهم وحاضرهم وأطالوا يد الاعتداء على التجار والموظفين والحامية فقتلوا منهم نحو 150إنساناً، ولو لم يلجأ أكثرهم إلى قلعة الكرك لهلك في هذه الفتنة بضع مئات وحرقت الأماكن الأميرية كلها ونهبت خزانة الحكومة ودور الموظفين وأُحرق قسم منها، وخرب قسم عظيم من المدينة 549 داراً بإطلاق القلعة المدافع عليها وقطع العصاة الأسلاك البرقية وهاموا على وجوههم في البراري، وبعد أن جاء المدد للمحصورين في القلعة قبضت الدولة على عشرات من الثائرين عدا من قتلهم هناك صبراً وحكمت عليهم بأحكام مختلفة وأكثرهم بالقتل. ولم يشترك أهالي معان والطفيلة في هذه الفتنة، وكانت النية أن يقوموا مع الكركيين في يوم واحد. وجرت وقائع بين عسكر الدولة وعرب المجالي وبني حميدة وابن الطريف وكورة وسليط وغورين وكثر ربا وعراق وخنزيرة والمعايطة وعبيد وجلامدة وأغوات بالقرب من قرية كفر ربة استسلم فيها بعضهم، وبلغ عدد القتلى من الكركيين نحو ألفي نسمة. ولم يحدث بعد هذه الوقعة شيء يذكر في أرض الشام اللهم إلا هياج العربان للغارة والنهب في الشمال والجنوب، وكانت الدولة تسوق عليهم قوى خفيفة تارة، وتتركهم وشأنهم تارة أخرى، خصوصاً إذا لم يقع منهم على أهل المدن والقرى اعتداء مباشرة، ولم يتدخل قناصل بعض الدول لمأرب لهم، كأن يكون في القتلى بعض النصارى أو أن تقضي السياسة بأن يوجدوا مسألة جديدة تحب دولة ذاك القنصل استثمارها في دار الملك. ومن الحوادث التي وقعت في سنة 1324 1906م الخلاف الذي وقع بين الحكومة المصرية والحكومة العثمانية على حدود الشام وعقدت بينهما المعاهدة المعروفة بمعاهدة رفح وتعين الخط الفاصل الإداري بين ولاية الحجاز ومتصرفية

رأي في دلال الدروز والنصيرية على الدولة:

القدس وبين شبه جزيرة طورسينا، وكان للصحف الوطنية المصرية حملات على بريطانيا بهذا الشأن. رأي في دلال الدروز والنصيرية على الدولة: وفي الحق أن مسألتين في هذا القطر شغلتا الأفكار خلال هذه الفترة: مسألة النصيرية في الساحل، ومسألة الدروز في الداخل. أما المسألة الأولى فمما يحدث له أمثال في كثير من الأقطار، وتنتهي كل ثورة بصلب بعض أرباب النفوذ والسيطرة وتخريب بيوت الثائرين والساكنين. ورابطة النصيرية وتعلقهم بمشايخهم أقل من رابطة الدروز وهي أقرب إلى الحل إذا انعقدت. ثم إنهم ليسوا من المعرفة بحيث يتطالون إلى تأييد سلطانهم، أو تحدثهم أنفسهم بالاستقلال عن الدولة، إذ لا ملجأ لهم من الأمم الغربية يرجعون إليه ويصدرون عنه، ولكن هل كان دروز حوران مثلهم يا ترى؟ بعد أن حاول إخوانهم غير مرة أن يقيموا لهم حكومة مستقلة في لبنان ثم انسالوا على جبل حوران يحاولون الاستقلال بربوعه، والابتعاد عن سيطرة عمال العثمانيين في هذا الجبل الذي ينتهي العمران به وتبدأ البادية المترامية الأطراف؟. إن ظواهر الحال تدل على أن الدروز في جبل حوران حاولوا منذ عهد إبراهيم باشا المصري أن ينزعوا أيديهم من أيدي حكام القطر ويستمتعوا بامتياز لهم خاص، لأنهم يثقل عليهم حكم غيرهم في الجملة، وبين عامتهم وعامة غيرهم فروق في الآداب العمومية والأخلاق والعادات، وإذا ثاروا يعرفون السبب في ثورتهم، لأن مشايخ العقل منهم يلقنون أجاويدهم، وأجاويدهم يلقنون عقالهم، وعقالهم يلقون عامتهم كل ما ينفع في شؤونهم العامة فكانوا يرضون عقيب كل فتنة أن يتفقوا مع الدولة على مال معين يؤدونه للسلطنة، ثم لا يلبثون أن يمتنعوا عن أدائه مع أن الجبل الذي تملكوه بالسيف أو بالشراء بأثمان زهيدة من جيرانهم المسلمين والنصارى هو من الخصب بحيث لا يصعب عليهم أن يؤدوا الأعشار والأموال المطلوبة أو جزءاً من الضرائب التي يدفعها سائر الحورانيين، ولعلهم أو بعض مشايخهم كانوا يدلون على الدولة بما لهم من عطف بريطانيا عليهم فيتوهمون

أن ينشئوا لهم في صميم الشام دولة صغرى ناسين جميع الاعتبارات التي كانت تحول دون أمانيهم، وتهيب بالدولة إلى مناجزتهم القتال كلما حاولوا أن يرفعوا رؤوسهم. وكانت الدولة هي التي ساعدت على تعاقب ثوراتهم وتسلسل شقاواتهم واستلذاذهم بالحروب، لأنها اتخذتهم آلة في لبنان ووادي التيم وحوران للانتقام من عدوها إبراهيم باشا واستخدمتهم آلات لها في مذابح سنة الستين. ودفعتهم في طريق الشقاوة والمقاومة بمالها وسلاحها فظنوا أنفسهم قوة مهمة لا تقف أمامها قوى دولة، وعرفوا أنهم إذا ظفروا كان لهم ما يريدون، وإذا غُلبوا يحسنون مداراة رجال الدولة، ولهم من بريطانيا العظمى على كل حال دولة تسأل عنهم وتعنى بمصالحهم، فلهم أن يدلوا على جيرانهم وعلى الحكومة. وكان الشعب في معظم الأرجاء يستخف بعامة الدروز إذا اختلفوا إلى الحواضر، وإذا ذكروا يذكرونهم كما يذكرون النصيرية بالسخرية والمهانة، فيشق ذلك على جماعتهم خصوصاً والدروز لم يفقدوا أصولهم العربية ومن شأنها الشمم والإباء، فكانوا يصعب عليهم سماع ما يصمونهم به، وربما كذب الناس عليهم ونسبوا إليهم أموراً ليست من مذهبهم ولا من عاداتهم، كذبهم على النصيرية أيضاً، وكان لبعض المشايخ المتعصبين في الحواضر يد في إلقاء هذه الكراهة وهذه النفرة بين هاتين الشيعتين وبين الأكثرية من أهل السنة، الذين انشقوا منهم، ولعل الحكومة كانت تتعمد ذلك ولا يسوؤها فتغضي عما كان النصيرية والدروز يسامونه من الذل، وتفسح المجال للعامة والمشايخ البله أن يعاملوا مواطنيهم تلك المعاملة المؤلمة على النفوس الأبية، فيقابلها الدروز بمثلها يوم يكون لهم السلطان المطلق في جبلهم وأرضهم. ولو كانت الدولة بذلت شيئاً من العناية بهذين الشعبين الجبليين في الساحل والداخل، كأن تنشر بينهم التعليم الابتدائي، وتعطف على كورهم فتصلح طرقها، وتدخل عليها ما يمكن من أسباب النجاح لاستغنت هي والأمة عن مقابلتهما، وهم بعض أبنائها، بالسف والمدفع لتعيدهم كلما نشزوا إلى حظيرة

الطاعة، ولو دخلت المدنية على دروز جبل حوران ونصيرية جبل اللكام، كما دخلت مثلاً على دروز جبل لبنان، لكان من هذين الشعبين العربيين خَلقاً وخُلقاً قوة في الشام، ولما استحكم هذا النفور الذي كان من أثره ما ظهر في العهد الأخير يوم رضوا بأن ينزعوا أيديهم من أيدي جيرانهم، مع علمهم بأنهم شركاء متضامنون في هذا القطر المحبوب.

العهد العثماني من سنة 1326 إلى 1336

العهد العثماني من سنة 1326 إلى 1336 الدستور العثماني وثورته: منذ أقفل السلطان عبد الحميد سنة 1294 المجلس النيابي وعطل الأحكام الدستورية ما برح بعض أحرار العثمانيين تركهم وأرمنهم وعربهم وأرناؤدهم، يتأففون من حالة الدولة ويدعون سراً، إذا لم يكن الجهر، إلى المطالبة بإعادة هذا المجلس وقد أسسوا للوصول إلى هذه الغاية جمعيات سرية في بعض ممالك أوربا ومصر، جعلت لها فروعاً في بعض الولايات العثمانية وعملت في الخفاء زمناً، والسلطان يصم آذانه تارة، ويتصامُّ عن هذه المطالب المشروعة تارة أخرى، ويعاقب من يقتدر عليه من هؤلاء الدعاة إن كانوا في قبضته وتحت علمه بالنفي والتغريب، أو بالمداراة وإغداق الأموال والرتب على بعضهم إذا كانوا بعيدين عنه. وأهم جمعية ألفت لهذا الغرض جمعية الاتحاد والترقي، تشعبت فروعها في أنحاء السلطنة وقويت في بث دعوتها في الشام حوالي سنة 1314 وما برحت على ضم شملها وتكثير سواد القائلين بقولها وإبلاغ دعوتها في جرائد لها أنشأتها خارج السلطنة، وكلمة الجمعية تزيد انتشاراً كلما اشتد عبد الحميد في إرهاق الداخلين فيها، ولا سيما في المارس العليا في الأستانة، والمدارس العليا مجمع شمل أذكياء الطلاب من الترك والعرب والشركس والأرناؤد واللاز والأرمن والروم، فإذا عادوا إلى الولايات يضيفون إلى تذمر الأهلين من فساد الأحكام تذمراً، ويكثرون سواد الحانقين على ذاك النظام الرث القديم.

التاثت الأحوال، وتنكرت الأخلاق، وبات القول الفصل للرشي والمحاباة والشفاعات، وغلوا في التجسس والوقيعة، وكثر الفقر وعم القهر، وزاد الضغط على الأمة، ونال الجند حظ وافر من الشقاء، وغدا المرابطون منهم والغزاة لا يطمعون إلا ما يحفظ عليهم رمقهم فقط، وكثيراً ما كانوا يهلكون جوعاً كما وقع لهم في اليمن مرات، أو بسوء التدبير كما وقع لكتائب الأرناؤد في دمشق في إحدى الحملات على الدروز، فهلك مئات منهم لأنهم تركوا في العراء في تشرين الثاني فهلكوا بالزحير، وقد يخدمون السنين ولا يلبسون ثياباً تقيهم حمارّة الحر وصبارّة القر، ويطول أمد خدمتهم فيقضون العشر والخمس عشر سنة لا يسرحون، خصوصاً إذا كانوا في ديار قصية كاليمن والحجاز. أخذ أحرار الضباط يبثون في الأجناد روح الثورة، وكانوا مستعدين لقبول ما يلقى عليهم، فتمرد أولاً بعض الجند في آسيا الصغرى، ثم سرت روح التمرد إلى جند مقدونية. والجنود موقنون أن الدولة لا تهتم بأرواحهم اهتمامها بالبنادق التي يحملونها. واتفق أن ضاقت صدور المسلمين من الأرناؤد في مقدونية من طمع الدول الأوربية فيهم، وأدركوا أن العثمانية تسلمهم متى عجزت كما فعلت مع غيرهم، فيقعون في قبضة الحكومات الأجنبية على نحو ما وقع لمسلمي البوسنة والهرسك وبلغاريا ورومانيا واليونان والصرب. فقام الأرناؤد يداً واحدة في مناصرة الجيش المطالب بالدستور، واتحد الفيلقان الأول والثاني في الروم ايلي، وتبعهما الفيلق الرابع في كردستان، وذلك بالاتحاد مع عصابات البلغار. ونادى الضابطان نيازي بك وأنور بك بالدستور، أو يزحفان على دار الملك، فلم يسع السلطان إلا أن يعيد العمل بالقانون الأساسي الذي كان أوقفه منذ إحدى وثلاثين سنة، فصدرت الإرادة بوضعه موضع العمل صبيحة يوم الجمعة 25 جمادى الآخرة سنة 1326هـ 1908م وبوشر بانتخاب النواب وأطلقت حرية الاجتماع وحرية القول وحرية الكتابة والنشر بعد ذاك الضغط المنهك، وألغيت الجاسوسية التي جعلت وكدها في كشف عورات الناس بما لا يفيد شيئاً في حياة الدولة. وأخرج ألوف من الموظفين والخدمة والمغنين والطباخين وغيرهم من المابين أو قصر يلديز حيث كان السلطان أكثر أيام ملكه، وإليه انتقل الحكم من الباب العالي الذي كان في عهده اسماً

إعادة الدستور وحال الدولة بعده:

بلا مسمى، ما يريده لا يكون إذا لم يرده المابين، وما يريده المابين ينفذ في الحال بدون مناقشة ولا حوار. إعادة الدستور وحال الدولة بعده: أعيد الدستور إلى العمل بدون إهراق دماء، لأن جواسيس السلطان عبد الحميد هوّلوا له في قوة النزاع إلى الثورة من فيالق جيشه، وكانوا قتلوا بعض رجاله في سلانيك ممن أرسلهم للبحث عن قضية الثورة، كما بالغوا في تقدير قوة الأحرار وسريان أفكارهم في الولايات، فلم يسعه وهو محكوم لأوهامه وظنونه إلا أن يرد ما اغتصبه من حقوق الأمة العثمانية، ونجحت سياسة الأحرار وفشلت سياسة أعوانه الذين كانوا يتملقونه ويقولون له: إن أوربا إذا اتفقت على الدولة لا تستطيع أن تفلت من يديها، وما زال دولها متخالفات فلا يخشى على السلطنة العثمانية، أما الرعية فهي من ضعف الجانب بحيث تستطيع الدولة أبداً أن تقضي على كل ثورة تحدث في أرجاء ولاياتها، ثم إن الرعايا همج يسبحون بحمد آل عثمان في كل أوان، ولا تدرك عقولهم معنى الحرية، والحرية لا يتطلبها إلا بعض الشبان ومن لفّ لفهم من المحرومين والناقمين الذين فسدت نياتهم بما لقنوه من تعاليم أوربا المضرة. وأخذ الناس في الشام يقدسون جمعية الاتحاد والترقي التي كانت سبب هذا الانقلاب الذي أنعش الأمة بعض الشيء وكثرت الآمال والأماني في إصلاح الحال، وطردت الشام ولاتها وعمالها الذين عرفوا بالجاسوسية لعبد الحميد والنيل من رعيته، وكفّ أهل النفوذ في القاصية عن الضغط على الفلاحين، إذ عرف هؤلاء من يلهم على رفع شكاويهم للمراجع، وأهين بعض من اشتهر عنهم أنهم من أنصار عبد الحميد الغارقين في رواتبه ومراتبه حتى اضطروا أن يندمجوا في الأحرار ويقدسوا شبانهم، ولطالما امتهنوهم وسعوا بهم إلى الحكام في عهد الحكومة المطلقة، وبدئ بانتخاب أعضاء مجلس النواب، فحاولت جمعية الاتحاد والترقي أن يكون نواب الشام ممن تركن إليهم، أو ممن عرفوا بميلهم إلى الحرية وبعدهم عن السياسة الحميدية، ولكنها سعت لتقليل عددهم

في الشام سعيها لذلك في سائر الولايات العربية، لئلا تتألف منهم أكثرية في المجلس، إذا انضموا إلى بعض العناصر الأخرى فيصبح الأتراك أقلية، لأن الاتحاديين لا يريدون إلا دستوراً ينتعش به الأتراك، وينال الخير بالعرض سائر العناصر على صورة لا تضر بكيان الترك، ويسعون إلى تتريك العناصر لتؤلف جمعية الاتحاد أمة واحدة متجانسة بلغتها إذ لم يمكن تجانسها بدينها، ويقوم أحرار العثمانيين من الأتراك في القرن العشرين بما عجز عن عمله محمد الفاتح وسليم ياوز من الفاتحين. وبينا أحرار الأتراك دعاة القومية التركية الشديدة يفكرون في وضع خطط الإصلاح، ويحيون كل ما هو تركي، ويحاذرون كل ما هو عربي، والناس في فرح وجذل لأنهم أخذوا على الأقل يقولون ما يريدون ويستمتعون بحرياتهم، أعلنت اليونان ضمها لجزيرة كريت كما أعلنت النمسا إلحاق ولايتي البوسنة والهرسك، ورفض أمير بلغاريا السيادة العثمانية وأعلن استقلاله، وعاد مجلس النواب إلى عمله 1326هـ ولم يمض إلا أشهر قليلة حتى ندم السلطان عبد الحميد على ما وهب طوعاً أو كرهاً من تنفيس خناق العثمانيين، وأحب أن يقوم بعمل ارتجاعي يعيد به الناس إلى الضغط والفناء فيه وفي أعوانه، فيعملوا أحراراً من دون ممانع أو مناقش، فنهض جماعته من جواسيس وعمال ومن طردوا من الضباط من الجيش لقلة اقتدارهم وغيرهم من العوام الذين تخدعهم ألفاظ الشرع ويتبعون كل ناعق، وألفوا حزباً باسم الدين سموه الحزب المحمدي وأنصار هذا الحزب كثيرون لأنه اسم تحبه أكثرية الأمة، فدخل الناس فيه أفواجاً عن سلامة نية، حتى قيل إن من وقعوا على محضر الرضى بالدخول في سلكه بلغوا سبعين ألفاً في دمشق وحدها، واختار السلطان لبث دعوته الولايات التي لم تتأثر أعصابها كثيراً بدعوة الأحرار وثورة الجند كالشام مثلاً، وأخذوا يهيجون العامة باسم الدين ويرتبطون بالسلطان بأيدي أناس كان للمال الذي بذله تأثير عظيم في نفوسهم ونفوس الغوغاء. فعصا السواد الأعظم من جنود الأستانة بما بذله السلطان لهم من الذهب الوهاج، ولم ير أعوانه الذين هيجوا الأجناد واسطة لإضاعة رويتهم أحسن من إسكارهم، فأسكروهم ليلة الفتنة، وفرقوا عليهم الذهب الكثير ليقوموا

عبد الحميد وسياسته وأخلاقه:

بالمطالبة بتطبيق الأحكام الشرعية بحذافيرها، وإبعاد بعض النواب وإسقاط الوزارة وتعيين الضباط الأميين الخارجين من صفوف الجيش، لا من دكات المدارس، أي اختيار الجهلة على المتعلمين، وبعبارة أفصح إبطال القانون الأساسي لأنه مخالف بزعمهم للإسلام، ومن قواعده الحرية، والحرية ليست من شأن الدين!. وقتل في هذه السبيل أناس من النواب وغيرهم من الدستوريين وعامة الناس في شوارع العاصمة، لأن الجند الثائر كان يطلق النار في الفضاء إرهاباً وترويعاً فيصيب الأبرياء وغيرهم، واغتال الضباط الجهلة كثيراً من الضباط الدارسين. فلما تجلى هول الموقف للاتحاديين أهاجوا النفوس في الروم ايلي، فقامت بعض ولايتها على ساق وقدم تطلب التطوع في الجندية للدفاع عن الدستور، وهب جند الفيلقين الثاني والثالث في أدرنة وسلانيك وزحفا على الأستانة بقيادة محمود شوكت باشا البغدادي فاستوليا على المواقع الحربية في العاصمة في أسبوع، وقبض على المنتقضين والعصاة من الجند المشاغب، وضربت أعناق بعض المشايخ والمتمشيخين للسياسة لا للدين، ونفوا ألفاً وخمسمائة رجل من رجال السلطان وحاشيته إلى الحجاز واليمن، وخلعوا عبد الحميد بفتوى من شيخ الإسلام أثبت عليه فيها قتل الأنفس البريئة وسجنها وتعذيبها ومخافة الشرع وحرق كتب الإسلام والإسراف في مال الأمة، وبايعوا باتفاق مجلسي النواب والأعيان لولي عهده رشاد أفندي باسم السلطان محمد الخامس وحملوا السلطان عبد الحميد المخلوع منفياً إلى سلانيك. عبد الحميد وسياسته وأخلاقه: وبذلك تخلصت الأمة من عبد الحميد بعد أن حكم فيها ثلث قرن زاد أخلاقها فساداً. تولى لأول أمره زمام السلطنة وكيلاً عن أخيه مراد الرابع، وكتب على نفسه عهداً دفعه لمدحت باشا ثم أرسل على ما قيل من أحرق دار مدحت ليحرق العهد في جملة ما أحرق، واخذ يستميل قلوب أكثر أهالي الأستانة حتى اجتمع الصدران الأعظمان رشدي باشا ومدحت باشا ودعوا ألف

شخص من الكبراء وأرباب المقامات، وقرروا أن جنون السلطان مراد مطبق لا يرجى أن يفيق منه، وأفتى شيخ الإسلام بحل بيعته - وما أسرع مشايخ الإسلام في إصدار فتاواهم لصاحب الوقت أياً كان وما أبطأهم في فتاويهم في المسائل الجوهرية - وبويع لعبد الحميد فما عتّم أن أقصى عن دار ملكه من كانوا السبب الأول في خلع عبد العزيز من العظماء. وأخذ عبد الحميد يكثر من التضييق على أخيه مراد وعلى سائر أفراد الأسرة السلطانية ولا سيما عهد السلطنة، ويشرد كل من عرف بالإنكار عليه من الوزراء والعظماء، فألقى بذلك الرهبة في نفوس قواد المملكة وساستها، وأصبحت الطبقة التي اختارها تسير على رغبته، وكل من خالفه، ولو في سره، أقصاه وسجنه وعذبه، وكلما مضت سنة على ملكه يزداد مراناً على هذه الأفعال، ويبالغ في الاحتياط لنفسه، وغدا يتولى كل أمر بذاته، ويبعد أرباب الوجدان من رجال الدولة ويستعيض عنهم بأناس ممن يصطنعهم، وما يصطنع إلا من فسدت أخلاقهم من كل جنس على الأغلب، حتى آلت أزمة الدولة في العهد الأخير إلى أيدي طبقة من أعوانه طغوا وبغوا. أخذ عبد الحميد يملك الأملاك باسمه على خلاف عادة الملوك والسلاطين، فكان كلما سمع بأن في إقليم كذا أراضي من أملاك الدولة يأخذها بلا ثمن إن كانت من الأملاك الأميرية، أو بثمن طفيف إن كانت للأفراد وعجزوا عن استغلالها، فيضمها إلى أملاكه السنية، وألف عدة شركات وفتح في العاصمة مخازن لبيع البضائع وبعض المعامل، وضارب بالأوراق المالية واتجر بالامتيازات. وهكذا أصبح عبد الحميد تاجراً مزارعاً مضارباً قلما يهتم بشيء من أمر الملك إلا إذا كان تقريراً من جواسيسه الذين كثروا في العاصمة والولايات كثرة ضاقت بالإنفاق عليهم خزانة الأمة، وكلهم أمناؤه إن اخطئوا فلهم الأجر، وإن أصابوا فحدث ما شئت أن تحدث عما ينهال عليهم من إنعامه وإحسانه. ولقد قلّ جداً في عماله من لم يتجسس له، لا سيما بعد أن شاهد الناس أن الترقي في الوظائف لا يتأتى في الأغلب إلا من طريق الجاسوسية المحببة إلى قلب السلطان، وغدا التجسس عند بعض الطبقات من الأمور التي لا تنكر. اشتد ضغط عبد الحميد على المدارس حتى حظر أن يعلم فيها التاريخ

الصحيح وعلوم السياسة والاجتماع، لأنها ترقي العقول وتلقح الأذهان، وأصدر إرادته السرية إلى مديري المعارف في بعض الولايات ومنها الشام أن يوقفوا سير المعارف عبد الحد الذي وصلت إليه، لأن في انتشار المعارف انتشار المفاسد وتمزيق شمل الأمة!! ورأت المطبوعات منه ومن أعوانه الجهلاء من الدنايا ما يكفي لنعتهم أنهم أعداء كل فكر وارتقاء وتجديد، وأصبح ما يطبع تحت السماء العثمانية في الثلثين الأخيرين من حكمه عبارة عن كتب خرافات وذهد وتلفيق أو أماديح كاذبة له ولأرباب المظاهر، وأمور عادية لا ترقي عقلاً ولا تزيل جهلاً، وحاول أن يرفع من دعاء القنوت لفظ ونخلع ونترك من يفجرك لأن فيها لفظ خلع وقلبه ينخلع من هذه اللفظة، ولأنه رأى مخلوعين قبله، وأن يسقط من صحيح البخاري أحاديث الخلافة وأن تصادر حاشية ابن عابدين لأن فيها باب الخلع. ورفعت من المعاجم كثير من الألفاظ كالعدل والمساواة والاغتيال والقانون الأساسي والجمهورية ومجلس النواب والخلع والديناميت والقنابل، وغيّر بعض الأسماء فلا يقال مراد بل مرآة ولا عبد الحميد بل حامد أو حميد أو حمدي لأن مراد اسم أخيه وعبد الحميد اسمه، وأصبحت الصحف في أيامه أبواقاً تقدسه وتؤلهه على صورة بلغ فيها السخف إلى غاياته. وكثرت في أيامه مظاهر التكريم الخلابة من أوسمة ورتب، وأخذت تباع في آخر عهده بالمزاد بيع العقار والدار، ولها سماسرة ولها تجار، يغوي بها السلطان من يريد تشريفه، ويرفع بها من يهمه رفعه، وأصبح بعض العقلاء في دار الملك والولايات يتظاهرون بالبلاهة، أو ينقطعون عن الخدمة ويقنعون بالدون من العيش، لأن سلطانهم لا يرضيه منهم إلا أن يكونوا على قدمه في كل ما يذهب إليه. ولقد نصح له بعض سفراء الدول في أواخر عهده بالكفّ من شرور بعض العمال، لأن استرسالهم فيها مما يسقط شأن المملكة ويضر بمستقبلها، فقال لهم: وماذا أعمل مع من ذكرتم وهم يحبونني ويتفانون في خدمتي! أي أنهم في حلّ من عمل ما أرادوا من عسف الأمة ما داموا يظهرون له الحب، ويخدمون أغراضه على ما يحب. كان عبد الحميد من الحسد بحيث يحسد خصيانه، وأشق ما يبلغه أن يعلم

أن في أحد أطراف مملكته عالماً ينفع الناس بعلمه، فيحتال عليه ليأتي به إلى الأستانة ليدفنه حياً ويجعله إلى الخمول بعد الشهرة، ويخرجه قسراً من عالم النباهة والظهور، فإن لم يستطع ذلك فلا أيسر من التقول عليه للحط من كرامته، ويلذه جداً أن يشهد الشقاق مستحكماً بين حاشيته، ويلقى بينهم العداوة والبغضاء ولذلك كان بعضهم عيوناً على بعض، ينال الواحد من رفيقه في غيبته وحضرته، حتى يتقربوا من قلب سلطانهم الذي يحب الملق، ويهش للدهان والتزلف. عادة له منذ كان فتىً، فقد ذكر مربيه المستشرق فمبري المجري أنه كان وهو فتىً لم يبلغ الحلم يلقي الشقاق بين أفراد الأسرة المالكة في القصر، وينقل الكلام من أناس إلى آخرين من أهل بيته، ويتجسس عليهم ويكشف سترهم. أما إسراف السلطان عبد الحميد فإنه كان أقلّ من إسراف عبد العزيز بقليل، ولكن طغمة الجواسيس كانت مع نفقات قصره في الربع الأخير من دوره تستنزف جزءاً مهما من واردات السلطنة التي عرف كيف يستغلها، وكيف يصرفها في شهواته على طريقة مستورة، لم يطلع عليها إلا الخواص من رجاله. فقد ذكر الثقات أن آل عثمان لما أجلتهم جمهورية تركيا من بلادهم في صيف 1342 بأجمعهم كان مع بعض سراري السلطان عبد الحميد عقود من الماس والجوهر عرضوها في مصر للبيع فعجز الأغنياء عن أداء قيمها ثم جعلتها بعض المصارف عندها رهناً عل مال أسلفته، فكم كان يا ترى من أمثال هذه الحلي المدهشة عند نساء آل عثمان، والأمة تهلك وعمالها لا يقبضون رواتبهم. وكلما عقدت قرضاً فكرت في آخر بحيث كانت الدولة تعيش بالقروض في آخر أيامها. وأصبح عبد الحميد في عهده الأخير يملك ألوفاً من المزارع والقرى، ويحمل جانباً من أمواله يضعها في المصارف الأجنبية، يعدها لطارئ يطرأ عليه، فلما سقط لم تنفعه، واستولى عليها الاتحاديون كما استولوا على خزائن قصره يلديز ومجوهراته وأعلاقه وجواريه، ونقضوا كل ما أبرمه، وفصموا عرى ما أحكمه.

رأي مؤرخ تركي في عبد الحميد وذكر حسناته:

رأي مؤرخ تركي في عبد الحميد وذكر حسناته: جاء في كاتب عبد الحميد الثاني ودور سلطنته أنه كان يعتقد بالسحر والطلسمات والأرواح والفأل، ولم يتعلم شيئاً حتى إنه كان يغلط بالإملاء التركي، وله من المزايا الاحتياط المتناهي والبصيرة وحب السعي وبعد النظر، وأن يعلم ماذا يقال فيه، ينفر من الحرب، ويلتزم السذاجة في لباسه وحاجاته، يحرص على الأمر والقيادة، ويتحرى من الأصول والمعاملات أكثرها استقامة، يميل إلى الأخذ بعلم الباطن الذي يأخذ بمجامع قلوب العامة، وإذا كانت أفكاره كثيرة الجولان أصبحت لا تثبت في مركز واحد، وإذ كان مبتلىً بالسويداء تراه على الدزام حزيناً مغموماً مغيظاً محنقاً، مفرطاً في الاحتياط والتدبير لا يعتمد على أحد، ممسكاً لا يعرف الكرم، عرضة للاضطرابات الذهنية والبدنية لعدم تطابق جملته العصبية. تبدلت حاله لما جلس على سرير الملك فنفعته المحن التي رآها لأول أمره أكثر مما أضرت به، ولئن كان أُذناً يحب أن يسمع ما يقال فيه، وينظر في الدقيق والجليل من الأمور، وهو محاط بجماعة من الأشرار ومزاجه عصبي، فإن كل هذا زاد في ذكائه. وكان إلى السابعة والعشرين يتعاطى المسكرات ويغوص في السفاهات، فنصح له طبيبه أن يقلع عنها أو يهلك كما هلك بالسل من قبل أبوه وأمه، فرجع عن عاداته الضارة ونظم حياته، وكان أول عمل قام به يوم استولى على زمام السلطنة أن سلب جميع ثروة أخيه مراد، عقارها ومنقولها، وكان ماهراً في عمليات الجمع والطرح والضرب، إلا أنه يمتنع أبداً من إجراء عملية الطرح إذا كان فيها ضرر عليه، ولم يكتف بمصادرة ثروة أخيه بل تصرف بثروة رعيته على ما يشاء، وأضاف معظم واردات الدولة إلى خزينته الخاصة، وما كانت الحكومة تتمكن من دفع الرواتب لغير النظار وكبار المقربين بصورة منظمة، أما سائر الموظفين والجند فإن عبد الحميد ترك لهم واردات يتناولونها راتب شهر أو شهرين في السنة فقط، وبذلك فتح باباً عظيماً من أبواب الرشوة 1هـ. ومما ينبغي أن يدون في أيامه أن بعض الأمة انصرف إلى الزراعة والتجارة أكثر من الأدوار الماضية قبله في الشام، لأن الأمن استتب أكثر من القرن الماضي، وطرق المواصلات البحرية والبرية زادت انتظاماً، والناس في الجملة

قويت رغبتهم في تعليم أبنائهم، ولكن المسلمين مالوا إلى الترك لأخذ الوظائف الجندية والملكية، والمسيحيين والإسرائيليين مالوا إلى التفرنج لتعلمهم في مدارس الأجانب التي ظهرت تأثيراتها في أيامه، ومنها الهجرة إلى مصر والسودان والاميركتين، والزهد في سكنى العثمانية. وفي عهده زادت الخطوط الحديدية في المملكة ومعظمها خطوط حربية ثبت له غناؤها بعد حرب روسيا الأخيرة، وفي أيامه اتصلت حلب برياق ودمشق ببيروت، ودمشق بدرعا، ويافا بالقدس، وحيفا بدرعا، ودمشق بالمدينة، وطرابلس بحمص، إلى غير ذلك من الخطوط التي نفعت الشام ولا سيما الخط الحجازي من دمشق إلى المدينة المنورة. وفي أيامه خفت وطأة الأشقياء إذ كان يقضي عليهم بالسجن الطويل والقاتل منهم يؤبد في السجن، فاستراحت الشام قليلاً وأخذت تدخل في نظام الأمم الأوربية. وكان من سياسته أن لا يستدين من أوربا مالاً ولا يعقد قروضاً مهما احتاجت الدولة للمال وساءت حالها، وكان لا يحب إهراق الدماء، وأبطل الحكم بالقتل فكان القاتل يخلد في سجنه. ففي أيامه اعتدى اليونان على الأرض العثمانية، فأعلنت الدولة حرباً على اليونان وكان الدخول في هذه الحرب مخالفاً لإرادته، وقد جعله الباب العالي أمام أمر واقع فأعلنها كارهاً، فانتصرت الدولة لكن أوربا حاولت أن لا تنحي على اليونان، وما زالت تطاول في عقد الصلح إلى سنة 1897م وكانت نتيجة ذلك أن دفعت اليونان للعثمانية غرامة قدرها أربعة ملايين ليرة ولعلها أول غرامة أخذتها من تغلبها في إحدى الوقائع بعد ذلك العز الباذخ، وقضى عدل السياسيين بأن تخرج الدولة من تساليا!. ويقال بالإجمال: إن عبد الحميد نسخة صحيحة من تربية القصور، وصورة من صور دسائسها وشرورها، استفاد من تجارب غيره ومحنهم فاحتاط وحذر، وطالت أيامه وعرف كيف يدخل في روح الأمة ويسخر مشايخها وأرباب الطرق والمظاهر، يسبحون بحمده ويعددون حسناته بما يقبضون من صلاته، وخلقوا له مناقب اخترعوها ما كان هو يحلم بها، وكان كل شيء في أيامه ظواهر ومظاهر، ومن دهائه النافع معرفته الدخول في عقلية السفراء فكان

الأحداث في أيام محمد رشاد وحرب طرابلس

يرشيهم ويرشي زوجاتهم بطرق مختلفة يتففن فيها. ولم يكد يسلم من هداياه ورشاويه إلا سفير بريطانيا العظمى على ما يقال. فكان إذا أهداه السلطان هدية يقدم له من الغد مثلها أو أحسن منها، حتى لقد قالت امرأة هذا السفير يوماً: لقد أعجزنا أمر عبد الحميد يريد أن يرمينا في شبكته بالجواهر والحليّ كما رمى نساء السفراء قبلي. وكان كثيراً ما يلقي الشغب بين السفراء أنفسهم. وكانت له طرق وله ديوان خاص لإعطاء الصحف الأجنبية مالاً حتى تسكت عن خلل الدولة. وبهاتين القوتين قوة السفراء وقوة الصحافيين استطاع يوم ثورة الأرمن في العاصمة وأرمينية وقتل الأتراك والأكراد نحو مائة ألف من الثائرين، أن يسكت ساسة أوربا عن عمله وعمل عماله، ومع هذا لم يمنع الحذر من القدر فطوي بساطه وبساط أسرته بما عليه جملة والله وارث الأرض ومن عليها. الأحداث في أيام محمد رشاد وحرب طرابلس والبلقان وحزب الإصلاح: تولى محمد رشاد الخامس بعد السلطان عبد الحميد الذي قضى في شهر ذي القعدة 1333هـ 1915م وهو ضعيف المدارك لأن أخاه ضيق عليه مدة حكمه الطويل حتى تبلد عقله وكان كأخيه عبد الحميد قليل المعلومات لم يدرس من اللغات الأجنبية شيئاً، بل درس الآداب الفارسية وبرع فيها. وزاد تسلط الاتحاديين عقيب أن ظفروا بمن أوقدوا فتنة 31 آذار وقضوا على الارتجاع وغيروا بعض خططهم التي كانت ترمي إلى تفوق الترك على سائر العناصر وخاصة العرب، فدعت الحال إلى تأسيس حزب الأحرار المعتدلين 1329 الذي ظهر بعد ذلك باسم حزب الحرية والائتلاف في العاصمة والولايات، ولم ير الاتحاديون للخلاص من مخالفيهم أحسن من الاعتماد على القوة فاغتالوا بضعة رجال في الأستانة وحاولوا أن يغتالوا في الشام بعض أعدائهم الأشداء من أرباب القلم فلم يفلحوا، وأقصوا من الخدمة كل من لم يسر على رغائبهم، وتقاتل الحزبان فكانت الغلبة تكتب أكثر السنين للاتحاديين لأنهم دعاة الحرية الأول وترتيباتهم تامة من أكثر وجوهها، تشبه ترتيبات جمعية الماسون، ولا سيما فيما كان من قبضتهم على قياد الأعمال وأخذهم بمخنق جميع العمال.

وثارت اليمن سنة 1329 فأرسلت الدولة جيشاً عظيماً على صنعاء والعسير قتل في حربها من أبناء الشام ألوف. كما كانت كل مرة تدفن ألوفاً من أبنائها في تلك الولاية القاصية. حدثني عظيم من الأتراك وكان أكبر رجال الشورى العسكرية في الفيلق الخامس بدمشق أن الدولة بحسب إحصاء الجيش كانت تدفن كل سنة من أبناء الشام في اليمن نحو عشرة آلاف جندي يهلكون بالأمراض والفتن والقلة وتغير الهواء، دامت على ذلك نحو خمسين سنة حتى عقد الصلح بين إمام اليمن يحيى بن محمد حميد الدين وبين قائد الحملة اليمانية عزت باشا، وبهذا العقد لم يبق للدولة هناك غير سلطان قليل في صنعاء وتَعِزِ وما إليهما من السهول والجبال، وانتقلت جل الإحكام إلى الإمام وذلك في سنة 1329هـ. وظهرت أيضاً فتن أُخرى في كردستان وألبانيا وأذنة، فلم ترتح المملكة سوى أشهر معدودة بعد إعلان القانون الأساسي. ومنشأ كل فتنة داخلية العمال على الغالب، ثم تمتد وتنتشر فيصيب الأمة شرها، ويتولى الأمر الجهلاء ثم يتعذر على العقلاء حل العقد التي يعقدونها، وكم من مجنون رمى في بئر حجراً فصعب على مائة عاقل إخراجه. ثم نشبت حرب طرابلس بين العثمانية وإيطاليا، وجاءت إيطاليا بأسطولها إلى سواحل طرابلس وبرقة بدون مسوغ، وضربت سفينتين عثمانيتين كانتا راسيتين في ميناء بيروت فهلك من أهل المدينة والجند زهاء مائتي نسمة، وأرسلت الشام جنداً ومعاونات نقدية إلى طرابلس، آخر ما بقي من للعثمانيين من الولايات في برّ إفريقية. ولم يعد الصلح في أُوشي من سويسرا بين العثمانية والإيطالية حتى أعلنت دول البلقان المتحدة بلغاريا والصرب والجبل اسود واليونان الحرب على الدولة العثمانية فغلبتها، وجاء جيش البلقانيين إلى جتالجة من ضواحي الأستانة، وعقدت الهدنة يوم الثالث من كانون الأول 1912 بين العثمانيين والبلقانيين، وعقد مؤتمر في لندرا لإصلاح ذات البين بين الفريقين فلم يفلح، وعاد المتحاربون إلى النزاع بعد الأزمة الوزارية التي انتهت بسقوط الصدر كامل باشا وقتل ناظم باشا ناظر الحربية بيد أنور بك من ضباط الاتحاديين ودعاة الدستور في الروم ايلي، وأخذ الاتحاديون بعد هذه الفاجعة يستولون على أزمة الأمر وظهر أنور بك بمظهر جديد فقبض على عنان الحكومة، واستؤنفت الحرب بين المتحدين من البلقانيين

الذين انفرط عقد اجتماعهم فزحف العثمانيون على أدرنة فاستعادوها إلى الملك العثماني، ولم يبق للدولة في أرض أوربا غير ولاية أدرنة وما إليها من ضواحي الإستانة، وانسلخت عنها هذه المرة ولايات قوصوة وإشقودرة ويانيا ومناستر وسلانيك وعادت الحرب فنشبت بين العثمانيين والبلقانيين في 17 تشرين الأول 1912 وعقد الصلح في 29 أيلول 1913 وقد فقدت العثمانية في هذه الحرب مائة ألف جندي بين قتيل وجريح وثمانين مليون ليرة ثمن ذخائر وسلاح، وخرجت من الروم ايلي وكانت صرفت في فتحه خمسين سنة وحكمته خمسمائة سنة ولم توفق إلى نشر لغتها ودينها فيه على ما يجب. وفي سنة 1913 اتحد جماعة من السوريين بينهم اللبنانيون النصارى والمسلمون على مطالبة الدولة بإصلاح الشام. وكتب والي بيروت أدهم بك إلى الصدر كامل باشا كتاباً قال فيه: كانون الأول 1912 تتجاذب القطر عوامل مختلفة، ولقد ولى قسم عظيم من الأهالي وجهه شطر إنكلترا أو فرنسا لإصلاح الحالة التعسة التي هم فيها فإذا نحن لم نأخذ بالإصلاح الحقيقي يخرج من يدنا لا محالة 1هـ. فأرسل الصدر إلى الوالي يريد الأهلين على عرض مطالبهم، فاجتمع المجلس العام في بيروت وانتخب 90 عضواً عقدوا جلستهم الأولى في 12 كانون الثاني سنة 1913 واختارت من أعضائها خمسة وعشرين مفوضاً سمتهم اللجنة الدائمة، وقدمت هذه بياناً بالإصلاحات المنشودة، واتفق على ذلك أعيان المسلمين والمسيحيين فوضعت اللجنة في بيروت لائحة أهم ما فيها توسيع سلطة المجالس العمومية وتعيين مستشارين أجانب. وفي أوائل الصيف ذهب وفد من البيروتيين وغيرهم إلى باريز وعقدوا هناك مؤتمراً قرر يوم 21 حزيران سنة 1913 أن تضمن للعرب حقوقهم السياسية، وذلك بأن يشتركوا في الإدارة المركزية للمملكة اشتراكاً فعلياً، وأن تنشأ في كل ولاية عربية إدارة مركزية تنظر في حاجاتها وعاداتها، وان تنفذ لائحة الإصلاحات التي نظمت في بيروت القائلة بتوسيع سلطة المجالس العمومية وتعيين مستشارين أجانب، وأن تعتبر اللغة العربية في مجلس النواب العثماني، وتكون لغة رسمية في الولايات العربية، وأن تجعل الخدمة العسكرية محلية في الولايات العربية. فخاف الاتحاديون العاقبة وبعثوا أُناساً من قبلهم وقبض واليهم في بيروت

الصهيونية ومنشؤها:

حازم بك على عدة أعضاء من الإصلاحيين فأغلقت المدينة حوانيتها أياماً فأخرجهم من السجن، وبعث الاتحاديون أناساً من قبلهم إلى باريز وغيرها، واسترضوا أعضاء الوفد وأطعموا بعضهم بالوظائف الكبرى، ووعدوهم أن تجري لهم الحكومة الاتحادية من مطالب الإصلاح ما يمكنها القيام به، مثل تسليم الأعمال الإدارية إلى السلطات الوطنية طبقاً للقانون الخاص بإدارة الولايات، وأن يكون التعليم الثانوي والابتدائي في المدارس الوطنية بالعربية، وتستعمل اللغة العربية في بعض أعمال قانونية معينة، وأن تضاف الصيغة العربية على إعلانات الجلب إلى المحاكم كما تضاف إلى الأحكام المدنية والجنائية، وتكون العرائض المقدمة للسلطات الرسمية باللغة العربية، وأن يعين بعض العرب في مجلس الأعيان ومجلس شورى الدولة ومحكمة التمييز ومشيخة الإسلام ودار الفتوى. وطبق الاتحاديون بعض هذه المواد فرأينا في بعض مراكز الألوية والولايات في الشام مدارس تجهيزية تدرس العلوم بالعربية، وإلى جانبها المدارس القديمة التركية في كل مظاهرها، ووضعت الصيغ العربية إلى جانب الصيغ التركية في أوراق الجلب إلى المحاكم، وأخذت الحكومة تقبل الشكاوي بالعربية من الأهلين، وعين بعض رجال الشام في وظائف كبرى في العاصمة، وكان نائب دمشق في مجلس النواب شكري العسلي أول من رفع صوته بهذا الطلب، طلب إعطاء العرب حقهم من الوظائف وقال: إن أربعة فقط من أبناء العرب موظفون في الإدارة المركزية في جملة بضع مئات من الأتراك، فنبه أفكار من لم يكن متنبهاً من أبناء العرب إلى غمط حقوقهم، وحنف بعض أقحاح الترك عليه وعلى من عاونه على بث هذه الفكرة وعدوها خروجاً على الجماعة. الصهيونية ومنشؤها: وكان شكري العسلي أيضاً أول من نبه أفكار مجلس النواب إلى الخطر الصهيوني في فلسطين وكان الاتحاديون وفيهم الإسرائيليون أو الصابئون من اليهودية الدونمة أمثال جاويد بك ناظر المالية ينوون أن يبيعوا نحو ثلاثة ملايين دونم من الأراضي في فلسطين وسورية من جمعيات الاستعمار الصهيوني

فبطل المشروع لما ظهرت مضرته إلى عالم الوجود وقامت حول المشروع ضجة في الصحف فلم يسع الاتحاديين إلا أن يطووا دفتره. ولكن بالقتل أعضاء الديوان فيما قيل إن لم يحكموا على المتهمين السياسيين فوافق بعضهم على القتل اضطراراً لا اختياراً.

وقد ذكر الأمير شكيب أرسلان أن خطأ جمال باشا في رأيه وجنايته الكبرى على العرب والترك في فعله هما من الوجوه الآتية: أولاً: إن فريقاً آخر من الذين قتلهم أبرياء من خيانة الدولة ولم يكن لهم

ذنب سوى وجودهم في الحزب المعارض لجمعية الاتحاد والترقي، والقانون العثماني لا يعرف الاتحاد والترقي بل السلطنة العثمانية. ثانيا: إن فريقاً آخر منهم لم يوجد عليهم وثائق خطية ولا قرائن قطعية تذهب في جزائهم إلى درجة القتل، وقد برر جمال هذا العمل فيما بلغنا من نفس رئيس الديوان العرفي بأنه من باب القتل السياسي مع أنه كان الأولى بهؤلاء أن يتركوا إلى حكم القانون فيحكم عليهم بحبس أو نفي على حسب درجة جرمه. ثالثاً: على فرض غير الواقع، وهو أن هؤلاء مجرمون أعداء للدولة، فلم يكن من باب السياسة ولا حسن الرأي، فتح هذه المسألة أثناء الحرب ومجازاة أناس قد عفي عنهم ونكء القروح التي كانت قد سكنت نوعاً، وإثارة عواطف العرب وحفائظهم وإظهار كون الترك يريدون الانتقام في هذه الفرصة التي سنحت لهم للبطش وتعزيز النزعة الأجنبية بهذه السياسة. رابعاً: إن الألوف الذين نفاهم إلى الأناضول مع عيالهم وخرب بيوتهم، وأمات كثيرين منهم في الغربة لم يكن منهم مائة شخص يدرون ما هي السياسة، فضلاً أن يكونوا خائنين للدولة فكان تغريبهم عن أوطانهم مجرد عذاب وقهر، بدون أدنى فائدة، سوى النفور مع تكليف الدولة عليهم 150 ألف ليرة شهرياً فكان خطأ جمال أنه سلح أعداء السلطنة العثمانية، وأنصار الشقاق بين العرب والترك، ورواد السياسة الأجنبية الكثيرين في الشرق، بسلاح من البراهين لم يكونوا يملكونه فيما لو كان الأتراك انصرفوا من بلاد العرب بدون أعمال جمال. اه. وبعد فقد عمل جمال باشا ما عمل بقرار من جمعيته، وكان من ورائه أنور باشا يحثه على إهلاك هؤلاء الذين صلبوهم. وقد جاء هذا مرة إلى عاليه من لبنان فقال على صورة الاستنكار: أما قتلتم بعد هؤلاء الخونة؟. وكان أنور باشا نمراً مفترساً في صورة حمل وديع، والدم في نظره ونظر رفاقه طلعت ومدحت وناظم وشركائهم أحلى في المذاق من طيب الشراب خصوصاً إذا كان صاحبه غير تركي، ومساويه ومساوي أصحابه أكثر من أن تحصى، تجردوا من كل عاطفة ومن كل دين، وعاطفتهم دهان وتظاهرهم بالدين رياء.

خلع شريف مكة طاعة العثمانيين وتأثيره في

وقبل تنفيذ الأحكام بالجوقة الثانية كان قائد الجيش الرابع ينفي من الشام إلى صميم الأناضول أسراً برمتها، وفيهم بيوت من صلب رجالهم بالتهم السياسية وممن جلاهم أناس من الغوغاء والقتلة القدماء، واشترك في هذه النكبة المسلمون والمسيحيون وغيرهم على السواء، خصوصاً من كان لهم صلة بدولة من دول التحالف فرنسا وبريطانيا وروسيا، ثم طمع الاتحاديون أن يتوسعوا في تأديبهم، وأعدوا في الأناضول ألوفاً من الدور ليجلوا النابهين من سكان الشام إلى تلك الأرجاء، وكان الاتحاديون قرروا في مؤتمرهم أن يجلوا العرب إلى أرض الترك، ويستعيضوا عنهم في الشام بأناس من شذاذ الآفاق، وأن يعاملوا مهاجرة الشام كما عاملوا الأرمن يوم جلوهم عن أقاليمهم أي أن يقتلوهم على بكرة أبيهم في الطرق، ويغتالوهم بالطرق التي اغتالوا بها أعداءهم الأرمن. وشرع الترك يقبضون على جوقة ثالثة من وجوه الأهلين ومنوريهم ويعذبونهم بتهم سياسية وجهوها إليهم منها أن لهم ضلعاً في إنشاء حكومة عربية ومفاوضة شريف مكة بذلك. خلع شريف مكة طاعة العثمانيين وتأثيره في الأتراك: كانت البقية الباقية من منوري الشام تخاف سوء المغبة من عمل الاتحاديين خصوصاً بعد أن مرنوا على إزهاق النفوس، ورفعوا حجاب الوهم الذي كان مسدولاً فرفعوه وعرفوا ما تحته يوم جسروا على قتل كبراء الأمة ولم ينتطح عنزان. وكادت النوبة تصيب أهل الطبقات الثالثة والرابعة يوم أعلن الشريف حسين بن علي أمير مكة المكرمة استقلاله بملك الحجاز 9 شعبان 1334هـ حزيران 1916م وثار العرب على الترك في مكة، وقتلوا الحامية التركية وأسروا أكثرها، وحوصرت المدينة بعربه، وذلك بتدبير الحلفاء وأموالهم، فشغل الترك بهذه المصيبة التي لم يكونوا يتوقعونها، وأخذوا يستميلون إليهم رجالات الشام ويستبدلون اللين بالشدة، وإذا كانوا على عزم إنفاذ حكم القتل برجال من القافلة الثالثة بعث ملك الحجاز الجديد بواسطة جمهورية أميركا المتحدة، وكانت على الحياد، بأن كل منفي عربي أو مسجون إذا أصيب

بأدنى إهانة فهو مستعد أن يعمل أضعافه مع الأتراك الذين في أسره، فكفّ الاتحاديون عن القتل، وأطلقوا سراح السجناء مرغمين، بعد أن عذبوهم أنواع العذاب، فعدّ ذلك من حسنات الملك حسين، ولقد آلم الاتحاديون قلوب السوريين بقتل طبقة مهمة من الشبان والكهول والشيوخ، ونفي النساء والأطفال إلى الولايات التركية، ومع هذا لم تقصر الشام في تقديم أبنائها للحرب جنداً، ولا أموالها وعروضها لمعاونة الجيش، ولا أرزاقها وحيواناتها وذخائرها لخدمته، فحنق على الدولة من كان يريد انتصارها، وتأصلت العداوة بين الترك والعرب، وما كانت العداوة في الحقيقة إلا بين دعاة الاتحاديين والمستنيرين من العرب، حتى لا يبقى بعد الحرب رجال يستطيعون أن يرفعوا أصواتهم بمطالبة الدولة بشيء من الإصلاح. ومنذ نادى الملك حسين باستقلال الحجاز أخذ الضباط العرب وغيرهم من العراقيين والشاميين واليمانيين ممن وقعوا في أسر دول الحلفاء، أو كانوا في خدمة الجيش التركي على مقربة من الحجاز أو في الجهات البعيدة كالقفقاس ينضمون إلى جيش الحجاز العربي فألفوا جيشاً لا بأس به يرجع إلى نظام في الجملة، وهذا الجيش هو الذي قاتل الترك في الشام، وأوقع الشغب في الفيالق التركية، وفت في عضد الدولة العثمانية في بوادي الحجاز، وساعده ما كان ينهال من الأموال الإنكليزية التي استمال بها ملك الحجاز والقواد أولاده الأربعة العربان في الشام والحجاز، وتسرب قسم منها إلى كبار الضباط من أبناء العرب، وكان لجمعية العهد يد طولى في التحاق ضباط العرب بصاحب الحجاز وهذه الجمعية كانت مؤلفة من ضباط العرب في الدولة كما كان مثل ذلك لجمعية الفتاة العربية التي ألفت في باريز قبل الحرب بنحو خمس سنين من المفكرين من أبناء العرب وخصوصاً الشاميين، وضمت إليها بعض الأعيان والمفكرين وفي مقدمتهم أنجال شريف مكة وأبلغوا والدهم قرارهم وامتدت دعوتهم إلى جبل الدروز. وقدر بعض الواقفين عدد من انضم من البدو إلى الجيش العربي في جميع الجهات بما يناهز المائة ألف والعسكر النظامي لا يتجاوز الخمسة آلاف. وقال بعضهم: إن البدو لم يتجاوزوا السبعين ألفاً يكثرون ويقلون بحسب الحاجة،

والنظامي وهم من أبناء العرب الذين أسروا من الجيش التركي أو فروا منه خمسة آلاف والنظامي لم يتجاوزوا هذا القدر. وكان شاعر الثورة الشيخ فؤاد الخطيب يحفز أرواح هذه الأمة بشعره ومما قاله في الثورة: يا آل جنكيز إن تثقل مظالمكم ... على الشعوب فقد كانت لهم نعما فالظلم أيقظ منهم كل ذي سنة ... ما كان ينهض لولا أنه ظُلما أرهقتم الشعب ضرباً في مفاصله ... حتى استفاق وسلّ السيف منتقما فالشنق عن حنق منكم وموجدة ... قد أرهف العزمات الشم والهمما هيهات يصفح عنكم أو يصافحكم ... حرّ ولو عبد الطاغوت والصنما يا ابن النبي وأنت اليوم وارثه ... قد عاد متصلاً ما كان منفصما والتف حولك أبطال غطارفة ... شم الأنوف يرون الموت مغتنما فاصدم بهم حدثان الدهر مخترقاً ... سداً من الترك إن تعرض له انهدما يا من الحّ علينا في ملامته ... بعض الملام وجرّب مثلنا الألما لو كان من يسمع الشكوى كصاحبها ... مضنى لما ضج بالزعم الذي زعما ايه بني العَرب الأحرار إن لكم ... فجراً أطلّ على الأكوان مبتسما يستقبل الناس من أنفاسه أرج ... ما هبّ في الشرق حتى أنشر الرمما تلك الحياة التي كانت محجبة ... في الغيب لا سأما تخشى ولا سقما سارت مع الدهر من بدو ومن حضر ... حتى استتبت فكانت نهضة عمما من ذلك البيت من تلك البطاح على ... تلك الطريق مشت أجدادنا قدما لستم بنيهم ولستم من سلالتهم ... إن لم يكن سعيكم من سعيهم أمما إلى الشام إلى أرض العراق إلى ... أقصى الجزيرة سيروا واحملوا العلما

أماني الأتراك وخيبتهم وتخريبهم:

أماني الأتراك وخيبتهم وتخريبهم: كانت حالة الشام تسوء كلما طال أمد الحرب العامة، وقد أتى الجند وبعض ضباطهم وعمال الحكومة من ظلم الناس باسم الجيش والتكاليف الحربية ما ضاقت به الصدور، وغلت مراجل الأحقاد، وكلما دامت الحرب شهراً زاد القوم من الدولة اشمئزازاً وقهراً، ومن يجسر والأحكام العرفية سائدة، وسلطان الفزع الأكبر فاغر فاه، أن يقول كلمة خير، أو يرفع مظلمة أو ينقد معوجاً، فإن التعذيب كان مصير من يجرؤ على ذلك، والسجن والقتل كان يتهدده كما وقع لمئات في دار الملك ومنهم أصدقاء أنور باشا وشركاؤه في أعماله، قتل بعضهم لأنهم قالوا بطلب الصلح من الحلفاء، وأن الدولة تحاول بحربها الانتحار. قال سفير أميركا: رأيت أنور في حد الأيام وقد اشتدت وطأة الضباط على الفلاحين والتجار فقلت له: إن تلك الأعمال نهب التجار والفلاحين باسم الجيش تفضي بالمملكة إلى الخراب العاجل والدمار الأكيد، ولكنه لم يعبأ بأقوالي ولم يخفق فؤاده ألماً لتلك الأعمال، بل كان يفتخر بأنه أنشأ جيشاً كبيراً مجهزاً من لا شيء. بلغ عدد الجنود التي جمعها أنور نحو مليون ونصف مليون، وبقي نحو مليون أسرة في أنحاء المملكة وليس لهم من يساعدهم على القيام بأعباء الحياة، وقد فتك بهم الجوع فتكاً ذريعاً. أما الحكومة التركية فكانت تدفع لكل جندي في جيشها نحو ربع ريال في الشهر اه. قلنا: إن الدولة جمعت في الشام سبعاً وعشرين قرعة أي من ابن الثامنة عشرة إلى ابن الخامسة والأربعين وكان معدل ما يجمع من كل صنف ثمانية فرّ منهم بحسب الإحصاءات الرسمية إلى آخر الحرب نحو مائة وخمسين ألف جندي وظلّ في الخدمة بين أسير ومريض ومستخدم في خدمة خفيفة ببلده نحو خمسين ألفاً وقتل نحو أربعين ألفاً. ولو أردنا تفصيل ما وقع من الجيش ولأجل الجيش، وأهمه استباحة الأعراض المصونة، والعبث بالمقدسات والمشخصات، لاقتضى لذلك مجلد برأسه، فقد فسدت الخلاق بحيث لا يتأتى أن تصلح إلا بفناء معظم من تلوثوا بتلك اللوثات، وكانت تنضب المواد الحيوية يوماً بعد يوم، وقل الفحم الحجري جداً فأخذ الأتراك يسيرون القطارات بالحطب، يقطعون

الزيتون والكينا من فلسطين، والجوز والمشمش والحور من الغوطة، والسنديان والزان من الصنوبر من لبنان، والزيتون والفستق من حلب، والغضا من الحجاز، واشتد الجوع وعزّ الخبز، وأصبح الغني يغتبط بأنه ينال قوت يومه على أيسر وجه، وذل اعظم عظيم في هذه الديار أمام جمال باشا وأشياعه من الاتحاديين، وصانعه اكبر البقية الباقية من الأحرار مخافة أن ينالهم من ظلمه ما نال غيرهم، وكان الموت معلقاً بين شفتيه ومن لا يصانعه يذله، وربما قتله أو نفاه من هذه الأرض. وكان يعمل ما يريد ثم يكتب إلى الأستانة بما حصل. ومن أغرب الأحكام أن يجعل القتل في أيدي العرفاء والنقباء من صغار الضباط، فكان لأحدهم إذا قبض على عشرة فارين أن يهلك واحداً منهم بالقرعة! وهكذا تجددت الأحكام القره قوشية، ورخصت الأرواح وبيعت بيع السماح. قال جمال باشا في مذكراته: ويقيننا أن الفضل في عدم حدوث ثورة في سورية خلال العامين والنصف العام اللذين أعقبا إعلان الشريف حسين استقلال بلاده، إنما يرجع إلى أحكام القتل التي وقعت في نيسان 1916 وبقطع النظر عن ذلك فإن أنور باشا وهو وزير الحربية، وطلعت باشا وهو وزير الداخلية، قد وافقا على تنفيذ أحكام القتل بدون استئذان من المراجع العليا، ثم أرسلتُ إلى الأستانة تقريراً بما أجريته وهناك راجعته محكمة الاستئناف التابعة لوزارة الحربية ثم أرسلته بناء على قرار مجلس الوزراء إلى القصر للتصديق السلطاني، وهكذا أيدت الإرادة السنية الأحكام التي قضى بها الجيش ونفذها وبذا ختمت هذه الرواية اه. وكلما كانت الأمة ترجو انفراج الأزمة كان أحمد جمال باشا وهو قوي الثقة بنفسه وجيشه يرجو أن تنجلي الحرب عن نصرة دولته، ويؤسس في الشام معاهد لتتريك العرب وتقوية الدعوة التركية الاتحادية في نفوس الأمة ويفتح شوارع في يافا والقدس وبيروت ودمشق ويضع المصورات والخطط والتصميمات لهندسة أمهات مدن الشام على الطريقة الحديثة، وقد نفذت أحكامه على البادية والحاضرة، حتى إن بعض أمراء العرب كانوا عيوناً له يقبضون إحساناته الكثيرة، ولا يتلكئون عن قبول المعاونات التي يقدمها لهم الإنكليز. ولم يسلم من يد جمال باشا إلا دروز جبل حوران فإنهم خدعوه بوعودهم، ولم يتجندوا

الوقائع المهمة في فلسطين وسقوط القدس وما إليها:

بحجة العمل في أراضيهم لإخراج الحبوب للجيش. ولكن الغلات التي استغلوها لم يقدموا منها شيئاً للدولة على الرغم من إلحاح القائد العام عليهم، فحفظوا حبوبهم في أهرائهم حتى شحت في الشام، ثم أخذوا يبيعونها بأثمان فاحشة ولولا ذلك لجاع أهل مدينة دمشق نفسها على قربها من حوران أنبار الشام العظيم. ولذلك كان جمال باسا يحرّق الأُرّم عليهم، ولو خرجت دولته ظافرة لأرسلوا حملة على هذا الجبل تهلكه وتخربه. وأخرى وهي تعد في مآثر الدروز هذه النوبة، وهي أنهم آووا في جبلهم نحو عشرين ألف لاجئ من العرب والترك على اختلاف مذاهبهم، فراراً من الجندية أو غيرها، وأطعموهم مدة الحرب بلا عوض، ومنهم من كانوا يشغلونهم في أراضيهم مقابل إطعامهم فقط، فكانت مضافات الرؤساء منهم أشبه بفنادق ومطاعم عامة مجانية، خدامها أصحاب تلك البيوت من أعيان الجبل، فمثلوا بعملهم القِرىَ العربي والمروءة والشهامة، وكفروا عن سيئات المسيئين منهم في الماضي، وكان جبل الدروز أقوى صلة بين جزيرة العرب والشام والعراق مدة الحرب ولا سيما بعد استقلال الحجاز، وعزم الحلفاء على فتح الشام باسم الأمير فيصل واسم أبيه، فكان مركز جبل حوران من الوسائط النافعة لأبناء الشام والحجاز معاً، وفيه تألفت عصابات من الدروز لإلقاء الاضطراب في صفوف الجيش التركي، وظلّ أكثر زعماء الجبل على ولائهم للدولة العثمانية حتى أظلتهم الرايات العربية. الوقائع المهمة في فلسطين وسقوط القدس وما إليها: أخذ الجيش التركي في الجبهة ينضغط على نفسه وتتضاعف فيه مضاعفات النفوس من جوع وعري، ففي 26 و27 آذار 1917 حدثت معركة غزة الأولى بين الترك والإنكليز وفي 19 نيسان كانت معركة الرمادة، وفي 4 آب انهزم الأتراك للمرة الثانية في محاولتهم غزوة مصر في قطيا، وفي 23 تشرين الأول و7 تشرين الثاني اخترق البريطانيون خط العثمانيين بين بئر سبع وغزة، فتخلى الأتراك عن الابن وبئر السبع وكانت وقعة في أزقة غزة على أسلوب حرب المتاريس اشتركت فيها البحرية البريطانية بمدافعها من البحر، وكانت الغلبة

فيها للأتراك وفقد من الإنكليز على رواية قائد الجيش الرابع في وقائع غزة 4000 وفقد الترك 286 قتيلاً و756 جريحاً و585 متغيباً وأسيراً، وادعى القائد التركي أن كل جندي من الحامية في غزة قتل جندياً إنكليزياً وأن الجيش البريطاني في أرجاء غزة كان مؤلفاً من أربع فرق فرسان وأربع مشاة، وأن المعركة دامت ثلاثة أيام واضطر البريطانيون إلى النكوص على أعقابهم يحتمون في خطوطهم تاركين ورائهم القتلى والجرحى وعددهم 7000 أي ما يعادل جميع القوة التركية التي اشتركت في القتال في تلك الجبهة. وفي الأخبار الرسمية التركية أن خسائر الإنكليز رجب 1335 في ساحة غزة الثانية قدرت بثلاثة آلاف فيهم كثير من الضباط، وأفاد أحد الأسرى أن فرقته بات عددها أربعة آلاف رجل بعد عشرة والأسرى بلغوا نحو الأربعمائة وخسائر الإنكليز بالنسبة للوقعة الأولى كثيرة وخرب الجانب الأعظم من غزة وكان تشتت أهلها تحت كل كوكب. ومن الأسباب التي قضت بخرابها أن الأتراك وضعوا بعض مدافعهم الرشاشة الخفيفة في المآذن وأخذوا يطلقونها على البريطانيين، فما كان من هؤلاء إلا أن قابلوهم بإطلاق القنابل من مدفعيتهم من البر والبحر. ولم يتناول الخراب غزة فقط بل تناول يافا أيضاً، وذلك لأن العثمانيين أجلوا أهالي تينك المدينتين إلى الداخل فترك سكانهما عروضهم ومتاعهم وأموالهم أو باعوها بأثمان طفيفة وارتكبت الفرقة الثالثة من الفرسان وهي من الترك أنواع الفظائع في النساء بما يخجل منه. كانت قيادة الجيش الفعلية في الشام بيد الألمان وبالاسم بيد العثمانيين فإن القواد فونكريس وفالكنهايم وليمان سندرس أبلوا بلاء حسناً في وقائع شبه جزيرة سينا وغيرها ولذلك كان قائد الجيش الرابع يكرههم لأنهم جعلوه وأوامره وراء ظهورهم. ووظيفته الحقيقية في هذه الحرب أن يقدم لهم جنداً وأرزاقاً وينفذ ما يأمر به القائد الألماني لنظام الجيش وانتظامه. ولم يقصر الأتراك والحق يقال في مد الخطوط الحديدية إلى جبهة مصر على تعذر جلب الأدوات اللازمة لها من الغرب فأنجزوا خط العفولة نابلس متصلاً بحيفا ودرعا ودمشق قبل الحرب ثم أنجزوا مسعودية - طوركرم - لد - الصرار - الحفير وهو

254كيلو متراً، ومدوا خطاً من التينة حتى دير سنيد قرب غزة وهو 40 كيلو متراً في أيام قليلة وخربوا خط حوران دمشق وطرابلس حمص لأخذ خطوطهما الحديدية، وأصبحت بئر السبع مركزاً مهماً فيها الكهرباء وأدوات الرفاهية في المدن، وسدوا طريق العريش - الابن - نخل، وحفروا آباراً وعملوا أحواضاً وجروا الماء في البادية إلى القصيمة إلى ثلاثين كيلو متراً. سار الجيش الإنكليزي على عادته في قتال الترك في سينا سيراً بطيئاً ولكنه كان أميناً، ومدوا خطهم الحديدي بالقرب من الساحل ليكون له من الأسطول عند الاقتضاء معتصم، وفي 31 تشرين الأول أخذوا بئر السبع وفي 21 كانون الأول 1916 أخذوا العريش وفي 9 كانون الثاني 1917 أخذوا رفح. وأخلوا شبه جزيرة سينا من كل ما هو تركي سنة 1917، وأُخذت يافا في 16 تشرين الثاني وكانت أخليت من السكان زهاء سنة ونصف وتشرد أهلها، وسقطت القدس في 10 كانون الأول 1917 ودخلها القائد المشير اللنبي الإنكليزي دخول الظافر فسقطت بيت المقدس كما قال بعضهم في أيدي الفرنج بعد أن خرجوا منها في الحروب الصليبية منذ ثمانمائة وتسع عشرة سنة. وقرعت أجراس الكنائس فرحاً بسقوط القدس ومن جملتها الكنائس الألمانية كأن ما خسرته ألمانيا سياسياً بهذا السقوط يعزيها بعودة الأرض المقدسة دينياً إلى أيدي المسيحيين. واستولى الإنكليز على أريحا يوم 21 شباط ثم جعلت الجبهة على خط يافا أريحا وظل المتحاربون يقتتلون إلى سنة 1918 وقد كلت همم المقاتلين من الترك فاخترق القائد اللنبي الجبهة التركية في أيلول 1918 واستسلم جيشان تركيان وكان انهزم أحدهما نحو الشمال أي نحو طريق القدس نابلس، ونشبت بين الفريقين البريطانيين والأتراك معركة هائلة في البيرة انتهت بهزيمة الأتراك وانسحابهم إلى اللبن وبلغ الجناح الأيسر من الجيش البريطاني حيفا وتجاوز الجناح الأيمن نابلس وسقطت حيفا في 23 أيلول 1918 وكذلك عكا والناصرة وبفتح حيفا وطوركرم ونابلس والناصرة وطبرية فتحت أبواب الشام أمام الجيش البريطاني.

عمل الجيش العربي:

عمل الجيش العربي: في سنة حزيران سنة 1916 أي في السنة الثالثة للحرب العامة لما قام الشريف حسين بن علي أمير مكة المكرمة بثورته على الترك وقتل وأسر حامية مكة من الأتراك ونودي به ملكاً على الحجاز، ثار أبنه الأمير علي في عرب المدينة المنورة الموالين لأبيه على الحامية التركية غداة ثورة مكة فلم يستطيعوا أخذها لأن فخري باشا قائد حاميتها التركي كان حصنها تحصيناً عظيماً فما استطاع العرب أن ينحوا على تلك الحصون مخافة أن يصاب قبر الرسول ومسجده بأذى وقبعت الحامية التركية بما ادخرته من الطعام في داخل حصونها وأجلت الحكومة أكثر أهل المدينة إلى الشام وآسيا الصغرى وعددهم لا يقل عن أربعين ألفاً ولم تترك سوى بضعة آلاف ممن آثروا أن يموتوا في جوار قبر النبي على الجلاء غير مطالبين الجيش المحاصر بخبز ولا إدام. وأخذ عرب الأمير علي يناوشون الحاميات التركية على السكة الحجازية مدة ويخربون بعض خطوطه ويعود العسكر العثماني فيصلح ما خربوه ويستخدمه في الضروريات لتموين الجيش المرابط في المدينة، وأخذ منذ ذاك الحين الأمير فيصل ثالث أنجال الملك حسين في سرايا من عرب الحجاز بشاطئ ساحل البحر الأحمر متقدماً إلى سمت الشمال وينضم إليه أسرى الجيش التركي من العرب ممن أسروا في ترعة السويس وشبه جزيرة سينا وساحة العراق. ففتح ينبع البحر والوجه وهنا تألف الجيش الشمالي الذي قاده الأمير فيصل، أما شقيقه الأمير عبد الله النجل الثاني فكان في الطائف يحاصرها حتى سقطت، أي أن الأمير علياً كان يشاغل الحامية التركية في المدينة ويفتح رابغ ويجعلها ميناءه، وشقيقه الأمير فيصلاً يحاول الابتعاد عنها للانضمام إلى الجيش البريطاني في شبه جزيرة سينا. وفي تموز1917 أي بعد أحد عشر شهراً من ثورة صاحب الحجاز على الترك فتحت العقبة بمعاونة الشيخ عودة أبي تايه من مشايخ الحويطات ومن شجعان العرب، وقد أبلى بلاء ليس بعده بلاء في هذه الوقعة وفي أكثر الوقائع

التي اشتبك فيها الجيش العربي مع الجيش التركي، وكان له الفضل بإسقاط الطفيلة وأبي الأسل والكويرة وغيرها من المواقع التي احتلها العرب في أوائل الشام من الجنوب. وقد أسر في فتح العقبة تابوراً تركيا برمته تام الأهبة لم يفلت منه ولا أركان حربه ورجال شوراه الحربي استسلموا كلهم لأبي تايه فعاملهم أرقى معاملة مدنية. وكان لمدافع الأسطول البريطاني من البحر أولاً يد طولى في إخلاء الترك للعقبة وبسقوطها حمى العرب مؤخرة البريطانيين في سينا. وكان الأتراك يأتون من معان إلى بادية سينا يضربون البريطانيين، وباستيلاء العرب على العقبة استطاع الإنكليز أن يستولوا على غزة ثم رفح وبئر السبع، أما الأتراك والألمان فقد دافعوا عن العقبة دفاعاً عظيماً ولكن البريطانيين كانت لهم السلطة على الساحل والعرب يحاربون بأجسادهم وأرواحهم مع صاحب الحجاز وأولاده. استولى العرب على الطفيلة ووادي موسى وحاولوا الاستيلاء على معان الاقعة على الخط الحديدي فردوا عنها مرتين بخسائر، خصوصاً يوم 22 تموز عندما هاجموا محطة أم الجرذان الجردونة فكانت خسائرهم عشرين ضابطاً ومائتي جندي واستولوا على أم الجرذان ثم تخلوا عنها. وأرسل الأتراك من الكرك أربع كتائب وسرية من البغالة بغية احتلال الطفيلة وبينا كانت سائرة في وادي موسى بلغ العرب خبرها، فتحصن محافظ الطفيلة الأمير زيد رابع أنجال ملك الحجاز في مائتي جندي نظامي وقوة قليلة من البدو في رؤوس الجبال وأخرج أهل الطفيلة وسلحهم وفرقهم على الجبال التي في أطراف الوادي، وجعل العسكر التركي في شبه حصار وأطلق عليهم النار، فارتبك الجيش الزاحف وجفلت البغال وقتل حامد فخري بك القائد التركي المعروف عند الأتراك بفاتح بكرش فسقط في يد الجيش وانهزم أكثره وسلم الباقي، وأخذ العرب ما يربي على ستمائة أسير تركي وغنموا أربعة مدافع سريعة الطلق ولم يكن معهم سوى مدفعين قديمين. أما الكرك على حصانتها فإن الأتراك أخلوها من أنفسهم. وانضمت إلى الجيش العربي في الوقائع الأخيرة سرية مدفعية فرنسية كما كانت الطيارات الإنكليزية لا تغفل يوماً عن كشف مواقع العدو وتهيئة سبل التقدم لهم، وكانت وقائع البدو مع الترك على الأكثر أشبه بمناوشات عصابات

لا بحروب منظمة. والأمير فيصل ينظر إليه نظر قائد عربي يتلقى الأوامر من المستر اللنبي ولقبه قائد الجيوش الشمالية. جاء في نشرة وزارة الحربية البريطانية في آب 1917 أن خطة العرب في بداءة نهضتهم خطة حسنة تحوي في مطاويها حذقاً وحزماً ودهاء، فقد خربوا قسماً من السكة الحديدية واستولوا على مراكز الأتراك على جانبي الطريق وكانوا على جانب من البسالة يتغلبون غالباً على جيش أكثر منهم عدداً وعُدداً. وقال ليمان سندرس الألماني: إن العرب من أول شهر أيار إلى التاسع عشر منه خربوا خمسة وعشرين جسراً. خرب العرب محطة القطرانة وأسروا عدداً من الترك وبعد أسبوع هجموا على الحسا فأخذوا قظاراً كان هناك ودمروا قسماً من العدة والذخيرة ولكن الأتراك أخرجوهم بعدئذ من الحسا فتقهقروا جنوباً وهم يخربون في الجسور والخط. وفي تشرين الثاني 1917 واقعت القوى البريطانية حامية الترك في عَمانّ فسقطت الصلت في أيدي البريطانيين والعرب وعاد الأتراك فهاجموها في آذار 1918 وردوا البريطانيين إلى غربي الأردن. وكانت حال الصلت ومعان وعمان وغيرها تعسة جداً لأن الاستيلاء عليها كان متبادلاً بين الفريقين المتحاربين وأهلها بين نارين خصوصاً نار العثمانيين الذين كانوا يعاقبون الأهلين لدى دعوتهم إلى بلد انهزموا منه بحكم الطبيعة أو القواعد الحربية بما يخرج عن حد المألوف تشفياً وانتقاماً. لما صدر الأمر بالهجوم العام لضرب الجيش التركي الألماني الضربة القاضية فاوض البريطانيون الأمير فيصلاً أن يجهز حملة تسير من أبي الأسل إلى جسر تل شهاب في حوران لتقطع خط الرجعة على الجيوش التركية فتألفت الحملة من الجيش النظامي يرافقها شرذمة من البدو. ويظهر أن القيادة التركية شعرت بذلك لأن من البدو من كانوا يتجسسون للعرب وعليهم وللترك وعليهم، ومن عادة البدوي أن ينحاز إلى صفوف الغالب وينتقض على المغلوب ولو كان في صفوفه لأن هدفه الوحيد السلب والنهب فأوعز القائد التركي إلى الحامية أن تدافع عن معان بالهجوم على الجيش العربي في الوهيدة لإشغال الحملة عن المسير إلى تل شهاب وسار الألمان مع الأتراك من الشمال على الشوبك والطفيلة

ليلتقوا مع الجيش التركي الذي خرج من الشرق على معان فباغتت الحامية ليلاً على تل سمنة المطلة على معان واستولوا على حصونها، وبضبطها أصبح الجيش العربي في خطر، فبلغ الأمير فيصلاً ذلك بالهاتف من الوهيدة بين معان وأبي الأسل وتبعد عن كل منهما زهاء ساعتين أو أكثر، وكانت مقر الجيش العربي ومقر الأمير وراءها في أبي الأسل، فاهتم للأمر لتناقص عدد الجيش العربي الذي انضمت أكثريته إلى الحملة المنوه بها، وكانت بارحت قبل هذا الهجوم بيوم المقرّ من جهة الطريق الشرقي البعيد عن الخط الحجازي مسافة يوم تقريباً وهو من جهة الجفر وباير ماءان لأهل البادية فندب الأمير أخاه الأمير زيداً واستعاد حصون تل سمنة، وكان الأتراك ينوون أن يتقدموا منها للاستيلاء على الوهيدة مقر المعسكر العربي، ولو لم يتقدم أحد أبناء العرب ممن كان مع الجيش التركي ويفاوض بالهاتف مركز الجيش العربي وينذره سوء العقبى ويسارع الأمير فيصل بإرسال عبيده وعددهم مائة وخمسون ويسيروا كالبرق الخاطف يقفون أمام الجيش التركي ويشاغلونه ريثما تقدمت فرسان الجيش العربي وتبعها المشاة لولا هذا لما رُد الأتراك عن معان ولهلك الجيش العربي بأسره. ومن ذلك الحين انقلبت حامية معان من طور الدفاع إلى طور الهجوم، وعهد الأمير فيصل بالقيادة العامة في مقر أبي الأسل إلى أخيه الأمير زيد والتحق بالحملة يرافقه قليل من الجند النظامي وحرسه من العبيد وبعض المتطوعة من بدو ومن حضر قاصداً الأزرق ليتخذه مقر القيادة للحملة، وضرب موعداً للنوري بن شعلان أن يلاقيه بالأزرق مع شرذمة من قبيلته كما أوعز إلى عوده أبي تايه أن ينزح مع شرذمة من قبيلته من الجفر إلى الأزرق، ولكن جنده كان قليل العدد والبدو الذين أرادهم على أن يوافوه تخلفوا عنه فأصبح موقفه في خطر، وكان في وسع مائة جندي عثماني لو هموا به أن يأسروه ومن معه، ولكن قذف الرعب في قلوب المحاربين من الترك فظنوا أو هناك جيوشاً جرارة لا قبل لهم بها، وزاد حراجة الموقف تشويشاً أن بعض مشايخ قرى جبل الدروز بعثوا إلى الأمير يحتجون على احتلاله الأزرق بدعوى أن احتلاله يوغر عليهم صدر الحكومة التركية لأن الأزرق وإن كان مقدمة بادية الشام وغير مملوك لأحد لكنه

يعتبر في نظر الدروز ونظر القبائل الرحل ملحقاً بالدروز، ولم يؤثر هذا الاحتجاج في نفس الأمير فيصل لعلمه أن لا قيمة له بالنسبة إلى زعماء الجبل الموالين له وفي طليعتهم سلطان باشا الأطرش الذي أخلص كل الإخلاص للثورة العربية وعاونها بماله وجاهه، ولعلمه أنهم متجرون بهذا الاحتجاج غير أنه أورث اضطراب الأفكار خشية تجسسهم للأتراك، وبعد خمسة أيام أرسل أحد شيوخ قبيلة بني صخر وهو الوحيد في موالاة الجيش العربي دون بقية شيوخ القبيلة الذين كانوا موالين للحكومة التركية ويقطعون السابلة على كل قافلة تلتحق بالأمير فيصل في أبي الأسل، وجهزه بفئة من المتطوعة لتخريب جسر عمان لقطع المواصلة بين القيادة التركية ومعان. وجاء على الأثر الكولونل لورانس الإنكليزي، ملقن الثورة العربية والمشرف عليها الذي دُعي ملك العرب غير المتوج وأخبره بسقوط نابلس وما وراءها إلى الشمال، وأنه وقع في أسر الجيش البريطاني من الجيش التركي زهاء ستين ألفاً وكان الفضل الأكبر في ذلك لتخريب جسر تل شهاب. وصباح اليوم السادس ورد على الأمير فيصل نجاب يخبره بسقوط معان وأسر حاميتها وسوق رجالها إلى العقبة، وبعد ساعتين جاءه نجلب آخر من عمان يحمل إليه أوراق الحكومة التركية فيها مبرهناً على سقوطها وانجلاء الترك عنها قبل تخريب الجسر. فرأى الأمير فيصل عندئذ نقل المقر إلى بُصْرى عاصمة حوران، مخافة أن يضم الأتراك شملهم في درعا دفاعاً عن دمشق ولم يكد يستقر بها حتى بلغه سقوط درعا بيد الجيش العربي الإنكليزي ومتطوعة الحورانيين، فسار إليها ونظم حكومتها وأخذ منه القلق لأنه كان جرى اتفاق بينه وبين الحلفاء أي بينه وبين البريطانيين أن كل فريق من العرب أو البريطانيين يسبق جيشه إلى فتح مقاطعة أو بلد يكون حق احتلالها وإدارة شؤونها لذلك الفريق إلى أن يبُت في المصير، وحافظ الجيش الإنكليزي على هذا الوفاق فكان إذا سبق ففتح بلداً أو أسقط حصناً في العمالة التي يريد إعطاءها للعرب يتوقف ريثما يدخل العرب فينسب الفتح إليهم ولا سيما في الشام الداخلية. ولذلك خف السيد نسيب البكري من الأزرق بأمر الأمير فيصل إلى جبل الدروز ولقي صديقه سلطان باشا الأطرش وجيش هذا من الجبل نحو مائتي فارس وذهبوا إلى بصرى وهناك التحق بهم بعض الحورانيين

سقوط حوران ودمشق بيد الجيوش البريطانية:

ولا سيما آل مقداد وساروا إلى دمشق على طريق الكسوة فناوشهم جيش الأتراك قليلاً في حصون جبل المانع ريثما يتمكن من الهزيمة بانتظام، ودخلت هذه الحملة التي كانت مؤلفة من نحو خمسمائة فارس ما عدا المشاة إلى دمشق واتفق دخول هذه الحملة مع أوائل الحملة البريطانية الزاحفة على الفيحاء من طريق جسر بنات يعقوب - القنيطرة. سقوط حوران ودمشق بيد الجيوش البريطانية: وفي 17 أيلول 1918 قطع الجيش العربي الخط الحديدي على عشرة كيلو مترات من شمالي درعا بين خربة الغزالة ودرعا بمعاونة الطيارات الإنكليزية، وكذلك خط درعا - حيفا أي من المزيريب وخط عمان - درعا فانقطع الخط في نصيب، وأصبحت حامية درعا مقطوعة عن كل مدد، وفي اليوم الثاني كان الهجوم البريطاني العام فوجه الترك إلى العرب بقسم كبير من قوتهم فلم يبق فيها الجناح الأيسر من الجيش البريطاني إلا بقية ما لبثت أن تفرقت شذر مذر، وأسر العرب في هزيمة الأتراك تسعة آلاف أسير، وغنموا تسعة آلاف بندقية وثمانية مدافع وأربعة وخمسين رشاشاً. وفي 26 منه هجم الجيش العربي وقد انضم إليه عرب الرولة وعرب عنزة وعدد من الدروز على سكة الحجاز على 15 ميلا جنوبي درعا، فخربوا جسراً وقسماً من الخط. وفي 28 منه احتلت القوات النظامية درعا وفي 30 منه تغلبت فرقة أسترالية على نجدات الأتراك في قطنا، وتقربت عند المساء إلى أبواب دمشق وفشل الأتراك، وظل الجيش البريطاني يطارد المنهزمين حتى بلغ ضواحي دمشق يوم 30 أيلول وكان ناوش المهاجمون بعض الحاميات في المدن التي ذكرت ولا سيما في الناصرة 20 أيلول وقد نشب قتال فيها بين البريطانيين والألمان من الساعة الخامسة صباحاً إلى الظهر، وعندها أخلى ليمان سندرس الناصرة وركب سيارته إلى دمشق. وعلى هذا كان أول من دخل دمشق فرقة من الخيالة الأسترالية والفرقة البريطانية جاءت من درعا على طول الخط الحجازي ومن الغد أول تشرين

الأول دخل البريطانيون والجيش العربي في يوم واحد، وقد تأثر الجيش البريطاني بقايا المنهزمين من الجيش التركي بين ربوة دمشق وقرية دمر فهلك من الجند المنهزم نحو مائة وعشرين، وسرقت خزينة الجيش التركي وكانت في القطار في مركبتين بين الشاذروان ودمر فنهبها الفلاحون وغيرهم من المصطافين، وطارد الفرسان البريطانيون والأستراليون المنهزمين من الأتراك ممن حاولوا المقاومة أولاً في سفح جبل قلمون قرب دومة فظن الترك أن الأهلين قاموا بمناصرة الجيش البريطاني فاستسلموا فخف أهل قرية حفير من أعالي الجبل لرد الأتراك دفاعاً عن قرتهم. وكان بعض سكان حوران اعتدوا في الأيام التي سبقت سقوط دمشق على بعض المنهزمين من الجيش لأخذ سلاحهم على الأكثر، ولكن الأمير طاهراً الحسني وأبناء عمه الأمير سعيد والأمير عبد القادر كانوا ألفوا من المغاربة سرايا من المطوعة وأخذوا ألف بندقية من الحكومة التركية خرجوا إلى أذرع وخففوا ويلات الجيش التركي وساعدوه على الهزيمة، ولما خلت دمشق من حكومة كانت مسائل الأمن فيها لأناس من أهل البلد والوجاهة في مقدمتهم أحفاد الأمير عبد القادر الحسني فلم يقع ما يكدّر في النفس والأموال. وقبيل سقوط مدينة دمشق عقد الأتراك مجلساً حربياً حضره قواد الجيش من الترك والألمان والنمساويين والمجريين ورجال الشورى الحربي، فرأى القسم الأعظم من المؤتمرين نسف جميع الأماكن الأميرية في دمشق، وكان الألمان أعدوا لذلك العدة، وقال بعض الراوين بل نسف مدينة دمشق، إلا أن القائد النمساوي أقنع رفاقه بأن هذا عمل غير معقول، لأن الدمشقيين حاربوا مع الدولة العثمانية وقاموا بكل ما فرض عليهم بإخلاص، فليس من العدل وقد خسر الترك الحرب أن يعاملوا دمشق هذه المعاملة القاسية وكانت حجته داحضة. وكان جمال باشا المرسيني المعروف بجمال باشا الصغير من رأي القائد النمساوي سراً فعاضده وأشار إلى من استلموا زمام البلد من الوطنيين أن يعلنوا استقلال الشام، فرفعوا العلم العربي على دار الحكومة ضحوة يوم 30 أيلول وبعد أن هنأ جمال باشا الصغير الحاضرين من الدمشقيين باستقلالهم، غادر دمشق على

سقوط بيروت والساحل والهدنة:

سيارته إلى رياق، وكان آخر قائد تركي خرج من عاصمة القطر، بعد أن ملكها الأتراك أربعمائة وأربع عشرة سنة. وبعد يومين استدعى من فُوض إليهم الأمن في البلد من وجوهها الأمير فيصل بن الملك حسين قائد الجيش العربي، وكان مرابطاً في الجيدور فدخلها ونزل في دار آل البارودي في القنوات وهناك شرع بتأسيس الحكومة العربية. وكان البريطانيون عهدوا إلى اللواء علي رضا باشا الركابي من قواد الجيش التركي ومن أبناء دمشق بأن يكون حاكماً عسكرياً لمدن الداخلية دمشق وحلب وما إليهما بالنظر لما ثبت للبريطانيين من حسن بلائه في خدمتهم، ويقال: إنه كان أرسل إليهم مصوّر الحصون حوالي دمشق وكان وكل إليه الترك عملها، وأرسله القائد التركي قبيل سقوط دمشق ببضعة أيام ليجمع شمل المنهزمين من الجيش التركي في القنيطرة وأعطاه مبلغاً من المال، فادعى أن العربان سلبوه ماله وثيابه، وانضم إلى الجيش الإنكليزي، وهكذا ذهب من دمشق قائداً تركياً وعاد إليها بعد أيام حاكماً عربياً بريطانياً. وأطال بعض أهالي بعلبك أيديهم على المنهزمين من جند الترك، وأخذوا سلاحهم وسلبوهم ثيابهم وعتادهم وقتلوا نحو ثلاثين جندياً، وذل الأتراك هذا الملك العظيم، وخدم الاتحاديون الدولة بادئ بدء إذ حموا الدستور كما قال كامل باشا لكنهم بتدخلهم في السياسة وبسط سيطرتهم على السلطة الإجرائية أصبحوا حكومة في حكومة، وأضحوا خطراً على الدستور. بل صاروا بعد خطراً على المملكة كلها، ضاربوا بها في سوق السياسة الألمانية فخسروها. سقوط بيروت والساحل والهدنة: كانت الطيارات البريطانية يوم 29 أيلول أمطرت قنابلها على مستودعات محطة رياق نقطة اتصال الجنوب بالشمال ونهب ملحم قاسم أنابير رياق وحوش حالا في جماعة من رجاله، فنسف الألمان ما بقي من المؤن والعتاد في المستودعات والأنابير، وانهزموا في السكة الحديدية إلى الشمال، ولم يتركوا أحداً من الترك معهم نجوا باستعمال الشدة، وفي ذاك الحين قذف الألمان في بيروت المؤن

والمواد الحربية في البحر، وأصلاهم الحلفاء ناراً حامية خلال هزيمتهم، ولم تنفعهم وتنفع الأتراك خطوط الدفاع التي كانوا جعلوها في الجبل المطل على بيروت، كما لم تنفعهم والترك أيضاً الخطوط التي أنشئوها في جبل المانع والمزة وقاسيون المحيطة بدمشق من غربها وجنوبها وشمالها، وهكذا لم تصب دمشق وثغرها بيروت بأذى يوم الهزيمة على نحو ما كان العقلاء يحاذرون. لم يجر استيلاء الحلفاء على بيروت إلا يوم 7 تشرين الأول أي بعد سقوط عاصمة الشام بثمانية أيام، فأرسلت الحكومة العربية في دمشق برقية إلى رئيس بلدية بيروت بأمر الأمير فيصل غداة وصوله إلى دمشق تأمره فيه برفع العلم العربي، ووصل إلى بيروت من دمشق اللواء شكري باشا الأيوبي تحف به شرذمة من الفرسان، واحتل دار الحكومة، وبعد أربعة أيام وصل القائد الإنكليزي وأمر اللواء العربي بالعودة إلى دمشق، وأنزلت الراية العربية وعين الكولونيل بياباب الفرنسي حاكماً على بيروت، وأخرج الفرنسيون جنداً إلى البر بين تصفيق الأهالي ولا سيما أبناء الطوائف الغربية، ثم صدر أمر القائد اللنبي إلى الأمير فيصل أن يحتل جيشه حمص وحماة وحلب، وكانت الجنود الإنكليزية والأسترالية تتقدمه أولاً، ففتحت حمص يوم 14 تشرين الأول، وحماة يوم 16 ودخل الجيش العربي حلب يوم 25 منه مساء بعد مقاومة خفيفة ومناوشة الفرسان البريطانيين والأستراليين لبقايا الجيش التركي الذي دافع لإشغال الجيش المهاجم حتى يتسنى له الانسحاب من حلب بانتظام وسلام خشية الأسر، ويتم له نقل الموظفين وعيالهم والنقود والأوراق والسجلات، وطلب الشريف ناصر بن علي قائد الحملة العربية إلى قائد الفرقة البريطانية الجنرال مكاندرو أن يمده بسرية من جيشه ليضمها إلى فصيلة عربية يمدّ بها السرية التي كان أنفذها لاحتلال حلب فرفض الجنرال طلبه، وبعد الإلحاح عليه صرح بأن القائد العام أمره أن لا تطأ قدم جندي واحد من الجيش الإنكليزي مدينة حلب إلا بعد دخول الجيش العربي ورسوخ قدمه بها، وهكذا لم يدخل الجيش البريطاني حلب إلا بعد دخول الجيش العربي بأربع وعشرين ساعة وتأليف الحكومة العربية المؤقتة وكان آخر ما سقط من الديار الشامية ميناء الإسكندرية احتلته البحارة الفرنسية يوم 18 تشرين الثاني 1918.

وصرح القائد مكاندرو في خطاب له في إحدى المآدب بحضور المستر مارك سايكس والمسيو جورج بيكو بعد أن أثنى على شمم العرب وذكائهم ونبوغهم وشجاعتهم بقوله: ومما يلفت النظر أنهم بفرط بسالتهم وإقدامهم سبقونا إلى حلب بيوم كامل أربعاً وعشرين ساعة. احتل العرب قلعة حلب ودار حكومتها، وقد فقدوا أربعة وخمسين جندياً، وأحصوا أربعمائة قتيل تركي في الشوارع. وذعر الترك لأنهم أصبحوا بين عدوين الجيش المهاجم والأهالي وانقض زعماء بادية حلب على الجيش التركي، عندما كان يدافع على سلامته على أبواب حلب، للسلب والنهب. وفي 26 تشرين الأول بدأ الجيش العربي بمهاجمة الأتراك في القسم الشمالي الذي كانوا فيه من المدينة فأجلوهم وتبعهم فرسان البريطانيين في اليوم التالي فواصلوا الزحف شمالاً إلى أن بلغوا المكان الذي تتقاطع فيه سكة حديد بغداد وسكة حديد سورية، وقد وقعت في قطمة معركة شديدة بين الأتراك والبريطانيين قتل فيها كثير من الفريقين وانتهت بانهزام الأتراك إلى الشمال والجيوش البريطانية تتأثرهم، والأتراك يرتكبون الفظائع في القرى المستضعف أهلها، ووقف البريطانيون على كيلو مترات قليلة من شمالي حلب، فأبلغت إنكلترا قائد جيوشها بعقد الحلفاء الهدنة مع الأتراك يوم 31 تشرين الأول، وكان الأتراك يتذرعون بالهدنة منذ بدء الهزيمة الكبيرة في فلسطين، ولكن بريطانيا العظمى سوفت في الأمر ريثما أخرجت الترك من الشام كله بالقوة على ما يظهر، وبعد الهدنة ظلت شراذم من الجيش التركي في حارم وإنطاكية وبيلان وإسكندرونة لم تستطع اللحاق بالجيش المنهزم، فتفسخت وتخللتها الفوضى، وانقلبت إلى شبه عصابات تسلب وتنهب وتؤذي الأهلين، إلا أنها لم تلبث أن انضمت إلى المنهزمين وراء جبال طوروس أو دخلت في الطاعة واستسلمت. ومن شروط الهدنة مع الأتراك تسليم حامية الحجاز وعسير واليمن والشام وما بين النهرين وانسحاب الجيوش من قلقية عدا من يحافظون على الأمن، وكان الفريق فخري باشا محاصراً في المدينة المنورة في خمسة عشر ألف جندي، ولم يسلم إلا عندما جاءه الأمر من حكومته في الأستانة أي في كانون الأول. وبينا كان الأمير فيصل لأول الاحتلال العربي في حلب وردت عليه برقية من

سبب سقوط الشام بأيدي الحلفاء:

وزارة خارجية بريطانيا العظمى بواسطة المستر اللنبي تطلب حضوره إلى باريز ليشهد مؤتمر الصلح للدفاع عن قضيته، وعينه والده وكيلاً عنه في مؤتمر فرسال، إذ لم تكن له صفة رسمية ثابتة تخوله حضور جلسات المؤتمر بصفة قانونية، فقدم للمؤتمر مذكرة قال فيها إننا نعتقد أن سورية هذه المقاطعة الصناعية الزراعية التي يقطنها عدد وافر من السكان من طبقات مقيمة هي بلاد متقدمة تقدماً كافياً من الوجهة السياسية يمكنها معه أن تقوم بأعباء أمورها الداخلية، ونرى أيضاً أن الاستشارة والمعاونة الأجنبية ستكون عاملاً ثميناً جداً لنمونا القومي، ونحن مستعدون لصرف ما يلزم من النقود مقابل هذه المعاونة، ولا يسعنا أن نفادي مقابلها بجزء من الحرية التي أخذناها قبلاً بأنفسنا وبقوة سلاحنا. سبب سقوط الشام بأيدي الحلفاء: عجب العارفون لسرعة سقوط الشام في أيدي الجيش البريطاني، وكيف كان تقدم الجيش المهاجم على مقدار سير خيول الفرسان، ولا عجب فالجيش مهما بلغ عدده إذا كسرت معنوياته ورأى الأفراد قادتهم يفرون ويختبئون ويرتعدون يدب فيه الفشل، ولم يكن الجيش التركي في الشام والحجاز أكثر من مائة وعشرين ألفاً، بقي في المدة الأخيرة منه مع ليمان ساندرس الألماني خمسون ألف جندي على حين كان يلزمه مائتا ألف، وجميع مدافع الترك على اختلاف العيارات لم تتجاوز الثلاثمائة، ومعظم ما يستندون عليه المدافع النمساوية ثم البطاريات الألمانية، أما الأعتاد الحربية والقنابل منها بوجه خاص فكانت قليلة جداً عند العثمانيين، لا يبيحون استعمالها إلا عند الضرورة الماسة، على حين كان البريطانيون يسرفون لا يبالون في إطلاق القنابر. وقد ألقى ليمان ساندرس التبعة على جمال باشا الكبير فقال في تقرير له إلى وكيل القائد العام: إن كل ما في سورية من إنسان وجماد وحيوان قد تسمم من سوء إدارة جمال باشا وإن الثبات فيها لا يمكن أبداً. وفي الحق أن سوء الإدارة قضى بأن يجوع الجند المحارب ولدى الدولة أنابير الأطعمة الكثيرة لم ينتفع بها. وما كان يظن أن الجند التركي، وبه يضرب

المثل بالطاعة والشجاعة، أن يبدأ بالهرب، منذ بدت أمارات الفشل والبؤس، كانوا يهربون زرافات في الجبال إلى آسيا الصغرى وهم لا يعرفون الطريق وأهل القرى يطعمونهم ويلبسونهم ويهدونهم السبل. على أن الثبات أمام الجيش البريطاني لم يعد فيه أدنى فائدة ما دام حلفاؤهم البلغار قد طلبوا الصلح، وأمارات الانهزام بدت بجميع أعراضها في الساحة الغربية في أوربا. وقصارى القول أن هذه الحرب كانت على الشام من أشأم الحروب لأنها حاربت وهي تحب السلم، فكان حربها تبعاً للدولة، وفقدت أبناءها وأموالها وخرب عمرانها. فقد منها نحو عشر سكانها في المعارك والجوع والأمراض أي نحو ثلاثمائة ألف رجل على أقل تعديل وخسرت من حيوانها وشجرها وذخائرها وبيوتها وجسورها ما يساوي الملايين من الدنانير، ويصعب تعويضه إلا في السنين الطويلة، هذا ما عدا من قتل من السوريين في الحرب مع الحلفاء فقد تطوع من الشاميين من غير المسلمين مع الحلفاء أكثر من عشرين ألفاً منهم خمسة عشر ألفاً كانوا في الجيش الأميركاني. قبض الاتحاديون على زمام السلطنة العثمانية من سنة 1326 1908 إلى سنة 1336 1918 ولم تتخللها إلا أشهر معدودة خرج الحكم فيها عن يدهم إلى الأحزاب الأخرى، وكان من عملهم الأول إعطاء الحرية لأمة لم تشترك في طلبها بل تولدت من فكرة بعض الأحرار والضباط، ثم قضوا على تلك السلطنة العظيمة، وجنوا جنوناً عظيماً بسياسة تتريك العناصر، حتى خرجوا عن طور العقل، ولم يحبوا أن يسمعوا بالعرب والعربية وحقوق العرب، فضلاً عن مراعاتهم وهم نصف سكان المملكة، وفي أرضهم أشرف معاهدها التي كان سلاطين العثمانيين يبسطون بواسطتها نفوذهم المعنوي على العالم الإسلامي. قامر أنور وطلعت وجمال بالمملكة العثمانية كأنها سلعة في السوق فخسروا رأس المال، وكانوا يعللون آمالهم أن يضيفوا إليه أضعافاً مضاعفة، وبشقوطهم دب الفشل في الدولة العثمانية نفسها، وكيف لا يدب وقد خرجت رازحة بديونها فلقدة أكثر من نصف مملكتها.

رأي مؤرخ تركي في انقراض الدولة العثمانية:

رأي مؤرخ تركي في انقراض الدولة العثمانية: نسب أحد مؤرخي الترك المعاصرين أسباب انقراض العثمانيين إلى عوامل كثيرة أهمها في نظره. 1ً انقطاع البطولة من المسلمين وقيام الأتراك سداً أمام النصرانية وبذلك جلبوا عليهم خصومة أوربا النصرانية جمعاء، فكانت مطارق النصارى تتساقط على رؤوس الأتراك قروناً. 2ً التغافل عن الوطنية التركية ولم تجعل التركية أساساً لسياسة الدولة، فصانوا أديان من وجودهم من القوميات وأبقوا على ألسنتهم، بل أيدوها وناصروها، فمنح محمد الفاتح مثلاً الروم امتيازات مذهبية، فحدث بذلك دولة في دولة، وارتكب خطأ فاحشاً، وعوضاً عن أن يجعلوا المملكة متجانسة صيروها كبرج بابل، وما قاسته التركية بل هذه الدولة في هذه السبيل مما لا يستطاع تسطيره، فإن السلجوقين حافظوا على جميع ما وجدوه في الأناضول من الأديان والقوميات الغريبة، وجرى العثمانيون على مثالهم فَرَعَوْا ما وجد بأعيانه، وما عرفوا ما هو التمثل، وكانت هذه العناصر كلما وجدت فرصة تستل من بناء الدولة حجراً وتذهب به، وبصنعهم صارت الحال إلى ما صارت إليه، وقد اشتهرت ممانعة شيخ الإسلام زنبللي علي أفندي لياوزخان السلطان سليم لما أراد أن يُسْلِم الروم، قاومه باسم الدين، فبقيت هذه العناصر بحالها لفقدان الدعوة إلى القومية التركية ومكان الشريعة. وهذه العناصر فتحت للأجانب سبيل التدخل في شؤون الدولة الداخلية فكانوا السبب في انقراضها، ولم يهدأ لهم بال في هذا الشأن، واجتهدوا في الوصول إليه، ومن أسباب هذه الذهنية المشؤومة الرأي الأخرق القائل بلزوم الإبقاء على صنف من الرعايا يؤدون الخراج للدولة. وهذا من أساليب العرب وأصولهم 3ً تدخل الدين في مصالح الحكومة، وعدم قيام بناء الدولة على ما يجب 4ً جهل الملوك واستبدادهم وسفاهتهم 5ً ربيتهم أبناء الصرب والروس والاولاح والأرمن والعرب والأرناؤد والكرج والجركس وغيرهم من العناصر، ثم تسليمهم أمور الدولة إليهم بدلاً من أن يأخذوا

بأيدي أبناء الترك، وهؤلاء وإن لم يكونوا أتراكاً كانوا يبذلون الجهد للقضاء على التركية وإسدال الحجاب عليها، وكان الملوك يعتصمون بالإسلام فأورثوا بذلك التعصب قوة 6ً كانت الكنيسة الروسية الأرثوذكسية عاملة على الانتقام لمملكة بيزنطية فبشعور روسيا بهاذ الانتقام، وحرصها على جعل الأتراك روساً في لغتهم ومناحيهم، كانت تحارب تركيا أبداً وهذا من جملة أسباب الانقراض. إلى أن قال: إن الحكومة العثمانية تذرعت بالمعنويات ولم تلتفت إلى الماديات، وهذا من أعظم خطيئات الترك العثمانيين، وكان عليهم أن يجمعوا الأتراك بأسرهم تحت علم واحد، وبدلاً من أن يجعل العثمانيون حرثهم نسقاً واحداً هبوا كالأسود الظمأى إلى أواسط إفريقية يلتمسون السراب عبثاً، ومن طرف آخر انصرفوا إلى أوربا كالطيور التي جعلت قلوبها كالسباع، فنطحوا برؤوسهم بلا موجب قلاع فينا ثم وقفوا ورؤوسهم دامية. ومن أعظم دواعي الأسف أنهم فتحوا سبيل الرواج للسانين العربي والفارسي، فداس هذان العنصران لسانهم الخاص أي التركية، وعبث بالأمة الفقر والجهل إلخ. ونحن نقول إن السبب الأعظم تغافل الدولة عن تقليد الغرب في الماديات والمعنويات فظهر على توالي القرون الفرق بين الخامل والعامل، وكان تركيب الدولة من عناصر مختلفة، ومعظمه كان في بدء أمرها من غير المسلمين، من جملة الدواعي في عدم تركيبها مزجياً، خصوصاً ومعظم تلك العناصر أرقى من الترك الأصليين عنصراً وأعظم تاريخاً، ولا عيش للمتوسط مع الذكي، وإذا أخضعه لسلطانه بالقوة فإلى حين.

العهد الحديث

العهد الحديث من سنة 1336 1343 تجزئة الشام بين فرنسا وإنكلترا: كانت نتيجة الحرب تجزئة الشام بين فرنسا وبريطانيا، فاستقلت هذه بفلسطين وما إليها، واستأثرت فرنسا بالساحل من صور إلى ما وراء الإسكندرونة، وبقيت الداخلية أي الكرك والصلت ومعان وعمان وحوران ودمشق وبعلبك وحمص وحماة وحلب مستقلة بإدارة الأمير فيصل، والموحون إليه البريطانيون. أما القيادة العامة فكانت بأيدي البريطانيين ودهيت الشام بلاد العدو المحتلة عملاً باتفاق سايكس بيكو الذي عقد يوم 9 أيار 1916 قاضياً بتقسيم الأقاليم العثمانية غير التركية إلى مناطق نفوذ ومناطق سيادة، وإنشاء دولة أو دول عربية متحدة في الأصقاع العربية، وبموجبه تتناول الدول العربية داخلية سورية وقسماً من العراق. أما دولة سورية العربية فجعل فيها لفرنسا وحدها حق تقديم المستشارين والموظفين الأجانب، وذلك إجابة لرغبة الدولة السورية نفسها، أو دول الاتحاد العربي، وقد خُوّلت بريطانيا العظمى هذا الحق نفسه في دولة العراق، ويقضي هذا الاتفاق بان تنشئ فرنسا في ساحل سورية وفي قلقية، وبريطانيا في جنوب العراق وفي جملتها بغداد، وفي مواني حيفا وعكا، نظام الحكم الذي تريدانه، ونوع الإدارة الذي تستحسنانه، وأن تنشأ في فلسطين حكومة دولية. وسار الحال على ذلك مدة إلى أن تم الاتفاق 15 أيلول 1919 بين

الحكومتين الفرنسية والإنكليزية على ان تخرج بريطانيا عساكرها من الشام، بشرط أن لا تدخل العساكر الفرنسية إلى المدن الأربع منها أي دمشق وحلب وحمص وحماة، لأن بريطانيا قطعت للعرب عهداً أن تؤلف لهم حكومة عربية، وهكذا كان فغن الجيش البريطاني تراجع إلى شرقي الأردن وفلسطين. وعينت بريطانيا على فلسطين السير هربرت صموئيل وهو إسرائيلي إنكليزي مفوضاً سامياً، وعينت فرنسا الجنرال غورو مفوضاً سامياً على سورية ولبنان، ويعمل هذا القائد مستقلاً باسم دولته، وكان من قبله من الفرنسيين يعملون حتى في لبنان بقيادة اللورد اللنبي القائد البريطاني العام. وجاء في هذا الاتفاق أن بريطانيا وفرنسا تضمنان لسكان ما بين جبال طوروس والخليج العجمي، استقلالاً واسعاً يأمنون معه على حريتهم، ويتمكنون من تجديد حضارتهم، وكانت كل من بريطانيا وفرنسا نشرت بلاغاً قالتا فيه: إن السبب الذي من أجله حاربت فرنسا وانكلترا في الشرق تلك الحرب التي هاجتها مطامع الألمان، إنما هو لتحرير الشعوب التي رزحت قروناً طوالاً تحت مظالم الترك - تحريراً تاماً نهائياً وإقامة حكومات وإدارات وطنية تستمد سلطتها من اختيار الأهالي الوطنيين لها اختياراً حرًّا. ولقد أجمعت فرنسا وبريطانيا على أن تؤكد ذلك بأن تعاونا على إقامة هذه الحكومات والإدارات الوطنية في الشام والعراق - وهما المنطقتان اللتان أتم الحلفاء تحريرهما وفي الأراضي التي ما زالوا يجاهدون في تحريرها، وأن تساعدا هذه الهيئات وتعترفا بها عندما تؤسس فعلاً، وليس من غرض فرنسا وبريطانيا أن تنزلا أهالي هذه المناطق على الحكم الذي تريدانه، ولكن همهما الوحيد أن يتحقق بمعونتهما ومساعدتهما المفيدة عمل هذه الحكومات والإدارات التي يختارها الأهلون من أنفسهم، وأن تضمنا لهم عدلاً منزهاً يساوي بين الجميع، وتسهلا عليهم ترقية الأمور الاقتصادية، وذلك بإحياء مواهب الأهالي الوطنيين وتشجيعهم على نشر العلم، ووضع حد للخلاف القديم الذي قضت به السياسة التركية، تبك هي الأغراض التي ترمي إليها الحكومتان المتحالفتان في هذه الأقطار المحررة اه.

فتنة الأرمن واعتداؤهم على العرب:

فتنة الأرمن واعتداؤهم على العرب: كانت الدولة العثمانية في السنة الأولى للحرب أجلت من الأناضول إلى الشام عشرات الألوف من الأرمن، وأعملت فيهم السيف وقتلت مئات الألوف صبراً بطرق مختلفة، لأن بعض أبناء جنسهم قطعوا خط الرجعة على الجيش العثماني أثناء حربه في جبهة روسيا، فصدر أمر الحكومة العثمانية أن يقتل الأرمن قتلاً عاماً، ويقال: إنه هلك فيه نحو مليون نسمة منهم ومن لم تستطع الدولة قتلهم بعثت بهم إلى ديار العرب، رجاء أن تجد سبيلاً آخر لقتلهم، ويقال أن الألوف التي جلتها إلى الشام كانت توعز من طرف خفي بقتلها، ولكن العرب أظهروا من الشمم والكرم ونصرة الضعيف ما فطرت عليه أخلاقهم فلم يمسّ الأرمن بأذى حتى في أقصى الشرق والجنوب من الشام حيث تكثر الجهالة والهمجية. ولما دخلت جيوش الحلفاء الشام كان في جملة كتائب فرنسا متطوعة من الأرمن، فوقع في نفوس بعضهم أن ينتقموا من العرب عما جنته أيدي الأتراك على أبناء مذهبهم فقابلوا إحسان العرب إليهم بالإساءة، وبدءوا ببيروت فأطلقوا بنادقهم على بعض البيروتيين علناً وقتلوا بعض الوطنيين، ثم أخذوا حيث ينزلون، يبدون من أمارات الغضب ما يتناول الأبرياء مباشرة، وقد تمردت هذه الكتائب حتى على الحكومة التي قبلتها متطوعة في صفوفها مثل الكتيبة التي تمردت في الإسكندرونة 1919 حتى اضطرت القيادة الفرنسية أن تنقلها إلى أذنة، ولم تقف معاملة الأرمن للعرب بالسوء عند هذا الحد بل تكونت منها أسباب لفتنة أهلية في حلب انتهت بقتل وجرح وأحكام بالقتل وإهانة الأعيان. وقد سألنا صديقنا السيد أمين غريّب وكان في الشهباء قريباً من هذه الوقعة فتفضل وكتب إلينا ما نثبته بنصه، وقوله ثقة في هذا الباب قال: كان الجيش الإنكليزي محتلاً مدينة حلب وقد وقفت طلائعه في مسلمية وما حولها بسبب الهدنة بين الحلفاء من جهة والدول الوسطى من جهة ثانية. وكانت تركيا بحسب الشروط قد أخذت تسرح جيشها، فيعود الجنود العرب إلى الشام بطريق أذنة ويمرون بالجنود الأرمن الذين عسكروا في أذنة ونواحيها، وكان هؤلاء الجنود قادمين مع الحلفاء وأُرجح أن قيادة أمورهم كانت في

أيدي الفرنسيين فكان كل عربي يمر بالأرمن لابساً ثياب الجيش التركي المنحل يهيج منظره العسكري عاطفة النقمة في قلوب الأرمن إذ يتذكرون فظائع الأتراك بهم وبأهلهم. ولا يعذرونه بأنه عربي، جاهلين الفرق بين هذا وبين التركي فيعاملونه بخشونة. وكنا في حلب نستقبل كل يوم عشرات ومئات من أولئك العرب مسرّحين وهم مهشمو الوجوه مجروحون مضروبون بأيدي الأرمن فكان هؤلاء الجنود ينتشرون في حلب وينشرون بين أهلها أخبار تعدي الأرمن عليهم انتقاماً منهم لما فعل الأتراك بهم، وكان كثير من هؤلاء الجند من الحلبيين المسلمين، هذه أول مقدمة لحادثة حلب. السبب الثاني كان الإنكليز عند دخولهم حلب قد أخذوا الأرمن اللاجئين إليها ووضعوهم في أماكن مخصوصة عُنوا فيها بإعاشتهم وترتيب أمورهم وتحسين حالتهم، فرأى الأرمن من الإنكليز حماة يدفعون عنهم ذلك الشر المستطير والضيم العظيم، فصاروا كمن انتقل فجأة من الظلمة الحالكة إلى نور كهرباء ساطعة، وتحولوا حالاً إلى جواسيس متطوعين للإنكليز ينقلون إليهم الأخبار المتنوعة، وجرأهم هذا الانقلاب في حالتهم من تعاسة وشقاء إلى حرية وإكرام فنشأت فيهم غطرسة غير معهودة لدى الحلبيين فقابلها هؤلاء بالاشمئزاز الطبيعي فازدادت نارها اضطراماً، وصارت الخشونة في الحديث على رأس كل لسان أرمني تقريباً، فتكاثرت الحوادث البسيطة في جميع أنحاء الشهباء. السبب الثالث الجنيه المصري، فإن الإنكليز طرحوه في حلب عند قدومهم وقد تناقصت في ذلك الحين قيمته الحقيقية عن قيمته الرسمية، وكان الأرمن يتناولون الجنيه من دوائر الإعاشة الإنكليزية ويذهبون لصرفه عند الفوّالين وباعة الحمّص مثلاً، فكان الأرمني يأكل صحن فول بغرشين ثم يبرز للفوال ورقة بليرة ويطلب منه حسم الغرشين وإعطاءه الباقي من المال الحجر، وكانت قيمة الورقة ستين غرشاً، فكان المسكين يضطر إما إلى خسارة كل موجودات محله وهي لا تزيد عن أربعين غرشاً وإما إلى مواجهة شرطي كان غالباً يعطف على خصمه الأرمني تنفيذاً للقانون، وتعددت هذه الحوادث وتنوعت حتى امتلأت منها القلوب وغلت من حرارتها الخواطر.

أعمال الحكومة العربية وحكومة الصهيونيين:

جاء يوم الجمعة في 28 شباط 1919 وهو يوم الشوق التجارية هناك، فكان مسلم يبيع حماراً وقد ساومه عليه أرمني فاختلفا وتصايحا وتشاتما ثم تلاكما فكانت هذه الشرارة التي شعلت النار في الهشيم. وفي سوق الجمعة وما حولها من الأماكن التي يكثر الأرمن فيها حصل التعدي عليهم وفي أقل من ساعة بلغ عدد القتلى 52 والجرحى مئة، قتلوا كلهم وجرحوا بالمدى والخناجر وسواطير اللحم لا بالرصاص. وقد اجتهد الأرمن يومئذ اجتهاداً عظيماً كي يشركوا الحكومة العربية في الجناية عليهم بسبب وجود بعض الجنود والشرطة الأهلية في أماكن التعدي لأنهم لم يصادفوا منهم عوناً. أما عدد قتلى المسلمين الحلبيين فلم يرد ذكره أمامي لكنه بحسب ما سمعت لا يتجاوز العشرة. وقد أُقيمت 92 دعوى على المتهمين بهذه الحوادث، وآخر ما بلغني أن قد حكم على نحو ثلاثين بالقتل فقتلوا في أوقات مختلفة وصدر الحكم على كثيرين بالسجن. أما الثلاثون عيناً من أعيان حلب فقد قبض عليهم الإنكليز يومئذ بتهمة تحريض الأهالي على ذبح الأرمن، لكن هذه التهمة لم تثبت أمام التمحيص الذي أجرته لجنة من المحققين كنت عضواً فيها. ولهذا لم تقع عليهم محاكمة بتاتاً، لكنهم جُعلوا قيد التوقيف مدة ريثما سكنت الحال، وأذكر أن القائد الإنكليزي لما أراد أن يسرحهم ألقى عليهم كلاماً ملخصه: إنكم زعماء والزعيم لا يُعذَر على جهله ما يدور بين جماعته. إننا لم نجد عليكم ما يوجب عقاباً قانونياً. لكننا لا نبرئكم من التبعة في وجود أسلحة مع بعض أُناس منتمين إلى زعامتكم، فعليكم كلما علمتم بعد الآن أن تعلمونا بمن يحمل من الأهالي سلاحاً على شخصه أو في بيته، وإلا فنحن نتوخى لكم التحقير حتى لا يبقى في أذهان الناس أثر لاعتقاد الزعامة فيكم وهلم جرًّا. أعمال الحكومة العربية وحكومة الصهيونيين: لما جلت الجيوش البريطانية عن المدن الأربع دمشق وحلب وحماة وحمص أخذت الحكومة العربية بإمارة الأمير فيصل بن الحسين تعدّ لها جيشاً من الأهلين، وكانت بريطانيا تؤدي كل شهر لحكومة المدن الأربع مائة وخمسين ألف جنيه

مصري، لتستعين بها على تنظيم شؤونها، وكان يصرف من هذا المبلغ جزء مهم على بث الدعوة وتنظيم العصابات، فأخذت بريطانيا تفكر في قطعها، ولكن الحكومة الوطنية زادت في معدل الجباية والرسوم حتى تسد العجز يوم انقطاع الإعانة الكبرى، ودخل في السياسة الوطنية شبان متحمسون، وأكثرهم من غير أبناء هذه المنطقة الشرقية منطقة المدن الأربع، وأصبحت لهم منزلة عند الأمير يبرمون وينقضون، فأبعدوا عنه كثيراً من رجال الحل والعقد، وأصبح الأمير يعمل هو والشبان، والمستند في ذلك على طائفة من أرباب الفتوة والعوام، وكثرت الأحزاب السياسية في دمشق حتى زادت على ثمانية، وكلها بالطبع تريد استقلال الشام، ومنها ما يدعو إلى استقلال جميع العرب، وكثرت المنازع واشتد التنازع بين أبناء الوطن، وكلهم يريد له الخير ولا يهتدي إلى طريق الصواب. لأن عمال بريطانيا وفرنسا أخذوا يعملون في الشام، وكل منهم يريد الاحتفاظ بحقوق دولته وثبات الأرجحية لها وتوطيد أقدامها. وقد تأفف الناس من السياسة التي جرى عليها الأمير فيصل في الاعتماد على الغرباء عن منطقة المدن الأربع ونزع ثقته من الأعيان والمفكرين من دون سبب، فأخذوا ينصحون له سراً بالعدول عن هذه الخطة، وأوفد أعيان الدمشقيين ومفكروهم وفداً يبين له ما يجب السير عليه حرصاً على المصلحة فلم يلتفت إلى كلامهم. وقال في بعض مجالسه: إن أولئك الغرباء الذين يعتمد عليهم قد خدموه أكثر من الدمشقيين وأن هؤلاء لا مأرب لهم إلا المال. على لأن الأيام أثبتت عكس ما قال ولكن السياسة تسود الأبيض وتبيض الأسود. وكانت المنطقة الساحلية أي التي دعيت باسم المنطقة الغربية، قد أقامت لها حاكماً فرنسياً على لبنان لأول عقد الهدنة، وأخذت فرنسا تحتل السواحل وما إليها إلى قلقية، ولم تمض على ذلك مدة حتى بدأت العصابات التركية تسيء إلى الجيش الفرنسي في قلقية وشمالي الشام فقتل من الفريقين مئات. وكانت فلسطين منذ رحل الترك عنها في قبضة الجيش البريطاني فلما مضت السنة الأولى للهدنة أصبحت بريطانيا تفي للإسرائيليين الصهيونيين بما وعدهم به وزيرها بلفور مدة الحرب، إذا عاونوا بريطانيا بأموالهم بأن تجعل لهم من فلسطين وطناً قومياً. فجعلت اللغة العبرية لغة رسمية في فلسطين بمثابة العربية والإنكليزية

وأخذت الوظائف تنتقل من أيدي المسلمين والمسيحيين إلى أيدي الإسرائيليين، وخص الإسرائيليون بالرعاية على ما لم يكن لهم به عهد، فشق ذلك على أهل الوطن، واجتمع المسلمون والنصارى وألفوا جمعية تطالب بريطانيا بالعدول عن هذا الوعد البلفوري، وكثرت الوفود منهم إلى أوربا وإلى مصر مركز القيادة العامة للجيوش البريطانية، فشعرت بريطانيا بصعوبات حقيقية في إدارة فلسطين آب 1921 وحدثت فتنة في يافا والقدس وغيرها من المدن الفلسطينية وتوقفت الأعمال، والقوم لا عمل لهم إلا إرادة بريطانيا على الرجوع عن وعدها لليهود، وقد ملأ أبناء فلسطين من غير اليهود وهم ثمانية أضعافهم العلم صياحاً وعويلاً ولم ينفس لهم كرب، ولم يدركوا لهم غاية. وهكذا كان من شبح الصهيونيين ما أخاف المسلمين والنصارى فاتحدوا اتحاداً صادقاً وجامعتهم في اتحادهم، وحدة المصلحة على طراز كان فيه شيء من الغرابة. ولما تركت الحكومة العربية في دمشق وشأنها على أثر انسحاب الجيوش البريطانية إلى الخط الذي عينته معاهدة سايكس بيكو في فلسطين، رأى الأمير فيصل أن يذهب 1 أيلول إلى لندرا وباريز ليفهم ساستهما حقيقة أماني الأمة السورية ويعرف موقفه من معاهدة بريطانيا وفرنسا المنعقدة في 1 أيلول 1919 وخلاصتها تسليم قلقية والمنطقة الغربية من أرض العدو المحتلة أي ساحل سورية إلى الإدارة الفرنسية، فسحبت بموجبها الجيوش البريطانية إلى ما وراء الخط المفروض الذي عين الحدود بين المنطقتين المنوه عنه بمعاهدة سايكس بيكو، أما المنطقة الشرقية وأرض العدو المحتلة أي المنطقة العربية فتبقى الحكومة بدمشق قابضة على زمامها، وتقدم لها الدولة الفرنسية المساعدة الضرورية التي نصت عليها معاهدة سايكس بيكو. ما استطاع رجال بريطانيا أن ينيلوا الأمير فيصلاً رغائبه، وأحالوه على فرنسا لأن الانتداب في الشام اصبح لها دون سواها، وفي فلسطين تم الانتداب لإنكلترا وكذلك العراق. فبذل الأمير جهده حتى يفهم رجال السياسة في بريطانيا وفرنسا ما هي المسألة السورية، وبعد الجهد العظيم لم ير إلا الاتفاق مع رئيس الوزارة الفرنسية المسيو كليمانسو وتعهد له أن يكون مع فرنسا ويرضى بانتدابها على الشام، واعترفت فرنسا لأهل الشام على اختلاف مذاهبهم بالاستقلال

المؤتمر السوري ومبايعته فيصلا ملكا على الشام:

وحكم أنفسهم بأنفسهم، وذلك في اللائحة التي تم توقيعها بين فرنسا والأمير فيصل يوم 16 كانون الأول 1919 واعترف الأمير بأن السوريين لا يستطيعون في الوقت الحاضر، لاختلال النظام الاجتماعي الناشئ عن الاضطهاد التركي والخسائر المحدثة أثناء الحرب، أن يحققوا وحدتهم، وينظموا إدارة الأمة دون مشورة ومعاونة أمة مشاركة، وطلب باسم الشعب السوري هذه المهمة من فرنسا وقد جاء في المادة الخامسة من هذه اللائحة أن الأمير فيصلاً يتعهد بأن يسهل بالمشاركة مع فرنسا تنظيم دروز حوران بشكل استقلال إداري داخل الدولة تكون مجهزة بأوسع استقلال يلتئم مع وحدة الدولة، وجاء في المادة السابعة أنه يعترف بالعربية لغة رسمية في الإدارة والتدريس وتعلم اللغة الفرنسية كما تعلم لغة مساعدة وبصورة إجبارية ومختارة. وتعهد الأمير بأن يقضي على العصابات التي كانت تعتدي على المنطقة الغربية التي يخفق عليها العلم الفرنسي، وعلق اعترافه بالانتداب الفرنسي جهاراً على إدماج لبنان في الشام، ثم عاد إلى الشام 3 شعبان 1337 - أيار 1919 فاستقبلته السلطتان الفرنسية والبريطانية استقبالاً رائعاً، وكان استقباله في دمشق فخماً للغاية فخطب في بيروت خطبة رضي عنها الفرنسيون، ولما جاء دمشق خطب خطبة تخالفها إجمالاً وترضي المنادين بالاستقلال التام الناجز، وبدأ التقلقل في سياسته والتناقض في أقواله، لأنه كان بين عاملين العامل الفرنسي والعامل الإنكليزي وهذا أشد وأقوى وإن لم يكن ظاهراً للعيان، ومن أشد العوامل في هذا حالة والده ملك الحجاز، ولأن إنكلترا إذا غضبت تنقطع عنه المعاونة المالية الشهرية، وبدونها يستحيل القيام بشيء من أعمال المقاومة والدعاية. - المؤتمر السوري ومبايعته فيصلاً ملكاً على الشام: كانت الحكومة العربية بدمشق دعت مؤتمراً تألف من أكثر أبناء الشام ومنها فلسطين، لوضع القانون الأساسي وتعيين شكل الحكومة، فقرر إعلان ملكية الأمير فيصل 16 جمادى الثانية 1338 - 7 آذار 1919 فبويع له بالملك على الأصول باسم فيصل الأول، وأعلن شقيقه الأمير عبد الله ملكاً

العصابات بين الساحل والداخل:

على العراق، بايع أهل الحل والعقد الملك الجديد فرحين مغتبطين ولم يحضر قنصل بريطانيا حفلة التنصيب وحضرها معتمد فرنسا فرحاً مسروراً، وكان محباً للعرب مجاهراً باستقلالهم، وتألفت وزارة قالت أولاً إنها لا تقبل بالانتداب الفرنسي الذي كان قرره على الشام مؤتمر سان ريمو في 16 نيسان 1920 فدهش المفكرون لهذا التبدل في السياسة، وذهبت في ذلك الظنون كل مذهب، فمن قائل إن الأمير نودي به ملكاً بإيعاز إنكلترا لأنها ذكرت خدماته وخدمات والده واخوته لها في الحرب، فأرادت أن تكافئهم وتقوم بما وعدتهم به. ومن ذاهب إلى فرنسا رأت ذلك من مصلحتها، لأنها كانت عرضت على الأمير أن يقبل بالانتداب الفرنسي على الشام ما عدا فلسطين وهي تدخل له لبنان في سلك ملكه فلم يقبل. ثم تبين بعد أيام أن المسألة ليست منبعثة إلا عن آراء الأحزاب لأن من أساطينها من كذن يذهب منذ حين إلى أن أوربا إذا رأت الشاميين ينادون بالأمير فيصل ملكاً عليهم، لا تنازعهم في ذلك لأنهم أحرار في بلادهم. ويكون ساسة أوربا أمام أمر واقع لا يجرءون أن ينقضوا ما أُبرم!! وفي 18 آذار أي بعد البيعة بعشرة أيام أبلغت فرنسا وإنكلترا الأمير فيصلاً بأنهما لا تعترفان بصحة قرار المؤتمر السوري الذي بايعه ملكاً، ودعي إلى الحضور إلى أوربا لعرض قضيته أمام مجلس عال، فاعتذر بأن أعمال مملكته الجديدة لا تسمح له بمغادرة الشام، وأرسل من قبله رسولاً إلى لندرا وطلب إلى فرنسا وإنكلترا معاونتهما ليعترفا له بالاستقلال. وكان الأمير يرى من معتمد فرنسا لدى حكومته عطفاً ومعاونة، وكذلك من معتمد إيطاليا التي أرسلت إلى دمشق قنصلاً برتبة سفير صغير ليحسن تمثيل دولته أمام الدولة السورية الفتية. أما ملكية الملك فيصل فإن إنكلترا كانت على ما قيل تميل إلى الاعتراف بها ولكن فرنسا عارضتها في ذلك. العصابات بين الساحل والداخل: نشطت العصابات في المنطقة الشرقية فأرسلت الدولة المحتلة في المنطقة الغربية كانون الثاني سنة 1920 كتيبتين من الجند بدلالة بعض نصارى جديدة مرجعيون ودير ميماس والقليعة فضربوا قصر محمود الفاعور أمير عرب

الفضل في الخصاص من أرض الحولة فلما رأى عرب الفضل أنهم المقصودون بالذات حملوا على الجند حملة منكرة كانت فيها لهم الغلبة، وقتل كثير من الجند الفرنسي وقليل من العرب وعندئذ هجم نحو مائة وخمسين رجلاً من العرب وأرباب القرى المجاورة على جديدة مرجعيون فأحرقوا نحو أربعين داراً ونهبوا بعضها وقتلوا نحو عشرين رجلاً من أهلها. وادعى العرب أنه قتل من الجند نحو أربعمائة ولم يقتل منهم سوى سبعة أشخاص، وادعى الفرنسيون أن المهاجمين من العرب كانوا نحو أربعة آلاف معهم 25 مدفعاً رشاشاً ومدفعان من مدافع الصحراء، وادعى العرب أنهم ما كانوا أكثر من ثلاثمائة ولا مدافع لهم ولا رشاشات ولم يكونوا ستة إلى واحد كما ادعى الفرنسيس. وبعد خمسة أشهر 15 حزيران تكررت هذه الحوادث في عين ابل والقليعة والجديدة نفسها، وضربت الحكومة المنتدبة على أهل جبل عامل مائتي ألف ليرة ذهباً جزاء عن العصابات في جبلهم. وذكر الريحاني أن الجباة الماهرين جمعوا من هذا الجبل أربعمائة وخمسة وثمانين ألف ليرة دفعوا منها تعويضاً لأهل الجديدة خمسين ألف ليرة. ووقعت وقائع كثيرة في بلاد بشارة وإنطاكية وتل كلخ، كانت العصابات العامل الأقوى فيها، وحاولت المنطقة الغربية إنشاء عصابات مثل عصابات المنطقة الشرقية لتدفع الشر بالشر، وأرصدت في بعض الروايات ثلاثمائة ألف ليرة ذهباً لهذه الغاية ولكن عصابات المنطقة الشرقية كان عملها أعظم وأفظع واكتفت بها الحكومة المحتلة ولبثت ترتقب نتائج عملها وربما جسمت أمرها وهولت فيه أكثر من الحقيقة. ومما حدق وقائع النصيرية على الإسماعيلية في جبل الكلبية في قرى عقر زيتي وخربة الفرس وجمعه شبه وغيرها من قرى الإسماعيلية، وفي ناحيتي الخوابي والقدموس، وسكانهما إسماعيلية، فنهبت القدموس وخربت بعض بيوتها، وكانت المعركة دامية بين الطائفتين قدر بعضهم قتلاها بمائتين وزاد آخرون إلى أكثر من ذلك، فزحفت كتيبة من الجيش الفرنسي على قرية الدويلية فأحرقتها، وأحرقت قريتي كاف الجوع والسلورية ثم سارت إلى

المريقب مقر صالح العلي زعيم الثورة ومن المعتقدين عند النصيرية، وكان جمع القلوب حوله بدهائه، وعشائره تبلغ خمسة آلاف، ومعهم عشائر المتاورة، فتألفت كتلة من اثني عشر ألف مقاتل من أهالي جبال النصيرية وتعاهدت على قتال الجيش الفرنسي، فأحرق الجيش بيوت زعيم الثورة فهاجم هذا الحملة ودامت المعركة بينهما سبع ساعات، ثم تراجعت الحملة إلى القدموس ومنها إلى بانياس وطرطوس. ومن الأحداث خلال هذه السنة ما وقع من اختلاف شباط 1919 بين مشايخ الإسماعيلية وجماعتهم من الفلاحين انقلب إلى فتنة، اضطر معها الأمراء أن يستنجدوا بمشايخ النصيرية ليعينوهم على أبناء مذهبهم فعاونوهم حتى انتصروا على جماعتهم، وأراد الفلاحون من الإسماعيلية بعد كسرتهم أن ينتقموا لأنفسهم فهاجموا قرى النصيرية القريبة من أرضهم، وارتكبوا أنواع القسوة وحرقوا الدور ونبشوا قبور الأولياء من شيعتهم فاضطرت السلطة كما قال الكولونيل نيجر إلى التدخل واشتعلت نيران الفتنة ولم تخمد إلا في تموز 1921. قال: وكادت هذه الفتنة تعم الجبل كله، لو لم يعلن استقلال جبال النصيرية، وذكر في تقرير له أن المفاوضات كثرت بين جبال النصيرية وأنقرة أي الحكومة التركية، وانقطعت بعد عقد الصلح بين فرنسا وتركيا، وأن البنادق التي جمعتها السلطة من الجبل بلغت خمسة عشر ألفاً منها ما وزر حديث جداً ومنها إنكليزي، وكان الشيخ صالح زعيم العلويين يراسل أنقرة على الدوام. وفي تاريخ العلويين أن الثوار الأتراك اعتدوا على القرى الساحلية المتحايدة وأحرقوا ستين قرية وقتلوا بعض العلويين ودامت الفتنة ستة أشهر قتل فيها من أهل الجسر وصهيون أكثر مما قتل منهم في الحرب العمومية الكبرى. ذكر الجنرال غورو في إحدى خطبه أنه اشترك مع عصابات مرجعيون زعيم وخمسة ملازمين 317 جندياً عربياً، وأعانتهم الحكومة العربية بأربع رشاشات ثقيلة وثلاث خفيفة، وخمسين صندوق ذخيرة، وأن مذابح عين ابل وفتنة العامليين كانت بتحريض من المنطقة الشرقية أي حكومة فيصل في دمشق، والغالب أن عمال الفرنسيين كانوا يبالغون في أخبار العصابات ويؤكد

الاستفتاء في الدولة المنتدبة:

الخبيرون أن العسكر العربي ما اشترك مع العصابات أصلاً ولا في وقعة من الوقائع. على أن بريطانيا وهي الصديقة المحببة إلى حكومة فيصل لم تخل من اعتداء العصابات عليها، اعتدت على أطراف سمخ في المنطقة البريطانية، كما اعتدت على قطار في الشمال يحمل عسكرا بريطانياً. ومما جرى خلال تلك الفترة اتفاق بريطانيا وفرنسا اتفاقاً عسكرياً على أن تحتل الثانية بعلبك ورياق وحاصبيا وراشيا فزحفت الجنود الفرنسية لاحتلال هذه الأقضية وكانت من عمل الحكومة العربية الفيصلية، وبعد مناوشة في وادي جريبان دامت أربع ساعات بين الجيش العربي والجيش الفرنسي دخل هذا بعلبك، ثم سعى فيصل فأخرجهم من تلك المقاطعة ثانية. ترامت أخبار العصابات إلى الغرب وتجسمت بالطبع على العادة في نقل الأخبار، وشكا العقلاء من أهل هذه الديار وخافوا عاقبة هذه السياسة، وأسفوا لتقاتل أبناء الوطن ولتجدد نعرة الدين، ولم يكن قناصل الدول غافلين عما يتم، وكانوا ينقلون أخبار الوقائع في الجملة على وجه الصحة، وأخذت العلائق تتوتر بين الأمير فيصل وحكومة الانتداب في الساحل، وكانت فاتحة أعمال الجنرال غورو في الشام أن طلب إلى فيصل أن يعطيه البقاع لينقل على الخط الحديدي ما يحتاج إليه الجيش الفرنسي في جهات عينتاب فأبى الأمير إجابة الطلب. الاستفتاء في الدولة المنتدبة: زينت بريطانيا للحلفاء إرسال وفد يستفتي أهل سورية ولبنان، في الحكومة التي يختارونها للانتداب عليهما فجاء الشام حزيران 1919 وفد أميركي منتدب من الدول ليدرس حالة الشام ويعرف ما يرضيها من الحكومات، فبدأ عمله من الجنوب إلى الشمال، وجاء دمشق فاجتمع إلى العلماء والرؤساء والقادة، فكانت الكلمة في المدن الأربع مجمعة على طلب الاستقلال التام ورفض المعاونة

الفرنسية وطلب المساعدة الأميركية أو البريطانية فقط، وكذلك مدن الداخلية أما في الساحل فالموارنة والطوائف الباباوية طلبوا فرنسا. ويقول الريحاني: إن الأقلية اللبنانية فقط طلبت الانتداب الفرنسي ولم تشمل هذه الأقلية الطوائف المسيحية كلها. قال: ومما يدعو إلى الأسف أن قد كانت اللجنة الأميركية عاملاً آخر من عوامل الشقاق لأنها في طريقة الاستفتاء عززت من حيث لا تدري مبدأ العصبيات الدينية والطائفية. وقد قالت هذه اللجنة الأميركية إنها زارت 34 مقاطعة من مناطق العرب والإنكليز والفرنسيس، فلسطين وساحل سورية وداخلها فيها 2365000 من المسلمين و 585 و500 من النصارى 140000 من الدروز 110000 من اليهود 450000 من الطوائف الأخرى. وهو إحصاء تقريبي وأنه بلغ مجموع العرائض التي تلقتها اللجنة 91079 عريضة وفي كل واحدة خمسون توقيعاً على الأقل، وأن مطالب الأهالي تنحصر بطلب إنشاء مملكة ملكية ديمقراطية دستورية لا مركزية. ولما جاءت اللجنة الأميركية إلى دمشق، أصدر المؤتمر السوري قراراً فحواه طلب الاستقلال التام لسورية، والاحتجاج على المادة الثانية والعشرين من قانون جمعية الأمم، ورفض المساعدة الفرنسية وطلب مساعدة الولايات المتحدة لمدة عشرين سنة، وإن لم تقبل هذه فبريطانيا العظمى بنفس هذه الشروط، وأن العزم معقود على تأسيس حكومة ملكية ديمقراطية يرأسها الأمير فيصل، وتقوم على أسس القومية وتحفظ حقوق الأقلية. وكانت الأكثرية المطلقة في الحكومة العربية بجانب أميركا في مسألة الانتداب، وفي الساحل كانت لفرنسا. ولما كانت أميركا لا تقبل بأن تنتدب على بلد لا شأن لها فيه فالانتداب يكون لبريطانيا، وهذا ما كان يريده فيصل لتكون الأصقاع العربية كلها ذات انتداب واحد، وتكون روحها واحداً وهي الروح البريطاني وخالفه فريق صغير فقال بأن في تعدد الانتدابات فرجاً للشام يقرب أيام استمتاعها بحريتها، ناجية من إشراف الدولة المنتدبة، وقد كانت ثقة الأمير بالإنكليز السكسونيين في القضية السورية عظيمة جداً. كتب إلى صاحب هذه الخطط من باريز يوم 4 آذار 1919 كتاباً خاصاً جاء فيه: وإذا استثنينا بعض من يريد الاستعمار

أفكار فيصل والعبث بالسياسة:

فجميع أصوات العالم معنا فلا يشق عليكم ما يبلغكم من بعض الجهات فهي قراقع وضرب دفوف لا خوف منه هذا بشرط أن نكون موحدي الفكر والعمل. الأمة الأميركية والبريطانية معنا وسنصل إلى ما نحن نتمناه. - أفكار فيصل والعبث بالسياسة: تجلت أفكار الأمير فيصل بمجيء اللجنة الأميركية كل التجلي، وكانت الدعوة أولاً منذ يوم رفع العلم العربي على الأصقاع الداخلية أن الاستقلال تام للولايات العربية تتناول الوحدة الشام والعراق وسائر الأقطار العربية في الجزيرة، وما فتئت الدائرة تضيق حتى أخذوا يدعون إلى الشام بحدوده الطبيعية، ثم سكتوا عن فلسطين، لأن العلم البريطاني كان يخفق عليها منذ خروج الأتراك منها، ثم اكتفوا بالدعوة لاستقلال سورية، ثم تخلوا عن لبنان واكتفوا بالدعوة إلى استقلال المدن الأربع وهذه أيضاً لم تسلم لهم على ما يراد لها. وذكر الريحاني أنه كان لفيصل رأي في تقسيم العمالات إلى مقاطعات وفقاً لحالتها الطبيعية والعقلية والتهذيبية صرّح به خصوصاً للوفد اللبناني الذي جاء دمشق يهنئه بعودته من باريز، وليؤكد له أن فريقا كبيراً من اللبنانيين يتمنون الانضمام إلى سورية. وقد أخذت الحكومة العربية بعد أن نودي بالملك فيصل ملكاً على الشام تزيد في الضرائب وشرعت بالتجنيد كانون الأول 1919 وجُعل البدل النقدي عن الخدمة العسكرية ثلاثين ليرة عثمانية لستة أشهر حتى زادت وارداتها من 1800000 جنيه إلى 2300000 وذلك لتستعين بهذا المال على مقاومة فرنسا، وقد دفع الناس الأموال تخلصاً من الخدمة العسكرية، وكان بقي معهم نقد كثير من الحرب العامة، ومنه ما صرفته الحكومتان البريطانية والعربية عقيب الاحتلال، وكيف يقاوم جيش جديد جيش حكومة كبرى وهو قليل العدد والعُدد، فيه ظواهر ومظاهر لا حقائق يعول يوم البأس عليها، باتت المسألة أشبه بالهزل منها بالجد. لما سألت الوزارة أمراء الجيش بحضور الملك فيصل عما عند الجيش العربي من الذخائر والعتاد وفي كم يوم تنفذ إذا اشتبكت الحرب، أجابوا إنها تنفذ

حملة فرنسا على المدن الأربع:

في ساعتين وقد لا تنفذ في يومين. فسألتهم الوزارة وعلى ماذا تستندون في الحرب بعد نفاذ الذخائر؟ فأجاب بعضهم أنهم يأملون في أول ملحمة أن يدحروا الجيش الفرنسي الزاحف ويستولوا على ذخائره وعتاده، وعلق بعضهم آماله على الجيش العربي في حلب. وقال آخر: إننا ننسحب إلى رؤوس الجبال، ونعتمد على حصوننا الطبيعية ونحارب حرباً دفاعية بالمناوشة، ولما سألتهم الوزارة على ماذا تعتمدون في هذه الحرب، وعلى أي شيء تتكلون في المقاومة؟ أجابوا على حماسة الأمة ومعاونتها فأجابهم أحد الوزراء: دعونا من البحث في المعنويات فإنا نقدرها مثلكم، وأخبرونا عن قوتكم الفعلية المادية وقولوا كم تمكنكم المقاومة؟ فقالوا: ست ساعات إذا اشتد لظى الحرب دفعة، ولم نوفق لدحر العدو وهزيمته. وهكذا كان الأمناء على مصلحة الأمة يفكرون ويتناقشون قبيل أن ساقت فرنسا جيشها من الساحل إلى الداخل، أما العامة ومن كان يحمسهم فقدر عن مبلغهم من الخيالات ولا حرج. ولقد قال يوماً أحد دعاة العامة ممن أضروا كثيراً بحماستهم قضية الاستقلال في مجلس عقد بدمشق من خاصة القوم ليقرروا الحرب مع فرنسا أو الصلح وتأليف عصابات تغزو المنطقة الغربية: إن فرنسا عجزت بعد الحرب العامة أن ترسل إلى الشام بضعة أنفار من جيشها، وليس لديها مال، وما تهددنا به من قوتها لا تستطيع إنفاذه، فالأولى أن نتكل على الله ونبدهها بالحرب. فأجاب صاحب هذه الخطط وكان في الجلسة من جملة المدعوين: لست من أمراء الجيش حتى أعرف ما عنده من القوى المادية، ولكنني أعرف فرنسا وقوتها ولا أكون إلى المبالغة كثيراً إذا قلت إن فرنسا تستطيع أن تكتسح الشام من جنوبه إلى شماله إذا أرسلت علينا عوران حربها الأخيرة فقط، فيجب علينا يا سادتي أن لا نغش أنفسنا ونتذرع بالمحال. حملة فرنسا على المدن الأربع: كانت الحكومة العربية في أيدي العامة والهزائين من أمراء جيشها، وخطط الأحزاب متضاربة، وأعضاء كل حزب متعادون متشاكسون بينهم، وكان الجنرال غورو المفوض السامي في سورية ولبنان يعزز جيشه في الساحل ويستدعي

من فرنسا فرقاً من الجند فأرسل يوم 11 تموز 1920 إلى الملك فيصل كتاباً مطلعه: بينما كانت السكينة سائدة في سورية أثناء الاحتلال الإنكليزي ابتدأ الفساد يوم حلت جيوشنا محل الجيوش البريطانية ولا يزال آخذاً بازدياد منذ ذاك الوقت. وأرسل إليه أيضاً يوم 14 تموز 1919 بلاغاً يدور على خمس مواد وهي أن يعطي لفرنسا الخط الحديدي من رياق إلى حلب، وأن تلغى حكومة فيصل القرعة العسكرية التي أخذت تجمعها ويقبل الانتداب الفرنسي والنقود السورية ويضرب على أيدي الأشقياء. فطلب الملك مهلة أربع وعشرين ساعة فانتهت مدة الإنذار الأول في 18 تموز الساعة الحادية عشرة والنصف تقريباً ثم مددت أربعاً وعشرين ساعة أخرى ثم مددت ثانية وانتهت يوم 22 تموز. ووقع تأخير في إرسال الجواب بالإيجاب أي بقبول مطالب فرنسا وكان الداعي إليه انقطاع الأسلاك البرقية، فأمر الجنرال غورو جيشه بالمسير إلى دمشق بقيادة الجنرال غوابيه يوم 21 تموز فسار إلى البقاع واحتل رياق وأخذ يصعد أكمات مجدل عنجر، وكان الجيش العربي اتخذ له حصوناً في تلك الأكمات، وتجمع بعض عامة دمشق وبضع مئات من البدو عسكر البيشة الحجازي وأخذوا يخفون إلى مقابلة الجيش الفرنسي الزاحف فوصلوا إلى جبال ميسلون، وفي يوم 22 تموز خرجت كتيبة عربية من حمص مغيرة على الجند الفرنسي في تل كلخ فانهزمت الكتيبة وأخذ منها 151 أسيراً بينهم ضابطان وثلاثة مدافع رشاشة. وفي 22 تموز أعلم الجنرال غورو الملك فيصلاً أنه مستعد أن يتوقف عن الزحف إذا قبل بمواد الإنذار وبالشروط التالية 1ً تنشر حكومة دمشق منشوراً كتب مسودته الفرنسيون وبينوا فيه السبب الذي حملهم على إعطاء الأوامر للجنود بالزحف على دمشق والسبب الذي توقف من أجله ذلك الزحف. 2ً الموافقة على بقاء الجنود الفرنسية حتى نهاية الخط الذي وصلوه وقتئذ ليوم تنفيذ جميع شروط الإنذار. 3ً تسليم خط السكة الحديدية من رياق إلى التكية للفرنسيين وبقاؤه بأيديهم في هذه المدة. 4ً سحب جميع الفصائل الشريفية إلى شرقي هذا الخط وجعل الدرك تحت رعاية الفرنسيين بالمنطقة التي تم احتلالها. 5ً تتوقف حكومة دمشق عن إرسال المعاونات للعصابات المنظمة

التي تعمل في المنطقة الفرنسية. 6ً نزع السلاح من أهالي دمشق ومن الجنود الذين سرحوا. 7ً قبول بعثة فرنسية بدمشق تقف على صورة تنفيذ شروط الإنذار، وترسم خطة للمباشرة بتطبيق الانتداب الفرنسي على الشام. كان الجيش الفرنسي الزاحف على دمشق مؤلفاً من عشر كتائب مشاة وست كتائب فرسان وسبع بطاريات من الجنود الفرنسية والسنغالية والمراكشية والجزائرية، والجيش العربي مؤلفاً من بضعة ألوف سطر عددها على الورق فقط وهو مشتت في حلب وحمص ودمشق، وليس له وحدة في القيادة. وصدر الأمر إلى الجند المرابط في حصون المجدل من الجيش العربي بالتسليم وفض الجيش، ثم عاد فصدر الأمر ثانية إلى جماعة الحصون أن يبقوا على المقاومة، ولم يكن عددهم يزيد على مائة وعشرين جندياً. وأصبح الحكم في دمشق للغوغاء الذين كان يحمسهم زعماؤهم، وهجموا على القلعة لأخذ السلاح منها فنهبوا الذخائر فاضطرت الحكومة لحفظ الأمن أن تستعمل فيهم القوة فقتل منهم نحو مأتي إنسان، وبات الناس في كرب عظيم. وحدث تبلبل، فلم تصل برقية الملك فيصل إلى المفوض السامي للجمهورية الفرنسية بقبول شروط فرنسا كلها إلا بعد أن تقدم الجيش الفرنسي ووصل إلى ميسنون من طريق دير العشائر إلى الميماس وقطع خط الرجعة على العرب، فدارت الحرب في عقبة الطين بين الجيش الزاحف وبين سرايا الجند العربي وجند البدو والمتطوعة، وكان الجيش العربي أربعمائة جندي ومائتين من الهجانة يصحبهم ويتبعهم من الأهالي والعربان عدد يختلف بين الأربعة والخمسة آلاف على رواية الريحاني، فقتل في أربع ساعات بقنابل الطيارات وقذائف البنادق والرشاشات كثير من الفريقين، وفي مقدمة الوطنيين يوسف بك العظمة ناظر حربية الملك فيصل وكان من أكبر القائلين بالمقاومة وعرف أنه غلط في تقدير القوة وسبق السيف العذل بعد صدور أمر الملك بفض الجيش وتراجع القوة المنظمة في الجملة، فآثر الانتحار في خط النار واستشهد في ساحة الحرب محافظاً على شرفه العسكري، وقد قتل الجيش الزاحف طائفة من الأهالي الذين حاربوه بعد أن سقطوا أسرى في يده لأن قانون الجندية يبيح قتل غير الجند إذا اشتركوا في المعمعة، وفي رواية

أنهم أجهزوا على الجرحى الوطنيين أيضاً وحفروا قبورهم بأيديهم قبل أن يُرمَوا بالرصاص. وترك الجيش العربي في ساحة الحرب 15 مدفعاً قيل أن بعضها كان معطلاً قبل أن ينصب في أماكنه و 40 رشاشاً وذخائر كثيرة. حدثني ثقة زار ساحة ميسنون غداة الوقعة رواية عن ضابط سنغالي برتبة وكيل أن قتلى الوطنيين في ميسنون من 1200 إلى 1500 وأنه قال له الضابط: أُقسم بالله أنه لم يلوث أحد السنغاليين يده بدم أحد من الوطنيين. قال محدثي: إن كل من رآهم مجدلين من قتلى الجيش الداخل هم من السنغاليين ليس فيهم أحد من الجنس الأبيض. وعاد المنهزمون من ساحة الحرب فدخل الجيش الفرنسي من الغد إلى دمشق 25تموز وأبلغ رئيس البعثة الفرنسية الكولونيل تولا الملك فيصل أن يغادر دمشق عملاً بقرار حكومة الجمهورية بأسرع ما يستطاع في السكة الحديدية الحجازية مع عائلته وبطانته على قطار خاص أعارته إياه فأذعن، وعين قبل رحيله علاء الدين الدروبي رئيس وزارة على أن يختار بنفسه من يشاء من الوزراء، أعطاه تقليد الوزارة قبل سفره ليملأه بالوزراء الذين يختارهم دليل الثقة به. فلم يلبث أن ألف وزارته ومن الغد ألقى خطاباً في دار الحكومة حط فيه من كرامة ولي نعمته الملك فيصل فاشمأز أرباب الوفاء من مصانعته، ولم يلبث أن أرسل إليه برقية يقول فيها: إن السلطة العسكرية تبلغ جلالتكم أنها تطلب خروجكم من حوران وأنها وضعت تحت أمركم قطاراً فإن لم تفعلوا ضربت قنابل طياراتها قرى حوران. سقطت دمشق يوم 24 تموز بعقب وقعة ميسنون، وسقطت حلب يوم 23 بيد الجنرال دي لاموت عقب مناوشة طفيفة، وحمص وحماة يوم 28 منه بدون صعوبة فقبضت فرنسا على قياد المدن الأربع وحكم الديوان الحربي الفرنسي على 58 رجلاً من الوطنيين أكثرهم من حاشية الملك وبعضهم من أهالي جبل عامل وتركت الحكومة المنتدبة لهم المجال حتى انهزموا، ومنهم من لحق بالملك ومنهم من سار إلى شرقي الأردن أو فلسطين أو مصر. لم يسمع للعقلاء رأي قبيل هذه الحوادث، وكثير منهم كان يكتم فكره لئلا يرمى بضعف الوطنية، ومنهم من لم يسعهم السكوت فصرحوا وأُذوا

وهجوا، ونال العامة منهم بإيعاز الزعماء. ولكن كان أهل المصالح الحقيقية يحاذرون التهور، ويودون لو تتفاهم الحكومة الوطنية مع حكومة الانتداب، ولطالما نصحوا سراً للقائمين بالدعوة إلى الاستقلال أن يترووا في الأمر ولا يعمدوا إلى المقاومة الفعلية لاعتقادهم مضرة ذلك، وأن يجعلوا سلاحهم المناقشة بالحسنى لئلا تنزل فرنسا المن الأربع حرباً، وأن يقبل مستشاروهم وبعض مطالبهم الخفيفة، وأن يرسل إلى باريز ولندرا وفد من أرباب المكانة والمعرفة يطلب شروطاً موافقة للانتداب في الشام وهو واقع لا محالة، إذ ليس في يد الملك فيصل ولا في يد أبيه الملك حسين عهد وثيق من دول الحلفاء يثبت له أو لأبيه ملكية الشام، وغاية ما ربحه الملك حسين من اتحاده مع الحلفاء في الحرب استئثاره بملك الحجاز. وكان الحلفاء وعدوا أن يمنحوا العرب استقلالهم ويساعدوهم عل نيله، وبهذه الوعود انضم نحو ثمانين ألفاً من العرب إلى صفوفهم وقاتلوا معهم الأتراك بقيادة الأمير فيصل الذي كانوا ينظرون إليه نظرهم إلى قائد من قوادهم، ولكن الحلفاء لما تم لهم الظفر لم يفوا بوعودهم على ما يرضي العرب. بعد وقعة ميسنون المحزنة فصلت إدارة البقاع وبعلبك وحاصبيا وراشيا عن أحكام المدن الأربعة واستقل الجنرال دي لاموت بأحكام حلب ودير الزور والإسكندرونة، وظلت دمشق وحمص وحماة وحوران دولة ذات، وزارة وكانت عجلون والصلت وعمان ومعان جعلت حكومة برأسها سموها حكومة شرقي الأردن ثم دعيت حكومة الشرق العربي، وذلك بإمارة الأمير عبد الله شقيق الملك فيصل، وهكذا دخلت المدن الأربع في الانتداب الفرنسي كما دخل الساحل لأول عهد دخول الحلفاء. وخطب الجنرال غورو في دار الحكومة بدمشق قائلا إن فرنسا ما جاءت إلى هذه الديار مستعمرة وسترونها أمينة على تقاليدها، راغبة في أن تضمن استقلالكم في عهد الوصاية الحر، قال إن العصاة التي كانت تهاجم الجيش الفرنسي لم يكونوا من الأشقياء فقط، وكان يقودهم ضباط الجيش النظامي، وتمد بالأسلحة والأعتاد والمال، ومع أن فتكها لم يكن شديداً في جنود فرنسا فإن أضرارها كانت عظيمة على الطوائف العزلاء إذ دمرت بيوتاً وأحرقت قرى ونهبت الأموال والمواشي، وكانت

تعريف الانتداب وسياسة الأتراك فيما يتعلق بالشام:

أعمال الحكومة الشريفية الرسمية لا تقل بإزاء فرنسا عداءً عن أعمال عصاباتها اه. وكان غورو نشر منشوراً في الطيارات على أهالي سورية قبيل وقعة ميسنون قال فيه: قيل لكم إن فرنسا ترغب في استعماركم وأنها تريد استعبادكم وما ذلك إلا إفك مبين. إن فرنسا قبلت الانتداب التي عهد به إليها مؤتمر السلم على سورية، وهي عازمة على أن تدع الموظفين الوطنيين يزاولون أشغالهم بشرط أن لا يعملوا بسلطتهم ضدها فيخونون العهود والمواثيق المقطوعة. تعريف الانتداب وسياسة الأتراك فيما يتعلق بالشام: أما الانتداب فلفظ حديث يراد به الإشراف أو الكفالة وهو لا يخرج عن الحماية إلا باعتبارات قليلة. وقد جاء في صك عصبة الأمم في تعريفه أن الشعوب التي جعلت تحت حكم الانتداب المحدد والموقت والذي طلبوه من أنفسهم هم مستقلون وأن المنتدب عليهم هو المرشد الموقت ريثما يصبحون قادرين على حكم أنفسهم. وقال بوانكاره من ساسة فرنسا: لسنا في الشرق لنضم أقطاراً إلينا ولا لنضع حمايتنا وإنما نحن هناك بموجب انتداب تلقيناه من عصبة الأمم تنفيذاً لمعاهدة فرسال. وقال ديبوي من علماء القضاء في فرنسا: الانتداب أنفق ما جاءت به سياسة الحرب العظمى هو عبارة عن حماية مستترة. وفي المجلة النيابية ن مدة الانتداب تقسم إلى ثلاثة أدوار ابتدأ الدور الثاني في 29 أيلول 1926 وهذا الدور يسمونه دور تنظيم الانتداب، وفي انتهاء الدور الثاني يجب أن يكون هناك حكومات وطنية وعندها يدخل الانتداب في دور التصفية، وبعد انتهاء الدور الثالث للانتداب تعقد معاهدة تحالف مؤقتة تقوم مقام النظام الحالي، وتحدد باتفاق مشترك حقوق المنتدبين والمنتدب عليهم وسلطتهم، وهذا يعد انتهاء للانتداب. ولم يحدد مدة معينة للانتداب في سورية ولبنان وفلسطين. جعلت معاهدة صلح فرسال 1918 الانتداب ثلاث طبقات فما رُمزَ له بحرف أهو الانتداب الخفيف مثل انتداب فرنسا في سورية ولبنان والانتداب البريطاني في فلسطين والعراق، ويقضي على الدولة المنتدبة على هذه الأقطار أن تقصر مهمتها على تقديم مساعدتها لها. ومن الانتداب ما رمز له بحرف ب وهو الانتداب ببعض الشروط. ومنه ما رمز له بحرف ج وهو انتداب أمة

على أقاليم تعد جزءاً من أملاك الدولة المنتدبة. فجعلت الشام من الصنف الأول من الانتداب أي إنه اعترف باستعدادها للاستقلال إذا دربت عليه زمناً. قال الرئيس ويلسون رئيس جمهورية الولايات المتحدة في شروطه الأربعة عشر: أما الأمم الأخرى التي هي تحت النير التركي فيكفل لها كيان آمن ويمكّن لها حتى ترتقي في استقلالها من غير ممانعة، ولم يسمع أن أحداً من لأهل السلطات الأجنبية في الشام قال إنها غير مستقلة منذ سقطت في أيدي الحلفاء، وقال أحد كبار رجالهم: إن ما عملته فرنسا في الجزائر في القرن الماضي يتعذر جداً عمله في هذا القرن والناس هنا غيرهم هناك. والأحوال في الشام غير الأحوال في الجزائر. وفي المادة الأولى من نص الميثاق الوطني التركي الذي تبايع الأتراك على العمل به بعد سقوط الدولة العثمانية ما نصه: إن الأقطار التي تسكنها أكثرية عربية من أرض المملكة العثمانية وهي التي كانت تحتلها الجيوش المحاربة حين عقد الهدنة في 30 تشرين الأول 1918 ينبغي أن تعين مصيرها بنفسها وذلك باستفتاء الرأي العام فيها استفتاء حرا. وهكذا كان كرم الأتراك مع إخوانهم العرب أجازوا لهم أن يعلنوا استقلال الشام عند آخر ساعة من سقوط عاصمة الشام بيد الحلفاء، ورخصوا لهم أن يعينوا مصيرهم بأنفسهم في ميثاقهم الوطني وهم يومئذ لم يكونوا يملكون لأنفسهم حولاً ولا طولاً، ولما عُرضت المسائل العثمانية على بساط البحث في مؤتمر لوزان لم يجر ذكر الشام إلا من حيث الحدود التي تم الاتفاق عليها بين فرنسا وتركيا بصورة لا تزال سرية عرف منها أنه اقتطع جزء عظيم من التخوم الشمالية في الشام أُضيفت إلى آسيا الصغرى بدون حق. هذا والأتراك كانوا ظافرين بأعدائهم اليونان الذين كانوا استولوا على معظم ولايات أدرنة وإزمير وبروصة بعد الحرب العامة فقويت جمهورية تركيا التي جعلت مقرها في أنقرة بدلاً من الأستانة وهزمت جيش اليونان شر هزيمة آب 1922 وكان ظفراً داوى به الأتراك جراحهم بعد هزائمهم في الحرب العالمية. وقد نصت المادة 94 و 95 من معاهدة الصلح التي عقدت في مدينة سيفر يوم 10 آب 1920 بين الحلفاء والمشتركات معهن من الدول وبين الدولة

تأثر الحورانيين بعوامل الفيصليين ومقتل وزيرين

العثمانية أن المتعاقدين على اتفاق بأن الشام والعراق وفلسطين، عملاً بالفقرة الرابعة من المادة الثانية والعشرين من الجزء الأول عهد جمعية الأمم، معترف بها موقتاً دول مستقلة على شرط أن تبذل لها النصائح والمعونة من دول منتدبة عليها تقودها في إدارتها إلى الزمن الذي يستطعن أن يسرن فيه بأنفسهن وأن المنتدب على فلسطين يكون مسؤولاً عن تنفيذ التصريح الذي صرحت به حكومة بريطانيا يوم 2 تشرين الثاني 1917 ووافقت عليه الدول المحالفة بشأن تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، على أن لا تمس فيها لحقوق المدنية والدينية للطوائف غير اليهودية، ولا تمس الحقوق والأنظمة السياسية التي يستفيد منها اليهود في كل بلد. وكان الحلفاء تفاوضوا مرات بشأن الشام فرأوا أن تكون فلسطين دولية، ولكن الأتراك لما هاجموا ترعة السويس زاد الإنكليز معرفة بمكان هذا القطر الحربية فرأوا أن يجعلوها منحدراً لمصر بالفصل بين عرب هذه وعرب الشام فأخذوا يطالبون بحيفا وعكا ثم بفلسطين كلها وتعهدوا لليهود أن يجعلوها لهم وطناً قومياً، وتعهد الحلفاء تعهدات مبهمة بشأن الشام حتى يعاونهم برجاله ونفوذه. تأثر الحورانيين بعوامل الفيصليين ومقتل وزيرين وقتل اليهود في فلسطين: غادر الملك فيصل دمشق في زمرة من عماله وأكثرهم من السوريين، وخرج من الجنوب غداة جاء الجيش الفرنسي من الغرب، فطفقت الحكومة المحتلة تجمع السلاح من البادية والحاضرة، ووضعت على المدن الأربع غرامة حربية قدرها مائتا ألف ليرة عثمانية ذهباً، ولكن أهل حوران لم يخضعوا للأمر ومردوا على الحكومة وبث فيهم بعض أعوان الملك فيصل فكر الثورة، فرأى رئيس الوزارة علاء الدين الدروبي أن يذهب بنفسه لإلقاء النصائح عليهم مستصحباً معه وزيرين من وزارته أحدهما عبد الرحمن اليوسف رئيس مجلس الشورى أكبر أعيان دمشق، فهاجمهم بعض الحوارنة في محطة خربة الغزالة وأنزلوهم من القطار وقتل الدروبي واليوسف، وقتل بعض ركاب القطار، مع أن رئيس الوزارة كان عارفاً بأفكار الحوارنة من جهة حكومة دمشق، ووصمهم لها بالخيانة لأنها سلمت سورية للأجانب. وانجلت وقعة

حوران عن جمع غرامة قدرها مئة وعشرون ألف ليرة عثمانية ذهباً منها دية الوزيرين لكل من أسرتهما عشرة آلاف ليرة وحكم على بعض المتهمين بمقتل الوزيرين فزادت حوران خراباً فوق خرابها. وفي آب 1920 زار المندوب السامي في فلسطين السر هربرت صموئيل الشرق العربي ومما قاله في خطاب له في الصلت: إن الحكومة الفرنسية كررت تأكيداتها بأنها لا تريد أن تتدخل بأي شكل كان في شؤون هذه المقاطعة، وبما ان الحكومة الفرنسية قد عززت نفوذها في دمشق فقد أصبح من الضروري فصل هذه المقاطعة عن إدارة دمشق. تسألونني عن نوع المساعدة التي تريد إنكلترا أن تقدمها لكم فأجيبكم إنها لا تريد أن تضمكم إلى الإدارة الموجودة الآن في فلسطين، بل تنشئ لكم إدارة منفردة تساعدكم على أن تحكموا أنفسكم بأنفسكم، وترسل إليكم عدداً قليلاً من الضباط ورجال القضاء محنكين عارفين باللغة العربية وأحوال الشعب العربي فيسكنون البلدان الكبرى في هذه المقاطعة، وأنتم تعرفون أكثرهم شخصياً وسيساعدونكم في تنظيم الدفاع تجاه أي هجوم خارجي وفي تنظيم الشرطة لصيانة الأمن في الداخل وترقية التجارة وتأييد العدالة وإنفاق ما تدفعونه من الضرائب بأمانة تامة على مصالحكم واحتياجاتكم ويستشيرونكم في الغاية التي تدفع لأجلها الأموال وإصلاح الطرق وترميمها وإنشاء المدارس وتقديم المعاونات الصحية. إلى أن قال: وستكون التعليمات العمومية التي ترسلها الحكومة البريطانية إلى موظفيها هنا مبنية على قاعدة مساعدة الأهالي ليحكموا أنفسهم بأنفسهم، فمراعاة هذه المبادئ المؤسسة على العدل والشرف اللذين تمتاز بهما الإدارة البريطانية في جميع أنحاء العالم هي الأسس الصالحة لكل حكومة صالحة. . اه. وفي كتاب عامان في عمان: وقد قوبل هذا البيان من أهالي المنطقة بفتور دل عليه أن زعماءهم جمدوا بعد أن سمعوه جمود الحيرة لا يدرون أشر أُريد بهم أم أراد بهم ربهم رشداً. . . ولما سئلوا عما يجول في نفوسهم وقف أحدهم وقال: يظهر أن أوربا عدلت عن فكرة اعتبار الكفايات في الأمم ورجعت إلى القرعة فهي بينما تمنع سورية ولبنان وفلسطين الاستقلال تعترف به لشرقي الأردن. . .! واشتد الهياج بين الصهيونيين وأعدائهم من السكان في حيفا في نيسان

تقسيم الشام وخرابها واستقلال لبنان والعلويين

1920 ونشبت الفتنة في القدس سفكت فيها الدماء ونهبت مخازن اليهود ولولا مهارة الإدارة البريطانية لامتد لهيب العداء إلى سائر مدن فلسطين لما ملئت به النفوس من الغيظ من الصهيونية والصهيونيين. تقسيم الشام وخرابها واستقلال لبنان والعلويين ومجلس فلسطين ودولة شرقي الأردن ودولة جبل الدروز: وفي أول أيلول 1920 أعلن استقلال لبنان في حرج بيروت بحضور الجنرال غورو، وأضيف إلى لبنان الأصلي الذي عرف بحدوده بعد سنة الستين جبل عامل ووادي التيم والبقاع وبعلبك وطرابلس وعكار والحصن وصافيتا فاحتج فريق من أهالي بيروت وطرابلس مع بقية البلدان المنضمة من الداخل إلى متصرفية جبل لبنان قائلين إن هذا الضم جرى بدون رضى الأهالي وبغير استفتاء، وإن ذلك مخالف لتصريحات وزارة الخارجية في فرنسا وبريطانيا القائلة بأن الأقاليم التي انسلخت عن الدولة العثمانية مستقلة وللأهالي الحرية التامة في تقرير مصيرهم وتأسيس حكوماتهم الوطنية، وأن السكان لا يرغمون السكان على قبول نظام معين. وجعل للبنان حاكم فرنسي، لأن فرنسا رأت أن الاختلاف بين طوائفه لا يمكن معه إرضاؤهم كلهم، إذا عين أحد أبناء الطوائف الأخرى حاكماً، فعادت نغمة الطائفية إلى الجبل بصورة أشد مما كانت على عهد الترك، وقسمت مقاعد الحكم على الطوائف، وأقيم للبنان الذي دعي لبنان الكبير مجلس نيابي تنفذ المفوضية العليا للجمهورية الفرنسية في سوريا ولبنان ما تراه صالحاً من مقرراته، وقسم لبنان إلى ألوية وأقضية يدير شؤونها موظفون وطنيون، ويدير الحكومة المركزية في بيروت عدة مديرين أو وكلاء أو وزراء يتقلد زمامها الوطنيون، ولكل مدير منهم مستشار فرنسي. وتمت للموارنة في لبنان أمنيتهم التي طالما نشدوها من حكم فرنسا لهم، ونجت الشام من تهديد بطريركهم وكانت انتدبته طائفته إلى مؤتمر الصلح لينظر في استقلال لبنان، فقال وقد هدد بأن لبنان يبقى محصوراً في حدوده القديمة إذا أصر على الرفض: إننا نفضل الموت جوعاً في ظل صخورنا على أن نكون تابعين لدمشق! واقتطعت جبال النصيرية وأصبح يقال لها أرض العلويين جعلت حاضرتها

اللاذقية وحاكمها فرنسي وإدارتها أشبه بانتداب الدرجة الثانية مما رمز له بحرف ب وكان تقسيم القطر على هذا المنوال مبدأ خرابها الاقتصادي فاضطر إلى تأليف عدة وزارات ومجالس وإدارات ومنها من لا عمل له في الواقع ونفس الأمر إلا قبض الرواتب من مال المكلفين، وشوهد الإسراف في أموال الحكومة وقد حاولت الحكومات غير مرة أن تقتصد وما برحت الأموال تصرف في الأمور المستهلكة أكثر من الأمور المستحصلة، ولا نسبة بين رواتب كبار الموظفين وغيرهم. وفي تشرين الأول 1920 انتخب في فلسطين مجلس شورى مؤلف من عشرين عضواً نصفهم من الموظفين والنصف الآخر نصبتهم الحكومة، وهم أربعة من المسلمين وثلاثة من المسيحيين وثلاثة من الإسرائيليين، ووظيفة هذا المجلس استشارية فقط. فقامت فلسطين مسلموها ونصاراها محتجين على هذا المجلس. وفي تشرين الثاني 1920 قدم إلى عمان الأمير عبد الله بن الحسين لاسترجاع دمشق من فرنسا وإرجاعها إلى السلطة الشريفية فأرضته بريطانيا بأن جعلته أميراً على عبر الأردن على أن لا يمس أراضي الانتداب الفرنسي، وقد حدثت بعض حوادث على التخوم بين حوران والبلقاء، وتألفت هناك عصابات لغزو الأراضي التي جعلت تحت الانتداب الفرنسي وبعد أن قصدت إحدى العصابات اغتيال الجنرال غورو المفوض السامي في 23 حزيران 1921 على 40 كيلو متراً من دمشق في طريق القنيطرة، ولم ينالوه بأذى وقتل أحد ضباطه، طوي بساط العصابات والمؤامرات، وكان أمر هذه العصابات مما دبر في الشرق العربي. وفي الخامس والعشرين من حزيران 1921 أعلن استقلال جبل الدروز وكان من قبل بين عاملين العامل البريطاني والعامل الفرنسي، فلما جاء الجيش الفرنسي إلى دمشق كان من أهل الجبل من يرحبون بالفرنسيين فنالوا استقلالهم 5 نيسان 1921 واصبح جبلهم وهو نحو مائة وخمس عشرة قرية دولة برأسها جعلت السويداء عاصمتها، ونصب على الجبل أمير من أهله ومستشار إفرنسي، فانتزع أيضاً من حكومة دمشق التي جعلت دولة لها حاكم، وذلك بعد أربعة اشهر من استلام الفرنسيين زمام الأمر، وجعل لهذه الدولة مديرون

متاعب لبريطانيا وفرنسا واعتداءات:

بدلاً من وزراء وجعل علم خاص لكل من دولة لبنان الكبير ودولة العلويين ودولة حلب ودولة دمشق ودولة جبل الدروز الواقعة تحت الانتداب الفرنسي ويحمل كل علم في مطاويه العلم الفرنسي المثلث الألوان، ولم يجعل لفلسطين علم خاص وبقي العلم فيها إنكليزياً واقتصر شرقي الأردن على العلم العربي، وبذلك أصبحت الشام سبع دول وكانت على آخر عهد الأتراك ثلاث ولايات دمشق وبيروت وحلب وثلاثة ألوية مستقلة القدس - لبنان - دير الزور. متاعب لبريطانيا وفرنسا واعتداءات: وفي شباط 1921 عقد مؤتمر في حيفا مؤلف من رجال فلسطين مسلميهم ونصاراهم نظم احتجاجات على وعد بلفور وطلب تأليف حكومة وطنية وانتخاب جمعية تأسيسية ينتخبها السكان العرب. وفي 15 آذار خرج الزعيم فؤاد سليم من إربد في مائة وعشرين فارساً للقبض على بعض الأشقياء من عرب الشقيرات وعلى بعض زعماء الكورة في جبال عجلون فأحاطت بالقوة العسكرية أهالي ست قرى بقيادة كليب الشريدي وابنه وساعدتهم الغابات ووعورة الأراضي وسقط ربع الجنود بين قتل وجريح وفقد ثلث الخيل ثم استسلم الباقون للعرب الثائرين الذين سلبوا الضباط والعسكر عتادهم وأسلحتهم وألبستهم. وألقى المندوب السامي في فلسطين في 18 نيسان 1921 خطاباً في عمان قال فيه: إن الحكومة البريطانية تقدر الخدمات التي قدمتها جيوش العرب في الحرب وترغب في أن تتوطد في زمن السلم دعائم التحالف الذي بني في خلال الحرب وقال: يساعد الضباط البريطانيون منذ شهر آب الماضي في إدارة شؤون الأقاليم الواقعة وراء نهر الأردن وسيواصلون العمل بصفتهم مستشارين بالنيابة عني للأمير عبد الله وموظفيه في الأنحاء المختلفة. وقال: إن الضباط البريطانيين الذين يقومون بهذه المهمة في جميع أنحاء المنطقة يعطفون على السكان وعلى آداب اللغة العربية وإن الحكومة البريطانية عولت على ألا تكون البلدان الواقعة فيما وراء نهر الأردن مركزاً للعداء على فلسطين أو سورية. وفي أول أيار 1921 نشبت فتنة بين الصهيونيين والوطنيين في يافا انجلت عن قتل 48 رجلاً من العرب وجرح 73 منهم وقتل من اليهود 47 شخصاً

توحيد حكومات سورية وعدم رضى الأهلين:

وجرح 146. وفي سنة 1921 دخل الأتراك عينتاب وأخرجوا الكتائب الفرنسية منها وباغت عربان الزور الفرقة الفرنسية السورية وقتلوا بعض ضباطها فحلّ بهم العقاب، فتخلت فرنسا عن قلقية بأجمعها وانحصرت قوتها بالشام من حدود كليس في الشمال، وتألفت عصابات من أبناء حارم وكفر تخارين وإدلب وجبل الزاوية والمعرة وصهيون وجرت بينها وبين الجيش الفرنسي معارك قتل فيها كثير من الفريقين، وكان بعض رؤساء تلك العصابات من الأتراك. وقد فقدت فرنسا من جندها في سورية وعلى حدودها بضعة ألوف. وقال الجنرال ويغاند المفوض السامي للجمهورية الفرنسية في حفلة إزاحة الستار عن النصب التذكاري الذي أُقيم لقتلى جيش الشرق في بيروت سلخ ذي القعدة 1342 حزيران 1924: بعد الهدنة سكت المدفع في أوربا إلا من الشام، وكانت الأمهات الفرنسيات يعتقدن بأنهن سيشاهدن أولادهن إلى جنبهن فاضطرت فرنسا إلى إرسال أولادها إلى ساحات القتال في مرعش وأورفة وميسنون حيث تم تحرير سورية بقيادة سلفي الجنرال غورو وقد بلغ عدد القتلى نحو تسعة آلاف و 250 ضابطاً فيمكن أن تذكروا أولادكم وأولاد أولادكم بذلك اه. ولم يقتل هذا العدد في أرض الشام بل معظم من قتل في قلقية. توحيد حكومات سورية وعدم رضى الأهلين: لم يرتض أهل الداخل وفريق عظيم من سكان الساحل هذا التمزيق الذي حلّ بالشام، فكثر الناقمون والناقدون، وزعم بعض ولاة الأمر من المنتدبين أن هذا التقسيم كان برضى الأهلين، ونزلت فرنسا على رغائبهم، وبعد التجربة الأولى رأت المفوضية العليا أن تعيد المدن الأربع إلى جمعها بعد الشتات فاعلن الجنرال غورو في اليوم العشرين من حزيران 1921 في دمشق أساس الوحدة السورية بإنشاء مجلس اتحادي لها مؤلف من دول العلويين وحلب ودمشق فقط، على أن يكون أساساً للوحدة وألقى خطاباً مثل خطاب دمشق في مدينة حلب يوم 28 منه بحضور مندوبي الدول الثلاث ومما قال فيه: وكان العمل الأول الذي قامت به فرنسا لتوطيد اتحادكم وحريتكم الوطنية تأسيس الحكومات المستقلة، وكانت الغاية من ذلك مراعاة النزعات الخاصة ووضعها في قالب يتألف منه مجموع متناسب الأجزاء. قال: ولم يفتني قط وجوب إحكام في قالب يتألف منه مجموع متناسب الأجزاء. قال: ولم يفتني قط وجوب إحكام

الصلات بين هذه الدول التي ينبغي أن يؤلف مجموعها سورية المستقلة أي سورية التي طالما رغبت فرنسا في إنشائها قال: والواجب أولاً تنظيم هذه الدول ومنحها قسطاً أوفر من الحرية، وتأسيس صلة اتحاد بينها، ولا أذكر لبنان بين دول الاتحاد لأن تقاليده الخصوصية تقضي عليه بالسعي على انفراد وراء التقدم وبمشاركة قليلة في الاتحاد السوري لا تتناول إلا الوجهة الاقتصادية دون سواها، إلى أن يقرر من تلقاء نفسه الدخول في هذا الاتحاد. وبدئ من قابل بجعل بعض فروع الإدارة اتحادية كالبريد والبرق والعدلية والمعارف العالية والتمليك، وجعل للاتحاد مجلس مؤلف من خمسة عشر عضواً خمسة عن كل دولة، واجتمع المجلس في حلب في السنة الأولى وفي السنة الثانية نقل مقره إلى دمشق بصورة دائمة، ويختار هؤلاء عضو رئيساً من بينهم فعين لهذا الغرض السيد صبحي بركات الخالدي واختار لدوائر الاتحاد مع العرب جماعة من الأتراك والأرمن والروم فتأثر الوطنيون لذلك، لأن اللغة العربية لم تُرعَ لها حقوقها وحرم الوظائف بعض الوطنيين وتولاها بعض من ليس لهم بهذه الأرض صلة، ولا بالعرب والعربية قرابة. وفي 17 أيار عزمت بريطانيا العظمى أن تعترف باستقلال شرقي الأردن وأن يجعل أميرها عبد الله بن الحسين وتنشأ فيها حكومة دستورية وتعقد معه اتفاقاً على أن تتعهد حكومته بالاعتراف بالحقوق الدولية. وأنشأت هذه الحكومة تمنح لقب باشا لمن تريد تشريفهم أو تأليف قلوبهم من المشايخ وغيرهم، فمنحت هذا اللقب للصعاليك وأسرفت في منحها والتف حول أمير تلك الكورة بعض جماعات من الوطنيين الذين كانوا اشتغلوا مع أخيه الملك فيصل في دمشق ولم يلبثوا أن انفضوا من حوله بطرق اتخذتها حكومته، وكان يتقاضى لها معاونة سنوية من بريطانيا 150 ألف جنيه ولنفقاته الخاصة 35 ألفاً من الجنيهات ثم أنزلت المعاونة إلى 80 ألفاً ومخصصاته إلى عشرين ألفاً. وفي صيف سنة 1923 اعتدى بعض دروز الشوف على النصارى من جيرانهم واغتيل بعضهم، فقابلهم المعتدى عليهم بالمثل، وأختل الأمن في أواسط لبنان وكاد يتعدى إلى بعلبك، فعنيت حكومة الانتداب بجمع السلاح من الأيدي وعاقبت الفاعلين، ووضعت غرامات على بعض القرى التي خالفت أوامر

الحكومة. وفي سنة 1923 و 1924 كثر إغلاق الحوانيت في دمشق وحمص وحماة احتجاجاً على كثرة الضرائب، وتقريب بعض أشخاص من الحكومة المنتدبة يوسعون مجال الخلف بين المنتدبين والمنتدب عليهم، ويسودون الناس بوشاياتهم للاحتفاظ بكراسيهم وأغلقت دمشق خمسة عشر يوماً متتابعة احتجاجاً صامتاً على انتخاب أعضاء المجلس التمثيلي بالإكراه واستعمال الحكومة وسائط الإرهاب في المدن والقرى. صك الانتداب وموافقة الدول الكبرى عليه وأشكال جديدة من الإدارة: جاء في معاهدة لوزان 30 شباط و24 تموز 1923 التي عقدت بين الدول وبين تركيا أن الحدود التركية السورية قد ذكرت في المادة الثامنة من الوفاق الفرنسي التركي المؤرخ بيوم عشرين تشرين الأول 1921 والغالب أن هذا الاتفاق المعروف باتفاق فرانكلين بويون، لم ينشر خلافاً لما ادعته السياسة في العهد الحديث بعد الحرب، من أنه لا تعقد بين الدول محالفات سرية بعد الآن أن مجلس جمعية الأمم أثبت في جلسته المنعقدة يوم 29 أيلول 1923 أن الانتداب على الشام سورية ولبنان والانتداب على فلسطين قد دخلا كلاهما في دور التنفيذ، وقد جاء في المادة الأولى من هذا الصك أن الدولة المنتدبة تضع نظاماً أساسياً لسورية ولبنان في خلال ثلاث سنوات تبتدئ من تاريخ الشروع بتطبيق الانتداب، ويعد هذا النظام الأساسي بالاتفاق مع السلطات الوطنية، وينظر فيه بعين الاعتبار إلى حقوق جميع الأهلين في الأراضي المذكورة وإلى مصالحهم وأمانيهم، وينص فيه على اتخاذ التدابير التي من شأنها أن تسعل لسورية ولبنان سبيل النمو والتقدم المتوالي لدولتين مستقلتين، وتسير إدارة سورية ولبنان طبقاً لروح هذا الانتداب ريثما يشرع في تنفيذ النظام الأساسي، وتؤيد الدولة المنتدبة الاستقلال الإداري المحلي فيهما، بكل ما تسمح به الأحوال. وجاء في المادة الثانية أنه يمكن للدولة المنتدبة أن تبقي جنودها في الأراضي المار ذكرها لأجل الدفاع عنها، ويمكنها أيضاً، إلى أن ينفذ النظام الأساسي ويعاد الأمن إلى نصابه، أن تنظم القوات المحلية اللازمة المعروفة بالميليس للدفاع

عن تلك الأراضي، وأن تستخدمها في هذا السبيل وفي حفظ النظام، ولا يجند فراد القوات المذكورة إلا من أهل تلك الأصقاع وبعد ذلك تصبح تلك القوات تابعة للسلطة المحلية مع الاحتفاظ بما يجب أن يبقى للدولة المنتدبة من حق السلطة والمراقبة عليها، ولا يجوز استخدامها لغايات غير التي تقدم ذكرها إلا بإذن الدول المنتدبة. وما من شيء يمنع سورية ولبنان من الاشتراك في الإنفاق على القوة العسكرية النازلة في أراضيها من قوات الدولة المنتدبة، ويحق للدولة المنتدبة كل حين أن تستخدم المواني والخطوط الحديدية ووسائل المواصلات في سورية ولبنان لنقل جنودها وجميع المعدات والمؤن ومواد القوة. وفي المادة الثامنة أن الدولة المنتدبة تضمن للجميع حرية الضمير التامة كما تضمن حرية القيام بجميع الشعائر الدينية التي تتفق مع النظام العام والآداب، ولا يجوز أن يتبع شيء من التمييز وانتفاء المساواة بين سكان سورية ولبنان بسبب اختلاف الجنس أو الدين أو اللغة وتقوم الدولة بإنماء التعليم العام باللغات الوطنية الشائعة في أراضي سورية ولبنان. وصادقت الولايات المتحدة 1924 - 1343 على صك الانتداب الفرنسي في سورية ولبنان الذي وضع موضع التنفيذ منذ أيلول 1923 وقد جاء في المادة الخامسة منه للأميركان الحرية التامة في إنشاء المعاهد والصروح والملاجئ العلمية والدينية والفنية في جميع أراضي الانتداب الفرنسي مع التعليم باللغة الإنكليزية، ولم تعترف الولايات المتحدة بالانتداب البريطاني إلا في أواخر شباط 1925 مشترطة أن يكون للرعايا الأميركيين مثل الحقوق التي للرعايا الإنكليز. طبقت مواد الاتحاد في حلب ودمشق بعض الشيء مع وجود الدولتين دولة حلب ودولة دمشق، أما دولة العلويين فلم تتحد بغير الأمور العدلية. وفي يوم 26 حزيران 1924 4 ذي القعدة 1342 أعلن المفوض السامي في حديقة الأمة بدمشق الوحدة السورية وتأليف الدولة العربية السورية من حكومتي حلب ودمشق فقط، فخرجت دولة العلويين ودولة جبل الدروز كما خرجت دولة لبنان الكبير بالطبع من باب الوحدة، فاصبح بذلك عدد دول الشام ستاً بدلاً من سبع أي أن المدن الأربع عادت فألفت حكومة واحدة على نحو ما

غزوة النجديين عبر الأردن واستيلاؤهم على مكة

كانت زمن الحكومة الفيصلية، ولكن بتشذيب بعض أطرافها إذ نزع من جسمها دولتا الشرق العربي وجبل الدروز وخطب القائد قائلاً: إن هذه الدولة الجديدة الفخورة بماضٍ يحوي أعظم ما نظره الشرق والتي ستضم إليها أهم مدن الإسلام التي كانت منبع الترقي الفكري في جميع الأزمان. . . إن مثل هذه الدولة تقدر ويجب أن تكون في الشرق الأوسط مركزاً مشعاً وجذاباً. والسلطة التشريعية تكون بيد مجلس نيابي والسلطة الإجرائية تسلم إلى شخص يدعى رئيس الحكومة السورية بالانتخاب، ويكون له مجلس وزراء يجتمعون تحت رئاسته يكون كل واحد من هؤلاء الوزراء مسؤولاً شخصياً عن دائرته أمام مجلس الأمة. وفي حزيران 1924 ذي القعدة 1342 ألقى أحد رجال بريطانيا بياناً قال فيه: إن مهمة بريطانيا في فلسطين هي إنشاء وطن قومي لليهود من ناحية وصيانة مصالح السكان غير اليهود من ناحية أُخرى، وقد سعت بريطانيا لمعاملة الأهلين على قدم المساواة، ولكنها صادفت متاعب كثيرة بالنظر لعدم تجانسهم، وأنشأت إدارتين مختلفتين إحداهما في غربي الأردن حيث يوجد الوطن القومي لليهود والآخر في شرقي الأردن حيث للعرب الأغلبية، ولكنها تسعى دائماً إلى التوفيق بين مصالح اليهود والمسلمين. غزوة النجديين عبر الأردن واستيلاؤهم على مكة وشؤون: حكومة عبر الأردن أو شرقي الأردن أو الشرق العربي هي بمثابة حاجز يقي فلسطين اعتداء البادية، وقد كثر اعتداء عرب البلقاء وما إليها مثل عشائر الحويطات وبني عطية على تجار نجد يسلبونهم بضائعهم وجمالهم، وشكت حكومة الملك عبد العزيز بن سعود صاحب نجد إلى حكومتي الحجاز والشرق العربي فلم يسمع لها شكوى، فأرسل صاحب نجد نحو ألف وخمسمائة مقاتل من رجاله في 10 آب 1922 وهاجموا أم العمد في البلقاء، وقتلوا أهل الطنيب وأعملوا السيف والنار في عرب بني صخر واشترك الأديات من عرب البلقاء في قتال النجديين، وتلاحقت أفخاذ بني صخر ورجالهم من العيسى والزبن والخريشة، وجاء بعض بني حميدة النازلين إلى الجنوب الشرقي من مادبا حتى

وادي الموجب، واشتركوا في رد هجمات أهل نجد فأزاحوهم إلى بئر عمري وهناك تشردوا في الأودية والتلال، وقيل إنه قتل منهم نحو ثلاثمائة وقتل من أهل الشرق العربي كثيرون، وقد تأثرت الدبابات الإنكليزية النجديين إلى عمري فعادت وجنودها يزعمون أنهم لم يهتدوا إلى الطريق. وجاء النجديون ثانية بقيادة درزي بن دغمي السمير زعيم الرولة المتدينة، وأغاروا على عرب الحويطات في وادي موسى، وعلى أطراف معان، ونشبت معركة أبلى فيها الحويطات بلاء حسناً وعاونهم بعض بني عطية النازلين حوالي معان إلى تبوك، وجاء النجديون في 14 المحرم 1343 إلى الكاف قريات الملح الواقعة على الحدود بين نجد والشام في 2200 - 2600 مقاتل كما قدرتهم حكومة الشرق العربي واستولوا في طريقهم على الكاف وأخذوا حاميتها وهي أربعون جندياً وضابطان وقتلوا المفرزة البريطانية النازلة في محطة الطيران في زيزاء وعددها اثنا عشر جندياً وضابط، ووصل الجيش إلى مضيق رأس العين محلة عمان، فخرج أهالي الصلت وعمان ومنهم شراكس وششن من النازلين في قرى الناعور وعين صويلح ووادي السير، اشتركوا مع الجند العربي في القتال من الصباح إلى العصر، حتى تراجع النجديون إلى محل يبعد ثلاث ساعات عن قصر المشتى إلى الشرق وكان تأثير الطيارات البريطانية في النجدين كثيراً هاجت لأصوات قنابلها إبلهم، وقد قتل النجديون من قابلهم بالسلاح من أهالي الزيزاء واللبن وأم العمد والطنيب والقسطل ومادبا ويادودة والرجيب وسحاب والموقر وعمان، وادعت حكومة الشرق العربي أن النجديين خسروا ألف قتيل وجريح على أقل تعديل وأن عدد قتلى عرب المنطقة مادبا وعمان لا يتجاوز المائة والعشرين وأن خسائر الجنود والبدو المرافقين لهم بلغت عشرين رجلاً وامرأة، وقد عزز الجيش البريطاني في فلسطين قوة الشرق العربي بأربع دبابات وستمائة جندي. وقال العارفون من الأهلين: إنه قتل من أهالي المنطقة نحو ستمائة ولم يتجاوز قتلى النجديين المائة وأربعين قتيلاً وأن قتلى بني صخر فقط ثلاثمائة قتيل. والمقصود من هذه الغزوة عمان وأميرها عبد الله بن الحسين لأن اعتداءاتهم على تجار نجد كثيرة، وعاونهم العيسي والزبن والخريشة والحديد والعجارمة والدعجة، وذكروا انه كان في جملة النجديين كثير من عرب

حرب النازلين بين الحرمين لأنهم مغاضبون لملك الحجاز فالتحقوا بالإخوان نكاية به. وذكر بعض الواقفين على مجرى السياسة أن الجنيهات الإنكليزية وجدت بكثرة في جيوب الإخوان الذين غزوا بلاد الأردن للمرة الأولى وأن حملتهم لم تتقدم نحوها إلا بعد زيارة المستر فيلبي المندوب الإنكليزي في الشرق العربي لبلاد نجد. وفي اليوم الأول من كانون الثاني 1925 1343 أعلنت الوحدة بين دولتي دمشق وحلب فقط وعينت الوزارة برئاسة السيد صبحي بركات الخالدي على أن لا تسأل وزارته أمام مجلس النواب شأن الوزارات في العالم، ولا تسأل الوزارة عما تفعل، وتستمد قوتها من المفوضية العليا، وللمستشارين القول الفصل في كل الأمور، وهكذا الحال في نظار لبنان الكبير فهم غير مسؤولين إلا عند المفوضية العليا. وأعلن الجنرال سراي المفوض السامي يوم وصوله إلى بيروت إخراج الحاكم الفرنسي الذي كان يتولى لبنان الكبير وأن يباشر المجلس النيابي اللبناني بانتخاب حاكم وطني، ولما اختلفت آراء النواب حل المجلس وبوشر بانتخاب جديد، وأخذ التعصب الديني بعض نواب اللبنانيين فآثروا حكم غريب على واحد من قومهم مهما كانت نحلته، أما حاكم العلويين فقد ظل إفرنسياً، ومن المظاهر الغريبة أن تستحكم اللغة الفرنسية في مجلس لبنان الكبير استحكام اللغة التركية من مجلس وزراء سورية، وأن بعض أولئك النواب والوزراء التفرنس والتترك من أمارات الظرف والفضل، في ديار أرضها وسماؤها عربيتان وهي مستقلة بالإجماع، واللغة أول أداة في أدوات الاستقلال، وحجر الزاوية في بنيانه. وفي كانون الثاني 1925 رجب 1343 رأى بعض المفكرين في حلب وحماة وحمص ودمشق أن الوقت ملائم لعرض مطالب الشاميين على المفوض السامي الجنرال سراي، فتألفت وفود من الأعيان والمفكرين من المدن الأربع وقصدت إلى بيروت وعرضت مطالب الأمة على المفوض السامي، وخلاصتها أن الحلفاء اعترفوا باستقلال الشام في 7 تشرين الثاني 1918 وأنه يحق لها تقرير

مصيرها وأنه فككت أجزاؤها وأنشئت فيها دويلات صغيرة قضي بها على وحدة البلاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وأن القائمين بالأمر أثاروا النعرتين الطائفية والدينية، ومنحوا المدارس الأجنبية ذات البعثات الدينية المساعدات المالية والمعنوية، ليفصموا عرى الرابطتين الوطنية والقومية وليتمكنوا بهذا التفريق من القضاء على استقلال القطر ووحدته، وأن سورية بحدودها الطبيعية وطن واحد بلغتها وقوميتها وعاداتها وأخلاقها وتاريخها فلا مسوغ لتجزئتها وجعلها دويلات عديدة، وأن أسلاف المفوض السامي اتخذوا اختلاف المذاهب والمساومات السياسية معاول لتقويض بناء الوحد السورية، فسلخوا القسم الشمالي منها وأعادوه إلى الحكومة التي أُ نقذ منها في بادئ الأمر، ولم تزل طامعة بالاستيلاء على القسم آخر فحرموا هذا الوطن حدوده الطبيعية وخطوط دفاعه، والحدود إذا لم تكن عسكرية طبيعية لا سبيل إلى ضمان استقلالها. وأن المنتدبين السابقين لم يكتفوا بأن يحفظوا للبنان الصغير امتيازاته، بل عمدوا إلى ضم أرجاء أخرى من الداخل والساحل مما يزيد عن مساحته الأصلية مرتين، ويزيد على عدد سكانه مرة وجعلوه في صورة دولة لبنانية مستقلة، كما سلخوا جبل الدروز وجبال العلويين وجعلوها دولتين. وطلبوا تأليف لجنة تأسيسية وإعطاء حق التشريع للأمة والحرية الشخصية وحرية الاجتماع والجمعيات والصحافة وإلغاء القرارات الاستثنائية والمحاكم الأجنبية وأن تدار الأوقاف الإسلامية والخط الحجازي الذي هو وقف إسلامي بمعرفة الحكومات الوطنية، وأن تمنع الهجرة الأرمنية إلى الشام لأن عدد المهاجرين إلى هذا القطر بلغ مائة وثمانين ألفاً زاحموا الوطنيين في الأعمال الصناعية والتجارية مزاحمة لا تحتمل إلى غير ذلك من المطالب كالنقد السوري ورفع الحواجز الجمركية وذلك بعقد اتفاقات مع الحكومات المجاورة كما عقد بين سورية وفلسطين للتبادل التجاري، وطلبوا إلغاء الديون العمومية وإبطال الضمانات الكيلومترية التي تعطي لبعض الخطوط الحديدية لاستغنائها بما تربح عن هذه المعاونة، وأن توحد النظم الإدارية، ويلغى قانون العشائر ويجعل حد لتدخل المستشارين في صغار الأمور وكبارها، وتسند الوظائف إلى أهل الكفاية من بني الوطن الأصليين ويقتصر على استخدام الوطنيين في جميع الوظائف المحلية.

صاحب الوعد للصهيونيين ومطالب الفلسطينيين

وقد وعد المفوض السامي وفود المدن أربع بدرس مطالبهم وإنفاذ ما في وسعه ووسع حكومته إنفاذه، وأشار إلى أن الواجب عليهم أن ينظموا صفوفهم ويؤلفوا أحزاباً تسير بعقل وروية لا يتخذها بعض أرباب الأغراض سلماً لبلوغ غاياتهم. وقد عاد الجنرال سراي في خطاب له ألقاه في حمص أيار 1925 خاطب به الأعيان بقوله: اعملوا على توحيد كلمتكم قبل اهتمامكم بالاستقلال فإن الاستقلال إنما يحصل عليه من اتحدت آراؤهم، إلى هذا أوجه نظركم، اتحدوا أولاً فإن الباني إنما يباشر وضع الأساس قبل أن يهتم بالتوريق والدهان اه. وبالفعل تأسس في سورية حزبان حزب من جميع طبقات الشعب واسمه حزب الشعب وآخر يناصر الحكومة الحاضرة واسمه حزب الوحدة كما تألفت في لبنان أحزاب. صاحب الوعد للصهيونيين ومطالب الفلسطينيين والسوريين وكوائن: وفي يوم 25 آذار 1925 1 رمضان 1343 جاء القدس لورد بلفور الوزير البريطاني صاحب الوعد للصهيونيين يجعل فلسطين وطناً قومياً لليهود الذي صرح به في تشرين الثاني 1917 باسم بريطانيا العظمى، فاحتج المسلمون والنصارى فيها على مجيئه وأضربوا عن الأعمال إضراباً تاماً، وكان مجيئه للاحتفال بافتتاح الجامعة العبرية في بيت المقدس، وقد أرسلت برقيات الاحتجاج من أنحاء القطر على من فصل بعمله فلسطين عن أمها الشام، وجاء مساء يوم 8 نيسان إلى دمشق فأظهر الدمشقيون نفرتهم منه ومن وعده، وأغلقت المدينة صباح الغد محتجة على وعده وبعد الظهر تجمع جمهور لا يقل عن خمسة آلاف في ساحة الشهداء أراد الدرك منعهم من التجمع بالتهديد والضرب فرشقه بعض الفتيان بالحجارة، فاضطر الدرك إلى استعمال السلاح في الهواء فجرح عشرون شخصاً هلك منهم اثنان واضطرت الحكومة اللورد أن يخرج إلى بيروت فأركب البحر والبيروتيون يحتجون عليه كاحتجاج الدمشقيين، ولم يستطع أن يرى اللورد من دمشق غير جدران الفندق، ومن بيروت إلا الطريق إلى السفينة فقط. وفي 28 أيار 1925 أنذرت بريطانيا العظمى الملك حسين بن علي أن يغادر العقبة خلال سبعة أسابيع - وكان جاءها بعد أن سقط الحجاز في أيدي جيش الملك عبد العزيز بن سعود ملك نجد - لتستلمها حكومة شرق الأردن

وتضمها مع معان إلى الأصقاع التي تديرها لأنها ضمن الانتداب البريطاني، ولتحافظ عليها من الوهابيين الذين فتحوا مكة والطائف وانتزعوهما من يد الملك حسين، فأجاب جلالته إنه لا يسعه بالنظر للعهود المقطوعة له من الحلفاء ولا سيما بريطانيا أن يتنازل عن هاتين البلدتين الحجازيتين العقبة ومعان وأنه لا يعترف بالانتدابات المخالفة لتلك العهود، وأبان ما سينجم عن عملها هذا الذي سيدعو إلى هياج عظيم في العالم العربي. وبعد أيام أوعزت إليه إنكلترا أن يغادر القطر فحملته إلى قبرص ليقيم فيها. وفي حزيران قتل الأشقياء قائدين فرنسيين في طريق دير الزور كانا يسيران في سيارة فبعثت السلطة طيارات أمطرت عشائر البواسرية التي فقد الضابطان في أرضها وابلاً من القذائف، فهلك منهم أكثر من ثلاثين نفساً وتلف كثير من الخيل والإبل والغنم، ثم حكمت على خمسة منهم بالقتل. وفيه جاء وفد من أعيان دروز جبل حوران وراجعوا السلطات الفرنسية يطلبون انضمامهم كما كانوا سابقاً إلى حكومة دمشق على أن يكون لهم بعض الامتيازات المحلية إذ ثبتت لهم مضرة الانفصال. كما أن وفداً من اللاذقية قابل بعض رجال تلك السلطة وأبانوا له الأضرار التي نشأت من فصل جبال النصيرية عن أمها سورية وطلبوا إرجاعها إلى حكمها. وفي شهر نيسان 1925 جاء فلسطين وزير المستعمرات البريطانية فقابلته وفود الأمة يتقدمها وفد اللجنة التنفيذية ووفد الحزب الوطني، وتكلم غير واحد من رجال الوفد معرباً عن ظلامة الفلسطينيين وضرر الوطن العربي، فرد الوزير على أقوالهم ومما قاله: إنه رأى فلسطين أسعد من الأربعين مستعمرة التي يهتم بشؤونها، وقدمت له الوفود تقريراً هذا ملخصه: 1 - قدم عرب فلسطين تقارير كثيرة وأرسلوا وفدهم إلى لندن مرتين وفي كل ما قدموه بينوا التناقض الغريب الذي يظهر في خطة الحكومة الإنكليزية في ديارهم على الرغم من أ - نص عهد جمعية الأمم. ب - العهود المقطوعة للملك حسين. ج - البلاغ المنشور من القائد اللنبي قائد الحملة الفلسطينية. د - بعض مواد صك الانتداب. هـ البيانات الرسمية والشبه الرسمية الصادرة من الوزارات. 2 - جرت السياسة التي تسير عليها الحكومة في فلسطين إلى حالات

اقتصادية صعبة لا يمكن الاستمرار على تحملها، ودوام الحال على هذا الشكل دون أن يجد العرب آذاناً صاغية عادلة يؤدي حتماً إلى سقوط القطر في هوة أشد عمقاً من الحالة الحاضرة إذ أنهم. أ - يقضي عليهم أداء ضرائب باهظة للإنفاق على ترتيبات واسعة لا يتحملها البلد لتنفيذ السياسة الصهيونية التي لا يمكن أن تتفق مع مصالحهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية. ب - إنهم حرموا إدارة بلدهم وتمتعهم باستقلال ذاتي على حين ليسوا أقل مستوى من سكان البلدان العربية الأخرى مثل العراق وشرق الأردن التي تتمتع بحكم ذاتي نيابي. ج - حرموا حتى مما كانوا يتمتعون به من بلديات ومجالس إدارة ومجالس عمومية منتخبة ومن إرسال أعضاء إلى البرلمان في العهد التركي. د - فتحت أرضهم لهجرة يهودية كبيرة تحتوي على كثير من العناصر غير الصالحة لحياة البلاد وتحملها اقتصادياً واجتماعاً. هـ قد جعل للعناصر اليهودية أرجحية ظاهرة في الإدارة الرئيسية وفي تسيير المصالح اليهودية القومية والاجتماعية، هذا وهم أقلية ضئيلة عدداً ومصلحة. 3 - ما أراد العرب في فلسطين قط، وهم يطلبون حقهم في الحكم التشريعي، أن يغمطوا حقوق اليهود الذين يساكنونهم، ولكنهم يريدون أن يتمتعوا بحقهم باعتبار أنهم أكثرية ساحقة في العدد والمصلحة، وباعتبار أنهم عدوا بوعود صريحة، وباعتبار أن عهد جمعية الأمم يخولهم ذلك مع حفظ حق اليهود الوطنيين في الاشتراك معهم في الإدارة والتشريع بحسب نسبتهم. 4 - يعتقد العرب أنهم لن يطمئنوا في ديارهم ولن يروا في الحكومة البريطانية النية الحسنة التي طالما أعلنت أنها تنطوي عليها إذا استمرت في طرز الإدارة والسياسة التي سارت عليها في فلسطين إلى الآن مع أنهم يريدون دائماً أن يكونوا على وفاق تام معها في مصالحها النزيهة، ويعتقدون أنه قد آن للحكومة البريطانية أن تقلع عن تجربتها العقيمة وأن تعيد نظرها بصورة جدية في هذه السياسة التي جعلت القطر وأهله في حالة اضطراب روحي وانحطاط اقتصادي وقلق. 5 - وها نحن أولاء نقدم لها مطالب الأمة بصورة صريحة واضحة رجاء أن تبدل علاقة الانتداب السيئة.

تاريخ الصهيونية وعملها الأخير:

1 - تأسيس حكومة وطنية مسؤولة أمام مجلس نيابي منتخب من الأهالي الفلسطينيين بحسب التمثيل النسبي. 2 - تسن جمعية وطنية منتخبة القانون الأساسي الذي يضمن بقاء الأماكن المقدسة بيد أهلها القدماء على أن لا يغير شيء فيها وتحفظ حقوق الأجانب ومصالح الدولة المساعدة المتفقة مع مصالح البلد وتضمن مشاركة اليهود الوطنيين بالحكم والتشريع بنسبة عددهم ويراعى في وضعهما الحالة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية ضمانة التعهدات الدولية التي تحملتها الدولة المساعدة وهي التعهدات الصحيحة وحفظ الآثار وحرية الأديان ونحوها على النمط الوارد في المعاهدة المعقودة بين الحكومة الإنكليزية والعراق اه. تاريخ الصهيونية وعملها الأخير: ولما كانت الصهيونية من أهم المسائل التي تشغل بال الشاميين عامة وإخوانهم أهل فلسطين خاصة وكان لها مساس بسياسة هذا القطر وتاريخه عهدنا إلى أحد الواقفين على أسرارها فكتب إلينا ما ملخصه: اليهود قبيلة سامية نزحت من العراق إلى فلسطين وسمنت فيها زمناً، ثم هاجرت إلى مصر فمكثت هناك مدة طويلة وانقلبت إليها، وفتحتها فتحاً عسكرياً وتسلطت على بعض شعوبها. وقد أسسوا شبه حكومة ثم ما لبثوا أن دب فيهم الفساد، فانشطروا إلى قسمين شمالي وجنوبي، وأمسوا عرضة لغارات حكومات مصر وآشور وبابل لوقوع أرضهم في الطريق الوحيد بين الدول المتزاحمة، ثم تغلبت تلك الدول عليهم فسبوهم وأخرجوهم من فلسطين، فبدأت نفوسهم تحن لإعادة مملكتهم القديمة وإحياء قوميتهم، وقد كبر هذا الرجاء في نفوسهم، فحاولوا مرات استردادها من أيدي الرومانيين ففشلوا، وخرب تيطس هيكلهم وشتتهم في أطراف الأرض، وسرعان ما ثاروا بقيادة باركوخبا ومساعدة الحاخام عقيبا فأخفقوا، وعجزوا عن الخلاص من حكم الرومانيين الثقيل. ورغم هذه الصدمات أصبحت فكرة الرجوع إلى فلسطين عقيدة دينية عندهم، برزت في آدابهم الشعرية والنثرية، وأظهروا من الحنين إلى فلسطين

والتلهف على زوال مجدهم، ما خلد ذكرهم في تاريخ الأدب. وقد زعم كثيرون أن المسيح أتاهم مبشراً بالرجوع إلى أرض الميعاد فلم ينجحوا لأن البيئة التي عاش فيها اليهود قروناً حالت دون بلوغهم أمنيتهم وحرمتهم الشعور بالروح القومي، لو لم تتوالى عليهم عواصف الاضطهادات في أوربا التي أيقظتهم ودفعتهم إلى إظهار الصهيونية الحديثة التي أوجدها عاملان الأول الشعور بالقومية، الثاني مضادة اليهود العامة. والقصد من الصهيونية عزل الشعب اليهودي عن الشعوب الأخرى، وجعل فلسطين وطناً خاصاً بهم، يقوم على القومية ويعترف لهم به اعترافاً دولياً مضموناً ضماناً شرعياً. ظهرت الصهيونية بمظهرها الحقيقي سنة 1852م حين حضّ هولنكسورث الإنكليزي على إقامة حكومة يهودية في فلسطين لحماية طريق الهند البرية. وسافر السر موسى منتفيوري إلى فلسطين وطلب من محمد علي باشا المصري إسكان اليهود في القطر فرفض طلبه. وقام كثيرون من الأدباء والسياسيين واقترحوا اقتراحات مختلفة منها جعل فلسطين حكومة يهودية، أو عمل خط حديدي في العراق وإسكان اليهود على جانبيه أو إيجاد مأوى لهم في شرق الأردن. وقد حاكم كاليشر في كتابه مطلب صهيون حول استعمار فلسطين واستملاك الأرض وإنشاء مدرسة زراعية وتأليف حامية إسرائيلية عسكرية ومزج الفكرة القومية بالروح الديني وصرح أن الخلاص الذي نوه به الأنبياء يأتي متتابعاً بمساعدة اليهود أنفسهم. وسافر مراراً لترويج هذه الفكرة، وألف الجمعية الأولى الاستعمارية في فرنكفورت سنة 1861 وحمل بعض الحاخاميين على الاشتراك معه وأعلن بعضهم أن الاستعمار في فلسطين من الأمور المقدسة فألهبت تقوى اليهود هذه الجملة البراقة، وألفوا بعض جمعيات استعمارية في الممالك الأوربية وأُسست المستعمرة الصهيونية الأولى عيون قارة في فلسطين سنة 1874. إلا أن العمل الجدي شرع فيه سنة 1897 عند عقد المؤتمر الأول الذي اشترك فيه ممثلو خمسين جمعية صهيونية وبرزت الروح الاستعمارية بشكل جلي فقاومتها الحكومة العثمانية بوضع العراقيل أمام هجرتهم وقيدتهم بقيود

جعلت هجرة اليهود إلى فلسطين في حكم المستحيل تقريباً. وكلما كان ينتعش الروح اليهودي القومي يشتد كره الأمم لهم، وهم لا يعبئون بذلك زاعمين أنها موجة ستضمحل أمام الرقي العلمي المنتشر هناك، فانتهت عاقبة هذا الرجاء بالفشل وتعرضوا للاضطهاد في الأقطار. ألف الزعيم الصهيوني الكبير تيودور هرتسل كتابه الوطني اليهودي سنة 1895. وقد جاء فيه أن مقاومة اليهود في نمو مستمر ومقاومتهم خطر على العالم بأسره، لأن اليهود شعب لا يمتزج بغيره والاختلاط الحقيقي يكون بالزواج المتبادل، واقترح فيه أن يعطي لهم جزء من الأرض في فلسطين أو الأرجنتين ليجتمعوا بها ويقيموا لهم وطناً خاصاً بهم، وإذا سمح لهم بفلسطين فإنهم يرون من الواجب أن تكون محلات العبادة المختصة بالطوائف الأخرى ملكاً ممتازاً لهم. وأشار بتأليف جمعية تشرف على الأعمال العلمية والسياسية وتأسيس شركة يهودية كالشركات الإنكليزية والفرنساوية الصناعية الاستعمارية العظمى يكون رأس مالها 50 مليون ليرة إنكليزية وتتخذ لها مركزاً رئيسياً في لندن، ويعهد لهذه الشركة بالأعمال التي تهيئها اللجنة التنفيذية اليهودية وتسعى الطائفة الجديدة لترويج المهاجرة بطريقة منتظمة، ولم يعبأ هرتسل بقوانين الكنيسة فطلب فصلها عن السياسة. ولما زار هرتسل بريطانيا العظمى لم يقبل اليهود على دعوته كما أقبل أهالي أوربا الذين ناصروه بالمال والرجال. وأول من أعتقد بصحة مشروع الوطن اليهودي جمعية زيون في النمسا التي طلبت تأليف جمعية يهودية عامة، واقترحت تأسيسها في لندن، ثم عرفوا هرتسل أن جمعيتهم قبلت دعوته. وظهر أن الذين استهوت قلوبهم فكرة تأليف الجنسية اليهودية هو الذين اعتبروا هرتسل زعيماً ومخلصا لهم. ولكن المتدينين قاوموه عندما عرفوا أن بعض زعماء دعوته لا دينيون. وتصدى له رؤساء الحاخامين في روسيا وألمانيا والنمسا وإنكلترا وقالوا: إن الصهيونية حركة بعيدة عن اليهودية وإنها مخالفة لأوامر الله تعالى. وقال الكاتب الشهير لوسيان وولف: ن الصهيونية حماقة، وقال غايكر: إن الصهيونية تؤدي إلى حرماننا حقوقنا المدنية في الممالك الخارجية. أما بعض نصارى أوربا فقد أظهروا عطفاً على الصهيونية وطفقت بعض جرائدهم تحض اليهود على

استعمار فلسطين إتماماً لنبوات التوراة، فصادفت دعوتهم رواجاً وتكاثر دافعو الشاقل الذين انضموا إلى الصهيونية على مقاومة أنصار الدين لها وقد عقدت بين سنة 1897 - 1911 عشرة مؤتمرات، وبعقد المؤتمرات قصد هرتسل إحياء الشعور القومي في اليهود ونشر الدعاية الصهيونية، وقد نجح في فكرته هذه ووفق لعقد المؤتمر الأول في مدينة بازل سويسرا سنة 1897 فاشترك فيه أعضاء كثيرون بعضهم يمثل جماعات وبعضهم جاءوا عن أنفسهم وقد قرروا ما يلي: 1 تعليم اللغة العبرية ونشر آدابها وإنشاء مدرسة كبرى في يافا أو القدس. 2 إنشاء مدارس يهودية في الأحياء الإسرائيلية لتعليم اللغة العبرية وتأليف لجنة تعتني بالآداب العبرية. 3 إنشاء صندوق توفير يهودي وقد وضعت قاعدة غرض الصهيونية وهي إيجاد وطن للشعب اليهودي في فلسطين مضموناً ضماناً شرعياً دولياً وتتخذ الوسائل للوصول إلى هذا الغرض. 1 ترقية حال الزراع اليهود والتجار في فلسطين. 2 تحالف اليهود تحالفاً محلياً أو عمومياً حسب قوانين مواطنهم المختلفة. 3 تقوية الشعور اليهودي. 4 بذل المساعي الأدبية للحصول على المنح الضرورية لضمان الغرض الصهيوني وقد أسست فروع عديدة للقيام بهذه المشاريع وجمعت 400000 ليرة إنكليزية. وافتتح المؤتمر الثاني في مدينة بازل أيضاً سنة 1898 وتألف من أعضاء الجمعية الصهيونية العاملة وبعض الزعماء من الأقطار الأخرى واشترك فيه عدد من حاخامي روسيا المعترف بهم رسمياً نواباً عن اليهود المتدينين، وورد عليه أربعون برقية من الحاخامين المتعصبين يعلنون بها اعتقادهم بالصهيونية، فانضم إلى الجمعية الصهيونية نفر كبير من اليهود، وقد أسس هذا المؤتمر جمعية استعمارية غرضها توسيع نطاق الاستعمار بشرط اكتساب رضى

الحكومة التركية وانعقد المؤتمر الثالث في بازل أيضاً سنة 1899 وصرح فيه هرتسل بأن مساعيه كانت متجهة للحصول على امتياز من السلطان عبد الحميد ولكنه لم يوفق. ثم تليت تقارير اللجنة العاملة فظهر منها أن معدل زيادة الجمعيات الصهيونية في روسية 30 بالمائة وفي الممالك الأخرى 25 بالمائة وبلغ عدد دافعي الشاقل أكثر من 100 ألف نفس أي أن 250 ألفاً من اليهود تصهينوا في ذلك الوقت. وانعقد المؤتمر الرابع في كوينس هال في لندن سنة 1900 وقصدوا بانتخاب هذا المكان التأثير في الرأي العام الإنكليزي لأن بعض الإنكليز ارتاحوا إلى الدعوة الصهيونية وناصروها لما لها من الارتباط بالكتاب المقدس. وبلغ عدد الجمعيات الصهيونية في روسيا 1043 جمعية وفي إنكلترا 38 وفي الولايات المتحدة 135 وفي بلغاريا 42 جمعية. أما آمال الصهيونيين في فلسطين فقد كاد يقضي عليها لأن الباب العالي أصدر أوامره في شهر تشرين الثاني سنة 1900 بمنع مهاجري اليهود من الإقامة في فلسطين أكثر من ثلاثة أشهر، وذلك بما ثبت له من انتعاش الحركة الصهيونية وكونها آخذة في التهام فلسطين واستملاك بقاعها والاستيلاء على واردها وصادرها فاحتجت إيطاليا على هذه الأوامر بأنها مجحفة وأنها لا تفرق بين رعاياها النصارى واليهود. وكذلك عرضت هذه المسألة على وزير الولايات المتحدة فأصدر أمره في 28 شباط سنة 1901 إلى سفيرها في الأستانة ليحتج باسم حكومتها فرفض الأتراك كل تدخل بهذا الشأن. ثم توجه هرتسل إلى الأستانة وقابل السلطان عبد الحميد في أيار سنة 1901 مرتين وأنعم عليه السلطان بالوسام المجيدي الأول وعاد إلى لندن وقابل جمعية الميكابيين في 11 حزيران سنة 1901 وأعرب لهم عن ثقته في نجاح مهمته لدى السلطان. وانعقد المؤتمر الخامس في كانون الأول سنة 1901 وقبلت فيه القواعد الرئيسة وصودق عليها وهي: 1 عقد مؤتمر عام مرة كل سنتين. 2 يعقد أثناء هذه الفترات اجتماعات يحضرها أعضاء الجمعية العاملة الكبرى وزعماء البلدان المختلفة. 3 تأسيس هيئة إدارية في الأمكنة التي يبلغ عدد دافعي الشاقل فيها خمسة آلاف نفس إذا هم طلبوا ذلك. وتحت أسباب فتح المصرف وإعطاء إعانة لدار الكتب اليهودية في القدس وتأليف دائرة معارف عبرية

وتأليف إدارة عامة تشتغل بشؤون الأمة اليهودية. وانعقدت جلسة طويلة بشأن التهذيب انتهت بالقرار الآتي: المؤتمر يحبذ التمسك بالروحيات وتعليم الطائفة اليهودية على قواعد عنصرية دينية وعلى كل صهيوني أن يعمل لهذه الغاية. ثم انفض المؤتمر وانصرف الزعماء لمتابعة غايتهم فذهب هرتسل إلى القدس على رأس بعثة صهيونية فقابلوا إمبراطور ألمانيا غليوم الثاني أثناء زيارته القدس وفاوضوه بمهمتهم فأجابهم: إن كل المساعي لترقية زراعة فلسطين والتي تعود بالمنفعة على الدولة التركية وتحترم سيادة السلطان توافق هواه ورضاه. فامتعض هرتسل وذهب إلى الأستانة وقابل السلطان عبد الحميد وكانت خطته ترمي إلى التفاهم على أساس تنظيم المالية العثمانية وأن يقنع جلالته بإخلاص الصهيونيين لأنهم يعملون علانية لا في الخفاء، وأن اليهود عنصر خاضع للقوانين لا يخالفون رغائب القوة الحاكمة. وطلب إليه أن يمنح اليهود سلطة واسعة للحكم البلدي الذاتي ويدفعون مقابل هذا الامتياز مبلغاً وافراً ويؤدون 300000 غرش مرتباً سنوياً مثل جزيرة ساموس ذات الاستقلال الإداري بجندها الخاص ورايتها الخاصة ومجلس نوابها الخاص أي حكومة ذات استقلال داخلي. ففشل في سياسته ومفاوضته وظل اليهود يباشرون بعض الأعمال الاقتصادية والزراعية في فلسطين في شيء من التقية ولتكتم. ولما أخفق سعي هرتسل مع الأتراك وجه نظره إلى الحكومة الإنكليزية آملاً أن يحصل على مقاطعة بجوار الأرض المقدسة يأوي إليها المهاجرون أو المضطهدون موقتاً فاستحسن طلبه وباشر مفاوضة لورد كرومر فعرض عليه استعمار شبه جزيرة سينا وأرسل الفريقان بعثة سنة 1903 لترتاد الأرض. وقد كاد هذا المشروع يتم لولا قلة المياه ورفض حكومة مصر إعطاء شيء من ماء النيل. ولما حبط هذا المشروع عرض عليهم وزير خارجية إنكلترا شرقي إفريقية على أثر حرب البوير واقترح هرتسل الدخول في المفاوضة بشرط إحداث وطن يهودي في شرقي إفريقية. وعقد المؤتمر السادس في بازل في آب سنة 1903 وبحثوا في اتخاذ إفريقية وطناً قومياً، فقوبل هذا الاقتراح بالرفض وقد قال هرتسل: إن شرقي إفريقية ليست صهيون ولا يمكن أن تكون كذلك وقال مكس نوردو: لو اتخذنا

شرقي إفريقية وطناً لتعذر علينا إلا أن نكون في دار عزلة. وفي خلال ذلك انعقد مؤتمر صهيوني في زمارين فلسطين برياسة اوسيشكن شهده خمسون عضواً وستون معلماً وكان هذا المؤتمر مصغر مؤتمر بازل فأسسوا جمعيات إدارية لتهيمن على المستعمرات وتراقب شؤونها. وفي 3 تموز توفي هرتسل بعد أن أعلى شأن الغاية الصهيونية وثبتها ووحد كلمة العملين على اختلاف مذاهبهم، وحوّل المسألة اليهودية من خيرية زراعية إلى اقتصادية سياسية. وفي 27 تموز 1905 انعقد المؤتمر السابع وانتخب مكس نوردو رئيساً له وكان تقرير اللجنة الفلسطينية خير التقارير التي قدمت لهذا المؤتمر، لأنه تضمن خبر انتشار جريدتهم ونشاط حركتهم، وقد أعيد البحث في استعمار شرقي إفريقية، ولكنه قرر أخيراً، بأن المؤتمر الصهيوني السابع لا يتحول عن قاعدة مؤتمر بازل الرئيسة وهي إعداد وطن لليهود في فلسطين مؤمناً تأميناً شرعياً ومعترفاً به اعترافاً علنياً وأنه يرفض رفضاً باتاً كل استعمار خارج فلسطين. وقد بحث أيضاً في عمل الجمعية الصهيونية في مستقبل فلسطين وتقرر بشأنها ما يلي: تطبيقاً للحركة الإدارية السياسية ولأجل تقويتها يجب أن تقوم على الأسس العلمية مقاصد الروح الصهيوني بالقواعد الآتية: 1 التنقيب عن الآثار. 2 ترويج الزراعة والصناعة على الأصول الديمقراطية الممكنة. 3 تحسين الحالة الاقتصادية والتهذيبية وتنظيم يهود فلسطين بإحداث نهضة فكرية جديدة. 4 الحصول على الامتيازات كمشتري الأرض المملوكة والمتروكة والمزارع وغير ذلك. وفي سنة 1905 أنشئت جمعية بصليل لترقية الحرف والصناعة في القدس. وفي سنة 1907 عقد المؤتمر الثامن في لاهاي وأسست مدرسة الجمناز اليهودية في يافا. وأسس مصرف داود ولفسون لبناء دور للعمال في فلسطين. وفي سنة 1908 أسست اللجنة التنفيذية للجمعية الصهيونية في فلسطين واتخذت يافا مركزاً لها. وفي سنة 1909 عقد المؤتمر التاسع في مدينة همبورغ وتقرر إنشاء مستعمرة يهودية على قواعد الاشتراك والتضامن. وفي سنة 1911 أنشئت الجمعية الاستعمارية لأرض إسرائيل فلسطين

الأوضاع الصهيونية:

وعقد المؤتمر العاشر في بازل. وكانت بين سنة 1905 - 1911 الفكرة اليهودية الوطنية جامدة وشعر قوادهم أن استرداد الأرض المقدسة شيء بعيد المنال حتى إن الحصول على قطعة من الأرض أمر عسير. وفي سنة 1913 عقد المؤتمر الحادي عشر وكانت أبحاثه جامدة وقد توالى على الحركة الصهيونية في هذه الفترة الخذلان، ولولا الحرب لعدلوا عن غايتهم القومية وأرجئوا البحث في فلسطين إلى حين. والحقيقة أن دور القهقري في تاريخ الحركة الصهيونية بدأ بوفاة هرتسل. الأوضاع الصهيونية: 1 المصرف اليهودي الاستعماري: ليست مقاصد هذا المصرف مالية فقط بل سياسية أيضاً وبما أنه اكتسب حقوق الشركات ذات الامتياز فقد اتخذ أداة لهيئة الصهيونية العملية، وغايته العمل في فلسطين أو سورية أو في بقعة أخرى أياً كانت إذا اقتضت مصلحة اليهود ذلك. ولكن تعدل هذا النص وقيد بهذه الجملة العمل في فلسطين وسورية وسائر أنحاء تركيا آسيا فقط وفتح فرع لهذا المصرف. وأسست سنة 1905 فروع مالية لشركة انجلوا فلسطين في القدس ويافا وحيفا والناصرة لنفس هذه الغاية. 2 البنك المالي اليهودي: وغايته توفير رأس مال دائم يجعل ملكاً للطائفة اليهودية ليستخدم في أغراضها الخصوصية مثل مشترى الأرض في فلسطين ويشترط أن لا يمس رأس ماله حتى يبلغ مليون شلن ويجب بقاء نصف هذه القيمة في المصرف. وتجمع أمواله من استعمال طوابع البريد الإضافية التي تلصق على رسائل الصهيونيين ومن الدعوات والهبات وما شابه ذلك. العمل التهذيبي: كان توحيد التعليم اليهودي من أهم أغراض الصهيونية الرئيسة لذلك شرعوا في إقامة غرف قراءة ومنتديات للخطب وللدروس الليلية في أماكن مختلفة وفي سنة 1903 أنشئوا مدرسة البنات القومية في يافا، وقد نظم سنة 1901 حاييم ويزمان منهاجاً تاماً لجامعة عبرية وفتح لها فرع للآداب في القدس وعملوا لها بضعة احتفالات ولم تزل في مهدها. جمعيات الطلبة: لما انتشرت الفكرة الصهيونية تغلغلت في نفوس الطلبة

اليهود في فرنسا وروسيا وغليسيا ورومانيا وتواصوا بالمحافظة على الشعور اليهودي وتعزيز الآداب العبرية وكان شعارهم إلى الأمام. ووجهوا اهتمامهم لاستعمار فلسطين وتألفت بعد ذلك جمعيات عديدة من طلبة المكاتب وانتقوا أسماء وطنية تشير إلى نهضاتهم السابقة وفتح لها فروع في فلسطين. الجمعيات الرياضية: دعيت رياضية ولكن غايتها في الحقيقة عسكرية لا سيما وأن أسماءها ترمي إلى هذا الغرض، وقد امتدت بسرعة إلى الأستانة وبرلين وصوفيا وبخارى وهمبورغ. وانتشرت فروعها في فلسطين بأسماء مختلفة وظهرت بالتمرين على حمل السلاح والحركات العسكرية وتنظيم الجند. الصحافة: للصحافة اليهودية أثر كبير في نشر الدعوة الصهيونية، فلهم صحف عديدة في روسيا والنمسا وألمانيا وإنكلترا وإيطاليا وغيرها من الممالك، وهي تكتب المقالات الطويلة انتصاراً لقضيتهم ودفاعاً عن صهيونيتهم وقد كان لهم بضع صحف في فلسطين لا قيمة لها. انتشار الصهيونية: راجت الفكرة الصهيونية عند كثير من اليهود فانضم إليها أشخاص ما عرفوا شيئاً عن الغاية الصهيونية، وتبرع فريق منهم دون أن يكلفوا إلى ذلك حتى إنك لا تجد فئة من اليهود إلا وبينهم صهيونيون، وغالوا بإظهار دعوتهم وجاهروا برفع رايتهم الزرقاء البيضاء في احتفالاتهم فاحتج العرب على ذلك على غير طائل، ولا نزال نرى اللونين الأزرق والأبيض وفي نصفهما المثلث المتقاطع ترس داود يرفرفان أيام أعيادهم على صدورهم أو على مرتفعات معاهدهم أو على طرفهم وسلعهم. الأحزاب الصهيونية: بذل اليهود جهوداً كبيرة لاستعمار فلسطين وحصل تباين في آرائهم فانفصل بضع فرق عن جامعتهم وبرزت في المؤتمرات وكثيراً ما كانت المنافسة عنيفة بين هذه الفرق التي سنذكرها هنا: 1ً فرقة الحكومة: وهي أتباع هرتسل ومنهاجهم ما صرح به رئيس المؤتمر في جلساته العديدة من وجوب إنشاء وطن لليهود في فلسطين والأقاليم المجاورة لها يضمن ضماناً شرعياً مع تمسكهم بقرار مؤتمر بازل. 2ً فرقة الوسط المزراحية: وهم عصبة اليهود المتدينين الذين ألفوا فرقتهم أثناء انعقاد المؤتمر الخامس وهي فرع من حزب المتطرفين وقد تزايد أعضاء هذا الحزب وعقدوا مؤتمراً خاصاً سنة 1904

الصهيونية في الحرب:

وانتشروا في إنكلترا وأميركا وروسيا وألمانيا. وكانوا يظاهرون هرتسل في جميع المناقشات يرمون إلى أن يكونوا هيئة صهيونية أرثوذكسية أمينة للتوراة والتقاليد في كلما يتعلق بالحياة اليهودية. 3ً فعال زيون الحزب الديمقراطي: هو حزب اليسار الذي يوجد بين صفوفه بعض مشاهير الاشتراكيين وعددهم قليل، ولكنهم برهنوا على اقتدار وحذق وتغلبوا عل حزب مندلستون في المؤتمر، وكان مركزهم في النمسا وسويسرا، ويوجد فرقة متطرفة اسمها فرقة العملة الاشتراكية الصهيونية ويظن أن هذه الفرقة تخدم غرضها الاشتراكي أكثر من عملها الصهيوني. 4ً الزيون زيونست: توجد فرقة بهذا الاسم في الجمعية العمومية نشأت على أثر الناقشات التي دارت في المؤتمر السادس، وزعيم هذه الفرقة اوسيشكن واضع أصول الفرقة الجديدة الذي صرح أن سياسة هرتسل فشلت، والحركة الصهيونية تحتاج إلى العمل السريع في فلسطين بدون انتظار منحة أو امتياز، ويجب شراء الأرض حالاً بقسم من مال المصرف القومي. 5ً التريتوياليين: قوام هذه الفرقة هم الذين رغبوا في قبول استعمار شرقي إفريقية ثم عدلوا خطتهم وقرروا أن يستحصلوا على كل أرض في أي بلد بشرط أن ينالوا فيها استقلالهم الإداري. وظهرت فرق أخرى لم تنل شهرة مثل الفرق التي تقد ذكرها. ومنها فرق الصهيونيون السياسيين الذين عقدوا اجتماعاً خاصاً سنة 1905. 6ً الصهيونية السياسية الحقيقية: وهم يعتقدون أن طلب الحكم الإداري لليهود مبالغ فيه ويريدون أن يهتم الصهيونيون في الإسراع بمشروع استعمار فلسطين وجوارها، وهنالك فرق صغيرة. الصهيونية في الحرب: كانت القيادة الصهيونية العامة في برلين مؤلفة من ستة أعضاء رئيسهم واربورغ، وكان أربعة منهم في برلين وواحد في لينينغراد والآخر في أميركا الشمالية، فلما أعلنت الحرب العظمى سنة 1914 توقفت أعمال الصهيونية السياسية ولم يلبثوا أن نقلوا إدارتهم العامة إلى كوبنهاغن ونقلوا الإدارة الملية إلى هولندا وتظاهروا بالحياد التام أمام جميع الدول وتربصوا ليروا أين تكون الغنيمة لينصرفوا إليها، أما عضوهم في الولايات المتحدة فقد أخذ يجمع حوله

الصهيونيين وألف لجنة عاملة. ورغم هذه الاستعدادات السياسية فإن مركز الحركة الصهيونية لم يكن في كوبنهاغن ولا في أمستردام ولا في نيويورك بل كان في لندرا لأنها محور العالم، وفازوا بحمل بعض الدول على الاعتراف بحقوقهم التاريخية في فلسطين على ضعف الروح الصهيوني في إنكلترا. ولم تعلن تركيا الحرب في تشرين الثاني سنة 1914 حتى انتبه الرأي العام اليهودي وأيقن اليهود أن المسألة الشرقية سيعاد البحث فيها فانتعشت آمالهم يوم صرح رئيس الوزارة الإنكليزية أن جرس جنازة تركيا قد دُق لا في أوربا فقط بل في آسيا أيضاً واستبشروا بأن تأسيس دولة يهودية في فلسطين أصبح ممكناً ومعقولاً وبرز حاييم ويزمن أستاذ جامعة منشستر فقبض على قياد الحركة الصهيونية العامة، وكان هذا صهيونياً لم يشغل وظيفة مهمة في ترتيباتهم السابقة على أنه كان دائماً يميز نفسه في المؤتمرات، وكان يحض بشدة على العمل داخل فلسطين ويذكر ما يترتب على ذلك من الفوائد، ويقاوم بعنف جميع الذين كانوا يطلبون أن تقتصر الجهود الصهيونية على السياسة فقط. وهو الداعي إلى تأسيس جامعة عبرية في فلسطين وهو الذي اعتبر دخول تركيا في الحرب عهداً جديداً لفلسطين، وفرصة نادرة يجب أن يستفاد منها. وقابل رجال السياسة الإنكليزية يومئذ وفتح باباً للمفاوضات التي أدت إلى تصريح بلفور المعلوم وإلى اتفاق سان ريمو وإلى اعتراف إنكلترا بتسهيل تأسيس الوطن الثومي اليهودي. وقد كان ويزمن يعمل بنفسه دون مشورة أو مساعدة أحد غير بضعة نفر من صغار الصهيونيين، فرأى أن يدعو إلى لندن العضوين الروسيين في المؤتمر الصهيوني ليساعداه في العمل وانضم إليهم فيلسوف الصهيونية اشير كنزبرغ المعروف باحاد هعام: أحد القوم والمشهور بتعصبه لنشر العلم والتهذيب بين الصهيونيين فألفوا لجنة غير منتخبة لكنها ربما كان يعتمد عليها من أكثر الصهيونيين وحاولوا مراجعة الحكومة البريطانية وإكمال المفاوضات التي باشرها ويزمن. وفي الاتفاق السري المعقود بين فرنسا وإنكلترا سنة 1916 القاضي بأن تأخذ فرنسا شمالي فلسطين وإنكلترا ميناءي حيفا ويافا وتجعل فلسطين وما فيها من الأماكن المقدسة تحت حكم خاص للاحتفاظ بمصالح دول الحلفاء الدينية ولم تذكر المسألة الصهيونية ولم يرد ذكر ما وراء الأردن والبحر الميت وخليج

العقبة وكان من المنتظر أن تدخل هذه المناطق في الدولة العربية أو الحلف العربي الذي كان في النية إيجاده بموجب معاهدة سرية عقدت مع شريف مكة الملك حسين ومفوض بريطانيا. وفوضت الحكومة الإنكليزية مارك سايكس النائب الإنكليزي بمفاوضة زعماء العرب والأرمن والصهيونيين فعقد اجتماعاً رسمياً مع الصهيونيين في شباط سنة 1917 ولم يشترك فيه أحد من العرب وقد شهده ويزمن وسكولوف وهربرت بنتويش وكاون وساقر وهربرت صموئيل المندوب السامي السابق لفلسطين وجمس روتشلد. وبعد البحث الطويل توطدت العلائق بين الصهيونيين والحكومة الإنكليزية ووضعت القضية الصهيونية على أساس قانوني وفوض ويزمن وسكولوف أن ينوبا عن الصهيونيين فيما بعد، وأبلغت الحكومة الإنكليزية هذه المفاوضة إلى الحكومة الفرنسية، وذهب سكولوف إلى باريس ليبين لفرنسا أغراض الصهيونية وعلاقتها بالحالة السياسية الدولية الراهنة، وقابل ناظر الخارجية المسيو كامبون وأخذ منه هذا التصريح إن الحكومة الفرنسية لا يمكنها إلا أن تشعر بالعطف على غرضكم الذي يتوقف نجاحه على فوز الحلفاء وإنه مسرور بإعلان هذا التأكيد. ثم توجه سكولوف إلى روما واستحصل تأكيداً بالعطف على الحركة الصهيونية من رئيس الوزارة الإيطالية والبابا. ونشطت الحركات العسكرية في فلسطين وتقدمت بسرعة فائقة حتى وقع احتلال القدس سنة 1917 فرنّ صدى ذلك في لندن وأجاب تصريح بلفور الشهير الذي ضمن في كتاب أُرسل إلى اللورد روتلد وهذا نصه: تنظر حكومة جلالة الملك البريطانية بعين الرضى إلى إنشاء وطن قومي في فلسطين، وتبذل الجهد في سبيل ذلك على أن لا يجري ما يضر بحقوق غير اليهود في فلسطين سواء من الوجهة الدينية والمدنية ولا ما يضر باليهود من الحقوق والمقام السياسي في سواها من الممالك. فقابل اليهود هذا التصريح بالترحيب واصطبغوا جميعهم بالصبغة الصهيونية وقاموا بمظاهرات في كل مكان واكتسب هذا التصريح موافقة دول الحلفاء الكبيرة فوافقت عليه فرنسا وإيطاليا واليابان سنة 1918 أما الولايات المتحدة فإنها لما لم

تكن أعلنت الحرب على تركيا لم توافق عليه، ولكن الرئيس ويلسون أرسل في آب سنة 1918 كتاباً إلى رئيس لجنة الصهيونيين الأميركيين هذا نصه: راقبت برغبة شديدة العمل الأساسي الذي قامت به لجنة ويزمن في فلسطين بمساعدة الحكومة البريطانية وهاأنذا أتخذ هذه الفرصة لأظهر امتناني بتقدم الحركة الصهيونية في الولايات المتحدة وفي ممالك الحلفاء منذ تصريح بلفور الذي يحمل موافقة إنكلترا على تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين ووعد الحكومة الإنكليزية بأنها تساعد ما استطاعت وتضمن الوصول إلى هذه الغاية على ألا يضر هذا العمل بحقوق غير اليهود العرب المدنية والدينية من سكان فلسطين أو يعبث بحقوق اليهود خارج فلسطين. ولجنة ويزمن التي أشار إليها الرئيس ويلسن لجنة صهيونية أرسلتها الحكومة الإنكليزية إلى فلسطين سنة 1918 ومنحتها سلطة واسعة، أي أن تكون بمثابة الهيئة الاستشارية للسلطات البريطانية في كل ما يتعلق بالمسائل التي تمس اليهود أو الوطن اليهودي القومي بموجب تصريح حكومة جلالة الملك. وتنحصر أغراضها في ما يأتي: 1 أن تكون حلقة اتصال بين السلطات البريطانية واليهود في فلسطين. 2 أن تشترك في توزيع الإحسان على أهالي فلسطين وأن تساعد على إرجاع المنفيين منها واللاجئين إليها. 3 أن تعاون على تقدم المستعمرات اليهودية وعلى تنظيم السكان اليهود في فلسطين. 4 أن تساعد المعاهد اليهودية في فلسطين لإعادة عملها ونشاطها. 5 تسعى لإحكام العلاقة الودية بين اليهود وغيرهم من سكان فلسطين العرب. 6 تجمع ما تراه مناسباً من المعلومات وتقدم تقريراً فيما يمكن عمله لترقي الاستعمار اليهودي وتقدم القطر عموماً. 7 تبحث إذا كان في الإمكان تأسيس جامعة عبرية في فلسطين وتختار محلها، فاختارت جبل الطور وافتتحتها بوضع الحجر الأساسي بحضور رؤساء الحكومة. ولما غُلبت تركيا وحلفاؤها وعقد مؤتمر باريز، دخلت النهضة الصهيونية في طور جديد فذهب ويزمن وسكولوف إلى باريز ليمثلا الصهيونيين ويبينا مطاليبهم وجاء غيرهم من صهيونيي الأصقاع المختلفة، وقد سمع مجلس

الحلفاء الأعلى اقتراحاتهم في جلسته المنعقدة في 27 شباط سنة 1919 وهذه هي أولاً: وجوب اعتراف الدول بحق اليهود التاريخي في فلسطين وشد أزرهم لإعادة بناء وطنهم القومي. ثانياً: أن تسلم سلطة الحكم العليا في فلسطين إلى جمعية الأمم وأن يعهد إلى إنكلترا بالوصاية عليها وتكون مسؤولة أمام جمعية الأمم. ثالثاً: أن يضاف إلى صك الانتداب لحكومة فلسطين الشروط الآتية: 1 تجعل فلسطين في أحوال سياسية وإدارية واقتصادية يضمن معها تأسيس الوطن القومي اليهودي، وأن يؤول ذلك في النهاية إلى إيجاد حكومة مستقلة على أن لا يعمل شيء يعبث بحقوق غير اليهود العرب في فلسطين أو بحقوق اليهود التي يتمتعون بها خارج فلسطين. 2 وللوصول إلى هذه الغاية تقوم الدولة الوصية: أبتشجيع الهجرة اليهودية وإسكان اليهود في الأرض الفلسطينية مع المحافظة على حقوق السكان الحاليين الثابتة من غير اليهود العرب. ب تعضيد وكالة يهودية في فلسطين وفي العالم للإشراف على بناء الوطن القومي اليهودي في فلسطين وأن يعهد إلى هذا المجلس بمراقبة التعليم اليهودي. ج بعد الاقتناع بأن قانون هذه الوكالة لا يتضمن جلب الربح الخاص يجب أن يفضل على غيره بإعطاء المشاريع الاقتصادية وتمنح له الأولوية في كل امتياز في الأعمال العامة أو في استثمار الثروة الطبيعية التي تجد الحكومة من الضرورة إعطاءها لها. 3 تساعد الدولة الوصية جهد استطاعتها على توسيع الحكم الذاتي للمقاطعات أو المراكز الممكن إقامتها بالنظر إلى حالة القطر. 4 تعطى الحرية التامة في ممارسة العبادات الدينية لجميع الأديان في فلسطين دون تمييز بين السكان مهما اختلفت جنسياتهم أو حقوقهم المدنية. ولم يقد اقتراح بإدارة الأماكن المقدسة ورأوا تركها لرأي الدول الكبرى. وقد طلب أن يدخل ضمن حدود فلسطين المجرى الأسفل لنهر الليطاني وهضاب جبل الشيخ الجنوبية منابع الأردن ومن الشرق الجولان ونهر اليرموك وما يليهما من المناطق الجنوبية التي كانت من نصيب فرنسا في اتفاقية سايكس بيكو واعتبرت هذه المناطق من الأسس لتقدم الاستعمار الفلسطيني وأدلوا بحجج

تاريخية. فسمع مجلس الحلفاء أقوال الصهيونيين ولم يصدر قراراً حاسماً لاشتغاله بمسائل أهم من معضلة فلسطين. وضع اليهود ثقتهم بالحكومة الإنكليزية وما خامرهم شك في صداقتها ولم تحدثهم أنفسهم أنها تتأخر عن مناصرتهم أو إنجاز ما وعدتهم به وقلقوا فقط لأنها ليست وحدها صاحبة الحل والعقد في أمرهم، ولذلك كانت هذه الفترة حرجة جداً في تاريخ اليهود فإما أن يقضي لهم أو يحكم عليهم. ولقد كان من المنتظر إحداث تغييرات تلائم المطاليب الصهيونية لأن الحكومة الفرنسية صدقت عل وعد بلفور لها ومعاهدة سايكس بيكو بطلت لانحلال روسيا، إلا أن اتفاق الحكومة الإنكليزية مع الملك حسين كان له شأن يذكر، ونشاط الحركة الوطنية العربية في فلسطين ومقاومتهم الصهيونية، أسمعت المراجع الرسمية صوتها وعاكست الخطط البريطانية المتحيزة للصهيونيين، كما أن بعض المقامات الدينية النصرانية أظهرت استياءها مخافة أن يتمكن اليهود من السيادة في هذا القطر، أضف إلى هذا أن اليهود اللاصهيونيين في أميركا وأوربا كانوا يقاومون الصهيونية بشدة، فمجموع هذه العوامل أخر سير القضية الصهيونية لكن العاملين الأولين معاهدة الملك حسين ومقاومة العرب كلن لهما الأثر الأكبر في ذلك. كان العرب يستندون في سياستهم على الأمير فيصل حليف دول الحلفاء وكان هذا يتنازعه عاملان متناقضان، أحدهما العرب الذين يطلبون إليه بشدة مقاومة الصهيونية، والثني بعد نظره الذي جعله يسعى بإخلاص للتعاون مع قواد الصهيونيين، فتحرج مركزه بين هذه المطالب المتناقضة، وغلب عليه العرب فلم يرض عن تأسيس وطن قومي يهودي في فلسطين، ثم عدل عن هذا الرأي وأرسل كتاباً إلى أحد زعماء اليهود الأميركان، هذه خلاصتهم: إننا نشعر أن العرب واليهود هم أبناء عم في الجنس وأنهم تحملوا اضطهادات متشابهة من الدول القوية، وقد ساعدهم حسن الطالع بأن يتمكنوا من الصعود معاً إلى الدرجة الأولى من سلم آمالهم الوطنية، ونحن العرب وخاصة المتعلمين ننظر برغبة شديدة إلى النهضة الصهيونية، وقد اطلع وفدنا في باريز الآن على الاقتراحات التي قدمتموها أمس إلى مؤتمر السلام ونحن نعتبر أن هذه الاقتراحات معتدلة

ولائقة، وسنعمل جهدنا وما في وسعنا لمساعدة اليهود أبداً ونتمنى لهم وطناً ينزلون فيه على الرحب والسعة. وإني أتطلع وشعبي أيضاً إلى مستقبل نستطيع فيه أن نتبادل التعاون لتصبح الأصقاع التي نشترك في الاهتمام بها ذات مركز بين الأمم المتمدنة في العالم. ولقد حدثني أحد أخصّاء الملك فيصل أن الكولونيل لورنس قدم إليه كتاباً بالإنكليزية وطلب منه أن يوقع عليه ففعل دون أن يعرف ما فيه لأنه كان موضع ثقته!. وعلى كل فالملك فيصل مسؤول سواء عرف ما تضمنه الكتاب أم لم يعرف ولكن إذا نظرنا أيام حكمه نجد أنه لم يفد الصهيونيين إلا باتخاذه حجة على رضى العرب عن الصهيونية. وقد مرت الأيام واليهود يبذلون جهودهم لحل معضلة فلسطين المعقدة فلم يتوصلوا إلى حل مرضي لأن بعض الدول رفض قبول قواعد الرئيس ويلسون وبعضها تردد مساومة. وأخيراً اختلف اليهود والإدارة العسكرية في فلسطين وأظهروا أن فلسطين أرضهم وما على العرب إلا أن يرحلوا عنها، فثارت ثائرة العرب وتمرد روحهم الوطني ووقفوا بالمرصاد للصهيونيين فاتفق أن كانت جماهير جبل الخليل قادمة إلى القدس للاشتراك في موسم النبي موسى سنة 1920 فتحرش بهم اليهود تحرشاً اعتبره أهل الخليل اعتداء فهاجموهم وقتلوا منهم مقتلة عظيمة. وما كاد البرق يتناقل هذه الحادثة إلى سان ريمو حيث كان وزراء بريطانيا وفرنسا وإيطاليا مجتمعين لتقرير صورة المعاهدة التي ستقدم إلى تركيا والتي لم يكن فيها نص على فلسطين سوى أن تسلم بها تركيا إلى الحلفاء وهم يفعلون بها ما يرونه مناسباً. وقد كانوا ينوون تأجيل النظر في مسألتها وتعيين شكل حكومتها النهائي ولكن حوادث القدس التي ربما كانت مدبرة من اليهود أو الحكومة غيرت هذا المنهج وأسرع الحلفاء في تصفية الخلاف بينهم، وبحثوا في فلسطين واعترفوا بمطالب الصهيونيين، وأضافوا هذه الفقرة إلى المعاهدة المصدقة في سان ريمو: توافق الدول الموقعة على هذه المعاهدة بموجب المادة 22 من صك الانتداب وتعهد بإدارة فلسطين بالحدود التي ستقررها دول الحلفاء إلى دولة وصية تختار

من الدول المذكورة تكون مسؤولة بتنفيذ التصريح الذي فاه به بلفور في 2 شباط سنة 1917 بالنيابة عن الحكومة البريطانية والذي وافقت عليه دول الحلفاء وفيه تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين على أن لا يمس حقوق العرب المدنية والدينية ولا المركز السياسي الذي يتمتع به اليهود خارج فلسطين. وقد تقرر أيضاً في سان ريمو أن تكون الحكومة الإنكليزية الحكومة الوصية على فلسطين. فأبدلت الحكومة الإنكليزية الإدارة العسكرية في فلسطين بإدارة مدنية وعينت على رأس هذه الإدارة هربرت صموئيل الصهيوني الصميم فتولى منصب المندوب السامي في فلسطين في 1 حزيران سنة 1920 فقاطعه الوطنيون ولكنه باشر بتأسيس إدارة مدنية وجابهه مشكلتان صعبتان وهما: 1 الحدود 2 مواد الانتداب، وحلن هاتان المشكلتان بالتدريج وفي المفاوضات بين بريطانيا وفرنسا، أما الحدود التي اقترحها الصهيونيون أمام المجلس الأعلى فلم توافق عليها فرنسا لأنها أصرت على الحدود المقررة في معاهدة سايكس بيكو وبعد مباحثات طويلة تنازل الفرنسيون عن مقاطعة المطلة وبانياس أما صور وصيدا والمجرى الأسفل لنهر الليطاني ومنابع نهر الأردن والشاطئ الشرقي لبحيرة طبرية والجولان واليرموك فقد أُخرجت منها، خلا عدة أميال أُضيفت إلى فلسطين من شاطئ اليرموك الغربي قبل أن يصب في الأردن. وقد قابل اليهود هذا الحل باستياء شديد لأنهم رأوه يؤثر في استعمارهم ويضر بفلسطين وسورية. وأظهر الفرنسيين أنهم لن يتنازلوا عن مطالبهم إلا إذا توقفت إنكلترا وفرنسا إلى تعديل الاتفاق فيعطى إلى فلسطين ما يزيد من مياه الأردن الشمالي واليرموك لتنتفع منها بتوليد قواها الكهربائية أو استعمالها في ري الأرض وغير ذلك. وهكذا أُضيف إلى صك الانتداب بعض ما يتطلب اليهود وما يعود عليهم بالنفع واقتصرت الولايات المتحدة من مطالبها من فلسطين على أن تكون حقوقها التجارية مضمونة. فكاد هذا التأخير يجعل مستقبل فلسطين السياسي غامضاً لأن المفاوضات سارت ببطء ولم تنته حتى تموز سنة 1922 حين بحث في الوصاية وصدقت عليها عصبة جمعية الأمم. وفي صيف سنة 1921 كان عدل صك الانتداب بشأن شرقي الأردن بفقرة هذا نصها: للدولة الوصية الحق بتأجيل أو عدم تنفيذ بعض المواد الواردة في صك الانتداب الذي يتعلق

الصهيونية بعد الحرب:

في شرقي الأردن، وهكذا خرجت الصهيونية رابحة بعض الربح من الحرب ولكن أعمالها لم تصطدم بقوة عملية بعد، وإنها وإن كانت الآن في دور المد فسيأتي عليها دور الجزر فلا يجد رجالها مأوى يعودون إليه ويندمون على ما فقدوه من تمازجهم بالأهالي الذين عاشوا وإياهم دهراً طويلاً اه. الصهيونية بعد الحرب: وضعت الحرب العالمية أوزارها، وكل أمة تنتظر أن يصيبها قسط وافر من حقوقها المسلوبة. فتلمس اليهود المشتتون في أقطار العالم بصيص تصريح بلفور، ينظرون إليه نظرهم إلى صك هبة أو بيع قطعي يخولهم امتلاك فلسطين، فشمخت أنوفهم وأعلن قوادهم أن فلسطين يهودية كما أن إنكلترا إنكليزية، وما على العرب إلا أن يرجعوا إلى جزيرتهم، ونشروا راياتهم بكثرة وفي كل مكان وأنشدوا نشيدهم القومي، وأخذت الحكومة تصطبغ بالصبغة اليهودية، فتولى رئاستها صهيوني صميم ورئاسة النيابات صهيوني متطرف، وتغلغل الصهيونيون في جميع الدوائر وسيطروا على الإدارة العامة، وصارت اللغة العبرية لغة رسمية، وظنوا أنهم سيأتي إلى فلسطين ألوف من اليهود بسرعة يؤلفون الأكثرية الساحقة ثم ينشئون دولة يهودية تتم بها النبوات القديمة، ولم يعلموا ما يقابلهم من الصعاب في تحقيق أمنيتهم، وتجاهلوا أن القطر يسكنه ثلاثة أرباع ملين عربي يملكون أرضه ويستغلون موارده، وعبثوا بالرأي العام الإنكليزي وتهاونوا في إيجاد عمل للمهاجرين وعجزا عن إعداد سبيل المعيشة لهم فوقعت في أزمة اقتصادية وبقي قسم كبير من المهاجرين مدة طويلة بلا عمل. أما الشعب العربي الجريء فإنه كان ينتظر من الحلفاء إنصافاً لا سيما بعد أن انشقوا عن حكومتهم التركية وشاركوهم في الحرب. فكانت نفوسهم تصبو إلى الاستقلال التام أو إلى الاستقلال الداخلي تحت إشراف بعض الدول المخلصة. ولما انقشع ظل الأتراك ظهر الحلفاء بمظهر الجشع وقسموا سورية إلى حكومات وأجزاء فأدرك عرب فلسطين أن اليهود يسعون لتأسيس حكومة يهودية في مجرى تنفس جسم الديار العربية، فغضبوا وأنشئوا الجمعيات الإسلامية المسيحية وألهبوا صدور الأهالي وأثاروا نفوسهم، فاشتعل الروح الوطني بين جوانحهم

وعقدوا المؤتمرات واشترك مندوبوهم في المؤتمر السوري في دمشق وأعلنوا أن فلسطين جزء من سورية وأرسلوا وفداً إلى أوربا والحجاز لاستصراخ العالمين الإسلامي والنصراني فقابلتهم الحكومة الإنكليزية بجفاء وعبثت بمطاليبهم وغالطت في التعابير الفنية والتفاسير السياسية، وأصرت على اتباع سياستها القديمة التي ترمي إلى فصل العالم الإسلامي والعربي بعضه عن بعض بوضع الصهيونيين حاجزاً بين الشام ومصر والحجاز والشام. وارتاب العرب في الشق الثاني من وعد بلفور الذي يضمن حقوق السكان لأنهم رأوا تناقضاً بيناً بين شقي التصريح المذكور، فلو آمنوا بالشق الثاني وسلموا بمبدأ مهاجرة اليهود إلى القطر وفقاً لنص الشق الأول يصبح اليهود أصحاب الأكثرية المطلقة في مدة وجيزة، فإذا انسحب البريطانيون عندئذ فكيف يمكن تطبيق الشق الثاني. لا شك أن العرب يقعون هنالك أمام مشكل خطير وتصبح الأماكن المقدسة التي بأيديهم مهددة بانتقالها إلى أيدي أعدائهم لا سيما وهم يعتبرون أنفسهم والعالم الإسلامي ينظر إليهم بأنهم أوصياء يجب أن يحافظوا عليها، فهاج هائج العرب وأبو أن يذعنوا لحكم السياسة وتزعزعت ثقة اليهود في تصريح بلفور وأحجموا عن الهجرة إلى فلسطين فذهب المندوب السامي إلى لندن وطلب بياناً من الوزارة بحجة إزالة مخاوف العرب وقصد تأمين اليهود ليقبلوا على المهاجرة فأجيب طلبه وصدر بيان في حزيران سنة 1922 وهذا ملخصه: لم تكن الغاية من تصريح بلفور جعل فلسطين يهودية والقضاء على الشعب العربي ولغته وآدابه أو الحط من شأنها، ولكن الغاية تأسيس وطن لليهود في فلسطين، وليس للجمعية القائمة في فلسطين نصيب في إدارة الديار العمومية كما أن الجنسية التي سيتمتع بها جميع سكان فلسطين تكون جنسية فلسطينية ليس لها علاقة باليهود أو غيرهم. إن اليهود أعادوا في المدة الأخيرة بناء طائفة في فلسطين يبلغ عددها 80000 نفس يشتغل سدسهم في الزراعة، ولهذه الطائفة هيئات سياسية خاصة فلها جمعية تنتخب لإدارة شؤونها الداخلية، ومجالس منتخبة في المدن، وهيئة تشرف على مدارسها ولها رئيس حاخامين منتخب ومجلس رباني محكمة شرعية لإدارة أمورها الدينية، وغدت لغتها العبرية لغة رسمية في دوائر الحكومة، ولها صحافة عبرية كافية. ويقصد من

ثورتا القدس وثورة يافا:

هذا العمل أن تتقدم الطائفة اليهودية الحلية بمساعدة اليهود المنتشرين في العالم ليجعلوا فلسطين مركزاً يكون فيه للشعب اليهودي أجمع مميزات قومية. وليعلم العرب أن مجيء اليهود إلى فلسطين هو حق ثابت لا منة يمن بها عليه، وقد سمح لهم بزيادة أفرادهم بالمهاجرة بقدر تحمل البلاد الاقتصادي. وقد عرض هذا البيان قبل نشره على الجمعية الصهيونية فوافقت عليه، ثم عرض على وفد العرب الفلسطيني في لندن فحاول تعديل بعض فقره فلم ينجح، فزاد كره العرب لليهود واشتدت المعارضة للصهيونيين. وكانت فلسطين تسير إلى الانحطاط بمساعي المندوب السامي تطبيقاً للفقرة الواردة في صك الانتداب وهي وضع القطر في حالة اقتصادية وسياسية لإفقاره وانتزاع الأملاك من أهله، فمنع تصدير الشعير حتى هبط سعره وخسر الأهالي خسارات باهظة، وعمل أعمالاً أخرى أدت إلى استياء العرب الشديد الذي طورته السياسة الصهيونية وأحالته إلى كوارث قصدت استغلالها فحدثت الثورات الآتية: ثورتا القدس وثورة يافا: لكل بلد أعياد، وفلسطين منبع هذه المواسم، اشتركت فيها جميع الأديان وموسم النبي موسى أعظم المواسم يقع في عيد الفصح عند الطائفتين المسيحية واليهودية، فالأقاليم العربية الإسلامية البعيدة لها مواسم مستقلة من عهد صلاح الدين بن يوسف، والقريبة تأتي متتابعة إلى القدس، وجبل الخليل أعلق الناس بهذه العادة، يأتون بكثرة ينشدون الأهازيج البدوية الثورية، قدموا إلى القدس في يومهم المعروف فتحرش بهم اليهود وأثاروا حفيظتهم فنشبت معركة قتل فيها عشرة أشخاص من الفريقين وكسرت أبواب دكاكين اليهود ونهبت بضائع ليست بقليلة واضطربت القدس وأعلنت فيها الأحكام العرفية. والداعي إلى الثورة الثانية أن اليهود اتخذوا يوم تصريح بلفور الواقع في 2 تشرين الثاني عيداً لهم يعلنون فيه سرورهم، فقرر العرب جعله ذكرى حزن وبؤس يقفلون فيه حوانيتهم ويحتجون إلى الحلفاء على هذا الظلم، يطوف فتيانهم في الشوارع وينشدون أناشيد الرثاء الوطنية فمانعتهم الشرطة وضرب بعضهم فأهاج كامن حقدهم واصطدموا باليهود وقتل أشخاص ووقع النهب.

ويمكن أن نعد ثورة يافا ثورة سياسية تجلى فيها الروح العربي بكل مظاهره وأسبابها أن فرع حزب بوعالي صهيون في يافا انضم إلى حزب الاشتراكيين المتطرفين المعروفين بالموبس والذين من أصولهم إلقاء النزاع بين الطبقات لا التمسك بالوطنية والجنسية. فحاول هذا الحزب الثوري استمالة هيئات العمال اليهود في فلسطين فرفض حزب احادوت هاعابودا طلبهم وأبى الانضمام إليهم، فغضبوا وقرروا إعداد تربة فلسطين للثورة الاجتماعية. وفي خلال تشرين الأول والثاني سنة 1920 حدثت قلاقل بين العال واليهود في يافا حسمت للحال. ونشرت جمعية الموبس إعلانات في أنحاء يافا وتل أبيب طلبوا من جميع العمال الاشتراك في الثورة الاجتماعية، وأن يختلفوا باليوم السابع من تشرين الثاني وهو العيد السنوي لحكومة السوفيات في روسيا وهذا بعض ما ورد في الإعلانات ليحي اليوم السابع من تشرين الثاني يوم العمال الاشتراكيين، لتسقط فرنسا وإنجلترا، لتحي الجمهورية الروسية السوفيات، ليحي المؤتمر الاشتراكي الثالث لتحي فلسطين الاشتراكية وحملوا راياتهم الحمر وساروا وفي مقدمتهم السيدة شارلوت روزنتال فحاولوا إكراه عمال اليهود على الاشتراك معهم فوافق بعضهم ورفض الآخرون فاعتدوا على المتعنتين وحصلت معركة بسيطة. وفي أيار سنة 1921 خرج حزب الموبس من ناديهم وعلى صدورهم شارات حمراء وفي أيديهم رايات كتب عليها بخط أحمر جمل تحض الناس على الثورة وهذا نموذج منها: ليحي المؤتمر الاشتراكي، لتحي النساء الحرة في الجمعية الاشتراكية، ليحي اليوم الأول من أيار. لتسقط القوة الإنكليزية القهرية. فتعقبت الشرطة جموعهم المندفعة حتى وافت شوارع تل أبيب وصادمت اليهود وأطلقت عيارات نارية فظنها العرب مظاهرة مقصودة وجهت إليهم وتحسبوا من شرّ مداهم فتجمهروا للدفاع عن أنفسهم، وسرعان ما اشتبكوا مع اليهود وأهرقت الدماء وامتدت الثورة إلى الضواحي حيث هوجمت بعض المستعمرات الصهيونية ودام القتال ثلاثة أيام فقتل من اليهود 47 شخصاً وجرح 146 وقتل من العرب 48 نفساً يدخل فيهم البدو والقرويون وجرح

المهاجرة:

73، فأعلنت الأحكام العرفية ووضعت غرامات باهظة على الذين اشتركوا في هذه المعركة من العرب وحرق بيت شاكر أبو كشك قائد الثورة خارج يافا، وقد استفاد اليهود من ضباطهم في الجيش إذ ساعدوهم كثيراً وألبسوا شبابهم ثياباً عسكرية وسلحوهم ببنادق الجند وأوهموا العرب أنهم جنود إنكليزية. المهاجرة: كان عدد اليهود قبل احتلال الإنكليز 55 ألف نفس فلما أبيحت المهاجرة وتدفقت جموع الصهيونيين وأكثرهم من شرق أوروبا أنشأت الحكومة دائرة المهاجرة والسفر لتسهيل الهجرة الصهيونية، ثم تحول هذا إلى فرع خصوصي في ديوان أمين السر العام وأرسلت الحكومة مأمورين من اليهود على نفقة الوطنيين لتشجيع الهجرة، وقد بلغ عدد اليهود في الإحصاء الرسمي سنة 1922 84000 نفس وقد قدر عددهم في آذار سنة 1925 108000 شخص وأصبحوا اليوم أكثر من أربعمائة ألف. وبعض هؤلاء المهاجرين متدين وبعضهم بولشفيكي وهم فئة قليلة، وبعضهم جهلاء متشردون وبعضهم متعلمون، وكلهم وضع نصب عينيه إخراج العرب من فلسطين وامتلاكها وأكثر من ثلاثة أرباع اليهود يسكنون في المدن والباقي في القرى. وقد بذلوا جهوداً كبيرة لمشترى الأرض والاستعمار الزراعي في فلسطين بيد أن المهاجرين رغم ماليتهم الشخصية وما يتوارد عليهم من المساعدات الخارجية وما يتبع ذلك من التنظيم، يألفون المدن ويتركون القرى، ودلت الإحصاءات على أن قسماً قليلاً منهم يحترف الزراعة فالأربعون ألف مهاجر الذين دخلوا فلسطين لم يشتغل منهم في الزراعة سوى ثمانية آلاف وتسلل الباقون إلى المدن الكبيرة مثل القدس ويافا وحيفا وفتحوا الحوانيت المختلفة كالحلاقة وبيع السلع البسيطة وأهملوا الزراعة. والذي يعلم أن فلسطين قطر زراعي وأن الزراعة هي المهنة المنتجة الرئيسة فيها لا يرتاب في أن الصهيونيين لم ينجحوا من هذه الجهة كثيراً. تقدر مساحة فلسطين بعشرة آلاف ميل مربع تقريباً نصفها جبال قاحلة وأرض رملية وصحراء بلقع والنصف الآخر قابل للزراعة. واليهود كانوا

المعارف والمصارف والصحافة والمشاريع

يملكون قبل الحرب نحو 177 ميلا مربعاً وكان لهم 43 مستعمرة. أما اليوم فيملكون نحو 319 ميلاً مربعاً أي ستة في المائة من مجموع الأرض الزراعية وبلغت مستعمراتهم نحو 100 قرية أكثرها في الساحل وبعضها اشتراكية. فالبيع والشراء والزراعة والأكل والمعيشة كلها مشتركة والعزّاب نساء ورجالاً ينامون معاً أما المتزوجون فلهم غرف خصوصية، ويؤخذ الأولاد من والديهم يجعلون تحت المراقبة ويعنى بأمرهم لأنهم ملك مشترك للمستعمرة. وأكثر مستعمرات اليهود تعتمد على المساعدات الخارجية وعلى قروض المصارف ويملك البارون روتشلد 40بالمائة مما يملكه اليهود في فلسطين. المعارف والمصارف والصحافة والمشاريع الاقتصادية: لليهود في فلسطين إدارة معارف تشرف على المدارس اليهودية من صهيونية وأرثوذكسية وهي مستقلة عن إدارة الحكومة. وقد كان لليهود سنة 1919 1920 مائة وعشر مدارس فيها 11220 تلميذاً و584 معلماً وقي سنة 1921 بلغت مدارسهم نحو 135 مدرسة فيها 523 معلماً و12830 طالباً وهي موزعة كما يأتي: في القدس 33 مدرسة وفي يافا 17 وفي حيفا 6 وفي طبريا 4 وفي صفد 4 وفي المدن الأخرى 587 في مستعمراتهم و6 في سورية. ويقدرون أن 83بالمائة من أبناء اليهود في فلسطين يتعلمون في المدارس اليهودية ويندر أن يدخلوا المدارس الأجنبية. أما المدارس اليهودية في فلسطين فمتنوعة فبينما تجد المدرسة الدينية التي تشبه الكتاتيب المعروفة عند العرب ولا تعلم سوى التلمود والتوراة على الأصول القديمة، تجد من جهة أخرى بساتين الأطفال الحديثة تسير على نظم منتسوري وفروبل. وهي أنواع فمنها مدرستان ثانويتان اختلط فيهما الشبان والشابات إحداهما في القدس والأخرى في يافا، ولهم مدرسة صناعية في حيفا، ودار معلمات في يافا ودار معلمين في القدس، ولهم مدرسة نيتر الزراعية التي أُسست منذ 50 سنة تقريباً وفيها 100 طالب وقد كانت تابعة لجمعية الاتحاد الإسرائيلي الاليانس فأُلحقت مؤخراً بالجمعية الصهيونية. ولهم مدرسة تجارية في يافا وثلاث مدارس للموسيقى ومدرسة للفنون الجميلة في القدس. ولغة التعليم في جميع هذه المدارس العبرية وبرامجها

تشبه برامج مدارس أواسط أوربا مع تعديل طفيف. وهم يشددون إلى حد الإفراط في الاهتمام بتعليم جغرافية فلسطين وتاريخها اليهودي. ومجموع ما أنفقته إدارة المعارف الصهيونية سنة 1920 120 ألف جنيه أي ينفق على كل تلميذ تسعة جنيهات وهو معدل باهظ جداً. ولكن موازنتهم أخذت تتناقص إلى أن بلغت 80000 جنيه رغم ازدياد الطلاب. وقد ساءت الحالة المالية وامتنعت إدارة المعارف الصهيونية عن دفع رواتب المعلمين فتذمروا وأنذروها بالإقلاع عن العمل إن لم تجبهم إلى مطاليبهم فلم تصغ إليهم وعجزت عن أداء مشاهراتهم فاضربوا شهراً كاملاً ثم حل المشكل حلاً سياسياً. والرسوم في المدارس اليهودية هي عالية جداً يؤدي الطالب الخارجي في المدرسة الثانوية ما يقارب العشرين جنيهاً سنوياً لقاء التعليم فقط. وقد أسس اليهود أوبرا إسرائيلية إلا أن الإقبال عليها قليل لكون لغتها عبرانية ويُقدر ما أنفقه اليهود من المال بعد الحرب بستة ملايين جنيه. مليون واحد اشتروا به أرضاً ومليون للصنائع ونصف مليون للمساعدات وثلاثة ملايين ونصف للاستعمار والتهذيب وللأمور المختلفة سياسية وإدارية. أعظم مصرف لليهود في فلسطين بنك انكلو فلسطين الذي كان رأس ماله سنة 1920 100 ألف جنيه وفيه من الودائع 700 ألف جنيه أما الآن فقد زيد رأس ماله إلى 300 ألف جنيه واحتفظ هذا المصرف بأرباحه ولم يوزعها منذ سنة 1914 وذلك لأنه اضطر إلى تسليف المستعمرين قروضاً لمدد طويلة. وإدارة هذا المصرف العليا في لندن وله فروع في أمهات المدن الفلسطينية والسورية ولهم غير هذا المصرف مصارف عقارية. وأُخرى تسلفهم للبناء وكلها تفضل معاملة اليهود على غيرهم وتعطيهم بفائدة أقل مما تأخذه من العرب. ولليهود بضع صحف في فلسطين يصدر بعضها باللغة الإنكليزية مثل فلسطين الأسبوعية النشرة الفلسطينية وبعضها يصدر باللغة العبرانية ومنها دَوَار لسان حال العمال وها آرتس، ودؤار هايوم. وكولي إسرائيل لسان حال الأرثوذكس ومجلة هايشوف وغيرها من الصحف الضئيلة. في 21 أيلول سنة 1921 عقد اتفاق بين وكلاء التاج بالنيابة عن السر

نظرة في نجاح الصهيونية:

هربرت صموئيل المندوب السامي لفلسطين وبين بنيحاس روتنبرغ المهندس الروسي على أن يجمع روتنبرغ خلال سنتين مليون جنيه لشركة تؤسس في فلسطين وأن يجمع ما لا يقل عن مائتي ألف جنيه نقداً، فإذا قام بهذه الشروط فالمندوب السامي يمنحه امتيازاً مدة سبعين سنة للاستفادة من مياه الأنهار الآتية: امياه نهر الأردن وحوضه ونهر اليرموك وجميع فروعه وروافد نهر الأردن التي تقع في الأرض التي يسيطر عليها المندوب السامي لفلسطين. ب مياه نهر الأردن وحوضه ونهر اليرموك وجميع فروعه وروافد نهر الأردن الخارجة عن الأرض الخاضعة للمندوب السامي والواقعة في منطقة الانتداب الفرنسي. وذلك لتوليد القوى الكهربائية وغيرها. ثم رخص له أن يبني على جسر المجامع محطة كهربائية بعد سنة وأن يستعمل بحيرة طبرية خزاناً للمياه التي يريد الانتفاع بها وأن يبني سداً عليها لرفع المياه إلى درجة معلومة، وتنقل هذه المياه في قنيّ تشاد لهذه الغاية وسمح له أيضاً بأن يبني غير تلك المحطات متى رآها ضرورية لتوليد القوى الكهربائية. وأن يغير مجرى نهر اليرموك وروافده وبثوقه إلى بحيرة طبرية وأن يستملك من الأرض والأبنية ما يراه ضرورياً لهذا المشروع. ومنح أيضاً استثمار نهر العوجا بالقرب من يافا. وتعهدت الشركة بأن تبدأ بالعمل بعد اثني عشر شهراً وأن تنجز المشروع في خمس سنوات. ولكن عدّل هذا الشرط الأخير ورخص للشركة بتمديد هذه المدة وتعهدت إذا هي تأخرت عن إنجاز هذا العمل في الخمس سنوات أو في المدة التي يعينها المندوب السامي ولم تقم بالعمل تدفع عن كل شهر ألفي جنيه للحكومة فلسطين ويحق للمندوب السامي إلغاء هذا الاتفاق. نظرة في نجاح الصهيونية: إصلاح شيء أصابه البلى أسهل من خلق شيء من العدم، والصهيونية مهما تقدمت فهي فكرة خيالية لا حقيقة لها أوجدها هوى بعض اليهود لاستيطان بلاد اجتازوا بها وسكنوها ردحاً من الزمن ثم جلوا عنها كما وقع للعرب في الأندلس والفرق بين الحادثتين كبير لأن العرب غرسوا مدنية فأزهرت وأينع ثمرها،

حوادث وغوائل:

أما اليهود فقد زالت آثارهم واندرست مدنيتهم الساذجة. فمطالبتهم بالرجوع إلى هذه الديار متعذرة كل التعذر. 1ً لدثور قوميتهم. 2ً لتشتيت نزعاتهم وعاداتهم. 3ً اليهود يجمعهم الدين وتفرقهم الأمم، دينهم واحد وهم أمم شتى. 4ً لا تجمعهم وحدة ولا يسيرون في منهج. 5ً الأرض يمتلكها أصحابها وهم جزء من محيط عربي عظيم. فاليهود وإن تقدموا قليلاً لا إخال نجاحهم إلا مؤقتاً ولو ساعدتهم بريطانيا ودول الغرب والفشل عاقبة كل حركة ليست طبيعية ودافعها غير عقيدة صادقة، أما أعمال اليهود خارج فلسطين بعد الحرب فإنهم انصرفوا لإقناع أوربا بأن العرب راضون عنهم وعقدوا بعض مؤتمرات وعدّلوا بعض خططهم وجمعوا أموالاً جمة وتوددوا إلى جيرانهم وطاف دعاتهم الأقطار التي يسكنها اليهود واكتفوا بحصر قواهم العملية داخل فلسطين ومراقبة الحركات السياسية الدولية العالمية اه. حوادث وغوائل: في نيسان 1925 خطب اللورد اللنبي المعتمد البريطاني في مصر في حفلة مقابر الحرب البريطانية في غزة خطبة ذكر فيها السامعين بأن هذه البقعة جرت عليها معارك حربية قديمة وحديثة وأثنى على الأبطال البريطانيين الذين قادوا بأرواحهم فطردوا الأتراك في محاولاتهم الثلاث. وقد ذكر بعضهم أن قتلى البريطانيين في البقعة التي حارب بها شمشون في غزة خمسة آلاف جندي. وفي هذا الشهر وقعت فتنة بين أهالي قرية العاليات من عمل حمص بعضهم مع بعض وبينهم وبين الحكومة انتهت بقتل أربعين نفساً وثمانية وأربعين جريحاً ويقال: إن خمس أسر فنيت على بكرة أبيها والسبب في ذلك أن رجلاً من العلويين اسمه شعبان من أهل وادي البرغل من عمل اللاذقية قام منذ السنة الماضية

يدعو النصيرية إلى إدخال الإصلاح على مذهبهم، وتعاليمه تدور على روحانية الإمام علي بن أبي طالب في الألوهية، وتخطئة من يزعم وجوده في الشمس كالشماليين أو القمر كالكلازيين وقد أوجب على أتباعه صيام رمضان والصلوات الخمس وتعليم النساء خلافاً لما جرى عليه الأسلاف في المذهب العلوي من حظر التدين على النساء. فانقاد إلى رأيه كثيرون ولا سيما عشيرة المتاورة ولما كان قد بقيت بعض البيوت في قرية العاليات لم تتمذهب بمذهبه وقع بينها وبين من دانوا به خصام أدى إلى القتل وتدخل الحكومة. وفي سلخ ذي الحجة حدث اختلاف بين السلطة المنتدبة وزعماء جبل الدروز أدى إلى نفي بعضهم. ونشبت فتنة بين الدروز والحامية أدت إلى قتل بضع مئات من الفريقين، وخربت السلطة بضع قرى بالقنابل التي قذفت بها من الطيارات والمدافع.

التقاسيم الإدارية الحديثة

- التقاسيم الإدارية الحديثة تقاسيم القدماء قبل الإسلام: كان الشام ينقسم بحسب مصلحة المتغلبين عليه، ولما كان يطلق عليه اسم آرام كان يقسم إلى عدة أقسام مثل آرام صوبة وآرام معكة وآرام بيت رحوب وآرام دمشق وهي أقسام مملكة آرام، وكانت دمشق قصبتها، أي أنها كانت منقسمة بين ملوك كثيرين كملوك دمشق ورحوب وصوبة وجشور على ما يفهم من رواية التوراة. وأراد الرومان إضافة فلسطين إلى ولاية سورية الرومانية سنة 66 ب. م ولما نظم أغسطس قيصر مملكته وصارت سورية ولاية إمبراطورية عاصمتها أنطاكية احتفظت بعض مقاطعاتها باستقلالها، فكانت خلكيس عين جر أو عنجر مملكة صغيرة، وابيلية وادي بردي رياسة ربع، ودمشق مستقلة بعض الاستقلال إلى أيام نيرون. ووسد أمر اليهودية لوال كان له بعض الاستقلال في حدود ولايته تحت إدارة والي سورية، وكانت تدمر مستقلة في سلطانها إلى سنة 114م وأضاف الإمبراطور تراجان الأصقاع الواقعة ما وراء الأردن، وقضى على مملكة النبطيين وجعلها حكومة ممتازة سماها الولاية العربية وجعل بصرى عاصمتها. وقسم ساويرس الروماني سورية إلى قسمين وجعل القسم الأول إلى الشمال، وفيه سورية الكومجانية وسورية المجوفة أي السهول التي على ضفتي العاصي إلى إنطاكية والبحر وما بين اللكام ولبنان، والقسم الثاني في الجنوب والشرق وفيه سورية الفينيقية والشطوط البحرية وشرقي لبنان إلى وسط البرية وفيه

أجناد الشام وتقسيم العرب:

بعلبك وحمص ودمشق وتدمر. وانقسمت مملكة الشام بعد مقتل ديمتريوس إلى قسمين ملكت كلوبطرا في عكا وجنوب المملكة وملك زنوبيا في إنطاكية وشمالها. وكانت الشام مقسومة إلى قسمين سورية وفلسطين وأطلق اسم سورية على الاثنين منذ إضافتهما إلى المملكة الرومانية قبل المسيح بمدة. أجناد الشام وتقسيم العرب: وقسم الأوائل الشام خمسة أقسام الأول فلسطين ومن مدنها إيليا وهي بيت المقدس وعسقلان ولدّ ونابلس وحبرون أي الخليل، والثاني، الأردن ومدينتها العظمى طبرية، والثالث الغوطة ومدينتها العظمى دمشق، والرابع حمص، والخامس قنسرين ومدينتها العظمى حلب وهو أشبه بتقسيم العرب، قسموها خمسة أجناد أي خمسة فيالق، وهي جند فلسطين، وجند الأردن، وجند دمشق، وجند حمص، وجند قنسرين. سمى المسلمون فلسطين جنداً لأنه جمع كوراً وكذلك دمشق وكذلك الأردن وكذلك حمص مع قنسرين. وسميت كل ناحية لها جند يقبضون أطماعهم بها جنداً، وذكروا أن الجزيرة كانت إلى قنسرين فجندها عبد الملك بن مروان أي أفردها، فصار جندها يأخذون أطماعهم بها من خراجها، وأن محمد بن مروان كان سأل عبد الملك تجنيدها ففعل، ولم تزل قنسرين وكورها مضمومة إلى حمص حتى كان يزيد بن معاوية فجعل قنسرين وإنطاكية ومنبج وذواتها جنداً، وأفرد الرشيد قنسرين أي كورة حلب بكورها فصيرها جنداً واحداً. ومعلوم أن العرب أطلقوا اسم الشام على سورية وفلسطين معاً وهذه القسمة أي قسمة الشام إلى قطرين لا توافق عليهما الطبيعة كما قال العارفون من علماء الجغرافيا المحدثين، لأنهما شيء واحد وما هي إلا اعتبارات سياسية صرفة، وهو تقسيم موضوع على التعارف كما قال المقدسي، وقد قسم الشام إلى ست كور وقال: فإن قال قائل لم جعلت قصبة الكورة حلب أي لم تجعلها قنسرين كما كان مصطلح العرب إلى القرن الثالث وههنا مدينة على اسمها قيل له: قد قلنا إن مثل القصبات كالقواد والمدن كالجند ولا يجوز أن نجعل حلب على جلالتها وحلول السلطان بها وجمع الدواوين إليها وإنطاكية

التقسيم في عصر الصليبيين والمماليك:

ونفاستها وبالس وعمارتها أجناداً لمدينة صغيرة أي قنسرين التي وصفها بأنها مدينة خف أهلها. التقسيم في عصر الصليبيين والمماليك: وما زال تقسيم الشام إلى أجناد مدة الأمويين وطرف صالح من عهد العباسيين ويفرق العمال الذين ينصبونهم بحسب ما يرون فيه المصلحة، دام ذلك إلى القرن الخامس فكانوا يقطعون بعض الأعمال ويدعونها ممالك فكانت صرخد مملكة والزبداني مملكة وحمص مملكة وحماة مملكة وحلب مملكة. وهذا التقسيم مختل بالطبع لاختلال أحوال القطر بالحروب الصليبية قال القلقشندي: قواعد الشام ست كل قاعدة منها تعد مملكة، بل كانت كل قاعدة منها مملكة مستقلة بسلطان في زمن بني أيوب، وهذه القواعد الست العظام هي دمشق وحلب وحماة وطرابلس وصفد والكرك. بل كانت الغوطة والمرج من عمل دمشق ولاية برأسها، كما كان الجبل ووادي بردى ويبوس ولاية، وكما كانت بيت لهيا في الغوطة ولاية على عهد الأمويين. وقسم المماليك الشام قسمين جنوبي وشمالي وكان يعين لكل منهما كافل أي وال يقيم كافل القسم الأول في دمشق ويقال له كافل الممالك الشامية، وينزل عامل القسم الثاني في حلب ويقال له كافل الممالك الحلبية. وفي سنة 768 جعل الملك الأشرف من ملوك الترك حلب أكبر من دمشق كما كانت على القاعدة القديمة، وعد الظاهري سبع ممالك في الشام في القرن التاسع وهي المملكة الشامية والمملكة الكركية والمملكة الحلبية والمملكة الطرابلسية والمملكة الحماوية والمملكة الصفدية والمملكة الغزاوية. وكان لدمشق أربع صفقات غربية وهي الساحلية والقبلية والشمالية والشرقية ففي الصفقة الأولى وهي الغربية عشر نيابات وخمس ولايات. فأما النيابات فمنها غزة والقدس، والولايات فمنها ولاية الرملة ولدّ وقاقون وبلد الخليل ونابلس وأما الصفقة القبلية وهي الثانية ففيها نيابات وثمان ولايات، فأما النيابات فالأولى منها نيابة قلعة صرخد ونيابة عجلون. وأما الولايات فالأولى ولاية بيسان وولاية بانياس وولاية قلعة الصبيبة وولاية الشعراء وأذرعات وحسبان والصلت وبصرى.

على عهد العثمانيين:

والصفقة الشمالية وفيها نيابة واحدة وثلاث ولايات. فأما النيابة فبعلبك وأما الولايات فالأولى ولاية البقاع البعلبكي والثانية ولاية بيروت والثالثة ولاية صيدا، والصفقة الرابعة الشرقية وبها ثلاث نيابات وأربع ولايات. وهناك نيابات حلب ونيابة طرابلس ونيابة صفد وولاية تبنين وهونين وولاية الشقيف إلى غير ذلك من مصطلح القرن الثامن للهجرة. على عهد العثمانيين: وقسم العثمانيون الشام ثلاث نيابات أو إيالات وهي دمشق وحلب وطرابلس وظلّ هذا التقسيم إلى ما بعد عهد السلطان أحمد فكانت دمشق وهي أعظمها عبارة عن عشرة ألوية وأهمها القدس وغزة ونابلس وتدمر وبيروت وصيدا، وولاية طرابلس خمسة ألوية وهي طرابلس وحماة وحمص وسلمية وجَبَلة. وقسمت حلب تسعة ألوية تتناول سورية الشمالية برمتها ما عدا عينتاب التابعة لولاية مرعش، وفي سنة 1660م أحدثت الدولة ولاية جديدة وهي صيدا لمراقبة الجبل. وقد امتدح الجنرال دي تورسي من طرز الإدارة التي منحها سليم الأول للشام وهي التي كان عليها العمل في الأكثر إلى خروج الأتراك من هذا القطر، وذكر بعضهم أن الشام كانت على عهد أوائل الحكم العثماني أربع إيالات كبرى وأن تقسيمها إلى ثلاث إيالات كما مر حدث بعد زمن. وفي سنة 1272 هـ كانت الشام تقسم إيالتين إيالة دمشق وإيالة صيدا، ولما نظمت الولايات على أسلوبها المتعارف أخذ لواء الرّها أورفة من الجزيرة ولواء مرعش من الأناضول وألحقا بحلب فجعلت ولاية وجعلت بقية الشام ولاية جسيمة حاضرتها دمشق. وأُنشئت القدس لواء مستقلاً سنة 1870 تفاوض الأستانة مباشرة، وبعد خروج المصريين 1840 كانت القدس تجعل تابعة لإيالة صيدا تارة، وتابعة للباب العالي تارة أخرى، وأصبح لبنان مؤلفاً من أقضية الكورة والبترون وكسروان والمتن والشوف وزحلة وجزين، وظلت بيروت وطرابلس ونابلس واللاذقية وعكا وأعمالها تابعة لولاية دمشق، وبقي مركز الجيش دمشق على ما كان عليه قبيل دخول إبراهيم باشا. وفي سنة 1887 جعلت القدس متصرفية مستقلة، وجعلت الكرك أي ما وراء عبر الأردن متصرفية برأسها، وجعلت بيروت سنة 1888 ولاية مستقلة عن دمشق لموقعها الاقتصادي وأضيفت

تقاسيم فلسطين:

إليها عكا ونابلس واللاذقية وطرابلس وصور وصيدا ومرجعيون. وكان لبنان منذ سنة 1860 مستقلاً استقلالاً إدارياً يتولاه متصرف من الباب العالي برتبة وزير وتصادق على تعيينه الدول الست العظمى. ويوم جلا الأتراك عن الشام كان يقسم إلى ثلاث ولايات وهي دمشق وحلب وبيروت وثلاثة ألوية مستقلة أي ولايات صغيرة تفاوض الباب العالي مباشرة، وهي القدس ولبنان ودير الزور. واصطلح في فلسطين أولاً على جعلها أربعة ألوية وهي لواء القدس ويافا ولواء الجليل ولواء السامرة واللواء الشمالي. وجعلت المدن الأربع دمشق وحلب وحماة وحمص وما يتبعها دولة قسمت إلى عدة ألوية وهي الكرك وحوران ودمشق وحمص وحماة ودير الزور وحلب والإسكندرونة واستقل لواء اللاذقية. تقاسيم فلسطين: وبحسب التقاسيم الإدارية الأخيرة تقسم حكومة فلسطين إلى ثلاثة ألوية وهي 1ً لواء القدس ويافا ومركزه القدس. 2ً اللواء الجنوبي ومركزه غزة. 3ً اللواء الشمالي ومركزه حيفا. ويقسم لواء القدس ويافا إلى سبعة أقضية وهي قضاء القدس ورام الله وأريحا وبيت لحم ويافا والرملة. وليافا امتياز شبيه باستقلال إداري. ويقسم اللواء الجنوبي إلى أربعة أقضية وهي قضاء غزة والمجدل وبئر السبع والخليل. ويقسم اللواء الشمالي إلى عشرة أقضية وهي حيفا وعكا وزمارين والناصرة وطبرية وصفد ونابلس وطول كرم وجينين وبيسان. تقاسيم الشرق العربي أي شرقي الأردن: وتقسم حكومة الشرق العربي إلى أربعة ألوية وهي 1ً لواء عمان ويتبعه قضاء مادبا وناحية زيزاء الجيزة ومركزه عمان. 2ً لواء الصلت ومركزه الصلت. 3ً لواء أربد ومن عمله أقضية جبل عجلون وجرش وأم قيس ومركزه أربد، ويتبع المركز رأساً ثلاث نواح وهي الرمتا والكورة والغور، ومن عمله قضاء جرش ناحية الزرقاء. 4ً لواء الكرك ويتألف

دولة سورية:

من قضاءي الكرك والطفيلة ويتبع الكرك مباشرة ثلاث نواح: المزارن السماكية، الغور، وأضيفت العقبة ومعان إلى الشرق العربي. دولة سورية: وتقسم دولة سورية إلى سبعة ألوية وهي لواء 1 دمشق و 2 حوران 3 حمص و 4 حماة و 5 حلب و 6 دير الزور و 7 الإسكندرية. ويقسم لواء دمشق إلى ستة أقضية وهي 1 قضاء دومة وفيه ناحيتان تل منين ودير سلمان 2 قضاء جيرود وفيه ناحية القطيفة و 3 قضاء النبك وفيه ناحية يبرود و 4 قضاء الزبداني و 5 وادي العجم الذي جعل قضاء حرمون بعد وفيه ثلاث نواح وهي الطيبة ومركزها زاكية وبيت جن والدير علي 6 القنطيرة وفيه ناحية مجدل شمس. ولواء حوران ويلحق بمركزه ناحيتا بصرى وطفس ويتبعه قضاءان ازرع والزوية وفي قضاء ازرع خمس نواح وهي نوى، المسمية، الصنمين، اللجاه الجنوبية، اللجاه الشماليةز ولواء حمص ومن عمله خمس نواح وهي حسية، الرستن، عين ظاظ، القصير، جب الجراح. ويتبع حمص قضاء واحد وهو القريتين وفيه ناحية تدمر ويتبع لواء حماة ثلاث نواح وقضاء واحد فيه ثلاث نواح أيضاً فنواحي اللواء طار العلا، الحميرة، بارين، والقضاء سلمية وفيه ثلاث نواح: عين كاسون، عقيربات، معر شحور. لواء حلب ويلحق به عشرة أقضية 1 جرابلس ولها ناحيتان ناحية قلقوم وناحية جسرين و 2 جبل سمعان وفيه ثلاث نواح عذان، الزربة، أبوالظهور و 3 الباب وفيه ناحيتا دير صافر، صوسنباط و 4 المعرة ولها ناحيتان الأندرين، خوين الكبير و 5 اعزاز وفيه ناحية نين و 6 منبج وفيه ناحيتان أبو قلقل، مسكنة و 7 كرد طاغ وله أربع نواح ناحية فاطمة، الجوم، راجو، بلبل و 8 حارم وفيها أربع نواحِ كفر تخاريم، باريشا، سلقين، ترمانين و 9 جسر الشغور وفيها ناحيتان دركوش، المضيق و 10 إدلب

دولة جبل الدروز:

وفيها ثلاث نواح أريحا، سرمين، معرة مصرين، وأطلق على لواء حلب اسم ولاية حلب. ويقسم دير الزور إلى ستة أقضية جعلت مراكزها الآن 1ً دير ازور. 2ً الرقة. 3ً الميادين. 4ً البوكمال. 5ً حسجة. 6ً كرو. ويقسم قضاء دير الزور إلى أربع نواح مراكزها في دير الزور وكسره ومراط وسوار. وقضاء الرقة إلى خمس نواح مراكزها الرقة وخربة الرز ومرابط وأبو هريرة وسبخه. وقضاء الميادين إلى ناحيتين مركز أحداهما ميادين والثانية عشارة. وقضاء البوكمال إلى ناحيتين مركز أحداهما البوكمال والثانية الصلاحية. وقضاء حسجة إلى أربع نواح مراكزها في شدادي وحسجة ورأس العين وعاموده. وقضاء كرو إلى ثلاث نواح مراكزها كرو وعزنور وديرون اغا. دولة جبل الدروز: وتقسم دولة جبل الدروز إلى ثلاث عشرة ناحية وهي عري، القرية، صرخد، ملح، سالة، المجدل، نجران، عاهرة، وادي اللوي، الهيت، شهبة، سليم، نمرة، ومركز الدولة قرية السويداء. - دولة لبنان الكبرى: يقسم لبنان الكبير إلى إحدى عشرة محافظة إلى مديريات وهي 1ً محافظة صيدا ومركزها مدينة صيدا ومن عملها مديرية النبطية ومديرية عدلون ومديرية جزين 2ً ومحافظة صور مركزها مدينة صور ويتبعها مديرية تبنين ومديرية علما ومركز المحافظة مدينة صور 3ً محافظة مرجعيون مركزها الجديدة ومن عملها مديرية حاصبيا 4ً محافظة بيروت مركزها مدينة بيروت 5ً محافظة الشوف مركزها بعقلين ويتبعها مديريات المختارة وشحيم وعين زحلته ورشميا والشويفات وعاليه ومديرية دير القمر المستقلة 6ً محافظة طرابلس ومركزها مدينة طرابلس ويتبعها مديريات حلبا وقبيات وسير 7ً محافظة المتن ومركزها بحنس ومن توابعها مديرية بكفيا وبرمانا وبسكنتا وحمانا 8ً محافظة بعلبك ومركزها مدينة بعلبك ويتبعها مديريات طليا ودير الأحمر والهرمل

دولة العلويين:

ورأس بعلبك 9ً محافظة زحلة ومركزها مدينة زحلة ويتبعها مديريات قب الياس وسغبين وراشيا 10ً محافظة كسروان ومركزها غادير وبيت خشبو ومن عملها مديريات جبيل وريفون والكفور وقرطبا 11ً محافظة البترون ومركزها مدينة البترون ومن عملها مديريات تنورين وبشري وأميون. دولة العلويين: تقسم حكومة العلويين إلى لوائين 1ً لواء اللاذقية ومركزها مدينة اللاذقية وتنقسم إلى خمسة أقضية وهي اللاذقية وجبلة وصهيون وقضاء المرقب مركز حكومته بانياس وقضاء العمرانية ومركز حكومته مصياف 2ً لواء طرطوس ويقسم إلى ثلاث أقضية وهي طرطوس وصافيتا وقصبته دريكيش والحصن وقصبته تل كلخ. أما جزيرة أرواد فمستقلة وتعد من دولة العلويين.

العقود والعهود الأخيرة

- العقود والعهود الأخيرة صورة الرسائل الرسمية التي تبودلت بين الحكومة الفرنسوية والحكومة البريطانية لأجل تثبيت اتفاقية سايكس بيكو بواسطة السر ادوار غراي وم. كامبون في أيار سنة 1916 الرسالة الأولى: من مسيوا. كامبون إلى السرا. غراي 9 أيار 1916. 1 - تميل فرنسا وبريطانيا العظمى إلى الاعتراف بدولة عربية مستقلة أو حلف من الدول العربية المستقلة في منطقتي الألف والباء كما هو مبين في المصوّر بإمارة زعيم عربي وتقدمان لها الحماية. ويكون لفرنسا في منطقة الألف ولبريطانيا العظمى في منطقة الباء الحق الأول في عقد القروض وفي التزام المشاريع المحلية. وتقدم فرمسا في منطقة الألف وبريطانيا العظمى في منطقة الباء المستشارين الفنيين والإداريين حينما ترى الدولة العربية أو الحلف العربي ضرورة لذلك. 2 - تفوض فرنسا في المنطقة الزرقاء وبريطانيا العظمى في المنطقة الحمراء أن تعملا فيهما على ما ترغبان فيه أي أن تديراهما مباشرة أو غير مباشرة بالاشتراك مع العرب وتأسيس دولة عربية أو حلف من الدول العربية. 3 - تدار المنطقة السمراء بإدارة دولية ويترك أمر البت في تعيين شكلها إلى أن تتم المفاوضة مع روسيا وسائر الحلفاء ومندوبي شريف مكة. 4 - تعطى بريطانيا العظمى: أولاً مرفأي حيفا وعكا. ثانياً كمية

معينة من ماء نهري دجلة والفرات تؤخذ من منطقة الألف وتعطى لمنطقة الباء. وعلى حكومة جلالة الملك مقابل ذلك أن لا تفاوض في وقت من الأوقات دولة من الدول بشأن تسليمها قبرص قبل أن توافق فرنسا على ذلك. 5 - تكون الإسكندرونة مرفأ حراً للتجارة البريطانية ولا يكون فيها تفاوت في المعاملات أو اختلاف في الرسوم الجمركية، ولا ترفض التسهيلات الخاصة التي من شأنها الإسراع بنقل البضائع البريطانية وشحنها بالبحر أو بالخطوط الحديدية التي تمر بالمنطقة الزرقاء. لا فرق في أن تكون هذه البضائع واردة من المنطقة الحمراء أو صادرة إليها أو خاصة بمنطقة الألف والباء. تكون حيفا مرفأ حراً للتجارة الفرنسية وتجارة مستعمراتها وتجارة البلاد المشمولة بحمايتها، ولا يكون فيها تفاوت في المعاملات أو اختلاف في الرسوم الجمركية، ويكون شحن البضائع منها وإليها مباحاً بالسكة الحديدية التي تمر بالمنطقة السمراء. لا فرق في أن تكون هذه البضائع واردة أو صادرة من المنطقة الزرقاء أو من الألف أو الباء. 6 - لا تمد سكة حديد بغداد بمنطقة الألف جنوباً إلى ما وراء الموصل ولا بمنطقة الباء شمالاً إلى ما وراء سامرّاء قبل أن يتم إنشاء السكة الحديدية بين حلب وبغداد عن طريق وادي الفرات وقبل أن يوافق الفريقان على ذلك التمديد. 7 - يحق لبريطانيا العظمى وحدها أن تنشئ وتدير وتملك خطاً حديدياً يبتدئ من حيفا وينتهي بمنطقة الباء، ولها الحق أيضاً أن تنقل الجنود والمواد الحربية على هذا الخط الحديدي متى شاءت، ومن المعلوم عند الحكومتين أن هذا الخط هو لتسهيل ارتباط بغداد بحيفا فإذا تعذر مده فنياً في المنطقة السمراء واقتضى الأمر لمروره بغيرها تسمح فرنسا بذلك. 8 - تبقى تعرفة المكوس العثمانية كما كانت عليه سابقاً لمدة عشرين سنة في المنطقة الحمراء والزرقاء والألف والباء ولا يصير فيها تغيير أو تبديل إلا بمعرفة الفريقين وموافقتهما. لا توضع رسوم جمركية داخلية بين المناطق المذكورة أعلاه، وتحصل الرسوم بحسب الأصول في المرفأ الذي ترد إليه البضائع وتسلم بعد ذلك إلى الإدارة الداخلية التي تخصها تلك البضائع.

الرسالة الثانية:

9 - من البديهي أن فرنسا لا تفاوض دولة ثالثة في وقت من الأوقات بشأن التنازل عن مالها من الحقوق في المنطقة الزرقاء، ولا تتخلى عن هذه الحقوق إلا إلى الحكومة العربية أو الحكومات العربية المتحدة قبل أن توافق حكومة جلالة الملك على ذلك. وعلى حكومة جلالته أن تعمل بموجب هذه الشروط بالمنطقة الحمراء. 10 - يوافق الفريقان المتعاقدان الحكومة الفرنسية والحكومة البريطانية الحاميتان للدولة العربية على عدم السماح لدولة ثالثة أن تملك شيئاً في أراضي شبه جزيرة العرب وأن تتخذ قاعدة بحرية في الجزر الواقعة إلى شرق ساحل البحر الأحمر، وهذا لا يمنع أن تعدّل الحكومة البريطانية جبهة عدن بمقتضى الأصول الفنية والأحوال الخاصة بعد أن ثبتت ضرورة ذلك على أثر العداء التركي. 11 - تجري المفاوضة مع العرب بخصوص تخوم الدولة العربية أو الدول العربية المتحدة كما في السابق باسم الدولتين. 12 - معلوم أن مراقبة توريد الأسلحة إلى البلاد العربية منوط بالدولتين. الرسالة الثانية: من مسيوا. كامبون إلى السرا. غراي في 15 أيار سنة 1916 قبل أن تجاوب فخامتكم على رسالتنا في تاريخ 9 أيار سنة 1916 بخصوص تأليف دولة عربية أبديتم رغبتكم في إضافة بعض التأكيدات للمحافظة على حقوق الملاحة والامتيازات الدينية وامتيازات المدارس والبعثات الطبية في المناطق التي ستصبح فرنسية وفي المناطق التي ستسود فيها الإدارة الفرنسية، فغب الموافقة عليها من قبل فرنسا على حكومة جلالة الملك أن توافق أيضاً على نفس الشروط في المناطق الداخلة في دائرتها. ولي الشرف أن أعلم فخامتكم أن الحكومة الفرنسية مستعدة أن تصادق على جميع الامتيازات البريطانية التي كانت تتمتع بها قبل الحرب في المناطق التي ستعطى لها أي لفرنسا أو المناطق التي ستشمل بعنايتها، أما الامتيازات الدينية والمدرسية والطبية والفنية فستبقى كما في الماضي، ومن المعلوم أن هذه الامتيازات لا تعني بقاء الامتيازات الأجنبية والامتيازات القضائية.

الرسالة الثالثة:

الرسالة الثالثة: من السرا. غراي إلى المسيوا. كامبون في 16 أيار سنة 1916 يوافق على نص المعاهدة كما جاءت في كتاب المسيوا. كامبون في تاريخ 9 أيار سنة 1916.

نسخة مختصرة

نسخة مختصرة عن دستور فلسطين الرسمي ينص هذا النظام على تعيين رجل صالح لإدارة حكومة فلسطين يعرف بالمندوب السامي والقائد العام، ويخوله السلطة اللازمة لتنفيذ جميع الواجبات المقترنة بوظيفته، وتطبيق شروط الانتداب الذي منحته دول الحلفاء السامية إلى بريطانيا العظمى، وتأسيس وطن قومي لليهود. ومنح المندوب السامي السلطة لتقسيم البلاد بموافقة الوزير إلى مقاطعات أو أجزاء إدارية على أسلوب ملائم لأعمال الإدارة، وخول جميع الحقوق للتصرف بالأراضي العامة أو بما له علاقة فيها، وبجميع الحقوق لاستثمار المناجم والمعادن على اختلاف أنواعها وإعطاء امتيازات شرعية لأي كان لاستخراجها، وله الحق أن يهب الأرض العامة والمعادن والمناجم، ويؤجرها أو يسمح باستثمارها موقتاً بالشروط التي يرتئيها، وله الحق في تعيين موظفي الحكومة بعد مراعاة أوامر الوزير بالأحوال التي يراها مناسبة، وأن يعين واجباتهم ويبقى هؤلاء الموظفون في مراكزهم ما دام المندوب السامي راضياً عن أعمالهم. ويؤلف مجلس تنفيذي لمساعدة المندوب السامي على الطريقة التي تشير بها حكومة جلالة الملك. ويؤلف اعتباراً من التاريخ الذي يعينه المندوب السامي مجلساً تشريعياً لفلسطين يستعاض به عن المجلس الاستشاري وتكون له السلطة التامة لسن القوانين الضرورية للمحافظة على الأمن والسلام وانتظام الحكومة، بشرط أن لا يخالف التعليمات المعطاة من حكومة جلالة الملك، وأن لا يسن قانوناً يمس الحرية الشخصية أو يقيد الحرية الدينية أو يميز بين سكان فلسطين بسبب الجنسية أو الديانة أو اللغة أو يخالف نظام الانتداب الموضوع لفلسطين.

المحاكم الملكية والشرعية

لا تنفذ القوانين التي يسنها هذا المجلس قبل أن يصادق عليها المندوب السامي وتقرها حكومة جلالة الملك. يحتفظ المندوب السامي بالقوانين التي أجازها المجلس التشريعي لموافقة جلالته عليها ويحتفظ أيضاً بالأمور التي لها مساس بنظام الانتداب. ويحتفظ جلالة الملك لنفسه بحق رفض أي قانون قد يكون المندوب السامي وافق عليه في خلال سنة واحدة من تاريخ الموافقة عليه ويعلن رفضه إياه بواسطة كاتم السر العام. يؤلف المجلس التشريعي من 22 عضواً عدا المندوب السامي، منهم عشرة أعضاء من الموظفين واثنا عشر من غير الموظفين، وينتخب الغير موظفين بموجب الأوامر التي تصدر من مجلس الملك الخاص، أو بموجب ما يوضع من القوانين والأنظمة من حين إلى آخر بشأن هذه الانتخابات، ويكون الأعضاء الموظفون الأشخاص الذين يشغلون وظائف كاتم السر العام والنائب العام ومدير المالية ومفتش الشرطة والسجون ومدير الصحة ومدير الأشغال العامة ومدير المعارف ومدير الزراعة ومدير الكمارك مدير التجارة والصناعة. المحاكم الملكية والشرعية تؤلف محاكم صلح في كل قضاء وناحية ويكون لها السلطة الخاصة بقانون حكام الصلح العثماني كما هو معدّل بموجب القوانين والأنظمة النافذة الآن. وتؤلف محاكم مركزية في الأقضية التي يعينها المندوب السامي ولها الحق في رؤية جميع القضايا الحقوقية الخارجة عن اختصاص محاكم الصلح في ذلك القضاء والحق في رؤية جميع القضايا الجنائية الخارجة عن وظيفة محكمة الجنايات. وتؤلف محكمة جنايات لها السلطة التامة في رؤية الجرائم المعاقب عليها بالقتل والجرائم الأخرى التي ينص عليها القانون الخاص. وللمندوب السامي أن يؤلف بأمر منه محاكم أراضٍ كلما دعت الحاجة إلى ذلك للنظر في المسائل المتعلقة بملكية الأموال الغير المنقولة. وتؤسس محكمة تعرف بالمحكمة العليا وتعين صورة تأليفها بقانون خاص ويكون لها صفة المحاكم الاستئنافية.

بعض مواد عامة

وللمحاكم الشرعية الإسلامية وحدها الحق في رؤية الدعاوى المتعلقة في الأحوال الشخصية الخاصة بالمسلمين كالزواج والطلاق والنفقة وتصديق الوصايا الخ. ولمحاكم الطائفة اليهودية الدينية وحدها أن تنظر في استماع الدعاوى المتعلقة بالأحوال الشخصية. ولمحاكم الطوائف المسيحية المختلفة وحدها أن ترى مسائل الزواج والطلاق والنفقة وتصديق الوصايا وتنظر في الأوقاف الخ. إذا شملت قضية تتعلق بالأحوال الشخصية أشخاصاً من طوائف دينية مختلفة يجوز لأي خصم أن يقدم طلباً إلى قاضي القضاة وهذا يعين بمساعدة مستشارين من الطوائف المختلفة المحكمة التي لها السلطة في استماع تلك القضية. وإذا قامت شبهة حول قضية من القضايا الشخصية الداخلة في اختصاص محكمة دينية تحال القضية إلى محكمة خاصة يعين شكلها بقانون خاص. بعض مواد عامة يجب أن تنشر باللغة الإنكليزية وبالعربية وبالعبرية جميع القوانين والإعلانات الرسمية والنماذج التي تصدرها الحكومة وجميع الإعلانات الرسمية التي تعلنها السلطات المحلية والبلديات في المناطق التي يعينها المندوب السامي بأمر منه. ويجوز استعمال اللغات الثلاث في المباحثات والمناقشات التي تدور في المجلس التشريعي وفي دوائر الحكومة ومحاكمها مع مراعاة الأنظمة التي تسن من وقت إلى آخر. يحق لجميع سكان فلسطين أن يتمتعوا بالحرية الشخصية التامة والحرية الدينية المطلقة مع مراعاة حفظ النظام العام والآداب العامة ويحق لكل طائفة دينية معترف بها من الحكومة أن تتمتع بالاستقلال الذاتي لإدارة شؤونها الداخلية بعد مراعاة نصوص كل قانون وأمر يصدره المندوب السامي. إذا رأت طائفة دينية أو فريق كبير من أهالي فلسطين أن شروط الانتداب لا تنفذها حكومة فلسطين كما يجب، فلها الحق في رفع مذكرة بواسطة عضو في المجلس التشريعي إلى المندوب السامي فينظر في هذه المذكرة على الطريقة التي يعينها جلالة الملك وفقاً للأصول التي وضعها مجلس عصبة الأمم.

المعاهدة البريطانية الفرنسية

المعاهدة البريطانية الفرنسية المنعقدة في 23 كانون الأول سنة 1920 التي تبحث في بعض الشؤون المهمة مما له علاقة بالانتداب على سوريا ولبنان وفلسطين والعراق. أنابت الحكومة البريطانية والحكومة الفرنسية الوزيرين المفوضين الواضعين اسميهما أدناه ليحلا جميع الأمور التي لها علاقة بالانتداب الذي منح لبريطانيا العظمى على فلسطين والعراق ولفرنسا على سوريا ولبنان في المجلس الأعلى الذي اجتمع في سان رينو وقد اتفقتا على الشروط الآتية: 1 - تعينت حدود المناطق التي شملها الانتداب الفرنسي أي سوريا ولبنان وحدود المناطق التي شملها الانتداب البريطاني أي فلسطين والعراق كما يلي: من الشرق نهر الفرات وجزيرة ابن عمر إلى حدود ولايتي ديار بكر والموصل القديمة، ومن الجنوب الشرقي حدود هاتين الولايتين القديمة إلى غاية رومالين كوي ومن هنا خط يمتد من المنطقة التي يشملها الانتداب الفرنسي فيترك فيها جميع الراضي الواقعة في حوض نهر الخابور الغربي ويمر باستقامة نحو الفرات فيجتازه بالبوكمال ويمتد باستقامة إلى أمتار فجنوب جبل الدروز ومنة هنا يمتد إلى جنوب نصيب الواقعة على خط حديد الحجاز فسمخ الواقعة على بحيرة طبرية سائراً إلى جنوب خط السكة الحديدية وموازياً له. وتبقى درعا وما حولها في المنطقة التي يشملها الانتداب الفرنسي ويبقى ذلك الخط في وادي اليرموك ضمن المنطقة الفرنسية ويسير بصورة ملاصقة وموازية لخط السكة الحديدية كي يصبح في الإمكان أن تمد في وادي اليرموك سكة حديدية في الأراضي المشمولة بالانتداب البريطاني وستوضع التخوم في سمخ بصورة يمكن معها للفريقين المتعاقدين الساميين أن يبنيا مرفأ ومحطة للسكة الحديدية ليتمكنا من استعمال بحيرة طبرية بحريّة ومن الغرب يسير الخط من سمخ ماراً داخل بحيرة طبرية فأول وادي المسعديّة حيث يسير مع مجرى هذا النهر في وادي جرابا، إلى نبعه ومن هنا يتصل بطريق القنيطرة وبانياس بالمكان المعروف بالسكيك فيسير مع الطريق التي تبقى في المنطقة الفرنسية لغاية بانياس ومن هنا يسير نحو الغرب حتى يصل إلى المطلة وتبقى المطلة في المنطقة البريطانية، وسيوضع لهذا

الجزء من الحدود تفصيلات دقيقة يمكن معها تسهيل المواصلات بين جميع أطراف البلاد المشمولة بالانتداب الفرنسي كصور وصيدا والمناطق الواقعة إلى الغرب وإلى الشرق من بانياس. وتفصل التخوم بالمطلة بمفرق المياه في وادي الأردن وحوض نهر الليطاني وتسير جنوباً مع وادي الأردن فوادي فرعم ووادي كركرة اللذين يبقيان في المنطقة البريطانية فوادي اليلاونة ووادي العين والزرقاء التي تبقى في المنطقة الفرنسية ويصل الحد إلى شاطئ البحر المتوسط في ميناء رأس الناقورة التي تظل في المنطقة الفرنسية. 2 - تؤلف بعد التوقيع على هذه المعاهدة بثلاثة أشهر بعثة لتدرس الحدود بين المناطق المشمولة بالانتداب الفرنسي والمناطق المشمولة بالانتداب البريطاني التي بينها في المادة الأولى، وتتألف هذه البعثة من أربعة أعضاء تعين الحكومة البريطانية والحكومة الفرنسية اثنين منهم وتعين الاثنين الآخرين الحكومة المحلية المشمولة بالانتداب الفرنسي والحكومة المحلية المشمولة بالانتداب البريطاني بعد مشورة الحكومتين المنتدبتين. إذا وقع خلاف بين أعضاء هذه البعثة يعرض على مجلس جمعية الأمم ويكون قرارها فيه قطعياً. تقدم بتقارير البعثة النهائية الحدود الثابتة التي عينت أخيراً وتربط معها المصورات الضرورية الموقع عليها من قبل أعضاء البعثة، ويعمل ثلاث نسخ من هذه التقارير والمصورات تحفظ النسخة الواحدة بين سجلات مجلس جمعية الأمم وتحفظ النسختين الأخريين الحكومتان المنتدبتان. 3 - توافق الحكومة البريطانية والحكومة الفرنسية على ترشيح لجنة خاصة مهمتها درس الخطط التمهيدية التي تعينها الحكومة الفرنسية المنتدبة لأجل مصلحة الري في البلاد المشمولة بانتدابها لئلا يقلل إبرازها لحيز الفعل مياه دجلة والفرات في الموضع الذي يدخلان به المنطقة العراقية المشمولة بالانتداب البريطاني. 4 - توافق الحكومة البريطانية بالنظر إلى مكانة جزيرة قبرص من الوجهة الجغرافية والعسكرية بالنسبة إلى خليج الإسكندرونة على أن لا تفاوض أحداً بخصوص التنازل عنها أو تسليمه إياها قبلما توافق فرنسا على ذلك.

5 - أ: توافق الحكومة الفرنسية على وضع ترتيب حرّ يبين كيفية استعمال خط السكة الحديدية الواقع بين طبرية ونصيب استعمالاً مشتركاً تضمن سير هذا الترتيب وانتظامه إدارتا السكة الحديدية المؤلفتان في منطقتي الانتداب البريطاني والفرنسي بأسرع ما يمكن أي بعد تنفيذ الانتداب على سورية وفلسطين وتسمح هذه الاتفاقية بصورة خاصة لإدارة السكة الحديدية البريطانية أن تسير قطاراتها ذهاباً وإياباً بين هاتين المنطقتين وفقاً لمصالحها، وتنقل البضائع التجارية إلى المنطقة المشمولة بالانتداب الفرنسي بواسطتها، وتعين هذه الاتفاقية الشروط المالية والإدارية والفنية اللازمة لسير القطارات البريطانية، أما إذا لم يتم الاتفاق خلال ثلاثة أشهر من تنفيذ الانتداب بين الإدارتين المذكورتين أعلاه فستعين جمعية الأمم حكماً يفصل الخلاف وعندئذ تنفذ شروط هذه الاتفاقية التي حازت رضى الطرفين. يعمل بموجب هذه الاتفاقية إلى أجل غير مسمى وتصحح أحياناً بحسب الحال ب: يمكن للحكومة البريطانية أن تمد خطاً من الأنابيب الحديدية بجانب السكة الحديدية ولها الحق في نقل جنودها على هذه السكة الحديدية دائماً. ت: توافق الحكومة الفرنسية على تعيين بعثة خاصة تدرس الأراضي، وبعد درسها تعين الحدود في وادي اليرموك حتى نصيب بطريقة فنية يمكن معها بناء الخط الحديدي البريطاني وخط الأنابيب التي توصل بين فلسطين وبين سكة الحجاز ووادي الفرات في المنطقة المشمولة بالانتداب البريطاني، وتبقى السكة الحديدية الحالية المارة بوادي اليرموك داخل الأراضي المشمولة بالانتداب الفرنسي، ويجب على بريطانيا العظمى إحقاق حقها هذا ببرهة لا تتجاوز عشر سنوات. تتألف البعثة التي ذكرناها أعلاه من عضو بريطاني وعضو فرنسي يضاف إليهما نواب عن الحكومات المحلية بصفة مستشارين فنيين هذا إن رأت الحكومة البريطانية والحكومة الفرنسوية لزوماً لذلك. ج: إذا اقتضى الأمر لأسباب فنية أن يمر خط السكة الحديدية البريطانية ببعض الأماكن المشمولة بالانتداب الفرنسي توافق الحكومة الفرنسية على مرور

هذا الخط بتلك المناطق وتقدم للحكومة البريطانية أو لعملائها المساعدات اللازمة. د: إذا شاءت الحكومة البريطانية العمل بموجب الحق الممنوح لها بالفقرة الثالثة من هذه المادة أن تمد سكة حديدية في وادي اليرموك تنفذ الحكومة الفرنسية الشروط التي اشترطتها على نفسها بالفقرة الأولى والثانية من هذه المادة غب مرور ثلاثة أشهر من إنشاء السكة. هـ: توافق الحكومة الفرنسية على اتخاذ التدابير الفعالة لحمل الحكومات المحلية المشمولة بالانتداب الفرنسي أن تصادق على هذه الحقوق الممنوحة للحكومة البريطانية. 6 - تم الاتفاق على هذه الشروط التي تسهل أعمال الحكومة البريطانية مقابل عقد الاتفاقية الفرنسية البريطانية بخصوص الزيت في سان ريمو. 7 - لا تضع الحكومة البريطانية ولا الحكومة الفرنسية موانع في منطقتي انتدابهما لجميع الموظفين اللازمين لإدارة خط السكة الحجازية أو لاستخدامهم. تمنح جميع التسهيلات الضرورية لمرور جميع المستخدمين في الخط الحديدي الحجازي بمنطقة الانتداب البريطاني والفرنسي لئلا تتأخر أعمال هذا الخط. توافق الحكومة البريطانية والحكومة الفرنسية عند اللزوم على أن تعقدا اتفاقية مع الحكومات المحلية استثناء جميع مهمات هذا الخط ومعداته من الرسوم الجمركية عندما تمر بإحدى مناطق الانتداب. 8 - يعين خبراء واختصاصيون من قبل حكومة سورية وفلسطين غب مرور ستة أشهر من إمضاء هذه المعاهدة مهمتهم فحص حوال مياه نهر الأردن الأعلى ونهر اليرموك وتوابعهما لاستخدامها في الري ولأجل توليد الكهرباء وتعيين المقدار اللازم للأراضي الواقعة تحت الانتداب الفرنسي. تزود الحكومة الفرنسية الأخصائيين الذين تعينهم لدرس هذا المشروع بالتعليمات اللازمة لمنح فلسطين المياه الزائدة خدمة لمنافعها العامة إذا لم يحصل الاتفاق المطلوب عند نهاية هذا الدرس وتعرض المسألة على الحكومة البريطانية والحكومة الفرنسية لتدرساها وتقررا فيها قراراً نهائياً. تشترك إدارة فلسطين بقدر انتفاعها من هذه الأعمال في دفع نفقات بناء الترع والخلجان والسدود والخزانات والأحواض والأقنية وخطوط الأنابيب

الحديدية الخ. وتشترك في جميع الأعمال التي من شأنها إنبات الحراج وتنشيط تربيتها. 9 - توافق الحكومة البريطانية والحكومة الفرنسية عملاً بنص المادة 15 والمادة 16 من نظام الانتداب الفلسطيني وعملاً بنص المادة الثامنة والمادة العاشرة من نظام الانتداب العراقي وعملاً بنص المادة الثامنة من نظام الانتداب اللبناني السوري وعملاً أيضاً بموجب الحق العام المعطى من الحكومات الوطنية للمدارس المحلية بخصوص التربية والتعليم على السماح للمدارس التي تخص أناساً من التبعة الفرنسية أو من التبعة البريطانية على المثابرة في إدارة هذه المدارس في منطقتي انتدابهما، ويسمح بتعليم اللغة الفرنسية واللغة الإنكليزية في هذه المدارس. لا تعني هذه المادة بحال من الأحوال منح رعايا إحدى الدولتين المشار إليهما حق فتح مدارس جديدة في الوقت الحاضر في منطقة انتداب الدولة الأخرى.

صك الانتداب الفرنسي على سورية ولبنان

صك الانتداب الفرنسي على سورية ولبنان إن مجلس جمعية الأمم: لما كانت دول الحلفاء العظمى متفقة على أراضي سورية ولبنان التي كانت فيما مضى جزءاً من السلطة العثمانية يعهد بها ضمن حدود تعينها الدول المشار إليها إلى دولة منتدبة موكول إليها نصح الأهالي ومعاونتهم وإرشادهم في إدارتهم وفقاً لنص الفقرة الرابعة من المادة الثانية والعشرين من عهد عصبة الأمم. ولما كانت دول الحلفاء الرئيسية قد قررت أن الانتداب على البلاد الآنفة الذكر يعطي لحكومة الجمهورية الفرنسية وقد قبلته. ولما كان نص هذا الانتداب المبين في الماد الذكورة فيما بعد قد وافقت عليه حكومة الجمهورية الفرنسية وعرض للتصديق على مجلس جمعية الأمم. ولما كانت حكومة الجمهورية الفرنسية تتعهد بإجراء هذا الانتداب باسم عصبة الأمم طبقاً للمواد المذكورة. ولما كانت نصوص المادة الثانية والعشرون الآنفة الذكر الفقرة الثامنة تقضي بأنه إذا كانت درجة السلطة والمراقبة والإدارة التي تجريها الدولة المنتدبة لم يتفق عليها سابقاً بين أعضاء جمعية الأمم فالمجلس هو الذي ينظم ذلك. يوضع نصوص الانتداب كما يلي موافقاً عليه: 1 - تضع الحكومة المنتدبة في برهة ثلاث سنوات اعتباراً من تاريخ تنفيذ هذا الانتداب دستوراً نظامياً لسورية ولبنان.

يصاغ هذا الدستور بالاتفاق مع السلطات الوطنية وتراعى فيه حقوق جميع السكان القاطنين في هذه البلاد ومصالحهم. وتشرع الحكومة المنتدبة في إيجاد الوسائل التي من شأنها أن تسهل تقدم سورية ولبنان ورقيهما حكومتين مستقلتين وتسيرهما بموجب روح هذا الصك إلى أن يتم الشروع في تنفيذ ذاك الدستور. ويجب على الدولة المنتدبة أن تنشط الاستقلال المحلي قدر ما تسمح به الحال. 2 - يمكن للحكومة المنتدبة أن تبقي جنودها في البلاد للدفاع عنها. وقد خولت حق تنظيم جند من المليس المحلي للمحافظة على الأمن والدفاع عن الحوزة كما تقتضيه الأحوال وذلك ريثما تنفذ الدستور ويعاد الأمن إلى نصابه، وتنظم جنود المليس المحلي من سكان البلاد فقط. ترتبط هذه الجنود فيما بعد بالإدارات المحلية تحت إشراف الدولة المنتدبة ولا يجوز استخدامها لأغراض أخرى سوى الأغراض المعينة فيما تقدم إلا بعد موافقة الدولة المنتدبة. لا مانع يمنع سورية ولبنان من الاشتراك في نفقات القوات التي تضعها الدولة المنتدبة في البلاد. يحق للدولة المنتدبة في كل حين أن تستعمل المواني والخطوط الحديدية ووسائل النقل الموجودة في سورية ولبنان لسوق جنودها ونقل جميع المواد والمهمات والوقود اللازمة لها. 3 - يعهد إلى الدولة المنتدبة بالسيطرة على جميع علاقات سورية ولبنان الخارجية ولها حق إصدار البراءات إلى القناصل الذين يعينون من قبل الدول الأجنبية، وتشمل الدول المنتدبة بحمايتها السياسية والقنصلية الرعايا السوريين واللبنانيين الذين يعيشون خارج هذه الديار. 4 - الدولة المنتدبة مسؤولة عن عدم التنازل عن أي جزء من أجزاء سورية ولبنان وعن عدم تأجيره أو وضعه تحت سيطرة دولة أجنبية. 5 - إن إعفاء الأجانب من الأمور الواجبة وتمتعهم بالامتيازات الأجنبية وبقضاء القنصلات والحماية التي كانوا يتمتعون بها أيام الدولة العثمانية لا تطبق في سورية ولبنان غير أن المحاكم الأجنبية تستمر على القيام بوظيفتها إلى أن يتم تنفيذ النظام الجديد المنصوص عنه بالمادة السادسة.

إن الدول التي كانت أتباعها يتمتعون بالامتيازات الأجنبية المبينة أعلاه أول آب سنة 1914 والتي لم تتنازل عن هذه الامتيازات أو توافق على عدم تطبيقها لأجل محدود، ستمنح ثانية جميع هذه الامتيازات أو بعضها بعد انقضاء أمد الانتداب بالصورة التي يتم عليها الاتفاق بين الدول ذوات الشأن. 6 - تضع الحكومة المنتدبة في سورية ولبنان نظاماً قضائياً يصون حقوق الوطنيين ولأجانب على السواء. يحافظ على أحوال الناس الشخصية وعلى مصالحهم الدينية وخصوصاً إدارة الأوقاف التي تدار وفقاً للشريعة ولإرادة الواقف. 7 - تكون معاهدات تسليم الرعايا الأجانب المبرمة بين الدول المنتدبة وبين سائر الدول الأجنبية مرعية في سورية ولبنان إلى أن يتم عقد اتفاقات خاصة بهذا الشأن. 8 - تضمن الدولة المنتدبة للجميع حرية الضمير وحرية القيام بجميع شعائر العبادة التي لا تخل بالأمن ولا بالآداب العامة ولا يكون تمييز من أي نوع بين سكان سورية ولبنان بسبب الجنس أو الدين أو اللغة. تنشط الدولة المنتدبة التعليم العام ويكون هذا التعليم بلغة البلاد المحلية. ولا تحرم جميع الطوائف حق المحافظة على مدارسها وتعليم أبنائها بلغتها متى كان ذلك مطابقاً لقانون التعليم العام الذي تعينه الحكومة. 9 - تتجنب الحكومة المنتدبة التدخل في أعمال المجالس الإدارية وفي إدارة الطوائف الدينية وفي إدارة المعابد المقدسة التي تخص إحدى الطوائف وقد تكفلت بالمحافظة على هذه المعابد. 10 - تحدد سلطة الدولة المنتدبة في مراقبة البعثات الدينية في سوريا ولبنان لأجل محافظتهم على الأمن وعلى الحكم بطريقة مرضية. ولا تحصر الدولة المنتدبة مساعي هذه البعثات بصورة من الصور ولا تقيد أعضاءها بقيود بسبب قوميتهم ما لم تخرج أعمالهم عن أصول الدين. يمكن لهذه البعثات الدينية أن تشتغل بأمور الإسعاف والتعليم تحت مراقبة الدولة المنتدبة أو الحكومة المحلية. 11 - يجب على الحكومة المنتدبة أن لا تميز في سوريا ولبنان بين أتباعها

وأتباع غيرها من الدول الداخلة في عضوية جمعية الأمم، وتشمل هذه المعاملة الجمعيات والشركات الأجنبية على أنواعها وأن لا تميز أيضاً بين أتباع أي دولة أجنبية وبين أتباعها في الأمور التي لها مساس بالضرائب والتجارة والملاحة وتعاطي الحرف والمهن أو في معاملة السفن البحرية أو الوسائط الهوائية وكذلك يجب أن لا يكون تمييز في سوريا ولبنان بين البضائع التي يكون مصدرها أو مقصدها ممالك تلك الدول المذكورة ويجب إطلاق حرية المرور التجارية في عبر المنطقة المشار إليها بشروط عادلة. للحكومة المنتدبة بعد مراعاة ما ذكر أعلاه أن تفرض الضرائب والرسوم الجمركية التي تراها ضرورية أو أن توعز للحكومات المحلية أن تفرضها، وللدولة المنتدبة أو للدول المحلية التابعة لمشورتها أن تعقد بسبب الجوار اتفاقاً جمركياً خاصاً مع البلاد المتاخمة لها. وللحكومة المنتدبة عملاً بشروط البند الأول من هذه المادة أن تتخذ الوسائل الفعالة التي تعتقد صلاحها لترقية المارد الطبيعية مع المحافظة على مصالح السكان. تمنح الامتيازات لترقية هذه الموارد الطبيعية لمن شاء دون النظر إلى تابعية الأشخاص الداخلة دولهم في عداد أعضاء جمعية الأمم بشرط أن لا تمس هذه الامتيازات الحكومة المحلية، ولا تمنح الامتيازات بصفة احتكار عام. لا تمس هذه الفقرة تحديد سلطة الدولة المنتدبة في إيجاد الاحتكارات المالية التي ترقي مصالح سورية ولبنان وتحفظ مواردهما المالية والمحلية، وعلى الحكومة أن تسعى لترقية هذه الموارد الطبيعية مباشرة أو بواسطة شركة خاصة تعمل تحت إشرافها على شرط أن لا يوجد هذا العمل لا عمداً ولا بالواسطة احتكاراً خاصاً بالدولة المنتدبة أو برعاياها، أو يمنحهما ميزة في الأمور الاقتصادية والتجارية والصناعية التي تقرر فيها المساواة بين الجميع. 12 - تحافظ الدولة المنتدبة بالنيابة عن سورية ولبنان على كل اتفاق دولي عام عقد حتى الآن أو عساه يعقد فيما بعد بموافقة جمعية الأمم بخصوص الاتجار بالرقيق، وبالعقاقير، وبالسلاح، والمعدات الحربية، وبالمساواة التجارية، وحرية العبور، والملاحة، والطيران، والمواصلات البريدية والبرقية واللاسلكية، وباتخاذ الوسائط اللازمة لحماية الصنائع والآداب والفنون.

13 - تصون الدولة المنتدبة بقدر ما تسمح لها الأحوال الاجتماعية والدينية اتحاد سورية ولبنان في الأمور ذات الفوائد العامة التي تقرها جمعية الأمم لمنع الأمراض ومقاومتها وفي جملتها أمراض الحيوان والنبات. 14 - تضع الدولة المنتدبة وتنفذ في السنة الأولى من تاريخ تنفيذ هذا الانتداب قانوناً خاصاً بالآثار والعاديات ينطبق على الأحكام الآتية ويضمن هذا القانون لرعايا كل الدول الداخلة في جمعية الأمم المساواة في المعاملة فيما يتعلق بالحفريات والتنقيبات الأثرية. 1ً يجب أن يفهم من لفظة العاديات كل ما نتج عن عمل البشر أو وضعهم قبل سنة 1700. 2ً إن التشريع لحماية العاديات يجب أن يكون أجدر بالتشجيع منه بالتهديد ويجب على كل شخص يكتشف أثراً بدون حصول على الإذن الذكور في الفقرة الخامسة أن يعلم السلطة ذات الشأن باكتشافه وينال مكافأة متناسبة مع قيمة ما اكتشفه. 3ً لا يمكن نقل ملكية شيء من العاديات إلا لمصلحة السلطة ذات الشأن ما لم تعدل هذه السلطة عن أخذه. ولا يتأتى إخراج شيء من العاديات من البلاد إلا بإذن تلك السلطة. 4ً كل شخص يتلف أو يثلم قطعة من العاديات تعمداً أو إهمالاً يجب أن يجازى جزاء معيناً. 5ً ممنوع كل حفر أو تنقيب لإيجاد العاديات إلا بإذن من السلطة ذات الشأن ويغرم المخالف لذلك غرامة مالية. 6ً توضع شروط عادلة للسماح بنزع الملكية مؤقتاً أو أبدياً في الأراضي التي تحتوي فائدة تاريخية أو أثرية. 7ً لا تعطى الرخصة بإجراء الحفريات إلا لأشخاص يقدمون أدلة كافية على خبرتهم الأثرية وعلى الدولة المنتدبة عند إعطاء هذه الرخص أن لا تستثني علماء أمة من الأمم. 8ً يمكن اقتسام محصول التنقيب بين الأشخاص الذين أجروه والسلطة ذات الشأن بالنسبة التي تعينها هي. فإذا تعذر الاقتسام لأسباب علمية يعطى للمكتشف تعويض عادل بدل قسم من محصول التعديل. 15 - عندما يتم تنفيذ الدستور المنصوص عنه في المادة الأولى يوضع ترتيب بين الحكومة المنتدبة والحكومة المحلية تدفع بموجبه هذه الحكومات جميع النفقات التي أنفقتها الحكومة المنتدبة لأجل تنظيم الإدارة وترقية الموارد المحلية والقيام بالمشاريع العامة التي أفادت إفادة خاصة وترسل نسخة عن هذه التراتيب إلى مجلس جمعية الأمم.

16 - تكون اللغة الفرنسية واللغة العربية اللغتين الرسميتين المستعملتين في سورية ولبنان. 17 - تقدم الدولة المنتدبة لمجلس جمعية الأمم تقريراً سنوياً حسب طلبه تبين فيه التدابير التي اتخذتها خلال السنة لتنفيذ شروط صك الانتداب ويرسل مع هذا التقرير نسخ عن جميع القوانين والأنظمة التي تسن سنوياً. 18 - على مجلس جمعية الأمم أن يوافق على كل تعديل يطرأ على سروط هذا الصك. 19 - يستعمل مجلس جمعية الأمم نفوذه عندما تنتهي مدة الانتداب لتحافظ حكومة سورية ولبنان في المستقبل على علاقاتهما المالية ومنها الرواتب القانونية التي منحتها إدارة سورية ولبنان أيام الانتداب. 20 - توافق الدولة المنتدبة إذا حصل نزاع بينها وبين دولة ثانية داخلة في عضوية جمعية الأمم بخصوص تفسير شروط صك الانتداب أو تطبيقها على عرض هذا النزاع على محكمة العدل الدولي الدائمة المنصوص عنها في المادة الرابعة عشرة من مواد عهد جمعية الأمم هذا إذا لم يمكن حل النزاع بين الدولتين بالمفاوضات.

صك الانتداب على فلسطين

صك الانتداب على فلسطين لما كانت دول الحلفاء الرئيسة قد اتفقت تنفيذاً لنصوص المادة 22 من عهد جمعية الأمم على أن تعهد إلى دولة منتدبة تختارها الدول المذكورة في إدارة شؤون فلسطين التي كانت تابعة للسلطنة العثمانية ضمن الحدود التي تعينها الدول المذكورة. ولما كانت دول الحلفاء الرئيسة قد وافقت أيضاً على أن تكون الدولة المنتدبة مسؤولة عن تنفيذ التصريح الذي صرحت به حكومة جلالة ملك بريطانيا في 2 تشرين الثاني 1917 وصادقت عليه الدول المذكورة بأن ينشأ في فلسطين وطن قومي للشعب اليهودي مع البيان الجلي بأن لا يعمل ما يعبث بالحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين الآن ولا الحقوق والمركز السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى. ولما كان ذلك اعترافاً بالصلة التاريخية التي تصل الشعب اليهودي بفلسطين والبواعث التي تبعث على إعادة إنشاء وطنهم القومي في تلك الديار. ولما كانت دول الحلفاء اختارت الحكومة البريطانية لتكون الدولة المنتدبة لفلسطين. ولما كان الانتداب على فلسطين قد صيغ في النصوص التالية وعرض على مجلس جمعية الأمم طبقاً للنصوص والشروط التالية.

ولما كانت المادة 22 المتقدمة الذكر في الفقرة 8 تنص على أن درجة السلطة والسيطرة أو الإدارة التي تكون للدولة المنتدبة إذا لم يتم الاتفاق عليها بين أعضاء جمعية الأمم فإن مجلس جمعية الأمم ينص على ذلك نصاً صريحاً. فالمجلس بعد تأييد الانتداب المذكور يحدد شروطه ونصوصه بما يأتي: 1 - للدولة المنتدبة السلطة التامة في التشريع والإدارة عدا ما وضعت لهما حدود في نصوص صك الانتداب هذا. 2 - تكون الدولة المنتدبة مسؤولة عن جعل البلاد في حالة سياسية وإدارية واقتصادية تكفل إنشاء الوطن القومي اليهودي كما جاء في ديباجة هذا الصك وترقية أنظمة الحكم الذاتي وضمان الحقوق المدنية والدينية لجميع سكان فلسطين دون النظر إلى الأجناس والأديان. 3 - على الدولة المنتدبة أن تنشط الاستقلال المحلي على قدر ما تسمح به الأحوال. 4 - يعترف بهيئة يهودية صالحة لائقة كهيئة عمومية لتشير وتعاون في إدارة فلسطين في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية وغير ذلك مما يؤثر في إنشاء الوطن القومي اليهودي ومصالح السكان اليهود في فلسطين وتساعد وتشترك في ترقية القطر تحت سيطرة حكومته دائماً. ويعترف بأن الجمعية الصهيونية هي هذه الهيئة المنصوص عليها في ما تقدم ما دامت الدولة المنتدبة ترى أن نظامها وتأليفها يجعلانها صالحة لهذا الغرض وعلى الجمعية الصهيونية أن تتخذ ما يلزم من التدابير بعد استشارة الحكومة البريطانية للحصول على معونة جميع اليهود الذين يبغون المساعدة في إنشاء الوطن القومي اليهودي. 5 - تسأل الدولة المنتدبة عن عدم التنازل عن شيء من أرض فلسطين أو تأجيره أو وضعه تحت تصرف حكومة دولة أجنبية. 6 - على حكومة فلسطين مع كفالة عدم إلحاق الضرر بحقوق جميع طوائف الأهالي أن تسهل هجرة اليهود إلى فلسطين في أحوال مناسبة وتنشط بالاتفاق مع الهيئة اليهودية المشار إليها في المادة 4 استقرار اليهود في الأرض

الزراعية وفي جملتها الراضي المدورة والأراضي البور الموات التي تستغني عنها الأعمال العامة. 7 - يتعين على حكومة فلسطين أن تسن قانوناً للجنسية يتضمن نصوصاً بتسهيل حصول اليهود الذين يتخذون فلسطين مقاماً دائماً لهم على الرعوية الفلسطينية. 8 - إن امتيازات الأجانب، وفي جملتها المحاكم القنصلية وحماية القنصليات ورعاياها، وهي التي كان الغرباء يتمتعون بها بحكم الامتيازات أو العرف في السلطنة العثمانية لا تنفذ في فلسطين ولكن متى انتهى أجل الانتداب فإن هذه الامتيازات تعاد برمتها أو مع التعديل الذي يكون قد تم عليه الاتفاق بين الدول صاحبة الشأن إلا إذا كانت الدول التي ظل رعاياها يتمتعون بالامتيازات المذكورة في أول آب 1914 قد سبقت فتنازلت عن حق تلك الامتيازات أو وافقت على عدم تطبيقها لأجل مسمى. 9 - الدولة المنتدبة مسؤولة عما ينشأ في فلسطين من نظام قضائي يكفل حقوق الأجانب والوطنيين ويضمن كل الضمان احترام الأحوال الشخصية والمصالح الدينية لجميع الشعوب والطوائف ولا سيما إدارة الأوقاف التي تسير على الشريعة الدينية وشروط الواقفين. 10 - تراعى المعاهدة المبرمة بين الدول المنتدبة وسائر الدول الأجنبية شأن تسليم الرعايا الأجانب المطلوبين من فلسطين إلى أن تعقد اتفاقات خاصة بذلك عن فلسطين. 11 - تتخذ حكومة فلسطين جميع التدابير اللازمة لصون مصالح الجمهور في ما له علاقة بترقية البلاد ولها السلطة التامة لتدبير ما يلزم لوضع يد الحكومة أو سيطرتها على أحد موارد البلاد الطبيعية أو الأعمال والمصالح والمنافع العمومية الموجودة أو التي ستوجد فيما بعد فيها بشرط مراعاة العهود الدولية التي أخذتها الدولة المنتدبة على نفسها. وعليها أيضاً أن توجد نظاماً للأراضي يلائم حاجات البلاد مع مراعاة أمور أُخرى ومنها المنافع التي تنجم عن تشجيع إكثار المهاجرة واستغلال أعظم قدر مستطاع من الأرض. ويجوز للإدارة أن تتفق مع الهيئة اليهودية المذكورة في المادة الرابعة على

أن تجري أو تستثمر بالإنصاف والعدل الأعمال والمصالح والمنافع العمومية وترقي المرافق الطبيعية حيث لا تتولى هذه الأمور مباشرة بنفسها. ويشترط في هذه الاتفاقات أن لا تتجاوز الأرباح التي توزعها الهيئة القائمة بالعمل مباشرة أو غير مباشرة فائدة معتدلة لرأس المال. وكل ما يزيد على هذه الفائدة يستخدم فيما ينفع البلاد على الوجه الذي توافق عليه حكومتها. 12 - يعهد إلى الدولة المنتدبة بالسيطرة على علاقات فلسطين الخارجية وحق إصدار البراءات إلى القناصل الذين تعينهم الدول الأجنبية وللدولة المنتدبة الحق أيضاً في أن تشمل رعايا فلسطين، وهم في خارج ديارهم بحماية سفرائها وقناصلها. 13 - تتقلد الدولة المنتدبة كل التبعة المختصة بالأماكن المقدسة والمباني والمواقع الدينية في فلسطين، وهذا يتناول المحافظة على الحقوق الموجودة وضمان الوصول إلى المواضع المقدسة والمواقع الدينية وحرية العبادة مع المحافظة على الأمن العام والآداب وتُسأل الدولة المنتدبة أمام جمعية الأمم دون سواها عن كل ما يتعلق بذلك على أن لا تحول نصوص هذه المادة دون اتفاق الدولة المنتدبة مع حكومة البلاد حسبما تراه الدولة المنتدبة لتنفيذ نصوص هذه المادة وبشرط أن لا يسفر شيء في هذا الانتداب تفسيراً يخول الدولة المنتدبة سلطة التعرض للأملاك الإسلامية أو التدخل في إدارة المشاهد الإسلامية المقدسة المحفوظة الامتيازات. 14 - تؤلف الدولة المنتدبة لجنة خاصة لدرس الحقوق والدعاوى المتعلقة بالأماكن المقدسة والحقوق والدعاوى الخاصة بالطوائف الدينية المختلفة في فلسطين وتعيين وظائفها ويعرض الأسلوب المتبع في تعيين هذه اللجنة وتأليفها وعملها على مجلس جمعية ليوافق عليها ولا تعين اللجنة ولا تشرع بعملها من غير موافقة المجلس. 15 - على الدولة المنتدبة أن تحقق أن الحرية الدينية التامة وحرية القيام بجميع شعائر العبادة مكفولتان للجميع بشرط المحافظة على النظام العام والآداب فقط ويجب أن لا يكون هناك تمييز من أي نوع كان بين سكان فلسطين

بسبب الجنس أو الدين أو اللغة وأن لا يحرم أحد من دخول فلسطين بسبب اعتقاده الديني فقط. لا تحترم طائفة من الطوائف من حق المحافظة على مدارسها لتعليم أبنائها بلغتهم إذا كان ذلك مطابقاً لشروط التعليم العمومية التي تفرضها الإدارة الحكومة. 16 - تُسأل الدولة المنتدبة عما تقتضيه المحافظة على النظام العام والحكم المنتظم من الإشراف على الهيئات الدينية والخيرية التي لجميع المذاهب في فلسطين وبمراعاة هذا الشرط لا يجوز أن تتخذ تدابير في فلسطين تعوق أعمال هذه الهيئات أو تتعرض لها أو تجحف بممثل لها أو عضو فيها بسبب دينه وجنسيته. 17 - يجوز لإدارة حكومة فلسطين أن تنظم على قاعدة اختيار القوات اللازمة للمحافظة على السلم والنظام وللدفاع عن البلاد أيضاً على أن تكون تحت إشراف الدولة المنتدبة، ولا يجوز لإدارة فلسطين استخدام هذه القوات لأغراض أخرى غير الأغراض المعينة في ما تقدم إلا بموافقة الدولة المنتدبة وفي ما عدا هذه الأغراض لا يجوز لإدارة فلسطين أن تجمع قوات عسكرية أو بحيرة أو جوية ولا أن تبقيها عندها. وليس في هذه المادة ما يمنع إدارة فلسطين من الاشتراك في نفقات قوات الدولة المنتدبة في فلسطين. ويحق للدولة المنتدبة في كل وقت أن تستخدم طرق فلسطين وسككها الحديدية وموانيها لحركات القوى المسلحة ونقل الوقود والمهمات. 18 - على الدولة المنتدبة أن تتكفل بعدم التحيز في فلسطين لرعايا أية دولة تكون عضواً في جمعية الأمم ومن ذلك الشركات المؤلفة بحسب قوانين تلك الدولة إذا قيسوا برعايا الدولة المنتدبة أو أية دولة أجنبية كانت في الأمور المتعلقة بالضرائب أو التجارة أو الملاحة أو تعاطي الصنائع أو المهن أو في معاملة السفن التجارية أو الطيارات الأهلية. وكذلك يجب أن لا يكون هناك تحيز في فلسطين ضد عروض يكون منشؤها في بلاد من بلدان الدول المذكورة أو تكون مرسلة إليها. وتطلق حرية مرور المتاجر الترانسيت عبر البلاد المشمولة بالانتداب بشروط عادلة.

ومع مراعاة ما تقدم وسائر شروط صك الانتداب هذا يجوز لإدارة فلسطين أن تفرض بإدارة الدولة المنتدبة من الضرائب والرسوم الجمركية ما تراه ضرورياً وتتخذ من التدابير ما تظنه صالحاً لزيادة ترقية الموارد الطبيعية في البلاد وصيانة مصالح السكان ويجوز لها أن تعقد بإشارة الدولة المنتدبة اتفاقاً جمركياً خاصاً مع أي دولة كانت أملاكها كلها داخلة في تركيا الآسيوية أو شبه جزيرة العرب في سنة 1914. 19 - تحافظ الدولة المنتدبة بالنيابة عن الإدارة إدارة فلسطين على كل اتفاق من الاتفاقات الدولية العامة المعقودة حتى الآن أو التي قد تعقد بموافقة جمعية الأمم في المستقبل من أجل الاتجار بالرقيق والاتجار بالسلاح والذخيرة أو الاتجار بالمخدرات أو تتعلق بالمساواة التجارية وحرية المرور الترانسيت والملاحة والطيران وبالمواصلات البريدية والبرقية واللاسلكية وبحقوق أصحاب الآثار الأدبية والفنية والصناعية. 20 - تعاون الحكومة المنتدبة بالنيابة عن إدارة فلسطين في تنفيذ كل سياسة مشتركة تقررها جمعية الأمم لمنع انتشار الأمراض وفي جملتها أمراض النباتات والحيوانات ومكافحتها بقدر ما تسمح به الأحوال الدينية والاجتماعية وغيرها. 21 - تضع الدولة المنتدبة وتنفذ في السنة الأولى من تاريخ تنفيذ هذا الانتداب قانوناً خاصاً بالآثار والعاديات ينطبق على الأحكام الآتية ويمتع هذا القانون رعايا الدول الداخلة في جمعية الأمم بالمساواة في المعاملة فيما له مساس بالحفريات والتنقيبات الأثرية: 1ً يجب أن يفهم من لفظة العاديات كل ما نتج عن عمل البشر أو وضعهم قبل سنة 1700. 2ً يجب أن يكون قانون حماية العاديات أقرب إلى التشجيع منه إلى التهديد، وعلى كل شخص يكتشف أثراً بدون حصول على الإذن المذكور في الفقرة الخامسة أن يعلم السلطة ذات الشأن باكتشافه وينال مكافأة متناسبة مع قيمة ما اكتشفه. 3ً لا يمكن نقل شي من العاديات إلا لمصلحة ذات شأن

ما لم تعدل هذه السلطة عن أخذه ولا يمكن إخراج شيء من العاديات من القطر إلا بإذن تلك السلطة. 4ً يجازى كل شخص يتلف أو يثلم قطعة من العاديات تعمداً أو إهمالاً جزاء معيناً. 5ً ممنوع إجراء حفر أو تنقيب للظفر بالعاديات إلا بإذن من السلطة ذات الشأن ويغرم المخالف غرامة مالية. 6ً توضع شروط عادلة للسماح بنزع الملكية موقتاً أو دائماً في الأراضي التي تحتوي فائدة تاريخية أو أثرية. 7ً لا تعطى الرخصة بإجراء الحفريات إلا لأشخاص يقدمون أدلة كافية على اختبارهم الأثري. وعلى الدولة المنتدبة عند إعطاء هذه الرخص أن لا تستثني علماء أمة من الأمم. 8ً يمكن اقتسام محصول التنقيب بين الأشخاص الذين أجروه والسلطة ذات الشأن بالنسبة التي تعينها هي. فإذا تعذرت القسمة لأسباب علمية يعطى للمكتشف تعويض عادل بدل قسم من محصول التعديل. 22 - تكون الإنكليزية والعربية والعبرانية اللغات الرسمية في فلسطين فكل عبارة أو كتابة بالعربية على طوابع أو عملة في فلسطين تكرر بالعبرانية وكل عبارة أو كتابة بالعبرانية تكرر بالعربية. 23 - تعترف إدارة فلسطين بالأيام المقدسة الأعياد عند كل طائفة من طوائف فلسطين أيام راحة مشروعة لأفراد تلك الطائفة. 24 - تقدم الدولة المنتدبة لمجلس جمعية الأمم تقريراً سنوياً يرتاح إليه المجلس تذكر فيه التدابير المتخذة خلال السنة لتنفيذ شروط صك الانتداب وترسل نسخ من جميع الأنظمة والقوانين التي تسن أو تصدر أثناء السنة مع التقرير. 25 - يحق للدولة المنتدبة بإذن مجلس جمعية الأمم أن تؤجل أو توقف تطبيق ما تراه من هذه الشروط غير مطابق للأحوال المحلية الحاضرة في الأملاك الواقعة بين نهر الأردن والحد الشرقي لفلسطين كما سيعين في آخر الأمر، وأن

تضع من التدابير لإدارة هذه الأملاك ما تراه ملائماً لتلك الأحوال بشرط أن لا يعمل عمل يخالف شروط المواد 15 و16 و18. 26 - توافق الدولة المنتدبة إذا وقع نزاع بينها الدولة المنتدبة وبين عضو آخر في جمعية الأمم يتعلق بتفسير شروط صك الانتداب أو تطبيقها على عرض هذا النزاع على المحكمة الدائمة للعدل الدولي المنصوص عليها في المادة الرابعة عشرة من عهد جمعية الأمم إذا لم يمكن حله بالمفاوضات. 27 - يلزم موافقة مجلس جمعية الأمم على كل تعديل في شروط صك الانتداب هذا. 28 - من التدابير في حالة انتهاء الانتداب المخول بموجب هذا الصك للدولة المنتدبة يتخذ مجلس جمعية الأمم ما يراه ضرورياً لصيانة استمرار الحقوق المكتسبة في المادتين 13 و14 على الدوام بضمان الجمعية ويعمل على أن يكفل احترام حكومة فلسطين الاحترام التام للعهود المالية التي أخذتها إدارة فلسطين على عاتقها في عهد الانتداب وفي جملة ذلك حقوق الموظفين في الراتب والمكافأة تودع الصورة الأصلية من هذا الصك في محفوظات جمعية الأمم وترسل صور مصدق عليها بواسطة السكرتير العام لجمعية الأمم إلى جميع أعضاء الجمعية.

صك الانتداب على شرقي الأردن

صك الانتداب على شرقي الأردن لأمين سر جمعية الأمم العام بخصوص تطبيق الانتداب الفلسطيني في شرق الأردن في 23 أيلول سنة 1922. يتشرف أمين سر جمعية الأمم العام بعرض مذكرة لأعضاء الجمعية قدمتها الحكومة البريطانية في 16 أيلول سنة 1922 بخصوص المادة 25 من نظام الانتداب الفلسطيني. وقد صادق المجلس على هذه المذكرة بموجب قرار قرره أثناء انعقاده في لندن في 24 تموز سنة 1922 بشأن تطبيق الانتداب على فلسطين وسورية. مذكرة العضو البريطاني 1 - تنص المادة 25 من نظام الانتداب الفلسطيني على ما يأتي: يحق للدولة المنتدبة بإذن جمعية الأمم أن تؤجل أو توقف تطبيق ما تراه غير مطابق للأحوال المحلية الحاضرة من الشروط، وذلك في الأملاك الواقعة بين نهر الأردن والحد الشرقي لفلسطين كما سيعين بعد وأن تضع من التدابير لإدارة هذه الأملاك ما تراه ملائماً لتلك الأحوال على أن لا يعمل عمل يخالف شروط المواد 15 و16 و18. 2 - تطلب حكومة جلالة الملك من المجلس وفقاً لشروط هذه المادة أن يقرر القرار الآتي: لا تطبق الشروط الآتية على نظام الانتداب الفلسطيني في القطر المعروف

بشرق الأردن الذي يشمل جميع المقاطعات الواقعة إلى شرق خط يمتد من نقطة واقعة على خليج العقبة على بعد ميلين إلى غرب مدينة العقبة ماراً بمنتصف وادي عربة وبحر الميت ونهر الأردن حتى النقطة التي يلتقي بها هذا النهر بنهر اليرموك فمنتصف هذا النهر حتى الحدود السورية. وتلك الشروط الملغاة هي: الشرح الثاني والثالث من الديباجة. المادة الثانية: في جعل البلاد في أحوال سياسية وإدارية واقتصادية تكفل إنشاء الوطن القومي اليهودي كما جاء في الديباجة. المادتان الرابعة والسادسة. المادة السابعة: يتضمن نصوصاً بتسهيل حصول اليهود الذين يتخذون فلسطين مقاماً دائماً لهم على الرعوية الفلسطينية. المادة الحادية عشرة: الجملة الثانية من الفقرة الأولى والفقرة الثانية. والمواد 13 و14 و22 و23. وفي تطبيق نظام الانتداب على شرق الأردن تقوم حكومته بالأعمال التي تقوم بها حكومة فلسطين بمراقبة الدولة المنتدبة. 3 - تقبل حكومة جلالة الملك التبعة التي تقع على عاتقها في تطبيق نظام الانتداب على شرق الأردن وتتكفل بأن الشروط التي توضع لإدارة ذلك القطر وفقاً للمادة 25 من نظام الانتداب لا يوافق بقية شروط نظام الانتداب التي لم تشر إلى عدم تطبيقها في هذا القرار بحال.

عهد أنقرة

عهد أنقرة الذي وقع عليه يوم 20 تشرين الأول سنة 1921 المادة الأولى: يعلن الفريقان الساميان المتعاقدان أنه بعد التوقيع على هذا الوفاق تنتهي حالة الحرب بينهما ويبلغ ذلك في الحال إلى الجيوش والسلطات الملكية والسكان. المادة الثانية: بعد التوقيع على هذا الوفاق يطلق سراح أسرى الحرب من الطرفين ويعاد جميع الفرنسيين والأتراك المأسورين والمسجونين على نفقة الفريق الذي أسرهم إلى أقرب مدينة تعين لذلك. ويستفيد من هذه المادة جميع الأسرى والسجناء من الفريقين مهما كان مدة أو محل سجنهم وتوقيفهم أو أسرهم. المادة الثالثة: بعد شهرين من التوقيع على هذا العهد على الأكثر تتراجع الجيوش التركية إلى الشمال والجيوش الفرنسية إلى جنوب الخط المعين في المادة الثامنة. المادة الرابعة: يجري الإخلاء والاستيلاء اللذان يتمان خلال المدة المذكورة في المادة الثانية على الكيفية التي تعين بالاتفاق المشترك وذلك بواسطة لجنة مختلطة يعينها قواد الجند من الفريقين. المادة الخامسة: يمنح الفريقان المتعاقدان العفو العام في الأصقاع التي تم الجلاء عنها وذلك بمجرد وضع اليد عليها. المادة السادسة: تصرح حكومة المجلس الوطني الكبير في تركيا أن حقوق الأقليات التي جرى الاعتراف بها جهاراً في الميثاق الوطني سيوافق هو عليها

على نفس الأساس الذي عقد في الوفاق المتعلق بهذا الشأن بين دول التحالف خصومهم وبعض أحلافهم. المادة السابعة: تدار شؤون صقع الإسكندرونة إدارة خصوصية ويتمتع السكان الأتراك في تلك الأرجاء بجميع التسهيلات لترقية ثقافتهم وتكون اللغة التركية صفة لغة رسمية. المادة الثامنة: يعين الخط المذكور في المادة الثالثة ويحدد كما يلي: يمتد خط التخوم من نقطة يجري اختيارها في خليج الإسكندرونة في جنوب ناحية بياس مباشرة ويتجه إلى ميدان اكبس تبقى محطة السكة الحديدية والناحية تابعتين لسورية. ومن هنا ينحني نحو الجنوب الشرقي بحيث يترك لسورية مديرية مرسوى ولتركيا بلدة قارصايه مع مدينة كليس ثم يسير مع السكة الحديدية حتى محطة جوبان بك ويسير مع خط بغداد ويبقى سطحه للأملاك التركية حتى نصيبين. ومن هناك يتبع الطريق القديم بين نصيبين وجزيرة ابن عمر حتى يبلغ نهر دجلة وتبقى لتركيا نصيبين وجزيرة ابن عمر والطريق بينهما ويكون للبلادين نفس الحقوق في الانتفاع من هذا الطريق. وتكون المحطات في شعبة جوبان بك ونصيبين ملكاً لتركيا كأنها جزء من سطح السكة الحديدية. وتتألف لجنة من مندوبي الفريقين في برهة شهر بعد التوقيع على هذا الوفاق لتحديد الخط المذكور وتبدأ هذه اللجنة بعملها في تلك المدة. المادة التاسعة: يبقى قبر سليمان شاه جد السلطان عثمان مؤسس الدولة العثمانية وهو القبر المعروف باسم ترك مزاري الواقع في قلعة جعبر مع كل ما يتعلق به ملكاً لتركيا تستطيع أن تضع فيه حراساً وترفع العلم التركي. المادة العاشرة: تقبل حكومة المجلس الوطني الكبير في تركيا بنقل امتياز فرع السكة الحديدية البغدادية الواقع بين بوزانتي ونصيبين مع سائر الشعب الممتدة في ولاية أذنة إلى شركة فرنسية تعينها الحكومة مع جميع الحقوق والفوائد والمنافع المتعلقة بالامتيازات ولا سيما فيما له علاقة بالاستثمار والاتجار.

يحق لتركيا أن تنقل منقولاتها العسكرية بالسكة الحديدية من ميدان اكبس إلى جوبان بك في أرض سورية ويحق لسورية أن تنقل مهماتها الحربية بالسكة الحديدية من جوبان بك إلى نصيبين في الأرض التركية. ولا تضاف زيادة عن أجور السكة في هذه الشعبة أو الفرع، وتحتفظ الحكومتان بحقهما في درس ما تقضي به الضرورة من الحياد إذا اقتضت الحال وذلك باتفاق الفريقين. وإذا لم يتسن الاتفاق فكل فريق حر في عمل ما يراه. المادة الحادية عشرة: تؤلف لجنة مختلطة بعد التصديق على هذا العقد لتعقد اتفاقاً جمركياً بين تركية وسورية وتحدد اللجنة شروط هذا الاتفاق ومدته ويكون للبلادين حق التمتع بحرية العمل ريثما يعقد هذا الوفاق. المادة الثانية عشرة: تقسم مياه نهر قويق بين مدينة حلب والصقع الواقع إلى الشمال الباقي لتركيا قسمة عادلة يرتضي بها الفريقان. ويتأتى لمدينة حلب أن تأخذ على حسابها من نهر الفرات شطراً من المياه من الأرض التركية لتستعملها في أرجائها. المادة الثالثة عشرة: يظلّ سكان القرى أو نصف الرحالة من أهلها ممتعين كما في السابق بحقوقهم في المراعي إذا كان لهم أملاك في إحدى الجهتين من الخط المعين في المادة الأولى ويتيسر لهم لضرورة استثمار أراضيهم أن يعملوا أحراراً لا يؤدون رسماً جمركياً ولا ثمن المراعي ولا أي رسم كان ويتنقلون من جهة إلى أُخرى من هذا الخط مع مواشيهم وما تنتج وأدواتهم وآلاتهم وبذارهم وحاصلاتهم الزراعية وهم مكلفون بأن يؤدوا الحقوق والرسوم عليها في الأراضي التي ينزلونها. انتهى الجزء الثالث وبه انتهى التاريخ السياسي في القطر الشامي ويليه الجزء الرابع وبه يبتدئ تاريخه المدني.

التاريخ المدني

التاريخ المدني العلم والأدب ما يُراد بالعلم والأدب: نريد بالعلم علم الدين والدنيا، فالعالم بالحديث عالم، والعالم بالطب عالم، والعالم بالكلام عالم، والعالم بالهندسة عالم. والكيمياء علم والبيطرة علم، والتاريخ علم والجدل علم، وشرف هذه العلوم بشرف مقاصدها، وأشرفها في نظر الإلهيين ما هذب النفس وأعدها للحياة الخالدة. وعلوم الدنيا هي الوسيلة إلى تلك السعادة كما قال حجة الإسلام الغزالي: إن الفقيه معلم السلطان ومرشده إلى طريق سياسة الخلق وضبطهم، لينتظم باستقامتهم أُمورهم في الدنيا، ولعمري إنه متعلق أيضاً بالدين ولكن لا بنفسه بل بواسطة الدنيا. فإن الدنيا مزرعة الآخرة ولا يتم الدين إلا بالدنيا. كان البشر قبل ظهور الأديان المشهورة يستخدمون علوم الدنيا للدنيا، وكانت بسائط على حالة ابتدائية بالطبع، ويعكفون من جهة أُخرى على تماثيلهم وأربابهم ومعابدهم يجوّدون صنعها، ويمجدونها ويتغنون بمدحها، فلما جاءت الأديان المعروفة تغير الشكل بصورة أُخرى، وبقيت العناية بالعلوم تختلف باختلاف الأصقاع والدول. أما الأدب فالذي كانت العرب تعرفه هو ما يحسن الأخلاق ويدعو إلى المكارم. واصطلح الناس بعد الإسلام بمدة طويلة على تسمية العالم بالشعر أديباً وعلوم العربية أدباً. والمراد بالإسلام كما قال

النووي من حيث انتشر وشاع في الناس وذلك قبل الهجرة النبوية بنحو ست سنين. للأهوية والأهواء تأثير في العلم، والعلوم ربيبة الأرض المعتدلة أو الباردة أكثر من الحارة والوبيئة، لأن أهل هذه قصيرة آمالهم في الحياة، محدودة مطالبهم، فاترة هممهم، مثلوم حدهم، متداعية صحتهم. ومن صرف وكده أيضاً إلى الأهواء المذهبية ضعف سلطان العلم فيه، لتوزع قواه، وانصراف رغبته عن الفانية إلى الباقية، واشتغال ذهنه بأمور لا يتسع لغيرها في الأغلب. وكلما توغلت أمة في مضمار المدنية نظرت إلى علوم الدين وعلوم الدنيا نظرة واحدة، وشرّفت ما تشتد حاجتها إليه منها، وأبلت بكليتها على المشتغلين بها. فقد رأينا جامعات أوربا في القرون الوسطى تنشأُ لغرض الدين على الأكثر، فلما عظمت مطالب البشر، وأخذت المدنية تسير سيرها، أصبحت العلوم الدينية في جامعاتهم تقراُ كما يقرأُ التاريخ والأدب والطبيعة، لا فضل لديني لاهوتي على طبيعي رياضي، إلا بالأثر الناتج عن درسه وبحثه، هذا إن لم يرجحوا في عرفهم العلِمَ الثاني. وبينا نجد تماثيل العلماء بالمئات في شوارع الغربيين وساحاتهم ومتاحفهم ودور العلم والصناعات عندهم، لا نشهد من علماء الدين إلا نفراً قليلاً أُقيمت لهم التماثيل داخل البيع والكنائس فقط. كان الاقتصار على العلم الديني في الصدر الأول للإسلام، ثم تسربت العلوم الدنيوية بسرعة، ورأى علماء الأمة أنها نافعة لقوام الدين والدنيا، وبذلك أقنعوا العامة ومن فوق درجتهم، فأقبل الناس عليها، وكانت العناية أولاً بعلوم القرآن والسنة، ثم أقبل الناس على الفقه لأن حالة الزمن اقتضت الإقبال عليه لتعدد الخصومات بين الناس واتساع المملكة الإسلامية وما حدث فيها من المشاكل والعُضُل، ثم أقبلوا على علم الكلام، لما رأوا الحاجة الماسة إليه خصوصاً وقد دخلت فلسفة القدماء وصادفت لها أنصاراً وعشاقاً، ثم مالوا إلى المناظرة في الفقه وبيان الأولى من مذاهب الشافعي وأبي حنيفة، ثم كثرت العلوم بين العرب في المدن وضعفت سندها في القرن العاشر للهجرة، إلى أن أخذت تتطور تطوراً جديداً أواخر القرن الثالث عشر ووائل هذا القرن على ما سيجيء.

وأهم العوامل في اضمحلال العلم في ديار الإسلام زهد الملوك والأمراء فيها واشتغال الناس بالفتن والغوائل. ومذ أخذ العلماء يتعلمون علوم الدين للجاه والمال، ضعفت علوم الدين والدنيا معاً. وأصبح السلطان للممخرقين والمعطلين والمتهوسين بمسائل الكشف والولاية من علماء الرسم، وليس الغرض من العلوم كما قال ابن ساعد الاكتساب بل الاطلاع على الحقائق، وتهذيب الأخلاق، على أن من تعلم علماً للاحتراف لم يأت عالماً وإنما يجيء شبيهاً بالعلماء. ولقد كوشف علماء ما وراء النهر بهذا الأمر، ونطقوا به لما بلغهم بناء المدارس ببغداد، فأقاموا للعلم مأتماً، وقالوا كان يشتغل به أرباب الهمم العلية والأنفس الزكية الذين يقصدون العلم لشرفه والكمال به، فيأتون علماء ينتفع بهم وبعلمهم، وإذا صار عليه أُجرة تدانى إليه الأخساءُ وأرباب الكسل، فيكون ذلك سبباً لارتفاعه، ومن هنا هُجرت علوم الحكمة وإن كانت شريفة لذاتها. إن الذين يولعون بالعلم للعلم في هذا العالم قلائل جداً، ولكنهم يكونون على الأكثر ممن نسميهم أو أكثرهم بأهل النبوغ والعبقرية، يتفانون في مقصدهم ويأتون بالجديد يبدعون ويبرّزون على من اتخذوا العلم آلة للمظاهر وعنواناً للتصدر، وهم هم الذين يذهبون بفضل الشهرة في الأرض، وتبقى أعمالهم شاهدة لهم بعد موتهم أحقاباً ودهوراً، ومن هذا الفريق أنجبت الشام قديماً وحديثاً جماعة افتخرت بهم، وعُدوّا بأعمالهم بالقياس إلى حال هذا القطر وإلى مجموع علماء الأمة كتلة صالحة أثرت تأثيراً محموداً في العلم والمدنية، وقد عرفنا تراجم أكثر رجال العهد العربي لقربه منا، ولا طراد التدوين في العرب في أغلب العصور على طريقة حسنة في الجملة، فوقفنا بها على منازعهم وأعمالهم. وغابت عنا تراجم كثير من المهندسين والنقاشين والمصورين والموسيقيين لأن القوم على ما يظهر يحسبون هذا الصنف النافع من الناس من أهل الصناعات فقط لا من أهل العلم. كأن العلم كله على اختلاف ضروبه ليس صناعة من الصناعات. وقد اصطلح المتأخرون على أن المراد بالعلم إذا أُطلق يقصد منه العلم الديني. ومن الغريب أن بعض المتأخرين ممن دوّنوا تراجم أهل عصورهم حرصوا على تراجم المجاذيب والممخرقين ولم يذكروا مثلاً تراجم أهل تلك

الأيام من المقدرّين والبنائين وغيرهم ممن خلدوا بأعمالهم مدنية أعصارهم. لم يتسلسل العلم قروناً طويلة في الشام تبعاً لتغير الدول وانصراف الهمم والعلم مذ كان محتاج إلى العلم ذلك لأن الشام كان في جميع أدواره ممراً للفاتحين يطمع فيه جيرانه، بل البعيدون عنه لتوسطه بين بر آسيا وإفريقية وأوربا. والقدر الذي عرفناه من رسوخ العلم في ديارنا كاف ولا شك في إنشاء مدنية صالحة خصوصاً إذا دعمها ما كان ينهال عليها من علوم أهل العراق والجزيرة ومصر والأندلس وفارس وغيرها. وكأن الشرق مُني بالتساهل والإهمال، وعدم التسلسل في الفكر والاطراد في العمل، فكان مظهر الحياة الفردية في الأعم الأغلب من حالاته، وعلى العكس في الغرب فإنه كان ولا يزال مثال الحياة الاجتماعية والتعصب للفكر والاستماتة فيه، والتسلسل في الأفكار. ولقد رأينا الغرب في قرونه الوسطى قبيل عهد النهضة يشتد في إرهاق الأفكار الحرة، وديوان التفتيش الديني يحرق الأنفس البشرية بالعشرات للقضاء على الفلسفة والتجدد، بيد أن الغرب كان إذا هلك فيه رجل بطريق الإلحاد والخروج عن مألوف القوم، يقوم غيره من أخلافه في الحال يتناول ما بدأ به سلفه، ناسياً أن الهلاك يحل به إذا اشتهر أمره. ورأينا في هذا الشرق القريب أناساً ينزعون إلى التجديد والإبداع كان نصيبهم من الحياة ضرب أعناقهم، أو إدخال الرعب على قلوبهم حتى قضوا أعمارهم في خمول وتقية، وكان نصيب الأمة العربية أن يقل فيها جداً ظهور من يخلفهم في دعوتهم، وقد يأتي العصر والعصران ولا يظهر فيهما نابغة يذكر وعالم مبدع، وجاء زمن وهو ليس ببعيد، وقد أصبح الناس ينكرون البديهيات في العلم، ويحرمون ما حلل الله من ضروبه النافعة، فغارت ينابيعه من أرضنا وفاضت في الغرب وزادت مع الأيام فيضاناً، وقويت تقية العلماء ودخل في غمارهم الجاهلون فسقطت هيبة العلم. وكان من نتائج عمل الغربيين تلك الحضارة الحديثة المدهشة ومن تفاشلنا وتجاهلنا هذا الانحطاط المحسوس وإضاعة مدنية الأجداد. العلم ابن الحرية، والأدب ربيب التسامح، وقد شاهدنا أجدادنا في هذه الديار المثال الصالح في هذا الباب على اختلاف العصور والمذاهب، وكان

العرب في أدوارهم المختلفة يمثلون أجمل صورة من هذا القبيل. فإن كانت إنطاكية وبيروت قبل الإسلام عاصمتي الحكمة والأدب والشرائع، فقد امتازت بعدهما حلب والمعرة وطرابلس ودمشق وحمص بهذه الخصائص. والعلم بضاعة ثمينة لا تروج الرواج المطلوب إلا في ظل السلام وصلاح السلطان. هذا شأن العلم، أما الأدب وهو منظوم الكلام ومنثوره والخطب والرسائل فيتصرف أيضاً على هذا المثال، وبه أدركنا بعض الحالة الاجتماعية والروحية التي كانت عليها تلك الأعصر، ورأينا فيه تبدلاً محسوساً في القرون التالية، فكانت الآداب في الشام في القرن الأول غيرها في القرن الثاني والثالث، وقد استحكمت أسباب الحضارة وعم الترف، ونقلت علوم الأوائل وراجت سوق الشعر في الرابع والخامس في الشمال، وما لبثت في أواخر هذا القرن أن عراها الكساد قليلاً، ثم هبت إلى الحياة بعض الشيء في السادس والسابع تبعاً للحالة السياسية التي كان عليها القطر زمن الحروب الصليبية، ولم ينشأ في الشام خلال القرنين الثامن والتاسع شاعر يجوز عدّه في مصاف المفلقين على مثال شعراء القرن الثالث والرابع، أما في القرون الأربعة التالية فضعفت حالة الشعر اكثر من ذلك بما لا يقدر، وأصبح نظماً لا شعراً فُقد من أكثر ما نقل من الشعر الروح وبقي جسماً له من الشعر قوافيه وأوزانه، يطرس فيه المتأخر على مثال المتقدم وتتأثر أنفاس الابن بأنفاس أبيه وجده. إن حكمنا على المنظوم يسوغ أن نورده في المنثور، كان الإنشاء في القرنين الأولين للإسلام يسير مع الطبع غالباً ونبغ في الشام أفراد كعبد الحميد بن يحي الذي وضع أساس الكتابة المرسلة، ورأينا عمر بن عبد العزيز يكتب الكتاب في الإدارة أو السياسة أو القضاء أو في أمر مهم من أمور الدولة في سطرين أو ثلاثة ليس فيه شيء من الكلفة بتة بل هو آية الفصاحة والبلاغة، وهكذا معظم آل بيته من بني أُمية وبني مروان، ومن نشأ في دولتهم أمثال الحجاج بن يوسف الثقفي وزياد بن أبيه وعتبة بن أبي سفيان وشهدنا التكلف بادياً في كتابة القرون التالية التي انتقلت فيها صناعة الكتابة إلى بغداد أو القاهرة وضعف أمرها في الشام. وكان الشام يتبع العراق تارة ومصر تارة أُخرى، حتى إذا كان القرن السادس، ونبغ في الدولة الصلاحية القاضي الفاضل

بطريقته المستملحة في الكتابة المسجعة على الأغلب، وحذا حذوه العماد الكاتب ثم ضياء الدين ابن الأثير صاحب المثل السائر وغيرهما من كتاب الدولة أخذت تضيق حلقة الكتابة وهي احتذاء مثال المجودين من القدماء لحصرها في قيود الجناس والبديع والأسجاع فجمدت القرائح وقل المبرزون فيها المجيدون لصناعتها، فما بالك بالإنشاء الذي هو ابتكار المعاني والإبداع في القوالب. وإذا استطعنا أن نعد عشرة كتب في القرن الواحد لا نقوى على عدّ منشئ واحد فيه. وحكمنا هذا مبنيّ على ما قرأناه فيما خلفه السلف في هذه الديار من الكتب والآثار المبعثرة في بطون الدفاتر، وربما كان في المفقود الذي لم يصلنا من هذا النوع ما يؤهلنا لو ظفرنا به، أن نصدر حكواً أصح من هذا على فنون الإنشاء والكتابة والشعر والنظم، والإنشاء من الكتابة كالشعر من النظم. ولو لم ينبغ في الكتابة من المؤلفين أمثال القفطي وياقوت وابن أبي أصيبعة وابن العديم ثم الصفدي وابن فضل الله والمقريزي والشهاب الحلبي وأمثالهم في القرنين السابع والثامن لقلنا إن الانحطاط في الكتابة بدأ في الشام منذ القرن السادس، بيد أنها أصبحت في الحقيقة سجعاً كسجع الكهان بظهور ابن عربشاه الدمشقي وابن حجة الحموي وأمثالهما في القرن التاسع، أما في القرن العاشر وما بعده فإن الكتابة كالشعر كانت إلى التكلف والسجع غالباً، ومن أفلت من المؤلفين من قيد التكلف، ونجا من الترصيع والتسجيع، جاء كلامه مقبولاً في الجملة وقليل ما هم. بقيت الكتابة والشعر ترسفان في قيودهما القديمة إلى أوائل القرن الرابع عشر أيام نشأ للأمة في مصر بضعة شعراء ومنشئين أدخلوا الآداب في طور جديد ونزعوا عنها ثيابها البالية، وألبسوها حلة قشبية، فقام من المنشئين أمثال محمد عبده وإبراهيم المويلحي ثم المنفلوطي وطه حسين والعقاد وأضرابهم. ومن الشعراء محمود سامي وإسماعيل صبري ثم حافظ إبراهيم وأحمد شوقي وتلك الحلبة، وانتشرت كتاباتهم وقصائدهم في العالم العربي ومنها اقتبس شعراء الشام وكتابه وبطريقتهم اقتدوا وغيروا أسلوبهم من حيث يشعرون أو لا يشعرون. وما أسلوبهم إلا الجمع بين متانة القدماء ورقة المحدثين،

العلم والأدب عند أقدم شعوب الشام:

وأصبح لهذا العصر طراز خاص عرف به لم يكن له منذ عرف تاريخ الأدب العربي أي منذ زهاء خمسة عشر قرناً. وكان للصحف والمجلات ولانتشار الآداب الإنكليزية والفرنسية والتركية وغيرها تأثير كبير في هذا الانقلاب الأدبي في ديارنا، والمبرزون في ما زالوا قلائل جداً، ويرجى أن لا يمضي عقدان أو ثلاثة من السنين حتى تكون الشام أخت مصر في هذا الشأن مع مراعاة النسبة بين حالة القطرين السياسية، والنظر إلى وفرة السكان والغنى، وتوفر أسباب التعليم العربي في القطر المصري. العلم والأدب عند أقدم شعوب الشام: صمت تاريخ العلم هذه الديار عن ذكر الرجال الذين اشتهروا مثلاً على عهد الحثيين ومن كان قبلهم من القبائل التي نزلت الشام، وخلفت فيها آثاراً في العمران لا تقوم بغير العلم، ولم ينقل إلا أسماء قليلة اشتغل أربابها بالعلم الديني والدنيوي على عهد بعض الدول الحالفة، ولا سيما الكلدان والعبران والرومان واليونان، ولولا بعض عاديات أثرت عن الأمم التي تأصل حكمها في بعض أرجاء القطر، وأخبار نقلتها التواريخ الصحيحة لقلنا إن أكثرهم كانوا أمماً بدوية على الفطرة. وأهم ما أُثر عن الفينيقيين مما ساعد العلم بالنسبة لعصورهم اختراعهم حروف الكتابة، بل تحسين أصولها وجعلها مطابقة للأصوات، ونقلهم لها إلى الأمم التي أبحروا واتجروا معها، وعنهم أخذتها أُمم الحضارة الحديثة النازلة على شواطئ البحر المتوسط وما إليها. وهذا الاختراع أهم ما عرف في القديم كما كانت الطباعة في القرون الحديثة أهم اختراعاتها في نظر العلم. قال بورتر: لا يستحق الذكر من علوم الفييقيين سوى علم الكتابة بحروف هجائية، وليس هم أول من استعملوا الكتابة لنا علمنا من الآثار أنها كانت عند المصريين والكلدانيين قبل عهدهم، غبر أن كتابتهم لم تكن بحروف وفق الأصوات البشرية الأصلية كالحروف الهجائية التي استنبطها الفينيقيون واعتبروا بها كل الاعتبار لأنهم أتقنوا الكتابة ونشروها بين أكثر الأمم المتمدنة لاتساع تجارتهم، فإن الحروف الهجائية في لغات أوربا وغربي آسيا وشمالي أفريقية مشتقة من حروفهم.

وأخبار العلم قبل الإسلام ضئيلة ومنها يستدل بعض الاستدلال على مكانة العقل فيه وسلامة أذواق بنيه. وكان النور يسطع بين أهل هذا القطر على حالة متقطعة لا مطردة، ويخرج العلماء والفلاسفة فرادى، انتقلت إلينا أسماء بعضهم ممن كانوا يعملون برأسهم أو يعملون مجتمعين مع أقرانهم في ظل الحكومات مثل يوسيفوس المؤرخ اليهودي في سنة 100م وله عدة تواريخ وقد صار والياً على الجليل، وكتب بالسريانية ثم ترجمت كتاباته باليونانية، ومنهم يوستوس الطبراني اليهودي المؤرخ وفيلون اليهودي الجبلي وفيلودومر الابيكوري من جَدَر وتيودور الخطيب من عسقلان وأُقليدس المهنس النجار الفيلسوف الرياضي الذي نبغ في صور، كما نبغ فيها فرفوريوس الفيلسوف، وكان بعد زمن جالينوس، ونبغ في العلم بولودر المهندس الدمشقي الذي أقام عمود تراجان في رومية وبنى جسراً على نهر الطونة الدانوب وجاء في رفنية ارسطيفس الرفني وفلسفته هي الفلسفة الأولى قبل أن تتحقق الفلسفة، وثاوذوسيوس الفلكي كان في القرن الأول قبل المسيح في مدينة طرابلس، وممن نشأ في اللاذقية نيقولاوس صاحب جوامع الفلسفة وتوفلس صاحب الحجج في قدم العالم. واشتهر في هذه القرون الأولى هرمبوس البيروتي تلميذ فيلون المؤرخ الفينقي في فنون الأدب، وطوروس البيروتي في الحكمة، ولوبركوس البيروتي في اللغويات والفلسفيات، ومناسياس البيروتي في الخطابة، واشتهر في الآداب مرقس كالريوس بروبس البيروتي، وفي الجغرافيا مارينوس الصوري، وكان معاصراً لبطليموس القلوذي في القرن الثاني للمسيح. وكانت إنطاكية على عهد خلفاء الإسكندر اوسلوقس نيقاتور ومن جاء بعده مباءة أدب وحكمة، ونبغ فيها من الشعراء ورجال الدين والأدب والخطابة على عهد انتشار النصرانية رجال عظام مثل القديس يوحنا فم الذهب اليوناني، والقديس لوقا، والشاعر ارستياس. وكما كانت إنطاكية دار حكمة وعلم، كانت بيروت تدعى مرضعة الحكمة على عهد الرومان، وكانت فيها مدرسة الفقه التي أسسها على الغالب بعض أباطرة الرومان من الشاميين - وقد نشأ من حمص وبُصرى أباطرة لبسوا تاج المملكة الرومانية وحكموها - وكانت اللغة اللاتينية لسان

العلم في تلك المدرسة، ويدرس فيها الفقه والآداب واللغة يقصدها الطلاب من جميع أنحاء المملكة حتى من روم القسطنطينية ومن أبناء العرب، وقد تخرج بأساتذتها أناس تأفقت شهرتهم في الأدب والشريعة، وكان قضاة الرومان من خريجيها مدة أربعة قرون، وكان اثنان من تلامذتها من جملة أعضاء المجمع الذي ألفه الإمبراطور يوستنيانوس لتدوين الفقه وقيل ثلاثة وهم اودكسيوس واناطوليوس ودوروتاوس، ومن أساتذتها اميل بابنيان من بيروت وكان من أشهر فقهاء الرومان، عد من جملة الفقهاء الخمسة الذين تنزل أقوالهم منزلة شريعة، وإذا تعارضت أقوالهم فالعمل بقوله، ومنهم اولبيان وهو من المشهورين من فقهاء الرومانيين ذهب بعضهم إلى أن مولده في بيروت وغيرهم إلى أنه في صور، ومنهم يوليوس بولس الحمصي وهو مشهور في الفقهاء الرومان، ومنهم مكسيموس الصوري وهو فيلسوف أفلاطوني، ومنهم لوسيان السميساطي كان نقاشاً فقيهاً فيلسوفاً بليغاً، ومنهم اسباسيوس الجبيلي الخطيب المؤرخ، ولنجينوس صاحب زينب ملكة تدمر الذي جلبته كما جلبت بولس دي ساموزات أسقف إنطاكية لينشر العلم في أرجاء مملكتها. وممن كان في تدمر وفي أرجاء الشام على ذاك العهد كيّكلراتيس الصوري وعالم المؤرخين بوسانياس الدمشقي ونيكوماخوس المؤرخ. وممن أفضلت عليه زينب صاحبة تدمر وكانت تعرف التدمرية والمصرية واليونانية واللاتينية والعربية على الأرجح وأسماء أولادها عربية كاسيوس ويونيسيوس وأوريجانس فيلسوف قيسارية. ومن علماء بيروت الأقدمين هرمبوس له تآليف عديدة وسيلير الفيلسوف ومناسيا ألف كتاباً في البيان والفيلسوف الأفلاطوني طورس والطبيب اسطرابون وساويرس بطريرك اليعاقبة وهذا كان في القرن الخامس للميلاد. وكثر في القرن الثالث للميلاد الكتاب وأرباب القرائح وأهل العلم والحصافة والحكمة، وممن نشأ من الأدباء والفلاسفة لوسين وجامبلتوس وبلوتين. قال سنيوبوس: حفظت في مدارس الروم في دمشق والإسكندري علوم الروم من فلك وجغرافيا ورياضيات وطب فجمع علماء الإمبراطورية البيزنطية رومهم وعربهم وفرسهم هذه العلوم وأكملوها ونشروها.

مواطن العلم في القطر قديما:

مواطن العلم في القطر قديماً: كان العلم يدرس في تلك الأحقاب في أربع مدارس وهي القسطنطينية والإسكندرية ورومية وبيروت، وقد أنشأ الرومان مدرسة في قيسارية، وأخرى في آثينة، وكان لصيدا على ذلك العهد مدرسة حكمة ذات شأن، ولكن دون مكانة مدرسة جارتها بيروت. وقد ألغى يوستنيانوس مدارس قيسارية وآثينة والإسكندرية، وأبقى مدارس رومية والقسطنطينية وبيروت ولقب بيروت بأم العلوم وظئر الشرائع. وأعفى ديوقليسيانوس قيصر الفقراء المتخرجين في مدرسة بيروت من الرسوم تنشيطاً لهم. وقد خربت مدرسة بيروت قبل الإسلام بالزلازل التي تواترت على الثغر في القرن السادس للميلاد ثم حريق سنة 560م الذي التهم بيروت ومساكنها ومعاهدها. وكان في غزة مدرسة قديمة تفاخر بمشاهير علماء البيان فيها وكان فصحاؤها على العهد اليوناني المرجع الأول في الفصاحة والبلاغة، وكان في قيسارية في القرن الثالث للمسيح مدرسة علمية يعلم فيها أوريجين أحد رجال الكنيسة وتخرج منها الأسقف أوزيب أبو التاريخ الكنسي وقيل: إنه كان في أريحا مدرسة أسسها ايليا. قال استرابون الجغرافي اليوناني من أهل القرن الأول قبل الميلاد: لم يبق في صور وصيدا فينيقيون يضربون في الآفاق للتجارة، بل كان فيهما كثير من أصحاب علم الهيئة والعلوم الرياضية والخطباء والفلاسفة، ومدارس تقتبس فيها كل العلوم البشرية، وقد أنشأت صيدا في أيامنا كثيراً من الفلاسفة منهم بواتيوس تلميذنا وديودوت أبوه، ونشأ في صور انتيباتر وقبله أبولون، وكان في ايامنا فيلسوف اسمه بوسيدونيوس كان شيشرون يسمع خطبه. وكانت اللغة اللاتينية ثم اللغة اليونانية لغة العلم في هذه الأحقاب، ولم يكن السريان السكان الأصليون دون الرومانيين واليونانيين في تخريج الرجال، ولا سيما في عهد النصرانية. فقد هبت في المائة الرابعة للميلاد اللغة الآرامية السريانية بحلب وجوارها من رقدتها، فسار في طليعة أهلها كيرتونا الشاعر الكبير، نشا في حلب أو في صقعها ودرس الآداب السريانية في مدرسة الرّها،

وهي إحدى المدارس العالية في العالم السرياني، ونشأ منهم سمعان العمودي وبالاي والقديس إسحاق الإنطاكي، ومن فحول شعراء السريان، اخسنايا المنبجي أحد غلاة المنوفسية الطبيعة الواحدة ويوحنا بن افتون القنسريني شيد ديراً على ساحل الفرات عرف بدير قنسرين، وكان جامعة للآداب والمعارف الآرامية عصراً طويلاً مات سنة 538 وتوما الحرقلي نشأ في دير ترعيل قرب حلب وتلقى العلم في قنسرين وقد ترجم الأناجيل وغيرها من الأسفار المقدسة من اليونانية إلى السريانية. ومن المدارس التي أنشأها السريان في غير أرض الشام، ولكنها خرّجت للشاميين رجالاً أيضاً، وسرى من علومها على هذا القطر نسمات مباركات، مدرسة حران، وقد أخذت الشام ولا سيما شماليها منذ القرن الخامس تغص بالمدارس والأديار حيث تُدرس الآداب السريانية، ويتنافسون مع المدارس العالية الأخرى في ديار السريان، وكانت حران بمثابة آثينة العالم الآرامي، كما انبعثت من مدرسة نصيبين في ديار مضر في القرن الرابع شعلة الآداب الكلدانية الآرامية. وفي تاريخ كلدو وأثور أن مدرسة نصيبين كانت أول مدرسة في الشرق، أزهرت في القرن الخامس والسادس والسابع وبلغت عزها ومجدها، واشتهرت مدرسة نصيبين أكثر من مدرسة اورهاي اشتهار مدرسة المدائن وغيرها، وكان صيتها في فارس والروم وإيطاليا وأفريقية، وهي أول كلية لاهوتية بل أول جامعة درّس فيها علن الإلهيات، وظهر منها علماء كفاة كتبوا في الفنون ولا سيما في الإلهيات. واشتهر اليعاقبة كالنساطرة في العلم والتأليف. والنسطوريون أكثر عدداً، واليعاقبة أكثر مادة. وكان يرشح من علوم هؤلاء الآشوريين على الشام شيء كثير للاشتراك في اللغة والدين إذ ذاك. هذا بعض ما انتهى إلينا من أخبار العلم ونوابغه في الشام من الفينيقيين والسريانيين والرومانيين والبيزنطيين وما زالت بعض آثارهم وأخبارهم شاهدة بفضلهم، وأنهم ليسوا دون من خلفهم في أمور كثيرة، مما اهتدى إليه العقل البشري، فإن حرمنا كتبهم لأن الكتابة كانت على حالة ابتدائية فلم نحرم كتابات لهم مزبورة على بعض الأحجار، دونوا فيها أعمالهم

ما حمل العرب من العلم إلى الشام:

الحربية ومآثرهم العلمية، لا جرم أن من ينشئ هذه المصانع وينزل فيها لا بد أن يكون جانب من الغنى، وهذا لا يزكو إلا بالعلم المختلف الضروب وفي ظل حضارة بديعة. ما حمل العرب من العلم إلى الشام: تاريخ العلم في العرب من أغرب ما سُمع في تاريخ البشر، كانوا أول ظهورهم نصف متمدنين يكثر فيهم الأميون ويقل من يكتب فيهم حتى في أهل الطبقة الأولى، ويعد فيهم من الممتازين من يحسن الكتابة، خرجوا فجأة من ظلمات الجهل إلى أنوار العلم، ومن ضيق البداوة إلى متسع المدنية. ولما جاء الإسلام لم يكونوا مولعين بغير الشعر والخطب، لا يعرفون غير الفصاحة والبلاغة، وهما في نظرهم جماع كل العلوم، ينقلون أنسابهم وأخبارهم في الصدور، وعلومهم في الطب والنجوم عبارة عن تجارب شخصية أو تقليدية، ولم يكن التدوين يعهد عندهم، وكانت حدثت هذه الكتابة بالخط العربي قبل الإسلام بقليل نقلها إلى الحجاز حرب بن أمية، وكان قدم الحيرة فعاد إلى مكة بهذه الكتابة. أخذت الكتابة من واضعها مرامر بن مرة. وأول من علم بمكة الكتابة عبد الله بن سعيد بن العاص بن أمية أمره الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعلم الكتاب بالمدينة، وكان ممن أُسر ببدر ولا مال له، فقبل منه أن يعلم عشرة من غلمان الأنصار الكتابة ويخلي سبيله، فيومئذ تعلم الكتابة زيد بن ثابت. ولما فتحت الشام وكانت أشبه بنصف عربية بمن حكمها من الغسانيين في الجنوب والوسط والتنوخيين في الشمال من عمال الروم ومن كان ينزلها من القبائل والبطون العربية في أرجاء تدمر والفرات وغزة وسينا، كان الشعر مما يفاخرون به، وإذا نشأ فيهم شاعر رفعوا من شأنه واعتمدوا على قريحته في الشدائد. وكان جبلة بن الأيهم من ملوك الغسانيين شاعراً مجيداً يعجب بالشعر ويجيز عليه وهو ممدوح حسان بن ثابت ومن أهل بيته فصحاء لا يستهان بهم. جاء الشام في الجاهلية كثير من شعراء جزيرة العرب وكأنهم كانوا ينزلون على أهل جيلهم وقبيلهم، ومنهم امرؤ القيس وقد ذكر في شعره بعض أرجاء

جمع القرآن ونشره في الشام:

الشام. وكذلك حسان بن ثابت ذكر راض الغساسنة ومنازلهم. وأقام المتلمس المتوفى سنة 580م في حوران عند الغساسنة إلى وفاته. جمع القرآن ونشره في الشام: جمع القرآن على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام على ما روى ابن سعد أُبيّ بن كعب ومُعاذ بن جبل وأبو الدرداء وزيد بن ثابت وسعد بن عُبيد وأبو زيد ثابت. وكان مجمّع بن جارية قد جمع القرآن إلا سورتين أو ثلاثاً. وكان ابن مسعود قد أخذ بضعاً وتسعين سورة وتعلم بقية القرآن من مجمّع. قال وكان بقي على مجمع بن جارية سورة أو سورتان حين قُبض النبي وفي رواية أن من جُمّاع القرآن عدا من ذكروا، علي بن أبي طالب وعبيد بن معاوية. وقال محمد بن كعب القرظي: جمع القرآن في زمن النبي صلى الله وسلم خمسة من الأنصار: معاذ بن جبل وعبادة بن الصامت وأُبيّ بن كعب وأبو أيوب وأبو الدرداء فلما كان زمن عمر بن الخطاب كتب إليه يزيد بن أبي سفيان: إن أهل الشام قد كثروا وربلوا وملئوا المدائن، واحتاجوا إلى من يعلمهم القرآن ويفقههم، فأعنّي يا أمير المؤمنين برجال يعلمونهم. فدعا عمر أولئك الخمسة فقال لهم: إن إخوانكم من أهل الشام قد استعانوني بمن يعلمهم القرآن ويفقههم في الدين، فأعينوني رحمكم الله بثلاثة منكم، إن أجبتم فاستهموا، وإن انتدب ثلاثة منكم فليخرجوا، فقالوا: ما كنا لنساهم. هذا شيخ كبير لأبي أيوب، وأما هذا فسقيم لأبيّ بن كعب. فخرج مُعاذ وعبادة وأبو الدرداء. فقال عمر: ابدءوا بحمص فإنكم ستجدون الناس على وجوه مختلفة منهم من يَلْقَن، فإذا رأيتم ذلك فوجّهوا إليه طائفة من الناس، فإذا رضيتم منهم فليقم بها واحد، وليخرج واحد إلى دمشق والأخر إلى فلسطين. وقدموا حمص فكانوا بها حتى إذا رضوا من الناس أقام بها عبادة، وخرج أبو الدرداء إلى دمشق، ومعاذ إلى فلسطين. وأما معاذ فمات عام طاعون عَمواس، وأما عبادة فصار بعد إلى فلسطين فمات بها، وأما أبو الدرداء فلم يزل بدمشق حتى مات. وهذه أول بعثة علمية حجازية أتت الشام لتعلم أهلها وتثقفهم. ويرجع الفضل الأول في اقتراح إنفاذها لأحد أبناء أبي سفيان النجباء كما كان أبو سفيان

وأبو حرب نقلا الخط العربي إلى الحجاز، والشام مدينة لأمية في أمور كثيرة لاشتراكها في خدمة الحضارة اشتراكاً عملياً. قال زيد بن ثابت: أُرسلت إلى أبي بكر فأتيته فإذا عمر بن الخطاب عنده فقال أبو بكر: إن عمر أتاني فقال لي إن القتل قد استحرّ بالقراء يوم اليمامة وإني أخشى أن يستحر القتل في القراء في المواطن كلها فيذهب كثير من القرآن، فأرى أن يجمع القرآن بحال فقلت لعمر: كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله؟ فقال عمر: هو والله خير فلم يزل عمر يراجعني في ذلك حتى شرح الله له صدره ورأيت ذلك الذي رآه عمر. قال زيد بن ثابت: قال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك. قد كنت تكتب الوحي لرسول الله فتتبّع القرآن واجمعه، قال زيد: فوالله لنقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ من الذي أمرني به من جمع القرآن، أجمع من الرقاع (1) واللخاف والعسب (2) وصدور الرجال حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره. فكانت الصحف عند أبي بكر حياته حتى توفاه الله ثم عند عمر حتى توفاه الله، ثم عند حفصة ابنة عمر رواه صاحب الفهرست. وأمر عثمان بن عفان رضي الله عنه سنة ثلاثين بنسخ المصحف الذي كتب في زمن سلفه أبي بكر وتفريقه في الأمصار، وكان بلغ عثمان ما وقع في أمر القرآن من أهل العراق فإنهم قالوا: قرآننا أصح من قرآن أهل الشام، لأنا قرأنا على أبي موسى الأشعري، وأهل الشام يقولون: قرآننا أصح لأنا قرأنا على المقداد بن الأسود، وكذلك غيرهم من الأمصار، فأجمع رأيه ورأي الصحابة على أن يحمل الناس على المصحف الذي كتب في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، وكان مودعاً عند حفصة زوج النبي، ويحرق ما سواه من المصاحف التي بأيدي الناس، ففعل ذلك ونسخ من ذلك المصحف مصاحف وحمل كلاً منها إلى مصر من الأمصار. وكان الذي تولى نسخ المصاحف العثمانية بأمر عثمان بن زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن

العلم والأدب في القرن الأول:

بن الحارث بن هشام المخزومي. وقال عثمان: إن اختلفتم في كلمة فاكتبوها بلسان قريش فإنما نزل القرآن بلسانهم. فتح العرب الشام ولم يحملوا إليه غير دين يبعد عن الشرك وعبادة الأصنام، وغير بلاغة الشعر والخطب المغروسة في طباعهم، وفطر سليمة جبلت عليها نفوسهم، فاقتبسوا في الحال مدنية من نزلوا عليهم وتمثلوها وهضموها في أقصر مدة، وأتوا بعدها بأمور جديدة، على ما قاموا بمثل ذلك في بغداد ومصر وفارس والأندلس وغيرها. ولقد أظهروا وهم في أوج عزهم من التسامح مع السكان ما دهش له المخالفون واستغربه الموافقون، ولا غرو إذا فتحوا صدورهم لتعلم العلوم بعد أن ثبت أن الرسول عليه السلام أمر زيد ابن ثابت أن يتعلم كتاب اليهود أي يتعلم لغة غير لغة العرب. العلم والأدب في القرن الأول: من شعراء الأمويين جرير والفرزدق وكانت للأخطل الشاعر صحبة بيزيد ابن معاوية مدحه وهجا الأنصار، وما فيهم بيت إلا ويقول الشعر ولم يمسه أحد بسوء، وكان خلفاء الشام يقربونه على حين كان أهل نحلته يتبرمون بسلاطة لسانه، حتى إن الأسقف حبسه مرة في الكنيسة بدمشق لشتمه أعراض الناس، واسترساله في هجومهم، هذا والملوك تهابه، والخلفاء تكرمه، وذكره في الناس عظيم. ومنهم مسكين الدرامي والراعي والراجز العجلي والأحوص وعدّي بن الرقاع القضاعي وعلقمة بن عبدة وجناح بن روح والربيع بن مطر التميمي وحكيم بن عباس بن الأعور الكلبي والحسين بن عبيد الكلابي وأنيف العذري وأسباط بن واصل الشيباني صديق الخليفة يزيد بن الوليد وجواس ابن القعطل الكلبي وعثمان بن الوليد القرشي. وكان معاوية ومن خلفه من خلفاء بنب أُمية وبني مروان يفضلون عليهم، ومن شعرائهم نابغة بني شيبان كان يفد على المروانيين فيجزلون عطاءه، وكان الأمويون يرسلون لأبي العباس الأعمى أحد شعرائهم بعطائه إلى مكة، وغالوا في الحرص على إكرام الشعراء ما خلا عمر بن عبد العزيز فإنه كان يقصي الشعراء عن حضرته لارتكابهم المطاعن والتشبيب في أشعارهم، ولكنه كان رضي عنه يفضل

على العلماء فقد كتب إلى والي حمص: انظر إلى القوم الذين نصبوا أنفسهم للفقه وحبسوها في المسجد عن طلب الدنيا فأعط كل رجل منهم مائة دينار يستعينون بها على ما هم عليه من بيت مال المسلمين حين يأتيك كتابي هذا وإن خير الخير أعجله والسلام. وظلت القبائل في الإسلام إذا نشأ منها شاعر تغتبط وتفاخر، وإذا عدمته ذلت، لأنها تعده لسانها الناطق ومدون مفاخرها. وقد أعطى النعمان بن بشير عامل حمص أعشى هَمْدان شاعر اليمن عشرين ألف دينار من مال اليمانية، اقتطعها برضاهم من عطائهم ديناراُ ديناراً، وكان من خلفاء الأمويين مثل يزيد الأول والوليد الثاني من يقول الشعر الجيد وكان عبد الملك من أكثر الناس علماً وأبرعهم أدباً. وقد نشأ في القرن الأول من الفقهاء والمحدثين جملة صالحة في الشام منهم عبد الرحمن بن غَنْم بن سعد الأشعري الصحابي، بعثه عمر بن الخطاب إلى الشام يفقه الناس فتفقه عليه عامة التابعين بالشام 78 ومنهم فضالة بن عبيد الصحابي ولي قضاء دمشق لمعاوية وأمّره غزو الروم في البحر 53، وأبو الدرداء الخزرجي الزاهد الحكيم المقري ولي قضاء دمشق في خلافة عثمان مات سنة 32 وأول من أحدث رواية القرآن بدمشق هشام بن إسماعيل وبفلسطين الوليد بن عبد الرحمن. ومن علماء الشام أبو ذر جندب بن جنادة الغفاري وأوس بن أوس الصحابي الشاعر سكن بيت المقدس والرملة سنة 32، ومن أخبار ييهم عبيد بن شَرْيَة الجُرهمي وفد على معاوية بن أبي سفيان وأملى أشياء في أخبار الملوك أخذ عنه علاقة بن كُرْسُم الكلابي أيام يزيد بن معاوية، وكان عارفاً بأيام العرب وأحاديثها وهو أحد من أُخذت عنه المآثر وربما جاز أن يعدّ أول من دوّن التاريخ في الشام. ومن علماء الشاميين أبو إدريس الخولاني فقيه الشام وقاضيه، وعمرو البكالي المحدث الفقيه، وبشير بن الوليد الأموي كان يقال له عالم بني مروان، وإبراهيم بن كثير بن المرتجل الرملي، وكان عبادة بن الصامت والي بيت المقدس لعمر بن الخطاب قرأ عليه أبو سلام الحبشي واسمه محظور ويقال الباهلي الدمشقي وشهر بن حوشب الأشعري المحدث 100، وبلال بن أبي الدرداء الأنصاري

عناية خالد بن يزيد بالنقل وأوائل التدوين:

قاضي دمشق93، وأبو مسلم الخولاني شيخ الفيحاء وزاهدها من سادات التابعين، وروح بن زِنْباع يكني بأبي زرعة، ويقال بأبي زِنباع الجذامي الفلسطيني كان له اختصاص بعبد الملك بن مروان، ورجاء بن أبي سلمة الفلسطيني المحدث. ومالك بن دينار أحد الأعلام أقام في القدس 23 وجبير بن نفير الحضرمي عالم أهل الشام 79 وغيلان بن مروان الدمشقي من كبار المعتزلة وكان الحسن يقول إذا رأى غيلان في الموسم أترون هذا هو حجة الله على أهل الشام ولكن الفتى مقتول وكان أوحد دهره في العلم والزهد قتله هشام بن عبد الملك وقتل معه صاحبه صالحاً لأنه كان ينال من بني أُمية. وإسماعيل بن عبد الله بن أبي مهاجر مولى بني مخزوم من أهل دمشق كان يؤدب أولاد عبد الملك بن مروان. ونشأ من الكتاب في هذا القرن عبد الله بن أوس الغساني سيد أهل الشام وأسود بن قبيس الحميري من كتاب بني أمية بدمشق، وفي الفلسفة ساويرا سابوخت أُسقف قنسرين اليعقوبي كان على عهد السفيانيين في الشام ممثل الحركة الأدبية وقد جادل الموارنة بحضرة الخليفة معاوية سنة 659م وألف رسائل ومقالات عديدة في الحساب والفلك والاصطرلاب والفلسفة واللاهوت، ويعقوب الرُّهاوي وغيرهم، ونشأ في القرن السابع للميلاد أي في القرن الأول للهجرة كالينكيوس البعلبكي وهو مهندس كيماوي قيل إنه مخترع النار اليونانية المركبة من النفط والكبريت والقطران وغيرها، وكان أبو قرة أول كاتب نصراني ديني كتب بالعربية. ومن مشاهير النصارى في القرون الأولى القديس يوحنا الدمشقي 780م كان علماً في عصره وألف كتباً كثيرة في اللاهوت ومنهم قزما المنشى وقزما البار وندراوس الاقريطشي والبطريرك صفرونيوس. عناية خالد بن يزيد بالنقل وأوائل التدوين: كانت الكتب التي ترجمت لأبي هاشم خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان الأموي حكيم آل مروان وعالم قريش، أول نقل أو تعريب كان في الإسلام في عاصمة الشام. وخالد بن يزيد هذا زهد في الخلافة وعشق العلم، وإذا أنشأ جده معاوية ملكاً في الشام دام ألف شهر، فإنه أنشأ بعلمه مملكة

باقية بقاء الدهر، فقد أمر بإحضار جماعة من فلاسفة اليونانيين ممن كان ينزل مصر وقد تفصح بالعربية، وأمرهم بنقل الكتب في الصنعة من اللسان اليوناني والقبطي إلى العربي والصنعة صنعة الكيمياء. فترجمت له كتب فيها كما ترجمت له كتب في الطب والنجوم. وممن نقل له اصطفن القديم، نقل كتب الكيمياء، وكان خالد بصيراً بالطب أخذه عن يحيى النحوي وأخذ الكيمياء عن مريانس الرومي وأتقن هذين العلمين وألف فيهما وله رسائل وكتب في غير هذه الأغراض، دالة على معرفته وبراعته، وله شعر كثير ومقاطيع دالة على حسن تصرفه وسبقه. وكان من الطبقة الثانية من تابعي أهل الشام وقيل عنه قد علم علم العرب والعجم، وكان خطيباً شاعراً، فهو أول من أعطى التراجمة والفلاسفة، وقرب أهل الحكمة ورؤساء أهل كل صناعة، وترجم كتب النجوم والطب والكيمياء والحروب والآلات والصناعات. وفي الفهرست: ويقال والله أعلم إنه صح له عمل الصناعة وله في ذلك عدة كتب ورسائل وله شعر كثير رأيت منه نحو خمسمائة ورقة ورأيت من كتبه كتاب الحرارات، كتاب الصحيفة الكبير، كتاب الصحيفة الصغير. كتاب وصيته إلى ابنه في الصنعة. جاء في التاريخ العام: لما جاءت العرب وجدت المدنية اليونانية راسخة في جميع الأقطار التي داهمتها أولاً مثل الشام ومصر والعراق فاقتربت من المملكة البيزنطية وبدا لها من وراء مدنيتها النبوغ اليوناني كما تجلى لها من الفرس المدنيات القديمة من الهند والصين على نحو ما وجدت في بلاد كنعان ومصر تذكارات من الأمم القديمة التي لا تزال عليها مسحة الأجيال العريقة في القدم ومصانعها وأعمالها. ولما بلغت الدولة العربية غاية عزها، ثم تمزقت وتقسمت أصبح دينها واحداً ولسانها واحداً وقوانينها المعمول بها واحدة، وذلك من نهر السند إلى أعمدة هركول وتمت الوحدة بين أولئك الشعوب المختلفة ديارهم، واخذوا يقتبس بعضهم عن بعض من تبادل التجارة وسياحة الأفراد وتنقل الجيوش والأمم وانتشار المعتقدات والأخلاق والأفكار يتصادمون ويتمازجون ويتحدون ويتداخلون وكل شعب ينقل إلى الأخر عاداته وتاريخه وملكاته الطبيعية.

فالمدنية التي عمل فيها هذا العدد الكثير من المؤازرين المختلفين ليست إذاً عربية صرفة، بل هي بحسب النموذجات التي تشبعت بروحها والمحيط الذي كبرت فيه: يونانية وفارسية وشامية ومصرية وإسبانية وهندية، ولكن إذا وجب أن يذكر لكل واحد قسطه من العمل لا يسع المنصف إلا أن يقول بأن قسط العرب منه كان أعظم من غيرهم فلم يكونوا واسطة فقط لنقل هذه المدنية ينقلون إلى الشعوب الجاهلة في إفريقيا وإسبانية وأوربا اللاتينية معارف الشرق الأدنى والأقصى وعلومه واختراعاته، بل أحسنوا استخدام المواد المبعثرة التي كانوا يلتقطونها من كل مكان، فمن مجموع هذه المواد المختلفة التي صُبّت فتمازجت تمازجاً متجانساً أبدعوا مدنية حية مطبوعة بطابع قرائحهم وعقولهم. وبفضلهم تيسر للحضارة الإسلامية في القرون الوسطى التي عاونت فيها أيد أخرى أن تكون ذات وحدة موصوفة، فالتقليد فيها محسوس ولكنه تقليد غير أعمى، وسلطة الأساتذة الأقدمين لا تحول دون الأبحاث العلمية والاختراعات الحديثة كما أن مشهد البدائع القديمة ودرسها لا يحول دون انتشار التفنن ولطافة الإبداع في الاختراع. وفي الشرق نشأت هذه المدنية وكانت دمشق إحدى مراكزها ومنبعث أنوارها 1هـ. وبعد فإن خالد بن يزيد أول من جمعت له الكتب وجعلها في خزانة في الإسلام، وفي دمشق على الأرجح أُنشئت أول دار للكتب في العالم العربي، ودمشق أول عاصمة أُنشئت فيها دار ترجمة فأولى أبو هاشم بعمله هذه الأمة وهذه العاصمة شرفاً لا يبلى على الأيام. وإن الشام ليفخر بأن قامت فيه أول دولة عربية ممدنة، وتمت فيه كثير من مشخصات الأمة العربية، ومن أولها التدوين والترجمة، فالشام أول سوق نفقت فيها بضاعة العلم والأدب فباعتها من غيرها وهذا يعد من مفاخرها التالدة. وخالد بن يزيد أول من عُني بعلوم الفلسفة ولم يتفرد بذلك المنصور العباسي خلافاً لما قاله كاتب جلبي من أن علوم الأوائل كانت مهجورة في عصر الأموية. قال الأصفهاني كان خالد ابن يزيد ينزل حلب وتوفي سنة 85هـ. وبذا رأينا أن التدوين حدث في القرن الأول في العلوم الدنيوية ويرى نالينو أنه ربما كان أول كتاب ترجم من اليونانية إلى العربية كتاب أحكام

النجوم المنسوب إلى هرمس الحكيم، وكان مطمح نظر المدونين ضبط مقاصد القرآن والحديث ومعانيهما ثم دوّنوا فيما هو كالوسيلة إليهما. وحدث التدوين في عصر الصحابة الكرام على ما في توجيه النظر فقد ذكر بعض الحفاظ أن زيد بن ثابت ألف كتاباً في علم الفرائض وذكر البخاري أن عبد الله بن عمر كان يكتب الحديث، وذكر مسلم في صحيحه كتاباً ألف في عهد ابن عباس في قضاء علي. وذكر صاحب الفهرست أنه رأى في مدينة الحديثة على الفرات خزانة للكتب فيها بخطوط الإمامين الحسن والحسين، وأمانات وعهود بخط أمير المؤمنين علي وبخط غيره من كتاب النبي، ومن خطوط العلماء في النحو واللغة مثل أبي عمرو بن العلاء وأبي عمرو الشيباني والصمعي وابن الأعرابي وسيبويه والفراء والكسائي ومن خطوط أصحاب الحديث مثل سفيان بن عيينة وسفيان الثوري والأوزاعي وغيرهم. وذكر المؤرخون أن أول كتاب نقل إلى العربية كتاب أهرن بن أعين في الطب وجده عمر بن عبد العزيز في خزائن الكتب فأمر بإخراجه للناس وبثه في أيديهم. وعمر بن عبد العزيز هو الذي قال: كنت أصحب من الناس سراتهم، واطلب من العلم شريفه، فلما وليت أمر الناس احتجت إلى أن أعلم سفساف العلم، فتعلموا من العلم جيده ورديئه وسفسافه. علماء القرن الثاني والأدب والنقلة والمنشئون فيه: مضى القرن الأول وجاء الثاني فكثر القراء والمحدثون والشعراء والنقلة والمترسلون والكتاب بكثرة الفتوحات وفرط العناية بالعلم والأدب، وقد نبغ في هذا القرن كثير من أهل العلم منهم رجاء بن حَيْوَة الفلسطيني الكندي الأردني الفقيه العالم الذي كان يجالس عمر بن عبد العزيز 101 ومكحول مولى بني هذيل فقيه الدمشقيين وأحد أوعية العلم والآثار 113 وعبد الله ابن عامر اليحصبي القارئ المحدث أحد القراء السبعة من التابعين من أهل دمشق 118 وسليمان بن موسى الأشدق الفقيه وكان أعلم أهل الشام بعد مكحول 119 وربيعة بن يزيد شيخ دمشق بعد مكحول 123 وسليمان ابن حبيب المحاربي قاضي دمشق أربعين سنة 126 ويحيى بن يحيى بن قيس

الغساني كان ثقة إماماً عالماً بالفتوى والقضاء وسيد أهل دمشق 135 ويزيد ابن يزيد بن جابر الأزدي إمام فقيه 134 والعلاء بن الحارث الحضرمي الفقيه 136 ويحيى بن الحارث الذِّماري المقرئ الدمشقي وعليه دارت قراءة الشاميين 145 وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر المحدث 154 وعبد الرحمن ابن عمرو الأوزاعي البيروتي 157 كان إمام أهل الشام وعالمهم قيل: إنه أجاب في سبعين ألف مسألة، وصار يُعمل بمذهبه في الشام نحو مائتي سنة وآخر من عمل بمذهبه أحمد بن سليمان بن حذلم قاضي الشام وعمل أهل الأندلس بمذهبه أربعين سنة ثم تناقص بمذهب الإمام مالك. وكان الأوزاعي عظيم الشأن بالشام وأمره فيهم أعز من أمر السلطان. وكان مع علمه بارعاً في الكتابة والترسل. ومن علماء الشام يونس بن ميسرة بن حَلْبس وثور بن يزيد الكلاعي الحمصي، وكان ثقة في الحديث 153 والوليد بن مسلم الدمشقي صاحب الأوزاعي وكانوا يقولون علم الشام عند إسماعيل بن عياش والوليد بن مسلم فأما الوليد فمضى على سننه ميموناً عند أهل العلم متقناً صحيح العلم 195 أو 194 ومن المحدثين الفقهاء في دمشق المطعم بن المقدام الصنعاني وأبو مَرْثَد الغنوي وابراهيم بن جدار العذري ومبشر بن إسماعيل الحلبي مولى كلب كان ثقة مأموناً 200 ويحيى بن عمرو السَّيبْاني من أهل الرملة وسيبان بفتح السين المهملة بطن من حمير 148 وصعصعة بن سلام الدمشقي المحدث كان أول من أدخل علم الحديث إلى الأندلس، وصدقة بن عبد الله السمين من كبار محدثي دمشق 166 والهِقْل بن زياد مفتي الوليد بن مسلم وله تصانيف تبلغ السبعين 195 وعبد الله بن أبي زكريا الخزاعي الفقيه كان عمر بن عبد العزيز يكرمه ويجلسه معه على السرير 117 ونمير بن أوس الأشعري المحدذ 121 وربيعة بن يزيد القصيري من أئمة التابعين 122 وإبراهيم ابن أبي عبلة من علماء التابعين 152 وعبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان المحدث 165 وسعيد بن عبد العزيز التنوخي الفقيه العالم 167 ومحمد بن الوليد الزُّبيدي كان أعلم أهل الشام بالفتوى والحديث 148 ويحيى بن حمزة كان كثير الحديث وكان قاضياً بدمشق 183 وبقية بن الوليد الحمصي

المحدث 197 وأسد بن وداعة الطائي الحمصي المحدث 137. وحرص المسلمون في الصدر الأول بعد علم الدين على علم الطب، وكان من الأطباء في القرنين الأول والثاني زمرة صالحة مختلفة مذاهبهم منهم الحكم ابن أبي الحكم الدمشقي الطبيب وكان أبوه أبو الحكم طبيباً في صدر الإسلام، وكان أبو الحكم يستطبه معاوية ويعتمد عليه اعتماده على ابن أُثال من الأطباء المتميزين بدمشق. ومنهم عيسى بن حكم الدمشقي المشهور بمسيح صاحب الكناش الكبير. وتياذوق كان في أول دولة بني مروان ومشهوراً عندهم بالطب ومنهم عبد الملك بن أبجر الكناني كان طبيباً عالماً ماهراً في أول أمره في الإسكندرية لأنه كان المتولي للتدريس بها بعد الإسكندرانيين، ولما ملك المسلمون الإسكندرية أسلم ابن أبجر على يد عمر بن عبد العزيز فاستطبه واعتمد عليه في صناعة الطب. وكان عبد الحميد بن يحيى الكاتب إمام الإنشاء العربي وواضع أساسه وكان عالماً في كل فن من فنون الأدب 132 وهو الذي فك قيود الإنشاء وضبط أصوله وكان ختنه سالم ويكنى أبا العلاء أحد الفصحاء والبلغاء. وقد نقل من رسائل أرسطاليس إلى الإسكندر ونُقل له وأصلح هو، وله رسائل ومجموع نحو مائة ورقة. ومن الكتاب قنان بن متى وابنه قيس وحفيده الحصين ومنهم أُسامة بن زيد أبو عيسى الكاتب التنوخي ويقال الكلبي. ومن المشهورين بالبلاغة والخطابة عبد الملك بن صالح الهاشمي نسب إلى منبج، وخالد بن عبد الله القسري الخطيب المفوّه 126 وأبو السامي وعبد الله بن خداش وأبو مسلم الشامي. ومن الناقلين أي المترجمين جبلة بن سالم، وكان ناقلاً من العربي إلى الفارسي، ونقل بعضهم شيئاً من تواريخ الأمم عن الفارسية. ولم يلبث النقل أن صار إلى بغداد بانتقال الخلافة إليها، فانتقل بذلك المترجمون الذين أنبغتهم الشام مثل قسطا بن لوقا البعلبكي الفيلسوف الطبيب المهندس المترجم المصنف، وكان يحسن العربية والسريانية واليونانية، جيد النقل فصيح اللسان، ومثل أبي عثمان الدمشقي وعبد المسيح بن عبد الله الحمصي الناعمي المعروف بابن الناعمة، وزروبا بن ماجوه الناعمي الحمصي وكلاهما من النقلة، وهلال

العلم والأدب في القرن الثالث:

ابن أبي هلال الحمصي صحيح النقل ولفظه مبتذل وحنين بن إسحاق البغدادي المولد نشأ في الشام وتعلم فيه. وللشاميين منذ القديم ميل إلى النقل عن الأمم الأخرى، هكذا فعلوا في كل قرن فقد كان الناقلون منهم في القرنين الأول والثاني وكذلك في القرون التالية إلى يومنا هذا وهم أقدر الأمم على تعلم اللغات الغربية والتفصح فيها. وكان أكثر النقل عن السريانية، وهذه نقلت عن العبرانية، وهذه نقلت عن اليونانية، ولذلك تعب فلاسفة المسلمين في حل رموز الفلسفة اليونانية لأنها نقل عن نقل، وذكر أحد المعاصرين من الإفرنج أن كتب أرسطو كانت تنقل ليفهمها أهل القرون الوسطى من اليونانية إلى السريانية ومنها إلى العربية ومنها إلى العبرية ومن هذه إلى اللاتينية وكان التراجمة بادئ بدء لا يدركون فهم المعاني من كتب العرب وينقلونها إلى اللاتينية حرفاً بحرف. وقال نالينو: إن أكثر نقلة القرن الثاني كانوا ضعافاً في العلوم يترجمون بالحرف دون فهم الموضوع وكثيراً ما ترددوا في تعريب المصطلحات العلمية المجهولة عند العرب في ذلك العصر، ومن المعلوم أن طريقة التعريب لم تتقن إلا في القرن الثالث. العلم والأدب في القرن الثالث: لم يكن للقرن الثالث ما كان للقرن الذي سلفه من النهضة، وتجلي آثار النبوغ والتجدد، بل كان كالتتمة لبعض ما سمت له الهمم في القرنين الماضيين، وعلى صورة ربما كانت أضعف، زاد التدوين فيه أكثر من ذي قبل، وأخذت بغداد حظها من العلماء الذين قصدوها من القاصية وبقيت الشام بمعزل، راحت العلوم الفلسفية في بغداد أواخر القرن الثاني والثالث وسرى منها شعاع إلى الشام ثم عراها ما خنقها. وممن أفضل على الشام الخليفة المأمون فأنه أنشأ فيها مرصداً فلكياً عمله له يحيى بن أبي منصور وهو أحد أصحاب الرصاد المشهورين في أيامه وكان كذلك في سنة خمس عشرة وست عشرة وسبع عشرة بعد المائتين. وقام في الشام محمد بن عائذ صاحب المغازي والفتوح وغير ذلك من المصنفات 233 وعبد الله بن ذكوان القارئ الحافظ 242 وهشام بن عمار خطيب دمشق وقارئها وفقيهها ومحدثها 245 وأحمد

ابن أبي الحواري من كبار المحدثين والصوفية 246 ومحمود بن سميع صاحب الطبقات وأحد الأثبات الثقات 259 وأبو زرعة الدمشقي النصري عبد الرحمن ابن عمرو المحدث صنف كتباً 281 وأبو مسهر عبد الأعلى الغساني شيخ دمشق وعالمها كان راوية سعيد بن عبد العزيز التنوخي وغيره من الشلميين 218 وصفوان بن صالح المؤذن المحدث 239 والقاسم بن عثمان الجوعي شيخ دمشق وزاهدها 248 والحافظ زكريا بن يحيى السِّجْزي المعروف بخياط السنة 287 وعبد الغفار بن عثمان والوليد بن مَزْيد العذري البيروتي كان من أهل العلم والرواية وكان الأوزاعي يقول، فيما عرفت ما حمل عني أصح من كتب الوليد بن مزيد 203 وولده أبو الفضل العباس بن الوليد البيروتي كان من أهل العلم والرواية 270 والإمام محمد بن إدريس الشافعي المطلبي أحد الأئمة ولد بغزة هاشم سنة خمسين ومئة وتوفي بمصر سنة 204 وهو أول من صنف في أصول الفقه. ومن أعيان العلماء محمد بن عوف الطائي الحمصي 269 ذُكر عند عبد الله بن أحمد بن حنبل في سنة 273 فقال: ما كان بالشام منذ أربعين سنة مثل محمد بن عوف. وعبد الله بن إسماعيل بن زيد بن صخر البيروتي ومحمد بن عبد الله بن عبد السلام بن أيوب البيروتي وآدم بن أبيإياس العسقلاني من مشايخ البخاري 221 وهشام بن الغاز بن ربيعة الجُرشي الصيداوي 256 وأبو بكر محمد بن بركة القنسريني الحافظ ببرداعَس سكن حلب ثم قدم دمشق وحدث بها عن أبي جعفر أحمد ابن محمد بن رجاء المصيصي ويوسف بن سعيد بن مسلم وهلال بن أبي العلاء الرقي. ولقب حافظ كان يطلق على من يحفظ ألوفاً من الأحاديث بأسانيدها وكانوا يطلقون اسم المسند على من يروي الحديث بإسناده سواء كان عنده علم به أو ليس له مجرد رواية، ويطلقون اسم المحدث على من كان أرفع منه والعالم على من يعلم المتن والإسناد جميعاً، والفقيه على من يعرف المتن ولا يعرف الإسناد. وكان السلف يطلقون المحدث والحافظ بمعنى والمحدث من عرف الأسانيد والعلل وأسماء الرجال والعالي والنازل وحفظ من ذلك جملة مستكثرة من المتون وسمع الكتب الستة ومسند أحمد بن حنبل وسنن البيهقي

الأدب في القرن الرابع ونهضته على عهد سيف

ومعجم الطبراني وضم إلى هذا القدر ألف جزء من الأجزاء الحديثة. هذا أقل درجاته فإذا سمع ما ذكر وكتب الطباق ودار على الشيوخ وتكلم في العلل والوفيات والمسانيد كان في أول درجات المحدثين. وممن كان في الشام الإمام محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة كان من أهل حرستا من غوطة دمشق. وعثمان بن خُرَّزاذ الإنطاكي المحدث. وأبو الحسن محمد الغساني الصيداوي المعروف بابن جميع الحافظ المحدث وأبو عبد الله محمد بن علي الصوري الحافظ. وأحمد بن الخليل الحلبي المحدث وأحمد ابن المسيب الحلبي المحدث وعبد الله بن إسحاق الصُّفَّري المحدث ومؤمل الرملي وأبو توبة الربيع بن نافع ويزيد بن خالد الرملي روى عن الليث بن سعد والمفضل ابن فضالة وروى عنه أبو العباس محمد بن الحسن بن قتيبة العسقلاني وأبو زرعة الرازي وموسى بن سهل الرملي 262 وعبد الله بن محمد بن نصر بن طويط ويقال طويث أبو الفضل الزاز الرملي الحافظ. سمع في دمشق هشام بن عمار ودُحيماً وهشام بن خالد بن أحمد بن ذكوان، ووارث بن الفضل العسقلاني، ونوح بن أبي حبيب القُومَسي. ومن شعراء هذا القرن البطين الشلعر الحمصي وعبد السلام بن رغبان المعروف بديك الجن من شعراء بني العباس وأصله من سَلَمْيَة وإدريس بن يزيد النابلسي الأديب الشاعر وأدهم بن محرز والعتابيّ وأبو تمام. واشتهر في هذا القرن بالهندسة أبو بكر البناء المهندس الذي بنى لابن طولون ميناء عكا. الأدب في القرن الرابع ونهضته على عهد سيف الدولة وأبي العلاء المعري: قل في القرن الثالث في الشام الشعراء والأدباء، ولم ينبغ فيه إلا رجال في الحديث، والمغازي والفقه، فطلع القرن الرابع وقد ظهر فيه الأدب العربي في مظهر عظيم لم يسبق له عهد بمثله، ولا جاء في القرون التالية شبه له ونظير، اللهم إلا إذا كان على عهد الأمويين، ولم تبلغنا جميع أخبار شعراء سيف الدولة بن حمدان في حلب، وقد قصده نوابغ الشعراء والأدباء، قال الصفدي وكانوا يسمون عصر سيف الدولة الطراز المذهب لأن الفضلاء الذين كانوا عنده والشعراء الذين من حوله لم يأت بعدهم مثلهم.

ذكر الثعالبي من شعراء الشام المحدثين العتابي ومنصور النمري والأشجع السلمي ومحمد بن زرعة الدمشقي وربيعة الرقي قال على أن في الطائيين أبي تمام والبحتري اللذين انتهت إليهما الرياسة في هذه الصناعة كفاية وهما هما. ومن مولدي أهل الشام المعوج الرقي والمريمي والعباس المصيصي وأبو الفتح كشاجم والصنوبري وأبو المعتصم الإنطاكي، وهؤلاء رياض الشعر وحدائق الظرف. ويقال إنه لم يجتمع بباب أحد من الملوك بعد الخلفاء، ما اجتمع بباب سيف الدولة من شيوخ الشعر ونجوم الدهر، وإنما السلطان سوق يجلب إليها ما ينفق لديها، وكان أديباً شاعراً أورد صاحب اليتيمة من شعرائه ومن كانوا يقصدونه من الآفاق لينفقوا من أدبهم في سوقه ما هو بهجة النفوس مدى الأيام. وكان في هذا القرن أكثر الجهابذة والصياغين والصيارفة والدباغين بالشام من اليهود، وأكثر الأطباء والكتبة نصارى. وانحطت مدن الشام في العلم انحطاطاً كثيراً ومنها حمص. ذكر السيوطي أنه نزلها خلق من الصحابة وانتشر بها الحديث زمن التابعين وإلى أيام حَريز بن عثمان وشعيب بن أبي حمزة ثم إسماعيل بن عياش وبقية وأبي المغيرة وأبي اليمان ثم أصحابهم ثم تناقص ذلك في المائة الرابعة وتلاشى ثم عدم بالكلية. كان أبو فراس الحمداني الذي قال فيه الصاحب بُدئ الشعر بملك وختم بملك، يعني امرأ القيس وأبا فراس ابن عم سيف الدولة وأعطاه على بيت واحد ضيعة بمنبج تغل ألف دينار. ولطالما أعطاه وأعطى الشعراء في بابه ولا سيما أبو الطيب المتنبي عشرات الألوف من الدنانير دع الإقطاعات والضياع، وكان أبو بكر وأبو عثمان الخالديان من خواص شعراء سيف الدولة وكانا على خزانة كتبه كما كان عليها أيضاً السلامي والببغاء والوأواء. وربما قلّ في الملوك من مُدح به سيف الدولة حتى إن كلاً من أبي محمد عبد الله بن محمد الفياض الكاتب وأبي الحسن علي بن محمد السميساطي قد اختار من مدائح الشعراء لسيف الدولة عشرة آلاف بيت. وكان أبو محمد الفياض كاتباً لسيف الدولة ونديمه معروفاً ببعد المدى في مضمار الأدب وحَلبة

الكتابة، أخذ بطرفي النظم والنثر، وكان سيف الدولة لا يؤثر عليه في السفارة إلى الحضرة أحداً، لحسن عبارته، وقوة بيانه، ونفاذه في استغراق الأغراض، وتحصيل المراد. ومن خواص شعراء سيف الدولة أبو العباس أحمد بن محمد النامي وكان عنده تلو المتنبي في المنزلة والرتبة، ومنهم أبو الفرج عبد الواحد الببغاء من أهل نصيبين ومن شعرائه أو ما قربوا من عصره الخليع الشامي والوأواء الدمشقي وأبو طالب الرقي وأبو حامد أحمد بن محمد الإنطاكي المعروف بأبي الرقعمق، وأبو القاسم الحسن الواساني الدمشقي وأحمد بن محمد الطائي الدمشقي وابن أبي الجوع وابن رشدين وكشاجم وأقام كشاجم في الرملة كثيراً فسمي الرملي 360 والصنوبري وأبو الفتح البكتمري وأبو الفرج العجلي وأبو حصين الرقي وأبو الفرج سلامة بن بحر. ومن علماء الأدب واللغة ابن خالويه وابن جني. ومن الشعراء أبو محمد جعفر وأبو أحمد عبد الله ابنا ورقاء الشيباني من رؤساء عرب الشام وقوادها. وكان جعفر بن ورقاء الشيباني 352 من بيت إمرة وتقدم وآداب، وكان المقتدر يجريه مجرى بني حمدان وتقلد عدة ولايات، وكان شاعراً كاتباً جيد البديهية والروية، ومن الشعراء منصور وأحمد ابنا كَيْغَلَغ وأبو علي أحمد بن نصر بن الحسين البازيار وأبو زهير المهلهل نصر بن حمدان والمغنم المصري واسمه أبو الحسن محمد الشعباني وأبو عبد الله محمد بن الحسين وأبو نصر بن نباتة التميمي والشيظمي وأبو العباس الصُّفَّري وأبو العباس الناشئ وأبو نصر البنص، وأبو القاسم الرقي المنجم الفلكي وعبد العزيز بن نباتة السعدي كان شاعرا مجيداً وله في سيف الدولة غرر القصائد 405 ومن شعراء القرن الرابع الحسين بن عبد الله بن أبي حصينة المعري 327 وممن اجتمع بسيف الدولة وجالسه مدة ثم جاء معه إلى دمشق فتوفي فيها المعلم الثاني حكيم الإسلام أبو نصر محمد الفارابي صاحب التآليف الممتعة في الحكمة 339. وأهم ما يفاخر به هذا القرن نبوغ أبي العلاء أحمد بن سليمان المعري التنوخي حكيم العرب وأديبهم، وقد كانت المعرة في أيامه كعبة القصاد، من طلاب الآداب، جذبهم إليها أبو العلاء، فجعل بلده دار حكمة وأدب،

كما جعل سيف الدولة في القرن الذي قبله مدينة حلب مجمع الأدباء والشعراء بإحسانه ومشاركته. أحسن نابغة الشام أبو العلاء المعري إلى الآداب العربية أي إحسان، وهو من بيت أدب وفضيلة، كان أبوه عبد الله بن سليمان لغوياً شاعراً، وأخوه الأكبر محمد بن عبد الله وأخوه الثاني عبد الواحد بن عبد الله شاعرين مجيدين، وكان الشعر والأدب متسلسلاً فيهم من بطون كما تسلسل في بيتهم القضاء مدة مائتي سنة. ومن شيوخ أبي العلاء أبو بكر محمد بن مسعود النحوي ومحمد بن عبد الله بن سعد النحوي الحلبي، ومن تلامذته أبو غالب همام بن الفضل بن المهذب صاحب التاريخ المشهور، وأبو يعلى عبد الباقي ابن أبي الحصين، وأبو محمد عبد الله الخفاجي، ورشأ بن نظيف بن ما شاء الله المقري، وهذا كان أول من أنشأ في دمشق داراً للقرآن في حدود سنة 444 والخطيب التبريزي والحسن بن علي بن همام والأمير أبو الفتح بن أبي حضينة وعشرات غيرهم من أهل المعرة وكفر طاب وحلب ودمشق وحمص وحماة وطرابلس والرقة وهكار والمصيصة وبغداد وتبريز والأندلس إلى غيرهم من التنوخيين أهل بيته، وكان أكثر هؤلاء يقول الشعر الجيد حتى أصبح ذلك من اختصاصهم. وممن صحب أبا العلاء المعري وأخذ عنه كثيراً علي بن القاضي التنوخي كان من أهل بيت كلهم فضلاء أُدباء ظرفاء. ومما يستدل به على انتشار الآداب في هذا العصر وتغالي الناس في الشعر والأدب ما قيل من أن سبعين شاعراً رثوا المعري على قبره يوم مات، فما بالك بسائر شعراء الشام على ذاك العهد. وقام في هذا القرن من العلماء إبراهيم بن عبد الرزاق الإنطاكي مقرئ أهل الشام 338 ومن المحدثين عمر بن علي العتكي الإنطاكي الخطيب الحافظ صاحب كتاب المقبول وعبد الوهاب الكلابي المحدث 396 ومحمد ابن عبيد الله يعرف بابن أبي الفضل أبو الحسن الكلاعي الحمصي المحدث 309 وأبو الدحداح أحمد بن محمد بن إسماعيل التميمي محدث دمشق كان يسكن في ربض باب الفراديس في طرف العقيبة 328 قال القاسمي وإليه تنسب مقبرة الدحداح، وعمر بن حسن الخرقي الحنبلي الدمشقي صاحب التصانيف العديدة وأحمد بن شرام الغساني أحد النحاة المشهورين بالشام

الآداب في القرن الخامس:

387 ومحمد بن أحمد بن أبي بكر البناء المقدسي الجغرافي الرحالة صاحب كتاب أحسن التقاسيم المطبوع وأبو مسهر البيروتي المعروف بمكحول الحافظ الثقة الثبت المشهور 321 وأبو طاهر بن ذكوان البعلبكي المؤد 359 والمنجم الصابي البعلبكي وأبو القاسم علي بن أحمد الإنطاكي كان رياضياً مهندساً وله تصانيف جليلة وكان مشاركاً في علوم الأوائل 376 وإبراهيم الأزدي العجلي الإنطاكي الفقيه المقرئ 338 ومحمد بن جعفر صاحب التصانيف المشهورة كاعتلال القلوب وغيره توفي في يافا 327 ومحمد التميمي المقدسي والحافظ أحمد بن عمير مولى بني هاشم شيخ الشام في وقته رحل وصنف وذاكر وحدث 320 وأبو الحسين بن كشكرايا الطبيب العالم صاحب الكناش المعروف بالحاوي وعيسى الرقي المنجم الطبيب وكلاهما من أطباء سيف الدولة. وكان عيسى ينقل من السريانية إلى العربية ويأخذ أربعة أرزاق رزقاً بسبب الطب ورزقاً بسبب النقل ورزقين بسبب علمين آخرين. وعبد الله بن عطية المقرئ الدمشقي المفسر كان يحفظ خمسين ألف بيت من شعر العرب في الاستشهادات على معاني القرآن واللغة 383 وعبد الرحيم بن نباتة الفارقي صاحب الخطب المشهورة كان خطيب حلب وبها اجتمع بأبي الطيب المتنبي في خدمة سيف الدولة 374 وقام في حلب أربعة من الشعراء المعدودين وهم أبو الحسن المستهام الحلبي وأبو محمد الماهر الحلبي وابن الفتح الموازيني الحلبي وأبو الفرج بن أبي حصين القاضي الحلبي. ومن الشعراء الشاميين أبو الجود الرسعيني واسمه محمد بن أحمد وأبو مسكين البردعي شاعر محدث يتنقل في البلدان وكان مجوداً. والخليع الرقي واسمه محمد بن أبي الغمر القرشي. ومن المهندسين الرياضيين المجتبى الإنطاكي 376 وديونيسيوس بطريرك اليعاقبة له تاريخ. وقيس الماروني له كتاب حسن في التاريخ. الآداب في القرن الخامس: امتاز القرن الخامس بأن نشأت فيه طائفة من الرجال الذين عُنوا بالفلك والعلم الطبيعي والرياضي والطب، كما امتاز بأن نبغ فيه في الأقطار العربية الأخرى من الفلاسفة أمثال ابن رشد وابن سينا والبيروني والغزالي والرازي

ممن هم فخر العرب على تعاقب الحقب. وقد انتقلت من كتبهم وأفكارهم أشياء كثيرة إلى الشام. ويصح أن يقال إن العلم اقترب من العلوم المادية في هذا الدور، ذهبت عن الناس الدهشة بالفصاحة والشعر ونقل الأحاديث والعناية بالدين وتم تدوين أقوال أرباب المذاهب والشعراء فانصرفت العناية إلى علوم الدنيا. وممن نشأ في هذه الديار أبو الفضل الحارثي الدمشقي المهندس الرياضي العالم بالحساب والتقسيمات والهندسة وعلم الهيئة ونقش الرخام وضرب الخيط والطب وله عدة تآليف 500 ومحمد القيسراني الدمشقي العالم بالحساب والنجوم والهندسة والهيئة وعلم المساحة والميقات والفلك 500 ورضوان الخراساني الرياضي ومحمد بن عبد الواحد المهندس صنف كتاباً في ركاية الزوال بدمشق ومعرفة طلوع الفجر بالمنازل منازل القمر 409 وجورجس بن يوحنا اليبرودي العالم بالطب وله عدة رسائل ومقالات. ومن المؤرخين حمزة بن أسد أبو يعلى التميمي المعروف بابن القلانسي العميد صنف تاريخاً للحوادث بعد سنة أربعين وأربعمائة إلى حين وفاته وقد طبع باسم ذيل تاريخ دمشق. ومبارك ابن شرارة أبو الخير الطبيب الكاتب الحلبي النصراني كان له جرائد مشهورة بحلب عند أهلها يحفظونها لأجل الخراج المستقر على الضياع إذا اختلف النواب في شيء من هذا النوع رجعوا إليها وله تاريخ حلب توفي في حدود سنة 490 في صور. ومن الحفاظ محمد بن علي الصوري الحافظ قالوا: كان يذاكر بمائتي ألف حديث. قال غيث: سمعت جماعة يقولون ما رأينا أحفظ منه 441 والحافظ محمد بن جميع الغساني الصيداني ويقال له الصيداوي 402 وعبد الواحد الشيرازي المقدسي الأنصاري شيخ الشام في وقته نشر مذهب الإمام أحمد بن حنبل أقام بدمشق وله تصانيف 486 وسلامة بن إسماعيل ابن جماعة المفدسي الضرير كان كثير الحفظ ألف تآليف 480 والحسن ابن عبد الصمد بن الشخباء العسقلاني صاحب الخطب البديعة مشهور بنثره 482 ومن الكتاب والخطباء صاعد بن شمامة المسيحي الحلبي الكاتب وأبو اليمن المسلم بن الحسن بن غياث الكاتب الحلبي النصراني كان صاحب الديوان بحلب، وتادرس بن الحسن النصراني كان وزير صلح بن مرداس وعبد الله بن أسعد

العلم والأدب في القرن السادس:

فقيه حمص يعرف بابن الدهان. وعبد العزيز بن أحمد الكناني الدمشقي الصوفي المحدث 466 نصر بن إبراهيم المقدسي النابلسي عالم الشام له عدة تصانيف درس العلم ببيت المقدس مدة ثم أتى صور ثم جاء دمشق 490 علي بن داود الداراني الخطيب 402 وهوالذي طلع إلى داريا كبراء دمشق لما مات خطيب جامعهم وطلبوه ليكون خطيب جامعهم فوثب أهل داريا بالسلاح وقالوا: لا نعطيكم خطيبنا فقال رئيسهم: أما ترضون يا أهل داريا أن تسمع الناس في البلاد أن أهل دمشق احتاجوا إليكم في إمام. ومن مشاهيره الحسين بن علي بن شواش الكناني المقري 497 والحسين بن علي بن إبراهيم الأهوازي شيخ القراء بدمشق 446 والخطيب أبو نصر بن طلاب مسند دمشق 470 وأبو الفرج عبد الواحد بن محمد الشيرازي الواعظ العالم 456 ومن الشعراء عبد المحسن الصوري الشاعر 418 وأبو الفتيان بن حيوس الحلبي الشاعر. ومحمد بن سنان الحلبي الشاعر وأبو مشكور الحلبي الشاعر وأحمد بن فضالة الدمشقي شاعر. وعلي بن منصور الحلبي الملقب دوخلة يعرف بابن القارح من شيوخ الأدب راوية للأخبار كتب لأبي العلاء المعري رسالته المشهورة فأجابه عنها برسالة الغفران وكلا الرسالتين مطبوع. ومما يذكر في هذا القرن أن القاضي جلال الملك بن عمار جدد في طرابلس دار العلم ودار الحكمة وذلك في سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة لتكون مركزاً من مراكز التشيع، فنشرت العلوم والآداب وأصبحت طرابلس مباءة علم ودرس ومباراة في التعلم وجهز هذه الجامعة الدينية بمائة ألف مجلد وربما كانت على عهده قبل استيلاء الصليبيين عليها أول بلدة علمية في الشام على ما رأى فان برشم. العلم والأدب في القرن السادس: دخل القرن السادس وعلى كثرة ما كان فيه من الفتن نشأ للأمة علماء خدموا العلم في فنون مختلفة، وكانت بالشعر أقل من عصر سيف الدولة وعصر أبي العلاء المعري، وإن كان نور الدين وصلاح الدين وأُسرتهما ممن يجيزون

عليه ويعجبون ويترنمون بسماعه، وكان من أهل بيت صلاح الدين الشعراء المفلقون، ومما عُني به نور الدين محمود بن زنكي أنه كان يجلب العلماء من القاصية ويسكنهم بالشام مثل قطب الدين النيسابوري وشرف الدين بن أبي عصرون، يبني لهم المدارس ويغدق عليهم وعلى مريديهم أنواع الإحسان ويدرّ عليهم الرواتب. وقد أُحصي فقهاء مدارس دمشق في عهد صلاح الدين فكانوا ستمائة فقيه، كان يعطيهم من صدقاته. ومن كتاب للقاضي الفاضل لصلاح الدين: ومما يجب ان يعلم المولى أن أرزاق أرباب العمائم في دولته إقطاعاً وراتباً يتجاوز مائتي ألف دينار وربما كانت ثلاثمائة ألف دينار. وأزهرت في هذا القرن مدرسة اليعاقبة في طرابلس ومنها نشأ أبو الفرج ابن العبري صاحب التاريخ المطبوع. وتعلم كثير من المحاربين والقواد والأمراء من الصليبيين اللغة العربية في الشام. في تاريخ اللغة الفرنسية وآدابها: أما بشأن اللغة أي في عهد الصليبيين فقد حدث ما يحدث في مثل هذه الأحوال على صورة مطردة، وهو أن لغة الأكثر تمدناً أثر أهلها في غيرهم. وكان أكثر الأمم تمدناً بلا مراء الشرقيون ولا سيما العرب واليونان. وقد تعلم قليل جداً من العرب والترك والفرس لغة الإفرنج ما عدا بعض التراجمة الرسميين. وعلى العكس تعلم كثير من الصليبيين لغة الوطنيين عقيب وصولهم إلى فلسطين. إلى أن قال: ولا ريب أن مجاورة التمدن الإسلامي قد ساعدت على زيادة النفوذ الذي كان العلم العربي والفنون العربية تؤثرها فينا منذ زمن طويل. ومعلوم ما تدين به لهذا التأثير كل من الفلسفة والرياضيات والفلك والملاحة وتركيب النيران الصناعية والطب والكيمياء حتى فن الطبخ فقد أخذنا عن العرب أشياء كثيرة من مثل طريقة الأرقام وشروح أرسطو حتى حمام الزاجل والشعار وأدوات الموسيقى والأزياء والثياب والزهور والبقول. وبعد فإذ حدث أحياناً أن الأشياء التي نقلت لم تكن تسمى إلا بأسماء المدنية الشرقية التي أخذت منها مثل ثوم عسقلان وثياب دمشق فغن غيرها قد احتفظت بأسمائها العربية مع بعض التحريف وهي كثيرة ويتألف منها في الفرنسية مجموع كبير في الجملة اه. ونبغ في هذا القرن أبو المجد محمد بن أبي الحكم، وكان طبيباً مهندساً

فلكياً 570 وأبو زكريا يحيى البياسي من أطباء صلاح الدين وعمل لابن النقاش وهو علي بن عيسى بن هبة الله أُستاذه في الطب آلات كثيرة تتعلق بالهندسة وكان يعرف النجارة وابن النقاش هذا كان أوحد زمانه في صناعة الطب وله مجلس عام للمشتغلين عليه وكان يعالج أيضاً كتابة الإنشاء 574 وأبو الحكم عبيد الله بن المظفر المعروف بالحكيم المغربي وهو عالم بالحكمة والطب والأدب والهندسة 549 (1). وعمر بن علي بن البذوخ الدمشقي عالم بالطب شاعر له تآليف 576 وابن الصلاح عالم بالحكمة متميز بالطب مليح التصنيف 540 وموفق الدين بن المطران عالم بالطب والفلسفة متعين في الفنون الأدبية له عدة مصنفات 587 وقد نعى على أهل زمانه فتورهم وزهدهم في العلوم وقلة مضائهم ورغبتهم في الكتب والآثار وتطير بتفاقم الخطب في هذا الشأن. وأبو الفضل عبد الكريم الحارثي الدمشقي وهو مهندس طبيب نجار نحات هندس أكثر أبواب المستشفى النوري الكبير اشتغل بالأدب وعلم النجوم والحديث له عدة مصنفات 599 وهو الذي أصلح الساعات التي لجامع دمشق. وعلي ابن عبد الباقي بن أبي جرادة العقيلي الإنطاكي الحلبي عالم بالأدب واللغة والحساب والنجوم والفلسفة مات سنة نيف وأربعين وخمسمائة. زين الدين علي بن غانم الأنصاري الدمشقي المعروف بابن منجه الحنبلي كان من أعيان أهل العلم وله رأي صائب وكان صلاح الدين يسميه عمرو بن العاص. ومحمد بن طاهر المقدسي ذو الرحلة الواسعة والتصانيف والتعاليق 507 والحافظ أبو القاسم علي بن عساكر محدث الشام ومؤرخها ومن أعيان فقهائها صاحب تاريخ دمشق المشهو 571 وكتابه من أعظم المفاخر في التاريخ معدن أدب وركاز علم. وحمزة بن أسد أبو يعلي التميمي الدمشقي العميد بن القلانسي الكاتب صاحب كتاب ذيل تاريخ دمشق المطبوع. تولى رياسة دمشق وجمع بين كتابة الإنشاء وكتابة الحساب توفي في عشر التسعين وأربعمائة، وتوفيق بن محمد المهندس المنجم الأديب الدمشقي وله تصانيف 516 وأبو البيان محمد بن محفوظ

القرشي له عدة تصانيف 501. ومخلص الدين أبو البركات عبد القاهر ابن أبي جرادة الحلبي كان أميناً على خزائن نور الدين وكان كاتباً بليغاً وشاعراً مجيداً مستحسن الفنون من التذهيب البديع وحسن الخط المحرر على الأصول القديمة المستظرفة. وعبد الرحيم البيساني المشهور بالقاضي الفاضل الكاتب العالم صاحب الرسائل والتصانيف الجيدة ومحيي الدين بن الزكي الفقيه الخطيب 598 وعماد الدين الأصفهاني العالم الكاتب الشاعر صاحب التصانيف ومنها الفتح القدسي المطبوع 597 ومحمد الشهرزوري الدمشقي الفقيه الأديب الشاعر الكاتب 572 وعبد الله بن أبي عصرون الفقيه له عدة مصنفات 585. وعلي بن جعفر البلخي الدمشقي من أئمة الحنفية 548 وسُلَيم بن أيوب أحد أوعية العلم صنف الكثير في التفسير والحديث والفقه والعربية نشر العلم في صور 547 والحافظ محمد بن طاهر المعروف بابن القيسراني المقدسي كان جوالاً في الآفاق يجمع بين الذكاء والحفظ وحسن التصنيف وله تصانيف كثيرة 567 وبهاء الدين بن شداد قاضي العسكر في زمن صلاح الدين يوسف الفقيه الكاتب المؤرخ صاحب التاريخ المطبوع في سيرة صلاح الدين نشأ في حلب وعظم في أيامه شأن الفقهاء لعظم قدره وارتفاع منزلته ومجد الدين طاهر ابن نصر الله بن جهبل الحلبي والد بني جهبل الفقهاء الدمشقيين كان إماماً في الفقه والحساب والفرائض، ومحمد بن خضر المعري شاعر. وتقي الدين عبد الغني الجماعيلي له عدة مصنفات في الرجال 600 والحسين الأسدي مسند دمشق 551 وقطب الدين النيسابوري العالم الفقيه 578 والحسن بن هبة الله بن صصري التغلبي المحدث 586 وتاج الدين الخراساني الفقيه الصوفي 584 وتقية بنت غيث الأرمنازي الصوري الشاعرة الأديبة ولها شعر سائر 579 وعلي بن الموازيني مسند دمشق 514 وأبو طاهر بركات الخشوعي المحدث امتاز بالسماع 598. وموسى البلاغاشاني الفقيه 506 وعلي ابن إبراهيم الحسيني الخطيب 508 وهبة الله بن أحمد الأكفاني الأمين المحدث 524 وعلي بن مسلم السلمي الدمشقي الفقيه 532 ونصر الله بن محمد المصيصي الدمشقي العالم 542. ومن الشعراء والأدباء أحمد بن الخياط الدمشقي الشاعر الكاتب الأديب

العلم والأدب في القرن السابع:

517 وأحمد بن منير الطرابلسي الشاعر الهجاء الوصاف المشهور 548 وطراد بن علي المعروف بالبديع كاتب شاعر 524 وأبو الوحش الشاعر وعبد القاهر بن عبد الله الوأواء الشاعر الأديب 551 طبع ديوانه. وعرقلة الدمشقي النديم الخليع الشاعر ومحمد بن حرب النحوي الأديب 580 والحسين ابن رواحة الأنصاري الحموي الفقيه الشاعر 585 ومسلم بن خضر ابن قسيم الحموي الشاعر، والحسن بن أبي الحسن صافي النحوي المعروف بملك النحاة له مصنفات في الفقه والأصلين والنحو وله ديوان شعر 568 وحسان بن نمير العقيلي الدمشقي الشاعر 567 وعلوي بن عبد الله بن عبيد الشاعر الحلبي المعروف بالباز الأشهب الأديب المتفنن 596 وأسامة بن منقذ صاحب كتابي الاعتبار ولباب الآداب وكلاهما مطبوع شاعر كاتب. وزرعة ابن موسى أبو العلاء الطبراني النصراني كاتب الأمراء بني منقذ كان معاصراً لعبد الله بن محمد بن سنان شاعر. وقد جاء حلب الشهاب السهروردي في عهد ملكها الظاهر غازي وهو فيلسوف قتله صلاح الدين بدسائس الفقهاء قتل بقتله الحكمة، وهي صناعة الصنائع حتى إن سيف الدين الآمدي الفيلسوف النظار الكبير في القرن التالي لم يجرؤ أن يقرئ أحداً شيئاً من العلوم الحكمية، وبعد ذلك انقطعت الفلسفة من هذه الديار ولا تقرأ إلا أشياء قليلة منها وقل النابغون والمشتغلون بها، ولم نقف على حياة فيلسوف نشأ للشام من بين جميع من قام فيها من الأعلام، ولم ينشأ من الأفراد أمثال قطب الدين النيسابوري والشهاب السهروردي وسيف الدين الآمدي، ولقد أبان رنان كيف أن الفكر الديني لسوء حظ الإسلام تغلب بعد جدال طويل فخنق الحركة العلمية الفلسفية الباهرة التي جعلت المدينة العربية بتأثيرات الفارسية واليونانية والنسطورية واليهودية ردحاً من الدهر، وارثة المدنية اليونانية. قال: وأوربا مدينة لمدنية العرب ببقايا العلم الذي قطفت ثماره في القرون الوسطى. العلم والأدب في القرن السابع: لما خرب التتر ببغداد سنة 656 انتقلت الحركة الأدبية بحكم الطبيعة إلى

الشام ومصر ولم تكن انقطعت منها كل الانقطاع من قبل، فهاجر كثير من العلماء من عاصمة العراق إلى دمشق والقاهرة. وفي هذا القرن تعينت المسالك العلمية وكثر الإخصائيون وتنوعت العلوم وتوفر المشتغلون بها وأنبغ الشام طبقة عالية عُدّت تآليفهم من الأمهات في خزانة كتب الأمة العربية، ومرجعاً ثقة للأخلاف اقتبسوها من أعمال الأسلاف. فمن المؤرخين عمر بن أبي جرادة الحلبي العقيلي المعروف بابن العديم صاحب تاريخ حلب 660 وهو كمال الدين عمر بن الصاحب السعيد قاضي القضاة نجم الدين أبي الحسن أحمد بن الصاحب السعيد قاضي قضاة جمال الدين أبي غانم هبة الله بن قاضي القضاة مجد الدين أبي عبد الله محمد ابن قاضي القضاة جمال الدين أبي الفضل هبة الله ابن قاضي القضاة نجم الدين أبي الحسن أحمد بن يحيى بن زهير بن أبي جرادة. بيت تسلسل فيه العلم خمسة بطون كانوا أجداد كمال الدين عمر أكرم به من بيت فضيلة وعلم. ومن مفاخر هذا القرن بحلب علي بن يوسف القفطي المعروف بالقاضي الأكرم أحد الكتاب المشهورين المبرزين في النظم والنثر وله تآليف أكثرها في التاريخ والأدب 646 وكان يقوم بعلوم من اللغة والنحو والفقه والحديث وعلوم القرآن والأصول والمنطق والنجوم والهندسة والتاريخ والجرح والتعديل ومن كتبه المطبوعة مختصر تاريخ الحكماء. وياقوت الرومي الحموي الجغرافي المؤرخ الرحالة صاحب معجم البلدان ومعجم الأدباء والمشترك وغيرها من الكتب الممتعة المنقحة المطبوعة 626 وفي حماة إبراهيم بن أبي الدم صاحب التاريخ الكبير المظفري في الملة اسلامية 642 وقام فيها عبد الرحيم البارزي قاضي حماة وابن قاضيها وأبو قاضيها. وفي حماة أيضاً علم الدين قيصر المعروف بتعاسيف المهندس الرياضي 642 والقاضي جمال الدين بن واصل 697 كان إماماً مبرزاً في علوم كثيرة مثل المنطق والهندسة والأصول والهيئة ألف تاريخاً في أخبار بني أيوب وله عدة مصنفات منها الانبرورية في المنطق صنعها للانبرور ملك الإفرنج صاحب صقلية وانبولية وأنكبردة لما توجه إليه رسولاً في أيام الظاهر بيبرس سنة 659. ونبغ من المهندسين إبراهيم بن غنائم المهندس باني المدرسة الظاهرية الجوانية بدمشق، واسمه لا يزال منقوشاً على يسار الداخل إليها في زاوية المدخل، وهو الذي هندس القصر الأبلق

الذي قامت التكية السليمانية في القرن العاشر على أنقاضه. ونبغ في حماة الملك المنصور محمد بن الملك المظفر بن أيوب خلف عدة مصنفات منها المضمار في التاريخ وطبقات الشعراء وكان في خدمته قريب مائتي متعمم من النحاة والفقهاء والمشتغلين بغير ذلك. وجاء الناصر داود ابن الملك المعظم وكان شاعراً أديباً وفي أيامه راجت الفلسفة وأمن المشتغلون بها على أرواحهم. وجاء الأمجد بهرام شاه بن أيوب صاحب بعلبك وكان شاعراً رقيقاً وله ديوان 628 ونبغ في دمشق أحمد بن خلكان قاضي قضاتها الفقيه المؤرخ المدقق وصاحب وفيات الأعيان المنقح المطبوع 681 وأحمد بن القاسم بن خليفة المعروف بابن أبي أصيبعة الدمشقي الطبيب الأديب مؤلف طبقات الأطباء المطبوع 668 وعبد الرحمن أبو شامة له عدة تصانيف في التاريخ وغيره 665 ومنها تاريخ الروضتين وذيله والأول مطبوع. ويوسف بن قزاوغلي سبط ابن الجوزي صاحب مرآة الزمان في التاريخ، المطبوع منه الجزء الثامن وهو الأخير، أقام زمناً في دمشق 654 وعبد المنعم الجلياني الملقب بحكيم الزمان علامة في الطب والكحل والأدب والشعر وله عدة كتب منها عشرة دواوين من منظوم الكلام ومطلقه في مدح صلاح الدين لم يصلنا منها إلا المدبجات. ومن النوابغ في دمشق عز الدين الإربلي الفيلسوف الضرير كان بارعاً في الفنون الأدبية رأساً في علوم الأوائل يقرئ المسلمين وأهل الكتاب والفلاسفة 660 وعاش في دمشق أيضاً حكيمان عظيمان من حكماء الإسلام وماتا فيها هما سيف الدين علي الثعلبي الآمدي سيد العلماء وأزكى أهل زمانه وأكثرهم معرفة بالعلوم الحكمية والمذاهب الشرعية والمبادي المنطقية أقام سنين كثيرة في حماة مستتراً ممن كانوا تحاملوا عليه ونسبوه إلى الانحلال. وقد صنف في أصول الفقه وأصول الدين والمعقولات عدة مصنفات طبع له كتاب الإحكام ومات في دمشق سنة 631 والثاني الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي الأندلسي الدمشقي صاحب المذهب المشهور في التصوف وله عدة مصنفات في الأخلاق وكلام القوم منها الفتوحات المكية وفصوص الحكم المطبوعان 638 ونبغ في دمشق شمس الدين الخوبي العالم في الحكمة والشرع والطب وغيره وله تآليف 637 ورفيع الدين الجلبي عالم بالعلوم الحكمية وأصول الدين والفقه والعلم الطبيعي والطب وله تآليف

641 وإسماعيل بن عبد الكريم المعروف بابن المعلم كان شيخ الحنفية في وقته وشرف الدين بن الرحبي الطبيب الشاعر الأديب له تآليف 667 وأخوه جمال الدين بن الرحبي الطبيب العالم ورشيد الدين الصوري طبيب متفنن في علوم كثيرة وله عدة تصانيف في الطب. ومهذب الدين يوسف بن أبي سعيد السامري طبيب متميز في العلوم الحكمية وأديب له من الكتب شرح التوراة 624 والصاحب أمين الدولة أبو الحسن بن غزال عالم بالطب له فيه مصنف لم يوضع مثله 643 ومهذب الدين عبد الرحيم بن علي ويعرف بالدخوار عالم بالطب وهو صاحب المدرسة الطبية المعروفة بالدخوارية بدمشق، ونجم الدين يحيى بن اللبودي عالم في الحكمة والهندسة والعدد صاحب المدرسة الطبية المنسوبة إليه في دمشق وصاحب دار الهندسة أيضاً ألّف وله ثلاث عشرة سنة في الرد على عبد اللطيف البغدادي وله عدة مصنفات 621 وعلاء الدين علي بن أبي الحزم بن النفيس الدمشقي صاحب التصانيف الكثيرة كانت تصانيفه يمليها من حفظه وكان مشاراً إليه في الفقه والأصول والحدي والعربية والمنطق. وشمس الدين بن المؤيد العُرضي الدمشقي من الحكماء الذين كانوا بدمشق ودعاهم نصير الدين الطوسي لبناء المرصد وكان العُرضي وابنه محمد من علماء الفلك وتولى مؤيد الدين الأرصاد في مرصد مراغة وقد وضع محمد كرة لا تزال محفوظة في متحف درسدن في المانيا. وعثمان بن الصلاح المضروب به المثل في كل فن 643 وعلي بن محمود اليشكري المنجم له يد طولى في علم الفلك وحل التقاويم شاعر خطاط 680 وبدر الدين ابن قاضي بعلبك عالم بالطب وعلوم الأدب له تصانيف طبية 650 ونجم الدين ابن المنفاخ ويعرف بابن العالمة وكانت أمه عالمة بدمشق وتعرف ببنت دهين اللوز طبيب عالم بالحكمة والمنطق والأدب له مؤلفات 652 عز الدين ابن السويدي الدمشقي عالم بالطب والأدب شاعر مجيد. يعقوب السامري عالم بالطب وعلوم الحكمة له عدة مصنفات 681 وعلي بن خليفة بن أبي أُصيبعة عالم بالطب والعربية وله كتب في الطب وغيره 616 وعبد العزيز بن رفيع الدين كان متميزاً في الحكمة والطبيعي والطب وأصول الدين والفقه والخسر وشاهي من أصحاب التصانيف الجليلة في المنطق والحكمة ومن تلاميذ فخر الدين الرازي وعفيف الدين التلمساني الدمشقي

أديب له في كل علم مصنف 690 وعبد الرحمن بن محمد بن عساكر ابن أخي الحافظ أبي القاسم صاحب تاريخ دمشق كان فقيه وقته 620 وأحمد ابن هبة الله بن عساكر مسند دمشق 699 وكريمة بنت عبد الوهاب بن علي مسندة الشام أم الفضل القرشية الزبيرية وتعرف ببنت الحبقبق 641 وفاطمة بنت أحمد بن السلطان صلاح الدين المحدثة 678 وفاطمة بنت عساكر محدثة 683 وست العرب بنت يحيى بن قايماز أم الخير الدمشقية الكندية المحدثة. وست الكتبة بنت الطراح المحدثة وزينب بنت علي بن أحمد بن فضل الصالحية محدثة. وعائشة ابنة عيسى بن الشيخ الموفق المقدسي المحدثة 697. وعلي بن داود القحفازي شيخ أهل دمشق وخصوصاً في العربية. وعبد الوهاب ابن سحنون طبيب وله شعر وأدب وفقه 694 وزيد بن الحسين الكندي علامة في فنون الآداب مفنن عُرف بعلو السماع 613 وعلم الدين السخاوي المقري النحوي الأديب الفقيه له تصانيف 657 وإبراهيم بن أحمد بن فارس التميمي شيخ القراء بدمشق 676 والقاسم بن أحمد المرسي اللورقي شيخ القراء والمتكلمين 661 وعبد الكريم بن الحرستاني خطيب الشام 662 وعبد العزيز بن عبد السلام الدمشقي شيخ الإسلام له تصانيف 660 والحافظ شمس الدين محمد بن جعوان الحافظ النحوي 682 ورشيد الدين الربعي مفسر لغوي كاتب 687 ومحمد بن سعادة مفسر أصولي فقيه نحوي عالم بالخلاف والأدب والفرائض 693 وجاء من المحدثين موسى بن عبد القادر الجيلي مسند دمشق 618 والحافظ تقي الدين إسماعيل بن عبد الله الأنماطي المحدث 619 ومكرم بن محمد بن أبي الصقر القرشي المسند الفقيه 635 وإسماعيل بن أبي اليسر التنوخي مسند الشام 676 وعبد العظيم وهو عبد الرحمن المعروف بالمسجف 635 والقاسم بن أبي بكر الإربلي المقري المحدث 680 ومحمد بن علي ابن الصابوني المحدث 680. وجاء من العلماء في الشام عبد الله الجماعيلي الإمام في الخلاف والفرائض والأصول والفقه والنحو والحساب والنجوم والمنازل 620 ويعقوب بن صقلان المقدسي قرأ الحكمة على الفيلسوف الإنطاكي وعرف بها 626 ونجم الدين النخجواني كانت له عارضة قوية في علوم الأوائل ونفيس الدولة بن طُليب

الدمشقي وولده صفي الدين النصراني الملكي ومحمد بن القيسراني الدمشقي عالم بالأدب والهيئة 630 وأبو الفضل بن يامين الحلبي عالم بالرياضيات وعلم حل الزيج وتسيير المواليد 604 وأحمد بن هبة الله المعروف بابن الجبراني الحلبي النحوي اللغوي وعبد الله اليونيني المحدث. ونجم الدين القمراوي عالم بالحكمة والشريعة. وشرف الدين المتاني عالم بالحكمة والشريعة وهما اللذان ذهبا إلى الموصل مختفيين ليلقيا الفيلسوف الأكبر كمال الدين بن يونس وحلا لغزه في الحكمة، وكان عجز العلماء عن حله، فسألهما عن موطنهما فقالا الشام فقال: من أي موضع منه قالا من حوران فقال: لا أشك أن أحدكما النجم القمراوي والآخر الشرف المتاني. وفي هذا دليل على شهرتهما في العلوم الحكمية والدينية. وقمرا مزرعة مزرعة يقال لها قميرة اليوم ومتان قرية صغيرة وهما من قرى صرخد في جبل حوران. وكانت بعض المدن عامرة بالعلماء مثل قنسرين التي خربت في القرن الرابع وكفر طاب التي خربت في أواخر الخامس. قال ابن العديم كانت كفر طاب مشحونة بأهل العلم وكان بها من يقرأ الأدب ويشتغل به. وهاتان المدينتان أصبحتا الآن قريتين حقيرتين، وكان في قرى غوطة دمشق علماء وفقهاء ويختلف إليها علماء دمشق يدرسون فيها فمن جملة تآليف الحافظ ابن عساكر كتب في روايات أهل داريا وكفرسوسة وصنعاء دمشق والربوة والنيرب ومن حدث بهما وأهل الحميرين وقبيبة وفذايا وبيت أرانس وبيت قوفا والبلاط وبيت سوا ودومة ومسرابا وحرستا وكفربطنا ودقانية وحجيرة وعين ثرماء وجديا وطرميس وبيت لهيا وبرزة. ومن هذه القرى ما دثر الآن، وذكر المحدثين من أهل مَنين وأهل بعلبك مما دل على العناية بالحديث في القرن السادس. ومحمد بن مياس العُرّماني الشاعر الأديب وموسى القمراوي الفقيه الأديب المناظر 625 ومسعود بن أبي الفضل النقاش الحلبي الشاعر والتاج الصرخدي محمود بن عدي التميمي الشاعر المحسن 674 والرشيد البصروي سعيد بن

علي أحد أئمة المذهب الحنفي النحوي الشاعر 684 وعلي بن بلبان الكركي 684 والفخر البعلبكي عبد الرحمن الحنبلي الفقيه المحدث 687 وعبد العزيز الأنصاري شيخ شيوخ حماة قال الصفدي: لا أعرف في شعراء الشام بعد الخمسمائة وقبلها من نظم أحسن منه ولا أجزل ولا أفصح وبرع في الفقه وحدث كثيراً 662 ونبغ في حماة ابن بركات له تآليف في التاريخ. وأبو بكر بن الخيثمي الحموي كان إماماً في الأدب ومحمد بن المظفر بن أبي بكران الحموي عالم الأئمة الفقيه المحدث. وعبد العزيز بن حجة الحموي الشاعر الأديب وأبو المحاسن محمد بن نصر بن عُنين الدمشقي الشاعر 632 ومحمد بن أبي الفضل الدَّولعي الفقيه الخطيب الدمشقي 635 ومحمد شمس الدين الأنصاري الكاتب بدمشق 650 ومحمد بن العفيف التلمساني الشاعر 688 ومحمد بن سوار ابن إسرائيل شاعر 677 ومحمد بن عبد المنعم التنوخي شاعر 669 وابن الساعاتي الشاعر الدمشقي صاحب الديوان المطبوع604 وفتيان الشاغوري الدمشقي الشاعر المبدع 615 وتقي الدين اليلداني المحدث 655 وعلي بن عمر المشد شاعر 656 وأبو المحاسن الشواء الشاعر الحلبي 635 ومحمد بن أبي اليسر التنوخي الدمشقي الكاتب الشاعر 669 وعبد الرحمن بن إبراهيم الفزاري البدري الدمشقي إمام فقيه ناظم ناثر له تصانيف جيدة 690 ومحمد ابن سعادة مفسر أصولي فقيه نحوي عالم بالخلاف والأدب والفرائض 693 وعبد العزيز السلمي الفقيه المجتهد له تصانيف 660 وعبد الرحمن بن نجم الحنبلي الواعظ الفقيه 634 ومحمد بن عبد الواحد السعدي المحدث الأصولي الفقيه له عدة تصانيف 643 والحافظ خالد بن يوسف النابلسي 663 وأبو السخاء فتيان الحلبي النحوي. ويحيى بن حميدة الحلبي المعروف بابن أبي طي صاحب التاريخ وطبقات العلماء 630 ويحيى بن محمود الثقفي الحلبي محدث. وأحمد بن محمد الطرسوسي الحلبي محدث ويعيش بن علي الحلبي النحوي المعروف بابن الصائغ شرح المفصل للزمخشري المطبوع وشرح تصريف الملوكي لابن جني المطبوع منه المتن 643. وكانت حلب لما دخلها ابن خلكان في هذا العصر في سنة 626 للاشتغال بالعلم أُمّ البلاد مشحونة بالعلماء والمشتغلين. ومما انفرد

الإمام ابن تيمية والإصلاح الديني والأدب والعلم في

به هذا القرن على صورة لم يسبق لها مثال إنشاء ثلاث مدارس للطب ومدرسة للهندسة في دمشق فكان في هذه العاصمة أعظم جامعة إسلامية عربية حوت العلوم الدينية والدنيوية فلم تكن دون القاهرة بأزهرها الذي بني في القرن الرابع ولا بغداد بمدرستها النظامية. الإمام ابن تيمية والإصلاح الديني والأدب والعلم في القرن الثامن: اختص القرن الثامن بقيام أعظم مصلح فيه وفي قرون كثيرة من قبله ومن بعده، أراد إرجاع الدين إلى نضرته الأولى، وتعريته من القشور التي ألصقها به الجهلة المتنمسون، فآذوه وعذبوه، وسجنوه ونفوه، ونعني به شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية نابغة النوابغ في الشرع وصاحب التآليف العديدة الممتعة المطبوعة، وإمام المعقول والمنقول، وسيد العلماء، ورأس الفقهاء 728 وإن دمشق لتفاخر وحق لها الفخر بأنها تجلت فيها روح ابن تيمية، ودفنت أعظمه في تربتها، ولكن عصره يخجل كل الخجل من أعمال من ناهضوه مدفوعين بعامل الحسد، ولا سيما المشايخ بنو السبكي الذين آذوه فأكثروا من أذاه، طمعاً في نيل الحظوة من العامة والملوك واستعانوا بنفوذهم السياسي في حكومة مصر والشام فاعتقلوه زماناً في القاهرة والإسكندرية ودمشق، والأمة وعقلاء علمائها تقدسه حتى لقي ربه. وقد أشبه ابن تيمية في دعوته في الإسلام لوثيروس صاحب المذهب الإنجيلي في النصرانية بيد أن مصلح النصرانية نجح في دعوته، ومصلح الإسلام أخفق ويا للأسف. قال السيوطي: إن دمشق كثر بها العلم في زمن معاوية ثم في زمن عبد الملك وأولاده وما زال بها فقهاء ومحدثون ومقرئون في زمن التابعين وتابعيهم ثم إلى أيام أبي مسهر ومروان بن محمد الطاطري وهشام ودحيم وسليمان بن بنت شرحبيل ثم اصحابهم وعصرهم. وهي دار قرآن وحديث وفقه، وتناقص بها العلم في المائة الرابعة والخامسة وكثر بعد ذلك ولا سيما في دولة نور الدين

وأيام محدثها ابن عساكر والمقادسة النازلين بسفحها ثم كثر بعد ذلك بابن تيمية والمزيّ وأصحابهما. ونبغ أفراد في هذا العصر ولا سيما في الفلك والتاريخ والجغرافيا والحديث، ومنهم بدمشق البرزالي محدث الشام وصاحب التاريخ والمعجم الكبير 740 والحافظ جمال الدين المزي صاحب التصانيف 742 والحافظ محمد بن قايماز الذهبي عالم الشريعة والأدب والتاريخ وله عشرات من المصنفات أكثرها في التاريخ والرجال منها تاريخ الإسلام والمشتبه وميزان الاعتدال وطبقات الحفاظ وهذه الثلاثة الأخيرة مطبوعة 748 والحافظ عماد الدين بن كثير المفسر المؤرخ الفقيه صاحب التآليف ومنها تاريخه المطول المطبوع 774 ومحمد بن أبي بكر الزرعي المعروف بابن قيم الجوزية الدمشقي الإمام الحجة المجدد من أكبر أنصار شيخ الإسلام ابن تيمية 751 طبعت بعض كتبه في السنة ومن أهمها إعلام الموقعين. وأحمد بن فضل الله العمري الدمشقي إمام أهل الأدب والتاريخ والجغرافية والأسطرلاب وحل التقاويم وصور الكواكب وله عدة مصنفات منها مسالك الأبصار والتعريف بالمصطلح الشريف وهما مطبوعان. ومسالك الأبصار معلمة أدبية تاريخية كبرى 749 وصلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي الأديب المؤرخ صاحب الكتب المهمة من المطبوع منها الوافي بالوفيات أجزاء ونكت العميان وشرح قصيدة ابن زيدون والأرب من غيث الأدب وتشنيف السمع والغيث المنسجم ونسب الجراكسة ولوعة الشاكي وجنان الجناس إلى غير ذلك 764 والملك المؤيد إسماعيل أبو الفداء وكان عالماً فقيهاً مؤرخاً جغرافياً فلكياً منها تاريخه وكتابه تقويم البلدان وهما مطبوعان 732 وكان يفضل على العلماء كثيراً أوى إليه أثير الدين الأبهري فرتب له ما يكفيه ورتب لجمال الدين ابن نباتة في دمشق كل سنة ستمائة درهم غير ما يتحفه به. وبعمل الملك المؤيد أبي الفداء وعمل أسرته من قبل ومن بعد أصبحت حماة مدينة علم وأدب وخرجت رجالاً يفتخر بهم في تاريخ العلم وكانت أشبه القرى في القرون الأولى للفتح الإسلامي. ومثل هؤلاء الملوك على صغر ممالكهم كانوا مادة العلم والأدب في تلك العصور، وكثيراً ما كان ملوكنا هؤلاء يحتالون

لنشر العلم بطرق غريبة حتى أن الملك المعظم عيسى بن الملك العادل شرط لكل من يحفظ المفصل للزمخشري مائة دينار وخلعة فحفظه لهذا السبب جماعة. ومن قرأ المفصل تعلم النحو والأدب معاً. وفي أواخر دولة المعظم عيسى هذا وفي دولة أبيه داود اشتهر بدمشق الاشتغال بعلوم الأوائل وكثر ذلك فأُخمد في الدولة الأشرفية. ولعل ما نال أصحاب ابن حزم الظاهري من الضرب الذي أوعز به ملك مصر إلى فقهاء الشام في القرن الثامن كان من جملة ما ارتآه الجامدون من الأسباب للنيل من المجددين. وجاء في هذا العصر أبوبكر محمد الأنصاري المعروف بشيخ الربوة الدمشقي كان يعرف الرمل والأوفاق ونحو ذلك من العلوم وهو صاحب نخبة الدهر في القوزموغرافيا والجغرافيا المطبوع والسياسة في علم الفراسة 727 وأبو بكر بن عبد الله بن أيبك صاحب صرخد له تآليف كثيرة. ومحمد الأكمل بن مفلح الدمشقي الفقيه المؤرخ 764 ومحمد بن شاكر الكتبي صاحب التصانيف منها فوات الوفيات المطبوع وعيون التواريخ 764. وعمر بن الوردي المعروف بابن أبي الفوارس صاحب التاريخ وديوان الشعر والمقامات المطبوعة كان فقيهاً أديباً 749. وعلي بن إبراهيم علاء الدين بن الشاطر الفلكي الدمشقي 777 ويعرف أيضاً بالمطعم الفلكي، كان أوحد زمانه يعرف تطعيم العاج وعالماً بالهيئة والحساب والهندسة وكانت له ثروة ومباشرات ودار من أحسن الدور وضعاً وأغربها، وله الزيج المشهور والأوضاع الغريبة التي منها البسيط الموضوع في منارة العروس بجامع دمشق يقال: إن دمشق زينت عند وضعه، وفي تاريخ الصالحية أن ابن الشاطر هو صاحب الأسطرلاب والبسيط وكان له نظر على التوقيت بالجامع وألف الزيج والكرة وله الرسالة عليها. ويعرف علم الخيط في المزولة وتركيبها. ومن المهندسين محمد بن إبراهيم المهندس والمعلم عمر بن نجيم والمعلم محمد الصفدي والمعلم علي بن محمد التقي المهندس كان معاصراً لابن فضل الله وحدثه بأحاديث عن الجامع الأموي وشهاب الدين احمد الحموي النقاش كتب الختمة

الشريفة من أولها إلى آخرها على خوصة مفصلة الأجزاء والسور. ومن المحدثين الحافظ علي بن محمد اليونيني البعلي 701 قال الزبيدي وله ولأبيه ترجمة حسنة وإخوته البدر الحسن والقطب موسى وأمة الرحيم حدثوا ومن ولده الصدر عبد القادر وعم أبيه الزين عبد الغني وهم بيت علم وحديث. وعمر بن إبراهيم العجمي الحلبي فقيه فرضي حاسب له مصنفات 777 وحسن بن عمر بن حبيب الحلبي له عدة تآليف منها درة الأسلاك في دولة الأتراك وأكثر كتبه مسجعة 779 وعلي بن مظفر الداعي المقرئ المحدث الكاتب وقف التذكرة الكندية في خمسين مجلداً وضعها في المدرسة السميساطية وهي بخطه في فنون مختلفة716 وقاضي القضاة بدمشق عبد الله المقدسي 731 والجلال القزويني إمام البيان صاحب المصنفات والمثل السائر في الخطابة 739 وعلي ابن سليم بن ربيعة الأذرعي فقيه أديب نظم التنبيه في افقه في ستة عشر ألف بيت وشعره كثير 732 وعبد الله بن مروان الفارقي الخطيب الفقيه 703 وأحمد بن إبراهيم بن سباع الفزازي الخطيب النحوي المحدث 705 ومحمد بن أبي بكر الأرموي القرافي صاحب التآليف 714 وصلاح الدين خليل ابن كيكلدي الدمشقي ثم المقدسي أخذ عن مشايخ الدنيا له عدة مصنفات محررة 761 وشيخ قراء دمشق أحمد بن محمد بن أبي الحزم سبط السلعوس 731 وأحمد بن البرهان له مصنفات 738. ومحمد بن عبد الهادي البحر الزاخر في العلم 744 وشيخ القراء ذو الفنون إبراهيم بن عمر الجعبري بالخليل 732 وتصانيفه كثيرة. ومحمد بن جماعة الكناني الحموي له معرفة بفنون وله عدة مصنفات 733 ومحمد بن علي المؤذن المعروف بابن أبي العشائر 789 له عدة مصنفات منها تاريخ قنسرين. وعبد الرحمن الفقيه المواقيتي سبط الأبهري وكان له يد طولى في الرياضي والوفق والعمليات ومشاركة في فنون 733 وهبة الله البارزي الجهني الحموي المؤلف العالم المشهور 738 وعثمان بن محمد البارزي الحموي شرح الحاوي في الفقه 730 وإسماعيل بن محمد بن جمال الدين بن الفقاع الحموي 715 العالم بالقرآت العربية درس في عدة مدارس بحماة وشهاب الدين السبكي الفقيه له تآليف 771 والكمال ابن الزملكاني الفقيه الأصولي العالم بالعربية صاحب الرسائل 727 والأمير

العالم الشاعر أبو بكر محمد بن صلاح الدين بن صاحب الكرك 730 وسليمان ابن أبي العز الأذرعي الفقيه 707 والقاسم بن محمد الإشبيلي المحدث المؤرخ 739 ومحمد بن سليمان الصرخدي المصنف الجامع بين أشتات العلوم 792 وقاضي القضاة يوسف المحجي 738 وابن أخيه محمود بن محمد ابن جبلة الخطيب ومحمد بن إسماعيل الكفر بطناوي من فقهاء المدارس. وقاضي قضاة دمشق إبراهيم بن عبد الباعوني ومحمد بن يعقوب المعروف بابن الصاحب الحلبي 763 فقيه أديب كاتب ومحمد بن عيسى البعلي كان صاحب فنون 730 وأسمى بنت محمد بن سالم بن صصري التغلبية المسندة المحدثة 733 وزينب بنت الكمال محدثة قرأ عليها كبار العلماء. وست العرب ابنة محمد بن علي الدمشقية المحدثة كانت حية سنة 766 ومن الأطباء سليمان بن داود كبير الأطباء بدمشق 732 وأحمد بن الصلاح البعلبكي الطبيب في بعلبك صاحب التآليف. ومن الشعراء والكتاب علاء الدين بن غانم كاتب شاعر 737 والحسن بن علي المحدث الكاتب المجود 732 ومحمد بن الحسن الصائغ العروضي الأديب الشاعر له تآليف 722 وأحمد أبو جلنك الشاعر الحلبي 701. ومن كتاب هذا القرن الشهاب محمود الحلبي صاحب حسن التوسل في معرفة صناعة الترسل 755 وأحمد الأنصاري. إلى أمثالهم ممن نبطوا العلم ونشروه وأظهروه. ويلاحظ أن أعلاماً من العلماء اشتهروا في هذا القرن والذي قبله وبعده، وكثير منهم نشأ من قرى الجنوب والشمال، والقرى ما زالت مادة المدن في العلم والأدب كما هي في الزرع والضرع، ومن مواطنهم اليوم من لا يعرف شيئاً مما يطلق علي اسم العلم، وبعضها في جاهلية جهلاء، مثل زملكا وحرستا وكفر بطنا والمزة ويلدا وداريا وإزرع ومحجة ونوى والجيدور ويبرود والبقاع وعجلون وصرخد ومتان وقمرا وحسبان والكرك وجبرين ويونين وإنطاكية وصفد وبعلبك والمعرة وكفرطاب وشيزر. وتوشك بعض تلك القرى أن تدثر، وأعمال النابغين فيها خالدة خلود الدهر فسبحان من هذا شأنه.

العلوم في القرن التاسع:

العلوم في القرن التاسع: بدأت طلائع الانحطاط في القرن التاسع، فلم ينبغ في الشام رجل أحدث عملاً علمياً عظيماً، أو دل على نبوغ في فرع من فروع العلم، وكثر في الجماعون والمختصرون والشارحون من المؤلفين، والسبب أن حكومة المماليك البرجية والبحرية كانت تشتد في إرهاق المتفلسفة والمتفقهة على غير الأصول المتعارفة التي لم يشتهر منها سوى أربعة أئمة: الحنفي والشافعي والمالكي والحنبلي. فكان المخلف قليلاً يعزر على مذهب المالكية، والقتل أيسر مراتب التعزير عندهم، ثم زادت الحال اشتداداً في أوائل القرن بانسيال جيوش تيمورلنك على القطر، وقتله لبعض العلماء، وحمله إلى سمر قند كل ممتاز بعلم أو صناعة. ومع هذا نشأ في هذا القرن أفراد قلائل في العلم ذكر التاريخ تراجمهم، ومنهم أبو بكر بن أحمد ابن قاضي شهبة صاحب الطبقات وغيره 851 وأحمد بن علاء الدين حجي الحسباني الدمشقي الحافظ المؤرخ له كتاب سماه الدارس في أخبار المدارس ولعله الأصل لكتاب النعيمي في المارس وله ذيل على تاريخ ابن كثير وغيره 815 وأحمد بن محمد بن عربشاه له عدة مصنفات في الأدب والتاريخ شاعر كاتب مجيد في اللغات العربية والفارسية والتركية ومن تآليفه عجائب المقدور في أخبار تيمور وهو مطبوع 854 وصالح بن يحيى صاحب تاريخ بيروت وأمراء الغرب المطبوع كان في أواسط القرن التاسع ونقل عن أحمد بن شباط الغربي الأديب والمؤرخ أيضاً. ومن الفقهاء إبراهيم بن محمد العجلوني الفقيه كان في الشميين نظير البيجوري في المصريين 825 وإبراهيم بن إبراهيم النووي متميز في الفرائض والحساب ومتعلقاتهما له تآليف 850 وإبراهيم بن علي الحسني البقاعي له مصنفات في الفقه والنحو والمنطق والحكمة وأدب البحث وغيرها. وإبراهيم بن محمد بن مفلح فقيه 803 وعبد الله بن مفلح رئيس الحنابلة 834 وتقي الدين الحصني عالم له مصنفات في الفقه وغيره 829 وأبو بكر محمد بن مزهر الدمشقي الفقيه انتهت إليه رياسة عصره 832 وعلاء الدين البهائي الغزولي عالم دمشق 885 له كتاب مطالع البدور في منازل

السرور مطبوع، وإبراهيم البقاعي ترك مائة مؤلف كان إماماً بالعربية والأدب والدين والتاريخ له نظم الدرر في تناسب الآي والسور في التفسير وعدة تواريخ للرجال، وعبد الله التنوخي الأمير اللبناني المعروف بالسيد فقيه أديب مشارك في الطب والفلك طبعت بعض رسائله في الوعظ 884، ومحمد بن أحمد الباعوني 871 له مؤلفات منها منظومات في التاريخ. ونشأ في هذا القرن أحمد الطولوني كبيرالمهندسين وكان أبوه وجده مهندسين. وخليل بن جمال الدين الأديب المؤرخ الدمشقي صنف تاريخاً للحوادث وغيره 815 ومحمود العيني 855 الفقيه المؤرخ له عدة مصنفات في التاريخ وغيره. وعبد الرحمن ابن العيني عالم دمشق في هذا القرن. وأحمد المقدسي المشهور بابن زوجة أبي عذيبة 856 صاحب تاريخ دول الأعيان. وأحمد بن حجر العسقلاني الفقيه المحدث المؤرخ 852 صاحب تاريخ الدرر الكامنة المطبوع وإنباء الغمر. وأحمد بن خليل المعروف بابن اللبودي له أدب وشعر وبعض تآليف 896 وأحمد بن المحوجب عالم بالدينيات واللسانيات. وأحمد بن عبد الله العامري فقيه أصولي له تآليف. وأحمد بن محمد الكشك عالم فقيه 837 وزين الدين بن رجب الحنبلي له عدة مصنفات ومنها طبقات الحنابلة المطبوع. وأبو العباس المالكي الفقيه العالم المفنن له عدة مصنفات. وعبد الرحيم بن عبد الرحمن الحموي فقيه أديب له مصنفات. ومحمد بن خليل القباقيبي الحلبي 849 إمام في القراآت صنف فيها. وعبد الله ابن قاضي عجلون فقيه عالم بالمعقولات 865 وقاضي القضاة العوني الناصري خطيب الخطباء 815. وصدقة الجيدوري المقرئ 825 ونور الدين أبو الثناء خطيب الدهشة استوطن حماة له تآليف كثيرة. ومحمد الجزري الدمشقي المقرئ صاحب المصنفات الجليلة منها كتاب الطبقات، والنشر في القراآت العشر طبعاً 833 وعائشة بنت عبد الهادي محدثة دمشق 815 وأبو البقاء البدري له تآليف 887 وعلاء الدين ابن خطيب الناصرية الحلبي المؤرخ 843 وأبو بكر بن علي بن حجة الحموي الأديب الشاعر صاحب الخزانة وثمرات الأوراق وغيرهما وهما مطبوعان وكان رئيس أدباء عصره 837. وزين الدين ابن الشحنة الحلبي الفقيه المؤرخ 815 كتب

انحطاط العلم والأدب في القرن العاشر:

في عدة فنون وله أراجيز في اللغة والدين والتصوف والأحكام والفرائض. ومحمود ابن الشحنة الفقيه الشاعر الأديب 890 له عدة تآليف منها الدر المنتخب في تاريخ حلب طبع مختصره. وأحمد السرميني الحلبي الفلكي 824 كان إماماً في الهيئة وحل الزيج وعمل التقاويم. وعبد الملك البابي الحلبي 839 عَلَم بالقراءات له نزهة الناظرين في الأخلاق. وعز الدين الدين ابن عبد عبد السلام السعدي المقدسي العالم الرحلة صاحب التآليف 850. والبدر البشتكي محمد بن إبراهيم الدمشقي 830. وعلي بن خليل الطرابلسي 844 له كتاب في الفقه اسمه معين الحكام. وابن حبيب الحلبي 808 له عدة مصنفات. وعبد الله بن جماعة المقدسي صاحب التآليف 865. والبرهان الحلبي المحدث 841 وعبد الله توقشندي المقدسي عالم زمانه في الأرض المقدسة 867. ومن علماء السريان نوح البقوفاوي بطريرك اليعاقبة في حلب. وقد امتاز هذا القرن بكثرة المدارس في لبنان قال الدويهي في حوادث سنة 875هـ: وقد أحصينا أسماء من كان من النساخ في ذلك العهد ممن وقفنا على كتبهم فإذا هم ينيفون على مائة وعشرة وفي ذلك الوقت أهملوا الخط الاسترنكالي المربع وتمسكوا بالسرياني المدور. انحطاط العلم والأدب في القرن العاشر: زاد انحطاط العلم في القرن العاشر، فلم تكن أيام الترك العثمانيين ميمونة على المعارف في هذه الديار مثل القرنين السالفين. وكانت الآداب تسير إذ ذاك بقوة التسلسل منبعثة من قوتها القديمة، وإذ اختلف لسان الحاكم والمحكوم عليه، وخصت الوظائف الدينية الكبرى بجماعة السلطان من الترك، مالت النفوس عن العلم، اللهم إلا من كانت لهم فطر سليمة عشقوه لفائدته وقليل ما هم. ذكر المقدسي أن أهل الدولة العثمانية كانوا لا يولّون المدارس في الشام أحداً من أبناء العرب، زاعمين أن العلماء في العرب كثير وأنهم إن ولوا عربياً من غير طريقهم، كثر الطالبون من أبناء العرب وعجزوا عن إرضائهم، وضاق الأمر على ملازمي الروم. وحصر الترك عنايتهم بالآستانة كما حصروها من قبل ببورصة، فجعل الفاتح القسطنطينية عاصمة العلم، بل جامعة ذاك

العصر، كما قال جودت. وكان العلماء بعد الفتح العثماني يأتون إلى القسطنطينية زرافات، ولذلك لم يكن حظ للولايات دع البعيدة من عناية الدولة العثمانية بها وترقيتها في العلم والآداب. وتسلسل العلم الديني في بعض البيوت بدمشق في هذا القرن والذي بعده على صورة غريبة مثل بني الغزي وحمزة وفرفور والعمادي والنابلسي ومفلح وممن نبغ بدمشق محمد بن محمد الغزي العالم بعلوم اللسان وغيرها وله عدة مصنفات 935. ومحمد بن بدر الدين الغزي الفقيه المفسر النحوي المحدث المقرئ الأصولي النظار المؤرخ وله مائة وبضعة مصنفات 984؟ وعبد الرحمن بن فرفور عالم بالتاريخ والأدب 992. وامتاز بالدينيات محمد بن حمزة 933 وعلي بن إسماعيل بن عماد الدين 971 وإسماعيل النابلسي 993. وإبراهيم بن عمر بن مفلح 917. وكان فيه محمد بن علي بن طولون النحوي الفقيه المحدث المؤرخ صاحب مصنفات كثيرة في التاريخ على اختلاف ضروبه ومنها المطبوع 953. وعبد القادر النعيمي المؤرخ المحدث ألف كتباً كثيرة منها الدارس 927. وعبد الباسط العلموي اختصر بعض كتب النعيمي وزاد عليها ومنها مختصر الدارس 981. وابن سكيكر الدمشقي المؤرخ له زبدة الآثار في ما وقع لجامعه في الإقامة والأسفار 987. وبهاء الدين محمد بن يوسف الباعوني ومؤلفاته مثل مؤلفات عمه أراجيز تاريخية 910. ومن علماء القرن في دمشق محمد بن محمد بن سلطان العالم الفقيه صاحب التآليف 950. ومحمد بن مكي عالم بالطب والهيئة والهندسة والفلك 938 وعرف بالمهارة في الفقه وغيره. وأبو بكر البلاطنسي 936. وأبو بكر محمد القاري 935 وأبو الفتح البستري 962. وأحمد بن محمد الشويكي له تآليف 966 وإسماعيل الكردي الباني عالم بالمعقولات 956. وعثمان الآمدي وهو خطيب متفنن 985. ومحمد بن محمد بن عماد الدين عالم في الدينيات 986. وأحمد بن أحمد الطيبي الفقيه النحوي له عدة مصنفات 979 وأسد الشيرازي عالم بالبلاغة والعربية والمنطق والأصلين والفقه 998. ومحمد بن هشام نحوي 907، ومحمد بن منيعة 904. ومحمد الكنجي له يد في النحو والحساب والميقات والقرآن 932. ومحمد الكفرسوسي

932. ومحمد الميداني عالم بالقراآت والعربية له عدة مصنفات 923. وإبراهيم بن الهلالي فقيه محدث 916. وأبو بكر ابن قاضي عجلون إمام مفنن 928. وجاء في القدس عبد الرحمن بن محمد مجير الدين العليمي صاحب تاريخ القدس والخليل المطبوع. وبرهان الدين المقدسي الفقيه الأديب له عدة مصنفات 922. وفي غزة أبو عبد الله محمد بن قاسم الغزي 918 له كتب في الفقه والأصول وغيرها. وإبراهيم بن يوسف الحنبلي المعروف بابن الحنبلي له عدة كتب 959. وفي دمشق يوسف بن عبد الهادي 909 الفقيه المؤرخ صاحب الرسائل والكتب الكثيرة في الفنون المختلفة وهو أشبه بالسيوطي في مصر بكثرة تآليفه وتنوع موضوعاته طبع له كتاب مساجد دمشق. وفي حلب محمد ابن الحنبلي المؤرخ العالم له عدة تآليف منها تأليف في تاريخ حلب 971. وعبد البر ابن الشحنة الحلبي الأصولي الفقيه 921. وعمر الشماع الحلبي المؤرخ المحدث له عدة مصنفات 936. وفي الرملة شمس الدين الرملي العالم الفقيه 923. ونشأ في حلب خليل بن أحمد الشيخ غرس الدين 971 عالم بالحساب والميقات والهيئة والوفق والموسيقى والطب وهو صاحب شجرة الإفادة بشرقية جامع حلب الأعظم. وفي حماة محمود بن أبي بكر المعري الحموي الحلبي الفقيه. وفي دمشق هاشم بن السيد الطبيب ناصر الدين السروجي 964. وفي حماة محب الدين بن داود الحموي له تآليف. وفي دمشق موسى بن يوسف بن أيوب القاضي شرف الدين الدمشقي الشافعي ألف تاريخاً في مجلد وتذكرة في مجلدين 1000. ومع انحطاط محسوس في حركة العقول في هذا العصر كان في الشام بعض النساء العالمات مثل فاطمة بنت قريمزان شيخة المدرستين العادلية والزجاجية معاً انتهت إليها رياسة أهل زمانها بحلب أخذت العلم عن زوجها 966. وبوران بنت الشحنة الشاعرة الحلبية 938. وعائشة الباعونية الدمشقية المحدثة المتصوفة الشاعرة المجيدة لها عدة تآليف ومنها البديعية وشعرها لطيف 922.

الآداب في القرن الحادي عشر:

الآداب في القرن الحادي عشر: أما القرن الحادي عشر فشبيه بتاليه وسالفه من حيث قلة الإبداع والتجدد والاكتفاء بالموجود، لكن عدد العالمين والمتأدبين كان أكثر على ما يظهر أو أنه دوّن كله ولم يفقد، فقد نشأ في دمشق أحمد بن محمد الغزي فقيه له بعض التآليف 1017 ومحمد أكمل الدين بن مفلح المحدث الرحلة المؤرخ كتب تاريخاً ترجم فيه معاصريه وله تعليقات تاريخية مهمة 1011. والنجم محمد الغزي محدث الشام صاحب التآليف منها في التاريخ وتراجم الرجال 1061. وأحمد بن سنان القرماني الأديب المؤرخ صاحب التصانيف وله تاريخ آثار الدول المطبوع 1019. وعبد الوهاب الفرفوري الفقيه 1073. وأحمد بن أبي الوفاء بن مفلح الحنبلي الفقيه المحدث عارف بالفرائض والحساب والتاريخ 1038. ومن الفقهاء محمد الداودي 1006. ومن علماء العربية محمد الخوخي 1022. وفي الفقه محمد الحصكفي صاحب التصانيف في الفقه وغيره 1088. ومحمود الباقاني له عدة تصانيف 1003. وأبو بكر ابن عبد عُرف أبوه بمنلا جامي 1077. وأحمد بن محمد الزريابي فقيه المالكية 1050. وكمال الدين بن مرعي العيتاوي الفقيه 1086. ورمضان العطيفي الفقيه النحوي الراوية 1095. وعبد الباقي بن فقيه فصة محدث مقرئ أثري 1091. ويحيى الشاوي له تآليف. وشمس الدين بن بلبان عالم بالسنة 1083. والشاكر الحموي كان متصوفاً ناظماً وناثراً وله ديوان في ثلاث مجلدات. ومن أدباء هذا القرن وشعرائه أبو بكر بن منصور العمري 1048وإبراهيم الصالحي الشاعر المعروف بالأكرمي 1012. وعمر بن محمد المعروف بابن الصغير شيخ الأدب بالشام بعد شيخه أبي بكر بن منصور العمري شاعر مجيد عارف بالطب 1065. وإبراهيم الفتال الشاعر 1098. وأبو بكر ابن أحمد المعروف بابن الجوهري. ومحمد الكريمي 1068. وعبد الكريم الطاراني الشاعر الكاتب المؤرخ 1041. وعبد اللطيف البهائي شاعر متفنن 1082. وعبد اللطيف بن المنقار شاعر 1057. والحسن البوريني الشاعر اللغوي له تآليف منها تراجم رجال عصره وشرح ديوان ابن الفارض المطبوع

1024. وأحمد العناياتي الشاعر 1014. وأحمد بن الشاهيني الأديب اللغوي 1053. وأحمد الصفوري الشاعر الأديب المؤرخ 1043. وأحمد ابن محمد بن المنقار أديب شاعر 1032 وإسماعيل النابلسي الفقيه له بعض التآليف 1062. ودرويش محمد بن أحمد الطالوي الدمشقي الأديب 1014 ومنجك بن محمد بن منجك صاحب الديوان المطبوع 1080. وشهاب الدين العمادي شاعر منشئ 1098. وعبد الحي العكري المعروف بابن العماد مصنف أديب مفنن أخباري أثري له شذرات الذهب في التاريخ المطبوع 1087. وعبد الرحمن بن النقيب منش شاعر 1081. وإبراهيم العمادي أحد بلغاء الشام المذكورين 1098. وأحمد بن المنلا النخجواني الملقب بالمنطقي شاعر ناثر فقيه ينظم وينثر في الألسن الثلاثة العربية والفارسية والتركية. وظهر في دمشق في العلوم والفنون بضعة أفراد منهم علاء الدين بن ناصر الدين علي الطرابلسي اشتهر بالرياضيات والقراآت والفرائض والفقه وله تآليف 1032. وعمر بن محمد القاري عالم مفنن له باع في الهيئة 1046. وعمر بن يحيى المعروف بالدويك كان عارفاً بفنون عديدة منها الرياضيات والفلك والميقات وله شعر 1083 ومحمد بن يونس الطبيب الخطيب 1008 والمنلا محمود الكردي عالم في كثير من الفنون 1047. وابن الحكيم المصاحب أبو بكر بن محمود رئيس أطباء دمشق وخطيب أُمويها عالم في العلوم الغريبة مثل علم الوفق وعلم الحرف وله يد طولى في العقليات 1007. وعبد القادر ابن عبد الهادي رياضي فقيه أصولي 1100. وعبد الحي بن محمد بن عماد عالم بالرياضيات 1089. وإبراهيم بن الأحدب الزبداني محدث فرضي رحالة أخذ الفرائض والحساب عن العلامة محمد النجدي ويلحق بابن الهائم في هذين العلمين 1010. ونشأ في هذه المدينة أيوب الخلوتي من المتصوفة له في التصوف رسائل 1071. ومن الخطباء الشهاب أحمد بن يحيى البهنسي الخطيب ابن الخطيب ابن الخطيب وأحمد بن محمد البصراوي ويعرف بابن الإمام 1003. وجاء في المدن الأخرى أبو الجود عبد الرحمن الحلبي البتروني كان محققاً في المذهب والتفسير والبحث نظاراً 1039. وأبو الوفاء محمد بن عمر العرضي الحلبي متفرد بالإتقان والحفظ والضبط له تاريخ معادن الذهب وله رسائل

وتآليف 1071. ومحمود البيلوني الحلبي كان إذا تكلم في فن من العلم يقول سامعه لا يحسن غيره 1007. وفتح الله البيلوني الحلبي له عدة مصنفات وحواش ومجاميع وشعر 1042. ونور الدين بن برهان الحلبي صاحب السيرة الحلبية المطبوعة وغيرها من الحواشي والشروح والرسائل 1044، وعلي البصير له كثير من التآليف في الفقه وغيره 1090. ومحمد بن حسن الكواكبي رئيس حلب في الفنون والعلوم ألف مؤلفات كثيرة في الفقه والتفسير وهو شاعر مجيد 1096. وعبد الوهاب بن رجب أمام في العربية 1015. وعلي البصير الحموي له تآليف في الفقه وغيره. ومحمد بن أبي بكر الحموي له تآليف عديدة في الفقه والتفسير والعربية ورسائل ورحلات وكان عالماً بالفرائض والحساب والمنطق والحكمة والزايرجا والرمل وهوجد الشيخ محمد المحبي مؤلف خلاصة الأثر 1016. ومن علماء السريان أندراوس اخبيجان الحلبي أول بطاركة الكاثوليك. وأبو السعود الكوراني الحلبي الشاعر الأديب 1056. وأحمد بن خليل الأطاسي الحمصي الفقيه مفتي حمص وعالمها 1004. وأحمد بن النقيب الحلبي الأديب المتفنن 1056. وباكير بن أحمد المعروف بابن النقيب الحلبي لم يكن في حلب من أدباء عصره أكثر رواية منه للنظم والنثر 1094. وبشير بن محمد الخليلي القدسي الأديب الشاعر لم يكن في زمنه من أقرانه من يدانيه فيه إلاّ شرف الدين العسيلي 10060. وتقي الدين التميمي الغزي صاحب الطبقات السنية في تراجم الحنفية 1010. وحسن بن محمد أبو الفوارس الحموي المعروف بابن الأعوج أمير حماة شاعر اجتمع عنده من الشعراء ما لم يجتمع عند أحد من أمراء عصره. وحسين الجزري الحلبي الشاعر 1033. وحسين بن عبد الله المعروف بالمملوك متصوف 1034. وخير الدين الرملي المفسر المحدث الفقيه اللغوي صاحب التآليف والفتاوى ومنها المطبوع 1081 ورجب بن علوان الحموي أمهر ما كان في العلوم الرياضية كالهيئة والحساب والفلك والموسيقى وغيرها 1087. وسرور بن سنين الحلبي شاعر 1020وصالح بن سلوم الحلبي رئيس الأطباء 1081. وصلاح الدين الكوراني الحلبي شاعر 1049. وعبد الحق الحمصي الملقب زين الدين الحجازي

العلوم والآداب في القرن الثاني عشر:

عالم بالمعقولات. وعبد الله بن حجازي الحلبي الشهير بابن قضيب البان مطبوع بشعره وإنشائه في الألسن الثلاثة وله تآليف 1096. وفتح الله النحاس الحلبي الشاعر 1052. ومحمد القاسمي الحلبي شاعر ناثر 1054. ومحمد الكواكبي الحلبي عالم في المنقول والمعقول 1096. ومحمد بن عبد القادر الشهير بالحادي الصيداوي أديب فقيه 1042. ومحمد التمرتاشي الغزي رأس الفقهاء الحنفية له التآليف الكثيرة 1004. ومحمد بن علي المعروف بالحريري وبالحرفوشي العاملي الدمشقي اللغوي النحوي الأديب الشاعر صاحب التصانيف الكثيرة 1059. ومحمد البيلوني الحلبي راوية الشعر والوقائع خبير بصنعة النقد أديب 1085، ومحمد بن محمد الحلفاوي الحلبي أديب 1054 ومحمد العسيلي القدسي له تصانيف دينية. وموسى الرام حمداني الحلبي البصير متفنن في الرياضيات والعلوم الحكمية وعلم الحرف والأخبار والأدب 1089. وبهاء الدين العاملي الفقيه الأديب صاحب المخلاة والكشكول وغيرهما من كتب الأدب المطبوعة. ومحمد الفصي البعلبكي الفقيه وآباؤه كلهم رؤساء العلم في تلك الناحية وله تآليف 1024. وأبو الوفاء بن معروف الحموي له تآليف 1016. وحسين الشقر كان جامعاً لأنواع الفنون 1042. وعبد القادر بن قضيب البان كان له ما ينيف على أربعين تأليفاً 1040. وعبد النافع بن عمر الحموي كان متضلعاً من العلوم شاعراً 1016. وداود الإنطاكي ويعرف بالشيخ الصوري 1005 ألف كتاباً في السب سماه تذكرة أولي الألباب مطبوع. وتقي الدين الغزي التميمي 1005 له الطبقات الحنفية. العلوم والآداب في القرن الثاني عشر: دخل القرن الثاني عشر ولا تجديد فيه ولا جديد، إلا النظر في قضايا قديمة لاكتها الألسن قديماً لا إبداع فيها ولا اختراع، فالمسائل الدينية المقررة تتنقل خلفاً عن سلف، والآداب العربية تنحط حتى أصبح الشعر والنثر في حالة مخزية وصارت الفتوى والقضاء والمناصب العلمية ملعبة وشعبذة وسخرية والمدارس مأوى الحمير. كما قال أحد العارفين بذلك القرن. وجاء في العاصمة زمرة من العلماء منهم إبراهيم بن حمزة محدث لغوي 1120. وأبو الإسعاد

بن أيوب عارف بعلوم جمة مبرز في علوم الأبدان 1106. وأبو الصفا المفتي فقيه مفسر نحوي. وأحمد بن حسين باشا الكيواني أديب كاتب صاحب الديوان المطبوع 1173. قال المرادي: وهو في هذا القرن أي الثاني عشر كالأمير منجك في القرن الماضي بل أرجح، وإن لم يكن أرجح منه فهو مقارن له. وأحمد بن عبد الكريم الغزي فقيه نحوي له تآليف 1143. وأحمد بن علي المنيني المحدث اللغوي النحوي الأديب له تآليف منها شرح تاريخ اليميني المطبوع 1172. وأحمد شاكر الحكواتي شاعر رحلة 1193. وأحمد الفلاقنسي أديب منشئ 1173. وأحمد المهمنداري فقيه مفنن له شعر وأدب 1105 وأحمد البهنسي فقيه أديب 1148. وأحمد البقاعي أديب مفنن شاعر 1171. وأسعد الطويل أديب 1150. وإسماعيل الحائك فقيه عالم 1113. وإسماعيل العجلوني رحلة له يد في العلوم لا سيما الحديث والعربية وله تصانيف 1162. وحامد العمادي فقيه فرضي شاعر أديب له تآليف. وخليل الحمصاني له يد في التفسير خاصة 1123. وزين الدين البصروي عالم أديب 1102. وسعيد الجعفري عالم أديب له شعر 1183. وسعيد السمان لغوي شاعر ناثر له تآليف 1172. وسعدي العمري شاعر ناثر 1147. وسعدي بن حمزة محدث فرضي حيسوب مهندس مساح 1132. وسليمان الحموي المعروف بالسواري كاتب شاعر 1117 وصالح الجينيني محدث فقيه 1170. وعبد الجليل المواهبي عالم في المعقولات 1119. وعبد الرحمن الصناديقي فقيه أصولي نحوي 1164. وعبد الرحمن الغزي فقيه فرضي نحوي شاعر 1118. وعبد الرحمن الكيلاني عالم مدقق شاعر ناثر 1172. وعبد الرحمن البهلول شاعر لغوي أديب 1163. وعلي الطاغستاني عالم محقق مفنن 1129. ومحمد الدكدكجي صوفي مقرئ متفنن 1131. ومحمد الكفيري فقيه أديب 1150. ومحمد الغزي فقيه أديب مؤرخ نسابة 1167. ومحمد أمين المحبي عالم أديب مؤرخ له تآليف منها الأثر المطبوع 1111. ومحمود الجزيري عالم في الزايرجا والحرف والأوفاق والرياضيات 1141. ومحمود العبدلاني عالم محقق 1173. ومراد المرادي عالم في المعقول والمنقول له تآليف 1132.

ومكي الجوخي عالم أديب متضلع له شعر وكتابة 1192. ومصطفى اللقيمي عالم فرضي حيسوب ناظم ناثر 1187. ومصطفى البكري عالم بلغت مؤلفاته 223 مؤلفاً بين مجلد وكراسين وأقل وأكثر وله نظم كثير وقصائد خارجة عن الدواوين تقارب اثني عشر ألف بيت 1162. ومصطفى العلواني الحموي أديب ناثر ناظم 1193. ومصطفى السفرجلاني متفنن في العلوم الحكمية له رسائل في المنطق والفلسفة والحكمة والكلام وشعر ونثر 1191. وموسى المحاسني عالم محقق 1173. وعبد الرحيم المخللاتي عالم في الفرائض والحساب والفلك 1140. وعبد الرحمن الكابلي عالم محقق 1135. وعبد الرحيم الطواقي فقيه نحوي فرضي له بعض تآليف ورسائل 1123. وعبد الرزاق الرومي فقيه له تآليف. وعبد السلام بن محمد المعروف بالكاملي أو الكامدي فقيه أصولي نحوي أديب 1147. وعبد الغني النابلسي إمام في التصوف والفقه والتفسير وعلوم الأدب وله تآليف كثيرة ونظم ونثر المطبوع منها شرح الطريقة المحمدية والبديعية وكتاب في الزراعة وديوان والرحلة القدسية والرحلة الحجازية وغيرها 1126. وعبد الفتاح بن مغيزل أديب طبيب 1195 عبد القادر التغلبي فقيه فرضي 1135 عبد القادر الكردي عالم محقق له ثلاثون تأليفاً 1178. وعبد الله البصروي عالم محقق في العلوم والفنون مؤرخ 1170 عبد الله الطرابلسي أديب شاعر له تآليف ورسائل 1154 عبد الله المكتبي محقق في الحساب والفلك والهيئة والتقويمات 1162. عثمان الشمعة عالم بالدينيات وعلوم الأدب 1162. عثمان القطان عالم بالعقليات والنقليات 1115. عمر البغدادي عالم متصوف له رسائل 1194. عمر الرجيحي كاتب أديب 1130. علي العمادي عالم أديب 1117. علي التدمري فقيه نحوي فرضي عالم بالحرف والزايرجة والوفق 1131. علي كزبر عالم رحلة مقرئ 1165. محمد بن عيسى بن كنان مؤرخ أديب 1153. يوسف ابن محمد الطرابلسي رئيس الأطباء. هذا غاية ما يقال في رجال دمشق أما في المدن الأخرى فقد نشأ في حلب طه الجبريني المفسر المحدث العالم بالمعقولات 1178. أحمد الكواكبي الفقيه المفسر الشاعر الأديب 1124. أبو السعود الكواكبي العالم المحقق

العلم والأدب في القرن الثالث عشر:

الشاعر 1137. وبنو الكواكبي وبنو الشحنة في حلب من البيوت التي تسلسل فيها العلم عدة قرون. المطران جرمانوس فرحات 1145 كان يحسن عدة لغات وله تآليف بالسريانية والعربية طبع منها كتابه في النحو وهو تلميذ عالم عصره سليمان الحلبي. عبد الله زاخر 1162 مترجم الإنجيل وطابعه. عبد اللطيف الأطاسي الحمصي الأديب عالم بالكيمياء والأوفاق وغيرها وله شعر كان حياً سنة 1140. البطريرك ميخائيل جروة الحلبي. الايكونيموس بطرس التولوي. القس يوحنا زندو الحلبي. وعطاء الله زندو عبد المسيح لبيان الشاعر. والشاعران ميخائيل جبارة وأنطون ذكري. ويوسف الشراباتي. ويواكيم البعلبكي الواعظ له تآليف 1782م. وأحمد العكي العالم الفقيه له تآليف كثيرة وشعر وأدب 1147 عبد الله الاطرابلسي المعروف بالأفيوني الفقيه له عدة تآليف وشروح 1154. عبد المعطي الخليلي له فتاوى ورسائل كلها منتخبة 1154. إبراهيم الحاقلي له عدة تآليف ترجم عدة كتب من العربية إلى اللاتينية منها كتاب ابولونيوس في الهندسة ومختصر في الفلسفة الشرقية وعدد تآليفه 64 1664م. البطريرك اسطفان الدويهي العالم المؤرخ صاحب التاريخ المطبوع 1704م، علي البرادعي البعلي الواعظ كان جده الأعلى جلال الدين من العلماء الأجلاء. ومحمد التاجي الحنفي صاحب الفتاوى التاجية الفقيه 1114. السمعاني اللبناني كتب بالعربية واللاتينية منها المكتبة الشرقية 1768م وله شهرة في إيطاليا وإسبانيا وتآليفه كثيرة قال الدبس بعد أن عدد تآليفه: وأعجب بهذا الرجل الذي يعجز رجل وإن كان مغرماً بالمطالعة على أن يقرأ في حياته ما ألفه هو في أوقات فراغه. والقس يوسف الباني الحلبي ترجم عدة كتب إلى العربية في الدين المسيحي. والبطريرك مكاريوس الحلبي نبغ في أواسط القرن السابع عشر للميلاد وهو صاحب الرحلة إلى القسطنطينية وبلغاريا وروسيا. العلم والأدب في القرن الثالث عشر: كان القرن الثالث عشر تتمة القرن الثاني عشر، ولكن فيه بطء وضعف، نشأ فيه من دمشق محمد بن حسين الحلبي العطار العالم بالرياضيات والفنون

1243 اتهم بالتساهل في دينه فالتزم بيته فألف عدة رسائل بالفنون الحربية والفلك والحساب طبع بعضها. وأحمد الكزبري العالم بالكتاب والسنة 1248. أحمد المنيني الفقيه المحدث 1256. أحمد بن إسماعيل بيبرس فقيه 1247 أسعد المنير فقيه 1242. حامد العطار المحدث المفسر 1263. كمال الدين الصمادي الجرائحي الدمشقي له تآليف في التاريخ 1209. حسن جينة فقيه أديب له رسائل في الأخلاق 1206. خليل الخشة فقيه 1242. رضاء الدين الحلبي فقيه 1286. شاكر العقاد الشهير بمقدم سعد الفقيه الحكيم الأديب 1222. صالح الدسوقي له بعض رسائل في الفقه والأدب 1246. عبد الرحمن الكزبري الفقيه المحدث 1262. مكسيموس مظلوم له خمسون تأليفاً ومعرباً 1855م. يوسف مهنا الحداد عالم بالدينيات والتاريخ والرياضيات يعرف اليونانية والعبرانية 1860م. حسين الغزي الحلبي أديب 1271. جبرائيل بن يوسف المخلع أديب يحسن الفارسية ترجم الكلستان للشيخ سعدي مطبوع 1851م. عبد القادر العمادي فقيه 1228. عبد الغني السقطي عالم مفنن 1236. عمر الغزي فقيه 1277. قاسم الحلاق فقيه مفسر محدث شاعر ناثر 1284. كمال الدين الغزي عالم مؤرخ شاعر صاحب التذكرة 1214. محمد المخللاتي فرضي موقت فلكي 1207. نجيب القلعي فقيه 1241. محمد عابدين صاحب التآليف والرسائل المتقنة منها حاشيته المشهورة ورسائله وفتاويه وكلها مطبوع. عبد الغني الميداني عالم بالأصول والفقه وفنون العربية 1299 عبد السلام الشطي شاعر فقيه 1295. مصطفى المغربي التهامي عالم أديب شاعر نحو سنة 1280. عبد القادر الحسني الجزائري عالم بالتصوف والأخلاق وله شعر ونثر وتآليف ومنها المواقف ورسائل منها مطبوع 1300. ونشأ في حلب محمد نور الترمانيني 1250 له عدة شروح على بعض كتب الآلات والأدب وله شعر وأخوه أحمد الترمانيني 1293 خلّف عدة تآليف وحواش وشروح ومنها كتاب الجامع في الكيمياء. رزق الله حسون 1880م كاتب شاعر ضليع بالعربية وفنونها وله رسائل جيدة وهو أول من أنشأ صحيفة عربية بالاستانة. وفرنسيس مرّاش الأديب له عدة تآليف

العلوم المادية في منتصف القرن الثالث عشر:

وديوان شعر 1873م. عمر الأنسي البيروتي الشاعر الأديب له ديوان مطبوع 1293. أمين الجندي الشاعر الرقيق له ديوان مطبوع 1257. بطرس كرامة الشاعر له ديوان مطبوع 1851م. ناصيف اليازجي الشاعر اللغوي الأديب صاحب المقامات والديوان وغيرهما من كتب النحو والبيان وكلها مطبوعة اشتهر في هذا العصر كثيراً 1871م. نقولا الترك شاعر أديب له ديوان شعر وتاريخ حملة الفرنسيس على مصر والشام مطبوع وغيره. حسين بيهم البيروتي أديب له ديوان شعر 1292. محمد النصري كان في حدود المائتين وألف له مؤلفات كثيرة أشهرها شرح قصيدة كعب. نصر الله الطرابلسي شاعر 1840م. لأحمد البربير البيروتي شاعر عالم كبير له عدة مؤلفات طبع بعضها 1226. حيدر أحمد الشهابي اللبناني 1834م مؤرخ أديب له التاريخ المنسوب إليه المطبوع. محمد أرسلان اللبناني له مؤلفات في الفلك والتاريخ 1864م. ناصيف المعلوف الأديب الكاتب ألف 36 مؤلفاً طبع أكثرها. نوفل نعمة الله نوفل الطرابلسي له كتب في التاريخ والأدب. عمر اليافي متصوف له ديوان شعر 1234. محمد الدباغ له عدة مصنفات 1288. العلوم المادية في منتصف القرن الثالث عشر: وفي النصف الثاني من هذا القرن بدأت تباشير العلوم الرياضية والطبيعية، وكانت انحطت انحطاطاً أشبه بالاندراس، تقبل على الشام من طريق الديار المصرية، بواسطة النهضة التي انبعثت بعناية محمد علي عزيز مصر فإنه أنشأ مدارس للهندسة والطب والترجمة والفنون الجميلة والحربية والبحرية وغيرها، فتخرج فيها كثير من المصريين وبعض أفراد من الشاميين. وأخذت تسري من أنوارها أشعة نافعة إلى الشام. ثم إن الدولة العثمانية أنشأت المدارس العالية في الآستانة ولا سيما المدرسة الحربية والطب، وبعد حين أحدثت مدارس الملكية والحقوق والزراعة والهندسة فأخذ بعض أفراد من الشاميين يدرسون فيها ولكن بالتركية، فكان ذلك إلى آخر عهد العثمانيين في ديارنا من العوائق الكبيرة في سبيل نشر العلم، لأن الدولة كانت تحرص على نشر لغتها، وأبناء العرب أو من يريد أن يسلك مسالك الجيش والطب والإدارة والهندسة والزراعة أرغمتهم الحالة على التخلي عن

العلوم والآداب في أواخر القرن الثالث عشر وأوائل

لغتهم، فجاء أكثرهم ضعافاً حتى في العلم الذي أخصوا فيه، وكانوا أضعف من ذلك في لغتهم، فلم ينبغ منهم رجال اشتهروا وأفادوا كما نبغ من مدارس الوطنيين النصارى مثل مدرسة عين ورقة الأكليركية التي أُنشئت سنة 1789م ونبغ فيها كثير من البطاركة والمطارنة والكهنة من الموارنة في القرن التاسع عشر. قال الدبس: ومن هذه المدرسة خاصة انبعثت علوم اللغتين العربية والسريانية بين النصارى الشام وغيرها من العلوم والفنون، ومثل مدرسة كفتين للروم الأرثوذكس، والمدرسة الوطنية في بيروت، والجامعة الأميركانية في بيروت التي علّمت زمناً طويلاً العلوم بالعربية ومنها الطب، فجاء من تلامذتها أفراد خدموا الآداب العربية. ونشأ في لبنان بطرس البستاني صاحب دائرة المعارف ومحيط المحيط وقطر المحيط وكان يعرف العربية والسريانية والإيطالية واللاتينية والعبرانية واليونانية، ووجد من خديوي مصر إسماعيل وغيره من ملوك المسلمين وأمرائهم تنشيطاً على إتمام عمله، كما نشأ في تلك الحقبة أحمد فارس الشدياق اللغوي المحقق صاحب جريدة الجوائب وكتاب الساق على الساق وكشف المخبا والجاسوس على القاموس وسر الليال وغيرها وكلها مطبوع، ووجد هذا من عزيز مصر وباي تونس وملك باهوبال تنشيطاً كثيراً. وهنا يقضي الواجب أن نشير بالتكريم للأسرة العلوية المصرية أسرة محمد علي الكبير فإن رجالها في كل دور قد تقيّلوا آثار جدهم الأعظم في الأخذ بأيدي المعارف وبر المؤلفين والصحافيين والشعراء فعدموا من دعائم النهضة العربية الأخيرة والعاملين على الأخذ بأيدي العاملين فيها. العلوم والآداب في أواخر القرن الثالث عشر وأوائل الرابع عشر: ومن علماء القرن الأخير والذي بعده في دمشق سليم العطار محدث فقيه محمود الحمزاوي فقيه أديب له مصنفات. بكري العطار إمام العربية ولا سيما النحو والتصريف ثم الفقه والحديث. حسن البيطار فقيه متفنن. محمد الطنطاوي عالم بالعربية والأصول والفقه والفلك والميقات. حسن الشطي فقيه. محمد الجوخدار فقيه. عبد الله الحلبي فقيه أصولي. أحمد الحلواني شيخ القراء. محمد الخاني متصوف فقيه. عمر العطار فقيه عالم بالعربية. عبد الرحمن الطيبي فقيه. محمد المرعشلي أديب وفقيه. عبد الرحمن البوسنوي عالم بالعربية.

أحمد فوزي الساعاتي عالم بالعلوم المادية والدينية. عبد المجيد الخاني أديب شاعر. عبد الحكيم الأفغاني عالم بالفقه والأصول. ملا عيسى الكردي فقيه أصولي. محمد محمود الأتاسي فقيه أصولي. علاء الدين عابدين فقيه أديب. صالح قنباز عالم بالتربية والطب له عدة رسائل وكتب. عبد الله السكري فقيه. محمد المنيني فقيه محدث. وفي بيروت يوسف الأسير عالم بالعربية والفقه وله شعر وأدب وعدة تآليف نشر العلوم الإسلامية والعربية بين نصارى لبنان 1307. إبراهيم الأحدب عالم بالتفسير والحديث والأصول والفقه واللغة والأدب وله عدة تآليف ثلاثة منها دواوين باسمه ونحو ثمانين مقامة ونظم مجمع الأمثال للميداني وشرح رسائل بديع الزمان وهما مطبوعان وغير ذلك من المقالات في الصحف 1308. أمين الشميل حقوقي مؤرخ له عدة تآليف 1897. إسكندر ابكاريوس له تآليف في التاريخ 1885 يوحنا ابكاريوس 1889 له قطف الزهور في تاريخ الدهور ومعجم إنكليزي مطول. محمد الحوت 1276 فقيه محدث له كتاب في الحديث. عبد الغني الرافعي الطرابلسي 1309 شاعر متصوف. محمد الميقاتي الطرابلسي 1302 شاعر. إبراهيم الحوراني الحمصي 1916م أديب رياضي فلكي له عدة تآليف ومقالات وتحقيقات. سليم كساب لغوي أديب له عدة مصنفات 1909م. ميخائيل مشاقة الدمشقي رياضي فلكي موسيقي مؤرخ من رجال الإصلاح الديني في النصرانية 1889م له تآليف. سليمان الصولة شاعر هجاء له ديوان 1891م. يوسف الدبس 1909م أديب له تاريخ سورية المطبوع. جرجس همام رياضي أديب له المعجم العربي الانكليزي والكتب المدرسية والهندسية 1920م. سعيد الخوري الشرتوني لغوي أديب صاحب معجم أقرب الموارد وغيره من الكتب اللغوية والأدبية كان متقناً للفقه الإسلامي. رشيد الشرتوني أديب نحوي كاتب له عدة كتب مدرسية وغيرها. رُشَيْد الدحداح اللبناني له عدة تآليف في التاريخ ونشر تآليف فيه 1889م. أديب إسحاق كاتب مترسل شاعر سياسي 1303. إبراهيم سركيس أديب له بعض الرسائل والمصنفات. سليم شحادة مؤرخ وهو أحد مؤلفي كتاب آثار الأدهار المطبوع. أنطون الصقال شاعر كاتب. قاسم أبو الحسن الكستي الشاعر الأديب له ديوان مطبوع

1322. حسين الجسر فقيه أديب له عدة مصنفات منها الرسالة الحميدية في الرد على الدهريين وغيرها من المقالات في الصحف ومنها في الأخلاق والأدب 1327. يوسف ضيا الخالدي المقدسي له عكاظ الأدب والتحفة الحميدية في اللغة الكردية. روحي الخالدي له عدة تآليف منها علم الأدب عند الإفرنج والعرب. طاهر الجزائري العالم بالتفسير والحديث والفقه والأصول والفلسفة والتاريخ والأدب واللغة له بضعة وعشرون مصنفاً مطبوعة في فنون مختلفة وله التفسير ومعجم اللغة وغيره مما لم يطبع وكنانيش فيها آراؤه ومطالعاته يحسن الفارسية والتركية ويلم بالحبشية والسريانية والعبرانية والفرنسية 1339. محمد المبارك متصوف أديب لغوي شاعر ناثر له رسائل أدبية مطبوع بعضها 1330. محمد مرتضى متصوف فقيه أديب كاتب شاعر. عبد الرزاق البيطار فقيه أديب له تاريخ رجال عصره مخطوط. جمال الدين القاسمي فقيه محدث أصولي أديب شاعر كاتب له تفسير القرآن وعدة كتب في الإصلاح الإسلامي وتاريخ دمشق وبعضها مطبوع 1332. عبد الله الحموي شيخ القراء. شاكر الحمزاوي فقيه. شبلي شميل فيلسوف كاتب أديب طبيب له تآليف وآثار في النشوء والارتقاء والفلسفة. جرجي زيدان مؤرخ كاتب قصصي له عدة مصنفات منها روايات تاريخية وتاريخ التمدن الإسلامي وآداب اللغة العربية 1914. رفيق العظم مؤرخ اجتماعي كاتب له عدة مصنفات منها أشهر مشاهير الإسلام 1343. سليم التنير كاتب باحث له تآليف ورسائل. ومات من الفقهاء خالد الأتاسي. أبو الخير عابدين. أمين السفرجلاني أديب له بعض تآليف. أحمد الزويتيني الحلبي 1316 الفقيه. أحمد صلاح. محمد الزرقا. صالح الرافعي. أحمد الصديقي. طاهر الحسيني. يوسف الإمام. خليل التميمي. محيي الدين الحسيني. إبراهيم أبو رباح. بشير الغزي. مصطفى كرامة. صلاح الدين تفاحة. محيي الدين اليافي. حسين العمري إلى أمثالهم. وهلك في هذا القرن من الشعراء والكتاب والكاتبات والأديبات سليم قصاب حسن شاعر له ديوان مطبوع. نجيب حداد شاعر كاتب قصصي 1891م

المعاصرون من العلماء والأدباء:

داود عمون شاعر أديب. يوسف خطار غانم، محمد الهلالي شاعر. إسكندر عازار. نعوم شقير له مؤلفان في تاريخ سينا والسودان مطبوعان. أمين حداد. نعوم لبكي. أنطون رباط. أبو الخير الطباع. محمد علي حشيشو. جرجي ديمتري سرسق. فرح أنطون له عدة تآليف وترجمات مطبوعة. إسكندر شاهين له عدة كتب مترجمة. شاكر شقير كاتب شاعر. محمد أرسلان. عمر حمد شاعر. عمر اليافي. محمود الشهال شاعر. نقولا رزق الله. جميل مدور. نوفل نوفل. أمين الشميل. صلاح الدين القاسمي. شاكر الخوري. له كتاب هزلي. أحمد الصابوني له تاريخ حماة مطبوع. محيي الدين الخياط كاتب له عدة كتب مدرسية. حسن رزق. حسن بيهم كاتب متفنن. سليم سركيس كاتب هزلي. عبد الوهاب الإنكليزي. سليم الجزائري. شكري العسلي له عدة رسائل اجتماعية وأدبية. رشدي الشمعة شاعر كاتب. أحمد طبارة. عارف الشهابي. عبد الغني العريسي. جرجي حداد. سعيد عقل. باترو باولي. رفيق رزق سلوم. فيليب الخازن. فريد الخازن. محمد المحمصاني عبد الحميد الزهراوي. عبد القادر المؤيد. حسين وصفي رضا. بشارة زلزل له عدة كتب في الطب وغيره. محمد عبد القادر الحسني. محيي الدين الحسني له مؤلفات. شاكر عون. سليم بسترس. سليت تقلا. سليم عباس. سليم البستاني. أسعد الشدودي. عبد الغني الرافعي. شاكر أبو ناضر. خليل باخوس. سليم باز. سليم جدي. فيليب جلاد. نجيب حبيقة. يوسف حرفوش. أمين الخوري. يوسف دريان. وهلك من النساء في العهد الأخير عفيفة كرم. وردة اليازجي. عفيفة اوزون. زينب فواز. وردة الترك. هيلانة البارودي. سلمى قسطالي. هنا كسباني. مريانا المراش. سارة نوفل. فريدة عطية. المعاصرون من العلماء والأدباء: ومن شيوخنا وكهولنا وشبابنا ونسائنا من اشتغلوا بالعلوم والآداب على اختلاف أنواعها وممن اشتهر منهم: 1ً علماء الدين والفقه والقضاء: سليم البخاري. رشيد رضا. بدر الدين الحسني. عبد الله العلمي. عبد الله الجزار.

مسعود الكواكبي. سعيد العرفي. سعيد مراد الغزي. مصباح محرم. عبد المحسن الأسطواني. أحمد عباس. محسن الأمين. جرجس صفا. عطا الكسم. سعيد النعسان. سعيد الباني. بهجة البيطار. طاهر الأتاسي. يوسف النبهاني. محمود منقارة. عبد الكريم عويضة. عبد اللطيف نشابة. عبد الحميد الجابري. عبد القادر بدران. عبد القادر القصاب. طاهر المنلا الكيالي. أحمد النويلاتي. خالد النقشبندي. نجيب قباني. عبد الكريم حمزة. محمد الأسطواني. محمد الكستي. إبراهيم هاشم. سليمان أحمد. طاهر أبو السعود. يوسف الإمام الحسني. محيي الدين الخاني. عيسى العكرماوي. منيب هاشم. نمر الداري فهمي الحسيني. عادل زعيتر. أحمد الزرقا. نجيب أبو صوان. مصطفى برمدا. حسن الشطي. عوني عبد الهادي. معين الماضي. يوسف الخيري. أمين عز الدين. إسماعيل حافظ. ميخائيل عيد البستاني. مصطفى الخاني. مصطفى نجا. فوزي الغزي. فتح الله أديب. علي الكيالي. عبد المجيد المغربي. محمد الحسيني. محاسن الأزهري. توفيق الدجاني. خليل الخالدي. ومن المتفردين بالقراءات في دمشق: محمد الحلواني. عبد الله المنجد. أحمد دهمان. محمد القطب. عبد الرحيم دبس وزيت وغيرهم. 2ً العلوم الفلسفية والمادية: يعقوب صروف. منصور جرداق. جودت الهاشمي. مصباح حولاّ. فارس الخوري. سعيد البحرة. رشدي سلهب. درويش أبو العافية. شكري خليفة. أمين معلوف. عبد الوهاب المالكي. أميل خاشو. يوسف افتيموس. إبراهيم الدادا. وجيه الجابري. فيكتور كورنلي. إسماعيل باقي. أحمد رستم. مصطفى الشهابي. وصفي زكريا. جمال الفرا. يوسف قدورة. محمد الترمانيني. صلاح الدين الكواكبي. مصطفى تمر. هاشم الفصيح. عبد الوهاب القنواني. أسعد الحكيم. سعيد شقير. أحمد حمدي الخياط. مرشد خاطر. جميل الخاني. حسني سبح. محمد محرم. شوكة الشطي. جميل صليبا. جعفر الحسني وغيرهم. 3ً العلوم الاجتماعية والتاريخية والحقوقية: شكيب أرسلان. فارس نمر. داود بركات. خليل ثابت. عيسى إسكندر المعلوف. نقولا حداد. محمد رستم حيدر. نسيم صيبعة. سعيد حيدر. جرجي يني. عمر الصالح البرغوثي

خليل طوطح. ميخائيل ألوف. قسطنطين الباشا. سليم شحادة. نجيب صليبا. رفيق التميمي. أسد رستم. راشد طبارة. أسعد منصور. سعيد المحاسني. زكي الخطيب. عارف الخطيب. قسطنطين زريق. حبيب الخوري. روحي عبد الهادي. حسن فهمي الدجاني. أحمد سامح الخالدي. ساطع الحصري. حسن يحيى الصبان وغيرهم. 4ً الأدباء: عبد الله البستاني. لويس شيخو. أسعد خليل داغر. سليم الجندي. إسعاف النشاشيبي. عارف النكدي. كامل الغزي. قسطاكي الحمصي. الخوري بطرس البستاني. مصطفى الغلاييني. رشيد عطية. أمين ظاهر خير الله. حنا صلاح. رشيد بقدونس. أنيس المقدسي. جبر ضومط. جرجس منش. أحمد رضا. سليمان ظاهر. عزة دروزة. بندلي الجوزي. عبد الرحمن سلام. عبد القادر المغربي. عبد القادر المبارك. إبراهيم منذر. أنيس الخوري المقدسي. ميخائيل صقال. نجيب ميخائيل ساعاتي. جرجس شلحت. سامي جريديني. حسني عبد الهادي. راغب الطباخ. سامي الكيالي. عز الدين علم الدين. عبد الله النجار. عمر الأتاسي. أبيفانيوس زائد. علي ناصر الدين. عبد اللطيف صلاح. عبد الله مخلص. عمر الزعني. حبيب كحالة. عارف الزين. فيليب طرازي. راجي الراعي. جميل معلوف. عمر الفاخوري. جرجي باز. أحمد صلاح الدين. أحمد عبد المهدي. يوسف زخم. جميل الشطي. صبحي القوتلي. توفيق ناطور. أنطون جمَيّل. نزيه المؤيد. لويس معلوف. شكري الجندي. وصفي الأتاسي. أمين الحشيمي. أنيس النصولي. أديب التقي. جودت الكيال. محمد الداودي. أحمد عبيد. حمود الزبرؤتي. منح هارون. فائز الغصين. سامي العظم. خالد الحكيم. وجيه بيضون. نجيب الريس. شريف عسيران. أديب الصفدي. أديب فرحات. سعيد الصباغ. جمال الملاح. أديب وهبة. عبد الغني باجقني. عارف التوام. فوزي العظم. حسن الحكيم. الياس القدسي. عبد الله رعد. صبحي أبو غنيمة. ميشيل بيطار. إبراهيم حرفوش. توفيق حمادة. عبد الله خير. سليم خطار الدحداح. حكمة المرادي. يوسف اليان سركيس. يوسف صادر. أنطون صالحاني. جودت المارديني. نعيم صوايا. إسكندر طحيني. بولس عبود. إميل عرب. يوسف

علوان. يوسف غصوب. جبرائيل قرداحي. يوسف قيقانو. نجيب مخلوف. فيليب مسك. أمين مشحور. حلمي مصري. عيسى بندك. شكري كنيدر. عبد الله صفير. حبيب زيات. أحمد عمر المحمصاني. محمد علي الطاهر. يوسف حيدر. أنطون شعراوي. توفيق الحلبي. توفيق جانا. أسعد ملكي. رزق حداد. عباس أبو شقرا. طه مدور وغيرهم. 5ً الكتاب: عبد الباسط فتح الله. خليل زينينة. خليل سعادة. خليل سعد. سامي قصيري. نعوم مكرزل. يوسف الخازن. عبد الله الأسطواني. نجيب شاهين. أميل زيدان. إبراهيم سليم النجار. يوسف العيسى. بدر الدين النعساني. عادل أرسلان. محمد الجسر. توفيق اليازجي. ادوارد مرقص. أمين الريحاني. مصطفى الخيري. محمد علي السراج. محب الدين الخطيب. سليم قبعين. ميخائيل نعيمة. بولس الخولي. جبران تويني. جبران خليل جبران. شحادة شحادة. أمين غريب. فؤاد صروف. سعيد أبو جمرة. يوسف البستاني خليل السكاكيني. عادل جبر. نجيب نصار. رشدي الحكيم. عيسى العيسى. سليم ابكاريوس. أمين الكيلاني. سعيد الزهور. خليل بدوي. خليل بيدس. بطرس غالب. ناجي أديب. وجيه الكيلاني. سعيد الأفغاني. صلاح الدين المنجد نجيب الريس. سامي كبارة. جبران تونسي. خليل كسيب. علي الطنطاوي. كاظم الطاغستاني. عمر الطيبي. أمين الحلبي. راشد البيلاني. عبد الهادي اليازجي. فارس فياض. أحمد شاكر الكرمي. أحمد كرد علي. معروف الأرناؤط. عبد الحسيب الشخ سعيد. نجيب اليان. ايليا زكا. نجيب شقرا. زكي مغامز وأمثالهم. 6ً الشعراء: فؤاد الخطيب. أمين ناصر الدين. خليل مطران. خير الدين الزركلي. خليل مردم بك. شفيق جبري. سليمان التاجي. عبد الحميد الرافعي. مصباح رمضان. طانيوس عبده. الياس الفياض. سليم عنحوري. محمد الشريقي. نوفل الياس. محمد البزم. جرجي عطية. بشارة الخوري. شبلي ملاط. أمين تقي الدين. رشيد نخلة. محمد سليمان. أسعد رستم. فخري البارودي. نسيب أرسلان. إيليا أبو ماضي. حليم دموس. أبو السعود مراد. عبد الرحمن القصار. كامل شعيب. عارف الرفاعي. نديم الملاح. محمد

تأثيرات الأجانب في التربية:

الفراتي. عبد الرحيم قليلات. جميل العظم. إبراهيم الشدودي. حسين الحبال. أمجد الطرابلسي. جميل سلطان. زكي المحاسني. عمر أبو ريشة وغيرهم. 7ً الخطباء: عبد الرحمن شهبندر. أسعد الشقيري. أسعد عفيش. نقولا فياض. غريغوريوس حداد. حبيب اسطفان. أنيس سلوم. فيلكس فارس. حنا خباز. عبد الرزاق الدندشي. مصطفى الشماع. محمود النحاس. بدر الدين الصفدي. أفرام أبيض. عبد الرحمن الكيالي. سامي السراج وغيرهم. 8ً الكاتبات والشواعر والخطيبات: ماري زيادة. ماري عجمي. سارة خطيب. لبيب هاشم. نجلا أبو اللمع. سلمى صائغ. جوليا طعمة. عفيفة صعب. عنبرة سلام. مسرة الأدلبي. ماري يني. هيلانة البارودي. فاطمة سليمان. ابتهاج قدورة. بهيجة المؤيد. خيرية ترمانيني وغيرهن. تأثيرات الأجانب في التربية: من المعاهد التي خرجت أُناساً بالعربية والفرنسية كلية القديس يوسف اليسوعية في بيروت، وكان أول نزول الآباء اليسوعيين في الشام سنة 1653م، فأسسوا مدرسة عينطورا بلبنان التي أخذها الآباء اللعازريون بعد مدة 1834م وخرجت كثيراً من الأدباء باللغة الفرنسية فقط. وقد ضعفت في هذا القرن ملكة البيان في المسلمين، وهم يتلون القرآن ولكن بدون أن يتدبروا معانيه ويفهموا إعجازه، حتى أصبح الفقيه والمحدث والنحوي والمنطقي لا يحسن كتابة سطرين إلا بصعوبة. ويتعاصى عليه فهم الكلام الفصيح دون الرجوع في المفردات البسيطة إلى المعاجم، وضعف الشعر على تلك النسبة بحيث لم ينبغ لا أفراد قلائل من الشعراء يستحق شعرهم أن يسمع ويدون، بل كانوا إذا أرادوا الخطب في الجوامع والمساجد يحفظون شيئاً منها لأهل العصور التي سلفت ويوردونها بدون مناسبة، بل إن الإجازات التي يكتبها الشيوخ وغيرها من التحميدات والتقاريظ وأدعية المواسم ينقلونها عن الأقدمين ويحرفونها على صورة مستكرهة، وقد قويت في هذا العصر قاعدة خبز الأب للابن، وكان المفتي أبو السعود من مشايخ الإسلام في الإستانة أول من ابتدعها وأخرجها للناس، فأصبح التدريس والتولية والخطابة والإمامة وغيرها من المسالك الدينية

توسد إلى الجهلة بدعوى أن آباءهم كانوا علماء، وهم يجب أن يرثوا وظائفهم ومناصبهم وإن كانوا جهلة، كما ورثوا حوانيتهم وعقارهم وفرشهم وكتبهم. بل بلغت الحال بالدولة إذ ذاك أن كانت تولي القضاء للأميين، وكم من أُمي غدا في دمشق وحلب والقدس وبيروت قاضي القضاة، أما في الأقاليم فربما كان الأميون أكثر من غيرهم، لأن أخذ القضاء في دار الملك كان متوقفاً على بذل شيء من الرُّشي، فيصل إليه أجهل الناس وبذلك فترت الهمم، وانصرفت الرغبات عن تعلم علوم الدين، لأن الجاهل والعالم سواء، ومن يحسن المصانعة والرشوة ويمتّ إليهم بأُسلوب من أساليب الشفاعة. وأصبح الشعر عبارة عن شبكة يتعلم صاحبها نصبها ليتزلف بها إلى الكبراء وأرباب الدولة، والشاعر كطبال أو زامر أو قرّاد يغني ويلعب أمام من يعطيه دريهمات قليلة. وهناك شبكة رسمية أُخرى يصطاد بها المال وهي أن من حفظ قواعد النحو والصرف في كتب لهم معينة وانقطع إلى مدرسة من المدارس، وجاز الامتحان ست سنين على أسلوب لهم مخصوص يعفى من الخدمة العسكرية، فتعلم بذلك كثيرون، ومن فهموا ما تعلموه جاء منهم بعض فقهاء وأدباء، ثم أبطل في العقد الثاني من القرن الرابع عشر. وبينا كانت مدارس العلم في حلب وحماة ودمشق وطرابلس والقدس وغيرها آخذة بالأفول والاندراس، والمسلمون أو الذين خرجوا من الأمية بعض الشيء من أهل هذه الديار يولون وجوههم قِبَل المناصب الدينية والإدارية والعسكرية، كان إخوانهم المسيحيون يتعلمون في مدارس نظامية في الجملة، جعلت تدريس العربية وآدابها واللغات الحية أول بند من منهاج الدراسة فيها، فجاء من أبنائهم ومن أخذ العلم عنهم من سائر الطوائف جماعات يذكرون في التاريخ بحسن بلائهم في خدمة الآداب، ومنهم أفراد نزحوا إلى مصر وأميركا وتولوا الأعمال الكبرى وأظهروا آثار قرائحهم ونبوغهم ولا سيما في القرن التالي، وبطلت القاعدة التي كان وضعها بعض ضعاف النظر من تقبيح نحو النصارى وغناء اليهود، فأصبح بالتعلم من النصارى نحاة ثقات، ومن اليهود مغنون ومغنيات، أي أن الزمن أبطل ذاك الزعم.

الآداب في القرن الرابع عشر:

الآداب في القرن الرابع عشر: اختص القرن الرابع عشر بأن تجلت فيه فائدة العلم لعامة الشعب، فصار المقتدرون من الناس يلقون بأولادهم لأي مدرسة كانت ليأخذوا العلم منها، ودبت الغيرة في نفوس المسلمين فأنشئوا بعض المدارس الأهلية مثل مدارس المقاصد الخيرية وغيرها في بيروت وصيدا ودمشق وحماة وحمص وحلب وطرابلس فخرّجت هذه المدارس مئات من المتأدبين كما خرّجت المدارس الطائفية مثل مدرسة البطريركية ومدرسة الحكمة المارونية في بيروت. وكان الفضل في هذه النهضة الشامية أولاً لمدارس لبنان وبيروت وعناية بطاركة الموارنة ومطارنتهم وأساقفتهم وقسيسيهم بالعلم واللغة. أما العلوم الطبيعية والرياضية والطبية فانبعثت جذوتها من الجامعة الأميركية اكثر من غيرها، ولو لم تُبطل تدريس العلوم بالعربية وتجعله إنكليزياً لتضاعفت الفائدة التي نشأت من هذه المدرسة العالية، وكان من أستاذين من أساتذتها الدكتور فانديك الأميركاني والدكتور ورتبات الأرمني فضل على العربية بما كتباه في العلوم المختلفة باللغة العربية وكذلك كان شأن بوست الأميركاني فإنه ألف كتباً علمية نافعة بلغتنا فعدّ منا، وكذلك فعل بورتر وغيره. إن المدارس الطائفية ومدارس المرسلين من الأميركيين واليسوعيين وغيرهم من الأمم ذات المطامع في الأرض المقدسة قد جعلت التربية متلونة فأصبح كل متعلم يخدم الغرض الذي أُنشئت له مدرسته، وانقسمت الأمة بهذا الضرب من التعلم أقساماً، وتباعدت مسافة الخلف بين أبناء البلد الواحد، لاختلاف المذاهب بل للاختلاف في المذهب الواحد مما لم يكن له أثر يذكر في غابر العصور، ولأن معظم المدارس التي أنشأها غير الوطنيين من الشاميين كان العامل في تأسيسها مذهب خاص في الدين والسياسة، فالإنجيليون أو البروتستانت تنتشر دعوتهم كل يوم، واليسوعيون ينزعون منزعاً آخر في التربية الدينية والسياسية، وهكذا لو أردنا أن نعدد أسماء الجمعيات الدينية التي تعلم المسيحيين في الشام لما رأيناها تقل عن ثمانين إرسالية. ومنها ما ينزع من المتعلم حب قوميته

وبلاده، وكم رأينا رجالاً ونساء درسوا في تلك المدارس فجاءوا لا غرب ولا إفرنج، يتكلمون في بيوتهم بغير لغتهم، ولا يشعرون شعور الشامي، بل يبغضون تقاليدهم وتاريخهم، ولذلك صح أن يقال إن تلك المدارس لم تنفع النفع المطلوب، بل نفعت الشركة التي قامت بتأسيسها بأن هيأت لها في هذه الديار أنصاراً. وبينا نرى بعض المسلمين يكتبون التركية كأهلها وشعورهم تركي صرف ولم ينفعوا الشام بشيء كثير من علمهم، نشاهد كثيرين ممن درسوا في مدارس الرهبان والقسيسين والحاخامين والمدارس العلمانية الفرنسية يكتبون الفرنسية أو الإنكليزية أو الألمانية أو الروسية أو اليونانية أحسن من كتابتهم لغتهم بدرجات وكل هؤلاء لم يستحق أحدهم اسم العالم والأديب، بل أن معظمهم قد اسودت الشام الجميلة في عينه، وهجرها إلى أرض أُخرى. إن الشامي المتأدب في الجملة بآداب قومه يحب لغته ويغار عليها، ولذلك أسس عدة صحف ومجلات راقية في مصر والمهجر من أميركا الشمالية والجنوبية وحبب المطالعة بالعربية إلى من نزل عليهم، أو إلى من هاجروا من الشاميين بحيث لا تقل صحفنا ومجلاتنا العربية خارج الديار الشامية عن خمسين جريدة ومجلة حية، وما ندري إن كانت هذه الهمة تظل على حالتها بعد انقراض هذا الجيل، فإن الجيل الجديد من الشاميين في أميركا الشمالية والجنوبية قلما يعرف العربية بل هو يتكلم بالإنكليزية أو الإسبانية أو البرتغالية. وأعظم نقص في المدارس الأميرية والطائفية والأجنبية أن الأولى تصوغ موظفين والثنية والثالثة تهيئ المتخرجين على معلميها إلى الهجرة، وتباعد بين أبناء الوطن الواحد وتبث مبادئ اجتماعية لا تنطبق على حالتنا. نعم تمت بالشاميين كما قلنا مرة المقتبس المجلد الخامس دواعي التفريق في الوطنية وضعفت ملكتها فيهم بقوة المدارس غير الوطنية في ديارهم. فإن كانت هذه المدارس قد نفعت الشام بما أدخلته إليها من النور، فقد أضرتها بانحلال عقدة الوطنية، فمدارس الأميركان والروس واليونان والفرنسيين والإنكليز قد أصلحت وأفسدت. أصلحت بتلقين من تخرجوا فيها شيئاً من معارف الغرب، وأضعفت في نفوسهم حب الوطن بتحبيبها إليهم أوطاناً غير أوطانهم،

وتعريفهم إلى رجال غير رجالهم. والعاقل من حرص على نفع أمته قبل كل نفع وانتفع بما عنده قبل أن يتطال إلى ما عند غيره. ومن زهد في لغة آبائه وجدوده كان حرياً بالزهد في وطنه ووطنيته. واللغة والوطن يصح أن يكونا اسمين لمسمى واحد. جنت مدارس الأجانب والحكومة أعظم جناية، لأن المتخرجين فيها ومعظمهم من الذكاء على جانب لم ينفعوا الدولة ولم ينفعوا الأرض التي ولدوا فيها. إن المدارس غير العربية في الشام أشبه بالسارق الذي يسرق الأعلاق ونفائس المتاع، أستغفر الله بل إن من يسرق فلذات الأكباد، ليخرجها على ما أراد، أشق على النفس وطأة، وأعظم في المغبة أثراً. وهل يقاس سارق الأموال بسارق الأطفال والرجال؟ أوَ ليست الأرواح أثمن من كل بضاعة، وهل أعز من الولد على قلب أبويه. إن المدارس التي تعلم على غير الأسلوب الوطني هي التي تسلب من الشام اليوم بعد اليوم روحها، وناهب الروح ماذا يدعى في الشرع والعقل. ولم يبلغ البشر درجة من التمدن حتى تتساوى في عيونهم اللغات والعناصر كلها، وتتجرد أمة فتفنى لإحياء غيرها، وتقلل جنسيتها لتزيد سواد أُخرى، ولا تهمها دارها وتريد هدمها لتعمر بأنقاضها دار جارها. في نحو سنة 1278 فتحت حكومة حلب المدرسة المنصورية وهي أول مدرسة أميرية أُنشئت في حلب. وأنشأ مدحت باشا في دمشق سنة 1295هـ ثماني مدارس ابتدائية للذكور والإناث ودار صنائع، وأسس مثل ذلك في أعمال ولايته الواسعة، وما برحت المعارف مذ ذاك العهد تعلو وتسفل والحكومة لا تطلب من المدارس الابتدائية والثانوية إلا أن تُخرج لها طبقة من الموظفين ملكيين وعسكريين يكونون أتراكاً بألسنتهم لا بقلوبهم، عثمانيين بتربيتهم لا بأصولهم، وقد أخذ دعاة تتريك العناصر يقاومون العربية سراً، فما هي إلا أعوام حتى أصبح معظم الدارسين في مدارس الحكومة يخرجون بعد درس عشر أو خمس عشرة سنة، وهم لا يحسنون لغتهم ولا لغة الدولة الرسمية،

فضلاً عن اللغة الفرنسية التي كان تعلمها إذ ذاك رسمياً في الظاهر صورياً في الحقيقة، على مثل ما كانت اللغة العربية في مدارس الحكومة، وكان يندر بين من تخرجوا في هذه المدارس من يعاني الصناعات الحرة، ومعظم من أتموا تعلمهم في مدارس الحكومة العثمانية نشئوا مستعدين للوظائف فقط. وما فتئت مدارس الحكومة بعد خمسين سنة من تأسيسها غير وافية بالغرض من بعض الوجوه، وجعل التعليم بالعربية عقبى خروج الدولة العثمانية من هذا القطر، وروحها لم تبرح تلك الروح التركية، لأن معظم المعلمين ممن تعلم بالتركية وتخلق بالأخلاق التركية، وقد حاولت إدارات المعارف في الديار الشامية نزع الروح القديم وتنشئة المعلمين نشأة عربية، وليس في الوسع أن يشيب المرء إلا على ما شب عليه، وفاقد الشيء لا يعطيه، ولم تهتد مدارس الحكومة حتى اليوم إلى إيجاد مثال من التربية يلتئم مع ماضي الأمة العربية وينفعها في حاضرها ومستقبلها، وتغذية العقول غذاءً كافياً ينفعها في استخراج ثمرات الأرض وكنوزها والتفنن في صنعها ووضعها، وتجديد برامج التعليم من الزوائد التي يستغني عنها في باب تربية الفتاة والصبيّ. أما التعليم الديني عند المسلمين فهو أحط تعليم، أُصيبوا بذلك بعد خراب المئات من المدارس الدينية في القطر وأكل أوقافها، وقد تغافلت الدولة التركية عن إنهاضها، ولم يتهيأ لها في الدور الحديث من يفكر حقيقة في إصلاحها، وإذا درس المشايخ الدروس النظامية، وتأهلوا للقضاء والفتيا والتعليم أهلية حقيقية، تنحل بتعليمهم التاريخ والرياضيات والطبيعيات والاجتماعيات مشاكل كثيرة. ومن العجيب أن مدينة كدمشق لا يقل سكانها عن ثلاثمائة ألف نسمة كان فيها في الثلث الأول من القرن العاشر نحو ثلاثمائة مدرسة ومعهد مختلفة الشكل - عدا الكتاتيب الملحقة بالجوامع - تقرأُ فيها دروس العلم والأدب والطب والهندسة، ليس فيها اليوم درس ديني واحد يقرأُ بصورة مطردة، ولذلك بلغت العلوم الشرعية درجة من الضعف تضحك وتبكي، وبلغت أكثر وظائف الوعظ والتدريس والخطابة والإمامة من السخف ما نسأل الله معه السلامة. وقد جبرت حلب هذا النقص فتولى مفتيها بمعاونة ناظر أوقافها كبر هذا الأمر، فوضع برنامج لتدريس العلوم الآلية والدينية مدة اثنتي عشرة

سنة، ونزل الطلبة في المدارس: المدرسة الخسروية والمدرسة العثمانية والشعبانية والقرناصية والإسماعيلية، وربطت لهم رواتب تعاونهم بعض الشيء على ما هم بسبيله، يتقاضونها من أوقاف تلك المدارس ويقرأ الطلبة اليوم على أساتذة تلك المدينة على نظام في الجملة ويرجى أن يكون منهم علماء دينيون ومتأدبون. أما علماء الدين عند المسيحيين والإسرائيليين فأخذوا يتعلمون في مدارس لهم نظامية في روسيا أو إيطاليا أو أميركا وغيرها فلا يرقى في الأغلب إلى الرئاسة الدينية عندهم إلا من توفرت فيه شروط العلم والنباهة، ويكون على الأغلب بانتخاب أقرانه، ولذلك جاء البون شاسعاً بين عقلية علماء الدين من المسلمين وعقلية غيرهم من أرباب الأديان، وغدا أرباب الإنصاف يقولون بالرئاسة الدينية في الإسلام على النحو الذي هي في النصرانية، لأنه ثبتت فوائدها في تثقيف العامة وجمع كلمة الخاصة، ولأن الحكومات ليس من شأنها أن تعلم إلا البسائط العامة المشتركة، والأمور الأخرى من شأن زعمائها الذين تعتقد فيهم صلاحها. ومن أغرب الحالات أن مدارس الحكومة في جميع المقاطعات الشامية لا يتعلم فيها غير المسلمين، أما سائر الطوائف فلا يعتمدون في تعليم أبنائهم على غير مدارسهم أو على مدارس المبشرين. وبهذه الطرق المختلفة في مناحي التربية يستحيل أن يجتمع أبناء الوطن على مقصد واحد، لأن كل فرد يتعلم النفرة من مخالفه في معتقده، وخصوصاً في مدارس بعض الرهبنات التي تهزأ بالإسلام والعرب، وتحرّف التاريخ الصحيح ولا تعلم منه إلا ما ينطبق مع رغائبها، ولا يفيد شيئاً في تكوين الوطنية والقومية، ولو اتحدت التربية واشترك جميع أبناء الشام في التناغي بها والاعتماد عليها، لا تلبث هذه الأمة خمسين سنة أن تخرج سماؤها سلسلة طويلة من الرجال يرفعون مستوى العقل فيها، ارتفاعه عند أُمم الحضارة في الغرب، ويؤثرون فيها كما أثر أجدادنا في مجموع الحضارات الحديثة. وعندنا أن لا نهضة في الأخلاق والعلم والشؤون الاقتصادية والاجتماعية إلا إذا تعلم تعليماً صحيحاً، لأنهم ستة أسباع السكان، والثروة الثابتة ملكهم، وهذا لا يتم إلا إذا تعلم أبناء غير المسلمين مع أبناء المسلمين تعليماً وطنياً واحداً.

الجامعات والكليات:

الجامعات والكليات: احتفل الصهيونيون سنة 1343م بإنشاء جامعتهم العبرية في القدس يعلمون العلوم باللغة العبرانية ولا تمضي خمس عشرة سنة حتى تنبعث الديانة اليهودية والمدنية اليهودية من مراقدها، كما انبعثت منذ القرن الماضي في بيروت شعلة المدنية الأميركية والمذهب الإنجيلي من الجامعة الأميركية، وانتشرت المدنية الفرنسية والكثلكة من كلية القديس يوسف اليسوعية. وفي 15 حزيران 1923م أُسست في دمشق الجامعة السورية وهي ذات فرعين الطب والحقوق لتكون جامعة عربية للشام بالمعنى الذي يفهمه العلماء من الجامعات ثم أُضيفت إليها شعبة الآداب وألغيت بعد سنين، وما زالت اللغة العامية شائعة في مدرستي الطب والحقوق، لأن معظم المدرسين من الطبقة التي لا تقيم للعربية وزناً، فقد تخرجت في مدارس الترك لتكون من الموظفين في الحكومة العثمانية، ولم تُعن بالمطالعة والبحث ولا بالتأليف والترجمة، وبعض الشهادات التي كان العثمانيون يعطونها من مدارسهم مشهور أمرها، ومن الغريب أن توسد هذه الأعمال العلمية الجليلة إلى أُناس هم أتراك في تربيتهم وأفكارهم ومنازعهم في صميم بلاد العرب، وفي جامعة عربية يراد منها تكوين أمة عربية. ويرجى إدخال الإصلاح المنشود إلى هاتين المدرستين العاليتين إذا وُسدت مناصب التعليم فيهما إلى كفاة، يحسنون العربية إحسانهم العلم الذي يدرسونه وأن تصقل أماليهم بأيديهم صقلاً متقناً بحيث تصدر دروسهم عن علم أتقنوه وتمثلوه وهضموه وصار لهم ملكة خاصة، لا مترجمة في الأكثر عن التركية ترجمة جذماء عوجاء كما يفعلون إلى اليوم، ومتى كانت اللغة التركية لغة علم وعنها يؤخذ في مثل هذا العصر، والمعلوم أن لغات العلم ثلاث الإنكليزية والفرنسية والألمانية ليس إلا، ومتى كانت تربية الأعاجم تصلح للأمة العربية التي يجب أن تتكون بحسب تاريخها ومنافعها الحاضرة والمقبلة. وبعد عشرين سنة مضت على هذا التدوين ارتقى مستوى التعليم في الجامعة السورية وارتقت اللغة العربية فيها باعتزال من ربوا تربية تركية ووسد إليهم أمر التعليم لأول إنشائها وجاء أساتذة أتقنوا العربية وآدابها وهم اليوم يلقون دروسهم

الإخصاء:

بلغة أقرب إلى الفصحى وقد وضعوا التآليف في الطب والحقوق بلغة عربية مقبولة. ولا سبيل إلى الانتفاع بالجامعة السورية نفعاً حقيقياً يتفق مع شهرة الديار الشامية القديمة بالعلم إلا إذا تمت فروعها فأُنشئت فيها مدرسة للآداب وأُخرى للعلوم وثالثة للإلهيات، وبذلك تتم فروعها وتنبعث منها أنوار الحكمة المشرقية والمغربية، ولا غضاضة علينا إذا جئنا من مصر وديار الغرب بعلماء أخصائيين في الفروع التي لا نحسنها من ضروب العلم، نتعلم منهم طريقتهم في البحث والدرس والتحليل والتركيب، فالقطر المصري وهو أسبق منا في العلوم ما زال إلى اليوم يأتي من الغرب بعلماء يوسد إليهم الإدارة والتعليم في جامعته. وعلى ذكر القطر المصري لا بأس بأن نشير إلى أن المتعلمين من الشاميين ما برحوا يفزعون إلى مصر منذ أواخر القرن الماضي يخدمون الآداب ويرزقون منها، فكان لمصر الفضل على الشام وبنيه لأنها كانت منبعث قرائحهم. وكان في هذه المقايضة العلمية بين الشام ومصر من الفرائد ما لا يمكن أحداً جهله. وبعد ذلك يرجى أن لا يضيق كثيراً نطاق اللغة العربية، بعد أن رأى الناس أمرها يضعف الحين بعد الآخر في الغرب والجنوب، وهي إلى ضؤولة في الشرق والشمال والوسط على ما يبذله المجمع العلمي العربي منذ سنة 1337هـ من العناية بنشرها وتهذيب ألفاظ الكتاب وتراكيبهم، والأخذ بأيدي المؤلفين والمترجمين، وتحبيب المطالعة إلى الجمهور، وتعليمه في محاضرات ودروس عامة، وعرض آثار مدنية الأسلاف على أنظاره لبعث عقليته من رقدتها. وإذا توفرت الجامعة السورية العربية على صياغة علماء إلهيين وعلماء مدنيين وأُدباء ومهندسين وطبيعيين وكيماويين وزراعيين وأطباء وحقوقيين وأثريين يعرفون كيف يبحثون ويعلمون، نخدم المدنية خدمة حقيقية. الإخصاء: وبعد فإن أهمّ ما ينبغي صرف العناية إليه اليوم نشر العلوم الانسيكلوبيدية، أي المشاركة في العلوم المتعارفة، ثم الانقطاع إلى فرع واحد، أي إلقاء النظر على المعارف التي تنير الفكر من العلوم الطبيعية والرياضية والاجتماعية والتاريخية

والأدبية ثم معالجة موضوع واحد: إذا كانت القرون الوسطى قرون التعميم في التعليم، فإن هذا العصر عصر التخصص. فقد اتسعت معارف البشر النظرية والعملية فدعت الحاجة إلى أن يقسموها بحسب استعدادهم وحاجاتهم إلى أقسام ينقطع إليها أفراد. فالأصول من المعارف هي المعلومات العامة وتفرعاتها هي الإخصائيات. كان بادئ بدء كل شيء مفهوماً في الفلسفة، فكانت لفظة عام عند الأمم الجاهلة تتناول جميع العلوم، وتنقسم إلى قسمين: المحسوسات والمعقولات، ودعيتا علوم الطبيعة وعلوم ما وراء الطبيعة. أما الصنائع اليدوية فلم تكن منظمة تنظيماً معقولاً ولا جارية على طريقة معقولة، وكان أرباب الأفكار يحتقرونها فلا يمارسها إلا الصعاليك يخلفون في تعلمها آباءهم، بدون وقوف على القوانين الميكانيكية أو الطبيعية التي كان يعملون بها على الدوام. ثم حسنت الحال بالتدريج ودخلت الأعمال في طور نظام، وانتظمت العلوم الرئيسة لا سيما الآداب والفنون وعلوم النظر والعلوم العملية أي التجارة والصناعة والحرف، ونشا الإخصاء في كل فرع من فروع هذه الطبقات. فالطبيب مضطر إلى تعلم أمور كثيرة، ولا يخصي في تعاطي فرع واحد إلا في المدن، أما في القرى فيمارس كل فرع من فروع الأمراض الباطنية والخارجية. وهكذا الحال في الأعمال التجارية والصناعية فإن كل حرفة أو مهنة تنقسم إلى أقسام. وقد دخل كل علم اليوم في دائرة الإخصاء حتى ما يلزم الطاهي والبائع من المعارف، فأصبح من الضروري بالنظر لتكاثر أعمال البشر، أن يزيد أبداً الإخصاء في كل علم وشأن. وإذا نظرت إلى إخصاء من حيث العلم فإنه دليل الكفاءة وبدونه لا يكون عالم، فإن المبادئ الأولية من جميع العلوم هي ولا شك نافعة لكل الناس، ومتى حاز المرء قسطاً من هذه العلوم ورأى أن يتبحر فيها يجب عليه تعيين الموضوع الذي سينصرف إليه وبدون ذلك يتقدم المرء في عمله تقدماً بطيئاً، ويخلط ويبقى متوسطاً وإلى ضعف. والإخصاء ضروري أيضاً في العلم العملي أي في المعامل والأعمال اليدوية وذلك للسرعة في الإنتاج وبهذا يرى أرباب معامل الإبر والخياطة في لندرا أن في تقسيم الأعمال اقتصاداً كبيراً.

الصحافة العربية:

إذا قسمت الأعمال وأخصى المشتغلون بالعلوم وتوسعوا فيها، فالإخصاء يؤدي ولا جرم إلى الضعف الأدبي، وذلك أن العاملات مثلاً إذا قضين نهارهن في عملهن السهل اللطيف في الظاهر، كأن يتوفرن على إدخال الخيوط في إبرهن فإنهن لا يفقدن شيئاً من حواسهن، ولكن ثبت أنهن يفقدن حاسة النظر في أقرب وقت. أما القوى العقلية والقوى المماثلة لها فإنها تتأذى أيضاً. ومن ينصرفون في العلم المحض إلى الإخصاء ككثير من الرياضيين والمهندسين والفلكيين يعيشون في العالم كأنهم ليسوا منه، ويدهشون من عاصروهم بغرابة أخلاقهم، وتشتت أفكارهم، وبالجملة فيقضي على كل مخصٍ في العلم أو في الصناعة أن يحرز حظاً من المعارف لأول أمره، وأن يخصي في علمين أو ثلاثة، فإذا مارس أحدها أراح غيره اه. الصحافة العربية: نشأت الصحافة، أي نشر صحف الأخبار، بعد انتشار فن الطباعة الحديثة عام 1566م في مدينة البندقية، ولم تلبث أن انتشرت في أوربا، ولكنها لم تُعرف في ديار العرب إلا في سنة 1799م أنشأها في مصر نابليون بونابرت، ولم تصل إلى الشام إلا في أوائل منتصف القرن التاسع عشر، ففي بدء سنة 1851م أنشأ المرسلون الأميركان في بيروت أول مجلة عربية اسمها مجموع فوائد. وللشاميين الفضل الأول في إنشاء الجرائد، جمع جريدة، وهو الاسم الذي وضعه أديب لبناني للتعبير عن أو ثم وضع لغوي لبناني آخر اسم مجلة للتعبير عن أو أطلقه على هذه الرسائل الدورية التي تضم بين صفحاتها مختلف الفوائد في شتى الموضوعات. وما زال للشاميين الفضل الأكبر في إنشاء الجرائد والمجلات. وقد أنشئوا في الآستانة ومصر وتونس وأوربا وأميركا صحفاً عربية كثيرة، وآزروا في صحف كثيرة، كما أنشئوا في الشام صحفاً كانت تعلو وتسفل بحسب مقدرة القائمين بها، ذلك لأن الأمية كانت غالبة، ولم يكن الإقبال على مدارس المرسلين والمدارس الطائفية وهي التي سهلت درس العربية قبل غيرها، هذا الإقبال الذي شوهد من بعد،

وخرج مئات الطلاب الذين كان أقل ما ثقفوه فيها تعلم مبادئ لغتهم ومبادئ اللغات الأجنبية. ولما احتل البريطانيون مصر وزاد الضغط على الصحافة العربية في الشام، هبط مصر كثير من نبهاء الكتاب الشاميين من أرباب الصحف ومن المترجمين وغيرهم، وأنشئوا جرائد ومجلات ومنها إلى اليوم جريدتا الأهرام والمقطم ومجلات المقتطف والهلال وغيرها من الجرائد والمجلات التي نشرها الشاميون وعاشت مدة ثم احتجبت. وكلها أبلت بلاءً حسناً في خدمة الأفكار ونشر الآراء العلمية والتهذيبية والأدبية والدينية. وقد نشرت في الشام وفي مصر بأقلام الشاميين أنفسهم صحف ومجلات كثيرة لم يكتب لها البقاء، وإن كان بعض القائمين بها على حصة موفورة من العلم والأدب، وقضي عليها لقلة القراء، أو لوفاة أصحابها كمجلة الضياء والمنار ولم يأت من يخلفهم في موضوعهم. وأخرى أن المجلات المفيدة لم تجد من الحكومات والجمعيات معاضدة فعلية. ظلت الصحف السياسية والمجلات العلمية مستندة إلى قوى أصحابها فقط، ولو كان في القوم أُناس يحبون حقيقة معاضدة الآداب لألفوا شركات برؤوس أموال كبيرة لإنشاء بضع صحف ومجلات تخدم الخدمة اللازمة، ولا تسف إلى تناول ما يسد بعض عوزها من الحكومات أو من أفراد أو من أرباب المظاهر يعطون المجلات أو الجرائد ما تيسر حتى تسبح بحمدهم وتنشر محامدهم وصورهم فالجرائد والمجلات بذلت الجهد إذاً في نشر الأفكار والتهذيب في الشام على قلة الوسائط، وكان صوتها يسمع أكثر مما سمع لو بذلت الأمة العناية بتعهدها أكثر مما بذلت، نعم كانت خير معلم وأجمل مدرسة للناس، ترشدهم في جميع ما تشتد إليه حاجتهم من المعارف، وتغرس في نفوسهم روحاً وطنياً لا تقوم الأمم بغيره، وتلفن الجمهور على اختلاف نزعاته تربية سياسية صالحة في الجملة لأمة لم تستقر حالتها السياسية. دخل منذ ثمانين سنة كثير من النبهاء في الصحافة، ولكن المتوسطين الذين خاضوا غمارها كانوا أوفر عدداً، فأفسد المتوسطون عمل الذين كان يرجى من أقلامهم رفع مستوى المعارف. ومع كل الضعف الذي تجلت أعراضه في كل أدوار الصحافة الشامية كان منها أن علمت الناس ما لم يكونوا يعلمونه،

علمتهم أن وراء حياتهم المادية حياة معنوية، لا تبقى لهم مادياتهم بدون الأخذ بحظ وافر منها، علمتهم بسائط من التاريخ وحال الأمم وسياسات السياسيين وقوانين المشرعين واستعمار المستعمرين وتدليس المدلسين، وأن أمتهم كانت شيئاً مذكوراً فيما مضى، ولا حياة للأحفاد بدون الأخذ من سيرة الأجداد، والاقتباس من المدنية الحديثة كل ما لا ينزع منهم مشخصاتهم ومقدساتهم، وأصبح بعض العامة ممن أدمنوا تلاوة الصحف وتفهمها، أرقى عقلاً من كثير ممن كانوا يسمونهم بالخاصة منذ مائة أو مائتين من السنين. علمتهم أن لا قيام لأمرهم إلا بالقومية العربية، وأن نغمة الدين وحدها لا تنجيهم مما هم فيه لأن التساهل بأمور الدنيا يذهب بالدين والدنيا معاً. علمتهم أن الغرب لا يريد خيراً للشرق، والشرق شرق والغرب غرب، وأن الأقليات التي كانت تصرفها أوربا بحسب أميالها السياسية لا تعيش إلا بالاندماج في الأكثريات، وتوحيد المقاصد الوطنية، وكل أمة تُحكم برأي السواد الأعظم من أبنائها. علم معظم الناس، إلا أُناساً مأخوذين بتعصبات مذهبية ونعرات طائفية، أن الغرب لتحقيق أغراضه يفادي بكل من يمتون إليه بصلة من صلات القربى المذهبية، وأن الاعتبار عنده للمصلحة كيفما كانت وكان السبيل إلى الحصول عليها، وقاعدتهم كلهم الغاية تبرر الواسطة. ولقد عرفت الحكومات التي استولت على هذه الديار منذ نشأة الصحافة الشامية كيف تستفيد من هذه القوة، فكانت تحتال في أول دور أن تشرّف صاحب الجريدة برتبة لها ووسام، ومن خالف الصدع لأمرها تكسر قلمه وتشرده وتسجنه وتُنزل عليه غضبها، وقد تجلى ذلك في الثلث الأخير من الدور الحميدي، فلما أعلن القانون الأساسي أخذ الأتراك الذين قبضوا بعده على زمام المملكة يتوسعون في هذا المبدأ مبدأ السير بقوة الصحافة إلى الغرض الذي يرمون إليه، فصانعوا بعض أربابها وضحكوا من بعضهم بإكرامهم وإعطائهم مالاً. ولما جاءت الحكومات المنتدبة وهي من أعرف الأمم بتأثير الصحافة في الأفكار لم تقصر في اتخاذ هذه النظرية على طريقة جمعت أيضاً بين الرغبة والرهبة والعطاء والمنع. ولم تخل الشام في كل دور من أُناس باعوا في خدمة صاحب القوة ضمائرهم، شأن كل أمة جديدة في الحياة السياسية، ولكن ظهر ذلك جلياً في صحافتنا لأن الدعاة للقوة ضعاف،

حتى في فهم ما انتدبوا إليه، فكانت تنكشف أعمالهم منذ أول يوم يسبحون بحمد من استهووهم. وبعد فالصحافة العربية في الشام تحتاج إلى أربع أو خمس صحف وبضع مجلات على النمط العالي من نوعها في أمم الحضارة، تصدر في أُمهات حواضر الشام القدس وبيروت ودمشق وحلب وترجع في شؤونها إلى شركات منظمة تدير ماليتها، أو أحزاب سياسية ثابتة تدير حركتها، ويوكل أمرها إلى كفاة ينسجون فيها على أحسن منوال نسجته صحافة أوربا وأميركا، ونحن لا نتطال إلى أن يكون للشام صحافة كصحافة بريطانيا العظمى بوفرة مادتها، وصدق لهجتها لأمتها، وسرعة تناولها الأخبار، وتنويع أساليب التعليم والتفهيم، بل نرجو أن تكون لنا صحافة متناسب مع ماضينا وحاضرنا، بحيث لا تكون الشام أحط من مصر في هذا الشأن على الأقل. الصحافة عنوان ارتقاء الأمة، وليس ما يمنع من إبرازها في قوالب مقبولة لجميع الأذواق، وهذا لا يتم إلا إذا وسدت أعباء الصحافة للعارفين. قلنا في سنة 1328هـ 1910م من مقالة المجلد السادس من مجلة المقتبس: وقد رأينا هذا التهالك على إنشاء الصحف والمجلات حتى كان لنا منها نحو مائة صحيفة في هذا القطر الصغير، نأسف لأكثرها على الورق الذي تطبع فيه والوقت الذي يصرف عليها، وهي خلو من الفوائد اللازمة، ولولا بضع جرائد ومجلات لا بأس بها في الجملة، لقلنا إننا بعد اشتغال ستين سنة في الصحافة لا نزال في حالة ابتدائية، إن للنجاح في الأعمال أسباباً كثيرة، منها ما هو مادي ومنها ما هو معنوي، إذا اختل أحدهما تعذر النهوض بالشق الآخر. وإنشاء الجرائد والمجلات لا يخرج عن هذا المقرر. وهل في الأرض عمل لا يحتاج إلى علم وتجارب ومال واستعداد؟ ولطالما رأينا مصر في الثلاثين سنة الأخيرة، والشام في عهدها الدستوري وغيرهما من الأقطار والأمصار التي يتكلم أهلها بالعربية، تتجرأ على إصدار الصحف بدون حساب ولا روية، وأدركنا العامة أجرأ من الخاصة على اقتحام هذا المركب الصعب، وليس لديهم في الأغلب من وسائط النجاح كبير أمر، فلا يلبث ما ينشئون أن يظهر إلى الوجود حتى يختفي اضطراراً لا اختياراً. وهذا هو السبب في تعدد الجرائد وقصر أعمارها واشمئزاز

الناس منها، إذ توهموها بما تمثل لهم من حال بعض من أقدموا عليها آلة للتكسب والتدجيل لا أداة للوعظ والإرشاد والتعليم. ما رأينا صناعة من الصناعات استسهل الناس أمرها كالصحافة، فلم يعهد معلم في النجارة أو الحدادة أو البناء أو الهندسة يحترف هذه الحرف بدون سابق ممارسة ويتصدر للاعتياش منها وهو لا يعرف من أسرارها سراً، ولكن فن الصحافة في هذه الديار الذي يتوقف النجاح فيه على أسباب كثيرة أهمها العلم والتجربة والمال، قد رأينا أُناساً من الأغمار يدّعونه بدون خشية وأكثرهم لا يعرفون قراءة الجرائد والمجلات دع تأليفها وإصدارها. كان جمهور الناس إلى عهد قريب يشارك الأطباء في طبهم، فترى الكبير والصغير إذا عرض لهما مريض من خاصتهما ومعارفهما لا يتوقفان في وصف علاج يشفيه، مدعين أن ذلك من مجرباتهما أو مجربات أصحابهما، ولما كثر الأطباء واستنارت الأمة بعض الشيء خفت هذه العادة في التعدي على الأطباء في طبهم إلا عند الطبقة الجاهلة. أما الصحافة فيدخل فيها بالفعل أُناس ليسوا منها وليست منهم، ويصفون للأمة أدوية تقيها الأسواء والأرزاء، ويعترضون على العالمين والحاكمين والسلاطين بلا خشية ولا حياء، كأن طب الأرواح ليس أصعب من طب الأشباح، أو كأن الصحافة من العلوم اللدنية لا الكسبية، يتعلمها المرء بالذوق وتوحي إليه إيحاءً. من أجل هذا احتقرت الأمة الصحافة لما رأت من ضعف بعض أدعيائها في أخلاقهم ومعارفهم وقد شانوا اسمها بجمالها، تذرعاً إلى مطمع ينالونه، وصيت بالباطل يحصلونه، ومقام عالٍ ينزلونه. نعم لم نشهد العطار بيطاراً، ولا الإسكاف نجاراً، ولا الحطاب رساماً، ولا الفحام نظاماً، ولا الجوهري حجاماً. ولكن شهدنا الفلاح صحافياً، والمتشدق مؤلفاً، والثرثار محامياً، والمكثار خطيباً. كما نشهد الأغبياء قد يحاولون مجاراةالأذكياء، والفقراء يقلدون الأغنياء. بيد أن سنن الفطرة التي لا تغالب، ونظام هذا الكون البديع الذي قلما اختل، يعاقبان المعتدي على ما لا يعلم بما جنته يداه، كما قيل في الأمثال الإفرنجية كل خطاء يحمل عقوبته فيه. وندر جداً في الناجحين من تيسر لهم الوصول إلى ما وصلوا إليه إلا باتخاذ الذرائع المنجحة، ونسج حلل مجدهم بأيديهم.

رأينا كثيراً ولا سيما في مصر والشام التصقوا بالصحافة وأنفقوا ثرواتهم في سبيلها فلم ينجحوا، ورجعوا بعد العناء الطويل وخسارة المال صفر الأيدي خائبين، لأن مائدة العلم لا يجلس إليها طفيلي، ولأن التمويه إن صعب في عمل فهو في الأعمال العلمية أصعب. . . ولقد شاهدنا عياناً أن معظم الصحف التي كتب لها البقاء في هذين القطرين الشقيقين خاصة هي التي قام بأعبائها أُناس متعلمون تخرجوا في الكتابة وتدربوا في السياسة وتذوقوا لماظة من العلوم التي لا يسع صاحب جريدة ومجلة جهلها. ومعظم من لم يخادنهم التوفيق أخفقوا لأسباب ناشئة من ضعفهم وقلة معارفهم في صناعة يلزمها ما يلزم لكل صانع من الأدوات إن لم نقل إنها تتوقف على أدوات أكثر. ولو كان قومنا يبالغون في انتقاء الرجال للأعمال، لوضع في قانوننا بند يُلزم كل من تصدّر لمعاناة صناعة القلم، أن يمتحن في الفن الذي يخوض عبابه، كما يمتحن المتطببون والصيادلة، فإنشاء الصحف إن لم يكن أحق بالعناية من معرفة الأمراض والعلل والعقاقير، فلا أقل من أن يكون على مستواها، فكم من جاهل قتل نفساً زكية، ومن صحافي جرع قراءه السم الزعاف، على حين ينتظر منه الترياق النافع. هذا ما قلناه ونزيد عليه أن الأخصاء أو الاختصاص العلة الأولى في نجاح الغرب في صحافته يجب أن يكون له في صحفنا المقام المحمود، وفي اليوم الذي أصبحت فيه توسد في مصر أعمال الصحافة إلى أمثال هؤلاء من الحقوقيين والكتاب والسياسيين دخلت مصر في حياة جديدة، وهذا قريب المنال على الشام التي كان لبعض أبنائها خدمة تشكر في تاريخ الآداب والصحافة. ومن أهم مجلاتنا التي تصدر في الشام المشرق مجلة المجمع العلمي العربي المجلة الطبية مجلة المعهد الطبي ومن المجلات المحتجبة الرئيس الطبيب المقتبس الآثار الكلية الحارس الخدر المرأة الجديدة ومن صحفنا اليومية لسان الحال الأحرار القبس ألف باء فتى العرب الرأي العام البلاغ الاستقلال الجوائب فلسطين العهد الجديد البرق الأحوال النهار النضال الكفاح الأيام إلى ما هنالك من جرائد أسبوعية ومنها الجدي والهزلي المصوّر وغير ذلك.

الطباعة والكتب:

وبعد فالواجب على الصحافي قبل كل شيء أن يحسن الكتابة العربية كأحسن منشئيها، وأن يكون قادراً على النقل والاحتذاء من أفكار الغربيين، أي عارفاً بلغة أو لغتين من لغات السياسة والعلم، وأن يكون ممن عانى البحث ملماً بالقوانين الدينية والزمنية وتاريخ الأمة ولا سيما تاريخ هذا القطر عارفاً الاقتصاد والاجتماع وحياة الأمم وتاريخها وثوراتها ونهضاتها ونقاباتها وألوان أحزابها وأوضاعها كل هذه المسائل أقل ما يجب للصحافي المشاركة التامة فيه. أما المباحث المالية والزراعة والتجارة والفنون والأدب والشعر والآثار والتاريخ وغيرها مما يجعل من الصحيفة مدرسة تامة الأدوات لإنارة الأفكار وبث الصحيح منها، فيجب أن يوكل شأنها لأهل الأخصاء من العارفين بها. وبذلك يصح أن يقال إن لنا صحافة راقية، وما دامت الصحيفة الواحدة ينشئها واحد أو اثنان أو ثلاثة على الأكثر، تضطر الصحف إلى ن تكون ناقلة ضعيفة في مادتها وأخبارها وأفكارها وإذا زاد عليها خدمة غرض سياسي لا يحسن صاحبها التصرف فيه، فهناك البلاء الذي يحول دون الرقيّ. الطباعة والكتب: لم يصل إلينا فن الطباعة الحديث أفضل اختراع تم في أوائل النصف الثاني من القرن الخامس عشر للميلاد، إلا في القرن السابع عشر، ومن أوائل الكتب العربية التي طبعت في رومية في القرن الخامس عشر الإنجيل الشريف وقانون ابن سينا، وقام بتأسيس مطبعة في الشوير من لبنان عبد الله زاخر الراهب الماروني سنة 1145 وطبعت هذه المطبعة 34 مؤلفاً خلال ستين سنة وأكثرها ديني وهي مطبعة يدوية على الحجر، وقد طبعت مطبعة الشوير المزامير سنة 1610م، ودخلت الطباعة الآستانة سنة 1135هـ وأول مطبعة أنشئت في بيروت مطبعة القديس جاورجيوس في أواسط القرن الثامن عشر، بل إن فن الطباعة بهذه الحروف المتعارفة لم تثبت قدمه إلا بمجيء الإرساليات والرهبنات الدينية من الغربيين، وإلى اليوم لا تزال المطبعتان العظيمتان في بيروت بل في الشام كله هما لتلك الجمعيات الأميركانية أُسست سنة 1834م واليسوعية 1848م التي كان الغرض الأول منها نشر الكتب المقدسة والدعاية إلى إنجيل المسيح في هذا الشرق

القريب بين أبناء العرب، ثم خدمة التهذيب والثقافة الإنكليزية والفرنسية وبعد ذلك تعليم شيء من العربية. والكتب العلمية الحديثة التي ظهرت في هذه المطابع باللغة العربية شاهد عدل على أنه لا يتأتى نشر المبدأ الذي يريدونه قبل أن يخدموا القطر بلغته. ربما بلغ عدد المطابع في الشام ثمانين مطبعة من أهمها المطبعة الأدبية في بيروت، وقل جداً فيها المطابع التي طبعت الكتب النافعة ولاحظت نفع جمهور الناس قبل منفعتها الخاصة. طبعت قصصاً معربة وأشعاراً ودواوين قديمة وحديثة وكتباً دينية ورسائل علمية في المعارف العامة وقليلاً من كتب العرب التي لا يزال ألوف منها محفوظاً في خزائننا وخزائن الغرب مما يقبل الغريب على طبعه ويجود العناية به من حيث التصحيح والتعليق. ونحن قلما كتب لمطابعنا أن تتأسى بهم وتتعلم منهم. ولولا ألوف من كتبنا طبعت في مصر والآستانة والهند وأوربا لما وجدنا بين أيدينا من تركة السلف الصالح ما فيه الغناء في العلوم والآداب القديمة، ذلك لأن بعض من يرجى منهم خدمة الطباعة بنشر الكتب النافعة لا يجدون من يطبع لهم ما يريدون إحياءه من كتب القدماء، أو ما يؤلفونه هم على النمط الحديث، لأن الطابعين ينظرون إلى أرباحهم أولاً، وأرباحهم موقوفة على كثرة ما ينصرف من مطبوعاتهم، والجمهور بالطبع كما هو في كل بلد لا يقبل على الجد إقباله على الهزل، ولا يقدر أن المنفعة له في الصعب قبل السهل، وأكبر الظن أن كثيراً من أرباب المطابع هم من العامة أو يقربون منهم في الفكر والتعلم. ولقد شاهدنا أُناساً من الغُيُر على العلم طبعوا مصنفاتهم بأنفسهم فافتقروا إذ لم يعرفوا تصريفها، والمؤلف غير التاجر، ثم هم لم يجدوا في الأغنياء والحكومات من يناصرهم ولو بابتياع نسخ معدودة من كتبهم. ورأينا أُناساً طبعوا كتباً سخيفة من تأليفهم فروّجوها هم أو أحبابهم بالتجبية والقحة فدرّت عليه أرباحاً لا يستهان بها. فلا عجب إذا أصبح الطابعون والمصنفون يهتمون لمنافعهم الخاصة ولو كان في الطابعين من يخاطرون بطبع كتب العلم والأدب التي لها قراء مخصوصون لزاد عدد الراغبين في المسائل الجدية أكثر من الآن ولارتفع ميزان العقل أكثر مما ارتفع. نعم لم يطبع كثير من الكتب الخالدة سواء كانت للمعاصرين أو لمن قبلهم في عهد ارتقاء العلم في العرب، وقل أن طبع كتاب بذاك الإتقان الذي تطبع

به الكتب في أرض المدنية اللهم إلا في بضع مطابع لا يهتم أهلها ربحت أم خسرت لأنها لجماعات لا لأفراد. وما عدا عشرات من الكتب التي طبعها في بيروت خاصة علماء المشرقيات أو من أخذوا عنهم طرائقهم في الطبع والنشر. لم يكد يطبع في سائر مدن الشام كتاب يعد نموذجاً في إتقانه ووضعه وتأليفه. وغاية ما نشروه كتب قصص وكتب مدارس ابتدائية أو شعار أُناس تهجموا على التأليف تهجماً، ولما يستعدوا له الاستعداد الكافي، ولم يجوّدوا مصنفاتهم بإنضاجها بالبحث والتنقيب، وإيراد الطريف من المباحث. فالشام مقصر في هذا الشأن من وجوه كثيرة، ولولا مئات من المجلدات خلفها لنا أجدادنا، وما زالت تطبعها مطبعة ليدن في هولندا منذ أكثر من ثلاثة قرون بمعرفة أفاضل علماء المشرقيات في الغرب، ولولا ما طبعته جمعيات المستشرقين في ممالك أوربا وأميركا لفاتنا الوقوف على أمور كثيرة في مدينة العرب وتاريخهم، وإلى اليوم لم تبلغ مصر على كثرة ما يطبع فيها من الكتب، وبعضها بإتقان زائد في الطبع، كمطبوعات المطبعة الأميرية ودار الكتب المصرية ومطبعة جمعية التأليف والترجمة والنشر مبلغ مطبعة ليدن وليبسيك في الإجادة، ولا سيما في الفهارس والشروح والهوامش والأمانة في النقل الذي أصبحوا به قدوتنا وعنهم يجب أخذه. تأملنا ملياً فيما تصدره المطابع من الكتب فرأيناها مصنفات هوائية مؤقتة إلا قليلاً، تخدم فكراً خاصاً ولا يتوقع منها إلا الشهرة على الأغلب لا عموم الفائدة، ومعظم من يعدونهم من المؤلفين هم في الحقيقة مترجمون، ومنهم من لا يجيد الترجمة، وكم من تأليف نظرت فيه فانقبضت نفسك مما في تضاعيفه من ضعف التأليف ورداءة الطبع. ومع هذا كان الناس يؤلفون على عهد النهضة الأدبية الأولى أي في أواخر القرن الماضي أكثر من اليوم، ولقد تسربت روح التفرنج إلى طائفة ممن تلقنوا اللغات الأجنبية، وغدوا لا يهتمون إلا بالأخذ من كتب اللغة التي يحسنونها من لغات الغرب، وفي الغالب تكون الفرنسية أو الإنكليزية وقلما رأينا رجلاً كفوءاً من هؤلاء الذين لا يعتمدون على غير كتب الإفرنج أن نقل، لمن حرموا معرفة اللغات الغربية من بني قومه، موضوعاً نافعاً لهم في اجتماعهم وصناعتهم وتمدنهم، لأن الأثرة زادت بزيادة المدنية.

وقد زاد في رداءة التآليف المطبوعة كون المؤلفين، ومنهم الوسط في علمه وتأليفه، يخافون نقد الناقدين عليها، وكون بعض الصحف والمجلات تصانع في الأكثر هؤلاء الذين وضعوا أنفسهم موضع المؤلفين، وتدهن دهاناً عجيباً لمن كان من أهل دين صاحب الجريدة والمجلة أو على مشربه السياسي!. أو يكون ممن يتوقع منه أن يكتب له ذات يوم مقالة أو يعاونه أدنى معاونة مادية. ولذلك استشرى الفساد وظن كل من طبع شيئاً أنه خدم الأمة خدمة صالحة. والنقد الذي هو من أهم الذرائع في السير نحو الكمال إلى بحابح المدنية مما لا يؤبه له، وربما تعرض صاحبه لمقت هؤلاء الطابعين والمؤلفين. قسم السيد اسعد داغر من يعرضون في سوق الأدب بضاعتهم من ترجمة وتأليف وتصنيف إلى فريقين فريق المحترفين وفريق الهواة، فالمحترفون هم الذين يعملون بالقلم ليتقوا شر المتربة، ويعيشوا من شق تلك القصبة، والهواة هم الذين يشتغلون بالعلم والأدب لأن لهم فيهما حفاوة صحيحة مجردة عن المآرب، ورغبة حقيقية منزهة عن حب الأرباح والمكاسب، ومعظم هؤلاء هواة كانوا أم محترفين يشق عليهم أن تنقد كتبهم ومؤلفاتهم وينظرون إلى الانتقاد والمنتقد بعين الشانئ الكاشح. ليس في كل ما طبعته المطابع الشامية منذ النصف الأول من القرن التاسع عشر، وهو عصر النهضة عندنا، سوى كتب قليلة تستحق العناية وتستوقف القارئ للأخذ منها مثل كتب محمد عابدين، أحمد فارس، فانديك، ورتبات، بوست، بورتر، لامنس، شيخو، مشاقة، إبراهيم اليازجي، إبراهيم الحوراني، طاهر الجزائري، عبد الرحمن الكواكبي، سعيد الشرتوني، جمال الدين القاسمي، رفيق العظم، شبلي شميل، شكيب أرسلان، نجيب الحداد، يعقوب صروف، عيسى المعلوف، إسعاف النشاشيبي، إبراهيم الأحدب، يوسف الأسير، بطرس وسليمان وعبد الله البستاني، أحمد حمدي الخياط، مرشد خاطر، جميل الخاني، شفيق جبري، سليم الجندي، خليل مردم بك، أمين الريحاني، خليل سعادة وأضرابهم ممن أبرزوا تآليف منقحة، وفي بعضها إبداع وإيجاد، وذلك لأنهم هضموا العلوم التي عُرفوا بها، وجاءوا بالجديد، وفيها أفكار علمية أو مدنية أو دينية صحيحة.

الفنون الجميلة

الفنون الجميلة تعريف الفنون الجميلة: الفنون الجميلة أو الصنائع النفيسة، وأسماها بعضهم نواضر الفنون وقيل إن العرب أطلقوا عليها اسم الآداب الرفيعة هي الصنائع التي من شأنها إدخال السرور بجمالها وجلالها على النفوس البشرية، وتربي ملكة الذوق والشعور، وهي سبعة أقسام: الموسيقى، الغناء، التصوير، النقش، البناء، الشعر والفصاحة، الرقص. وأرجعها بعضهم إلى ثلاثة فروع فقط: التصوير والشعر والموسيقى. ولقد كان لهذه الديار حظ كبير من هذه الفنون بقدر ما ساعدتها بقعتها وطاقتها، وربما تم فيها أشياء لم تصلنا أخبارها، أما الدول التي تعاقبت على الشام بعد الإسلام، فإن ما وصلنا من أنباء هذه الفنون فيها قد تعرّض له كاتبوه بالعرض كأن يكون المشتغل بالموسيقى أو التصوير مثلاً ذا مشاركة في فنون أُخرى من أدب وشعر، وطب وفلك، وحديث وفقه، أو أن القوم دوّنوا عامة سير الموسيقيين والمغنين والمصورين والنقاشين مثلاً فضاع ما دونوه في جملة ما ضاع من أخبار حضارتنا. الموسيقى والغناء: نشأت الموسيقى مع البشر ولازمتهم في جميع ما عرف من أدوارهم في حياتهم الخاصة والعامة، وفي مظاهر سلمهم وحربهم، وسعادتهم وشقائهم، وأفراحهم وأتراحهم، وسفرهم وحضرهم، وتعبهم وراحتهم، ودينهم ودنياهم، والمرء من طبعه أن لا يستغني عن رفع صورته، ليطرب نفسه وجليسه، وقلبه

يصبو بالفطرة إلى سماع أوتار تهزه وتطربه. فالموسيقى تجمع الحواس وتنشط لها النفوس، وبها يجسر الجبان، ويعطف اللئيم، ويرّق الكثيف، ويلين القاسي، ويقوى الضعيف، ويكف الظالم، ويعتدل المائل، فهي مدعاة السرور، مجلبة الطرب، مسلاة الحزين، مفرّجة الكروب، مهوّنة الخطوب، عنوان الحياة الداخلية، مظهر الأخلاق القومية، مصورة الانفعالات النفسية، أصدق عامل على التحمس، أقوى دافع إلى النهوض والتحسس، معلمة أنفع الدروس الشريفة مذكرة بالمطالب العالية، فيها يتجلى العقل البشري بإشارات وحركات، تعمل عملها في الأفئدة والوجدانات. ولقد ثبت أن العنصر السامي من أكثر العناصر ولوعاً بالطرب والخيال، وقيل: إن الحثيين من أقدم شعوب الشام كانوا أقل عناية بالموسيقى والغناء من جيرانهم البابليين والآشوريين والآراميين، ومع هذا كان لهم من الغناء ما ابتدعوه بفطرتهم، ومنه ما أخذوه من مجاوريهم. وكان الآراميون مولعين بالغناء والضرب بالإيقاع على آلات لهم يبوّقون بها ويزمرون، ويطرّبون بها فَيطرَبون، وهي بالطبع على حالة ابتدائية على مثال الشعوب التي سبقتهم إلى سبقتهم إلى سكنى هذا القطر. ومثل هذا يقال في الفينيقيين الذين اقتبسوا مدنية الفراعنة، وهم من أصل سامي، فإنهم كانوا يعرفون الموسيقى، ومنها ما نقلوه عن المصريين لتمازج مدنية السلائل المصرية بمدنية فينيقية الصغيرة، وإذ كان للمصريين عناية فائقة في معابدهم بالموسيقى على ما ظهر من تماثيلهم التي مثلت بها الضاربين والمغنين، تعلم جيرانهم أهل فينيقية بعض هذه العناية، ولكن على طريقة الاحتذاء لا إبداع فيها، ويقال ذلك في الكنعانيين والإسرائيليين فقد أُولعوا بها وظهرت آثارها في معابدهم وبيعهم، وأمام أربابهم ومعبوداتهم، وفي حروبهم وغاراتهم وأعيادهم ومآتمهم واجتماعاتهم، على ما فهم من نصوص التوراة. ومزامير داود مشهورة مذكورة، والآلات التي اشتهرت عند الشعوب القديمة وعانت استعمالها، ترجع في الأكثر إلى شبابة وبوق وصنج وطبل ودف. ولقد دلت بعض النقوش التي عثر عليها في وادي موسى وجرش وتدمر أن العمالقة والنبط والعرب لم يكونوا أقل من الشعوب التي سبقتهم إلى نزول هذه الديار ولوعاً بالتلحين والإيقاع والضرب على القيثار والنفخ بالمزمار، وقد

نقل اليونان والرومان إلى هذا القطر موسيقاهم وأُصول غنائهم على الأرجح كما نقلوا أربابهم، واقتبسوا أرباباً مع أربابهم، وإذ طال عهد دولتيهم كثيراً تأصلت موسيقاهم، وثبتت مصطلحاتهم، وربما نقلوا بعض مصطلح الأمة التي حكموا عليها، في غنائها وموسيقاها. ولما انتشرت النصرانية في الشام في القرن الثالث للميلاد عُني منتحلوها بالموسيقى في كنائسهم عناية اليهود بها من قبل في بِيعَهم، وإذ اقتبست النصرانية كثيراً من عادات الروم ومصطلحاتها لم تقصر في اقتباس الموسيقى والتلحين والغناء لثبوت فوائدها الروحية. ولما جلت بعض القبائل العربية إلى الشام يوم سيل العرم وقبله وبعده، حملت معها ما ألفت أن تفزع إليه من اللحون، وتضرب عليه من الآلات، حتى إذا كان الإسلام، وكانت مدنية الفاتحين إلى السذاجة والفطرة، وكان غناؤهم لا يتعدى الحداء والإنشاد يوم الغارة والحَفْل، وفي ظل الخيام والآطام، أخذت موسيقاهم تقتبس من الموسيقى الشامية الرومية كما تقتبس من الموسيقى الفارسية. وقال بعض العارفين: كان اقتباسها من الموسيقى الفارسية فقط. وزعم بعضهم أن أخذها كان من الرومية أكثر. ولا يعقل أن يتأخر العرب في نقل الموسيقى إلى القرن الأول للهجرة واستعدادهم لها كاستعدادهم لغيرها من الفنون، ولهم من فطرتهم ومناخ أرضهم أعظم دافع للولوع بها، وهم المعروفون بحب الارتحال وكانت لهم صلات مع جيرانهم من الأمم الأخرى منذ الزمن الأطول ولم تكن أُمة من الأمم بعد فارس والروم أولع بالملاهي والطرب من العرب. ومع هذا فنحن مضطرون أن نشايع القائلين بأن أول من غنى هذا الغناء العربي بمكة ابن مسجح، نقل غناء الفرس إلى غناء العرب. ثم كثر الموالي من الفرس فكانوا يتعلمون في مكة والمدينة، ومنها ينتقلون إلى الشام والعراق ومصر وغيرها من الأصقاع التي استظلت براية الإسلام. وفي الأغاني أن سعيد ابن مسجح أبو عثمان مولى بني جُمح وقيل إنه مولى بني نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، مكي أسود مغنٍ متقدم، من فحول المغنيين وأكابرهم، هو أول من وضع الغناء منهم، ونقل غناء الفرس إلى غناء العرب، ثم رحل إلى الشام، وأخذ ألحان الروم. وقيل: إن أول من أخرج الغناء العربي جرادة، جارية ابن جدعان وفيه نظر

فإن الغناء معهود من عهد عاد، حتى كان من جملة مغنياتهم الجرادتان اللتان يضرب بهما المثل فيقال غنته الجرادتان. وكان النظر بن الحارث بن كَلَدة أول من ضرب على العود أخذه عن الفرس وعلمه أهل مكة فانتشر في الحجاز وكان يتغنى أيضاً. وفي القصة التي ساقها صاحب الأغاني في الدعوة التي دعي إليها حسان بن ثابت في آل نُبيط وقد أتوا بجاريتين إحداهما رائقة والأخرى عزة فجلستا وأخذتا مزهريهما وضربتا ضرباً عجيباً وغنتا بقول حسان: انظر خليلي بباب جلق هل ... تبصر دون البلقاء من أحد ورواية حسان نفسه أنه كان في الجاهلية مع جبلة بن الأيهم، وقد رأى عنده عشر قيان: خمس يغنين بالرومية بالبرابط الأعواد وخمس يغنين غناء أهل الحيرة، أهداهن إليه إياس بن قبيصة وكان يفد إليه من يغنيه من العرب من مكة وغيرها. في ذلك كله إشارة إلى أن الغناء العربي في الشام أقدم من الإسلام. موسيقى كل أمة ملازمة لها كروحها، وهي مظهر من مظاهر حياتها، فلا يعقل أن تخلو أمة من روح حتى تجئ أمة أُخرى فتقبسها روحها. ولكن الأمة إذا اختلطت بأُخرى، وكان عند الثانية فضل على الأولى في شيء، وفي الثانية طبيعة الاقتباس ومرونة على الاحتذاء والتشبه، قد تحمل الأولى إلى الثانية ما ينمي فيها ذاك الروح فتعدله على أُسلوبها ومناحيها. ولقد زعم بعضهم أن الإسلام لم يُحِلّ الموسيقى محلها اللائق بها، وادعى بعضهم أنه حرمها، فكان الحظر أسهل من الإطلاق في نظرهم، بيد أن الإسلام وهو دين الفطرة لا يخرج عن حد قيود العقل، إلا أنه لا يقول بالإفراط في شيء حتى ولا بالعبادة، لأنه يكون قد دعا إذ ذاك إلى البطالة واللهو، وهما مخالفان للشرع، وبذلك تكون الموسيقى وبالاً على من يأخذ نفسه بها، ومصيبة على من ينصرف إلى سماعها، ولو صح ما قالوا فلماذا رأينا جِلّة من الصحابة والتابعين لحنوا وتغنوا، وسمعوا الألحان وطربوا لها، ولو لم يجزها الشارع الأعظم في أوقات معينة وحوادث وقعت، هل كان يجرأ أحد من أصحابه ومن بعدهم على الجلوس في مجالس الطرب، والدين غض والعهد بصاحبه غير بعيد، قال عبد الله بن قيس: كنت فيمن يلقى عمر مع أبي عبيدة مَقْدَمهُ الشام، فبينما عمر يسير إذ لقيه المقلّسون من أهل أذرعات بالسيوف والرّيحان فقال عمر:

امنعوهم فقال أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين هذه سنتهم، أو كلمة نحوها، وإنك إن منعتهم منها يروا أن في نفسك نقضاً لعهدهم فقال: دعوهم. والتقليس الضرب بالدف والغناء واستقبال الولاة عند قدومهم المصر بأصناف اللهو. وقيل المقلس هو الذي يلبس القالس أو القلنسوة وهي أشبه بقبعات الروم. ولما استقر الملك لأمية في الشام ودخلت الحضارة كان في جملة ما دخل إليه الغناء على صورة لا خنا فيها ولا تبذل، ولقد روى المبرّد أن معاوية استمع على يزيد ذات ليلة فسمع من عنده غناء أعجبه، فلما أصبح قال ليزيد: من كان مُلهيك البارحة فقال له يزيد: ذاك سائب خاثر، قال: إذاً فأخثر له من العطاء. وقالوا: إن معاوية قال لما دخل على ابن جعفر يعوده فوجده مُفيقاً وعنده جارية وفي حجرها عود: ما هذا يا ابن جعفر؟ فقال: هذه جارية أروّيها رقيق الشعر فتزيده حسناً بحسن نغمتها قال: فلتقل، فحركت عودها وغنت وكان معاوية قد خضب. أليس عندك شكر للذي جعلت ... ما ابيض من قادمات الريش كالحمم وجددت منك ما قد كان أخلقه ... ريب الزمان وصرف الدهر والقدم فحرك معاوية رجله فقال له ابن جعفر: لم حركت رجلك يا أمير المؤمنين قال: كل كريم طروب. ورأينا بعض خلفاء بني أُمية في دمشق وأُمراءهم وساداتهم، يضعون ألحاناً ويسمعون الغناء ويولعون بالموسيقى، ويجيزون أربابهم ويواسونهم من غير نكير: ومنهم عمر بن عبد العزيز، وناهيك به من كامل، في جميع الفضائل. فقد دوّنت له صنعة في الغناء أيام إمارته على الحجاز سبعة ألحان يذكر سعاد فيها، وكان أحسن خلق الله صوتاً. قال أبو الفرج: وأما الألحان التي صنعها فهي محكمة لا يقدر على مثلها إلا من طالت دربته بالصنعة وحذق في الغناء. وممن صنع في شعره غناءً يزيد بن عبد الملك الأموي وممن غنى وله أصوات صنعها مشهور وكان يضرب بالعود ويوقع بالطبل ويمشي بالدف على مذهب أهل الحجاز، الوليد بن يزيد. وقد ذكروا أنه كان للخلفاء من بني العباس غناء، ومنهم من كان يضرب بالعود، ومن خلفاء العباسيين السفاح والمنصور والواثق وابن المعتز والمعتضد وكثير غيرهم من أبناء الخلفاء، دع سائر الطبقات من أهل

الرفاهية والسعة، ممن كانوا في كل زمان ينشطون إلى سماع الأغاني، ويبرون الرجال والنساء من أرباب الموسيقى والغناء، ويغالون بابتياع الجواري اللائي حذقن الغناء، وبرعن في الموسيقى وشدون شيئاً من الأدب. وكانت تغلو في العادة قيمة مثل هذه الطبقة من الجواري. والسواذج منهن أي غير المثقفات دون من عُني أولياؤهن بثقافتهن في الرتبة والقيمة مهما بلغ من جمالهن، والموسيقى والشعر في مقدمة ما كان يطلب منهن. وذكر المسعودي أن كثيراً من الجواري اشتهرن بالغناء بالمدينة، وكان يقصدهن بعض الناس من بغداد، وربما وافى الواحدة وجوه أهل المدينة من قريش والأنصار وغيرهما، ومنهن القارئة القوّالة، ولم تكن محبة القوم إذا ذاك لريبة ولا فاحشة. وكان لبعض الموسيقيين والموسيقيات والمغنين من أرباب النباهة والفضل، يد في إصلاح بعض الأحوال وتخفيف النوازل عند العظماء، ولطالما ارتجلوا ألحاناً وأبياتاً ظاهرها طرب وغرام وسلوى، وباطنها وعظ وعبرة وتعريض، ذلك لأن الموسيقى عندهم كانت على الأغلب مرافقة للشعر والأدب، وكم من شاعر تدفقت الحكمة على قلبه، وجاش بها صدره، فهذّب نفساً بل نفوساً بأبيات يقولها. جاء أبو النصر الفارابي الفيلسوف إلى الشام على عهد سيف الدولة بن حمدان فأدهشه ومن عنده من الموسيقيين على إتقانهم لها، وأقام في دمشق ومات فيها، قال ابن أبي أُصيبعة: إن الفارابي المعلم الثاني وصل في علم صناعة الموسيقى وعملها إلى غاياتها، وأتقنها إتقاناً لا مزيد عليه، وإنه صنع آلة غريبة يسمع عنها ألحاناً بديعة، يحرّك بها الانفعالات، ويحكى أن القانون الذي كان يضرب عليه للطرب هو من وضعه، وأنه كان أول من ركّب هذه الآلة تركيبها المعهود اليوم. وقد ذكر المؤرخون من تنافس سيف الدولة بن حمدان مع الوزير المهلبي للاستئثار بمغنية أديبة مشهورة اسمها الجيداءُ ما يدلّ على ولوع القوم بالموسيقى، وكان لجيداءُ في مجالس سيف الدولة من ارتجال الألحان والأدب البارع ما اشتهر أمره، وفي عصره اشتهرت في إنطاكية المغنية المشهورة بنت يُحنا. ولم تبرح الشام تخرج من رجال الموسيقى والغناء رجالاً كانوا بهجة

عصورهم، ومنهم أبو المجد بن أبي الحكم من الحكماء المشهورين من أهل القرن السادس، كان يعرف الموسيقى ويلعب بالعود، ويجيد الإيقاع والغناء والزمر وسائر الآلات، عمل أرغناً وبالغ في إتقانه (1) وحاول أيضاً عمل الأرغن واللعب به أبو زكريا يحيى البياسي من أطباء الناصر صلاح الدين. وكان من البارعين في هذا الفن من العلماء قسطاً بن لوقا البعلبكي وعبد المؤمن بن فاخر ونجم الدين بن المنفاخ المعروف بابن العالمة وفخر الدين الساعاتي. وكان رشيد الدين بن خليفة أعرف زمانه بالموسيقى واللعب بالعود، وأطيبهم صوتاً ونغمة حتى إنه شوهد من تأثير الأنفس عند سماعه مثل ما يحكى عن أبي نصر الفارابي، فكثر إعجاب المعظم به جداً وحَظيَ عنده. ومنهم علم الدين قيصر أخذ الموسيقى عن الفيلسوف كمال الدين بن يونس في الموصل. وكان أحمد بن صدقة طُنبورياً مقدماً حاذقاً حسن الغناء ومحكم الصنعة، وكان ينزل في الشام فاستدعاه المتوكل إلى بغداد وأجزل صلته. وكان خلفاء بني العباس كلما سمعوا بنابغة في هذا الفن حملوه من القاصية وأغدقوا عليه الهبات ذكراً كان أم أُنثى، ولهم في ذلك نوادر إن لم تصحّ كلها ففي بعضها إشارة إلى ما كانوا فيه من حب هذا الفنّ. ومنهم الجمال البستي كان يلعب بالجغانة الأصل الصغانة وهي القيثارة ولي خطابة جامع التوبة بدمشق على عهد الملك الأشرف، فلما توفي تولى موضعه العماد الواسطي الواعظ وكان يتهم باستعمال الشراب، وصاحب دمشق يومئذ الصالح عماد الدين إسماعيل. فكتب إليه عبد الرحيم المعروف بابن زويتينية الرحبي أبياتاً، يعرّض بها الرجلين ويرجو أن يعاد جامع التوبة إلى ما كان عليه محله من قبل، وهو خان للفسق والفجور، لأن حظه حتى بعد أن صار جامعاً أن يتولاه موسيقار، وشرّيب عقار، فقال:

يا مليكاً أوضح الحقّ ... لدينا وأبانَهْ جامع التوبة قد ... قلّدني منه أمانهْ قال قل للملك الصا ... لح أعلى الله شانه يا عماد الدين يا من ... حمد الناس زمانه كم إلى كم أنا في ضّرٍ ... وبؤسٍ وإهانه لي خطيب واسطي ... بعشق الشرب ديانه والذي قد كان من قب ... لُ يغني بجغانه فكما نحن فما زل ... نا ولا أبرح حانه ردّني للنمط الأو ... ل واستبقِِ ضمانه وكان محمد بن علي الدهان المتوفى سنة 731 شاعراً موسيقياً ملحناً قانونياً دهاناً، وكان الكمال القانوني من المشهورين في عصره بقانونه، وصفه عبد الرحمن بن المسجف 635 الدمشقي فقال: لو كنت عينت الكمال وجسّه ... أوتار قانون له في المجلس لرأيت مفتاح السرور بكفه ال ... يسرى وفي اليمنى حياة الأنفس وذكر ابن حجر في أخبار سنة 779 أن دنيا بنت الاقباعي المغنية الدمشقية اشتهرت بالتقدم في صناعتها، فاستدعاها الناصر حسن على البريد إلى مصر فأكرمها، ثم وفدت على الأشرف فحظيت عنده، وهي كانت من أعظم الأسباب في إسقاط مكس المغاني، سألت السلطان في ذلك فأجابها إليهن واستمر إبطاله في الدولة. واشتهرت في القرن الثامن بدمشق فرحة بنت المخايلة المغنية كما اشتهرت المغنية المعروفة بالحضرمية وهي التي كانت مع عرب آل مِرا يوم وافوا دمشق لحرب التتر في زهاء أربعة آلاف فارس، فكانت تغنيهم من الهودج سافرة وكانوا يرقصون بتراقص المهاري وتقول: وكنا حسبنا كل بيضاء شحمة ... ليلي لاقينا جُذاماً وحميرا لما لقينا عصبة تغلبية ... يقودون جُرداً للمنية ضمّرا

لما قرعنا النبع بالنبع بعضه ... ببعض أبت عيدانه أن تَكسرا لقيناهم كأسا سقونا بمثله ... ولكنهم كانوا على الموت أصبرا ومنذ الزمن الأطول إلى أيامنا ما خلت الشام من عوادة وطنبورية وكراعة وربابية وصناجة ورقاصة وزفانة. ولم يخل عصر بعد زهو الشام على عهد الأمويين والعباسيين ومن بعدهم من المماليك وغيرهم من مبرزين في الغناء والموسيقى. واشتهر في دمشق بضرب القانون وكان أستاذاً فيه أحمد التلعفري 813 كان كاتب المنسوب. ومن النابهين ابن القاطر الدمشقي من أهل القرن الحادي عشر كانت له شهرة عند أرباب هذا الفن فإذا حضروا معه مجلساً عظّموه وتراخوا في العمل حتى يشير إليهم، ذكر ذلك المحبي وترجم له ولرجب بن علوان الحموي وقال: إن هذا كان يعرف الموسيقى على اختلاف أنواعها وهو أعرف من أدركه وسمع به، وله أغان صنعها على طريقة أساتذة هذا الفن. ومنهم برسلوم الحلبي رئيس أطباء الدولة العثمانية ونديم السلطان محمد بن إبراهيم كان حسن الصوت عارفاً بالموسيقى. واشتهرت أُسرة بني فرفور في القرنين الماضيين بدمشق بالشعر والآداب وقد أخرجت رجلين من أبنائها عارفين بالموسيقى وهما جمال الدين وعبد الرحمن. وفي تراجم أهل الغناء الذي كتبه الكنجي المتوفى سنة 1150هـ ترجمة ستة وعشرين مغنياً من معاصريه في دمشق وفيهم المؤذن والمنشد في الأذكار والمغني على الآلات الموسيقية، مما يدل على الإقبال على الموسيقى حتى في أعصر الظلمات فإذا كانوا في عصره على هذا القدر في دمشق فقط فكم كان في حلب وغيرها من المدن، وحلب مشهورة من القديم بغرام أبنائها بالموسيقى منذ عهد سيف الدولة بن حمدان، دع الموسيقيات والمغنيات ممن غفل المؤرخون عن ذكرهم أمثال علوة محبوبة البحتري في حلب التي ذكرها كثيراً في شعره الخالد. ومن الموسيقيين من كانوا يمارسون الموسيقى للتكسب وهم المحترفون، ومنهم من كان يخدم هذا الفن المهم حباً به وهم الهواة، ومن هؤلاء طبقة من الرجال والنساء لا يستهان بها ولكنها كانت ولا زالت متكتمة، ومنهم من تستعمل من الموسيقى أو تسمع منها ما لا يعبث بوقارها إن كانت من أرباب

المظاهر الدينية أو الدنيوية مخافة أن ترمى بما يثلم الشرف، لأن بعض الفقهاء شددوا على الغناء والموسيقى، وكان بعضهم يعد ساقطاً من العدالة كل من يغني بأجرة من الموسيقيين والمغنين، ويتسامحون مع من يغني في جماعة من أصحابه، ويعون الغناء فناً يفقر صاحبه، وجاء في الأمة مثل شيخ الإسلام عبد العزيز ابن عبد السلام 660 وكان على نسكه وورعه يحضر السماع ويرقص ويتواجد والناس تقول في المثل ما أنت إلا من العوام ولو كنت ابن عبد السلام. وصناعة الغناء كما قال ابن خلدون: آخر ما يحصل في العمران من الصنائع لأنها كمالية، وأول ما ينقطع من العمران عند اختلاله وتراجعه. ولقد أدركنا وأدرك أجدادنا أن الشام كلها كانت لا تخلو معظم طبقاتها من موسيقيين، وكل مجلس من مجالسهم أو سهرة من سهراتهم، أو نزهة من نزهاتهم، كانت تضم أُناساً أتقنوا هذا الفن حتى صار لهم ملكة، فكان السرور يملأ القصور والدور، والموسيقى والإنشاد من الأمور المألوفة لا يستغني عنها بحال، أما في القرى والبوادي فكان لهم الغناء والحداء، وضرب الرباب والقيثارة والمزمار والدف والكوبة، أي أن لهم ما يطرب آذانهم وترتاح إليه أرواحهم وتسهل معاناته وممارسته، ومن مشاهير الموسيقيين في النصف الأول من القرن الماضي محمد السؤالاتي الدمشقي أخذ عنه أرباب الموسيقى في عصره من المصريين والشاميين ذكره في سفينة الملك. ومن أهل المظاهر الذين عُرفوا بالموسيقى في أوائل هذا القرن الشيخ أبو الهدى الصيادي من حلب وعبد الرزاق البيطار من دمشق وكانا من أساتذة هذا الفن الجليل، ومنهم من عُنوا بالموسيقى فبرزوا فيها من أبناء هذه الديار مثل محمود الكحال. أحمد السفرجلاني. عمر الجراح. عبد القادر الحفني. محيي الدين كرد علي. سامي الشوا. رحمون الحلبي. توفيق الصباغ. علي الدرويش. باسيل الحجار. محمد الشاويش. نجيب زين الدين. مصطفى سليمان بك. شفيق شبيب. محمد علي الأسطه. رضا الجوخدار. مصطفى الصواف حمدي ملص. رجب خلقي. يوسف الزركلي. محمد الأنصاري. محمد محمود الأتاسي. ميشيل الله ويردي. مدحت الشربجي. اليكسي بطرس. اليان نعمة. إسكندر معلوف. بولس صلبان. نصوح الكيلاني. تحسين يوقلمه جي. عباد الحلو. طلعت شيخ الأرض. حسن التغلبي. جميل البربير. أحمد التنير. أمين

النقيب. محي الدين بعيون. وديع صبرا. عزت الصلاح. قسطندي الخوري. أحمد الشيخ. محمد الجراح. إبراهيم شامية. فريد الأطرش. وغيرهم ممن جعلوا الموسيقى حرفة أو للتسلية في خلواتهم ومنهم من كانوا صلة بين الموسيقى القديمة والموسيقى الجديدة. ومن المنشدات المطربات فريدة مخيش. رمزية جمعة. خيرية السقا. نادرة. فيروز. أسمهان الأطرش. ماري جبران. ماري عكاوي. لور دكاش. ولقد أنبغت بيروت وحلب كثيرين من المغنين والغالب أن في هاتين المدينتين خاصية حسن الصوت. سألت صديقنا الشيخ كامل الغزي من أساتذة حلب عن المغنين والموسيقيين في بلده فكتب لي رسالة قال فيها: إن حلب لا تخلو في أكثر أوقاتها من الشداة والمترنمين الذي يعدون بالمئات ويعرف عند الحلبيين من يأخذ على غنائه أجرة باسم ابن الفن، ومن رجال أواسط القرن الماضي مصطفى يشبك، فتح نادياً لممارسة الفنون الموسيقية دعاه بقاعة بيت مشمشان، كان يختلف إليه في أوقات معينة كثير من المولعين بالموسيقى ليتلقوها عن أستاذها. وما زال الحلبيون يضربون المثل بالمكان الذي تتوفر فيه دواعي الطرب فيقولون: ولا قاعة بيت مشمشان. ومن رجال أواسط القرن الماضي عبد الله البويضاتي ومن رجال القرن الماضي وأوائل القرن الحالي مجمد بن عبده. إسماعيل السيخ. جبرا الأكشر. آجق باش. طاهر النقش. محمد الوراق. الدرويش صالح قصير الذيل. محمد غزال. باسيل حجار. أحمد سالم. بن عقيل. وممن أخذ عن هذا بعض فصول الرقص المعروف بالسماح السيد أحمد أبو خليل القباني الممثل الموسيقار الدمشقي والسيد عبده الحمولي المطرب المصري وهما من المشاهير. ومن تلامذته امرأة قنصل إيطاليا في حلب كانت تقول إن السيد أحمد بن عقيل يقل نظيره في هذا الفن حتى في أوربا قال: ومن الأحياء في حلب عبده بن محمد عبده وشرف الدين المعري ومن قينات القرن الماضي وأوائل القرن الحالي الحاجة عائشة المسلمينية. وقال: إن العود المعروف بالبرط لم يكن معروفاً في حلب في القرن الماضي حتى جاء حلب سنة 1293 هـ رجل من أهل دمشق اسمه سعيد الشامي فأخذ

التصوير:

الناس عنه. ومن العازفين على الكمنجة أوائل هذا القرن شعيا الكمنجاتي وإسحاق عدس ونيقولاكي الحجار. ومن الأحياء سامي الشوا ووالده أنطوان موسيقار أيضاً. والعازفون بالناي المعروف عند العرب بالبراعة كان نابغة فيه أوائل القرن عبده زرزور وكل من في حلب اليوم خريجوه وتلاميذه اه. ومن الموسيقيين الحلبيين أيضاً عبد الكريم بلّة وحبيب العبديني وأحمد مكانس وعمر البطش ومصطفى طمرق توفوا في أوائل هذا القرن. ولقد بدأت الموسيقى التركية تنازع الموسيقى العربية في أواخر القرن الماضي لأنها خُدمت أكثر من موسيقانا، ثم جاءت الموسيقى الإفرنجية، فأصبحت الموسيقى الشامية مزيجاً لا يقام له وزن، لم يحتفظ بالقديم وهو من روحه وعاداته ولم يحسن اقتباس الجديد لأنه ليس من مصطلحه. ولا يفوتنا القول إن الموسيقى في العصور المتأخرة كان لها في أذكار بعض أرباب الطرق الصوفية مقام رفيع. ومنهم من أتبعها بالصنوج والأوتار، ومنهم من شفعها برقص، وقد قام منهم مبرزون في صنعتهم، وماتت شهرتهم، يوم سمنت نأمتهم، والموسيقى في الكنائس على اختلاف الطوائف المسيحية وتباين العصور، ما زالت شائعة معتبرة وكم من موسيقار عندهم تقلبت به الحال حتى رقي بفضله إلى أرقى درجات الكهنوت. التصوير: أخذ الحثيون التصوير على الأغلب كما أخذوا النقش والبناء عن جيرانهم من البابليين والأشوريين، وربما أخذوا عن المصريين أيضاً، لكنهم لم يجودوه كل الإجادة على ما رأينا من تصاويرهم المكتشفة، وخالفنا رأي بعض المشتغلين بآثارهم المعجبين بمدنيتهم، فإن الآثار التي اكتشفت للحثيين في جرابلس تدل على مبلغ تلك الأمة من الإتقان في النقش والتصوير. وقد قال لنا الأستاذ هروزني التشكي وهو أخصائي بآثار الحثيين: إن عادياتهم مما يعجب منه، ولا تقلّ بجمالها عن بقية آثار الأمم الأخرى، وكذلك فعل الكنعانيون والفينيقيون والإسرائيليون، أخذوا عن آشور وبابل ومصر هذا الفن، ولم يعرف أنه كان لهم طرز خاص في التصوير، وكانوا على ما ظهر دون من اقتبسوا عنهم. أما

التدمريين فأجادوا في تصويرهم وكانوا ينقشون على القبور صور من دفن فيها من الرجال والنساء، مثل أهل جنوة في إيطاليا في العصور الأخيرة، ومنها صورة جاريتيت رآهما أوس بن ثعلبة التيمي في القرن الأول وقال فيهما أبياته المشهورة: فتاتي أهل تدمر خبراني ... ألمّا تسأما طول المقام قيامكما على غير الحشايا ... على جبل أصم من الرخام وفي دار الآثار بدمشق مجموعة تماثيل من قبور تدمر كأنها تنطق، ومنها صورة فتاة مزينة الرأس يستدل منها على صورة تصفيف الشعور في ذاك العصر. وكيف كانت أزياء نساء تدمر وبهرجة رؤوسهن وأقراطهن وعصباتهن، وفيما ظهر مؤخراً في مدينة تدمر من تماثيل صاحبتها زينب ووصيفاتها وفي غير ذلك من الشخوص دليل على تبريز التدمريين في هذا الشأن. أما التصوير عند الروم واليونان في الشام فإن منه نموذجات تأخذ بمجامع القلوب قال الثعالبي: لم يبدع التصوير إبداع الروم والرومان أحد من الأمم، فقد كان لهم إغراب في خرط التماثيل وإبداع في عمل النقوش والتصوير، حتى إن مصورهم يصور الإنسان ولا يغادر شيئاً إلا الروح، ثم لا يرضى بذلك حتى يصوره ضاحكاً، ثم لا يرضى بذلك حتى يفصل بين ضحك الشامت، وضحك الخجل، وبين المبتسم والمستغرب، وبين ضحك المسرور وضحك الهازئ، فيركب صورة في صورة، وصورة في صورة. والمصانع الشامية من العهد الروماني هي ذات أشكال معتادة في تلك الأعصر لها نقش ظاهر خاص بها من النقوش النباتية الكبيرة المنقولة عن نباتات القطر ولا سيما في فلسطين على عهد الملوك والقضاة ومنها ما يستعمل فيه صور الطيور. قال دوسو: إن في الكتابات التي وجدت في الصفا صورة فرسان مسلحين برماح طويلة على مثال بدو هذه الأيام، وأحياناً تمثلهم وهم يطاردون غزالاً أو وعلاً أو يصطادون أسداً، ومنهم الفرسان يحملون الرماح والمشاة مسلحون بالقوس والنشاب. ولقد غصت فلسطين على عهد الإمبراطور قسطنطين بالمصانع التي تذكر بالحوادث الخطيرة التي وردت في الإنجيل وقد زينت هذه المصانع بالفصوص التي تمثل هذه المشاهد.

جاء الإسلام للقضاء على الوثنية وعبادة الأصنام، فحاذر المسلمون إذا أجازوا الرسم المجسم أن يكون في عملهم مدرجة للعرب إلى الرجوع إلى عبادة الأصنام، فجعلوا في التجويز بعض القيود الخفيفة، ولما ذهبت تلك الخشية أخذت مسألة التصوير تنحل شيئاً فشيئاً ويُعمد إلى ما فيه مصلحة منه. ذكر المقريزي أن الرسول عليه السلام أقر نقود العرب في الجاهلية التي كانت ترد إليهم من المماليك الأخرى والدنانير قيصرية من قبل الروم مصورة وأن عمر ضرب الدراهم على نقش الكسروية وشكلها وبأعيانها وضرب معاوية دنانير عليها تمثال متقلداً سيفاً. ورأينا زيد بن خالد الصحابي استعمل الستر الذي فيه صور ولم ينكر الناس عمله. قال صديقنا السيد محمد رشيد رضا في المنار: ومن الآثار في حكم التصوير وصنع الصور والتماثيل اتخاذ أحد أعاظم أئمة التابعين القاسم بن محمد ابن أبي بكر رض الحجلة التي فيها تصاوير القندس والعنقاء، وهو ربيب عمته عائشة الصديقة وأعلم الناس بحديثها وفقهها، ومنها استعمال يسار بن نمير مولى عمر بن الخطاب رض وخازنه الصور في داره، ومنها صنع الصور في دار مروان بن الحكم وسعيد بن العاص وكل منهما وَليَ إمارة المدينة وكانا من التابعين قال: وعمل مروان يدل على أن التصوير كان مستعملاً في عصر الصحابة، فمن عرض مسألة التصوير واتخاذ الصور على هذه القواعد الشرعية علم منها أن دين الفطرة الذي قرن كتابه ووصف بالحكمة، ورفع منه الحرج والعسر عن الأمة، لم يكن ليحرم صناعة نافعة في كثير من العلوم والأعمال ويحتاج إليها في حفظ الأمن وفنون القتال، وإنما يجرم ما فيه مفسدة أو ما كان ذريعة إلى مفسدة اه. ويعجبني ما كتبه أُستاذنا الإمام الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية في وصف رحلته إلى صقلية عام 1322هـ 1894م في مجلة المنار وقد ذكر تنافس الغربيين في حفظ الصور المرسومة على الورق والنسيج فقال: إذا كنت تدري السبب في حفظ سلفك للشعر وضبطه في دواوين والمبالغة في تحريره خصوصاً شعر الجاهلية، وما عُني الأوائل رحمهم الله بجمعه وترتيبه، أمكنك أن تعرف السبب في محافظة القوم على هذه المطبوعات من الرسوم والتماثيل، فإن الرسم

ضرب من الشعر يُرى ولا يُسمع، والشعر ضرب من الرسم الذي يُسمع ولا يُرى. إن هذه الرسوم والتماثيل قد حفظت من أحوال الأشخاص في الشؤون المختلفة، ومن أحوال الجماعات في المواقع المتنوعة، ما تستحق به أن تسمى ديوان الهيئات والأحوال البشرية. يصورون الإنسان أو الحيوان في حال الفرح والرضى، والطمأنينة والتسليم، وهذه المعاني المرجة في هذه الألفاظ، متقاربة لا يسهل عليك تمييز بعضها من بعض، ولكنك تنظر في رسوم مختلفة فتجد الفرق ظاهراً باهراً، يصورونه مثلاً في حالة الجزع والفزع والخوف والخشية. والجزع والفزع مختلفان في المعنى، ولم أجمعهما هنا طمعاً في جمع عينين في سطر واحد، بل لأنهما مختلفان حقيقة، ولكنك ربما تعصر ذهنك لتحديد الفرق بينهما وبين الخوف والخشية، ولا يسهل عليك أن تعرف متى يكون الفزع ومتى يكون الجزع، وما الهيأة التي يكون عليها الشخص في هذه الحال أو تلك. أما إذا نظرت إلى الرسم وهو ذلك الشعر الساكت فإنك تجد الحقيقة بارزة لك تمتع بها نفسك، كما يتلذذ بالنظر فيها حسك. قال: ربما تعرض لك مسألة عند قراءة هذا الكلام، وهي ما حُكم هذه الصور في الشريعة الإسلامية، إذا كان القصد منها ما ذكر من تصوير هيئات البشر في انفعالاتهم النفسية وأوضاعهم الجثمانية، هل هذا حرام أو جائز أو مكروه أو مندوب أو واجب؟ فأقول لك: إن الرسم قد رسم، والفائدة محققة لا نزاع فيها، ومعنى العبادة وتعظيم التمثال أو الصور قد محي من الأذهان، فإما أن تفهم الحكم من نفسك بعد ظهور الواقعة، وإما أن ترفع سؤالاً إلى المفتي فهو يجيبك مشافهة، فإذا أوردت عليه حديث إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون أو ما في معناه مما ورد في الصحيح، فالذي يغلب على ظني أنه سيقول لك إن الحديث جاء في أيام الوثنية، وكانت الصور تتخذ في ذلك العهد لسببينك الأول اللهو والثاني التبرك بمثال من ترسم صورته من الصالحين، والأول مما يبغضه الدين والثاني مما جاء الإسلام لمحوه، والمصور في الحالين شاغل عن الله أو ممهد للإشراك به، فإذا زال هذان العارضان وقصدت الفائدة، كان تصوير الأشخاص بمنزلة تصوير النبات والشجر في المصنوعات، وقد صنع ذلك في حواشي المصاحف وأوائل السور، ولم يمنعه أحد من العلماء مع أن الفائدة

في نقش المصحف موضع النزاع، أما فائدة الصور فمما لا نزاع فيه على الوجه الذي ذكر. . . وبالجملة فانه يغلب على ظني أن الشريعة الإسلامية أبعد من أن تحرم وسيلة من أفضل وسائل العلم، بعد تحقيق أنه لا خطر فيها على الدين لا من جهة العقيدة ولا من جهة العمل اه. لما جاء الفاتحون إلى الشام كانت في تصويرها عالة على الروم والفرس وبقيت على ذلك مدة قليلة لأن التصوير لم يكن يعرف أنه كان في متفرق أقطار جزيرة العرب اللهم إلا في اليمن، برع فيه أهلها براعة أثبتتها الآثار والمصانع، وكانت الأثواب اليمانية المزركشة المبرقشة المصورة مما يحمل إلى الحجاز وسائر أرجاء الجزيرة وما إليها منذ عهد الجاهلية، وأول ما عرف التصوير في الشام على عهد المسلمي كان في زمن الوليد باني الجامع الأموي بدمشق والمسجد الأقصى في القدس وغيرهما، وما نظن أن جميع من صوروا له ما أراد من الحيوان والنبات والشجر والمدن والأصقاع كانوا من أصول عربية بل كان فيهم الفرس والروم الذين دخلوا في خدمة الدولة العربية، ومنهم من بعثت به مملكة بيزنطية ليساعدوا الخليفة على عمله النافع، وقد وجد الأثري موسيل التشكي في قصير عمرة على سبعين كيلو متراً من قصر المشتى في البلقاء كتابات ونقوشاً تشير إلى فتح الأندلس في أيام الوليد وفيه من النقوش الزاهية والتصاوير العجيبة ما يأخذ بالأبصار. قال صاحبنا شيخو: وفي هذه القصور من الآثار الهندسية ومن التصاوير ومن تمثيل أحوال البادية كالصيد والغزوات والمآدب والمصانع ما أذهل العلماء لوجوده في البراري. ويقول ريسون: إن العرب قد نهجوا في الفنون الجميلة نهج البيزنطيين، ولم يخالفوهم إلا بعد تجسيم الحيوان، ولكنهم استعاضوا عنه بالنقش النباتي من تشبك أوراق وأقواس باهرة وفصفصة زاهرة وآكام ومعاهد ساحرة. وفي التاريخ العام أن الإسلام حظر تمثيل الصور الآدمية ولكن هذا الحظر لم يمنع الخلفاء من أن يكون في قصورهم صور وتماثيل. ومع هذا لم يخلف العرب في النقش ولا في الرسم آثاراً خارقة للعادة، وما بقي من آثارهم وعادياتهم الحجرية وأنواطهم المنقوشة، وعاجهم ومجوهراتهم، يشهد باستعدادهم الفني، فإنهم نقلوا عن غيرهم في هذا الشأن أولاً ثم أخذوا يمرنون أنفسهم على حسن

الهندسة بالنقل عما عثروا عليه بادئ بدء ولا سيما عن الآثار البيزنطية، فكانوا يخشون أول أمرهم ثم أخذوا يجرأون فيعدلون ما يريدون احتذاءه بل يخترعون ويبدعون، فظهر لهم علم جديد مستق على غير مثال، قال: ولا نعلم هل كان للعرب قبل الإسلام طرز من البناء الخاص بهم، لأنه لم يبق من الزم السابق للإسلام سوى خرائب مبعثرة، ومن الهجرة إلى القرن العاشر كان عهد الطرز اليوناني العربي، وعلى مثاله جاء بناء المسجد الأقصى في القدس، والجامع الأموي في دمشق، والجامع الأعظم في قرطبة، والتأثيرات اليونانية ظاهرة فيها اه. وبعد أن ترجم العرب كتب الفنون والصناعات عن الروم والفرس والقبط والسريان والهند، منذ أول النصف الثاني من القرن الأول، أخذوا يزينون كتبهم ببعض الصور، يصورونها لتمثيل المسائل العلمية للأبصار، ولا سيما كتب النبات والبيطرة والحيوان والجراحة والهندسة والفلك والجغرافيا وبعض كتب الأدب والمحاضرات والمقامات، فاستعملوها بحسب الحاجة وأجادوا بالنسبة لعصورهم، على ما ثبت ذلك بشهادة المحفوظ من مخطوطات العرب في متاحف الشرق والغرب، وأكثر من أثر عنهم التصوير والإجادة فيه وصنع التماثيل ووضعها في قصورهم خلفاء بني أمية في الأندلس، ومن جاء بعدهم من الملوك، والصور - كما قال ابن أبي أُصيبعة - إنما جعلت لارتياح القلوب إليها واشتياق النظر إلى رؤيتها، والصبيان يلازمون بيوت الصور للتأديب بسبب الصور التي فيها، وكذلك نقشت اليهود هياكلها، وصورت النصارى كنائسها وبيعها، وزوق المسلمون مساجدهم. نعم زوّق المسلمون مساجدهم، وكانوا أوائل الإسلام يكتفون بالصلاة مساجد أشبه بالأرض القفراء، ويفضلون السجود على الحصا ويعدون فرشها بالبواري بدعة، وذلك لئلا تشتغل العين بشيء يبعد النفس من الخشوع لبارئها، ثم أخذوا يتأنقون في مساجدهم، ويفرشونها بالطنافس والزرابيّ، ويصورون حيطانها، وينقشون فيها آيات ثم مشجرات وأماكن جميلة، ومعظم ما انتهى إلينا أو بلغنا خبره في العصور العشرة الأخيرة في الشام تصوير المسائل العلمية، والأمصار والشجار، والسفن تمخر في البحار، ثم تصوير الحيوان والإنسان ولكن على قلة.

لا جرم أن التصوير في هذه الديار كان ضعيفاً بعض الشيء لأن مسألته كان فيها نظر عند بعض الفقهاء الذين جمدوا على ما فهموه من الشريعة، والتصوير عارض على الملة غير مغروس في فطرتها، ولكن المسلمين تطوروا بطور الأمصار التي نزلوها. ولم يتوقف ملوكهم وأمراؤهم على فتاوى الفقهاء لإقامة المعالم واقتباس الحضارة، فقد ذكر ابن بطريق أن بطريق الروم في قنسرين طلب إلى أبي عبيدة ابن الجراح الموادعة على نفسه سنةً حتى يلحق الناس بهرقل الملك، ومن أقام فيها فهو في ذمة وصلح، فأجابه أبو عبيدة إلى ذلك، فسأله البطريق وضع عمود بين الروم والمسلمين، وصوّر الروم في ذلك العمود صورة هرقل جالساً في ملكه فرضي أبو عبيدة، ومرّ بالصورة أحد العرب، ووضع زج رمحه في عين تلك الصورة ففقأ عين التمثال عن غير قصد، فأقبل البطريق وقال لأبي عبيدة: غدرتمونا يا معشر المسلمين، ونقضتم الصلح، وقطعتم الهدنة فقال أبو عبيدة: فمن نقضه؟ فقال البطريق: الذي فقأ عين ملكنا. فقال أبو عبيدة: فما تريدون؟ فقال: لا نرضى حتى نفقأ عين ملككم. فقال أبو عبيدة: صوروا بدل صورتكم هذه صورتي ثم اصنعوا بي ما أحببتم وما بدا لكم، فقال: لا نرضى إلا بصورة ملككم الأكبر فأجابهم أبو عبيدة إلى ذلك فصورت الروم تمثال عمر بن الخطاب في عمود، وأقبل رجل منهم ففقأ عين الصورة برمحه فقال البطريق: قد أنصفتمونا. وذكر المقريزي أن خماريويه بن أحمد بن طولون أمير مصر والشام المتوفى سنة 282هـ عمل في داره في القاهرة مجلساً برواقه سماه بيت الذهب، طلى حيطانه كلها بالذهب المجال باللازورد، المعمول في أحسن نقش وأظرف تفصيل، وجعل فيه على مقدار قامة ونصف صوراُ في حيطانه بارزة من خشب معمولة على صورته وصورة حظاياه، والمغنيات اللاتي يغنينه بأحسن تصوير وأبهج تزويق، وجعل على رؤوسهن الأكاليل من الذهب الخالص الإبريز الرزين والكراذن المرصعة بأصناف الجواهر، وفي آذانها الأخراص الثقال الوزن، المحكمة الصنعة، وهي مسمّرة في الحيطان ولُونت أجسامها بأصناف أشباه الثياب من الأصباغ العجيبة. فكان هذا البيت من أعجب مباني الدنيا.

كانت هذه القاعة المصورة في القرن الثالث. وظهر في عصر الأيوبيين والمماليك مصورون شاميون أبدعوا في التصوير على الجدران وعلى الكتب، ومنها ما كان إلى القرن السابع في دير باعنتل قرب حمص، كان فيه على رواية ياقوت عجائب منها آزج بيت مستطيل أبواب فيها صور الأنبياء محفورة منقوشة فيها، وصورة مريم في حائط منتصبة، كلما ملت إلى ناحية كانت عينها إليك. ومنها ما كان في هيكل دير مران في سفح قاسيون بدمشق من صورة عجيبة دقيقة المعاني. وذكر ابن جبير أنه كان في كنيسة مريم بدمشق في القرن السادس من التصاوير أمر عجيب، وكان مثل ذلك في كنيسة القيامة وغيرها من كنائس فلسطين. كان اليازوري من وزراء الفاطميين يفضل كثيراً على المصورين الشرقيين وكانوا من المسلمين. وقد جعل الظاهر بيبرس رنكه أي أشعاره الأسد، وجعل دراهمه على صورته، وجعل أقوش الأفرم رنكه في غاية الظرف وهو دائرة بيضاء يشقها شطب أخضر كأنه مسن عليه سيف أحمر يمر من البياض الفوقاني إلى البياض التحتاني وقال فيه نجم الدين هاشم البعلبكي. سيوف سقاها من دماء عداته ... وأقسم عن ورد الرّدى لا يردها وأبرزها في أبيض مثل كفه ... على أخضر مثل المسنّ يحدها قالوا: وقد كان الخواطئ ينقشن رنكه على معاصمهن وفي أماكن مستورة من أجسامهن. ومن أجمل ما أبقت الأيام وإن لم يتم لها إلى الآن قرنان، الصورة الباقية في دار أسعد باشا العظم في حماة من أبدع ما حوت من النقوش العجيبة وغيرها، وهي صورة رسمت على قطعتين من الخشب جعلتا في حائط القاعة الكبرى ونقشت عليهما صورة حماة في ذلك العهد بجوامعها ومدارسها، ونواعيرها وقصورها، ظهر منها أن حماة كانت أعمر مما هي عليه الآن عرفنا ذلك بفضل التصوير. أخذت العرب نقوش الفسيفساء عن الروم وبالغت فيها ولا يزال إلى اليوم قطع في الدور وغيرها، وأهمها ما لا يزال في كنيسة مادبا في البلقاء من مصوّر فلسطين ونهر الأردن يشقها من وسطها والأسماك تعوم فيه، والمدن التي كانت

عامرة لعهد واضعها، ولا يزال القسم الأعظم منها بحاله لم يصب بأذى الأيام. وآثار الفسيفساء كثيرة مبعثرة في دور مادبا لم تزل على بريقها، وفي دار سليم الصناع في مادبا بركة ماء معمولة بالفسيفساء الملونة أيضاً تخال ما فيها ماء حقيقياً وعلى جوانبها الثلاثة الباقية رسوم بالفسيفساء تمثل الحيوانات والطيور البرية والداجنة، تسرح في جنينة زاهرة والطيور المائية واقفة في وسط الماء على آنية تشبه الزهرية، وفي كل زاوية من زواياها صورة إنسان تخالف الأخرى. وفي هذه البليدة عدة قاعات فرشت أرضها بالفسيفساء يطلق الماء عليها لتغسل كما يُغسل بلاط القاعات وأفنية الدور. قال في مسالك الأمصار: والفسيفساء مصنوع من زجاج يذهب ثم يطبق عليه زجاج رقيق ومن هذا النوع المسحور المسجور وأما الملون فمعجون وقد عمل منه في هذا الزمان 740 - 750 شيء كثير برسم الجامع الأموي وحُصل منه عدة صناديق وفسدت في الحريق الواقع سنة أربعين وسبعمائة وعمل منه قِبَل للجامع التنكزي ما على جهة المحراب، غير أنه لا يجيء تماماً مثل المعمول القديم في صفاء اللون وبهجة المنظر، والفرق بين الجديد والقديم أن القديم قطعه متناسقة على مقدار واحد والجديد قطعه مختلفة وبهذا يعرف الجديد والقديم اه. ووصف ابن فضل الله هذا يمكن أن يستنتج منه أن الفسيفساء كانت تعمل في الشام، وأن هذه الصناعة اللطيفة وإن اختصت بها القسطنطينية قد نقلت إلى الشام وجود عملها. وكان الوليد بن عبد الملك يحمل الفسيفساء على البريد من القسطنطينية إلى دمشق حتى صفح بها حيطان المسجد الجامع ومكة والمدينة. وكانت الفسيفساء في الجامع الأموي قبل حريقه الأول في القرن الرابع ملونة مذهبة تحوي صور أشجار وأمصار وكتابات، على غاية الحسن والدقة ولطافة الصنعة، وقلّ شجرة أو بلد مذكور إلا وقد مثل على تلك الحيطان قاله المقدسي وقال غيره: إنه مثلث في صور الجامع صفات البلاد والقرى وما فيهما من العجائب وأن الكعبة المشرفة صوّرت فوق المحراب كما قال فيه بعض المحدثين: إذا تفكرت في الفصوص وما ... فيها تيقنت حذق واضعها أشجارها لا تزال مثمرة ... لا ترهب الريح في مدافعها كأنها من زمردٍ غرست ... في أرض تبرٍ يُغشى بفاقعها

فيها ثمار تخالها ينعت ... وليس يخشى فساد يانعها تقطف باللحظ لا بجارحة ال ... أيدي ولا تجتني لبائعها وتحتها من رخامه قطع ... لا قطع الله كف قاطعها أحكم ترخيمها المرخم قد ... بان عليها إحكام صانعها قال صديقنا أحمد تيمور في رسالته التصوير عند العرب بعد كلامه على محاسن الجامع الأموي وما فيه من التصاوير: ولا نعلم إن كانت هذه الصور من عمل العرب فتدخل فيما قصدناه، أو من عمل صناع الروم الذين استعان بهم الوليد بن عبد الملك عند بناء المسجد وقد علل المقدسي زخرف الجامع الأموي فقال: قلت يوماً لعمي: يا عم لَمْ يحسن الوليد حيث أنفق أموال المسلمين على جامع دمشق، ولو صرف ذلك في عمارة الطرق والمصانع ورمّ الحصون، لكان أصوب وأفضل، قال: لا تغفل بُنيّ، إن الوليد وفق وكشف له عن أمر جليل، وذلك أنه رأى الشام بلاد نصارى، ورأى لهم فيها بيعاً حسنة قد افتن زخارفها وانتشر ذكرها كالقمامة وبيعة لدّ والرّها فاتخذ للمسلمين مسجداً شغلهم به عنهن، وجعله أحد عجائب الدنيا، ألا ترى أن عبد الملك لما رأى عظم قبة القمامة وهيأتها خشي أن تعظم في قلوب المسلمين فنصب على الصخرة قبة على ما ترى 1هـ. ولذلك حرص المسلمون في كل دور على السير على قدم الوليد في الاحتفاظ بنقوش الجامع وتحاسينه وتزايينه وتزاويقه، ومما أبقته الأيام من نقوش الفسيفساء أو الفصوص حيطان قبة الظاهر بيبرس في دمشق، فإنها الأثر الباقي من هذه الصناعة في هذا الصقع، بعد أن دثرت فسيفساء الجامع بما تعاقب عليه من الحريق في أدوار كثيرة ولم يبق منها إلا ما كشف مؤخراً في الحلئط الغربي من صور الأشجار وغيرها. ومن القصور المصورة الجدران دار الملك رضوان بحلب وفيها يقول الرشيد النابلسي من قصيدة يمدحه بها سنة 589 ويذكر ما على جدران الدار من الصور: دارٌ حكت دارينَ في طيب ولا ... عطرٌ بساحتها ولا عطار رفعت سماء عمادها فكأنها ... قطبٌ على فلك السعود يدار وزهت رياض نقوشها فبنفسج ... غضٌ ووردٌ يانعٌ وبهار

نَوْر من الأصباغ مبتهج ولا ... نورٌ وأزهارٌ ولا أزهار ومنها: صور ترى ليث العرين تجاهه ... فيها ولا يخشى سطاه صوار وفوارساً شبت لظى حرب وما ... دعيت نزَالِ ولم يُشَنّ مغار وموسدين على أسرّة ملكهم ... سكراً ولا خمر ولا خمار هذا يعانق عوده طرباً وذا ... أبداً يقبّل ثغره المزمار ثم لما تزوّج بضيفة خاتون ابنة عمه العادل واسكنها في هذه الدار وقعت نار عقب العرس فاحترقت واحترق جميع ما فيها، فجددها وسماها دار الشخوص لكثرة ما كان من زخارفها. ومن القصور المصورة القصر الأبلق الذي بناه الظاهر بيبرس في مرجة دمشق أوائل النصف الثاني من القرن السابع، وعلى أنقاضه بنيت التكية السليمانية، وكان على واجهته مائة أسد منزّلة صورها بأسود في أبيض، وعلى الشمالية اثنا عشر أسداً منزلة صورها بأبيض في أسود، وهذه الصور أجمل من صور الأسود والنمورة وغيرها من الحيوانات التي كانت في قلعة حلب، ومن الحمامات المصورة حمام سيف الدين بدمشق عثر أحمد تيمور على قصيدة في ديوان عمر ابن مسعود الحلبي الشهير بالمحّار في وصف هذا الحمام جاء فيها: وخطّ فيها كل شخص إذا ... لاحظته تحسبه ينطق ومثل الأشجار في لونها ... ولينها لو أنها تورق أطيارها من فوق أغصانها ... بودها تنطق أو تزعق وهيئة الملك وسلطانه ... وجيشه من حوله يحدق هذا بسيف وله عبسة ... وذا بقوس وبه يعلق ومن التصوير على النسيج على ما ذكره البدري من تصوير الأبيض القطني المصوّر لأحياء القصور وأموات القبور وكان يصنع في دمشق. ومن التصوير في الكتب ما ذكره أبو الفداء في حوادث سنة 642 في ترجمة المظفر صاحب حماة قال: استخدم الشيخ علم الدين قيصر المعروف بتعاسيف وكان مهندساً

فاضلاً في العلوم الرياضية فعمل له كرة من الخشب مدهونة، ورسم فيها جميع الكواكب المرصودة. وذكر ابن قاضي شهبة أن علي بن محمد بن صالح الرسام عالم صفد المتوفى سنة 749 هـ كان في أول أمره يرسم القماش وقال: إن عنده كتاباً في علم الفلك صورت فيه جميع الأبراج والنجوم بليقتي الكتاب أي بالأحمر والأسود تحت كل صورة أرجوزة بتعريفها. قال القاضي جمال الدين ابن واصل: وساعدت الشيخ علم الدين على عملها وكان المظفر يحضر ونحن نرسمها ويسألنا عن مواضع دقيقة منها. وقد اطلع مؤلف كتاب نهر الذهب على مخطوط في وصف شجرة الإفادة التي كانت في الجامع الأموي بحلب وتعد من الذخائر النفيسة العلمية قال: إنها كانت عظيمة الرواء مصنوعة من حجر ونحاس وحديد ذات خطوط وجداول في أصول العلوم الرياضية شبيهة بشجرة ذات جذع وأغصان وأوراق عظيمة في كل ورقة منها أصل من أصول تلك العلوم. وكان الطلبة يقدمون حلب من القاصية للاشتغال بالعلوم الرياضية المرسومة في هذه الشجرة. واسم غارس شجرة الإفادة خليل بن أحمد غرس الدين على ما في در الحبب. ويدخل في باب النقش والصنائع الغريبة ما رواه المقدسي في حوادث سنة 990 يوم عُمل ختان ابن درويش باشا والي دمشق، فإنهم صنعوا شيئاً يسمى النقل بجامع المصلى وبجامع ايلخان خارج محلة القراونة وبجامع التوبة، وهو يشتمل على أربع عشرة قلعة من الورق المحشو بالبارود وأربع عشرة فرساً وأربعة عشر عفريتاً كذلك، وعلى صور طيور ووحوش وكلاب وغي ذلك، وعل قصر عظيم من الشمع الملون المشتمل على صورة أنواع الفواكه والبقول والأزهار والأطيار وغيرها كل ذلك من الشموع المصبغة والتذهيب والتفضيض، وكان ارتفاعه على علو الجملون الذي بجامع المصلى بحيث لم يتأت نقله منه وإخراجه إلا بعد فك الجملون المذكور، وهدم قوس أحد أبواب الجامع المذكور وهدم مواضع متعددة في طريقه إلى دار السعادة، وهدم الحائط الشرقي من باب دار السعادة أيضاً حتى أُدخل، وكان لهذا النقل يوم مشهود خرج للفرجة عليه جميع أهل دمشق رجالاً ونساء لم يتخلف أحد. ثم في اليوم الثاني منه نقل النقل الذي صنع بجامع محلة القراونة وبجامع التوبة وهو يشتمل على قصرين عظيمين من

الشمع أيضاً أحدهما أطول من القصر المقدم بنحو أربع أذرع والآخر دونه مشتملين عل ما تقدم وعلى صور أنواع الحيوانات من السكر من الخيل والجمال والفيلة والسباع والطيور وغيرها، كل ذلك من السكر المعقود وعلى النقول والملبسات بالسكر أيضاً. وكان رشيد الدين بن الصوري يستصحب مصوراً ومعه الأصباغ والليق على اختلافها وتنوعها، فكان يتوجه إلى المواضع التي بها النبات مثل جبل لبنان وغيره من المواضع التي قد اختص كل منها بشيء من النبات، فيشاهد النبات ويحققه ويُريه للمصور فيعتبر لونه ومقدار ورقه وأغصانه وأصوله، ويصور بحسبها ويجتهد في محاكاتها. ثم إنه سلك في تصوير النبات مسلكاً مفيداً، وذلك أنه كان يُري النبات للمصور في إبان نباته وطراوته فيصوره، ثم يريه إياه أيضاً وقت كماله وظهور بزره فيصوره تلو ذلك، ثم يريه إياه أيضاً في وقت ذواه ويبسه فيصوره، ومن ذلك نستدل أنه كان في القطر أكثر من مصور في ذاك العصر، وأن ذلك التصوير بالأصباغ كان مألوفاً، وقد بلغ من حذق المصورين أن يصوروا النبات على أنحاء شتى، أما عنايتهم بالنبات نفسه فمسألة ينظر فيها علماء النبات يستخرجون منها ما يريدون، وهذا كان في الثلث الأول من القرن السابع للهجرة أي في القرن الثالث عشر للميلاد. ولا شك أن كل هذه البدائع كانت من صنع صُنُع الأيدي من الشاميين، فمن المصورين على الخزف ومن المصورين على الخشب ومن المصورين على النسيج ومن المصورين على النحاس والحديد، فمن المصورين على الخزف الغيبي قال تيمور: إن له قطعاً بدار الآثار العربية بمصر، عثروا عليها بأطلال الفسطاط وقد كتب عليها اسمه فكتب على بعضها الغيبي فقط وعلى بعضها الغيبي الشامي وإن في دار الآثار العربية أيضاً لوحاً من القاشاني لمحمد الدمشقي عليه صورة مكة المكرمة والكعبة المعظمة صورها سنة 1139هـ وكتب عليها اسمه. وبعد فهذا القليل الذي قرأناه واستأنسنا به يدل على ذوق وإبداع، وإن مشاركة الأمة في هذا الفن كانت على حصة موفورة. وفي هذا العصر نبغ في الشام مصورون لا بأس بهم أخذوا عن إيطاليا وفرنسا وغيرهما وكادوا يجارون

النقش:

مصوري الغرب بإبداعهم، ومنهم من يصور بالأصباغ، ومنها بدونها أي بالسواد، ومنهم من يصور التماثيل من المرمر والرخام والصفر، ومنهم من ينقش فيبدع على الخشب والنحاس، ومن المصورين باليد توفيق طارق، علي رضا معين، نديم بخاش، مصطفى الحمصاني، مصطفى فروخ، عبد الحميد عبد ربه، عبد الوهاب أبو السعود، بشارة السمرة، داود القريم، حبيب سرور، خليل صليبي، سليم عورا، جبران خليل جبران، خليل الغريب، نقولا الصائغ. النقش: ويصح أن يعد في باب التصوير نقش البيوت والتماثيل فإن المعروف أنه كان للشام حظ منه، ولم نر للنقش على الحجر براعة وإبداعاً عند الأمم القديمة بقدر ما رأينا عند اليونان والرومان، فإن النقوش التي عثر عليها في شمالي الشام من أصل حثي مثل الأسود التي كانوا يرسمونها على أبواب مصانعهم وجدرانها وأبي الهول المجنح برأس إنسان أو ثور وهو من نقوش الآشوريين، والنقوش التي عثر عليها في الجنوب من أصل سامي كالكنعانيين والإسرائيليين وما عثر عليه في الساحل من نقوش الفينيقيين وأربابهم ومعظمها منقولة عن المصريين الفراعنة كل هذه النقوش ليست من جمال الوضع وحسن الذوق بحيث يرتاح إليها النظر مثل نقوش الرومان واليونان، ومثال منها الناووس الذي عثر عليه في صيدا من القرن الرابع للميلاد وجعل في دار الآثار في الآستانة وهو يمثل نساء باكيات تمثيلاً كأنك تراهن. أين جمال نقوش بعلبك من نقوش جبيل، أين نقش الناووس البديع المنسوب للإسكندر المقدوني أو لأحد قواده، وهو مما كان عثر عليه في صيدا أيضاً وحفظ في دار الآثار بالآستانة، من نقوش قبر أحيرام الذي عثر عليه في جبيل وجعل في دار الآثار في بيروت، أو قبر حيرام الذي عثر عليه قرب صور ونقل إلى متحف اللوفر في باريز سنة 1860م. آثار تدمر وتماثيلها تنم عن ذوق وفضل صناعة أكثر من أرباب الفينيقيين والحثيين، والغالب أن تماثيل الشبه كانت تعمل في قبرس والروم وتحمل إلى تدمر لتزين بها رحباتها وساحاتها، وصناعات جرش ومادبا أجمل من نقوش

السهول في حوران والصفا. كأن للإقليم وللعنصر الذي ينزله دخلاً كبيراً في إجادة النقش والتصوير. ومعظم العناصر التي نزلت الشام منذ عهد التاريخ من العناصر السامية، والساميون كما قال بعض علماء الإفرنج ما زالوا ينفرون من الرسم والنقش والتصوير. ولا غضاضة إذ قلنا إن الآريين أفرطوا في الاشتغال بالرسم والنقش إفراطاً شوهدت آثاره في أمم أوربا التي خلفتهم، فكل شيء إذا لم يرسم الآن عندهم لا يفهم ولا يدرك، فأضعفوا بذلك قوة التخيل وقووا الباصرة. ومما سيتدل به على أن التماثيل قبل الإسلام كانت تعمل وتنقش في الشام وأن العرب نقلوا عنها في جزيرتهم ما رواه ابن الكلبي من أنه كان لقضاعة ولخم وجذام وعاملة وغطفان صنم في مشارف الشام يقال له الأقيصر كانوا يحجونه ويحلقون رؤوسهم عنده. وقال ربيعة بن صُبغ الفزاري: وإنني والذي نغم الأنام له ... حول الأقيصر تسبيح وتهليل قال: ووجد عمرو بن لحي أهل البلقاء يعبدون الأصنام فقال: ما هذه؟ فقالوا نستسقي بها المطر، ونستنصر بها على العدو، فسألهم أن يعطوه منها فغفلوا، فقدم بها مكة ونصبها حول الكعبة. ولا شك أن هذه الأصنام تعد من الصناعات الشامية. ولم يخل عصر في الشام من نقاشين أبدعوا النقش على الحجر والنقش بالأصباغ على الجدران وعلى الخشب يتناقلون ذلك خلفاً عن سلف، والنقش بالجبس على الجدران، ومنها مقرنصات جميلة ذات تعاريش وكتابات حفظت في مدفن أحد الوزراء من القرون الوسطى في صالحية دمشق أمام دار الحديث الأشرفية البرانية وبينهما الطريق وتسمى هذه المدرسة التكريتية. وفي بعض الدور القديمة الباقية من القرن العاشر وبعده في حلب ودمشق كثير من القاعات تدل على ذوق. وفي در الحبب أن أبا بكر بن أحمد النقاش الجلومي الحلبي خدم أساتذة النقاشين من الأعاجم واستفاد منهم ومهر في نقوش البيوت وكتابات الطرازات على طريقة القاطع والمقطوع، وفي نقوشه ما كان لكفّال حلب وغيرهم من الرماح والسروج بالمذهب والازورد مع معرفة طريقة حله وصنعة التركاش وضعاً ونقشاً وصنعة اللوح الذي يكتب فيه وصنائع أخرى تتم عشرين صنعة. ولا يعقل أن يعمل

ذلك مثل هذا المفنن ولا يكون حواليه عشرات من المتعلمين والعاملين. ومن النقوش الكثيرة التي بقيت محفوظة على بعض مصانع الشهباء نقوش باب إنطاكية وباب النصر وعلى هذا قطعة من إفريز تمثل كرمة معرشة يركض إلى جانبها أرنب. ومن أجمل آثار قلعتها المحراب المنقوش على الخشب من عمل نور الدين زنكي والجزء الثاني الذي أنشأه الظاهر غازي يدل على صورة الهندسة المألوفة في عصر الأمويين: مثلث قائم الزوايا تعلوه قبة بين حنايا واسعة. ومن المنابر العجيبة الصنع ما عمله نور الدين محمود بن زنكي في حلب برسم المسجد الأقصى عمله حميد بن ظافر الحلبي وسليمان بن معالي من خشب مرصع بالعاج والآبنوس وعليه تاريخ سنة 564هـ وقد وضعه صلاح الدين في محله عند فتح القدس وقد عمل في حلب أيضاً محراب الجامع الكبير بحماة صنعه ذاك الفنان الحلبي. ومن أجمل المنابر منبر الحرم في الخليل من صناعة الفاطميين ومنبر جامع الحنابلة بدمشق من الخشب. ومن المحاريب محراب جامع الحلاوية بحلب من الخشب ومحراب الأقصى من الرخام. ومن المحاريب الجميلة محراب جامع الفردوس بحلب الذي أنشأته ضيفة خاتون وهو من عمل حسان بن عنان. وجامع الظاهر غازي في قلعة حلب الذي بناه سنة 610 فيه أجمل ضروب الهندسة من النقوش المعروفة في المصانع الجميلة. ومن أهم الآثار العربية تابوت من الخشب وضع على قبر السيدة سكينة بنت الحسين في مقبرة باب الصغير بدمشق عمله أحمد بن محمد بن عبد الله سنة 560هـ وقد نقش بخطوط كوفية وجعل داخل الحروف نقوش وحروف صغيرة أخرى بالكوفية أيضاً. وتابوت ومحراب ومنبر جامع خالد بن الوليد بحمص من أجمل الآثار العربية. وكذلك تابوت مدفن أبي الفداء صاحب حماة. ومن الآثار العربية ما نقش بالحروف الكوفية على تابوت من الحجر دفنت تحته السيدة فاطمة الصغرى بنت الحسين من القرن الربع. ومن التوابيت المهمة تابوت سيدي صهيب في حي الميدان بدمشق من القرن السادس ومنها تابوت بخت خاتون المعروفة عند العوام بالسيدة حفيظة في طريق عين الكرش المؤدي إلى حي الأكراد بدمشق. وذكر القزويني سوق المزوقين في حلب وقال: إن فيه آلات عجيبة مزوقة، وذكر ابن جبير أن أكثر حوانيت حلب خزائن من الخشب البديع الصنعة قد

اتصل السماط خزانة واحدة وتخللتها شرف خشبية بديعة النقش. وقد عُرف الحلبيون من القديم بحسن الذوق في هذه الصناعة كما عُرفوا بحسن الذوق في الخطوط العربية المنوعة الأشكال، وكلها نقوش معرشة تأخذ بمجامع الأبصار، وتعد في باب النقش، وقد كان عدد الخطاطين الذين أنبغتهم حلب على اختلاف العصور أكثر من غيرها من مدن الشام. ذكر الغزي أن النقاشين في حلب أصناف منهم من ينقش على الحجر وهم نوابغ البنائين وفي المباني القديمة كثير من النقوش الحجرية تشهد ببراعة البنائين الحلبيين في القرون الماضية وتدل دلالة واضحة على نبوغهم بصنعة النقش، من ذلك صورتا وجهي أسدين في حجرين مرصوفين في جانبي أحد أبواب قلعة حلب لا يفرق الناظر إليهما في أول وهلة بي ملامحهما، فإذا أمعن النظر فيهما تبين له أن وجه أحدهما يضحك ووجه الآخر يبكي مما دل على براعة النقاش. وقال: إن من النقاشين من يعاني النقش على المعادن كالذهب والفضة والنحاس، ومنهم من ينقشون المنازل ويعرفون بالمدهنين ينقشون صور أشخاص وأزهار وطيور وأشجار، وإن هذه الصنعة انحطت في حلب أواخر القرن الماضي حتى سافر جماعة من أهلها إلى أميركا وتلقوا هذه الحرفة من أربابها وعادوا فنشروها بين الناس. ومن أشهر النقاشين يوسف سعد الله الحويّك، ومن الحفارين والنقاشين يوسف الزغبي وبشارة عيسى الزغبي وهذا حفر صورة آل رومانوف في قطعة صدف من أنفس التحف. واشتهر في دمشق وحلب وبيروت خطاطون كثيرون في العهد الأخير ومنهم أمين زهدي. مصطفى السباعي. مراد الشطي. مصطفى القباني. محمد علي الحكيم نجيب هواويني. حسين البغجاتي. ممدوح الشريف. سليم الحنفي. محمد علي الخطيب. زكي المولوي. حنا علاّم. يوسف علاّم. نسيب مكارم. مشكين قلم. محمد يحيى. صادق الطرزي. موسى الشلبي. وكان فن الخط إلى عهد بعيد صناعة يتنافس بها، وكثير من البارعين فيها كانت مدار معاشهم ينسخون الكتب وغيرها فلما جاءت الطباعة ثم الآلات الطابعة بطل التنافس بالخط العربي الجميل وقلّ الراغبون فيه.

البناء:

البناء: قالوا إن علم المباني فن من الفنون الجميلة بل هو أحسنها، إذا قارنا بينه وبين الموسيقى نجد أن كليهما مطرب للإنسان فالأول مكوّن من نغمات غير متنافرة منتظمة الأوقات، والثاني مكوّن من تراكيب وأوضاع غير متنافرة الأجزاء، يظهر الأول مذببات العدد والأوتار يحملها الهواء إلى الآذان فيطرب بها الإنسان، ويظهر الثاني الظلّ والضوء والألوان فتراها العين في أتم ما يكون موضوعة بنسب محفوظة ما بين مزخرف وبسيط تظهر عليها المتانة والراحة فتشتاق إليها النفس، فكلا الفنين جميل غي أن الأول تذهب محاسنه في الهواء وبعد ذهابها لا يشعر بها، وتبقى محاسن الثاني ما دام لها ظل. مواد البناء الحجر والتراب والخشب والحديد قد توجد كلها في قطر ولا يوجد إلا بعضها في آخر، فمصانع بابل تداعت لأن معوّل البانين كان على الآجر لا الحجر، ومصانع الشام بقيت لأن الحجر فيه كثير مبذول، وإن كان أقدم ما عُرف من آثارنا يُرد إلى زهاء ألفي سنة، وأقدم ما عُرف في بابل وآشور ونينوى من الآجر المكتوب يرجع إلى أربعة آلاف سنة. وما عمل عندنا من الخشب والتراب دثر بعد مدة ليست بطويلة من عهد بانيه. ولقد ظهر أن الشام في القديم لم يكن له طراز خاص بالبناء. وكان بناؤه بحسب روح الدولة التي تحكم فيه والأمة التي تتغلب عليه: مصرياً أيام الفراعنة، آشورياً على عهد الآشوريين، بابلياً في أيام بابل، فارسياً في دور فارس، رومياً في دولة الروم، رومانياً في عهد الرومان. ولم يكن للحثيين والإسرائيليين هندسة خاصة، بل كان الحثيون يقتبسون عن جيرانهم الآشوريين أصول بنائهم، وليس مما اكتشف منه حتى الآن ما هو خارق للعادة في أشكاله ووضعه بل هو محرف عن الطراز الآشوري تحريفاً كثيراً، وما اكتشف من الصور النصفية وغيرها من عهد الحثيين لا ينم عن ذوق وإبداع على الأكثر. ومصانع الحثيين في الجملة مقتبسة من مصانع الآشوريين والبابليين اقتباساً رديئاً لا يخلو من جفاء وسذاجة على ما قال الباحثون. وسار الإسرائيليون في صنع مصانعهم على تقليد الآشوريين والمصريين وقلدوا المصريين في الأكثر لقرب فلسطين من مصر، ولاستيلاء المصريين زمناً على فلسطين. وكذلك فعل الفينيقيون والكنعانيون.

وعلى عهد الإسكندر دخل الشام طرز جديد في البناء أي أصول الهندسة اليونانية. غصت جبال الشام بالمغاور الطبيعية والصناعية، ومنها ما كان لسكنى أهلها قبل أن عرف التاريخ، ومنها ما جعلوه قبوراً لموتاهم في الأمم التي عرف بعضها التاريخ، وقد ثبت بهذه المغاور أن الشاميين استعملوا منذ الزمن الأطول آلات من المعادن لقطع الحجر ونحته. ولا يمكن تحديد العصر الحجري في الشام، ويمكن أن يردّ العصر المعدني إلى ثلاثة آلاف سنة قبل المسيح. وفي غربي الأردن آثار كثيرة من ذلك، وكلها ذات صلة بعبادات الأقدمين. واحترام الأحجار المقدسة كان قديماً منتشراً في جميع أرجاء الشام. ومن المغاور مغاور عدلون بين صيدا وصور ومغاور نهر إبراهيم في لبنان، ومغاور بيروت وجبيل وأنطلياس، ومن مصانع فلسطين الصهاريج ومعاصر الزيت والخمر. وبناء الفينيقيين من هذا النوع أجمل من بناء العبرانيين. وقد اقتبس العبرانيون في أصول مبانيهم مباني الفينيقيين، وهؤلاء أخذوا على ما يظهر من المصريين، وقد قيل: إن بنائين فينيقيين هندسوا معبدي داود وسليمان. ويقول سنيوبوس: إن القدس كانت بالنسبة لبابل وثيبة عاصمة أقاليم فقيرة، وما كان العبرانيون يتعاطون البناء ويميلون إلى العمران، بل كانت ديانتهم تحظر عليهم إقامة المعابد، ولم يكن في القدس إلا قصر سليمان وهو أول معبد عبراني. وأخذت الشام أصول الهندسة اليونانية وتناغت بها قبل أن يفتحها الإسكندر. ولم يبق من الآثار اليونانية على كثرتها في الشام بقدر ما بقي من الآثار الرومانية. فإن الرومان أنشئوا مدناً برمتها خططوها على أصولهم. وكان من هذه المدن ما بني على نفقة أباطرة رومية. ومعلوم أن الرومان تفننوا في البناء وخلفوا في كل مكان امتد سلطانهم عليه آثار الهندسة من طرق وقنوات وأسوار ومسارح وملاعب وحمامات، مما شهد لهم باتساع الفكر ومعرفة الهندسة والمتانة في العمل وجما الأسلوب. لا جرم أن علاقة الشام بإيطاليا أقدم من الإسلام، علاقتها بأرضنا مذ كنا ولاية رومانية تحكمنا رومية عاصمة تلك الأمة العظيمة. وأخذ النصارى في بناء كنائسهم عن فارس والشرق، ثم اقتبس منهم الرومان أصولهم في البيع، وما لبثت الصناعات الفارسية والبيزنطية أن اختلطت

ونشأ منها صناعة جديدة هي الصناعة العربية. وأجمل هذه الصناعات على ما قال هوار الجوامع والقصور، والتقليد محسوس ولكنه تقليد غير أعمى، لأن تأثيرات الأساتذة الأقدمين لا تمنع من البحث العلمي والاختراع الحديث، كما أن مشهد البدائع القديمة ودرسها لا يحولان دون التفنن ولطافة الإبداع والاختراع. قال: وفي الشرق نشأت هذه المدنية وكانت دمشق إحدى مراكزها. وقال جلابرت: ومن المصانع المنوعة في الهندسة الشامية شيئان يلفتان النظر خاصة وهما البيع والأبنية ذات السطوح. وكان المهندسون الشاميون فيها عالةً على الشرق يسترشدون بآراء مهندسي فارس. وقد أثرت الهندسة الشامية إذ ذاك في هندسة كثير من الأمم ولا سيما في بيزنطية، وأخذت بيزنطية عن الشام أو من طريق مصر عن الشام، أصول كثيرة من الأبنية، وقال لامنس: إن الهندسة والتصوير والنقش وفنون الزينة أخذت تسير في طريق مستقلة عن النموذجات اليونانية والرومانية التي كانت منذ عهد السلوقيين مؤثرة في جميع الصنائع النفيسة، وانشأ المهندس الشامي يرفض استعمال الملاط بين الأحجار ويكتفي بحسن وضعها على صورة متوازية تقوى بها بدون لحمة بين أجزائها، واستعاض عن الآجرّ المألوف على عهد الرومان واليونان بالحجر النحيت، وبنى الكنائس ذات القباب فكثرت البيع البديعة التي يعجب الأثريون بخرائبها العظيمة اليوم وعنها أخذ بناة الكنائس الرومانية اه. كان أساتذة العرب في البناء لأول أمرهم أُناساً من الروم، فكان بين أبنيتهم الأولى وأبنية النصارى وجه شبه، فقد بني المسجد الأقصى على مثال كنيسة القبر المقدس، ونقل استعمال القباب من الشرق إلى الغرب، ولم تكن معروفة إلا في هذا الشرق، وقد أفرط العرب كالروم في استخدام الفسيفساء في الجدران والقباب، وزادوا في هذه الفصوص ما ابتدعوه من عندهم، وكان محبباً إلى نفوسهم، جميلاً في عيونهم. ويقول بعض العارفين: إن الشام لا يحوي كثيراً من المصانع الخارقة للعادة من صنع العرب، لأنهم اكتفوا بما وجدوه في القطر من المباني القديمة، فاستعملوها على ما يشاءون، ولطالما بنوا بمواد أخذوها من أبنية قديمة. أما هندسة الصليبيين فأكثرها حصون وقلاع، ولا يعرف إذا كانت في

الأصل من بناء العرب أو الأفرنج، المرجح أن هؤلاء طبعوها بطابعهم، وقالوا لم يخترع العرب أبنية خاصة بهم، بل تجلى في هندستهم حبهم للزخرف واللطف واخترعوا القوس المقنطر ورسم البيكارين، وكان تفننهم في هندسة القباب والسقوف والمعرشات من الأشجار والأزهار، مما جعل لجوامعهم وقصورهم بهجة لا يبلى على الدهر جديدها، ودلت كل الدلالة على إيغالهم في حب النقوش والزينة، كأن أبنيتهم ومصانعهم ثوب من ثياب الشرق تفنن حائكه في رقشه ونقشه. نعم إن العرب لم يخترعوا ولكنهم اقتبسوا بادئ بدء، فإن ابن الزبير لما عمر الكعبة دعا إليها بنائين من الفرس والروم، والوليد لما بنى أُمويّ دمشق وأقصى القدس دعا إليهما بنائين من الفرس والروم والهند. ولا جرم فقد برع مهندسو العرب في هذه الديار في علم عقود الأبنية وهي ما يتعرف منه أحوال أوضاع الأبنية وكيفية شق الأنهار وتقنية القنيّ وسد البثوق وتنضيد الساكن. ولو لم يبرعوا في كيفية إيجاد الآلات الثقيلة الرافعة لنقل الثقل العظيم بالقوة اليسيرة لما تمكنوا من عمارة المدن والقلاع والأسوار والمنازل والجوامع والمدارس هذا التمكن الذي يبهرنا اليوم أثره. ومالت الهندسة الشامية إلى السذاجة لأول انتشار النصرانية، فكانوا يجتنبون كل زينة زائدة لتؤثر بمتانة البناء المعمول بالحجارة الضخمة، وجمال الحجم وترتيب الأجسام. ونشأت بين القرن الرابع والسادس للميلاد هندسة متينة تختلف عن الهندسات الأخرى، منها بعض أمثلة في الشام العليا وحوران. ويقول جلابرت: إنه كان لأهالي الشام الوسطى هندسة قائمة بذاتها مباينة لفن البناء الذي أشاعه الرومان في الشام، وهو بناء قديم يدعى بالطراز الشامي لا أثر فيه للطرق الرومانية والشرقية المحضة في البناء، وعلاقته ظاهرة بالهندسة اليونانية الشائعة في إنطاكية، وقد نشأ عنه طرز مركب شاع في القرون الأخيرة، وطرق البناء في حوران تختلف عن الهندسة الشمالية فتألف طرز وطني مباين للطرز اليوناني الذي أدخله السلوقيون. ومن أهم أبنية القرون الوسطى وتدل على ذوق جميل في البناء، المدارس الكبرى في حلب ودمشق والقدس وغيرها من البلدان، والقليل الباقي منها إلى الآن شاهد على وجه الأيام بما صار للمهندس الشامي من حسن الذوق، ومنها

الشعر والفصاحة:

في دمشق مدخل المدرستين العادلية الكبرى والظاهرية والمستشفى القيمري، وفي حلب مستشفى أرغون شاه ومدرسة الفردوس إلى غيرها من الأبنية الكثيرة في القرون المتأخرة. ومن أهم أبنية القرون الإسلامية بدمشق المئذنة الغربية في الجامع الأموي المعروفة بمأذنة قايتباي وهي من أهم المآذن العربية من حيث الهندسة والنقش والأصول المعمارية قامت على قصبتين من الأرض 48 متراً مربعاً بارتفاع 66 متراً هندسها معمار عربي اسمه سلوان بن علي وقد تمت عمارتها سنة 885 هـ وبانيها السلطان الملك الأشرف قايتباي كتب اسمه في جهاتها الأربع. وقد أجرى ترميمها وإرجاعها إلى أصلها وإكمال نواقصها المهندس الرسام توفيق طارق سنة 1342هـ وكان على رفرف شرفتها الأولى آية (إنا فتحنا لك فتحاً) الآية وكتبها موسى شلبي وبقي قسم من الحروف القديمة. وقد دخلت إلى الساحل منذ عهد الحروب الصليبية أصول الهندسة الطليانية في الدور والقصور، وما برحت ترسخ مع الزمن، ولا سيما في طرابلس وبيروت بحيث أن جميع ما نراه في مدن الساحل من الدور هو مما أُنشئ في القرن الأخير وفي هذا القرن هو طلياني الصبغة، وهندسته عارضة على هذه الديار. هذا في الساحل أما هندسة البيوت في الداخل فإنها قديمة لا يعرف زمن الاصطلاح عليها، فقد نقل الرومان هندسة بيوت دمشق القديمة إلى شمالي أفريقية، ثم نقلها العرب بعد قرون إلى الأندلس، ولا تزال هناك إلى اليوم يفاخر بطرازها ويُطرّس على آثارها، كأن تكون الدار ذات مدخل أو دهليز يؤدي إلى فناء واسع فيه حوض ماء وإيوان، وعلى جوانبه أماكن لتربية بعض الأشجار والزهور، والدار ذات طبقتين فقط: السفلى للصيف والعليا للشتاء. وقد رأى ناصر خسرو قبيل منتصف القرن الخامس أن البيوت في طرابلس كانت ذات أربع وخمس وأحياناً ست طبقات. وكثرة الطبقات في الدور لم تعهد إلا في الغرب، وما نظن الشام زادت طبقات بيوتها على ثلاث في معظم أدوار التاريخ. الشعر والفصاحة: ظهر كثير من الشعراء والبلغاء في هذه الديار ولا سيما من السريان واللاتين

والروم، اشتهروا في العالم وخلدوا آثار نبوغهم، ولطالما أخرجت مدرسة نصيبين والرّها ومدرسة الفقه في بيروت ومدرسة إنطاكية خطباء هزوا النفوس وعلموها بخطبهم وأشعارهم ومجادلاتهم، وقد كثر سواد هذه الفئة في عهد الدولة العربية الإسلامية أيضاً. والشعر والخطابة مما امتازت به العرب في الجاهلية والإسلام وغالت في الولوع بهما، ولقد أثر القرآن في هداية العرب ببلاغته وفصاحته، تأثيره بحكمه وهدايته. ولطالما كان شعراء العرب يصفون الشام ويتغزلون بها منذ أول يوم عرفوها، حتى إذا كان الإسلام وتبسطوا في أرجائها، أوحت إلى قرائحهم من أساليب الشعر ما يتألف من مجموعه أعظم ديوان بل خزانة عظيمة في الأدب تدل على فضل قرائح، ونبوغ في فنون القول، وتوسع في مجال الخيال، وما هم إلا مبدعون وضعوا ما وضعوه من بنات أفكارهم على غير مثال. لا جرم أن الشام كانت أول الأقطار التي أخذت الفصاحة عن العرب في جزيرتهم، وبقيت فيها على اختلاف العصور وتعاقب الدول محفوظة في الجملة، فما انقطع منها من ينظمون ويجدون حواليهم من يطرب لنغماتهم ويصفق لنبراتهم وإن لم يعرفوا صحاحها من زيوفها. كان الشعر مبدأ دخول العرب في الحضارة، والأدب مقدمة النهوض في العلوم، ولذلك رأيناهم لم يحرصوا على شيء حرصهم على روايته ودرايته. وأكثر ما يجيد الشعراء في أرض صح إقليمها، واعتدل نسيمها، وطابت تربتها وأديمها، وصفت أمواهها، وساغ نميرها، وكثرت ظلالها بأشجارها، وغردت أطيارها في أسحارها، وفغم أريج نوارها وأزهارها، وهذا على حصة موفورة في القطر الذي يتاخم جزيرة العرب من شمالها. وقد أنعم عليه الخالق بضروب البدائع والروائع، فكان شعراء عرب الشام وما يقاربها أشعر من شعراء عرب العراق وما يجاورها في الجاهلية والإسلام كما قال الثعالبي. وما زالت بعض قصائد شعراء ذاك الدور مضرب الأمثال في البلاغة، وما برح عرب المدن يتغنون بشعرهم ويعجبون به ويترنمون، ويتوفرون على حل ما استعجم عليهم من ألفاظه ومعانيه. قال: والسبب في تبريز القوم قديماً وحديثاً على من سواهم في الشعر قربهم من خطط العرب ولا سيما أهل الحجاز وبعدهم عن بلاد العجم، وسلامة ألسنتهم من الفساد العارض لألسنة أهل العراق

بمجاورة الفرس والنبط ومداخلتهم إياهم. . . انبعثت قرائحهم في الإجادة، فقادوا محاسن الكلام، بألين زمام، وأحسنوا وأبدعوا ما شاءوا، وكان أبو بكر الخوارزمي قد دوّخ الشام في صباه ولطالما قال وهو أحد أمراء النظم والنثر: ما فتق قلبي، وشحذ فهمي، وصقل ذهني، وأرهف حدّ لساني، وبلغ هذا المبلغ بي إلا تلك الطرائف الشامية، واللطائف الحلبية، التي علقت بحفظي، وامتزجت بأجزاء نفسي. حكي المازني المتوفى سنة 249 قال: دخلت دير بصرى فرأيت في رهبانه فصاحة وهم متنصرة من بني الصارد وهم أفصح من رأيت فقلت: ما لي لا أرى فيكم شاعراً مع فصاحتكم؟ فقالوا: والله ما فينا أحد ينطق بالشعر إلا أمَة لنا كبيرة في السن فقلت: جيئوني بها فجاءت فاستنشدتها فأنشدتني لنفسها: أيا رفقةً من دير بُصرى تحملت ... تؤم الحمى لُقيت من رفقة رشدا إذا ما بلغتم سالمين فبلغوا ... تحية من قد ظن أن لا يرى نجدا وقولوا تركنا الصاردي مكبلاً ... بكل هوى من حبكم مضمراً وجدا فيا ليت شعري هل أرى جانب الحمى ... وقد أنبتت أجراعه بقلاً جعدا وهل أردن الدهر يوماً وقيعة ... كأن الصبا يسدي على متنه بردا وما برحت الديارات في الشام تقدر الفصاحة كما تقام فيها للموسيقى أسواق. وظهر الضعف في الشعر خلال القرون الأخيرة، ونسلت عليه القرون إلى أن خلع في أوائل هذا القرن الثوب البالي القديم ولبس ثوباً جديداً فيه من جلال الحديث وعز القديم ما جمع فيه الجسم والروح. بدأ هذا من لبنان وبيروت ثم تناول عامة مدن الشام. أما القرى والبوادي فقد اكتفت بالأزجال، والزجل نوع من الشعر محدث يصفون فيه أيامهم ومفاخرهم وهو أشبه بالرجز الذي كانت العرب تترنم به في عملها وسوقها وتحدو به في بواديها. وكان للزجالين في القرن الماضي وفي هذا القرن منزلة عند أهل الزرع والضرع، يدعون الزجال إلى الأفراح ليحمل البهجة إليها، وإلى الأتراح ليسري عن النفوس ما نزل بها، ولهم ضروب من المواليا يسمونها العتابي والإبراهيمي يطربون بها ولا تخلو من معانٍ شعرية قال صديقنا الشيخ إبراهيم الحوراني وكان شاعراً مجيداً بالفصحى والعامية: والنصارى واليهود يعتقدون أن بعض الشعر إلهام إلهي ووحي حق كشعر ايوب

الرقص:

وداود وسليمان وأشعيا وعدة من كتبة الأسفار الإلهية والشعر بقسميه الفصيح والعامي المعروف عند العامة بالمعنّى يعمل على ثلاثة أبحر الرجز والوافر والسريع، أما أغانيهم التي يسمونها بالقراديات وهواسم خشن سميت مؤخراً بالعديّات وبالقويلات كما يقولون لمن يعانيها القوّال فبعضها لا ينطبق على وزن من أوزان الشعر المعروف، ووزن بعضها المتدارك مع تغييرات أيضاً. وجاءت أغانيهم المعروف بالموالات البغدادية والمصرية والزلاغيط على بحر البسيط اه. ولا يزال إلى اليوم لكل قبيلة في الشام شاعرها ينشدهم من حفظه أو نظمه من شعر شعراء البادية على نغمات الرباب قصائد يسليهم بها، ولشعر البادية عندهم أوزان خاصة، وإذا قيس على علات لفظه على أبحر الشعر يرى بعضه موزوناً وفي بعضه عيوب بسيطة، ومن أشعر شعراء البادية نمر بن عدوان في عبر الأردن كانت له امرأة اسمها وضحاء تتيم بها كما تتيم قيس بليلاه فرثاها بعد موتها بعشرات من القصائد ومنها ما فيه معانٍ جميلة قاله أديب وهبة. وإذا انتشرت المدارس في المدن والقرى على حد سوى، وجعل التعليم في كل درجاته باللغة الفصحى يتأصل الغرام في الناس أكثر مما نراه بالفصاحة والشعر فلا تلبث الشام أن تحسدها جاراتها كما كانت في القديم على اختصاصها بذلك، وكما تحسد هي مصر اليوم على تفنن شعرائها وخطبائها وسريان الفصاحة إلى ألسن من ليسوا من الأدب العربي في العير ولا في النفير. الرقص: ربما ينفر بعضهم من سماع هذا اللفظ ونحن لم نتعرض له هنا إلا مجاراة للفرنج في إدماجهم له في الفنون الجميلة. عدّ طاشكبري الرقص من أنواع العلوم فقال: إنه علم باحث عن كيفية صدور الحركات الموزونة عن الشخص بحيث يوجب الطرب والسرور لمن يشاهده، وهذا من العلوم التي يرغب فيها أصحاب الترفه والأغنياء والأمراء ومن يجري مجرى هؤلاء من أصحاب الملاهي اه. وذكروا أن الرقص قديم كقِدم العالم وأن أقدم شعوب الأرض كان لها رقص على أوزان معلومة. فالرقص مرتبط بالموسيقى والإيقاع، وكثيراً ما كانوا يتبعون الرقص بالتصدية والضرب بالأيدي، ثم عرفوا الشبابة حتى جاءت المزاهر

والمعازف، وكان الرقص على نوعين: رقص مقدس من توابع الحفلات الدينية، ورقص عالمي لتسلية العامة، أي أن الرقص رقصان رقص ديني أو رقص المآتم ورقص الحبور والابتهاج. وفي التوراة أن الرقص كان شائعاً عند العبرانيين، وقد رقص داود أمام تابوت العهد، ولما خرج بنو إسرائيل من مصر كان لهم نوعان من الرقص، الرقص المقدس المنظم ورقص سريّ له اتصال بالتعبد على نحو ما كانوا يرقصون في التيه حول عجل الذهب. وكان للعبرانيين نوع من الرقص الشريف يرقصه العذارى في الحفلات العامة احتفاءً بذكرى حوادث سعيدة من مثل انتصار على عدو أو تكريم مجد أبطال الوطن. وهكذا كان الرقص شائعاً عند المصريين، ثم شاع عند اليونان وهم المشهورون بتفننهم فبلغ عندهم أقصى درجات رقيه وانتقل إلى الرومان، وإذا كانوا شعباً قاسياً غليظاً فَقَد عندهم بهاءه ورواءه وما يقصد منه. ولكل شعب رقصه الخاص به، عليه صبغة أخلاقه القومية الثابتة. ولجميع شعوب الغرب والشرق رقصهم الخاص أو رقصات عرفت بهم وأثرت عنهم. والإنكليز أكثر الأمم انحطاطاً في الرقص لم يبرزوا فيه تبريزهم في معظم مظاهر الحياة القويمة. وكان الرقص عند العرب كالغناء من الفنون الطبيعية استعملوه في كل دور عرف من أدوارهم. والرقص أو الزفن كان عند العرب على ما يظهر على الطراز الذي هو عليه اليوم عند العرب سكان القرى والعرب الرحالة ومنه ما يعرف بالدبكة، فإن وفد الحبشة لما قدم إلى الحجاز جعلوا يزفنون أي يرقصون. وفي حديث فاطمة أنها كانت تزفن للحسن أي ترقص له وفي رواية ترقصه. ومن غريب تفنن العرب في مسائل الظرف والذوق أنهم عرفوا علماً سموه علم الغنج عده صاحب الموضوعات من فروع علم الموسيقى وقال: هو علم باحث عن كيفية صدور الأفعال التي تصدر عن العذارى والنسوان الفائقات الجمال والمتصفات بالظرف والكمال إلى آخر ما نقله صاحب كشف الظنون. والغالب أن رقص الشام اقتبس مع الزمن من أوضاع كثيرة، والأمم تقتبس عن غيرها ما يتلاءم مع مزاجها. وكذلك تقبس غيرها بعض ما ألفته في هذا الشأن. من ذلك أن الرقص الإسباني إلى اليوم لم يبر بعد خمسة قرون من مغادرة العرب أرض الأندلس على الطراز العربي وكذلك موسيقاهم إلا قليلاً. وقد

التمثيل:

أصبح الرقص في الغرب علماً بذاته ولكن العرب لم يقصروا فيه، ولا سيما في عصور البذخ والرفاهية. وبعض المحققين من علماء المشرقيات من الأسبان والبرتغال مجلة الزهراء يبرهنون الآن على أن موسيقى الأوربيين وشعرهم انتقلا من فارس إلى أوربا بواسطة العرب، ومنهم من ينشر منذ سنين قطعاً قديمة ويبين ما فيها من آثار الروح الشرقي، وكان لنا في الشام نوع من الرقص يسمونه بالسماح ولعله السماع يرقصه عدة أشخاص على نغمات متساوقة من الأوتار وترديد جميل من الموشحات فقط، وهو أشبه بالأوبرا أو الأوبريت عند الإفرنج أي القصائد الملحنة التي تمثل على نغمات الموسيقى فقط، ويزيد رقص السماح على الأوبرا كونه ترفع فيه الأصوات بأنغام مألوفة. وفي كتاب مفرح النفس: واعلم أن من الرياضيات البدنية التي تختص بالنفس اختصاصاً كثيراً إلى الغاية الرقص، وهو عبارة عن حركة متناسبة من اليدين والرجلين بضرب من الضروب المعروفة في الموسيقى بإرادة النفس وشوقاً إلى محل طلبها الأصلي، قال: إن الرقص مندوب إليه في ترويح الأرواح ونفي كدورة النفس وحصول الإشراق لها، ويجب أن يكون مع سكون وتجمع من الذهن والعقل فتحصل اللذة والبهجة، فالرقص له في إحداث راحة النفس وسرورها قوة عظيمة يعجز اللسان عن وصفها والذهن والعقل عن تصورها اه. التمثيل: ويدخل في باب الرقص أو في باب الموسيقى فن التمثيل وهو وإن كان مشهوراً في الشام على عهد الرومان واليونان، بدليل ما نراه من الملاعب الخاصة به وبعرض الحيوانات والصراع في البتراء وعمان وبعلبك وأفامية ولدّ وقيساوية وغيرها من المدن القديمة. إلا أنه لم يعهد على الصورة المعروفة حديثاً، اللهم إلا على الندرة عند عرب الأندلس، وهذا في بعض الروايات. ولقد قالوا: إن إنطاكية أيام عزها ارتقى فن التمثيل فيها حتى كانت تجلب الممثلين من صور وبيروت والمغنين من بعلبك. وقال بعضهم: إن السبب في عدم العناية بالتمثيل في الإسلام حجاب النساء. والتمثيل لا يتم بدون مشاركة الجنس اللطيف. ولما لم يعهد التمثيل عند الجنس السامي لم تخرج العرب عن هدي جنسها. والتمثيل

ما عرف إلا عند الجنس الآري فقط. ومن ذلك الفرس وهم آريون خلفوا للعرب كتاب ألف ليلة وليلة وهو اختراع آري فيه شيء من التمثيل. وكان العرب في الجاهلية والإسلام يرون من سقوط المروءة أن يمثل مجلس الأمير أو الوزير، وإن كان لا يخلو تمثيله من حكمة، فكيف بمجلس صبابة، ومعظم التمثيل يدور عليها، لا جرم أنهم قصروا في التمثيل، وتقاعسوا عن اقتباسه عن الأمم الآرية، وإن عرف من حالهم أنهم لم يأخذوا عن الأمم الأخرى إلا ما اشتدت حاجتهم إليه من أنواع العلوم، أدمجوه في حضارتهم ومزجوه بأجزاء نفوسهم. وإذ كان التمثيل لا ينطبق مع عادات العرب ولا عُرف به مجتمعهم أعرضوا عنه، وجاء الإسلام موافقاً لمصطلحهم وعاداتهم وأخلاقهم في بعض الأحوال. بيد أن العصر الأخير لم يصنّ على الشام بتجلي الآداب الرفيعة فيه، فقام فيها سنة 1282هـ في دمشق أيضاً رجل من أبنائها هو السيد أحمد أبو خليل القباني من المبرزين في الموسيقى المشود لهم بالإجادة فأنشأ داراً للتمثيل، وبدأ يضع روايات تمثيلية وطنية، من تأليفه ونظمه وتلحينه، ويمثلها فتجيء دهشة الأسماع والأبصار، لا تقل في الإجادة من حيث موضوعها وأزياؤها ونغماتها ومناظرها عن التمثيل الجميل في الغرب. واعتاض لأول مرة عن النساء بالمرد، ولما انتقل إلى مصر لنشر فن التمثيل العربي هناك، عاد إلى الطبيعة واستخدم في كل دور من يصلح له من الجنسين، ووجه الفخر في أبي خليل أنه لم ينقل فن التمثيل عن لغة أجنبية، ولم يذهب إلى الغرب لغرض اقتباسه، بل قيل له: إن في الغرب فناً هذه صورته فقلده، وقيل: إنه شهد رواية واحدة مثلت أمامه في إحدى المدارس الأجنبية، ولما كانت عنده أهم أدوات التمثيل وهو الشعر والموسيقى والغناء ورأى أنه لا ينقصه إلا المظاهر والقوالب، أوجدها وأجاد في إيجادها، ولذلك كان أبو خليل مؤسس التمثيل العربي، ونابغة العرب في الموسيقى والتمثيل، ورواياته التي ألفها ما زالت منذ زهاء ستين سنة وإلى يوم الناس هذا، موضع إعجاب الأمة، تمثل في دور التمثيل وتلذ الجمهور مثل رواية أنيس الجليس وغيرها. هذا وإن سبق لمارون النقاش في بيروت في سنة 1848هـ من إحدى

اللغات الأوربية بعض الروايات التمثيلية ومَثّلها بالفعل. والإبداع في التأليف والوضع، لا في النقل والاحتذاء، وإن عدّ الناقل صاحب فضل أيضاً. ولما كان التمثيل كما قلنا عارضاً على مدنيتنا رجع القهقري بعد أبي خليل. وظل إلى يومنا هذا يمشي مشياً ضعيفاً، فلم تقم إلى الآن جوقة تمثيل وطنية تبث في الأمة روح الفضائل والآداب، وتأخذ من الناس بعض أوقاتهم تصرفه فيما يفيدهم فيلهون بما يجلب السرور إلى قلوبهم، والنور إلى عقولهم، وتتهذب في مدرسة التمثيل اليومية عقول الكبار، كما تتهذب في الكتاتيب عقول الصغار. فقد قال فولتير: إن المرء يتعلم بالتمثيل أحسن مما يعلمه إياه كتاب ضخم. ولعل أبناء الشام إذا قويت فيهم أساليب الثقافة الحديثة، ترتقي فيهم سائر الفنون التي انحطت ولا تزال منحطة، فتكون من العوامل في نهوضها إلى المستوى اللائق بها في سلم الحضارة والهناء. والتمثيل الراقي أنفع لمجتمعنا من ذاك التمثيل الساذج الذي ما زال في أكثر مدن الشام مألوفاً للعامة، ونعني به خيال الظل أو الخيال الراقص المعروف أهله بالمخايلية وعرف هذا الضرب من التمثيل عند الترك، وإن لم يكن من اختراعهم باسم قره كوز. والتمثيل أجدى على أبنائنا وبناتنا من القصاصين أي الحكوية الحكواتية الذين يلهون العامة بغرائب الوقائع في المقاهي ويبثون فيهم سخائف وخرافات. ومن غريب شأن هذه الأمة أننا رأينا كثيراً من نجباء أبنائها برعوا في التمثيل، ومنهم من يعرف الأدب وما ينبغي له، قد زهدوا في فنهم، وكتموا نبوغهم فيه، شأن كثير من أرباب الصوت الرخيم والغرام بالموسيقى، والضرب على آلات الطرب المتعارفة، يخافون أن يعرفوا بها ويعمدون إلى التقية كأن من العار التلبس بهذه الفنون الجميلة. وممن عرفنا منهم نور الدين حقي. حكمة المرادي. صالح الحيلاني. أحمد عبيد. سليم عطاء الله المعروف بكش كش بك. واشتهر أيضاً حمزة الأصيل. صالح شهبندر. حسن الساعاتي. إبراهيم المنجد. إبراهيم نفش. راغب السمسمية. جرجي نفش. درويش البغجاتي. أبو الخير الغلاييني. يوسف مردم بك. خالد السمسمية.

متى ترتقي الفنون الجميلة:

متى ترتقي الفنون الجميلة: لا جرم أن ارتقاء الشام في هذه الفنون على اختلاف فروعها، موقوف على ظهور نوابغ من أبنائنا يرحلون إلى الغرب لنقلها والتشبع بآدابها، ثم يعودون فيلوبون على إحياء ما اندثر أو كاد من هذه الصناعات النفيسة في القطر، وينشرونها على النظام الغربي الحديث على صورة مقبولة، وإذا نشأت بعد ذلك مدرسة واحدة راقية في كل فن من هذه الفنون لا يأتي جيل ثانٍ بعد جيلنا هذا حتى يكون عند أهل القطر العدد الذي يحتاجون إليه من الأعيان الذين لا غنية للمجتمع الشامي عنهم في إنهاضه. ويشترط في من يريدون الإخصاء في هذه الفنون أن يكونوا ممن يحبون أن يُعرفوا بما اختصوا به، أو يسعوا طاقتهم لنشره، ومن لا يحب صنعته ولا يفاخر بها لا يبرز فيها، وعندئذ نعدّ شيئاً مذكوراً بين أمم الحضارة في باب هذه الفنون كما كان أجدادنا. يقول الجاحظ: إن الضحك في موضعه كالبكاء في موضعه، والتبسم في موضعه كالقطوب في موضعه، وإنما تشاغل الناس ليفرغوا، وجدّوا ليهزلوا، كما تذللوا ليعزوا، وكدوا ليستريحوا، وقد قسم الله الخير على المعدلة، وأجرى جميع الأمور إلى غاية المصلحة، وقسط أجزاء المثوبة على العزيمة والرخصة، وعلى الإعلان والتقية، فأمر بالمداراة كما أمر بالمباداة، وجوّز المعاريضن كما أمر بالإفصاح، وسوغ المباح، كما شدد في المفروض، وجعل المباح جِماماً للقلوب، وراحة للأبدان، وعوناً على معاودة الأعمال اه.

الزراعة الشامية

الزراعة الشامية العامر والغامر: حياة الشام بزراعته ثم بصناعته وتجارته، والقرى والبوادي أوسع بقعة وأوفر سكاناً من المدن والحواضر، ولا نعلم مقدار سكان الشام في القرون التي سبقت الإسلام ولا في القرون التالية، وقال بعضهم إن سكان الشام عند دخول العرب كانوا ستة ملايين على وجه التخمين، ولكن الظاهر من مصانع أهلها وطرقهم القديمة التي كانت تربط أجزاء القطر كالشبكة وآثار عمرانهم مثل حنايا بعض الجسور الكبرى، وخرائب القصور الفخمة، والدّ من التي تشاهد الآن في أواسط الفلوات الخالية، والعاديّات والآثار الجمة، يدل على ارتقاء زراعتهم وكثرة ثروتهم ونفوسهم. فقد كانت حوران أنبار الشام على عهد الرومان لوفرة حبوبها ولا تزال هي والبلقاء على كثرة ما تعاقب عليهما من الأيدي الظالمة في الأكثر، معروفة بهذه الصفة وجودة حنطتهما التي لا مثيل لها، وما يقال عنهما يقال عن جميع الأصقاع الشامية. ولا سيما ما كان بقرب المياه والأدوية فإنه عامر بطبيعته لا يحتاج إلا لأمن ونظام حتى يفيض لبناً وعسلاً. ومغل حوران كسيل دافق ... يأتم من أرجاء جلق موجلا ومما أقامه الرومان لحفظ زراعة البلقاء وحوران وما كان على سيف البادية من مرج الغوطة وأداني جبل قلمون وتدمر فحلب فما وراءها، مخافر مجهزة أحسن جهاز لمنع البادية من التسلل إلى المعمور، لأن داء الغارات على الزروع والعيث في العامر من الأدواء القديمة. واعتداء الرحالة من أهل الظعن، على المقيمين من أهل الدساكر والمزارع، النازلين في الدور والمساكن، داء قديم

قلة العناية بالأنهار:

عُقام على ما يظهر. وما اتخذ الروم من الغسانيين في الجنوب، والتنوخيين في الشمال عمالاً لهم إلا ليقوموا بإنفاذ هذا الغرض، ويأمنوا بسلطانهم عيث البادية على أرض الشام الجميلة. وليست البادية التي تحد أكثر هذا القطر من الشرق كما قال الدكتور بوست باديةً حقيقية لأنه يقع فيها بعض المطر في فصل الشتاء، وينبت فيها عشب ترعاه المواشي، وتسكنها قبائل شتى من العرب، وتتدرج هذه البادية إلى جهة شمالي الشام، في السهل المتسع الممتد من نواحي حلب إلى ما بين النهرين، وكان هذا السهل مسكوناً في قديم الزمان، ولم تزل فيه آثار عظيمة تدل على كثرة الذين سكنوه ووفرة ثروتهم، إلا أنه أمسى الآن قليل السكان تجول فيه العرب والأكراد. وقد أكد موسيل أن البلاد الواقعة في شرقي الأردن كانت قبل مائة وعشرين سنة عامرة بالسكان وهي اليوم تكاد تكون خالية لعيث البادية. وأهل الوبر الذي يشتون منذ القديم بمواشيهم فيما وراء بادية الشام من الفلوات تشتد حاجتهم في الربيع إلى أن يدخلوا المعمور، فإذا حصدت الزروع يضطرون إلى رعي أنعامهم وأغنامهم في أرض الحصيد، ومراعي دير الزور والجولان طلباً للماء، والتماساً لبيع حاصلاتهم واستبضاع ما يلزمهم. وإذ كانت أرض السقي أقلّ من أرض العذي بالشام، ومعظم الأنهار لا يستفاد من سقياها اليوم كما كانت الحال عند الأقدمين، زاد اعتداء البادية على مهاجمة البلدان الخصبة. قلة العناية بالأنهار: نقول هذا وأهم أنهارنا الفرات وهو نهر يتاخمنا من الشرق، ولا نستفيد منه الاستفادة المطلوبة لأنه منحط عن مستوى أرضنا، ولم يكن كذلك في الدهر السالف بما كان يعهد به من السدود والسكور التي كانت سبب غنى العراق، وبالطبع غنى الأقاليم المتاخمة له من أرض الشام. ولا يستفاد من الأنهار التي تشق قلب القطر الفائدة المطلوبة في الريّ. فالردن مثلاً يشق بعض أرجاء فلسطين والعاصي الذي يجري من سفوح لبنان ماراً بحمص فحماة فإنطاكية حتى السويدية لا ينتفع بهما على ما كان الحال قديماً. فقد انتهى إلينا من عمل القدماء سد قَدَس بالقرب من قرية قطينة بجوار أرض حمضن وكان أعلى مما هو الآن بحيث يتأتى

أن يسقي العاصي بواسطته وما اخترع له من النواعير، جميع الأرض العالية في وادي نهر المقلوب كما كانت العرب تسمي العاصي. ولا تزال إلى الآن آثار السدود والقني في غور الفارعة بادية للعيان، تدل على أن القدماء كانوا ينتفعون من مياه نهر الأردن أكثر منا اليوم. ويقول صديقنا الأمير شكيب أرسلان: إن الأراضي التي لها حظ من الشرب في هذه الغيران جمع غور إنما تسقى من أودية جارية من الجبال مثل سيل الزرقاء، والسائل من جهة عجلون إلى الغرب، ومثل مياه بَيسان المنحدرة من صوب مرج بني عامر إلى الشرق، ومثل ماء الفارعة النازل من الغرب إلى الشرق، ومثل عين السلطان التي تسقي جنان أريحا، ومثل غور نمرين المنحدر من وادي شعيب أسفل الصلت إلى الغرب وماء حسبان وغيرها من المياه، وهذه الجداول كلها لو اجتمعت ما ساوت معشار الأردن الذي أصبح عاطلاً من كل عمل اه. وحالة الإرواء في أكثر الأنحاء البعيدة ما زالت على الفطرة القديمة، فالقريب من الماء يروي أرضه أو بستانه بالقربة أو المدار كأهل الزور وجزيرة ابن عمر في أقصى الشام، فإن هذه الأنحاء في وسط المياه كالفرات والخابور وغيرهما من كبار الأنهار وقلما تستفيد منه، وقد خربت السدود القديمة ولم يعمل غيرها، ذلك لأن الأنهار الكبيرة ولا سيما الفرات قد تتحول عن مجراها في معظم السنين لأنها خالية من الجوانب المتينة المحددة، وهي في أرض رخوة خبار، فإذا فاضت طغت على الأرض اللينة. وكان نهر بردى ونهر الأعوج يستفاد منهما أكثر من جميع الأنهار التي تعطش الأرض التي حَفافيها، وهي من مجراه على قيد أشبار، أو يترك للبحر يصب فيه على هينته وهواه، كنهر عفرين والأسود وقاديشا والأولي والأزرق والعوجا وإبراهيم والمقطع والقاسمية وغيرها. وكم في هذه الديار من آثار قنوات عجيبة مثل قناة بسيمة في سَنير، وربما كان ماء عين الفيجة يسيل منها إلى بلد بعيد كما هو المأثور، ومثل قناة مَنين التي جرها المأمون إلى معسكره في أعلى قاسيون بدمشق. وكم من قناة طمت بتهاون الفلاح فهلك مع أرضه عطشاً، لأن الحكومات قلما التفتت في الأدوار الأخيرة إلى العناية بأمرها، والأعمال

خراب الزراعة والمزارع:

المشتركة قلما تجد لها نصيراً في هذه الأرض، ولو كانت مياه الشفة فكيف بمياه الري ري الأرض. خراب الزراعة والمزارع: ويمكن أن يقال إن القطر خرب بنزول الفاتحين المخربين والعاهات الطبيعية ثم من فساد النظام في الدولتين الجركسية والتركية في القرون الوسطى إلى هذا العهد، وقد كان مسرح الظلم، وميدان حروب وغارات، يهلك الفلاح فيه كما يهلك النمل تحت القدام، وقبل أن يهلك ابن المدن الذي له من اجتماعه بأخيه، واعتصامه وراء حصنه وسوره بعض الوقاية، وكانت القرى التي على جوانب الطرق تخرب قبل غيرها، وعلى نسبة قرب القرية من المدينة أو من الطرق الموصلة أو طرق الغزاة والفاتحين، كان الخراب إليها أسرع من الماء إلى الحدور. وكان من دلائل القوة في تلك الأعصر أن تخرب القرى وتلقى النار فيها إذا غضب الملك أو الأمير أو المقدم أو صاحب القطاع على ذاك الإقليم أو تلك القرية. وكان قطع الأشجار من أبلغ أنواع النكاية في الخصم ولذلك أمثلة كثيرة في القديم والحديث إلى زمن كتابة هذا الفصل. وما أُصيبت به الشجار في غوطة دمشق خلال الثورة الشامية الأخيرة مثال مما تعمله الحكومات حتى باسم الحضارة. فكأن طبائع الحكومات واحد يوم تغضب من شعب أو نريد أن تكره التناء على النزول على إرادتها. وأهم ما أثر في حالة الفلاح نظام الحكومات، لأن أصول الإدارة لم تؤسس في هذه المملكة على ما يجب، وكانت المظالم الأرضية والمفاسد البشرية أشد تأثيراً في أهل الفلح والكرث والقائمين على تربية الماشية والضرع، من الآفات السماوية، كالزلازل والأوبئة والقحط من قلة أمطار أو فيضان أو انتشار جراد أو ديدان وجرذ وفيران. هذه العوامل هي جماع الخراب الذي أصاب العامر فدمر القرى والأقاليم، ومنها ما لا تزال دمنه ومياهه شاهدة على ماضيه الزاهر، فقد ذكر الظاهري من أهل المائة التاسعة للهجرة أنه كان على عهده نيف وألف قرية ومدن صغار في حوران، وأنه كان في إقليم غوطة دمشق نيف وثلاثمائة قرية وبه مدن صغار وبلدان تشابه المدن، وأنه كان في وادي التيم وما إليه ثلاثمائة وستون قرية، وإذا

عوامل الخراب:

أحصيتَ قرى هذه الأقاليم الثلاثة اليوم لا تجدها في حوران تزيد على أربعمائة قرية ومنها الخِرَب، وفي الغوطة على ثنتين وأربعين، وفي وادي التيم على ثلاثين إلى أربعين. وهكذا سائر الشام. فإن حلب كان فيها قبل العثمانيين 3200 قرية فأصبحت 400 في القرن الحادي عشر، ومنها ما ظل خراباً إلى النصف الأخير من القرن الماضي لأن معظم عهد العثمانيين انقضى في مظالم ومغارم، وكان من جندها ولا سيما الإنكشارية في آخر عهدهم أدوات تخريب لم يشهد الناس أفظع منها، لذلك خربت حتى الضواحي والأرباض من المدن الحافلة أمثال حلب ودمشق وحماة وحمص وما شاكلها. وكانت رجل الإنكشاري بل الجندي التركي على الإطلاق حيث دبت يدب الدمار والبوار. ولذلك لا نكاد نرى عمراناً إلى على طول الطرق العامة الكبرى وما إليها من اليمين والشمال، ونشاهد المدينتين العظيمتين حلب ودمشق مثلاً ينقطع في الحال أو على ساعات قليلة عمرانها الذي كان وارف الظلال إلى القاصية وكان هذا بفعل البادية وفعل الجيوش المدمرة. عوامل الخراب: ولولا ذلك الظلم المتسلسل قروناً في أعقاب الفلاحين المساكين، وأسواط النقمة التي انهالت على رقابهم الجيل بعد الجيل، لما تيسر اليوم لأحد أن يملك المزرعة والمزرعتين بل ربما العشر والعشرين قرية، وبعض الأسر الحديثة تملك الخمسين والثمانين، والإنسان قد تكفيه المائة دونم أو جريب إذا أحسن تعهدها، فكيف له أن يعمر ألوفاً من الأفدنة، ويتسع وقته وماله لحمايتها وترقيتها؟ نقول حمايتها لأن كثيراً من القرى تنازل عنها مُلاكها لأرباب النفوذ ليحموهم من ظلم الحكام والمرابين، وأخذوا ثمنها بضع عباءات وغلايين، أو قفة من البن أو رطلاً من الدخان أو أقة من الحلوى المعروفة بالبقلاوة، ومن الأراضي ما توسل أهلها إلى أرباب المكانة أن يسجلوها في دائرة التمليك بأسمائهم لما شرعت الدولة العثمانية 1882م بتسجيل الأملاك على أصحابها، وذلك فراراً من ظلم عمال تلك الحكومة ومن وضع الرسم المعتاد، ومنهم من تخلوا للأعيان عن أراضٍ عانوا مع آبائهم زراعتها زمناً طويلاً، تخلصاً من تسجيل نفوسهم

لما حررت النفوس، ومن أهل القرى من خرجوا عن ملك أراضيهم لأنه وجد فيها قتيل، وكانت العادة ولا تزال إلى اليوم أن يلزم أهل الأرض بدية من يقتل فيها أو تفرض غرامة ثقيلة عليهم، فمنهم من تركوا أرضهم مخافة أن يُلزموا بمال لا قِبَل لهم بأدائه. ومن القرى ما خرج عن ملك أهله كما وقع لأهل مرج ابن عامر في القرن الماضي لما عجزوا عن دفع الأموال الأميرية فباعته الحكومة التركية بالثمن البخس صفقة واحدة لرجل واحد مقابل رشوة قبضها الوالي. ومن المرابين من اقتنوا قرى كثيرة في الديار الشامية لأنهم كانوا لا يشفقون على الفلاح باشتطاطهم عليه بأخذ الربا الفاحش. وما زلنا في كل دور نرى الفلاح في أكثر الأقاليم يقترض المائة بمائة وخمسين من الخريف إلى البيدر وأحياناً ترتفع الفائدة إلى أكثر من هذا القدر، فإذا أُضيف إلى ذلك ظلم الأعشار (1) وتعدد الضرائب على الفلاح حتى كاد يهلك بسببها، لا نستعظم إذا رأينا خراباً، بل نقول: لماذا نرى هذه الرشاشة من العمران قرب المدن والثغور، وعلى شواطئ الأنهار والبحيرات. ولقد كانت الأوقاف من جملة ما أخر الزراعة، ذلك لأن الأراضي الموقوفة تجمد على حالة واحدة في أشجارها وغلاتها ومجاريها وسكورها وزرائبها، وكل جسم لا ينمو يصيبه الفناء. وعلى كثرة ما وقف المسلمون على أعمال البر وغيرها لا يمضي القرن والقرنان حتى يعود الوقف ملكاً صرفاً، ولولا ذلك لكثر الخراب أكثر مما هو الآن في القرى والحدائق. ولو دام حكم إبراهيم باشا المصري إلى اليوم لأصبحت أرضنا عامرة كمصر لأنه نشط الزراعة وأمر بنشر دود الحرير ودود القز وعلم الأهالي كيفية قطف الزيتون بالأيدي حتى صار شجره يعطي ثمراً كل سنة فاستعادت بعمله أكثر القرى عمرانها القديم. كتب قنصل بريطانيا في دمشق سنة 1859م بمناسبة زيادة الضرائب على الأهلين وتوكيل الجنود بجبايتها بالعنف: إن الحكومة تأخذ مال الشعب ظلماً وعنفاً، ولا تحميهم من البدو الذين يزدادون جرأة واعتداءً، وعملهم قائم

آفة الهجرة على الزراعة:

بابتزاز أموال الفلاحين التعساء لما فيه مصلحتها، على حين لا تأتي بدليل على إدراكها وجوب حماية الذين يجب عليهم أن يدفعوا الأموال اللازمة لتحسين حال الولاية، وسد حاجات الحكومة المركزية، وإنما تهمل الاحتياط للأمر. وقال أيضاً: إن جو الشام صاف وهواءها وأرضها خصبة حسنة الري، ففي مكنتها أن تصبر على هذه الحالة أكثر من غيرها من الولايات الأقل خصباً، ولكن لا بد في آخر الأمر من أن تفرغ هذه الموارد. آفة الهجرة على الزراعة: ومما أُصيبت به الزراعة من الآفات آفة دونها الآفات كلها، بدأت تدب في جسمها أواخر القرن الماضي بركوب الفلاحين غوارب الاغتراب عن الوطن في التماس الرزق وطرق الغنى. وذلك منذ دهش الناس لأرباح المهاجرة الأول من الشاميين إلى أميركا. أرباح لم يكن لابن هذه الأرض عهد بها وكان ثلاثة وعشرون قيراطاً من أربعة وعشرين قيراطاً منهم يعيش، ولا سيما في الأرض القاحلة، عيش القلة الشديدة. فلم يلبث الناس في الجبال أن حذوا حذو أولئك المهاجرين، فأخذ الناس ينزحون إلى أميركا الجنوبية والشمالية وإلى استراليا وجنوبي إفريقية وغيرها من البلاد المفتتحة حديثاً، حيث يسهل جَني المال، وتزيد أجرة العامل على نفقته كثيراً. وهاجر ألوف أيضاً إلى مصر والسودان عقبى الاحتلال الإنكليزي سنة 1882م فحرمت الشام في أربعين سنة نحو سبعمائة ألف يد عاملة، كان ثلثهم يستوطن في الأصقاع التي نزلها، تمسك بتلابيبه لكثرة علائقه وطيب العيش فيها، والثلث الثاني يهلك، والثلث الثالث يرجع. ولم تلبث الهجرة أن عمت جميع السكان، اقتصرت على أبناء الجبال أولاً، ثم تناولت ابن السهول، وانتقل الغرام بها من ابن القرية إلى ابن المدينة. ومن جملة ما زاد في عدد المهاجرين سهولة السفر وتأليف شركات للتسفير تسلف المهاجر أجرة طريقه ونفقاته الأولى ريثما يجد عملاً حيث ينزل. وهذه الهجرة من أعظم ما أخر حال الزراعة في هذا القطر، فأصيبت بضربة مهمة أهمها ارتفاع أجور العملة فيها لأن من عاد منهم يحمل مالاً ولو

خصب الأراضي ومعالجتها وما يزرع فيها:

قليلاً استنكف عن العمل في الزراعة كما كان هو وأبوه، ومنهم من بنوا القصور الغناء والدور القوراء في مزارعهم، وأخذوا ينعمون بطيب العيش، ويبحثون أوقات فراغهم في أمور ما كانت لهم ولا كانوا لها، ويلهون ويلعبون على الطرق التي اقتبسوها في مهاجرهم. وقد كانت جبال لبنان وعامل والعلويين وقلمون والخليل والسامرة من أشد الأصقاع التي تأذت بالهجرة فتأخرت زراعتها فوق تأخرها. ولقلة اليد العاملة رأينا بعضهم في البقاع يقرن امرأته إلى ثوره تعمل مع فدانه، ورأينا الحورانة يستكثرون من الأزواج يتخذونهن أجيرات في أعمال الحقل وعلف الدواب واستخراج الدرّ وعمل السمن واللبن. ولئن دخلت القطر أموال طائلة بسبب الهجرة فثروة أمة لا تعد بكثرة نقدها بل بكثرة ما يعمل أبناؤها في أساليب الرزق المختلفة، وقلّ أن أُنفق مال يذكر على تحسين الزراعة وإقامة الشركات النافعة، ونحن لم نبرح ننشد مع حافظ إبراهيم: أيشتكي الفقر غادينا ورائحنا ... ونحن نمشي على أرض من الذهب خصب الأراضي ومعالجتها وما يزرع فيها: يضرب المثل بزكاء منابت الشام واعتدال أهويتها، وجودة مناخها، وكثرة مياهها، على كثرة حزونها وجبالها، وإن أرضاً تعطي حبتها في بعض الجهات مائة حبة، كأرض الرحبة بالقرب من جبال الصفا، لتعد من أخصب بقاع الأرض، وذلك لأن أرضها مستريحة منذ العصور المتطاولة. فإذا كان بنوا إسرائيل قد جعلوا عادة لهم أن يريحوا أرضهم مرة كل سبع سنين، فإننا قد أرحناها منذ قرون، ولذلك لا تضن علينا بخيرات سطحها كلما حرثناها وزرعناها. وما زالت زراعتنا كما عرفها الأجداد بل كما عرفها الإنسان منذ آلاف من السنين، ليس فيها شيء من العلم إلا التجارب، ولا من التغيير إلا ما تضطر إليه الأحوال وتهدي إليه الفطرة، ولذلك يعوزها كثير مما يجود في غيرها من النباتات والأشجار. قال الرحالة فولني في كلامه على مناخ الشام: إن الأرز يجود زرعه على شواطئ بحيرة تاحولة، والنيلة تنبت بلا عمل على ضفاف نهر الأردن في بَيْسان وهي لا تحتاج إلا قليل من العناية حتى تستوفي الشروط المطلوبة. وبعد أن أفاض القول على مدن الشام قال: إن دمشق تفاخر وحق

تقسيم السهول والجبال:

لها الفخر بأن فيها كل الثمار التي تحصل في ولايات فرنسا. ثم ذكر أن البن الذي يزرع في تهامة اليمن تلائم زراعته أرض الشام، ومناخها يلائم طبائع الثمار كلها فينبت النخل كما ينبت الصنوبر والسرو. وقال هوار: لئن كان القطن زرع في أوربا فإن ضواحي هاتين المدينتين دمشق وحلب كانت خاصة بزراعة شجيرة القطن، وهذه الحقول البديعة توجب حيرة السياح، والقطن الصغير الطول ينبت في ضواحي دمشق، وكانت عكا واللاذقية وقبرس تعطي صنفاً ثالثاً من القطن، وكانت أرجاء نابلس إلى عهد قريب تصدر من القطن ما قيمته مئات الألوف من الدنانير. وقال بوست: تقسم فلسطين باعتبار الفلاحة إلى أربعة أقسام: السواحل كساحل غزة ويافا وشارون وهي صالحة لنمو مزروعات المنطقة تحت الحارة، ووادي الأردن العَربَة وهي تناسب مزروعات المنطقة الحارة والجبال وفيها أودية كثيرة مخصبة كمرج ابن عامر يزرعيل، والأودية المجاورة كالناصرة ونابلس والخليل حبرون وهي تناسب مزروعات المنطقة المعتدلة، والسهول الداخلية وهي تناسب في الأكثر الحنطة والشعير والسمسم. قال: ولا شك بأن هذه البلاد كانت ذات أشجار برية وبستانية أكثر مما هي الآن. وكان التراب على جوانب الجبال أكثر مما هو اليوم، وكذلك العيون فإنها كانت أكثر عدداً وماءً فضلاً عن أن مياه الشتاء كانت تجمع في مساقي وصهاريج. وقال ورن: إن فلسطين شرقي الأردن وغربيه كافية لسكنى خمسة عشر مليوناً من الجنس البشري إذا اعتني بها الاعتناء الواجب. قلنا: إذا كانت الشام على هذه الصفة من الخصب والسعة فكيف لا تسع العشرين مليوناً من الناس وكل إقليم من أقاليمها كالبلقاء أو الجولان مثلاً يعد الصالح من تربته أكثر من مملكة من الممالك الصغرى في أوربا، ولكن السر بالسكان لا بالمكان. تقسيم السهول والجبال: قسم صاحب كتاب الزراعة العملية الحديثة أقاليم الشام الزراعية إلى خمسة أقاليم يتركب كل منها من عدة مناطق تكاد تكون واحدة في درجة الارتفاع عن سطح البحر وهي:

1ً إقليم الغور أي شواطئ الأردن وهو يمتد من بحيرة الحولة شمالاً إلى بحيرة لوط جنوباً، أي أراضي جنوب بحيرة الحولة وأراضي البطيحة والغوير وسمخ والقسم الشرقي من بحيرة طبرية وأرض جسر المجامع وبَيسان وجنوب بَيسان وغور الصلت ومنطقة ريحا وشواطئ بحيرة لوط. ومن جملة نباتات هذا الإقليم البردي والأسَل والقصب الفارسي والأكاسيا الشوكي والسوسن وزنبق الماء على شواطئ بحيرة الحولة والسدر الكثير في الأراضي المجاورة لبحيرة طبرية كأرض الغوير والمجدل والبطيحة وغيرها والغار والطرفاء والقصب وأنواع النخيل وسفط السيال والرتم والبان والصلة والغرقد والعوسج والعشر وغيرها على شواطئ الأردن في منطقة بَيسان وشرق الشرعة والصلت وأريحا. 2ً إقليم السواحل التي تمتد من شبه جزيرة العقبة إلى خليج الإسكندرونه ويشتمل على السهول الساحلية من غزة ويافا وحيفا وعكا وصور وبيروت وطرابلس واللاذقية والإسكندرونة ويدخل فيه مرج ابن عامر وأراضي جنين وشمال بحيرة الحولة ويجود فيه الليمون والبرتقال والموز والرمان. ومن جملة نباتات هذا الإقليم الطبيعية البلان والصنوبر البحري والقندول والوزال والطرفاء وانواع البرسيم والشقائق والدّفْلى زالأقحوان والقصب الفارسي وأنواع مختلفة من البلوط. 3ً إقليم السهول وتدخل فيه سهول الكرك والبلقاء وحوران وسفوح حرمون والبقاع والجولان والغوطة والمرج والسهول المرتفعة في فلسطين وحمص وحماة وحلب وما شاكلها من السهول المتقاربة في إقليمها، وتجود في هذا الإقليم الأشجار المثمرة والخضر والتوت واللوز في الأرض البعلية والحور والصفصاف والدلب في شواطئ الأنهار. 4ً إقليم الجبال ويدخل فيه جبال الكرك والصلت وعجلون وقلمون وجبل الشيخ ولبنان ولبنان الشرقي والنصيرية والأقرع، ويجود فيه الزيتون والكرم والتين واللوز والصنوبر والسرو والفستق البري والميس والحبوب وكثير من الأشجار المثمرة، وفيه من النباتات الطبيعية البطم والقَيْقَب والجنستا والخرنوب والزعرور والعليق والشذاب والدردار والزيتون والسنديان والدلب والصنوبر والديشار والآس والسَرْحس، وفي أقسام الجبال المرتفعة بعض أنواع البلوط ثم الأرز والدفران.

من الذين أدخلوا الطرق الجديدة:

5ً إقليم الصحراء وتتناول ما نسميه بادية الشام أي الأصقاع الواقعة شرق المعمور من دمشق تنبت فيه بعض النباتات والأعشاب منها ما يزول في الربيع ومنها ما يبقى في الصيف. وليس في هذا الإقليم سكان إلا البدو الضاربون في أرجائه. من الذين أدخلوا الطرق الجديدة: أدخل ثلاثة أصناف من الناس في الشام روحاً جديداً في زراعتها، ومنهم مهاجرو قافقاسيا وغيرهم ممن سكنوا قرى كثيرة في عمل حلب ودمشق وعَمّان، فإن هؤلاء أدخلوا أصول الزراعة على طريقتهم وهي أرقى من طريقة من نزلوا عليهم في حمص والبلقاء والجولان مثلاً. ثم إن الألمان الذين أقاموا لهم مستعمرات في حيفا ويافا منذ 1868م قد كانوا مثال الفلاح النشيط، وكان على فلاحنا المجاور لهم أن يتعلم منهم ويعتبر بما يأخذه الفلاح الجرماني من وافر الغلات، ويتعلم منه تنظيم داره وإصطبله وحديقته ومزرعته وتعليم أولاده وغير ذلك مما يعود عليه بالنفع والراحة. وأهم من أدخلوا التجدد في الزراعة في ربوع الشام الصهيونيون من مهاجرة ألمانيا ورومانيا وروسيا وبولونيا وغيرهم، فإنهم والحق يقال قد أنشئوا بأموال روتشلد وبركم وفيرو وفيتيفيوري وغيرهم من أغنياء الإسرائيليين الذين ابتاعوا الأراضي في فلسطين لأبناء نحلتهم، وأمدوهم بالمال ليتوفروا على استثمارها، مزارع حرية بأن تكون نموذجات الحقول، وقد قامت الجمعيات الصهيونية مثل الجمعيات الصهيونية اليهودية وجمعيات ايكا وفاعوليم والأليانس وغيرها بأعمال مهمة لنشل أبناء دينهم من سقطتهم، وأنشئوا لهم قرى كسارونا وزمارين والخضيرة وملبس والجاعونة والشجرة وغيرها هي كالقرى الأوربية بإتقان أعمالها الزراعية. وممن ساعد على إنجاح الزراعة بعض مهاجري اللبنانيين الشرقي والغربي فإن منهم من وضع مما اقتصد من المال أمواله في الزراعة وأدخل طريقة الأمريكان في أرضه. درس الزراعة: وكان من أثر مدرسة الزراعة العملية في نيتر قرب يافا التي أُسست منذ نحو خمسين سنة، وكان يتخرج فيها في السنة على الأقل عشرون تلميذاً يستطيع

نقص كبير:

تطبيق علمه الزراعي على العمل أن نشرت أصول الزراعة الحديثة بين أبناء إسرائيل، وغدا فيهم الكفاة للقيام على الحرث والتسميد والبذر والغرس والتعهد والتقليم والتطعيم، وأصبحت مستعمراتهم تخرج أصنافاً جيدة من الخمور واللوز وغيرها لا تخرجها القرى المجاورة لها. ومن مدارس الزراعة التي نفعت بعض أبناء سورية وفلسطين مدرسة اللاطرون بين يافا والقدس أنشأها الآباء البيض. ومدرسة تعنايل بين بيروت ودمشق أنشأها الآباء اليسوعيون. وقد أنشأت الحكومة السابقة مدرسة زراعية في سَلَمْية لكنها ضعيفة في تلقين العمليات والنظريات، وقد ألغتها مؤخراً بحجة أن تلاميذها لم يعملوا في الصناعة التي اختصوا بها، وآثروا التوظيف في أعمال الحكومة، وذلك على شرط أن تؤسس مدارس عملية أخرى ومشاتل في كل قصبة فلم يتم شيء من ذلك. ومن الغريب أن الزراعة وهي تكاد تكون في هذا القطر المحبوب مورد عيشة الأول، لم يدرسها إلى اليوم سوى أفراد قلائل، ولا أذكر سوى بضعة شبان ممن يملك آباؤهم مزارع واسعة تعلموا فن الزراعة على الأصول في مدارس فرنسا وإنكلترا وتونس ومصر والآستانة، وجاءوا فعنوا بتطبيق ما تعلموه، وكان الواجب أن يكون لكل بضع قرى مهندس زراعي، يعلمها من علمه ويمدها بتجاربه ويدير شؤونها كما يدير أهل البصر في الغرب مزارعهم. نقص كبير: إلى اليوم لم تدخل على ما يجب أرضنا الأدوات الزراعية الحديثة التي تقلل عمل الأيدي وتزيد النماء كآلة الحرث والبذر والدرس والتذرية دع غيرها، وما أبقاه لنا بعض علماء العرب من الكتب الزراعية التي طبع بعضها بلغتنا في أوربا دليل كبير على ترقي هذا الفن أيام لم يكن في الأرض من يحسنه. سبق العرب الغرب في كل شيء، وسبقهم هو اليوم ويا للأسف في كل شيء، والدهر دول يوم لك ويوم عليك. سبق الأجداد في كل شيء، وتأخر الأحفاد في كل شيء، والفلاحة التي هي أشرف الأعمال وضيعة في نظر كثيرين حتى إن بعضهم قال وقد رأى

التحسين الأخير:

السكة في دار: ما دخلت هذه السكة دار قوم إلا ذلوا، ولو قال: ما خلت هذه السكة من دار قوم إلا ذلوا لكان أقرب إلى الصواب. شعار الغرب اليوم الأرض هي الوطن ومن توفر على تحسينها يخدم وطنه وإذا كانت الفلاحة عندنا ينظر إليها نطر احتقار فمن باب أولى أن ينظر إلى الفلاح كذلك وهو خادم الوطن الحقيقي. وإذا كان الفلاح كالسلطان في مزرعته عند الأمم الممدنة، فهو هنا عبد لقّ لصاحب الأرض وللحكومة وللمرابي. وبينا نرى أرباب المزارع في الممالك الراقية، ومصر منها، يُعنون براحة فلاحيهم وتعليم أبنائهم وبناتهم، وتوفير قسطهم من الصحة والهناء، ويجعل لهم حتى في قراهم مدارس ومعابد ودور تمثيل وصور متحركة للتسلية، نجد أكثر المزارعين هنا يجدّون في أن يبقوا فلاحيهم جهلاء أغبياء حتى يخضعوا لهم بزعمهم أبد الدهر خضوعاً أعمى، وقلّ أن سمعت بأن مزارعاً أنشأ لفلاحيه عندنا مدرسة بسيطة أو مسجداً وأتاهم بخطيب يعلمهم أو بطبيب يطبهم، ولذلك تجد القرى التي يملكها أفراد صفراً من هذه الوجهة، لأن صاحب القرية لا يهتم إلا لتكثير الدخل السنوي وإرهاق فلاحه، وابن البادية والقائمون على الزرع والضرع أقل الأمة ويا للأسف حظاً من التفكر بسعادتهم: انهم ليسوا مادة الثروة، إذا اختل نظامهم تطرق الخلل إلى سائر مذاهب المعاش، ومقومات الحضارة ومظاهر الرخاء والهناء. ولا يزال يدور على الألسن في وصف الفلاحين أنهم غبر الوجوه إذا لم يُظلموا ظَلَموا ولكن تثقيف أودهم بالتربية قلما يخطر ببال، وقطع الجرثومة من أساسها لا نراه دواء عاجلاً! التحسين الأخير: على أن من الواجب أن يقال أيضاً: إنه استفادت كثير من قرى الغوطة والمرجين ووادي العجم والبقاع وبعلبك والحولة وجبال عامل وعكار والحصن ونابلس وعكا والخليل وغزة وسهول حمص وحماة وحلب وإنطاكية وإسكندرونة والسويدية عمراناً منذ ثمانين سنة بفضل بعض طبقة الأعيان، لأنهم استطاعوا أن يحموها من عيث البادية وعبث الظلمة من العمال، وأن يمدوها بالمال وقت

العسرة فغُرّموا على تحسنها أموالاً، وصرفوا قواهم إلى الانتفاع بها ما أمكن. وكان العربان يداهمون حتى القرى القريبة من الحواضر، ويطلبون منها اخوة أو الخاوة وهي مبلغ من المال يتقاضونه من الفلاحين البائسين يؤدونه لصعاليك البدو صاغرين، وإذا استنكفوا عن أداء ما يطلب منهم، محتجين بضيق ذات اليد أو رداءة الموسم، نهبوا دورهم وحرقوا عروضهم وغلاتهم واعتدوا على أرواحهم. وقد كانت معظم الأرياف مأوى الأشقياء وعصابات قطاع الطرق، فما كان الفلاح يجسر أن ينتقل من قرية إلى أخرى، أو يحمل محاصيله إلى المدن، ولا أن يعمل في حقله البعيد قليلاً عن القرية أو المزرعة. فلما طبق قانون الولايات سنة 1281هـ ثم أُنشئت المحاكم النظامية كان من أثرها القضاء على عصابات من أرباب الدعارة، وقلّت الشقاوة، فانصرف الفلاحون كلهم إلى العمل، لأن الأسعار بدت بالارتفاع، فبعد أن كان الحوراني ينقل غلاته على الجمال إلى بيروت أو عكا فلا يتحصل منها غير أجرة النقل، أصبح الفلاح يحمل غلاته إلى المواني البحرية ولا سيما غزة ويافا وحيفا وبيروت وطرابلس واللاذقية والإسكندرية فتأتيه بأرباح طائلة، لأن الحبوب كالثمار، أصبحت تسافر في البحار، ويدفع في ثمنها النضار. وانتبه الفلاح لحاله بكثرة اختلاطه بابن المدن فعرف بؤسه، فلم يكن على ما كان منذ سبعين سنة مملوكاً لجهله الطبيعي، ولظالميه من المرابين وغيرهم من أدوات التخريب. وكان من تأسيس المصارف الزراعية، وإن كانت قليلة رؤوس الأموال، ويجب أن يكون فيها التسهيل كثيراً، أن أنزلت معدل الربا إلى سبعة في المئة، فخففت من غلواء المرابين والصيارفة. ولو زيد في ترقية المصارف الزراعية وأُنشئت مصارف عقارية تقرض أرباب العقارات أيضاً بفائدة معتدلة لزادت المنافع المطلوبة للزراعة. وصادف أن قلت آفات الزراعة في العهد الأخير، فأصبحت الأوبئة في البشر والبقر لا تفعل فعلها الشديد كما كانت في الأدوار السالفة، وردمت بعض المستنقعات الصغيرة التي كانت بجوار بعض القرى، وعني ديوان الصحة بفتح مستوصفات في القصبات ومستشفيات في المدن، فتحسنت الصحة بعض الشيء، وأصبح الفلاح يدرك فائدة التطبب، وإن أعوزه الطبيب أحياناً، وفتحت وزارة

عناية القدمين بالزراعة:

المعارف مدارس ابتدائية في بعض القرى الكبيرة فدخلت المدنية قليلاً وزادت النفوس زيادة محسوسة، وربما زادت عما كانت عليه منذ سبعين سنة سبعة أضعاف. وهذه الزيادة أفادت الزراعة أيضاً. ولم تصب بعض الأصقاع الزراعية بالضعف إلا مدة الحرب الأخيرة، وقد كلب عمال الترك فاستلبوا من الفلاح ابنه وبقره وغنمه وخيله وحميره وبذاره وحطبه وقطنه وصوفه وقشره، ولو طالت الحرب سنة أخرى لحصد الوباء البقري الأبقار من أكثر أنحاء الشام، لأن ما بقي سالماً منها كانت الحكومة تأخذه للنقل أو للذبح، فتعطل بعضهم عن الحرث، ولكن من نجحوا من هذه الغوائل ولو قليلاً استفادوا من ارتفاع الأسعار أرباحاً طائلة، فوفوا ديونهم وخرجوا وقد أغنتهم الحرب ولم تفقرهم. وما زلت أعتقد أن أصحاب الحوانيت مقصرون جداً في تعليم الفلاح، وتحسين حالته المعاشية والمنزلية والصحية، حتى كاد يصبح بطول الزمن شقيق البهائم لا يفرق عنها إلا أنه ناطق، وهذا النقص يحمل عليهم وعلى الحكومة. فقد تجتاز إلى اليوم القرية والقريتين في الأرجاء البعيدة ولا تجد رجلين أو ثلاثة من أهلها يقرءون ويكتبون على ما يجب، فكيف لهم أن يعرفوا مل لهم وما عليهم من الحقوق والواجبات. ولا يستقيم للزراعة حال فيما رأى إلا إذا عَلّمت كل أُسرة يأتيها رزقها من الزراعة أحد أبنائها هذا الفن الجليل، ولا تمضي بضع سنين حتى تدخل الشام في طور الأقطار الزراعية الراقية، وعندها تتضاعف الثروة مرتين أو ثلاثاً، وينقطع دابر الهجرة ويعمر الغامر كما يزيد عمران العامر. ويعتقد الناس أن العز والغنى معقود بالأرض، وأن الشرف يستمده المرء من عمله الحر الحلال. عناية القدمين بالزراعة: إن ما انتهى إلينا من الكلام القليل على الزراعة الشامية لا يشفي غلة الباحثين اليوم، لأنه مجمل يحتاج إلى تفصيل كثير. وإذا عرضنا له هنا فللاستئناس به في تاريخ الزراعة في الجملة، فقد علمنا أن الإسرائيليين كانوا يريحون الأرض سبع سنين ثم يزرعونها فتأتي غلاتهم مخصبة نامية. وعلمنا أن النبطيين وهم

العرب الرحل في أرجاء البتراء في الجنوب كان من المحظور عليهم أن يزرعوا الحنطة ويغرسوا الأشجار المثمرة ويبنوا البيوت إذا كانوا يعتبرون أن الاحتفاظ بهذه الخيرات يحتاج إلى أن يفادي المرء بحريته. وعرفنا أن الفينيقيين كانوا لا يُعنون بالزراعة عنايتهم بالتجارة، فكانوا يجلبون من الداخل ومن السواحل القريبة منهم ما يلزمهم في غذائهم. حتى إذا جاء العرب وأبدوا ما أبدوا من حب التحضر كان قانونهم من أحيا أرضاً مواتاً فهي له واطرد ذلك منذ الفتح. واغتبط العرب بما وجدوه من الخصب في هذه الربوع بعد قحولة الحجاز وبواديه المحرقة فقال زياد بن حنظلة في فتح عمر مدينة إيليا من قصيدة: وألقت إليه الشام أفلاذ بطنها ... وعيشاً خصيباً ما تعد مآكله حتى إذا تربعت أُمية في دست الخلافة وأخذ آلهم ورجالهم يقتنون المزارع، ويبالغون في اتخاذ الغروس والزروع المثمرة المغلة، جعلوا القرى مستغلات لهم ونزازها وعُنوا بعمرانها، وتنافسوا في ذلك. فقد ذكر المنبجي أن هشام بن عبد الملك اتخذ المستغلات الكبيرة في أكثر المدن التي في سلطانه، والخانات والحوانيت والحجر والضياع والمزارع، وهو أول من اتخذ الضياع لنفسه من العرب، واشتق أنهاراً كثيرة غزيرة، وهو الذي استخرج النهر الذي فوق الرقة، وغرس غرساً كثيراً بالجزيرة والشامات، فبلغت غلته أكثر من خراج مملكته. ولطالما عُني الخلفاء بأن لا تبقى أرض شاغرة لا تستغل، فقد أنزل معاوية قوماً من الفرس في طرابلس، وكان الرشيد لما انتشر ذاك الطاعون الجارف في فلسطين على عهده وكان ربما أتى على جميع أهل البيت فتخرب أرضوهم وتعطل، قد وكل بهذه الأرضين من عمرها فكان يتألف الأكرة والمزارعين إليها فصارت ضياعاً للخلافة. وما زالت العناية بتعهد الأرض متوفرة حتى اغتنى العرب الذين استغلوا هذه الديار بذكائهم وبعد نظرهم. والعرب كما - قال أحد علماء الإفرنج - عمال زراعة ورجال براعة، برعوا في سقي الجنائن واخترعوا النواعير العجيبة بل ووطنوا النباتات والأشجار الإفريقية والآسيوية في أوربا كالنخل والبرتقال والتوت والقطن وقصب السكر والذرة والأرز والحنطة السوداء والزعفران والهندباء

أصناف الزروع والأشجار:

والخرشوف والسبانخ والباذنجان والطرخون والبصل والياسمين الخ وينسب إليهم اختراع طواحين الهواء ونواعير الماء. وقال ميشو: ما من دار في أوربا إلا وتعرف اليوم البصل الذي جاء اسمه وأصله من عسقلان. ومعلوم أن الأندلس ابنة الشام فتحها الشاميون ونقلوا إليها مدنيتهم. وهذه الصنوف من الزراعة التي انتشرت في الأندلس ثم في سائر أوربا تكاد تكون خاصة بأرض الشام في تلك القرون. لا جرم أن الحضارة التي أوجدها العرب كان من أول دعائمها الزراعة فاحتاجت الدول والأمة إلى الاستكثار من الغروس واستجادة الزروع من وراء الغاية. قيل لإسحاق بن يحيى الختلي من ولاة دمشق 235 لٍمَ سكنت دمشق وفلحت أرضها، وأكثرت فيها من الغروس من أصناف الفاكهة، وأجريت المياه إلى الضياع وغيرها؟ فقال: لا يطيق نزولها إلا الملوك قيل له: وكيف ذلك؟ قال: ما ظنكم ببلدة يأكل فيها الأطفال ما يأكله في غيرها الكبار!. ولطالما دهش العرب بغوطة دمشق لأنها كانت أول ما يقع عليه نظرهم من عمران الشام فيعجبون للأشجار والزروع المنوعة التي لا يُعرف أكثرها في شبه جزيرة العرب ويدهشون للخصب والمياه الدافقة من كل جهة. أصناف الزروع والأشجار: ذكر المهلبي أنه من كور حلب وضياعها ما يجمع جميع الغلات النفيسة فإن بلدة معرة مصرين وجبل السماق بلد التين والزيتون والزبيب والفستق والسماق والحبة الخضراء. وقال ابن شداد: وفي بعض ضياع حلب ما يجمع عشرين صنفاً من الغلات. وقال ياقوت: ويزرع في أراضيها القطن والسمسم والبطيخ والخيار والدخن والكروم والذرة والمشمش والتين والتفاح عذياً لا يسقى إلا بماء المطر، ويجيء مع ذلك رَخصاً غضاً روياً، يفوق ما يسقى بالمياه والسيح وقال: إن أكثر مستغل ضياع الغور السكر ومنها يحمل إلى الآفاق، وفي عسقلان نخل كثير وصنوف من التمور والرمان يحمل إلى كل بلد بحبسه، وإنها معدن الجميز كثيرة المحارس والفواكه. واشتهرت نواز في جبل السماق بتفاحها الكبير المليح. وتل أعرن في حلب بعنبها الأحمر المدور. وقال ابن جبير: في بلاد المعرة وهي سواد كلها بشجر الزيتون والتين والفستق وأنواع الفواكه ويتصل

التفاف بساتينها وانتظام قراها مسيرة يومين. وقال ابن حوقل: وما حول معرة نسرين من القرى أعذاء ليس بجميع نواحيها ماء جار ولا عين، وكذلك أكثر ما بجميع جند قنسرين أعذاء ومياههم من السماء. وقالوا: اشتهرت الفرزل في البقاع بزبيبها الجوزاني، وكان يعنل به الملبن المسمى بجلد الفرس وهو من خصائصها، وأن بعلبك معدن الأعناب والحولة معدن الأقطان والأزهار، واشتهرت بَيسان بالنخيل الكثير كما اشتهرت بيروت وآبل بقصب السكر، يطبخ بها السكر الفائق، وعراق الأمير بسفرجلها، والناعمة بخرنوبها الفائق. وقال المقدسي: إن عسقلان معدن الجميز وأريحا معدن النيل والنخيل كثيرة الموز والأرطاب والريحان. ومعان معدن الحبوب والأنعام، ويُبنى معدن التين الفائق الدمشقي. وأن أشجار جبال فلسطين زيتون وتين وجميز وسائر الفواكه أقل من ذلك. وقال: خير العسل ما رعى السعتر بإيليا وجبل عاملة وأجود المري ما عمل بأريحا، وأن عنب القدس خطير وليس لمعنقتها نظير. وذكر ابن حوقل أن أهل زُغر يلقحون كرومهم وكروم فلسطين كما يلقح النخل بالطلع الذكر وكما يلقح أهل المغرب تينهم بأذكارهم. وقالوا: إن لبنان كثير الأشجار والثمار المباحة يتعبد فيه أقوام قد بنوا لأنفسهم بيوتاً من القش يأكلون من تلك المباحات، ويرتفقون بما يحملون منها إلى المدن من القصب الفارسي والمرسين وغير ذلك. وقال شيخ الربوة: ولجبل لبنان ولا سيما بقضيبه وأذياله نحو من تسعين عقاراً ونباتاً نافعاً مباحاً بلا ثمن وله قيمة جيدة وثمن يكتفي به الجابي الجامع طول سنته له ولأهله، ومن ذلك الكثيراء والريباس والبرباريس والقاوينا وهو عود الصليب والقيسه والبقس والقبقب الذي يعملون منه المرامل والملاعق والآلات المموهة بالذهب والفضة ويحمل إلى سائر البلاد والأقاليم، وليس عملاً ألطف منه ولا أحسن، ومن النباتات أيضاً شجر المحمودة والاشتوان والزراوند والحماما التي لا توجد إلا في إقليم دمشق وهو معلق في شقيف عالٍ ما يقدرون على جنيه إلا أن يدلوا جانبه بحبال من رأس جبل عالٍ، كما يدلى الدلو في البئر، وهي لأجل الترياق الفاروق والراوندان واللوز المر والحلو والأبهل والقراصيا والزيزفون، وأما الفواكه فكثيرة جداً بلبنان اه.

وذكر الثعالبي أن التفاح اللبناني موصوف بحسن اللون وطيب الرائحة ولذاذة الطعم يحمل منه في القرابات إلى الآفاق، وكان يحمل إلى الخلفاء في بغداد منه من خراج أجناد الشام ثلاثون ألف تفاحة. وقال المقدسي في الرملة: إنه ليس أطيب من حواري الرملة ولا ألذ من فواكهها، أطعمة نظيفة وأدمات كثيرة وأنها جمعت التين والنخل وأنبتت الزروع على البعل وحوت الخيرات والفضل. وقال: إن ماء فلسطين من الأمطار والطل وأشجارها أعذاء وزروعها كذلك لا تسقى إلا نابلس فإن فيها مياهاً جارية. وقال ياقوت: إن ياسوف من قرى نابلس توصف بكثرة الرمان. وقال أبو الفدا: إن جبال فلسطين وسهلها زيتون وتين وخرنوب وسائر الفواكه أقل من ذلك. وذكر المقدسي أن على نحو نصف مرحلة من كل جانب من حبرون قرى وكروم وأعناب وتفاح يسمى جيل نضرة لا يرى مثله ولا أحسن من فواكهه عامتها تحمل إلى مصر وتنشر. وقال ابن حوقل في زغر: إن بها بسراً يقال له الانقلاء لم ير بالعراق ولا بمكان أغرب ولا أحسن منظراً منه لونه كالزعفران ولم يغادر منه شيئاً ويكون في أربع منه رطل، وبها النيل الكثير المقصر عن صباغ نيل كابل، وفيه لهم تجارة كبيرة واسعة ومقصد كبير. وقال الظاهري: إن غزة كثيرة الفواكه. وقال ابن بطلان في إنطاكية: إن أرضها تزرع الحنطة والشعير تحت شجر الزيتون. وقال ياقوت: وبدمشق فواكه جيدة فائقة طيبة تحمل إلى جميع ما حولها من البلاد من مصر إلى حَرّان وما يقارب ذلك فتعم الكل. ولقد ذكروا في باب خصب أريحا أن الجفنة التي عمرها 42 سنة تكون استدارتها على سطح الأرض مترين وثلاثين سنتيمتراً وتحمل في السنة 1500 كيلو من العنب وأنه يضرب المثل بورودها وأزاهيرها ويخرج منها الزقوم والسدر وهو أشبه بالزيتون الكبير يستخرجون منه زيتاً للجروح. وكذلك النبق وهو بمقام الصبار والزيزفون في بلاد أُخرى يستعمل حيطاناً للحوائط أي للبساتين. وذكر الثعالبي أن زيت الشام يضرب به المثل في الجودة والنظافة وإنما قيل له زيت الركابي لأنه كان يحمل على الإبل من الشام وهي أكثر بلاد الله زيتوناً

وفيه ما فيه من البركة والمنفعة. وقال شيخ الربوة في نابلس: وقد خصها الله تبارك وتعالى بالشجرة المباركة وهي الزيتون ويحمل زيتها إلى الديار المصرية والشامية وإلى الحجاز والبراري مع العربان ويحمل إلى جامع بني أمية منه في كل سنة ألف قنطار بالدمشقي، ويعمل منه الصابون الرقي يحمل إلى سائر البلاد التي ذكرناها وإلى جزائر البحر الرومي، وبها البطيخ الأصفر الزائد الحلاوة على جميع بطيخ الأرض. والظاهر أن هذه الشجرة المباركة شجرة الزيتون آخذة بالاضمحلال قياساً مع حالهم في القديم، فقد قلّ عدده في فلسطين بعد الحرب العامة واستعيض عن بعضه بما بذلته الحكومة هنا من الجهد لغرس الزيتون والكرمة، أما في أرباض دمشق فهو آخذ بالقلة منذ اشتهرت الفواكه وهي هينة العمل سريعة الغلة، وكان في حمص على ما تبين من الحفريات التي أُجريت زيتون كثير بدليل ما وجد من معاصره التي لم يبقى لها زيتون تعصر منه ولا تجد الزيتون اليوم في أرجاء حمص إلا في بقعة أو بقعتين. واشتهر في القديم زيتون الطفيلة والشوبك اشتهارهما بمشمشهما وكمثراهما ورمانهما. سألنا أحد شيوخ الصلت عن السبب في إحجام القوم هناك عن غرس شجر الزيتون مع أنه يجود كل الجودة فقال: لا تذكرنا بغباوتنا فقد حملنا سعيد باشا شمدين أحد متصرفي البلقاء على أن نغرس في هذه الأدوية التي تراها مائة ألف زيتونة فوقع في أنفسنا أن في الأمر دسيسة من الحكومة تريد بها وضع الضرائب الفاحشة على أملاكنا وتسجيل أراضينا على صورة لا نعود معها ملاكها الحقيقيين فصدعنا بالأمر بالظاهر، وغرسنا أُلوفاً من شجر الزيتون، ولكن أتدري كيف تخلصنا منه بعد؟ كان أحدنا يجيء إلى الغرسة فيحركها حتى لا يطلع جذعها وهكذا لم يبق من كل ما غرسه الصلتيون إلا ما تشاهده اليوم في جوار القصبة وقليل ما هو. قلنا: وعجيب تبدل تصورات الناس فرجال الحكومة بالأمس كانوا يحملون الناس على زرع الأشجار. ويزينون لهم اقتناء الأراضي للزراعة، واليوم يطلب الأهلون في هذا العمل وفي غيره الأرض الموات ليحيوها ولا يعطون طلبتهم! هكذا رأينا أهل الشراة والطفيلة ومعان، على حين يقضي قانون الأراضي بان كل من يحيي أرضاً مواتاً تبعد عن القرى والدساكر مقدار ما يسمع الصوت فيها من أقصى العامر فهي له. ولقد رأينا كثيراً من

أهل القرى استأصلت أشجار التين والكرمة وغيرها لأن العشارين كانوا يتقاضون منهم عشرها فاحشاً أثمرت أم لم تثمر، فعدمت بعض القرى شجرها المثمر بهذا الظلم!. وما قيل في كثرة الزيتون يقال في كثرة الأعناب واشتهرت بلدان كثيرة بذلك، وقد أكثر شعراء العرب من ذكر خمر بيت رأس ولبنان وغزة وجدر وصرخد وأذرعات والأندرين وبنات مَشايع وبَيسان ولدّ ومآب والخمر المقَدَيّة وخمر الأحصّ وقاصرين في أرجاء حمص وحلب وكان يقال لجبل بيت المقدس جبل الخمر لكثرة كرومه. واشتهرت حلبون في جبل سنير بخمرها وكثرة كرومها. ويظهر أن الزعفران كان كثيراً ما يجود في الشام لأنه كان يدخل في الأطعمة والأشربة كثيراً، ومزارع الزعفران التي كان يطلّ عليها من يدر مرّان في السفح الغربي من قاسيون جبل دمشق مشهورة، والغالب أنها كانت في أرض النيرب، وكان الزعفران يجود في جادية في قرى البلقاء والجادي هو الزعفران. ولم تكن عنايتهم بالنخيل أقل من عنايتهم بالزيتون والكرم مثلاً ولا سيما في جنوب الشام وشرقه. ولا أثر اليوم لبعض الثمار مثل القراصيا والكستانة والبندق والبيسيم المشمولة وكانت كثيرة مبذولة هي والكراز حتى القرن الحادي عشر وكان القطن يجود في ضواحي دمشق وحماة وحلب. ذكر القلقشندي زروع الشام وفواكهه وريحاينه فقال: إن غالب زروعه على المطر قال في مسالك الأبصار: ومنها ما هو على سقي الأنهار وهو قليل وفيه من الحبوب من كل ما يوجد في مصر من البُرّ. الشعير. الأرز. الباقلاء. البِسِلّة. الجلبان. اللوبياء. الحلبة. السمسم. القرطم. ولا يوجد فيه الكتان والبرسيم. وبه من أنواع البطيخ والقثاء ما يستطاب ويستحسن. وكذلك غيرها من المزروعات كالقلقاس. الملوخيا. الباذنجان. اللفت. الجزر. الهليون. القُنّبيط. الرّجلة. البقلة اليمانية، وغير ذلك من أنواع الخضراوات المأكولة، وقصب السكر في أغواره إلا أنه لم يبلغ في الكثرة حد مصر. وأما فواكهه ففيه من كل ما يوجد في مصر كالتين. العنب. الرمان. القراصيا. البرقوق. المشمش. الخوخ - وهو المسمى بالدراقن - والتوت.

الأشجار غير المثمرة:

والفرصاد، ويكثر بها التفاح والكمثرى والسفرجل مع كونها أكثر أنواعاً وأبهج منظراً، ويزيد عليه فواكه أخر لا توجد بمصر، وربما وجد بعضها في مصر على الندور الذي لا يعتد به كالجوز. البندق. الأجاص. العُنّاب. الزعرور، والزيتون فيه الغاية في الكثرة، ومنه يعتصر الزيت وينقل إلى أكثر البلدان وغير ذلك. وبأغوارها أنواع المحمضات كالأترج. اللّيمون. الكباد. النارنج. ولكنه لا يبلغ في ذلك حد مصر. وكذلك الموز ولا يوجد البلح والرّطب فيه أصلاً. قال في مسالك الأبصار: وفيه فواكه تأتي في الخريف وتبقى في الربيع كالسفرجل والتفاح والعنب. وأما رياحينه ففيه كل ما في مصر من الآس والورد والنرجس والبنفسج والياسمين والنسرين، ويزيد على مصر في ذلك خصوصاً الورد حتى إنه يستقطر منه ماء الورد وينقل منه إلى سائر البلدان. قال في مسالك الأبصار: وقد نسي به ما كان يذكر من ماء ورد جُور ونصيبين. وبعد فقد دخلت الشام في العهد الحديث عدة ضروب من الزروع والغراس لم تكن فيه من قبل مثل الشوح. الأوكالبتس. الأكاسيا. المشمش الهندي. البندورة الطماطم أو القوطة والبطاطا فكان منهما فائدة جلى وأصبحت البندورة والبطاطا من أهم أنواع التغذية، وسرعان ما انتشر الغرام بهما وعمت القاصية والدانية زراعتهما. الأشجار غير المثمرة: كانت الشام مشهورة بسروها وصنوبرها وأرزها، ويقول الشجارون: إنه كان في غوطة دمشق ألوف من أشجار السرو انقرضت، وأدرك الغزي في حلب من شجر السرو الهرمي والصيواني أشجاراً قليلة ثم فقد عن آخره، وكان يوجد منها بكثرة، وأحسن الجبال في الشام التي احتفظت بغاباتها بعض الشيء جبل لبنان، فإن الصنوبر والرز فيه كثير. وقد أكثر القدماء والمحدثون من الكلام على تاريخ الأرز لورود ذكره في الكتاب المقدس مرات، ولأن من خشبه بني قصر داود وهيكل سليمان والهيكل الثاني الذي جدد في أيام زربايل وسقف الهيكل المجدد في عهد هيرودوس وقبة القبر المقدس وسقف الكنيسة

في بيت لحم، وقالوا: إن الأشوريين والبابليين والفرس والمصريين استعملوه في قصورهم وبناء هياكلهم واستعمله الأسكندر المقدوني في السد الذي أقامه بين الجزيرة والشاطئ من مدينة صور وكذلك السلاقسة أدخلوه في بناء دورهم. وكانت أخشابه تحمل إلى طرابلس وصيدا وصور وبيروت وتعمل منها السفن وفيها عمل معاوية أساطيله لغزو الروم. وما برح كثير من المتدينين بالنصرانية يتبركون بشجر الأرز ويحملون من غصونه قطعاً ينقلونها من مملكة إلى أُخرى. وهو عطر الرائحة إذا وضع في النار ويحسن في المشم إذا مسسته بيدك، ولونه اصفر فاقع مشرب بخطوط حمراء لا تعبث به الأرضة ولا يفعل فيه السوس. والغالب أن الحكومات السالفة في لبنان كانت تحتكر أربعة أشكال من الشجر تستثمرها لخزينتها وهي السرو والعرعر والأرز والصنوبر وتسمح باحتكار غيره وبدأ النقص في هذه الأشجار منذ خمسة قرون وقد احتاج اللبنانيون إلى الاحتطاب للدفء والعمارة، وكانوا يسمون رزق الرجل أشجاره، وإذا غضب الحاكم على أحدهم يقطع شجره فيقولون في أمثالهم الدارجة الله يقطع رزقه أي شجره كما يقولون الله يخرب زوقه أي بيته، وربما أسرع اللبنانيون في احتطاب شجر الأرز وغيره لئلا تصدعهم الدولة العثمانية كما أن كثيراً من القرى في القاصية كانت أيام الأعشار تقطع التين والكرم وغيره من مثمر الشجر لتخلص من ظلم العشارين الذين يتقاضون العشر من الشجر أثمر أم لم يثمر على ما تقدم. ولم يبرح شجر الرز مشاهداً في عدة أماكن من لبنان على كثرة ما انتابه من البوائق فبالقرب من معاصر الفخار على مقربة من بيت الدين غابة منه فيها نحو 250 شجرة يسمونها الأبهل، وأُخرى فوق قرية الباروك غير ملتفة وضعيفة النمو، لكثرة المطار والثلوج والعواصف في تلك الأرجاء، ومنها ما غرس حديثاً، وثالثة فوق قرية عين زحلتا، وكان أُحرق أكثرها لاستخراج القطران منه، ورابعة بين أفقا والعاقورة في جرد جبيل من جبل كسروان، وخامسة بين قرية تنورين وبشرّي صغيرة الشجر وعدد شجيراتها نحو عشرة آلاف، وسادسة بالقرب من بشري على علو 1925 متراً على سطح البحر وهي مقصد السياح وفيها أضخم أشجار الأرز ويبلغ عددها 397 وقيل 680 شجرة منها 12 كبرى

وأكبرها شجرتان دائرة جذع كل منهما نحو خمسة عشرة متراً وارتفاع طولهما خمسة وعشرون متراً وقدروا عمرهما بثلاثة آلاف سنة. وفي تسريح الأبصار أنه لا أثر اليوم في الشام لشجر الأرز إلا في أعالي سير بالضنية في وادي النجاص ففيه كثير من شجر الأرز على ارتفاع 1900 متر عن سطح البحر. وبين سير ونبع السكر وفي الغابة الواقعة خلف وادي جهنم ويسمى عند أهله تنوب على أن في جبال قره مورط إحدى شعاب جبل اللكام من عمل إنطاكية غابات من الأرز وغيره من فصيلته. ولو توفرت العناية بأمثال هذه الأشجار وقضت الحكومة على كل فلاح ان يغرس ويتعهد عشر شجرات منها، إذاً لما مضى خمسون سنة حتى تصبح الشام كسويسرا بأشجارها الغضة الملتفة، تحسن المناظر والمناخ ويكون منها عموم النفع، كلما وقع القطع منها في ثلاثين سنة كما تجري فرنسا في غابة فونتينبلو وغيرها من غاباتها البديعة المشهورة. ولا تكون في جمالها أقل من شجر الأرز الذي يكسو نجاد جبال طوروس الدروب ووهادها فترى فيها تلعة مستطيلة إلى جانبها تلعة هرمية وأُخرى ذات شكل بيضوي وغيرها المحدودب والمربع أو قائم الزوايا ومنفرجها وكلها مزينة بالأشجار. يقول كاتب جلبي من أهل القرن الحادي عشر: إن غابات الشام كثيرة اشهرها غابة عسقلان وهو حرج كبير يمتد إلى نواحي الرملة. ومن الغابات غابة أرسوف بالقرب من نهر العوجا تمتد إلى عكا وكان يقال له غاب قلنسوة وهذا الحرج يمتد من قاقون إلى عيون التجار، ومن الحراج حرج القنيطرة، وفي أطراف حلب عدة غابات وخصوصاً الغاب الكبير ويقال له الزور واكثر شجره التوت اه. ولقد ثبت أن الغابات كانت في القرون السالفة أكثر من اليوم وان معظم جبالنا التي نراها اليوم جرداء كانت خضراء وأن التجريد من الغابات وقع في أدوار مختلفة فقد ذكر ابن حوقل أن جبل قلمون وجبل المانع وجبل الشيخ المحيطة بدمشق كانت منذ القرن الرابع مجردة من أشجارها قال: إنك إذا كنت في دمشق ترى بعينك على فرسخ وأقل جبالاً قرعاء من النبات والشجر وأمكنة خالية من العمارة. وتجريد الشام من غاباته دعا إلى زيادة مساحة عدد البطائح والمستنقعات وتاليف صحار من الرمال فقد قالوا: إن الظلال كانت تمتد شرقي قيسارية على ستة أو

ثمانية كيلو مترات فأصبحت اليوم عبارة عن كثبان من الرمل. وهكذا سواحل فلسطين بل معظم سواحل الشام طمت عليها مياه البحر فأبقت فيها الرمال وألّفت منها بطائح ومغايض وأفسدت الأراضي العامرة. ولهذا النظر قلّ ولا شك مساحة المزروع من ارض الشام سنة عن سنة والمستنقعات معروف ضررها بحياة الفلاح وإن كانت أقلّ من الكثبان والحرار. وضرر المستنقعات يتناول الأنفس لما ينبعث عنها من الحميات التي كثيراً ما رأيناها تقفر قرى برمتها من سكانها. وقد قال الزراعي أرنزون: إن أهم الآفات التي ابتليت بها الغابات ثلاث: الرعي المتبادل وحق المرعى في الأراضي الخالية والحيوانات الصغيرة ولا سيما الماعز وفأس الحطابين. ونسب خراب الغابات في فلسطين - وسائر الشام تتصرف عليها - إلى إصدار الخشب والتبن والسماد إلى الخارج، وقال: إن الربح من إصدارها لا يوازي خراب الغابات وقلة غذاء الحيوانات وبوار الأراضي بقلة السماد والسباخ. الأشجار المثمرة وغيرها: وكانوا يتفننون بتسمية الفواكه والبقول والورود. قال البدري: والعنب في دمشق فقط أصناف: البلدي. خناصري. عاصمي. زيني. بيتموني. قناديلي. إفرنجي. مكاحلي. بيض الحمام. حلواني. بوارشي. جبلي. قصيف. ابزاز. الكلبة. قشلميش. كوتاني. عبيدي. شحماني. جوزاني. دراقني. مخ العصفور. عرايشي. رومي. شبيهي. ينطاني. عصيري. رناطي. ورق الطير. سماقي. حرصي. مجزع. شعراوي. دربلي. قاري. علوي. عينوني. مورق. مشعر. مسمط. مرصص. محضر. مقوس. حمادي. تفاحي. رهباني. زردي. مبرد. مخصل. مغاربي. شحمة القرط. وقسم المشمش إلى أحد وعشرين صنفاً وهي: حموي. سندياني. أويسي. عربيلي. خراساني. كافوري. بعلبكي. لقيس. لوزي. دغمشي. وزيري. كلابي. سلطاني. حازمي. أيدمري. سنيني. برديّ. مُلَوّح. قرط البخاتي. جلاجل القلوع. الخ. ووصف العماد الكاتب المشمش الدمشقي فقال: طلعت في أبراج الأطباق كأنها كرات من التبر مصوغة، وبالورس مصبوغة، صفر كأنها ثمر الرايات الناصرية، حلا

الصناعات الزراعية القديمة:

منظراً وذوقاً، ولو نظم جوهره لكان طوقاً، كأنما خرط من الصندل، وخلط بالمندل، وجمد من الثلج والعسل، وتصاحب هو والسلطان في الركوب والجلوس، والتناجي بما في النفوس. وقال البدري: ومن خصوصيات دمشق الطرخون من بقول المائدة وكان يخرج فيخا السذاب والرشاد وبقلة الحمقاء والماش والهندباء والكراويا والتوت الأسود والشامي. وكان يكثر فيها الكراز والوشنة وهو فيها سبعة أنواع. وذكر أن الورد جنس تحته ستة أنواع بدمشق ومنه الجوري والنسريني، والنرجس جنس تحته أنواع منها اليعفوري والبري، والمضعف وذكر منثورها وزنبقها وآذريونها وآسها وحبه وريحانها ونيلوفرها وبانها وحيلانها وزنزلختها وتمر حنائها وقراصياها وكمثراها ثلاثة وعشرون صنفاً وتفاحها ودراقها ستة عشر صنفاً وخوخها ثلاثة عشر صنفاً إلى غير ذلك مما كان غي القرن التاسع. الصناعات الزراعية القديمة: وكانت الزهور والورود من أهم فروع الزراعة، وللطيوب والعطور ومستقطرات الزهور، شأن وأي شأن منذ الأزمان المتطاولة. وكان للأقدمين على ما يظهر غرام شديد بالملاب العطر المائع والكباد اليابس، ويستعملون المسك والعنبر والزعفران كثيراً، ويولعون بالعَرف والأريجة، وكان لهم طيب يقال له الغالية وهي مسك وعنبر يعجنان بالبان قال ابن سيده: ويقال إن الذي سماها غالية معاوية بن أبى سفيان وذلك أنه شمها من عبد الله بن جعفر بن أبي طالب فاستطابها فسأله عنها فوصفها له فقال: هذه غالية. وقد حفظ لنا شيخ الربوة من أهل القرن الثامن شيئاً من الإشارة إلى كثرة الورد والزهر في دمشق فقال: إن العطر وغيره كان يستخرج في المزة من ضواحي دمشق من زهورها وورودها حتى إن حراقته تلقى على الطرقات وفي دروبها وأزقتها كالمزابل فلا يكون لرائحته نظير ويكون الذّ من المسك إلى مدة انقضاء الورد. وذكر صفة إخراجه في الكركات والأنابيق ورسم صورها والقرع والنبيق آلتان لصنع ماء الورد السفلى هي القرع والعليا على هيئة المحجمة هي الأنبيق قال: وغير هذه الكركة كركة أُخرى يستخرج منها الماورد وغيره من المياه بلا ماء بوقود الحطب وذلك

بعد حشو القرع بالورد وبلسان الثور وبزهر النوفر أو البان أو زهر النارنج والشقيق والهندباء أو بورق القرنفل المزروع بدمشق. قال: ويحمل الورد المستخرج بالمزة إلى سائر البلاد الجنوبية كالحجاز وما وراء ذلك وكذلك يحمل زهر الورد المزي إلى الهند وإلى السند وإلى الصين وإلى ما وراء ذلك ويسمى هناك الزهر. ومما أرخوه أنه كان لقاضي القضاة الحنفية ولأخيه الحريري قطعة بأرض تسمى شُور الزهر طولها مائة وعشر خطوات وعرضها خمس وسبعون خطوة باع منها عشرين قنطاراً باثنين وعشرين ألف درهم وذلك سنة خمس وستين وستمائة وهذا لم يسمع بمثله اه. وكانت حلب في القديم مختصة بماء الورد النصيبي الذي يستخرج بالباب من أعمالها قال ابن الشحنة: إنه لا يقاربه شيء مما يجلب إلى الديار المصرية من الشام ولا يدانيه مع أن المجلوب من دمشق عند المصريين في غاية العظمة بحيث يصفه أطباؤهم للمرضى فيقولون ماء ورد شامي. وينبت في أرض حلب زهر القرنفل وكان يستقطر ماؤه. واشتهرت في القديم زهور لبنان وما إليه من الجبال كجبل الشيخ فإنها كثيرة مبذولة في الربيع شأنها في مراعي الجولان والعمق والبقاع والبقيعة كما اشتهرت طيوب البلقاء وصموغه وكانت تحمل إلى مصر. وقلّ اليوم من يلتفت إلى هذه الصناعات الزراعية. ومن صناعاتهم الزراعية في القديم السكّر وكان يعمل في القديم على ضفاف الأردن ولا تزال معامله في جنوبي الغور تدعى إلى اليوم مطاحن السكر، وكان السكر أكثر مستغل تلك الناحية يحمل إلى الشرق والغرب. وكان يصنع السكر في إنطاكية وطرابلس وعكا ويافا ويحمل منها إلى الآفاق. قال القلقشندي من أهل القرن التاسع: في الشام يعمل السكر الوسط والمكرر. وكانت زيوت الشام كخمورها تصدر إلى القاصية. ويعصر السليط أي دهن السمسم في دياف من حوران وبه اشتهرت. وكان الصابون الحلبي والنابلسي وغيره مما يفيض عن حاجة القطر يباع منه في الأقطار الأخرى. وكان الجبن الكركي مشهوراً يصدر إلى مصر. وقد قامت الحكومة العثمانية إبان الحرب العامة بعمل بعض المحفوظات والمربيات في دمشق فتعمل الحساء ذروراً ثم يذاب في ماء حار وقت الاستعمال فيأتي كأنه طبخ الساعة واستخرجوا من العظام مرقاً معقماً. وأخذوا يعملون

من الثمار والبقول مجففات ومحضرات على طريقة لا تنقص من تغذيتها وتكون عند الاستعمال كأنها طرية حديثة عهد بالقطف من الشجرة أو المسكبة. وبلغ عدد البقول المرببة عشرة أنواع كان يتناولها الجندي في كل وقت كأنه على مقربة من الحدائق والمقاتي. واستخرجوا في معامل الفيلق بدمشق أشربة كثيرة من ماء الزهر وماء الورد وشراب قشر الليمون وقشر البرتقال تجعل أرواحها في زجاجات وتكفي القطرة منها كأس ماء لتكون حلوة ذات نكهة تستعمل في أشربة الجيش ولا سيما في مستشفيات البادية. وبالجملة فقد كان لتعقيم السوائل واستخراج الأشربة وتجفيف الثمار والبقول وخبز الأخباز بالآلات الكهربائية الصحية شأن لم يعهد في الشام ثم تنوسي بعدهم. ومن صناعاتهم العسل وكانوا يغالون بأكله كثيراً واشتهر عسل سنير وجبل الثلج كما اشتهر دبس بعلبك وجبنها وزيتها ولبنها، قال ياقوت: ليس في الدنيا مثلها يضرب بها المثل. وكانت بيسان توصف بكثرة النخل، والنخيل مما يجود غي الأغوار وكان كثيراً في القديم والشاميون يعنون بتعهده من وراء الغاية. ويظهر أن العسل والزعفران والدبس والقنود والتمور كانت مما يعول عليه في الأطعمة والحلواء أكثر من اليوم. ولدينا وثيقة في بعض المأكولات ذكرها أبو القاسم الواساني من شعراء اليتيمة الدمشقيين نظمها منذ نحو ألف سنة في وصف جماعة زاروه في قرية جمرايا على مقربة من الهامة في غربي دمشق، ومما جاء فيها ما أكلوه من الأطعمة وفيه إشارة إلى كثرة أنواع التمر: أكلوا لي من الجرادق ألفي ... ن ببنّ تشتاقه العارضان أكلوا لي أضعافها غير مشطو ... ومالوا إلى سميذ الفران أكلوا لي من الجداء ثلاثي ... ن قُرَيْصاً بالخل والزعفران أكلوا ضعفها شواءً وضعفي ... ها طبيخاً من سائر الألوان أكلوا لي تبالة تبلت عق ... لي بعشرٍ من الدجاج السمان

أكلوا لي مضيرة ضاعفت ض ... ري بروس الجداء والعقبان أكلوا لي كشكية قرحت قل ... بي وهاجت لفقدها أشجاني أكلوا لي سبعين حوتاً من النه ... ر طرياً من أعظم الحيتان أكلوا لي عدلاً من المالح المش ... ويّ ملقى في الخل والأنجدان أكلوا لي من القريشاء والبر ... نيّ والمعقلي والصرفان ألف عدل سوى المصقر والبر ... دي واللؤلؤي والصيحاني أكلوا لي من الكوامخ والجو ... ز معاً والخلاط والأجبان ومن البيض والمخلل ما تع ... جز عن جمعه قرى حوران ومن صناعتهم الزراعية صناعة الصابون وكانت من أنجح الصناعات القديمة ومصابنه في حلب وكلز وإدلب وإنطاكية ودمشق ونابلس وطرابلس واللاذقية وحيفا ورام الله وبعض قرى لبنان. وخير الصابون وأشهره اليوم الصابون النابلسي فيه على ما يظهر خاصية ليست بغيره أو أن السر في جودته إتقانه بدون غش. ومنذ أفلتت الصناعات من رؤساء لها تشرف على أعمال أهلها انحطت في دمشق صناعة الصابون فقد كانت له أماكن خاصة لتجفيفه وكانوا لا يبيعونه إلا بعد ثلاث سنين من صنعه ويصدر إلى أقطار العالم وثمنه يزيد خمسين في المائة على سائر أنواع الصابون وكنت إذا غسلت به الثياب تجد من رائحتها ما ينعش قلبك

معادن الشام وحماتها:

من الروائح الذكية، والآن يبيعون الصابون الدمشقي اخضر بدون تجفيف ويزاحمه في عقر داره الصابون الغربي لرخصه وهو مركب من زيوت صناعية على الغالب ليس من الزيت الخالص، وعسى أن يرسل صناع الصابون في نابلس وطرابلس ودمشق وحلب وعكا وحيفا إلى أوربا من يدرسون المادة التي تدخل الصابون الغربي فتزيد رغوته أخضر كان أو يابساً، يعيدون إلى الصابون البلدي رونقه السالف ويخلصون من النكهة الخبيثة في الصابون الغريب. - معادن الشام وحمّاتها: وخليق بنا وقد انتهى بنا نفس الكلام على ما حوى سطح الرض من الخيرات الطبيعية إلى هذا الحد، أن لا نغفل الكلام على ما حوى بطنها من المعادن والأمواه النافعة. فقد أجمع المتقدمون لأنه كان فيها معادن حديد في لبنان كان قدماء المصريين يحملونها إلى قطرهم، وأجمع المتحدثون الذي بحثوا عن طبقات الأرض وتركيبها على أن الشام خالية من الفحم الحجري وما وجد منه لا يوازي ثمنه ما يصرف في تعدينه، وفي لبنان طبقات القضّة فيها فحم خشبي متحجر لنيت يمكن استثمارها وفي قرطبا وميروبا والمنيطرة مناجم من هذا الحجر الخشبي وأشهر طباقاتها الفحم الخشبي المتحجر في قرنايل، وقد صار الاعتناء باستخراجه من سنة 1835م إلى 1838م، ومن مناجم هذا الحجر منجم مارشينا وفالوغا وبزبدين وجزين وزحلتا وعين التغرا وحيطورة ويجوز استخدام هذه المناجم للمعامل الصناعية الصغيرة والحاجات البيتية للوقود. والفحم الحجري ونظنه من نوع الفحم الخشبي في جبل البشر وأبي فياض شرقي حلب وذكر ياقوت أن في جبل البشر ويمتد إلى الفرات من أرض الشام من جهة البادية أربعة معادن: القار، والمغرة، والطين الذي يعمل منه بواتق لسبك الحديد، والرمل الذي يعمل منه في حلب الزجاج وهو رمل أبيض كالاسفيداج. وللحُمَّر مناجم في عينبل وحُريقة في جبل عامل وفي أرجاء مرجعيون، وأشهرها منجم حاصبيا، كان يستخرج منه في اليوم 80 صندوقاً وزن كل واحد منها 100 كيلو وكان السلطان عبد الحميد الثاني يستثمره لنفسه، وبعد انحلال دولته أهملته الحكومة لقلة اليد العاملة واضطرت أن تهمل معدن سحمر

في البقاع وغيره من المعادن في الشام. فأضر إهمال الحُمّر بأرباب الكروم فتصاعدت أثمانه وهو يستعمل كل سنة عند تأبيرها فلحقته الدودة من أجل ذلك وقلت مداخيله. وفي التاس بين حمص وتدمر معدن للحمر يكاد يوازي معدن حاصبيا بصفائه. وفي المقارن بين درعا وسمخ مناجم كلس ممزوج بحمر، وكذلك في أرباض تدمر وفي الصلت ووادي اليرموك. قال المقدسي: إن في الشام جبال حمر يسمى ترابها الصنغة وهو تراب رخو وجبال بيض تسمى الحوارة فيه أدنى صلابة يبيض به السقوف ويطين به السطوح. ومعدن الحديد كثير في قضض لبنان واتربته، وعلى سطح الجبال وبطون الأودية، لا سيما في ارجاء البترون وكسروان والمتن وفي قرية دومة وبيت شباب وفي عكار ومشغرة والفرزل ومجاري الأنهار مثل نهر الكلب ونهر إبراهيم. ومن هنا كانت تؤخذ مواد المسابك لمعامل الحديد التي كانت في تلك الأرجاء، والمانع من استثمارها اليوم قلة الوقود أي الفحم الحجري، والحطب لا يفي بهذا الغرض على نحو ما كان الحال إلى عهد قريب. وأهم مناجم الحديد في برمانا وبحمدون ووادي النهر الكبير حجر الصفار الكروم وفي جبال اللاذقية معادن حديد كثيرة وفيها رصاص ممزوج بالفضة وخشب فحمي ونيكل وكان في القديم في ناحيتي باير وبوجاق معدن حجر الصفار يستخرج منه في السنة 2500 طن ولم يبق له أثر، ويوجد حجر الصفار على شواطئ بحرية طبرية ومن نوع البيريت واللنيت في برتي وكفر سلوان ومرجبا وفي راشيا وسفح جبل الشيخ الغربي وجنوبي حاصبيا وفي عين اللبوة وعين عطا وشوايا وعين قني والروج والكفير. والنحاس في قرية اهمج في كسروان وفي الجنوب الغربي من حلب وكان منه في عين جر فأكدى لكثرة ما استخرج منه، وكان النحاس الأحمر يحمل من جبل جوشن على قيد غلوة من حلب. وذكر كاتب جلبي أن في بيت حبرون معدن زجاج يستخرج منه فيحمل إلى الأطراف فيباع ويحمل إلى السودان والحبشة من أسورته ويقايض عليها بالتبر. واستثمر معدن الفحم الحجري في مرجيليا في لبنان أثناء الحرب الكبرى

لوقود السكك الحديدية واستخرج منه 1916 ما يقارب 1300 طن. وذكروا أن الطبقات الفحمية في لبنان وجدت في نيحا، المراح، كركبا، زحلتا، عبيه، عرمون، جمهور، عين تراز، بحمدون، القرية، رأس الحرف، مرجيليا، بتبيات، مارحنا، الكنيسة، عين موفق، قرنايل، جورة أرصون، بزبدين، رأس المتن، ترشيش، جوار الجوز، حيطورا، عين تدجورا، عين زحلتا، صيدنايا، قيتولة، بكاسين، جزين، حمصية، مشغرة، قرطبا، حدث الجبة، مزرعة بيت ابن صعب، الديمان، القنيات. ومنه الرديء الذي لا بال له. وفي جهات أبو فياض على 80 كيلو متراً من حلب فحم حجري رديء من اللنيت كما أنه منه في جهات حوران وفي قرية عرنة من إقليم البلان معدن الفحم الحجري قيل: إنه لم ينضج وفي حضر من إقليم البلان معادن أُخرى براقة. وفي جبال الكرك كثير من أنواع المعادن قصدها مؤخراً كثيراً من معدّني الإنكليز لتحليلها ومعرفة أنواعها. والبترول زيت الكاز حول البحر الميت. وفي أرسوس على عشرين كيلو متراً من الإسكندرونة وفي وادي صقلاب من أعمال الكورة في شرقي الأردن وفي المزيريب من عمل حوران وفي أرجاء الإسكندرونة معدن غاز سائل جرى تعدينه فلم يأت بفائدة. وفي أرجاء طرابلس معدن المغرة ونوع من الصبغ الأصفر ويوجد الكبريت بكثرة في جهات الباروك وفي قرية عنجرة من جبل عجلون وفي أرجاء البحر الميت وبالقرب من حمة عفرة في الطفيلة معادن الكبريت والقصدير والبترول والنحاس وفي رأس العين من عمل الزور وفي أماكن جبلية عديدة ولا يصلح للاستعمال لامتزاجه بمواد غريبة فحمية وحديدية. ويوجد الزاج في حارم، والنيكل ومنه الفاخر في جبل الأقرع، والفوسفات في جبال السرو بين الصلت وعمان حسبت نفقات استثماره فرأوا أنها لا تفي بها وارداته فترك وشأنه. والفوسفات موجود في شمالي يبرود وبعض جهات فلسطين. والبوتاس حول البحر الميت والإسفلت في جبل الأكراد على ثلاثين كيلو متراً من اللاذقية في قرى كفرية وقصاب وخربة السولاس ويقال: إنه أغنى منجم عُرف من نوعه. وكان في مقاطعة جرش في ارض تسمى تلول الذهب معدن ذهب جاء في الكتاب المقدس أن سليمان عليه السلام كان يستخرج الذهب منها. وفي

الجنوب الشرقي من تدمر وفي أرجاء إنطاكية معادن ذهب ولكنها شحيحة. وتكثر الفضة في جبال اللاذقية وشمالي بعلبك ومصياف وعلى ضفاف العاصي فيما يلي إنطاكية معدن ذهب ومعدن رصاص فضي ومعدن إثمد وحجر الكحل ومعدن فحم ومعدن الطفال المعروف بالبيلون في أرجاء كلز وإنطاكية، وفي جبال قره موط إحدى نواحي أنطاكية عدة معادن تستعمل للصبغ وفي جبل بارسال من أعمال كلز معدن مرمر أصفر. وكان في قرية يعفور من عمل دمشق معدن فضة قاله شيخ الربوة، وبأرض حدث من جبل لبنان جوسية فوق كرك نوح يلتقط حجارة زلطية تكسر مرقشيشا وكل معدن مائل باللونية إلى لون ما هو قسمه، وعد الخوارزمي المارقشيشا من عقاقيرهم فقال: ومنها مربع ومدور وقطع كبيرة غير محدودة الشكل وهي ضروب فمنها أصفر يسمى الذهبي وأبيض يسمى الفضي وآخر يسمى النحاسي. ويوجد الملح في مواضع كثيرة ولاسيما في جهات تدمر وجيرود وحماة والخليل وحوالي البحر الميت. وملح جيرود فيه مرارة وأجوده ملح الجبول. وفي حلب عدة ملاحات وأعظمها ما كان في جوار قرية جبول على شكل مخروطي عظيم لا تطاف أطرافها في أقل من ثماني عشرة ساعة ويجمد ماؤها في شهر أيار إلى تشرين الثاني فيكون في هذه الفترة ملحاً، ويسمى هذا النهر نهر الذهب يجري من ناحية باب بزاعا إلى أن ينتهي إلى سبخة الجبول في مساكب يعملها أهل الجبول والقرى المجاورة لها، وكانوا يقولون إن هذا النهر سمي نهر الذهب لأن أوله بالقبان وآخره بالكيل، أي أنه تزرع في أوله الحبوب كالحبة السوداء والأنيسون والكروايا وأنواع الفواكه مما يباع بالرطل، وآخره الملح الذي يباع بالكيل. ويوجد الزئبق في أرض إنطاكية وغيرها، قال شيخ الربوة: إن معدن الملح الأندراني كان يستخرج من أرض سدوم عند بحيرة لوط وكيف ما تكسرت حجارته ما تكسرت إلا فصوصاً مربعات الزاويا. ويوجد النحاس في ناحية الصور على نهر الخابور ومعدن السوديوم في البصيرة والصور والشدادي والقصبي ويعرف باسم بارود القصبي. والرصاص في إنطاكية والمغرة في جهات حلب وعمان والجبص الجبسين في جهات جيرود وصافيتا وعكار وطرابلس.

الحمات الشامية:

والرخام الأصفر في جبل الجرمق من عمل صفد وعلى ساعتين من مادبا جبلان أصفر وأحمر والحجارة الكلسية على كثرة في جميع الأرجاء، وأهم أنواع الحجارة الكلسية الرملية الحواري والرخام السماقي والجنس المدعو شحم بلحم وأجمل المقالع ما كان في جوار حلب وفي جبل باريشا من عمل حارم وهو رخام أصفر ومن أجملها الحجر المزي وهو يضرب إلى الصفرة يستخرج من مقلع المزة قرب دمشق والحجر المعرباني وهو أحمر يستخرج من مقلع معربا في قلمون كما يستخرج من مقالع تلفتا حجر هش وهوشديد البياض يعتمدون عليه اليوم في البناء بدمشق لسهولة نحته وتكثر مقالع الحجر الرملي في منحدرات لبنان السفلي وعلى الشواطئ البحرية ولونه أصفر. وجميع البنيان من صور إلى طرابلس مبنية بحجره وهو سريع التفتت سهل النحت لدى خروجه من المقلع ويتصلب في الهواء ويصلح للملاط اكثر من الحجارة الكلسية الجميلة. والحجارة الكلسية ذات تقاطيع زجاجية في المواضع المنحوتة حديثاً ولونها أبيض كامد تتحول بمرور الزمان بفعل أشعة الشمس إلى شيء من الصفرة الذهبية ولذلك كانت أبنية حلب وبيروت بهذا الحجر الجميل من أجمل أبنية الشام، واشتهرت الداروم في القديم برخامها قال الرحالة ناصر خسرو: والرخام كثير جداً في الرملة وجدران معظم الأبنية والدور مغشاة بصفائح من الرخام مرصعة بإتقان ومغشاة بنقوش ورسوم ويقطع الرخام بمنشار لا أسنان له وبرمل تلك الديار، وبالمنشار تقطع قطع من الرخام بقدر طول السواري والعمد كما تقطع الدفوف من شجره. ولقد رأيت في الرملة رخاماً من كل جنس ومنه المجزع المبقع والأخضر والأحمر والأسود والأبيض وبالجملة من مختلف الألوان اه. هذا أهم ما في بطن الشام من المعادن ومهما كانت حالها فهي وافية بحاجة أهلها ولكنها لا تمون أُمماً غيرنا كالمعادن المشهورة في العالم بذهبها وفحمها وغير ذلك، ومعادننا تجزئنا إذا استثمرناها بعض الشيء. الحمّات الشامية: الحمة بفتح الحاء وتشديد الميم العين الحارة يستشفي بها الأعلاء والمرضى،

وفي الحديث: العالم كالحمة يأتيها البعداء ويتركها القرباء، فبينما هي كذلك إذ غار ماؤها، وقد انتفع بها قوم وبقي أقوام يتفكّنون أي يتندمون. فالحمة هي ما يعرف اليوم بالحمامات المعدنية تكثر في أرض الشام البعيدة عن الساحل، وأهمها حمامات طبرية على شاطئ البحيرة، تنفع النساء في الأمراض التناسلية وتشفي الأوجاع الحادة المزمنة وأمراض الرثية والنقرس والبول السكري وأمراض أعضاء التناسل والمرة والسوداء والتهاب قصبة الرئة المزمن وبعض الأمراض الجلدية وغيرها. قال أبو القاسم في وصف حمة طبرية: وفيها عيون ملحة حارة وقد بنيت عليها حمامات فهي لا تحتاج إلى الوقود تجري ليلاً ونهاراً حارة وبقربها حمة يغتمس فيها الجُرب اه. ويجري الماء إلى الحمامات من أربع عيون حارة وأهمها ما بناه إبراهيم باشا المصري وهو في الشمال ويعرف باسمه وهو عبارة عن حوض كبير تحيط به عمد قديمة من الرخام وعليه قبة عظمى، وهي مثقوبة بثقوب أسطوانية يخرج منها البخار ودرجة حرارة الماء 62 بالميزان المئوي وهو صاف براق في الجملة ملح الطعم مرّ مهوّع وتنبعث منه رائحة شديدة من حامض الكبريت أو رائحة بيض فاسد، وهذه الحمامات ملك الحكومة تؤجرها وموسم الاستحمام فيها من أول كانون الثاني إلى آخر حزيران. ومنها الحمة حمة جَدَر في وادي اليرموك على الخط الحديدي عند الكيلو متر 93 و95 تنفع في أمراض الجلد وغيرها وهي مياه معدنية حارة تنبجس غزيرة وتجري إلى نهر الشريعة وهي ثلاث حمامات يبعد بعضها عن بعض بضع دقائق يدعى أحدها المقلى أو حمام سليم درجة حرارته 119 والآخران حمام الجرب وحرارته 108، أو حمام الريح وحرارته 82 بميزان فارنهيت وعندها آثار الحمامات الرومانية وبقربها ملعب عظيم وهو ملعب جدر المشهورة في الجاهلية والإسلام قال أحد واصفيها: ولا أُبالغ إذا قلت إ، معدل قاصديها في شهر نيسان لا يقل عن عشرين ألفاً يقيمون أياماً تحت حر الشمس وهبوب الريح لا بيت يؤويهم ولا نزل يكنهم، فإن كان قاصدوها يبلغون هذا العدد وهي قفراء خربة في شهر واحد فكم يكون عددهم لو تهيأت لهم حمامات منتظمة وأبنية وفنادق وما به تستتب لهم الراحة فيه أأُبالغ إذا قلت إنهم يزيدون على المائتي ألف؟.

وحمة زرقا معين في شرقي الأردن تبلغ درجة حرارتها 142 بميزان فارنهيت والمالح في قرية تياسير في غور الأردن من أرجاء نابلس درجة حرارته 98 ف وحمة أبي ذابلة بجانب فحل وحمة أبي سليم في المهد من أرض صنمة، بقرية سحم الكفارات وحميمة بزور النيص من أرض صنمة أيضاً ودرجة حرارتها فوق 100 ف أما حمامات طبرية فدرجة حرارتها 144 ف وماء حمة جَدَر عذب جيد الطعم يشرب سخناً وبارداً بخلاف طبرية. وحمة أبي رباح من عمل ناحية القريتين في حمص تنفع في الأمراض العصبية وتصلب الأعضاء والتشنج خاصة. وحمة ضمير في جبل قلمون كبريتية، وحمة أرك في جهات تدمر، وحمة أنطاكية وهي كبريتية وفيها مغنيزيا أيضاً. وحمة إسكندرونة بين حلب وإسكندرونة على الطريق. وحمة جسر الشغر وحمة زرقا معين في الكرك وهي ثلاثة حمامات يستحم المستحمون ببخارها ويقصدها السياح من الفرنج كما يقصدون حمة عفرة من بحيرة لوط. وحمام النبي داود في وادي الحسا. وذكر ابن الشحنة أن في السخنة من أعمال قنسرين خمسة حمامات ينتفعون بها من البلغم والريح والجرب. وبناحية العمق حمة أُخرى. وبكورة الجومة من أعمال قنسرين عيون كبريتية تجري إلى الحمة والحمة قرية يقال لها جندراس يأتيها الناس من الآفاق فيسبحون بها للعلل التي تصيبهم. قال الغزي: إن في أطراف حمام العمق عدة عيون كبريتية حارة لو جمعت إلى حوض لكانت حماماً عظيماً. وفي سنة 1300 بنت بلدية حلب على بعض هذه العيون خلوة وصارت تؤجرها. وذكر شيخ الربوة أن بين حمص وسلمية كهفاً في جبل يخرج منه بخار أشد من الضباب المتراكم فإذا دخل الإنسان ذلك الكهف خُيل أليه أنه في الحمام لشدة الوهج وكثرة قطر الماء من البخار المتصاعد من البئر الذي في وسط الكهف ويسمع غليان الماء بقعر البئر ولا يمكن النظر فيه لشدة البخار الصاعد من البئر ومن نظر فيه يشيط من الحرارة. ولعله يقصد بذلك حمام أبي رباح. وظهر مؤخراً على كيلو مترين من قرقخان من عمل إسكندرونة نبع ماء معدني درجة حرارته 43 فتهافت الناس على الاستحمام به.

نظرة في الفلاحة الشامية الحديثة

هذه أهم حمّات أو حمامات الشام المعدنية وأكثرها كما رأيت لا ينتفع بها الانتفاع المطلوب، وحالتها كما عرفت منذ القديم لا نظام فيها ولا أبنية للمستحمين حواليها. وقد عرف من تاريخ الرومان أنهم كانوا يُعنون من وراء الغاية بالحمامات المعدنية، فكانوا يبنون عليها أبنية بحسب مصطلحهم، ولكن لم نر أن العرب في هذه الديار عنوا بشيء من هذا القبيل اللهم إلا إذا كان ضاع عنا خبره لقلة التدوين. ولو أنها وقعت العناية اليوم بحماتنا على النحو الذي ينتفع به بعض الأصقاع التي تنبجس فيها مياه معدنية من إقامة المستحمات والمنازل لنزول طلاب الاستحمام وتدبيرها تدبيراً جديداً مرفهاً صحياً لكان منها منافع كثيرة لأبناء السام ومورد أرباح لها تأتي من ألوف من الغرباء والقرباء يقصدونها للانتفاع بها ويصرفون في جوارها أياماً وشهوراً يجعلون عليها مقاصير للتغميز والتمسيد، وأُخرى للتعريق، وغيرها للتبريد، وفنادق فيها شروط المدنية الحديثة، وحدائق وغابات تغرس بالقرب منها تحسن المناخ وتجمل المناظر الطبيعية نظرة في الفلاحة الشامية الحديثة أقاليم الشام: أولاً: لا تقل حرارة غور الأردن عن مثلها في بعض الممالك العربية الحارة كالعراق ومصر. ففي إحدى السنين كان معدل الحرارة السنوي في طبرية 70 - 21 درجة وهو لا ينقص عن 5 - 21 درجة وقد يبلغ أكثر من 22 درجة لا سيما في مناطق الغور الجنوبية. ولما كانوا يحسبون معدل الحرارة السنوي في القاهرة 5 - 21 درجة وفي بغداد 8 - 22 درجة كانت حرارة الغور كافية لنمو كثير من الزروع والأشجار التي أغنت مصر وستغني العراق وأعظمها شأناً القطن. ويفضل إقليم الغور أقاليم مصر والعراق في أن أمطاره قلما ينقص ارتفاعها في السنة عن 300 ميليمتر ولهذا يمكن زرع الحبوب الشتوية فيه عذياً، على حين لا يستطاع ذلك في مصر وفي معظم العراق لقلة الأمطار فيهما.

ثانياً: ليست سواحل الشام أنقص شأناً من الغور من الوجهة المذكورة فمعدل الحرارة في حيفا ويافا وبيروت قلما يقل عن 2050 درجة ولهذا يجود في الساحل كثير من النباتات التي تتطلب حرارة عظيمة كالقطن مثلاً لكنه لا بد من إسقائه في كلا الإقليمين. أما السهول ففي بعضها من الحرارة ما يكفي لنجاح القطن وهي التي لا تعلو كثيراً عن سطح البحر مثل مرج ابن عامر وسهل الغاب شمالي حماة وسهل العمق وإدلب، ويجب الري إلا في إدلب والعمق. أما في السهول المرتفعة كالغوطة وحوران والبقاع فالقطن ينتج محصولاً متوسطاً إلا أنه لا يجد من الحرارة ما يكفي لتفتح كل ثماره. ولهذا قد لا يأتي زرعه فيها بفائدة من الوجهة الاقتصادية والواجب أن لا يحل القطن مكان القنب في الغوطة مطلقاً. هذا ومن العبث البحث في زرع الأقطان في إقليم الجبال كسهل الزبداني وسفوح سنير وغيرها لأن نصف ثماره لا يتفتح هنالك لقلة الحرارة. هذا ومن العبث أيضاً البحث في تعميم زرعه في سهول البلقاء وحوران ووادي العجم وحمص وحماة وحلب الشرقية في البعل من الأراضي، لقلة الأمطار السنوية واختلاف مجموعها بين سنة وأُخرى وإن نجحت زراعته بلا ري في بعض قرى حوران كقرية الحراك في وادي الزيدي ضربت مثلاً بها لأنها مجتمع مياه أرضية وحالة كهذه لا تصلح للقياس. ثالثاً: ليست مقادير الأمطار واحدة في مختلف مناطق الشام. فأغزرها في السواحل دائماً. فقد دلتنا قوائم رصد الجو في مرصد الجامعة الأميركية في بيروت على أن ارتفاع الأمطار السنوية فيها لا يقل عن 700 ميليمتر في أكثر السنين وأنه يبلغ 900 ميليمتر أحياناً وهو رقم كبير. وتثبت أن ارتفاع الأمطار في حيفا ويافا يزيد على 550 ميليمتر في أكثر السنين. وهكذا في باقي سواحل الشام، وفي المناطق القريبة من الساحل. أما السهول الداخلية وهي أعظم المناطق شأناً وأغناها تربة وأوسعها مساحة، فارتفاع أمطارها يختلف بين 200 و500 ميليمتر في السنين العادية. ولما كان ارتفاع المطر الضروري لتكوين محصول متوسط من الحبوب الشتوية لا يقل عن 250 ميليمتر اتضح أن منتوجات الحبوب في تلك السهول تختلف اختلافاً كبيراً من سنة إلى أُخرى، تبعاً لمقادير المطر المنهمر ولتواريخ هطله في خلال السنة. وأمطار غوطة دمشق قليلة، فقد قستها

بنفسي خلال عشر سنين متتابعة فرأيت أنها لا يبلغ ارتفاعها 250 ميليمتراً في أكثر هذه السنين، وكان ارتفاعها دون مائتي ميليمتر في ثلاث سنين. فالغوطة إذن كالواحة كادت تكون صحراء لا تصلح للزرع، لولا بردى والأعوج ومشتقاتهما التي قلبتها جنةً ناضرة. رابعاً: لا يسقط الثلج في إقليم الغور ولا تهبط الحرارة إلى الصفر. ويندر هبوطها إلى الصفر في السواحل. أما في السهول الداخلية فلا تهبط لأوطأ من عشر درجات تحت الصفر في السنين الاعتيادية ويندر هبوطها إلى هذا الحد. لكن لكل قاعدة شواذّ ففي شتاء سنة 19241925 وكانت سنة قرّ شديد هبطت الحرارة إلى 15 درجة تحت الصفر في دمشق و20 درجة تحت الصفر في سلمية. ودام الصقيع عدة أيام فأتلف الأسباناخ والملفوف والسلق والمقدونس والبيقية والحلبة والفول وغيرها من البقول كما أتلف براعم التين والرمان وأغصان الليمون والبرتقال وبعض ورق الزيتون. وباد كثير من الأزهار والرياحين وأشجار التزيين كالمنثور والكافور والسنط والفلفل الكاذب والخروع والكزورينا وغيرها. أما الحنطة والشعير والمشمش والتفاح والكمثرى والدراق والخوخ والصنوبر والسرو والازدارخت والصفصاف والزيزفون والورد فقد قاومت فلم يمسها الصقيع بأذاه. وأضر مما ذكر هبوط درجات الحرارة إلى ما تحت الصفر بضعة أيام في أوائل نيسان من سنة 1925 فتلف أكثر من نصف محصول المشمش في الغوطة، واسودت أفنان الجوز، وبادت نباتات الخيار والكوسى والبنادورى البكيرة، فعاد الزراع إلى بذر بذورها ثانيةً. ولقد ذكرتُ هذه الأحداث لأن الطاعنين في السن من أرباب الفلاحة لم يرو شبيهاً لها منذ ثلاثين سنة ونيف. خامساً: ليس لبناء التربة في الشام كبير تأثير في إمكان غرس الشجر أو عدمه في إحدى المناطق، بل العامل الأقوى هو الإقليم وذلك أن الأمطار تهطل في الشام خلال شهور معلومة ثم يعقب المطر يبوسة تدوم بضعة شهور. وتكون الرياح شديدة، والحرارة زائدة، في شهور اليبوسة، ومهما كان ارتفاع المطر السنوي كبيراً حتى في سواحل الشام فكثير من أشجار الفاكهة لا يعيش بهناء عذياً، بل لا بد من إسقائه كالبرتقال والليمون والتفاح والكمثرى والمشمش

أتربة الشام:

والخوخ، وليس السبب في ذلك قلة مجموع الأمطار السنوية بل انحباسها منذ أواخر الربيع وطول فصل الصيف وأوائل الخريف. فأمطار باريز مثلاً لا تزيد في السنة على أمطار بيروت أو أمطار طرابلس لكن المطر في باريز يهطل في كل شهور السنة تقريباً فتنمو الأشجار المذكورة دون ري على العكس من حالتها في الشام. ومن الشجر ما يعيش بلا إسقاء في جميع مناطق الشام الغربية كالزيتون والكرمة واللوز والرمان والفستق والآس والزعرور والعناب. أما مناطقها الشرقية فمنها ما يصلح دون ري للكرمة واللوز والزيتون كشرقي العاصي إلى جبال الشومرية وكالجولان وحوران وجبل حوران وعجلون والبلقاءز ومنها ما أمطاره من القلة بحيث أن الأشجار عموماً لا تنجب بلا ري، كالغوطة والمرج وشرقي سنير منطقة القريتين وبادية الشام. وينمو الكرم واللوز بلا ري بعد أن يكبر في القرى الشرقية من منطقة سلمية والحمراء. أي أن المطر في تلك المنطقة وحالة المياه الأرضية هما بحيث لو سقي الكرم سنتين أو ثلاثاً حتى تضرب جذوره في التراب، لأمكن بعدها أن يعيش بلا ري. واختلاف الأقاليم في الشام يجعل هذا القطر صالحاً لزرع زروع متنوعة، وغرس أشجار شتى، فالغور والساحل للقطن والنخل والموز والقشطة والبرتقال والليمون والزيتون. والسهول للحبوب والزيتون واللوز والمشمش والخوخ والكرمة. والجبال للتفاح والكمثرى والكرز. وتقل الأصقاع التي تحوي كالشام أقاليم عديدة في مساحات ضيقة. وليس في العالم بلد غيرها يستطيع فيه الإنسان أن يصعد إلى ارتفاع 2800 متر فوق سطح البحر بعد أن يكون في أعمق من مائتي متر من هذه السوية وذلك بقطع مسافة لا تزيد على 65 كيلو متر، هذا شأن الذي يكون في البطيحة أو التابغة على شواطئ بحيرة طبرية مثلاً ويريد الصعود إلى قمة جبل الشيخ فهو يعتلي ثلاثة آلف متر بقطع تلك المسافة الصغيرة. أتربة الشام: كثيراً ما نسمع أن الشام قطر زراعي محض وأن تربتها من أخصب الأتربة

فما معنى ذلك وما هو مبلغه من الصحة؟ أما كون الشام محض أرض زراعية فلأنها لا كبير منتوج فيها سوى منتوجات الأرض فهي إذا لم تقس بغيرها تعد قطراً زراعياً ذا شأن كبير. أما إذا قسناها ببعض الممالك الأوربية حيث الأرض خضراء دائماً، والمحاصيل كبيرة بسبب كثرة الأمطار في كل فصول السنة، أو لو قيسنا بينها وبين بعض الأقطار التي فيها أنهار عظيمة تسقي بمياهها ملايين من الهكتارات كمصر اليوم وعراق الغد، إذن لوجدنا أن الشام ليس لها شأن عظيم حتى من وجهة الزراعة لأنها ما برحت ولن تبرح أرض حبوب شتوية كالحنطة والشعير تنتج بالقليل من المطر الذي يهطل فيها. أما الأشجار المثمرة والأقطان والخضر فمقامها في الدرجة الثانية لما تتطلبه من الري على حين لا تروي أنهار الشام مساحات واسعة على ما سيجيء ذكره. ونقول لمن جعلوا ديدنهم التنويه بأن الشام من أعظم الأقطار التي تنتج أقطانا أنهم مدفوعون إلى دعايتهم هذه بعوامل سياسية، لأن القطن في الشام لا يمكن أن يكون له المقام الأول بين الزروع ما دامت معظم سهول هذا القطر لا تروى إلا بما تجود به السماء من المطر القليل الذي يكاد لا يكفي لحياة الحنطة والشعير. ويجب أن لا يتخذ القطن الإدلبي مثلاً لأن صنفه من أردإ الأصناف، ولأن منطقة إدلب وأشباهها ليست سوى جزء صغير من سهول الشام الواسعة الأرجاء. وقولي هذا لا ينفي كون زرع القطن مفيداً اقتصادياً في كل مكان يستطيع أن ينجب فيه. فمما تعنينا معرفته أن الأمكنة التي يستطيع أن ينجب فيها صغيرة إذا قيست بمجموع أراضي الشام الزراعية. ولئن لم تجعل الطبيعة للشام حظاً كبيراً من المطر والأنهار التي تستطيع أن تروي مساحات واسعة، فلقد جادت عليه بتربة من أجود الأتربة. وهاك خلاصة ما تجب معرفته: أولاً: تراب أهم سهول الشام طيني كلسي أكثر قرى حوران والغوطة وسهول سلمية وحمص وحماة وبساتين حارم الخ. . . وتراب بعضها طيني رملي بعض قرى الغور والبقاع الخ. وتراب بعض آخر رملي طيني بعض قرى الساحل والسهول الشرقية القريبة من البادية. ومن المعلوم أن بناء هذه الأنواع الثلاثة يعد جيداً لا سيما الأول منها.

حراج الشام:

أما من حيث غنى أتربة الشام بالعناصر الغذائية. فقد كشف التحليل عن أن معظمها غني بالحامض الفصفوريك والبوطاس. أما الآزوت نيتروجين فمقداره كبير في بعض المناطق كالغور مثلاً، وكاف في أكثرها، وقليل في بعض المناطق التي أنهكها الزرع المتتابع دون مدِّ الأرض بالسماد. ويفيد أن أذكر كلمتين في الطبقات والأدوار الجيولوجية التي تنتسب إليها أهم المناطق الزراعية فأقول: الأرض البركانية: إن أتربة حوران وجبل حوران واللجاة والجولان والبطيحة وجبل المانع والصفا وغربي العاصي بين حمص وحماة الخ هي أرض بركانية بزالتية متكوّنة من اندفاعات البراكين. الأرض الطباشيرية: هي أوسع الأرضين في الشام وإليها تنتسب معظم جبال لبنان وسنير وحرمون وعجلون والكرك والصلت وسهول البلقاء وجبل نابلس وتدمر الخ. الأراضي المنسوبة للدور الثلاثي: منها معظم جبل العلا الواقع بين حماة وسلمية، ومنها جنوب البقاع بدءاً من مجدل عنجر وسهل متسع حوالي حلب وسواحل فلسطين وقمة جبل قاسيون في دمشق مع امتداده نحو قرية القطيفة، وقسم كبير من قلمون وقسم من الجبل الأبيض بالقرب من تدمر، ومساحة واسعة حول شواطئ الفرات بعد الراسبات الرباعية الخ. الأراضي المنسوبة للدور الرباعي: في الشام كثير من الطبقات الأساسية سترت براسبات من الدور الرباعي وأكثر ما تكون الرواسب في السهول كالبقاع والغوطة والمرج ومرج ابن عامر وسهل الرملة ولدّ وسهل عكار وعلى طول الفرات الخ. حراج الشام: إذا رجع المرء إلى كتب الأقدمين يرى أنه كان للحراج في الشام شأن وأي شأن. وأهم أشجار هذه الحراج ومواقعها ومساحتها لعهدنا هذا، على وجه التقريب: أشجار الحراج: أعظمها شأناً أشجار البلوط وهي على قسمين قسم يظل

مكتسياً أوراقه في الشتاء وآخر تسقط أوراقه فيه. فمن الأول السنديان والبلوط الأخضر وهي أشجار صعبة المراس جبارة تعيش في الساحل وتعلو مع مختلف المناطق إلى ألف متر عن سطح البحر. ومن الثاني الملول والبلوط المسمى عفصاً. ولأشجار الصنوبر شأن لا يفوقه سوى شأن البلوط. وأهمها الصنوبر المثمر وهو يشاهد في الساحل وفي المناطق التي لا يزيد علوها على ألف متر عن سطح البحر. ويغرس في لبنان حمانا، برمانا، بيت مري، بكفيا الخ لأن خشبه وثماره مرغوب فيها. ويليه الصنوبر الحلبي وهو الأكثر شيوعاً يعيش في كافة الأقاليم الزراعية حتى في ارتفاع 1500 متر عن سطح البحر. ومنه حراج ملتفة في عكار والضّنّية وقزل طاغ ويستخرج منه القطران ويستعمل في الدباغة. ومن أشجار الفصيلة الصنوبرية التي تشاهد في غابات الشام السرو والتنوب أو الشوح وهو يكثر في الجبال الشامخة حيث يختلط بالأرز ثم العرعر والدفران والأرز وجميعها تعيش في الجبال العالية. وكثيراً ما يعثر المرء في غابات الشام على أشجار مثمرة برية مثل الكمثرى والزعرور والخوخ والسدر والزيتون والخروب وغيرها. كما يشاهد أشجاراً مختلفة كالبطم في البلعاس والدلب على شواطئ الأنهار واللبنة أو الأبهر في لبنان ووادي التيم والعجرم وهو مبذول والغار في غور الأردن الخ. مواقع الحراج: إذا سرنا اليوم من شمال الشام إلى جنوبها نرى الغابات الآتية: أحراج السفح الممتد بين سلسلتي جبال اللكام مساحتها نحو 10000 هكتار الهكتار عشرة آلاف متر مربع وأهم أشجارها البلوط والصنوبر الحلبي ويليهما الأبهر والأشجار المثمرة البرية. وفي منحدرات الجبال مثل هذه المساحة تقريباً مكسوة بالشجر لكن حالة شجرها سيئة. ب حراج كرد طاغ وتمتد من راجو إلى الحمام، ومساحة الشجر الملتف فيها ألف هكتار تقريباً وأشجارها السنديان والصنوبر الحلبي. ويلحظ أن فأس المحتطبين لا تكفّ عن العمل بها، وأن أضعاف هذه المساحة كانت فيما مضى حراجاً جميلة. ج حراج رأس الخنزير قزل طاغ. أهم شجرها الصنوبر الحلبي وأنواع البلوط. تبلغ مساحة ما تلتف أشجاره منها نحو 15000 هكتار إلا أن

ضعفي هذه المساحة كانت غابات ملتفة فإذا هي اليوم جرداء أو فيها أشجار حقيرة متفرقة. ويصنع القطران من صنوبر هذه الحراج في أرسوس وأنطاكية. د حراج الأردو والباير والبسيط: مساحة القسم المكتسي بالشجر اليوم 10000 هكتار تقريباً. وأهم شجرها الصنوبر الحلبي وأنواع البلوط ويليها الدلب فيما انخفض من الأرض. ويجب الاحتفاظ بهذه الغابات من عيث الماشية لأن بعض أشجارها بدأت تتلف. هـ حراج العمرانية: شجرها السنديان والملول وقليل من الصنوبر الحلبي ومساحتها 20000 هكتار تقريباً، ويلاحظ أن أكثر أشجارها الباسقة قطعت إلا في الماقع الكبيرة الانحدار التي يشق الوصول إليها، فأن أشجارها لا تزال باسقة. ومن المؤسف أن القطع لا يزال متواصلاً في هذه الحراج لنقل الحطب أو لصنع الفحم ونقله إلى حماة وحمص. وحراج عكار والضنية: هي من أجمل الغابات وأهم شجرها السنديان والملول ويليهما الصنوبر الحلبي والسرو والعرعر والأرز. ومساحتها 10000 هكتار على وجه التقريب. ز حراج الهرمل وإهدن وتنورين. تبلغ مساحتها نحو 5000 هكتار. ح حراج الصنوبر في لبنان: زرع اللبنانيون كثيراً من بزور الصنوبر المثمر وغرسوا كثيراً من غراسه فتكوّن منها حراج جميلة تشاهد في كثير من قرى لبنان. أما حراج الأرز القديمة فقد أتت عليها أيدي الجهل وبعض بقاياها في الباروك. ط حراج البلعاس: يقع جبل البلعاس على نحو خمسين كيلو متراً شرقي سليمة وفيه أشجار قديمة من البطم. لعبت بها أيدي البدو والمحتطبين الذين يأتون بمركباتهم كل يوم من سلمية إلى البلعاس فيقطعون الشجر ويبيعون الحطب في سلمية وحمص وحماة على بعد المسافة. وقد أكد بعضهم من بدو وحضر وبعض الضباط الذين اخترقوا البلعاس مراراً أن مساحته تبلغ 30000 هكتار تقريباً، وأن الشجر متفرق في أكثر أقسامه لكنه يلتف في بعض المواقع. ي حراج عجلون: هي من أوسع حراج الشام وأجملها. أشجارها السنديان والملول والصنوبر والحلبي وغيرها. وفيها مواضع أشجارها ملتفة وأُخرى أنهكها القطع.

الري في الشام:

هذه هي أهم غابات الشام وثمة غابات ومحتطبات لا كبير شأن لها اليوم لما لحقها من الأذى بسبب انكباب الإنسان على قطعها أو عيث الماشية بها، مثل غابات بعلبك وسنير وجبل الشيخ والقنيطرة وصفد والناصرة والكرمل والصلت وغزة وغيرها. وكانت الحكومة التركية خلال الحرب الكبرى 1914 - 1918 تأمر بقطع الشجر بلا روية لاستعماله بدلاً من الفحم الحجري الذي كان يعزوها. الري في الشام: يروى اليوم في الشام عدا فلسطين وشرقي الأردن مساحة تقدر بنحو 77000 هكتار على وجه التقريب وأهم المناطق التي تروى هي الغوطة والمرج اللذان يسقيان من بردى والفيجة والأعوج ومشتقاتهما ومن قُني موضعية. وتقدر المساحة التي تروى من هذا السهل الواسع بنحو 25000 هكتار ويسقى في وادي العجم من نهر الأعوج نحو 5000 هكتار. ويسقى في حمص بمياه القناة التي تشتق من بحيرة حمص بساتين واسعة. وفي الزبداني سهل يبلغ 1200 هكتار يروى من أنهار صغيرة وينابيع. ويسقى في القنيطرة والزوية نحو 2000 هكتار لا سيما في البطيحة وشمالي بحيرة الحولة إلى الشرق. وفي حماة نواعير لا يقل عددها اليوم عن ثمانين ناعورة تبدأ بين حمص وحماة وتمتد شمالاً إلى العشارنة وتسقي نحو 1500 هكتار. وفي سلمية والقرى التي في تلك المنطقة قنوات عديدة قديمة داثرة أخذ الأكارون منذ بضع سنوات يكرزنها ويعيدونها إلى سالف عهدها وزفي جيرود والنبك ويبرود ودير عطية والقرى المجاورة لها قنوات وينابيع تسقي 2500 هكتار تقريباً. وفي لبنان نحو عشرة آلاف هكتار من الأرض التي تروي، أهمها 1200 هكتار تقريباً فيها من شجر الليمون والبرتقال في طرابلس. ويتلوها بساتين واسعة حول بيروت وصيدا وصور ورأس العين والهرمل وبعلبك وبعض قرى البقاع الخ. ومما يسقى سهل عكار والبقيعة وحول اللاذقية وبعض أرض العمق وأرباض

زروع الشام وأشجارها:

أنطاكية ومدينة حلب والإسكندرونة. أما في جنوب الشام فلسطين فأعظم الأرض شأناً ما يسقى شمالي بحيرة الحولة حيث نهر الحاصباني والبانياسي واللَّدان أي أصل الأردن. ثم الغوير ومجدل طبرية ثم بيسان وما حولها مما يسقى من نهر الجالوت ثم سهل عكا ثم ضواحي مدينة يافا حيث يسقى نحو 2000 هكتار من شجر البرتقال والليمون بواسطة آبار ترفع مياهها بالمحركات. ومما يستطاع إسقاؤه من الأرض في المستقبل إذا وجد رأس المال الكافي للقيام بأعمال عظيمة للري. حتى لتبلغ مساحته ضعفي المساحة التي تسقى اليوم وربما إلى ثلاثة أضعافها، الأراضي الواقعة حول النهر الأسود عند مصبه وحول نهر عفرين وسهل العمق نحو 200000 هكتار وسهل الغاب الممتد شمالي قلعة شيزر سيجر نحو 60000 هكتار والسهل الواقع شرقي جسر الشُّغُر والسهل الممتد بين صيدا وصور وحول بحيرة الحولة وأرض واسعة في الغور بين بحيرة طبرية وبحيرة لوط الخ. زروع الشام وأشجارها: نذكر هنا بإيجاز أهم ما يزرع في الشام من الحبوب والبقول والنباتات الصناعية وما يغرس من الشجر المثمر، ثم ما ينبت لنفسه من النباتات الطبيعية المفيدة. الحبوب: أهمها الحنطة فالشعير فالذرة الصفراء والبيضاء فالأرز فذرة المكانس. الحنطة: أعظم الزروع شأناً وأغزرها محصولاً وأعمها انتشاراً. يقدر ما نتج منها في سنة 922 ب 345800 طن الطن أربعة قناطير في الشام عدا فلسطين وشرقي الأردن وأشهر أصنافها الحورانية والبياضية واليبرودية والبقاعية والحمارية والنورسية وحنطة عين غرة والدوشانية والشلمونية والهيتية. فالحورانية تعرف بساق متوسطة وسنبلة غليظة كثيفة مربعة ذات سفا لونها إلى سمرة وحب سمين قاس إلى حمرة. وهي أجود الأصناف وأعمها. تزرع في حوران ووادي العجم وفلسطين والبلقاء وحلب، وبالاختصار في كل أنحاء الشام على درجات متفاوتة. أما موطنها الأصلي فحوران. وللحنطة البياضية سنبلة بيضاء

طويلة وَبِرة نصف فَرِقة ذات سفا، وحب أبيض سمين مكسره نصف دقيقي وهذا الصنف يزرع في الغوطة والمرج ووادي العجم خاصةً. وللقمح اليبرودي ساق طويلة صلبة ثخينة نصف فارغة، وسنبلة مستطيلة كثيفة ذات سفا، وحبات ضاربة إلى البياض مكسرها قرني. وهذا الصنف يزرع في دومة وقلمون. وللحنطة البقاعية سنبلة دكناء إلى سواد، وحب إلى سمرة وهي تزرع في البقاع. أما القمح الحماري فهو يزرع في جمص وحماة وما جاورهما. وأما النورسي فيزرع في فلسطين وهو يعرف بسنبلة مستطيلة ذات سفا، وحبات مستطيلة حنطية إلى حمرة. وقمح عين غرة أشهر الأنواع في الغوطة، وله ساق طويلة فارغة. وسنبلة سمراء متوسطة الكثافة ذات سفا إلى سواد، وحب سمين طحيني اللون. أما الدوشاني فله سنبلة فرقة طويلة لا سفا لها، وحب أبيض ثخين، وهويزرع في البقاع وبعلبك وفي الغوطة على الندور. ويزرع السلموني في الأمكنة الجبلية ويعرف بسنبلة مستطيلة فرقة ذات سفا، وحب مستطيل ذي مكسر دقيقي. والقمح الهيتي من الأصناف التي تزرع في الكرك والبلقاء، وسنبلته ذات سفا، وحبه حنطي إلى حمرة. وقد جرب على القمح الطلياني في الغوطة فأتى بأحسن محصول. الشعير: هو في الشام أشهر الزروع بعد الحنطة وأكثرها منتوجاً، وقد قدرت غلاته في سنة 1922 بنحو 182500 طن في الشام عدا فلسطين وعبر الأردن. وهوعلى صنفين العربي والرومي. فالعربي ساقه قصيرة فارغة وسنبلته على صفين وهي مستطيلة ذات سفا طويل. وحباته أقل غلظة من حبات الشعير الرومي. ينضج قبل الرومي وهو أشهر منه ولا يتطلب مثله أرضاً غنية. أما الشعير الرومي فسوقه غليظة فارغة يتخللها عقد ملآنة وسنبلته على ستة صفوف، وهي متوسطة الطول كثيفة ذات سفا. يكثر هذا الصنف في الغوطة والمرج وهو يتطلب أرضاً غنية مسمدة. وتزرع الذرة الصفراء في أنحاء الشام في الأرض التي تسقى، أما الذرة البيضاء فتزرع عذياً في أنحاء فلسطين وفي عجلون ولا سيما في مرج ابن عامر. وأما الأرز

فيزرع في الحولة وهو قليل الشأن. ومن حبوب الفصيلة القرنية الشائعة ما تُعلفه الماشية كالبيقية والجلبان والكرسنة والحلبة. ومن الكلإ الفصفصة وهي ذائعة في الأماكن التي تسقى. البقول: لا تعيش أكثر الخضر والأبازير بلا ري في أقاليم الشام كافةً ولهذا يستدل من وجودها في أرض على كونها مما يمكن إسقاؤه. وأنواع الخضر التي تزرع كثيرة جداً وكلها تستهلك في القطر. الزروع الصناعية: أشهرها القنب والقطن والسمسم. أما الكتان والنيلة والحناء والخشخاش والخروع فليست ذات بال في الشام. فالقنب يزرع في الغوطة وفي حلب، لكنه في الغوطة أعظم شأناً، إذ تقدر فيها مساحة الأرض التي تزرع قنباً بنحو ألف هكتار في كل سنة، أما في حلب فقلما تزيد على مائتي هكتار. وزراعة القنب رابحة لأسباب شتى أهمها كون هذا النبات لا يتطلب عنايات غير التعطين بعد قلعه، وكونه في مأمن من الأمراض والحشرات حتى إن الماشية لا تأكل ورقه. وقد ألف إقليم الغوطة الوسطى وصار من زروعها الأساسية التي لا يرجح عليها سوى أشجار الفولكه. ومن الغلط الفاحش أن يقوم بعضهم فيبحث في استبدال القطن به، لأن للقطن أقاليم غير إقليم الغوطة، ولأنه تصيبه عاهات لا تصيب القنب. هذا عدا العنايات التي تستلزمها زراعة القطن مما لا لزوم له في زرع القنب. القطن: يمكن زرع القطن بلا ري في الشمال كمنطقة إدلب ودانة وريحا حيث قدر ما ينتج منه سنة 1923 بنحو 13000 بالة. وقد علمت أنه نتج هنالك وفي باقي المناطق التي يزرع القطن فيها نحو 15000 بالة في سنة 1925. ولكن للقطن الذي ينتج في البعل من أرض منطقة إدلب شعر غليظ مجعد وهو لا يصلح إلا للمنسوجات الغليظة، ولهذا لا يباع إلا بنحو نصف ثمن القطن المصري عادة. أما الأقطان المصرية فلا تنجب إلا في الأرض التي تسقى. السمسم: زرع السمسم شائع في فلسطين وعجلون ولا سيما مرج ابن عامر حيث ينجب في ألأرض البعل كالذرة البيضاء. ويزرع منه قليل في الغوطة ووادي العجم وهناك يكون زرعاً مسقياً. والغاية من زرعه استخراج زيت الشيرج المعروف من بزوره وتتكون أثناء عصر هذه البزور مادة الطحينة المعلومة.

الأشجار المثمرة:

المنتوجات الطبيعية: تُنبت الطبيعة في بعض الأرجاء نباتات طبيعية لها شأن في اقتصاديات البلاد مثل السوس والكمأة. فالسوس ينبت في سهل العمق وجسر الشغر حيث أجود عروقه، ثم في إنطاكية والباب ومنبج ودير الزور والسويدية وكلها في الشمال. وينبت أيضاً في الغوطة والمرج. ويقدر ما يقتلع من عروق السوس في الشمال بنحو عشرة آلاف طن كل سنة، وكلها تنقل إلى إسكندرونة حيث تسحق وتشحن إلى أميركا خاصة. أما في الغوطة والمرج فيقتلع نحو ألف طن سنوياً. وفوائد عرق السوس عظيمة وهو يضاف إلى عدد كبير من الأدوية ويصنعون منه في دمشق شراباً سكرياً لذيذاً يزيد الإدرار. وليس للكمأة مكانة السوس وهي لا تكثر إلا في السنين الغزيرة الأمطار. وتنبت في قلمون وجيرود وكثير من القرى الشرقية القريبة من البادية. ويختلف مقدار ما يرد منها إلى المدن باختلاف السنين. الأشجار المثمرة: أسماها مكانةً الزيتون فالكرم فالبرتقال فالليمون فالمشمش فالتين فالفستق فالحوز. أما باقي الأشجار فتأتي في الدرجة الثانية وأنواعها كثيرة مثل التفاح والكمثرى والخوخ واللوز والرمان والدراق والسفرجل والموز والنخل والآس والصبار والتوت والعناب والخروب الخ. الزيتون: أفضل الشجر وأعمه في مختلف المناطق. وهو يكثر في جزين والمختارة والشويفات وزغرتة والكورة، وفي الغوطة والمرج، وضواحي طرابلس وفي طرطوس وصافيتا وجبلة واللاذقية والباير وفي أرباض أنطاكية، وفي السويدية والقصير وكردطاغ، ويقل حول حلب والباب وسلقين وإدلب. وقد اشتهر في الجنوب زيت الرامة كما اشتهر زيتون جبال نابلس والقدس وسهول لدّ والرملة. وينجب الزيتون في البعل من الأرض ولا يسقى إلا في الغوطة والمرج وفي القرى القريبة من البادية. وأصنافه كثار أشهرها في دمشق الدان والأخضر أو المصعبي والجلط والتفاحي. وأشهرها في لبنان الصوري والشامي والمصري والشتوي والعيروني وبيض الحمام والبلدي. وأعمها في اللاذقية الخضيري والطمراني وقلب الطير. وفي الإسكندرونة القرماني والخلخالي والرماني والتفاحي الخ.

فالدان أنفع الأصناف بدمشق وأغناها زيتاً 18 - 20 في المئة يستخرج الزيت منه وقلما يؤكل أخضر أو مكبوساً. يبلغ طول ثمرته 20 ميليمتراً وعرضها 13 ميليمتراً وهي تسودّ بعد أن تنضج. وشجرة الزيتون الأخضر أو المصعبي كبيرة أحد طرفيها حاد يبلغ طولها 32 ميليمتراً وعرضها 24 ميليمتراً، وهي تقطف خضراء وتكبس ولا تعصر لاستخراج زيتها. وثمرة الجلط كبيرة مستطيلة سوداء تشبه ثمرة البلح شكلاً طولها 35 ميليمتراً وعرضها 25 ميليمتراً وهذا الصنف أغلى الأصناف وأجودها مكبوساً ويندر عصره لاستخراج زيته منه. الكرم: الكرم شائع كثير في الشام، وتقدر مساحة الكروم بنحو ستين ألف هكتار عدا فلسطين وشرقي الأردن. وأوسع الكروم اليوم في الصلت ودومة وداريا بالقرب من دمشق وفي زحلة وبحمدون وحمص وتلبيسة بالقرب من حمص وفي حلب الخ. ولا تخلو قرية من قرى لبنان ووادي التيم وجبال النصيرية وقلمون من قليل من الكروم. والكرمة تعيش في البعل من الأرض لا يسقى من الكروم إلا ما كان منها في الغوطة والمرج وفي أرجاء سلمية. وتؤكل الأعناب أو تصنع زبيباً أو دبساً أو خلاً أو عرقاً أو نبيذاً. والكرم أصناف عديدة، أشهرها الزيني والبلدي والأحمر والأحمر الداراني والدربلي والحلواني والأسود في دمشق والغوطة، والفضي والقاصوفي والشقيفي والقمحاني والمريمي والخانقي وبيض الحمام والزحلاوي في وادي التيم والبقاع، والجحافي والبياضي في سلمية. وعنب الشيخ واصبع الست في الإسكندرونة الخ. وقضبان الزيني طوال سلاميتها متوسطة وعناقيده ضخمة نصف كثيفة وورقه كبار مشرحة بشقوق عميقة حافاتها مسننة وثمرته مستطيلة قشرتها بيضاء غليظة ولبها مائع. تؤكل ثمار هذا الصنف ولا يصنع منها زبيب أو خمر وهي من أجود الأعناب. وعناقيد البلدي رَهِلة وثمرته أسطوانية طويلة بيضاء إلى خضرة، ذات قشرة ملتصقة باللب واللب لحمي قاسٍ لذيذ. وثمار هذا الصنف كالسابق تؤكل ولا يصنع منها شيء. وليس العنب الأحمر من الأعناب اللذيذة ويصنع منه زبيب ودبس وخمر وعرق. أما الأحمر الداراني فثمرته قليلة الحمرة مستديرة مع شيء من الاستطالة لبها نصف لحمي لذيذ وهي تؤكل ويصنع منها زبيب ومسكرات

ويعادل ثمن هذا الصنف ثمن العنب الزيني. والفضي من أجود أعناب وادي التيم ثمرته مستديرة متوسطة الجرم قشرتها رقيقة صفراء ولبها يكاد يكون مائياً وبزورها متوسطة. أما القاصوفي فثمرته أسطوانية منتفخة قليلاً في وسطها نصف لحمية بيضاء إلى خضرة وهي أصغر قليلاً من ثمرة العنب الزيني. البرتقال والليمون الحامض: ذكر علماء النبات أن موطن هاتين الشجرتين الأصلية في شرق آسيا، وأن الفضل يعود إلى العرب في نقلهما إلى سواحل بحر الروم. وهما ينجبان في الغور وسواحل الشام ولا بد من إسقائهما. أما في مناطق السهول المرتفعة والجبال كالغوطة وحوران وحلب والزبداني مثلاً فإن هبوط الحرارة في الشتاء إلى بضع درجات تحت الصفر يودي بحياتهما، ولهذا لا يزرعان في تلك الأرجاء إلا في حدائق البيوت حيث يكونان بين جدران تقيهما تأثير الرياح الباردة فيهما. وأوسع بساتين البرتقال والليمون اليوم في يافا نحو 2000 هكتار ثم في طرابلس نحو 1200 هكتار ويليهما منطقة الإسكندرونة درت يول وبياس وبيروت وصيدا وصور وعكا الخ. وأجود أصناف البرتقال اليافاوي أو اليافوني شموطي ثمرته ضخمة بيضية ذات قشرة غليظة ولب قاسٍ لذيذ، لكنه قليل العصارة لا سيما بعد تمام نضجه. وهو ينقل بسهولة إلى القاصية مثل إنكلترا حيث يرجح على كثير من الأصناف. ومما يستملح فيه سهولة تقشيره دون تلويث اليدين. ومن أكثر الأصناف انتشاراً البرتقال البلدي وهو ذو ثمرة كروية أصغر من ثمرة اليافاوي قشرتها رقيقة ولبها كثير العصارة. وهذا الصنف لا يصلح للأسفار مثل اليافاوي. ومن أصناف البرتقال الماوردي وهو يعرف بقشرة رقيقة حمراء ملتصقة باللب ولبٍ أحمر كثير العصارة. وهذا الصنف لا يألف الأسفار الطويلة وتقشيره صعب. كان يقدر محصول البرتقال في يافا في سنة 1914 أي في بدء الحرب الكبرى بنحو 1850000 صندوق، أما بعد الحرب فقد هبط المحصول إلى 1400000 صندوق تقريباً. وقد زاد في العهد محصول البرتقال اليافاوي وبعبارة أصح

الفلسطيني أربعة أو خمسة أضعاف ما كان عليه ربع قرن. وكان محصول طرابلس قبل الحرب 800000 صندوق من البرتقال و 240000 صندوق من الليمون الحامض على وجه التقريب يحتوي الصندوق على 150 برتقالة أو 300 ليمونة. أما بعد الحرب فهبطت هذه المقادير إلأى نصفها. ويشحن معظم محصول يافا إلى إنكلترا ومصر، أما محصول طرابلس فإلى أوديسا وبلغاريا والقسطنطينية ومصر. وكذا محاصيل صيدا والإسكندرونة. المشمش: يمكن غرس المشمش في جميع أقاليم الشام الزراعية وليس فيها ولا يصلح له سوى الجبال العالية حيث يخشى على أزهاره وفراخه من تأثير الصقيع فيها في الربيع. وهو لا ينجب في غير الأرض التي يمكن إسقاؤها. وأعظم مغروساته في الغوطة والمرج ووادي العجم ووادي بردى وحول صيدا وبيروت وبعلبك وأنطاكية وأرسوس. ومنه قليل في كثير من البلدان التي يمكن فيها إسقاؤه. وأشهر أصنافه اليوم الحموي والبلدي والسندياني والوزري والعجمي والكلابي في دمشق ثم اللوزي في الساحل. وللحموي ثمرة متوسطة الحجم صفراء ذهبية لامعة تذوب في الفم وتهضم بسهولة وداخلها بزرة حلوة. وهي أجمل ثمار المشمش منظراً وألذها طعماً وأعطرها رائحة وأغلاها ثمناً تؤكل رخصة ولا يصنع منها قمر الدين. أما ثمار المشمش البلدي فكبيرة ضاربة إلى حمرة ضمنها بزور حلوة وتجيء في اللذة بعد الحموي، تؤكل رخصة ويصنع منها ألذّ المفلقات النقوع. وتبلغ أشجار هذا الصنف عشرين في المائة من مجموع

الحيوانات الدواجن في الشام:

شجر المشمش في الغوطة والمرج. أما الحموي فلا يزيد على خمسة في المائة. ويشبه المشمش السندياني الحموي بشكل ثماره وشتان بين الثمرتين في اللذة لأن السندياني هو تقليد الحموي كما يقول الدمشقيون. ونسبة البلدي إلى الوزري من هذه الوجهة كنسبة السندياني إلى الحموي أما المشمش العجمي فثماره كبيرة جميلة المنظر صفراء أي خضرة لبها قاسٍ وطعمها سكري لكنه مجرد عن طعم المشمش الخصوصي بل هو يشبه طعم الدراق، ولهذا لا نستملح هذا الصنف وهو غير شائع. وثمار المشمش الكلابي أصغر الثمار حجماً وأردؤها طعماً وهي صفراء إلى حمرة بزورها مرة، وهذا الصنف أشهر الأصناف في الغوطتين إذ تبلغ نسبته نحو 70 في المائة من مجموع شجر المشمش، ومنه يصنع قمر الدين المشهور. وهو يولد من بزوره ولا يطعم فهو إذن أقرب الأصناف إلى المشمش البري. وثمرة المشمش اللوزي فس الساحل شبيهة بثمرة الحموي بدمشق ولعلهما صنف واحد. دمشق مركز تجارة المشمش وما يصنع منه، ومنها يصدر قمر الدين والنقوع وبزر المشمش إلى مصر والأناضول وإلى أميركا الشمالية ويقدر اليوم متوسط حاصلات المشمش في الغوطة والمرج بنحو اثني عشر مليوناً من الكيلو غرامات سنوياً منها نحو 80 في المئة من المشمش الكلابي الذي يصنع منه قمر الدين، ويظهر أن مستغلاته قبل الحرب الكبرى كانت أعظم منها اليوم. الفستق: إن غابات البطم في البلعاس وبقية أشجار الفستق الهرمة في قرية عين التينة تحمل على دعوى أن الشام من البلاد التي تعد بلاد الفستق الأصلية. وتكاد زراعة الفستق لا تتجاوز اليوم حلب حيث تأتي أجود ثماره وألذّها وأغلاها ومن أصنافه في تلك المدينة الأبيض المراوحي والعاشوري والعليمي والباتوري وناب الجمل والعينتابي، ويقدر ما ينتج من أثماره حوالي حلب بنيف ومائة وألف كيلو في السنة. الحيوانات الدواجن في الشام: الخيل: الخيل في الشام ثلاثة أصناف العراب أو الأصيلة، والبراذين أو ما تعرف اليوم بالكدش، والمولدة وهي التي تولد من أُم عربية وأب أعجمي أو على العكس. ففي الحالة الأولى يسمى المولّد هجيناً، وفي الثانية مقرفاً. تجلب الكدش من الأناضول خاصةً وهي بشعة المنظر إذا قيست بالخيل العراب، لا تركب بل تصلح لحمل الأثقال أو جرها أو درس الحصائد وعددها عظيم يبلغ نحو سبعين في المائة من مجموع خيل الشام. أما الخيل المولّدة فأجمل من البراذين وأقوى وهي تركب أكثر ما تستعمل في جر المركبات في المدن ونسبتها للمجموع نحو 20 في المائة. وأجمل الخيل في العالم هي العراب وتحليتها علمياً كما يلي: مستقيمة الرأس متوسطة الجثة طول أعضائها متوسط لها رأس مربع وجبهة مسطحة ومقدم مستقيم ووجه متوسط الطول، وفكان متباعدتان ومنخران جامدان ومرنان معاً، وأذنان

حساستان وعينان كبيرتان تنمان عن ذكاء، وعنق رشيق شديد العضل، وظهر مستقيم وردف أُفقي مكتنز، وعجزان مستديران وصدر واسع وبطن صغير، وقوائم رشيقة قوية العضل عمودية لا عيب فيها، وأوتار جلية ومفاصل عريضة وجلد رقيق مرن وشعر لامع قصير وعرف وسيب طويلان ناعمان متموجان. ومجموع الجواد العربي آية في انتظام تكوينه فهو جميل قوي شهم، ولا ريب أنه أكمل جواد على وجه الأرض. ويختلف لون الخيل العراب وقد استفاضت شهرة الشُهْب والشُقْرِ والكُمْتِ. وأجملها الشهب المدنرة أي التي يخالط الشهبة فيها نكَتٌ سودٌ أبيض مبقج أو أزرق مبقج. وزن الجياد العراب بين 400 و 450 كيلو غراماً ارتفاعها 1. 42 إلى 1. 55 متر، ودورة صدرها 1. 72 إلى 1. 78 متر، وتصلح الخيل العربية للركوب والسباق خاصةً وإن من إسفاد ذكورها على إناث إنكليزية غير كريمة منذ بضعة قرون تولدت الجياد الإنكليزية الصافية السبّاقة الشهيرة التي يقصر اليوم عن إدراكها كل جواد في حلبة السباق. وأجمل الخيل العراب ما كان في دمشق وحمص وحماة ولدى بعض الأسر والعشائر القديمة كالدنادشة في تل كلخ والموالي في شمال الشام. ولا تزيد نسبتها على عشرة في المائة من مجموع عدد الخيل لدى أهل الحضر من الشاميين. الحمير: في الشام ثلاثة عروق من الحمير: الآسيوي والمصري والقبرصي أو الأوربي. فالصنف الأسيوي هو الأشهر تبلغ نسبته 95 في المائة من مجموع حُمر الشام لونه إلى سواد وارتفاعه متر إلى متر وربع، وهو حيوان الفقراء، يصلح للركوب والحمل ولا يوازيه حيوان بصبره وقناعته وفوائده الجمة إذا قيست بالعلف القليل الذي يُعلفه. أما الحمر المصرية فبيضاء اللون ارتفاعها أكبر من ارتفاع الحمر الأسيوية ولا تستخدم إلا للركوب وهي جميلة المنظر سباقة في نوعها وثمن الجيد منها غالٍ لا سيما في المدن. أما الحمر القبرصية فتعرف من كبر قدها إذ يبلغ ارتفاعها 1. 30 إلى 1. 40 متر وهي تستعمل في سفاد إناث الخيل للحصول على بغالٍ عظيمة القد قوية البنية. البغال: تحصل من إسفاد الحمر القبرصية على البراذين كدش وهي

ذات قَدّ يقرب من قد البراذين فهي إذا صغيرة القد وفائدتها بقناعتها وقوتها وتحملها الأتعاب وقيامها بأعمال تشق على كل حيوان غيرها. فهي تستخدم مثلاً في الحرث بمحاريث حديثة لأن بقر الشام صغير الجثة لا يقوى على إثارة الأرض بها. وتحمّل أثقالاً في المناطق الجبلية الوعرة المسالك كوادي التيم والقرى الجبلية من أقليم البلان وتجر المركبات الضخمة المحملة بضاعات ومؤناً على الطرقات المعبدة في لبنان وبين دمشق وبيروت. ومَن منا لم ير في لبنان وبيروت المركبات الشهيرة التي تسمى كارات يجرها أربعة بغال مصفوفة بعضها أمام بعض على سطر واحد. ولقد ترك الجيش الإنكليزي في الشام عقب الحرب الكبرى عدداً عظيماً من البغال الكبيرة القد لا تبرح بقاياها في دمشق إلى يومنا هذا. وهي تتطلب عنايات كثيرة وعلفاً زائداً ولا تتحمل المشاق بقدر البغال الشامية. البقر: بقر الشام من العرق الآسيوي القصير الرأس ذي الجبهة المستقيمة العريضة وهو على ثلاثة أصناف: البلدي والعكش والجولاني أو الخميسي فالبقر البلدي شائع في الغوطة وفي أرجاء العاصي ويسميه الحمصيون البقر الحلبي والحمويون البقر الشامي وهو كبير طويل القامة متر وربع إلى متر ونصف صلب العود قصير الرأس والقرون ناعم الجلد تغلب الشقرة على لونه وقد يكون كميتاً أو إلى سواد أحياناً. ووزنه 300 - 500 كيلو غرام وهو بالنظر إلى كِبَر قده أقرب الأصناف إلى البقر الأوربية ولذا يصلح للحرث حرثاً عميقاً إذا علفت أنثاه علفاً غزيراً تحلب في الغوطة طول السنة تقريباً. ويُحسب أنها تدر عندئذ 12 - 15 كيلو في اليوم خلال ستة أشهر عقب الوضع و 8 - 10 كيلو في اليوم في الثلاثة أشهر التي تليها ثم 4 - 5 كيلو في اليوم خلال شهرين آخرين. فيكون الوزن المتوسط لما تدرّه من اللبن في السنة 2500 - 2700 كيلو. ولا يألف البقر البلدي أقاليم الشام بأسرها بل يتطلب إقليماً معتدلاً ورطباً، ولهذا يندر أن تراه في غير البساتين وهو لا يقاوم الحر في السهول التي لا ماء للري فيها كحوران والبلقاء وسهول حمص وحماة وغيرها. وعدده ليس عظيماً ولا يزيد على 10 أو 12 في المائة من مجموع بقر الشام. ويسمى البقر الجولاني بأسماء مختلفة فيقال له الخميسي في النبك والزبداني والبزري في حماة. ويغلب

على الظن أنه حصل من إسفاد الثور البلدي على البقرة العكش ولذا جاء قدره ووزنه وتكوينه وطباعه بين بين. فإن له رأساً قصيراً وجبهة عريضة وقرنين متجهين إلى الأمام وثوباً أسود في الغالب وقد يكون أشقر أحياناً. وطوله نحو 1. 15 إلى 1. 30 متر ووزنه نحو 250 كيلو. وهو يعد في العوامل وتعطي أُنثاه قليلاً من اللبن. وليس له رقة البقر البلدي وهو أكثر منه تحملاً للحر والقُر والجوع والتعب. ونسبته للمجموع 15 في المائة تقريباً. وأشهر البقر اليوم هو الذي يدعى البقر العكش في أكثر أنحاء الشام. ويسميه الحمويون القليطي والحمصيون الأناضولي. ولا تختلف تحليته من حيث تكوينه عما ذكر. وله جرم صغير ولا يزيد ارتفاعه على متر وعشرة سنتيمترات إلى متر وربع ووزنه نحو 200 كيلو وقد يكون أقل من ذلك فهو إذن لا يصلح للحرث بمحاريث حديثة تغور في التراب كثيراً. ويغلب عليه اللون الأسود وقليلاً ما يكون أبرش أو أشقر. ويحتمل هذا الصنف من البقر الجوع والتعب والحر واليبوسة ولهذا تبلغ نسبته نحو 75 في المائة من مجموع بقر الشام. ودَرّ أُنثاه قليل ويسهل علفه وتسمينه بالغذاء. الضأن: ينتسب للضأن في الشام إلى العرق الشامي أو الآسيوي وهاك تحليته فنياً: رأسه طويل قليلاً وجبهته تكاد تكون مستقيمة، وقرناه معقوفان متجهان إلى الوراء، وقد يتفرعان، ووجهه مستطيل، وعظام منخره طويلة، ومنظر رأسه ووجهه ينم عن احديداب قليل، وذنبه عظيم فيه مقدار كبير من الدهن. ووزنه المتوسط نحو 40 كيلو غراماً وطوله 65 - 75 سنتيمتراً. وهو يسمن بسهولة أما مقدار الدَرّ في النعاج فمتوسط. وفي الشام أصناف للضأن أشهرها المسمى عَوَاس أو ضأن الموصل وهو شائع في حمص وحماة والبقاع ودمشق ولبنان وغيرها. صوفه أبيض يبلغ كيلو غراماً ونصفاً إلى كيلو غرامين وقد يزيد على ذلك. وينقص نحو نصفه إذا غسل ويبلغ وزن إليته 5 إلى 6 كيلو غرامات وطول الشعرة من صوفه 15 - 18 سنتيمتراً. وما ذكر من الأرقام هو الحد الأوسط، وربّ كبش سمن في لبنان بورق التوت والكرمة فبلغ وزنه ضعفى ما ذكر، وبلغ طول الشعرة من صوفه 30 سنتيمتراً

وزاد وزن إليته على ثمانية كيلو غرامات، ورقّ صوفه ومَرِن. ويرد إلى الشام أصناف أُخرى للضأن كالحمراء والبرازية والشقراء والنجدية ثم ضأن أرزنجان أو المور في حلب وهو ذو صوف أحمر أو إلى سواد. وتدر النعجة لبنها 4 - 5 أشهر فتعطي في اليوم نحو 500 غرام. وإذا علفت كما تعلف في حمص والبقاع تعطي 750 غراماً إلى كيلو غرام من الحليب في كل يوم. ويبدأ جز الصوف في آذار وينتهي في أيار في المناطق الباردة، وأكثر ما يكون في نيسان. ويزيد عدد الضأن في الشام على مليوني رأس وتربيته شائعة لدى العشائر البدوية الضاربة في الشرق ومنها الجزيرة. وقد اشتهرت عشيرة الحديديين بحسن تربية الكباش والنعاج الصالحة للسفاد. واشتهر السمن الحديدي نسبة إلى تلك العشيرة التي تقطن منطقة الحمراء ومعرة النعمان في الصيف. وينقل في كل سنة قطعان عظيمة من الغنم من الروم والعراق إلى الشام حيث يستهلك بعضها ويرسل الآخر إلى مصر وجزر يونان وغيرها. المعز: معز الشام من العرق الإفريقي وتحت العرق النوبي نسبة إلى النوبة وهي تعرف برأس طويل ووجه قصير على شكل مثلث قاعدته ضيقة، وجبهته محدبة كثيراً. وهي على صنفين البلدية والجبلية، فالمعز البلدية يبلغ ارتفاعها 70 - 75 سنتيمتراً ووزنها 30 - 35 كيلو غراماً، ولها ثوب أحمر أو أحمر ملمع ببياض. وقد تكون شهباء أو سوداء أحياناً وقد تجمع ثلاثة ألوان متفرقة: بياض وحمرة وسواد. وإذا كان لونها أحمر وجبهتها بيضاء سميت صبحاء بدمشق، أما إذا جمعت البياض والحمرة فتسمى عجمية، وهي جمّاء في الغالب. وإذا نجمت لها قرون تظل صغيرة وكثيراً ما تقطع، وينمو لكل منها زَنَمتان طويلتان فتسمى الشاة قرطاء وهي شية حسنة تزيد ثمنها وأُذناها طويلتان ومتدليتان وكثيراً ما ينيف طول واحدتهما على شبر ويقطعهما الأكارون إذا أفرطتا في الطول. والبلدية من أجود المعزى الحلوبة فهي إذا صادفت عناية تدر في اليوم ليتين إلى ثلاثة من الحليب مدة سنة أشهر وتدر نصف هذا المقدار تقريباً خلال شهرين آخرين. وهي ترعى في الغوطة العشب النامي حول القني ومجاري الماء وترعى أيضاً الفصفصة والبيقية الخضراء، وكثيراً ما تعلف نحو كيلو غرام من حب الجلبان

صباح كل يوم قبل تسريحها وهذا خاص بالحلوبة منها. والماعز الجبلية تشبه البلدية بصفاتها الفنية لكنها أقصر منها، ولها ثوب أكثر ما يكون أسود، وهي ليست دروراً بقدر البلدية. والمعزى الجبلية منترة في أنحاء الشام لا تخلو منها قرية وعى العكس في البلدية التي تكاد لا تخرج عن المدن والمناطق التي يكثر فيها الكلأ في فصول السنة. الإبل: إبل الشام من ذوات السنام الواحد. أما ذوات السنامين فتوجد في جبال فارس والأناضول وبلاد الكرد وتنقل إليها من آسيا الوسطى. ولما كانت تحتمل البرد والسير في المسالك الوعرة فقد فكر الشاميون في إسفاد فحولها على النوق الشامية فحصلوا على هجن لها سنام واجد كأمهاتها وذات جَلَد على السير في الجبال والأوعار كآبائها. وهذه الهجن شائعة في الجزيرة ولبنان وعجلون وغيرها وهي تعرف بقصر القامة وصغر الرأس. والركائب من إبل الشام أصناف وأشهرها اليوم إبل الحرة لدى عشيرتي بني صخر والشرارات وغيرهما في البلقاء. وينتقي الجيش ركائبه من هذه الإبل غالباً. ومنها الإبل العُمانيات أصلها من عُمان وهي ذات رأس نحيف وقدّ أهيف ومزاج عصبي. وجيش الهند يبتاع منها ما يلزمه من الإبل، ومنها الإبل التيهية أصلها من السودان وترد إلى فلسطين والبلقاء مع القوافل الآتية من مصر. وقد كانت إبل الجيش الإنكليزي من هذا الصنف خلال الحرب الكبرى. ويطلق الأوربيون كلمة مهري على الإبل السباقة عموماً أو على عرق معلوم منها. ويُظن أن هذا الاسم مشتق من الإبل المَهْرِيّة المنسوبة إلى مَهْرَةَ بن حَيْدانَ وهي مشهورة بالسبق. والبعير صديق البدوي الحميم ولولاه لزالت البدواة، فهو يحمل الخيام والماء في المراحل الخالية من الماء ومؤناً تكفي لستة أشهر يقضيها البدوي مع عشيرته في صحراء الشام، ويحمل البدوي نفسه وعياله وسلاحه وتحلب الناقة بعد الوضع في كل يوم خمسة ليترات إلى عشرة في مدة سنة أو أكثر، وحليب النوق لذيذ ملين، وليس لحم الجمل أردأ من لحم البقر الذي يأكله الأوربيون ووبر الجمل ألين من صوف الضأن ومنه تصنع عباءات الوبر العراقية الشهيرة، وتصنع من جلده قرب عظام منها ما يسع 200 لتر من الماء وتعمل أيضاً نعال

الصناعات الزراعية في الشام:

قوية لا تفنى من جلد ركبتيه وغيرهما من أعضائه التي تحتك بالأرض بينما يكون الجمل جالساً. الصناعات الزراعية في الشام: ليس في الشام اليوم معامل عظيمة المصنوعات الزراعية كما في أوربا، لكن لبعض هذه المصنوعات وإن كانت تصنع على الطرائق القديمة شأناً كبيراً في الحياة الاقتصادية. وأهم هذه المصنوعات قمر الدين والنَقوع والزبيب والدبس والصابون والزيت والسمن والعرق والخمر والجبن والطحين والنشاء. قمر الدين: يصنع أشهر قمر الدين في الغوطة والمرج وقليلاً في وادي العجم والزبداني وبعلبك وفي كل مكان فيه مقدار من شجر المشمش ويلزم أربعة أرطال إلى أربعة ونصف من المشمش للحصول على رطل من قمر الدين، وهو يصنع من المشمش الكلابي ويندر صنعه من المشمش البلدي، واشتهر منه في دمشق ما يرد من قريتي زملكا وعربيل من قرى الغوطة، وليس صنعه أمراً عسراً فالمشمش يسحق بالأيدي في غربال موضوع فوق بناء يسمى تيغاراً مفروشة أرضه بالأسمنت ثم يفرغ العصير بكيلة من خشب ويفرش بمهارة على لوح من خشب بعد أن يطلى اللوح بقليل من الزيت، وبعدها يوضع اللوح في الشمس يوماً ونصف يوم فيجف العصير ويصير شرائح وزن كل منها رطل تقريباً وهي لفات قمر الدين المعروفة. ومعظم القمر الدين المعروفة الذي يصنع حوالي دمشق يشحن اليوم إلى مصر وشمال الشام، ويقدر ما يصنع منه سنوياً بنحو 40. 000 قنطار دمشقي وهو المقدار المتوسط، يساوي القنطار الدمشقي 256 كيلو غرام. النقوع: هي ثمار المشمش المجففة وتسمى بالعربية المُفَلّق، تصنع من المشمش البلدي وذلك بأن يوضع المشمش في الشمس على مسطح من القش مدة أربعة أيام، ثم تكبش الثما بين الكفين وتترك يومين آخرين، ثم ترقق أطرافها بالأصابع ثم تترك يومين أو أكثر فتجف، ويلزم خمسة أرطال من المشمش للحصول على رطل من النقوع، ويدل إحصاء المكس في بيروت على أنه صدر منها وحدها سنة، 1911 680. 000 كيلو غرام من النقوع ومليون ونيف كيلو غرام

من بزور المشمش وهي تصلح لاستخراج زيت منها. الزبيب والدبس: أجود زبيب في الشام ما يحصل من زبيب العنب الدربلي في جيرود والرحيبة والريحان ودومة، ويليه زبيب الصلت. ويصنع الزبيب في كل القرى التي فيها أعناب، وليس في صنعه صعوبة، فالعنب يغطس بماء فيه شيء من القلي والزيت ثم يفرش على مسطاح مدة ثمانية أيام فيجف. ويحسب أن كل أربعة أرطال من العنب ينتج منه رطل من الزبيب. وللثمار المجففة شأن كبير إذا صحت العزيمة على الاعتناء بصفها وبقطفها وشحنها إلى الديار الأجنبية كما يفعل الزراع حول مدينة أزمير بزبيبهم وتينهم المجفف. ويصنع الدبس من الزبيب أو العنب، ففي الحالة الأولى يدرس الزبيب في المعصرة بمدرس من حجر حتى يصير كتلة لزجة، ثم يوضع في قدور كبيرة ويغمر بالماء مدة 24 ساعة، ثم يؤخذ ماء الزبيب جلاب أو صليبة ويوضع في مرجل وتضرم النار تحته حتى يتحصل الدبس. ويلزم مائة رطل من الزبيب للحصول على 60 إلى 80 رطل من الدبس. واشتهر دباسو قرى معربا ودومة وعربيل بصنع دبس لذيذ يعطرونه بعطر الورد أحيانا. الصابون: أشهر مصابن الشام في طرابلس ونابلس ودمشق وحلب وكلز، ويبلغ المقدار المتوسط للصابون الذي يصنع سنوياً في الشام نحو 13. 000 طن. وصناعته على الأصول القديمة. أشهر الزيوت ما يصنع في معاصر لبنان وفلسطين وأشهرها جميعاً زيت الرامة، واعتاد أرباب الزيتون في دمشق أن يتركوه مدة طويلة في المعصرة، فيختمر ويتعفن ويحصل له طعم كريه، حتى أنه ليشق تصريفه خارج الشام. والداعي إلى ذلك قلة المعاصر بدمشق وخصوصاً اعتقاد الزراع بأنه بقدر ما تطول المدة بين قطف الزيتون وعصره تزداد نسبة الزيت المتحصل بالعصر. واعتقادهم هذا صحيح إلا أن زيادة نسبة الزيت لا توازي هبوط سعره المنبعث عن رداءة طعمه. ويتوقف استخراج الزيت على الأعمال الآتية: أولاً سحق الزيتون بأسطوانة من حجر يديرها بغل داخل وعاء مستدير من حجر. ثانياً كبس الزيتون المسحوق لتفريق الزيت عن الثفل وذلك بمكبس عادي أو مكبس مائي.

ثالثاً تفريق الزيت عن الماء والعناصر الأجنبية المختلطة به وذلك بترك العصير يروق فيفترق الزيت الصافي لأنه يطفو على وجه العصير. أما الثفل فهو يسحق ويكبس فيخرج منه زيت أسود يسميه الدمشقيون زيت الجفت يستعمل في صنع الصابون. وفي الشام اليوم أكثر من 400 مكبس منها نحو 200 مكبس مائي، ويستدل من عدد المكابس على عدد المعاصر، وإذا استثنينا فلسطين وشرقي الأردن فإن متوسط ما يستخرج من الزيت في باقي أنحاء الشام يقدر بنحو 10. 500 طن نصفها اليوم في لبنان. السمن: هو المادة التي يطبخ بها الشاميون أكثر أغذيتهم على العكس من الفرنج فهم يطبخونها بالزبدة ولا يعرفون السمن، ويصنع السمن بمخض اللبن في مماخض من جلد الغنم، تعلق بحبلين يُشدان إلى دعائم ويدوم المخض نحو ساعتين ونصف فيلتصق السمن بداخل الممخضة ويقشط بعد تفريغ اللبن. ويقدر أنه يحصل أربعة أرطال من السمن من مائة رطل من اللبن. والسمن من صناعات البدو، وأجود السمون ما يصنعه عشيرة الحديديين بلبن الضأن. العرق والخمر: العرق ألذّ المسكرات وأرجحها لدى الشاميين، ويصنع منه ما لا يقل عن 15. 000 هيكتوليتر في كل سنة في دمشق والنبك وحمص وزحلة وكثير من قرى فلسطين ولبنان ووادي التيم. يوضع عصير العنب في دنان عظيمة حتى إذا اختمر يضاف إليه الأنيسون بحيث يكون حظ كل مائة كيلو غرام من العصير ثلاثمائة غرام من الأنيسون، وبعدها يقطر العرق بالانبيق فيكون مقداره ربع العصير تقريباً، وإذا أُريد الحصول على عرق نسبة الكحول فيه أكبر عرق مثلث يعمد إلى العرق الأول فيضاف إليه مقدار من الأنيسون ويقطر منه عرق ثقيل. وليس شرب الخمر شائعاً في الشام شيوعه في أوربا حيث يقوم مقام الماء أثناء الطعام. وأكبر المعامل لصنع الخمرة هو معمل ريشون في عيون قارة في فلسطين وهو معدود من أكبر معامل العالم ويشحن نبيذه إلى مصر والعراق وإلى أوربا ولا يستهلك من نبيذه في الشام إلا مقدار قليل، ويليه معمل كسارة ومعمل شتورة في البقاع.

زراعة الشام من الوجهتين المالية والاقتصادية:

النشاء: يصنع في الشام لا سيما في دمشق وحلب مقدار من النشاء لاستهلاكه وقاعات النشاء في دمشق معروفة، وهو يستخرج فيها من الحنطة على طريقة قديمة بسيطة لا شأن للآلات الحديثة فيها. تنقع الحنطة في الماء نحو عشرة أيام ثم تسحق بحجر الرحى وتمرس بضع مرات في الماء حتى يخالط النشاء الماء وبعدها يترك المائع فيرسب النشاء في قعر الوعاء، ويحسب أن القنطار من الحنطة يعطي 65 - 70 رطلاً من النشاء بهذه الطريقة، أما الثفل فتعلفه الجمال. المطاحن: كانت مطاحن الشام إلى عهد قريب عبارة عن أحجار رحى يديرها الماء بقوة انحداره، أما اليوم فيشاهد المرء عشرات من المطاحن البخارية في الأماكن التي لا ماء فيها عدا بضع مطاحن على آخر طراز من الفن أي أن أرحيتها أسطوانات تدار بالكهرباء وهي في دمشق وحيفا ويافا. الجبن والقشطة: تعزل القشطة عن الحليب فتؤكل وحدها وتضاف إلى بعض الحلواء، وتصنع جبنة لا لذة لها بالحليب الذي فرزت قشطته، وأشهر أنواع الجبن المصنوع في الشام الأبيض والحالوم الحلبي، وقد أخذ الشاميون يصنعون جبن البلقان المسمى قشقوان ولم يتوصلوا إلى تخميره كما في مواطنه الأصلية وجميع أنواع الجبن المذكورة بعيدة عن أن تساوي أنواع الجبن الأوربية بلذتها وتعدد أنواعها. زراعة الشام من الوجهتين المالية والاقتصادية: نذكر في هذا البحث أقسام الأرض والضرائب الزراعية وطرائق استثمار الأرض وإقراض الزراع. أقسام الأرض: تقسم الأرض في الشام من الوجهة القانونية إلى خمسة أقسام وهي الأرض المملوكة والأميرية والموقوفة والمتروكة والموات، ولكل قسم من هذه الأقسام نظام خاص في دفع الضرائب الزراعية. فالأرض المملوكة هي التي يملكها صاحبها ملكاً صحيحاً تاماً بحيث يستطيع وقفها وعدم زرعها مدة طويلة، ومثالها الحدائق المتصلة بالبيوت وما يسمى الأرض العشرية والخراجية بعض بساتين محيطة بمدينة دمشق الخ. والأرض الأميرية هي التي يعود تملكها رقبتها لبيت المال، وهو يخول الأهلين استثمارها أي حق التصرف بها بصك يسمى

الضرائب الزراعية:

سند التصرف. ومعظم الأرض في الشام من هذا القسم. وليس من فرق كبير في الأمور الجوهرية بين المتصرف بالأرض الأميرية وبين مالك الأرض المملوكة، لأن الأول ولم لم يملك الأرض قانونياً فإن له سلطة كافية في استثمارها والنزول عنها حسب إرادته، وهي تنتقل لورثته بعد وفاته، إلا أنه لا يستطيع وقفها إى بإذن وهو إن لم يستثمرها ثلاث سنين بلا عذر مقبول يضطر إلى دفع قيمتها على شكل معلوم، حتى إاذ استنكف من الدفع عدت الأرض محلولة ووجب بيعها بالمزاد العلني. وثمة فرق بين الأرض المملوكة والأرض الأميرية، وهو أن للورثاء من الدرجة الواحدة حصصاً يتساوى فيها الذكر والأنثى في الأرض الأميرية، أما في الأرض المملوكة فللذكر مثل حظ الأنثيين. ولا يسمح للمتصرف بالأرض الأميرية أن يوصي بها بعد مماته وعلى العكس في رب الأرض المملوكة. والأرض الموقوفة هي التي حبست في سبيل البر وليس من شأننا البحث فيها، والأرض المتروكة هي التي تركت للنفع العام كالطرق والساحات والبيادر والمحتطبات ومراعي القرى. وهي لا يملكها أحد ورقبتها لبيت المال والتصرف بها للجماعة. والأرض الموات هي الأرض البعيدة عن العمران التي لا يتصرف بها أحد. والحكومة تعطي رخصاً بإحياء الأرض الموات فبالتصرف بها على شروط موضحة في قانون الأرض. الضرائب الزراعية: على الأرض الأميرية في يومنا هذا نوعان من الضرائب، ضريبة تابعة لقانون 7 رمضان سنة 1274هـ وقدرها 4 في الألف من ثمن الأرض، وضريبة أعظم شأناً وأكبر تأثيراً في الزراعة وهي العشر أي استيفاء عشرة في المائة من محاصيل الأرض غير الصافية يضاف إليها اثنان ونصف باسم المعارف والمصرف الزراعي أما الأرض المملوكة وهي كما قلنا قليلة في الشام إلا في لبنان الصغير حيث كل الأرض تعد مملوكة فصاحبها لا يدفع العشر من غلاتها بل يدفع عشرة في الألف من ثمنها في كل سنة. والعشر من المصائب المزمنة في هذا القطر لأن 12. 50 في المائة من المنتوجات

طرائق استثمار الأرض:

غير الصافية هي نسبة كبيرة في ذاتها، ولأنه يصعب جداً تخمين الغلات عل وجه الضبط لأخذ هذا المقدار منها. فقد حارت حكومات الشام في طريقة استيفاء العشر أو ثمنه ولا تزال حائرة، لأنها خمنت الغلات تخميناً فقد يضل المخمنون أو يتعمدون الخطأ أحياناً فيُظلم الفلاح إذا جاء التخمين زائداً عن الحقيقة، وإلا فيخسر بيت المال. وإذا باعت العشر بالمزاودة العلنية من ملتزمين فهم لا يُقدمون على سوى قرى الفلاحين فيظلمونهم بطرق شتى دون أن يجسروا على المزاودة في عُشْر قرى الوجهاء، فيكون الضرر مزدوجاً على الفلاح وعلى بيت المال معاً. وقد رأت الحكومة أخيراً أن تعمد إلى معدل عُشر أربع سنين ماضية فتقره وتستوفي ضريبة محدودة مساوية له سواء زرع الفلاحون الأراضي أو لم يزرعوها. وهذه الطريقة في استيفاء العشر وإن كانت أصلح من الطريقتين السابقتين إلا أنها ليست عادلة إذا قلّ المطر في إحدى الناطق بعض السنين هذا عدا أن أساسها فاسد، لأن متوسط عُشر سنين أربع في قرى الفلاحين يكون قريباً من العشر الحقيقي غالباً. أما في قرى الوجهاء فيكون أنقص لأن الأعيان لا يدعون الحكومة تصل إلى حقها. والخلاصة أن مسألة العشر في الشام من أعقد المسائل وكثيراً ما اقترح أرباب الفلاحة على الحكومة أن تمسح الأرض كما في بلاد الفرنج وتضع على الأرض وما تنتجه ضريبة واحدة لا تتبدل تخلصاً من العشر كما يجري العمل به في أرض مصر. وإن هذا الاقتراح في غير محله أو هو مما يتعذر اتباعه في كل أنحاء الشام على السواء، لأن الأمطار في الشام متفاوتة التهاطل. فقد يهطل في سنة ثلاثة أضعاف ما يهطل في السنة التالية، لا سيما في سهول الشام الشرقية، ولهذا يختلف محصول الأرض اختلافاً عظيماً كل سنة. وقد تمحل منطقة واسعة في إحدى السنين ولذلك لا يجوز أن يستوفى منها في تلك السنة ضريبة كالتي تستوفى في سني الخصب. أما إذا كانت الأرض تسقى بماء نهر أو قناة فعندها يمكن وضع ضريبة ثابتة عليها كما في الغوطة مثلاً. طرائق استثمار الأرض: إذا قلنا إن أكثر من ستين في المائة من سكان الشام يعملون في الفلاحة رأساً

أو بالواسطة فلا نكون مغالين في قولنا لأن سكان المدن الكبيرة والمتوسطة وإن كان عددهم يقرب من نصف مجموع السكان في الشام فكثير منهم لا عمل له غير الفلاحة. ويتصرف الشاميون اليوم بالأرض على نسبة غير عادلة، ومعنى هذا أن أرباب الوجاهة والثروة على قلتهم يتصرفون بمساحات واسعة جداً في كثير من المناطق، بينا الفلاح يعمل في الأرض دون أن يكون له في تملكها نصيب ففي أطراف حماة مثلاً 124 قرية منها ثمانون في المائة لأرباب الوجاهة من عيال لا تتجاوز عدد الأصابع، والباقي وهو عشرون في المائة يتصرف به الفلاحون ورجال الطبقة المتوسطة من الشعب. وفي أرجاء حمص 176 قرية منها ثمانون في المائة للوجهاء دون غيرهم وعشرون في المائة مشاع بين هؤلاء الوجهاء والفلاحين إلا بضع قرى لم تمتد إليها أيدي المتغلبين فلبثت للفلاحين وحدهم. وهكذا قل عن كثير من مناطق الشام كقرى معرة النعمان وغيرها في حلب. وليست الحالة كذلك في حوران حيث ترى 95 بالمائة من الأرض موزعة بين سكانه على نسبة عادلة، وكلهم أرباب فلاحة وكذا في جبل حوران وعجلون والبلقاء والكرك ووادي التيم وإقليم البلان، وما من بيت من بيوت دمشق الكبيرة إلا ويملك مساحات واسعة في الغوطة بل نصف الأرض فيها بيد متوسطي الزراع والربع بيد صغارهم والربع الأخير يخص أرباب الوجاهة بدمشق. وبعد، فقد كان السلطان عبد الحميد العثماني من أقدر السلاطين على تملك الأرضين وجمع الثروة، فقد تملك لشخصه شرقيّ حمص وسلمية نحو ملين هكتار من الأرض تشتمل على جبل البلعاس والشومرية وتمتد إلى مقربة من تدمر، وعمّر فيها نحو مائة وعشرين قرية ومزرعة تستثمر نحو مائة ألف هكتار. وتملّك في أنحاء حلب نحو 500. 000 هكتار فيها اليوم 567 قرية ومزرعة عامرة حوالي منبج والباب وعلى الشاطئ الغربي من الفرات من مصب الساجور إلى مسكنة ويشمل معظم جبل الحاص ومساحات واسعة جنوبي حلب عند مصب نهر قويق واقتنى أيضاً سبع قرى في حوران منها قرية المسمية كما اقتنى بَيسان وبضع قرى بالقرب منها. وكان يوطد الأمن في هذه المملكة الخاصة الواسعة ويعفي الزراع المستأجرين من الجندية ويحميهم من تعدي أرباب الوجاهة ويسلفهم المال بلا ربا

حتى عمرت تلك الأنحاء بعد أن كانت منازل للعربان يعيثون فيها فساداً. ولما حصل الانقلاب العثماني سنة 1908 اضطر السلطان المشار إليه إلى التنازل عن هذه المعمورات إلى بيت المال، فأصبحت ملكاً له وأصبح فلاحوها مستأجرين لدى المالك الجديد، وهو بيت المال أو الحكومة. ويدفع الفلاحون إلى الحكومة عشرين في المائة من المستغلات في بعض الأماكن و22. 50 في المائة في أماكن أخرى عشر وأجرة أرض معاً. وهم وإن كانوا مستأجرين لا يملكون الأرض رسمياً فهم يتوارثونها كأنهم مالكون لها والحكومة لا تُخرِج فلاحاً من قريته إلا إذا أتى عملاً منكراً من إحداث فتنةٍ أو التمادي على الأضرار بالناس. ولما كانت الحكومة تسلف هؤلاء الفلاحين أموالاً بلا ربا وكانت تستوفي من غلات الأرض نسبة أقل منها في قرى الوجهاء، رجحت حالة الفلاح في أملاك الدولة من كل وجه على حالة الفلاح المسكين الذي يستعبده المتغلبون في قراهم ومع هذا اقتُرح على الحكومة منذ نحو سنتين أن تبيع هذه الأملاك من الفلاحين أنفسهم دون سواهم على أن يدفعوا الثمن أقساطاً خلال خمس عشرة سنة، وعلى أن يضمن عدم مد المتغلبة أيديهم لهذه الأرضين، فأقرت الحكومة البيع مبدئياً. وقد أثبتتْ لنا الأيام أنه لا يستطيع أن يزيد في غلات الأرض سوى الذين يملكون فيها مساحات متوسطة أو صغيرة. ولنرجع إلى طريق استثمار الأرض المتبعة اليوم في الشام فنقول: إذا استثنينا الغوطة والمرج وبعض ما يسقي وما حوالي المدن من المزارع، حيث يستغل بعض أرباب الزراعة أرضهم مباشرةً ويدفعون إلى الفلاحين المشتغلين بها أجوراً مقطوعة سنوية أو شهرية، فإن الأرض في سائر الأنحاء تستغل على طريق المزارعة بشرائط مختلفة بالقسم. ففي حمص وحماة يأخذ صاحب الأرض ربع المحصول فيدفع منه العشر وتبقى الثلاثة الأرباع للفلاح. وفي هذه الحال يُلزم الفلاح بجميع النفقات والأعمال، ولكن صاحب الأرض قد يقرضه البذار بربا في الغالب على أن يستوفيها من البيدر. ويأخذ أصحاب الأرض ربع المحاصيل في بعض قرى حوران ويدفعون منه العشر وضريبة الأرض ويكون الباقي للفلاح مقابل النفقات والأتعاب. لكن الطريقة الشائعة في حوران هي إيجار الأرض بمقدار معلوم من الحب كأن تؤجر الربعة بنحو 50 - 60 مداً

إقراض الزراع:

من الحنطة، ولما كان يزرع في الربعة أرض تستوعب 50 - 60 مداً من البذار، فإذا أغل المد أربعة أمثاله أو خمسة أمثاله تكون الأجرة التي استوفاها صاحب الأرض معادلة لربع المحصول أو خمسه. وكلما كانت القرية في منطقة سكانها كثار وأرضها ضيقة، يزداد المقدار الذي يستوفيه صاحب الأرض من المحصول والعكس بالعكس. ففي البقاع مثلاً يأخذ صاحب الأرض نصف المحصول ويؤدي العشر منه إلى الحكومة. وفي الحولة حيث الأرض تروى تكون حصة صاحب الأرض ثلث المحصول ويكون عشر المحصول عليه. أما في الغوطة والمرج فحصة صاحب الأرض الثلث لكنه لا يدفع إلى الحكومة سوى عشر هذا الثلث، وعلى الفلاح أن يدفع العشر عن ثلثيه. هذه بعض طرائق استثمار الأرض وتعود فيها جميع النفقات والأتعاب على الفلاح. أما إذا أحب صاحب الأرض أن يكون رأس مال الاستثمار منه فالفلاح الذي يشتغل في أرضه يسمى مرابعاً وهو مطالب بأعمال فدان من البقر زرع نحو ثمانية هكتارات حبوباُ وتجهيز مثلها للسنة القادمة. ويأخذ ربع المحصول أو خمسة بعد رفع العشر من المجموع في الغالب. إقراض الزراع: يعوز الفلاحين في الشام النقود الكافية لاستثمار أرضهم عل مقتضى قواعد الفن. وهم كثيراً ما يستدينون المال من المرابين بفوائد فاحشة لا يبعد أن تبلغ 100 في المائة أحياناً. ولهذا ترى غلة أرضهم تكاد لا تكفيهم للإنفاق على حاجياتهم الضرورية وقلما ترى فلاحاً في سعة، يكدحون كلهم طول السنة لتحصيل بُلغة من القوت، وسبب ذلك ضيق ذات يد الفلاح، فهو لا يستطيع أن يحرث الأرض حرثاً عميقاً بأبقاره الصغيرة المهزولة التي لا تُعلف غير التبن، ولا يستطيع أن يبتاع آلات زراعية حديثة أو أسمدة معدنية، ويستحيل عليه أن يخزن محصوله بقصد بيعه عندما يغلو ثمنه، لأنه في حاجة دائمة إلى المال. والسعيد من الفلاحين من لم يثقل الدين كاهله ومن كان مفلتاً من براثن المتغلبين والمرابين. اتضح للحكومة العثمانية أن الأكارين وأصحاب الأرض في حاجة كبيرة

الخلاصة:

إلى مصرف زراعي يقرضهم المال بفائدة محدودة إلى مدة طويلة فأسست المصرف الزراعي وجمعت له رأس مال صغير بأن أضافت إلى العشر الذي تستوفيه من حاصلات الأرض 50. . في المائة من الريع باسم هذا المصرف، وأنشأت له فروعاً في الأطراف وسنت له قانوناً محكماً بعد درس واختبار فأقبل الفلاحون عليه أيما إقبال. ولما كان رأس ماله قليلاً فقد لبثت فائدته محدودة، فعسى أن تهتم الحكومة الحاضرة بتزييد رأس ماله وهومن أنفع أعمالها ولعلها لا تسمح لبراثن الأجنبي أن يناله أذاها. الخلاصة: الشام فقير جداً بمعادنه المفيدة من الوجهة الاقتصادية. ومعناه أن عدد هذه المعادن وإن كان عظيماً وكذا أنواعها فهي لا كبير فائدة منها اللهم إلا معدن الحمر في حاصبيا. والأرجاء التي ليس فيها معادن ذات شأن لا سيما الفحم الحجري الخالص لا اللينيت لا يمكن أن يكون فيها صناعات كبيرة. ولهذا لا نرى في الشام إلا صناعات يدوية كنسج الملبوسات الأهلية في دمشق وحمص وحماة وكالمصنوعات الخشبية والنحاسية وغيرها. فالشام إذن لا يمكن أن يكون له عظيم شأن في المعادن والصناعة، وليس له اليوم شأن يذكر في التجارة لكن له مستقبل حسن في قضية الاتجار بالسيارات مع العراق وبلاد العجم عن طريق بادية الشام. ونستنتج من بحثنا عن الفلاحة أن لها في الشام شأناً غير شأن الصناعة والتجارة. فإذا أحصينا بالمكس مثلاً أنواع الأشياء الأهلية التي تصدر من الشام إلى البلدان الأجنبية نجد أن أكثر من 90 في المائة من هذه الصادرات هي غلات أو مصنوعات زراعية نباتية أو حيوانية. ثم إذا أمعنا النظر في أنواع واردات الحكومة في الشام نرى أن نحو 50 في المائة منها هي واردات زراعية مثل عشر المستغلات والضريبة على الأرض والماشية وواردات أملاك الدولة وواردات الحراج وغيرها. فزراعة القطر الشامي إذن وإن كانت لا تساوي زراعة الأقطار الغزيرة الأمطار أو التي منحتها الطبيعة أنهاراً كبيرة هي الركن الأعظم في حياة هذا القطر الاقتصادية اه.

الصناعات الشامية

الصناعات الشامية مواد الصناعات: تتوقف الصناعات في بلد على وجود المواد الأولية فيه، وكان ذلك في القديم أقوى عامل في قيام الصناعات، والمواد الأولية في الشام على حصة موفورة لا ينقصها اليوم إلا الفحم الحجري وبعض الأصباغ. وكانت الشام منذ عرف تاريخها مشهورة بصناعاتها لتوفر موادها المستخرجة من سطح أرضها وبطنها. وتسلسلت الثقافة بها تسلسلاً عجيباً في البيوت الصناعية، وكانت الأمة الخالفة تأخذ عن الأمة السالفة هذه الثقافة والدربة على نحو ما يعلم الصناع أبناءهم. والصنائع كما قال ابن خلدون لا بد فيها من العلم، وإنك لتجدها في الأمصار الصغيرة ناقصة ولا يوجد منها إلا البسيط، فإذا تزايدت حضارتها ودعت أمور الترف فيها إلى استعمال الصنائع خرجت من القوة إلى الفعل، وعلى نسبة رسوخ الحضارة وطول أمدها تكون جودة الصنائع في الأمصار. إن قطراً هو معدن الحرير والصوف والوبر والمِرعِزّي والقطن والكتان والقنب يفيض عن حاجياتها وكمالياتها. وفيها الحديد والنحاس والقصدير وغيرها من المعادن، وتجود في سهولها وجبالها الأخشاب على أنواعها، وتكثر في أرجائها الحيوانات الداجنة والمفترسة، وفيها المياه الدافقة والشلالات البديعة. إن قطراً يحوي هذه الخيرات لا يحتاج إلى أيدٍ صناع لصنعها، وعيون عُوّدت النظر إلى الجميل واقتباس النافع منه، ونفوس طبعت على حب التقليد والاحتذاء، حتى تخرج ما به تفاخر، وتعيش من عملها عيشاً غضاً نضراً.

الغزل والحياكة والنساجة:

الغزل والحياكة والنساجة: كانت النساجة والحياكة والغزل راقية في معظم ما عرف من أدوار الارتقاء وقلما أخرجت الشام رُذالة المتاع ورديئه، بل كانت تخرج جيده ونفيسه، وكان أهلها ولا يزالون يحسنون غسلها ونفشها ومشطها وحلجها وفتلها ومشقها وحياكتها ونسجها. واشتهر القطر منذ القديم ببزه وقماشه وديباجه وخزه وبروده وكان للدباجين صناع الديباج والأكسية والمسوح صناعة رابحة، وإلى اليوم لم يبرح حلاجو القطن، ومنهم من يستعمل لها الآلات الإفرنجية الحديثة، ومنهم من اقتصر على القوس والنداف على الطريقة القديمة في الحلج والغزل في مغازل أولية تدار بالأيدي يخرجون بها كل ما يقوم بالحاجة. أخذت معظم المدن والبلدان حظها من هذه الصناعات، فاشتهرت في غابر الدهر مدينة أعناك في حوران بأكسيتها الجيدة اشتهارها ببسطها، وعرفت بعلبك بثيابها المنسوبة إليها من الأحزام والمشّات وثوبها المعروف بالبعلبكي. وتأفقت شهرة الثياب البلعسية نسبة إلى كورة البلعاس من عمل حمص على الأرجح. وعرفت منبج بالأكسية التي كانت تعمل فيها وتنسب إليها فيقال الأنبجاني والأنبجاني كساء صوف له خمل ولا علَم له وهي من أدون الثياب. ومن ثيابهم الخميصة الشامية وهي بَرْنكانٌ أسود مُعْلَم من المرعزّي والصوف ونحوه أو كساء أسود مربع له علمان، وقد تكرر في الحديث الشريف ذكر الأنبجاني والخميصة. والخميصة قد تكون من الحرير والبَرَنكان والبرّكان والبرَّكاني والبَرَنكاني الكساء الأسود وجمعه برانك. وكان يعمل في صفد من الثياب ما يقال له الصفدية. وتعمل الثياب الحفية نسبة لكورة الحفة غربي حلب. وكان لأهل رصافة هشام بن عبد الملك في غربي الرقة حذق في عمل الأكسية وكل رجل فيها غنيهم وفقيرهم يغزل الصوف والنساء ينسجن. وكانت تعمل في الشام الأكسية المرنبانية قال ابن سيده: يقال كساء مرنباني ومؤرنب فالمرنباني لأنه لون الأرنب والمؤَرنب ما قد خلط في غزله وبر الأرانب، ويقال بل هو كالمرنباني. وكانت تصنع فيخا القطيفة المخملة أي ذات الخمل وهي المخمل. واشتهرت حمص بمصنوعاتها من ثياب وفوط وغيرها وقيل: إن حمص تتلو

إسكندرية مصر فيما يعمل فيها من الثياب الفائقة على اختلاف الأنواع، وحسن الأوضاع، لولا قلة مائه، وقحولة جسمه، مع أنه يبلغ الغاية في الثمن، وإن لم تلحق بالإسكندرية فإنها تفوق صنعاء اليمن. وقال الأدريسي في صور: إنه يعمل فيها من الثياب البيض المحمولة إلى الآفاق، كل شيء حسن عالي الصفة والصنعة، ثمين القيمة، وقليلاً ما يصنع مثله في سائر البلاد المحيطة بها. وكذلك حماة وطرابلس وحلب. ولكل بلد ومدينة خاصية تحتفظ بها في نوع من الصناعة تبرع فيها، وأهم ما كان منها في مدينة دمشق. فقد ذكر الإدريسي أنها كانت في عصره جامعة لصنوف من المحاسن وضروب من الصناعات وأنواع من الثياب الحرير كالخز والديباج النفيس الثمن العجيب الصنعة، والعديم المثال، الذي يحمل منها إلى كل بلد، ويتجهز به منها إلى كل الآفاق والأمصار المصاقبة لها، والمتباعدة عنها. ومصانعها في كل ذلك عجيبة، تضاهي ديباجتها بديع ديباجة الروم، وتقارب ثياب دستوا، وتنافس أعمال أصبهان، وتشف على أعمال طُرز نيسابور، من جليل ثياب الحرير المصمتة، وبدائع ثاب تنيس، وقد احتوت طرزها على أفانين من أعمال الثياب النفيسة، ومحاسن جمة، فلا يعادلها جنس ولا يقاومها مثال. وقيل: إن اسم الدمقس مشتق من اسم مدينة دمشق. ونقل الشاميون إلى الأندلس صنعة الثياب المزركشة بالرسوم من الحرير والكتان من دمشق فنسبت إليها عندهم وقالوا في فعلها أي عمل ثياباً على النمط الدمشقي. قال البدري: ومن محاسن دمشق ما يصنع فيها من القماش، وهو النسج على تعداد نقوشه وضروبه ورسومه، ومنها عمل القماش الأطلس بكل جنسه وأنواعه ومنها عمل القماش السابوري بجميع ألوانه وحسن لمعانه، ومنها عمل القماش الهرمزي على اختلاف أشكاله، وتباين أوصاله، ومنها عمل القماش الأبيض القطني. وكان من أنواع الثياب في القديم ما أُنسيناه وأُنسينا أسماءه ومنها المنيّر والمعيّن والمسيّر والمفوف والمسهم والمعمد والمعرّج والمهلهل والمكعب والمطيّر والمخيّل. ولاشتهار دمشق بالحرائر والمنسوجات الغزلية الفائقة بوشيها وحسن طرازها، عرفت هذه الصناعات باسم المدينة فيقال لها الداماسكو والداماسكو ثوب غليظ برسوم جعلت في جسم الثوب ويتفننون في ذلك تفنناً غريباً ويعملون كل

ما يجمع إلى المتانة الإبداع في الصناعة. قال ابن عربشاه: إن الحريريين في دمشق نسجوا لتيمورلنك قباء بالحرير والذهب ليس له دِرز فإذا هو شيء عجيب. ولما نجحت الصنائع الإفرنجية - وكانت صنائع الحرائر والطرائف تروج زمناً ثم تنحمق وتكسد - واخترع أحد صناع الإنكليز نسيج الشيت اليمني كاد يقضى على صناعاتنا هذه، لولا رجل دمشقي اسمه عبد المجيد الأصفر من أهل هذه الصناعة، فاخترع القماش المعروف بالديما فحال دون النساجة والبوار دفعة واحدة. ثم إن رجلاً اسمه الروماني من أهل دمشق أيضاً، تفنن في المنسوجات الحريرية تفنناً عجيباً، فلما مات كادت هذه الصناعة تموت معه، وتغلبت المنسوجات الأوربية على منسوجات حلب وطرابلس وحماة وحمص ودمشق لرخص ثمنها، وكثرة تفننهم في تلوينها، وتغيير أشكالها وطرازها، وإن كان البلى يسرع إليها، وعلى الرغم مما تقدم لم تنفك هذه الصناعة متماسكة أحوالها. على ما أصاب القطر من الأزمات الاقتصادية. ويزعمون أن ما يتعلق بها من الصنائع حتى تصلح وتصير أثواباً، يقرب من سبعين صنعة. تصرف مصنوعاتها في الشام ومصر والجزيرة، وكانت قبل الحرب العامة تصرف منها كميات وافرة في آسيا الصغرى والروم ايلي فلما وضعت في العهد الأخير الحواجز الجمركية في وجهها في تركيا عادت إلى الكساد. ومع هذا لا يزال بعض أهل هذه الصناعة يصنعون الديما وأنواع الحرير والحبر والشال البديع والأعبئة الحريرية للنساء، ما يتفاخر سياح الإفرنج باقتنائه في بيوتهم، وإلباس أُسرهم منه في السهريات وأوقات السمر، على حين كان الناس هنا ولا سيما في المدن يزهدون فيها على متانتها وجمالها، لأنهم بلوا بداء التقليد يقبلون على كل ما تأتيهم به أوربا ولو كان فيه بوارهم. وأهل معامل الحرير والقطن اليوم في المجدل من عمل غزة وبيروت وبكفيا وزوق مكايل ودير القمر وبيت شباب والكفير وحمص وحماة وحلب وأنطاكية ودمشق، تعمل فيها الأعبئة والكوفيات والزنانير والملاءات والشراشف والديما والألاجة والنمارق والأرائك والسجوف والشفوف واللحف والبرانس والطيالسة والميازر والبراقع والأزر والجلابيب والقطائف المخمل.

ومن الصناعات التي كانت الشام وما برحت تفتخر بها صناعة الشقق الحريرية والقطنية، وهي عبارة عن قماش محوك طوله تسعة أذرع في عرض ذراع. ولصناعه تفنن في نقشه وصبغه، يدل على رسوخ قدم في الصناعة، وذوق جميل فيها، واشتهرت مدن الشام بإتقان تلك الصناعة، ومنها دمشق وحلب وحمص وحماة وطرابلس، وأشهرها المسماة بالمصرية والحامدية والحموية والحمصية والحلبية. وتفصيل تلك الشقق على الطراز العربي وهي قطنيها وحريريها على غاية من المتانة والجمال. وكانت قديماً لباساً عاماً للأهلين فقيرهم وغنيهم رجالهم ونسائهم وقل المنفق منها الآن لاعتياد الناس اللباس الإفرنجي، ولا تزال مع هذا لباس أكثرية الأهالي يعملون منها القفاطين القنابيز وتدر تلك الصناعة عليهم أرباحاً وفيرة، وتصدر إلى الأناضول ومصر والحجاز والعراق، ويعد تجار تلك الصناعة من الأغنياء غالباً. ومن الصناعات الدقيقة الصنع أيضاً الشال القطني والحريري والزنانير والشملات، وأتقنها ما عمل في طرابلس وبيروت وحلب ودمشق، ومن صناعات الشام الكوفيات الحريرية على اختلاف ألوانها ووشيها بالقصب الفضي بنقوش ورسوم غاية في الإبداع وسلامة الذوق والمتانة، وما فتئت هذه الصناعات إلى الآن زاهرة رغم مزاحمة الأوربيين بكل ما عندهم من قوة تجارية وصناعية وتفنن وإبداع. ومن الصناعات التي كانت من متممات اللباس لكنها ضعفت للغاية صناعة المشدات المعروفة بالكمار وهي تنسج بالصوف والغزل ذات طاقين طويلين تشد على الخصور، ولا تزال لباس الوطنيين الذين لم يتأوربوا أي لم يتشبهوا بالأوربيين فضعفت صناعتها. وقد أحدث السادة كسم وقباني معملاً لحياكة الحرير في دمشق ضاهيا به ما يصنع من نوعه في فرنسا، وكذلك أحدث السادة توفيق وكامل وسعيد الكحالة معملاً لصنع ثياب الكتان والشراشف ينافس مصنوعات أوربا، وأحدث السيد أنطون مزنر في دمشق معملاً لصنع الشال الحرير غاية الغايات إتقاناً وجمالاً. وفي دمشق ثلاثون آلة لغسل الحرير على الطرز الحديث. ومما تمتاز به حماة عن سائر المدن الصناعية نسج المآزر للنساء مما يستعملنه في الحمام وتسمى المناشف، وما تغطى به الفرش ويسمى الشراشف

وينسج بالكتان ويوشى بالحرير من كل الألوان وهو غاية الغايات في دقة الصنعة والمتانة يصدر إلى كثير من جهات العالم. وتصنع حلب من هذه المآزر أنواعاً كانت تضاهي بها المآزر التي ترد من العجم إلى أن بذتها وقامت مقامها. ومن المنسوجات الرائجة أيضاً صناعة الأعبثة فهي من أهم الصناعات على اختلاف أنواعها ومنها الخشنة التي يلبسها الفلاحون، وحياكتها غاية في المتانة ولها ألوف من الأنوال في دمشق وحمص وحلب وقرى القلمون، وذلك لتوفر مادتها الأولية ولأنها لباس عامة الفلاحين، ويوجد أيضاً ألوف الأنوال في دمشق وقرية جرمانا وحمص وهي تصنع أعبئة من الصوف النحيف والوبر برسم الأمراء والكبراء ويصدر منها إلى الخارج ولا سيما إلى فارس ويبتاع الحجاج أيام الموسم من دمشق خاصة من تلك الأعبئة ألوفاً وهي مشهورة بحسن صناعتها وعلى غاية المتانة، مع أنها من النسج النحيف الناعم، ومما يدل على ذوق صناعها تفننهم في ألوانها على اختلاف ضروبها، وفي دمشق وبيروت ولبنان وحمص وحلب من الأنوال لعمل الأعبئة من الحرير وهي على غاية الرواء والجمال والمتانة وفي النهاية من سلامة الذوق بوشيها وألوانها. وتصدر إلى أوربا وأميركا ومصر وإيران. ومما يؤسف له الآن دخول الحرير النباتي إلى الديار الشامية وصنع العباءة منه مؤثرين له لرخص ثمنه مما يكون منه بعد بضع سنوات القضاء على صناعة العباءة الحريرية في الشام إن لم تتدارك بما يحفظ وراءها. واشتهرت حلب بالمناديل الحريرية والمقصبة المعروفة بالبوشية وفيها 53 معملاً كما فيها 124 للخام و 247 لمنسوجات الغزل و 159 للحرير و117 للأغباني أو تقليد الزنار الهندي، وصناعة الأغباني في دمشق رائجة كل الرواج وهي عبارة عن قطعة ثوب مربعة طولها ذراعان في مثلهما، تعمل من الحرير الدقيق، لونها أبيض وأدكن، وتطرز بألوان الحرير الجميلة، وبأنواع الرسوم التي قد تعجز عنها ريشة المتفننين من المصورين، وكانت تلك الصنعة مختصة أولاً بالهند تصدر منها إلى أطراف العالم، وكان قليل منها يطرز في حلب ويستعمل للعمائم فقط على قماش قطني وبعض الحرير. وأما الآن فقد تناولتها أيدي جميع الشاميين أذكياء وأكثر من يصنعها النساء يطرزن منها أثواباً

طول الثوب تسعة أذرع وعرضه ذراع واحد، وتعمل منها القفاطين، وهي الألبسة الوطنية في الشام، وفيه اليوم ألوف من الآلات تصنع هذا النوع من القماش، وتسمى القطعة منه أي ما طوله ذراعان وعرضه كذلك سُلْك أغباني وهو يستعمل في الشام غطاء للرأس أي كوفية، وزناراً، وملفاً للأولاد الرضع، وعمامة، ويصدر منه إلى الخارج كميات وافرة، وله تجار كثار أخصائيون في دمشق وحلب وبيروت وحماة وحمص وطرابلس وفلسطين وجميع المدن الصغيرة ويصدر إلى الهند وفارس وتركيا والحجاز والعراق ومصر والسودان والصين. واشتهرت الشهباء بصناعة الأشغال الحريرية المعمولة بالقصب وأقمشة الجوخ المعمولة بالسيم والثياب المفصصة بالجوهر والزّبرج أي الزينة من وشيٍ وذهب ويقال لهذه الصناعة صنعة القصبجية والألتونية فهي ممتازة بعمل الفضي ومشهورة بالزركشة والتطريز، وعرفت زوق مكايل بصناعة الوشي وزركشة القصب والنسيج أيضاً، واهتدى صناعها منذ تسعين سنة إلى رسم الأشكال التي يريدونها على المنوال بالمحواك، واصطنعوا من الأثاث والأكيسة والطنافس ما يأخذ بمجامع القلوب إتقاناً، وعملوا نسائج هذا القز فأبدعوا فيه وأظهروا الصور الشمسية على النسيج فجاءت كأنها لم تمس بيد، صنعوا بها صور العظماء والملوك والأمراء مجسمة، فكانت من أنفس أعلاق القصور. وصناعة زركشة القصب هذه كانت راقية جداً في دمشق، وصفها أحد سياح القرن الحادي عشر بقوله: وبباب جيرون على يسار الخارج منه حارة الذهبيين، وهي أماكن يمد فيها خيوط الذهب غلاظاً أولاً، ثم لا يزالون يعالجونها بالإدخال خرقاً بعد خرق، وكل ثان أضيق من قبله، حتى تنتهي إلى الرقة، إلى أن تصير كالشعر ثم يطرقونها بمطارق لطيفة وصناعة محكمة، ثم يلفون ذلك المطروق على خيوط الحرير فيتركب منه القصب المعلوم ونحو ذلك عملهم للفضة اه. وسمى هذه الصناعة البدري صناعة الذهب المسبوك والمضروب والمجرور والمرفوع والممدود والمرصوع وكان القوم يغالون في لبس الأردية والأكسية والمعاطف والسراويلات التي تعمل من هذا القصب على الجوخ ويلبسه المترفون

الدباغة وصناعات الجلود:

والعُرُس وأرباب النعيم، وبقاياها اليوم يلبسها الآذنون عند قناصل الدول والرؤساء الروحيين. الدباغة وصناعات الجلود: كان للدباغة شأن مهم في هذا القطر تعمل من الجلود الأحذية والسروج والمطارح والمقاعد والقرب والروايا والمحافظ والمطاهر والركوات والأدوات وما أشبهها، وكانت أهم معامله في حلب وفيها اليوم 40 مدبغة على الطريقة القديمة وفي حماة ودمشق وزحلة ومشغرة والخليل. وتدبغ جلود الثعلب وبنات آوى التي تصلح للفراء في جوار طرابلس وبيروت. ويقدرون عدد ما يدبغ من الجلود في الشام بمليون ومائتي ألف جلد منها مليون من المعزى والغنم. وقد أنشأ في دمشق السادة رومية وعمري معملاً لدبغ الجلود وعمل الشراك والشسوع للأحذية، فجاءت مصنوعاتها كمصنوعات أوربا من كل وجه وزادت عليها رخص أثمانها، فأصبحت تباع حتى في الغرب، ومعظم معدات هذا المعمل الكبير من صنع دمشق ولم يجلب له غير أدوات قليلة، والصناع كلهم من أرباب هذه الصناعة القدماء، وفي دمشق نحو 30 دباغة على الطراز القديم ودباغات الخليل مشهورة وأشهر منها صناعة القرَب في تلك المدينة، تعمل من جلد الماعز وهي صناعة خاصة بها. وفي عكا معمل جيد للدباغة. وصناعة الأحذية والسروج والكنابيش والبرادع والرباطات والرشمات من أهم صناعات دمشق وحلب. وصناعة السروج من الصنائع المشتركة في الشام، ومما يعد في جملتها لوازم الحيوانات كالعذر والهمايين الخراج والبرادع المراشحط ويعمل كل ذلك على غاية من الإتقان. ومن السروج ما يصنع وجهه من الجوخ، ويطرز أحسن تطريز بالحرير والقصب. والجلد الذي تعمل منه السروج هو غالباً من دباغة الشام. ومن صناعة السروجيين ايضاً أحزمة الجلد ويسمونه قشاطا وجعاب رصاص البنادق ويسمونها جناداً وأرسان للخيلن وصناديق للسفر من الجلد وغير ذلك من الحاجيات المحلية، ويصدر ذلك إلى الداخلية فقط وهو يضاهي أعمال الأوربيين أنفسهم من ذلك النوع. وتعمل الأحذية في جميع المدن ومنها ما تستخدم فيه الجلود الإفرنجية

تربية دود الحرير:

المعروفة بلمعانها ومتانتها وحذاءو الشام مشهورون منذ القدم، وأهل الرفاهية والبذخ اليوم يأتون بأحذيتهم من الغرب جاهزة وخصوصاً النساء يرينها ألطف شكلاً وأدق صنعة ويقبلن عليها وإن كانت أغلى قيمة وأقل متانة مما يعمل هنا. ويلحق بصناعة الدباغة أو القرظية صناعة عمل الأوتار من المصير والمري وهي نافقة يبعثون بها بعد تحضير قليل إلى معامل الغرب فتعمل منها أوتار الأعواد والقيثارات وغيرها. تربية دود الحرير: ومن أهم الصناعات تربية دود الحرير الفيالج أو الشرانق وهو عمل خاص باللبنانيين وبسكان أرجاء إنطاكية. وكانت مساحة الأراضي التي تغرس التوت الصالح لتربية دود الحرير واسعة أكثر من الآن في أرجائنا. فقد ثبت أن عمالتي وادي التيم والبقاع كانتا كلتاهما مغروستين بشجر التوت. واقتبس أصحاب تربية الدود في العهد الأخير طريقة باستور في تربية دود القز فزادوه إتقاناً. وتصدر منه كميات وافرة إلى معامل ليون في فرنسا وهناك يصلح الإصلاح المطلوب حتى يكون منه الحرير المعهود في نسج الثياب والطرائف. ومن تربية دود الحرير يعيش عشرات الألوف من الناس في هذه الديار. والغالب أن مناخ لبنان وإنطاكية وما إليها وبعض الأرجاء المعتدلة القريبة من الساحل تصلح فقط لتربيته ومنذ القديم لم يحظّ الحظ سائر الأرجاء أن تشترك في صنعه. وقد أسس في الزبداني في العهد الأخير معمل لحل الحرير على الطرز الحديث وتصدر مصنوعاته إلى إيطاليا وفرنسا. النجارة: لم يكتف الصناع في منجوزاتهم بأخشاب الشام على كثرتها، بل أخذوا يجلبونها من قلقية ورومانيا وغيرهما، ومنهم من يجلبونه من أميركا وهو الجوز الأميركاني. يعتمدون عليه وعلى خشب الحور والجوز والزيتون والشربين والتنوب والميس والعرعر والدردار، وكان اعتمادهم يكثر في القديم على الصندل والصنوبر والسرو. وخشب السرو والصنوبر كما قال قسطا بن لوقا

من أشرف الأشجار التي تستعمل أخشابها في البناء يتخذ منها مصاريع الأبواب والدعائم والسفن ويستعان بها في كثير من الأمور. ينشرون الخشب اليوم بمناشير ميكانيكية بالبخار أو بالكهرباء أو بالطرق القديمة فيعمدون إلى أيدي العملة في إحضارها، يصنعون منها مناضد وأصونة للثياب وإطارات ومقاعد وكراسي ومغاسل وصناديق وتوابيت ورحالاً وألواحاً لدرس الغلة وأعواد الطرب. وهذه الصناعة صناعة الأعواد قديمة جداً في دمشق ودخلت حلب منذ نحو سبعين سنة. وقد اشتهرت دمشق بصناديقها التي كانت تعمل من خشب الجوز وتبقى القرون لا تتشقق ولا يسرع إليها البلى ولا تتآكل، وعليها من النقوش ما يدل على ذوق جميل، كما اشتهرت إلى اليوم بمصنوعاتها الخشبية. وفي حلب معملان للنجارة بأنواعها، وكذلك مدينة بيروت فغن معامل هاته المدن الثلاث كادت تستأثر بتجهيز الدور والقصور والفنادق ومنها ما لا تقل جودته عن أدق ما يعمل من نوعه في الغرب مع الرخص والجودة والمتانة. وإن ما يسمى بالحلقات في القصور والقاعات القديمة دليل كافٍ على رقي فن النجارة. فإن القصر أو القاعة يبلغ طوله على الاعتدال ستة أمتار في مثلها عرضاً وارتفاعه أيضاً يتسامى إلى الستة أمتار، فجهاتها الأربع وسقفها مما يشهد للمتقدمين من النجارين بسلامة الذوق وإتقان الصنع، ويباع منجور بعض هذه القصور إذا كانت سليمة من الأوربيين بأثمان باهظة، وهو عبارة عن أخشاب فقط. وصناعة الدهان المدهون به ذلك الخشب هو من أبرع الصناعات يشهد بذلك من له أقل إلمام أو ذوق من الناظرين في المحلات الخصوصية عدا ما كان من نوعه في المساجد وغيرها من المحال العامة وكله يشهد للمتقدمين من النجارين الشاميين بالبراعة والحذق. والنجارون في الشام اليوم من أشهر نجاري العالم باعتنائهم بصنعتهم، والنجار بطبيعته ينبغي له أن يكون ذكياً، لما يقتضي لصنعته من الإلمام بالهندسة والمساحة وضبط المقاييس والحساب وأن يكون على جانب من سلامة الذوق في الوضع والصنع. فالنجار الذي يخلو من هذه الصفات لا يحق له أن يصير نجاراً. إن هذا النجار الشامي الموصوف آنفاً يعمل بيده وتدل عليه آثاره في البناء الخشبي في دور دمشق وحلب وغيرهما

وما يسمونه الصلب وغيره من أبواب ونوافذ غاية في الإتقان. ومن صنع النجارين أيضاً قديماً الصناديق الخشبية ومنها ما هو مغشى بالصدف ومنه ما يسمونه بالحفر. ومنذ نحو أربعين سنة دخلت بيروت ودمشق آلات النجارة الحديثة التي تدار بالكهرباء فاستطاع مديرو المعامل أن يقاولوا على بنايات كبيرة لصنع أبوابها ونوافذها بغاية السرعة. وظهرت صناعة جديدة على الطراز الغربي تسمى صناعة الموبيليا أي فرش الدور وتنضيدها ويتناول اسم الموبيليا جميع أسماء الخزائن والمغاسل والمقاعد الخشبية المغلفة بالنسيج الحريري ولوازم غرف النوم وغرف الطعام وغرف الاستقبال، وكل ذلك يصنع في دمشق وحلب وطرابلس وبيروت، وهي تضاهي المصنوعات الأوربية جمالاً وإتقاناً ومتانةً، وتعد هذه المعامل بالمئات، ومما يدل على الذكاء في الصناعة أن تلميذات المدارس الصغيرات يشتغلن اليوم من جملة الأشغال اليدوية على اختلاف أنواعها وأوضاعها ما تقر به العيون ويبشر بمستقبل مجيد. وقلما تجد واحدة من النساء إلا وتجيد أكثر من صنعة يدوية. ومن الصناعات التي تمتاز بها دمشق خاصة، صناعة خشبية تسمى اليوم بالمصري، وهي بواقي خشب الجوز اليابس تفصل حسب المطلوب، وتصقل صقلاً تاماً، ويرسم عليها بالقلم عروق غاية في الإبداع، ويحفر على حسب رسم القلم، وينزل به الغراء وفوقه الصدف. وتقسم قسمين فما كان دقيق الرسم يسمى بالمصري، وما كان رسم عرقه ظاهراً كل الظهور يسمى في عرف الصناع بالعِرق. ويصنعون منع أنواعاً، فمنها ما يسمى بالجاردينيه وهي أثاثة يوضع فيها قحف زهور صناعية، بعرض مترين أو ثلاثة أذرع، ويجعل فوقها إطار من تلك الصناعة النفيسة طوله متران وعرضه متر. وفي داخل ذلك الإطار مرآة وبجانبه من الطرفين جناحان لطيفان لهما رفوف توضع عليها التحف المنوعة، وفوقها تاج على علو متر أيضاً. وكل ذلك محلى بتلك الصناعة الصدفية يتخلله صباغ أسود قليل يزيد في لمعان الصدف. ويصنع من تلك الصناعة أشكال وأنواع متعددة منها الأصونة خزائن

الثياب ومنها ما يسمى بالعرف بالبيرو مكتب وهو عبارة عن أربعة دروج كبيرة فوقها درجان صغيران ويصنع منه إطار للمرآة، وإطارات للصور ومناضد، وجميع ما يصنع من الخشب البسيط. ومنذ خمسين أو ستين سنة كثر طلب هذا الصنف إلى أوربا. ولكن الحكومة والبلدية لم تأخذا تلك الصناعة تحت رعايتهما فكثر الغش فيها، وصارت لى البوار وانقطع عنها الطلب إلى الخارج بتاتاً، وهي لا تروج الآن إلا في دمشق وضواحيها تقريباً، ولو عُنيت البلدية بمراقبة صناعها، وجعت لهم رئيساً مسؤولاً لدرت تلك الصناعة على دمشق أرباحاً هائلة ولأصبحت أجرة الصانع يومياً نصف دينار وراجت في أقطار العالم أجمع لجمالها ودقة صنعها. ومن أهم معامل النجارة والفرش معامل الياس جرجي السيوفي في بيروت زرتها في سنة 1330هـ 1912م ومما قلته فيها: رأيت صورة مصغرة من صورة الغرب في الشرق، وتمثل لي فضل الذكاء العربي، وأنه وإن لم يفق الغربي فليس دونه، وأن يد أبنائنا صَناع في الأعمال لا يفوقها ابن فرنسا وإيطاليا وإنكلترا وألمانيا وسويسرا وبلجيكا إلا بأن الإفرنج يرجعون إلى أساليب في العمل تنقصنا، أو تكاد فغي أكثر الأصقاع لا تجد لها أثراً بيننا، وهي ترجع إلى أسباب رئيسة مهمة، أولها الصبر على العمل، وثانيها تجويد العمل، وثالثها القدر اللازم للعمل من المال والمعرفة، ورابعها الاقتصاد في الوقت والأيدي العاملة، وخامسها تنشيط الأهلين والحكومات للمصنوعات الوطنية وحماية التجارة الداخلية بقوانين تنفذ على الصادر والوارد، وسادسها وجود المواد الأولية التي يمكن بها الاستغناء عن المواد الخارجية في الجملة. دلت معامل السيوفي على أن الشرقي بمفرده أُمة، وأن الأمة بمجموعها ضعيفة، بمعنى أن الشرقي يعمل مفرداً أحسن من عمله مجتمعاً، وذلك لفقد التربية المشتركة بين المشارقة يرجعون إليها وتضم عراهم. فلو كان معمل الغزل في دمشق لفرد واحد منذ إنشائه له خيره وعليه شره، لما اضمحل هذا الاضمحلال الذي نراه عليه، ولو كانت معامل السيوفي في بيروت لشركة لما رأينا فيها هذا النظام والنجاح، وبذلك صح لنا إثبات ما قدمناه من أن الشرقي أثمة بمفرده والأمة ضعيفة بمجموعها، وأن لا سبيل إلى قيام الأعمال الكبرى وأن نقدر لها النجاح المطلوب إلا إذا اتحدت مناحينا

وتعلمنا تعليماً وطنياً اقتصادياً واحداً. على هضبة من هضاب بيروت الجميلة في حي الأشرفية، في مكان بعيد عن مركز حركة هذا الثغر، يطل على سفوح لبنان وبيروت وعلى البحر الرومي من أُخرى، قامت هذه المعامل البديعة في بقعة فسيحة من الأرض تدخلها فتخال نفسك في إحدى معامل الغرب الكبرى، وأول ما يبدؤك بعد الدخول من التاج ساعتان عن اليمين والشمال بجانبهما صندوقان معلقان مقسومان إلى بيوت صغيرة، وفي كل بيت مقواة كتب عليها اسم أحد العملة وطبعت عليها ساعات الغدو والغداء والرواح، فمتى وصل العامل بعد الفجر وقبل إشراق في الشتاء مثلاً يضع مقواته في بيتها، فلا تلبث أن تكتب عليها ساعة مجيئه والدقيقة التي جاء فيها بحروف عربية، وفي آخر اليوم أو الأسبوع يرجع إليها مدير المعمل، ويحسب المتأخر من المتقدم، ويعدون ذلك بموجب نظام خاص لهم جروا فيه على مثال نظام العمال في سويسرا والبلجيك والنمسا وألمانيا. ومن قوانين العملة في هذه الممالك اختار مؤسس المعمل أحسن ما يلائم هذه الديار وينفع في نجاح عملته ويعود عليه وعليهم بالربح واقتصاد الوقت. وهذه الساعة من نفع ما يجب استخدامه في معاملنا ومطابعنا ودواوين أعمالنا وبيوتنا التجارية والمالية ودوائرنا العسكرية والملكية ليتعلم قومنا مراعاة الوقت والتدقيق في حسابه حتى يبارك لهم بساعات العمل وأيام الحياة، ويتعلموا أن التدقيق في المواعيد أحد دعائم التنظيم في فروع الأعمال، ومن أهم أساليب النجاح الذي غفل عنه معظم سكان هذه الديار وعدوا من ينظم أوقاته ويدقق في وعوده واستقبال خاصته ومن لهم علاقة به في ساعات محدودة متكبراً أو مهوساً. يباكر العملة في معامل السيوفي في الصيف والشتاء والخريف والربيع على السواء وينقطعون ساعةً وقت الظهر ثم يعاودون العمل إلى قبيل الغروب أو إلى بعده بقليل بحيث لا يتجاوز معدل ساعات العمل في اليوم تسعاً بخلاف عملة أوربا فإنهم يعملون في بعض الممالك كبلجيكا مثلاً زهاء اثنتي عشرة ساعة، ولكثرة الأيدي العاملة وللعادة والإقليم دخل كبير في هذا الاصطلاح.

وفي معامل السيوفي اليوم 280 عاملاً مع أن الأدوات التي اقتناها صاحبها تشغل ضعفي هذا العدد فيستفيدون ويفيدون. أكثر ما يعمل في هذه المعامل منجورات الدور الخشبية وأنواع الفرش وأثاث البيوت تعمل كما تعمل في الغرب وتتأنق الأيدي والعيون في تجويدها وتساعدها الأدوات التي تدار بالفحم الحجري وتبلغ نحو الستين آلة ومنها لقطع الخشب وصقله وحفره وتقويره ونقشه وتنشيفه، فترى خشب الجوز والزان من واردات الروم الأناضول والاكاجو من كوبا وشوح النمسا وسنديان أميركا والخشب البياسي من قلقية تُعمل في تلك الأدوات وتحركها تلك المحركات والآلات كأنها العجين في يد خبازه أو الملاط بيد البناء الحاذق. قال لنا صاحب المعمل: إن الآلة الكبرى المحركة في معمله هي بقوة مئة حصان تنفق في النهار 13 فرنكاً من الفحم وكانت الآلات التي هي أصغر منها تصرف من قبل أكثر من ذلك، وبهذا يستدل أيضاً أن نفقات المعامل الكبيرة أدنى إلى الاقتصاد وأعمالها أقرب إلى الجودة من مصنوعات المعامل الصغيرة لا سيما والمعامل الكبرى تتجلى فيها قاعدة تقسيم العمال فتجد العملة في معامل السيوفي مقسومين إلى عدة أقسام قسم الأدوات وقسم النجارة وقسم الحفر وقسم البرداخ، وللمحل رسام خاص وكلهم من أبناء العرب ليس بينهم إفرنجي. وتختلف أجرة العامل في اليوم من ستين بارة إلى ستين قرشاً ويحاسب عن أجرته كل يوم سبت من كل أسبوعين في الشتاء ويحاسب في الصيف كل سبت قبل الظهر ليتيسر له الخروج إن أحب إلى الجبل يصرف ليل الأحد وليل الاثنين فيه للنزهة، ويقضى على كل عامل أن يعمل ستة أشهر تحت التجربة أولاً ثم تحسم من مياومته أجرة أسبوعين تجعل في صندوق المحل حتى لا تحدثه نفسه بالخروج من العمل كل يوم أو كل أسبوع كما يفعل بعض العملة في المعامل ويتركون أصحابها معطلين. ومن جملة ما شهدته من النظام داخل المعمل قاعة كبرى وموائد يتناول عليها العملة طعام الظهر، وآلة تضغط النشارة عندما توضع فيها، وهي من اختراع أحد العمال هنا، وتلقي بها إلى مكان بعيد خارج بناية المعمل ومن هناك يبتاعها أرباب القمامين. ومما رأيته خارج المعمل من النظام رصف الطريق الموصلة إليه على نفقة صاحب المعمل وغرس

القيانة والحدادة والنحاسة:

بعض الأشجار على جانبيها ويبلغ طولها نحو كيلو مترين. هذا ما رأيته في معامل السيوفي من النظام الذي لا أبالغ بأني قلما رأيته في معمل يرأسه شرقي، ولذلك يصفق لصاحبه لأنه بدأ به صغيراً سنة 1888 في مدينة بيروت وكبره في سنة 1908 في حي الأشرفية على الصورة التي رأيناها اليوم ونفقة عمارته وأرضه وأدواته تساوي خمسة وعشرين ألف ليرة، ولكن لا يتيسر لمن معه مائة ألف ليرة أن يقيم مثله بأدواته ونظامه إذا لم تسبق له معرفة كمعرفة السيوفي ولم يقض سنين مثله في النجارة ويحيط بما جل وقل من أساليب العمل وتجويده. فليت كل أعمالنا تجري على هذا المثال من النظام البليغ والنجاح الأكيد اه. ومما يصح أن يلحق بالنجارة صناعة تنزيل الخشب وتنزيل الصدف أو خشب الليمون فيه، وهذه الصناعات كانت رائجة جداً ثم عمدت وجدد شبابها صناع دمشق منذ نحو سبعين سنة حتى أصبح ما يعمل منها مما يتنافس في اقتنائه. ونسبت هذه الصناعة لدمشق فيقال لها بالإفرنجية داماسكينه. القيانة والحدادة والنحاسة: كانت العرب تطرق المعادن في دمشق بإتقان أكثر من إتقان الغرب على ما قال ميشو، واشتهرت كثير من مدن الشام بهذه الصناعة منذ عرف تاريخ القيانة أو القردحة أي صناعة عمل السلاح. وذلك لأن الحديد كان يكثر في الجبال ولا سيما في لبنان وحلب. وقد اشتهرت في الجاهلية سيوف مشارف الشام في أقصى تخوم الجنوب، وكانت تطبع بها السيوف وتنسب إليها فيقال السيوف المشرفية، وكانت حاضرة المشارف مدينة مؤتة قال كثير: إذ الناس ساموكم من الأمر خطة ... لها خطة فيها السهام الممثل أبى الله للشم الأنوف كأنهم ... صوارم يجلوها بمؤتة صيقل والصيقل هو الذي يجلو السيوف. ونسبت السيوف إلى دياف وإلى بصرى وكلتاهما في أرض حوران فيقولون للسيوف البُصرية قال الحصين بن الحمام المرّي: صفائح بُصرى أخلصتها قيونها ... ومطرداً من نسج داود محكما والقيون جمع قين صانع السلاح. وسيوف دمشق لا تزال يفاخر بها لتفنن

الصياقلة في صنعها، وقد عرفت بصفاء مائها، واخضرار لونها، وإرهاف حدها، ولطف فرندها، وكانت تكتب عليها آيات وأشعار بماء الذهب، وكذلك على الخناجر والرماح، عرفها الصليبيون في القرون الوسطى ونسبوها إلى دمشق وغدوا يفاخرون بتقلدها ولا مفاخرة العرب بالسيوف اليمانية والرماح السمهرية. وصناعة تنزيل الذهب على السيوف والخناجر والمدى والبنادق كانت من أهم الصناعات الدمشقية ويحسب أربابها من أهل اليسار ويعدون اليوم على الأصابع ولا يسع المنصف إلا أن ينحني إعجاباً أمام جمال هذه الصناعة. وقد نقل الفاتحون من العرب إلى الأندلس صناعة صقل السيوف وهي الصناعة التي نسبت إلى دمشق حتى اليوم فقيل لها بالإفرنجية أو أي تنزيل الذهب والفضة في الفولاذ وقد اشتق منه الفعل عندهم وكانت تعمل السيوف في زحلة والشوير ودومة من عمل لبنان وتعمل النبال الفائقة في عمتا من بلاد الغور. وكانت الدروع تسرّد بيد الدارعين والخوذ والسابرية تصنع في دمشق خاصة. ويعمل من الحديد كل ما يلزم من الطبر والخناجر والمرادن والمغازل والصنارات والأسياخ والعقافات والقيود والزرد والمباضع والمبازغ والمشارط والآنية، يطرق كل ذلك في كيرة الحدادين وسنداناتهم ويضرب بمطارقهم، وكانت وافية بالغرض. ومن أهم أعمال صناعة النحاس في دمشق حلقة باب المدرسة الخضيرية في حي الخضيرية وكذلك الحلقتان اللتان على بابي المستشفى النوري. والأولى من القرن الثامن والحلقتان الأخريان من القرن السادس وهي آية الإبداع والمتانة وفي هذا البيمارستان أبواب من خشب من عصر صلاح الدين عليها مرايا المفاتيح على طرز الغرب إذ ذاك. وفي مستودع الجامع الأموي بقايا النحاس الذي كان على باب جيرون من أبواب الجامع تصور للمرء نموذجاً من إتقان النحاسين والحدادين لصناعتهم في القديم. وفي بعض مدارس حلب حلقات قديمة من هذا القبيل تدل على مبلغ صناعها من الحذق وفيها أبواب من الحديد صنعت لبعض البيوت والمدارس القديمة آية الجمال الصناعي. ومن صناعة الحديد أمثلة كثيرة مثل أبواب بعض خانات دمشق كخان الحرير وخان أسعد باشا

وخان الزيت وأبواب التكية السليمانية وشبابيكها. وشبابيك المدارس والديارات والجوامع والكنائس القديمة وأبوابها ودرفاتها في دمشق وحلب والقدس والناصرة وبيت لحم ولبنان وغيرها وكلها تدل على ترقي الحدادة والنحاسة دلالة عظيمة مثل أبواب القلاع كقلعة عكا وحصن الأكراد وغيرهما. ولكثرة الحديد في أرباض حلب عمل كثير من أبواب حلب القديمة من الحديد. وكذلك قل عن سائر صناعات الحديد والنحاس وكانت تعمل منها السرج والمصابيح والمواقد والشمعدانات والشبابيك والكؤوس والصحاف والزهريات والمباخر والقماقم وأوعية القهوة الدلاّت والألبان والطسوت والموائد والصواني والصحون والمصافي والمغارف والملاعق والقدور، والقدر الشامية كانت مشهورة بكونها لا تنش، والسطول والمساخن والهواوين والمدقات والمناشير والجرار والحقاق والأجراس والنعال والمسامير والمعاول والمساحي والمناجل والمطارق والأقفال والمفاتيح والمغالق والمناصب والملاقط والسكاكين والمدى والمقال والمواسي والمبارد والقيود والجواشن والدروع والصنجات والجُرُز العمد والحسك والدرابزون والمناجيق والدبابات. ومن الصناعات النفيسة صنعة الأجراس أجراس الكنائس فإنها تصنع في بيت شباب، واستأثر بهذه الصنعة لبنان من دون أقطار الشرق الأقرب، وقد دخلت صنعتها أرضنا مع الصليبيين على الأكثر، وكانت البيع قبل ذلك تستعمل أجراساً من الخشب، وما زالت هذه الصناعة محصورة ككثير من الصناعات في أُسرة واحدة. ولما جاء حديد الغرب الرخيص السهل على التطريق كثرت أدوات الحديد وتفنن صناعه في صنعه ومنهم من عمد إلى اتخاذ الأدوات الحديثة كمعامل بيروت، ومنهم من اعتمد على الطرق القديمة في تطريقه، وكثير من الأدوات الزراعية كالفؤوس والقُدُم جمع قدوم والسكك الزراعية والمقاريض وأدوات السيارات تعمل في حلب ودمشق وبيروت والقدس وسائر المدن الشامية. ولا يزال الحدادون على تفننهم حتى يساووا معمولات الغرب. والحاجة أُمّ الاختراع. وقد قامت دمشق في الحرب العامة بصنع أعمال نفيسة من حاجيات الجيش كالقدوم والمنشار والكلاّب واللولب والفأس والرفش والقدر والمركن والمرجل

والدلو والبرميل وعجلة النقل والركوب ومحفة الجرحى والمرضى، كنت إذا رأيتها تظنها لجمالها ومتانتها من صنع الغرب. وقد جلب كثير مما يستعمل في هذه الصناعة من حلب ولبنان وبيروت، ويستعمل فيها الحديد والنحاس والصفيح التنك وتوفر الجيش التركي في تلك الأيام على ملء الخراطيش وصنع القذائف والمدمرات واستجادة أحسنها طرازاً وأفعلها في وقت الحاجة وإصلاح البنادق والمدافع ما دل على ذكاء ابن هذه الديار إذا عُلّم التعليم العملي المنظم بنظام المعامل الغربية. ولقد صنع أحد مهرة الصناعة مدة الحرب بندقية من الخشب أخف من الماوزر فنال استحسان أهل هذا الشأن في الدولة. ويصح أن تلحق صناعة النحاسين والصفارين بالحدادة، وكانت في القديم ذات شأن، ولم يبرح في المتاحف والبيوت القديمة في المدن والقرى نموذجات منه صبرت على ممر الأيام بحالها، وما عمل منذ ستة أو سبعة قرون كثير جداً، والقديم أقل منه، وكان ما يصنع منه في دمشق يقال له الظاهري نسبة للملك الظاهر فيما زعموا ولا ندري أي ظاهر هو، لأنه كان من المنشطين لصناعته فنسب إليه تحبباُ، وما فتئت هذه الصناعة رائجة تعمل من النحاس الثريات والمصابيح والفوانيس والتعاليق والجفان والكؤوس والباخر والقماقم والصحاف والصواني والطسوت والأباريق والصنجات، مصنوعة من النحاس الأصفر منقوشة في العهد الحديث حروفاً لا تقرأ إذ تعاور صناعتها أُناس أُميون على الأكثر، وكان يطرز ويرقش في القديم بكل معنى جميل. وفي حلب ودمشق وزحلة وبسكنتا وبتغرين ودومة لبنان مسابك حديد، يقينون فيها الحديد قيناً جيداً، والنحاس يعمل في كل بلد للآنية وامتهانات البيوت، وأجَلُّه ما صنعه صَنَعوا الأيدي في دمشق وحلب. ومن أوسع معامل النحاس الأصفر معمل السادة النعسان في دمشق فقد تفنن بصنع الزهريات والكؤوس والثريات وغيرها والسياح يتنافسون في اقتناء مصنوعاته وكثير من أرباب الثراء في مصر وأميركا وأوربا يزينون ردهاتهم بقطع منه ولا يقل العاملون والعاملات فيه عن مائتي نفس. وصناعة النحاس المنقوش من الصناعات القديمة في الشام، وكل ما كانت تستعمله قديماً في بيوتها وحوانيتها هو من صنعها، من صحاف كبيرة وصغيرة

الزجاجة:

وبواطٍ على غاية من دقة الصنعة والقديم منها يباع الآن بأثمان باهظة، وبيع من مدة من أحد تجار الآثار القديمة صحنان من النحاس بسبعين ليرة عثمانية ذهباً ويشتري الأوربيون ذلك تقديراً للفن وخدمة للتاريخ، وفي الشام معامل كثيرة لصنع النحاس المنقوش وله رواج عظيم وهو أنواع كثيرة منها ثريات للتعليق في قصور الملوك والعظماء تزين برسوم جميلة، ومنها ما ينار بالكهرباء ومنها ما ينار بالشموع وصحاف كبيرة وصغيرة وما يلزم للاستعمال والزينة في البيوت وهو أنواع. والمعقول أن يدوم تصدير هذه الأنواع وتزداد، لما في نقوشها من الإتقان ودقة الصنعة والاعتدال في الأثمان. الزجاجة: من أهم الصناعات التي اختصت بها الشام من القديم الزجاجة؛ صناعة الزجاج. وعدها الثعالبي من خصائص الشام وقال: إنه يضرب به المثل في الرقة والصفاء فيقال أرق من زجاج الشام وقال بعض الحكماء: وارفق بالعدو كما برفق بزجاج الشام، إلى أن تجد الفرصة فإما أن يضربه الحجر فيفضه، وإما أن تضربه بالحجر فترضه وربما كانت تعمل من هذا الزجاج المناظير للعيون قال أحمد بن محمد الدنيسري القاهري المتوفى سنة 794. أتى بعد الصبا شيبي وظهري ... رمي بعد اعتدال باعوجاج كفى أن كان لي بصر حديد ... وقد صارت عيوني من زجاج وقد اشتهرت صور منذ القديم بزجاجها، وكان الرمل الذي يعثر عليه في جوارها يزيد الزجاج بهجة ليست له في غيرها من البلدان. وكانت معامل الزجاج في حلب وأرمناز مشهورة تصدر منه إلى العراق ويتباهى به في قصور الخلفاء. واشتهرت معامل الزجاج في عكا إلى القرن الرابع عشر، وعرفت دمشق بزجاجها كما اشتهرت الخليل فكانت الزجاجة من صناعتها وهي مشهورة بعمل المصابيح التي تعمل فيها اشتهارها بأساور النساء. وكان الزجاج معروفاً بالدمشقي يتخذ للزخرفة والزينة ومنه والأكواب والآنية على اختلاف ضروبها ويفهم مما وصفه الشعراء مبلغ تفنن الزجاجين بزجاجهم. واشتهرت الرقة بصنع الزجاج. وفي دار المتحف بدمشق مجموعة من الزجاج الملون المنقوش

الدهان:

المرقوش، وهي أثمن المجموعات التي عرفت حتى الآن من نوعها. ومن أجمل النموذجات في هذه الطرائف البديعة، ومنها الأكواب والأباريق والجامات والسكرجات والمضخات والأقداح والقوارير والكيزان والبواطي وكانت معاملها في دمشق وحلب والرصافة والخليل وصور وعكا على ما يظهر. وقد انحطت هذه الصناعة حتى انحصرت في دمشق وأرمناز والخليل بأناس فقراء يعملون من الزجاج القناني والبواطي العادية فقط. ن صنع الزجاج النفيس الذي تعمله البنادقة من معاملنا في الحروب الصليبية وتلقنوه عن معامل صور وانتشر صنعه في أرجاء أوربا بعد أن كانوا يستبضعونه من ديارنا قد نافس هذه الصناعة فقضى عليها أو كاد. وكانت معامل الزجاج ممتدة على طول الجامع الأموي في دمشق رآها الرحالة بوجيبوجي سنة 1346م وبعد أن كانت معامل عكا وصور مما يضرب بمصنوعاته المثل فقدت أسرار الجمال في هذه الصناعة. وقبيل الحرب العامة 1908 أنشأ في دمشق السد مسلم العمري معملاً لصنع الزجاج، أنفق عليه عشرين ألف ليرة عثمانية ذهباً، وجرّب عمله بواسطة صناع غربيين فجاء كالزجاج الذي يجلب من الغرب، ووافق الرمل الذي استعمل لكن المعمل لا يزال معطلاً، وكانت الشركة الوطنية بنته على آخر طرز في شرقي المدينة. وفي الحرب العامة الأخيرة قل الزجاج المجلوب من معامل الغرب فهب أرباب معامل الزجاج في دمشق وبيروت وأخذوا يصنعون الأكواب والصحون والأقداح من كسرات الزجاجات القديمة فسدت بعض حاجة الناس. الدهان: ومن الصنائع الدهان، وكانت مما تمتاز به بعلبك. قال في مسالك الأبصار: ويعمل في بعلبك الدهان الفائق من الماعون وغيره، ولكن دمشق وحلب وغيرهما من المدن حيث كان للرفاهية أسواق نافقة، لم تكن دون بعلبك في هذه الصناعة، فكان يدهن الخشب والحجر ويبقى بحاله القرون الطويلة. ومن يدخل قاعة من قاعات دمشق وحلب مثلاً يرَ الألوان زاهية باهرة كأنها نقشت الآن، وفي دمشق اليوم قاعات وأبهاء وأواوين مضى عليها زهاء مائتي سنة ولا تزال

برونقها تدهشك كما يدهش الداخل إلى متاحف الآثار المصرية من نقوش بيبان الملوك وبني حسن وسقارة وكتاباتها ورسومها، وقد مضى عليها قرابة أربعة آلف سنة، على حين تنصل الألوان المستعملة لعهدنا وتكمد في سنين قليلة. والسبب في نصول الدهان الجديد، ومواده تأتي من الغرب، أن الدهانات القديمة كانت من صنع القطر ترجع إلى أصل ثابت ويحافظ عليها من المطر والشمس لأن الأقدمين لم يكونوا يعنون بفتح الطيقان والنوافذ وتوسيع الأبواب مثل المحدثين، ولذلك صبرت الأصباغ على الأيام، زد إلى ذلك عنايتهم في تخير الأخشاب وأكثرها من الدف الرومي أو الجوز أو السرو وهذه مما يصعب تطرق التشقق والبلى إليه كالكريش والشوح وفيه مواد قطرانية أو غيرها، وكانت لهم في دمشق صناعة من الدهان تعمل من الحفر والتنزيل ويقال لها الأبلق وهي أن يرسم الدهان الحجر مما يريد من الأشكال والنقوش ويحفرها النقاش والحفار ثم يدفعها إلى الدهان فيدهنها بصب الأصباغ في الشقوق التي يريدها ثم تجلى وتصقل فيجيء صبغها كأنه من أصل الحجر ثابتاً براقاً، ولا يعما منه شيء اليوم. وفي دمشق أُسرة عرفت بأسرة الدهان اختصت بصناعة الدهان الذي يقال له العجمي كما اختصت بصنع هذا الأبلق. وتصنع هذه الأسرة مناضد وخزائن واسكملات بهذا الدهان المعروف بالعجمي من النوع المقرنص تكون آية الإبداع وحسن الذوق ويتنافس في اقتنائها العظماء لتزيين قصورهم وتبقى السنين الطويلة زاهية زاهرة. وقد دهنت عدة قاعات فجاءت آية الإبداع. وذكر الغزي أن أحد شبان حلب تعلم في أميركا صناعة الدهان على الأصول الحديثة فجاء عمله غاية في الرونق والإتقان. والمنتظر تعميم هذه الصنعة على هذا المنوال مع مراعاة المعرفة القديمة فيها. هذا في دهان الغرف والأبهاء والقاعات، وأما صبغ الثياب والحرير والقطن والغزل، فكان الاعتماد فيها على أصباغ لهم جميلة يعرفونها، ربما كان أكثرها من تركيبهم أو من معادن القطر. وكان للصباغ الدمشقي صيت بعيد في الأقطار، لثبوت ألوانه ولطافة لمعانه، وكانت أصباغه معدنية ونباتية لا غش فيها فلما تغلبت الأصباغ الغربية بطل استعمال القديم منها بل نُسي

الفخارة والقيشاني:

أمره واعتيض عنه بالحديد. وجودة الأصباغ القديمة كانت السر في اشتهار الديباج الدمشقي قديماً حتى أوشكت لطافته أن تجري مجرى المثل. وفي حلب اليوم نحو 30 مصبغة بالنيل و56 مصبغة للغزل والحرير وفي دمشق مثلها ونحوها وكذلك في كل بلد بحسب حجمه وأرباضه. وكان من أصباغهم الأصفران أي الزعفران والورس، والبرفير أو الفرفير وهو الأرجوان أحمر وأزرق وكان ولم يزل للنيل الذي يخرج من الحولة أو يؤتى به من الهند، شأن في صبغ ثياب العملة والفلاحين. وانحطت هذه الصناعة تبعاً لانحطاط أكثر الصناعات، لما جاءت الأصباغ الألمانية الحديثة حتى إن بعض معامل ثياب الحرير ترسل حريرها إلى الغرب ليصبغ ويعاد إليها، فتعمل منه الشقق والثياب وتوشى على ما يشاءون، والوشي في الثوب كالرقش في القرطاس والنقش في الحائط، ويحاولون أن تكون ألوانها ثابتة لا تنصل. الفخارة والقيشاني: وصناعة الفخارين اشتهرت بها الشام أيضاً وكان في صور الخزافون المبدعون في الأعصر القديمة، وكذلك في كفر طاب، وكانت تعمل فيها قدور الخزف وتجلب إلى غيرها ومنها نموذجات لطيفة حفظت في داري الآثار في دمشق وبيروت، وكان ولا يزال يعمل من الخزف القلل والخوابي والأجانات والدوارق وأصاصي الزهور وغيرها، يصنع ذلك في حلب ودمشق وطرابلس وبيتشباب وصيدا وبيروت وغزة وعيتا وراشيا ويقال لهاتين البلدتين عينا الفخار وراشيا الفخار وصناعة الفخار على كثرة منافسة الخزف الغربي لها لا تزال متماسكة، لأنه يتيسر جلب كل شيء من الخارج. وأجمل الخزف اليوم ما عمل في حلب من الصيني الجميل. ومن الصناعات التي كانت تجود في دمشق وحلب من دون سائر البلدان على ما علمنا، صناعة القيشاني التي دثرت وكانت مورد ربح، وعنوان فخر ومباهاة. ترصف بها الجدران والمحاريب والفساقي والسلسبيلات والباذهنجات والقماقم والزهريات والقلل وغير ذلك. وكان يصنع على ما يظهر من الرمل

الأبيض والجبس يجبلان معاً ويفرغان في قوالب على الشكل المطلوب، وتكتب على سطوحها آيات وأحاديث أو أشعار، أو ترسم عليها نقوش مختلفة بمواد ثابتة، ويذر عليها مسحوق الزجاج، أو تطلى به ممدوداً بسائل غروي، وتشوى في تنور معدّ لذلك، فيسيل الزجاج ويكسوها قشرة رقيقة تقيها من الغوائل والمؤثرات زمناً طويلاً، وتظهر النقوش والكتابات زاهية بألوانها الطبيعية. وفي سلسبيل جامع الدرويشية بدمشق نموذج منه أُرخ بسنة 982، وقطعة أُخرى كانت على قبر لطفي باشا أُرخت بسنة 998 وهي محفوظة بدار الآثار بدمشق وقد كتبت عليها الآية الكريمة (كل هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون) بخط تعليق مشرق وفي أعلاها رحمة المولى عليه كل حين. ولا تزال في بعض الجوامع والمدارس من هذه القيشاني العجيب نموذجات تأخذ الأبصار. وكان في المسجد الأقصى مصنع للقاشاني له كامل الأدوات وذلك في عهد سليمان القانوني العثماني وهو أول من استعمل القاشاني في زخرفة خارج قبة الصخرة، ولا تزال بعض قطعه محفوظة في المسجد. ويوجد الآن مصنعان فيها لرجلين أرمنيين أتيا القدس من كوتاهيه، وكانت هذه من أشهر معامل القاشاني في الدولة العثمانية، ويشتغل المصنعان بالصنف من القاشاني الذي يرغب الفرنج في اقتنائه وهي جيدة بعض الشيء لكنها لا تحاكي الأنواع القديمة. ويؤخذ تراب هذا النوع من مطحون حجر الصوان يسح بآلة بخارية قوية. ومن أجمل النماذج من القيشاني بدمشق عمودان منه على طول متر في محراب جامع التبان في المناخلية جوار باب الفرج، ومنه نموذج كثير ويظن أنه حديث في تربة جامع المرادية، وفي مدخل السويقة في مدرسة أقوش النجيبي كتبت عليه آية الكرسي بالقيشاني البديع. وفي تكيتي السلطان سليمان وسليم وفي قبر في زقاق القرشي بالميدان كتب عليه هذا قبر الجنينين الطفلين يونس وفرج، محفوظ في إدارة الأوقاف، والقيشاني في جامع تنكز مكتوب عليه آية التوحيد وفي مدفن بلال الحبشي الصحابي 146 قطعة من القيشاني المعمول في كوتاهية.

الوراقة:

ولا يعلم تاريخ اندراس هذه الصناعة، والمشهور أنها كانت خاصة بأهل بيت يتوارثون صنعها خلفاً عن سلف، فدثروا ودثرت معهم منذ أكثر من قرنين. أخبرني أحد أساطين العلم أنه رأى القيشاني في جامع الدرويشية بدمشق مصبوباً على الأحجار طبقة لطيفة وهو في غاية الحسن. ويظهر أن المادة القيشانية كانت تمدّ على الحجر كما تصنع صفائح وألواحاً. وقد قام في العهد الأخير في كثير من المدن أناس لعمل الخزف الملوّن لتبليط البيوت دعوه بالقيشاني وهو لا يشبه القيشاني إلا بالاسم فقط. وانتشر وعم استعماله في الشام كلها ونقل إلى الأصقاع المجاورة. الوراقة: فقدت الشام عدة صناعات كادت تكون خاصة بها، وتعد في جملة موارد عيشها، ومنها الوراقة صناعة عمل الورق. فقد كانت من الصناعات التي تعدها من حاجياتها. وكانت العرب تكتب أولاً في أكتاف الإبل والحجارة الرقيقة البيض وعسيب النخل، بعدما كانت الكتابة في الأديم والرقوق على ما قاله المقريزي. وفي أيام بني أُمية عمل الورق من الكتان وسمي بالخراساني. والغالب أن الشام أخذت في صنع الورق في دمشق وطبرية وطرابلس وحماة ومنبج قبل هذا التاريخ. وعامة المؤرخين من الفرنج على أن الورق من اختراع أهل الصين سنة 123 ق. م ونقل صنعه أسرى من الصين إلى سمرقند في سنة 751 وفي سنة 794م أُسس معمل للورق في بغداد ثم في دمشق ويظهر من بيت طرفة في معلقته أن القرطاس ينسب للشام والبيت: وخد كقرطاس الشآمي ومشفر ... كسبت اليماني قده لم يجرد وأن القرطاس كان يعمل في الشام على عهده أو قبله خلافاً لما قاله مؤرخو الفرنج، وأن الورق من صناعات الجاهلية. وكان يرتفع منه كميات من دمشق ومن طبرية على ما ذكر ذلك المقدسي. وقد تعلم صنع الورق في دمشق أسيران فرنسيان على عهد الحروب الصليبية فلما عادا إلى ديارهما نشرا صناعته في

فرنسا، ومنها انتقل إلى جميع أوربا، فلدمشق على فرنسا بل على المدنية بأسرها الفضل الأول في تعليم هذه الصناعة للغربيين، وناهيك بأنها أهم صناعة نشرت العلم والأفكار في العالم. وقد حمل الشاميون الوراقة إلى الأندلس وصقلية في جملة ما حملوه من صناعتهم، على نحو ما حملوها إلى شمالي إفريقية. وكانت شاطبة من مدن الأندلس تصدر منذ سنة 1009م الورق بكثرة ويحمل منها إلى سائر أرض الأندلس. وكان الورق يصنع أشكالاً في مكابس صغيرة، ويعمل من الخروق البالية أو الحرير واستبدل ورق القطن الذي منه الورق الدمشقي بالحرير في سنة 706م رجل اسمه يوسف بن عمرو، ولا يزال في خزانة دار الكتب العربية بدمشق كتاب كتب سنة 266 هـ على ورق يظن أنه من الورق الشامي وهو أقدم مخطوط عرف بالشام ولا يزال على متانته. وقال الرحالة ناصر خسرو: إن الكاغد الجيد الذي كان يصنع في طرابلس يشبه ورق سمر قند إلا أنه أحسن صنعاً. وذكر القلقشندي أن الورق المعروف بورق الطير، أي الورق الذي تكتب به البطائق وتعلق في أجنحة حمام الزاجل، وهو صنف من الورق الشامي رقيق للغاية وفيه تكتب ملطفات الكتب وبطائق الحمام. وهذا هو الورق الرقيق، والورق القديم أشبه بالبُردي أو الرقوق بمتانته. ولا نعلم في أي زمن انقرضت هذه الصناعة. وحدثني أحد علماء حلب أن الورق كان يصنع في الشهباء وأن حياً من أحيائها لا يزال اسمه الوَرّاقة حيث كانت معامل الورق. والورق الحلبي الصقيل المتين مشهور إلى عهدنا. وقد قام في أوائل هذا القرن رجل بيروتي من بيت الباحوط، فأسس معملاً مهماً في أنطلياس على ساحل البحر، وأصدر ورقاً جيداً كورق النمسا وفرنسا، لكن معامل الورق في الغرب أرخصت صادراتها من الورق إلى الشام فاضطر هو أن يُنزل أيضاً ثم خفضت السعر ولم تزل تخفضه، حتى قضت على هذا المعمل النافع في زمن أصبح المجلوب من الورق كل سنة يساوي عشرات الألوف من الدنانير إلى الشام وأصبح الورق حاجة من حاجات المدنية.

المرايا:

المرايا: المرآة بكسر الميم ما تراءيت فيه أو رأيت فيه صور الأشياء وجمعه المرائي والكثير المرايا وصنعها من صناعات هذا القطر كانت تصنع في صيدا على ما قال بلينوس وتصدر إلى الخارج، وقد وجدت في خرائب بومبي ألواح كبيرة من الزجاج وكانت مرايا الأقدمين من صفائح المعدن وهي المعروفة عند العرب بالوذائل واحدتها وذيلة، اتخذوها بادئ بدء من مزيج القصدير والنحاس ثم من الفضة خالصة أو ممزوجة بمعدن أدنى، ومنها مرايا من الذهب، وقد اطلعنا على مرايا من الشَبَه والفضة استخرجت من أرض حمص. وهذه الصناعة مما تعلمه البنادقة على ما يظهر من الشاميين وانتقل إلى الغرب ثم تنوسي عمله عندنا. وكان يرتفع من فلسطين خلال القرون الوسطى المرايا وقدور القناديل في جملة ما يحمل منها من أنواع الصناعات. الصياغة: ومن أهم الصناعات القديمة التي لم تبرح على شيء من العناية الصياغة صياغة الذهب والفضة والتفنن في تصويرها ووضع الأحجار الكريمة عليها، وكانت تعمل هنا أكلة الجوهر وأقرطة الذهب المزينة بالدر والياقوت والشنوف والخواتيم والدمالج والقلائد والأطواق والخلاخيل على أشكال ورسوم جميلة. والغالب أن المصنوعات المزيفة من الصياغات الأجنبية نازعت هذه الصناعة وزاد كسادها اختلاف شروط الحياة في هذا العصر عما كانت عليه في الأعصر السالفة، وصارت رفاهية القرون الخالية مما يتعذر على ابن هذا الجيل إلا قليلاً. فصياغة الحلي كما لا يخفى من الصناعات اليدوية الدقيقة جداً، وهي تحتاج إلى ذكاء ومهارة لتغير أوضاعها وأشكالها بحسب ذوق كل عصر ورغبة أهله، وهي تقسم كما أكد العارفون إلى سبعة أقسام رئيسة. الأول ما يحلى به الرأس وأعظمها شأناً ورواء ما يسمى بالتاج، وهو عبارة عن دائرة من الذهب الرقيق، يختلف شكلها بحسب الزمان مرصعة بأحجار الماس المختلفة حجومها، وهي إجمالاً من أحسن ما صنع لتزيين رؤوس السيدات، ويوجد اليوم أسماء كثيرة وأنواع عديدة لما يزين به الرأس، منها ما يسمى بالمشط،

والبرش، والقمر، وكثير من أشكال الطيور والحشرات كل ذلك من أبدع الأشكال والصور مرصع بالجواهر الكريمة ومما تزدان به الصدور من الحلي أنواع متعددة أيضاً منها ما يدعى بحسب صوره وأشكاله مثل قلب، حبة، فراشة زنبقة، غزال، دبوس، كردان، ضفدع كل ذلك جميل في صنع ذهبه وترصيعه، وتناسب تركيب أحجاره يدل على رسوخ قدم في تلك الصناعة، وغالب ما تزين به النحور عقود اللآلئ ومما تحلى به الزنود أساور الذهب الدقيق الصنع ويرصع غالباً بفَصّ واحد كبير الحجم ورسمه على الأكثر حية أو أفعى، ومما تحلى به المعاصم ويسمى أساور ترسم على أشكال متعددة من الذهب، وترصع بأحجار ماس، ولها بحسب أشكالها أسماء متعددة منها حبة، برغي، ماس، سحب، عصافير وغير ذلك. وكلها بما فيها من دقة صنع تدل على سلامة ذوق صناعها. وحلي الأنامل وهو ما يسمى بالخواتم، وعامتها من الذهب ويركب عليها غالباً فص كبير الحجم من الماس أو الياقوت أو الزمرد أو الفيروزج أو فصوص صغيرة متناسبة الوضع، ولها أسماء متعددة منها مركيز، زيتونة، فريشة، ذو الثلاثة أحجار ومن أكثر أنواع الحلي الأقراط حلي الآذان وهو أشكال متعددة أيضاً منه ما يسمى قرط كف ماس قفل، طارة، خروسة، عصافير، تركي، بغدادي، حرية، وقرط الطويل، وهو عبارة عن قطعة واحدة من ماس كبير الحجم، معلقة بسلسلة من الذهب، بطول ثلاثة سانتيمات تقريباً لها خفقان على الجيد جميل. ويجيد فوقه القرط يلوح ... شبه نجم خافق خلف القمر وفي الشام ألوف من صناع الحلي وتجار الأحجار الكريمة، وليس من بلد في القطر إلا وفيه عدد من أرباب هذه الصناعة النفيسة. ومن غريب الأمر فيها أنك لا تجد شكلاً راج في بلد إلا تجده قد راج في الشام من أقصاها إلى أقصاها خلافاً للباسهم وبقية أزيائهم. ولا بد من الإشارة إلى سبب ترقي هذه الصناعة، ذلك أن الشام مدينة الفتح العربي بها، فن هذا القطر كما يعلم الباحثون ليس فيه مناجم ماس ولا ذهب

صناعة الصدف والرخام:

ولكن الفاتحين من العرب بعد فتحهم أغلب آسيا وإفريقية وعاصمتهم دمشق هادتهم الملوك، وأغلب هداياهم هي الجواهر الكريمة والذهب حتى امتلأت منها خزائنهم، وكان الخلفاء منهم يهدون منها القواد والأمراء والأطباء والشعراء والعلماء والفقهاء فكثرت في أيديهم وزادت بطبيعة الحال في أيدي الصاغة، وتنافسوا في إتقان تلك الصناعة حتى صارت كما ترى اليوم في أعلى درجات الارتقاء. ويمكن ن يعد في جملة الصياغة طبع الدراهم وضرب الدنانير من النقرة المذابة من الذهب والفضة، فإن الشام كانت من أول الأقطار التي طبعت فيها السكة الإسلامية، وكانت الدنانير تضرب في الجاهلية بأيلة على البحر الأحمر، وفي متاحف دمشق وأوربا نقود ضربت في دمشق وحمص وإيليا وإنطاكية وبعلبك وطبرية أيام عمر سنة 17 وعليها كلها رسم ملوك الروم ثم اسم المدينة بالعربية واليونانية. وكان لهم مهارة في معرفة البهرج والزيوف من النقود الصحيحة ويذهب بعضهم إلى أن الإكسير إذا أُضيف مثقال منه على ألف قنطار من الحديد يستحيل ذهباً خالصاً، ولم يثبت ذلك من طريق الكيمياء وما برح الأحمران الذهب والفضة معدنين خاصين، ويمكن أن يعد في جملة هذه الصناعة صناعة لصق المينا بالمعدن ومنها نموذج في دار الآثار بدمشق. وفي التاريخ العام أن معامل الشام كانت تصنع الخرز والآنية الذهبية ذات الميناء، أما صناعة الجواهر والصياغة فإن ما بقي منها يدل دلالة كافية على رقي العرب في صنعها. وكانت العرب تحسن قطع الأحجار الدقيقة ونقشها بالرسوم وزبرها بالصور. صناعة الصدف والرخام: واشتهرت بيت لحم والقدس بصناعة الصدف يعملون منه الصناديق الصغيرة لوضع أدوات الزينة، والمسابح والصلبان والدبابيس والدويّ والمقاطع ورسوماً وطيوراً وحيوانات الفيل والأرنب، وما يصنع من خشب الزيتون أشكالاً دليل على رسوخ الصناعة، وتباع في الغرب كميات كثيرة منها، لما فيها من دقة الصنعة وجمال الأسلوب والتفنن في الوضع والشكل، ويتنافس الغربيون في

السجاد والحصير:

اقتناء هذه المصنوعات ويحببها إليهم كونها من الأرض المقدسة. وتفرد أهل بيت لحم منذ قرون بصنع أدوات التقوى كالسبح والصلبان وبعض مشاهد التوراة، يصنعونها من عرق اللؤلؤ كما يعملون المرجان وحجر الخنزير أو الحجر المنتن، وهو مؤلف من الطباشير والحمر المستخرج من بحيرة لوط. وكانت عكا في الدهر السالف تعمل صنوفاً من حاجيات الكنائس. ولبعض صناع الرخام صنائع دقيقة في دمشق فمنهم من يعمل أحواض الماء من قطع صغيرة، فيها أنواع الرخام الملون، وقد عمل أحدهم خزانة للكتب من أنواع الرخام الملون لا تتجاوز القطعة الواحدة السنتمتر الواحد فكانت طرفة من الطرائف التي آثروا بها القصر السلطاني في فروق. وهذه الصناعات من الكماليات قلما يرغب فيها حتى الأغنياء أرباب القصور، ولذلك رغب عن صنعها أربابها فكادت تدثر. ولبعض الصناع مهارة في تقليد العاديات القديمة وغيرها من الأعلاق، لا تكاد تختلف عما صنع من نوعها منذ قرون، يقتنيها بعض السياح على أنها من القديم. وتقليد العاديات مما عمت به البلوى في الغرب اليوم وهي مورد من موارد ربح الفقراء من الأغنياء وهي تحتاج إلى معرفة زائدة ومهارة غريبة. السجاد والحصير: ومن أهم الصناعات صناعة نسج البسط، يقلدون فيه السجاد العجمي والتركي. وهو أحط من العجمي لأن هذا السجاد الشيرازي والأصفهاني يصعب أن يدانيه سجاد في العالم لا يكاد يفنى حتى بعد استعماله قروناً، كالأعبئة الشامية تلبس عشرين سنة وهي برونقها ومتانتها. وبحق ما يقولون إن السجادات والأعبثة أُجلاء دائمون بلا أُجرة. واشتهرت البسط الشوبكية وبسط أعناك في البلقاء وحوران وسجاد دمشق، ومنها المصور بأشخاص ورسوم. وفي دمشق وحوران وجبل قلمون ولا سيما في جيرود وفي حمص وحلب ألوف من الأنوال، تحيك البسط من الصوف الخالص وكانت تصبغ بالأصباغ النباتية الثابتة من استحضار القطر، فتحتفظ بألوانها بعد عشرات من السنين

الصناعات المحدثة:

وتصبغ الآن بأصباغ أوربية قليلة الثبات وهي على غاية من دقة الصنعة وتناسب النقوش ومتانة الحياكة بحيث تضاهي أحسن ما يعمل من نوعها في الأقطار الأخرى. ويأتي بعدها صناعة السجاد والطنافس، وتعمل في قرى حمص وحماة وهي المسماة بالحزوري والعدموني، نسبة لقريتي حزور وعدمون، وهي على غاية الجودة والمتانة تعمل من الصوف الخالص، ومما يعاب عليها أنها لم تزل تعمل من لون واحد وهو الأحمر القاني، ونقوشه متشابهة لا تفنن فيها. ودخلت صناعة الطنافس على طريقة أحدث من الطريقة القديمة في حلب وبيروت ودمشق وذلك بدخول جاليات من آسيا الصغرى في السنين العشر الأخيرة، يحسنون صنعه جدّ الإحسان، لكن النفوس لا تزال ترغب في سجاد فارس، فإنه لا يعادله بمتانته وثبات ألوانه وتصويره ورقشه. وفي بعض قرى قلمون يصنعون من الوبر بسطاً غليظة متينة تستعمل في الضياع والبوادي، وتوضع على الأدراج في المدن. ويعملون الجُوالق الشوالات والعدول على شيء من الجودة والمتانة وكذلك البلاس والمسوح. وكان نسج الحصير والباري من أفضل الصناعات تقوم بالحاجة. واشتهر أنه كان إلى جانب طبرية غابة حلفاء ورفقهم منها، أكثرهم ينسجون الحصر ويفتلون الحبال وقد رأى ناصر خسرو في القرن الخامس حصراً من هذه الحصر الطبرانية تستعمل للصلاة وتساوي الواحدة منها خمسة دنانير مغربية. وقد ضعفت هذه الصناعة بانهيال البسط الإفرنجية والحصر اليابانية الرخيصة، ولكن القرى وكثيراً من المدن ما زالت تعتمد على المصنوع منها في أرض الوطن والحصر البيروتية مشهورة بحسن نسجها ولطافة ألوانها ومتانتها التي تفوق البسط الإفرنجية كثيراً. الصناعات المحدثة: ومن أهم الصناعات المحدثة صناعة القرميد وهو صنو الآجر القديم تقرمد به السطوح، وفي لبنان واللاذقية ويافا معامل منه وفي سنة 1918 أسس رجل فرنسي في اللاذقية معملاً لعمل القرميد، والقرميد الآجرة العظيمة. ويعمل في هذا المعمل الفخار الصيني وبلاط الملاط لجودة التراب الخزفي في تلك الأرجاء

وفي القدس معمل للقيشاني أو البلاط الملون. ومن الصناعات الجديدة صنعة لفائف التبغ تصنع منها كميات مهمة في حمانا وبكفيا وزحلة وبعض قرى بيروت الساحلية وتعمل منها كميات عظيمة في فلسطين ودمشق وحلب. وقد استفادت فلسطين في الأيام الأخيرة من الإكثار من زرع الدخان استفادة عظيمة وأخذت تصنع من اللفائف ما يقوم بحاجتها وتبيع منه إلى الخارج. ومنها صناعة الطباعة وصنع الصور والحفر على النحاس والزنك وفي بيروت أحسن مصانعها ودمشق تقلدها. ومن الصناعات المحدثة صنع الجليد وأهم معامله في بيروت وحلب وطرابلس وصيدا واللاذقية ودمشق وحيفا ويافا والقدس وهو يقوم مقام الثلج الطبيعي في التبريد. وكان الثلج السماوي يدخر إلى آخر أشهر الصيف بحاله وكان هذا ينقل في القرون الوسطى على البغال من صيدا وطرابلس إلى قلعة الجبل بالقاهرة في ثلاثة أيام لتبريد المياه في قصر الملك وعظماء الدولة هناك. وفي حيفا معمل للإسمنت المسلح يستخرج من حجر الجبل المتاخم لها ومعمل للبنزين والسبيرتو. وقد أنشئ معملان للإسمنت أحدهما في شقة قرب طرابلس والآخر في دمر قرب دمشق ونجحا نجاحاً باهراً. وفي كل من عكا ويافا معمل للثقاب الكبريت ومثله في دمشق. وأهم ما دخل مجدداً من الصناعات صناعة الجوخ في دمشق أنشئ لصنعه معملان أحدهما شرقي المدينة والآخر غربيها، وأنشئ فيها معمل لحفظ الفواكه والثمار والبقول نجح نجاحاً كبيراً، وأُسس في حلب معمل عظيم للنسيج أتى بأعظم الأرباح وسد حاجة البلاد في الحرب الأخيرة. هذه أهم الصنائع الشامية وغالب الصناعات تتبدل عليها أيدي الصناع من الواحد بعد الواحد إلى أن ينيف على عشرة صناع حتى يتم وقد أفاض صاحب قاموس الصناعات الشامية بتعداد هذه الصنائع والحرف في دمشق خاصة على اختلاف اسمائها وضروبها فبلغت نحو 340 حرفة وصناعة. ولابن الصائغ الدمشقي منظومة في ثلاثة آلاف بيت في الصنائع قال ابن جماعة: واعلم أن هذه الصنائع استخرجها الحكماء بحكمتهم ثم تعلم الناس منهم بعضها وصارت وراثة من الحكماء للعلماء، ومن العلماء للمتعلمين، ومن الأستاذين للتلامذة، ومن التلامذة للصناع. وكان ولا يزال لكل حرفة زعيم أو نقيب أو شيخ أو

تأثير الصناعات في الماديات والأخلاق:

عريف، ويسمى شيخ الحرف كلها بسلطان الحرافيش ثم كني عنه احتشاماً بشيخ مشايخ الحرف والصنائع. وكان لأرباب الصنائع ترتيبات أشبه بالنقابات الصناعية في الغرب ولذلك دام رواجها طويلاً. في العهد الأخير نقبت الصناعات النقابات على مثال النقابات الصناعية في الغرب وأصبحت أصوات العمال تسمع ويزيد صداها رنة كلما كثر الصناع. تأثير الصناعات في الماديات والأخلاق: قلت من خطاب في الصناعات يوم الاحتفال بافتتاح الدباغة الوطنية الفنية 5 كانون الأول 1924م - 1343هـ لقد فقدت معظم الصناعات ويا للأسف وآخر ما سيفقد منها صناعة النسيج الضرورية النافعة، فقد كانت صادراته من حلب وحماة وحمص وطرابلس ودمشق تسد جانباً عظيماً مم الموازنة بما تأتي به من الأموال كل سنة، فأصبحت الآن إلى انحطاط ونازعتها الأقمشة الإفرنجية البراقة الدقيقة. قيل: إنه كان في دمشق وحدها ثلاثون ألف نول للنسج قبل الحرب فأصبح عددها اليوم نحو ثلاثة الآف، ولا تلبث إذا دامت الحال على هذا المنوال أن تضمحل كما اضمحل غيرها من الصناعات، ويفتقر أربابها ويهاجرون أو يهلكون. وفي كل ذلك خسارة وفجيعة، وأي فجيعة أعظم من الفجيعة بالمال أو الرجال أو بهما معاً. ومما يجنيه القطر من اجتماع الناس على مثل هذه الأعمال الصناعية تربية الروح القومي فيهم وإصلاح ما أمكن من شؤونهم الاجتماعية. وإليكم مثالاً جرى في هذا المعمل يتخذ منه العاقل عبرة. ذكر لي مدير مدبغتنا هذه منذ مدة أن مستشار الأمور الاقتصادية في المفوضية العليا زار المعمل وسر بنجاحه كل السرور ونشطه بالقول والفعل، إلا أنه بدت منه حركة استغربها، وذلك أنه سأل كثيراً من العملة عن مذهبهم، وبالطبع فيهم من أهل الأديان السماوية الثلاثة ومن غير الشاميين أيضاً. فاستغربت مع صاحبي هذا السؤال منه ولم أهتد لتعليله. ولم يلبث المستشار أن زارني من الغد وذكر لي في جملة حديثه سروره بالمدبغة الجديدة، وقال: إنكم معاشر الدمشقيين قد حللتم مسألة من أعضل المسائل في بلدكم لم نتمكن نحن في بيروت من حلها. وذلك أننا أردنا

مرة أن نقوم بمشروع صناعي فيها فجاءنا أهل كل مذهب يريدون أن يستأثروا بأكثر المنافع لأبناء طائفتهم. ونحن كنا بالطبع نريد أن ينتفع به من يعمل ويعرف. وهكذا ضاع الوقت في المجادلة على غير طائل ولم نتقدم شبراً واحداً في الموضوع الأصلي، وسقط المشروع وهو جنين لأن الناس هناك يريدون أن يقوم بذلك الروح. ولقد سررت أن رأيت في معملكم المسلم والمسيحي والإسرائيلي على اختلاف مذاهبهم. وكل فرد يعيش مع أخيه متسانداً متعاطفاً قلت له: ولذلك ستغرَب بعض عملة المدبغة سؤالكم ول أمس عن دين من رأيتموه فيه. فقال: ليس في العالم عمل اقتصادي قام على أساس الدين، ولبنان الكبير غريب في حالته هذه فقلت له: هذه قاعدة قديمة سارت عليها دمشق منذ الفتح الإسلامي فكل من يحسن عملاً يوسد إليه مهما كانت نحلته. فسرّ لقولي وسررت لتوفيقنا. بقيت هناك مسألة لا بد من الإشارة إليها وأعني بها تأثير الصناعات في الأخلاق. فقد ثبت أن الأقطار التي تكثر فيها الأعمال الصناعية والزراعية أحسن أخلاقاً من غيرها، ويقل فيها المتشردون والثرثارون، لأن من طبع العاملين الأخذ بالنافع وترك الفضول على الجملة. ولذلك يضعف الشغب في أرباب الصنائع، وتقل الموبقات المهلكات، لأنها لا تبقي للعامل إلا الوقت الكافي لراحته ونومه، وهو على ثقة من أنه إذا لم يحصر ذهنه في عمله يخرجه صاحب المعمل أو الحقل من خدمته. فالحكومة التي تحب أن يقل الشغب بين من وسد إليها أمرهم يجب عليها أن تفكر ليلها ونهارها في إيجاد أعمال رابحة لهم، وبذلك يقل المتشائمون والمشاغبون والمرجفون والناقمون. وليس أحسن ولا أنجح من هذه السياسة. لا جرم أن اشتراك أهل البلد الواحد بل القطر الواحد والمملكة الواحدة في عمل اقتصادي مما يرفع مستوى القومية أيضاً ويلقن الناس معاني التكافل الوطني. فقد رأينا في الدهر السالف سكان الجنوب وسكان الشمال من فرنسا يقتتلون ويتحاربون ولم تنقطع شأفة الفتن من بينهم إلا عندما اشترك الجنوبي مع الشمالي في الأعمال الاقتصادية، فأصبحت مصلحتهما واحدة وارتفع النزاع من بينهما وأحسا أنهما أبناء أمة واحدة. لذلك نرى إلى اليوم من بقايا تلك الأخلاق

أن ابن الشمال يهزأ بابن الجنوب على حين كلهم سواء في مناحيهم ومنازعهم، بل أن أهل شمالي فرنسا لا يعنون بغير صناعاتهم وتجاراتهم على الأكثر ويقلّ فيهم السياسيون والشعراء الأدباء وهم كثار جداً في أهل الجنوب كثرة فاضت عن الحاجة. فيا حبذا اليوم الذي يشترك فيه قاصينا ودانينا، فقيرنا وغنينا، في إقامة الشركات على أنواعها، إحياء لصناعاتنا واستبقاء للبقية التي صبرت على الأيام من ثروتنا. فالزراعة عشر الثروة العامة في العادة، والباقي من أسباب السعادة والنماء ثمرة الأعمال الصناعية. وما السكك الحديدية والبواخر والسيارات والقصور والمصانع الفخمة وكل ما في المدينة من ضروب الراحة والرفاهية مما يلذ وينفع، إلا نتيجة عمل العملة في المعامل، وكل ما نشاهده وندهش به من أنواع الصناعات في أميركا وأوربا وفي اليابان والصين والهند هو ثمرة التعاون والعلم العملي. ولذلك ساغ لنا أن نقول: إن كل ما يدفعنا ولو خطوة واحدة إلى الأمام لنقترب بسفينتنا الفقيرة من ساحل السلامة يستحق ثناء الأمة جمعاء ولا رجاء لنا في الحصول على الحاجيات ثم التطلع إلى الكماليات، إلا بتأليف شركات صغيرة بادئ بدء تقوم برؤوس أموال وطنية، وتستعمل من الأدوات الجديدة ما لا غنية عنه، تنمو بنمونا في مظاهر الحياة والانبعاث. فنحن لا نقل عن الغربي ذكاء ونشاطاً وإنما ينقصنا التنظيم والتدريب. وفي أرجائنا أكثر المواد الأولية اللازمة في الصناعات لا تحتاج إلا إلى معرفة قليلة للانتفاع بها والله الموفق والملهم.

التجارة الشامية

التجارة الشامية موقع الشام من التجارة وتجارة القدماء: كان من وقوع الشام في طرف آسيا وإفريقية، وقربها من الساحل المقابل لبحرها من أوربا، أعظم مركز تجاري في القديم، ومن أهم ما حمل أبناءها على الرحيل بتجاراتهم، منذ عرف التاريخ امتداد سواحلهم. وكثرة الأخشاب التي تجود ف غاباتهم، تساعدهم على صنع السفن المتينة الكثيرة، ثم ن مرونة أخلاقهم تدعوهم إلى الاختلاط بغيرهم، وتقليده وتعلم لغته ومماثلته في عاداته وبهذا كانت شهرة الفينيقيين الذين استولوا على جزء مهم من تجارة شمالي إفريقية وجنوبي أوربا، وبلغوا جزائر وبريطانيا، وأقاموا لهم مكاتب تجارية في كثير من سواحل هذا البحر المتوسط وبحر الظلمات، وما زال الفينيقيون أعظم أُمة تجارية بحرية في الدهر السالف، ينقلون إلى الغرب حاصلات الشرق وإلى الشرق بعض ما كان يعمل في الغرب، إلى أن قامت دولتا الرومان واليونان. عاش الفينيقيون بالتجارة لازدحام أقدامهم في بقعة ضيقة من الأرض. ولم يكن لسائر شعوب الشرق من مصريين وكلدانيين وآشوريين، ولا قبائل الغرب البربرية الأسبان والغاليون والطليان، عهد بركوب البحار وشق العباب. والفينيقيون وحدهم جرءوا في تلك الأيام على تجشم البحر ومعاركة العباب. فصح أن يُدعوا من أجل هذا عملاء تجارة العالم القديم وقادة البيع والشراء، يبتاعون من كل شعب سلعه ويقايضونه على غلات البلاد الأخرى. تجارة كانت مستحكمة الصلات مع الشرق براً والغرب بحراً. واعتاد الفينيقيون أن يرسلوا في البر قوافل تتجه وجهات ثلاثاً. إحداها

إلى أرض العرب لتأتي منها بالذهب والعقيق اليماني والبخور والصبر والعطور العربية واللؤلؤ والأبازير والعاج والآبنوس وريش النعام وقرود الهند. والثانية ترحل إلى بلاد أشور لتعود منها بأنسجة القطن والكتان والحمر والأحجار الكريمة والماء العطر وحرير الصين. وتقصد القافلة الثالثة إلى أنحاء البحر الأسود لتستجلب منها الخيل والرقيق والأواني النحاسية من مصنوعات سكان جبال القوقاز. وكانوا يبتاعون محاصيل صناعات الشعوب المتمدنة، ويبحثون في الأصقاع المتوحشة عما يقل الظفر به في المشرق من المحاصيل. يصطادون الصدف من شاطئ اليونان، ومنه يستخرجون صباغاً أحمر وهو الأرجوان. وكانت الأنسجة تستعمل عند الأقدمين كافةً ملابس للملوك والأمراء، ويجلبون الفضة التي يستخرجها أهل إسبانيا وسردانية من مناجمهم. وكان القصدير من ضرورياتهم يستعملونه في صنع النحاس الأصفر، وهو مركب من نحاس وقصدير ولا أثر له في أرض الشرق، يرحل الفينيقيون في طلبه، وينشدونه حتى في شواطئ إنكلترا في جزائر القصدير وحيثما حلوا يتخذون الرقيق يبتاعونه تارة كما كان يبتاع النَّخاس العبيد في ساحل إفريقية. وينزلون طوراً في إحدى السواحل فجأةً فيختطفون النساء والأطفال وينقلبون بهم إلى أهلهم ويبيعونهم في القاصية. وإذا واتتهم الحال ينقلبون قرصاناً، ولا يتحامون طالة أيدي التعدي على غيرهم. وقد أنشأ الفينيقيون مكاتب تجارية في الأرجاء التي اتجروا فيها، وهي مراكز للبرد حصينة، واقعة على مرفأ طبيعي يخرجون إليها بضائعهم من البحر وهي في العادة أنسجة وفخار وحلي وأصنام، فيأتي أهل تلك الأقطار بغلاتهم يقايضونهم عليها كما يقايض اليوم تجار الأوربيين زنوج إفريقية. وتقام أمثال هذه الأسواق في قبرس ومصر وجميع بلدان البحر الرومي مثل إقريطش ويونان وصقلية وإفريقية ومالطة وسردلنية ومالقة وقادس وربما أقاموها في موناكو من بلاد الغول قاله المؤرخ سنيوبوس. وكانت الشام في الزمن القديم كثيرة السكان زاهرة على ما يظهر، وهي مدينة بوفرة سكانها واستبحار عمرانها، لمركزها الطبيعي وتجارتها العجيبة ورباعها الخصيبة. وكان في وسع مصر أن تنازع الشام مكانتها التجارية، بيد

أن الحسد المتأصل في الطبقات الدينية والسياسية كان يمزقها ويحول بين المصريين القدماء وبين كل صلة بالشام. فكانت الشام إذاً المستودع الوحيد للعالم المعروف تأتي حاصلات آسيا وإفريقية مع القوافل إلى موانئ الشام حيث تحمل على سفن فينيقية، وأتت أزمان على الشام كانت تخرب بأيدي الفاتحين، وتخرب أيضاً بالحروب المتواصلة بين الممالك الصغرى التي كانت تنازع هذا القطر. فأضاع بها مكانته، خصوصاً منذ تخلصت مصر من نفوذ كهنتها، وغدت منافسة لها بأن جعلت من مركزها الواقع على بحرين مستودعاً سهل التجارة بين أنحاء العالم. وكان السبب في كثير من الحروب التي نشبت بين الشاميين والآشوريين والبابليين والمصريين ثم مع ممالك الروم في الغرب، مسائل التجارة على الأغلب وإرادة الشاميين أن يفتحوا صدر أرضهم لتنفذ إليها تجارات جيرانهم أو غيرهم من الشعوب. ومن أهم المدن التي استأثرت بالتجارة في القديم البتراء ثم تدمر ثم حلب ودمشق. وكانت مدن فينيقية لولعها بالتجارة تترك الزراعة حتى بلغت الحال بأهل صور أن أغفلوا تعهد الأرض وكانوا يشترون مؤونتهم من الجليل والسامرة واليهودية، ولما حاصر الإسكندر صور اضطر أن يستجلب أزودة جيشه من هذه الحال. وذكر ديودروس أن ثروة الأنباط أصحاب البتراء كانت من الاتجار بالطيوب والمر وغيرهما من العطريات، يحملونها من اليمن وغيرها إلى مصر وشواطئ البحر المتوسط، ولم تكن تجارة تمر في أيامهم بين الشرق والغرب إلا على أيديهم، وكانوا يحملون إلى مصر خاصة القار لأجل التحنيط. ولما استولى الرومان على القطر انتقلت التجارة إلى تدمر وفارس. ووفق الفرس إلى تحويل التجارة عن مصارفها القديمة إلى أصقاع الفرات والخليج الفارسي. وأخذ الرومان يعنون بإنشاء الطرق المعبدة في الشام، والوصل بين الشام وأقطار الأخرى كالجزيرة والعراق والحجاز ومصر وآسيا الصغرى، ولا تزال إلى اليوم بعض هذه الطرق ماثلة للعيان في صرخد والشراة والكرك وأيلة وجرش، وهذه كانت طرق البتراء إلى داخل الشام، وكانت أنطاكية ترسل إلى رومية الأصواف والأنسجة والحنطة، والشرق يبعث إليها بأدوات الزينة والرفاهية

كالعطور والأبازير الفلفل وجوز الطيب والزنجبيل والنيلة والعاج والأحجار الكريمة وثياب الصوف والحرير والعبيد السود والحيوانات النادرة ولا سيما القرود فكانت تجلب إلى الإسكندرية من طريق البحر الأحمر أو في النيل وتأتي إلى إنطاكية من طريق الخليج الفارسي وبادية الشام مع القوافل. يقول بيرين المؤرخ البلجيكي في كتابه محمد وشارلمان: لقد عظم نفوذ الشاميين من وراء الغاية في رومية جاءوها بكثرة وكان عدة من الباباوات من الشاميين كما كان بعض أباطرة رومية من أصل شامي وإلى الشام تصل قوافل الهند والصين وبلاد العرب وكان الشاميون يومئذ رجال البحر على نحو ما صار الهولنديون في القرن السابع عشر وبواسطتهم تصدر الأبازير وأعمال الصناعة من المدن الكبرى في الشرق كإنطاكية ودمشق والإسكندرية الخ وكنت تراهم في كل الفرض البحرية كما كنت تجد منهم جاليات في داخل البلاد. وكان لهم على عهد ملوك الرومان منازل في إسكندرية ورومية وإسبانيا وغاليا وبريطانيا العظمى حتى مدينة كارنونتوم على نهر الدانوب. ثبت ذلك بنصوص العاديات التي عثر عليها. وفي القرن السادس كثر المشارقة في جنوبي غاليا وكان منهم من يستوطنها ولا سيما في الجنوب من أرجائها وكان سكان أربونة في سنة 589 من القرط والرومان واليهود واليونان والشاميين. وكثر سواد الشاميين في نابل وفي جوار باريز. قال: وكانت الميناء التي نعرفها أكثر من غيرها مرسيلية ويظهر أنها كانت فرصة كبرى منوعة السكان ويبين عن مكانتها تنافس الملوك في الاستيلاء عليها عند تقسيم الإمبراطورية الرومانية وقد كثر فيها اليهود والشاميون والروم والقوط. فالتدمريون ومن قبلهم النبطيون عُنوا بالتجارة جد العناية، لأنها مورد معاشهم وعلة حياتهم، لضعف الزراعة في كُوَرهم، فكانت القوافل على عهد ارتقاء تدمر تحمل إليها من جزائر العرب الذهب والجَزْع واليشب واللبان والصمغ والصبر وعود الند، ومن العراع اللؤلؤ، ومن الهند أنواع المنسوجات والقرنفل والبهار والحرير الصيني والنيل والضجاج والفولاذ والعاج والآبنوس. كل هذا يأتيهم من طريق القوافل في البوادي والقفار فيحملونه إلى رومية عاصمة الرومان. أما الأرفاق التي تأتيهم من البحر فكانت دون ذلك قاله رنزفال.

وقد اكتشف أمير روسي في سنة 1882 كتابة رسمية كتبت بالتدمرية واليونانية يرتقي عهدها إلى سنة 137 للمسيح فهمت منها أحوال التجارة القديمة ومضمونها تعريف جمركي مطول أصدره مجلس شيوخ تدمر حسماً لفتن وقعت بين التجار وعمال الخزانة، وفيها بيان ما يضرب من المكوس على البضائع والمعاملات التجارية إجمالاً وإفراداً وهي باهظة فكان كل حمل جمل أو حمار يرد أو يصدر تُضرب عليه أولاً ثلاثة دنانير رومانية وكان الدينار الروماني يساوي نحواً من 72 سنتيماً ثم فريضة أُخرى تختلف باختلاف جنس البضائع. والبضائع التي ورد ذكرها في هذه الجريدة كثيرة فمنها الرقيق والجِزَر والأرجوانية والزيوت العطرية المجعولة في قماقم من الرخام الأبيض أو في ظروف من جلد المعز، ثم زيت الزيتون والشحم والملوحات المتنوعة والجلود والثياب والأنسجة والغلال المختلفة والأفاويه والأثمار اليابسة كحب الصنوبر والجوز واللوز والعقاقير والملح إلى غير ذلك. وينقسم كل حمل إلى ثلاثة أقسام حمل الحمار وحمل الجمل وحمل العجلة، وكان ثقل الأول نحو مائة كيلو والثاني أثقل منه بثلاثة أضعاف والثالث يبلغ نحو ألف كيلو. قال دي فوكيه: وكانت القوافل التي تحمل إلى تدمر خيرات المشرق تستخدم من الدواب الإبل والحمير وإذا وصل التجار إلى حاضرة زينب تدمر أنزلوا عن ظهر الدواب الجوالق والأثقال المختلفة وحملوها على العجلات ليوصلوها إلى جميع أنحاء المملكة على السكك والشوارع الرومانية، فإذا بحثت عن أسباب تقدم تدمر وبلوغها ذروة العمران وجدت لذلك سببين: الأول مرور البضائع بها وإقامتها فيها مدة ودفع المكوس إلى خزانة المدينة، والثاني شهرة أهالي تدمر دون سواهم بقيادة القوافل في المفاوز والصحاري، فلذلك صارت هذه الحاضرة في القرن الثاني للمسيح أشبه بمرفأ عظيم على بحر البراري ترسو عند ساحلها تجارة الأمم فتغني خزائنها كما جرى في القرون الوسطى لمدينة البندقية سلطانة بحر الروم. وقد اكتشف علماء العاديات عمودين نصبا للدلالة على مسافة الطريق ميلاً ميلا عليها اسم زينب واسم ابنها وهبلات. وأول هذين العمودين قريب الجبيل والجسر الواقع على وادي العذار والثاني برج الريحان شمالي الجبيل. وكانت الشام أهم محال الحرير ولا سيما صور وبيروت، والشام من

أهم ولايات الإمبراطورية الرومانية. وذكر بروكوب عند كلامه عن إنطاكية أنها أول مدينة رومانية مهمة في الشرق لغناها واتساعها ووفرة نفوسها وجمالها وعادياتها. وتعجب أنطونين الشهيد من الترف الذي كان على أتمه في إنطاكية ومن عظمة أفامية وبيروت وغزة. وقد اضمحل ذلك على عهد يوستنيانوس لأنه أراد أن يضع سعراً وسطاً للحرير فهلك تجاره وصانعوه وخربت معامله. ويرد تاريخ زراعة الحرير إلى القرن الأول للحكم اليوناني على الشام ولا سيما في ضواحي بيروت. قال هيد بعد أن ذكر ذلك: وقد حدا حب الربح تجاراً مسيحيين على أن يبيعوا أبناء دينهم بيع الرقيق لغرب إسبانيا وإفريقية والشام، فاتخذ شارلمان والبابا زكريا وأدريانوس الأول الأسباب لمنع ذلك. وقد وجدت في غاليا وغيرها من المدن التجارية في الغرب كتابات فيها أسماء الشاميين الذين كانوا يسكنونها للتجارة منذ الزمن الأطول، ومنها ما وجد في جناي على مقربة من مدينة تريفو ذكر فيها شامي اسمه تَيْم من قرية عتيل من أهل مدينة قنوات في جبل حوران كان يتجر مع غاليا بما يحمله إليه مواطنوه إلى أرل على سفنهم ومنها إلى ليون فما فوقها من مدن فرنسا. ولم يكن تجار الغرب يهتمون بالسفر إلى الساحل الشامي لأخذ البضائع اللازمة لهم، بل يحمل الشاميون أنفسهم بنشاطهم المعهود تلك البضائع، مع أن حاصلات آسيا كانت مما يلفت نظر الغربيين. واشتهر خمر غزة في فرنسا على عهد الملك كونتران في القرن السادس للميلاد، وحرير الشرق وأحجاره الكريمة تتألف منها زينة العظماء والسادات. قال هيد: إن الشاميين كانوا يرحلون إلى فرنسا على عهد حكومة الميروفنجيين ونزلوا في جنوبي فرنسا مثل ناربون وبوردو بل في أواسطها مثل أورليان وتور وكانت تحمل إلى فرنسا أكياس الأدم من فلسطين. والظاهر أن الشام كان يفوق غيره بأعماله الصناعية والتجارية، وصلات الشاميين محكوة مع الشرق والغرب، وكانت بلادهم على عهد الروم محط رحال قوافل الخليج العربي والخليج الفارسي وأواسط آسيا وهي أهم ولاية تجارية للروم. وفي الحق أن صلاتنا بالغرب زادت لما توطدت أقدام النصرانية، في أوربا، وأصبح زوار بيت المقدس يأتون إلى فلسطين أفواجاً أفواجا ويحملون معهم شيئاً من تجارتهم ويأخذون ما عندنا مما يروج في أسواقهم.

تجارة العرب:

تجارة العرب: العرب أهل تجارة لضعف زراعتهم، وكانوا يوغلون في الشرق والغرب لغرض الربح، وقد كان لهم أسواق يقيمونها في شهور السنة وينتقلون من بعضها إلى بعض ويحضرها عامة قبائل العرب ممن قرب منهم أو بعد، فكانوا ينزلون دومة الجندل على سيف بادية الشام أول يوم من ربيع الأول فيقيمون أسواقها بالبيع والشراء والأخذ والعطاء، وكان يعشرهم فيها أُكيدر دومة - وهو ملكها - وربما غلب على السوق كلها فيعشرهم بعض رؤساء كلب، فيقوم سوقهم هناك إلى آخر الشهر ثم ينقلون إلى سوق هجر قاله القلقشندي. وما زال يقام في الشام إلى اليوم في أماكن مختلفة أسواق لبيع المصنوعات والحاصلات أشبه بمعارض هذه الأيام في الغرب. وكانت تقام في دمشق في كانون الأول سوق تعرف بسوق قضيب البان، رواه البيروني، وروى القالي أن قريشاً كانت تجاراً، وكانت تجارتهم لا تعدو مكة، أي تقدم عليهم الأعاجم بالسلع فيشترونها منهم، ثم يتبايعونها بينهم ويبيعونها على من حولهم من العرب، فكانوا كذلك حتى ركب هاشم بن عبد مناف إلى الشام فنزل بقيصر وتمكن عنده وقال له: إن قومي تجار العرب فإن رأيت أن تكتب لي كتاباً تؤمّن تجارتهم، فيقدَموا عليك بما يُستطرف من أدم الحجاز وثيابه، فتباع عندكم فهو أرخص عليكم، فكتب له كتاب أمان لمن يقدم منهم، فأقبل هاشم بذلك الكتاب. فجعل كلما مرّ بحّيٍ من العرب بطريق الشام أخذ من أشرافهم إيلافاً. والإيلاف أن يأمنوا عندهم في أرضهم من غير حِلف، إنما هو أمان الطريق، وعلى أن قريشاً تحمل إليهم بضائع فيكفونهم حُملانها ويؤدون إليهم رؤوس أموالهم وربحهم، فأصلح هاشم ذلك الإيلاف بينهم وبين أهل الشام، حتى قدم مكة فأتاهم بأعظم شيء أُتوا به بركةً، فخرجوا بتجارة عظيمة، وخرج هاشم معهم يجوّزهم، يوفيهم إيلافهم الذي أخذه لهم من العرب حتى أوردهم الشام وأحلهم قراها، فاتسعت قريش في التجارة في الجاهلية. وهاشم هذا هو جد الرسول مات بغزة فنسبت إليه فقيل لها غزة هاشم لأن الروم كانوا يقيمون لهم سوقاً في غزة في موسم معلوم وكانت قريش في الجاهلية تحضره وتمتار منه.

وكانت لهاشمبن عبد مناف رحلتان رحلة في الشتاء نحو العباهلة من ملوك اليمن ونحو اليكسوم من ملوك الحبشة، ورحلة في الصيف نحو الشام وبلاد الروم. قال الثعالبي: وكان يأخذ الإيلاف من رؤساء القبائل وسادات العشائر لخصلتين، إحداهما أن ذؤبان العرب، وصعاليك الأعراب، وأصحاب الغارات، وطلاب الطوائل، كانوا لا يؤمنون على أهل الحرم ولا غيرهم، والخصلة الأخرى أن أُناساً من العرب كانوا لا يرون للحرم حرمة، ولا للشهر الحرام قدراً، كبني طيء وخثعم وقضاعة. وسائر العرب يحجون البيت ويدينون بالحرمة له. ومعنى الإيلاف إنما هو شيء كان يجعله هاشم لرؤساء القبائل من الربح، ويحمل لهم متاعاً مع متاعه، ويسوق إليهم إبلاً مع إبله، ليكفيهم مؤونة الأسفار، ويكفي قريشاً مؤونة الأعداء. فكان ذلك صلاحاً للفريقين، إذ كان المقيم رابحاً والمسافر محفوظاً. وفي غزة استغنى عمر بن الخطاب في الجاهلية لأنها كانت متجراً لأهل الحجاز. وخصبت قريش وتاها خير الشام واليمن والحبشة، وحسنت حالها وطاب عيشها، ولما مات هاشم قام بذلك عبد المطلب، فلما مات عبد المطلب قام بذلك عبد شمس، فلما مات عبد شمس قام به نوفل وكان أصغرهم. وذكر اللغويون من جملة التخريجات في اسم قريش التي كانت سادة العرب جاهلية وإسلاماً، أنها سميت بذلك لتجرها وتكسبها وضربها في البلاد تبتغي الرزق، وقيل: لأنهم كانوا أهل تجارة ولم يكونوا أصحاب زرع وضرع من قولهم فلان يتقرش المال أي يجمعه. وكان ساداتهم على حبهم للتجارة إذا تولوا أمراً من أمور الأمة تخلوا عنها. ففي التذكرة الحمدونية أنه كان لعمر بن عبد العزيز سفينة يحمل فيها الطعام من مصر إلى المدينة فيبيعه وهو واليها، فحدثه محمد بن كعب القرظي عن النبي صلى الله عليه وسلم أيما عامل أتجر في رعيته هلكت رعيته فأمر بما في السفينة فتصدق به، وفكها وتصدق بخشبها على المساكين. وكان الأنباط يحملون من الشام إلى الحجاز الزيت والدّرمك دقيق الحوّارى ويعودون إلى هذا القطر بحاصلات الحجاز. وفي السنة الثانية للهجرة أقبل أبو سفيان بن حرب والد يزيد ومعاوية من الشام في قريب من

سبعين راكباً من قبائل قريش كلهم كانوا تجاراً بالشام. وكانت تجارة أبي سفيان بيع الزبيب والأدم كما كان الصديق وعثمان وطلحة بزازين. وخافت قريش لما اسلموا من انقطاع السفر إلى الشام للتجارات لمخالفتهم أهل الشام بالإسلام فقال عليه الصلاة والسلام: إذا هلك قيصر فلا قيصر، وإذا هلك كسرى فلا كسرى بعده معناه لا قيصر ولا كسرى بعدهما في الشام والعراق، ولا ضرر عليكم، فقويت نفوس العرب على الاتجار مع هذين القطرين وكانوا من قبل يملكون المزارع في الشام ويقيمون وينعمون. واتجر الرسول في الجاهلية وكذلك بعض أصحابه كأبي بكر وعمر وعثمان، ولما رفرف علم الإسلام على الشام اتسعت الدنيا على الصحابة حتى إن عبد الرحمن بن عوف الزهري أحد الثمانية الذين سبقوا الخلق إلى الإسلام كان تاجراً كثير الأموال بعد أن كان فقيراً، باع مرة أرضاً له بأربعين ألف دينار فتصدق بها كلها وتصدق مرة بسبعمائة جمل بأحمالها قدمت من الشام، وأعان في سبيل الله بخمسمائة فرس عربية، وكان الزبير بن العوام ابن عمة النبي صلى الله عليه وسلم وأحد العشرة كثير المتاجر والأموال قيل: كان له ألف مملوك يؤدون إليه الخراج فربما تصدق بذلك في مجلسه، وقدخلف أملاكاً بيعت بنحو أربعين ألف ألف درهم وهذا لم يسمع بمثله قط قاله الذهبي. وكانت مراكب صور وطرابلس تقلع من هاتين الفرضتين بالتجارة إلى سواحل خليج القسطنطينية بحر إيجه وخليج البنادقة الأدرياتيك وبحر بنطس الأسود وجزائر قبرس ورودس واقريطش، وكل ما قام به خلفاء المسلمين ووزراؤهم لتسهيل الحج على المسلمين من إنشاء الطرق وإنباط المياه على طول الطريق إلى أم القرى، وإقامة معالم الأمن والراحة فيها للحجاج قد أفاد التجارة. وكانوا قسموا أرض الشام إلى مراحل وبرد وفراسخ وعُنوا بالأمن من وراء الغاية حتى يتجر الناس. وكانت طريق القوافل إلى مصر على الكرك أو على غزة ورفح. قال ريسون: وكانت دمشق مدينة الصناعة الجميلة

مركز تجارة شبه جزيرة العرب ومصر والشام، وإن العرب رقوا الصناعة البحرية ووضعوا قوانين لحقوق الملاحة واستعاروا بيت الإبرة من الصينيين، وضبطوا التجارة بفن مسك الدفاتر أيَّ ضبط وشرحوا الكفالة وأنشئوا المصارف للفقراء ووضعوا السفاتج المألوفة وردود التمسك وبعثوا روح الحركة في مصارفنا الحديثة وكنت تراهم حيثما سكنوا مهدوا السبيل وأمنوها، وعمروا المرافئ والفرض، وأصلحوا وأنشئوا الفنادق والرباطات ورتبوا سير القوافل الاقتصادية ولم تكن المدن الكبرى غير أوساط تجارية كبرى. وكان الفرات بن حيان أهدى الناس بالطرق وأعرفهم بها وكان يخرج مع عيرات قريش إلى الشام وله يقول حسان: إذا هبطت حوران من رمل عالج ... فقولا لها ليس الطريق هنالك فإنك نلق في تطوافنا وانبعاثنا ... فرات بن حيان يكن وهنَ هالك ويقول بيكولوتي: إن أربع موانٍ: عكا وبيروت وطرابلس واللاذقية، وخمس مدن داخلية الرملة ودمشق وحماة وإنطاكية وحلب استفادت من التجارة مع اللاتين ولا سيما مع البيزيين والجنوبيين والطسقانيين والبنادقة وكلهم إيطاليون وهذه الجمهوريات الأربع، بيزة وجنوة وطسقانة والبندقية التي كانت تقتسم إيطاليا هي أول من اتجر مع الشام من أُمم الغرب وجاراهم بعض تجار من أهل بلجيكا وإنكلترا ثم عدلوا لبعد ديارهم. وكان لهؤلاء الطليان ولتجار أمالفي ومارسيليا مكاتب تجارة في الإسكندرية وفي المدن الساحلية والداخلية في الشام، يقايضون بواسطتها حاصلات الشرق مع حاصلات الغرب، ولما فتح الجنويون ثم البنادقة جزيرة قبرس زادت صلات الشام مع هذه الجزيرة التي هي على 93 كيلومتراً من ساحل الشام في طرف جون الإسكندرونة وتعد من الشام. وجعل ملوك فرنسا لهم تاجراً إسرائيلياً يذهب كل سنة إلى الشرق يبتاع منه حاصلات آسيا. وكثيراً ما كان اليهود سفراء في المفاوضات مع أمراء آسيا. وذكر ابن خرداذبة أن التجار اليهود الراذائية، وكانوا يتكلمون بالعربية والفارسية والرومية والإفرنجية الفرنسية والأندلسية الإسبانية أو البرتقالية والصقلبية السلافية يسافرون من المشرق إلى المغرب ومن المغرب إلى

المشرق براً وبحراً، ويجلبون من الغرب الخدم والجواري والغلمان والديباج وجلود الخز والفراء والسمور والسيوف يركبون من فرنجة فرنسا في البحر الغربي فيخرجون بالفَرَما على ساحل مصر إلى القُلزم البحر الأحمر وإن شاؤوا حملوا تجاراتهم من فرنجة في البحر الغربي فيخرجون بإنطاكية ويسيرون على الأرض ثلاث مراحل إلى الجابية في حوران، وأما تجار الروس وهم من جنس الصقالبة فإنهم يحملون جلود الخز وجلود الثعالب السود، والسيوف من أقصى صقلبة بلاد الروس إلى البحر الرومي والخارج منهم في البر يخرج من الأندلس أو من فرنجة، فيعبر إلى السوس الأقصى فيصير إلى طنجة ثم إلى إفريقية تونس ثم إلى مصر ثم إلى الرملة ثم إلى دمشق ثم إلى الكوفة ثم إلى بغداد. وكان يرتفع من فلسطين الزيت والقطين والزبيب والخروب والملاحم والصابون والفوط والجبن والقطن والتفاح والقريش والمرايا وقدور القناديل والإبر والنيل والتمور والحبوب والخرفان والعسل وشقاق المطارح والسُّبَح والكاغد والبز والأرز، ومن قدَس حمص وحماة الثياب المنيرة والبلعسية والحبال، ومن صور السكر والخرز والزجاج المخروط والمعمولات، ومن مآب قلوب اللوز، ومن دمشق المعصور والبلعيس والديباج ودهن البنفسج والصفريّات والكاغد والجوز والقطين والزبيب، ومن حلب القطن والثياب والأشنان والمغرة، ومن بعلبك الملابن. واختصت حلب أيضاً كما قال ابن الشحنة بالصابون الذي يجلب منها إلى ممالك الروم والعراق وديار بكر وهو أفخر صابون، ويباع منه في حلب في اليوم الواحد ما لا يباع في غيرها في الأشهر، ومن خصائصها نفاق ما يجلب إليها من البضائع كالحرير والصوف واليزري والقماش العجمي وأنواع الفراء من السمور والوشق والفُنك والسنجاب والثعلب وسائر الوبر والبضائع الهندية، فإذا حضر إليها مائة حمل حرير فإنه يباع في يوم واحد ويقبض ثمنه اه. وذكر ابن بُطلان من أهل القرن الرابع من عجائب حلب أن في قَيْسارية البز عشرين دكاناً للوكلاء يبيعون فيها كل يوم متاعاً قدره عشرون ألف دينار مستمر ذلك منذ عشرين سنة وإلى الآن اه. وكانت تجارة الشام في هذا القرن والذي يليه

التجارة في القرون الوسطى:

زاهرة جداً وقد قسم جعفر بن علي الدمشقي التجار إلى ثلاثة أصناف وهم الخزان والركاض والمجهز. التجارة في القرون الوسطى: كانت مراكب باري تسافر إلى مواني الشام قبل الحرب الصليبية وقد عقد أمراء سالرن ونابل وجايت وأمالفي في سنة 875م معاهدة مع العرب كما عقد صلاح الدين يوسف وجمهورية بيزا معاهدة مؤرخة في 15 صفر سنة 569هـ 1172م منح بها البيزانيين عدة امتيازات خاصة بالتقاضي والمملكة. وحصل الفلورنتيون أهل فلورنسه من قايتباي سلطان مصر والشام على عدة امتيازات وكانت هاتان المعاهدتان من أوائل ما وضع من الامتيازات الأجنبية للأوربيين في الشرق وكان المقصد منها ترويج التجارة الصادرة والواردة. قال أحد كتاب الإنكليز: إن عكا بقيت بخليجها الجون الطبيعي الوحيد على طول ذلك الساحل، وكانت مرسى السفن في العصور الوسطى، ولما كثر اعتماد سكان الشام في طعامهم على الأرز عظم شأن عكا، لأنها كانت الميناء الوحيد لتوريده. وكان الناس يقولون إذا أراد باشا عكا تضرب المجاعة أطنابها في الشام. ولذلك صار امتلاك عكا ضرورياً لكل فاتح يريد امتلاك القطر، فحوصرت أكثر من سائر مدن الشام وكان اتصال أوربا بها أكثر من اتصالها بسواها. كانت التجارة من أعظم العوامل في الحروب الصليبية، وأكثر أمم أوربا انتفاعاً منها الإيطاليون أهل جنوة وطسقانة والبندقية وبيزا، وهؤلاء كانت لهم قصور في الشام تدل على غنىً، وسفن الطليان هي أهم الأساطيل التجارية في القرون الوسطى. واعتاد الأوربيون بعد الحروب الصليبية حاصلات الشرق، فلم يعد لهم طاقة على الاستغناء عنها، وملك أزمة التجارة في البحر مع الطليان الكاتالانيون والبروفانسيون والقبرسيون والرودسيون، وأصبحت جزيرة رودس بمثابة مالطة وجبل طارق اليوم، وكانت قبرس تهدد شواطئ الشام ومنافذ النيل.

قال صالح بن يحيى: إن مراكب الإفرنج أخذت تتردد إلى بيروت بعد الحروب الصليبية بالمتاجر قليلاً قليلا. وكانت مراكب البنادقة تحضر إلى قبرس فيرسل صاحب قبرس بضائعهم في شونتين كانتا له إلى بيروت نقلةً بعد أُخرى، وكان للقبارسة جماعة من التجار يسكنون فيها أي في بيروت، ولهم خانات وحمامات وكنائس ثم بطل ذلك. وتكاثر حضور مراكب طوائف الإفرنج وكانت ضرائب الواردات والصادرات تؤخذ في بيروت، وهي تبلغ جملة مستكثرة، وكان على باب الميناء دواوين وعامل وناظر ومشارف وشادّ يوليهم نائب دمشق والمتوفر من المرتبات يحمل إلى دمشق. وذكر لامنس أنه في نحو سنة 1136م جاءت مراكب فرنسية عليها تجار إفرنسيون من مرسيليا ثم أخذت بعض مرافئ جنوبي فرنسا كمونبلية وارل تبعث سفنها، وبذلت جنوة جهدها لتبقى لها الأفضلية في التجارة مع الشام، وكانت عكا المرفأ الأعظم بين المواني وقاعدة التجارة ومركز القناصل العاملين، ثم مرافئ صور وطرابلس والسويدية التي كانت تسمى ميناء مارسمعان ثم بيروت. ومنذ القرن الخامس عشر تقدمت بيروت سائر مواني الشام، وكان تجار الإفرنج يستبضعون من ديارنا الحرير والقطن بكميات وافرة والكتان والخام والأنسجة الكتانية والحريرية، وكانت صور لا تزال تتجر بالأرجوان واشتهرت بآنيتها الصينية وزجاجها الفاخر، ويُقبل الأوربيون على حرير إنطاكية وزجاجها، ويبتاعون السكر بالكميات الكبرى من صزر وطرابلس وغيرهما من مدن الساحل، إلى غير ذلك من ضروب الثمار والعقاقير والحشائش الطيبة والأفاويه العطرية، وكان البنادقة يجلبون من حلب مقادير عظيمة من القطن والشب والبهار، وخيرات الهند والعجم تتدفق إليها. ومبدأُ اشتداد صلات الشام مع الغرب منذ الحروب الصليبية. وقد أخذ تجار الإفرنج أنفسهم بفضل صلاح الدين ثم أخلافه من بعده يغدون ويروحون في هذا القطر، والحرب ناشبة بين الفريقين لا يمس أحدهم بأذىً، ولا يعتدي على حقوقه، حتى اضطر الصليبيون أن يعاملوا تجار العرب على هذه الصورة في الأرض التي بقيت في أيديهم إلى آخر مدة الحرب مثل صور وعكا وإنطاكية لا ينال التجار منهم كبير

التجارة في القرون الحديثة:

أذى، وللنصارى على المسلمين ضريبة يؤدونها في أرضهم، وتجار النصارى أيضاً يؤدون في أرض المسلمين على سلعهم. وقد تعقد المعاهدات مع الملوك الإفرنج وتذكر فيها أنواع المتاجر التي يحملونها إلى مواني هذا القطر ومنها الخشب والحديد. ولم تكن جمهوريات إيطاليا في حرب الصليبيين دولاً بحرية من الطراز الأول بل كانت منظمة بأحسن النظم الجمهورية، ومع هذا فكثيراً ما كانت تشب الحرب بينها حتى تستأثر إحداها بالتجارة في الشام، فكان الجنويون أعداء البنادقة، وكذلك كان الكتلانيون، واضطر البروفانسيون أن يدخلوا تجارتهم إلى هذه الديار بواسطتهم، وهم يريدون أن يستأثروا بنقل زوار بيت المقدس وأن تمر تجار ما وراء جبال الألب من مثل جوخ الفلاندر في مواني إيطاليا، وتنقل عن سفنهم وتستوفى عنها رسوماً خاصة. ولما احتل الجنويون الماغوسة في قبرس بدأ اللاتين بزيارة دمشق وبقية الشام، وكانت حال التجارة في الدور الثالث من أدوار القرون الوسطى في دمشق على أحسن ما يكون، فكان التجار الأوربيون إذا انتهوا إليها رأوا فيها عدة زملاء لهم من ممالك مختلفة مثل البندقية وجنوة وفلورنسة وبرشلونة وغيرها، فيبيعون ويبتاعون، وكان اجتماعهم في خان برقوق وقد أقام بعض البنادقة في حماة ومنها كانوا يبتاعون القطن. وكان للأوربيين قناصل في الشام منذ الزمن الأطول وأول قنصل كان للبنادقة في مدينة دمشق سنة 1384م واسمه فرنسسكو داندللو وكانت دمشق مستقر القناصل، إلا أن لامنس يقول: إن أول ما ورد اسم القنصل في جملة النزالة الجنوية التي كانت في عكا أواسط القرن الثاني عشر ودعوه أولاً بنائب القمص - ثم انتشرت هذه الرتبة في أماكن شتى في النصف الثاني من ذلك القرن وعرف أصحابها بالقناصل وأُطلق أولاً على الإيطاليين، وبعد زمن طويل صار للفرنسيس قنصل. التجارة في القرون الحديثة: كانت حلب في هذا الدور من أول المدن التي اتجرت مع الطليان،

وقد أقام لهم البنادقة فيها منذ عهد المماليك قناصل من الدرجة الأولى وكان البنادقة يتاجرون من مليونين إلى ثلاثة ملايين دوكا مع حلب كل سنة، وقد احتفظت الشهباء بمركزها التجاري المهم فكانت نقطة الاتصال بين الخليج الفارسي والبحر المتوسط. ثم انتشر فيها الفرنسيون ولكنهم اضطروا أن يغادروها للاضطرابات السياسية إلى إنطاكية، كما اضطر تجار الإفرنج في دمشق إلى مبارحتها إلى صيدا وبيروت وعكا. وفي سنة 1507م عقدت الدولة العثمانية مع فرنسا معاهدة تجارية فكانت سفن فرنسا تأتي إلى مواني الشام ولا سيما طرابلس وصيدا وتأخذ منها حاصلات وتجلب إليها بضائع. وكثُر عديد الإفرنج في حلب أكثر من دمشق، لأنها أقرب منفذ لاتصال الشرق بالغرب، فكان تجارهم يأتونها من ثغر السويدية يتجرون مع أهلها ويقايضون محصولاتهم بمحصولاتها ومحصولات الشرق، ولا سيما الهند وفارس والعراق، وكانت فرنسا والبندقية أول الممالك الأوربية التي اتجرت مع حلب وعقدت معها الصلات التجارية وأقامت المكاتب، ثم جاء الإنكليز في القرن السادس عشر وتلاهم الهولنديون، وقد تناسل بعض الإفرنج في حلب وارتاشوا وتأثلوا وعدوا كأنهم من أهلها، وكان البنادقة يتجرون بالبهار يأخذونه من حلب بمقادير وافرة كما كانوا يجلبون منها الشب والقطن. وكان في حلب وكلاء لتجار الهند وبلاد الكرج والفرس والأرمن وغيرهم، وللبنادقة بين أُمم البحر المتوسط موقع ممتاز، ولئن أفقد حلب فتح الطريق البحري إلى الهند الشرقية بعض مكانتها التجارية، فقد كانت في القرنين السابع عشر والثامن عشر زاهرة بتجارتها. وكان في حلب سنة 1775 ثمانون وكالة تجارية لبيوت تجارية أوربية، وأكثر اعتماد الأوربيين على سماسرة من اليهود يتجرون بالصادر والوارد، وكثر تجار افنكليز فيها منذ عهد ملكهم جاك الأول 1613 - 1625. ونما عدد تجار الأوربيين في عكا وصيدا وبيروت ولا سيما في هذا الثغر، فأصبح على ما روى لامنس في القرن الخامس عشر ولا سيما بعد عهد تيمورلنك ملتقى شعوب البحر المتوسط. وكنت تشاهد في بيروت مزيجاً يصعب وصفه

من العمائم والطرابيش والكوفيات الحرير وأكيسة وبرانس وقفاطين. وفي القرن الثامن عشر اقترح الفرنج أن تعمر ميناء اللاذقية مبينين للحكومة حسن مستقبلها، فلم يقبل المتصرف هذا الاقتراح وقال: ربما أكون غداً في جدة فلماذا أتخلى عن الموجود وأتطلب مستقبلاً مجهولاً. وممن كان لهم اليد الطولى في تنشيط التجارة في هذه الديار فخر الدين المعني الثاني في أوائل القرن الحادي عشر للهجرة. وكثيراً ما كانت مراكب الإفرنج تأتي لمشترى الحنطة إلى موانئ عكا وصور والرملة وطنطورة وربما بلغت السفن الصغيرة البرش اراسية في عكا نحو 150. ولقد توسع فخر الدين في الامتيازات الأجنبية فسمح للفرنسيين أن يبنوا خاناً عظيماً في صيدا، ولأهل فلورنسة أن يفتحوا قنصلية، فأصبحت صيدا وميناؤها أوائل القرن السابع عشر أهمّ موانئ الشام. وفي عصر فخر الدين كان يحمل من دمشق إلى الديار المصرية عشرة قافات كما قال صاحب محاسن الشام: وهي قصب الذهب. قبع. قرضية. قرطاس. قوس. قبقاب. قراصيا. قمر الدين. قريشة. قنبريس. ونقل الغزي عن معجم التجارة العام المطبوع سنة 1723 1136 أن حلب لا تضاهيها بلد بتجارتها الذين يقصدونها من أقطار الدنيا، فإن خاناتها التي لا تقل عن أربعين خاناً لا تزال غاصة بالهنود والفرس والترك والفرنج وغيرهم بحيث لا تقوم بكفايتهم. قال: ومن خصائصها التجارية وجود الحمام الذي يأتي تجارها بالأخبار من إسكندرونة بثلاث ساعات بسبب تربيته بحلب وحمله إلى إسكندرونة بأقفاص، فإذا طرأ خعلقت البطاقة في رقبة الطير وسرح، فيصير إلى حلب طالباً لفراخه. وفي كتاب الشام على عهد محمد علي: ما زالت حلب ودمشق المركزين العظيمين للتجارة في الشام، وما برحت حيفا وبيروت وطرابلس وإنطاكية وإسكندرونة هي الموانئ التي يكثر اختلاف السفن الأوربية إليها، وهي المحطات الرئيسة لتجارة الشرق، فتأتي قوافل بغداد إلى دمشق وحلب حاملة من العجم التنباك والسجاد، ومن غيرها اللؤلؤ والأحجار الكريمة، ومن الهند الطيب والعقاقير والأفاويه، وفي عودتها تحمل جوخاً وثياباً من

عمل أوربة، وألبسة حريرية من صنع دمشق وحلب، وبضائع منوعة ومصنوعات خشبية وصدفية ونحاسية، وبسوء السياسة المخالفة لما هو جار في أوربا، إذ كان ينشط التجار الغرباء دون التجار الوطنيين، أصبحت معظم التجارة العربية في الشام تجري تحت اسم أوربي. وقبل أن يفتح إبراهيم باشا الشام كان التجار الوطنيون يدفعون إلى الإفرنج ثلاثة ونصفاً أو أربعة في المائة ليتأتى لهم أن يتجروا بأسمائهم، لأن الإفرنج لا يدفعون على الأكثر زيادة على أربعة في المائة من كل ما يطلب من المكوس والضرائب، على حين كانت العرب خاضعة لأداء 18 أو 20 وربما 21 في المائة. وقال: إن عمال إبراهيم باشا كانوا يتجرون ويحتكرون أصنافاً من التجارة. ولما قلّ الأمن في البحر على عهد نابليون وبسوء الإدارة العثمانية وبثورات الإنكشارية سنة 1814 و 1826 وبزلزال سنة 1822 و27 و32 ووباء سنة 1832 وطاعون سنة 1837 خربت تجارة حلب ودمشق، وكثرت البضائع الإنكليزية التي كانت تباع بأثمان بخسة تجيء من طريق ليفورنا في إيطاليا. وكانت الحاصلات الخام التي تعود إلى الشام معمولةً، سبب خراب هذا القطر، مثل حرائر ليون التي أخذت تسحق حرائر دمشق وحلب، وبمنافسة حرائر ليون التي تقلد حرائر دمشق احسن تقليد وتباع بأثمان بخسة، قضي على صنائع دمشق بعد أن كانت تعمل أكثر من 400 ألف قطعة من الحرير والثياب الحريرية الممزوجة بالقطن. وكانت تجارة الحاصلات التي تبتاع بالسلف والسلم، خراب الفلاح الشامي البائس. وكان كثير من تجار الأوربيين يستحسنون هذا من التجارة، ومنهم من كان يمقتها وقد يربح المتجر بها خمسة وعشرين في المئة، ويعدها صاحب الذمة غبناً، وكان يصل إلى بيروت كل سنة 1340 سفينة تحمل 7848 طناً ويخرج 805 سفن تحمل 5005 يخرج منها القطن والحرير والتبغ والإسفنج والفوّة والزيت والصابون بمقدار وافر والسمسم والكمون والعفص. وتجارة الواردات تبلغ 44366670 منها نحو 15 مليوناً من مصر وتجارة الصادرات 26874270 منها نحو 13 مليوناً لمصر، فكانت الشام تخسر مسانهة نحو 18 مليون قرش تسدها سبائك ذهب أو نقوداً، وهذا على عهد الحكومة

المصرية. وبعض هذه الصادرات قد بطل إصداره اليوم من الشام. ولقد تضررت حلب ودمشق بفتح البرتقاليين طريق رأس الرجاء الصالح في جنوبي إفريقية سنة 1497م، وكان أول من اكتشفه من البيض الفينيقيون نحو القرن السابع قبل المسيح، وتأذت تجارة حلب ودمشق بفتح الفرنسيين ترعة السويس سنة 1868، وكان من نكبة الشام بفتح هذه الترعة أن انتقل كثير من تجار دمشق وحلب إلى بيروت والإسكندرونة والقاهرة وطنطا وإزمير وسلانيك والآستانة ومانشستر ومارسيليا وميلانو وغيرها من المدن الأوربية والإفريقية والآسياوية، وقد تحولت تجارة الصين والهند إلى البحر، وبطل عمل القوافل التي كانت تغدو وتروح بين الشرق الأدنى والأقصى، وقل عدد الذين يمرون بدمشق من الروم وغربي آسيا للذهاب إلى الحجاز، وأصبح معظمهم يركب البحر إلى البقاع الطاهرة تخفيفاً من عناء الأسفار في القفار وانحصرت التجارة الداخلية في حدود ضيقة، وأصبحت لا تتعدى حد المستهلكات، وصار لها مواسم قلما تروج في غيرها، ولما انتظم سير السفن البخارية، وكثر اختلافها إلى مواني الشام، وكانت رحلاتها من قبل متقطعة مختلفة المواعيد، تجرأ الناس على الاتجار وتضاعفت الصلات التجارية بين الشام والأصقاع الإفرنجية. يقول بعض الكتاب: إن التجارة البحرية لم تنقطع في البحر الرومي في القرن الأول للإسلام إلا بما كان يبدو من حركة الأسطول اليوناني، ولكن تجارة الشام أصيبت بالتأخر مع أوربا لما أصبح للشام منافس كالبصرة التي كانت لقربها من الهند أكثر منافسة للشام. وظهرت ظاهرة مهمة في الشام منذ نحو ثمانين سنة أثرت فيه تأثيراً كبيراً وذلك أن جماعةً من تجار بيت لحم في فلسطين حملوا مصنوعاتهم الخشبية والصدفية إلى معرض فلادلفيا سنة 1876م فربحوا كثيراً ولما عادوا كثر المقتفون لآثارهم من التجار وغيرهم من أهل الشام وبدأ الناس بالهجرة طلباً للربح، وكانت الهجرة مقصورة أولاً على سكان الجبال من لبنان وعامل واللكام ثم تعدت إلى سكان السهول، وكان المستأثر بها سكان القرى فتعدت إلى سكان المدن، وكان التجار على الأغلب مسيحيين فأصبحوا بعدُ من

جميع أهل الأديان من الشاميين، ولم يلبث نطاق الهجرة أن توسع، وما نراه في اللبنانيين الشرقي والغربي، وما إليهما من الجبال من الدور والقصور عمر أكثره بدراهم أميركا، ويقدّر اليوم المهاجرون إلى أميركا الشمالية والجنوبية واستراليا وغيرها من البلاد التي ترحب بالأيدي العاملة بزهاء سبعمائة ألف مهاجر شامي. وقد ساعد على دوام الهجرة اختلال المجاري الاقتصادية في السلطنة العثمانية، ثم استرسال الحكومات العثمانية ثم المنتدبة في إهمال الحركة الاقتصادية وإلقاء الحبل على الغارب. وقد كان عمال العثمانيين يودون لو هاجر جميع المسيحيين من الشام، لينجوا من دعوى أوربا في حماية الأقلية ولكن بهرتهم ضعفت التجارة، وكيف تنجح التجارة في أُمة والحكام هم التجار، وقد رأينا من ذلك أمثلة خلال الحرب العامة، فكان عمال الأتراك لا فرق بين الكبير والصغير منهم يحتكرون معظم الحاجيات دع الكماليات، فكنت تراهم كلهم تجاراً يؤخرون الأرزاق عن الجند في ساحة الحرب ويقطعون مواد الحياة عن الرعية، حتى يشحنوا بضائعهم ويغنموا فرصة ارتفاع أسعارها، فاغتنى بذلك كثير من عمالهم ثم افتقروا بعد حين. على أن بعض البلدان استفادت كثيراً من الحرب العامة ومعظم المدن التي استفادت حلب ودمشق وبيروت والقدس. قال الغزي: إن التجارة في حلب آخذة بالتقدم منذ ثلاثين سنة ولذا كثر عدد التجار زيادة عظيمة بحيث بلغ ثلاثة أضعاف ما كانوا عليه قبل هذه المدة، وكان معظم هذه الزيادة في أيام الحرب العالمية فإن أرباح التجارة التي كانت في غضونها جرّت العدد الكثير من ذوي الصنائع اليدوية من صنائعهم إلى الاسترزاق بالتجارة فنجحوا وربحوا أرباحاً طائلة، ونشأ من بينهم أصحاب ثروة تستحق الذكر. إلى أن قال: وفي سنة 1341 بدأ دولاب التجارة يدور ببطءٍ فأخذت الثروة العامة في حلب بالانحطاط لإغلاق الأناضول أبوابه في وجه تجارة البضائع المعدودة من الكماليات وغلاء أُجور النقل في السكة الحديدية وتلاعب الصيارفة والمحتكرين بالأوراق النقدية والنقود الذهبية إلى غير ذلك من الأسباب.

ومن أهم الفوائد التي نتجت للشاميين من تعلم اللغات الأجنبية كالفرنسية والإنكليزية، أن كان من هؤلاء المتعلمين وأكثرهم من غير المسلمين عمال لتجارة الواردات من الغرب. واستأثر المسلمون بتجارة الصادرات فكان منهم تجار شاميون في الإسكندرية وطنطا والقاهرة والسودان والآستانة وإزمير، وكل بلد في الأرض مهما بعدت الشقة إليه ترى فيه تجاراً شاميين وأنجح تجارهم في مصر والأميركتين وأوستراليا. ولنا تجار في العراق والحجاز وفارس والهند ويابان وجنوبي إفريقية وأواسطها على نحو ما وصفنا شاعر النيل حافظ إبراهيم: ورجال الشام في كرة الأرض ... يبارن في المسير الغماما ركبوا البحر جاوزوا القطب فاتوا ... موقع النيرين خاضوا الظلاما يمتطون الخطوب في طلب العي ... ش ويبرون للنضال سهاما ومن أهم المواسم التي كانت في فصل مخصوص من السنة تدب فيه روح الحركة في التجارة موسم السياح، فكان سياح الغرب يأتون أوائل الربيع لزيارة الأماكن المقدسة والمصانع التاريخية في فلسطين وبعلبك وتدمر ودمشق وغيرها ويقدرون بخمسة آلاف سائح كل سنة عل الأكثر إلى المدن الوسطى والشمالية وبأكثر من ذلك إلى فلسطين فقط، والموسم الآخر موسم حجاج إفريقية وآسيا وأوربا وكانوا يقدرون بخمسين ألف حاج، والفضل في ذلك يرجع لسهولة المواصلات البرية في السكة الحجازية، ولرخص أجور البواخر في البحر. وموسم الحج بطل بالحرب فنزل معدل من يزورون الشام ويتجرون ويبتاعون. أما موسم فلسطين فإن كثيراً من تجارها أصبح رزقهم موقوفاً على ما يربحونه في موسم الزوار في القدس وبيت لحم والخليل والناصرة وغيرها، وبدأ الشرق العربي يربح كثيراً من السياح الذين يختلفون إلى ذاك الصقع لزيارة جرش وعمان والبتراء وقر المشتى وغيرها، كما تربح سورية ولبنان من القاصدين إلى زيارة بعلبك وتدمر وغيرهما، وصار لموسم الاصطياف في لبنان الغربي والشرقي مكانة اقتصادية ذات شأن كبير في تنشيط الصناعة والتجارة. ومتى انتشر الأمن في القطر، وكثرت الخطوط الحديدية في البر، والسفن التجارية في البحر، وحمت الحكومة التجارة بقوانينها

وأحكامها العادلة، ومعاهداتها مع الأمم المجاورة، انتبه التجار إلى التجدد في متاجرهم. ولا نعد تاجراً من يحرق مخزنه أو ما فيه ليربح ضمانه من الشركة الضامنة، أو يتلكأ في أداء الذمم التي عليه، أو يضارب في الأسواق فيؤذي الفقير. أو يعامل صاحب المعمل في الغرب بقليل من الذمة فيتلاعب في الأسعار والصوافي، فإن هذا مما يؤخر الصادر عنا والوارد علينا، وفي كل ذلك ما يزيد الغبن ويورث الخسارة في العاجلة والآجلة لا محالة. ولقد ثبت في العهد الأخير، وخصوصاً لما أخذ المسلمون يجارون مواطنيهم المسيحيين في تعلم اللغات الغربية، ويتقنون أصول التجارة على أساليب أُمم الحضارة، ويتعرفون إلى أوضاعهم الجديدة في استثمار أموالهم في مصارف خاصة بهم، أن الغربيين يتعذر عليهم أن يتوسعوا بعد في الاتجار في القطر، وفتح بيوت تجارية على المثال الذي كان لهم وحدهم في القرن الماضي، وقطع أرزاق الشاميين في عقر دارهم. ذلك لأن التاجر الوطني أقل من التاجر الغربي في مطالبه، يكتفي بالربح القليل، ويصبر في الأزمات، وهو في بلده يعرف ما يصلح له ويروج فيه، ونفقاته إجمالاً أقل من نفقات الغريب. وإذا تساوى الوطني والدخيل من كل وجه، فالوطني يؤثر معاملة مواطنه لا محالة. وإذا جارى التاجر العربيّ التاجر الغربيّ أو كاد، تجلت في ابن الشام أخلاق التجارة، والنفوذ في قاعدة العرض والطلب، وبدا في هذا الميدان ذاك الشرف المغيب الذي كان كامناً في نفسه، وورثه مع الدم المتسلسل فيه من آبائه الأقدمين، عرباً كانوا أو روماً أو فينيقيين، وبذلك أصبح الرجاء معقوداً بأن يستأثر الشاميون بتجارة ديارهم. فإن تعلموا باختلاطهم بالأمم الحية ما ينقصهم من ضبط ونظام، وساعدهم على ذلك قلة من يأتي من الغرب من أرباب الطبقات الأولى في التجارة، وكان التاجر المتوسط الحال بماله ومعرفته منهم أقل حظاً ممن يماثله من الشاميين في أسواق المتاجرات، وإذ كان من البعيد على النوابغ من كل صنف في الغرب أن يَغْشوا بلادنا كان في ذلك كله النفع العظيم لنا في تجارتنا، ومتى حللنا روح الشامي وما انطوى عليه من مراعاة الشرف والاحتفاظ بالثقة، والبعد عن التدليس

التجارة والاقتصاديات في العهد الحديث:

والمؤالسة، وإرادة النصح في الجملة، كان التاجر كل التاجر، الذاهب في الأرض بجماع المفاخر، باستقامة تاجرنا في معاملته، يدفع عن وطنه كثيراً من الغوائل الاجتماعية، ولا يهنأُ العيش ويطيب، إلا إذا قلّ توافد الغريب من الجنس الذي قال فيه حافظ: يُقتّلنا بلا وقَوَدٍ ... ولا دِيةٍ ولا رَهَب ويمشي نحو رايته ... فتحميه من العطب التجارة والاقتصاديات في العهد الحديث: نشبت الحرب العامة سنة 1914 ولم تكن الشام على استعداد للدخول في غمارها، ولم تأخذ الأهبة الكافية لمقاومة طوارئها، وما لبثت الدولة العثمانية والبلاد الشامية التابعة لها أن دخلت في صفوف المحاربين إلى جانب الدولة الألمانية وحلفائها، فحصرت مواني الشام، وبدأت أسعار البضائع ترتفع تدريجياً، وذلك في أصناف الملبوسات كأنواع منسوجات القطن والصوف على اختلاف أنواعها، أو في المأكولات كأنواع السكر والقهوة والأرز، أو في سائر الحاجيات والكماليات كالبترول الكاز والكحول السبيرتو وأنواع المواد القرطاسية والزجاجية والأصباغ والمواد الكيمياوية على اختلاف أنواعها، وشعر الناس بالحاجة إلى الاقتصاد والتفكر في استجلاب هذه الأصناف من البلاد المجاورة بقدر الإمكان. وقد اشتدت الأزمة الاقتصادية بفقدان الأيدي العاملة أيضاً من المدن والقرى، بسبب النفير العام والتجنيد في جميع أصقاع الشام، وكان من تخلصوا من التجنيد الإجباري هم الذين لم يتدربوا على التعليم العسكري فدفعوا بدلات نقدية مرات خلال أعوام الحرب. وكانت هذه البدلات تكلف مبالغ طائلة في السنين الأخيرة، وأعلنت الدولة العثمانية بعد دخولها الحرب قانون تأجيل الديون بقواعد مخصوصة أقرتها. ولم يلبث الضيق أن عمّ والنقد أن قلّ وخصوصاً بعد أن وضعت السلطة العسكرية يدها على جميع وسائط النقل في البلاد مثل السكك الحديدية ودواب

النقل والمركبات والسيارات، فكانت أسعار الحاجيات تختلف اختلافاً بيناً في بلاد الشام القريب بعضها من الآخر، وذلك بالنسبة للتشدد أو التساهل الذي كانت تبديه الإدارة العسكرية في استخدام أسباب نقل البضائع. انقضت السنة الأولى للحرب فأصبحت دمشق مركزاً للجيش الرابع الزاحف على ترعة السويس. وأنشأ يعقد البيوع العظيمة والالتزامات الكبيرة سد لحاجات الجيش المذكور، فبدأت هذه الأزمة الشديدة بالانفراج، وأخذت إدارة الجيش تتساهل باستخدام المجندين في إدارات المتعهدين والملتزمين، ونشطت الحركة التجارية والصناعية في الشام. ولا ينكر أن الجيش الرابع صرف مبالغ طائلة في أسواق التجارة لضمان حاجاته الكثيرة التي لم يتمكن من تأمينها بطرق الإكراه أو بواسطة الضرائب الحربية التي رأى أنها عقيمة لا تفي بالحاجة، وبعدئذ فكر بعض التجار باستجلاب بعض الحاجات الضرورية التي غلت أسعارها وعزّ وجودها من بلاد نجد التي كانت تستورد بضائعها من الهند وفارس على أيسر وجه وطمأنينة، لأن أمير نجد عبد العزيز ابن سعود كان موالياً لإنكلترا لا يجد ضيقاً ولا رهقاً في استجلاب البضائع ومواد الغذاء على اختلاف أنواعها. ولقد كانت هذه الطريقة من أهم الوسائط لسد حاجات البلاد والجيش، ولإيجاد حركة تجارية جيدة كانت تدرّ ذهباً وهاجاً على المتاجرين والمستوردين، كما أن كثيراً من التجار اتخذوا وسائط عديدة لاستجلاب بعض البضائع الألمانية والنمساوية بواسطة رجال الجيش واستخدام وسائطهم لنقل هذه البضائع بالاتفاق معهم، وبتبادل المنفعة بينهم، وبذلك انفرجت الأزمة الاقتصادية التي بدأت في السنتين الأوليين من الحرب، واغتنى كثير من التجار والعاملين والوسطاء من رجال الإدارة والجندية باستخدام هذه الوسائط في النقل ونقل أصناف التجارة، والبلاد محصورة لم يرد إليها شيء قط من طرقها البحرية العديدة. وكثرت النقود الذهبية في التعامل بما أنفق من إدارات الجيش، وما ورد البلاد من طرق البر من البضائع، وما كانت بريطانيا العظمى تنفقه في أنحاء البلاد المجاورة عن سعة من الذهب الوهاج لتأييد الثورة العربية، حتى أصبحت البلاد في أواخر الحرب على أحسن حالات اليسر والرخاء.

الورق النقدي والعوامل في تدني الاقتصاديات:

فارتفعت أسعار العقارات والمزارع، وشعر الناس بكثرة النقد الذهب في أيديهم حتى كان المشتري لا يجد من يبيع عقاراً أو أرضاً إلا بثمن فاحش، إلى أن دخلت الجيوش الإنكليزية والعربية هذا القطر تحمل معها الذهب وتنفقه بلا حساب، ويقدر ما أنفقه الجيش الإنكليزي في سنة 1919 والأشهر الأولى من سنة 1920 في أرض الشام بما يقارب الثلاثة ملايين من الجنيهات المصرية. الورق النقدي والعوامل في تدني الاقتصاديات: وحدث خلال الحرب أن اتجر كثير من الماليين بأوراق النقد الدولي على اختلاف أنواعه، وأصبح بعضهم يستورده من طريق ألمانيا والنمسا وسويسرا إلى الآستانة، ومنها توزع في أنحاء بلاد العرب مثل الكورون النمساوي والمارك الألماني والشلن الإنكليزي والفرنك الفرنساوي والروبل الروسي وأوراق النقد التركية والأسهم اليابانية والعقارية المصرية والأرجنتينية على اختلاف أنواعها، وأصبحت تباع بقيم تنحط أحياناً عن قيمتها الحقيقية 25 إلى 50 في المائة. وتدنى سعر الروبل الروسي إلى 10 و15 في المائة وكذلك المارك والكرون، فأقبل عدد كبير من التجار وأرباب الأملاك حتى والنساء على مقتناها وذلك على أمل أن تعود إلى أسعارها الأولى بعد أن تضع الحرب العامة أوزارها. ويُقدر الخبيرون أن الشام أدت قيمة ما ادخرته من أوراق النقد هذه ما يربو على خمسة ملايين ليرة عثمانية ذهباً، كان القوم يأمل بيعها بما يقارب أسعارها الأولى، وبذلك يربحون ربحاً عظيماً من أيسر الطريق ثم أُعلنت الهدنة عام 1918 وبدأ تجار الشام يستوردون البضائع المنوعة التي اشتدت حاجاتها إليها من البلاد المصرية أولاً ثم عقدوا المبيعات المختلفة من أوربا بأسعار عالية، وقد اضطر أرباب المصانع والمعامل إلى رفع أسعار بضائعهم لعوامل عديدة، ومنها قلة الأيدي العاملة بعد الحرب العامة، وغلاء المواد الأولية للصناعات المنوعة، وارتفاع أسعار الفحم وأجور المواصلات، وراح الكثيرون بالنظر للحاجة الماسة إلى عقد مبيعات عظيمة من أنواع البضائع المنسوجة والمغزولة على كثرة أنواعها، ومن الأصناف

الحواجز الجمركية:

الأخرى كمواد الزجاج والقرطاس والكيمياء وغيرها فأدت الشام أثماناً باهظة وقيماً فاحشةً جداً في ابتياع البضائع المستوردة في سنتي 1919 و 1920 حتى غصت المخازن والمستودعات بهذه الأصناف وضاقت بها الأسواق، وكان لهذا الاندفاع الكلي الذي لا نسبة بينه وبين حاجة البلاد بسبب الأرباح التي كانت تدر أولاً، فعل عنيف وصدمة قوية أُصيبت بها الأسواق فكانت من بوادر الضيق وحدوث الأزمات الاقتصادية للأسباب التالية: أولاً: إن الشام ولا سيما دمشق كانت تكنز كميات عظيمة من ورق النقد المختلف الضروب فطرأ عليها النزول العظيم وأصبح قسم منها في حكم المعدوم مثل الروبل الروسي والكرون النمساوي والمارك الألماني وغيرها، وكانت خسارة بلاد الشام بها عظيمة ولم تعوض منها شيئاً. ثانياً: نزول أسعار البضائع المتوالي منذ عام 1920 إلى 1922 وورود كميات كبيرة من البضائع المتنوعة التي ما زالت مخزونة على التوالي عند أصحابها فطرأ النزول التدريجي عليها، وذهب بقسم كبير من ثروة كبار الأغنياء والتجار. ثالثاً: حدث بعد أن دخلت الجيوش الفرنسية إلى المنطقة الداخلية في أواخر عام 1921 أن وضعت الحواجز الجمركية بين جنوب البلاد وشمالها وشرقها، وكانت من قبل وخصوصاً دمشق مركزاً عظيماً لتصدير البضائع والمصنوعات الوطنية إلى الحجاز وفلسطين وشرقي الأردن والعراق والأناضول فأصبحت بمعزل عن هذه البلاد المجاورة، بالنظر للتبدل السياسي الذي حدث بعد الحرب العامة، وصارت مصنوعات الشام التي كانت تصدر إلى هذه الأقطار حرة لا مراقبة عليها ولا قيد من القيود الثقيلة والحواجز الجمركية فكاد يقضى على هذا الصناعات وعلى تجارها وعمالها. الحواجز الجمركية: عقدت المفوضية الفرنسية العليا في الشام اتفاقاً مع المفوضية الإنكليزية العليا في فلسطين يوم 22 أيلول سنة 1921م لتأسيس جباية الجمارك على

البضائع التي تتبادل هاتان المنطقتان التجارة بها، وإحداث دوائر مكس على الحدود وداخل البلاد لما تقتضيه هذه الجباية، وعلى أثر ذلك اجتمع عدد كبير من تجار دمشق وتفاوضوا قضية هذه الحواجز وأضرارها على التجارة والصناعة، وقر رأيهم على انتخاب لجنة من كبار تجار البلاد مؤلفة من عشرة أشخاص للعمل في هذه القضية، فبدأت اللجنة عملها بأن قدمت تقريراً مطولاً للمراجع الرسمية بينت فيه مقدار الأضرار التي تنتاب الشام من وضع هذه الحواجز الجمركية بين جنوبها وشرقها وشمالها خصوصاً الصناعات الوطنية المنوعة وضمنته إحصاءً دقيقاً في أنواع هذه الصناعات ومقدار النفوس والأموال والقيم المقدرة للأنواع المصدرة خلاصته أن في مدينتي دمشق وحمص نحو 10260 نولاً يشتغل بها 46260 عاملاً، وهذه الأنواع تخرج مقدار 4568500 قطعة قماش قيمتها ثلاثة ملايين ليرة عثمانية ذهباً، وذلك للأصناف الآتية فقط: الألاجه الحريرية والقطنية التركية، الديما، الحامدية الملاءات الحريرية والقطنية، العباءات، الستور على اختلاف أنواعها، السلوكات الأغباني، الشال الحريري والصوفي، والكمر والمضربات، وفي مدينتي حماة وحلب مثل هذا المقدار من الأنوال والعمال لمختلف الصناعات الوطنية التي هي برسم التصدير إلى الجهات المجاورة. وتابعت بياناتها في الأضرار التي تعود على البلاد وقدمت احتجاجاً مطولاً بينت فيه الضرار السياسية والإدارية والاقتصادية التي تنتج من موضع هذه الحواجز الجمركية وخلاصته. أولاً: إنه ليس من مصلحة سورية وفلسطين إلغاء الاتحاد الاقتصادي وفصل إحداهما عن الأخرى هذا الفصل المضر لأنه يقلل العلائق التجارية ومبادلات الأعمال بين المنطقتين، وهذا يُفضي بالتدريج إلى انقسام هذه الأمة الواحدة إلى أُمتين ويؤدي إلى تباعد المشارب وتباين الأطوار وانحلال الروابط بينهما تدريجياً إلى أن يصبح البون عظيماً وتضعف عرى الألفة والاتحاد المستقرة الآن، والصلات التجارية والمعاملات المدنية هي العروة الوثقى التي تربط بين الشعوب وتقارب بين القلوب، والحواجز الجمركية هي الضربة القاضية على هذه المعاملات والصلات، ولما كان السوريون لا يختلفون في شيء

عن الفلسطينيين كما أن الفلسطينيين يحسبون أنفسهم قسماً من الشعب السوري العربي فجميعهم لا يرضون بوجه من الوجوه أن تفتح بينهم هذه الهوة العميقة التي تقوض أركان وحدتهم القومية والعنصرية، وتقضي على آمالهم الوطنية ويرجون من الدولتين المحتلتين أن لا تعاونا الدهر على تفريقهم والإيقاع بينهم. ثانياً: سلطت السياسية على إخواننا في الجنوب مناظراً شديداً وخصماً لدوداً، ونعني بهم الصهيونيين الذين لا يفتأُون يدسون الدسائس لإضعاف الوطنيين وإذلالهم ليتمكنوا من الاستعلاء عليهم واستلاب أموالهم والأخذ بمخنق أوطانهم. وأي وسيلة أنجح لهؤلاء الصهيونيين من تفريق أهالي فلسطين عن إخوانهم في سورية وقطع العلائق بينهم تدريجياً!. ثالثاً: ما زالت جمارك البر الموضوعة في داخلية البلاد عرضةً لصعوبات عظمى في ضبطها وجبايتها حتى عند أرقى الدول وأقدرها، والقيام بهذا العمل بين سورية وفلسطين شاق جداً لا يستطاع إتقانه ولا تُرجى سلامته، ولذلك أسباب كثيرة لا تسهل إزالتها، منها أن الوسائط النقلية بالقطر الحديدية بين المنطقتين محدودة جداً، والطرق الأخرى مفتحة على طول الحدود تجتازها الجمال والبغال وسائر حيوانات النقل في الليل والنهار، ولا سبيل لمنع التهريب منها، وقد يكون المهرب من التجارات أكثر مما يمر بإدارة الجمرك فتكون النتيجة أن الذي يتمكن من تهريب بضائعه بدون جمرك يزاحم التجار الأمين الذي يؤدي جمركها المفروض عليها، ويتعذر بيع البضائع المدفوع رسومها فتضطر الحكومة إلى مراقبة جميع الطرق وإقامة الخفراء على الحدود، وإنفاق الأموال الطائلة في هذا السبيل، وينتج عن ذلك أشياء منها: القتال بين المحافظين والمهربين كما هي الحال في مسائل تهريب الدخان وإفساد ألاق الناس بفتح السبيل أمامهم لمخالفة القانون وارتكاب جريمة التهريب التي تحملهم أحياناً على ارتكاب جرائم أُخرى للفرار بأموالهم، إفساد أخلاق المأمورين الذين يتولون أمر المحافظة بفتح سبيل جديد أمامهم لأخذ الرشوة، والاشتراك مع المهربين كما هو المألوف المعروف في الأعمال التي هي من هذا القبيل.

العامل الاقتصادي:

العامل الاقتصادي: ويقال على وجه الإجمال: إن الحاجز الجمركي بين القسم الشمالي والقسم الجنوبي من سورية يكون سبباً لبقاء عشرات الألوف من الخلق بدون عمل وتتعطل تجارة البلاد وصناعاتها، لأن القسم الأعظم من الغزول والمنسوجات الأوربية التي ترد إلى دمشق وحمص وحماة وحلب ينسج ويفصل ويخاط ويصبغ ويحوّل إلى سلع تجارية من ألبسة وغيرها وأنسجة منوعة وتصدر إلى الجنوب، فإذا وضع عليها ضريبة جديدة بمعدل أحد عشر بالمائة رسماً جمركياً يتعذر تصريفها ويضطر المشتغلون بها إلى ترك هذه الصناعة والتجارة وعددهم عظيم جداً وهذه الصناعات القديمة في سورية هي المورد الوحيد لرزق الكثيرين من السكان، كما أن هذا الضرر يلحق أيضاً سكان فلسطين بحرمانهم من إصدار معمولاتهم ومصنوعاتهم إلينا وكساد العمل عندهم وعندنا في آن واحد. ويناقض هذا الاتفاق الجمركي نصوص الحقوق الدولية ولا يأتلف مع العادات المعمول بها ويضر بمصلحة الشاميين الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ويهدم عمران البلاد، ويودي بالتجارة والصناعة الوطنية، ويضعف العلائق التجارية مع أوربا ويرجع بالصناعة السورية القهقرى. فأُلغي هذا الاتفاق وحل محله اتفاق آخر عقد بين المفوضيتين في سورية وفلسطين وجعلت فيه الصادرات والواردات بين هاتين المنطقتين حرة غير تابعة لتقاضي الرسوم الجمركية إلا ما كان من استيفاء واحد في المائة على قيمة البضائع الصادرة والواردة رسوماً للبلديات، وعلى التجار أن يقدموا قوائم صحيحة بقيمة البضائع الصادرة والواردة، وعلى أساسها يجري الحساب بين إدارة الجمارك في المنطقتين بنسبة ما يوجد في البضائع من المواد الأولية المؤدى عنها رسوم جمركية، حين دخولها إلى ثغور الشام وهو ما يجعلونه على قاعدة الجمارك المشتركة، وعلى قاعدة الجمارك المشتركة عقد اتفاق مع الشرق العربي أي حكومة شرقي الأردن. ولما كانت قد حصرت جباية الرسوم الجمركية بجميع الواردات الأجنبية إلى البلاد السورية في الثغور البحرية نشأ خلاف كبير بين حكومتي الاتحاد

الواردات والصادرات:

السوري التي كانت مؤلفة من ولايتي حلب ودمشق والإسكندرونة وإنطاكية ومنطقة العلويين وبين لبنان الكبير، ومع ن هذه البلاد تستهلك القسم الأعظم من الواردات الأجنبية، كانت حصة الجمارك التي تدفعها الإدارة العامة إلى حكومة الاتحاد السوري لا تتجاوز 32 في المائة وهي أقل بكثير مما كانت تدفعه إلى حكومة لبنان الكبير وذلك استناداً على طريقة الإحصاء التي كانت متخذة لمعرفة أنواع البضائع التي ترد إلى بلاد الاتحاد السوري. وبعد أخذ ورد أصدر المفوض السامي للجمهورية الفرنسية في سورية ولبنان حكمه في أن تأخذ سورية اثنين وخمسين في المائة والباقي يخصص بلبنان الكبير، كما أنه قرر فساد طريقة لإحصاء المتخذة قبلاً وإلغاءها. الواردات والصادرات: تستورد البلاد السورية البضائع المنوعة اللازمة لأسواقها من الخارج، وأهم وارداتها أنسجة القطن والحرير على اختلاف أنواعها، والأجواخ والأواني البلورية والأدوات القرطاسية والأدوات والآلات من الحديد والكاز ومواد البناء كالخشب والأسمنت المسلح والمواد الكيمياوية وحاجيات الصيدليات وغير ذلك. وتصدر إلى الخارج ما يزيد عن حاجتها من حاصلات الزراعة وبعض المنسوجات من القطن والحرير المعروف بجودة صنعه وإتقانه وجماله في بلاد الشرق، وكذلك بعض المصنوعات من الخشب والنحاس الممتاز بدقة الصنع والسكاكر ومرببات الفواكه والحرير والصوف والجلود والتبغ والصابون وغير ذلك. ويجري أكثر التصدير والتوريد في أسواق المدن الآتي ذكرها مرتبة حسب مكانتها وهي: بيروت، طرابلس الشام، الإسكندرونة، اللاذقية، صيدا من الثغور البحرية، وحلب ودمشق من المدن الداخلية، ويجب أن لا يفهم أن ما يستهلك في هذه المدن يتبع التصدير والتوريد، بل بالعكس فإن شأن الاستهلاك غالباً في الحواضر الداخلية وما يتبعها من القرى وكثرة السكان كما تقدم في بحث تعيين الحصة الجمركية بين سورية ولبنان، ولكن المعمول في حركة التوريد والتصدير على الثغور البحرية كما لا يخفى وهي واسطة النقل والشحن.

صناعة البلاد في سنة 1925:

وقد تبين أن فرنسا وإنكلترا هما في الدرجة الأولى بالنسبة للصادرات إلى الشام ويأتي بعدهما من إيطاليا وبلجيكا والولايات المتحدة. وكذلك يظهر أن المقايضات في التجارة بين الشام ومصر في تقدم مستمر، وأن حركة التصدير من سورية إلى البلاد المجاورة كفلسطين وشرقي الأردن حسنة جداً وعليها المعول في كثير من المصنوعات الوطنية بالنظر للرغبة فيها والحاجة إليها في تلك البلاد المجاورة، وكذلك حركة النقل الترانسيت بين الشام والعراق والبلاد الإيرانية فإنها قد ارتفعت وتحسنت، وذلك بعد فتح طريق السيارات بين سورية والعراق. وقد بلغ محصول الشام من الصوف في سنة 1925 4600 طن، ومن مجموع هذا المحصول الذي كان ينقص 20 في المائة عن محصول سنة 1924 نتج 2300 طن من الصوف المغسول، وكانت الولايات المتحدة هي التي تستورد صوف البلاد الشامية بالدرجة الأولى. وبلغ الوارد من الحيوانات إلى هذه البلاد خلال سنة 1924 عدد 301643 رأس حيوان والوارد في سنة 1925 184738 رأساً. وأما الصادر في سنة 1924 فكان 201726 حيواناً وفي سنة 1925 كان 284389 حيواناً. وهذه الحيوانات تشمل أجناس الخيل والبغال والحمير والبقر والجمال والخنازير. صناعة البلاد في سنة 1925: ولاية حلب: إن التدابير التي اتخذتها الحكومة التركية بشأن تغيير لباس الرأس الوطني قد أثرت تأثيراً سيئاً في نشاط الصناعة الحلبية. فقد اشتغل في حلب 2400 نول في شهر كانون الأول يقابلها 2700 نول في شهر تشرين الثاني، وبلغ معدل ما يحصل منها 7500 ثوب قطني مغزول بطول ستة أمتار و 1200 ثوب بطول خمسة أمتار و 10750 سلكاً أغبانياً كوفيات ومناديل. ويصنع في ديرغطا وأبو الظهور الكتان الأهلي والقماش المستعمل لصنع الخيم الوبر. وقد بلغ محصول الصابون في حلب 126000 كيلو غرام ومحصول الزيت 182500 كيلو غرام والدباغات قد حضرت 7500

ما يجب للنجاح في الاقتصاديات:

من جلود الخرفان و 1900 جلد ماعز و 2050 جلد حملان و 30 جلد ثور يكون مجموعها 11480 وطحنت المطاحن في حلب ما يقدر ب 2550 طناً من الطحين وأنواعه. وقد شوهد نقص محسوس في تحضير أدوات التعمير في هذه النسبة بالنظر للأزمة الاقتصادية التي بدأت فيه. لواء الإسكندرونة: لا يزال النشاط الصناعي عظيماً في حلالات الحرير في السويدية وجبل موسى وفي معامل الصابون في إنطاكية وفي المطاحن. حكومة العلويين: قد خطط إنشاء معملين لحلج القطن أحدهما في اللاذقية والثاني في جبلة كما أن المعاصر تعمل عملاً جيداً. وقد أخذت أنوال القطن الخامي في قرى اللاذقية وصهيون تعمل بجد ونشاط وكذلك مدابغ اللاذقية. ويظهر للناظر الفرق الكبير بين الصادرات والواردات في البلاد الشامية فيحكم بأنها سائرة في طريق الإفلاس، والحقيقة أن الفرق أقل مما يظهر لأول وهلة، لأن للبلاد الشامية موارد أُخرى غير صادراتها وإن كانت لا تسد هذا العجز، ولولا هذه الموارد لوقعت البلاد في هوة الإفلاس منذ زمن طويل، وهي تنحصر فيما يلي: أولاً: الأموال المرسلة من المهاجرين الشاميين المنتشرين في أنحاء الأرض ولا سيما في البلاد الأميركية حيث أصبح الشاميون يملكون ثروة كبيرة فيعاونوا أهلهم في الشام وتقدر هذه الأموال بمليون ليرة إنكليزية وبحسب إحصاء سنة 1922. ثانياً: واردات الاصطياف والسياحة وهي تقدر بخمسة عشر مليوناً من الفرنكات. ثالثاً: فوائد الأموال والأسهم والقطع المالية الموجودة في أيدي السكان وهي تقدر بثلاثمائة وخمسين ألف ليرة إنكليزية. إلى غير ذلك من الموارد الأخرى الضئيلة. ما يجب للنجاح في الاقتصاديات: لنجاح تجارتنا ورقي صناعتنا لا بدّ لنا:

أولاً: تأليف الشركات الصناعية لتأسيسها على الأصول الميكانيكية الحديثة، ومتى تم لنا الظفر للقيام بمثل هذه المعاهد نعتقد أننا بدأنا نقاوم تيار الصناعات الغربية لتحل محلها صناعتنا الجميلة، الممتازة بقوتها ومتانتها، خصوصاً وإن رخص اليد العاملة ورخص المواد الأولية كفيلان بنجاح كثير من صناعتنا بالنظر لتوفر هذين الشرطين الأساسيين. ثانياً: وضع الرسوم الجمركية على قاعدة حماية الصناعة الوطنية. ثالثاً: العناية الفائقة بتحسين زراعتنا وعلى الأخص منها القطن والقنب والفاكهة والعناية بتصديرها إلى الخارج. وكذلك القول في زراعة التبغ. وعلى ذكر هذا الصنف العظيم لا بد من القول إن بقاء شركة حصر الدخان أضر بزراعة الدخان ضرراً بليغاً حال دون الاستفادة منه فائدة تعود بالخير والنماء، إذا كانت حرة طليقة من قيود هذه الشركة واستبداد رجالها. ومن المحقق أن تنشيط زراعة الدخان على أنواعه وتشجيعه يقلل من هجرة المهاجرين وتخفيف قوة تيارها الجارف ويقتصد للبلاد مبالغ طائلة تدفعها ثمناً للدخان الأجنبي. رابعاً: جعل عملة البلاد على قاعدة الذهب، ذلك لأن وضع عملة البلاد الشامية على قاعدة الفرنك الفرنسي واستصدار الأوراق النقدية السورية على هذا الأساس قد أضر الأسواق التجارية ضرراً بليغاً، وسبب لها خسائر كبيرة بسبب صعوده وهبوطه المتوالي. خامساً: الإقلال من استعمال الكماليات وأدوات الزينة والترف وبذل الغيرة في استعمال المصنوعات الوطنية بقدر الإمكان لا سيما الحلويات والسكاكر الإفرنجية فإن مصنوعات البلاد من هذه الأنواع تفوقها جمالاً وإتقاناً ولذة، وقد ارتقت هذه الصناعة في البلاد رقياً حسناً كان من أثره تصدير كميات كبيرة منها إلى البلاد الغربية أيضاً وخصوصاً أصناف مرببات الفاكهة على اختلاف أنواعها، والاختصار على مصنوعات البلاد من هذه الأنواع يوفر مبالغ طائلة تقدر بمئات الألوف من الدنانير الذهبية. سادساً: تخفيف الضرائب على عاتق الأهلين فقد أصبحوا لا يطيقون

تجارة فلسطين في الدور الجديد:

حملها بالنظر لكثرتها وتعددها وزيادتها بالإضافات التي طرأت عليها، مع قلة أسباب الرزق وضعف موارد الاقتصاد. تجارة فلسطين في الدور الجديد: كانت تجارة فلسطين في العهد الأخير في صعود وهبوط وصادراتها أقل من وارداتها لكن التحسن مطرد في حالتها ويؤخذ من تقري إدارة الجمارك والمكوس والتجارة أن مجموع واردات الجمارك والمكوس والمواني كان سنة 1925 1109955 جنيهاً مصرياً يقابله 656880 ج. م في سنة 1924 وقد زاد الدخل من مكوس التبغ على 100 ألف جنيه. وأُعفيت من الرسوم الجمركية الفحم والكاز والوسخ وزيت ديزل وسدلر والمازوت والبراميل والمواد الأولية التي تدخل في الصابون وكسر بزر الزيت والدباغة والنسج. وأُعفيت أيضاً بضائع قيمتها 59244 ج لما تقضي به حقوق المعاهدات الدولية. وبلغ مجموع قيمة الواردات 7338491 ج مقابل 5266349 في سنة 1924 ومجموع قيمة الصادرات من نواتج فلسطين 1297559 مقابل 1200812 في السنة التي قبلها وكانت أهم الزيادة في الواردات الحبوب والدقيق ومواد البناء والبضائع القطنية والأدوات والسيارات وأنواع الكاز. وبلغ ما بيع من الملح 4794 طناً مقابل 3457 طناً في سنة 1924. إن انتعاش التجارة من أزمة سنة 1923 الذي ابتدأ منذ سنة 1924 قد ظلّ مستمراً بتأثير النازحين الجدد وما جلبوه معهم من رؤوس الأموال التي أودعوها المصارف فسهلوا بذلك إعطاء السلفات وقد هبط معدل الفائدة إلى أدنى رقم منذ الاحتلال، ولكن المشتريات المبنية على المضاربة توقعاً لزيادة الطلب وعلى الخصوص فيما يتعلق بتجارة المباني واستثمار الأموال في أبنية واسعة النطاق مع مشترى الأرض أدت إلى قلة النقد فنتج عن ذلك قبض المصارف يدها عن التسليف. وقد زاد معدل المعيشة بنسبة 4. 4 بالمائة عن سنة 1924 وارتفعت أسعار الجملة 7. 2 بالمائة. وبلغت صادرات البرتقال 1868291 صندوقاً مقابل 1880783 في سنة 1924 وكانت الأسعار عالية وكان معدل المبيعات الأولى 12 - 15 شلناً

الصندوق. وكسدت تجارة الخمور الصادرة وقل الوارد منها 7850 ج م وصدر من الصابون 5855 طناً قيمتها 247725 وأُدخل تحسين على صناعته فصار يعمل منه الصابون المطيب. وفي فلسطين سبعة معامل للتبغ واللفائف وسبعة معامل للتنباك وكان ناتجها من أول أيار 219800 كيلو غرام من اللفائف و 12000 من التبغ المفروم و 40 في المائة من التبغ المصنوع في المعامل وهو من ناتج فلسطين والمساحة المزروعة تبغاً وتنباكاً في فلسطين هي ثلاثة آلاف آكر الآكر 52 آراً والآر مائة متر مربع وما زال تهريب التبغ مستمراً على درجة واسعة. وقسمت الواردات المستهلكة في فلسطين في سنة 1925 أربعة أقسام منها 1987110 ج ثمن مأكولات ومشروبات وتبغ و 627518 مواد خام وبضائع أكثرها غير مصنوع و 3967518 بضائع مصنوعة كلها أو معظمها و 756344 صادرات شتى. وأهم مصادر الواردات ونسبتها إلى المجموع بريطانيا العظمى 3083156 ج أي 14. 5 بالمائة وسورية 1017903 أي 14. 5 في المائة وألمانيا 930439 أي 12. 0 في المائة وأميركا 166999 أي 9. 5 وبلدان بريطانية أخرى 583550 أي 7. 5 وفرنسا 563689 أي 7. 5 ومصر 375169 أي 5. 5. وتقسم الصادرات إلى مأكولات ومشروبات وتبغ وقيمتها سنة 1925 882234 ومواد خام وبضائع أكثرها غير مصنوع 66808 بضائع مصنوعة كلها أو معظمها 300128 وأشياء أُخرى 48339 وأهم موارد الصادرات مصر ويصدر إليها بما قيمته 577277 ج أي 44. 5 في المائة وبريطانيا العظمى 443774 ج أي 30 في المائة وسورية 158102 أي 12. 5 وأميركا 25600 وفرنسا 22932 وألمانيا 20190 وإيطاليا 11968 وأهم الزيادة في لصادرات التي كانت في البرتقال وصابون الغسيل فزادت صادرات الأول 91115 والثاني 43834 ج. ويعرف مركز البلاد الحقيقي ويقدر ما لها وما عليها من ميزان تجارة البلاد لسنة 1923 وهو ميزان صحيح في الجملة مأخوذ من قلم إحصائي دائرة التجارة ومن بعض ذوي الخبرة والاختصاص.

تجارات الأمم المختلفة في الشام:

ومن الأسباب العديدة التي تحول دون الإنتاج في الوقت الحاضر وفي فلسطين قلة الأيدي العاملة من بشر وحيوان وقلة العمال الفنيين في سبيل الإنتاج المختلفة ومشكلة الأرض وخصوصاً المشاع وقلة رؤوس الأموال اللازمة للقيام بالمشاريع الكبرى. تجارات الأمم المختلفة في الشام: يقدر الخبيرون الواردات إلى سورية ولبنان من القارات الخمس بثمانية

ملايين دينار ذهبي مسانهةً وغالب ذلك من الأشياء الكمالية التي تقتضيها حالة الحضارة والترف، فمن أهم ما تستورده الشام من فرنسا الكتب المدرسية والمطبوعات العلمية والأدبية والسياسية وأدوات الكتابة من أقلام ومحابر وورق وأنوال النسيج الإفرنجية ومواد الصيدلة والعقاقير والمستحضرات الطبية وآلات الجراحة ومعدات موائد الطعام من سكاكين وملاعق ومتممات اخونة الطعام ولوازم القاطرات الحديدية والشاحنات، ومن مواد البناء الترابة الكلسية والطوب والقرميد والبلاط الصناعي وآلات النجارة ومعدات الأبواب والنوافذ الحديدية والآلات الكاتبة من عربية وإفرنجية وأسلحة الصيد والمسدسات مع ما يلزمها من القذائف والبارود، والأجواخ الصيفية على اختلاف أنواعها، وثياب النساء حريرية وقطنية، وأوان خزفية وبلورية وروائح عطرية على اختلاف أنواعها، والخمور والدقيق والمطابع وما يقتضي لها عن حروف وآلات طابعة والمواد الكيماوية وغير ذلك. ومن أهم ما نستورد من إنكلترا القصدير والمعادن والأجواخ الشتوية الغالية الثمن، والمنسوجات القطنية وهي أنواع كثيرة والغزل بأنواعه والموسى والسكاكين المعروفة بالإنكليزية وسرر النوم على اختلاف أنواعها المعمولة من الحديد والنحاس وسرر السفر وبعض مطبوعات علمية وأدبية وأسلحة الصيد والمسدسات وما يتبعها وكثير من العقاقير والمستحضرات الطبية وآلات الجراحة والأسلاك النحاسية والمركبات ولوازمها. وأهم ما يرد على الشام من إيطاليا ألبسة الصوف على اختلاف أنواعها وأكسية القطن كالمدام واليمني والأجواخ الرخيصة الثمن والرخام المرمر الملون وبعض مطبوعات علمية وأدبية وقسم من السيارات والمركبات. وأهم ما يردنا من ألمانيا المطبوعات العلمية والأدبية وورق الكتابة وأدوات النجارة على تعدد أنواعها وأشكالها من مناشير ومطارق وأدوات الأبواب والنوافذ الحديدية وسرر النوم من النيكل والحديد والنحاس وسرر السفر والمسامير وأسلحة الصيد والمسدسات وتوابعها والرصاص والقصدير والأواني الخزفية وآلات الجراحة والعقاقير والمستحضرات الطبية والأواني النحاسية من طسوت وأباريق وأواني الحديد المدهون المستعمل في المطابخ والأصباغ على أنواعها والأدوات الكهربائية

على تنوع ضروبها والآلات الرافعة للماء وأدوات الزراعة الحديثة والجوخ. وأهم ما يرد من النمسا صناديق الحديد والمقاعد والكراسي الخشبية المعروفة الخيزران والورق. ومن المجر الكبريت والفاصوليا. ومن روسيا سخانات بشاي الفاخرة السماورات منها الأبيض ومنها الأصفر، وخيطان الفضة المموهة وتدخل في الصناعة الشامية لوشي الحرير، والبترول والطنافس والبسط الغاليا الثمن، والفراء الفاخرة والأحذية المطاطة. وأهم ما تصدر إلينا بلجيكة بلور المرايا وزجاج النوافذ وأسلحة الصيد والمسدسات وحديد البناء وحديد الصناعة ولوازم حافلات الكهرباء وآلات الزراعة. وثياب وأجواخ كثيرة والصودا والسلك والورق. ومن بولونيا الخشب والمسامير. ومن أسبانيا القمصان والجوارب والفلين والزئبق وبعض الأدهان. ومن سويسرا الساعات الذهبية والفضية للنساء والرجال والمطرزات الصيفية من الأكسية والدنتلا والشوكولاته والجبن واللبن المعقم والزبدة وأدوات النسيج والأحذية. ومن هولاندة الجبن والغليسرين والسبيرتو والجعة والشمع والملبس دروبس والبسكوت والدهان والأواني الخزفية والحليب المعقم والكتب العربية الجيدة. وأهم ما يردنا من السويد الكبريت والمقوّى. ومن النروج زيت السمك والقطران وزيت النفط التربنتين. ومن الدانيمارك الحليب المعقم والسمك المقدد والمغموس بالزيت والجعة. ومن البرتقال سمك السردين. ومن التشيكو سلوفاكيا السكر والبلور والمالقي والجوخ العربي والجوخ العادي والأزرار والطرابيش والحرامات الصوف والأواني الزجاجية. ومن بلغاريا الجبن البلغاري ومن رومانيا الأخشاب وتعرف بالقطراني والشوح وقليل من البترول. ومن اليونان التبغ والزيوت والكونياك. ومن أميركا الشمالية والجنوبية آلات الخياطة والسيارات وما ينبغي لها والدراجات والمركبات والزيوت المعدنية والبترول والألكحول والبنزين والأحذية والقهوة والخشب المعروف بالأميركاني والساعات الأميركانية وآلات الهاتف والبرق والمطاط وأدوات الكتابة. ومن أوستراليا الدقيق الأسترالي وغير ذلك. وأهم ما يرد علينا من اليابان والصين الخزف الصيني والياباني وهو أشكال متعددة والحصر المنقوشة والحرير الياباني والصيني والغزل والشاي الصيني

والخام من اليابان والصين والحرير من شنغاي. ومن جاوة بطريق الحجاز الشاي والقهوة وثياب الحرير الصفيق المعروفة بالاستكروزة. ومن طرابلس الغرب وتونس والجزائر والغرب الأقصى نسيج صوف فاخر يعرف بالحرام وهو دثار الشتاء وحرير للصناعة هو أحسن أنواع الحرير. ومن الجزائر النبيذ الفاخر. ومن السودان الفول السوداني وبعض البهارات والصمغ والريش والعاج. ومن الحبشة القهوة. ومن مصر الثياب الصوفية يخيطونها عباءات في فلسطين والشال الحريري والأرز والسكر والمطبوعات العربية في مختلف العلوم والفنون. ويردنا من تركيا الأحجار الكريمة وبعض مصنوعات الصياغ من الأواني الفضية الدقيقة الصنع، والبسط الأورفلية نسبة إلى أورفة والطنافس وغالبها تعرف بأسماء البلدان التي تعمل فيها فيقال لها الرشواني والقيصري والكرداسي وتستورد الشام من بلاد الكرد الغنم والخيل المعروفة بالجلب وهي لحمل الأثقال والحرث والبسط والطنافس واللبد المعروفة بالكردية. وأكثر ما تبعث العراق البسط المعروفة بالبغدادي والعباءات المعروفة بالجيلانية نسبةً إلى جيلان والملاءات الحريرية وتعرف بالبغدادية يتخذها نساء القرى الشامية غطاءً. وأهم ما نتناوله من اليمن والحجاز البن أو القهوة المعروفة بالعدنية، ومن المدينة المنورة بعض الطيوب والمراوح والتمر والحناء. ومن نجد الإبل والخيول العربية المشهورة. وأهم ما يرد من بخارى الطنافس والبسط المفتخرة وتعرف بأسماء حواضرها. ويرد من الأفغان الطنافس والبسط الجيدة وتعرف بالأفغاني. ومن الخليج الفارسي اللؤلؤ ومصنوعات يدوية من بسط وطنافس وخراج وأعبئة. ومن فارس الشال الثمين والبسط والطنافس وعباءات الوبر وتعرف بأسماء حواضرها فيقال الشيرازي، التبريزي، الهمداني، الخراساني من حواضر فارس، ومن أهم مجلوباتنا التنباك الأصبهاني وهو كثير المقطوعية في الديار الشامية والأسلحة البيضاء من مدى وخناجر وسيوف وتعرف بالعجمية، والخاويار يجلب الآن من بحر الخزر. وأهم الوارد من بلاد الهند الطيوب من مسك وعنبر وعود وكافور

رأي في ازدياد الثروة والتجارة:

والنيل والشاي على اختلاف أنواعه ومصنوعات النحاس من أباريق وطسوت وطاسات وأقداح صغيرة وكبيرة وصحاف تعرف بالهندي والبهارات والأفاويه بأنواعها. والشال البديع من صناعة كشمير ولاهور، ويساوي الثوب منه وطوله ثلاثة أمتار بعرض متر ونصف من أربعين إلى خمسين ديناراً. هذا مجمل ما يأتينا من الأرجاء المختلفة من ضرو بالحاجيات والكماليات، عدا أصناف المأكولات من شوكولاته وثمار محفوظة وبقول وحبوب ودقيق وفاكهة ولحوم مقددة وأنواع السكاكر الإفرنجية، مما يصدر إلينا بحسب اللزوم ورواج سوقه إذا أُصيب القطر بآفة في نواتجه، وهذه الأصناف المجلوبة تدل على دقة نظر تجارها وحسن انتقائهم، وضربهم في طول الأرض وعرضها، حتى لا تكاد ترى فيما نعلم بلداً في الأرض لم ينزله شامي يبيع أو يشتري. ويقال في الأمثال العامة: أعرج الشام وصل الهند، وإذا تأملت هذه المجلوبات الصناعية وجدتها مثال الجمال والمتانة مما يدل على ذكاء مستهلكيها ورسوخ قدومهم في الحضارة والترف. وقطر كهذا بينه وبين الغرب صلات مستحكمة في التجارة منذ أكثر من ألفي عام وبينه وبين الشرق صلات مثلها منذ عرف التاريخ هو عميل قديم أمين جدير بأن ينظر إليه بعين العطف ويهتم بشأنه أهل الغرب اه. رأي في ازدياد الثروة والتجارة: بعد أن عرفنا بالفصول السالفة تاريخ التجارة في هذا القطر، وعلائقة مع الأمم في القديم، ووقفنا على حالة تجارته اليوم، وصلاته الاقتصادية مع الشرق والغرب، ورأينا العجز الظاهر في موازنته واختلال مجاريه الاقتصادية وأن دخله أقل من خرجه في الجملة، يجدر بنا أن نلفت نظر أرباب الشأن في الأمة، إلى أن الشام باعتدال أهويته وجميل طبيعته، وتوسطه بين أقطار الشرق والغرب، وما في تاريخه وآثاره من البدائع والروائع، يستطيع أهله أن يجعلوه محط رحال معظم المسلمين في آسيا وإفريقية، وأقرب السبل إلى ذلك في نظر المفكرين، أن يصلح ما تخرب في الثورة العربية من خط السكة الحجازية الممتد من دمشق إلى المدينة المنورة، ويتم مد الخط الحديدي

إلى مكة المكرمة وجدّة، وعندها يستطيع حجاج العراق وفارس وأفغانستان وبلوجستان والهند والصين وغيرها أن يسلكوا إلى الأرض الطاهرة عن طريق الشام من العراق على السيارات ريثما يمد خط حديدي عريض، وتكون دمشق المحطة المهمة للصادرين والواردين، ودمشق هي المدينة الإسلامية الرابعة بقدسيتها، بين أكثر أقطار الشرق الإسلامي وبين الحجاز، فإذا تم ذلك لا يقل عدد الحجاج الذين يؤمون دمشق عن ثلاثمائة ألف كل سنة، فإذا صرف الفرد عشرة دنانير، واصطاف في الشام من العراقيين والمصريين عشرون ألفاً كل سنة على أقل تعديل، وزارها عشرون ألفاً من سياح الإفرنج، لا يقل ربح الشاميين كل سنة عن أربعة إلى خمسة ملايين دينار من هذه الطرق التجارية. ومما يسهل الوصول إليه عقد معاهدة بين حكومة الشام والحكومات المجاورة. حينئذ يعمر الحجاز وتتم للشام سعادتها لأنها بالسكة الحجازية كانت تمون الحجاز قبل الحرب الكبرى فيسافر كل يوم من دمشق سبع مركبات تحمل من الطعام والبضائع ما لا يقل وزنه عن مئة ألف كيلو، وناهيك بذلك من تبادل المنافع بين هذه الأقطار والممالك، وما في ذلك من تيسير سبل الحج على شعوب لا تقل عن مائة وثلاثين مليوناً في العدّ، كانت ترحل الأشهر لتحج واليوم تكفيها الأسابيع القليلة مهما بعُدت عليها الشقة إذا امتطت هذه السيارات وهذه القطارات، ثم إذا تم إنشاء الخط الحديدي بين طرابلس وحيفا تتصل كالة في فرنسا بالقاهرة عن طريق أوربا وتركيا وتصبح الشام نقطة الاتصال بين أوربا وآسيا وإفريقية وفي ذلك من الفوائد لتجارة الشام ما لا ينكر. انتهى الجزء الرابع من خطط الشام ويليه الجزء الخامس وأوله التاريخ المدني - الجيش.

البيع والكنائس والأديرة

البيع والكنائس والأديرة بيوت العبادة عند الأقدمين: لم يخلف التاريخ الصحيح مستنداً يركن إليه في وصف بيوت العبادة عند قدماء سكان أيام كانوا يعبدون الأصنام والأوثان ثم بعد أن أصبحوا يعبدون النيران. فلا نعرف إذاً شيئاً يعتد به عن هياكل الفينيقيين في صور وصيدا وبيروت وجبيل ولا عن هياكل مشارف الشام الجنوبية ولا عن بيوت النيران في حلب ولا عن بيوت العبادة عند الحثيين والبابليين والآشوريين ولا عن هيكل الرب مرناس الذي كان يعبد في غزة، ويحجون إلى هيكله من الأقطار ولا عن معبد المشتري جوبيتر الذي أنشأه أدريانوس الرومان الذي وجد جبل جرزيم فوق نابلس، ولا عن هياكل المشتري معبود الرومان الذي وجد في السخنة بين تدمر ودير الزور، ولا عن هيكل اليونان في أنطاكية، ولا عن هيكل بزبزة بالغرب من كوسبة في لبنان، ولا عن بعل مرقد في أطلال دير القلعة قرب بيت مري بلبنان، ولا عن هيكل الزهرة في أفقة في جبل كسروان. والهيكل الباقي من هياكل القدماء هو هيكل بعلبك وقليل أمثاله جداً مما صبر على ضربات الدهر. أما كنائس اليهود فقد تبين أنهم شرعوا بإنشاء كنيس لهم في سبي بابل

منشأ الأديار والبيع:

يجتمعون فيه ويتعبدون. وأهم ما كان من كنائسهم كنيسهم في القدس بنوه بعد رجوعهم من بابل بجانب المعبد وقسموه قسمين قسم للرجال وقسم للنساء، ثم كثرت الكنائس في المدن الصغرى والكبرى في كل بلد كان فيها لليهودية معتقدون وأنصار. ولكل كنيس خزانة مقدسة تقام في داخل البناء على خشب وتجمعل متجهة نحو القدس وهي مغشاة بالكتان وفيها الطوامير المقدسة وأمام الخزانة ستار يذكر بستار المعبد وفي وسطه أمام الخرانة شيء أشبه بمنبر. هذا غاية ما يقال في هياكل القدماء وبيوت عباداتهم، وكيف السبيل إلى وصف المعابد القديمة والتاريخ لا يعرف شيئاً يعتد به عن العالم الإسرائيلي بل ولا عن نصارى القرون الأولى، وكل ما يعرف عن موسى وعن قضاة إسرائيل وداود أو المسيح والحواريين لا يكاد يملأ سوى صفحات قليلة والنصرانية نفسها لم تنتشر في الشام إلا في اقرن الرابع للميلاد على يد قسطنطين أو أم قسطنطين بن قسطنطين باني القسطنطينية وهو الذي بني كنائس كثيرة بدمشق وغيرها حتى يقال إنه بني في زمانه اثني عشر ألف كنيسة. ولا بد لنا قبل وصف الكنائس والبيع والأديار أن نعرفها تعريفاً يقربها من جميع الأذهان ولا يوقع فيها لبساً. فالدير كما قالوا في تعريفه بيت يتعبد فيه الرهبان ولا يكاد يكون في المصر الأعظم إنما يكون في الصحاري ورؤوس الجبال فان كان في المصر كانت كنيسة أو بيعة. وربما فرق بينهما فجعلوا الكنيسة لليهود. والبيعة للنصارى. وقال بعضهم: البيعة متعبد النصارى وقيل: كنيسة اليهود. والأولى أن تطلق الكنيسة على متعبد النصارى والكنيس على متعبد اليهود. وجاءت لفظة الدير من الدار والجمع أديار والديراني صاحب الدير والذي يسكنه ويعمره. ويقال له ديار. ويقال دير وديرة وأيار وديران ودارة ودارات وديرة ودير ودور ودوران وأدوار ودوار وأدورة. منشأ الأديار والبيع: أنشئت الأديار الأولى في الشام، فهي نوطنها الأول، ذلك أن من

المسيحيين من أخذوا يألفون العزلة لأول ظهورهم في صعيد مصر وجبال إنطاكية ينقطعون للنسك. ولما زاد عدد هؤلاء الناسكين دعت الضرورة إلى إنشاء أكواخ منفردة أشبه بعمرات جعلت برئاسة رئيس. وأنشئت دور عظيمة يعيش فيها أولئك الزهاد عيشة مشتركة يجمعهم سقف واحد وتسيرهم إدارة رئيس واحد. ثم اتحدت تلك الأكواخ والبيوت. وأنشئت أديار في المدن تولاها الأساقفة وانتقل ذلك إلى الغرب. وكما كانت الشام منشأ الأديار كذلك كانت أول من وضع هندسة الكنائس ذات القباب، فقد جرت في هندستها لأول مرة على مثال المعابد القديمة، فالشام إذاً أول من أنشأ الأدبار والكنائس كملا قامت فيها النصرانية واليهودية. قلنا: إنه يرد إنشاء الكنائس إلى عهد قسطنطين أن ثيودوسيوس الكبير حول بعض هياكل الوثنيين في بعلبك إلى كنائس فبنى كنيستين في القلعة إحداهما في وسط البهو الكبير القائم أمام هيكل الشمس. وقال المسعودي: إن هيلاني بنت بإيليا الكنيسة المعروفة بالقيامة في هذا الوقت الذي يظهر منها النار في يوم السبت الكبير الذي صبحه الفصح وكنيسة قسطنطين وديارات كثيرة للنساء والرجال على الجبل المطل على مدينة بيت المقدس المعروف بالطور وهو بإزاء قبة اليهود وعمرت مدينة إيليا عمارة لم يكن قبلها مثلها ولم يزل ذلك عامراً إلى أن أخربته الفرس حين غلبت على مصر والشام. تكاثرت الكنائس والأديار في الشام فلم يمض على انتشار النصرانية قرنان حتى زاد عدد الأدبار والبيع على صورة مستغربة حتى إن الغسانيين ولعوا أيضاً بعمارة الأديار في الجزء الذي ارتفع سلطانهم عليه في الجنوب على عهد ملوك الروم فشادوا دير حالي ودير أيوب ودير الدهناء ودير ضخم ودير النبوة. واشتهر الغساسنة بإقامة الديرة والبيع وكانوا كما قبل يعتمدون ببنائهم الموضع الكثيرة الشجر والرياض والمياه ويجعلون في حيطانها وسقوفها الفسافس والذهب ومثلهم كان شأن آل المنذر بالحيرة وبني الحارث بن كعب بنجران من بيوتات العرب.

أعظم الكنائس وأقدمها:

أعظم الكنائس وأقدمها: ويظهر أن كنيسة القبر المقدس في القدس هي أقدم كنيسة في الشام قامت في مكان نظر إليه في كل وقت بأنه مقدس. وذكر الأسقف أو سابيوس القيصري 314 - 340 وهو والد تاريخ الكنيسة أن في الحفريات التي جرت على عهد الملك قسطيطين اكتشفت مغارة المخلص المقدسة. وزاد المؤرخون المحدثون أن الملكة هيلانة والدة قسطنين المتوفاة نحو سنة 326م زارت القدس واكتشفت القبر المقدس وصليب يسوع، فالبنات التي أقيمت في ذاك المكان سنة 336م هي من البناء المدور قد دعي كنيسة القيامة ومؤرخو المسلمين يسمونها كنيسة القمامة كما كان هناك كنيسة كاتدرائية خاصة برمز الصليب وقد أحرق الفرس هذين المكانين سنة 614م. وأعاد هرقل بناء ما كان خرب كسرى من الكنائس في مصر والشام، وذكر المؤرخون أن الفرس خربوا كنتئس القدس بمعاونة اليهود ومما خربوا كنيسة الجسمانية وكنيسة المنية وظلتا خراباً إلى القرن الرابع من الهجرة، ولما انصرفوا عمر النصارى كنيسة القيامة والمقبرة والاكرانيون وما قسطنطين وأحدث الراهب مودست رئيس دير تيودوس في سنة 616 و626 كنيسة القيامة وكنيسة الصليب وكنيسة الجللجة وأضيفت سنة 670 إلى الجنوب كنيسة للعذراء. ولما فتحت القدس وجاء الخليفة عمر بن الخطاب أدركته الصلاة فلم يرض أن يصلي في كنيسة القيامة لئلا يكون بعده للمسلمين حجة في أخذها وبني مقابلها جامعاً ومصلى. ولما تنصر الروم على رواية ابن بطريق وبنت هيلانة أم قسطنطين الكنائس في بيت المقدس كان موضع الصخرة وحولها خراب فترك، ورموا على الصخرة التراب وهذه التي بني عليها المسجد الأقصى، ثم ذهب الخليفة إلى بيت لحم فحضرته الصلاة فصلى داخل الكنيسة عند الحنية القبلية، وكانت الحنية كلها منقوشة بالفسيفساء، وكتب عمر للبطرك سجلاً أن لا يصلي في الموضع من المسلمين إلا رجل واحد بعد واحد ولا يجمع فيه صلاة ولا يؤذن فيه ولا يغير فيه شيء. وكنيسة بيت

لحم من الكنائس القديمة المشهورة أنشأها قسطنطين سنة330 فكانت كاتدرائية كبرى وأنشأ يوستنيانوس حيطانها وأقيمت فيها أديار وكنائس كثيرة حتى أطلق عليها سنة ستمائة للميلاد اسم المكان الزاهر. ومن أشهر كنائس الشام كنيسة دمشق المعروفة بكيسة مار يوحنا مكان الجامع الأموي اليوم، صالح المسلمون على نصفها الشرقي لأنهم اعتبروا دمشق بما فتح صلحاً وعنوة، فكان النصف من هذه الكنيسة العظمى، التي كانت أكبر معابدهم على رواية ابن كثير، في النصف الذي فتحه خالد بن الوليد بالسيف. وكان بدمشق خميس عشرة كنيسة كتب بها عمر بن الخطاب كتاب أمان وأقر ما بأيدي النصارى أربع عشرة كنيسة، فجعل أبو عبيدة من الكنيسة الكبرى مسجداً. فكان المسلمون والنصارى يدخلون من باب واحد وهو باب المعبد الأصلي في القبلة؟ جرجس بن العميد: وقيل إن الوليد بذل للنصارى في كنيسة مار يوحنا أربعين ألف دينار فلم يريدوا أن يأخذوا المال فأخذها فأخربها ولم يعطهم شيئاً. وفي تواريخ دمشق أن النصارى رفعوا إلى عمر بن عبد العزيز في خلافته ما بيدهم من عهد أبي عبيدة بن الجراح من أن كنائسهم لا تهدم ولا تسكن وان الوليد أخذ كنيسنهم بغير حق قهراً، فلما رأى عمر ذلك منهم دفع لهم مالاً يرضيهم به حتى بلغ مائة ألف فأبوا، فكتب إلى محمد بن سويد الفهري أن يدفع إليهم كنيستهم أو يرضيهم في ذلك. فلما وصل كتاب عمر إلى دمشق أعظم الناس ذلك وفيهم يومئذ بقية من أهل الفقة، فشاورهم محمد بن سويد فقالوا: هذا أمر عظيم ندفع إليهم مسجدنا وقد أذنا فيه بالصلاة وجمعنا فيه يهدم ويعاد كنيسة. فقال رجل منهم: هنا مسألة فإن لهم كنائس عظاماً حول مدينتنا وهي دير مران والكنيسة بباب توما وغيرها من الكنائس أن أحبوا أن نعطيهم كنيستهم فلا يبقوا حول مدينة دمشق ولا بالغوطة كنيسة إلا هدمت أو نبقي لهم جميع كنائسهم ويتركوا هذه ونسجل لهم بذلك سجلاً، فرضي النصارى على أن يسجل لهم الخليفة سجلاً منشوراً بأمان على ما بدمشق والغوطة من كنيسة أن تهدم أو تسكن. وهكذا استحالت كنيسة مار يوحنا إلى مسجد جامع للمسلمين أخذوه بحكم الفتح

وأرضوا أنباء ذمتهم على كل حال. وما ندري كيف آل إلى هؤلاء من اليهود أو إلى النصارى من الصابئة وغيرهم. ولعل التقليد القائل بأن في الجامع رأس يحيى بن زكريا عليهما السلام أتي من كون الكنيسة كانت على اسم مار يوحنا هو يحيى والله أعلم. وخاصم النصارى حساناً بن مالك الكلبي إلى عمر بن عبد العزيز في كنيسة بدمشق فقال له عمر: إن كانت من الخمس عشرة كنيسة التي في عهدهم فلا سبيل لك إليها. وقال غيره: خاصمت العرب في كنيسة بدمشق يقال لها كنيسة ابن نضر كان معاوية أقطعهم إياها فأخرجهم عمر بن عبد العزيز منها فدفعها إلى النصارى فلما ولي يزيد ردها إلى بني نضر. وفي كتاب سجل يحيى بن حمزة أن النصارى ذكروا لعمر بن عبد العزيز أن عتقاء العرب قد سخروا بهم وبرئيسهم وبدينهم وجماعتهم من أهل القرى وأن أولئك العتقاء أحلاف وفرق وأنهم غلبوا على كنائسهم وسألوا الوفاء لهم بما في عهدهم وبما في الكتاب الذي كتبه لهم خالد بن الوليد عند فتح مدينتهم فأمرهم أن يأتوا بحجتهم فأتوا بكتاب خالد بن الوليد فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أعطى خالد بن الوليد أهل دمشق يوم فتحها أعطاهم أماناً لأنفسهم ولأموالهم وكنائسهم لا تهدم ولا تسكن لهم على ذلك ذمة الله وذمة الرسول عليه الصلاة والسلام وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين لا يعرض لهم أحد إلا بخير إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية شهد بهذا الكتاب يوم كتب عمرو بن العاص وعياض بن غنم ويزيد بن أبي سفيان وأبو عبيدة بن الجراح ومعمر بن غياث عتاب وشرحبيل بن حسنة وعمير بن سعد ويزيد بن نبيشة وعبد الله بن الحارث وقضاعي بن عمر وكتب في شهر ربيع الأول سنة خمس عشرة. قال يحيى بن حمزة فنظرت في كتابهم فوجدته خاصة لهم، وفحصت عن أمرهم فوجدت فتحها بعد حصار، ووجدت ما وراء حائطها آثاراً وضعت لدفع الخيل ومراكز الرماح، ونظرت في جزيتهم فوجدتها وظيفة عليها خاصة دون غيرهم، ووجدت أهلها عند فتحها رجلين رجلاً رومياً قتلته الحرب أو نفته، ومساكنهم قسمة بين المسلمين

مبدأ هدم الكنائس:

معروفة لا تخفى، ورجلاً من أهلها حقن دمه هذا العهد، فمساكنهم وكنائسهم مع دمائهم لهم لم تسكن، ولم تقسم معروفة ليس تخفى، فقضيت لهم بكنائسهم حين وجدتهم أهل هذا العهد وأبناء البلد، ووجدت من نازعهم لفيفاً طرأ وذلك لو أنهم أسلموا بعد فتحها كان لهم صرفها مساجد ومساكن. فلهم في آخر الدهر ما لهم في أوله وأثبت في الأصول قبل وأشهد الله عليه وصالح المؤمنين، وفاء بهذا العهد الذي عهده لهم السابقون الأخيار فلم يكن بينهم خاصة في ذلك اختلاف نظر لهم. . وقضيت لمن نازعهم بما كان لهم فيها من حيلة أو آنية أو كسوة أو عرضة أضافوا ذلك إليها أن يدفع ذلك إليهم بأعيانها إن قدروا عليه وسهل قبضه، أو قيمة عدل يوم ينظر فيه شهد الله على ذلك اه. هذا ما كان من المسلمين مع أبناء ذمتهم ومراعاة العهود التي قطعوها على أنفسهم. ولم تزل سيرة خلفاء بني أمية وبعض بني العباس مع النصارى وكنائسهم سيرة الخليفة الثاني والفاتحين من الصحابة الكرام. فقد بنى أبو جعفر المنصور كنيسة في دمشق لبني قطيطاني الغوريق، ذكر ذلك ابن عساكر. ولما وقع حريق في كنيسة مريم بدمشق أيام أحمد بن طولون أمر أن تفرق على أهل الحريق سبعون ألف دينار ففضل عنهم أربعة عشر ألف دينار فأمر أن تفرق عليهم على قدر سهامهم ثم أمر ففرق على أهل دمشق وغوطتها مال عظيم فأقل من أصابه من ذلك دينار. مبدأ هدم الكنائس: أول حادث وقع في تخريب الكنائس قبل الإسلام كان لما ثار بفلسطين أهل السامرة وهدموا في سنة إحدى وعشرين وخمسمائة الكنائس كلها وأحرقوها من بيسان إلى بيت لحم وقتلوا النصارى وعذبوهم عذاباً شديداً فأعاد يوستنيانوس الكنائس وكتب إلى عامله في فلسطين أن يعفي أهلها من الخراج ويعمر بها الكنائس والديارات وبني بيمارستاناً للغرباء في القدس. وبقدر ما رأى النصارى من عدل المسلمين معهم أيام عزهم أخذ بعض ملوكهم بعد القرن الثالث يحكمون العواطف بدل العقل في الكنائس

والبيع، وكان من أثر ذلك أن نالت السياسة من بيوت العبادة فكان إذا أحس القائم بأمر المسلمين أن قومه في شدة في ديار الحرب انتقم من أهل ذمته في ديار الإسلام، وسلط العامة من طرف خفي ليخرجوا كنائس النصارى وبيعهم. قال القلقشندي: وفي السنة الأخيرة من رياسة البطريرك قسيما وهي سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة أحرق المسلمون كنيسة مريم بدمشق ونهبوا ما فيها وتتبعوا كنائس اليعاقبة والنساطرة. وقال ابن بطريق: إن هذه الحادثة وقعت في رجب سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة وذلك أن المسلمين في دمشق ثاروا فهدموا كنيسة مرتمريم الكاتوليقية، وكانت عظيمة كبيرة حسنة أنفق فيها مائتا ألف دينار، ونهبوا ما كان فيها من آنية وغير ذلك من حلي وستور، ونهبت ديارات وخاصة دير النساء الذي كان في جانب الكنيسة وشعثوا كنائس كثيرة للملكية، وهدموا كنيسة النسطورية. وثار المسلمون بالرملة وهدموا للملكية فيها كنيستين كنيسة مار قزماس وكنيسة مار كورقس وهدموا كنيسة عسقلان وقيسارية وذلك سنة 311. وثار المسلمون بكنيسة بيت المقدس وأحرقوا أبواب كنيسة قسطنطين القبلية سنة 325. وكان الداعي إلى ذلك ما وقع من اضطهاد المسلمين في الروم على الغالب فلم يجد ملوك الإسلام واسطة لتخفيف الشر الواقع على رعاياهم من أهل الإسلام إلا بالضغط على النصارى في ديارهم والتأثير في ملوك النصارى بضربهم في أكبادهم في كنائس هي مهوى قلوب أبنائهم في بيت المقدس وما إليها بدليل أن ابن بطريق نفسه قال بعد إيراد تلك الحوادث: وقع بين الروم والمسلمين هدنة مرضية في سنة ست وعشرين وثلاثمائة وقال في حوادث السنة التالية: إن المسلمين ثاروا في عسقلان فهدموا كنيسة كبيرة تعرف بكنيسة مريم الخضراء ونهبوا جميع ما فيها وأحرقت وعاضد المسلمين اليهود في هدمها. وكان اليهود يشعلون النار في الحطب ويجرونه بالبكر إلى أعلا السقوف حتى يحرقوها وينحل رصاصها وتقع عمدها وخرجت الكنيسة وبقيت خربة. وروى أيضاً أن الصناحي والي القدس

اضطهد بطريرك القدس فاستعدى عليه ملك مصر فأعداه فلم يستمع الوالي لذلك واختبأ البطريرك في كنيسة القيامة فهاجمها الوالي وأحرقوا أبوابها وسقطت القبة، وتوجه الرعية إلى كنيسة صهيون وأحرقوها ونهبوها. وهدم اليهود وأخربوا أكثر من المسلمين. وأهم ما نال الكنائس في الشام من الأذى، كان على عهد الحاكم بأمر الله الفاطمي فإنه لم يبق في مملكته ديراً ولا كنيسة إلا هدمها. ففي سنة 398 كتب الحاكم إلى دمشق بهدم كنيسة السيدة القاتوليكية فهدمت، وكتب إلى والي بهدم كنيسة القيامة في القدس وإزالة معالمها والقضاء على آثارها، وهدم الاقرانيون كنيسة ماري قسطنطين وسائر ما اشتملت عليه حدودها واستقصوا في إزالة الآثار المقدسة، وكان في جوار المقبرة دير للنساء يعرف بدير السري فهدم أيضاً. وكان ابتداء نقضها سنة أربعمائة ووضعت اليد على الأملاك والأوقاف وجميع ما في تلك الكنائس من آلاتها وحلاها. وعاد الحاكم بعد أن ضرب النصارى في كنائسهم في جميع أرجاء مملكته فأعطاهم عهداً كما كان يعطي الخلفاء العادلون ومنها هذا المنشور الذي أورده ابن بطريق: بسم الله الرحمن الرحيم أمر أمير المؤمنين بكتب هذا المنشور لنيقيفور بطريرك بيت المقدس بما رآه من إجابة رغبته، وأطلق بغيته، من صيانته وحياطته، والذب عنه وعن أهبل الذمة من نحلته، وتمكينهم من صلواتهم على رسومهم في افتراقهم واجتماعهم، وترك الاعتراض لمن يصلي منهم في عرصة الكنيسة المعروفة بالقيامة وخربتها، على اختلاف رأيه ومذهبه، ومفارقته في دينه وعقيدته، وإقامة ما يلزمه في حدود ديانته، وحفظ المواضع الباقية في قبضته، داخل البلد وخارجه والديارات وبيت لحم ولدّ، وما برسم هذه المواضع من الدور المنضوية إليها، والمنع من نقض المصلبات بها، والاعتراض لأحباسها المطلقة لها، ومن هدم جداراتها وسائر أبنيتها، إحساناً من أمير المؤمنين إليهم، ودفع الأذى عنهم وعن كافتهم، وحفظاً لذمة الإسلام فيهم، فمن قرأه أو قرئ عليه من الأولياء

والولاة، ومتولي هذه النواحي وكافة الحماة، وسائر المتصوفين في الأعمال، والمستخدمين على سائر منازلهم، وتفاوت درجاتهم، واستمرار خدمتهم، أو تعاقب نظرهم، في هذا الوقت وما يليه، فليعلم ذلك من أمير المؤمنين ورسمه، ويعمل عليه وبحسبه، وليحذر من تعدى وحده ومخالفة حكمه، ويتجنب مباينة نصه ومجانبة شرحه، ولقرّ هذا المنشور في يده حجة لمودعه، يستعين بها على نيل طلبه، وإدراك بغيته، إن شاء الله تعالى. وكتب في جمادى الأخرى سنة إحدى عشرة وأربعمائة. وفي أعلاه بخط الحاكم توقيع: الحمد لله رب العالمين. قال ابن بطريق، وانفتح حينئذ باب رجعة الكنائس ورد أوقافها عليها، وأطلق عمارة جميع الكنائس والديارات التي يستدعي منه الإذن فيها وفي عمارتها بمصر وفي سائر بلاد مملكته، وكتب لكل منهم سجلاً لإعادة أوقافها إليها، إلا ما كان من الأوقاف والكنائس قد بيع في وقت القبض عليها في دمشق وفي جميع بلاد الساحل، وصرف ثمنه في النفقات السلطانية، لضيق الأموال وقلتها، أو ما كان منها قد حصل لمن يتوقون شره من المسلمين. ولما تسامح الحاكم بعمارة الكنائس وتجديدها ورد أوقافها عاد الذين أسلموا من النصارى وقت الاضطهاد إلى دينهم لأمره وتسامحه. ولما هلك الحاكم وبويع لابنه الظاهر واستولت عمته على الملك بالفعل تقدمت بمسير نيقيفور بطريرك بيت المقدس إلى حضرة الملك ليطلبه بعودة الكنائس وتجديد كنيسة القيامة ببيت المقدس وسائر البيع في جميع بلاد مصر والشام ورجوع أوقافها إليها. وكان البطاركة أشبه بسفراء سلام بين ملوك الإسلام وملوك الروم. إذا وقع حيف على المسلمين في ديار أعدائهم يندبهم ولاة الإسلام إلى مطالعة الروم الواقعين في أسرهم، أو الراحلين إليهم في التجارة. ومما اشترط ملك الروم على الظاهر العبيدي في عقد الهدنة ثلاثة شروط منها أن يعمر الملك الظاهر كنيسة القيامة ببيت المقدس ويجددها من ماله، ويصيّر بطريركاً على بيت المقدس، وأن تعمر النصارى جميع الكنائس الخراب

التي في بلاد الظاهر. فقبل الظاهر ما شرطه الملك من بناء كنيسة القيامة ومن إقامة بطريرك ومن تجديد النصارى بقية الكنائس سوى ما كان منها قد عمل مسجداً. وقد علل مجير الدين الحنبلي عمل الحاكم في هدم البيع تعليلاً غير مقبول كثيراً قال: إنه بسبب ما أنهي إلى الحاكم من الفعل الذي يتعاطاه النصارى يوم الفصح من النار يوقدونها في سبت النور يوهمون أنها تنزل من السماء وقال: إن المستنصر بالله أبا تميم معداً، هادن ملك الروم على أن يطلق خمسة آلاف أسير ليمكن من عمارة القيامة التي كان خربها جده الحاكم فأطلق الأسرى. قال: والذي يظهر أن تخريبها لم يكن تخريباً كلياً بل كان في غالبها. وقد وقع في العصور التالية بعض حوادث من تخريب كنيسة أو بيعة كان السبب فيه داخلياً كأن يميل أهلها إلى عدو خارجي يداهم القطر، فقد استطالوا سنة 658هـ على المسلمين كما يقول المؤرخون فنهبهم المسلمون وخربوا كنيسة مريم بدمشق وكما وقع لهبة الله النصراني متولي خزانة السلطان فإنه كان تمكن من المسلمين وآذاهم، ورفع منار النصارى وتسلطوا بجاهه على المسلمين، وجدد لهم بناء كنيسة مريم وشيد بنيانها، ورفع بابها، وحسن عمارتها، ثم هدم ما زاده، وأعيدت الكنيسة إلى ما كانت عليه، وتولى النصارى هدم ذلك بأنفسهم. وكل تخريب وقع كان عن دواع كلية في الغالب يرجع في جملته إلى اعتداء النصارى في غير ديار الإسلام على المسلمين. فإن نيقيفور دومستيقس صاحب الروم لما غزا جزيرة اقريطش كريت في أسطول ونازلها في النصف من المحرم سنة خمسين وثلاثمائة وحاصرها ثمانية أشهر وفتحها وخرب ما فيها من المساجد وسبى من أهلها خلقاً كثيراً قام المصريون فخربوا بعض ما عندهم من الكنائس انتقاماً من الروم على فعلتهم وهكذا دواليك في تلك العصور المظلمة. وفي سنة 856 صدر مرسوم الملك بالكشف على الأديار وبهدم ما استجد بدير صهيون في القدس وانتزاع قبر داود من أيدي النصارى فهدم البناء

كنائس دمشق:

المستجد، وفيها أخرج المسجد من دير السريان وصار زاوية وهدم البناء المستجد ببيت لحم وفي كنيسة القيامة وكشفت جميع الأديار وهدم جميع ما استجد بها. وفي سنة 895 هدمت القبة التي أحدثها النصارى في دير صهيون. والسبب في ذلك على ما يبدو للنظر أن الدولة في تلك الأيام حاذرت من أن يكون من بعض الأديار والكنائس أماكن يعتصم فيها تساعد في الأيام العصيبة على أن تكون ثكناً وقلاعاً لمن يداهم الشام من غير أهل الإسلام. ومع هذا لم يخل زمن من ظهور حكام استعملوا العدل في تلك الأعصار مع أبناء ذمتهم فقد ذكروا أن المفرج بن الجراح لما تغلب على أرجاء فلسطين ألزم النصارى ببناء كنيسة القيامة ببيت المقدس، قال ابن بطريق: إنه عاون على بناء كنيسة القيامة وأعاد فيها مواضع بحسب إمكانه وقدرته. كنائس دمشق: ولم يحدثنا التاريخ بما كان من أنواع الكنائس بعد القرن الثامن ومعظم الكنائس والأديار في الشام اليوم بعد كنائس القدس وبيت لحم ودمشق هي مما أنشئ في القرون الأخيرة. فالكنائس في دمشق جددت بعد سنة 1860 أي بعد أن خربت في حوادث تلك السنة. فالطائفة الروم الأرثوذكس ثلاث كنائس أكبرها المريمية وهي أعظمها، ومن أقدم كنائس هذه الديار وفيها مقام البطريرك الأنطاكي خربت في أدوار كثيرة وآخر خرابها في وقعة تيمور يبلغ طولها نحو 70 ذراعاً وعرضها نحو أربعين. والثانية كنيسة مار يوحنا الدمشقي أنشئت بعد سنة 1860 وفي جوارها مدرسة الروم. والثالثة كنيسة الميدان في محلة القرشي تم بناؤها سنة 1862. ولطائفة الروم الكاثوليك ثلاث كنائس أيضاً كانت الكبرى كنيساً لليهود القرائين فاشتراها الكاثوليك وأسست أيام الحكومة المصرية تم بناؤها سنة 1840 على اسم السيدة وهي في حارة زيتون قرب سور البلد القديم وحرقت في حادثة سنة 1860 أيضاً وهي متينة راسخة البنيان وفيها مقام البطريرك الأنطاكي لتلك الطائفة. والكنيسة الثانية في باب المصلى على اسم القديس جاورجيوس.

كنائس حلب:

والثالثة في القرشي على اسم سيدة النياح. وللسريان الكاثوليك كنيسة على اسم مار موسى الحبشي في حي المسيحيين على الطريق العامة وفيها دار البطريركية ولها مدرسة متصلة بها حرقت في سنة 1860 أيضاً ثم جددت. وللأرمن القدماء كنيسة قرب السور وهي قديمة احترقت في حوادث سنة1860 واسمها مار سركيس ولها مدرسة جدد بناؤها بعد الحوادث. وللسريان اليعاقبة كنيسة بالقرب من الباب الشرقي في محلة حنانيا جددت سنة 1860 باسم جاورجيوس. وللأرمن الكاثوليك كنيسة أمام دير اللعازاريين أنشئت بعد سنة 1860 على اسم القديس غريغوريوس. وللبروتستانت كنيستان بنت إحداهما مسز موط الإنكليزية سنة 1868 والثانية 1864 بناها القس يوحنا كرفورد الأميركاني. وقد أنشئت عدة كنائس وأديار في دمشق أهمها دير اللعازاريين كان شرع ببنائه قبل حوادث 1860 ثم أحرق وجدد بعد ذلك وفيه مدرستان إحداهما للذكور والثانية للإناث. ولليسوعيين مدرسة للبنات وفيها كنيسة صغيرة. وهناك دير الفرنسيسكان بالقرب من دير اللعازارية قيل: إنه من نحو 350 سنة عقيب حوادث 1860 وفيه مدرسة للصبيان. ولطائفة الموارنة دير على اسم مار أنطونيوس الباردواني حرق 1860 وفيه دار البطريركية. وفي سفح الصالحية كنيسة صغرى للسريان الكاثوليك. وأنشئت في العهد الأخير كنيسة في المدرسة الإيطالية بطريق الصالحية وأخرى وراء المستشفى العسكري لراهبات الفرنسيسكان وغيرها من الكنائس الصغرى. كنائس حلب: وليس في الشهباء كنائس قديمة وأقدمها لا يرد عهده إلى قبل منتصف القرن الماضي فمنها كنيسة الأربعين للأرمن الغريغوريين في الصليبة وهي من الكنائس القديمة جددت 1869 وكنيسة السيدة للأرمن الغريغوريين 1850 وكنيسة مار أنطونيوس البادوي للآباء الفرنسيسيين أنشئت 1660 جددت وكنيسة انتقال السيدة للسريان الكاثوليك في حارة الصليبية جددت

الكنائس والبيع في القدس:

1850 بعد حريق وقع لها. وكنيسة أم المعونات للأرمن الكاثوليك تم بناؤها 1840 ومنها كنيسة بشارة الإنجيل للبرتستانت في محلة جقور القسطل جعلت كنيسة 1867. وكنيسة مار فرنسيس للآباء الفرنسيسيين في حي جلوم تم بناؤها 1878. وكنيسة السيدة للروم الأرثوذكس في الصليبة جدد بناؤها 1851. وسيدة الانتقال للروم الكاثوليك جددت بعد حريقها 1851. ومار جرجس للروم الكاثوليك في ثرعسوس تم بناؤها 1851. وكنيسة قلب يسوع للآباء اليسوعيين في حي تراب الغربا تمت سنة1881. وكنيسة مار بطرس للكلدان في العزيزية 1882. وكنيسة مار جرجس للسريان الأرثوذكس في جقور قسطل وهي من الكنائس القديمة اختص بها السريان بعد أن كانت مشتركة بينهم وبين الأرمن في سنة 1893 وكنيسة للموارنة باسم مار الياس الحي في الصليبة تمت سنة 1891، وكنيسة القديس بوناونتورا للآباء الفرنسيين تم بناؤها في حي الرام سنة 1907 وكنيسة للموارنة باسم الياس الحي في الصليبة تمت سنة 1891، وكنيسة الأنفس المطهربة في الحميدية تم بناؤها سنة 1910. الكنائس والبيع في القدس: وفي القدس أديار وكنائس كثيرة بحيث يصح أن تدعي بلد الكنائس ولطائفة كاثوليك الرومانيين كنيسة اسمها كنيسة البطريركية ودير المخلص للفرنسيكان وله كنيسة وميتم وصيدلية ومطبعة، وكنيسة القديسة حنة وكنيسة الاكسي هومو أي إيتيان، وكنيسة الاغوني وأديار كنيسة القيامة ودي لا فلاجلاسيون والدومنيكيين وإخوان البعثة الإفريقية واللعازاريين والآباء الباسيونيست والبندكتييين. ودير البندكتيين وأديار الكلرمليين وسيدات صهيون وأخوات القديس يوسف وأخوات الوردية والكلاريس وأخوات ربباراتريس والبندكتيات. ولهم كنائس في المدارس. منها في المدرسة الاكليريكية البطريركية وميتم الأطفال في دير المخلص والمدرسة الصناعية في الدير نفيه ومدرسة الذكور للفرنسيكان والمدرسة الصناعية

للذكور لرهبان سيدة صهيون ومدرسة الذكور لإخوان المدارس المسيحية ومدرسة وميتم بنات أخوات القديس يوسف وميتم البنات لأخوات الفرنيسكانيات ومدرسة للبنات لراهبات الوردية ومدرسة وميتم لبنات سيدات راتسبون، ومدرسة البنين والبنات لجمعية الأرض المقدسة الألمانية. ومن المستشفيات مستشفى سان لويس، تعاون فيه راهبات القديس يوسف وملجأ اللقطاء والعجزة والمرض لأخوات الإحسان، وملاجئ الحجاج مثل كازانوفا للفرنسيكان. والملجأ الكبير الفريس لسيدة فرنسا وملجأ الاغسطينيين والملجأ الكاثوليكي الألماني والملجأ النمساوي والروم المجتمعين أو الروم الكاثوليك كنيسة في البطريركية وبيعة في سانت فيرونيك ومدرسة اكليركية كبرى لرهبان القديسة حنة لإخوان البعثة الإفريقية الآباء البيض ومتيم للبندكتيات وواحد للسوريين المتحدين وله مدرسة اكليركية يديرها الآباء البنديكتيون وقليل من الأرمن المتحدين مع كنيسة سيدة السباسم وبيعة وملجأ ومدرسة متصلة بالكنيسة اللاتينية. وللطوائف البروتستانتية الألمانية كنيسة المخلص الألمانية وملاجئ فرسان القديس يوحنا ومستشفى الدياكونيس قيصر ورت ودار للبرص للإخوان المورافيين وميتم للفتيات وميتم سوري للأولاد العرب في القديس. وللطائفة البروتستانتية الإنكليزية مدرسة وكنيسة أسقفية وجمعية التبشير الكنائسي لدعوة أبناء العرب من المسلمين واليهود للمذهب ولها كنيسة القديس بولس ومتيم للذكور أسسه أسقف كوبا ومدرسة للذكور والنبات ومدرسة عالية وكنيسة يسوع لجمعية يهود لندرا، وهذه الإرسالية تقوم بنفقة مستشفى كبير وصيدليتين ومدارس للذكور والإناث ومدرسة صناعية ومطبعة. ولرهبتة فرسان القديس يوحنا الإنكليزية مستوصف للرمد وبعض الأدبار والمدارس تنفق عليها جمعية تبرعات فلسطين وجمعية مبرات إرسالية الشرق الإنكليزية. ولطائفة الروم الأرثوذكس عدة أديار وكنائس منها دير هيلانة وقسطنطين ودير إبراهيم ودير جيتسماني والقديس باسيليوس والقديس تيودوروس والقديس

جورج والقديس ميشل والقديسة كاترينا واوتيم وسيدة النجا واسبيريدون وكارالومبوس وديمتريوس ونيقولاوس وروح القدس ومدرسة للبنات وأخرى للذكور ومستشفى وغير ذلك. وللبعثة الروسية مدرسة كبرى في حي يافا والبنايات على جبل الزيتون. وكان للجمعية الروسية الفلسطينية ملجأ كبير للحجاج بالقرب من المعهد الروسي، وملجأ للراهبات بالقرب من البيمارستان. وللأرمن من دير بالقرب من باب صهيون ولهم مدرسة اكليريكية ومدرستان للذكور وللإناث وكنيسة القديس يعقوب ودير للنساء اسنه دير الزيتوني ودير وبيعة جبل صهيون ولهم ملجأ. وللأقباط دير يقيم فيه أسقفهم ودير أخر يقال له دير القديس جورج. وللسريان اليعقوبيين كنيسة صغرى يقيم فيها أسقف لهم. وللحبش دير وكنيسة في الشمال اغربي من المدينة وللإسرائيليين زهاء 70 كنيساً. وكثير من معاهد الخير والإحسان وملاجئ للزوار ومعاهد للفقراء أسس معظمها مونتفيور وروتشيلد وجمعية الاتحاد الإسرائيلي وغيرهم ولهم أربعة مستشفيات ودار للمعتوهين ومدرسة للعميان وملجأ للشيوخ ومدرسة ابتدائية وصناعية تقيم عليها جمعية الاتحاد الإسرائيلي ومدرسة إنكليزية للبنات ومدرسة ألمانية للبنين وملاجئ منها الألماني والإسباني وفي القدس مدرسة البنات لاسوج. ولما زار الإمبراطور غليوم الثاني ملك ألمانيا مدينة القدس أمر بإنشاء كنائس وكلها واقعة في أهم بقعة في المدينة ثلاث منها مشرفة عليها من الخارج والرابعة داخل المدينة أي السور. وقبل الحرب العامة كان في القدس 8 أديار للذكور و9 أديار للإناث من اللاتين وكنيستان للروم الكاثوليك وواحدة للأرمن الكاثوليك و14 ديراً للروم الذكور و4 أديرة للإناث من الروم و4 أديار للروس و5 للأرمن و3 للأقباط و3 للحبش و2 للبروتستانت الاسقفيين و1 للإنجيليين وللهيكليين من الطواف البروتستانتية و40 كنيساً للإسرائيليين وربما زادت بعض الطواف أماكن أخرى للعبادة. وكنائس القدس وأديارها وبيعها على غاية من الفخامة لأنها من إنشاء

كنائس فلسطين:

دول كبرى ومكانة القدس في هذا الباب لا تنازعها فيه غير رومية العظمى، وأهم تلك الكنائس في القدس كنيسة القيامة وهي ليست بالكبرى كثيراً بالنسبة لكنائس الغرب المهمة بل هي متوسطة الحجم استأثر أهل كل مذهب من مذاهب النصرانية ببقعة صغيرة منها لا يتعدونها يسكنونها ويوقدون سرجها ويتعهدونها بما يصلحها. والسدانة للمسلمين حتى لا يقع بين أهل تلك المذاهب شيء من التحاسد الذي أدى في الأزمان السالفة إلى فتن وحوادث، ولكل قطعة من قطع كنيسة القيامة وجدار من جدرانها وعمود من عمدها حادثة تاريخية يذكرونها في تاريخهم الديني. ولو كان عني بعمران كل بلد على مثل ما عني بإنشاء الأديار والكنائس في القدس وما إليها من الأرض المقدسة لكانت الشام أعمر أقطار العالم بكنائسها وأديارها فقد قدر بعضهم ما أنفق على هذه المعاهد الدينية الكبرى بخمسة عشر مليون جنيه قبل أن يحاول اليهود أن يجعلوا لهم من فلسطين وطناً قومياً، وقبل أن ينشئوا فيها كنائسهم ومعابدهم ويشترك يهود العالم في إتمام مشاريعهم في فلسطين. ولا يدخل في هذا التقدير ما في معابد القدس من العاديات والآثار والتحف والطرف فإن ذلك لا يقوم بثمن. كل هذا بسائق المنافسة السياسية والدينية بين الطواف المسيحية بعضها مع بعض وبين المسيحيين من جهة والموسويين من أخرى. كنائس فلسطين: ولو جئنا نستقصي كنائس فلسطين لطال بنا المجال فمن كنائسها كنيسة روسية في يافا مطلة على سهل سارون وكنائس صغيرة ثابتة للفرنسيين والروم الأرثوذكس والكاثوليك والموارنة، وكنيس لليهود. ولهم مدرسة مهمة في تل أبيب وأهم الأديار فيها دير اللاتين وفيها كنيسة للبروتستانت الألمان من طائفة الهيكليين واسمها أحباب القدس وقد كثرت الكنائس في المدن والقرى والغالب أن كنائس القرى سبقت بإنشائها كنائس المدن لأن النصرانية انتشرت أولاً في القرى وعصى أهل المدن على التدين بها لغلبة التعصب عليهم. ومن رأي بعض الواقفين أن النصرانية انتشرت أولاً في المدن

كالقدس وإنطاكية والإسكندرية حتى وصلت إلى داخل بلاط القياصرة. وفي نابلس دير للاتين وكنيسة للروم وكنيس وكتاب للسامرة ومدرسة للإنكليز ومدرسة للراهبات ولها بيع صغير وفي أريحا كنيسة للروم وأخرى للاتين. وكنيسة بيت لحم من أقدم الكاتدرائيات الباقية لم تخرب في جملة ما خربه الحاكم، وقد رممت في أوقات مختلفة وزينت ولا سيما في عهد الصليبيين، وفي بيت لحم عدة أديار وكنائس منها دير للفرنسيسكان مع دار ضيافة ومدرسة للذكور وصيدلية وكنيسة جميلة ولأخوات القديس يوسف دير وميتم ومدرسة للبنات ودير للكرمليات عمر على مثال قصر سانت آنج في رومية وله كنيسة ومدرسة اكليركية لجمعية آباء القلب المقدس وجمعية الأب بيلوني وفيه مدرستان إحداهما صناعية وكنيسة. ولراهبات المحبة مستشفى ولإخوان المدارس المسيحية مدرسة عظمى وللروم دير الولادة وكنيستان إحداهما باسم القديسة هيلانة والثانية باسم القديس جورج ومدرسة للذكور وأخرى للإناث. وللأرمن دير عظيم وهو دير الفرنسيسكان ودير الروم أشبه بقلاع. وللبروتستانت الألمان مدرستان وميتم، وللإنكليز مدرسة للفتيات يضاف إليها دار للمعلمات وكلها تحوي كنائس وبيعاً. وفي الناصرة أربع عشرة بيعة وكنيسة ومعظمها من ضخامة البناء ما يذكر بقصور الملوك، ودير الفرنسيسكان يزار لبعض الآثار التاريخية فيه وهو أثر من آثار القرون الوسطى. وفي صفد كنيسة ومدرسة للروم الكاثوليك وخمس كنائس للإسرائيليين وخمس مدارس ابتدائية دينية ومدرسة عالية للاتحاد الإسرائيلي وكنيسة ومستشفى للبروتستانت. وفي طبريا كنيسة للروم وأخرى للكاثوليك وخمس كنائس لليهود. وللكاثوليك كنائس في حيفا والبصة وشفا عمرو وترشيحة والمقار. وفي الطور دير وكنيسة لكل من الفرنسيين والروم الأرثوذكس، وكنيسة الفرنسيين من أبدع كنائس العالم. وفي الرملة دير للآباء الفرنسيسكانيين أسس سنة 1400 على يد الأمير فيليب الأسباني ثم خرب سنة 1700 ثم أعيد بناؤه. وخرب صلاح الدين

كنائس الأردن:

كنيسة لد التي أنشئت في النصف الثاني من القرن الثاني عشر، كما خرب كثيراً من الكنائس في عهده وخرب بعضها في الحروب وخرب الآخر قصداً لأسباب سياسية وحربية حافزة. وفي جنين دير ومدرسة للذكور وللروم كنيسة وللبروتستانت وللكاثوليك ولكل كنيسة مدرسة تابعة لها. وبالجملة فكل بلد في فلسطين لا يخلو من دير أو كنيسة أو كنيس مهما بلغ من قلة ساكنيه من المسيحيين والإسرائيليين. والفضل في إنشاء هذه الكنائس لجماعة الرهبان والمبشرين فهم الذين استوكفوا أكف المحسنين في الغرب وصرفوا عقولهم وأوقاتهم في إقامة تلك المعاهد المهمة، وقد جاء منهم نوابغ في كل قرن خلدوا اسمهم بقدر ما بذلوا من العناية بنشر دينهم وإقامة شعائره ومعابده فاستفاد العمران من عملهم فوائد لا ينكرها منصف. كتب إيليا بطريرك بيت المقدس إلى أنسطاس ملك الروم: قد بعثت إليك بجماعة عبيد الله ورؤساء رهبان بريتنا وفيهم سابا الفاضل الذي قد صير بريتنا مدائن وأعمرها وهو نجم فلسطين. كنائس الأردن: وفي عبر الأردن كنائس أهمها كنيسة مادبا أو ميدبا وقد تقدم الكلام عليها في المصانع ونزيد الآن أن ميدبا عن مجلة المسرة فاقت أخواتها بكنائسها الفخمة العشر وأن سرجيوس مشيد الكنائس شيد كنيسة على اسم الرسل القديسين. ومن الكنائس التي بقي ذكرها إلى اليوم كنيسة البتول التي يرجع عهدها إلى أيام القيصر يوستنيانوس. ولما فاضت جيوش الأعاجم على هذه الديار حرقت الكنائس والأديرة وذبحت الألوف من الرهبان والنصارى ثم وطئتها أقدام الفاتحين من المسلمين فدثرت تلك الأسقفية وعادت أخربة ينعق فيها البوم عصوراً طويلة. وكان في أكثر أمهات قرى حوران كنائس مهمة في الإسلام خربت بطول الزمن حتى قبل إنه كان في إقليم حوران فقط أربع وثلاثون أسقفية وناهيك بما يقتضي لها من الكنائس. واشتهرت اليوم كنائس تبنة وبصير وخبب. وفي جبل عجلون عدة كنائس منها ثلاث في الحصن أكبرها كنيسة اللاتين. وفي عجلون عدة كنائس صغرى جعل بجانبها مدارس.

كنائس لبنان:

وفي الكرك ثلاث كنائس للروم والكاثوليك والبروتستانت. وقد بلغ الغرام برجال المذاهب المسيحية أن أهل كل مذهب إذا وجدوا خمس عيال في قرية من رعاياهم أنشئوا لهم كنيسة فالكنائس الصغيرة كثيرة جداً في كل بلد وكل قرية أنشأ فيها اللاتين كنيسة أنشأ فيها البروتستانت أيضاً والعكس بالعكس. كنائس لبنان: أما كنائس ابنان فكثيرة جداً لا تكاد تخلو قرية من كنيسة أو كنيستين وربما أكثر، وليست كلها على جانب عظيم من العظمة ولا يرد عهدها إلى زمن قديم، فإن معظم ما كان منها في كسروان وما إليه إلى جنوبي الجبل ليس له من العمر أكثر من مائتي سنة، ذلك لأن الموارنة لم شمالي لبنان قبل ذلك. ولقد ترى في بعض المدن اللبنانية كزحلة وهي أكثر القرى سكاناً في الجبل كثيراً من الكنائس التي لم تقم على ما يظهر إلا بسائق المنافسة ففيها 12كنيسة للكاثوليك وكنيستان للأرثوذكس وكنيستان للموارنة وكنيسة ودير لليسوعيين وكنيسة للسريان الكاثوليك وكنيسة للأميركان، وفي زحلة أيضاً دير القديس الياس الطوق للرهبنة الباسيلية وفيها كنيسة في المدرسة الشرقية وغير ذلك من الكنائس الملحقة بالمدارس ولا تقل عن ست وعشرين كنيسة. وفي مدينة بيروت وطرابلس واللاذقية وصور وصيدا كنائس كثيرة لكل طائفة ولكل طائفة ولكل جمعية تبشيرية وأهمها ما كان في بيروت فللروم الأرثوذكس وللروم الكاثوليك وللبروتستانت الأميركيان ولغيرهم من الطوائف كنائس وبيع مهمة، وأهمها ما كان لليسوعيين أو المرسلين الأميركيان. وفي الهدنة التي عقدت بين المنصور قلاوون وولده الملك الصالح مبين حكام الفرنج بعكا سنة 682 أن تكون كنيسة الناصرة وأربع بيوت من أقرب البيوت إليها لزيارة الحجاج وغيرهم من دين الصلب كبيرهم وصغيرهم على اختلاف أجناسهم وأنفارهم من عكا والبلاد الساحلية ويصلي

بالكنيسة الأقسام والرهبان وتكون البيوت المذكورة لزوار كنيسة الناصرة خاصة، وإذا نقبت الحجارة التي بالكنيسة المذكورة ترمى براً ولا يحط حجر منها على حجر لأجل بنايته ولا يتعرض إلى الأقسام والرهبان وذلك على وجه الهبة لأجل زوار دير الصليب. ومن كنائس لبنان وما إليه كنيسة معاد وكنيسة رشكيدا وكنيسة حدنون وكنائس أهدن عبدلة وبحديدات وصربا وكفر شليمان وقنوبين وبكفيا واده وبشري وبكركي والديمان وزحلة ودير القمر والشرفة وبرمانا وغزير وبيت خشبو وبزمار وبعبدات والقرية وحريصا وأميون وجزين وجبيل وأفقة والكورة والزاوية وبحنس ودير مار الياس والشوير وبسكنتا وكفتين ودير مار يعقوب المقطع ودير سيدة الرأس ودير حماطورة ودير مار جرجس ودير مار الياس النهر ودير ناطور ودير سيدة النورية عند وجه الحجر ودير كفتون ودير جبرائيل ودير ميخائيل المعظمة في برج صافيتا ودير مار جرجس الحميرا ودير الأحمر. ودير مار شربين ودير مار توما قرب صيدنايا. وكان الصليبيون أنشئوا عدة كنائس في أرواد وطرطوس وصيدا وبيروت وغيرها من الساحل فهدمت، ثم بنيت مساجد ولأن بعضها كان بمثابة حصون في أيدي الراهبنات المتجندة مثل الهيكليين والاسبتاريين والتوتونيين. وفي أمهات المدن الصغيرة كنائس مهمة مثل بعلبك وعكار والحصن وحمص وحماة ويبرود والقبيات والإسكندرونة وإنطاكية. وفي هذه فقط تسع كنائس وفيها أنشئت أول كنيسة في الشام وكانت في جميع أدوارها موضع إعجاب المؤرخين والسائحين ومنها ما هو في القرى مثل صدد ومعلولا وصيدنايا وهذه أليق بأن تذكر في باب الأديار لأنها بعيدة عن المدن والدير في الحقيقة كنيسة وزيادة. واليهود في حلب ودمشق عدة كنائس ولكنها ليست من المكانة على شيء ولهم في تادف وجوبر وغيرهما كنائس قديمة ينتابونها ومن عادة الإسرائيليين أن يكون في دار كل غني كنيس وهو عبارة عن غرفة في حلب كنائس مهمة وكذلك في بيروت.

عمل الرهبان والراهبات العظيم:

عمل الرهبان والراهبات العظيم: يتصور القارئ مبلغ عناية الرهبان والراهبات بدينهم من إلقاء نظرة على الفصل التالي: للراهبات الألمانيات مدرسة ودار للأيتام في القدس ومستشفى في حيفا ومستشفى ومدرسة ليلية ونهارية للإناث في بيروت ومعهد في دمشق وآخر في حلب وقد جئن القدس سنة 1887. وجاء راهبات السجود القدس سنة 1888 وأسسن فيها ديراً كبيراً ثم جئن بيروت وأنشأن داراً للعبادة. وللعازاريين محال مهمة وهم يقسمون قسمين قسم الرهبان العازريين الألمان جاءوا سورية عام 1890 وأنشئوا في القدس مدرسة، والقسم الثاني رهبان فرنسيون جاءوا سورية منذ نحو قرنين وأخذوا الأديار التي كانت لليسوعيين ولهم مدرسة في بيروت وأخرى في عينطورة وأهدن في لبنان ورابعة في دمشق وخامسة في ريفون. وجاء الآباء الساليزيون القدس سنة 1891 ولهم دار للأيتام في بيت لحم ودار للأيتام زراعية في بيت جمال وثالثة في الناصرة ومدرسة ابتدائية في بيت لحم. وجاء الراهبات الساليزيات القدس سنة 1891 وهن يشتغلن مع الراهبان الساليزيين. وأتى راهبات صهيون القدس عام1856 وأنشأن معهداً في كنيستهن المسماة اكس هومو. وقدم الآباء البيض القدس عام 1878 وأنشئوا كنيستين فيها. ونزل آباء القلب المقدس القدس عام 1879 وأنشئوا مدرسة في بيت لحم. ولراهبات الوردية عمل ديني مثل بنات جنسهن. وجاء القدس آباء سيدة صهيون عام 1884. والدومنيكان أو رهبان مار عبد الأحد وردوا على القدس عام 1882 وأسس الرهبان الصعوديون مأواهم في القدس عام 1887 وأسس الآباء الترابيون ديراً في الأطرون وهم معروفون بفن الأبان والزراعة. وجاء الراهبات البند كيتات القدس عام 1896 وراهبات هورتوس كونكلوز وهن أمريكانيات جئن القدس عام 1901. ولراهبات الناصرة مدرسة في حيفا وأخرى في شفا عمرو وثالثة في عكا ودير الناصرة في بيروت وقد جئن سورية سنة 1855. وقدم الراهبات

الكرمليات الشام سنة 1873 وأنشأن ديرهن المعروف في جبل الزيتون في القدس ولهن دير في بيت لحم وآخر في سفح جبل الكرمل قرب حيفا. وجاء رهبان الفرير الشام سنة 1878 ولهم مدرسة في القدس وأخرى في حيفا وثالثة في الناصرة ورابعة في بيت لحم وخامسة في بيروت وسادسة في طرابلس وسابعة في إسكندرونة وثامنة في دمشق وتاسعة في يافا. وجاء رهبان مار يوحنا الإلهي القدس عام 1879 فأسسوا مستشفى في طنطور على طريق بيت لحم ولهم مستشفى وموستوصف في الناصرة. وجاء راهبات سانت كلير الشام عام 1884 وأنشأن ديراً على طريق بيت لحم ولهن دير في الناصرة. ووردت الراهبات الفرنسيسيات البيض القدس عام 1885 وأنشأن ميتماً ولهن ميتم في بيت لحم وأنشأن مدرسة في دمشق. وجاء راهبات المحبة القدس عام 1886 ولهن مستشفى ودار للأيتام في بيت لحم ومستشفى ومدرسة في حيفا ومستشفى في الناصرة ولهن في بيروت مستشفى عظيم ودار للأيتام ودار للصناعة للذكور والإناث وثلاث مدارس صغرى في بيروت ومكتب للصنائع في طرابلس ودور نقاهة في أهدن وبحنس من لبنان ومدرسة في برج البراجنة وفي كل معهد منها دار للعبادة يختلف إليها أهل المذهب الذي يبشرون به. ولقد قالوا: إن عدد الجمعيات الأجنبية التي تسعى لتنوير أفكار النصارى في سورية تبلغ ثمانين جمعية، وأهمها جمعية اليسوعيين وردوا الشام قبل قرنين أو ثلاثة فأسسوا الأديار التي ينزلها اللعازريون ثم غادروا الديار فلم يعودوا إليها إلا عام 1831 فأنشئوا مدرستهم في غزير من لبنان وفي عام 1876 افتتحوا كليتهم العظمى في بيروت ولهم الآن عدة أديار ومدارس في بكفيا والمعلقة وزحلة وغزير ودمشق وحلب وتعنايل وجزين وقد أنشئوا بعد الحرب العالمية مدارس صغرى كثيرة في ربوع جمهورية لبنان ويوشكون أن يتوسعوا في الداخلية كثيراً بمدارسهم وكنائسهم. أما الفرنسيسكان فلم يزالوا في الشام منذ الحروب الصليبية ولهم فيها ستة ملاجئ ولهم أديار وملاجئ في بيت لحم وعين كارم وطبريا وجبل الطور والناصرة وقانا وعكا وصور

الأديار القديمة في الشام:

وصيدا وبيروت وحريصا وطرابلس واللاذقية ودمشق وحلب وإسكندرونة ولهم مدرسة في حلب. وكان الكرمليون تركوا الشام مع القافلة الأخيرة من الصليبيين ثم عادوا إلى جبل الكرمل عام 1636 وبنو ديراً ومحلاً للضيافة في الجبل ولهم أديار في حيفا وطرابلس والقبيات من إقليم عكار ومدرسة في بشري. وديرهم في الكرمل من أجمل أديار الشام ترى منه أجمل المناظر. وجاء راهبات القديس يوسف أو الراهبات اليوسفيات من مرسيليا إلى القدس عام 1848 ولهن في فلسطين 13 معهداً و3 مستشفيات أحدها في القدس والأخر في يافا والثالث في الناصرة. ولهن في هذه المدن ثلاث دور للأيتام ومدرستان نهاريتان وخمس مدارس دينية ومدرسة في بيروت ودير في صيدنايا ومدرسة فيها دير ومدرسة في دير القمر وديران ومدرستان ليليتان ومستشفى في حلب ودير ومدرسة في إسكندرونة. الأديار القديمة في الشام: ديرإ سحاف كان بين حمص وسليمة في موضع حسن نزه على نهر جار وحوله كروم ومزارع إلى جانب ضيعة صغيرة يقال لها جدر، وهي التي ذكرها الأخطل في قوله: كأنني شارب يوم استبد بهم ... من قرقف عتقتها حمص أو جدر وقال فيه أبو عبد الرحمن الهاشمي السلماني من أهل سلمية: وإذا مررت بدير إسحاق فقل ... جادتك غيث سحائب وبروق دير يشبه ماؤه بهوائه ... وهواؤه بلطافة المعشوق وليس لهذا الدير من أثر اليوم. دير الباعفي كان قبلي بصري من أرض حوران وهو دير بحيرا الراهب كما زعموا ولا يعرف الآن. وبحيرا شخص خيالي. دير باعنتل من جوسية على أقل من ميل وجوسية على مرحلة من حمص ولا يعرف اليوم هذا الدير. دير البتراء كان في وادي موسى دير للراهبات وذكر البولنديون

ديراً للراهبات في البتراء كان يرأسه القديس موسى أسقف البدو الرحالة يقال: إن بانيه أثينة جينوس أوائل القرن السابع للميلاد. وذكر الرحالة تيتمار أنه طاف تلك الفيافي سنة 1217 وعثر بين أخربة البتراء على كنيسة ودير لم يسكنه بعض الرهبان. وهناك الكنيسة الكاتدرائية المثلثة السواعد وقد كانت أماً لسائر الكنائس الملكية الكاثوليكية في هذه البلاد الشرقية عن مجلة المسرة. دير البخت كان على فرسخين من دمشق ويسمى دير ميخائيل وكان عبد الملك بن مروان قد ارتبط عنده بختاً وهي جمال الترك فغلب عليها وكان لعلي بن عبد الله بن عباس قربه جنينة يتنزه فيها. وقرية دير البخت معروفة إلى اليوم في الجيدور. ووجه التسمية في هذا الدير بعيد لأنه عرف بهذا الاسم قبل الإسلام على ما ظهر من رواية ابن عساكر في بعض وقائع عمر بن الخطاب في الجاهلية ومروره بدير البخت واجتماعه براهب أكرامه وتفرس فيه الخير فيما قال. دير بصرى قيل هو الذي كان فيه بحيرا الراهب في حوران. مجهول محله. دير بلاض من أعمال حلب مشرف على العمق فيه رهبان لهم مزارع وهو دير قديم مشهور لم يبلغنا أنه موجود. دير البلمند من أديار الروم الأرثوذكس المشهورة على نشزعال قرب مدينة طرابلس في أقصى حدود جبل لبنان يقال: إنه من أديار الصليبيين وإن اسمه جاء من تركيب بل مونت أي الجبل الجميل وهو اليوم عامر. دير بلودان مر به ابن فضل الله العمري ونزل إليه فقال فيه: إن بناءه قديم بديع الحسن وافر الغلة كثير الكروم والفواكه والماء الجاري، بقربه قرية بلودان وهي محاذية لكفر عامر تطل من مشترفها على جبة الزبداني وبه رهبان نظاف ونظم فيه أبياتاً ومنها: حبذا الدير من بلودان دارا ... أي دير به وأي نصارى فيهم كل أحور الطرف أحوى ... فائق الحسن في حسان العذارى وقال محاسن الشوا الحلبي:

حييا ساكني بلودان عني ... ورجالاً بدير قانون زهرا ولا يعرف متى زال هذا الدير، ودير قانون من قرى الوادي لا دير فيه اليوم. دير بولس كان بنواحي الرماة نزله الفضل بن إسماعيل وقال فيه شعراً لم يسمه في أوله: عليك سلام الله يا دير من فتىً ... بمهجته شوق إليك طويل ولا زال من جو السماكين وابل ... عليك لكي يروي ثراك هطول قال البكري: ودير بولس آخر ودير بطرس أو نطرس. وهما معروفان بظاهر دمشق في نواحي بني حنيفة في ناحية الغوطة وغياهما عني جرير بقوله: لما تذكرت بالديرين أرقني ... صوت الدجاج وقرع بالنواقيس فقلت للركب إذ جد الرحيل بنا ... يا بعد يبرين من باب الفراديس ولا نعرف شيئاً عن هذا الدير. دير البنات وهو دير أبيض البناء مشرف على أرض طرابلس كان للرواهب قال فيه الطيبي: دير البنات الزاهر أنت المنى ... وأنت من دون الأماني المرام لم أنس يوماً فيك أذهبته ... باللهو بل ذهبته بالمدام ونحن في غرة أيامنا ... والعيش مثل الطيف حلو اللمام والدوح ما جفت له زهرة ... والروض طفل ما جفاه الغمام وبيننا خود كشمس الضحى ... وأغيد قد فاق بدر التمام لولا نبات الشعر في خده ... لم تدر أي الأغيدين الغلام ولا نعرف اليوم أي أديار البنات هذا. دير يونا أي يوحنا وروى بالباء بدل الياء كان بجانب الغوطة بدمشق ليس بكبير ولا رهبانه بكثير ولكنه في رياض مشرقة وأنهار متدفقة ويقال بأنه من أقدم أديرة النصارى. اجتاز به الوليد بن يزيد فأقام فيه أياماً وقال فيه: حبذا يومنا بدير يونا ... حيث نسقى براحه ونغنى

واستهنا بالناس فيما يقول ... ن إذا خبروا بما قد فعلنا قال ابن فضل الله وهذا الدير اليوم لا وجود له. دير حمطورا هو في شرقي طرابلس في جانب الوادي الذي أسفل من طرزيه والحدث. وهو بناء في سفح الجبل من ذلك الجانب قبالة الطريق السالك إلى طرابلس وهو حصين جداً لا يسلك إليه إلا من طريق واحد وظهر الجبل الذي له ممتنع - قاله ابن فضل الله -. دير الحنابلة في تاريخ الصالحية لم يكن في الجبل أي قاسيون إلا بناية يسيرة من الناحية الغربية دير أبي العباس الكهفي ودار بيت الضيا وغيرها، ومن الناحية الشرقية دير يقال له دير الحنابله وكان أولاً لناس من الرهبان فاتفق أنهم أحدثوا شيئاً فأخرجوا منه ثم بنى الشيخ أبو عمر المدرسة. دير حنيناء دير بالشام وهناك مات معاوية بن هشام بن عبد الملك فقال الكميت يرثيه: فأي فتى دنيا ودين تلمست ... بدير حنيناء المنايا فدلت تعطلت الدنيا به بعد موته ... وكانت له حيناً به قد تحلت وقيل: إن الذي رثي بهذا الشعر البطال أحد قواد الأموية وفرسانهم مات بدير حنيناء قافلاً مع هشام من غزوة فأمر معاوية الشعراء برثائه. والرواية في شعر أبي تمام حبيناء بالباء المعجمة ولا عنه شيء في عصرنا. دير الخمان كان هذا الدير بأرض أذرعات بني بالحجارة السود على نشز من الأرض يشرف على بركة الفوار وهو من البناء الرومي القديم. ولا يعرف اليوم عنه شيء. دير خالد وهو دير صليبا بدمشق كان مقابل باب الفراديس نسب إلى خالد بن الوليد لنزوله فيه عند حصاره دمشق قال ابن الكلبي: وهو على ميل من الباب الشرقي ولا يعرف عنه شيء آخر وفي هذا الدير يقول محمد ابن علي المعروف بأبي البقاء: جنة لقبت بدير صليبا ... مبدعاً حسنه كمالاً وطيبا جئته للمقام يوماً فظلنا ... فيه شهراً وكان أمراً عجيبا شجر محدق به ومياه ... جاريات والروض يبدو ضروبا

من بديع الألوان يضحي به الثا ... كل مما يرى لديه طروبا كم رأينا بدراً به فوق غصن ... نائس قد علا بشكل كثيبا وشربنا به الحياة مداماً ... تطلع الشمس في الكؤوس غروبا فكأن الظلام فيها نهار ... لسناها تسر منا القلوبا لست أنسى ما مر فيه ولا أج ... عل ندحي إلا لدير صليبا دير خناصرة ورد ذكره في شعر بني مازن في قول حاصب بن ذبيان المازني مازن بن تميم من عمرو بن تميم لعبد الملك بن مروان في جدب أصاب العرب قال: وما أنا يوم دير خناصرات ... بمرتد الهموم ولا مليم ولكني ألمت بحال قومي ... كما ألم الجريح من الكلوم وخناصرة بلدة في قبلي حلب وليس للدير ذكر الآن. دير الدواكيس شرقي القدس حسن البناء له سمعة وذكر وكان له وقف يعود منه على الرهبان السكان جليل فائدة ونفع ولابن فضل الله فيه وقد مر به غير مرة أبيات منها: دير الدواكيس أم ريش الطواويس ... أم الشموس سنا تلك الشماميس مأوى المياسير لكن بعد أوبتهم ... منه يعدون في حزب المفاليس فانزل به وأقم فيما تريد وقل ... املأ كؤوسي وفرغ عندها كيسي واقدح زناد سرور من مدامته ... فهذه النار من تلك المقابيس دير رمانين جمع رمان بلفظ جمع السلامة يعرف أسضاً بدير السابان وهو بين حلب وإنطاكية مطل على بقعة تعرف بسرمن وهو دير حسن كبير خرب قبل القرن السابع وآثاره باقية كما قال ياقوت وفيه يقول الشاعر: ألف المقام بدير رمانينا ... وتراه يجني الآس والنسربنا قال ياقوت ودير السابان وهو دير رمانين وتفسيره بالسريانية دير الشيخ. دير ساير كان من نواحي دمشق وهو من إقليم خولان سكنه عمر ابن محمد الأموي. كانت بقرب دمشق خربت بها قبر أبي مسلم

الخولاني وبها آثار باقية ياقوت. وبيت سابر اليوم قرية في سفح جبل الشيخ من عمل وادي العجم. دير سعد كان من أديرة الشام نزله عقيل بن علفة المري وكان يصهر إليه خلفاء بني أمية وهذا كل ما عرف عنه قديماً. دير سليمان دير بجسر منبج وهو في جبل عال من جبال دلوك كطل على مرج العين وهو غاية في النزاهة قال أبو الفرج أخبرني جعفر بن قدامة قال: ولي إبراهيم بن المدبر عقيب نكبته وزوالها عنه الثغور الجزرية وكان أكثر مقامه بمنبج فخرج في بعض ولايته إلى نواحي دلوك برعبان وخلف بمنبج جارية كان يتحظاها يقال لها غادر فنزل بدلوك على جبل من جبالها بدير يعرف بدير سليمان من أحن بلاد الله وأنزهها ودعا بطعام خفيف فأكل وشرب ثم دعا بدواة وقرطاس فكتب: أيا ساقيينا وسط دير سليمان ... أدير الكؤوس فانهلاني وعلاني وخصا بصافيها أبا جعفر أخي ... فذا ثقتي دون الأنام وخلصاني وميلا بها نحو ابن سلام الذي ... أود، وعودا بعد ذاك لنعمان وعما بها النعمان والصحب إنني ... تنكر عيشي بعد صحبي وإخواني ولا تتركا نفسي تمت بسقامها ... لذكرى حبيب قد سقاني وغناني ترحلت عنه عن صدود وهجرة ... فأقيل نحوي وهو باك فأبكاني وفارقته والله يجمع شملنا ... بلوعة محزون وغلة حران وليلة عين المرج زار خياله ... فهيج لي شوقاً وجدد أحزاني فأشرفت أعلى الدير أنظر طامحاً ... بألمح آماق وأنظر إنسان لعلي أرى أبيات منبج رؤية ... تسكن من وجدي وتكشف أشجاني فقصر طرفي واستهل بعبرة ... وفديت من لو كان يدري لفداني ومثله شوقي إليه مقابلي ... وناجاه عني بالضمير وناجاني دير سمعان بنواحي إنطاكية على البحر قال ابن بطلان وبظاهر إنطاكية دير سمعان وهو مثل نصف دار الخلافة ببغداد يضاف به المجتازون وله من الارتفاع كل سنة عدة قناطير من الذهب والفضة وقيل: إن دخله في السنة أربعمائة ألف دينار ومنه يصعد إلى جبل اللكام قال هذا في

القرن الخامس للهجرة، وفي رواية أن دير سمعان بنواحي حلب بين جبل بني عليم والجبل الأعلى. ودير سمعان أيضاً في قرية تعرف بالبقرة من قبلي معرفة النعمان وبه قبر عمر بن عبد العزيز مشهور لا ينكر ذكره السيد الرضي في رثائه بقوله: يا ابن عبد العزيز لو بكت العي ... ن فتى من أمية لبكيتك أنت نزهنتا عن السبب والشت ... م فلو يمكن الجزا لجزيتك دير سمعان لا عدتك الغوادي ... خير ميت من آل مروان ميتك وقال أبو فراس بن أبي الفرج البزاعي وقد مر به فرآه خراباً فغمه: يا دير سمعان قل لي أين سمعان ... وأين بانوك خبرني متى بانوا وأين سكانك اليوم الألى سلفوا ... قد أصبحوا وهم في الترب سكان أصبحت خراباً مثل ما خربوا ... بالموت ثم انقضى عمر وعمران وقفت أساله جهلاً ليخبرني ... هيهات من صامت بالنطق تبيان أجابني بلسان الحال إنهم ... كانوا ويكفيك قولي إنهم بانوا دير السيق كان معروفاً قديماً ويقع قبلي البيت المقدس على نشز عظيم عال مشرف على الغور غور أريحاً يطل على تلك البسائط الخضر ومجرى الشريعة وبه رهبان ظراف أكياس لا يأتيهم إلا قاصد لهم أو مار في مزارع الغور. تحتهم وفوقهم الطريق الآخذة إلى الكثيب الأحمر. ومشهد موسى عليه السلام في القبة التي بناها عليه الملك الظاهر بيبرس وفي هذا الدير ومشترفه وأطلال قلاليه وغرفه قال ابن الفضل الله العمري: أرى حسن دير السيق يزداد كلما ... نظرت إليه والفضاء به نضر بنوه على نجد من الغور مشرف ... كتخت مليك تحته بسط خضر وأشرف في سود الغمام كأنما ... تشق ليلا عن جلابيبه الفجر وقام على طود علي كأنما ... مصابيحه تحت الدجى الأنجم الزهر وزفت إليه الشمس من جنب خدرها ... وناغاه جنح الليل في أفقه البدر وألقت إليه الريح فضل عنانها ... وأحنى عليها لا تبل له عذر ولو كان كالنسرين هان ارتقاؤه ... ولكنه قد حط من دونه النسر علا نهر ريحا والمجرة فوقه ... فمن فوقه نهر ومن تحته نهر

دير شق معلولا وهو بباطن جبة عسال وهو بناء رومي بالحجر الأبيض مُعَلق بسقيف وبها صدع فيها ينقط نحو الذي بصيدنايا، ويأخذه النصارى للتبرك معتقدين فيه نحو اعتقادهم في الآخر وإنما الاسم للذي بصيدنايا - قاله في مسالك الأبصار والغالب أنه دير الروم الباقي إلى اليوم. دير صليبا ويعرف بدير السائمة السائحة؟ وهو بدمشق مطل على الغوطة ويليه من أبوابها باب الفراديس نزل دونه خالد بن الوليد أيام محاصرة دمشق وهو في نزه كثير البساتين وبناؤه حسن عجيب وإلى جانبه دير النساء فيه رهبان ورواهب وإياه أراد جرير بقوله: إذا تذكرت بالديرين أرقني ... صوت الدجاج وقرع بالنواقيس فقلت للركب إذ جد النجاءُ بهم ... يا بعد يبرين من باب الفراديس يا دير باب الفراديس المهيج لي ... بلابلاً بقلاليه وأشجاره لو عشت تسعين عاماً فيك مصطحباً ... لما قضى منك قلبي بعض أوطاره قال ابن فضل الله وهذا اليوم أي في الثامن لا عين له ولا أثر وإنما صار دوراً وأبنية ومساجد ومدافن وهي بناحية محلة حمام النحاس اه. دير صيدنايا يؤخذ مما قاله صاحب مسالك الأبصار أنهما اثنان أحدهما يقصده النصارى بالزيادة وهو في دمنة القرية والآخر على بعد منها مشرف على الجبل شماليها بشرق وهو دير مار شربين ويقصد للتنزه من بناء الروم بالحجر الجليل الأبيض وهو دير كبير وفي ظاهره عين ماء سارحة وفيها ما يطلّ على بواطن ما وراء ثنية العقاب ويمتد النظر من طاقته الشمالية إلى ما أخذ مالاً عن بعلبك. وأما الذي في القرية فمن بناء الروم بالحجر الأبيض أيضاً ويعرف بدير السيدة وله بستان وبه ماء جارٍ بركة علمت به وعليه أوقاف كثيرة وله مغلات واسعة وتأتيه نذور وافرة وطوائف النصارى من الفرنج تقصد هذا الدير وتأتيه للزيارة. وكنت أراهم يسألون السلطان في أن يمكنهم من زيارته وإذا كتب لهم زيارة قمامة ولم يكتب معها صيدنايا يعاودون السؤال في كتابتها لهم، ولهم فيها معتقد. وقال جاءت مرة كتب ريد فرنس

ملك فرنسا وكتب الاذفونش ملك إسبانيا على أيدي رسلهم ومما سألوا فيها تمكين رسلهم من التوجه إلى صيدنايا للتبرك بها فأجاب السلطان سؤالهم وحمل الرسل على خيل البريد إليها. وهذا الدير لم يزل عامراً إلى اليوم يزوره الناس وفيه راهبات أرثوذكسيات وفي عيد الصليب من كل سنة تجري فيه قربه اجتماعات وأفراح ويأتيه الناس من الإقليم المجاورة وغيرها. دير الطور الطور في الأصل الجبل المشرف، والطور هاهنا جبل مستدير واسع الأسفل مستدير الرأس لا يتعلق بع شيء من الجبال وليس له إلا طريق واحد وهو ما بين طبرية واللّجون مشرف على الغور ومرج اللّجون وفيه عين تنبع بماء غزير كثير والدير في نفس القلة مبنى بالحجر وحوله كروم يعتصرونها ويعرف عندهم بدير التجلي والناس يقصدونه من كل موضع فيقيمون به ويشربون فيه وموضعه حسن يشرف على طبرية والبحيرة وما والاها وعلى اللجون. وما زال هذا الدير عامراً وقد جدد في أدوار مختلفة وفيه يقول مهلهل بن يوسف المُزَرّع: نهضت الى الطور في فتية ... سراع النهوض إلى ما أحب كرام الجدودحسان الوجوه ... كهول العقول شباب اللعب فأي زمان بهم لم يَسُرّ ... وأي مكان بهم لن يطب أنخت الركاب على ديره ... وقضيت من حقه ما يجب وأنزلتهم وسط أعتابه ... وأسقيتهم من عصير العنب وأحضرتهم قمراً مشرقاً ... تميل الغصون به في الكُثب نحث الكؤوس بأهزاجه ... ومرسوم أرماله بالعجب وما بين ذاك حديث يروق ... وخوض لهم في فنون الأدب فيا طيب ذا العيش لو لم يُزل ... ويا حسن ذا السعد لو لم يغَبِ دير عَمان قال ياقوت: بنواحي حلب وتفسيره بالسريانية دير الجماعة قال فيه الحمدان بن عبد الرحيم الحلبي: دير عمانٍ ودير سابان ... هجن غرامي وزدت أشجاني إذا تذكرت منهما زمناً ... قضيته في عُرام ويعاني

ومر به أبو فراس بن أبي الفرج البُزاعي فقال ارتجالاً: ورأينا منازلاً وطلولاً ... دراسات ولم نًر السكانا وأرتنا الآثار من كان فيها ... قبل تفنيهم الخطوب عيانا فبكينا فيه وكان علينا ... لا عليه لما بكينا بُكانا لست أنس يا دير وقفتنا في ... ك وإن أورثتني النسيانا من أناس حَلوك دهراً فخلّو ... وأمسوا قد عطلوك الآنا فَرقتهم يدُ الخطوب فأصبح ... ت خراباً من بهدهك أسيانا وكذا شيمةُ الليالي تميت ال ... حيّ منا وتهدم البنايا حَرَبا ما الذي لقينا من الده ... ر وماذا من خطبه قد دهانا نحن في غفلة بها وغرور ... وورانا من الردى ما ورانا ولا نعرف عنه شيئاً الآن. دير فاخور وهو الموضع الذي تعمد فيه المسيح من يوحنا المعمدان كما في كتب الجغرافية. دير فِيق هو في ظهر عقبة فيق - عقبة تنحدر إلى الغور من أرض الأردن ومن أعلاها طبرية وبحيرتها - وهذا الدير فيما بين العقبة وبين البحيرة في لحف جبل يتصل بالعقبة منقور في الحجر وكان عامراً بمن قيه من الرهبان ومن يطرقه من السيّار، والنصارى يعظمونه، واجتاز به أبو نُواس فقال في غلام نصراني فيه قصيدة منها: بحجك قاصداً ما سرجسان ... فدير النوبهان قدير فيق وبالمطران إذ يتلو زبوراً ... يعظمه ويبكي بالشهيق وهذا الدير غير عامر الآن. دير القاروس قال ابن فضل الله: إنه على جابن اللاذقية من شمالها وهو في أرض مستوية وبناؤه مربع وهو حسن البقعة. وقيه يقول أبو علي حسن بن علي الغزي: لم أنس في القاروس يوماً أبيضاً ... مثل الجبين يزينه قرع الدجى في ظل هيكله المَشيد وقد بدا ... للعين معقود السكينة أبلجا

واللاذقية دونه في شاطئ ... بلوره قد زَيّن الفيروزجا ولديّ من رهبانه متنمس ... أضحى لفرط جماله متبرجا أحوى أغنّ إذا تردد صوته ... في مِسمع رد احتجاج ذوي الحجى لا شيءَ ألطف من شمائله إذا حث الشمول ولفظه قد لجلجا فله ولليوم الذي قضيته ... معه بكائي لا لربع قد شجا دير القديس سابا إلى الجنوب الشرقي من أورشليم على بعد ثلاث ساعات ونصف عنها على الراجل وعلى انخفاض 560 متراً عنها عند الطريق المؤدي منها إلى البحر الميت على مقربة من وادي الراهب النار وعلى عدوة وادي قدرون إلى شمال بيت ساحور الشرقي. وهو أشبه بقلعة منيعة غربية الأبنية. ومن الدير إلى هضم الوادي 275 ذراعاً فيصعد من الوادي إلى الدير بسلالم بعضها منقور بالصخر والآخر مبنى على شكل أدراج ولا يدخل إليه إلا بإذن البطريك الأورشليمي. ورهبانه ستون راهباً يعيشون عشية تقشف منقطعين إلى الصلاة والصوم والعبادة وفي كل يوم جمعة يبعث لهم دير القبر المقدس في أورشليم طعامهم مرة واحدة ولا يسنح للنساء أن يدخلنه، وتلك عادة منذ تشييده إلى اليوم لم تدخله امرأة، وقربه برج مار سمعان وهو دير خرب فيه بيت كبير يشرف على الدير القديس سابا على بعد خمس دقائق فيسمح للنساء أن ينظرن الدير الكبير من بيت هذا البرج وقربه دير على قمة جبل تاودوسيوس وهو عامر الآن وفيه رهبان ويسميه العرب دير عبيد من مجلة النعمة. دير قِنّسْري على الشاطئ الفرات من الجانب الشرقي من نواحي الجزيرة وديار مضر مقابل جرابلس في الأصل جرباس وجرابلس شامية، وبين هذا الدير ومنبج أربعة فراسخ وبينه وبين سروج سبعة فراسخ، فهو دير كبير كان فيه أيام عمارته ثلاثمائة وسبعون راهباً، ووجد في هيكله مكتوباً: أيا دير قنّسري كفى بك نزهةَ ... لمن كان بالدنيا يَلَذ ويَطرَبُ فلا زلت معموراً ولا زلت آهلاً ... ولا زلت مخضراً تُزار وتعجِب دير كعب كان من أديار الشام وهو الذي جاء فيه المثل أطول من

فراسخ دير كعب قال الشاعر: ذهبت تمادياً وذهبت عرضاص ... كأنك من فراسخ دير كعب دير كفتون ولعله المعروف اليوم بدير كفتين قال فيه ابن فضل الله: إنه ببلاد طرابلس مبني على جبل وهو دير كبير وبناؤه بالحجر والكلس في نهاية الجودة وبه ماء جارٍ وله حوض كبير مملوء من شجر النارنج يجمل نارنجه إلى طرابلس يباع فيها ويرتفق بثمنه الرهبان مستشرف مطل على البلاد والمزارع ومنه مكان يشرف على بعد على البحر، ولهذا صيت النذور ويقصده كثير من أهل البطالة واللهو للتفرج به والتنزه فيه، وفيه يقول الطيبي: أدير كفتون تُكفي كل نائبةٍ ... من الهموم وتلقى كل سراءِ من كل خضراء في الأشجار مائسةٍ ... وكل صهباء في الكاسات حراء حللت في دير كفتون فلا عجب ... إذ مت سكراً بحمراء وخضراء دير مارون قال المسعودي في التنبيه والإشراف: وفي أيام موريق من ملوك الروم ظهر رجل من أهل حماة من أعمال حمص يعرف بمارون إليه تنسب المارونية من النصارى. وأمرهم مشهور بالشام وغيرها أكثرهم بجبل لبنان وسنير وحمص وأعمالها كحماة وشيرز ومعرة النعمان وكان له دير عظيم يعرف به شرقي حماة ذو بميان عظيم حوله أكثر من ثلاثمائة صومعة فيعا الرهبان وكان فيه من آلات الذهب والفضة والجوهر شيء عظيم فخرب هذا الدير وما حوله من الصوامع بتواتر الفتن من الأعراب وحيف السلطان وهو بقرب نهر الأرنط العاصي نهر حمص وإنطاكية. وكان يقول: إن سيدنا المسيح طبيعتان ومشيئة واحدة وفعل واحد وأقنوم واحد وأكثر من تبعه على مقالته تلاميذه القائلون به أهل مدينة حماة وقنسرين والعواصم وجماعة من أرض الروم فسموا الموازنة ولما مات مارون بنى أهل حماة بحماة وسموه دير مارون. قلنا ولعله دير آخر غير الدير الذي نشأ فيه مارون شرقي حماة وشيزر. وقد خرب دير مار مارون سنة 75

للهجرة لما غزا موريق وموريقان بلاد الشام وحملا على هذا الدير وقتلا منه خمسمائة راهب وهدما بنيانه ثم تحولا من هناك إلى قنسرين والعواصم فقتلا الأهلين ونهبا وخربا المساكن ولم يعفيا عن أحد من أتباع مار مارون. وقال الدويهي: كلان قرب دمشق فوق نهر يزيد دير على اسم القديس مارون. قال: ولقد استدللنا برسومه وأطلاله المائلة إلى اليوم على عظمه وشرفه ذكره ابن الحريري المؤرخ فيما كتبه عن الحاكم بأمر الله سنة 386. ولا أثر اليوم لدير حماة ولا لدير دمشق. دير مار مروثا وهو دير صغير بظاهر حلب في سفح جبل جوشن على نهر العرجان العوجان؟ وكان سيف الدولة محسناً إلى أهله وقلما مر به إلا نزله ووهب لأهله هبة كبيرة وكان يقول: رأيت أبي في النوم يوصيني به - وفي رواية والدته وله بساتين قليلة ومباقل وفيه نرجس وبنفس وزعفران ويعرف بالبيعتين لأنه فيه مسكنين للرجال والنساء. قال الخالدي وإياه عني الصنوبري بقوله: كأنما اختيرت الفصوص له ... بين عقيق وبين فيروزج أما ترى البيعتين أفردتا ... بمفرد الأقحوان والمزوج أثوابه المزن كيف ما اتصلت ... وناره البرق كيف ما أجج هذا ما رواه ابن فضل الله في هذا الدير، وفي رواية ياقوت أن هذا الدير ذهب ولا أثر له استجد في موضعه مشهد زعم الحلبيون أنهم رأوا الحسين أبى علي رضى الله عنه يصلي فيه فجمع له المتشيعون بيتهم مالاً وعمروه أحسن عمارة وأحكمها وفيه أيضاً يقول بعض الشاميين: بدير مارت مروثا ال ... شريف ذي البيعتين والراهب المتحلي ... والقس ذي الطمرين إلا رثيت لصب ... مشارف للحين قد شفه منك هجر ... من بعد لوعة بين قال وفيه يقول الحسين بن علي التميمي: يا دير مارت مروثا ... سقيت غيثاً مغيثا

فأنت جنة حسن ... قد حزت روضاً أثيثا دير مارت مريم قال الخالدي: وبالشام دير يقال له مارت مريم وهو من قديم الديرة ونزله الرشيد وفيه يقول الشاعر: نعم المحل لمن يسعى للذته ... دير لمريم فوق الظهر معمور ظل ظليل وماء غير ذي أسن ... وقاصرات كأمثال المها حور دير الماطرون يروى لزيد بن معاوية فيه: ولها بالماطرون إذا ... أكل النمل الذي جمعا حرقة حتى إذا ربعت ... ذكرت من جلق بيعا في قباب حول دسكرة ... بينها الزيتون قد ينعا قال أبو محمد حمزة بن القاسم قرأت على الحائط من بستان الماطرون هذه الأبيات: أرقت بدير المارطون كأنني ... لساري النجوم آخر الليل حارس وأعرضت الشعرى العبور كأنها ... معلق قنديل عليها الكنائس ولاح سهيل عن يميتي كأنه ... شهاب نجاة وجهه الريح قابس ولم يبق في الوجود من هذا الدير غير اسمه: دير المصلبة وهو بظاهر مدينة القدس الشريف في شامها بغرب وهو دير رومي قديم البناء بالحجر والكلس محكم الصنعة مونق البقعة في بحيرة من أشجار الزيتون والكروم وشجر التين بإزاء قرية تجرى على الدير بمرسوم السلطان. قال في مسالك الأبصار بعدما تقدم: وهذا الدير دخلت إليه ورأيته وفيه صور يونانية في غاية من محاسن التصوير وتناسب المقادير وصعدت إلى سطحه فرأيت له حسن مُشترَف وسعة فضاء ورهبانه من الكرج. قال وكان أخذ وجعل مسجداً للمسلمين ثم أعيد ديراً للنصارى وتوصل إلى هذا بكتاب أخضر من ملك الكرج وأعان عليه قوم آخرون. قال: وحدثته رهبانه بأن على ديرهم وقوفاً في بلادهم منها خيول سائمة أثمان نتاجها إليهم وأنه يجيء منها في كل سنة قدر جليل وإنها تنفق في مصالح الدير وابن السبيل. وفيه يقول أبو علي حسن الغزي: يا حسن أيام قطعت هنيئة ... بالدير حيث التين والزيتونُ

دير المصلبة الرفيعُ بناؤه ... تَفدي عبير ترابه دَارين في ظل هيكله وأسراب الدّمى ... مَجْلُوة والمرمرُ المسنونُ ومزنرين إذا تلوا إنجيلهم ... وتعطفوا فحمائم وغصونُ غزلانُ وجرةَ هم وبين جفونهم ... لأسود بيشة إن عَرَضنْ عرين نزعوا القلانس والمسح فزحزحت ... منهن عن غرز الشموس دجون وسعوا بكاسات المدام وما دروا ... أن للكؤوس الدائرات جنونُ فقضيت بينهم زماناً لم يزل ... عندي إليه تشوق وحنينُ تلك المنازل قد سفحن مدامعي ... لا مصرُ قاطبةً ولا جيرُونُ ولا يزال هذا الدير عامراً وهو للروم الأرثوذكس. دير مرقس الغالب أنه كان من النواحي حلب ورد في شعر حمدان بن عبد الرحيم في قوله: أسكان عرشين القصور عليكم ... سلامي ما هبت صباً وقبول ألا هل إلى حث المطّي إليكم ... وشم خزامي حربنوش سبيل وهل غفلات العيش في دير مرقس ... تعود وظل اللهو فيه طليل إذا ذكرت لذاتها النفس عندكم ... تلاقي عليها زفرة وعويل بلاد بها أمسى الهوى غير أنني ... أميل مع الأقدار حيث تميل دير مُرّان هذا اسم لديرين في الشام كان أحدهما على الجبل المشرف على كَفَرْ طاب قرب المعرة يزعمون أن فيه قبر عمر بن عبد العزيز رض وهو مشهور بذلك كان يزار في عصر ياقوت. والثاني بالقرب من دمشق على تل مشرف على مزارع الزعفران ورياض حسنة وبناؤه بالجص وأكثر فرشه بالبلاط الملون، وهو دير كبير رهبان كثيرة وفي هيكله صورة عجينة دقيقة المعاني والأشجار محيطة به. روى ذلك الخالدي أما محل الدير فمحل خلاف منذ القديم قال ابن فضل الله: والناس في اختلاف أين كان دير مران فمن قائل إنه كان بمشارق السفح نواحي برزة والأكثر على أنه كان بمغاربه وأن مكانه الآن القرن الثامن المدرسة المعظمية، وأما الذي كان بمشارق السفح فهو دير السائمة المسمى دير صليبا. وروى صاحب قضاة دمشق قال: لما وافى المأمون دمشق سنة خمس عشرة ومائتين نزل بدير مران

ومكانه المعروف بالسهم إلى قرب النيرب خارج دمشق في سفح قاسيون فعمر المأمون هذا الدير وبنى القبة التي فوق الجبل وهي المعروفة الآن بقبة النصر ولم يعثر على أثر لهذا الدير العظيم. وكان هذا الدير لقربه من دمشق ولجمال موقعه مقصد الملوك والراغبين في النزهة والشراب. قال ابن بطريق: إن كنائس الغوطة ودير مران كان المسلمون ينزلونها ويسكنون فيها. وقد نزل يزيد بن معاوية دير مران ومات فيه الوليد واجتاز به الرشيد والمأمون وقد أكثر الشعراء من ذكره حتى نسب ليزيد قوله وقد أصاب المسلمين سباء بأرض الروم: وما أبالي بما لاقت جموعهم ... بالغذقدونة من حمى ومن مُوم إذا اتكأت على الأنماط مرتفقاً ... بدير مران عندي أم كلثوم ومن جملة ما قيل في هذا الدير قول أبي بكر الصنوبري وهو: أمر بدير مران فأحيا ... وأجعل بيت لهوي بيت لهيا ويبرد غُلتي بردَى فسقياً ... لأيام على بردى ورعيا ولي في باب جيرون ظباءُ ... أعاطيها الهوى ظبياً فظبيا ونعم الدار داريا ففيها ... حلالي العيش حتى صار أريا سقت دنيا دمشق ليصطفيها ... وليس يريد غير دمشق دنيا تفيض جداول البلور فيها ... خلال حدائق يُنبتن وشيا مظللة فواكهها بأبهى ال ... مناظر في نواظرها وأهيا

فمن تفاحة لم تُعد خداً ... ومن رمانة لم تُخط ثديا وله فيه: متى الأرحل محطوطة ... وعير الشوق مربوطة بأعلى دير مران ... فداريا إلى الغوطة فشطي بردى في جن ... ب بسط الروض مبسوطة رباع الأنهار من ... ها خير مهبوطة وروض أحسنت تكتي ... به المزن وتنقيطه وقال فيه الحسين بن الضحاك: يا دير مران لا عريت من سكن ... قد هبطت لي حزناً يا دير مرانا حث المدام فإن الكأس مترعة ... مما دواعي الشوق احيانا وقال الببغا أبو الفرج عبد الواحد: ويوم كأن الدهر سامحني به ... فصار اسمه ما بيننا هبة الدهر جرت فيه أفراس الصبا بارتياضنا ... إلى دير مران المعظم والعمر بحيث هواء الغوطتين معطر ال ... نسيم بأنفاس الرياحين والزهر فمن روضة بالحسن ترفد روضة ... ومن نهر بالغيض يجري إلى نهر وفي الهيكل المعمور منه انتزعتها ... وصبحي حلالاً بعد توفية المهر ونزهت عن غير الدنانير قدرها ... فما زلت منها أشرب التبر بالتبر وقال عون الدين الحلبي الكاتب المتوفى سنة 656 وهو مما يستأنس به من أن هذا الدير كان عامراً إلى أواسط القرن السابع وفيه ذكر ديرين آخرين وهما دير متى ودير حنينا والأول ليس له ذكر في ديرة الشام بل هو من أديار الموصل ولما كانت القصيدة في التشوف إلى الشام استلزم ذلك أن يكون دير متى من جملة أديارها التي ضاع اسمها ورسمها قال: يا سائقاً يقطع البيداء معتسفاً ... بضامر لم يكن في سيره واني إن جزت بالشام شم تلك البروق ولا ... تعدل بلغت المنى عن دير مران واقصد علالي قلاليه تلاق بها ... ما تشتهي النفس من حور وولدان من كل بيضاء هيفاء القوام إذا ... ماست فيا خجلة المران والبان وكل أسمر قد دان الجمال له ... وكمل الحسن فيه فرط إحسان

ورب صدغ بدا في الخد مرسله ... في فترة فتنت من سحر أجفان فليت ريقته وردي ووجنته ... وردي من صدغة أنسي وريحاني وعج على دير متى ثم حي به ال ... ربان بالطرس فالربان رباني فهمت منه إشارات فهمت بها ... وصنت منشورها في طي كتمان واعبر بدير حنينا وانتهز فرص ال ... لمذات ما بين قسيس ومطران واستجل راحاتها تحي النفوس إذا ... دارت براح شماميس ورهبان دير المغان بحمص في خربة بني السمط تحت تلهم، وهو دير عظيم الشأن عندهم كبير القدر فيه رهبان كثيرة وترابه يختم عليه للعقارب ويهدى إلى البلاد قاطبة وتتنافس النصارى في موضع مقبرته ياقوت. دير ميامس نقلت من ياقوت: بين دمشق وحمص على نهر يقال له ميامس وإليه نسب، وهو في موضع نزه، وبه شاهد على زعمهم من حواريي عيسى عليه السلام زعم رهبانه أنه يشفي المرضى. وكان البطين الشاعر قد مرض فجاءوا به إليه يستشفي فيه فقيل: إن أهله غفلوا عنه فبال قدام قبر الشاهد واتفق أن مات عقيب ذلك فشاع بين أهل حمص أن الشاهد قتله وقصدوا الدير ليهدموه وقالوا: نصراني يقتل مسلماً لا نرضى أو تسلموا لنا عظام الشاهد حتى نحرقها، فرشا النصارى أمير حمص حتى رفع عنهم العامة فقال شاعر يذكر ذلك: يا رحمتا لبطين الشعر إن لعبت ... به شياطينه في دير ميماس وافاه وهو عليل يرتجي فرجاً ... فرده ذاك في ظلمات أرماس وقيل شاهد هذا الدير أتلفه ... حقاً مقالة وساوس وخنائس أأعظم باليات ذات مقدرة ... على مضرة ذي بطش وذي باس لكنهم أهل حمص لا عقول لهم ... بهائم غير معدودين في الناس وحكي أن أبا نواس لما دخل حمص ماراً بها دعاة فتى من أدبائها إلى دير ميماس ودعا معه أشجع السلمي فجلسوا يشربون وأبو نواس ينشدهم له ولغيره فقال أشجع: صبحت وجه الصباح بالكأس ... ولم تعقني مقالة الناس ونحن عند المدام أربعة ... أكرم صحب وخير جلاس ندير حمصية معتقةً ... على نسيم النسرين والآس

ولم يزل مطرباً ومنشدنا ... أبو نواس في دير ميماس دير نجران بأرض دمشق من نواحي حوران ببصرى وهو دير عظيم عجيب العمارة ولهذا الدير ينادى في البلاد من نذر نذراً لنجران المبارك والمنادي راكب فرس يطوف عامة نهاره في كل مدينة مناد، وللسلطان على الدير قطيعة يأخذها من النذور التي تهدى إليه. دير النقيرة في جبل قرب المعرة ولا نعرف عنه شيئاً. دير هزقل قال الخالدي هو بالشام وذكره دعبل بن علي حين هجا أبا عباد كاتب المأمون فقال: فكأنه من دير هزقل مفلت ... حنق يجر سلاسل الأقياد قال لبن فضل الله: ولا أدري في قرب أي مدينة هو. دير يونس ربما كان في جهات الرملة في فلسطين وقد قيلت فيه قصائد كثيرة وما ندري إن كان اختلط بدير في جهات الموصل على جانب دجلة الشرقي وموضعه يعرف بنينوى، ونينوى هي مدينة يونس. هذا ما أمكن تلقفه عن الأديار في الإسلام وكان قبل الإسلام أديار مهمة ضاعت أخبارها ولا يستغرب ما قيل في هذه الأديار من الأشعار في سالف الأعصار. فقد كان المسلمون يختلفون إلى الديرة يجعلونها محال النزهة لأنها في أماكن نزهة على الغالب تخير بانوها مواقعها، وبالنظر لتحريج الحكومات الإسلامية في الخمور وإباحة شربها وبيعها لأهل الذمة كلن المولعون بالشراب من أهل الشأن وخلعاء الشعراء والأباء يغشون الأديار قيجدون صدوراً رحبة فيشربون ويطربون ولذلك خص الشعراء تلك الأديرة بأشعار لطيفة وقصائد ربما كان فيها شيء من المبالغة ومنها ما نبا عن طور الأدب اليوم ولكنه كان من المألوف في تلك العصور. وفي ديار الشام اليوم ولا سيما في لبنان وبعض أنحاء فلسطين أديار عظيمة منها ما ورد ذكره في الجريدة التي كتبناها هنا ومنها ما هو من البناء الجديد وفيها المهم بنيانه وهندسته أشبه بقلاع منه بطرابيل وصوامع للمنقطعين للعبادة والتبتل وقد ظهر في يوم 27 أيار 1945 وقد قذفت فرنسا مدينة دمشق بحمم مدافعها أن معظم كنائس دمشق للآتين كان فيها ورشاشات وسلاح قاتلوا به السكان وعلى رأسهم الراهبات والرهبان.

المساجد والجوامع

المساجد والجوامع في أول الفتح: المسجد بكسر الجيم البيت الذي يسجد فيه وكل موضع يتعبد فيه فهو مسجد. ويقال مسجد الجامع والمسجد الجامع أي مسجد اليوم جامع. فالمسجد قد يكون صغير المساحة والحجم، والجامع مسجد عظيم يجمع المصلين أيام الجمع والأعياد. وأول المساجد التي بنيت في الشام على ما يظهر كانت في البلدان التي سبق فتحها غيرها من أمهات المدن مثل مؤتة والجرباء وأذرح وفحل وأجنادين وبصرى. ولما كانت السذاجة في كل شيء قد غلبت على العرب لأول عهدهم بالإسلام كانت مصانعهم بحسب الحاجة، وإذا كان من الواجب إذا اجتمع بضعة أفراد منهم أن يقيموا الصلاة جماعة لم تلبث المساجد إن كثرت في الشام في المدن والقرى. وكان الفاتحون يصالحون الأهلين إما على النصف من كنائسهم أو على بعضها أو يكتفون بواحدة أو بنصف واحدة كما اكتفوا بكنيسة مار يوحنا من أصل خمس عشرة كنيسة في دمشق وضاحيتها. وأعطى أبو عبيدة أهل بعلبك وأهل الرستن الأمان على كنائسهم واستثنى عليهن ربع كنيسة يوحنا للمسجد في الرستن. وصالح الفاتح أهل حمص على ربع كنيستهم للمسجد وظلت كذلك إلى القرن الرابع وبعض بيعها المسجد الجامع وشطرها للنصارى وبيعتهم من أعظم بيع الشام. وترك الفاتحون لأهل اللاذقية كنيستهم وبنوا مسجداً جامعاً لصلاتهم ثم وسعوه. بقيت المساجد على حالة ابتدائية حتى تولى معاوية أمر الشام، وكان بعيد

النظر في العمران، فسمت به همته إلى أن يخرج المساجد من دور التأسيس ويدخلها في مظهر مدني فيه الجلال والجمال. ولم يزل بعثمان حتى أذن له أن يبني المساجد ويكبر ما كان ابتني منها قبل خلافته. وهكذا بدأ التوسع في المساجد والجوامع عقيب استقرار الفتح ورسوخ أقدام بني أمية. واختط سليمان بن عبد الملك لما ولي جند فلسطين مدينة الرملة واختط المسجد وبناه فولي الخلافة قبل استتمامه ثم بني فيه بعد في خلافته ثم أتمه عمر بن عبد العزيز ونقص من الخطة وقال: أهل الرملة يكتفون بهذا المقدار الذي اقتصرت بهم عليه. ومعنى هذا أن جوامع القوم ومساجدهم كانت بحسب حاجة من ينزل في كل صقع من المسلمين والتوسع لم يبد إلا مع معاوية بن أبي سفيان وأخلافه. عرضنا في فصل المصانع لوصف المسجدين الجامعين في هذه الديار المسجد الأقصى وجامع دمشق. ونحن الآن تعرض لغيرهما من المساجد نذكر المهم منها في الحواضر على الأكثر، ونقابل بين قديمها وحديثها، وبديهي أن المساجد لقيت من المصائب السماوية والأرضية ما لقي غيرها من المصانع والعاديات. فإن الزلازل قد نسفت في الإسلام مدناً برمتها فقد تقطع الجبل الأقرع فمات أهل اللاذقية سنة 242هـ وخرجت طرابلس منه وفي هذا الزلزال خرب معظم الساحل وزلزلة سنة 460 خربت فلسطين وزلزال سنة 552 خربت به أمهات المدن الشامية وهكذا يقال في معظم الزلازل التي وقعت بعد إلى القرن الماضي ومن أهمها زلزال سنة 1173 حتى إن من المدن ما لم يبق فيه جدار قائم ولا إنسان سائر. ومساجد الساحل أصيبت في الحروب الصليبية بما نسفها أو غير معالمها فأصبحت كنائس ثم عادت البلاد لسلطان المسلمين أعيدت بعض البيع أيضاً مساجد. ومن المتعذر أن نعرف ما قام في كل عصر ومصر في الشام من المساجد والجوامع. ومن القرى اليوم ما كان فيه بالأمس عشرة مساجد والعمران يكثر ويقل بحسب حاجة الناس. والغالب أن العناية ببناء المساجد كان لغرض شريف للغاية بادئ بدء يراد به وجه المولى وثواب الآخرة وخدمة الإسلام والمسلمين. فلما أوغل الناس في مضمار الحضارة كان من البانين من يجمعون

بيم الدين والدنيا إذا تعلقت هممهم أن ينشئوا لهم جوامع يقصدون بها تخليد ذكرهم ونيل الثواب والأجر. ثم أتت قرون وقد أخذ بعض الناس ولا سيما الحكام يعمرون المساجد ويقفون عليها حتى يحفظوا بحجتها بعض ثرواتهم لذراريهم، وفي هذه العصور الأخيرة وقع التخليط وكثرت المنافسة في إقامة المساجد والجوامع، حتى في الأماكن التي لا يحتاج فيها الناس إلى مساجد كثيرة إما لكثرتها أو لقلة المصلين في جوارها. وأشبهت دمشق القاهرة في عهد المماليك وبعدهم، فكانوا يعمرون الجامع قرب أخيه على أشبار قليلة منه. وما حدثت البانين أنفسهم أن يشترك في إقامة مسجد جامع بضعة من أهل الخير أو عشرات منهم، لأن المقصد الأول استحال في الآخر إلى إحراز شهرة وإذا عمر إنسان جامعاً بالاشتراك مع غيره يضيع اسمه، وغايته أن يقال بنى فلان مسجداً، وهذا مسجد فلان، أو أن ينتفع هو أو أولاده بمغل وقف الجامع. وكان للملوك والأمراء في كثرة المساجد وقلتها يد طولي ومنها أن الملك أو الأمير أو غيره من طبقات الحكام والولاة إذا آنس منه قومه رغبة في الاستكثار من المساجد والقربات جاروه على أفكاره وتقربوا إليه بمثل هذه الأعمال الصالحة، وربما تقاضاهم هو ذلك سراً حتى يستخرج بذلك أموالهم وتوزع في الرعية فلا تجمد الثروة في يد واحدة. قال ابن تغري بردي في حوادث سنة 844: لما كانت الملوك السالفة تهوى النزه والطرب عمرت في أيامهم بولاق وبركة الرطلي وغيرها من الأماكن، وقدم إلى القاهرة كل أستاذ صاحب آلة من المطربين وأمثالهم من المغاني والملاهي إلى أن تسلطن الملك الظاهر جقمق، وسار في سلطنته على قدم هائل من العبادة، والعفة عن المنكرات والفروج، وأخذ في مقت من يتعاطى مسكرات من أمرائه وأرباب دولته، فعند ذلك تاب أكثرهم وتصولح وتزهد، وصار كل واحد يتقرب إلى من تاب وأقلع عما كان فيه، ومنهم من بنى المساجد، ولم يبق في دولته ممن استمر على ما كان عليه إلا جماعة يسيرة.

مساجد حلب:

مساجد حلب: في حلب اليوم169 جامعاً و182 مسجداً ومنها الجيد بنيانه، وأعظمها المسجد الجامع مسجد زكريا في غربي القلعة. صالح المسلمون أهل حلب على موضع المسجد يوم الفتح، وكان محله حديقة كنيسة الروم القديمة التي بنتها هيلانة أم قسطنطين. قالوا: إنه كان يضاهي جامع دمشق بالزخرفة والرخام والفسيفساء، وإن سليمان بن عبد الملك هو الذي بناه وتأنق في بنائه ليضاهي به ما عمله أخوه الوليد في جامع دمشق. وقيل: إن بانيه الوليد نفسه، وإن بني العباس نقضوا ما كان فيه من الرخام والآلات ونقلوه إلى جامع الأنبار في جملة ما نقضوا من آثار بني أمية بالشام. ولما جاء الروم حلب سنة 351 أحرقوا الجامع والبلد فرم بعضه سيف الدولة ثم ابنه سعد الدولة، وأحرقته الإسماعيلية سنة 564 مع الأسواق التي حوله فعمره نور الدين زنكني وقطع الأعمدة الصفر من بعادين ونقل إليه عمد مسجد قنسرين، وأحرقه من الأرمن سنة 679 أيام كانوا محالفين للتتر. وعمره قراسنقر سنة 684 وبنى فيه غيره بعض جهات منه مثل الأمير ألطون بغا الصالحي نائب حلب والأمير يشبك اليوسفي. ويقول العارفون بالآثار: إن بناء الجامع الحالي قد قام على الصورة التي عملت عليه زمن سابق بن محمود من بني مرداس 468 - 472 على يد القاضي ابن الخشاب وإن في أسفل المنارة كتابة تاريخها سنة 483 ذكر فيها اسم ملكشاه وابن الخشاب وفي جهة أخرى ذكر اسم تتش أخو ملك شاه ويستدل من مجموع البناء، وليس في جدرانه من كتابة مزبورة، أن هذا الطراز قديم صبر على الدهر. ومحرابه من عهد قلاوون والمنبر من عهد الناصر محمد، ويرد عهد الباب الأوسط للحرم إلى أوائل زمن المماليك وإن كانت فيه كتابات أحداث من عهد السلطان مراد الثالث 996. وأسس المنارة المربعة ذات الخمس طبقات القاضي ابن الخشاب سنة 482 وهي منقوشة أبدع نقش وهي بما كتب عليها من الكتابات الكوفية والنسخية المثال الوحيد من الهندسة الإسلامية. قال أبو الفداء: وكان بحلب بين نار قديم ثم صار أتون حمام فأخذ ابن الخشاب حجارته وعمر منارة جامع حلب.

وصف ابن جبير في القرن السادس جامع حلب بقوله: وهذا الجامع من أحسن الجوامع وأجملها وقد أطاف بصحنه الواسع بلاط كبير متسع مفتح كله أبواباً قصرية الحسن إلى الصحن عددها ينيف عن الخمسين باباً، فيستوقف الأبصار حسن منظرها، وفي صحنه بئران معينتان، والبلاط القبلي لا مقصورة فيه، فجاء ظاهر الاتساع رائق الانشراح. وقد استفرغت الصنعة القرنصية جهدها في منبره، فما أرى في بلد من البلاد منبراً على شكله، وغرابة صنعته، واتصلت الصنعة الخشبية منه إلى المحراب فتجللت صفحاته كلها حسناً على تلك الصنعة الغريبة، وارتفع كالتاج العظيم على المحراب، وعلا حتى اتصل بسمك السقف، وقد قوس أعلاه وشرف بالشرف الخشبية القرنصية، وهو مرصع كله بالعاج والآبنوس، واتصال الترصيع من المنبر إلى المحراب مع ما يليهما من جدار القبلة، دون أن يتبين بينهما انفصال، فتجتلي العيون منه أبدع منظر يكون في الدنيا، وحسن هذا الجامع المكرم أكثر من أن يوصف اه. هذا وصف المسجد الجامع وما كان فيه وليس هو بالعظيم كمسجد دمشق أو المسجد الأقصى وقد رمم في أوقات مختلفة. وفي حلب جامع الصالحين جنوبي المدينة أنشئ سنة 479 أنشأه أحمد بن ملكشاه ومحرابه مهم في بابه وأول جامع بني بحلب فيما قالوا بعد الجامع الكبير جامع ألطون بغا الصالحي تم سنة 723 وفيه يقول ابن حبيب: في حلب دار القرى جامع ... أنشأه ألطنبغا الصالحي رحب الذرى يبدو لمن أمه ... لطف معاني حسنة الواضح مرتفع الرايات يروي الظما ... من مائه السارب والسارح يهدي المصلي في ظلام الدجى ... من نوره اللامع واللائح من حوله روض يرى للورى ... من زهرة بالفائق الفائح لله بانيه الذي خصه ... بالروح للغادي وللرائح وعد ابن الشحنة من أحسن الجوامع التي بنيت على أجمل الوجوه جامع منكلي بغا الشمسي نائب حلب عمر 778. وعد ابن شداد في باطن حلب مائتي مسجد وسبعة عشر مسجداً داخل سور البلد منها ما نسبه لمنشئه ومنها

جوامع عمالة حلب:

ما عرفه بالخطة التي هو فيها. وذكر المساجد التي بأرباض حلب وذكر منها ما هو بالحاضر السليماني مائة مسجد وعشرة مساجد، وذكر مساجد الرابية وجورة جغال فعدها مائة وثمانية وستين مسجداً وأتى على ذكر المساجد التي بالظاهرية فعدها تسعة وتسعين مسجداً وعد بالرمادة أربعة وثلاثين مسجداً. وعد ببانقوسا ثلاثة عشر مسجداً وبالفرافرة اثني عشر مسجداً وبالمضيق ستة عشر مسجداً وبالقلعة عشرة مساجد. قال ابن الشحنة وعنه لخصنا إحصاء ابن شداد لمساجد حلب: فجملة هذه المساجد التي داخل حلب وخارجها إلى حين تأليف ابن شداد كتابه سبعمائة وخمسة وعشرون مسجداً. وقد بنى بعض الولاة الأول في الدولة العثمانية جوامع في حلب منهم جامع خسرو باشا 938 وجامع عادلي محمد باشا 957 وجامع بهرام باشا 988 وابشير مصطفى باشا 1061 وجامع عثمان باشا 1150. ومن جوامع حلب التي بقيت عليها بعض الكتابات الحثية جامع القيقان ومن جوامعها الأطروش واشتهر بكتاباته ونقوشه جامع البيادة في شمالي غربي القلعة. جوامع عمالة حلب: قامت في أنحاء حلب مساجد كثيرة ومنها مساجد قنسرين وهو البلد القديم الذي كان في الإسلام بمثابة حلب فخرّبه سيف الدولة سنة 351 أو 355 وأحرق مساجده، لما نزل الروم حلب وقتلوا جميع من كان بربضها وذلك خوفاً من سقوطها في أيدي أعدائه. وأنشئت في إنطاكية عدة جوامع بقيت منها بقايا على ما انتابها من الزلازل وأهمها اليوم جامع حبيب النجّار والجامع الكبير والشيخ علي والذخرية. وفي إنطاكية لعهدنا 13 جامعاً و27 مسجداً ومجموع ما في عملها 135 مسجداً وجامعاً وزاويةً وتكية. وأُنشئت منذ الفتح جوامع في مدينة المعرة وصف ناصر خسرو في أواخر منتصف القرن الخامس جامعها الأعظم فقال: إنه مبنى على أكمة قامت وسط المدينة ومن أي جهة اتجهت إلى هذا الجامع كان عليك أن ترتقي سلماً ذات ثلاث عشرة درجة. وقد خربت المعرة بدخول الصليبيين، ثم عاد إليها بعض حياتها وفيها اليوم 23 جامعاً ومسجداً أهمها الجامع العمري الكبير تقام فيه الجمعة دون غيره

من المساجد. ومجموع ما في عمل 41 مسجداً وجامعاً. وفي عمل جيل سمعان اليوم 183 جامعاً ومسجداً، وفي بيلان 5 مساجد وجوامع. وفي قضاء إدلب 37 مسجداً وجامعاً وجامعها في القصبة من عهد الفتح يسمونه العمري. وفي معرة مصرين وعملها 11 جامعاً ومسجداً، وفي حارم جامع ومسجد وفي عملها عدة جوامع ومساجد وكذلك في أعزاز، وفي قضاء الباب 15 جامعاً ومسجداً وفي بزاعة وجسر الشغر ومعرة وصرين وسرمين وجبرين وسلقين وخناصرة والفوعة وأرمناز وديركوش والجبول والأثاب ودانيث وكلز وغيرها من البلدان القديمة مساجد وجوامع. ولا تكاد تخلو في يومنا هذا كل قرية من مسجد إلا كانت مزرعة حقيرة لأحد أرباب الأملاك. وفي الشغر اليوم ثلاثة جوامع وخمسة مساجد ولا تخلو المدينة التي كانت عامرة جداً ثم خربت عن آخرها مثل بالس مسكنة ومنبج مثلاً من مساجد لا بأس بها. ولقد تقلبت الأيام بهذه المساجد والجوامع فكثرت في الأماكن التي اشتدت إليها الحاجة وقلت حيث قل العمران وابذَعَرّ السكان. فقد طانت سرمين مثلاً على طرف جبل السماق من المدن ولها مساجد كثيرة روى ابن شداد أن عددها كان ينيف على ثلاثمائة مسجد، قال: وليس بها الآن أي في عهده مسجد يصلي فيه غير الجامع وأكثر أهلها إسماعيلية ولهم بها دار دعوة. وسواء كان هذا العدد مبالغاً قيه أو غير مبالغ فالمحقق أن الجوامع والمساجد كثرت في الأعصر السالفة في هذه الأرجاء بكثرة السكان وتوفر خيرات الأرض ثم لما خربت المدن دع القرى تراجع أمر بيوت العبادة. ومن الجوامع القديمة في هذا الصقع جامع اعزاز عرف بالجامع الكبير قال الغزي: وهو صحن واسع فسيح في شماليه رواق وفيه مئذنة ضخمة وفي وسطه حوض يهبط إليه بدركات تجري فيه قناة جرها إليه إسماعيل بن عبد الله العزازي المتوفى سنة 748 وفي جنوبي صحن الجامع قبيلة يبلغ طولها نحو 50 في عرض 15 ذراعاً سقفها قباب محمولة على أعمدة ضخمة وقد كتب على باب الجامع المتجه إلى الغرب: بسم الله الرحمن الرحيم في سنة 644 أمر بعمله مولانا السلطان العالم العادل الملك الناصر صلاح الدنيا والدين يوسف بن الملك العزيز محمد بن عبد الملك الظاهر غازي ابن أيوب ناصر أمير المؤمنين خلد الله ملكه.

مساجد الساحل وجوامعه:

مساجد الساحل وجوامعه: لما كانت مدن الساحل معرضة لهجمات الأعداء كل حين، وكانت الزلازل قد نولت عليها كثيراً وظلت مرسحاً للجيوش الصليبية مدن قرنين أصاب الجوامع والمساجد فيها ما أصاب غيرها من العمائر، فليس في الإسكندرونة اليوم سوى جامعتين وفي عمالتها بعض المساجد الحقيرة، وكذلك الحال في السويدية واللاذقية والمرقب وطرطوس وجبلة وبانياس وطرابلس وجبيل وبيروت وصيدا وصور وعكا وحيفا ويافا وغزة، خربت جوامعها ومساجدها وعمرت غير مرة في الإسلام. ففي اللاذقية اليوم عدة مساجد وفيها جامع جميل مطل عليها من الهضبة المطلة على الثغر ولها منارة جميلة. وأهم جوامع اللاذقية جامع المغربي ومن جوامعهم جامع جديد والكبير المنصوري وأرسلان باشا والصليبة وصوفان والشيخ ضاهر وجامع الاسكلة والشواف والصغير، وفي اللاذقية اثنا عسر مسجداً غير هذه الجوامع. وفي جبلة جامعان وهما جامع السيد إبراهيم والمنصوري ومن مساجدها القنطاري وبني علي أديب والغزالي والأكراد وجامع واحد في بانياس، وفي طرطوس جامع كان على عهد الصليبيين كنيسة كاتدرائية، وفي صافيتا جامع وثلاثة مساجد في جوارها. وفي طرابلس عدة جوامع ومساجد ومعظمها من آثار المماليك البحرية والجراكسة، وما تجدد بعدهم فقليل جداً بالنسبة لآثارهم في هذه المدينة، وأكثرها لم يذكر عليه اسم بانيه. ولا ريب أن البواعث كانت دينية محضة ورغبة في ثواب الله بدار الآخرة فكان عدم ذكر الباني على البناء أبعد عن السمعة والرياء، وكان الأمير أو المتمول منهم إذا شيد مسجداً للصلاة جعل في أحد أطرافه مشهداً ليدفن فيه عند موته ولم يزل إلى الآن كثير من قبور المماليك الرخام محفوظاً في المساجد التي أقاموا على الطراز المخصوص بهم كأن يجعلوا في كل زاوية من زوايا القبر قاعدة بارتفاع ثلاثين سانتيماً وأعلاها كروي. وللمماليك من نوع هذه القبور في دمشق صنوف. وإن ما بقي إلى اليوم من الفسيفساء في محاريب تلك المساجد وجدرانها آية في الإبداع وحسن الصناعة.

ومن أعظم جوامع هذا الثغر الجامع الكبير بناه السلطان صلاح الدين خليل الأشرفي على ما يرى في الكتابة المحفورة فوق باب الجامع الشمالي وذلك في سنة 693هـ وكان متولي العمارة سالم الصهيوني ابن ناصر الدين العجمي وفي سنة 715 وعلى عهد ولاية السلطان محمد بن قلاوون للمرة الثالثة بنيت بأمره الأروقة المحيطة بصحن المسجد أيام نيابة المقر السيفي كستاني الناصري وكان متولي العمارة أحمد بن حسن الحرلبعليلي وتسميه أهالي طرابلس الجامع المنصوري وهو غلط بين لأن الملك المنصور قلاوون هو أبو الأشرفي باني الجامع المذكور. ومنها جامع طينال وتسميه العامة طيلان بناه سيف الدين طينال مملوك محمد الناصري وحاجبه وكان قد تولى ولاية طرابلس مرتين وبنى الجامع المذكور للمرة الثانية سنة 736. وفي منارته هندسة لطيفة ولها من داخلها سلمان أحدهما سقف للآخر، فإذا أراد المؤذن الصعود للأذان من داره الملاصقة للمسجد دخل من باب المنارة صاعداً أعلاها وإذا أراد النزول للصلاة دخل من باب آخر يصل منه إلى داخل المسجد وعلى هذه الصورة فباب المنارة السفلي الخارجي أدنى من أرض المسجد بقدر قامة الإنسان. ومن جوامعها جامع أرغون شاه وتسميه العامة الفنشا على الطريق الشرقية الآخذة لجبانة باب الرمل ولا يعلم تاريخ بناه وفوق بابه كتابة حفرت أيام قايتباي من الممليك الجراكسة سنة 880 يأمر فيها بحماية زراع أراضي الوقف للجامع المذكور وتسليمها إلى محمود الأدهمي الحسيني وقد بني هذا الجامع حديثاً بعد سقوطه ووضعت له القساطل الحديدية لجر المياه. ومن جوامعها جامع التوبة وهو ملاصق للجسر الجديد على نهر أبي علي ومن الثابت أنه بني أيام دولة المماليك وطراز هندسته يشبه الجامع الكبير من وجوه كثيرة وقد جدد بناءه بعدما تهدم من الفيضان الكبير الذي وقع في طرابلس سنة 1020 أحمد بن محمد الشربداري الأنصاري كتخدامي حسين باشا السيفي، وتم بناءه في شهر ربيع الآخر سنة 1021 والكتابات الأثرية التي عليه يرجع تاريخها إلى سنة 817 أيام دولة المؤيد أبي النصر شيخ المحمودي من المماليك الجراكسة.

ومن جوامعها جامع المعلق بناه محمود بن لطفي الزعيم سنة 967 أيام سليمان القانوني وهو في محلة بوابة الحدادين. وجامع العطار وسط البلد بقرب محلة الملاحة والمشهور عند أهالي طرابلس أنه كان كنيسة في زمن الصليبيين ثم تحول إلى جامع بعد الفتح الإسلامي وكان قد تداعى بناؤه، فأقيم وفي أعلى بابه الشرقي مكتوب هذا التاريخ البسملة. هذا الباب المبارك والمنير من عمل المعلم محمد بن إبراهيم المهندس في سنة إحدى وخمسين وسبعمائة. وجامع البرطاسي في جانب الجسر العتيق على نهر أبي علي وفي الكتابة التي فوق بابه يقول: بني هذه المدرسة عيسى بن عمر البرطاسي ووقفها على المشتغلين بطلب العلم على مذهب الإمام الشافعي ولم يعلم الزمان الذي تحولت فيه إلى جامع وقد ذهب من أصل الكتابة التاريخية القسم الذي به زمن البناء غير أن أسلوب تلك الكتابة وطرز بنائه الفخم ودقة الفسيفساء التي على محاربه وفي أرضه تدل على أن بانيه من الأثرياء أيام دولة المماليك البحرية. وجامع الأويسية بني في دولة المماليك غير أنه لم يكن عليه كتابات تاريخية إلا ما كان في أعلى منارته وفيها ذكر أنه جَدد بناءها أيام السلطان سليمان القانوني سنة 941 رجل اسمه حيدرة في وقفية الجامع أن اسم بانيه محي الدين الأويسي. وجامع عبد الواحد وراء سوق الصاغة بناه عبد الواحد المغربي المكناسي أيام السلطان محمد بن قلاوون للمرة الثالثة سنة 705 وعليه زبرت كتابة تشعر بذلك. وجامع التفاحي يسمى اليوم بالحميدي لم يبق من بنائه الأصلي أثر وتجدد بناؤه حوالي سنة 1310 بمعاونة أهل الخير وإعانة السلطان عبد الحميد الثاني فنسب إليه. وجامع محمود بك السنجق وهذا بناه في طرف البلد تقريباً للجهة الشرقية بالمحلة المعروفة بباب التبانة سنة 1020 في عهد السلطان أحمد من ملوك بني عثمان ووقف عليه أوقافاً كثيرة لم تزل قائمة إلى الآن. وجامع الطحام داخل البلد ولم يعلم اسم بانيه ولا تاريخ بنائه وشكله وطرز منارته يدل على أنه بني زمن المماليك. هذه جوامع طرابلس وقد وصف ناصر خسرو المسجد الأعظم فيها أواخر النصف الأول من القرن الخامس بقوله: والمسجد الأعظم قائم في وسط المدينة وهو جميل للغاية، مزدان بأحسن زينة، ومبني على غاية القوة

جوامع المدن الداخلية:

والمتانة، وفي صحنه قبة عظيمة تعلو من المرمر في وسطه فوارة يخرج ماؤها من منقار نحاس أصفر اه. والغالب أن هذا الجامع خرب بخراب تلك المدينة بعد. وفي جبيل جامع هو مما اتخذ جامعاً بعد الحروب الصليبية. أما مدينة بيروت فكانت فيها جوانع صغيرة بعد الفتح ولم تكن بيروت بالثغر العظيم إذ ذاك ولم يكن للمسلمين جامع فيها أيام استيلاء الصليبيين عليها، فلما انتزعت منهم أخذوا كنيستهم وجعلوا جامعاً، وهي تعرف بكنيسة ماريو حنا الصايغ ويقال لها جامع النبي يحيى أو الجامع الكبير اليوم. وبنى فيها الأمير منصور عساف جامع السراية. وكان جامع الخضر كنيسة للموارنة باسم مار جرجس إلى سنة 1661م فأخذه أحد باشوات الترك وجعله جامعاً. ومنها جامع المجيدية وغيره ومجموع ما في بيروت اليوم من المساجد والجوامع ثلاثون جامعاً ومسجداً. وفي صيدا سبعة جوامع ومساجد أهمها الجامع الكبير جامع يحيى وكان كنيسة على الغالب باسم مار يوحنا وفي صور مسجد جامع. وفي عكا بضعة جوامع أهمها جامع الجزار، وفي حيفا وعملها عدة جوامع ومساجد، وفي يافا وعملها كذلك وجوامع يافا قديمة في الجملة، وفي غزة، وكان مسجدها الجامع من الكنائس المهمة في القرن الثاني عشر للميلاد على اسم القديس يوحنا المعمدان، وكان كاتدرائية لأسقف الروم، وفيها جامع هاشم وجامع باب الداروم وغيره من الجوامع التي فيها نقوش بديعة وأنقاض تدل على مجد قديم. جوامع المدن الداخلية: وفي الخليل وحبرون جامع فيه مقام الخليل إبراهيم في مغارة تحت الأرض. قال شيخ الربوة: ومن المباني القديمة مقام الخليل عليه السلام طوله ثمانون ذراعاً وعرضه خمسون ذراعاً، في الطول نته عشرون حجراً مدماكاً واحداً، وداخل المقام نصب على الضريح كل واحد حجر واحد، الطول أربعة أذرع والعرض ذراعان وتصف والسمك مثلها وأزيد. ويحتوي اليوم سور الخليل على أساس يبلغ علوه 12 متراً وحجارته ملساء عليها مسحة

الإمبراطور هيرودوس. وقد بني هذا الجامع الصليبيون من سنة 1167 إلى 1187، وربما كان إنشاؤه مكان كنيسة يوستنيانوس وجدده المسلمون بعد ذلك. وأقدم ما في الجامع من الترميمات ما قام به قلاوون من سلاطين المماليك. وفي القدس عدا المسجد الأقصى ثمانية جوامع وهي جامع عمر بن الخطاب تهدم ومكانه الآن كنيسة القديسة حنة شمال كنيسة مار يوحنا والجامع الباقي مع المئذنة من آثار قلاوون قاله الأستاذ البرغوثي وجامع عكاشة وجامع سوق البيزار وجامع سلمان الفارسي وجامع الشيخ جراح وجامع سويقة علوان وجامع الخانقاه بالصلاحية قرب الكنيسة وجامع باب خان الزيت. والجوانع الخربة أيضاً تسعة وهي جامع بحارة الحدادين، وآخر قرب دير اللاتين وثالث قرب بطريركية دير اللاتين ورابع اسمه الحيات وخامس جامع اليعقوبي قرب العقوبي قرب القلعة وجامع قرب دير الأرمن وثلة على مقربة من دير السريات وغيره في حارة اليهود وجامع الأزرق. وهناك ثلاثة جوامع معمورة أيضاً وهي جامع البيل وجامع لؤلؤ وجامع أبي قصبة. وبعض هذه الجوامع لا شأن له من حيث النظافة والإتقان شأن المصليات البسيطة. وفي الرملة عدة جوامع ومساجد قال ناصر خسرو في مسجدها الجامع: إن في وسطه صهاريج واسعة وإن مساحته ثلاثمائة قدم في مائتين. وقال الظاهري: إن من جملة مزارتها الجامع الأبيض عجيب من العجائب. وكان منارة من عجائب الدنيا بناها قلاوون. وفي لد عدة جوامع ومساجد وكان بها في القرن الرابع جامع يجمع به خلق كثير من أهل القصبة وما حولها من القرى وجامعها الكبير اليوم من عهد الصليبيين كان كنيسة. وفي نابلس تسعة جوامع ومساجد أهمها الجامع الكبير ومسجد أولاد يعقوب وجامع النصر والخضراء والجامع الكبير بناه يوستينانوس. وعلى قيد غلوة من أرسوف بقايا حرم سيدنا علي بن غليل أو عليم. وفي قاقون بني الملك الظاهر بيبرس جامعاً. والظاهر هذا جدد وبني عدة مساجد وجوامع في الشام ومثله قلاوون وتنكر من المماليك. ومن الجوامع التي رمها ديوان الأوقاف في فلسطين في العهد الأخير جامع المنشية والعجمي والبحر وأرشيد والطابية في يافا، وجامع العصا في الرملة،

وجامع لدّ. ومقام النبي يحيى في قرية المزيرعة ومقام النبي روبين وجامع سويقة علون وجامع باب خان الزيت والزاوية النقشبندية وجامع سعد وسعيد، وجامع بيت لحم ومقام النبي شموبل في القدس وأرباضها. ورمت الأوقاف في نابلس جامع النصر والجامع الكبير الصلاحي وجامع العين وجامع التينة. وجامع قرية رفيديا وقرية عقربة وقرية عصيرة الشمالية وقرية صيدا وجامع البئر في قرية زواتا وجامع سبطية وجامع قرية برقة. وأجريت عدة إصلاحات في جامع الجزار في عكا وأنشئ في حيفا جامع الاستقلال. وأصلحت الأوقاف الجامع الكبير في غزة أصابه خراب كبير بسبب معارك الحرب العامة وهو من المساجد العظمى في فلسطين فخم البناء كبير القيمة الأثرية جميل الشكل والهندسة يحتوي على عدة سلاسل من العقود الحجرية وأصلح جامع سيدنا هاشم وجامع ابن عثمان وجامع المجدل وحرم سيدنا زكريا في الخليل، وشرع أهالي الخليل ينشئون مسجداً فساعدهم المجلس الإسلامي الأعلى. وكانت المدن القديمة غاصة بالجوامع مثل قيسارية وأرسوف فذهبت بذهاب عمرانها. وفي طبرية اليوم جامعان قديمان الجامع الفوقاني من بناء عرب الزيادنة عام 1156 والثاني جدد بناؤه عام 1280. وفي صفد عدة جوامع ومساجد. وفي قلعة الشقيف بني الظاهر بيبرس جامعاً وكانوا يقيمون الصلوات قي القلاع أيضاً كما بنوا جوامع لهم في قلعة دمشق وفي قلعة حلب. وفي صرخد عمر الظاهر بيبرس جامعاً، وكذلك فعل في بصرى وعجلون والصلت، وفي هذه البلدان اليوم مساجد صغيرة فقد قضت الأيام على المساجد المهمة. وفي عمان جامع ومسجد وكان فيه في القرن السابع جامع ظريف في طرف السوق مسقف الصحن شبه مكة. وقد أنشئ فيها في العهد الحديث جامع فخم. وللدروز في الشوف من لبنان ووادي التيم الأعلى والأسفل ومرجعيون وصفد وضواحي دمشق وبيروت والجبل الأعلى وفي بعض قرى عكا خلوات أشبه بالمساجد لا منابر لها ولا مآذن، ويجتمع فيها خاصتهم ليلة الجمعة ويسمونها مجالس كما أن للنصيرية العلويين في جبالهم خلوات صغيرة ذات قباب تكون على الغالب في أطراف قراهم، وكذلك لا تخلو أكثر قرى المتاولة

الشيعة في جبل عامل من مساجد صغيرة لهم لا مآذن لها ولا منابر، ومنها ما يسمونه حسينية نسبة للحسين بن علي رضي الله عنهما يقيمون فيها المآتم عليه في أوقات لهم مخصوصة. وفي بعلبك عدة جوامع ومساجدها بقي بعضها من عهد عزها. أيام غلبة مذهب أهل السنة والجماعة على سكانها أكثر من التشييع. وللإسماعيلية مجالس أيضاً كما للنصيرية. ولقد زيّن بعض عمال السلطنة العثمانية للسلطان عبد الحميد الثاني أن يبني جوامع ومساجد في جبال النصيرية وجبل الدروز عسى أن يثوب أهلها إلى مذهب أهل السنة والجماعة، بنيت عدة جوامع في هاتين المقاطعتين، منها أربعون جامعاً في جبال العلويين على أمل أن يعود النصيرية والدروز إلى التسنن، فأصبح بعضهم يصلون شبه مكرهين، فلما آنسوا ضعف الحكومة بعد مدة فقليلة أتى جهلاء النصيريين والدروز على ما بني من مساجد الجديدة ودمرها عن آخرها ودنسوا كرامتها بما لا يليق. ومن الكتابات الأثرية في بعلبك ما زبر فوق باب قبة الأمجد على رابية السيخ عبد الله إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر. أمر بعمارة هذا المسجد المبارك الأمير الاسفسهلار الكبيرصارم الدين أبو سعيد خطلخ ابن عبد الله المعري الملكي الأمجدي، ضاعف الله له الثواب وغفر له يوم الحساب، وفي سنة ست وتسعين وخمسمائة. وكتب في جامع الحنابلة ببعلبك هذا: بسم الله الرحمن الرحيم. جُدّد هذا المكان المبارك في أيام مولانا السلطان الأعظم، شاهنشاه المعظم مالك رقاب الأمم، سيد ملوك العرب والعجم والترك والديلم، الملك المنصور سلطان الإسلام والمسلمين، قامع الكفرة والمشتركين، أبي المعالي قلاوون قسيم أمير المؤمنين، خلد الله سلطانه، وشد أزره ببقاء ولده وولي عهده، مولانا السلطان الملك الصالح علاء الدين، وأدام نصرهما، وجعل البسيطة ملكهما، بتولي الأمير نجم الدين حسن نائب قلعة بعلبك المحروسة ومدينتها، ونظر القاضي بهاء الدين بن خلكان وذلك في العشر الآخر من جمادى الأولى سنة ثنتين وثمانين وستمائة والحمد لله وحده.

والمساجد في لبنان قليلة جداً أنشئ بعضها حديثاً كجامع عالية، وأهم الجوامع في هذا الجبل جامع دير القمر للأمير فخر الدين عثمان المعني وعهدي به والمسيحيون من أهل جواره يحافظون عليه إذ ليس هناك من يصلي فيه من أهل الإسلام. وقد كتب على واجهته كتابتان هكذا بالخط العربي النسخي، الأولى: (بسم الله الرحمن الرحيم. في بيوت أذن الله أن ترفع ويكر فيها أسمه يسبح له فيها بالغدّ والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلوة وإيتاء الزكوة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب). والثانية: (بسم الله الرحمن الرحيم. في بيوت أذن الله ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدوّ والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلوة وإيتاء الزكوة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار). عمر هذا المكان المبارك ابتغاء لوجه الله العظيم ورجاءً لثوابه العميم العبد الفقير إلى عفو ربه القدير المقرّ الفخري الأمير فخر الدين عثمان بن الحاج يونس ابن معن غفر الله له. وكتب في 5 من شهر الله المحرم الحرام من شهور سنة تسع وتسعين وثمان مائة للهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام. وكانت الجوامع في حمص مهمة للغاية أوائل الإسلام وقد صالح المسلمون أهلها على ربع كنيستهم وكانت على أربعة أركان وذلك من عجائب بنيان العالم ومسجدها اليوم وسط السوق وليس بالكبير وفيه عقود وعمد ومحراب مزين بالفسيفساء المذهبة القديمة. وفي جهة أخرى محراب قديم معمول بالفسيفساء أيضاً. وأكد الأثريون أن بناء هذا الجامع هو من بناء الكنيسة، والغالب أنه جدد في أدوار مختلفة من عهد نور الدين زنكي إلى زمن قريب. ولا تزال في حمص منارة مئذنة من بناء بكجور الذي استولى على المدينة سنة 367 وعليها كتابة مفيدة في باب الهندسة العربية. ومن جوامع حمص المهمة جامع الرومي. ولم يثبت كون المدفون في هذا الجامع هو خالد بن الوليد الفاتح، لأن هذا على أغلب الروايات مات في مدينة الرسول والغالب أن هذا القبر

هو قبر خالد بن يزيد بن معاوية على ما أكد ياقوت قال: وهو الذي بنى القصر بحمص وآثار هذا القصر في غربي الطريق باقية. وذكر المؤرخون أنه كان في جامع حمص عمود يقال: إنه من الكحل الأصفهاني. وفي حماة 34 جامعاً و11 مسجداً ومن أهمها النوري بناه نور الدين زنكي سنة 559. ومنها أبي الفداء الشهير بجامع الدهشة أو الحيات. وقد وصف الأثري هرزفلد المسجد الجامع في حماة وهو الجامع الكبير فقال: إنه أصل حرمه كان كاتدرائية للنصارى غريبة الشكل وله ثلاثة أفنية مختلفة السعة، وثماني دعائم، وخمس قباب، ومن كل ناحية خمسة عقود أو أقبية. ويظهر أن الحائط الغربي كان حائط رواق الكنيسة، والحائط الجنوبي من العهد السابق للنصرانية، كما هو الحال في جامع دمشق كان معبداً ثم بيعة ثم جامعاً. وإلى جهة الشرق قامت منارة قديمة منفردة وهي مربعة الزوايا زبرت عليها كتابة كوفية ربما كانت من القرن الخامس، وتحيط بصحن الجامع الجميل أروقة معقودة، وهناك سدة بمحرابين أمام الحرم وسدة أخرى لها حوض قديمة، وفي الرواق الشرقي تربة ومصلى ولها نوافذ صلبة معمولة من النحاس من عهد المماليك، ومن الرواق الغربي يصل الإنسان إلى قبة الملك المظفر محمود الثالث 683 - 698 وله تابوت معمول بالخشب الجميل المنقوش، وهناك منارة ثانية قامت في الخارج وسط الرواق الشمالي ويستدل من كتابته وشكله أنه من زمن المماليك، وفي جامع حماة تجلت خاصية من هندستها تجلياً عظيماً، وذلك أن ظاهر الحيطان مزين بنقوش رسمت بألوان تشبه الفسيفساء لمراوحتهم في صنعها بين الحجر البركاني الأسود والحجر الكلسي الأبيض. وفي الجامع النوري على الشاطئ الأيسر من العاصي في أرض منحدرة وعلى بناء تحتي عال هذا الجامع على عهد نور الدين، وعلى ما دخله من الترميمات الكثيرة تشاهد فيه إلى اليوم أجزاء مهمة من البناء القديم، ولا سيما على طول الحرم، والعقود فيه حديثة العهد بالنسبة لمجموع الجامع، وكذلك ثلاث قباب من الرواق الشمالي مختلفة الأشكال والأبنية التحتانية من الجهتين

الشرقية والشمالية والحائط الخارجي الشمالي من الجامع ربما كان الجزء الأسفل من المنارة بما فيه الحجارة المنحوتة البيضاء والسوداء قديم العهد أيضاً. وفي هذا الجامع بقايا منبر جميل عمل من الخشب ويرد إلى زمن نور الدين ثم محراب مزين أجمل زينة له سوار من الخام المجزع من زمن الملك المظفر تقي الدين 626 - 642 وفي مكان آخر من الشرق محراب ذو سوار من المرمر زُبر في تيجانها اسم أبي الفداء. والجامع الأول هو الذي قام على أنقاض الكنيسة أو حّول منها في زمن الفاتح، وهو جامع السوق الأعلى وجدّد خلافة المهدي من خراج حمص على ما نقش على رخامة فيه، ثم جاء المظفر عمر فزاد فيه وبنى مدرسة بجواره، ثم أتى إبراهيم الهاشمي فأنشأ منارته الشمالية سنة 825 كما زبر ذلك على رخامة فوق بابها، ومن بنائه الحرم الصغير في جانب المسجد من جهة الشرق ورواق الجامع أيضاً بناه سنة 832، وجامع الحيات أو جامع الدهشة الذي بناه الملك المؤيد وبنى لحرمه من جهة الشرق شباكين كبيرين بينهما عمود كبير من الرخام على صورة أفاعي ملتفة ولهذا يسمى جامع الحيات. وقد نقش حرمه بالذهب والفسيفساء والرخام الملون في جدرانه وأرضه وعمل له من الغرب شباكين كما في جهة الشرق، غير أنهما هدما وأدخلا في البساتين المجاور له، ولم يبق غير الشباكين. وذهبت خزانة الكتب الموقوفة وكان فيها سبعة آلاف مجلد. ويرى الداخل إلى حرمه حتى اليوم زناراً على ساريتين محفوراً من الرخام وصورته: أمر بعمل هذا الجامع المبارك السلطان الملك المؤيد عماد الدنيا والدين إسماعيل بن الملك الأفضل نور الدين علي بن الملك المظفر تقي الدين محمود ابن الملك المنصور ناصر الدين محمد بن الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه ابن أيوب في شهور سنة سبع وعشرين وسبعمائة. ومن الجوامع في حماة جامع السلطان في محلة الدباغة وهو متسع، بناه السلطان بدر الدين حسن شقيق أبي الفداء على هيأة جامع الدهشة وفي كل منهما رخام محفور بالآيات القرآنية كتبتها يد واحد، وله رواق كبير وفي محرابه كتبت آيات بالخط الكوفي. وفيها جامع العزة بناه محمد بن حمزة

جوامع العاصمة وضواحيها:

العزي سنة 723 وهو مهجور. وفيها جوامع بناها بعض آل الكيلاني الذين سكنوا حماة منذ القرن السابع ولها أوقاف عظيمة دارة إلى اليوم. ومن الجوامع الحديثة جامع الحميدية الخ. جوامع العاصمة وضواحيها: إذا صرفنا النظر عن الكلام على الجامع الأموي مفخرة دمشق على توالي الأيام والمعدومة من المصانع العظيمة في العالم، وعمدنا إلى وصف بعض جوامع العاصمة ومساجدها نجد عدد المساجد في العهد الأخير بحسب إحصاء ديوان الأوقاف ثمانية وخمسين مسجداً وجامعاً، منها الباشورة في الشاغور ومسجد الجديد في مسجد الأقصاب وجامع الأتابكية في الجركسية بالصالحية وجامع حسان في القماحين بباب الجابية ودرويش باشا في الدرويشة 982 واسمه القديم الاخصاصية وسعة درويش باشا، وجامع الدقاق في الميدان الفوقاني والركنية في الصالحية ومسجد رستم في العقبة وزيد بن ثابت في باب السريجة وجامع السقيفة في العمارة وجامع سيدي بشارة في باب المصلى وجامع سيدي صهيب في الميدان التحتاني وجامع السنجقدار وشادي بك في القنوات والطاغوسية في البحصة والعداس في القنوات ومسجد العداس الصغير في العمارة وجامع عبد الغني النابلسي في الصالحية وجامع برسباي المعروف في الورد في سوق ساروجا 852 وجامع كافل سيباي في الدرويشية. وفي هذا الإحصاء نظر لأن جوامع دمشق ومساجدها أكثر من ذلك ولعل من مصلحة الأوقاف أن تقلل من عددها لكي يتسع لها المجال أكثر مما اتسع لاستصفاء وقوفها فقد فاتها في هذه الجريدة ذكر جامع السنانية عمره يوسف عبد الله سنان باشا سنة 999 في محل مسجد البصل وجامع يلبغا أُنشئ سنة 847 وجامع التوبة في العقبة وجامع الجراح في باب الصغير عمره الملك الأشرف موسى 631 وله منبر جميل مهم. وجامع الجديد وهو جامع المعلق بين الحواصل أجمل بناء في دمشق جدده نائب الشام سنة 1058 ويظن أن أصله من القرن السابع أو السادس. وجامع الحنابلة في الجبل ويقال له جامع المظفري أنشأه ابن قدامة المقدسي 598 وأتمه الملك المظفر كوكبوري صاحب أربل وهو جامع جليل.

ومن الجوامع الجليلة جامع المرادية في السويقة له منبر ومحراب بديعان. ومنها جامع منجك في الميدان أنشأه الأمير إبراهيم بن سيف الدين منجك 800. جامع النحاس شرقي الركنية في الصالحية في بستان النحاس عماد الدين بن عبد الله بن الحسين بن النحاس 654. ومن الجوامع التاريخية التي لم تشتهر كثيراً جامع الحشر في الجانب الغربي من القلعة لأرغون شاه جدده سنان جاووش يكيجري 1008. الحيوطية للأمير علي بن حيوط 885 العسالي لأحمد باشا كوجك 1054 أنشأه أخمد بن عبي العسالي شيخ الخلوتية جامع الزاز 813. العزران شاه السيد تقي الدين الزينبي الجنوبي خرب في فتنة تيمور فجدده الطوش مرحاب. جامع الجوزة في العمارة وسعة القاضي ناظر الجيش 830 جامع خليخان خارج باب كيسان من الجنوب أنشأه نجم الدين بن خليخان 726 جامع الكريمي 724 بالقبيبات أنشأه عبد الكريم بن هبة الله المصري. جامع باب المصلى أنشأه 606 الملك العادل أبو بكر بن أيوب. وكان هذا السلطان مولعاً بالعمران أنشئت في عهده مسجد كثيرة في مملكته. جامع الحاجب في سوق ساروجا 880 جامع السقيفة دفن فيه عثمان السقيفي من الصحابة فيما يقال أنشأه خليل الطوغاني 814 وكان محله يعرف بالسبعة. وهناك مساجد دثرت لأنها ليس في جوارها من يتعدها مثل جامع الأحنر في حي اليهود والبهائية قي باب توما. وفي مفكرات طارق أن اسم سوق القطن القديم بدمشق سوق النسقار وفيه جامع هشام أنشأه القاضي بدر الدين بن مزهر 830 وأن محراب جامع التوبة مهم وكذلك منبره ونوافذه ومثل ذلك جامع الشامية وجامع التبان في المناخلية فإن فيه عمودين مهمين وفيه قاشاني ومنبر قديم وملاصق جامع السيدة سكينة جامع من بناء الملك الظاهر عليه كتابات وفي جامع ركن الدين منكورش المعروف بالركنية في حي الأكراد نقوش وكتابات مهمة. هذا غاية ما يقال في مساجد دمشق اليوم. وقد عدد ابن عبد الهادي القسم الأعظم من مساجدها في القرن العاشر نع أنه لم يستقص أسماء كثير من الجوامع في الضاحية بما يناهز خمسمائة قال: فناهيك ببلدة يحتوي واديها فقط على

زهاء ألف وخمسمائة مسجد، وأما ما هو محيط بمعاملتها مما وراء جبالها فهو كثير للغاية اه وذيل على كتابة الدكتور أسعد طلس فأورد وصف ثلاثمائة وثمانية مساجد في دمشق زارها كلها وبحث في حاضرها وغابرها وبعضها من المساجد التي عرضنا لها في هذا الفصل وكان فات إدارة الأوقاف ذكرها في المساجد الباقية. قال كانت جلبي في القرن الحادي عشر: إن عدد جوامع دمشق بين كبير وصغير يبلغ مائة وخمسين جامعاً وإن الدولة العثمانية أنشأت فيها عدة جوامع على طرز جوامع ديار الروم فبنت جامع السلطان سليمان بين الشرفين الأعلى والأدني وأنشأت جامع درويش باشا مير ميران ولاية الشام وأنشأت جامع سنان باشا خارج باب الجابية وأنشأت جامع قره مراد باشا مير ميران ولاية الشام خارج السور فوق طريق الشام على سمت طريق باب المصلى اه وإذا توغلنا في التاريخ إلى القرن السادس نجد ابن عساكر قد عد من المساجد التي بنيت بدمشق 241 مسجداً وجامعاً في داخلها و184 في ظاهرها مما ليس في قرية مسكونة أو معمورة قال لبن شاكر: وقد أحدثت بعد الحافظ ابن عساكر مساجد كثيرة داخلاً وخارجاً هذا مع ما اختصت به دمشق من كثرة المدارس والأوقاف. ومن المساجد التي عدها الحافظ منسوبة إلى أحد الصحابة مسجد ايمن بن خريم بن فاتك الأسدي الصحابي، الأنصاري قاضي دمشق. ولتعبر المعالم بها لا تعرف أسماء الأحياء التي ذكر أنها كانت فيها. قال ابن شاكر: وأما المساجد الخارجية عن البلد فمنها مسجد بين حجيرا وراوية قبر الست على قبر مدرك بن زياد ومسجد في راوية على أم كلثوم من أهل البيت. ومسجد كنان قبلي قذايا. قرية كانت قبلي مقابر اليهود فخربت، ومسجد في مقبرة باب توماء عند النهر المجدول بقرب الصفوانية يعرف بخالد بن الوليد لأنه صلى به وقت الحصار، ومسجد يعرف بمسجد النبي في أرض المصيصة له منارة. والمصيصة قرية كانت عامرة فخربت شرقي

بيت لهيا، ومسجد عند بيت أبيات يعرف بمسجد آدم، ومسجد معاوية من أرض قينية على طريق المزة وداريا، ومسجد الحجر ويعرف بمسجد النارنج قرب المصلى، ومسجد القدم عند القطائع بقرب عالية وعويلية قديم له منارة. ولقد كانت مساجد الغوطة عامرة كلها إلى دخول العثمانيين ثم أخذت تخرب في عهدهم، فقد كان كل قرية من قرى دمشق مسجد أو مساجد جامعة بحسب ضخامة القرية، وعشرات من هذه القرى خربت برمتها في القرون الأخيرة فذهبت معها الجوامع بالطبيعة. ومن القرى التي مرت بنا وذهب اسمها ورسمها راوية وفذايا والمصيصة وبيت ليها ولبيت أبيات وقينية وعالية وعويلية والنيرب والربوة. ولقد كان في الربوة عدة مساجد ومدارس. وفي تاريخ الصالحية أن المقاصف كانت تعمر عمائرها للنزهة من غير طين، والعمائر المكلفة كانت للمدارس والجوامع وان قاعة المسجد الديلمي الذي جدده نور الدين في الربوة قد بناها على شعب الجبل، سقفها نهر بزيد، وأساسها نهر ثورا من المقامات التي لا تدرك. قال: وبقي بعد الألف من هذا المسجد المئذنة وأثر العمار ثم دثر. وكان بالنيرب تسعة مساجد عدها ابن عبد الهادي، والآن ليس فيها أثر لمسجد ولا لقرية. وكان في القابون تافوقاني ثلاثة مساجد وبالقابون التحتاني ثلاثة، وليس فيهما الآن سوى مسجد واحد حقير. وهكذا مساجد قرى الغوطة والمرج وقلمون فإنها كلها ليست ذلت شأن، ومن أجملها اليوم جامع التل وعربيل ودومة وداريا. ومما دثر مسجد خاتون في منتصف الطريق بين دمشق والمزة. كما دثرت مساجد المزة وكانت بضعة مساجد وجوامع، منها مسجد بناه ابن عنين الوزير الشاعر في القرن السابع، وفي هذا القرن أيضاً بنى بها الوزير صفي الدين بن شاكر جامعاً، وهو الذي بلط جامع دمشق وأحاط سور المصلى عليه وعمل الفوارة وبنى جامع حرستا. والجوامع والمساجد اليوم صورة من عمراننا، وعمراننا كان متراجعاً إلى عهد قريب، وهو اليوم آخذ بالتقديم فلا يبعد أن تقوم المساجد بعد الآن على قانون ينم عن حسن ذوق في البناء فيعيد الصورة القديمة مضمومة إلى التحسين الحديث.

المدارس

المدارس نشأة المدارس اتخذ المسلمون مساجدهم للصلاة والعبادة وتلقي القرآن وعلومه والحديث وفنونه وعلوم اللسان، وما يتعلق بذلك من المطالب التي فيها قيام أمرهم وخدمة دينهم أولاً ولغتهم ثانياً، وظلوا على ذلك في الشان حتى أنشأ بدمشق رشأ بن نظيف بن ما شاء الله الدمشقي سنة 444 مدرسته المعروفة بالرشائية اتخذها دار القرآن، وكان الحسن بن عمار قاضي طرابلس للفاطميين والمتغلب عليها أقام في بلده دار الحكمة أو شبه مدرسة جامعة على النحو دار الحكمة التي أنشأها الحاكم بأمر الله في مصر سنة أربعمائة. ولما أراد المعتضد بالله العباسي بناء قصره ببغداد استزاد في الذرع بعد أن فرغ من تقدير ما أراد فسئل عن ذلك فذكر أنه يريده ليبني فيه دوراً ومساكن ومقاصير يرتب في كل موضع رؤساء كل صناعة ومذهب من مذاهب العلوم النظرية والعلمية ويجري عليهم الأرزاق السنية ليقصد كل من اختار علماً أو صناعة رئيس ما يختاره فيأخذ عنه. وأول من حفظ عنه أنه بنى مدرسة في الإسلام أهل نيسابور فبنيت بها المدرسة البيهقية ثم مدرسة الأمير نصر بن سبكتكين وتبعه غيره. وعُني السلاجقة بإنشاء المدارس في أقطار الشرق، وكان آلب أرسلان إذا رأى في بلد رجلاً متميزاً متبحراً في العلم بنى له مدرسة ووقف عليها وقفاً وقرر فيها للفقهاء تعاليم وجعل فيها دار كتب، ونظام الملك أحد وزراء السلاجقة الذي أنشأ المدرسة النظامية في بغداد في القرن الخامس أيضاً. أصبحت طرابلس بدار الحكمة التي أنشأها فيها ابن عمار كعبة علم،

كما كانت حلب على عهد سيف الدولة بن حمدان كعبة أدب. ويقال: إنه كان في طرابلس في ذاك القرن عدة مدارس وخزائن كتب لم يبلغنا خبرها. وعلى هذا فالمدارس في الإسلام نشأت في أواخر القرن الرابع وعرفت جيداً في الخامس والسادس. ونقصد بالمدارس تلك الدور المنظمة التي يأوي إليها طلاب العلم، وتدر عليهم المعالم والأرزاق، ويتولى تدريسهم وتثقيفهم فئة بحسب شروط الواقف ممن يحسنون القيام بالغرض الذي ندبوا للدعوة إليه، ويجازون بما تعلموا من ضروب المعارف الإلهية والبشرية. ولقد كان من نور الدين محمود بن زنكي لما استولى على الشام همة عظيمة في إنشاء المدارس لأهل السنة والجماعة كما أنشأ القائد جوهر الأزهر في القاهرة، والقاضي ابن عمار دار الحكمة في طرابلس لبث التشيع، وأخذ نور الدين يستدعي فحول العلماء من الأقطار ويبني لهم المدارس ويدر عليهم المشاهرات حتى قالوا: إن الشام أصبح على عهده مقر العلماء والفقهاء والصوفية. بنى سنة 545 في حلب المدرسة العصرونية واستدعى لها من سنجار شرف الدين بن أبي عصرون من أعيان فقهاء عصره وبنى له مدرسة بمنبج وأخرى بحماة وثالثة في حمص ورابعة ببعلبك وخامسة بدمشق، وفوض إليه أن يولي التدريس فيها من يشاء. وبنى لقطب الدين النيسابوري المدرسة العادلية بدمشق ولم يتمها. وأول مدرسة بنيت في حلب أنشأها بدر الدولة أبو الربيع سليمان ابن عبد الجبار بن أرتق صاحب حلب سنة عشر وخمسمائة وسميت المدرسة الزجاجية. وأول ما عرف من المدارس في القدس ما بناه صلاح الدين يوسف ابن أيوب ونُسب إلى جماعته. وقد ذكر الرحالة ابن جبير الذي زار دمشق في سنة ثمانين وخمسمائة أنه كان فيها نحو عشرين مدرسة بالإنفاق على من يدخل فيها للتعليم والاستفادة. وقال: إن هذه المارستانات مفخر عظيم من مفاخر الإسلام والمدارس كذلك وأن الرباطات قصور مزخرفة. وقال في كلامه على مشاهد دمشق: ولكل مشهد من هذه المشاهد أوقاف معينة من بساتين وأرض بيضاء ورباع حتى: إن البلدة تكاد الأوقاف تستغرق جميع ما فيها وكل مسجد يستحدث

بناؤه أو مدرسة أو خانقة يعين لها السلطان أوقافاً تقوم بها وبساكنيها والملتزمين لها، وهذه أيضاً من المفاخر المخلدة. ومن النساء الخواتين ذوات الأقدار من تأمر ببناء مسجد أو رباط أو مدرسة وتنفق فيها الأموال الواسعة وتعين لها من مالها الأوقاف، ومن الأمراء من يفعل مثل ذلك اه. ومعظم المدن مدارس مدينة دمشق، كثرت في الدولتين النورية والصلاحية وقام بإنشاء بعضها العتقاء والخصيان والإماء والبنات، ومنها ما بني بالمال الحلال من أموال الغنائم، ومنها ما بناه بعض أهل الخير من بنات الملوك والملكات، ومن القواد والسادة، ومنها ما أنشأه أهل اليسار من التجار وغيرهم وأكثر من بنوا المدارس في دمشق هم غرباء عنها، ولولا بضع مدارس أنشئت في القرن الثاني عشر في حلب ودمشق لقلنا: إن تاريخ المدارس فيهما ختم بانقراض ملوك الطوائف ودخول الدولة العثمانية الديار الشامية. ومن رأى كثرة المدارس في القرن السادس والسابع والثامن والتاسع وقلة ما شيد منها في القرن العاشر والحادي عشر والثاني عشر، يستنتج معنا أن الأمة إذ ذاك كانت على جانب من التدين والغنى وحب الخير أكثر من القرون التالية، وأن بعض من جمعوا ثروات كانوا يحبون أن يتصدقوا من مالهم بشيء يعتقدون أنه قربى لهم يوم الجزاء، وقد فسد الناس في القرون الأخيرة وتوفروا على التهام تلك المدارس وأوقافها. وهي على الأكثر تقسم إلى أقسام، فمنها مدارس للشافعية يقرأ فيها فقه الإمام أحمد بن إدريس الشافعي، وأخرى للحنفية يتلى فيها الإمام الأعظم أبي حنيفة، وغيرها للحنابلة لفقه الإمام أحمد بن حنبل، وبعضها للمالكية أي فقه الأمام مالك بن أنس، ومنها مدارس أو دور للقرآن يتلقون فيها القراءات على الأصول وما يتعلق بذلك، ومنها دور للحديث يأخذون فيها فنون الحديث ويروونه. وكان في دمشق خاصة مدارس لتعليم الطب والصيدلة والكحالة ومدرسة للهندسة يتخرج فيها مهندسون وبناءون، ولم يتصل بنا أنه أنشئ في عواصم ذاك العهد: قصبة الوسط دمشق، وقصبة الشمال حلب، وقصبة الجنوب القدس، مدارس لتعليم الفلسفة والعلوم الطبيعية والرياضية، ولعل بعض العلوم وخصوصاً الفلك والجغرافيا والتاريخ كانت تدرس في تلك المدارس كما كانت تدرس في الجوامع في بعض الأدوار،

دور القرآن بدمشق:

وكان أبو شامة في القرن السادس يقرئ التاريخ درساً عاماً في الجامع الأموي بدمشق، وقد وصف أبو الفضل بن منقذ الكناني هذه المدارس بقوله: ومدارس لم تأتها في مشكل ... إلا وجدت فتى يحل المشكلا ما أمها مرء يكابد حيرة ... وخصاصة إلا اهتدى وتمولا وبها وقف لا يزال مغلها ... يستنقذ الأسرى ويغني العيلا وأئمة تلقي الدروس وسادة ... تشفي النفوس وداؤها قد أعضلا ومعاشر تخذوا الصنائع مكسباً ... وأفاضل حفظوا العلوم تجملا وقال السابق أبو اليمن المعري في وصف مدارس حلب ومنه استدللنا أنها كانت تدرس العلوم المختلفة: فلديها كل الفنون وفيها ... ما اشتهاه الشرعي والفلسفي لا جرم أنه كان لإلقاء العلوم في تلك المدارس نظم ومناهج، ويقرأ الطلبة أشهراً مخصوصة ويفحصون فيما تعلموه، ولا ينال الإجازة بالتدريس والخطابة والإمامة إلا من ثبتت لمشايخه كفايته، وكان على استعداد لأن يزداد علماً بعد إنجاز الطلب وإجازة الطلاب بمسموعات مشايخهم ومروياتهم. دور القرآن بدمشق: في مدينة الرسول بنيت أول دار للقرآن في الإسلام. وذكر الواقدي أن عبد الله بن أم كلثوم قدم مهاجراً إلى المدينة مع مصعب بن عمير رضي الله عنهما وقيل: قدم بعد بدر بيسير فنزل دار القرآن. وكان في دمشق سبع دور للقرآن على ما في الدارس وهي: 1 - الخيضرية شمالي دار الحديث السكرية بالقصاعين وتنسب إليها اليوم محلة الخيضرية، أنشأها قاضي القضاة قطب الدين الخيضري الدمشقي سنة 878 ووقف عليها وعلى مسجد آخر أوقافاً جمة، وقد بقي اليوم جزء صغير منها استحال زاوية للشاذلية. 2 - الدلامية بالقرب من الماردانية على الجسر الأبيض بالجانب الشرقي من الشارع الآخذ إليه بالصالحية فوق نهر ثورة على طريق الجركسية، أنشأها زين الدين دلامة بن عز الدين نصر الله البغدادي البصري وكان من أجل

أعيان الخواجكية بالشام ووقفها سنة 847 وهي الآن عبارة عن مصلى ومنزلين بالقرب من جامع كعكع. وفي كتاب وقفها أن صاحبها رتب بها إماماً وله من المعلوم مائة درهم، وقيماً وله مثل الإمام، وستة أنفار من الفقراء الغرباء المهاجرين لقراءة القرآن، ولكل منهم ثلاثون درهماً في كل شهر، ومن شرط الإمام الراتب أن يتصدى لإقراء القرآن للمذكورين وله على ذلك زيادة على علوم الإمامة عشرون درهماً، وستة أيتام بالمكتب الذي على بابها ولكل منهم عشرة دراهم في كل شهر أيضاً وقرر لهم شيخاً وله من المعلوم ستون درهماً في كل شهر، ولقراءة البخاري في الشهور الثلاثة وللقارئ من المعلوم مائة درهم، وعاملاً وله من المعلوم كل سنة ستمائة درهم، ورتب للزيت في كل عام مثلها، وللشمع لقراءة البخاري والتراويح مائة درهم، ولأرباب الوظائف خمسة عشر رطلاً من الحلواء ورأسي غنم أضحية، ولكل من الأيتام جبة قطنية وقميصاً. 3 - الجزرية قيل: إنها كانت بدرب الحجر نسب إيقافها لمحمد بن محمد الجزري المقري المحدث. ولعل درب الحجر هو طريق الجركسية قرب اللامية فتكون دار الشيخ محمد في حارة الشرباتي. 4 - الرشائية شمالي الخانقاه السميساطية الملاصقة للجامع الأموي من شماليه أنشأها في حدود سنة أربع وأربعين وأربعمائة رشأُ بن نظيف ابن ما شاء الله الدمشقي المقري. وقد درست الآن وبنيت المدرسة الاخنائية مكانها كما في الكواكب السائرة. وقيل: كانت بباب الناطفانيين أو بالعصرونية. قال المتبي: هي التي جوار الخانقاه السميساطية من الشمال. قال ابن قاضي شهبة: وقد عينها وأدخلت في غيرها. 5 - السنجارية كانت تجاه باب الجامع الأموي الشمالي أنشأها علي بن إسماعيل السنجاري أحد التجار الأخيار المتوفى سنة 375 وهي أمام الاخنائية استحالت داراً ولم يبق غير بابها وعليه وقفها. 6 - الصابونية خارج باب الجابية قبالة تربة الباب الصغير لشهاب

دور الحديث بدمشق:

الدين أحمد بن علم الدين بن سليمان بن محمد البكري المعروف بالصابوني ثم إنشاؤها سنة 868 وبنى أيضاً تجاهها بشرق مكتباً لأيتام عشرة بشيخ لهم يقرئهم القرآن العظيم بتعاليم شرطها لهم معلومة تصرف عليهم من جهات عديدة منها قرى غربي مدينة بيروت تحت يد أمير الغرب تعرف بالصابونية ولا تزال هذه الدار باقية إلى اليوم وهي مدفن السادة بني البكري. 7 - الوجيهية قبلي المدرسة العصرونية والمسرورية وغربي الصمصامية التي شمالي الخاتونية أنشأها وجيه الدين محمد بن عثمان بن المنجا الرئيس شيخ الحنابلة الدمشقي التنوخي سنة 690 درست وأصبحت مخازن ودوراً. وفي ترجمة تنكر أنه عمل داراً للقرآن إلى جانب داره دار الذهب بدمشق وعلى ذلك فتكون دور القرآن ثمانية. وما أجمل ما قال علي بن منصور السروجي في دمشق: في كل قصر بها للعلم مدرسة ... وجامع جامع للدين معمور كأن حيطانه زهر الربيع فما ... يَملّه الطرف فهو الدهر منظور يتلى القُرآن به كل ناحية ... والعلم يذكر فيه والتفاسير دور الحديث بدمشق: عُني المسلمون أي عناية برواية الحديث الشريف لفهم السنة والكتاب وللتبرك والتفقه. وأول من بنى دار حديث في الشام وربما كانت مدرسته الأولى من نوعها في بلاد الإسلام نور الدين محمود بن زنكي وكثرت دور الحديث بعد ذلك. وكان في دمشق على ما ذكر في الدارس ثماني عشرة داراً للحديث وهي: 8 - الأشرفية جوار باب القلعة الشرقي غربي العصرونية، وشمالي القايمازية الحنفية، وفي رواية أن القايمازية مدرسة، وكانت دار الأمير قايماز ابن عبد الله النجمي فاشتراها الملك الأشرف موسى بن العادل وبناها دار حديث ونجز بناؤها سنة 630، درس بها جلة من العلماء مثل ابن الصلاح وابن الحرستاني وأبي شامة والنواوي والشريشي والفارقي وابن الوكيل وابن الزملكاني والحافظ المزي والسبكي وابن كثير وغيرهم، وكانت يد

التعدي تسطو على هذه المدرسة غي أواخر القرن الماضي كما سطت على غيرها من المدارس فقام الشيخ يوسف البيباني المغربي واستخلصها وأعادها مدرسة وسكنها من بعد نجله الشيخ بدر الدين الحسني جعلها مقره تقرأ فيها دروسه وقد حرقت في حريق سنة 1330هـ الذي دمر أربعة شوارع من شوارع المدينة ودمر ما فيها من مدارس ثم رممت ترميماً خفيفاً وعاد بعض الطلبة والغرباء فسكنوها. 9 - الأشرفية البرانية بسفح جبل قاسيون على ضفة نهر يزيد تجاه تربة الوزير تقي الدين التكريتي وشرقي المرشدية الحنفية وغربي الأتابكة الشافعية، بناها الملك الأشرف المظفر موسى بن العادل باني دار الحديث المتقدمة قبل سنة 643 ودرس فيها جلة من العلماء أخذها المجمع العلمي العربي من الأوقاف ليجعل فيها خزانة كتب يختلف إليها أهل تلك المحلة ولم يتم له ترميمها لقلة المال. 10 - البهائية داخل باب توماء كانت دار بهاء الدين أبي محمد القاسم ابن بدر الدين لأبي غالب المظفر المتوفى سنة723 وليس لها اليوم أقر. 11 - الحمصية كانت معروفة بحلقة صاحب حمص في الجامع الأموي فقدت وجهل مكانها، وفي مفكرات طارق أن الحمصية في سويقة صاروجا أمام جامع الشامية بدئ باختلاسها منذ سنة 900. 12 - الدوادارية دار حديث ومدرسة ورباط داخل باب الفرج وهو باب المناخلية اليوم، لعلم الدين سنجر الدوادار المحدث الحافظ المتوفى سنة 699 من نجباء الترك وعلمائهم وهي غير معروفة لعهدنا ولعهدنا الدار الكائنة أمام بحرة الدفاقة فظاهرها يدل على ذلك. 13 - السامرية وبها خانقاه بالقرب من محله مئذنة الشحم في زقاق الشيخ الدسوقي، أنشأها أحمد بن محمد البغدادي السامري وهو مدفون بها. والسامري نسبة إلى سر من رأى على دجلة. قال الصلاحي الكتبي: إن سيف الدين السامري كان يسكن داره المليحة التي وقف عليها خانقاهاً ووقف عليها باقي أملاكه وكان السلطان صادرها 696. وهي موجودة اليوم ولكن لم يبق منها غير المدفن ويقال للحي زقاق السلمي.

ومن دور الحديث الدائرة. 14 - السكرية بالقصاعين وهو أول سوق الخلق القميلة وكان أمس سوق القطن داخل باب الجابية، وهي ما يظهر داخل الدخلة الني شرقي جامع شركس، درست وكان درس بها ابن تيمية ووالده والحافظ الذهبي. 15 - الشقيشقية بدرب البانياسي في ظاهر المدينة أنشأها نصر الله الشيباني الصفار المعوف بابي الشقيشقة وهي من الدوارس، ومن الدوارس أيضاً. 16 - العروية بمشهد عروة من الصحن الشرقي من الجامع الأموي قبالة الحلبية المعروفة قديماً بمشهد علي، أنشأها محمد بن عروة الموصلي ووقف عليها مكتبة عظيمة توفي سنة 620 ومحلها معروف وهي مستودع للجامع. 17 - الفاضلية بالكلاسة منسوبة للقاضي الفاضل البيساني من رجال صلاح الدين والمدرسة جوار تربة هذا السلطان وهي الآن مساكن. 18 - القلانسية غربي مدرسة أبي عمر بالصالحية بها رباط ومنارة يمر في وسطها نهر يزيد، إنشاءُ أبي يعلي حمزة التميمي المعروف بابن القلانسي من كبراء دمشق سنة 729 وكان في رباطه هذا مئذنة ودار حديث وبر وصدقة، وقد جعلت هذه المدرسة مسجداً صغيراً بمعاونة رجل اسمه إسماعيل التكريتي. 19 - القوصية بالقرب من الرحبة قال بعضهم: إنها في الجامع الأموي بجوار الشافعية وهي إحدى حلقات الجامع قديماً. 20 - الكرّوسية غلابي مئذنة الشحم لمحمد بن عقيل بن كرّوس السلمي محتسب دمشق المتوفى سنة 641 كان فيها ثلاثة قبور وجعلت دوراً وهي شمالي السامرية. 21 - النورية وهي من دور الحديث الباقية وأول دار أُنشئت لهذا الغرض أنشأها نور الدين محمود بن زنكي، وهي الآن مسجد جامع وبها قبره يزار ويتبرك به، تولى مشيختها في عصره الحافظ أبو القاسم بن عساكر

هذه هي النورية الكبرى. 22 - النورية الصغرى فهي في العصرونية بين دار الحديث الأشرفية ومدرسة العصرونية أمام العادلية الصغرى وقد حرقت في الحريق الأخير. وفي النورية الكبرى فيما تظن يقول عرقلة الدمشقي: ومدرسة سيدرس كل شئ ... وتبقى في حمى علم ونسك تضوع ذكرها شرقا وغربا ... بنور الدين محمود بن زنكي يقول وقوله حق وصدق ... بغير كناية وبغير شك دمشق في المدائن بيت ملكي ... وهذي في المدارس بيت ملكي 23 - النفيسة قبلي البيمارستان الدقاقي كذا وباب الزيادة أي القوافين اليوم على يمنة الخارج منه شمالي غربي المدرسة الأمينية إنشاء النفيس إسماعيل بن محمد الحراني ناظر الأيتام المتوفى سنة 696 حدثنا الثقة أنه رأى حجر بابها باقيا بحاله وقد طمس بالطين حتى لا يظهر أثرها وأصبحت دورا. 24 - الناصرية كان بها رباط قبلي جامع الأفرم بسفح قاسيون وهي الناصرية البرانية إنشاء الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن الملك العزيز سنة 654 أمست حديقة الآن وكانت أنقاضها ظاهرة إلى عهد قريب وأدخلت أحجارها في ترصيف ضفة يويد وفيها جسر معقود جميل ربما كان الموصل إلى دمشق ويتجاوز عرضه ثلاثين مترا. 25 - التنكرية دار قرآن وحديث شرقي حمام نور الدين الشهيد وراء سوق البزورية أنشأها نائب السلطنة تنكر سنة728 وهي الآن مدرسة للصبيان سميت الهاشمية وكان هندسها المعمار أيدمر المعني. 26 - الصبابية دار قرآن وحديث قبلي العادلية الكبرى وشمالي الطبرية أنشأها شمس الدينم بن الصباب. قال في مختصر الدارس إنها احترقت في الفتنة أي فتنة تيمورلنك ولم يبق لها أثر سوى سبيل الماء. 27 - المعبدية دار حديث وقرآن والمشهور إنها دار قرآن، إنشاء الأمير علي بن معبد البعلبكي ليست معروفة.

مدارس الشافعية بدمشق:

مدارس الشافعية بدمشق: في الدارس أنه كان في دمشق سبع وخمسون مدرسة للشافعية وهي: 28 - الأتابكية بالصالحية غربيها المرشدية ودار الحديث الأشرفية المقدسية، أنشاتها أخت نور الدين أرسلان بن أتابك صاحب الموصل المتوفاة سنة 640 وبها قبرها وقد جعلت لعهدنا مصلى درس بها زمرة من مشاهير علماء الشافعية. 29 - الاسعردية بالجسر الأبيض بالصالحية دثرت وهي في وسط البساتين، أنشأها إبراهيم بن مبارك شاه الأسعردي من أرباب الثراء والسخاء توفي سنة826 ودفن بتربة مدرسته. قال ابن قاضي شهبة: كان الأسعردي هذا والشمس ابن المزلق أكبر تجار دمشق وله المتاجر السائرة في البلدان قد أعطاه الله المال والبنين، وكان عنده كرم وإحسان إلى الفقراء، وكان صاحب هذه المدرسة الإسعردية يقول: عجائب الدنيا أربعة وأحسنها غوطة دمشق، وأحسن الغوطة الصالحية، وأحسن الصالحية الجسر الأبيض! 30 - الأسدية بالشرف القبلي ظاهر دمشق مطلة على الميدان الأخضر وهي على الفريقين الشافعية والحنفية، إنشاء أسد الدين شيركوه من قواد نور الدين وهي في حديقة الشرف وأنقاضها ماثلة للعيان. 31 - الأصفهانية كانت بمحلة الغرباء بالقرب من درب الشعارين لناجر من أصفهان، وفي رواية أنها خلف المدرسة القاجمازية وغربا، محلتها ومكانها غير معروف على التحقيق، ويذهب بعضهم إلى أنها كانت موضع تكية أحمد باشا أدخلت فيها. 32 - الإقبالية داخل باب الفرج وباب الفراديس وبينهما شمالي الجامع الأموي والظاهرية الجوانية وشرقي الجاروخية وغربي التقوية لشمال، أنشأها جمال الدولة أقبال خادم تور الدين وعتيق ست الشام، وقد استحالت داراً ثم استخلصت على يد الحاكم وألحقت بأملاك المعارف ولم يبق منها إلا الحجر الذي كان على بابها وفيه أوقافها وهي شمالي حمام العقيقي. 33 - الاكزية قبالة الشبلية الحنفية، إنشاء أكز حاجب نور الدين

محمود وهي غربي الطيبة والتنكزية وشرقي أم صالح، غيرت معالمها وبابها موجود، وقد استحالت داراً. 34 - الأمجدية بالشرف الأعلى الشمالي مطلة على المرجة قرب مدرسة التجهيز، إنشاء الملك المظفر عمران بن عبد الملك الأمجد بهرام شاه صاحب بعلبك وهي دار فروخشاه وكان الملك الأمجد أشعر بني أيوب، قال ابن الشحنة: دفن الأمجد بمدرسة والده التي على الشرف بدمشق، وكانت هذه المدرسة عامرة إلى القرن الثاني عشر درس بها إبراهيم بن حمزة، لكثرة ما في جوار هذه الدار من المدارس سمي اليوم الزقاق الموصل إليها وهو الذي يبتدئ من أمام جامع الطاووسية ومستودع الترامواي الكهربائي وينتهي بمستودع البارود بزقاق المدارس. 35 - الأمينية قبلي باب الزيادة المعروف اليوم بباب القوافين من أبواب الجامع الأموي، وهي شرقي المجاهدية جوار قيسارية القواسين بظهر سوق السلاح وكان به بابها وتعرف هذه المحلة قديماً بباب القباب، وهناك دار مسلمة بن عبد الملك، قيل: إنها أول مدرسة بنيت بدمشق للشافعية بناها أتابك العساكر الملقب بأمين الدولة ربيع الإسلام أمين الدين كمشتكين ابن عبد الله الطغتكيتي المتوفى سنة 541 وقد بنيت المدرسة سنة 514 وفي تاريخ دمشق أن الحسن بن محمد النهربيتي المقري الفقيه سمع الحديث بدمشق في المدرسة الأمينية وأول من درس بها علي بن المسلم الدمشقي سنة 514 وهي الآن في سوق الحرير جعلت كتاب صبيان واختلس الجيران بعضها. 36 - الباذرائية جاء في الدارس إنها داخل باب الفراديس والسلامة شمالي جيرون وشرقي الناصرية والجوانية، وفي المختصر أنها على باب الجامع الأموي الشرقي المؤدي إلى العمارة، وكانت قبل ذلك داراً تعرف بأسامة وهو أسامة الجبلي أحد كبار الأمراء المتوفي سنة 90 إنشاؤها أبو محمد الباذرائي البغدادي المتوفى سنة 65 قال الذهبي: الباذرائي قاضي القضاة سفير الخلافة نجم الدين عبد الله بن الحسين الباذرائي الشافعي صاحب المدرسة التي بخط جيرون. ولا تزال أسوارها باقية وهي سائرة نحو الخراب وقد اقتطع جانب منها وجعل دوراً.

37 - البهنسية بسفح قاسيون أنشأها مجد الدين المعروف بأبي الأشبال وزير الملك الأشرف مظفر الدين موسى المتوفى سنة 628 وهي على طريق المهاجرين بطرق السكة بجوار حاكورة العدس. 38 - التقوية داخل باب الفراديس العمارة شمالي الجامع شرقي الظاهرية والإقبالية كانت من أجل مدارس دمشق، بناها سنة 574 الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب ودرس بها جلة العلماء عرف بالشام أن المدرسة القصاعية والمدرسة التقوية كانتا عامرتين في القرن العاشر تقام بها الأذكار الآن باسم خانقاه ولها مخصصات شهرية من الحكومة. 39 - الجاروخية داخل بابي الفرج والفراديس وفي حي السبعة بالقرب من الإقبالية الحنفية شمالي الجامع الأموي والظاهرية الجوانية المعروفة. بناها جاروخ التركماني برسم محمود بن المبارك المعروف بالمجير الواسطي البغدادي سنة 590 درس بها كثير من العلماء ومنهم زمرة من الفقهاء بني جهبل. وهي دار بني الكيلاني اليوم. 40 - الحمصية تجاه الشامية البرانية قال ابن كثير: في سنة 726 فتحت المدرسة الحمصية ودرس بها محيي الدين الطرابلسي الملقب بأبي رباح. في مختصر الدارس أنها خربت بعد قليل من تشييدها، والغالب أنها درست وجعلت دوراً ولم يبق منها إلا قطعة خربة. 41 - الحلبية بمحلة السبعة طوالع وهي خلف دار الكتب الظاهرية أو المدرسية الظاهرية مجهول حالها ومنشئها من القديم. قال في الدارس: إن شهاب الدين ان عبد الخالق المتوفى سنة 815 وقف إلى جانب المدرسة الحلبية مسجداً وأضاف إلى المدرسة ووقف عليها، وممن وقف عليها الأمير سيف الدين من مماليك برقوق. 42 - الحبيصية قبلي الزنجاري، وخان الزنجاري هو جامع التوبة الآن، تولى مشيختها ابن قاضي أذرعات وقد استحالت دوراً. 43 - الخليلية بانيها سيف الدين بكتمر الخليلي المتوفى سنة 746 ولا يعرف عنها شيء. 44 - الدماغية كانت داخل باب الفرج وغربي الباب الثاني الذي

قبلي باب الطاحون وهي قبلي وشرقي الطريق الآخذ إلى باب القلعة الشرقي وهذا الطريق بينها وبين الخندق وهي أيضاً شمالي العمادية بين الشافعية والحنفية، أنشأتها عائشة جدة فارس الدين بن الدماغ زوجة شجاع الدين بن الدماغ 638 درس بها جلة من العظماء وهي الآن قاعة النشا التي في المناخلية. وفي الصالحية مدرسة أخرى اسمها الدماغية أنشأها أو درس بها افتخار الكاشغري. 45 الدولعية بجيرون قبلي المدرسة الباذرائية لجمال الدين محمد الثعلبي الدولعي خطيب دمشق، وقد كانت الدولعية والشبلية عامرتين في القرن الحادي عشر، درس بهما إسماعيل الحائك، والدولعية في الدخلة المشهورة بدخله الداغستاني في نصف الطريق الآخذ من دار بني منجك إلى زقاق الباذرائية، اختلست وجعلت دوراً وفي إحدى الدور قبر مدفون فيه واقف المدرسة محمد بن أبي الفضل بن زيد الخطيب التغلي الأرقمي الدولعي ثم الدمشقي635 قاله الصفدي ودفن في الصفة الغربية من المدرسة وهاك نسخة التوقيع الذي كتب للفخر المصري المتوفى751 بتدريس الدولعية ونظرها: رسم بالأمر العالي لازال يرتفع به العلم الشريف إلى فخره، ويعيده إلى خير حبر تقتبس الفوائد من نوره وتغترف من بحره، ويحمد الزمان بولاية من هو علم عصره وفخر مصره، أن يعاد المجلس العالي الفخري إلى كذا وكذا وضعاً للشيء في محله، ورفعاً للوابل على طله، ودفعاً لسيف النظر إلى يد هي مألف هزه وسله، ومنعاً لشعب مكة أن ينزله غير أهله، إذ هو لأصحاب الشافعي رضي الله تعالى عنه حجة، ولبحر مذهبه الزاخر لجة، إلى أن قال: فليباشر ما فوض إليه جرياً على ما عهد من إفادته، وألف من رياسته لهذه العصابة وزيادته، حتى يحيا بدرسه ما درس، ويثمر عود الفروع فهو الذي أنبته بهذه المدرسة وغرس، مجتهداً في نظر وقفها، معتمداً على تتبع ورقات حسابها وصحفها، عاملاً بشروط الواقف فيما شرط، قابضاً ما قبضه وباسطاً ما بسط الخ. 46 الركنية الجواتية شمالي الإقباليتين شرقي العزية الجوانية والفلكية غربي المقدمية، واقفها ركن الدين منكورس عتيق فلك الدين سليمان، درس

بها جلة العظماء منهم ابن خلكان وأبو شامة وبنو حمزة وهي اليوم في زقاق بني مفلح أمام المقدمية وبينهما الطريق ويعرف بدخلة بني عبد الهادي في العمارة وهي منضمة إلى دار بني العمري ولم يبق لها أثر. 47 - الرواحية شرقي مسجد ابن عروة بالجامع الأموي ولصيقه شمالي جيرون وغربي الدولعية وقبلي السيفية الحنبلية. بانيها زكي الدين بن رواحة الحموي التاجر الغني المعدّل المتوفى سنة 622 درس بها ابن صلاح والسهوروردي وابن البازري وابن الزملكاني وأبناء السبكي وغيرهم، وقد أُنشئت هذه المدرسة نحو سنة 600. قال المؤرخون، إن زكي الدين ابن زكي الدين بن رواحة بني بحلب مدرسة للشافعية وبدمشق مثلها داخل باب الفراديس ووقف عليهما أوقافاً حسنة وقنع بعد ذلك باليسير، وكان يسكن في بيت المدرسة الدمشقية وهو الذي في إيوانها من الشرق ويقابله من الغرب خزانة الكتب التي وقفها وهي كتب جليلة كان من أرباب الثروة. وأصبحت المدرسة الرواحية الآن داراً. 48 - الزاوية الخضراء بمقصورة الخضراء غربي الجامع الأموي وهي مكان داخل الجامع أشبه بالحلقات. 49 - الشامية البرانية بمحلة العقيبة، إنشاء ست الشام بنت نجم الدين أيوب بن شادي المتوفاة سنة 616 وتعرف هذه المدرسة بالحسامية لأن ابنها حسام الدين دفن فيها كما أنها هس أيضاً دفنت فيها. وهي اليوم مدرسة ابتدائية للأيتام تقوم بها جمعية الإسعاف الخيري، وكان درّس بها من المشاهير ابن الصلاح وابن أبي عصرون، وابن الزكي والفارقي والشريشي وابن الوكيل وابن قاضي شهبة وغيرهم. 50 - الشامية الجوانية قبلي البيمارستان النوري، إنشاء ست الشام أيضاً درّس بها عظماء الشافعية ابن الصلاح قال ابن خلكان في ترجمته: إن الملك الأشرف بن الملك العادل بن أيوب لما بنى دار الحديث بدمشق فوض تدريسها إليه، ثم تولى تدريس مدرسة ست الشام زمرد خاتون بنت أيوب وهي شقيقة شمس الدولة توران شاه بن أيوب التي هي داخل البلد قبلي البيمارستان النوري، وهي بَنَت المدرسة الأخرى ظاهر دمشق وبها قبرها وقبر أخيها المذكور وزوجها ناصر الدين بن أسد شيركوه صاحب حمص،

فكان يقوم بوظائف الجهات الثلاثة. قلنا: وكثير من هؤلاء الفقهاء والمحدثين كانوا يدرسون في المدرستين والثلاث وربما أكثر. ومن مدرسيها سالم بن أبي الدر أمين الدين 726 وزين الدين الفارقي شيخ دار الحديث الأشرفية. وقد خربت هذه المدرسة ولم يبق فيها سوى بابها وواجهتها الحجرية واتخذت داراً. ومن أوقافها قرية جرمانا. 51 - الشاهينية بالقرب من جامع التوبة بحارة العقيبة إنشاء الدوادار شاهين الشجاعي أحرقت 816 فأعاد عمارتها هو أيضاً. 52 - الشومانية إنشاء خاتون بنت ظهير الدين شومان وهي المسماة بالطيبة، والطيبة كما في الدارس قبلي النورية الكبرى ليست معروفة. 53 - الشريفية كانت عند حّي الغرباء بدرب الشعارين عند باب السلام، وفي تاريخ مبرات الشام أنها قبلي الجامع الأموي بالصاغة لم يعرف واقفها، درست وأصبحت حوانيت. 54 - الصالحية غربي الطيبة والجوهرية الحنفية وقبلي الشامية الجوانية بشرف وتعرف بتربة أم الصالح إسماعيل صارت مساكن ولم يعرف لها أثر، وكان من جملة مدرسيها الذهبي وابن كثير. 55 - الصارمية داخل بابي النصر والجابية قبلي العذراوية بشرق، إنشاء صارم الدين أزبك مملوك قايمار النجمي 622 أصبحت دوراً وكان درس بها طبقة عالية من المدرسين. 56 - الصلاحية بالقرب من البيمارستان النوري، وهي من إنشاء نور الدين محمود بن زنكي وإليه نسبها ابن قاضي شهبة ومنسوبة للسلطان صلاح الدين. لم يبق لها أثر. 57 - التقطائية داخل باب الصغير في الشاغور بنحو مائة ذراع إلى شرق شمال غربي بيت الخواجا الناصري قبلي منارة الشحم، عمر بعضها ومجهول بانيها وليس لها أثر. 58 - الطبرية بجوار باب البريد، أنشأها نور الدين الشهيد درّس

بها الشرف ابن هبة الله. لا يعرف عنها شيء وليس لها من أثر. 59 - الطيبة قبلي النورية الحنفية وشرقي تربة زوجة تنكز بقرب الخواصين، وهي المسماة بالشومانية وإنما غير اسمها تيمناً، درس بها جلة من الفقهاء، وهي الآن دار لبني العظمة وبني كيوان. 60 - الظبيانية قبلي المدرسة الشامية الجوانية التي هي قبلي البيمارستان النوري وغربي المدرسة الصالحية الواقعة غربي مدرسة الكيبة خربت. 61 - الظاهرية البرانية خارج باب النصر شرقي الخاتونية الحنفية وغربي الخانقاه الحسامية بين نهري بانياس وقنوات بالشرف القبلي، بناها الملك الطاهر بن الملك الناصر صلاح الدين، درّس بها كثير من المشاهير منهم إمام الدين وجلال الدين القزويني وابن صصري وابن جملة. ولم يبق لها أثر 62 - الظاهرية الجوانية وهي للحنفية والشافعية داخل باب الفرج والفراديس جوار الجامع الجواني باب البريد وقبلي الإقباليتين والجاروخية وشرقي العادلية الكبرى، أنشأها مدرسة ودار حديث الملك الظاهر بيبرس وهي التي دفن بها هو وابنه الملك سعيد سنة 676 كتب على واجهتها بنائها جريد وقفها بحروف غليظة وزُبر اسم مهندسها في الزاوية الشمالية من المدخل عمل إبراهيم بن غنائم المهندس، وممن درّس بها نائب السلطة أيدمر الظاهري والأذرعي والإخنائي والسويدي والأسدي والرعيني والواسطي. وهي اليوم بيد المجمع العلمي العربي جعلت مخطوطاتها في القبة الظاهرية المعمولة حيطانها بالفسيفساء البديعة وقد أُنشئت خزانة كتب منذ أواخر القرن الماضي. 63 - العادلية الكبرى شمال الجامع بغرب وشرقي خانقاه الشهابية وقبلي الجاروخية تجاه باب الظاهرية يفصل بينهما الطريق المؤدي إلى باب البريد، بدأ بإنشائها نور الدين محمود بن زنكي ولم تتم، ثم عمل فيها الملك العادل سيف الدين ولم تتم، ثم ولده الملك المعظم، ووقف عليها الأوقاف ونسبها لوالده الذي دفن فيها. أنشأها نور الدين للإمام قطب الدين النيسابوري فعاجل الأجل الباني والمبني له قبل إتمامها. قال صاحب الروضتين: وقد رأيت أنا ما كان بناه نور الدين ومن بعده منها وهو موضع المسجد والمحراب

الآن، ثم لما بناها الملك العادل أزال تلك العمارة وبناها هذا البناء المتقن المحكم الذي لا نظير له في بنيان المدارس، وهي المأوى وبها المثوى، وفيها قدر الله تعالى جمع هذا الكتاب الروضتين فلا أقفر ذلك المنزل ولا أقوى اه. وقال أيضاً: وفي سنة 612 شرع في عمارة المدرسة العادلية المقابلة لدار العقيقي من الغرب وحضر السلطان لترتيب وضعها بين الصلاتين يوم السبت، ثم أحرقت بالنار في رمضان المبارك سنة أربع عشرة. وقال ابن أبي شامة أيضاً في ذيل الروضتين في حوادث سنة 619: وفيها نقل تابوت العادل بن أيوب من قلعة دمشق إلى تربته المقابلة لدار العقيقي، أخرجوا جنازته من القلعة والتابوت مغشي بمرقعة، وأرباب الدولة حوله، إلى أن قال: ولم تكن المدرسة كملت عمارتها وألقى فيها الدرس في هذه السنة القاضي جمال الدين الحصيري وحضر درسه أعيان الشيوخ والقضاة والفقهاء وحضر السلطان المعلم المعظم عيسى بن العادل وتكلم في الدرس مع الجماعة. وكان الاجتماع بإيوان المدرسة وجلس عن يمين السلطان إلى جانبه شيخ الحنفية جمال الدين الحصري ويليه شيخ الشافعية شيخنا فخر الدين بن عساكر ثم القاضي شمس الدين الشيرازي ثم القاضي محيي الدين يحيى بن الزنكي، وجلس عن يسار السلطان إلى جانبه مدرس المدرسة قاضي القضاة جمال الدين الحصري وإلى جانبه شيخنا سيف الدين الآمدي ثم القاضي شمس الدين بن سني الدولة ثم القاضي نجم الدين خليل قاضي العسكر، ودارت حلقة صغيرة والناس وراءهم مصلون ملء الإيوان. وكان في دور تلك الحلقة أعيان المدرسين والفقهاء. وقبالة السلطان فيها شيخنا تقي الدين بن الصلاح وغيره، وكان مجلساً جليلاً لم يقع مثله إلا في سنة ثلاث وعشرين وستمائة اه. قال ابن كثير: وفي سنة أربع وسبعمائة جلس قاضي القضاة نجم الدين بن الحصيري بالمدرسة العادلية الكبرى وعلمت التخوت بعدما جددت عمارة المدرسة ولم يكن أحد يحكم بها بعد وقعة غازان بسبب خرابها. وهذه المدرسة من أعظم مدارس الشافعية بدمشق وكان يحكم قاضي القضاة ويجلس نواب القاضي بالمدرسة الظاهرية المناوحة لها. درس بها وسكنها جلة من العلماء، منهم ابن خلكان والجلال القزويني

والعلاء القونوري وأبناء السبكي وكمال الدين التفليسي وابن مالك النحو وابن جماعة، وممن درس بها وسكنها الشهاب أحمد المنيني صاحب التآليف المشهور من أهل المئة الثانية عشرة وسكنها ودرس بها أولاده من بعده. وقد أخذها المجمع العلمي العربي لما أسس في سنة 1919 وجعلها مقر ورمّها بما يقربها من الهندسة الأصلية. وقد حرقت هذه المدرسة مرتين الأولى في فتنة غازان التتري سنة 699 مع ما حرق من مدارس المدنية، والثانية في سنة 778 ولعلها أحرقت في فتنة تيمور أيضاَ 803 هذا عدا ما تناوبها من تناوبها من الزلازل. ومع هذا لم يزل حائطها القبلي وحائطها الشرقي قائمين، أما الجدران الآخران الغربي والشمالي فقد خربا وما بني بجانبها جديد. ومن الأسف أنا لم نعثر فيها على كتابة ولو ضئيلة تدل على شيء من تاريخها ووقفها وإنشائها حتى ولا على قبر الملك العادل الذي نبش على ما يظهر في القرن الأخير لأخذ الذخائر التي كانت تدفن مع الملوك والعظماء. وكانت فيها خزانة كتب مهمة. والعادية اليوم العضو الأثري المهم من تلك المدارس التي كانت في القرون الوسطى مفخر الشام والإسلام. قلت في التقرير الرابع للمجمع العلمي عن سنة 1925 - 1927 - 1927: وفي العادلية وضع المقدسي تاريخ الروضتين في أخبار الدولتين، وفي العادلية عمل ابن خلكان تاريخه المشهور، وعلى باب العادلية كان يقف ابن مالك النحوي ويدعو الناس لحضور درسه، ينادي هل متن متعلم هل من مستفيد، والتاريخ يعيد نفسه، وفي العادلية تزل ابن خلدون فيلسوف العرب أوائل المائة التاسعة. وكأن المولى تعلقت إرادته فقضى أن لا يخلي العادلية والظاهرية من علم ينشر، وأدب يذكر، فاختارهما مباءة للمجمع العلمي يقيم فيهما سوق العلم والأدب بعد الكساد على النحو الذي كانتا عليه منذ وضع أساسهما نور الدين بن زنكي والظاهر بيبرس. 64 - العادلية الصغرى داخل باب الفرج شرقي باب القلعة الشرقي قبلي الدماغية والعمادية، أنشأتها زهرة خاتون بنت الملك العادل أبي بكر بن أيوب وقد حرقت مؤخراً وبقيت جدرانها قائمة. 65 - العذراوية بحارة الغرباء داخل باب النصر الذي كان يسمى بباب دار السعادة كما في الدارس، وفي مختصره أنها في جوار دار العدل التي

سميت في القرن الماضي دار المشيرية حيث يقيم مشير العساكر في الدولة العثمانية، وجعل في عهد الانتداب مركزاً لدواوينه ودمر بالحريق، إنشاء عذراء بنت السلطان صلاح الدين يوسف في رواية. وهي للفريقين الشافعية والحنفية، درّس بها الفخر ابن عساكر وابن أبي عصرون وابن الزكي والشمس بن خلكان وابن قاضي شهبة وغيرهم. وهي باقية اتخذت داراً يجتمع فيها النساء لسماع الوعظ. وكان فخر الدين بن عساكر أول من درس بالمدرسة العذراوية، ودرس بالنورية والجاروخية وهذه الثلاث مدارس بدمشق، والمدرسة الصلاحية بالقدس يقيم بالقدس أشهراً وبدمشق أشهراً. 66 - العزيزية شرقي التربة الصابلحية وغربي التربة الأشرفية وشمالي دار الحديث الفاضلية، أول من أسسها الملك الأفضل وأتمها الملك العزيز، وممن درس بها سيف الدين الآمدي وغيره من المشهورين، وهدمها ضياء باشا والي سورية وجعلها حديقة ضمت إلى مدفن صلاح الدين أواخر القرن الماضي. وفي بعض التواريخ أن القاضي ابن الزكي أمر بأن تبنى دار الأمير أسامة مدرسة للتربة. وهي المدرسة المعروفة بالعزيزية ووقفها قرية عظيمة تعرف بمحجة. وذكر ابن خلّكان أن السلطان صلاح الدين بقي مدفوناً بقلعة دمشق إلى أن بنيت له قبة في شمالي الكلاسة التي في شمالي جامع دمشق ولها بابان: أحدهما إلى الكلاسة والآخر في زقاق غير نافذ وهو غير مجاور المدرسة العزيزية، ثم نقل صلاح الدين من مدفنه بالقلعة إلى هذه القبة، ثم إن ولده الملك العزيز عماد الدين عثمان لما أخذ دمشق من أخيه الملك الأفضل بنى إلى جانب هذه القبة المدرسة العزيزية ووقف عليها وقفاً جيداً. وللقبة المذكورة شباك إلى هذه المدرسة وهي من أعيان مدارس دمشق اه. 67 - العصرونية داخل بابي الفرج والنصر شرقّي القلعة وغربي الجامع، لقاضي شرف الدين أبي سعيد عبد الله بن محمد بن أبي عصرون ابن أبي اليسر التميمي الجوني ثم الموصلي الدمشقي المتوفى 585، درس بها جماعة منهم المشايخ بنو عصرون وغيرهم. حرقت في الحريق الكبير سنة 1328هـ ولم تعد إلى ما كانت وبقي اسم السوق منسوباً إليها ورُمّ قبر من أسسها بعض الشيء.

68 - العمادية داخل باب الفرج والفراديس قرب الدماغية من قبلة، بناء عماد الدين والواقف عليها السلطان صلاح الدين درس بها عماد الدين الكاتب وغيره، وهي الآن كتاب الصبيان في زقاق الخندق. 69 - الغزالية في الزاوية الشمالية الغربية شمالي مشهد عثمان بالجامع الأموي وتعرف بالشيخ نصر المقدسي وهو أول من درس بها. وممن درس بها من المشهورين الدولعي وابن عبد السلام والقطب النيسابوري والشرف بن أبي عصرون وأبو حامد الغزالي وهي الآن مشهد من مشاهد الجامع. 70 - الفارسية غربي الجوزية الحنبلية تجاه الخارج من باب الزيادة بالبزورية وقفها فارس الدوادار التميمي808. وفي المدرسة الآن قبران. وهاك أبياتاً من نظم بانيها أمر أن تكتب على تربته بعد وفاته وأظنها لغيره من المتقدمين وقد رأيتها مكتوبة على مدفن بني الشحنة مؤرخي حلب في باب المقام بحلب والأبيات هي: هذه دارنا التي نحن فيها ... دار حق وما سواها يزول فاعتمر للممات داراً إليها ... عن فريب يفضي بك التحويل واعتمل صالحاً يؤانسك فيها ... مثلما يؤنس الخليل الخليل 71 - الفتحية إنشاء الملك فتح الدين صاحب بارين وبها قبرة كانت مدرستين إحداهما للشافعية وثانيتهما للحنفية نسيتا ونسي مكانهما. 72 - الفخرية بين السورين إنشاء فخر الدين، تم بناؤها سنة 821 وهي على أهل المذاهب الأربعة فيما يظهر، وبها درس جماعة منهم عز الدين الإربلي والشيخ المراغي. 73 - الفلكية غربي الركنية الجوانية بالعمارة، إنشاء أخي الملك العادل فلك الدين سليمان، دفن فيها سمة599. وفي بعض المظان أن المدرسة الفلكية بنواحي باب الفراديس تنسب إلى أبي منصور سليمان بن شروه ابن جلدك. 74 - القليجية داخل باب شرقي وباب توماء شرقي المسمارية إنشاء مجاهد الدين بن قليج محمد. قال البوريني: إن أحمد بن سليمان الدمشقي الصوفي عزل التراب الذي في المدرسة القليجية الذي كان من بقايا الخراب

في فتنة اللنك أي تيمور لنك وقطن بها وأسكن في حجراتها عدة من الفقراء، والمدرسة المذكورة كانت تعرف في القرن الحادي عشر بمزار سيدي سيف الدين، وسيف الدين هذا هو الأمير سيف الدين الاسفسهلار من الأمراء النورية، ويطل على تربته شبا كان على رأس كل واحد منهما حجر فيه أسطر منقوشة، فأما الأول فعليه من الكتابة هكذا: قال الأمير الكبير المجاهد المرابط الاسفسهلار سيف الدين علي بن قليج رحمه الله هذه الأبيات وأمر أن تكتب على قبره. وعلى الحجر الثاني الأبيات وذكر الأبيات ادعاها كثيرون وأحبها غير واحد من العظماء. 75 - القواسية بالعقيبة الصغرى قرب مسجد الزيتونة إنشاء الأمير عز الدين بن القواس درس بها جماعة. 76 - القوصية هي حلقة بالجامع الأموي قرب مشهد يحيى، كانت محلاً للتدريس، أنشأها رجل يقال له جمال الإسلام في رواية وقف عليها أوقافاً جمة بها بعض المشاهير. 77 - القيمرية الجوانية بحارة القيمرية، الأمير ناصر الدين القيمر أحد أمراء الجند، درس بها جلة من فقهاء الشافعية ولاتزال معروفة. 77 - القيمرية الجوانية بحارة القيمرية، أنشأها الأمير ناصر الدين القيمر أحد أمراء الجند، درس بها جلة من فقهاء الشافعية ولا تزال معروفة. 78 - القيمرية البرانية ويقال لها القيمرية الغرى في القباقبية العتيقة غربي المقدمية وشمالي الحنبلية، خربت وأنقاضها إلى اليوم ظاهرة. ويقول طارق: إن بانيها الأمير علي بن يوسف بن يوسك القيمري سنة 653. 79 - النجيبية قال ابن كثير في سنة 690: درس الخطيب عز الدين الفارقي بالمدرسة النجيبية عوضاً عن كمال الدين بن خلكان ولم يذكر في الدارس لها وفقاً ولا وقت بنائها ولا محلها. 80 - الكروسية بجانب السامرية الشافعية وقفها سنة 641 محمد ابن كروس محتسب دمشق، وممن درس بها كمال الدين بن الزملكاني والشريشي. 81 - الكلاسية متصلة بالجامع الأموي من شماله ولها باب إليه، أنشأها سنة 555 نور الدين الشهيد سميت بذلك لأنها كانت موضع عمل الكلس

أيام بناء الجامع، ثم أمر بتجديدها السلطان صلاح الدين درس بها جلة من الفقهاء وهي أطلال. 82 - المجاهدية الجوانية بجوار تربة نور الدين وفي الدارس قرب باب الخواصين، واقفها مجاهد الدين أبو الفوارس الكردي أحد أمراء الدولة النورية. وفي الروضتين أنه الأمير مجاهد الدين بزان بن مامين أحد مقدمي الأكراد المتوفى سنة 555 له أوقاف على أبواب البر بدمشق منها المدرستان المنسوبتان إليه، إحداهما التي دفن فيها وهي لصيق باب الفراديس المجدد، والأخرى قبالة باب دار سيف الغربي في صف مدرسة نور الدين، وله وقف على من يقرأ السبع كل يوم بمقصورة الخضر بجامع دمشق وغير ذلك. وقد درس بها قطب الدين النيسابوري وكثير غيره من الأعلام. 83 - المجاهدية البرانية أيضاً بباب الفراديس كما في الدارس واليوم في زقاق حمام أسامة غربي الباذرائية لواقفها المشار إليه، وفي مختصر الدارس أنها بجوار سوق البطيخ وبها قبر واقفها، درس بها غير واحد من المشهورين وهي جامع السادات. 84 - المسرورية بباب البريد، إنشاء مسرور الخصي الطواشي صاحب خان مسرور بالقاهرة، وقيل: مسرور الملك الناصر العادلي وقفها عليه شبل الدولة الحسامي واقف الشبلية. درس بها جماعة من نبهاء الفقهاء. 85 - المنكلائية لا يعلم عنها إلا كونها قرب المدرسة القيمرية الجوانية كما في مختصر الدارس وإلى اليوم لا يزال في تلك البقعة مقام للشيخ عبد الله المنكلائي. 86 - الناصرية الجوانية داخل باب الفراديس شمال الجامع والرواحية بشرق، وغربي الباذرائية بشنال وشرقي القيمرية الصغرى والمقدمية الجوانية من آثار الملك الناصر صلاح الدين وهي اليوم دار. درس فيها بعض المشهورين من العلماء 87 - المقدمية الجوانية إنشاء الملك الناصر صلاح الدين يوسف، ولعلها هي التي كانت عامرة في القرن العاشر كما يؤخذ من ترجمة الشمس البهنسي من أن المقدمية والقصاعية والسيبائية كانت عامرة في عصره، وقد

مدارس الحنفية بدمشق:

خربت المقدمية أوائل هذا القرن واستحالت دورا. 88 - المجنونية شرقي الشامية البرانية بالعقيبة، إنشاء شرف الدين ابن شرف الرازي المعروف بالسبعة مجانين، وهي معروفة بالسبعة المجاهدين أيضاً وذلك بعد الثلاثين والستمائة. 89 - النجيبية ملاصقة للمدرسة النورية وضريح نور الدين من جهة الشمال، أنشأها النجيبي جمال الدين لقوش الصالحي أستاذ الملك الصالح. مدارس الحنفية بدمشق: كان بدمشق أوائل القرن العاشر إحدى وخمسون مدرسة للحنفية كما في الدارس وهي: 90 - الأسدية تقدم محلها وهي في المرجة الخضراء في الشرف القبلي. 91 - الإقبالية تقدم محلها وهي على الأحناف والشوافعة، وقد زالت ولا يعرف غير أطلالها وحجر بابها. 92 - الآمدية بالصالحية جوار الميطورية من الغرب، جاء في الدارس أنه مجهول حالها من القديم وهي على ما فهم في بستان الميطور قرب حي الأكراد. 93 - البدرية قبالة الشبلية بالجبل عند جسر كحيل ويعرف بجسر الشبلية، وهي بستان السنبوسكي بطريق عين الكرش، لم يبق منها إلا قبة تهدم أعلاها بجانب ثورا، إنشاء الأمير المعروف بلالا ابن الداية من أمراء نور الدين سنة 638. 94 - البلخية داخل الصادرية وبابها من حمام باب البريد، أنشأها الأمير ككز الدقاق للشيخ إبراهيم البلخي بعد سنة525 درست واتخذت مع الصادرية دوراً في عهدنا. 95 - التاجية بزاوية الجامع الأموي الشرقية غربي دار الحديث العروبية، وكانت زارية للدراويش عرفت قديماً بابن سنان وبالسلارية جددت في سنة624 وهي غير موجودة. 96 - الناشية إنشاء الملك الناشي الدقاقي سنة نيف وخمسين وخمسمائة وهي مجهولة اليوم.

97 - الجلالية لقاضي القضاة جلال الدين أبي المفاخر أحمد بن قاضي القضاة حسام الدين الرازي، كانت ملاصقة للبيمارستان النوري وهي الآن خراب. 98 - الجمالية كانت بسفح قاسيون للأمير جمال الدين يوسف وكان يسكنها في القرن العاشر أيام الصيف عبد الصمد العكاري درست مع الدوارس وأخذت أنقاضها للدور. 99 - الجقمقية هي شمالي الجامع الأموي، أسسها سنجر الهلالي وولده شمس الدين فانتزعها الملك الناصر حسن سنة 761 وأمر بعمارتها فبنيت بالحجر الأبلق وجاءت في غاية الحسن واحترقت في فتنة تيمور فجدد بنيانها سيف الدين جاقماق وخص الخانقاه بالصوفية وأضاف إليها مدرسة للأيتام وتربة، ودرس بها جماعة وجعلت في القرن الماضي مدرسة للذكور وهي اليوم في حالة خراب أو ما يقرب منه، تزعزعت بعض أركانها بمدافع الفرنسيين سنة 1941. 100 - الجركسية ويقال لها الجهاركسية وهي مشتركة بين الحنفية والشافعية وقيل: هي للحنفية فقط، واقفها جركس فخر الدين الصلاحي وكان نائباً عن الملك العادل ببانياس وبلاد الشقيف وتبنين وهونين، وهو من أرباب الهمم العالية مشهور بصداقته وصدقاته، وهذه المدرسة فوق نهر يزيد بالصالحية بالقرب من الجامع الجديد معروفة يأوي إليها المهاجرون والدراويش وتنسب إليها المحلة كلها، اندرست ولم يبق منها سوى قبتين عظيمتين أعلاهما متهدم وجدرانها حجر نحيت. 101 - الجوهرية شرقي تربة أم الصالح داخل دمشق بحارة بلاطة المعروف اليوم بزقاق المحكمة. إنشاء الصدر نجم الدين بن عباس التميمي الجوهري سنة 676 كان بعضهم أواخر القرن الماضي قسمها ثلاث دور وجعل عليها مرصداً، وقام ولداه بعده فأخذا ما أنفق والدهما عليها وأعاداها إلى الوقف فجعلت مدرسة للصبيان وحصل الانتفاع بها. 102 - الحاجبية والخانقاه بها قبلي المدرسة العمرية بالصالحية على

مقربة من مرقد الشيخ عبد الغني النابلسي، إنشاء الأمير ناصر الدين محمد بن مبارك الإينالي سنة 865. وقد تداعت فأخذت أنقاضها منذ نحو سبعين سنة لتبليط الطريق، وهي أمام جامع الحاجب بالجركسية، أصبحت الآن عرصة محاطة بجدار وحوض مائها لا يزال موجوداً ومئذنتها كانت جميلة. 103 - الخاتونية البرانية مسجد خاتون على الشرف القبلي في مكان كان يسمى صنعاء دمشق مطل على وادي الشقراء، وقفتها زمرد خاتون أخت الملك دقاق صاحب دمشق، وهي أم شمس الملوك إسماعيل ومحمود زوجة تاج الملوك بوري توفيت سنة 557، وكانت حافظة للقرآن سمعت الحديث من أبي الحسن بن قيس واستنسخت الكتب وقد خربت هذه المدرسة في أواخر حكم المماليك فنقلت أنقاضها لتعمر بها مدرسة غيرها في باب الجابية، وكان من مدرسيها علي البلخي وشرف الدين عبد الوهاب الحوراني وصدر الدين البصروي وصدر الدين الأدمي. 104 - الخاتونية الجوانية كانت بمحلة حجر الذهب محلة البيمارستان النوري، إنشاء خاتون ابنة سعيد الدين اتسز وزوجة نور الدين الشهيد، وقفها أخوه سعد الدين عليها، وممن درس بها ابن شداد وابن أبي جرادة. 105 - الدماغية تقدم محلها عند جسر ثورة قرب معمل الغزل القديم وأنها على الفريقين الحنفية والشافعية، درس بها الافتخار الكاشغري والسنجاري وابن سحنون خطيب النيرب وغيرهم، أصبحت اليوم حدائق. 106 - الركنية ويقال لها الركنية البرانيو تمييزاً لها عن الركنية الجوانية المار ذكرها، وهي من إنشاء الأمير ركن الدين منكورش عتيق فلك الدين سنة خمس وعشرين وستمائة، درس بها جلة من الفقهاء وهي في حي الأكراد بالسفح، اختلست منها قطعة وجعلت دوراً، ولا تزال تقرأ في حائطها كتابات كوفية. 107 - الريحانية جوار النورية، إنشاء ريحان الطواشي من أكبر خدام نور الدين سنة 565 وهي كتاب للذكور. ولا يزال على بابها حجر زبر عليه بخط جميل الأوقاف المرصدة لها. 108 - الزنجارية خارج باب توماء وباب السلامة ويقال لها الزنجيلية

كانت تجاه دار الأطعمة من أحسن المدارس. وفي مختصر الدارس أنها هي التي على بابها هذا الرخام من عجائب الدنيا وهذه الصناعة التي كانت كأنها بين أيديهم كالعجين. أنشأها نائب عدن فخر الدين الزنجيلي صاحب اليمن أيام الملك العادل أنشئت سنة 626 وفي رواية أنه الأمير عز الدين عثمان ابن الزنجيلي صاحب عدن، درس بها أجلة الفقهاء ولا يعرف محل هذه المدرسة ولعلها كانت شرقي السقيفة وهي اليوم حدائق. 109 - السيفية بجوار الجامع الأموي ومن القديم لا يعرف عنها غير هذا. 110 - السبائية خارج باب الجابية وشمالي بئر الصارم والتربة والزاوية بها في آخر شارع الدرويشة، إنشاء نائب الشام سيباي أمير السلاح بمصر سنة 921 جعلها جامعاً ومدرسة وزاوية وتربة. قال في المختصر عمرها بالحجر الأبلق ولم يدع بدمشق مسجداً مهجوراً ولا مدفناً معموراً إلا وأخذ منه من الأحجار والآلات والرخام والأعمدة ما أحب حتى سماها علماء دمشق جمع الجوامع وهي منذ سبعين سنة تكتب ابتدائي للذكور، وتقام فيها الصلوات والأذكار. 111 - الشبلية البرانية الحماسية بسفح قاسيون بالقرب من جسر ثورة، إنشاء شبل الدولة كافور الحسامي الرومي طواشي حسام الدين بن لاجين والدست الشام سنة 626 وقد دفن بها، وهي فوق جسر ثورة من طريق عين الكرش، لم يبق منها إلا قطعة يسيرة، درس بها وأعاد بها عظماء من الفقهاء منهم الصفي السنجاري والشمس ابن الجوزي وابن قاضي آمد وابن الغويرة والبصروي والأذرعي والكاشغري والطوسي والكفيري والتركماني والعماد الجيلي وابن بشارة. قال ابن خلكان: إن ست الشام بنت أيوب أنشأت مدرسة بظاهر دمشق وقد دفن فيها الملك المعظم وهي أيضاً وولده حسام الدين عمر بن لاجين وزوجها ناصر الدين أبي عبد الله محمد بن أسد الدين شيركوه صاحب حمص، وحسام الدين هو سيد شبل الدولة كافور بن عبد الله الحسامي الخادم صاحب المدرسة والخانقاه الشبلية اللتين في ظاهر دمشق على طريق قاسيون، ولها شهرة في مكانهما وأوقاف كثيرة اه. وإلى اليوم لا تزال

القبور ظاهرة للعيان، وهناك حوض ماء وإيوان. 112 - الشبلية الجوانية قبالة الأكزية داخل باب الجابية، إنشاء شبل الدولة كافور المعظمي صاحب المدرسة قبلها، وهي أمام محكمة الباب الشرعية القديمة وقد أصبحت دوراً. 113 - الصادرية داخل باب البريد على باب الجامع الأموي الغربي، إنشاء شجاع الدين والدولة صادر بن عبد الله قال صاحب الدارس: وهي أول مدرسة أنشئت في دمشق491 درس بها ابن زنكي الكاشاني والبلخي وأبو العيش وأوحد الدين الدمشقي والغزنوي رشيد الدين وابن مسعود والكعكي والرضي الملتاني الهندي والبرهان الغزنوي المعروف بأبي الهول وابن الشجاع وابن أسد الدين الدمشقي. وهي دور مساكن منذ استصفاها المستصفون من عهد قريب. 114 - الطرخانية قبلي الباذرائية إنشاء ناصر الدولة طرخان أحد كبار أمراء دمشق وهي منازل ومساكن. 115 - الطومانية تجاه دار الحديث الأشرفية غربي الشريفية والفقاعية بسوق العصرونية ولعل واقفها طومان النوري. وقد جعلت في أواخر القرن الماضي حانة تباع فيها الخمور ثم صارت حوانيت وداراً. 116 - العذراوية مر محلها وأنها على الحنفية والشافعية. درس بها العز السنجاري والسمرقندي والرازي. 117 - العزيزية أنشئت635 جوار المدرسة المعظمية إنشاء الملك العزيز عثمان بن العادل شقيق الملك المعظم، وفي العزيزية دفن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب ولا يزال قبره معروفاً يزار ويقصده العالم من الأقطار. 118 - العزيزية البرانية بالشرف الأعلى شمالي ميدان القصر خارج دمشق وهي البستان الذي أصبح معملاً للكهرباء وقد زال أثرها. أنشأها الأمير عز الدين استاد دار المعظمي المعروف بصاحب صرخد 626

درس بها جماعة منهم محمد الكريمي المتوفى سنة 1068 أي إنها كانت عامرة إلى القرن الحادي عشر. 119 - العزية الجوانية المعروفة بالكوشك أي القصر إنشاء المقدم ذكره وهي غير معروفة. 120 - العزية بجامع دمشق منسوبة له أيضاً، قال في الدارس: وشرط واقفها أنه بنى مدرسة بالقدس الشريف على أنه متى كان القدس بيد المسلمين يكون الوقف على المكان المذكور، وإن تعطل أي تعطيل القدس كان مدرسة بالجامع الأموي المعمور جوار مشهد علي. درس بها حين تعطل القدس القاضي مجد الدين قاضي الطور وهي غير موجودة. 121 - العلمية شرقي جبل الصالحية وغربي الميطورية إنشاء الأمير علم الدين سنجر المعظمي سنة628 لم يبق لها أثر. 122 - الفتحية نسي مكانها منذ قرون قال ابن شداد: وهي برحيبة خالد وهي مجهولة أيضاً، ومنشئها الملك فتح الدين صاحب بارين. 123 - الفرخشاهية تعرف بمعز الدين فرخشاه وواقفتها حظ الخير خاتون ابنة إبراهيم بن عبد الله والدة عز الدين فرخشاه وهي زوجة شاهنشاه ابن أخي صلاح الدين سنة578 وهي مقالبة التكية السيمانية بالشرف الأعلى شمالي حديقة الأمة، دثرت. 124 - القجماسية داخل باب النصر ودار السعادة إنشاء نائب الشام قجماس الإسحاقي الجركسي المتوفى سنة 892. وأول من درس بها شمس الدين أبو تراب محمد الأمامي وهي عامرة في الجملة. 125 - القصاعية بحارة القصاعين إنشاء خطلشاه خاتون بن ككجا سنة 593 كانت عامرة في القرن العاشر، ودرس بها محب الدين العلواني وهو آخر من درس بها من الفقهاء وهي في جهة الخيضيرية جعلت دوراً. 126 - القاهرية بالصالحية على طريق الترام في الزقاق الذي وراء سوق الجمعة على ضفة نهر يزيد لصيق دار الحديث القلانسية المشهورة بالخانقاه وغربي العمرية يفصل بينهما الطريق، وهي مساكن ولم يبرح اسمها معروفاً بالقاهرية وهي أسرة اسمها بنو القاهرية وهي الآن دار بني الحشاش.

127 - الظاهرية الجوانية تقدم محلها في مدارس الشافعية وأنها للحنفية أيضاً، أول من درس بها الصدر سليمان وابن النحاس وابنه شهاب الدين والسمرقندي والجوبري وابن العز وعفيف الدين الآمدي وقوام لطف الله الحنفي. 128 - القليجة واقفها سيف الدين بن قليج النوري بين الخضراء والصدرية السالفتين بالبزورية سنة620، وجدد بناءها قاضي الشام محمد جلبي سنة 923. درس بها الشمس على بن قاضي العسكر وفخر الدين بن خليفة البصروي وتقي الدين أخمد وعلاء الدين القونوي وغيرهم، وهي في سوق التبن اتخذت بيتاً ملاصقاً لدار العظم، ولعلها هي التي كانت مجمع الفضلاء والعقلاء للاستشارة إذا دهم أهل دمشق أمر مهم لا القليجية التي كانت داخل باب توماء كما روى بعض المؤرخين. 129 - القايمازية داخل بابي الفرج والنصر، إنشاء صارم الدين قايماز النجمي المتوفى سنة 596، كان من عمال السلطان صلاح الدين يتولى أسبابه في مخيمه وبيتوتته ويعمل أستاذ الدار، وكلما فتح السلطان بلدة سلمها إليه ليروضها. وهي بالمناخلية درست عندما جرى توسيع الطريق. 130 - المرشدية على نهر يزيد بالصالحية جوار دار الحديث الأشرفية إنشاء خديجة خاتون بنت الملك المعظم بن العادل أخت الناصر داوود سنة656، وهي من المدارس التي بقيت إلا أن داخلها متهدم ومجموعها مختلس. 131 - المعظمية بالصالحية بسفح قاسيون الغربي جوار المدرسة العزيزية، أنشئت 621 نسبة إلى الملك المعظم شرف الدين عيسى بن العادل صاحب دمشق وهي مدفن. 132 - المعينية بالطريق الآخذ إلى باب المدرسة العصرونية، إنشاء معين الدين أتسز، وهي دراسة. 133 - الماردانية على ضفة نهر ثورة لصيق الجسر الأبيض معروفة، أنشأتها عزيزة الدين أخشا خاتون بنت الملك قطب الدين صاحب ماردين زوجة الملك المعظم 610 درس بها جلة من الفقهاء، وهي جامع عامر بالصلوات وفيه مدفن بني المؤيد. 134 - المقدمية الجوانية داخل باب العمارة إنشاء الأمير شمس الدين

محمد بن المقدم في الأيام الصلاحية أنشئت سنة 575، وهي في حكم المفقود استصفي قسم منها وجعل دوراً وداخلها غرف تؤجر وحرمها مخزن. 135 - المقدمية البرانية تجاه الركنية بسفح قاسيون شرقي الصالحية إنشاء فخر الدين إبراهيم بن المقدم، غير موجودة ولعلها دار الشريباتي وحوض مائها لم يزل كما كان أمام حمام المقدم. 136 - المنجكية بجوار خانقاه الصوفية بالجاقماقية، وفي الدارس أنها بالخلخال. وكان الخلخال حديقة أخذت للثكنة الحميدية غربي المدينة. وهي قبلي الصوفية وغربيها، إنشاء الأمير سيف الدين منجك من مماليك الناصر محمد بن قلاوون أسست سنة 776 وهي اليوم حدائق ولا أثر لها. 137 - الميطورية شرقي جبل الصالحية في حي الأكراد، وقفتها فاطمة خاتون بنت السلار سنة 629 خربت. 138 - المقصورة الحنفية وهي محل التدريس في حرم الجامع الأموي وقف عليها كاتب الممالك القاضي فخر الدين أوقافاً. 139 - النورية الكبرى إنشاء نور الدين سنة 563، والصحيح أنها إنشاء ولده الصالح إسماعيل وهي بعض دار هشام بن عبد الملك الأموي، وفي الدارس أنها كانت قديماً دار معاوية بن أبى سفيان وكانت لمعاوية دار أخرى بباب الفراديس تحت السقيفة يقال: إنها الدار التي كانت معروفة بدار ابن المقدم. ولا تزال المدرسة عامرة إلى يومنا إلا أن بعض جيرانها اختلسوا بعضها من الشمال. 140 - النورية الصغرى كان في القلعة جامع تقام فيه الجمعة إلى القرن العاشر وبه مدرسة حنفية تسمى النورية الصغرى، قال: ابن شداد هي مدرسة بجامع القلعة، وكان مدرس القلعة أوائل القرن التاسع القاضي شمس الدين الزرعي وهو الذي ألزم ببناء مئذنة الجامع بالقلعة سنة 824 التي كانت أحدثت سنة 762. 141 - اليغمورية بالصالحية، إنشاء الأمير جمال الدين بن يغمور الباروقي اختلست.

مدارس المالكية بدمشق:

مدارس المالكية بدمشق: كان بدمشق أربع مدارس للمالكية وهي: 142 - الزاوية المالكية وقف السلطان صلاح الدين ملاصقة المقصورة الحنفية من غربي الجامع الأموي درس بها بعض فقهاء المالكية. 143 - الشرابيشية في القنوات وفي الدارس أنها بدرب الشعارين لصيقة حمام صالح شمالي الميطوريين داخل باب الجابية، وكانت قبل أن تصبح مدرسة للأيتام محكمة شرعية واختلس الجيران بعضها. وهي إنشاء شهاب الدين بن نور الدولة بن محاسن الشرابيشي التاجر السفّار ولا يعلم عنها غير هذا. 144 - الصمصامية شرقي دار القرآن الوجيهية وقرب المسرورية، وقف عليها الصاحب شمس الدين غبريال الأسلمي، وذكر المؤرخون أن سنان القرماني والد القرماني صاحب التاريخ خرب مدرسة المالكية بالرب من البيمارستان النوري وتعرف بالصمصامية وحصل به الضرر بمدرسة النورية ببعلبك، وولي نظارة البيمارستان ونظارة الجامع الأموي وانتقد عليه أنه باع بسط الجامع وحصره فقتل بسبب ذلك هو وناظر السليمية حسين سنة 966 خنقاً معاً بدار السعادة بشاشيهما وعمامتاهما على رأسيهما. ولو نفذ حكم الشرع هكذا في المختلسين والغاصبين لما ذهبت كل هذه المدارس مع أمس الدابر. 145 - الصلاحية إنشاء السلطان صلاح الدين بالقرب من البيمارستان النوري غير معروفة أيضاً. وكان في زقاق حمام القاضي مدرسة للمالكية على ما في مفكرات طارق. مدارس الحنابلة بدمشق: كان بدمشق عشر مدارس للحنابلة وهي: 146 - الجوزية في البزورية كانت في عهدنا محكمة شرعية ثم جعلتها جمعية الإسعاف الخيري مدرسة للأيتام ثم حرقت في الثورة السورية، إنشاء محيي الدين بن جمال الدين بن الجوزي.

147 - الجاموسية غربي العقيبة خارج دمشق ابتلعها وأوقافها كما ابتلع غيرها المتولون عليها. 148 - الشريفية عند القباقبية العتيقة قديماً ودار بني الغزي في العمارة أمام الفرن بالجانب الشرقي وهي الآن دار. من إنشاء شرف الإسلام عبد الوهاب أبي الفرج الحنبلي شيخ الحنابلة بدمشق المتوفى سنة 536 وظلت يتعاقب عليها أولاده وأحفاده حيناً من الدهر. 149 - الصاحبة بسفح قاسيون من شرق الصالحية. إنشاء ربيعة خاتون بنت نجم الدين أيوب أخت صلاح الدين وست الشام، ودفنت في فنائها سنة 653 وجعلت اليوم مكتباً ابتدائياً للذكور. 150 - الصدرية إنشاء صدر الدين أبي الفتح أسعد المنجا التنوخي العدل سنة 630 وكانت بجوار الجامع في زقاق الريحان والعامة تزعم أن قبر معاوية بن أبي سفيان بها وليس بصحيح. 151 - الضيائية المحمدية شرقي جامع المظفرية بجبل قاسيون. إنشاء ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي سنة 620 كان علامة عصره درس بها بانيها أولاً ولا يعرف عنها شيء. 152 - الضيائية المحاسنية بسفح قاسيون شرقي جامع المظفرية وأمام جامع الحنابلة، بقي منها أربع نوافذ وجدار، أنشأها ضياء الدين محاسن ووقفها على من يكون أمير الحنابلة. 135 - العمرية الشيخية وسط دير الحنابلة بسفح الجبل، إنشاء أبي عمر الكبير الحنبلي الزاهد المعروف بابن قدامة سنة 550 وهو الذي نسبت الصالحية إليه لنزوله بمسجد أبي صالح بظاهر باب شرقي، وهي الآن خراب أكل النظار عليها أوقافها واستباحوا أخذ خزانة كتبها المهمة. وفي تاريخ الصالحية أنها أكبر المدارس بدمشق والصالحية لأنها مشتملة على ثلاثمائة وستين خلوة على ما قيل، والعامر منها الآن عصر مؤلف تاريخ الصالحية أقل من ذلك اه. قال في تاريخ الصالحية أيضاً: إن أبا عمر بنى المدرسة ووالده الشيخ

المدارس الحديثة:

أحمد بنى المصنع ثم كثر البناء المتسع بالصالحية حول المدرسة حتى بلغ من القبلة حد المدينة ومن الشرق برزة إلى الميطور وبستان الميطور الآن معروف بالقرب من جسر النحاس قرب حي الأكراد. أما الآن فهي خراب يباب، وقد درس بها أئمة أعلام فيما سلف. 145 - العالمة مدرسة للنحابلة ودار للحديث شرقي الرباط الناصري تحت جامع الأفرم غربي سفح قاسيون، وقفتها الشيخة الصالحة العالمة أمة اللطيف بنت الناصح الحنبلي سنة 630 وهي خراب بلقع. 155 - المسمارية قبلي القيمرية الكبرى داخل دمشق قبلي الفتيحة قرب مئذنة فيروز. واقفها التاجر الحسن بن المسمار الهلالي الحوراني المغربي من أهل القرن السادس جعلت الآن مخفراً للشرطة. 156 - المنجائية زاوية بالجامع الأموي تعرف بابن منجا. 157 - المدرسة الحنبلية تولى عمارتها سعد الدين بن عبد العزيز إمام الملك الأشرف موسى بن الملك العادل. المدارس الحديثة: هذا ما ذكره صاحب الدارس من دور القرآن ودور الحديث ومدارس الشافعية والحنفية والمالكية والحنابلة، وقد أنشئت بعد عهده في دمشق عدة مدارس في القرن الثاني عشر وهي: 158 - المرادية جنوب الظاهرية الجوانية وتفصل بينهما الآن سكة ضيقة لصاحبها الشيخ مراد المرادي مراد بن علي بن داود بن كمال الدين بن صالح البخاري النقشبندي سنة 1132 وكانت قبل ذلك خاناً يسكنه أهل الفسق والفجور وقد خربت زمن الحرب العامة وهي الآن خراب. 159 - النقشبندية البرانية هي في سوق ساروجا بناها الشيخ مراد المرادي وكانت داره، وبنى إلى جانبها مسجداً وهي الآن تكية ومنزل لأحفاده. 160 - السيسمانية مدرسة سليمان باشا العظم، أسست في باب البريد 1150 جعلت زمناً مكتباً للإناث وقد رمت بعد خرابها وسكنها دراويش.

161 - العبدلية مدرسة عبد الله باشا العظم، أسست في سوق السلاح سنة 1193 ولا تزال موجودة. 162 - الإسماعيلية مدرسة إسماعيل باشا العظم في سوق الخياطين، أسست سنة 1141 والطابق السفلي منها من بناء إسماعيل باشا العظم والعلوي من بناء أسعد باشا العظم، ولكل منهما وقف خاص به، وكانت المدرستان الأخيرتان من المدارس العامرة إلى عهد قريب فأصبحتا مأوى الفقراء وذهبت أوقافهما أو كادت. وهناك مدارس حدثت بعد عهد صاحب الدارسين يعثر على أسمائها مبعثرة في كتب التاريخ والمدونات الحديثة ولا أثر لها لعدم مكانتها أو لطارئ طرأ عليها. والطوارئ على مثل هذه المدارس قد تحدث في كل عقد أو عقدين من السنين مثل: 163 - المدرسة الحجازية التي نزل بها أحمد بن شمس الدين الصفوري ولا نعرفها الآن. 164 - المدرسة الجوزية انقطع إليها إبراهيم السقا سنة 1058 ودرس بها إبراهيم بن حمزة سنة 1119. 165 - المدرسة الحافظية بصالحية دمشق درس بها حمزة بن محمد نقيب الشام المتوفى سنة 1067. 166 - مدرسة أحمد شمسي باشا في سوق الأروام. 167 - ومن المدارس التي لم يذكرها صاحب الدارس مدرسة السلطان المؤيد التي بناها سنة 817 الملك المؤيد في دمشق وسماهاوأنشأ سوقاً نسب إليه ولا نعلم عنها هذا. ومنها 168 القارية مدرسة ابن القاري قال ابن طولون: لم يكن في الصف الشمالي مسجد البيع من باب الجابية إلى باب شرقي يوجه إلى القبلة، قيل: إن الصحابة بايعوا فيه، وهو الآن مدرسة بناها الخواجا محمد بن يوسف القاري سنة887 وبني إلى جانبها داراً عظيمة بالغ في إتقانها وقد أصبحت هذه الدار والمدرسة دوراً صغيرة وحواصل للخشب. ومنها 169 المدرسة المزلقية بطريق مقابر باب الصغير الآخذ إلى

مدارس الطب بدمشق:

الصابونية، أنشأها تاجر الخاص الشريف شمس الدين أبو عبد الله محمد بن علي بن أبي بكر المعروف بابي المزلق ميلاده سنة 754 كان أبوه لباناً حكى عن نفسه أن أول سفرة سافرها في البحر كسب فيها مائة ألف دينار وثمانمائة ألف درهم وانفتحت عليه الدنيا وعمر أملاكاً كثيرة وأنشأ على درب الشام إلى مصر خانات عظيمة بالقنيطرة وجسر بنات يعقوب وعيون التجار، أنفق على إعمارها ما يزيد على مائة ألف دينار، وكل هذه الخانات فيها الماء وجاءت في غاية الحسن ولم يسبقه أحد من الملوك والخلفاء إلى مثل ذلك، وهو صاحب المآثر الحسنة بدرب الحجاز ووقف على سكان الحرمين الشريفين الأوقاف الكثيرة. ومن المدارس الحديثة بناء مدرسة الحقوق على شاطئ بردى في المرجة وهي من بناء الترك في آخر أيامهم وهي من أجزاء الجامعة السورية. ومدارس الدولة إلى اليوم تقوم على أنقاض البيوت القديمة أو الحديثة أو بقايا الجوامع والمدارس. وهمم الأفراد فاترة لسد هذه الثلمة. ومدارس الطوائف والتبسير تجعل في الكنائس والبيع على الأغلب. ومن أهم مدارس الحكومة مدرسة التجهيز والمعلمين وهي دار خاصة في شرقي المدينة كانت لغني إسرائيلي اسمه عنبر، فوقعت في تلك الحكومة العثمانية لدين كان لها على صاحبها وجعلت مدرسة إعدادية في سنة 1304 شرقية، وفيها من ضروب الصناعات في البناء شيء كثير وقد خلفتها المدرسة التجهيزية غربي البلد على الشرف الأعلى وهي من أجمل أبنية دمشق على عهدها الحديث، أما سائر المدارس الحديثة فيستحي المرء من ذكرها إذا لا شأن لها وليس للآمة ولا للحكومة يد في إنشائها. مدارس الطب بدمشق: كان بدمشق أربع مدارس للطب وهي: 170 - الدخوارية بالصاعة العتيقة قرب الخضراء قبلي الجامع وفي رواية شرقي سوق المناخليين: إنشاء مهذب الدين عبد الرحيم بن علي المعروف بالدخوار، وفي رواية: عبد المنعم بن علي المعروف بالدخوار سنة 621 جعلها مدرسة يدرس فيها من بعده صناعة الطب، ووقف لها ضياعاً وعدة أماكن

يستغل منها ما ينصرف في نصالحها وفي راتب المدرس والمشتغلين بها. ووصى أن يكون المدرس بها شرف الدين علي بن الرحبي. قال ابن أبي أصيبعة في ترجمة شرف الدين بن الرحبي من كبار أطباء دمشق المتوفى سنة 667 إن مهذب الدين عبد الرحيم بن وقف على الدار الشمالية وجعلها مدرسة للطب وربما هي الدخوارية بعينها. وفي رواية أنها وبستان الدخوار عند أراضي الجامع الأموي من قص اللباد شماليها نهر ثورة، درس بها واقفها وبدر الدين محمد بن قاضي بعلبك والدنيسري وابن حيدرة الرجيحي وكمال الدين الطبيب والجمال أحمد بن عبد الله بن الحسين الدمشقي وسليمان بن داود ومحمد ابن شهاب الدين أحمد الكحال وعز الدين السويدي. وهي اليوم دور ولا يعلم زمن دمارها. 171 - الدنيسرية غربي باب البيمارستان النوري والصالحية وبآخر الطريق من قبلة لصاحبها عماد الدين محمد الدنيسري من مدرسي المدرسة السابقة ولم يعرف عنها غير هذا. 172 - الربيعة لم يذكرها في الدارس وقال في مختصره: إنها غربي البيمارستان النوري والمدرسة الصلاحية بآخر الطريق قبلة يقال: إنها هي المسجد الذي أنشأه قاضي القضاة محمد بك وكان بها أيضاً صيدلية منظمة إنشاء عماد الدين محمد بن عباس الربعي المتوفى سنة 68. وجاء في الدارس: وفي سنة 749 أقامها جديدة عبد الله بعد أن الرومي الحنفي من مماليك السلطان بايزيد بن عثمان ثم جعلت دار بني البكري ونسفت في الثورة الأخيرة بالديناميت. 173 - اللبودية خارج البلد ملاصقة بستان الفلك وحمام الفلك، إنشاء نجم الدين يحيى بن اللبودي 664 درس بها جمال الدين الزواوي. قال في الواقي: هو يحيى بن محمد الوزير الصدر نجم الدين بن اللبودي الدمشقي الطبيب ترقي بالطب عند صاحب حمص إبراهيم ووزر له ثم اتصل بالناصر صاحب الشام فجعله ناظر الدواوين توفي سنة سبعين وستمائة ودفن في تربته التي بالقرب من بركة الحميريين وجعل تربته دار طب وهندسة وقرر لها شيخاً وقراء. وقال إنه ألف في الرد على الموفق عبد اللطيف البغدادي

مدارس حلب:

كتاباً وهو في الثالثة عشرة وهو صاحب دار الطب والهندسة. ومدرسته اليوم، متهدمة واسم البستان بستان اللبودي شرقي الشموليات من أراضي باب السريجة. هذه هي المدارس الطبية بدمشق وقد دثرت أسماؤها. ومن عرف أن القدماء كانوا يعنون بالطب أكثر مما نتصور لا يستكثر على دمشق أربع مدارس في الطب في الدهر الغابر. فقد ذكر المؤرخون أنه كان لكل من أبي المجد بن الحكم ومهذب الدين النقاش ورفيع الدين الجيلي مجالس عامة للمشتغلين عليهم بالطب في دمشق. قال السبكي في معيد النعم: ومن حقهم - أي السلاطين - إقامة فقيه في كل قرية لا فقيه فيها يعلم أهلها أمر دينهم، ومن العجب أن أولياء الأمور يستخدمون في كل حصن طبيباً ويستصحبون أطباء في أسفارهم بمعلوم من بيت المال ولا يتخذون فقيهاً يعلمهم الدين، وما ذاك إلا أن أمر أبدانهم أهل عليهم من أمر أديانهم نعوذ بالله من الخذلان اه. وفي المحرم من عام 1321 صدرت إرادة السلطان عبد الحميد الثاني بإنشاء مدرسة طبية ملكية بدمشق وأن يخصص لبنائها عشرة آلاف ليرة ومثلها لنفقتها السنوية ولوازمها لمنافسة مدرستي الطب في بيروت الأميركية واليسوعية. فشرع في خريف تلك السنة بالتدريس في دار استؤجرت موقتاً في طريق الصالحية ريثما تبنى المدرسة الجديدة. وفي أوائل دخول الجيش العربي والإنكليزي آخر أيام الحرب العامة أنشئت. 174 - مدرسة طبية على أنقاض مدرسة الأتراك جعلت في مستشفى الغرباء التي كانت في مقابر الصوفية أو مقبرة البرامكة ثم أنشئ لها مدرج باسم مدرج الجامعة السورية. مدارس حلب: نشأت المدارس في حلب في العهد الذي أنشئت فيه بدمشق ولكن على

صورة مصغرة، وقد بنيت أول مدرسة فيها سنة 517 وهي: 175 - المدرسة الزجاجية بناها بدر الدولة سليمان بن عبد الجبار صاحب حلب، ولما أراد بناءها لم يمكنه الحلبيون من ذلك إذ كان الغالب عليهم التشيع، فكان جماعته يبنون في النهار، وتالشيعة تنقض ما بنوه في الليل. وقال بعض المؤرخين: إنها من بناء عبد الرحمن بن العجمي لأصحاب الشافعي، وقد خربت وأصبحت دوراً للسكنى، ويغلب أن يكون مكانها في محل خان الطاف من محلة الجلوم إعلام النبلاء. 176 - النورية أنشأها الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي سنة 544 وتعرف بالنفرية أيضاً وهي تجاه المدرسة الصاحبية. 177 - العصرونية كانت داراً لأبي الحسن علي بن أبي الثريا وزير بني مرداس فصيرها الملك العادل نور الدين سنة 550 مدرسة وجعل فيها مساكن للمرتبين بها من الفقهاء، وقد كانوا سنة 874 فوق المئة، واستدعى لها من سنجار شرف الدين بن أبي عصرون فولاه تدريسها والنظر فيها، وهو أول من درس بها فعرفت به، وبنى له نور الدين مدارس بمنبج وحماة وحمص وبعلبك ودمشق، وقد كان لها بقية إلى سنة 1343 إذ شرعت إدارة الأوقاف بخرابها وإقامة دور للسكنى مكانها يضاف ريعها للأوقاف. 178 - الصاحبية أنشأها القاضي بهاء الدين يوسف المعروف بابن شداد، قال ابن خلكان: إن حلب كانت قبل أن يتصل ابن شداد بخدمة الملك الظاهر قليلة المدارس وليس بها من العلماء إلا نفر يسير، فاعتنى بترتيب أمورها، وجمع الفقهاء بها، وعمرت في أيامه المدارس الكثيرة، وكان الملك الظاهر قد قرر له إقطاعاً جيداً يحصل منه جملة مستكثرة، فعمر مدرسة بالقرب من باب العراق قبالة مدرسة نور الدين محمود بن زنكي للشافعية، وذلك في سنة إحدى وستمائة، ثم عمر في جوارها داراً للحديث وجعل بين المكانين تربة فيها، ولما صارت حلب على هذه الصورة قصدها الفقهاء وحصلت بها الاستفادة والاشتغال وكثر الجمع بها. وتقع هذه المدرسة في الزاوية الغربية من الجنينة المعروفة الآن بجنينة الفريق شرقي محلة السفاحية، ولم يبق منها ولا من دار الحديث سوى حجر مكتوب وقد

كانتا عامرتين في القرن العاشر كما في إعلام النبلاء. 179 - الظاهرية وتعرف أيضاً بالسلطانية، وهي للشافعية والحنفية أسسها الملك الظاهر613 وتوفي ولم تتم وأكملها شهاب الدين طغرل أتابك وعلى بابها أنها أنشئت سنة 620 وهي اليوم خراب إلا بضع حجر جددت يسكنها بعض الفقراء ومحرابها من بدائع الصنعة. 180 - الأسدية أنشأها الأمير أسد الدين شيركوه المتوفى سنة 564 وهو عم صلاح الدين. وهي في محلة باب قنسرين باق منها قبلية وقبة وقد جدد فيها سنة 1316 ثماني حجرات. 181 - الشعيبية كانت فيما قالوا مسجداً أول ما اختطه المسلمون عند فتح حلب يعرف بالغضايري نسبة لعلي بن عبد الحميد الغضايري. فلما ملك نور الدين حلب وصل الشيخ شعيب بن أبي الحسن الفقيه الأندلسي فصيرت له مدرسة فعرفت به، وعلى جدارها تاريخ بناء نور الدين سنة545 وهي في القرب من باب إنطاكية مسجد تقام فيه الصلوات وهي في إدارة الأوقاف إعلام النبلاء. 182 - الشرفية أنشأها شرف الدين عبد الرحمن بن العجمي، وأنفق عليها ما يربو على أربعمائة ألف درهم، ووقف عليها أوقافاً جليلة، وكان فيها غرف وإيوان وقاعة للدرس، وفي بنائها وأبوابها من بدائع الصنعة ما يفتخر به الصناع، وعلى بئرها قنطرة من الحديد مكتوب عليها بالقلم المجوز أنها صنعت سنة أربعين وستمائة وهي من بدائع الرسم. وفي سنة 1343 شرع في تعميرها واتخذ من الجهة الشرقية منها بهو كبير بأربعة أعمدة يصلح للمحاضرات وأماكن أخرى. 183 - الرواحية أنشأها ركن الدين هبة الله محمد بن عبد الواحد الحموي وقال في الوافي: زكي الدين بن رواحة الأموي الشاعر المعدل كان كثير الأموال محتشماً، أنشأ مدرسة بدمشق وأخرى بحلب وشرط على الفقهاء والمدرسين شروطاً صعبة، وأن لا يدخل مدرسته يهودي ولا نصراني ولا حنبلي حشوي توفي سنة اثنتين وعشرين وستمائة، وقد اندثرت في وقعة تيمور ثم أصلحت في زمن قصروه كافل حلب. أما الآن فقد صارت دوراً ولم

يبق منها باب ذي أحجار ثلاثة سود، وباب مسدود يعلوه حجرة عظيمة، وهي واقعة في أول الزقاق المعروف بزقاق الزهراوي شمالي المدرسة الشرقية الآنفة الذكر. 184 - البدرية أنشأها بدر الدين عتيق عماد الدين شادي في صدر درب البازيار ويعرف الآن بزقاف الزهراوي وهي دائرة. 185 - السيفية أنشأها الأمير سيف الدين علي بن علم الدين سليمان ابن جندر 617 مشتركة بين الشافعية والحنقية وقد دثرت هي وسميتها التي جعلت لتدريس مذهبي مالك وأحمد بن حنبل كما يأتي، لكن يتعين موقع إحداهما في قبلي تربة الكيباتي بجانب محلة الكلاسة، بما هو موجود من تربة الباني التي لم يذكر التاريخ أنها في جوار مدرسته، وهي اليوم قبة قديمة سقفها خرب فيها قبره. 186 - الزيدية وتعرف بالألواحية لنزول الألواحي فيها، هي داخل باب إنطاكية بالقرب من المدرسة الشعيبية، أنشأها إبراهيم بن إبراهيم المعروف بأخي زيد الكيال انتهت سنة 655 درس فيها أحمد بن محيي الدين العجمي. 187 - القوامية داخل باب الأربعين بالقرب من حارة الفرافرة تجاه قسطل الملك العادل غياث الدين وداخلها ربط للقلندرية. 188 - الشادبختية أنشأها جمال الدين بن كمال الدين بن العديم محمود بحلب 589، وممن ولي تدريسها أحمد بن كمال الدين بن العديم المتوفى 638 وكانت حلب يومئذ أعمر ما كانت بالعلماء والمشايخ والفضلاء الرواسخ. وقد تولي تدريسها بعده كثيرون من الفضلاء من بني الشحنة. 189 - الظاهرية أيضاً أنشأها الملك الظاهر غياث الدين صاحب حلب 616 للشافعية وأنشأ إلى جانبها تربة ليدفن فيها من يموت من الملوك والأمراء، وهي قبلي حلب مما يلي باب المقام لم يبق منها سوى المحراب وعمودين وحوض مثمن بديع. 190 - الهروية أنشأها الملك الظاهر غازي لأجل الشيخ الذي كانت له عنده منزلة رفيعة وهو علي الهروي السئح وهي قبلي حلب، خربت في فتنة

التتر ولم يبق منها سوى قبره في قبة داخل كرم فستق، وكانت وفاته سنة إحدى عشرة وستمائة. 191 - الفردوس أنشأتها الملكة ضيفة خاتون بنت الملك العادل سيف الدين أبي بكر محمد بن أيوب وهي جليلة، وجعلها تربة ومدرسة وربطاً ورتبت فيها خلقاً من القراء والفقهاء والصوفية، ولا تزال أسوارها باقية وجامعها عامراً، لكنها جعلت مدفناً للفلاحين النازلين في جوارها وتحتاج إلى ترميم، وهي مثال جميل من أمثلة الهندسة العربية، كتب على حائط فنائها بعد البسملة وآيات من سورة الزخرف: هذا ما أمرت بإنشائه ذات التر الرفيع، والجناب المنيع، الملكة الرحيمة، عصمة الدنيا والدين، ضيفة خاتون ابنة السلطان الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب تغمدهم الله برحمته، وذلك في أيام مولانا السلطان الملك الناصر العالم العادل المجاهد المرابط المؤيد المظفر المنصور صلاح الدنيا والدين يوسف بن الملك العزيز محمد بن الملك الظاهر غازي بن يوسف بن أيوب ناصر أمير المؤمنين عز نصره، بتولي العبد الفقير عبد المحسن العزيزي الناصري رحمه الله في سنة ثلاث وثلاثين وستمائة. وقد كتب على محرابها البديع عمل حسان بن عفان. 192 - البلدقية أنشأها الأمير حسام الدين القيمري سنة646 وهي خراب منذ قرون. وهناك أربع مدارس ذكرها ابن الشحنة: 194 - الأولى بالجبيل لشمس الدين أحمد بن العجمي وقد دفن بها أبو ذر المؤرخ سبط ابن العجمي وهي مشتركة بين الشافعية والمالكية أنشئت سنة595 وتسمى الآن جامع أبي ذر فيها قبلية ومنبر. 195 - الثانية أنشأها الأمير شمس الدين لولو. 196 - الثالثة بالمقام أنشأها بهار الدين المعروف بابن أبي سبال. 197 - الرابعة أنشأها عز الدين مظفر الحموي 632.

هذه هي المدارس الشافعية في داخل المدينة وخارجها. أما مدارس الحنفية في المدينة فهي: 198 - البلدقية أيضاً وهي بجانب سميتها المتقدمة الذكر بنيت كذلك سنة 635. 199 - الحلاوية كانت كنيسة من بناء هيلانة أم قسطنطين ولما بعثر الفرنج قبور المسلمين وأحرقوهم 518 انتقم المسلمون بأن أحالوا هذه الكنيسة مع ثلاث أخرى مدرسة، وفيها إلى الآن عمد الرخام في تيجانها نقوش تمثل أنواعاً من النبات تشبه نقوش قلعة سمعان، وكانت تعرف قديماً بمسجد السراجين جعلها نور الدين مدرسة، وجدد بها مساكن يأوي إليها الفقراء 543 وهي من أعظم المدارس، ومن أكثرها طلبة وأغزرها رواتب وجرايات، درس بها جملة من العلماء. وهي منفصلة عن الجامع الكبير بزقاق ضيق في السوق قبالته من الغرب. وقد ذكرها أحد علماء الآثار فقال: إن الجزء الجنوبي منها يحتوي على بقايا بناء ديني من عهد النصرانية الأولى، وقد أثبت ذلك التقليد القائل بأن هيلانة بنت في حلب كنيسة، ونقوش البناء تشبه نقوش الكنائس ذات السطح المتوسط في ديار بكر والرصافة. كل هذا يدل بالمنظر لصورة تيجان الكنيسة أن أصلها من بناء قام في آخر القرن السادس. ويقول هرزفيلد: إن عهد الفراغ الذي قامت فيه القبة يرد إلى تاريخ قاعتها. وكذلك الرواقان المتلاصقان من الجنوب والشمال، وإن الناظر في مجموع هذا البناء يرى الجزء الغربي منه بيعة تغشاها قبتان أو ثلاث كان محراباً متصلاً بالزقاق الآخذ اليوم إلى المدرسة والجامع الأعظم. وذكر القزويني أن في مدرسة الحلاوي بحلب حجراً على طرف بركتها كأنه سرير ووسطه منقور قليلاً يعتقد الفرنج فيه اعتقاداً عظيماً وبذلوا فيه أموالاً فلم يجابوا إليه. ومحراب هذه المدرسة العامرة اليوم بالطلبة من أجمل المحاريب عمل بخشب الآبنوس على صورة بديعة، وكان على قبتها طائر من نحاس يدور مع الشمس. 200 - الأتابكية أنشأها شهاب الدين طغرل بك عتيق الملك الظاهر غياث الدين غازي نائب السلطنة سنة618 وخربت في فتنة التتر ثم رممت وما

زالت عامرة إلى القرن العاشر ثم خربت، والآن لا يعرف إلا مكانها الذي أصبح عرصة خالية شرقي جامع العادلية وقبلي خان الفرايين يفصلها عنهما الطريق الأخذ إلى السفاحية والطريق الآخذ إلى الخسروية. 201 - الحدادية أنشأها حسام الدين محمد بن عمر بن لاجين ابن أخت صلاح الدين، وهي من الكنائس الأربع التي صيرها ابن الخشاب مساجد فهدمها وبناها بناء وثيقاً، تولاها كثير من المدرسين وكانت عامرة في أواخر القرن العاشر. وهي في محلة السفاحية لم يبق من آثارها سوى عضادتي باب كبير مكتوب على طرفه الأيمن الحمد لله. 202 - الجردكية وهي ملاصقة للصاحبية، أنشأها الأمير جرديك النوري بسوق البلاط كملت سنة 601 كانت عامرة إلى آخر القرن الثامن. وفي أواخر القرن الثالث عشر كانت قهوة ثم تحولت مكتباً ثم صارت دكاناً ثم عمرتها دائرة المعارف مخزناً واسعاً وهو الآن كذلك. 203 - المقدمية أنشأها عز الدين عبد الملك بن المقدم من أمراء صلاح الدين سنة 564 وكانت إحدى الكنائس الأربع التي صيرها ابن الخشاب مساجد فجعلها مدرسة وأضاف إليها داراً كانت إلى جانبها. وهي في محلة الجلوم في زقاق يسمى خان التتن باق منها قبليتها وبابها الذي فيه صنعة حسنة. وهي أخت المقدمية في دمشق التي بناها المقدم أيضاً، والأوقاف التي في دمشق مشتركة بين الاثنتين. 204 - الجاولية أنشأها عفيف الدين عبد الرحمن الجاولي النوري، وهي في محلة سويقة حاتم وقد كان الباقي منها قبليتها. أما الآن فقد هدمتها دائرة الأوقاف وعمرت في مكانها عقارات للاستغلال. 205 - الطمانية أنشأها الأمير حسام الدين طمان النوري وخربت في القرن الثمن أو قبله، وكانت في درب الأسفريس الذي هو بجانب جامع منكلي بغا المعروف الآن بجامع الرومي من باب قنسرين. 206 - الحسامية أنشأها الأمير حسام الدين محمود بن ختلو غربي قلعة حلب سنة615، وأمام بابها القديم باب حادث كتب عليه أنه عمر سنة 1281، والباقي منها قبليتها وثلاث حجرات صغار. وهي خربة في إدارة

الأوقاف مسدودة الباب، أول من درس بها بدر الدين يعقوب النحاس ثم ولده محمد ثم العلماء بنو الشحنة. 207 - الأسدية ثم الخسروية تجاه القلعة المعروفة حينئذ بالطواشية أنشأها بدر الدين الخادم عتيق أسد الدين شيركوه كانت داراً يسكنها فوقفهما بعد موته، وكان مكتوباً على بابها جددت سنة 632 قال ابن الشحنة: إن هذه المدرسة خربها الملا محمد ناظر الأوقاف بحلب سنة خمس وثلاثين وتسعمائة ولم يبق لها عين ولا أثر، ودخلت في عمارة المدرسة التي أنشأها الوزير خسرو باشا المشتملة على مسجد وجامع ومدرسة وخانقاه معدة للضيوف، وهي أول عمارة أنشئت بحلب منذ دخول الترك. وفي دار الحبيب أن خسرو باشا كافل حلب تولى الوزارة أمر بإنشاء جامع وتكية في حلب بمشارفة معمار رومي، وأدخل عدة أوقاف منها الدار التي عمرها ووقفها أبو الفضل ابن الشحنة والمدرسة الأسدية الملاصقة لها ومسجد ابن عنتر الملاصق لها وكانت هذه الدار إحدى دور حلب العظام مشتملة على حديقة وبحرة وسبع قاعات وفرن وآبار لخزن الغلال ودهليز يصل إلى حمامه المشهور بحمام القاضي. واتفق في هذه المدرسة أن جعلت ميضآت للتكية المذكورة. وفي أعمدة التكية المذكورة عمودان كانا للمدرسة القديمة بزقاق سالار بحلب فأخذهما، ومتوليها إذ ذاك محمد جلبي ابن المرعشي ولم ينتطح فيها عنزان اه. قلنا: وهذا مثال صريح من العمران التركي فهو والخراب اسمان لمسمى واحد. وهذه المدرسة تسمى اليوم بالخسروية وهي عامرة بطلبة العلم بفضل النهضة الأخيرة، ومحرابها ومنبرها وقبتها من أجمل آثار الصناعة الحلبية في القرن العاشر بقيت بحالها لم تمسها أيدي المتولين والمتلاعبين، وفيها القيشاني من صنع حلب. 208 - القليجية أنشأها الأمير مجاهد الدين محمد بن شمس الدين محمود بن قليج النوري سنة 650 ملاصقة لدار العدل ثم تجدد من جوانبها الثلاثة دور مضافة إلى دار العدل، خربت في القرن العاشر. 209 - الفطيسية أنشأها سعد الدين مسعود بن الأمير عز الدين أيبك المعروف بفطيس عتيق عز الدين فرخ شاه، كانت داراً يسكنها فوقفها توفي

سنة 649. وأول من درس بها أحمد القراولي المارداني المعروف بالفصيح وعليه انقضت الدولة الناصرية، وهي مما دخل في دار العدل وحكم القاضي شمس الدين بن أمين الدولة بانتقال وقفها إلى القليجية أقرب مدرسة إليها، قال ابن الشحنة: إنها درست في الفتنة التيمورية ولم يبق لها عين ولا أثر ولا يعلم أين كانت. وكذا صار في مدارس عديدة فإنني ما زلت أسمع أنه كان بحلب أربعون مدرسة للحنفية خاصة ولم يدع ابن شداد ذلك. 210 - المجدية الجوانية منسوبة إلى مجد الدين بن الداية في محلة بزة بالقرب من ضريح النبي بلوقيا خربت في سنة 936. 211 - المجدية البرانية منسوبة إليه أيضاً دثرت بالكلية. 212 - الكلتاوية بناها الأمير طقتمر الكلتاوي المتوفى سنة 787 داخل بانقوسا في محلة تسمى بالكلتاوية، وهي للحنفية لم يبق منها سوى قسم من قبيلتها وكان فيها قبر الواقف لكنه دارس. 213 - الالجانية لصيق جامع الطواشي نسبة إلى الجاي أمين السلاح زمن اشقتمر أنشئت سنة 744. 214 - الكينوشية أو الكهنبوشية داخل النيرب ويقال بل هي زاوية. 215 - الشهابية تجاه الناصرية للحنفية. ولا أثر لها الآن، ولعلها دخلت في بناء خان الوزير. 216 - الكاملية بالقرب من الناصرية بناها ابن كامل. ولا أثر لها ولعلها دخلت في بناء خان الوزير أيضاً. 217 - الصاحبية شمالي الجردكية أنشأها شهاب الدين أحمد بن الصاحب سنة 765 وهي باقية إلا أنها متوهنة وفيها نقوش وآثار تعد من النفائس. 218 - المدرسة التي في شرقي الجامع العمري في بحسيتا فيها قبر الشيخ حسن الفول. 219 - اليشبكية بناها الأمير يشبك المؤيدي نائب حلب على أنها مكتب أيتام وبنى له فيها مدفناً دفن فيه سنة823 ووقف عليها سوقه الذي

بناه بالقرب منها ولا أثر لها، أما المسجد الذي بنى معها فهو باق في سوق العبي. 220 - تغري الدرمشية تحت القلعة بناها الأمير تغري درمش نائب حلب. 221 - السفاحية بناها القاضي شهاب الدين سبط بني السفاح ووقفها على الشافعية وشرط أن لا يكون لحنفي فيها حظ إلا في الصلاة. 222 - مدرسة أقجا أنشأها أقجا خازن يشبك اليوسفي وهي قبلي السفاحية بالخط المذكور ولا أثر لها اليوم. 223 - الدلغادرية بناها الأمير ناصر الدين باك محمد بن دلغادر ظاهر البلد من شماليه على كتف الخندق، ووقفها على الحنفية وقرر بها شهاب الدين أحمد بن موسى المرعشي. 224 - الأشودية أنشأها الأمير عز الدين أشود التركماني دثرت في القرن العاشر. 225 - النقيب أنشأها السيد الشريف المرتضى النقيب عز الدين أبو الفتوح أحمد بن محمد الإسحاقي المؤتمني الحسيني المتوفى سنة 653 على جبل جوشن، وكانت عمارتها من البدائع يقال لها تاج حلب. 226 - الدقاقية أنشأها مهذب الدين أبو الحسن علي بن الدقاق سنة630 خربت بعد القرن التاسع على الغالب، كانت شمالي الفيض. 227 - الجمالية أنشأها جمال الدولة إقبال الظاهري عتيق ضيقة خاتون وهي قبلي الفردوس. 228 - العلائية أنشأها علاء الدين علي بن أبي الرجا شاد ديوان الملكة ضيقة خاتون بنت الملك العادل. وهذه إما أن تكون ليست مدرسة بل مسجداً وهو موجود الآن في محلة الكلاسة مكتوب عليه اسم الباني هذه سنة 33 وهو مدفون في حجرة شرقي القبلية، أو تكون المدرسة غيره وقد زال أثرها. 229 - الكمالية العديمية أنشأها الصاحب كمال الدين عمر بن

العديم شرقي حلب خارج باب النيرب وبنى إلى جوارها تربة وجوسقاً وبستاناً، ابتدأ بعمارتها سنة 639 وتمت في سنة 649. 230 - الأتابكية أيضاً أنشأها الأتابك شهاب الدين طغرل عتيق الملك الظاهر سنة 620 أول من درس بها الصفي عمر الحموي ثم نظام الدين البلخي والفخر عبد الرحمن بن إدريس وهي في محلة الجبيلة في صدرها قبيلة في طرفها الأيمن إيوان في وسطه ضريح الواقف وقد اتخذتها دائرة المعارف مدرسة ابتدائية مكتوب على بابها اسم بانيها أبى سعيد طغرل وأنها على المدرس والحنفية. 231 - الصهيبية وراء باب إنطاكية مباشرة تجد بقايا بناء عرفه قدماء السياح بأنه قوس قديمة ثم نقشت عليه بعد كتابة كوفية ويسمى جامع التوتي. وهي المدرسة الصهيبية التي قامت على أنقاض جامع في حلب بناه أبو عبيدة. قال سبرنهايم: إن النقوش الكثيرة والهندسة القديمة والكتابات الكوفية الموجودة في البناء تجعله في الدرجة الأولى من المكانة، ومنه يدرس التحويل التام المجهول سره حتى الآن والذي تم على عهد نور الدين في أسلوب الهندسة من حيث صور الكتابة والطرز السياسي في الكتابات. 232 - السيفية أيضاً أنشأها الأمير سيف الدين علي بن سليمان ابن جندر تحت القلعة لتدريس مذهبي مالك وأحمد بن حنبل. هذا ما ورد في الدار المنتخب في الكرم على مدلرس المالكية والحنابلة. 233 - الناصرية كانت قديماً كنيسة لليهود تعرف بكنيسة مثقال ثم في سنة 727 ثبت أنها محدثة في دار الإسلام فقلبت مدرسة وعمل بها منارة وهي معروفة الآن بجامع الحيات لرسوم حيات من الحجر في قنطرة بابها وقد عراها الوهن إعلام النبلاء. 234 - الشادبختية أيضاً هذه هي الجوانية أنشأها الأمير جمال الدين شادبخت الخادم الهندي الأتابكي تائب نور الدين بحلب، أول من درس فيها نوفق الدين محمود بن النحاس ثم لبن العديم ثم بنو الشحنة، وهي في سوق الضرب ويقال الآن الزرب تحريفاً مكتوباً على بابها أنها موقوفة على الحنفية سنة589 وتعرف اليوم بجامع الشيخ معروف، محراب قبليتها بديع كتب عليه

أنه عمل الرجا وعبد الله بن يحيى. 235 - الطرنطائية منسوبة إلى مجددها طرنطاي بن عبد الله الأمير سيف الدين نائب دمشق المتوفى سنة 792 وهي في آخر محلة باب النيرب، جسيمة مكتوب على بابها كتابة حديثة بالاستناد إلى بعض الكتب: وقف هذين الجامع والمدرسة عفيف بن محمد شمس الدين سنة 785، وفيها رواقان وحجر وفوق الرواقين رواقان صغيران ووراء كل منهما خمس حجر وشمالي باب المدرسة باب قديم داخله دار يظهر أنها خانقاه تابع للمدرسة. وكان في حلب داران للحديث أنشأهما الملك العادل وخمس دور تعد من مدارس المالكية والحنابلة: 236 - الأولى أنشأها القاضي ابن شداد. 237 - والثانية أنشأها نجد الدين بن الداية. 238 - والثالثة أنشأها بدر الدين الأسدي. 239 - والرابعة أنشأها أم الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين محمود. 240 - والخامسة أنشأها الصاحب مؤيد الدين إبراهيم بن يوسف القفطي كانت تعرف بالفردوس. هذا ما رواه ابن الشحنة عن ابن شداد وغيره في مدارس حلب الشهباء. وأنت ترى أنهل من هذا القبيل تعد ثانية دمشق. وأن مدارسها على الأكثر نشأت في الدولتين النورية والصلاحية أو عمرت بأيدي الأمراء والأميرات، ولم يكتب لها البقاء كلها لأنها عمل أفراد كما قلنا. ولولا ذلك لكانت أقرب إلى مقاومة الحوادث. وهذا من جملة آفات هذا الشرق التعس. وأكثر هذه المدارس مما بدأ فيه الخراب في أيام العثمانيين كما هو الحال في مدارس دمشق وقد جاء في تقوم سنة 1332 أن في الشهباء 32 مدرسة، وما نظن العامر منها يتجاوز العشر وقد أنشئت فيها على عهد العثمانيين. 241 - العثمانية أنشأها أحد ولاة حلب في القرن العاشر وما والت عامرة يسكنها الطلبة. 242 - الشعباتية.

243 - القرناصية. 244 - السيافية. 245 - الإسماعيلية. 246 - المنصورية. 247 - البهائية. 248 - الخسروية التي مرت. 249 - الكواكبية أنشأها سنة 1167 السيد أحمد بن السيد أبي السعود ابن السيد أحمد الكواكبي في محلة الجلوم الصغرى وأودعها كتباً قيمة تفرقت أيدي سبا. 250 - الأحمدية أنشأها سنة 1166 على صلحاء أكراد ما وراء الموصل. وفيها نحو ثلاثة آلاف كناب، القاضي أحمد بن طه زاده المشتهر بالجلبي. 251 - الهاشمية في محلة الفرافرة، أنشأها هاشم الدلال باشي من أصحاب الأملاك بحلب سنة عشر وثلاثمائة وألف. 252 - الدليوانية كانت مسجداً فرممه محمد أسعد باشا الجابري سنة 1323 وجعل فيها ست حجر للطلبة وحجرة للمدرس يدرس فيها الفقه الشافعي، وشرط أن يكون الطلبة غرباء. 253 - البلاطية هي زاوية مشروط فيها إقامة عشرة من الطلبة الحنفية ولها إمام ومؤذن ومدرس ولهم طعام، وقفها الأمير زين الدين الحاج بلاط الدوادار وهي خارج باب المقام، بقي من آثارها إيوان كبير وست حجر يسكنها الفقراء، عمرت في منتصف القرن التاسع. 254 - التجهيز أنشئت في صفر سنة عشر وثلاثمائة وألف باسم المكتب السلطاني، وهي في غربي حلب في محلة اسمها السليمية أو الجميلية وهي دار التجهيز والمعلمين. 255 - الصنائع أسست هذه المدرسة سنة 1319 في دار الصابوني من محلة باب قنسرين، ثم ثم اتخذ لها بناء خاص في محلة السليمية. 26 - الأميري هو جامع لكن فيه حجر للدرس ومدارس للحديث والفقه والنحو.

هذا عدا المدارس الابتدائية والمدارس التي لغير المسلمين وهي عديدة. وليس في تاريخ حلب ما يدل على أنه كان فيها كما كان في دمشق دور للقرآن، بل كان فيها دار القرآن الحبشية المنوبة إلى أبي العشائر المطل شباكها على المجتمع الكبير درس لها أبو الوفاء العرضي سنة 1071. وذكر ابن جبير في المائة السادسة أنه كان يتصل من الجانب الغربي من جامع حلب مدرسة للحنفية تناسب الجامع حسناً وإتقان صنعة، فهما في الحسن روضة تجاور أخرى قال: وهذه المدرسة من أحفل ما شاهدناه من المدارس بناء وغرابة صنعة، ومن أطرف ما يلحظ فيها أن جدارها القبلي مفتح كله بيوتاً وغرفاً وله طيقان يتصل بعضها بيعض، وقد امتد بطول الجدار عريش كوم مثمر عنباً، فحصل لكل طاق من تلك الطيقان قسطها من ذلك العنب متدلياً أمامها فيمد الساكن فيها يده ويجتنيه متكئاً دون كلفة ولا مشقة. وللبلدة سوى هذه المدارس نحو أربع مدارس أو خمس. قانا: ولعله يقصد بكلامه المدرسة الحلاوية العامرة إلى اليوم وقد درس في هذه المدارس أجلة علماء الشهباء والوفدين عليها من الأئنة، وكلنت كمدارس دمشق والقدس تقرئ الطالب ما ينفعه في دينه ودنياه. ويقول منش: إن المدارس تكاثرت في حلب على عهد أولاد صلاح الدين وازدهرت معارفها وآدابها حتى بلغت أربعاً وأربعين مدرسة أو تزيد، ثلاث منها لعلوم الطب ولم يتعرض من كتبوا على مدارس حلب لوصف مدارس الطب. 257 - القرموطية إنشاء عبد القادر بن قرموط سنة 882 جددها عبد الرحمن بن قرموط سنة 978 وهي الآن مكتب. 258 - الشاذلية وقيل هي دار حديث قرب مسجد النحويين في سويقة الحجارين، كانت ضيقة فتجددت قبليتها وبابها واستخرج منها دكانان. 259 - البولادية في محلة باب المقام في الصف الشرقي من الجادة، خربة يسكنها الفقراء. 260 - مدرسة للشافعية هي تربة العلمي في محلة الدحديلة.

مدارس القدس:

261 - القلقاسية قبلي القلعة مندثرة. 262 - الصروي ملحقة في جامع الصروي في محلة البياضة أنشأت سنة 920. 263 - الرحيمية أنشأتها رحمة بنت عبد القادر بن أحمد بك في محلة مستدمبك سنة 1156. 264 - مدرسة تجاه واوية الكيال لا يعرف اسم بانيها هي اليوم مسكن للفقراء. 265 - مدرسة من مشتملات جامع السكاكيني في محلة الأعجام. 266 - الدفتردار منسوبة لبيت العقاد بجانب سبيل البيك داخل محلة باب المقام. 267 - مدرسة داخل بوابة النبي لا أثر لها. 268 - مدرسة خارج بوابة النبي لا أثلر لها. 269 - مدرسة الالجايية السالفة الذكر تعرف بالصاحبية أنشأها بهاء الدين يوسف بن رافع المعروف بابن شداد لا أثر لها. 270 - مدرسة تجاه سابقتها لنور الدين ونكي لا أثر لها. 271 - تربة ألطونبغا وتعرف الآن بالمدرسة بلا اسم. 272 - نصر الله في محلة بحسيتا كنيس اليهود بزقاق المدرسة معطلة موهنة. مدارس القدس: مدارس بيت المقدس كمدارس دمشق وحلب من حيث البناء والترتيب والوقوف عليها، ومعظمها مما أقامه الملوك والأمراء والأغنياء والعلماء، ولم يكتب لها البقاء كثيراً لأنها كلها من الأفراد مهدد بالوهن في كل قرن، ضربها الدهر ضرباته، وعبث بجمالها وقطع أوصالها، ولو كانت من عمل الجماعات كمدارس الغرب في المقدس نفسه، لكتب لها البقاء أكثر أحكم وأعظم.

وأقدم مدارس بيت المقدس ما بني على عهد صلاح الدين يوسف بن أيوب عقيب استخلاصه هذه المدينة من أيدي الصليبيين، ثم توفر أهل الخير من الأمراء والأغنياء، ومنهم النساء والإماء، فأنشئوا منها ما أنشئوا عنوان الغيرة على العلم وبث الفضائل. وقد عدد مجير الدين الحنبلي ما كان على عهده منها في القدس والخليل فقال: إنه كان في بيت المقدس من المدارس: 273 - المدرسة الفارسية التي شرقي المسجد وقفها الأمير فارس البكي، وهي عامرة فيها دار كتب المسجد الأقصى. 274 - النحوية على طرف صحن الصخرة من جهة القبلة إلى الغرب بانيها الملك المعظم عيس سنة أربع وستمائة كان يدرس فيها الكتاب لسيبويه. 275 - النصرية كانت على برج باب الرحمة مدرسة تعرف بالنصرية للشيخ نصر المقدسي، ثم عرفت بالغزالية نسبة لأبي حامد الغزالي وقد اعتكف فيها وأتم تأليف كتابه إحياء العلوم فيما قبل. ثم أنشأها الملك المعظم عيس وجعلها زاوية لقراءة القرآن والاشتغال بالنحو ووقف عليها كتباً وتاريخ وقفها سنة 610 ويقول مجير الدين: إنها دثرت في عصره وهي الآن غرفتان عامرتان معدتان للزيارة. 276 - التنكزية واقفها الأمير تنكرز الناصري نائب الشام، وهي مدرسة عظيمة ليس في المدارس أتقن من بنائها عمرت سنة 729 وهي بجانب باب الحرم بجوار باب السلسلة مجاورة للسور من جهة الغرب، ولا تزال عامرة وهي مقر المحكمة الشرعية. 277 - البلدية بجانب باب الحرم جوار باب السلسلة، واقفها الأمير منكلي بغل الأحمدي نائب حلب ودفن فيها سنة 782 وما برحت عامرة ولكنها دار للسكنى. 278 - الأشرفية داخل المسجد الأقصى بالقرب من باب السلسلة، عمرها الملك الأشرف قايتباي وبدئ بحفر أساسها 885 وكانت قبتها ثالث القباب المهمة في القدس. والأولى قبة الصخرة والثانية قبة الأقصى.

وقد تكاملت هذه المدرسة 87 وكانت طبقتين سفلية وعلوية، ولعها آخر المدارس الإسلامية الفخمة التي أنشأت من هذا الطراز في بيت المقدس، على كثرة ما وقف عليها من الأوقاف لم يبق منها إلا سطحها وبابها وعليه كتابة من عهد الأشرف. 279 - العثمانية بباب المتوضإ بجوار الحرم، واقفتها امرأة من أكابر الروم اسمها أصفهان شاه خاتون وتدعى خانم، وعليها أوقاف ببلاد الروم وغيرها، وعلى بابها تاريخها في سنة أربعين وثمانمائة وهي لا تزال عامرة وتسكنها أسرة. 280 - الخاتونية بباب الحديد جوار الحرم واقفتها أغل خاتون بنت شمس الدين محمد بن سيف الدين القازانية البغدادية، ثم أكملت عمارتها ووقفت عليها أصفهان شاه بنت الأمير قازان شاه 782 وما حبس عليها من المغل معلوم، وهي اليوم دار فيها قبر السيدة خاتون القازانية البغدادية. 281 - الأغونية بباب الحديد جوار الحرم، واقفها أرغون الكاملي نائب الشام وهو الذي استجد باب الحديد أحد أبواب المسجد، أكملت عمارتها سنة 759 وهي الآن سكنى وقد ضاعت أوقافها وأحباسها وفيها قبر أرغون شاه. 282 - المزهرية بباب الحديد جوار الحرم، وقفها المقر الزيني أبو بكر بن مزهر الأنصاري صاحب ديوان الإنشاء بالديار المصرية، وبعضها راكب على ظهر الأرغونية، ولها مجمع على أروقة المسجد وكان الفراغ من بنائها في سنة 885 وقد غدت داراً للسكنى وقسم منها خراب. 283 - الجوهرية بباب الحديد جوار الحرم الشريف وبعضها على رباط كرد. واقفها الصفوي جوهر زمان الادر الشريفة في سنة 844 وهي الآن دار للسكنى. 284 - المنجكية بباب الناظر جوار الحرم وقفها الأمير منجك نائب الشام ونقل مجير الدين أن الأمير كان وصل إلى القدس الشريف ليبني المدرسة للسلطان الملك الناصر حسن، فلما قتل السلطان في سمة اثنتين وستين وسبعمائة بناها لنفسه ونسبت إليه، ووفق عليها ورتب لها فقهاء وأرباب

وظائف ثم تلاشت ثم عمرت، ولا تزال معمورة إلى هذا العصر، وقد أتقن عمارها في العهد الأخير وأقام فيها المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى. 285 - الجاولية في الجهة الشمالية، واقفها الأمير علم الدين سنجر الجاولي نائب غزة توفي 745 ضاعت أوقافها وهي اليوم قسم من كلية روضة التعارف الوطنية. 286 - النصيبية في الجهة الشمالية، واقفها الأمير علاء الدين علي ابن ناصر الدين محمد تائب قلعة نصيبين، ولي نيابة القدس وعمر بها المدرسة وتوفي بدمشق سنة 809 ونقل إلى هذه المدرسة وهي اليوم قسم من كلية روضة المعارف الوطنية. 287 - الإسعردية جوار الحرم إلى الشمال، واقفها الخواجة مجد الدين عبد الغني الإسعردي وتاريخ وقفها 770 ولا تزال عامرة. وقد شرع في ترميمها منذ عهد غير بعيد لنقل دار كتب المسجد الأقصى إليها وإقامة قاعة للمحاضرات فيها. 288 - المالكية إلى شمالي الحرم، عمرها الحاج ملك الجوكندار، وكان بناؤها في مستهل المحرم سنة إحدى وأربعين وسبعمائة. وهي تابعة للأسعردية وما برحت عامرة. 289 - الفارسية إلى شمالي الحرم، واقفها الأمير فارس البكي ابن الأمير قطلو ملك بن عبد الله نائب السلطة بالأعمال الساحلية والجبلية ونائب غزة، وهو الذي نسبت إليه الفارسية بداخل المسجد الأقصى وهذه الآن دار سكن وكان يدرس فيها الخالدية. 290 - الأمينية بباب شرف الأنبياء المعروف بباب الدويدارية بجوار المسجد، واقفها الصاحب أمين الدين عبد الله في سنة ثلاثين وسبعمائة وهي دار سكن. 291 - الدويدارية بباب شرف الأنبياء جوار الجامع، واقفها الأمير علم الدين أبو موسى سنجر الصالحي النجمي وتاريخ وقفها سنة 696 وفيها اليوم مدرسة البنات الإسلامية. 292 - الباسطية بباب شرف الأنبياء، بعضها على المدرسة الدوايدارية،

واقفها زين الدين عبد الباسط بن خليل الدمشقي ناظر الجيوش المنصورة وعزيز المملكة وقفها سنة 834 لا تزال موجودة تابعة للدويدارية وفيها مدرسة البنات الإسلامية. 293 - الكريمية بباب حطة جوار الحرم، واقفها الصاحب كريم الدين بن المعلم هبة الله بن مكانس ناظر الخواص الشريفة بالديار المصرية سنة 718 وهي الآن دار سكن. 294 - الدلغادرية بباب حطة جوار الحرم، واقفها الأمير ناصر الدين ابن دلغادر وبعد أن عمرتها زوجته مصر خاتون وقفها سنة 897 وهي دارسة. 295 - الطولونية داخل المسجد على الرواق الشمالي، كان يصعد إليها من السلم الموصل منه إلى منارة باب الأسباط، أنشأها احمد بن الناصري محمد الطولوني الظاهر زمن الملك الظاهر برقوق سنة 827 وهي من الدارس الداثرة. 296 - الفنرية مقابل الطولونية من جهة الشرق، كان يصعد إليها من السلم المتصل منها إلى منارة باب الأسباط أيضاً، وهي من إنشاء الطولوني عمرها من مدرسته المقدم ذكرها وجعلها للملك الظاهر برقوق، فلما توفي الظاهر وآل الأمر لولده الملك الناصر فرج رتب لها قرى وأقام نظامها وجعل لها معاليم تصرف عليها، ثم لما توفي الناصر فرج لم يكن لها كتاب وقف فاشتراها بعد وفاته رجل من الترك يقال له محمد شاه بن الفنري الرومي ووقفها ونسبت إليه، وقد درست وأصبحت مساكن. 297 - الحسنية على باب الأسباط، وقف شاهين الحسني الطواشي من دولة الملك الناصر حسن المتوفى سنة 762 هي الآن دارسة. 298 - الصلاحية بالقرب من السور من جهة الشمال بباب الأسباط وقف صلاح الدين على الشافعية. ذكر المؤرخون أن صلاح الدين كان نازلاً في كنيسة صهيون ففاوض جلساءه من العلماء الأكابر في أن يبني مدرسة للفقهاء الشافعية ورباطاً للصلحاء الصوفية، فعين للمدرسة الكنيسة المعروفة بصندحنة عند باب أسباط، وعين دار البطرك وهي بقرب كنيسة

القمامة للرباط، ووقف عليها وقوفاً، وارتاد أيضاً مدارس للطوائف، وقيل: كان موضع هذه المدرسة ديراً للراهبات أقيم في مكان بيت القديسين يواكيم وحونة فهدمه الملك وأقام المدرسة مكانه. وتاريخ وقفها 588 ووظيفة مشيختها من الوظائف السنية بمملكة الإسلام. وكان الأتراك نزلوا عن هذه المدرسة للآباء البيض في القرن الماضي فجعلوها مدرسة أكليركية، وفي الحرب العامة أخذها الترك وجعلوها مدرسة للعلوم الدينية، فلما سقطت القدس في أيدي الحلفاء رجعت إلى المسيحيين كنيسة. 299 - الكاملية بخط باب حطة جوار الكريمية من جهة الشمال، واقفها الحاج كامل من أهالي طرابلس كتب محضر بوقفها سنة 810 تعد في الدوارس. 300 - المعظمية وقف الملك المعظم عيسى مقابل باب شرف الأنبياء المعروف بباب الدويدارية، تاريخ وقفها سنة ستين وستمائة وهي معمورة وكان يدرس فيها الخالدية خصوصا الكافية والهداية. 301 - السلامية بباب شرف الأنبياء تجاه المعظمية وهي بجوار المدرسة الدويدارية من جهة الشمال، واقفها الخواجا مجد الدين أبو الفداء إسماعيل السلامي والظاهر أنها وقفت بعد السبعمائة وهي دار قرآن ولا تزال دار سكن. 302 - الوجيهية بخط درج الموله. وقف وجيه الدين محمد بن عثمان بن أسعد بن المنجا الحنبلي المتوفى في سنة 745 هي الآن دار للسكن. 303 - المحدثية بالقرب من الوجيهية عند قبو باب الفواغة بجوار الحرم، واقفها عز الدين أبو محمد عبد العزيز العجمي الأردبيلي سنة 762 وهي اليوم قسم من كلية روضة المعارف الوطنية. 304 - الحسنية بباب الناظر على رباط علاء الدين البصير، واقفها ناظر الحرمين الشريفين نائب السلطنة بالقدس، وكان بناؤها في سنة 837 وهي لعهدنا دار سكن. 305 - التشتمرية بباب الناظر بالقرب من الحسنية، واقفها الأمير تشتمر السيفي، ناريخ وقفها 759 وهي دار سكن.

306 - البارودية بباب الناظر بالقرب من التشتمرية، واقفتها الست الحاجة سفري خاتون ابنة شرف الدين أبي بكر بن محمود المعروف والدها بالبارودي تاريخ وقفها سنة 768 هي اليوم دار سكن. 307 - الجهاركسية بجوار اليونسية من جهة الشمال، كانت كنيسة من بناء الروم قسمت نصفين، جعل الأول المدرسة الجهاركسية والثاني الزاوية اليونسية. والجهاركسية نسبة لواقفها الأمير جركس الخليلي المتوفى سنة 791، لا تزال معمورة. 308 - الحنبلية بباب الحديد، واقفها الأمير بيدر نائب الشام فرغ من بنائها 781 وهي دار سكن. 309 - دار الحديث بجوار التربة الجالقية من جهة الغرب نسبة لركن الدين الكبير العجمي المعروف بالجالق. واقفها الأمير شرف الدين عيسى بن بدر الدين أبي القاسم الهكاري 666. 310 - دار القرآن السلامية تجاه دار الحديث، واقفها سراج الدين عمر بن أبي بكر أبي القاسم السلامي 761 لم تبرج معروفة. 311 - الطازية بخط داود بالقرب من باب السلسلة، وقف الأمير طاز المتوفى 763 موجودة إلى الآن دار سكن. 312 - الأفضلية وتعرف قديماً بالقبة بحارة المغاربة، وقف الملك الأفضل نور الدين أبي الحسن علي بن الملك صلاح الدين علي فقهاء المالكية بالقدس، ووقف أيضاً حارة المغاربة على طائفة المغاربة على اختلاف أجناسهم ذكورهم وإناثهم، وهي دار سكن الآن. 313 - الؤلؤية بخط مرزبان بجوار حمام علاء الدين البصير من جهة الشمال أو بباب العامود، واقفها الأمير لؤلؤ غازي عتيق الملك الأشرف شعبان بن حسن لا تزال موجودة وقسم منها زاوية. 314 - البدرية قرب اللؤلؤية بخط مرزبان، وقفها بدر الدين محمد ابن أبي القاسم الهكاري وهي دار سكن. 315 - الميمونة عند باب الساهرة وكانت كنيسة من بناء الروم، واقفها الأمير فارس الدين أبو سعيد ميمون القصري 593 حولت إلى

مدرسة في عهد العثمانيين، وهي الآن مدرسة بنات للمعارف وجعل اسمها المأمونية. 316 - الأباصيرية مدرسة تنسب للأمير علاء الدين الأباصيري، كانت بجوار باب الناظر وهي معمورة يسكنها فقراء السودان وكانت في عهد الأتراك قسماً من السجن. 317 - الموصلية بباب شرف الأنبياء بجوار المسجد الأقصى، ونسبت للخواجة فخر الدين الموصلي وهي عامرة. هذه خمس وأربعون مدرسة عمرت كلها قبل عهد العثمانيين وما ندري إن كانت أُنشئت في زمنهم الطويل مدرسة للفقه أو دار للحديث أو القرآن، وأكثر هذه المدارس من البناء الحجري الجيد وفيها يتجلى جمال الهندسة العربية وبعضها لم يقو على عوادي الأيام فتداعي في عصر واقفه، وبعضه مما سطا عليه أكله أكلة الأوقاف فاضمحل بالطبيعة، لم تشفع فيه متانة بنائه وإحكام بنيانه، وأكثر مما صبر على الأيام وبقي إلى الآن مثالا ناطقاً بفضل البانين والواقفين لكنه تعطل عما كان وقف عليه من التدريس والملازمة. وكيف دارت فعدد الباقي من المدارس بيت المقدس بالنسبة لنا بقي من نوعه في دمشق وحلب أكثر ولا يعلل ذلك إلا أن أرباب العدوان على الوقوف والأحباس لم يتيسر لهم أن يتسلطوا عليها وكان لهم من عناية غير المسلمين بمدارسهم ودياراتهم في القدس عبرة وعظة. وكان في قرية الطور 318 المدرسة المنصورية وهي خراب. وبمحلة الواد 319 المدرسة العثمانية. وبباب السلسلة 320 المدرسة الكيلانية.

بقية مدارس القطر:

321 - الدقمرية. 322 - المرمرية. 323 - البرقوقية. 324 - الرشيدية. وبباب المناظر 325 الفرهادية. وبباب حطة 326 الصلاحية. وفي القدس اليوم مدارس مهمة لطوائف النصارى ولجماعة الصهيونيين تحتاج إلى درس خاص ففيها من حيث العمران ما هو ذو شأن وإن كان حديثاً على طراز غربي في البناء لا صلة بينه وبين هندسة هذه الديار، لذلك ليس له في النفس تلك الروعة التي يجدها المرء لمدارسنا القديمة المتقنة الأوضاع. بقية مدارس القطر: ذكر من زاروا حماة في لبقرتين السابع والثامن أنه كان فيها ثلاث مدارس وبيمارستان وأن فيها زوايا وربطاً. وليس لهذه المدارس من أثر اليوم. ومن جملة مدارسها: 327 - المدرسة الخاتونية لمؤسستها مؤنسة خاتون بنت الملك المظفر صاحب حماة أنشأتها ونسبت إليها فسميت الخاتونية ووقفت عليها وقفاً جليلاً وكتباً، وهي الآن بستان في مبدإ طريق محلة الجراجمة على يسار المنحدر إلى باب النهر. 327 - المدرسة الطواشية في محلة المدينة، وقفها الطواشي مرشد في دولة الملك المنصور تجاه باب الجامع الكبير الشمالي في جانب حمام الذهب الشرقي، خربت بعد الألف وهي الآن دارسة، وكانت عظيمة جداً ولها أوقاف مهمة ولم يبق منها إلا آثار الجدران في البستان. 328 - المدرسة البارزية وهي للشافعية وقد خربت أيضاً. 329 - المدرسة العصرونية في باب حمص على ضفة العاصي قرب بستان الجبل، كانت دار قرآن وكان لها جامع وداران متصلان بها، وفي جدارها كتابة حجرية إلى اليوم مقروءة وخلاصتها أن الأمير نجم الدين التوتان بن ياروق أنشأها سنة 584 وعمر مسجدها وكتب عليها: أمر بعمل هذه الدار المباركة السيد الفقير إلى الله تعالى محمد بن محمد بن ألي بكر الشافعي خلا قبلها وما استثنى، جعلها دار قرآن ووقف عليها أوقافاً كثيرة لتسكن في هذه الديار من فقراء المسلمين الغرباء وقيمين بها ليلاً ونهاراً يتلون كتاب الله ويتذاكرونه بينهم ويدعون للواقف ولوالديه وللمسلمين. وقرر بها شيخين يعلمونهم القرآن الكريم ويكون مقام الفقير فيها مدة خمس سنين

فإن ختم القرآن أو مضت المدة المعينة فيكس ثوباً أو جبة، جعلها الله خالصة لوجهه الكريم في شوال سنة خمس عشرة وسبعمائة. 330 - المدرسة العزية كانت في محلة باب الجسر، بناها محمد ابن حمزة العزي بجوار جامع العزي في شهور سنة 727 وهي خراب. 331 - المدرسة النورية كانت قريبة من جامع نور الدين وبعد أن عفت آثارها جددها سيف الدين الكيلاني وجعلت تكية. 332 - المدرسة الحنفية هي القطعة الشرقية من حرم جامع نور الدين، بناها الملك المؤيد صاحب حماة. وهذه إحدى المدارس التي أشار إليها ابن جبير التي كانت حذاء المارستان والثانية النورية والثالثة لا يعرف مكانها. 333 - المدرسة الشيخية وهي الزاوية السفاحية في الموقف بناها قاضي القضاة نجم الدين عبد الظاهر بن السفاح الحلبي وكانت تسمى مدرسة الشيخة وقد وقف لها حولها أوقافاً كثيرة. 334 - المدرسة المظفرية كانت في جانب الجامع الكبير إلى الغرب، في محلة المدينة، بناها الملك المظفر تقي الدين عمر. وكان لجميع هذه المدارس أوقاف دارة على الطلبة والمدرسين ومعاليم لهم، وقد كتب على باب جامع النوري في الحجر ما يستفاد منه أن أحد الملوك وقف على طلبة العلم فيه خمسة عشر ألف درهم في كل سنة استجلاباً لأدعيتهن وإعانة لهم على طلب العلم. ويقال على الجملة: إن مدارس حماة حسنة من حسنات بيت أيوب فإن بضعة منهم تولوا مملكتها فعمروها بعلمهم وعدلهم ونشطوا العلماء وأفضلوا على المعوزين. وليس في حمص مدارس قديمة، وقد ذكرا ابن جبير في المائة السادسة أن بها مدرسة واحدة وليس بها مستشفى على رسم مدن هذه الجهات. وقال ياقوت في القرن السابع: إنه كان بها مدارس. وقال الظاهري في القرن التاسع: إن بها مدارس. وهذه المدارس لا أثر لها. ومن أهم مدارس طرابلس 335 المدرسة القرطائية أفخم مدارس طرابلس كلها وهي مرصقة للجامع الكبير من الجهة الشرقية، وقد ذهب

اسم بانيها بالتحقيق وزمن بنائها مع الكتابة التي طمست لإخفاء أوقافها التي كانت نحفورة على ظهر جدارها القبلي، والمظنون أن بانيها هو قرطاي ابن عبد الله الناصري الذي أقام المنبر بالجامع الكبير الأشرفي وذكر اسمه هناك، وكان تاريخ بنائه في شهر ذي القعدة 726 وهذه المدرسة تشبه من وجوه كثيرة جامع البريطاني وتقام فيه الصلوات وهي ملحقة بالجامع الكبير. 336 - مدرسة تغري برمش بباب الحديد على طريق الآخذة إلى المولوية، والمشهور عند أهل طرابلس أن بانيها الملك الظاهر بيبرس، وليس الأمر كذلك وهذه صورة الكتابة التاريخية التي فوق بابها: بسم الله الرحمن الرحيم. المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملا، قوله الحق وله الملك. عمر هذا المكان المبارك المقر السيفي تغري برمش الظاهري أعز الله أنصاره مسجداً لله تعالى وتربة لدفن ولديه الأخوين الشقيقين السعيدين سيدي الأمير قالتمر وسيدي الأمير تغري بردجي الطفلين المنغصين على الدنيا المتجاورين في دار الآخرة تغمدهما الله برحمته وأسكنهما فسيح جنته، وجمع بينهما في دار كرامته. وذلك في ثالث شهر الله المحرم سنة تسع وتسعين وسبعمائة ورحم الله من يترحم عليهما. وهذه المدرسة متداعية للسقوط. 337 - المدرسة الزريقية هي في محلة السويقة داخل طرابلس وهي متسعة ولا تقام فيها الصلوات وهذه صورة الكتابة التاريخية التي عليها: أمر بإنشاء هذه الزاوية المباركة العبد الفقير إلى الله تعالى سيف الدين كرناي السيفي وذلك بتاريخ شهر شوال سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة. 338 - المدرسة السقرقية تقع في طرف المدينة للجهة الغربية على الطريق الآخذة إلى جباية باب الرمل، بناها آقطرق الحاجب مسجداً الله تعالى وتربه للدفن وعلى حائطها لجهة الجنوب الشرقي كتب الوقفية بأحرف غليظة ظاهرة فيها اسم بانيها وتعداد العقارات الموقوفة على المسجد وشروط الواقف

لصرف ريعها وفيها أن كتاب الوقف مؤرخ بمنتصف ذي القعدة الحرام سنة 757. 339 - الخاتونية تقع أمام المدرسة السقرقية، بنتها أرغون خاتون بالاشتراك مع زوجها ومعتقها عز الدين ايدمر الأشرفي والي طرابلس، وكان الفراغ من بنائها في سنة 775 كما هو مذكور في كتاب الوقف المحفور عند مدخل المدرسة المذكورة وفيها أسماء العقارات الموقوفة عليها وشروط الواقفة ريعها وإقام الصلات فيها. 340 - مدرسة دبها بناها الشيخ عبد الله الديها الحلبي من أصحاب الطريقة النقشبندية قريباً من سوق الصاغة سنة 1234 على ما زبر ذلك بابها، ووقف عليها أوقافاً حسنة ودفن فيها وتقام فيها الصلوات. وفي طرابلس مدارس وزوايا وخوانق أخرى لا يعلم اسم بانيها ولا زمن بنائها وبعضها مهجور مقفر وآخر متداع. ومن مدارس الشام 31 مدرسة حصن الأكراد أنشأها والي هذه البليدة بكتمر من عبد الله الحر الأشرفي زاوية ومدرسة وبيمارستاناً بأموال جسيمة على الصادي والغادي من أبناء السبيل وذلك في سنة 719. ومنها 342 رباط الخيل الرحمن أنشأها قلاوون سنة 679 صاحب الآثار في دمشق والقدس والخليل وغيرها. ومنها 343 مدرسة غزة أنشأها للشافعية الأمير الكبير علم الدين الجاولي الذي سمع مسند الشافعي بالكرك دانيال، وعمل نيابة السلطنة في غزة وبنى بها مدرسة وجامعاً حسناً، وله عمائر كثيرة وخانات توفي سنة 745. ومنها 344 خانقاه النجمية في بعلبك، عمره نجم الدين أيوب والد السلطان صلاح الدين يوسف أيام ولايته عليها وخصه بالصوفية. ومنها 345 السيفية بمدينة الصلت لمنشئها الأمير سيف الدين بكتمر والي الولاية سنة 742. ومنها 346 الزبدانية لواقفها محمد بن عبد الصمد بن عبد الله بن حيدرة

656 درس في سنة 698 ابن العدل محي الدين يحيى بن محمد بن عبد الصمد وهي مدرسة جدة. ومنها 347 الأمينية بمدينة بصرى، وكانت عامرة في القرن السادس ولم نعلم اسم بانيها. وكان في المعرة 348 مدرسة المعرة قديمة للشافعية بنيت على ما يفهم مما كتب على رتاجها الجميل زمن الملك المنصور محمد أحد ملوك الأيوبيين في حماة سنة 595 وعمر فيها ابن الوردي مدرسة في النصف الأول من المائة الثامنة. ومنها 349 مدرسة عزاز أنشأها إسماعيل بن عبد الرحمن العزازي وساق إليها القناة الحلوة وانتفع الجامع وكثير من المساجد بهذه القناة وله آثار حسنة غيرها توفي سنة 748. قال ابن طولون: كان في ربوة دمشق مدرسة يقال لها المضجية 350 وفي الأصل المنبجة موقوفة على مدرس حنفي وطلبته. وكان في منبج مدرسة بناها نور الدين محمود بن زنكي لابن أبي عصرون في جملة ما بنى له من المدارس، وفي آثار البلاد أنه كان فيها مدارس وربط. وفي جباع وميس وعيناتا وجزين ومشغرة والشقراء من جبل عامل مدارس دينية تخرج فيها جلة فقهاء الشيعة وأدبائهم، وقد خربت واضطر أهل عامل إلى إرسال بعض الطلبة إلى النجف الأشرف يدرسون في مدارسها التي هي للشيعة بمثابة الأزهر في القاهرة والزيتونة في تونس لأهل السنة. ولا نعلم في سائر مدن الشام ساحلها وداخلها شيئاً من تاريخ المدارس وخططها فإن كانت فهي ضئيلة لأن قوة المسلمين في هذه الديار كانت في العواصم الكبرى حيث ينزل الملوك والأمراء والأغنياء، وسائر المدن ضعيفة الشأن في هذا المعنى. ومن الصعب أن تقوم المدارس للطلبة في القرى. وكانت الكرك وصفد وبصرى والزبداني ومنبج والرملة وغزة، وأكثرها اليوم أشبه بالقرى منها بالمدن أكثر من بيروت وصيدا وصور ويافا وحيفا وعكا واللاذقية وجبلة والسويدية والإسكندرونة عمراناً، فقد ذكر الظاهري في القرن التاسع أنه كان في كل من غزة وصفد وبعلبك مدارس بصيغة الجمع، ومنها ما

كان مركزاً من مراكز العلم مثل صفد. وما نخال بعض المدن التي أصبحت قرى كانت خالية أيضاً من مدارس مثل كفر طاب بين المعرة وشيزر ولكن أخبارها ضاعت. ومن مدارس القطر مدرسة قليتباي في غزة درست ويظن أنها قرب المسجد، وفيها مدرسة هاشم حديثة العهد وفيها طلاب متعممون، ومدرسة أبي نبوت في يافا، ومدرسة الجزار في عكا، ومدرسة في الجامع الكبير المارستانية في نابلس، ومدرسة جامع الحنابلة، ومدرسة البيك والصلاحية في نابلس أيضاً وبجوارها الشيخ بدران شيخ المدرسة، كانت محكمة شرعية والآن تحولت مقهى.

الخوانق والربط والزوايا

الخوانق والربط والزوايا خوانق دمشق: الخانقاه كلمة فارسية قيل: أصلها خونكاه أي الموضع الذي يأكل فيه الملك. وهي زوايا الصوفية لم تعهد على هذا النمط إلا في القرن السادس، وأول من بناها من الملوك بمصر كما قال السيوطي السلطان صلاح الدين يوسف ورتب للفقراء الواردين أرزاقاً معلومة. وقال المقريزي: إن الخوانك حدثت في الإسلام في حدود الأربعمائة من سني الهجرة، وجعلت ليتخلى الصوفية فيها لعبادة الله تعالى، وإن أول من اتخذ بيتاً للعبادة زيد بن صوحان بن صبرة، وذلك أنه عمد إلى رجال من أهل البصرة قد تفرغوا للعبادة وليس لهم تجارات ولا غلات فبنى دوراً وأسكنهم فيها وجعل لهم ما يقوم بمصالحهم من مطعم ومشرب وملبس وغيره. وقيل: إن أول خانقاه بنيت في الإسلام للصوفية زاوية برملة بيت المقدس بناها أمير النصارى حين استولى الفرنج على الديار القدسية، وسبب ذلك أنه رأى طائفة من الصوفية وألفتهم في طريقتهم، فسأل عنهم ما هذه الألفة والصحبة والأخوة الخاصة بينكم فقالوا له: الألفة والصحبة لله طريقتنا. فقال لهم: أبني لكم مكاناً لطيفاً تتآلفون فيه وتتعبدون، فبنى لهم تلك الزاوية. وفي التاج أم معاوية كان يكتب إلى أطرافه وعماله وإلى زياد بالعراق بإطعام السابلة والفقراء وذوي الحاجة في كل يوم أربعون مائدة يتقسمها وجوه جند الشام. ولقد كان بدمشق من هذه الخوانق أو الخانقات ست وعشرون خانقاهاً على ما في الدارس وهي:

351 الأسدية داخل باب الجابية في المحل المعروف بدرب الهاشمية قديماً إنشاء الدين شيركوه، ولي مشيختها نجم الدين بن القرشية العباسي وغيره وهي غير معروفة. 352 - الإسكافية كانت على نهر يزيد بسفح قاسيون، إنشاء شرف الدين بن اٌلإسكافي مجهول محلها. 353 - الأندلسية شرقي العزيزية والأشرفية قرب الكلاسة ملاصقة للجقمقية غربي السمسياطية وهي المعروفة بأبي عبد الله الأندلسي ومن صوفيتها شهاب الدين أحمد القباني. وهذه الخانقاه الآن عمد قائمة ليس إلا. 354 - الباسطية كانت بالجسر الأبيض غربي الإسعودية وشمالي العزية إنشاء عبد الباسط بن خليل ناظر الجيوش بعد الثمانمائة، ولي مشيختها قاضي القضاة الباعوني وهي الآن في البساتين خراب. 355 - الحسامية الشبلية شمالي الشبلية البرانية عند جسر كحيل منسوبة لأم حسام الدين عمر بن لاجين ولي مشيختها شرف الدين نعمان وهي غير معروفة. 356 - الخاتونية ظاهر باب النصر المعروف بدار السعادة أول الشرف القبلي على نهلر بانياس شرقي جامع تنكرز وملاصقة له منسوبة إلى خاتون بنت معين الدين زوجة نور الدين وهي الآن عمائر وبنايات. 357 - الدويرية كانت بدرب السلسلة بباب البريد منسوبة لمحمد ابن عبد الله الدمشقي المقري المعدل. 358 - الروزنهارية بالباب الشرقي من الجامع الأموي خارج باب الفراديس في المحل الذي كان يعرف ببرج المسجد، لأبي الحسن الروزنهاري ليست معروفة. 359 - السميساطية للشمال الشرقي من الجامع الأموي، أسها أبو

القاسم علي بن محمد المعروف بالحجيش السميساطي المتوفى سنة 453 قالوا: إنه دفن بداره بباب الناطفانيين المعروف الآن بباب العمارة وكان قد وقفها على فقراء المؤمنين والصوفية ووقف علوها على الجامع وحبس أكثر نعمته على وجوه البر. وكانت هذه الدار دار عبد العزيز بن الوليد وهو الأصبغ الأموي وابن أخت عمر بن عبد العزيز، وقد سكنها عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة وتولاها أناس من أكابر العلماء. وجددها تنكر في سنة 728 بناء جميلاً، وتنكر هذا جدد عمائر المساجد والمدارس ووسع الطرقات في دمشق وله في الشام عمائر وآثار. وقد نقضت منذ بضع سنين من أساسها وجدد بناؤها على أن تجعل مدرسة راقية للعلوم الدينية فلم يتم لها هذا ورجعت حجرها مأوى البطالين. ذكر القلقشندي من الوظائف الدينية بدمشق في القرن التاسع وظيفة شيخ الشيوخ، وموضوعها التحدث على جميع الخوانق والفقراء بدمشق وأعمالها، والعادة أن يكون متوليها شيخ الخانقاه السميساطية بدمشق. 360 - الشومانية أنشأها شومان ظهير الدين أحد مماليك بني أيوب ولم يذكر في الدارس غير هذا. 361 - الشهابية داخل باب الفرج غربي العادلية الكبرى وشمالي المعينية إنشاء الأمير ليدكين بن عبد الله مملوك الأمير الطواشي شهاب الدين رشيد النجمي سنة650 خربت في وقعة تيمور 803 ولم تتجدد بعد، وهي الآن دور وأنقاضها ظاهرة بأحجارها النحيتة. 362 - الشبلية إنشاء شبل الدولة كافور المعظمي بإزاء الشبلية البرانية المتقدمة على نهر ثورة بسفح قاسيون، وليها نجم الدين بن بركات بن القرشية البعلي وغيره ولا يعرف عنها غير هذا. 363 - الشنباشية بحارة البلاطة تعرف بأبي عبد الله الشنباشي كانت مدرسة للإناث. 364 - الشريفية تجاه العروية شرقي دار الحديث الأشرفية ملاصقة للطوملنية شرقي باب القلعة وغربي العادلية الصغرى، إنشاء أحمد بن الفقاعي درس بها الفارقي وهي الآن حوانيت.

365 - خانقاه الطاحون خارج البلد منسوبة لنور الدين تولاها السيخ سعيد الغثاني وهي دائرة. 366 - الطواويسية منسوبة للملك دقاق أو لابنه وهي المشهورة بجانب الكوجانية والطريق الآخذ إلى المرجة والصالحية وهي اليوم جامع اقتطعت الأوقاف من غربيها قطعة جعلتها للمستغلات. 367 - العزية بالجسر الأبيض على نهر ثورة بالصالحية فبلي الباسطية وغربي الماردانية ومدرسة إبراهيم الإسعردي، إنشاء عز الدين آيدمير الظاهري 690 وهي محطة الترامواي الآن. 368 - خانقاه القصر مطلة على الميدان الأخضر، إنشاء شمس الملوك ذهبت مع ما ذهب. 369 - القصاعية كانت بالقصاعين أو سوق مدحت باشا اليوم إنشاء فاطمة خاتون خطليجي، خربت ولم يبق لها عين ولا أثر. 370 - الكججانية بالشرف الأعلى بين الطواويسية والعزية وأمام شركة الكهرباء والترامواي، إنشاء إبراهيم الكججاني لم تبرج قبتها ظاهرة. 371 - المجاهدية إنشاء مجاهد الدين إبراهيم على الشرف القبلي سنة 656 ولم يعلم منها ولا مكانها. 372 - النهرية المشهورة بخانقاه عمر شاه بأول شارع القنوات شرقي سيدي خمار وهي الآن دار. 373 - النجيبية جاء في مختصر الدارس أنها بناحية باب البريد، إنشاء نجم الدين أيوب والد صلاح الدين ولا يعرف لها أثر. 374 - الناصرية إنشاء صلاح الدين يوسف بن الملك العزيز محمد ابن غازي بن أيوب بجبل قاسيون على نهر يزيد تقدم ذكرها في دور الحديث صارت اليوم حاكورة صبار. 375 - الناصرية منسوبة للناصر صلاح الدين يوسف بن نجم الدين أيوب بن شادي كانت بدرب خلف القيسارية، وهي غير معلومة. 376 - اليونسية في أول الشرف الأعلى الشمالي شرقي الخانقاه الطواويسية، إنشاء الأمير الشرفي يونس سنة 784 هدمت وجعلت طريقاً في أيامنا.

رباطات دمشق:

ومن الخوانق الحديثة 377 خانقاه أحمد باشا الشهير بين أمراء الأروام أي العثمانيين بشمسي أحمد باشا تولى دمشق فطالت مدته وبنى فيها خانقاهاً قبالة قلعة دمشق من جانبها القبلي ملاصقة لخندقها وجعل فيها حجرات للصوفية وهي من محاسن دمشق. رواية الحسن البوريني، وما زالت هذه الخانقاه عامرة ولكن ى على الصورة التي أرادها الواقف بل صارت جامعاً. ومن خوانق دمشق القديمة 378 خانقاه النحاسية أنشأها الخواجة الكبير شمس الدين النحاس الدمشقي سنة 622. رباطات دمشق: الرباط ويقال له التكية بالتركية قال الأميري: والخانقاه بالكاف يعني الخانكا وهي بالعجمية دار الصوفية ولم يتعرضوا للفرق بينهما وبين الزاوية والرباط وهو المكان المسبل للأفعال الصالحة والعبادة. وأول من اتخذ دار الضيافة الواردين الوليد بن عبد الملك الأموي واتخذ بعده عمر بن عبد العزيز داراً لطعام المساكين والفقراء وابن السبيل. وكان لنور الدين محمود بن زنكي يد طولي في الاستكثار من الربط والخوانق بني منها في جميع مملكته للصوفية ووقف عليها الوقوف الكثيرة وأدار عليها الإدرارات الصالحة، وكان يكرم الصوفية والفقهاء والعلماء. وقد جدد الظاهر دور الضيافة للرسل والواردين. ويؤخذ مما قاله المقريزي أن الرباط دار يسكنها أهل طريق الله، والرباط والمرابطة ملازمة تغر العدو ثم صار لزوم الثغر رباطاً، والرباط المواظبة على الأمر، وقيل لكل ثغر يدفع أهله عمن وراءهم رباط، فالمجاهد المرابط يدفع عمن وراءه، والمقيم في الرباط على طاعة الله يدفع بدعائه البلاد عن العبادة والبلاد، فالرباط بيت الصوفية ومنزلهم، ولكل قوم دار والرباط دارهم. وكان بدمشق ثلاثة وعشرون رباطاً وهي: 349 - رباط البياني داخل باب شرقي بحارة درب الحجر أو البيمارستان الآن. والبياني نسبة لأبي البيان محمد بن محفوظ القرشي ويعرف بابن الحوراني لا يعرف عنه شيء أنشئ سنة 501. 380 - رباط التكريتي بالقرب من الرباط الناصري بقاسيون، إنشاء

محمد بن علي بن سويد التكريتي التاجر المثري سنة 670 غير معروف. 381 - رباط الشيخ محي الدين بالصالحية بناه على قبر محي الدين ابن عربي السلطان سليم خان وجعله جامعاً وتكية لطعام الفقراء في سنة اثنتين وعشرين وتسعمائة قاله القرماني. وهو موجود إلى اليوم. 382 - رباط صفية القلعية بالقرب من المدرسة الظاهرية لا يعرف عنه شيء غير هذا. 383 - رباط زهرة كان قرب حمام جاروخ وأمام فرن خليفة بجيرة دار الأمير مسعود ابن الست عذراء صاحبة المدرسة وهو غير معروف. 384 - رباط طومان إنشاء طومان أحد أمراء السلجوقيين تحت القلعة ولا يعرف عنه شيء. 385 - رباط جاروخ التركماني لا يعرف عنه إلا أنه كان بباب الجابية. 386 - رباط غرس الدين خليل من ولاة دمشق، كان معروفاً بباب الجابية وهو مجهول. 387 - رباط المهراني و388 - رباط البخاري كانا عند باب الجابية ولا يعلم عنهما غير ذلك. 389 - رباط البافلاطوني و390 - رباط الفلكي و391 - رباط بنت السلار داخل باب السلامة ولا يعلم عنها شيء. 392 - رباط عذرا خاتون كان داخل باب النصر غير معروف. 393 - رباط بدر الدين عمر. 394 - رباط الحبشية بمحلة المعينية غير معروف. 395 - رباط أسد الدين شيركوه بدرب زرعة لا يعرف ولا يعرف درب زرعة. 396 - رباط القصاعين و397 - رباط بنت الدفين كانا داخل المدرسة الفلكية. 398 - رباط بنت عز الدين مسعود صاحب الموصل و399 - رباط الداوداري داخل باب الفرج، ولي مشيخته

زوايا دمشق:

نور الدين بن قوام وهما غير معروفين. 400 - رباط الفقاعي من رباطات السفح سفح قاسيون. 401 - رباط الوزار بمحلة سويقة صاروجا. وبعض هذه الرباطات قد ذكرت أولاً باسم مدارس وبنيت في محلها والغالب أن الرباطات كانت تستحيل في الأحايين جوامع أو مساجد أو مدارس كما شوهد ذلك في زماننا. ومما أغفله صاحب الدارس من الرباطات 402 - رباط نجم الدين أيوب والد صلاح الدين، وقفه وكان داخل الدرب بوقاق العونية بباب البريد. زوايا دمشق: الزوايا كالخانقاهات والرباطات إلا أنها تقام فيها الأذكار وقد كثرت بكثرة الطرق والمشايخ المعتقدين وذلك بعد القرن السادس. وكان بدمشق على عهد صاحب الدارس ست وعشرون زاوية: 403 - الأرموية بسفح قاسيون، إنشاء عبد الله بن يونس الأرموي المتوفى سنة 631 وهي خراب. 404 - الأرموية الشرفية بالسفح أيضاً، إنشاء الشيخ شرف الدين ابن عثمان بن علي الرملي غير معلومة. 405 - الحريرية ظاهر دمشق بالشرف القبلي، إنشاء علي الحريري أبي محمد ابن أبي الحسن بن مسعود سنة 630 لم نحققها. 406 - الحريرية الأعففية لأحمد الأعفف الحريري. 407 - الدهستانية لإبراهيم الدهستاني، كانت عند سوق الخيل العتيق. 408 - الحصنية إنشاء تقي الدين الحصني بالشاغور وهي موجودة. وفي ظهر نسخة من كتاب العنوان في ضبط مواليد ووفيات أهل الزمان للنعيمي ما نصه: الحمد لله: كان ابتداء عمارة الزاوية أعلى خان السبيل المعروف بخان الحصني قدس سره نار الاثنين من شعبان سنة 1092 اثنتين وتسعين وألف في مدة قليلة، ومطلعها من مسجده المعروف بالحصنية المجاورة

للخان المذكور، وقد أنشأ العبد الفقير فيه أيضاً عمارات كثيرة وكذلك عمارة ميضأته التي اختلسها بنو العجمي الغادرون وانتزعت منهم وأعيدت أحسن ما كانت بإمداد الله ومعونته ورفقه والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وكتبه العبد الفقير تقي الدين الحسيني الحصني الشافعي لطف الله تعالى به والمسلمين. 409 - الدينورية بالسفح إنشاء عمر بن عبد الملك الدينوري المتوفى سنة 629. 410 - الدينورية الشيخية بالسفح أيضاً إنشاء أبي بكر الدينوري باني الزاوية بالصالحية. 411 - السيوفية بالسفح على نهر يزيد غربي دار الحديث الناصرية والعالمة إنشاء الشيخ السيوفي نجم الدين بن عيسى بن شاه أرمن الرومي. 412 - الداودية بالسفح أيضاً تحت كهف جبرائيل، إنشاء زين الدين عبد الرحمن بن أبي بكر بن داود القادري. 413 - السراجية بالصاغة العتيقة منسوبة لابن سراج. 414 - الشريفية التعارانية شرقي الناصرية الجوانية، إنشاء محمد الحسيني التعاراني. 415 - الطالبية الرفاعية بقصر حجاج، إنشاء طالب الرومي. 416 - الوطية شمالي جامع جراح للمغاربة وتعرف بزاوية المغاربة، إنشاء الرئيس علي الشهير بابن وطية الموقت سنة 802. 417 - الطيبة شمالي القيمرية الكبرى داخل مدرسة القطاط، إنشاء طه المصري شرقي حمام أسامة سنة 631. 418 - العمادية المقدسية عند كهف جبرائيل بالسفح، إنشاء أحمد ابن عماد الدين بن العماد المقدسي المتوفى سنة 688. 419 - الغسولية بالسفح أيضاً، إنشاء أبي عبد الله محمد ابن أبي الزهر الغسولي. 420 - الفقاعية بالسفح أيضاً، إنشاء الشيخ يوسف الفقاعي. 421 - الغويتية بالسفح، لصاحبها الشيخ علي الغويتي. 422 - اللوثنية بالسفح أيضاً، إنشاء علي اللوثني.

423 - القوامية البالسية غربي جبل قاسيون والزاوية السيوفية ودار الحديث الناصرية على حافة نهر يزيد، لصاحبها أبي بكر بن فوام البالسي. 424 - القلندرية الدركزبنية بمقبرة باب الصغير لمحمد بن يونس الساوجي من مشايخ القلندرية. وقلندر لفظة فارسية معناها الدرويش الذي نفض يده من الدنيا وزهدت نفسه في زخارفها. 425 - القلندرية الحيدرية كانت بمحلة العونية. 426 - اليونسية بالشرف الشمالي غربي الوراقية والعزية البرانية للشيخ يونس بن يوسف الفتي أنشئت سنة 619. 427 - زاوية ابن اللقيمية أنشاء ناصر الدين بميدان الحصا، وهو من ذرية صلاح الدين أيوب غير معلومة. 428 - زاوية عبد القادر الموصلي. هذه أسماء الزوايا وبعضها لم يزل باقياً لم يصب بما أصيبت به المدارس. ومن الزوايا التي كانت في المزة: 429 - زاوية خضر العدوي على باب دمشق، وكان هذه مشهوراً بشيخ الملك الظاهر بيبرس وكان يعتقده، بنى له كما قال ابن طولون عدة زوايا في مصر والشام منها زاوية المزة، وبدمشق زاوية وبظاهر بعلبك زاوية وبحماة زاوية. ومن الزوايا الحديثة: 430 - تكية السلطان سليم التي بناها أيام بنى القبة على قبر محي الدين ابن عربي بالصالحية 922 ووقف عليها أوقافاً دارة ولا يزال بعضها إلى الآن وقد بقي الرسم من هذه التكية وأضيفت إلى معاهد الجامعة السورية. 431 - التكية السليمانية بجانبها منسوبة للسلطان سليمان القانوني، جاء في كتاب الجوامع والمدارس أن فيها من الأحجار والآلات والرخام الصافي والملون والصنائع والقباب والترصيص ما يحير الناظر ويسر الخاطر. ثم مدح بحرتها ومئذنتها فقال: إنه يحصل للمسافر أنس بهما لأن غالب المهندسين متشرفون بدين الإسلام. ثم قال: تجددت مدرسة إلى جانب التكية السليمانية من الشرف برسم المدرس في سنة 974 وهي من زوائد التكية وجاء مدرسها من الباب العالي اه. وقد رمت هذه التكية في الحرب العامة على آخر أيام

الترك وأزيل ما كان علق بقبتها ومسجدها وحجرها من الكلس والجبس وأعيدت إلى حالتها الأولى فظهر حسن هندستها وطرز بنائها الرومي، ومنارتاها شاهدتان بأنها من طرز بناء الجوامع في فروق، وكانت تتداعى منارتها الشرقية فنقضت وأعيدت كما كانت، واستولت إدارة الجامعة السورية على جزء منها في العهد الأخير جعلته مخابر لمدرسة الطب، ولها أوقاف قيل: أنها تبلغ نحو مائة ألف ليرة مسانهة. وهذه التكية من أجمل آثار العثمانيين هندسها معمار سنان أشهر مهندس في دولة الترك المتوفى 966 ولم يحصل الانتفاع بها مع أنها في الغاية بناء وهندسة وأوقافاً. ومن التكايا التي عمرت أواخر القرن العاشر: 432 - تكية مولويخانة تكية الدراويش بالقرب من جامع تنكز، وهي في غاية الحسن عمرت سنة 993 والمولوية هي طريقة الدراويش المنسوبين لجلال الدين الرومي، وكان مقرها في قونية وطريقتهم تمتاز بالرقص والتواجد والإنشاد وقد ألغى الكماليون طريقة المولوية من مملكتهم ولم يبق منها إلا بعض تكايا في الشام أكلت أوقافها ومن أهلها تكية حلب. ومن الزوايا التي عمرت بعد صاحب الدارس على ما يظهر: 433 - الزاوية الغزالية بالجامع الأموي شمالي مشهد عثمان، كان مدرسها سنة1083 مصطفى المحاسني. 434 - الزاوية المزلقية بطريق مقابر باب الصغير الآخذ إلى الصابونية لشمس الدين بن المزلق مولده سنة 754 وكان من الأغنياء، عمر على درب الشام إلى مصر خانات عظيمة بالقنيطرة وجسر بنات يعقوب وعيون التجار وغيرها، وأنفق على عمارتها ما يزيد على مائة ألف دينار ولم يسبقه أحد إلى مثل ذلك، وهو صاحب المآثر بدرب الحجاز، وقف جميع أملاكه من القرى وغيرها، وجعل النظر في ذلك لمن كان حاجب الحجاب ولمن كان خطيباً بالجامع الأموي، ولم يمض قرن وبعض الثاني حتى لم يبق جارياً من مبراته سنة 1083 المعينة في كتاب الوقف سوى شيء قليل. قاله المحاسني. والغالب أن اسم واقف هذه المدرسة محمد بن علي بن المزلق المتوفى سنة 848 وهي عند مسجد الذبان. ومن الزوايا الحديثة:

خوانق حلب وربطها وزواياها:

435 - زاوية الصمادية في الشاغور أنشئت سنة 1053 أنشأها زاوية ومسجداً محمد بن خليل الصمادي. 436 - الزاوية الشاذلية أنشئت 1290 في القنوات لأهل الطريقة الشاذلية وما زال يقام فيها الذكر. 437 - الغواصية زاوية أنشئت في الميدان لأصحاب الطريقة الرفاعية، حرقت في الثورة الأخيرة، وكانت عمرت في أواخر عهد السلطان عبد الحميد الثاني. 438 - زاوية السعدية في زقاق الخمارات وهي لأهل طريقة سعد الدين الجباوي. ويؤخذ من مجموع الإحصاء الرسمي أن بدمشق الآن إحدى عشرة تكية، ولعل الزوايا داخلة في هذا المجموع. وفي القنيطرة تكية أنشأها لالا مصطفى باشا الذي تولى دمشق سنة 971. خوانق حلب وربطها وزواياها: 439 - خانقاه البلاط هذه أول خانقاه بنيت في حلب، سميت بذلك لأنها في سوق البلاط الآن سوق الصابون أنشأها شمس الخواص لؤلؤ الخادم عتيق الملك رضوان سنة تسع وخمسمائة، كان لها بابان أحدهما من السوق المذكورة ثم سد وجعل صغيراً، والآخر من شارع شرقيها، قيل: هي موقوفة على الفقراء المتجردين دون المتأهلين بحلب، ثم هجرت واتخذت بيتاً، إلى أن أحياها الشيخ علاء الدين الجبرتي بنفقة الأمير تغري بردي، ثم إن الحكومة التركية اتخذت منها مخفراً ثم أجرته دائرة الأوقاف مدة طويلة فعمر مخزناً للتجارة ونقل باب الخانقاه القديم إلى شمالي باب المخزن وعمل له دهليز يدخل منه إلى الصحن والقبلية، ووقع في هذين ترميمات بسعي أهل الخير ومعاونة مديرية الأوقاف فعاد للمحل بعض الحياة. 440 - خانقاه القديم أنشأها نور الدين محمود بن زنكي سنة خمسمائة وثلاث وأربعين، كانت تحت القلعةإلى جانب الخندق ملاصقة لدار العدل، ثم عرفت بالمقشاتية ثم خربت ودخلت في عمارة المستشفى الوطني.

441 - خانقاه القصر من إنشاء نور الدين أيضاً سنة خمسمائة وثلاث وخمسين، وهي تحت القلعة سميت بالقصر الذي كان هنالك من بناء شجاع الدين فاتك. 442 - خانقاه الست أنشأتها زوجة نور الدين أم الملك الصالح إسماعيل سنة خمسمائة وثمان وسبعين، وبنت إلى جانبها تربة دفنت بها ولدها الملك الصالح. ثم كثرت الخوانق والربط من ذاك العهد. وعد ابن الشحنة منها عدا ما تقدم خمسة وعشرين رباطاً أنشئت في الدولتين النورية والصلاحية ثم في دولة المماليك، وكلها قامت بأيدي أهل الخير من الملوك والأمراء والأميرات وبعض أرباب الدولة. 443 - خانقاه الملك المعظم مظفر الدين كوكبوري بن زين الدين علي كوجك صاحب إربل في المحلة التي كانت تعرف بالسهيلة ثم عرفت بسويقة حاتم. هكذا في الدار المنتخب وهي تعرف بالزينية بزقاق يقال له زقاق الفرن، مكتوب على بابها أنها جددت في دولة الملك الظاهر أبي المظفر ابن الملك الناصر يوسف بن أيوب، وأن واقفها الأمير زين الدين علي بن بكتكين سنة 630. والآن فيها قبلية وست حجر. 444 - خانقاه بعرصة الفراتي أنشأها مجد الدين أبو بكر محمد بن محمد الداية ابن نوشتكين المتوفى سنة خمسمائة وخمس وستين، أخو نور الدين من الرضاع. 445 - خانقاه بمقام إبراهيم أنشأها مجد الدين ابن الداية المذكور أيضاً. 446 - خانقاه سعد الدين كمشتكين الخادم مولى بنت الأتابك عماد الدين المتوفى سنة خمسمائة وثلاث وسبعين، كانت ملاصقة للمدرسة الصلاحية البهائية اليوم ثم عرفت بالقلقاسية ويرجح أنها والآتية دخلتا في خان خيري بك. 447 - خانقاه طاوس بجانب السابقة. 448 - خانقاه ابن التبني أنشأها الأمير عبد القاهر ابن عيسى المعروف بابن التبني وقفها سنة 639 عند وفاته، وهي ذيل محلة العقبة والآن صارت دارين وتحتهما في حجرة قبر الواقف.

449 - خانقاه الأمير علاء الدين طاي بغا كانت داراً يسكنها فوقهما على الصوفية على الصوفية عند موته سنة 550 وهي مما دخل في دار العدل ثم دثر وقام في محله المستشفى الوطني. 450 - خانقاه العجمي أنشأها أبو بكر أحمد بن العجمي وكانت داراً يسكنها، فوقفها أخوه الشيخ شرف الدين على الصوفية. 451 - خانقاه حوشي أنشأها بيرم مولى ست بنت التعسنا التعسلني خالة صلاح الدين في دهليز دار الملك المعظم وتعرف بخانقاه حوشي. 452 - خانقاه بهاء الدين أبو المحاسن يوسف بن رافع بن شداد المتوفى سنة 632 كانت داراً يسكنها فوقفها للصوفية. 453 - خانقاه الفطيسية أنشأها مسعود بن عز الدين أيبك المعروف بفطيس المتوفى سنة 649 وهو عتيق عز الدين فرخشاه، وكانت في مدرسته المعروفة بهذا الاسم ثم دخلتا في دار العدل كما ذكر في خبر المدرسة. 454 - خانقاه سنقرجاه وهي برأس زقاق البهاء قبلي دار العدل عمرت سنة 554 ثم دثرت مع دار العدل ودخل الجميع في بناء المستشفى الوطني وما يليه. 455 - خانقاه الكاملية مكتوب على بابها وقفت هذه الخانقاه فاطمة بنت الملك الكامل محمد توفيت سنة 656، وهي في محلة الجلوم الكبرى في زقاق يسمى بزقاق الشيخ عبد الله، ليس فيها اليوم سوى ثلاث حجر صغيرة مشرفة على الخراب. 456 - خانقاه بنت صاحب شيزر وهو سابق الدين عثمان أنشأها قبالة دورهم، لا أثر لها وقد كانت في العرصة التي إلى شرقي جامع العادلية وقبلي خان الفرايين. 457 - خانقاه بدرب البنات شمالي البيمارستان الكاملي وقفتها ست العراق لبنة نجم الدين أيوب بن شاذي عن ولدها سيف الدين سنة574 وهذا الدرب يعرف اليوم ببوابة خان القاضي من محلة باب قنسرين لا أثر لها.

458 - خانقاه بدرب البنات كذلك أنشأتها زمرد خاتون وأختها ابنتا حسام الدين لاجين عمر بن النوري وأمها أخت صلاح الدين يوسف. 459 - خانقاه نور الدين محمود بن زنكي ذكرها أبو ذر قال: أظنها أنشئت سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة، قال ابن شداد: أظنها التي بجوار المدرسة الشاذبختية الجوانية، وفي هامش بخط محمد بن عمر الموقع أنها أصبحت تعرف بالشيجرية، ليس لها أثر. 460 - خانقاه ضيفة خاتون بنتها سنة خمس وثلاثين وستمائة داخل باب الأربعين تجاه مسجد حافظ عبد الرحمن بن الأستاذ، هذه الخانقاه الآن بمحلة الفرافرة أمام جامع الزينبية ومدرسة الهاشمية، تسمى الناصرية لأن على بابها أنها أنشئت زمن الناصر يوسف بن أيوب، فيها إيوان عظيم ومحراب بديع، وهي مائلة إلى الاندثار يسكنها بعض الفقراء من العبيد المعتقين. 461 - خانقاه بنت والي قوص مندثرة مجهولة المحل. 462 - خانقاه القوامية كانت تجاه خانقاه ضيفة خاتون، ليس لها أثر. 463 - خانقاه محمد بن عبد الملك بن المقدم بدرب الحطابين الذي عرف بعد ذلك بدرب ابن سالار سنة أربع وأربعين وخمسمائة، ودرب ابن سالار هو المعروف الآن بزقاق خان التين من محلة الجلوم، فيرجح أنها كانت بجانب مدرسة المقدمية التي ذكرناها المنسوبة إلى محمد بن عبد الملك بن محمد الذي يظهر أنه ابن صاحب الخانقاه. لا أثر لها. 464 - خانقاه الشمسية في رأس درب البازيار ملاصقة لبيت أبي ذر المؤرخ، أنشأها أبو بكر أحمد وأوصى أخاه صاحب الشرفية أن يقفها على الصوفية، الدرب المذكور يعرف الآن بزقاق الزهراوي. 465 - خانقاه الخادم هي إلى جانب المتقدمة من شماليها وقفها الخادم من عتقاء بني العجمي على سكنى بني العجمي الإناث. 466 - خانقاه تجاه المتقدمة لا يعلم لمن تنسب ولعلها هي ما جاء في بعض التواريخ أنها إنشاء جمال الدولة إقبال الظاهري، قال أبو ذر عن هاتين الأخيرين إن في كل قبراً، والآن تجول جميع ذلك إلى دور مسكونة. 467 - خانقاه طغرل بك هو الأمير شهاب الدين طغرل الأتابك

وهي في خارج باب الأربعين بالجبيل، هي الآن مدرسة النجاة. 468 - خانقاه الدورية أنشأها محمد بن جمال الدين يوسف الدوري عين التجار بحلب ووقف لها ابنه وقفاً وهي موقوفة على شمس الدين الأطعاني، كانت على شاطئ نهر قوين من جهة الناعورة، وهي دائرة مكانها مجهول. 469 - خانقاه السحلولية على شاطئ قويق قرب بستان حجازي وقفها كافل حماة الإسعردي على عبد الرحمن بن سحلول المتوفى سنة 782 وجعل لها مدرساً هدمت في حادثة تيمور لا يعلم محلها. 470 - خانقاه الكاملة أنشأته الكاملة زوجة علاء الدين بن أبي الرجاء خارج حلب. 472 - رباط أنشأه سيف الدين علي بن سليمان بن جندر بالرحبة الكبيرة وكان في دار تعرف ببدر الدين محمود بن شكري الذي خنقه الملك الظاهر غازي، هو مندثر الآن ويرجح أنه كان في محلة باب قنسرين تجاه جامع الكريمية. 473 - رباط قرب مدرسة النورية التي تعرف أيضاً بالنفرية، كانت في محلة السفاحية تجاه المدرسة الصباحية في الزاوية الغربية من الجنينة المعروفة اليوم بجنينة الفريق وهي مندثرة. 474 - رباطان تحت القلعة للخدم أحدهما برأس درب الملك الحافظ، والآخر اسمه الجنالية برأس زقاق المبلط بينه وبين السلطانية طريق، وهذا من إنشاء جمال الدولة إقبال الظاهري في حدود الأربعين وستمائة. 475 - رباط قراسنقر ذكره ابن خطيب الناصرية في ترجمة بانيه المتوفى سنة 728 وقال: له وقف كبير، وهو مندثر لا يعلم محله. 476 - رباط الخدام تحت القلعة، مندثر. 477 - رباط بشرقي تربة ابن الصاحب أمام الظاهرية، أنشئ في دولة الناصر حسين علي بن أحمد. 478 - رباط بجانب مدرسة ضيقة خاتون في الفردوس، أنشئ ستة 633.

479 - رباط قرب الظاهرية التي في خارج حلب، أنشئ أيام يوسف الناصر. 480 - رباط للقلندرية في داخل المدرسة المقدمية التي كانت في الفرافرة تجاه قسطل الملك العادل، مندثر. 481 - الثكنة العسكرية أسسها إبراهيم باشا المصري 1248 ثم أصلحت سنة 1297 وتسمى بقشلة الشيخ يبرق لزاوية هذا الدفين بجانبها، وهي في الجهة الشمالية الشرقية من حلب طولها ثلاثمائة وأربعون ذراعا وعرضها زهاء مائتين. 482 - ثكنة على قمة جبل البختي بدئ بتأسيسها 1330 ثم زيد عليها بعد انسحاب الترك زيادات ولم نزل غير كاملة. وقد درس كثير من الرباطات في باب المقام وغيره. 483 - زاوية معروفة ببني الخشاب مكتوب على حجر في جدارها: جدد عمارة هذه الزاوية المعروفة ببني الخشاب الحسن بن إبراهيم بن سعيد ابن الخشاب 633 وفيها تربة كانت تسمى بالتربة الخشابية، هي اليوم في زقاق اسمه زقاق أبي درجين من محلة الجلوم، جددها في سنة 1315 مصطفى الهلالي وجعل لها حجرة درس ومنبرا. 484 - الزاوية الهلالية في محلة الجلوم بزقاق الهلالية، كانت مسجدا صغيرا قطنه هلال الرام حمداني، ثم وسعت وصارت تقام فيها الجمعة والأذكار. 485 - زاوية البزازية في الجلوم بزقاق خان البيض، تصلى فيها الأوقات الجهرية ولها قبلية. 486 - الزاوية الكمالية في محلة العقبة في زقاق الكيزواني. 487 - زاوية الأخضر في محلة السفاحية نجاه الموازيني وقفها الشيخ الأخضر ودفن فيها سنة 1287. 488 - زاوية الشيخ تراب. 489 - زاوية الطواشي.

490 - زاوية النسيمي تحت القلعة، كانت مسجدا قديما جددها قانصوه الغوري 910. 491 - الزاوية الجوشنية الاقصراوية نسبة لمنشئها سنة 747 علي الشيخ إبراهيم شهريار الكازروني. 492 - زاوية الصالحية في سويقة الحجارين وتعرف بالقادرية أيضا، وكانت قديما تعرف بالبهشنية من أقدم الزوايا متولوها بنو الحلوى. 393 - زاوية البيلوني في سويقة حاتم صغيرة معطلة يسكنها الفقراء، إنشاء أحد بني البيلوني. 394 - زاوية محيي الدين في باب الجنين. 495 - زاوية الكيالي في سويقة حاتم. 496 - زاوية الجعفرية في زقاق فرن جقجوقة من سويقة حاتمك أنشئت 796. 497 - زاوية الهبراوي في محلة الكلاسة كانت دارا وقفها محمد خير الهبراوي وسع ببعضها الجامع وجعل الباقي زاوية. 498 - زاوية لبني الهبراوي أيضا كانت تسمى مسجد الراعي. 499 - زاوية في المقامات مندرسة. 500 - زاوية محمد الاطعاني البسطامي في محلة الشماعيين من المشارفة أنشئت سنة 700. 501 - زاوية خضر نجاه بستان الكلاب في جنوبي بستان إبراهيم آغا، أنشأها بدر الدين بن زهرة متنزها، ثم اغتصبها من بعده جلبان كافل حلب وجعلها زاوية سنة 770 وهي مندثرة. 502 - زاوية للقادرية تنسب للأمير جلبان أيضا على رأس باب الجنان، منشأة سنة770. 503 - تكية المولوية من أعظم التكايا، أنشأها مرزا فولاذ ومرزا علوان فارسيان من أتباع شاه إسماعيل الصفوي، ثم أحدث فيها زيادات كثيرة. 504 - زاوية غربي قبلية جامع قارلق، أنشئت سنة 1207.

505 - زاوية الحربلي في قارلق، أنشأها علي الحربلي سنة 1322. 506 - زاوية الشيخ طه بطيخ في قارلق أنشئت سنة 1280. 507 - نكية الحداد في محلة تاتارلر. 508 - زاوية للخلوتية بالجانب الغربي من الجامع الأحمدي في محلة الدلالين، وقف أحمد صديق. 509 - زاوية بجانب سابقتها للطريقة النقشبندية للواقف المذكور. 510 - زاوية لطريقة سعد اليماني في محلة المشاطية. 511 - زاوية الشيخ بلال في محلة البلاط. 512 - زاوية بيت خير الله في محلة بانقوسا. 513 - زاوية قطليجا في محلة محمد بك أنشئت سنة 757. 514 - زاوية أبي الجدايل بزقاق المزوق. 515 - الزاوية الصيادية أنشاها أبو الهدى الصيادي سنة 1295 ثم زيدت إلى سنة 1327. 516 - التكية الإخلاصية نسبة لإخلاص الخلوتي المتوفى سنة 1074 عمرها له محمد باشا الأرناءوط. 517 - تكية القرقلر مبنية فوق مغارة الأربعين تحت القلعة. 518 - زاوية الشيخ يبرق في داخل الثكنة العسكرية، أنشئت سنة 671. 519 - تكية بابا بيرم للقندرية أنشئت سنة764. 520 - زاوية المصريين في محلة اقيول. 521 - زاوية هي مسجد الفرا أنشئ في حدود الألف، ثم أتخذ زاوية لبني الأنجق في محلة الألماحي. 522 - زاوية الشيخ عبد الله هي مسجد في محلة الشرعسوس. 523 - زاوية تغري برمش كافل حلب قرب جامع الأطروش، أنشأها سنة 841. 524 - زاوية العقيلية في محلة محب. 525 - تكية المخملجي في ترب الغرباء، أنشئت سنة 643.

ربط القدس وزواياها:

526 - تكية الشيخ أبي بكر للطريقة الوفائية أسسها حمد ابن عمر القاري في القرن العاشر. 527 - زاوية البعاج في محلة الطبلة. 528 - زاوية الشيخ جاكير في مدفن الشيخ تشبه زاوية. وفي حلب خانقاهات ومدارس وزوايا كثيرة ادثر معظمها، جاء في ترجمة مظفر الدين صاحب إربل أنه بنى أربع خانقاهات للزمني والعميان ودارا للأرامل ودارا للأيتام ودارا للملاقيط وخانقاهين للصوفية. ربط القدس وزواياها: كان في بيت المقدس عدة زوايا وربط منها: 529 - الزلوية المعظمية وقد مر ذكرها في المدارس بقي منها غرفتان والباقي دارس. 530 - الزاوية الحنفية بجوار المسجد الأقصى خلف المنبر وقفها صلاح الدين سنة 587 في جلال الدين الشاشي، ثم من بعده على من يحذو حذوه، وقد وقف صلاح الدين نصف دار الاسبتار رباطا للمتصوفة الوافدين من أهل الطريق والمعرفة، ونصفها مدرسة للمتفقهة، للطلبة المتعففة والمتنزهة، فجمع بين العلم والعمل، وكتب الرزق لهم إلى كتاب الأجل - قاله العماد الكاتب، ودار الاستبار اليوم أو هذا الراط الآن خراب بلقع. 531 - الخانقاه الفخرية داخل سور الحرم، وبجوار جامع الغاربة واقفها أبو عبد الله محمد ابن فضل ناظر الجيوش الاسلامية، وكانت له أوقاف كثيرة وبر إحسان للأهل العلم 732 ولا تزال عامرة إلى يومنا هذا وهي زاوية ودار سكن 532 - الرباط الزمني بباب المتوضإ تجاه المدارسة العثمانية. واقفه الخواجا شمس الدين محمد بن الزمن وكان بناؤه في سنة إحدى وثمانين وثمانمائة. 533 - رباط كرد بباب الحديد بجوار السور تجاه المدرسة الأرغونية، واقفه المقر السيفي كرد في 693 استحال الآن دار سكن. 534 - الزاوية الوفائية بباب الناظر تجاه المدرسة المنجيكية وعلوها

دار من معاليما تعرف بدار الشيخ شهاب الدين بن الهائم، ثم عرفت ببني الوفا لسكناهم بها، وتعرف قديما بدار معاوية، وهي الآن دار سكن. 535 - الزاوية الشيخونية بالقرب من الإصلاحية عند سويقة باب حطة، واقفها الأمير قطيشا بن علي من رجال حلقة دمشق، جعل نظرها لنفسه ثم من بعده لولده شيخون، فسميت بالشيخونية تاريخ وقفها 761. 536 - الرباط الماريني بباب حطة مقابل الكاملية وهي بجوار التربة الأوحدية، وقفه منسوب لامرأتين من عتقاء الملك الصالح صاحب ماردين، وشرطه أن يكون لمن يرد من ماردين تاريخ وقفه 763 وهو موجود. 537 - الزاوية المهمازية غرب المدرسة المعظمية من الغرب، منسوبة للشيخ كمال الدين المهمازي، ووقفت على مربع من الملك الصالح إسماعيل بن الناصر محمد بن قلاوون في 745 وهي معروفة. 538 - الرباط المنصوري بباب الناظر، وقف قلاوون الصالحي 681. كان سجنا في عهد الأتراك واليوم ينزله فقراء السودان. 539 - رباط علاء الدين القصير تجاه الرباط المنصوري واقفه، علاء الدين آيدغدي 666. 540 - الزاوية المحمدية بجوار البارودية من جهة الغرب، وقفها محمد بن زكريا الناصري سنة 751 وهي خراب. 541 - الزاوية اليونسية مقابل البارودية، ونسبتها إلى الفقراء اليونسية، مجهول واقفها وهي موجودة. 542 - زاوية الطواشية بحارة الشريف وتعرف قديما بحارة الأكراد، وقفها محمد بن جلال الدين عرب سنة 753. 543 - زاوية المغاربة بأعلى حارتهم، وقف عمر بن عبد الله المصمودي المجرد سنة 703. 544 - زاوية البلاسي بظاهر القدس من جهة القبلة، وهي قديمة نسبتها لأحمد البلاسي. 545 - زاوية الأزرق بظاهر القدس من جهة القبلة شرقي زاوية البلاسي، نسبتها لإبراهيم الأزرق780 وتعرف أيضا بزاوية السراي.

546 - زاوية الدركاه بجوار البيمارستان الصلاحي، وكانت في زمن الفرنج دار الاسبتار، وهي من بناء هيلانة أم قسطنطين التي غمرت كنيسة القيامة. واقفها الملك المظفر شهاب الدين غازي صاحب ميافارقين وذلك في سنة 613 قسم منها داخل في كنيسة الألمان الدباغة والباقي خراب. 547 - زاوية الشيخ يعقوب العجمي بالقرب من القلعة، وهي كنيسة من بناء الروم تلاشت أحوالها. 548 - الخانقاه الصالحية علو كنيسة القيامة وقف صلاح الدين عل الصوفية 585وهي موجودة. 549 - زاوية الجثنية كانت بجوار المسجد الاقصى، وقفها صلاح الدين على جلال الدين الشاشي الزاهد ولا يعرف عنها شيء. 550 - الزاوية الحمراء بالقرب من الخانقاه الصلاحية بجوار جامع عمر، منسوبة للفقراء الوفائية وهي باقية. 551 - الزاوية الميمونية بجوار باب الساهرة، وهي كنيسة من بناء الروم، واقفها ميمون القصري 593 دخلت في المدرسة المأمونية. 552 - الزاوية اللؤلؤية بباب العمود أحد أبواب المدينة وهي وقف بدر الدين لؤلؤ غازي واقف اللؤلؤية المتقدم ذكرها. 553 - الزاوية البسطامية بحارة المشارقة واقفها عبد الله البسطامي وكانت موجودة قبل 770. 554 - زاوية الصمادية بجوار البسطامية من جهة الشمال، وهي بلصق درج البراق سد بابها في المائة التاسعة. 555 - زاوية الهنود بظاهر باب الأسباط، وهي قديمة كانت للفقراء الرفاعية ثم نزل بها طائفة الهنود فعرفت بهم. 556 - زاوية الجراحية بظاهر القدس من جهة الشمال، نسبة لواقفها الحسين بن شرف الدين عيسى الجراحي 598.

الربط والزوايا في المدن الصغرى:

557 - تكية خاصكي سلطان أنشأتها أم السلطان سليمان، ولا تزال عامرة تفرق الحساء والخبز، ولا يزال يأخذ قسم من وجهاء القدس وأشرافها هذه الصدقة والإحسان. الربط والزوايا في المدن الصغرى: في خليل الرحمن لعهدنا ثلاث تكايا وزوايا وهي: 558 - تكية سيدنا الخليل لها مخصصات من دائرة الأوقاف وتعمل الحساء والطعام. 560 - زاوية أني بكر الشبلي تدر عليها الأوقاف ومعاوناتها. 561 - الزاوية القادرية. 562 - زاوية الشيخ سعيد. 563 - زاوية المجاهد. وفيها زاوية خاصة لإقامة الذكر 564 - زاوية حارة قيطون. ووضع أنواع الأعلام وما يتبعها 565 - زاوية الشيخ الجعبري. ويجلسون فيها ويضيفون. 566 - زاوية الشيخ الخيري. وكان في الخليل علي مجير الدين الحنبلي 567 زاوية الشيخ عمر المجرد 568 - زاوية المغاربة بجوار عين الطواشي و 569 - زاوية الشيخ علي البكا و570 - زاوية القواسمة نسبة لأحمد القاسمي الجنيدي من ذرية أبي القاسم الجنيد وهو مدفون بها و571 - الرباط المنصوري تجاه باب القلعة، وقف المنصور قلاوون. و572 - زاوية الشيخ إبراهيم المزي بين حارتي الأكراد والدارية و573 - زاوية الشيخ عبد الرحمن الأرزرومي في حارة الأكراد. و574 - زاوية البسطامية بجوار المسجد الجاولي من جهة الشمال و575 - زاوية السمانية بجوار زاوية الشيخ عمر المجرد. و576 - زاوية أبي عقافة و577 - رباط الطواشي و578 - زاوية شيخون و579 - رباط مكي 580 - زاوية الشيخ رضوان 581 - زاوية الشيخ الخضر 582 - زاوية الصلاطقة

بجوار البركة، وهي داخل زاوية الأدهمية و583 - زاوية الرامي و584 - زاوية الشيخ علي كنعوش الأدهمي و585 - زاوية الشيخ محمد البيضة و586 - زاوية الموقع و587 - زاوية الشيخ إبراهيم الحنفي و588 - رباط الجماعيلي و589 - زاوية الخضر بالقرب من متوضإ المسجد و590 - زاوية الحدابنة و591 - زاوية القادرية بظاهر البلد. ومن ربط فلسطين 592 - الخانقاه الصالحي في قرية حطين، وإنشاء السلطان صلاح الدين ولم يبق منه الآن إلا مطبخه وأنقاضه. ومنها 593 - خانقاه الرملة مهدم غير معلوم أثره. وفي إنطاكية 5 تكايا وفي إدلب وعملها 15 تكية وزاوية، وفي كل من حارم وبيلان والجسر تكية، كل من جبل سمعان ومنبج تكيتان. وفي حماة الزاوية الكيلانية، بني الجامع القبلي منها ياسين الكيلاني 1118 ولم يعرف اسم بانيها الأول. وفيها رباط مرتض الكيلاني ورباط محمد الحيري ورباط السبسبي ورباط الكيالي. ومما كان في حماة ويصح أن يعين في جملة الربط دار الإكرام، كانت معدة للضيافة وسكنى الملوك، خربت وصار محلها مدابغ وأنشأ فيها مبارز الدين أقوش داراً لضيافة الملوك وهي مما خرب. وكان فيها دار الضيافة المسماة بالطيارة الحمراء على سور باب النقفي والطيارة الحمراء كانت فوق القبو، والباسطية شرقي الجامع النوري. وكان في حماة أيضاً دار الفرح كانت وقفاً للأفراح، فمن أراد أن يتزوج مثرً يأخذها من متوليها وكان فيها 35 بيتاً وهي اليوم بيوت السادة الكيلانية. وفي ربض حمص زاوية قام بإنشائها أبو الهدى الصيادي ولكنها لم تتم وهي حسنة البناء والطراز. وكان في حمص دار صدقة لأبي عبد الله صالح بن ثوبان من عبيد الرسول وهو الذي روى في مسجد دمشق: أنا الذي صببت الماء على يدي رسول الله عليه وسلم وأعطيته قدحاً فأفطر. وفي طرابلس 8 تكايا للخوتية والقادرية والرفاعية والشاذلية والنقشبندية. وفي عكار تكية واحدة، وفي اللاذقية 4 تكايا وزوايا.

مراقد العظماء وخوانق:

مراقد العظماء وخوانق: هذه أسماء من لك في أرض الشام من الصحابة الكرام: أبي بن كعب. أبو الدرداء. أبو أمامة. أبو عبيدة. أبو هاشم بن عتبة. أوس بن أوس. بلال الحبشي. تميم الداري. جعفر بن أبي طالب. الحارث بن هشام. الحباب بن المنذر. حرملة بن زيد. خالد بن الوليد؟. خزيمة بن ثابت. زيد بن حارثة. سعد بن عبادة. سبرة بن فاتك. سهيل الأنصاري. سهيل بن عمرو. شرحبيل بن حسنة. وشمعون وصهيب الرومي. الضحاك ابن القيس. ضرار ابن الخطاب. ضرار بن الأزور. عبد الله بن حوالة. عبدون بن السعدي. عبد المطلب الهاشمي. عبد الله بن سعد. عبد الله بن رواحة. عبد الرحمن بن ابي بكر الصديق. محمد بن أبى حذيفة. مدرك الفزاري. معاوية بن أبى سفيان. المقدام بن معدي كرب. معاذ بن جبل. وأثلة بن الأسقع. عبد الرحمن بن عوف. فضالة بن عبيد. أكثر مراقد العظماء من الصحابة والتابعين والعلماء والعاملين والزهاد أشبه بزوايا وتكايا يقصدها الناس للزيادة والتبرك وإن كان منها ما لم يثبت أن فلاناً بعينه دفنت تجاليده في البقة التي يعنونها. فمكن المقالات والمزارات قبر يحيى بن زكريا والحسين بن علي في الجامع الأموي بدمشق، وقبر صلاح الدين يوسف بن أيوب شمالي هذا الجامع، ومقام ذي الكفل وهود في سفح جبل قاسيون بدمشق، ومقامك زيد العابدين وبلال الحبشي وبلال بن حمامة وخديجة ورقية وأم كلثوم وأم حبيبة وزينب الكبرى والسيدة سكينة وغيرهم في مقبرة باب الصغير بدمشق. ومقام أبي الدرداء في قلعة دمشق. ومقام حجر بن عدي في مسجد الأقصاب بدمشق. ومقام شريح بن حسنة وخولة وأبي وضرار وبنت الأزور والبدر الغوي الشيخ رسلان في باب توماء وباب شرقي بدمشق. وزيد بن ثابت في باب السريجة. وشمعون ابن خناقة في حي الشاغور. وصهيب الرومي وتقي الدين الحصني وغيرهما في الميدان. وعدي بن مسافر في بستان الورد، والشيخ السروجي في الشاغور. وعبد الرحمن الكردي في حي العمارة. وعبد الرحمن بن أبي بكر وكمال الدين

الحمزاوي وعبد الرحمن الدحداح والشهاب المنيني والشهاب العطار في مقبرة مرج الدحداح. ومقام محيي الدين بن عربي وعبد الغني النابلسي وأصحاب الكهف وعائشة الباعونية بصالحة دمشق. ونور الدين الشهيد والإمام ابن دقيق العيد في سوق الخياطين. ومقام سعد بن عبادة في المنيحة. وعبد الله بن سلام قي سقبا. والشيخ حرملة في جوبر. ومقام حزقيل في داريا. ودحية الكلبي في المزة. وهذه القرى الخمس من قرى غوطة دمشق. وتنيم الداري في قرية الطيبة. والشيخ حسن الراعي في قطنا. ومعاذ بن جبل في القصير. والشيخ جندل في منين. ومقام السلطان أبي يزيد البسطامي في المرج. ومقام أيوب وسعد الأسود في قرية الشيخ سعد في حوران. وسلمان الفارسي في قرية السهوة. ومقام عكاشة في الجولان. والمقداد بن الأسود في تل المقداد. وسعد الدين الجباوي في جبة. وعمار بن ياسر في اللجاة. وقبر أبي عبيدة ابن الجراح ومعاذ بن جبل في الغور. ومقام جعفر بن أبي طالب وعبد الله ابن رواحة وزيد بن حارثة قرب قرية مؤتة في المزار من عمل الكرك. ومقام الإمام الأوزاعي في بيروت، ومقام يوشع وشمعون في صور، ومقام هارون ويعقوب في صفد، ومقام الخضر والياس في حيفا. ومقامات شعيب والسيدة سكينة ومعاذ بن جبل ونصر الدين الطيار في طبرية. ومقامات صالح وأبي عتيبة في عكا. ومقامات العزير ولوط ويونس في الناصرة. ومقامات يعقوب وأولاده والخضر والشيخ مسلم وبشير ومسعود ورجال العمود والشيخ بدر والسلطان عماد الدين في نابلس. ومقامات دانيال ويامن ومعاوية وإسكندر ذي القرنين وابن سيرين والشيخ حمدان وغيرهم في جينين. ومقامات يامن وشمعون ويعقوب والياس ولأبي خميس وأبي شعير وعامر وعمار وعدنان في بني صعب. ومقامات يحيى وذي الكفل ويوشع وناتون وإبراهيم وشيت والشيخ أبي الجود وأبي رماح وأبي عابد والجنيد والدجاني في جماعيل. ومقامات زكريا ويوسف وأنبياء بني إسرائيل والشيخ حاتم وغانم المقدسي في المشاريق. ومقامات الشيخ زين ونصر الله في الشعراوية. خالد بن الوليد وعمر بن عبد العزيز وأبي أمامة الباهلي وأبي ذر الغفاري

والنعمان بن بشير في حمص والمعرة وما إليهما. ومقام الشيخ أبي الليث السمرقندي والشيخ علوان في حماة. ذكر نجير الدين قبة راحيل والدة يوسف الصديق إلى جانب الطريق بين بيت لحم وبيت جالا. وبظاهر الرملة من جهة الغرب بالقرب من البحر نشهد يقال له روبيل بن يعقوب. وبظاهر لد من جهة الشرق مشهد عبد الرحمن ابن عوف الصحابي، وبظاهر القدس في قرية العازرية مشهد العازرا. وقبر شمويل بقرية ظاهر القدس من جهة الشمال على طريق الرملة في قرية رامة. وللشيعة عدة مقامات في حلب وأرجائها وفي غيرها نسبت لعلي بن أبي طالب وللحسن وللحسين. كما أن للخضر عدة مقامات في كثير من الأرجاء ويشترك في تعظيمها النصارى والمسلمون غالباً. ومما ذكره ابن الشحنة من المقامات القديمة في حلب مسجد النور بالقرب من باب قنسرين كان أبو تمير عبد الرزاق بن عبد السلام 425 يتعبد فيه تنذر له النذور وبزار. ومسجد الغضايري ويعرف بمسجد شعيب وقبر كليب العابد ومسجد الأنصاري والمشهد الآخر في رأس جبل جوشن ومشهد قرية براق ومقام إبراهيم الخليل في قرية نوابل وكلتاهما من عمل حلب. وبقرية روحين من جبل سمعان مشهد فيه ثلاثة قبور: الأوسط منها قبر قس بن ساعدة الأيادي، والقيران الآخران فبرا سمعان وشمعون من الحواريين، وقيل كانا من المتوحدين الرهبان. وبجبل برصايا من عمل إعزاز قبر برصيصا أي مقصورة العابد. وبقورس قبر أوربا. وبمنبج مشهد خالد لبن سنان العبسي صاحب الأخدود. وبجبل بزاعا من غربي الباب مشهد يطل على الباب. وبجبل الطور المجاور لقنسريم مقام يقال: إنه مقام النبي، وبدير سمعان من عمل المعرة قبر بن عبد العزيز ووراءه قبر الشيخ أبي زكريا يحيى بن منصور. وبجبلة قبر إبراهيم بن أدهم الزاهد. ومعظم هذه المزارات مازالت معروفة يختلف إليها الناس وقام عليها شبه أو تكايا. وفي عبيه من شوف لبنان مزار الأمير جمال الدين عبد الله التنوخي يزوره معظم الطوائف الإسلامية وعليه مدرسة.

المستشفيات والبيمارستانات

المستشفيات والبيمارستانات مستشفيات دمشق: إقامة دور للبائسين ومآوى للضعفاء وأصحاب العاهات والزمانات من أمارات الحضارة ودلائل ارتقاء الإنسان في العطف على من خانتهم الطبيعة. روى البلاذري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مّر عند مقدمه الجابية من أرض دمشق بقوم مجذمين من النصارى فأمر أن يعطوا من الصدقات وأن يجري عليهم القوت. ووقف عثمان بن عفان محلة سلوان في ربض القدس على ضعفاء البلد. وأول من اتخذ المستشفيات صدر الإسلام الوليد بن عبد الملك، فإنه أقام في دمشق على ما يروى مستشفى للمجذومين بالقرب من الباب الشرقي في محل يسمى الآن بالأعاطلة، ذلك لأن في ماء دمشق على ما قالوا خاصية دفع مرض الجذام عن أهلها فلا يصيبهم إلا في الندر، وإذا حل الغريب المصاب به نكسر عنه عاديته أو يتوقف سيره في جسمه. قال ابن عساكر: كان الوليد عند أهل الشام من أفضل خلفائهم، فرض للمجذومين وقال: لا تسألوا الناس، وأعطى كل مقعد خادماً وكل أعمى قائداً. وذكر بعضهم أن الوليد لما ولى إسحاق قبيصة الخزاعي ديوان الومني بدمشق قال: لأدعم الزمن أحب إلى أهله من الصحيح، وكان يؤتى بالزمن حتى توضع في يده الصدقة. وفي سنة 162 أمر المهدي أن يجري على المجذومين وأهل السجون في جميع الآفاق. وبذلك عرفنا أن القوم يخصون المجذومين بأماكن خاصة لئلا تسري العدوى منهم إلى غيرهم. أما المستشفيات فللأمراض الأخرى. ولقد كان بدمشق ثلاثة مستشفيات أو بيمارستانات - والبيمارستان

كلمة فارسية مركبة معناها محل المرضى - الأول 595 أنشأه نور الدين محمود بن زنكي كما أنشأ غيره في الشام. وكان بيمارستان دمشق أعظمها وأكثرها خرجاً ودخلاً. قال صاحب الروضتين بلغني في أصل بنائه نادرة وهي أن نور الدين رحمه الله وقع في أسره بعض أكابر ملوك الإفرنج فقطع على نفسه في فدائه مالاً عظيماً فشاور نور الدين أمراءه فكل أشار بعدم ما استخار الله تعالى فأطلقه ليلاً، فلما بلغ الفرنجي مأمنه مات، وبلغ نور الدين موت الفرنجي فبنى بذلك المال هذا البيمارستان ومنع المال الأمراء لأنه لم يكن عن إرادتهم. تولى بناءه كمال الدين الشهرزوري وكان الحاكم المحتكم في الدولة النورية بدمشق، وهو الذي تولى بناء أسوارها وسّن دار العدل لتنفذ أحكامه بحضرة السلطان فلا يبقى عليه مغمز وملمز. وذكر ابن جبير أنه كان في القرن السادس بدمشق مارستانان قديم وحديث، والحديث أحلفهما وأكبرهما وجرايته في اليوم نحو الخمسة عشر ديناراً وله قَوَمة بأيديهم الأزمة المحتوية على أسماء المرضى وعلى النفقات التي يحتاجون إليها في الأدوية والأغذية وغير ذلك، والأطباء يبكرون إليه في كل يوم ويتفقدون المرضى ويأمرون بإعداد ما يصلحهم من الأدوية والأغذية حسبما يليق بكل إنسان منهم، والمارستان الآخر على هذا الرسم لكن الاحتفال في الجديد أكثر. اغلب الظن أن البيمارستان الكبير هو النوري، والآخر غيره 596 كان في باب البريد وخدم في هذا رشيد الدين

بن علي بن الخليفة وعز الدين السويدي من الأطباء المشهورين. وفي شذرات الذهب أن المارستان الصغير بدمشق أقدم من المارستان النوري كان مكانه في قبلة مطهرة الجامع الأموي وأول من عمره بيتاً وخرب رسوم المارستان منه أبو الفضل الاخنائي ثم ملكه بعده أخوه البرهان الأخنائي وهو تحت المئذنة الغربية بالجامع الأموي من جهة الغرب، وينسب إلى أنه عمارة معاوية أو أبنه. أما المستشفى الثالث 597 فهو المستشفى القيمري في الصالحية بجوار جامع محيي الدين عربي نسبة لمنشئه أبي الحسن القيمري المتوفى سنة 653 وواجهة الباب من أجمل الأبواب هندسة، وقد رّمه حسن باشا المعروف بشور يزي حسن ونظر إلى أوقافه وأقام شعائره كما فعل في البيمارستان النوري، وقد رمم في العهد الأخير وأعيد إلى ما كان عليه. وقرأت في كتاب الجوامع والمدارس صورة وقف البيمارستان القيمري فإذا فيه: هذا وقف أبي الحسن بن أبي الفوارس القيمري على بيمارستانه في الصالحية على معالجة المرضى والمعالجين والأشربة وأجرة الطبيب، يصرف إلى الطبيب في كل شهر لواحد سبعون درهماً ونصف غرارة من قمح، والأدنى ستون درهماً ونصف غرارة قمح، وللمشارف في كل شهر أربعون درهماً ونصف غرارة قمح، وللحوائج في كل شهر ثلاثة عشر درهماً وسدس غرارة قمح، ولمن يقوم بمريضات النساء والمجنونات في كل شهر لكل واحد عشرة دراهم وسدس غرارة قمح، وإلى الشراب وبائعه لعنل الأشربة والمعالجين في كل شهر ستة وعشرين درهماً وثلث غرارة قنح، ولأمين المشارفين والمتولين في الوقف إلى كل واحد في كل شهر ستون درهماً وغرارة قمح وغرارة شعير، وللإمام في كل شهر أربعون درهماً وثلث غرارة قمح، وللمعمار المرتب لعنارته في كل شهر ثلاثة عشر درهماً وسدس غرارة قمح، ويكون بواباً، وللحوايج في كل شهر ثمانية دراهم وسدس غرارة، وللناظر العشر عن المغل، وريع الوقف ويصرف ويصرف إلى رجلين اثنين

بخدمة البيمارستان عن ثمن قدور ونحاس وفرش ولحف ومخدة، وفي كل شهر إلى قيمه والمؤذن بالمسجد بقرب البيمارستان خمسة وعشرون درهماً، فإنه فضل يصرف إلى فكاك الأسارى من الكفار، وبعد ذلك عاد وقفاً على الفقراء. وتاريخ الوقفية سنة 652 وتاريخ المسجد سنة 880 ثم ذكر القرى والبساتين والحوانيت والطواحين التي وقفها على البيمارستان. وظل المستشفى النوري عامراً إلى سنة 1317هـ وكان أطباؤه وصيادلته لا يقلون عن عشرين رجلاً حتى قامت بلدية دمشق بإنشاء مستشفى للغرباء 598 في الجانب الغربي من التكية السليمانية المظلة على المرج الأخضر، وجمعت له إعانات وأُخذ مبلغ من واردات البلدية وأوقاف المستشفى النوري واحتفل في 15 ذي القعدة 1317 بافتتاح المستشفى الجديد وخصصت أوقاف المستشفى النوري ومبلغ خمسمائة ليرة تؤخذ مسانهة من ريع البلدية تصرف على المستشفى الذي سني بادئ بدء بالمستشفى الحميدي نسبةً إلى السلطان الذي بني في عهده. أما بناية المستشفى النوري فقد جعلت مدرسة وواجهتها لا تزال بحالها وفيها بعض الحجر والنوافذ من البناء القديم، والغالب أن الأيام سطت على بقية البناء فتغيرت معالمه. وقد رمت واجهته مؤخراً. وزاد المستشفى الجديد رونقاً ورواءً مقبرة الصوفية التي ضمت إليه وجعلت حديقة للمستشفى. وقد سمي المستشفى على عهد الحكومة العلابية بالمستشفى الوطني وأقيمت مدرسة الطب بجانبه والحكومة متكفلة بالإنفاق عليه. وفي دمشق لهذا العهد عدة مستشفيات، الأول: 599 - المستشفى العسكري وهو من بناء إبراهيم باشا المصري في القرن الماضي. 600 - المستشفى الإسكتلندي وفي 11 ذي القعدة 1315 24 أيار 1899 احتفلت جمعية اسكتلندا الإنكليزية بافتتاح المستشفى الذي أسسته في أرض الزينبية على طريق بغداد وهو على غاية من حسن الهندسة وجمال الحديقة وسعتها. 601 - المستشفى اللعازري بنته أخوية اللعازريين الفرنسية قبالة المستشفى الاسكتلندية وهو حسن البناء والنظام أيضاً.

مستشفيات حلب:

602 - مستشفى الراهبات اللعازريات وهو قديم قرب مدرسة اللعازرية. المستشفى الوطني أو مستشفى مدرسة الطب وقد مر ذكره. 603 - المستشفى الطلياني في الصالحية قبل الجسر. 604 - مستشفى المجاذيب المسمى بمستشفى ابن سينا أنشئ له مكان في قصير دومة. مستشفيات حلب: 605 - بيمارستان بني الدقاق كان يعرف بهذا الاسم ثم دخل في دار سودون الدوادار غربي المدرسة الحلاوية لا أثر له اليوم. 606 - بيمارستان بني الدقاق على باب الجامع الكبير، كان له بوابة عظيمة ينسب لابن خرخان، لما تعطل كان يجلس فيه الكحالون فعرف بدار الكحالة. بقي منه ثلاثة مخادع يسكنها بعض الفقراء. 607 - بيمارستان نور الدين هو في الزقاق المعروف الآن بزقاق البهرمية من محلة الجلوم الكبرى، مكتوب على بابه أنه أمر بعمله محمود بن زنكي بتولي ابن أبي الصعاليك. ويظهر أنه حصل فيه إصلاحات كثيرة، فإنه كان فيه قاعة للنساء مكتوب عليها أنها عمرت في دولة صلاح الدين يوسف سنة 655 ومكتوب على إيوانه أنه عمر أيام الأشرف شعبان المتوفى سنة 779 وعلى الشباك الذي على بابه أنه أحدث سنة 840 وكانت قاعة المنسهلين سماوية فسقفها القاضي شهاب الدين بن الزهدي. أما الآن فقد صارت حجراته تلالاً ولم يبق إلا بضع منها يسكنها بعض الفقراء. وقد جاء في بعض التواريخ أن هذا البيمارستان كان في الأصل من وضع ابن بطلان الطبيب البغدادي المتوفى سنة 458 ثم جدده نور الدين ووقف عليه أوقافاً كثيرة وهو في أصح بقعة هواءً. حدثني الثقة أنه اطلع على صك وقف أحد المستشفيات في حلب قال: جاء فيه أن كل مجنون يخص بخادمين يخدمانه فينزعان عنه ثيابه كل صباح ويحممانه بالماء البارد، ثم يلبسانه ثياباً

بقيه المستشفيات:

نظيفة ويحملانه على أداء الصلاة ويسمعانه قراءة القرآن يقرأه قارئ حسن الصوت، ثم يفسحانه في الهواء الطلق ويسمع في الآخر الأصوات الجميلة والنغمات الموسيقية الطيبة. 608 - بيمارستان أرغون الكاملي وهو في محلة اسمها الآن باب قنسرين، أنشأه أرغون الصغير الكاملي نائب حلب سنة سبعمائة وخمس وخمسين، رتب كل ما يحتاج إليه من رزق وآلات وأدوية وخدام، شرط واقفه أن التولية لكافل حلب فكان في كفالة تغري برمش على أتم الوجوه، فيه حجر وأروقة ومحابس للمجانين مظلمة، يروى أنه كانت توضع فيه الرياحين ويؤتي بآلات الطرب والمغنين لتكون هذه المشاهد والأنغام من تمام العناية بالمداواة، ثم في أواخر عهد الأتراك نقل من كان فيه من المجانين إلى مستشفى الغرباء واصبح هو مأوى لبعض الفقراء. وفي مدخله أفاريز ونقوش من أجمل ما نقش النقاشون تزينه. 609 - مستشفى الرمضانية أنشأه إبراهيم باشا المصري، وهو مخصص لمرضى العسكر. 610 - المستشفى الوطني بدئ به سنة ثلاثمائة وألف وبعد بلوغه نحو النصف ترك، ثم أكمل بعد نحو عشر سنين وجعل للمرضى الغرباء والفقراء. 611 - المستشفى الزهري أنشأته غدارة الصحة للأمراض الزهرية بعد تأليف الحكومة العربية. بقيه المستشفيات: المارستان النوري هو المستشفى الوحيد في حماة، بناه نور الدين محمود وكانت التولية عليه سنة ألف للشيخ صفا العلواني وكان مجموع نفقته كل يوم ثمانية وثمانين عثمانياً العثماني أو السلطاني نحو سبعة قروش، وهو الآن شبيه بالمندرس يستعمله بعضهم للسكنى وذهبت أوقافه إلا قليلاً. وقد وجد على حجر في المارستان بالجانب الغربي من أعلى البنيان كتابتان الأولى سنة خمس وسبعمائة وهي: رسم الملك لأمر بختشاي الكافلي بحماة بإبطال ما كان

يؤخذ من البيمارستان بغير طريقة وأن وقفه يصرف على ما وقفه الواقف على السكر والأشربة وذلك بأمر السيفي. الثاني: لما كان بتاريخ الشهر المحرم المحروسة داود المقر السيفي درداس الخاصكي كافل المملكة الحموية أعز الله أنصاره وتبرع بمعلومه على الضعفاء المقيمين به وهو في كل شهر مائة دراهم لاغتنام الأجر والدعاء اه. وفي حماة اليوم مستشفى واحد، ومثله في حمص، وآخر في درعا، ورابع في القنطرة، وخامس في يبرود، وسادس في دير الزور، وفي إسكندرونة مستشفى وذلك ما عدا المستوصفات بإدارة الصحة والإسعاف العام ويقوم بإدارتها وتمريض مرضاها أطباء وطنيون. وكان في طرابلس مارستان أنشأه بدر الدين محمد بن الحاج أبي بكر أحد الأمراء بحلب المتوفى سنة 742. وفي طرابلس اليوم مستشفى كان سمي مستشفى عزمي بك أحد عمالها الذي بتنشيطه. وقبل 55 سنة جاء نابلس مبشر إنكليزي وأسس فيها مستشفى، وأخذ يعالج المرضى بأجور طفيفة ويكرههم على استماع وعظه فتحسس المسلمون وأسسوا سنة 1326 شرقية المستشفى الوطني وهو إلى اليوم سائر سيراً حسناً يقوم بأموالهم وريع البلدية. أسس البرتستانت عدة مستشفيات ومستوصفات في الشام منها في طبرية والناصرة وصفد والصلت وصيدا والقدس ويافا وحيفا وبيروت ودمشق وغيرها من البلدان، ولا تكاد تخلو المدن المهمة من مستشفى أو شبه مستشفى مثل اللاذقية وطرطوس ومنها مستشفى خاص بمرض السل ومستشفى العصفورية للمجاذيب في لبنان، وكان في الخليل مستشفى جميل اسمه المنصوري وقفه الملك المنصور قلاوون، ومستشفيات الصهيونيين في القدس وحيفا ويافا وغيرها مهمة في بابها. وقد أقام الصليبيون في المدن التي احتلوها بعض مستشفيات منها واحد في صور وكان لهم في القدس مارستان وهو من الأماكن التاريخية كان عبارة

لهفة على المدارس وغيرها:

عن 155 متراً طولاً و137 عرضاً وعليه قامت في القرون الوسطى الملاجئ والمستشفيات الخاصة بزوار الغرب ولا سيما رهبنة فرسان القديس يوحنا ومستشفياته. وحول ابن أخت صلاح الدين كنيسة الملجأ إلى مستشفى وبقي اسمه العربي الفارسي أي المارستان يطلق منذ ذاك العهد على مجموع تلك الأماكن. وفي سنة 1869م أعطى سلطان العثمانيين النصف الشرقي من المارستان إلى تاج بروسيا بمناسبة زيادة ولي عهد بروسيا للقدس. وقد كان صلاح الدين جعل دار الأسقف في القدس لما فتحها بيمارستان المرضى. ومستشفيات القدس اليوم كمستشفيات بيروت مهمة لكثرتها ووفرة ريعها وتنافس المبشرين في تجويدها لها أحذق الأطباء، وفي بعض قرى لبنان مستشفيات صغيرة ومصاح منها مصح بحنس ومستشفى جمعية الفرندس في برمانا، ومصح ضهر الباشق وغيرها، وفي عمل دومة من دمشق مستشفى ابن سينا لأصحاب الأمراض العقلية. لهفة على المدارس وغيرها: أرأيت أيها الناظر في هذا الكتاب، كيف كان عمل الأجداد في إنشاء المدارس والربط والخوانق والمستشفيات، وكيف تساوى في تأييدها والوقف عليها الملوك والعظماء وجمهور الناس من الرجال والنساء. وكيف جودوا بناءها وأحكموا وقوفها الدارة ومع هذا لم تقو على مقاومة المخربين والغاصبين فعاد أكثرها دوراً وحوانيت. أزهرت في أزهرت في أربعة قرون واستصفيت في أربعة، استصفاها من ارتكبوا العار في الاستيلاء عليها من دون حرج، عملوا هذا وهم متنمسون بالدين يصلون ويصومون، ويقال عنهم: إنهم المسلمون، وربما كان على أبدان بعضهم شعار العلماء وما هم في الواقع إلا من أهل الرسم لا من أهل العلم، وقد يكون أقرب الناس إلى مخالفة الشرع القائمون عليه. ترى هل تلام الحكومات على هذا العبث بالمدارس وانتهاك حرمتها أم تلام الأمة؟ لاشك أن الحكومات ينالها قسط كبير من الملامة لأنها هيأت سبل السرقات، وربما كانت مشتركة بالسرقة أحياناً، ولكن اللوم كل اللوم

على الجماعة والمدارس مدارسهم والدين دينهم. ومنذ عبث العابثون بالمدارس، وسرق السارقون عينها ومغلها، تراجعت دروس الدين وتراجعت معها دروس العلوم الأخرى ففشا الجهل المطبق في الأمة، وكادت تعود سيرتها الأولى من الجاهلية الجهلاء، وأصبح من وسموا بالعلم إذا سئلوا أفتوا بغير علم، وجوزوا ما حرمه الشرع وحرموا ما جوزه، ومن مساويهم أكل أموال الأقاف واستصفاء أعيانها، ومعدهم تهضم خصوصاً المساجد والمدارس. أضاع الخلف ما أبقاه السلف معموراً زهراً من المدارس التي كانت في العصور الغابرة غاية ما وصل إليه العقل البشري ظرفاً ومظروفاً، وبها أثبت أجدادنا أنهم كانوا شيئاً مذكوراً في إتقان الهندسة والبناء، وأنهم على جانب من سلامة الذوق، وأنهم حراص على مجد أمتهم، وأن الأعمال العظيمة لم تقم بنفسها لو لم يفكر فيها عقول كبيرة، وما كانت تلك المدارس تعمر لو لم يدرس فيهلا نوابغ من رجال العلم والاداب، ولو لم تكن ذات قانون معقول. نعم لم نعرف سر هذه الصناعة التي مثلتها لنا هذه المدارس، ولعله يقوم في الجيل المقبل أبنائنا علماء بالآثار والبحث يكشفون سر أعمال الأجداد كما توفر علماء الآثار في أوربا مائة سنة حتى كشفوا لأممهم أسرار البيع العظمى التي قامت خلال القرون الوسطى، وعسى أن يبرهن الباحثون منا انه لم يقم في الأرض شيء من العظمة إلا كان إلى جانبه عظماء يتعهدونه ويغذونه بعقولهم، ويفضون عليه من معين قرائحهم. قلت مرة من محاضرة ألقيتها في الشهباء في ربيع سنة 1341هـ - 1923م وقابلت فيها بين مدارس حلب ودمشق: من تأمل مدارس أرباب الخير من المسلمين في الشهباء والفيحاء، وقرأ ما كتب بتأمل، وزارها المرة بعد المرة على تغير معالمها، وتشويه طرأ على محاسنها، وفساد عرا أذواق الأبناء والأحفاد، إذا قيس إلى سلامة ذوق الأجداد، وجعل نسبة بين عدد ما عمر منها وما بقي في البلدتين الشقيقتين يؤكد معنا أن الفساد استحوذ عليها في دمشق أكثر من حلب، وأن من تجردوا من الوجدان فاستحلوا استصفاء تلك المدارس كانوا في الفيحاء اكثر من أمثالهم في الشهباء، ولذلك كان عدد الباقي في حلب اكثر وأجود من المدارس في دمشق.

ولا ينكر أن مادة البناء قد تختلف في بلد عن آخر. وقد كان الاعتماد في تلك القرون على الحجر الصلد، وفي دمشق عدة مقالع جميلة منوعة منه كما في حلب، ولم يكثر الآجر والطوب والخشب إلا في القرون الحديثة، ولذلك لم تخرب المدارس الدمشقية لعدم متانة في بنائها، فإن المثلة الظاهرة منها إلى اليوم لا تجعلها تختلف في شيء عن مدارس حلب. ولكن القائمين على هذه المدارس في هذه المدينة كانوا يعتدلون في العبث بها، ومتانة الأخلاق من جملة ما امتاز به الحلبيون، يضاف إليها حب الاحتفاظ بتراث الأجداد على صورة كانت ظاهرة في قرون الارتقاء، كامنة في عصور الشقاء والرجوع إلى الوراء. والناظر إلى مدارس دمشق وحلب وهي لا تقل عن ثلاثمائة مدرسة، منها زهاء مائتين في دمشق يدرك أنها من عمل السلاطين والعمال وقليل من التجار وأهل الخير. وكان منهم من يتوخى منها أن تكون توليتها لبنية من بعده ليعيشوا منها إذا صودرت أملاكهم. بنى قليل من التجار المدارس لأن الشعب كان يفنى في أغلب العصور في كبرائه، فلم يكن شأن في مظاهر النعمة والغبطة مدة قرون لغير أرباب الدولة أو من كان يعد في جملتهم، وكان الناس يحاذرون أن تنشأ لهم شهرة في الثروة، والثروة تتجلى في الدار والفرش والدابة واللباس، وفي بذل المال فقامة دور العلم وإيواء اليتامى والمحاويج، فكانوا يتظاهرون بالفقر لينجوا من مخالب العمال. وقل أن رأينا جماعة اتفقوا على إقامة عمل من هذا القبيل يفتخر به اللهم إلا قليلاً من المساجد، ولو فعلوا لأمنت أعمال الجماعات من اعتداء المعتدين اكثر من عمل الأفراد، ولما استصفت واستحل هدمها، ولا غير خططها ومعالمها من لا يخافون الله ولا عبادة، ولجاءت ممثلة للعظمة الحقيقية في الأمة، على نحو ما قامت البيع والأديار والمدارس في الغرب، بإرشاد رجال الدين من كرادلة وأساقفة وقساوسة، فكانوا يجمعون قليلاً من صدقات الملوك والأغنياء والفرسان والشعب، فيجيء مجموعها عظيماً يدار بأيدي هيأة منظمة على كل حال، ويختطون خطة لا يخرج عنها الخلف إلا قليلاً، للثر القديم من الموقع في النفس مال ليس للثر الحديث، فإن الأول

يذكر بأمور كثيرة، يذكر بمجد السلف وأياديهم البيضاء وإرادتهم الصحيحة، يذكرنا بأن فلاناً الذي تحترمه الأمة بنى ذاك المصنع وتلك الدار، وأن فلاناً العالم درس هناك أو كان يألف المكان الفلاني، وكم من أثر تاريخي أو مصنع من مصانعنا نمر به دون أن نحفل بما فيه من عبر، ولو كنا على شيء من مدينة أجدادنا ما زهدنا هذا الزهد البشع في تراثهم، ولو اقتبسنا المدينة الحديثة بمحاسنها ومساوئها لرأيتنا أسرع إلى التقاط آثار الجدود والاحتفاظ بها من الماء إلى الحدود. لا تستطيع أمة أن تقطع الصلة بينها وبين ماضيها، خصوصاً إذا كانت ذات غابر عظيم كغابر الأمة العربية، قام على أساس متين، وتقاليد جميلة، ومقدسات متسلسلة، أما ونحن لا نرقى بدون القديم والأخذ من نافع الحديث، فواجب العقلاء أن يفكروا في أقرب الطرف إلى هذه الغاية، وهذا لا يتم بغير إحياء دور العلم ومعاهد الفضل، وإحياؤها موقوف على قليل من العناية. ليس للمدرسة الحديثة التي ننشئها اليوم تلك النضارة، ولا تتجلى فيها معاني الحسن والإحسان التي نشعر بها ونكاد نلمسها في المعاهد القديمة مثل مدرسة ضيفة خاتون رحمها الله فإنك إذا رأيتها تمثلت أمامك صفحة من تاريخ هذه الأمة المجيد، تمثلت بيت بني أيوب وأفضالهم على ربوع الشام، وكفى بهم وبصلاح الدين حسنة عقم الدهر أن يلد مثلها. كثير من المصانع بناها الملوك بالسخرة وإرهاق الرعية، وإعانات الأسرى والمعتقلين، ولم نقرأ في التاريخ أن أحدا من آل البيت الصلاحي عمر مدرسة أو جامعاً أو مستشفى أو رباطاً من مال مشبوه، أو سخرة ممقوتة، فأكرم وأنعم كل فرد أصيلاً كان في هذا البيت الشريف أو دخيلاً عليه. . . . عمر أهل الخيرات من سلف هذه الأمة هذا القدر العظيم الذي نعجب به من معاهد التعليم الديني دع المساجد والجوامع، ولو كتب البقاء لبعضها لأغنت القوم بعض الشيء بمعارفها ونشرت النور بينهم. وكانت المدارس والجوامع في تلك القرون المظلمة في الغرب المستنيرة في هذا الشرق هي المتكلفة بتعليم الناس وإخراجهم من الأمية، وكان لمعظم المدارس والجوامع مرتبطة بها وخارجة عنها لتعليم الأطفال تؤهلهم لتلقي دروس

المدارس والجوامع، ولا نغالي إذا قلنا: إن عدد الأميين كان في تلك العصور أقل مما هو الآن في هذه الديار. ولو اطرد العمل اطراده في مدارس الغرب مثلاً لأصبحنا في هذا القرن والأميون أقل مما هم في مماليك المدينة الحديثة. ولكن الجهل قضى على تلك المدارس وأكل المتولون أوقافها فخربت وتغيرت معالمها. وكم من وقف يستمتع به النظار عليه يصرفون ما وقف على الخير في سبيل شهواتهم بدون محاسب من ذممهم ولا رقيب من أصحاب السلطان. ولو كتب لهم أن يأكلوا منها بالمعروف ويصرفوا حقوق تلك المعاهد أو بعض مغلها على رمها وإجراء الرزق على ساكنيها والدارسين فيها لأتت بثمرات جنية، ولما أكلوا في بطونهم النار، وركبوا متن العار والشنار، وكم من بيت كان موسوماً في القديم بالعلم والتقى فخلف من بعد السلف خلف عبثوا بالحرمات فاستحلوا أموال المدارس والمعابد فدثر البيت وانقرضت الأسرة وذهبوا وما يملكون جملة. لم يرحموا لأنهم لم يرحموا. ضبطت الحكومة السابقة أكثر أوقاف الملوك والسلاطين وكان ريعها كثيراً جداً في هذه الديار، فلم تصرفها فيما خصصت له ولم تنجح في الغاية التي توختها منها، واستقل بعض أرباب النفوذ بالأوقاف التي ائتمنوا عليها أو انتهت إليهم بحكم الوارثة فأساءوا الاستعمال إلا من عصم الله. فالسبب إذاً في خراب مدارسنا الجميلة سوء إدارة الحكومات السالفة وعبث المتولين عليها وإخراجها عما وضعت له من عمل الخير بصنع أولئك الذين يعدون أنفسهم في جملة هذا المجتمع وهم أعدى عداته اه.

دور الآثار

دور الآثار المتاحف والعرب: المتاحف العامة على الصورة التي نراها في الغرب لعهدنا ليست مما عهد في هذا الشرق. فإن أثينا منذ الزمن الأطول كان لها متحف دعته رواق الصور. وعرضت رومية أجمل ما أخذته من الصور من أثينا. ولم يكن حتى في القرون الوسطى في أوربا متاحف. وكانت بدائع الصنائع البشرية تحفظ في دور الملوك وفي قاعات البيع والأديار. حتى إذا كانت القرون الحديثة ونشأ كبار المصورين في إيطاليا وغيرها كثرت المتاحف التي تعرض فيها التصاوير العجيبة ومبدعات القول والأنامل، بحيث كاد أن يكون لكل مدينة معرض منها. وأخذت تخص تغص بما يهديها إياه الكبراء والملوك، ولما كثر الإخصاء عم المتاحف أيضاً. فصار للأمم العظمى متحف لغرائب الصناعة في النقش، وآخر في الرسم، وغيرها في أدوات الحرب، وآخر في أدوات الزينة، وغيره في أدوات الموسيقى إلى غير ذلك. ولا نعلم أن كانت للعرب متاحف أيام مدنيتهم على الصورة التي هي اليوم في كل بلد تذوق الحضارة، بل كانت متاحفهم في جوامعهم وقصورهم التي اختاروا لنقشها وتزويقها أمهر صناع أيامهم على نحو ما كان في جامع بني أمية في دمشق، والأقصى في القدس، وبعض جوامع بغداد والقاهرة، وفي الحمراء والزهراء في الاندلس، وفي قصور الخلفاء ببغداد وقصورهم في الأندلس وقصور الفاطميين في القاهرة. وكانت دور العظماء في الشرق كما كانت في الغرب تتنافس في بدائع الصناعة وتجعلها بحيث يراها من يختلفون

إلى قصورهم، ولا تزال البيوت القديمة إلى اليوم في الشام تفاخر بما عندها من مجموعات الصيني والقاشاني والسلاح القديم والحلي والأواني الفضية والذهبية القديمة على كثرة ما طرأ على القطر من الحوادث التي عزت فيها الحاجيات دع الرغبة في الكماليات. وكان اقتناء هذه البدائع في هذه الديار من دلائل الظرف وآيات التعيين والرياسة، كما كان اقتناء الكتب في قرطبة بل في حلب ودمشق إلى عهد قريب. كان الفاتحون يغنمون في جملة ما يغنمون الطرائف البديعة وأدوات الزينة والتحف. هكذا فعل تيمور فحمل معه من دمشق صناع هذه البدائع وما أبدعوه، وهكذا فعل سليم العثماني فاتح مصر فنهب منها أجمل آثارها التي استطاع حملها وزين بها قصره وقصور جماعته في القسطنطينية. وذكر المؤرخون أن بعض ملوك الأندلس من العرب كانوا يعرضون في قصورهم التماثيل الجميلة من غير نكير، وفيها صور الآدميين وغيرهم. وكان أهل أوربا زمن الحرب الصليبية وبعدها يتنافسون فيما يجلبونه من الأقمشة والبسط وأدوات الزينة من الشام، ولما جاء القرن الأخير أخذوا ينقلون إلى متاحفهم ما أبقته صنع الأيدي من أهل المدنيات القديمة من تماثيل ونصب وأحجار زبر عليها رقم، وفي بعض متاحف أوربا ولا سيما في متحف اللوفر في باريس والمتحف البريطاني في لندا ومتحف برلين ومتاحف إيطاليا وغيرها كثير مما عثر عليه الباحثون العادات الحجرية في اليمن والشام ومصر ولا سيما من الديار الشامية. وقد أخذت عادياتنا تسافر من أرضنا منذ اخذ علماء الآثار يبحثون في سهولها وجبالها، وما كتبه كثير من علماء المشرقيات والعادات في القرن التاسع عشر دليل يؤيد ذلك، وقد نشروا أبحاثهم في كتب خاصة ومقالات لهم في المجلات الأثرية والعادية والعلمية. أما نحن سكان هذه الديار فلم تكن لنا عناية بهذا الشأن بل قل جداً من اهتدى إلى الاحتفاظ بما خبأته الأيام في بطون هذا الصقع. وكنا أزهد الناس فيها حتى نقلت آثارنا ونفسائسنا أمام أعيننا كما نقلت مخطوطاتنا ونحن ضاحكون مستبشرون، وانتفع بها القوم هناك وأكملوا بها تاريخ المدينة، ولما وقع الانتباه في الحكومة العثمانية أخذت تمانع بعض الشيء في نقل هذه التحف

والطرق، ونقلت بعض ما عثر عليه من المصانع في خرائب صيدا وتدمر وغيرها فزينت بها متحف الآستانة. وقد ندب بعض علماء الآثار من الإنكليز وحفروا بطرق عجيبة مغارة الصخرة في المسجد الأقصى فذهب ما فيها ولم يعلم عنه شيء. وكم من بعثة أثرية قامت بحفريات وأخذت ما عثرت عليه ولم تأخذ الدولة العثمانية حقها منه ولسان حال الباحثين ما ورد في الأمثال العربية لا يحزنك دم ضيعه أهله. وقد طلب منها في مؤتمر الصلح باريس إعادة ما أخذته هي وألمانيا خلال الحرب العامة من هذه الديار من الآثار. وفي ذلك برهان على مكانه العاديات في نظر الغربيين. ولقد كنا نزين للحكومة التركية منذ ست وأربعين سنة أن تنشئ لدمشق متحفاً صغيراً تجعل فيه العاديات وبدائع الصنائع، فكان عمالها يتشاغلون عن ذلك لأنهم يحبون أن يكون كل فضل في الاستانة، وأن تكون سائر الولايات قرى ومزارع للاستعمار على طريقتهم، حتى إذا نادت سورية بالحكومة العربية صحت عزيمة هذه على إنشاء متحف فاتخذت له سنة 1337هـ - 1919م دار المدرسة العادلية من أجمل قصور الفيحاء، وأخذت تجمع بعناية المجمع العلمي ما بقي من الآثار النفسية. فهو أول متحف عربي في هذه الديار، سار القائمون به على قدم الغربيين في نظامه، ثم بني له بناء خاص في غربي المدينة في المرج الأخضر واغتنى في أسرع مدة غنى يغبط عليه بما اكتشف المنقبون عن العاديات من علماء الغرب. حياة المتحف العربي بمعاضدة الأمة له. ولم يقصر بعض من لديهم مثل هذه التحف والطرف في إهدائها لتجعل في دار آثار الأمة عنوان ارتقائها ونموذجاً على معرفتها بتاريخها. لا جرم أن هذا المتحف هو البذرة الأولى التي ألقيت في هذه التربة المخصبة المهيأة لأنواع النماء والإثراء يستفيد منه أهل الأجيال الخالفة ما يعني غناءه في تربية عقولهم وعيونهم وأناملهم ويعتبرون بماضي الصناعة عند الأقدمين، وما كان لأجدادنا من الأيادي البيضاء في الفنون الجميلة بين المحدثين.

نشأة علم الآثار:

- نشأة علم الآثار: عنيت الأمم منذ القديم بالفنون الجميلة، وكان حظ كل أمة من هذا الشأن بحسب رقيها وحضارتها. كان الأفراد يجمعون الآثار ويتنافسون باقتنائها لا لغاية علمية بل للزينة والتفاخر. ودام هذا حالهم حتى سنة 1764م لما ظهر متاب تاريخ الفن عند الأقدمين لمؤلفه وانكمان الألماني، وهو أول من وضع أسس هذا العلم الحديث. إن علم الآثار القديمة فرع من فروع التاريخ، ومن أصعبها مراساً، إذ يحتاج صاحبه إلى قوة انتباه وذوق سليم. فإن هذا العلم لا يقتصر فيه فقط على جمع الآثار القديمة في المتاحف ووصفها، بل يتطلب حل رموزها وفهم كنهها، واستجواب تلك الشهود الصامتة، واستنتاج الحقائق منها. ولقد أصبح النظر في أبحاث علماء الآثار وتحقيقاتهم محتماً على كل مؤرخ ومحقق، ويستنير بها كل لغوي ومفسر. وكم معضلة تاريخية ولغوية حسمت بفضل هذا العلم. وهاهي كلمة فرعون التي لا يجهل اليوم الأحداث معناها، ذهب المتقدمون من علماء اللغة في تفسيرها مذاهب حتى قام علماء الآثار فأظهروا وثائق تثبت أنها لقب كل من ملك مصر. وكم من حوادث جاءت في كتب السلف وفي الكتب المنزلة فذهب الناس في تأويلها، وشك بعضهم في صحتها، ولولا علم الآثار الذي أماط عنها اللئام، وأظهرها للعيان ملموسة محسوسة، لقالوا: إنها أساطير الأولين. أليست جهود الذين اكتشفوا آثار آشور والكلدان ومصر وفارس ويونان وبعثوا ذكرها بعد أن كانت نسياً منسياً ألوفاً من السنين، شاهداً عدلاً على أخبار تلك المماليك. لم يدون الأقدمون غير النزر اليسير الذي وصلهم من أخبار الشعوب القديمة، وأغفلوا ذكر أكثر الأمم البائدة التي ذهبت أخبارها بزوال أصحابها، ولو اكتفينا بهذه النصوص المشبوهة لما كنا أوفر حظاً ممن تقدمنا بمعرفة أخبار السلف، وبفضل هذا العلم نعرف اليوم أخبار أكثر هذه الأمم، كما نعرف حوادث الأمم في القرون الوسطى، وقد توصلوا لمعرفة ما كان عليه الإنسان

البعثات الأثرية الغربية:

قبل عشرات الألوف من السنين، يوم كان يأوي إلى الكهوف، ويقتات بالنبات، ويفترس الوحوش، مع أننا نجعل ونحن في القرن العشرين كثيراً من عقائد بعض الشعوب الضاربة في مجاهل إفريقية وهي معاصرة لنا. ومن الإنصاف أن لا ننكر فضل من نقلوا إلينا أخبار القدماء لأن هذا الشيء اليسير هو الذي أثار في فئة من الناس حب الاستطلاع، وكانت هذه النصوص نوراً يستضاء به، ومراجعاً يستأنس به. وعلماء الآثار أصدق الناس في هذه الروايات، وهم وإن لم ينكروا وقوعها فلا يجزمون بصحتها إلا متى عثروا على دليل من ذلك العصر يؤيدها. ولأبحاث علماء الآثار ميزة جديرة بالاعتبار فإنها تكون في أكثر الأحايين منزهة عن الأغراض والغايات النفسانية. وقد يخطئ الأثري في استنتاجة، ولكنه لا يعتمد تشويه الحقائق، لأن همه الوحيد أن يحيي هذا الماضي البعيد، ويصبح ومعاصروه كأنهم يعيشون في ذاك العصر وذاك المحيط. ومن منا لا يشعر بمثل هذا الشعور عندما يزور متحفاً أو معبداً أو أطلالاً قديمة. وكيف يمكنه أن ينكر الحقيقة ولسان حال هاته الأمم البائدة يقول: إن آثارنا تدل علينا ... فانظروا بعدنا إلى الآثار لقي هذا العلم الحديث إقبالاً عظيماً في الغرب فعنيت حكوماتها به، وأصدرت للمشتغلين به أموالاً طائلة، وأنشأت له المدارس والمجامع العلمية أسوة ببقية العلوم. وقد أبدى الأثريون على قلة عددهم نشاطاً عظيماً، ووضعوا في برهة قصيرة كثيراً من المؤلفات المفيدة. وقد نال الشام قسط وافر من هذه الأبحاث، فهي أول بقعة اتجهت نحوها الأنظار وخصوصاً فلسطين، لمكانة الشعوب التي استوطنتها منذ الزمن الأول الأطول، وأهمهم الشعب الإسرائيلي، لعلاقة الأمم الغربية بكتابهم المقدس. البعثات الأثرية الغربية: أوفدت أكثر حكومات الغرب بعثات علمية للتنقيب عن آثار الشام نخص منها بالذكر البعثة الفرنسية التي رافقت حملتها في سنة 1860 والجمعية الإنكليزية للبحث عن آثار فلسطين. ثم تضاعفت الهمم فجاء من

الفرنسيين رنان والدوق دولوين ودوسلسي ودوفوكوين وكلرمون غانو ودوسو وفانزان وغيران، ومن الإنكليز روبنسون ومادن وسايس وويلسون وفارين، ومن الألمان أوتوتينيوس، ومن السويسريين ماكس فان برشيم. وأهم الأمكنة التي نقبوا فيها هي تل الحسي وتل زكريا وتل الصافي وتل الجديدة وتل الجزر وتل تعناك وتل المتسلم وعكا ويافا والقدس وصيدا وصور وجبيل وعمريت وجزيرة أرواد وبعلبك إلى عدة أصقاع في الشام الشمالية. وبينا هذه البعثات مجدة في عملها، كانت الدولة العثمانية في سبات عميق مكتفية بمراقبة هذه البعثات لاقتسام الغنيمة وإيداعها متحف الآستانة الوحيد. ولم تفكر بعمل حفريات قط، كما أنها كانت تأبى إنشاء فروع لمتحفها في الشام أو في غيرها من السلطنة العثمانية، وحجتها في ذلك أن الآثار إذا جمعت في مركز واحد، وضم بعضها إلى بعض نتجت من ذلك فوائد علمية وعملية لا ترجى من تعدد دور الآثار، وذلك أسوة بمتاحف أكثر الأمم الغربية، وعملاً برأي أكثر علماء الآثار. ولكنها تجاهلت بأن ما يصلح لأرض لها وحدة تاريخية لا يعمل به في أرض ضمت تحت لوائها شعوباً مختلفة ومدنيات متباينة كالإمبراطورية العثمانية. ولذلك كان جل اهتمام الدولة العثمانية مصروفاً إلى إنماء متحف الآستانة فأهملت أمر الآثار القديمة في ديارها، ولم تعهد إلى أناس يتعهدونها أو يراقبون سيرها، فدرس كثير من البنايات الأثرية البديعة، وأقبل الأهلون في كل ناحية ينقبون عن الآثار القديمة بغية الاتجار بها. فأصبحت هذه التجارة ذات شأن في القطر، وغصت متاحف أوربا بآثار الشام، واقتنى غواة العاديات الأجانب كثيراً منها. وبهذه الصورة وبفضل الامتيازات الأجنبية تمكنت كل من الجامعة الأميركية والكلية اليسوعية في بيروت وغيرهما من المعاهد من إنشاء متحف خاص، وجمع الدكتور فورد في صيدا، وغيره في حلب من الأجانب مجاميع مهمة من آثار الشام. ولم يعرف من الشاميين من اشتهر بجمع الآثار، القديمة وكانوا لا يعبئون بها، ولا يقيمون لها وزناً. ومن كان منهم يملك طرفةً أو أثراً يتنازل عنها مقابل دريهمات معدودة، حتى تجردت أكثر البيوت والأسر من نفائسها.

آثارنا وآثار جيراننا:

آثارنا وآثار جيراننا: ولقد تبين من الحفريات التي أجريت في الشام ومن الآثار التي اكتشفت فيها أن آثارها تختلف كثيراً عما وجد من نوعها في الأقطار المجاورة، ولا يرجى أن نعثر في هذه الديار على آثار تثير بجسامتها إعجاب العامة قبل الخاصة، كما هو شأن آثار مصر وآشور وفارس. والسذاجة في الصناعات تغلب على الشاميين منذ القديم، وهذا ناشئ عن طبائعهم ومعتقداتهم. فالشامي في جميع أدواره التاريخية يميل إلى الساذج، وهذا يظهر في صناعته وفلسفته الدينية، وتتجلى في هذه البساطة مواهبه الفنية، جمع بين الساذج والجميل فأحسن الصنع وأبدع. وتقل الآثار المنقولة النفيسة التي اكتشفت في الشام بالنسبة لما وجد في غيرها من الأقطار، وهذا القليل يشهد ببراعة الصانع الشامي وذوقه السليم، حاز بهما مكانة بين أقرانه من فناني بقية الشعوب. وليس معنى قلة العاديات عدم انتشارها في القطر، بل لأنها لم تصل إلينا لأسباب وعوامل شتى. ذلك أن تربة الشام رطبة لا تحفظ ما يودع فيها. وأن الشاميين قلما يجعلون في مدافن موتاهم نفائسهم، كما هو شأن المصريين وغيرهم من الأمم القديمة. بل يكتفون بالأشياء الساذجة المنوعة. فإذا أضفنا إلى خلو القبور من الأعلاق، وما قد كتبه اشمو نزار ملك صيدا على تابوته مخاطباً به نابشي القبور، ناصحاً لهم أن لا يهتكوا حرمته، مؤكداً أن لا ذهب ولا فضة في قبره ندرك من هذا سر ندرتها بين أيدينا. فإذا كان هذا حال ملوكهم فما بالك بالرعية. وخلو القبور منها هو حجة للشام لا عليها، ودليل على سمو عقيدة سكانها، ونضج فكرتهم منذ القديم، لأن الشامي كبقية الشعوب السامية يغلب عليه الاعتقاد بأن الجسم مادة تتلاشى مع الزمن ليست جديرة بالإكرام الذي يبالغ به غيرهم من الشعوب. ومع هذا فقد انتشرت في الشام عادة وضع بعض الأشياء في القبور وذلك بمؤثرات خارجية واقتباس عادات الغالب، والشام في أكثر أدوار تاريخها خضعت لسلطان أجنبي. الشام معهد ثلاث ديانات يدين بها اليوم معظم البشر. وهذه الديانات

تأسيس دور الآثار:

لم تكن ابنة ساعتها، بل هنالك عوامل مهدت لها السبيل مدة قرون عديدة قبل ظهورها. ولذلك يهم كلاً منا معرفة تطورها. وهذا ما يزيد في مكانة آثار الشام ويجعل إقبال العلماء عليها أكثر من سواها لعلاقتها الكبيرة بنظامنا الاجتماعي الحاضر. وقد أدركت جمعية الأمم هذا الأمر واحتاطت له خوفاً من المزاحمة واستئثار دولة بهذه الآثار دون سواها، فاشترطت في المادة 14 من صك الانتداب أن القانون الذي سيسن لحماية العاديات يجب أن يستمد روحه مما يدعو إلى التنشيط أكثر منه إلى التثبيط، كما أنها اشترطت على الحكومة المنتدبة عند منحها إجازات بالحفر أن لا تتصرف بشكل يرمي إلى حرمان علماء أي شعب كان تلك الإجازات دون أسباب موجبة، وهكذا أصبح الباب مفتحاً لجميع الأمم. تأسيس دور الآثار: وقد تضاعف نشاط البعثات الأثرية الأجنبية عقب الهدنة في سنة 1918، وأظهرت قيادة جيوش الحلفاء في الشرق عناية كبرى بالآثار، وعهدت للأخصائيين في جيوشها بدرس آثار الشام ورفع التقارير عنها، وشددت النكير على العابثين بها. ومن جملة مقررات المؤتمر الفرنسي الذي عقد في مرسيليا سنة 1919 للبحث بشؤون الشام العامة اقتراح على الحكومة الفرنسية بإنشاء ديوان للآثار القديمة، والتشبث باسترجاع ما أخذته الحكومة العثمانية من آثار الشام، وقد حققت المفوضية الفرنسية في الشام الاقتراح الأول، فأنشأت لها ديواناً للآثار القديمة، وحذت المفوضية الإنكليزية حذوها في فلسطين وشرق الأردن. ولم تكن الشام في عهد الملك فيصل أقل عناية من تينك الدولتين. فقد اغتنم هذه الفرصة بعض المفكرين وفي مقدمتهم الأستاذ مؤلف خطط الشام فاقترحوا على الملك إنشاء متحف في دمشق، فقوبل هذا الاقتراح بارتياح عظيم. وما لبث الملك أن أصدر أمره بذلك إلى الأستاذ بأمر تحقيقه على أن يكون فرعاً للمجمع العلمي العربي الذي أسسه الرئيس أيضاً. وأنشأت الحكومة السورية متحفاً آخر في حلب، وأنشأت حكومات لبنان وجبل الدروز والعلويين

متحف دمشق:

متاحف في بيروت والسويداء وطرطوس، وكذلك أنشأت كل من حكومتي فلسطين والشرق العربي متحفاً جعلته الأولى في القدس والثانية في عمان، وجميع هذه المتاحف نمت بسرعة عظيمة بفضل ما اشترته واستهدته من الآثار، وما نالها مما اكتشفته البعثات الأثرية في مناطقها فأصبحت الشام بتشجيع الحكومات المحلية والسلطات المنتدبة ساحة عمل دولي كبير. وقامت البعثات الفرنسية بالبحث عن الآثار في صيدا وأم العواميد وكفر الجرة وبيروت وجبيل والقرية ولبيا في منطقة الحكومة اللبنانية، وفي السويداء وقنوات الشهباء، وفي تل النبي مند قدش القديمة وفي المشرفة قطنا القديمة والنيرب وأرسلان طاش والقصر الأحمر، وقامت بعثتان مختلطتان بأعمال التنقيب في قلعة الصالحية دوراسا أو روبوس القديمة على شاطئ الفرات، وفي مدينة تدمر. وتحرت البعثة التشكوسلوفاكية آثار الشيخ سعد وتل أرفاد، ونقبت بعثة ألمانية في رأس العين شمالي الشام. وحصرت البعثات الإنكليزية والأميركية أعمالها في منطقة فلسطين والشرق العربي، فنقبوا عن الآثار في تل مجدو القديمة وبيسان وسبسطية سمرة القديمة وسيشم وبيت جبرين والقدس والتابغة وجرش. متحف دمشق: تختلف مجموعة دار الآثار في دمشق عن مجاميع متحف الشام للعناية التي بذلتها بآثار القطر الشامي على اختلاف أدواره التاريخية وخاصة العهد الإسلامي. وحري بدمشق عاصمة الأمويين، ومهد الحضارة العربية، أن يكون لها متحف يحيي ذكرى هذا الماضي المجيد. ورغم ندرة العاديات الإسلامية المنقولة في ربوع الشام وأسعارها الباهظة، تمكنت دار الآثار من جمع أعلاق قيمة. منها مجموعة نقود إسلامية، ومجموعة خزف عربي، ومجموعة مصاحف مخطوطة ومذهبة. ومجموعة خشبية أخص بالذكر منها جانباً من سدة جامع من خشب الحور الرومي آية في جمال الصنع وحسن الذوق، مزينة بنقوش عربية بديعة، وكتابات قرآنية كوفية مزهرة متناسقة جميلة جداً، وقد كتبت في أعلاها هذه الفقرة: بن محمد بن الحسين بن

متاحف بيروت والسويداء وحلب وطرطوس والقدس

علي صفي أمير المؤمنين تقبل الله منه وذلك في شهور سنة سبع وتسعين وأربعمائة وتابوت مزين مجموع يشكل حشوات صغيرة منقوشة نقشاً بديعاً وقد كتب على كل جوانبههذا ضريح الست الجليلة الكبيرة المعظمة الملكة فخر الخواتين عصمة الدنيا والدين، بختي خاتون ابنة السلطان الملك معز الدين قيصر شاه ابن السلطان السعيد الشهيد ملك ملوك الروم والأرمن قليج أرسلان قدس الله روحه ونور ضريحه، وذلك في مستهل ربيع الأول سنة ثمان وأربعين وستمائة وبين مجموع الكتابات الحجرية لوحتان سلجوقيتان كتب عليهما تاريخ ترميم جانب من جامع بني أمية في شهور سنة 475 وأخرى أيوبية تاريخها سنة 575 ومجموعة وافرة من شواهد قبور أمراء الشام وعلمائها في القرن السابع والثامن هـ. ومما يلفت النظر جرة من رخام أبيض، وعلى القسم الأسفل منها نقوش عربية وعهدها من القرن الثامن للهجرة. وأخرى من الفخار عليها نقوش أشخاص وحيوانات وطيور وزهور محكمة الصنع وكتب في وسطها هذه العبارة عز وإقبال وسلامة وسعادة وكرم وغبطة ورفعة، وهذه الجرة فريدة في بابها وهي من صنع العراق في القرن الثالث عشر م. ومن أهم الآثار غير الإسلامية مجموعة زجاجية وهي أجمل مجموعات العالم، ومجموعة مهمة من الآثار التدمرية وهناك رأس تمثال أحد عظماء الحثيين يرجع عهده للألف الثانية قيل الميلاد. ونصب الفرعون سيتي الأول وعليه ذكر انتصاره على الحثيين، وطائفة من الآثار الرومانية واليونانية. متاحف بيروت والسويداء وحلب وطرطوس والقدس وعمان: وجمع في متحف بيروت كثير من الآثار الفنييقية وغيرها الأواني والحلي التي عثر عليها في مدافن جبيل وفي أقبية معبدها. ويرجع عهد بعضها إلى الألف الثالثة وبعضها إلى 1800 سنة قبل الميلاد منها ناووس الملك أحيرام المتوفى في القرن الثالث عشر قبل الميلاد. وقد نقشت على جوانبه صورة الملك يتناول القرابين من أتباعه وبعض الشعائر الدينية، وهو قائم على أربعة

أسود. ومما يزيد في شأن هذا الأثر الكتابة الفينيقية التي زبرت عليه وهي أقدم كتابة عرفت من نوعها حتى اليوم وهذه ترجمتهاعمل هذا الأران التابوت أفسبعل بن احرام ملك جبيل لأبيه كي يكون مقره الأبدي، فإذا نصب ملك من الملوك أو حاكم من الحكام العداء لجبيل وإخراج هذا التابوت من تحت التبليط فيكون خاتون خصمه فيدك عرش ملكه ويعم الخراب جبيل إذا محا هذه الكتابة. . . . . . وبين هذه الآثار آنية خرافية تقش عليها اسم الفرعون امنمعحت الثالث 1850 - 1800 قبل المسيح. وآنيتان عليهما اسم امنمعحت الرابع وآنية من الرخام جميلة الصنع مع غطائها، وكتب عليها بالهيروغليفية ما يأتي: خدام الإله ابن الشمس فليعش امنمعحت إلى الأبد وصندوق صغير للحلي من حجر كريم أسود محلى بالذهب وشكله على طراز الناووس وعلى الغطاء كتابه هيروغليفية هذه ترجمتها: فليعش الإله بون سيد الأرضين ملك مصر البحرية والقبلية مع خرون راع المحبوب راع المحبوب من ثوم سيد هيليوبوليس الممنوحة له الحياة الأبدية. وجمع في هذا المتحف مقدار كبير من الفخار أهمه الأواني التي عثر عليها في كفر الجرة ويرجع تاريخ صنعها إلى الألف الثاني قبل الميلاد. ولآثار جبيل مكانة تاريخية عظيمة وهي من أهم ما عثر عليه حتى الآن في الشام. وكان في متحف السويداء مجموعة حجرية نفسية أكثرها من العهد اليوناني والروماني ضاع معظمها مع السف إبان الثورة السورية. ومتحف طرطوس حديث العهد ليس فيه إلا مجموعة صغيرة ليست ذات شأن كبير. وأما متحف حلب فلم يخصص له مكان بعد، ولكن مجاميعه جاهرة ستحفظ فيه متى هيئ لها المكان. وأكثر هذه الآثار حثية وآشورية من التي استخرجت في حفريات أرسلان طاش وتل الأحمر وتل أرفاد والنيرب. وفي متحف القدس خزفية مجاميع ومعدنية تبين تطور نهضة فلسطين والأدوار التي مرت عليها في أهم عصورها التاريخية، كما أنه يحتوي على عدد من النواويس من العهد اليوناني وأجملها مما نقش عليه صورة معركة بين اليونان والنساء المترجلات أمازون وطائفة آثار من الحجر البركاني من عهد الفرعون سيتي الأول ورعمسيس الثالث التي وجدت في

بيسان. وقد حفظت قطع الجمجمية التي وجدت في التابغة ويرجع عهدها إلى ما قبل التاريخ. وأما مجموعة متحف عمان فأكثرها مما يرجع تاريخه إلى العهد الروماني والبيزنطي. وبعد فقد عرفنا بما تقدم مقدار العناية التي بذلتها البعثات الأجنبية بآثار الشام غير الإسلامية وإعراضهم عن هذه الأخيرة. لا جرم أن معظم الآثار الإسلامية في القطر محفوظة في الجوامع والمساجد والمدارس تحت إشراف ديوان الأوقاف. ولذلك يتحاشى ما أمكن أن يثيروا عواطف عوام المسلمين حتى إن السلطات المنتدبة تركت لدوائر الأوقاف حرية التصرف بهذه الأماكن المقدسة. وقد اكتفت بأن تسدي إليها من حين إلى آخر النصائح لبذل العناية بهذه الآثار. لكن أكثر هذه الدوائر في شغل شاغل عنها. فكل يوم نسمع بضياع اثر أو تشويهه لا عن قصد منهم بل لأنهم لا يقدرون قيمة ما هو تحت أيديهم، حتى أصبحت أكثر هذه الأمكنة الأثرية في حالة يخشى عليها من الاندراس، وبذلك يفقد القطر هذه المفاخر التي تشهد بمدينة السلف العظيمة في أزهى العصور الشامية. فعسى أن تحذو الشام حذو شقيقتها مصر وتؤلف لجنة للآثار الإسلامية تعنى بجمعها وتتفقد شؤون البنية منها. وقد أنشأت الجمهورية الفرنسية في دمشق معهداً فرنسياً لدرس الآثار وخاصة منها الإسلامية على منوال المعهد الفرنسي في القاهرة. وقد سبق للبعثات الأجنبية أن أسست في القدس معاهد لدرس الآثار مثل المدرسة الأثرية الفرنسية، والمدرسة الأثرية الإنكليزية، والمدرسة الأميركية للأبحاث الشرقية، ولهذه المعاهد فضل كبير بكشف غوامض تاريخ الشام القديم. لم تدع السلطتان الفرنسية والإنكليزية في منطقتي سورية وفلسطين باباً إلا وطرقتاه لنشر الدعاية في الممالك الأجنبية عن آثار الشام ومكانتها. وقد تجلى ذلك في دعوتهم لمؤتمر الآثار الدولي الذي عقد في سورية وفلسطين في شهر نيسان سنة 1926 فكانت نتائجه مرضية. وبفضل هذه الدعاية نرى عدد السياح بازدياد في كل سنة. ولا شك أن الشام إذا صرفت العناية بفنادقها وطرق مواصلاتها تصبح مقصد السياح من أهل الأرض، وتجني من ذلك فوائد مادية وأدبية لا تقدر.

دور الكتب

دور الكتب نشأة الكتب: عرفنا من سير القدماء أنهم كانوا يقيدون علومهم ومآثرهم وتواريخهم وأيامهم في صنوف من المواد، تكون على مقربة منهم، وتكثر في أرضهم وديارهم. فالبابليون كتبوا كتبهم على الآجر أي بالطين المشوي، وكتب الهنود على النحاس والحجارة والحرير الأبيض والطومان المصري، والعرب عمدوا إلى أكتاف الإبل واللخاف، أي الحجارة البيض والرقاق وعسب النخل. وبقي الأمر على ذلك حتى شاع الورق المعمور من الكتان في خراسان وسمرقند وبغداد ودمشق، منذ القرن للهجرة على ما يظهر. ولما شاع الورق قضي على الرق لسهولة تناول القرطاس والمهرق، وهي الصحيفة البيضاء يكتب فيها. وكان من الحرير الأبيض ما يسقى الصمغ ويصقل ثم يكتب فيه، وقد اعتمدوا عليه قبل القراطيس بالعراق، وكتب بعض أهل الغرب في صفائح من معدن رقيق. وكان أهل فرغامة في الروم أول من استنبطوا الرق، كانت له تجارة رابحة بارت بظهور الورق، وكانت الكتب في العراق تجعل في جلود دباغ النورة أي الكلس، وهي شديدة الجفاف، ثم كانت الدباغة الكوفية، تدبغ الجلود بالتمر وفيها لين ولا رائحة لها. ولما فتح الإسكندر فارس كان العلم منقوشاً مكتوباً في صخور وخشب، فأخذ حاجته منها وأحرق الباقي. ولما تولى أردشيربابك وابنه سابور على فارس والعراق جمع مل تفرق من الكتب فيهما، واستنسخ من الهند والصين والروم

كتبهم. ولما ملك بطلميوس بطولوماوس فيلادلفوس من ملوك الإسكندرية فحص عن كتب العلم فعهد إلى رجل اسمه زميرة فجمع من ذلك على ما حكي أربعة وخمسين ألف كتاب ومائة وعشرين كتاباً. وقال له: قد بقي في الدنيا شيء كثير في السند والهند وفارس وجرجان والأمان وبابل والموصل وعند الروم. وذكروا أن النعمان ملك الحيرة أمر فنسخت له أشعار العرب في الطنوج أي الكراريس فكتبت له ثم دفنها في قصره الأبيض، فلما كان المختار ابن عبيد قيل له: إن تحت القصر كنزاً فاحتفره فأخرج تلك الأسفار. قالوا: فمن ثم كان أهل الكوفة أعلم بالأشعار من أهل البصرة. وبلغ من عناية ملوك الفرس بصيانة العلوم، وحرصهم على بقائها على وجه الدهر، وإشفاقهم عليها من أحداث الجو وآفات الأرض، أن اختاروا لها من المكاتب أصبرها على الأحداث، وأبقاها على الأيام، وأبعدها عن التعفن والدروس، فكتبوا في لحاء شجر الخدنك، ولحاؤه يسمى التوز، وكانت تعمل منه القسي، وبهم اقتدى في ذلك أهل الهند والصين ومن يليهم من الأمم. ولما حصل الفرس العلوم طلبوا لها من يفاع الأرض أصحها تربة وأقلها رطوبة، وأبعدها من الزلازل والخسوف، وأعلكها طيناً، وأبقاها على الأيام بناء، يقيمون فيها خزائنهم ودور كتبهم فاختاروا مدينة جي من عمل أصفهان جعلوها في قنهندرز أي حصن، فانهارت هذه المصنعة في الإسلام فظهروا فيها أزج معقود من طين الشقيف، أي بيت مستطيل من الخرف، فوجدوا فيها كتباً كثيرة من كتب الأوائل مكتوبة كلها في لحاء التوز بالكتابة الفارسية القديمة، وقالوا: إن الفرس كانوا يودعون كتبهم في سارويه، أحد الأبنية الوثيقة القديمة المعجزة النباء، وتشبه الأهرام في الجللة وإعجاز البناء، وكانت الكتب على صفحة صفحة أي من وجه واحد. هذا ما يؤخذ من كلام ابن النديم وغيره في منشأ الكتب عند القدماء، ومع هذا لم تحفظ لغات الأقدمين لولا ما وجد منها مكتوباً على الأحجار، وكان بعض تلك اللغات اندثر في القرون الأخيرة حتى لا يحلها إنسان، مثل اللغة الهيروغليفية لغة قدماء المصريين المقدسة فعثروا في رشيد من ثغور مصر

في سنة 1826 على حجر كان مكتوباً بالهيروغليفي، وهو الخط الخاص بالآثار عند قدماء المصريين، وكان الخط المعتاد عندهم الخط الهيراطيقي يكتبون به حاجاتهم العادية وفنونهم وآدابهم. وهذا يكتب على البردي بقلم من البوص المعروف بالغاب، يغمس في مدار أسود أو أحمر ومنه أدراج طويلة قد يبلغ طول الواحدة منها ثلاثين متراً، ومنها نماذج حفظت في متاحف الغرب ومتحف مصر، وكذلك ما عثروا عليه في رسائل تل العمارنة في المنيا بمصر في سنة 1888 وقد كتبت بالآجر بالحروف المسمارية البابلية، وفيها سجلات الدولة في عهد فرعون مصر أمينوفيس الرابع أمينوفيس الثالث، وانحلت بهذه الآجرات عقد من التاريخ القديم استدل بها على علاقة الشام بمصر. ومثل ذلك يقال في الأثر النفيس الذي اكتشفها أحد أمراء روسيا في تدمر سنة 1882 وانحلت به مشاكل كثيرة من الحضارة التدمرية. وقد حل الخط التدمري بارتلمي، واكتشف دوسو في الجنوب الشرقي من النمرة في الصفا حجراً مكتوباً بالخط الآرامي وهو بالعربية، وحل لغة الصفا بيمان وهاليفي. واكتشفت في البتراء المصانع المكتوبة بالآرامية، وحل علماء الآثار اللغة الحميرية السبئية في اليمن. وحل لغة البابليين دي مورغان، ومن أهم ما عثر عليه من آثارهم مسلة عظيمة عملت بمسحوق الحجر البركاني وقد زبرت عليها شريعة حمورابي أحد أعاظم ملوك البابليين، وكان من أصل عربي كما يقول هومل. وأهم الكتابات الفينيقية التي ظهرت ما وجد مزبوراص على ناووس أحد ملوك صيدا سنة 1855، والخط الفينيقي أشبه بالخط العبراني، والخط المسند هو الذي كتبت به مصانع الفرس القدماء ومصانع أشور وبابل وأرمينية وخوزستان وما إلى ذلك من أرض العراق. ولا يزال العلماء يكتشفون الآثار والعاديات في أرض الشام، وإلى اليوم لم ينحل خط الحثيين أقدم شعوب هذه الديار، ولا يزال علماء الآثار منذ عثر بروكهار في حماة على حجر مكتوب بهذا الخط سنة 1812 متوفرين على حل هذا القلم وقد ظفروا بكثير من آثار الحثيين في هيرابوليس أوقرقميش عاصمة الحثيين وفي طرابلس

نشأة الخزائن والعناية بحفظها:

وحلب وأرفاد وحمص وغيرها. ومعنى كل هذا أنه لم يصل إلى أهل الحديث بعد تطال الأعصار من تلك اللغات القديمة إلا ما كان مزبوراً على الأحجار والآجر، ثم ما كان على الخشب والرق ثم الورق، وكانت للعرب في الكتابة على الرق والورق يد طولي نقلوا بواسطتهما ما أمكن كم علوم القدماء، وأعطوه لأهل الحضارات الحديثة بأمانة وإخلاص. فالقدماء إذاً وضعوا الكتب أيام عرفوا الكتابة، فكان لبعضهم كالفرس واليهود والهنود كتب مقدسة، وخلف الرومان واليونان تواريخ وقصائد وخطباً ومقالات فلسفية. قال سنيوبوس: وقلما نجد في الكتب المواد اللازمة لمباحثنا إذ ليس لدينا كتاب أشوري ولا فينيقي. أما ما بقي من أسفار الشعوب الأخرى فتافه جداً. وكان القدماء يكتبون ولكن أقل منا، ولذلك كانت تآليفهم أندر، ولم يكن لهم من كل مصنف غير نسخ قليلة لما أن الكال كانت تقضي باستنساخها كلها باليد، وقد دثر غالب هذه النسخ أوضاع وتعذرت قراءة ما بقي منه، ويسمى علم حلها باليوغرافيا أي علم الخطوط والكتابات القديمة. نشأة الخزائن والعناية بحفظها: عرفنا بما تقدم أننا لا نستطيع أن نحكم على العصور التي سبقت الإسلام في الشام في أمر الكتب والخزائن فإن إنطاكية نطقت بما كان فيها من علوم القدماء، وانتقلت إليها من حران والإسكندرية، ولا بيروت ولا مدرسة الفقه التي كانت فيها قبل الإسلام، أطلعتنا على ما كان فيهما من خزائن وأسفار، فإن أخبار هاتين المدينتين إنطاكية وبيروت انطمست منذ القديم كما انطمست معالمها بالزلازل المدهشة التي قضت على دور العلم فيهما، وأتت أيضاً على برمتها في العصور الأولي للإسلام، والزلازل كالحريق تتلف الكتب وتدمر دورها. ثبت أن العرب لم يدونوا في الجاهلية شيئاً من مآثرهم بالعربية، لأن الخط العربي محدث انتقل إليهم من أنبار قبيل الإسلام، ولكنهم كانوا أول من أسرع التدوين خارج جزيرتهم، ولا سيما في العراق والشام أوائل الإسلام.

ومن أهم الكتب القديمة في الشام مصحف سيدنا عثمان الذي عام ثلاثين للهجرة إلى دمشق ليكون الاعتماد عليه كما أرسل مثله إلى الأمصار الكبرى في الأقطار الأخرى. والغالب أنه نقلت عنه عدة مصاحف عدت من الأمهات منها ما جعل في طبرية، ومنها ما وضع في قنسرين. وكثرت النسخ بعد ذلك، لكن هذه المصاحف ذهبت في الحريق الذي أصيبت به الجوامع في عصور مختلفة، وكلما حرق مصحف قديم قال القوم: إنه مصحف عثمان، والأصح أن يقال المصحف المنقول عن مصحف عثمان. وحدثين الشيخ مسعود الكواكبي أنه تشرف غير مرة بزيارة مصحف كتب عليه حرره عثمان بن عفان وهو محفوظ في مكتبة جامع أياصوفيا في الآستانة. ثبت أن أول خزانة كتب في الإسلام أنشئت في دمشق أو في حلب أنشأها حكيم آل مروان خالد بن يزيد الأموي المتوفى سنة خمس وثمانين، ولم يصل إلنا من أخبارها شيء، ولا شك أنها كانت تحوي بعض العلوم التي نقلها من القبطية واليونانية والسريانية، في الكيمياء والطب والنجوم وغيرها، وربما كان فيها شيء من كتب الجغرافيا لأنه ثبت مما قاله ابن السنبدي الذي زار خزانة الكتب بالقاهرة في سنة 435هـ أنه كان فيها كرة من نحاس من عمل بطلميوس، كتب عليها حملت هذه الكرة من الأمير خالد بن يزيد ابن معاوية. وقال: إنه كان في تلك الخزانة من كتب النجوم والهندسة والفلسفة خاصة ستة آلاف وخمسمائة جزء. ولا شك أن خزانة خالد بن يزيد كان فيها أيضاً كتاب عبيد بن شرية الجرهمي الذي كان استحضره جده معاوية من صنعاء اليمن وسأله عن الأخبار المتقدمة، وملوك العرب والعجم، وسبب تبلبل الألسنة، وأمر افتراق الناس في البلدان. فأجابه إلى ما أراد، فأمر معاوية أن يدون وينسب إلى عبيد بن شرية. ولعبيد كتاب الأمثال وكتاب الملوك وأخبار الماضين. وهذا من أول التدوين في النصف من القرن الأول. ولوهب بن منبه المتوفى سنة 110 أو 14 أو 16 تصنيف ترجمه بذكر الملوك المتوجة من حمير وأخبارهم وقصصهم وقبورهم وأشعارهم، رآه ابن خلكان في القرن الثامن وقال: إنه من كتب المفيدة. وجاء القرن الثاني والشام تهتز أعصابها بانتقال الملك من بني أمية إلى

بني العباس فلم يؤثر عنها أنه كان فيها خزانة كتب، ولا عرف أحد من الخاصة بأنه كان مولعاً بجمع الأسفار، فكانت الكتب القليلة التي لهم تجهل في الجوامع أو في بعض دور الخاصة على ما كانت الحال في أكثر المدن الإسلامية. وإذا وقع التدوين في القرن الأول لم يدخل القرن الثاني حتى كثرت الكتب، وقد ورد في سيرة الزهري المتوفى سنة 124هـ أنه كان إذا جلس في بيته وضع كتبه حوله مشتغلاً بها عن كل أحد، فقالت له زوجته: والله لهذه المتب أشد عليّ من ثلاث ضرائر. وهذا دليل على تكاثر المتب حتى صارت للزهري مجموعة منها ينصرف إليها بكليته، وامرأته تريده على أن يكون لها فقط. وكل هذه الكتب لم تبق الأيام عليها. والغرب كان أمهر منا في الاحتفاظ بما دون فإن أقدم كتاب في أوربا يرد إلى القرن الثاني للمسيح. ولم يعرف قبل عهد الرشيد والمأمون أن جمعت الكتب في خزانة وسميت دار الحكمة أو بيت المعرفة. وكانت دار الحكمة أشبه بجامعة فيها دار كتب يجتمع فيها رجال يتقاضون ويطالعون وينسخون. ويدير شؤون تلك الدور من يثق الخليفة بعقلهم وأمانتهم وعملهم. كان هذا في القرن الثاني واعتوره في القرن الثالث بعض الفتور، وظل بيت الحكمة في القرنين الرابع والخامس في بغداد مفتح الأبواب. وأنشأ أحد وزراء العباسيين أبو نصر سابور بن أردشير في القرن الخامس داراً بالكرخ في بغداد سماها دار العلم، وقفها على العلماء ونقل إليها كتباً كثيرة وأنشأ الفاطميون في القاهرة دار العلم في القرن الرابع تشبهاً بالعباسيين في بغداد، أنشأها الحاكم العباسي بأمر الله سنة 400 وفرشها ونقل إليها الكتب العظيمة وأسكنها من شيوخ السنة شيخين. قال ابن قاضي شهبة: وبقي الحاكم كذلك ثلاث سنين ثم أخذ يقتل أهل العلم وأغلق دار العلم. ولم تعهد الشام دار الحكمة إلا في القرن الخامس أنشأها بنو عمار في طرابلس. وكان في كل من كفر طاب والعمرة في زمن أبي العلاء المعري خزانة كتب زارها كما زار خزانة طرابلس. وهذه الخزانة كانت قبل خزانة بني عمار بمدة خلافاً لما وهَم بعض المؤلفين المعاصرين، لأن بني عمار لم يستولوا على طرابلس إلا بعد الأربعين وأربعمائة.

وكان أبو العلاء زار طرابلس قبل هذا التاريخ أي في أواخر القرن الرابع، وانتفع بخزانتها وكتبها الموقوفة. وكانت في الشرقية التي بجامع حلب خزانة كتب مهمة اسمها خزانة الصوفية. واتفقت فتنة في بعض أيام عاشوراء بين أهل السنة والشيعة ونهبت خزانة الكتب، ولم يبق في خزانة الكتب إلا قليل. قال ابن العديم: وجدد الكتب بعد ذلك الوزير أبو النجم هبة الله بن بديع وزير الملك رضوان ثم وقف غيره كتباً أخر. وقد ذكر ابن سنان الخفاجي 466 هذه الخزانة في قصيدته اليائية التي كنبها من القسطنطينية يداعب أحد أصدقائه قال فيها: أبلغ أبا حسن السلام وقل له ... هذا الجفاءُ عداوة الشيعيةْ فلأطرفن بما صنعت مكابراً ... وأبثّ ما لاقيت منك شيكة ولأجلسنك للقضية بيننا ... في يوم عاشوراء بالشرقية حتى أثير عليك فيها فتنة ... تنسيك يوم خزانة الصوفية وقد ظلت هذه الخزانة في حلب عامرة إلى القرن السابع وهي مسبلة على المطالعة، ولم يعلم هل كانت الخزانة المهمة التي أنشأها في حلب سيف الدولة بن حمدان وجمع فيها الأمهات الجيدة عامة للناس أيضا كخزانة الصوفية أم هي خاصة به وبجماعته في قصره، وقد أشتهر عنه ولوعه بالكتب إلى الغاية. وناهيك بخزانة كان من جملة خزانها الخالديان الشاعران المشهوران. وربما ذهبت هذه الخزانة في هجمة الروم على حلب وتخريبهم قصر سيف الدولة. وقلت عناية الملوك بخزائن الكتب، لما كثرت المدارس في هذه الديار في القرن الخامس اكتفاء بخزائن كتب المدارس التي أثبتوها من حيث أنها بذلك أمس ولو تكد تخلو مدرسة من المدارس في الشام من خزانة كتب. وكان لحلب ودمشق والقدس الحظ الأوفر من ذلك، لو لم تنازعها طرابلس التي كان يراد من إنشاء دار الحكمة فيها نشر التشيع على ما يقال، وساعد عل كثرة الكتب في طرابلس ما كان فيها من معمل الورق الجيد. وقد عرفنا أن معامل الورق كانت تخرج الكاغد والقراطيس والطوامير الجيدة في طرابلس ودمشق وحلب ومنبج وطبرية وغيرها من المدن. ومن أشهر خزائن الملوك والأمراء في القرن السادس والسابع خزانة الكتب التي

وقفها بحلب نور الدين محمود بن زنكي على مدرسته وسلمت إلى محمد بن علي ابن ياسر الجياني الأندلسي، زميل ابن عساكر مؤرخ دمشق، وأجريت عليه جراية ثم وقف كتبه على أصحاب الحديث توفي سنة 553 ووقف نور الدين علي البيمارستان الذي أنشأه بدمشق جملة كثيرة من الكتب الطبية كما وقف كتبا كثيرة على أهل العلم في أرجاء مملكته. وأعطى صلاح الدين يوسف لمؤدب ولده الأفضل أبي سعيد البندهي أو البنجديهي كتبا كثرة من خزانة كتب حلب، أباح له أن يأخذ منها ما شاء، وهذا جمعها وحصل من الكتب التي لم تحصل لغيره، ووقفها بخانقاه السميساطي بدمشق. وكثيرا ما كان صلاح الدين يبيح لرجاله أن يأخذوا ما شاءوا من الكتب التي وقعت إليه، كما فعل في مصر وأعطى وزيره القاضي الفاضل من خزانة الفاطميين قدرا كبيرا من كتبها، وأعطى عماد الدين الكاتب أيضا بعض أسفارها، وكان في هذه الخزانة على ما قبل ألف ألف كتاب وفيها من تاريخ الطبري فقط ألف ومائتا نسخة. فبيعت خزانة الفاطميين وتشتتت على هذه الصورة ولم يكن في ديار الإسلام أعظم منها. ووهب صلاح الدين القاضي الفاضل ما شاء من كتب خزانة آمد لما فتحها وكان فيها ألف ألف وأربعون ألف كتاب فانتخب منها الفاضل سبعين حملا. وهذه الألوف من الكتب التي ملكها القاضي الفاضل وقفها بعد على إحدى مدارس القاهرة وكان هو وابنه من غلاة الكتب. ومن الخزائن التي كانت بالشام خزانة علي بن طاهر السلمي النحوي 500 كانت له حلقة بالجامع بدمشق ووقف فيه خزانة كتب. وكان لتاج الدين الكندي في الجامع الأموي خزانة كتب فيها كل نفيس. ووقف شرف الدين بن عروة الموصلي المنسوب أليه مشهد ابن عروة في الجامع الأموي خزائن كتبه فيه. ومن الخزائن خزانة بني جرادة العلماء في حلب فقد كتب أحدهم أبو الحسن ابن أبي جرادة 548 بخطه ثلاث خزائن من الكتب النفيسة وخزانة لوالده أبي البركات وخزانة لابنه عبد الله. وما موفق الدين ابن المطران 587 وفي خزانته من الكتب الطبية وغيرها ما يناهز عشرة آلاف مجلد خارجاً عما استنسخه. وكان في خدمته ثلاثة نساخ يكتبون له أبداً ولهم

منه الجامكية والجراية. ومات أمين الدولة السامري وقد اجتمع عنده نحو عشرين ألف مجلد لا نظير لها في الجودة. وكان مهذب الدين الدخوار صاحب مدرسة الطب بدمشق من أهل القرن السابع اقتنى كتباً كثيرة، واقتنى من آلات النحاس التي لا يحتاج إليها في العلم الهيأة والنجوم ما لم يكن عند غيره أي إنه كان عنده مرصد فلكي وخزانة كتب. وجمع جمال الدين بن القفطي 646 في حلب ما لا يوصف من الكتب، وكانت خزانته تساوي خمسين ألف دينار. وكانت خزانة قطب الدين النيسابوري مهمة وقفها على إحدى المدارس بدمشق. وكان الملك الناصر ابن الملك المعظم عيسى 656 معيناً بتحصيل الكتب النفيسة، وكان جمع محمد بن عمر ابن شاهنشاه صاحب حماة وابن صاحبها من الكتب ما لا مزيد عليه، وكان في خدمته ما يناهز مائتي متعمم من الفقهاء والأدباء والنحاة والمشتغلين بالحكمة والمنجمين والكتاب 610 ووقف الملك الأشرف موسى 635 كتبه بالمدرسة الأشرفية بدمشق، واشتهرت في هذا القرن خزانة ابن أبي أُصيبعة وتلمذه ابن القف بدمشق. ومن خزائن القرن الثامن والتاسع والعاشر التي بلغنا خبرها خزانة أبي الفداء صاحب حماة فإنه جمع من الكتب سبعة آلاف مجلد وقفها على جامع الدهشة. ولم يقم في هذا القرن بعد الملوك من بني أيوب أحد من الأمراء عُني بالكتب وتسبيلها على المطالعة، فالقرن الثامن كان خاتمة هذه الحركة المباركة في الشام. ومن الخزائن في هذه الحقبة خزانة ناصر الدين العسقلاني 723 فقد خلف ثماني عشرة خزانة مملوءة كتباً نفيسة. واقتنى ابن قيم الجوزية تلميذ ابن تيمية خزانة مهمة. وملك عمر القريشي الدمشقي 792 من نفائس الكتب شيئاً كثيراً. ووقف تقي الدين اليلداني أكثر كتبه ومجاميعه بالخزانة الفاضلية بالكلاسة بدمشق سنة 655 وحصل شمس الدين البعلي كتباً وكتب بخطه المليح شيئاً كثيراً 774، وخلف تافنح الفارقي 694 ألفي مجلدة ومائتي مجلدة. وكانت خزانة ابن رواحة الحموي 622 في مدرسته بدمشق. وخلف بدر الدين ابن غانم الدمشقي ألفي مجلدة. واجتمع لشرف الدين البارزي الحموي 738 من الكتب ما لم يجتمع لأهل عصره. وكانت

خزانة أرغون نائب حلب 731 عامرة بالكتب النفيسة. ومن الخزائن المشهورة خزانة ابن فضل الله العمري وابن مالك النحوي وابن خلكان المؤرخ. واقتنى بعض ولاة العثمانيين في الشام كتباً نفسية بطريق مختلفة ومنهم سنان باشا صاحب الجامع خلف مائة وستين مصحفاً مرصعاً بالدر والجوهر وخمسة وثلاثين صندوقاً مملوءة بالكتب التي لا تقدر بثمن، وكانت الصناديق مرصعة باليواقيت والمعدن. وكل هذا أخذه صاحبه من اليمن والشام وغيرها ونقل إلى الآستانة. وكان القرن العاشر في الجامع الأموي بدمشق خزانة كتب خاصة بالمالكية والأمين عليها مفتي أهل هذا المذهب. ووقف علي الدفتري من أهل القرن الحادي عشر كتاباً نفيسة غالية بدمشق. وكان لبولس الزعيم اللبناني من أهل القرن السابع عشر للميلاد خزانة مخطوطة. ولم يبلغنا أن قامت للكتب سوق في وراء جنوب دمشق من الأرجاء إلى أقصى حدود الشام، مع أن بعض أقاليمها أنجبت علماء إجلاء مثل قمرا وامتان وعرمان ونجران وشبهة وصرخد وبصرى والصليب ووادي الأردن وجبل الشراة وعمان ومعان والشوبك وعجلون وأذرعان وجرش والسويداء. وبعد فقد كانت الوراقة أو صنعه الكتب من نسخ وتجليد وتذهيب صناعة رائجة ومن أهم الصناعات في العهد القديم، والناسخ يرزق بقدر إجادته الخط أو الخطوط التي يعرفها ويحسنها. وكذلك المجلد والمذهب يكافأ كل واحد منهما بحسب غنائهما. وكان كثير من العلماء يكتبون الخط المنسوب أي الخط ذا القاعدة وينسخون نسخاً لا بأس به ويعيشون من نسخهم. ومنهم من كانوا يتعففون عن القضاء، أو تولي شيء من أمر الأمة، ويؤثرون أن يعيشوا بالنسخ أو الوارقة أو الاتجار بالكتب، ومنهم من أثروا منها. وكان في كل حاضرة سوق لبيع الكتب يختلف إليه العلماء والأدباء. ومن العلماء من نسخوا المائة بل المئات من الكتب، ومنهم من نسخ ألف مجلد في حياته. ولم يكد الكتاب يخرج من يد مؤلفه خصوصاً إذا كان من المشاهير الثقاب حتى تتعاوره الأيدي بالنسخ، وينتقل من قطر، ويتداول في الأيدي، ويجلد ويوضع في القماطر. وقد جاء زمن على دمشق من القرن السابع إلى القرن الحادي عشر

وكل مدرسة من مدارسها الكثيرة لا تخلو من خزانة وافية بغرض الأساتيذ والتلاميذ. ومن أهم المدارس التي حوت خزائن ذات شأن العمرانية والعروية والناصرية والعادلية والأشرفية. جاء في فتاوى التقي السبكي صك وقف دار الحديث الأشرفية هذا: ويصرف إلى خازن الكتب ثمانية عشر درهماً في كل شهر وعليه الاهتمام بترميم الكتب، وإعلام الناظر أو نائبه ليصرف فيه من مغل الوقف ما يفي بذلك، وكذلك إذا مست الحاجة إلى تصحيح متاب أو مقابلته. وجاء فيه: وجعل جزاءاً من الوقف يصرف على مصالح المدرسة النورية ومن ذلك أن يصرف في شراء ورق وآلات نسخ من مركب حبر وأقلام ودوي ونحو ذلك ما يقع به الكفاية لمن ينسخ في الديوان الكبير أو قبالته الحديث أو شيئاً من علومه أو القرآن العظيم أو تفسيره، ويصرف إلى من يكتب في مجالس الإملاء، وإلى من يتخذ لنفسه كتباً أو استجازة، ولا يعطى من ذلك إلا لمن ينسخ لنفسه لغرض الاستفادة والتحصيل دون التكسب والانتفاع بثمنه. قال: وللشيخ الناظر أن يستنسخ للوقف أو يشتري ما تدعو الحاجة إليه من الكتب والأجزاء ثم يقف ذلك أسوة ما في الدار من كتبها. وكتب سنة ستمائة واثنتين وثلاثين اه. وكان رهبان الموازنة في لبنان منذ القرن الخامس عشر يصرفون أوقات فراغهم في نسخ المخطوطات الدينية والعلمية وكان بعض بطارقتهم وأساقفتهم يحملون الشمامسة الرهبان وغيرهم على نسخ المتب يزيدون بها مجاميع الأديار والبيع في الجبل ويتقيلون في ذلك مثال إخوانهم علماء المسلمين في المدن. وبهذه الطريقة كانت تنمو الكتب والأيدي تتناولها على أيسر وجه كأنها بعض المقدسات. وكأن القوم كانوا يتعبدون الله بحفظها وإماطة الأذى عنها وتجليدها وتخليدها، وخدمتها بالتعليق عليها ومعارضتها بالنسخ الصحيحة ووضع الفهارس لها بحسب عرفهم في تلك الأيام، يتخيرون لها ما يبقى ويخلد طويلاً من الورق المتين والمركب الجيد والجلد النفيس المجود الدبغ لندرتها، والنادر موضع العناية وهو خليق بأن تشد على يد الضنانة وتحتفظ النفوس به وتغتبط بتعاور الأيدي عليه دون أن يناله سوء من عوادي الدهر.

مصائب الكتب ودورها:

مصائب الكتب ودورها: ما برحت خزائن الكتب تزيد على الزمن بازدياد الحضارة في الإسلام وتنتقل الكتب من مصر إلى الشام، ومن الشام إلى العراق، ومن الحجاز إلى الشام مثلاً، ويعني بها العلماء والأدباء، ويتنافس في اقتنائها الملوك والأمراء، ويضعف الغرام بها يوم تضعف الحركة العلمية ويرغب عن الفضائل، ما برحت الحال على ذلك حتى دخل الروم حلب وأحرقوها سنة 351 ثم أحرقوا حمص وغيرها من المدن. ثم وقع الحريق الأعظم الذي في الجامع الأموي سنة 461 ودثر ما كان فيه من الكتب والمصاحف. وربما حرق فيه المصحف العثماني القديم. ومن أهم النكبات التي أصيبت بها الكتب نكبة طرابلس لما فتحها الصليبيون وإحراق صنجيل أحد أمرائهم كتب دار العلم فيها، وأخذ الصليبيون بعض ما طالت أيديهم إليه من دفاترها وكتب خاصة في بيوتهم. واختلفت الروايات في عدد المجلدات التي كانت في خزانة بني عمار أو دار حكمتهم في طرابلس، وعلى أصح الروايات أنها ما كانت تقل عن مائة ألف مجلد، وأوصلها بعضهم إلى ألف ألف وبعضهم إلى أكثر. وقفها الحسن بن عمار وجاء بعده علي بن محمد بن عمار الذي جدد دار العلم سنة 472 ثم عمار بن محمد حتى صارت طرابلس كما قال ابن الفرات في زمن آل عمار جميعها دار علم، وكان في تلك الدار مائة وثمانون ناسخاً ينسخون لها الكتب بالجراية والجامكية، فضلاً عما يشتري لها من كتب المنتخبة من الأقطار. وابن الفرات هو ممن يقول بأن عدد ما كان في دار العلم هذه من الكتب نحو ثلاثة ملايين كتاب عندما أحرقها الصليبيون سنة 503. والغالب أنه كان في طرابلس من الكتب الموقوفة غير دار العلم وقفت قبل بني عمار، وأراد ابن الفرات بهذه الثلاثة آلاف الألف عدد الكتب التي كانت في مكاتب طرابلس كلها. ولا ينبغي أن يذهب عن الخاطر أن ما كانوا يسمونه جزءاً أو مجلدا أو مجلدة لا يتجاوز بضع كراريس من كراساتنا، والكراسة قد لا تكون أكثر من ثمان صحائف بمعنى أن ألف المجلدة أو المجلد لا تبلغ في مصطلحنا

أكثر من خمسين كتاباً أو ستين أو سبعين كتاباً، فكان المجلد في تلك العصور قليل الأوراق، لأن الورق أو الرق غليظ فإذا جعل كل مجلد مئتين أو ثلاثمائة أو أربعمائة أو خمسمائة ورقة يصعب تناوله وحمله ونقله ولا يصح ما قاله ابن الفرات من انه كان في دار العلم في طرابلس ثلاثة آلاف ألف يوم نكبتها إلا على هذه الصورة، أي إن كتبها كانت بين المائتين وثلاثمائة ألف ومنها أجزاء صغيرة ورسائل، وقد يكون الجزء من كتاب لا تتجاوز سطوره سطور مقالة من مقالاتنا أو إملاءة من أمالينا أو محاضرة أو مسامرة من محاضراتنا ومسامرتنا. فالمصيبة الأولى العظمى التي أصابت الكتب في الشام كانت على عهد الصليبين والمصيبة الثانية ما حمله منها التتر في نوبة هولاكو وما أحرق في مدارس دمشق وجوامعها من أمهاتها، فقد ذكر المؤرخون أنه امتلأت خزانة الكتب بمراغة بما نهبه هذا الطاغية من الشام والعراق وغيرهما. وقدر ما حمله بأربعمائة ألف مجلد، ومنها ما حرق في فتنة غازان سنة 699 وفي وقعة تيمور سنة 803 فان النار ظلت تحرق دور دمشق ودارسها وجوامعها في الفتنة التيمورية ثلاثة أيام، فذهب في هذين الحريقين وغيرهما كتب المدرسة الضيائية والمدرسة العادلية وغيرهما من المدارس. ومن الخزائن التي دمرت في الحروب الصليبية خزانة أسامة بن منقذ أحد أصحاب قلعة شيرز فإنها كانت أربعة آلاف مجلد من الكتب الفاخرة أرسل بها بعد أن أخذ عهداً من الصليبين من دمياط إلى عكا في بطسة فنهيت ونهب معها ثلاثون ألف دينار قال: إن ذهابها حزازة في قلبه ما عاش. ومن مصائب الكتب ما وقع من حريق في دار صاحب حماة سنة 687 ذهب فيه من الكتب مقدار عظيم. ومنذ دخل الصليبيون الشام أخذوا على ما يظهر يقتنون الكتب العربية ولكن على صورة ضعيفة لأن العلم بها كان معدوماً عندهم، يبتاعونها على أنها عاديات قديمة غريبة الشكل، ولما لمعت في القرن السادس عشر شعلة النهضة في إيطاليا أراد البابوات اقتناء الكتب العربية، فندبوا لذلك بعض العارفين من رهاب الموارنة وحملوا إلى رومية من أديار لبنان ما كان محفوظاً فيها

من كتب الدين والعلم بالعربية والسريانية. وحمل يوسف السمعاني من لبنان سنة 1768م كتباً في ثلاثة مراكب إلى رومية ملأها بالمخطوطات العربية وغيرها فغرق منها مركبان. ومن المصائب التي أصيبت بها الكتب أن بعض دول أوربا ومنها فرنسا وجرمانيا وبريطانيا العظمى وهولندا وروسيا أخذت تجمع منذ القرن السابع عشر كتباً تبتاعها من الشام بواسطة وكلائها وقناصلها والأساقفة والمبشرين من رجال الدين، وكان بلغ الجهل ببعض من اتسموا بشعار الدين ومن كان يرجع إليهم أمر المدارس والجوامع أن يفضلوا درهماً على أنفس كتاب فخانوا الأمانة واستحلوا بيع ما تحت أيديهم أو سرقة ما عند غيرهم والتصرف به تصرفهم بملكهم. حدثني الثقة أن أحد سماسرة الكتب في القرن الماضي كان يغشى منازل بعض أرباب العمائم في دمشق، ويختلف إلى متولي خزائن الكتب في المدارس والجوامع، فيبتاع منها ما طاب له من الكتب المخطوطة بأثمان زهيدة وكان يبيعها على الأغلب، وأكثرها في غير علوم الفقه والحديث، من قنصل بروسيا إذ ذاك بما يساوي ثمن ورقها أبيض، وبقي هذا سنين يبتاع الأسفار المخطوطة من أطراف الشام حتى اجتمع له منها خزانة مهمة رحل بها فأخذتها حكومته منه وكافأته عليها، والغالب أن معظم الكتب العربية المحفوظة في خزانة الأمة في برلين هي من هذا القطر. وفهرس هذه الخزانة فقط في عشرة مجلدات ضخمة ما عدا الملحق. يتألف من فهارس الكتب العربية في خزائن الغرب اليوم خزانة برأسها. وإن بعيداً يحسن القيام على هذا التراث الوافر لأحرى به من قريب يبدده جزافاً. وإن أمماً عرفتنا أكثر مما عرفنا أنفسنا حتى قال أحد علمائهم: إن العرب وضعوا من المصنفات ما لا يستطيع أحدنا أن يقرأه طول عمره، لجديرون بإرث الشرق في مادياته ومعنوياته كما قلنا في فصل في مجلة المقتطف منذ أربع وأربعين سنة. نعم أن كتباً تترك للأرضة تعيث فيها، والعفن يعبث بجمال جسمها ورسمها، وتحرم النور ويعفى أثرها الغبار والأوساخ، ويحرم النظر فيها على من يحسن الاستفادة منها، أو تفضل عليها دريهمات معدودة حرية بأن تكون في ملك من يستفيد منها ويفيد.

ومن الخزائن المشهورة التي بعثرت في عهدنا ولم نعرف متى جمعت خزانة قبة صحن الجامع الأموي، وكانت مملوءة برقوق نفيسة فتحت سنة 1317هـ بأمر السلطان عبد الحميد الثاني إجابة لمقترح الإمبراطور غليوم الثاني الألماني فعثروا فيها قطع من الرقوق كتبت فيها سور من القرآن الكريم بالخط الكوفي، ومنها قطع مهمة من مصاحف وربعات وقطع من الأشعار المقدسة بالآرامية الفلسطينية وكتابات دينية وأدبيات دينية وقصص رهبانية ومزامير عربية مكتوبة بالحرف اليوناني ومقاطع شعرية لأوميروس، وكراريس وأوراق بالقبطية والكرجية والأرمنية في موضوعات دينية، وجذاذات عبرانية وسامرية فيها نسخ من التوراة وتقاويم أعياد السامرييين وصلوات وصكوك للبيع والأوقاف وعهود زواج وبينها مقاطيع لاتينية وفرنسية قديمة وقصائد شعرية يرتقي عهدها إلى أيام الصليبين ونسخ إنجيل برقوق. فأهدى السلطان بعضها لعاهل ألمانيا ووزع قسم منها على بعض رجال الآستانة ورجال دمشق واستخلصت بعض قطع منها حفظت الآن في دار الآثار في دمشق وأهمها تلك القطعة الكوفية المكتوبة على ورق شريفة وقفها عبد المنعم بن أحمد سنة 298 وعلى الوجه الثاني نقش مذهب باسم واقفها. ورأى شيخنا طاهر الجزائري في تلك القبة جزءاً مكتوباً عليه أنه حبس على مشهد زين العابدين صلوات الله عليه وعلى أبنائه الأئمة سنة نيف وسبعين وأربعمائة. وكانت في دير صيدنايا من جبل قلمون خزانة كتب حافلة بالمخطوطات النادرة ولا سيما السريانبة، فحاذر وكلاء الدير من كثرتها المشرق2 ص588 أن تكون حجة بيد السريان يتقوون بها على إثبات حقوقهم في الدير، فأجمع رأيهم على إخراجها وإتلافها تخلصاً منها، فجمعوها ومعظمها من النفائس المخطوطة على رق وبدءوا يحرقونها وقوداً للفرن خبزوا عليها خبزتين وكان هذا من نحو عشر سنين ومائة سنة. وهو عمل مثل الجهل المطبق والتعصب الممقوت. وكم وقع من حوادث إفرادية من مثل هذه فضاعت فيها الكتب ولم تبلغنا تفاصيلها. ومما أعان على تشتت الكتب أن بعض من أولعوا في العهد

خزائن اليوم وأهم ما حوت:

العثماني بتسم ذرى المناصب والقضاء، وكان لهم مشاكل وقضايا يريدون حلها في المراجع العليا أو لمجرد التقرب والتظرف كانوا يمعنون في مهاداة من يتوقعون الخير منهم بالكتب، وبذلك رحلت إلى الآستانة وغيرها أحمال من المخطوطات على هذا الوجه أيضاً فعدت هذه الهدايا في جملة مصائب الخزائن. خزائن اليوم وأهم ما حوت: من أهم الخزائن في الشام خزانة المسجد الأقصى في القدس وفيها نصف مصحف قديم بخط كوفي كتب عليه كتبه محمد بن الحسن بن الحسين ابن بنت رسول الله وإحدى ثلاث نسخ من مصحف مجزأ ثلاثين جزءاً كتبها بيده أحد ملوك المغرب ابن عبد الحق على رّق وهي مجلدة على الطريقة المراكشية وموضوعة في الصندوق مزخرف بالميناء على الطريقة الأندلسية. ومصاحف كبيرة جداً وصغيرة كتبت في عهد المماليك وملوك بني عثمان. ومن كتبها نشق الأزهار لابن إياس وحوادث الجو لمؤلف مجهول وكتاب المعرفة والتاريخ رواية ابن درستويه عن ابن القطاف. ومن خزائن القدس مكتبة القبر المقدس ودير الروم ومكتبة دير الدومنيكان ومكتبة الآباء البيض ومكتبة دير الفرنسيسكان ودير الأرمن وخزانة الآثار الأمريكية والآثار الإنكليزية ومكتبة المجمع العلمي الأثري البروتستانّتي والجامعة العبرية والمكتبة الحنبلية ومكتبة الشيخ الخليلي ومكتبة البديرية، وأهمها المكتبة الخالدية العمومية أنشأها في القدس راغب الخالدي من أعيان تلك المدينة بمشورة أستاذنا طاهر الجزائري ومعاونته وقد بلغت نحو أربعة آلاف مجلد، منها ثلثيها من المخطوط وزادت زيادات كثيرة بما ضيف إليها من خزانة الأسرة الخالدية. جعلت سنة 1318هـ - 1900م على مقربة من المسجد الأقصى في مقبرة أحد الأمراء. ومن نوادرها أنموذج العلم للمولى شمس الدين محمد بن حمزة الفناري المتوفى سنة 834هـ ذكر فيه أصول مائة علم. الطبقات السنية في تراجم الحنفية عليه خط مؤلفه تقي الدين بن عبد القادر المضري التميمي الداري المتوفى سنة 1010هـ. الشعور بالعور للصلاح الصفدي المتوفى سنة 764

في ذكر العلماء الذين أُصيبوا بفقد إحدى عينيهم. منادح الممادح وروضة المآثر والمفاخر في خصائص الملك الناصر وهو المعروف بالمدبجات لعبد المنعم الجلياني 613. مختصر حياة الحيوان لجلال الدين السيوطي 911. قهوة الإنشاء لابن حجة الحموي 838 وهو مجموع رسائله. اختصار السيرة النبوية لمحي الدين بن علي 638. رواية ولده أبي سعيد وولده أبي بكر بن أبي المعالي محمد وابنته فاطمة عنه. نزهة الناظرين في تاريخ من ولي مصر من الخلفاء والسلاطين لمرعي الحنبلي 1033. ورونق الحفاظ بمعجم الألفاظ للحافظ يوسف سبط أحمد بن علي بن حجر وعليه خط الحافظ قاسم بن قطلوبغا 879 وهو المجلد الثاني ويرجع أنه بخط مؤلفه. مثير الغرام بفضائل القدس والشام لسرور المقدسي 765 وفي آخره حواش فيها أسماء بعض تواريخ القدس. إتحاف الأخصا في فضائل المسجد الأقصى لمحمد أبي شرف الشافعي المصري 609. شاناق في السموم والترياق لشاناق الهندي نقله من لغته الهندية إلى الفارسية منكه الهندي نقل للمأمون على يد العباس بن سعيد الجوهري مولاه وهو في معرفة السموم والترقيان وهي نسخة ملوكية. الوسيط للواحدي 468 الجزء الثالث منه. عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير لابن سيد الناس اليعمري 734. أرجوزة محمد بن أحمد الباعوني 871 في التاريخ وقعت في نحو ألف بيت من الهجرة إلى الملك برسباي. تعليق شهاب الدين أحمد بن الهائم على الخصائص النبوية بخط أحمد الشهير بابن الهائم 815. تقويم أصول الفقه وتحديد أدلة الشرع للدبوسي 430. مجموعة رسائل لابن كمال باشا 940. تأويل مشكل الأحاديث والرد على الملاحدة والمعطلة وأهل الأهواء المبتدعة من إملاء أبي بكر محمد بن حسن بن فورك 406. إيضاح الإشكال في من أبهم اسمه من النساء والرجال أي رواة الحديث للحافظ محمد بن المقدسي 507. وكتاب الأربعين الأبدال التساعيات للبخاري ومسلم للحافظ عبد المؤمن الدمياطي 717. ارتياح الأكباد بأرباح فقد الأولاد للسخاوي. كتاب قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لأحمد بم محمد بن عمر القدسي الشهير بابن زوجة أبي عذيبة.

كتاب التبيان في إعراب القرآن لأبي البقاء العكبري 616. دمية القصر وعصرة أهل العصر للباخرزي 467 ذيل يتيمة الدهر للثعالبي. ومن الخزائن المهمة في غزة خزانة المفتي، وفي يافا الخزانة الإسلامية وخزانة أبي نبوت وفي أرباض حيفا خزانة دير الكرمل وفيها صكوك قديمة لها علاقة بالدير. ومن الخزائن الخاصة في القدس خزانة عبد الله مخلص وفي عكا خزانة جامع الجزار وفي نابلس خزانة آل الجوهري وخزانة آل صوفان وفي صفد خزانة آل النحوي وفي جبل عامل خزانة آل خاتون وإبراهيم يحيى والشيخ زين الدين وآل الصغير وأحمد رضا. وأهم خزائن لبنان آل أرسلان في عبيه وخزانة جرجس صفا في دير القمر وخزانة دير الشرفة ودير السير ودير المخلص ودير البلمند وعين تراز وقزحيا وبزمار واللويزة ومار أشعيا ودير يوحنا مارون بكفرحي. وكان في بعض أديار اليسوعيين في لبنان مخطوطات نقلوخا إلى ديارهم في بيروت كما نقلت المخطوطات المهمة في القرون الماضية من أديار الموارنة في جبل إلى رومية العظمى. ومن خزائن بيروت الخزانة الشرقية للآباء وخزانة الجامعة الأمريكية معظمها بالإنكليزية ومجموعة دار الكتب الكبرى في بيروت قليلة المخطوطات كثيرة المطبوعات وكان في بيروت مجموعة البارودي من المخطوطات فبيعت كما بيعت محموعة حيدر أحمد الشهابي ومجموعة جميل العظيم ومجموعة رُشَيْد الدحداح في بيروت وغيرها من مجاميع الأفراد التي بعثرت لقلة العناية بالعلم أو لأسباب مادية قاهرة أحياناً. ومن خزائن الساحل خزانة آل كرامة وآل الجسر وأل المغربي وآل السمين في طرابلس، وخزانة آل الأزهري في اللاذقية وخزانة سليمان أحمد في جبل العلويين وخزائن بعض المدارس في إنطاكية. وأشهر الخزائن العامة في حلب خزائن المدرسة الأحمدية والمدرسة الخسروية والمدرسة العثمانية والمدرسة القرمانية وجامع الناصرية والخزانة المارونية والأرثوذكسية والكاثوليكية وخزائن آل الكواكبي والغزي والملامح والزرقا والكتخدا ومنش والأنطاكي والعينتابي وقطر أغاسي ومجموعة سباط. وفي الخزانة الأحمدية بحلب المباحث المشرقية للفخر الرازي. والوافي للصفدي ومختصر

تاريخ الذهبي المسمى بالعيار وتاريخ الذهبي في سبعة مجلدات ودر الحبب في تاريخ حلب لابن خطيب الناصرية في مجلدين والتفسير المهمل للفيض الهندي ومثير الغرام لزيارة القدس والشام، ومن مخطوطات المدرسة العثمانية المعروفة بالضيائية بحلب عمدة الحفاظ في تفسير أشرا الألفاظ للحلبي السمين والمقدمة السنية للصفدي والدر الثمين في أسماء البنات والبنين والحدائق الأنسية في الحقائق الأندلسية. وكتاب الناسخ والمنسوخ للحازمي، وفي خزانة المولوية بحلب اختلاف الفقهاء للوزير ابن هبيرة المسمى بشرح معاني الصحاح. وخزانة الجامع الكبير بحلب غنية بالكتب الفلكية وآلات علم الفلك وكان واقفها محمود الجزار وأبوه من علماء هذا الفن. وفي المدرسة البهائية عيون السير لابن سيد الناس في السيرة النبوية وحاشية عليه في ثلاثة أجزاء لإبراهيم بن محمد خليل سبط ابن العجمي الحلبي. وفي بعض المدارس الحلبية الأخرى كتب متفرقة لكنها غير ذات بال. وفي الكنيس الكبير في حلب توراة مخطوطة قديمة الخط جداً. وفي حمص خزانة نوري الكيلاني في جامع الشيخ إبراهيم ومجاميع الكيلاني. وفي حمص مجاميع آل الأتاسي وخزانة القديس اليان الحمصي وخزانة الخوري عيسى أسعد وخزانة بني الجندي وكامل لوقا. وفي المعرة مجموعة آل الحراكي. وكان في دمشق عدة خزائن بعثرت منها خزانة آل جمزة، وخزانة الحضرة وآل الحسني وخزانة آل عبد القادر الحسني هدت أسرته كثيراً مها للمجمع العلمي فجعلها في خزانة الظاهرية. وحرقت خزانة بدر الدين الحسني وخزانة الشمعة وآل مردم بك وخزانة آل القوتلي. وتشتتت خزائن آل الحسيبي والعطار والحلبي والغزي وبايزيد والأيوبي. وخزانة آل السقطي وزعت، وإلى اليوم لا تزال محفوظة خزانة كل من آل الأسطواني وكان أُحرق قسم مهم منها في دار سعيد الأسطواني وذلك في حريق سوق الحميدية، وحفظت خزائن كتب آل البيطار وأل القاسمي وعابدين والمبارك وآل النابلسي وآل المنير وآل المرادي ودخل قسم مهم من كتب المنّير والمرادي إلى دار الكتب الظاهرية. وحملت خزانة طاهر الجزائري وكان فيها الأمهات المحررة إلى مصر فأباعها من دار الكتب المصرية والخزانتين التيمورية

والزكية. ومما حفظ من المجاميع مجموعة البطريركية الأرثوذكسية ومجموعة كنيسة السريان وهما مجموعتان جديدتان جمعتا بعد فتنة سنة 1860 التي ذهبت فيها مجاميع الكنائس والأديار في دمشق وبعض لبنان ولا سيما زحلة. وفي بعض البيوت القديمة في دمشق وحلب والقدس بل في معظم المدن القديمة مجاميع قليلة يحتفظون بها ورثوها من أجدادهم ومنهم لا يرجعون إليها ولا عرفوا مضامينها ويتغالون بحفظها ويتنوقون في رصفها كأنها بعض الآنية اللطيفة والعروض التي يتنافس فيها ونعم الهوى هواها. واهم الخزائن العامة في الشام خزانة دار الكتب الظاهرية وليست مكانتها منبعثة من كثرة أعداد كتبها بل من النوادر المحفوظة فيها وربما كانت مجموعتها أندر مجموعة في الشام، فيها بضعة آلاف متاب ورسالة وفيها ما هو بخط مؤلفيه أو مقروء عليهم ومنها القديم جداً بل فيها أقدم كتاب في الشام من القرن الثالث. أنشئت هذه الخزانة سنة 1296 بمساعي طاهر الجزائري وسليم البخاري ومعاونة غيرهما من العلماء وكان لمدحت باشا وحمدي باشا واليي سورية يد في جمعها، وأهم رجل من عمال الدولة عطف على هذا المشروع وساعده مساعدة فعلية بهاء بك مدير الرسالة في ولاية سورية. فجمع ما تفرق من الأسفار في الخزانة العامة التي أبقت عليها الأيام وبعد ممانعات شديدة ممن يرومون كتم العلم وإبقاء الناس في عماية جمعوا مقداراً من الكتب جعلوها في شطر من مدرسة الملك الظاهر بيبرس قبالة العادلية الكبرى ونصبوا عليها قواماً ووضعوا لها مثل شرائط المكاتب الكبرى فجاءت مؤلفة من 2453 كتاباً منوعة عدا الدشت والكراريس والأوراق المتفرقة. أخذت من عشر خزائن وهي: 1 - خزانة المدرسة العمرية بالصالحية وهي قديمة العهد وفقها بعض أهل الخير ولكن كان الناظر قد سرق جانباً عظيماً منها لا تزال عند أبنائه ومنها ما في الظاهرية الجزء الأول أو الثاني والتتمة أو الأول في دار السارق. 2 - خزانة مدرسة عبد الله باشا العظم وقفها سنة 1211 وضم إليها كتباً وقفها والده محمد باشا العظم سنة 1190. 3 - خزانة سليمان باشا العظم وقفها سنة 1196 كانت بمدرسة بباب البريد. 4 - خزانة الملا عثمان الكردي

كانت بمدرسة السليمانية أيضاً. 5 - خزانة مدرسة الخياطين وقفها أسعد باشا العظم بعد سنة 1165 وكان مقرها بمدرسة والده إسماعيل باشا العظم. 6 - خزانة المرادية بمدرسة مراد المرادي. 7 - مدرسة السميساطية وهي قديمة وقفها بعض أهل الخير. 8 - خزانة الياغوشية كانت موضوعة في مدرسة سياوش باشا بالشاغور. 9 - خزانة الأوقاف وهي مؤلفة من عدة خزائن حفظت بقاياها. 10 - خزانة بيت الخطابة كانت بحجرة الخطابة بالجامع الأموي. ومن كتب أخرى موقوفة. وفي زمن رءوف باشا والي دمشق أوائل هذا القرن جمع لها نحو خمسمائة ليرة وابتاع لها مقدراً من الكتب المطبوعة في الغرب وغيرها وجلد بعض كتبها حتى إذا كانت سنة 1919م وتألف المجمع العلمي العربي على يد كاتب هذه السطور بذلت العناية بابتياع أو استهداء الكتب المخطوطة والمطبوعة وقليل منها بغير اللغة العربية فناهز عدد الكتب المخطوطة الأربعة آلاف كتاب عدا المجاميع، وعدد المطبوعة الأربعين ألفاً عدا الخزانة التي أعدها المجمع لأعماله في الفروع التي يبحث فيها وهي تربو على أربعة آلاف، وحصلت الفائدة من تنوع الأسفار والمجلات والصحف حتى قدر معدل الداخلين للاستفادة منها كل يوم بمائة إنسان وما زالت عناية المجمع بتكثير كتبها متوفرة، ومن الكتب المخطوطة التي حفظت في دار الكتب الظاهرة الكواكب الدراري لابن عروة الحنبلي وهو في أكثر من مائة وعشرين مجلداً في فن التفسير والحديث والفقه وعلم الكلام والرد على الفلاسفة وأسماء الرجال وعلوم شتى والموجود منه 42 جزءاً. والغريب في الحديث كثير منها أجوبة الإمام أحمد عن أسئلة أبي داود السجستاني كتب سنة مائتين وست وثمانين وهو اقدم كتاب عرف في الديار الشامية. والبحر المحيط في أصول الفقه للبدر الزركشي في خمس مجلدات والجزء الأول منالتذكرة لأميرك من علماء المعتزلة في علم الكلام. والأول أيضاً من الإشارات الإلهية لبي حيان التوحيدي في مخاطبة النفس. والأول من سر الصناعة لبن جني في أسرار العربية وشعب الإيمان في التصوف والأخلاق لعبد الجليل الأندلسي. والرسالة الجامعة من جمع أصحاب

رسائل إخوان الصفا تقرأ عندهم بعد الرسائل المعروفة. والصحائف اليونانية في مخاطبة النفس الإنسانية والضوء اللامع للسخاوي في تراجم أهل القرن التاسع في خمس مجلدات كبيرة طبع. والثاني من مناقب الخلفاء الأربعة لأبي بكر ابن الطيب الباقلاني. وجامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر الأندلسي طبع. والثالث من الجليس والأنيس لأبي الفرج المعافا بن زكريا. وكتاب الأحكام السلطانية للقاضي أبي يعلي طبع وتفضيل السلف على الخلف لإبراهيم بن هبة الله وديوان خالد الكاتب المتوفى في حدود السبعين والمائتين. والطب الروحاني لأبن الجوزي في علم الأخلاق طبع. والأطراف فيما يتعلق بالمحدثين سبع مجلدات للحافظ جمال الدين المزي. وكتاب الأموال لأبي عبيد بن سلام الأزدي طبع. وتاريخ دمشق لابن عساكر المتوفى سنة 571 في عشرين مجلداً. والجزء الخامس من الفتاوى المصرية لشيخ الإسلام ابن تيمية وهي في علوم شتى. وأخبار الأذكياء ليوسف بن عبد الهادي المتوفى 909 بخط مؤلفه. وفهرس الكتب الموقوفة بخط يوسف بن عبد الهادي بعضها من تصنيفه وبخط يده. المناقب والمثالب تأليف هبة الله بن عبد الواحد الخوارزمي. مساوئ الأخلاق ومذمومها ومكروه طرائقها لأبي بكر محمد بن جعفر الخرائطي في خمسة أجزاء. شذرات الذهب في أخبار من ذهب لأبن العماد الدمشقي المتوفى سنة 1089 طبع. الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لأبن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852 بخط إبراهيم البقاعي طبع عقد الجمان في مختصر أخبار الزمان المنسوب للمسعودي المتوفى 343 وهو للشاطبي المتوفى 872. إرشاد السالك إلى مناقب الإمام مالك ليوسف بن عبد الهادي بخط مؤلف. طبقات النحاة واللغويين لابن قاضي شهبة الأسدي ويليه مختصر النحاة للزبيدي. المدهش لابي الفرج ابن الجوزي المتوفي سنة 597. طبع الطف والطائف لأبى الفرج بن الجوزي. أدب السلوك لأبى الفضل عبد المنعم بن عمر ابن عبد الله الأندلسي 603 مشتمل على مشارع كلمات الحكمة والأدب والأخلاق. قاموس الأطباء وناموس الألباء لمدين بن عبد الرحمن القوصوني

المصري من أطباء القرن الحادي عشر للهجرة في المفردات الطبية. مالا يسع الطبيب جهله ليوسف بن إسماعيل المعروف بابن الكبير من أهل القرن الثامن. منهاج البيان فيما يستعمله الإنسان لأبى العباس يحيى بن عيسى الكاتب الملقب بالرئيس الأجل المتوفى 493 وهو في جزأين دخلا في مجلد واحد. خلاصة تحقيق الظنون في الشرح والمتون تأليف محمد بن مصطفى الصديقي وهو ذيل لكشف الظنون أتمه 1180. مجمع الزوائد ومنبع الفوائد لأبى الحسن علي بن أبى بكر الهيثمي 807 جمع فيه مولفه زوائد الكتب الستة من مسند احمد بن حمبل والبزاز وأبى يعلى الموصلي والمعاجم الثلاثة للطبراني نسخة في مجلد كبير. المجمل في اللغة لأبى الحسين احمد بن فارس بن زكريا المتوفى 390 أقتصر فيه مؤلفه على الألفاظ المهمة المستعملة أخذ أكثرها بالسماع عمن تقدمه وأختصر الشواهد ورتبه على الأبجدية منه جزء يبتدئ من حرف العين إلى آخر الكتاب بخط أبى بكر محمد بن محمد بن خلف في سنة 589. جنى الداني في حروف المعاني لحسن بن قاسم المرادي المتوفى 749 وهو كما في كشف الظنون من مأخذ علي المغني لابن هشام. شرح الإيضاح لأبي علي حسن بن أحمد الفارسي 377 والشرح للجرجاني 471 شرحه أولاً شرحاً مبسوطاً في نحو ثلاثين مجلداً وسماه المغني ثم لخصه في مجلد واحد وسماه المقتصد وهو في مجلد ضخم 904 صفحات بخط نفيس من القرن العاشر. مجمع الآداب في معجم الأسماء والألقاب لعبد الرزاق الفوطي المتوفى 723 منه الجزء الرابع يبتدئ من حرف العين إلى القاف بخط مؤلفه. الكواكب السائرة في أعيان المائة العاشرة للنجم الغزي المتوفى 1061 وذيله المسمى لطف السمر وقطف الثمر من تراجم أعيان الطبقة الأولى من القرن الحادي عشر. طبقات الحنابلة لأبن رجب 795. نشر المحاسن اليمانية في خصائص ونسب القحطانية لأحد أفاضل وصاب من بلاد اليمن. أجزاء مكن عيون التواريخ للصلاح الكتبي 764. وفي خزانة المجمع العلمي الخاصة عدة مخطوطات نادرة أخذت بالتصوير الشمسي منها نسخة من الدارس للنعيمي أبي المفاخر محيي الدين المتوفى

927 منقولة عن نسخة لابن المؤلف محفوظة في خزانة ميونخ. وتراجم الأعيان للبوريني 1024. الذيل على الروضتين لأبن أبي شامة 665. حكماء الإسلام للبيهقي المتوفى في حدود سنة 570. رحلة الأمير يشبك بن مهدي الدوادار 85. كتاب الإنصاف والتحري في دفع الظلم والتجري عن أبي لعلاء المعري لكمال الدين أبن العديم الحلبي المتوفى سنة 660 ناقص من أخره. مجموع فيه نقش خواتم الحكماء وأدبائهم، واجتماعات الفلاسفة في بيوت الحكمة وغير ذلك. التيسير والاعتبار والتحرير والاختبار فيما يجب من حسن التدبير والنصيحة في التصرف والاختيار لمحمد بن محمد بن خليل الأسدي صاحب كتاب لوامع الأنوار ومطالع الأسرار فرغ من تصنيف كتابه سنة 854. المثالث والمثاني في المعالي والمعاني لصفي الدين الحلي 570 ومعه مجموعة أخرى للشاعر نفسه. نظم درة الغواص للسراج الوراق بخط محمد بن الصالحي الهلالي المتوفى سنة 1004. تحفة ذوي الألباب للصفدي سنة 764. وفي المجاميع عشرات من الرسائل النادرة الجديرة بالنشر. هذا ما أمكن استيعابة من الكلام على خزائن الكتب المخطوطة في هذا القطر عرفنا بها في الجملة كيف نمت وجمعت وكيف مزقت وشتتت. وكان القوم يعتقدون أن اقتناء الكتب يورث الغنى وبيعها يورث الفقر، ولذلك احتفظت بعض البيوت بكتبها وربما زادت عليها. وشوهد أثر هذه العناية في البيوتات القديمة فإن المخطوطات على كثرة ما أصابها من التفريق ما برحت محفوظة في المدن بل في القرى في بيوت أفراد من الشعب قد لا يخطر في البال أنها تعنى بمثل هذه الكنوز. ومنهم من يتبرك بها ويفاخر باقتنائها، ومنهم من يرتقب الزمن ليبيعها بالأثمان الغالية. وقد ابتاعت في مصر في العهد الأخير مقادير عظيمة منها، لغنى مصر وشيوع العلم في بنيها، وتفانيهم في إحراز آثار السلف. وقد يبتاعون السفر المخطوط بثمن فاحش وربما كان مما مثل بالطبع مرات، لأن للمخطوط روعة غير روعة المطبوع، وقيم تاريخياً يدركها من يعاني هذه الصناعة ويقدر العاديات قدرها. ومن الأسف أن صناعة النسخ ماتت من قطرنا وضعف بذلك التنافس

في الخطوط الجيدة المنسوبة وغيرها كما قضت الآلة الكاتبة في الغرب وفي الشرق على الخط أيضاً. ومن المؤلفين والكتاب اليوم من يملون على كتابهم على تلك الآلة مباشرة أو يكتبون هم بأنفسهم عليها دون أن يتبعوا أناملهم بتنميق السطور ووضع الصفحات مما يفيد في الإسراع بالأعمال، ويقضي على الفن والجمال. ولولا الحرص المغروس في الفطر ما بقيت هذه البقايا التي نفاخر بها من عمل الأجداد، وهي في نظر العقلاء أغلى من التبر والعسجد، ولا سيما بعد أن سطت عليها كل يد أثيمة وأبيع من كتب الجوامع والمدارس بالألوف فسافرت عنا تنزل على الرحب والسعة على من يعرف قيمتها ويحسن تعهدها. والكتب كما قال أحد المولعين بها كالطيور لا تطلب إلا الهواء الطلق السالم من الشوائب. ولطالما انتقلت من يد إلى يد ومن جيل إلى جيل كما تتنقل الأعلاق النفسية أو كما تتداول النقود والحلي ولكن بتجلة وحرمة. هذا وخير طريقة تحفظ بها ثمالة تركه السلف الصالح أن يعمد كل من حوت رفوفهم وطماطرهم كتباً إلى كتبهم المخطوطة فيودعوها في الخزائن العامة لأنها أقل عرضة للحريق والتلف ولكارث ووارث، وأن يستعاض عنها بالكتب المطبوعة في الخزائن الخاصة، وتجعل المخطوطات ملك الجماعات يرجع إليها العلماء والباحثون، وتسبل عليها فتكون منهم على طرف الثمار، وبذلك يزيد النفع منها ويحيا بالطبع والنشر ما لم تساعده الحال أن يعرف حتى الآن، وبذلك تجتمع فائدتان فائدة الانتفاع وفائدة الحفظ، كما فعل المصريون وحفظوا بقايا كتبهم في داري الكتب المصرية والأزهر وخزانة المجلس البلدي في الإسكندرية والجامع احمدي في طمطا والله يرث الأرض ومن عليها.

الأديان والمذاهب

الأديان والمذاهب أديان القدماء: اهتدى الفينيقيون بفطرتهم إلى الاعتقاد بالتوحيد على ما ظهر. ودعوا معبودهم البعل أي الرب والسيد وقد يسمونه أدون ومعناه السيد أيضاً. ولقبوه بملوك أو ملوخ أي الملك أو ببعل شمائيم أي رب السماء، ثم أخذوا يصورون الرب ويجسمونه على الصورة التي يختارونها، خصوصاً لما جابوا الأقطار ومصروا الأمصار، فأصبحت كل المدينة تخص الرب بها، فكان أهل صور يطلقون على معبودهم بعل صور، وأهل صيدا يقولون عن معبودهم رب صيدون، وأهل بيروت يعرف ربهم ببعل بيروت وهكذا يقولون بعل حرمون وبعل جاد وبعل تامار. وفننوا بعد في أربابهم فأخذوا ينسبونها إلى النار وعبادة الطبيعة وأنشئوا يؤلهون قوات الوجود ومظاهرة الرائعة والأفلاك والنجوم. وكما جعل الفينيقيون لأربابهم أنداداً اخترعوا لهم أزواجاً سموها عشروت وقد عبدت في سواحل الشام خاصة. ثم أخذت بعض المدن بالطبع تطلب لمعبوداتها زوجات وتنشئ لها معابد. وكان معبد بعلة جبيل يحج إليه الناس من أنحاء القطر كما يحتفلون في الربيع بمقتل الرب أدونيس أو نهر إبراهيم. وكان من كهنة الفينيقيين أن أقاموا في أوقات مخصوصة من السنة حفلات دينية تجري فيها أمور غريبة من الرقص والفحش ومن تضحية البنات والأسرى على مذابح الهياكل التي كانت أشبه بمواخير يأوي إليها الفاحشات فيختلف إليهن من يريد الفجور باسم الدين.

ويقال على الجملة: إن الفينيقيين عبدوا في كل بلد مجموعة من الأرباب، فأهل صور عبدوا عشتروت وملكوت وبعلا، وأهل صيدا أشمون وعشتروت وبعلا، وأهل بيروت عشتروت وعطارد وبعل مرقد. وتجيء بعد هذه الطبقة من الأرباب طبقة أخرى منها كالرب أبيس والرب سليمان. ومجموعة الأرباب الكبرى عند الفينيقيين كمجموعة ما عبده الرومان بعد قرون في بعلبك من عطارد والمشتري وغيرهما. وكانت ديانة الآراميين كديانة الآشوريين يعبدون الرب العظيم ورب الفكر ورب السماء والرب الأسد. ويجسمون رب الأرباب عندهم، على صورة إنسان في نصفه الأعلى، ونصفه الأسفل على صورة سمكة. وذكروا أن شيما كانت ربة أهل حماة. وعبد الآراميون النيازك والشمس والقمر والسيارات السبع والهواء والرياح والنيران وعبدوا أترعطي الربة السورية ودعوها دركيتو نصفها السفلي سمكة. وكان عابدوها إكراماً لها يمتنعون عن تناول السمك ويتوفرون على فتح أحواض يربون الأسماك فيها. ومن معبودات الآراميين هدد وسميسيوس زوج الربة شيما وأرترعطي زوج الرب هدد. وكان الحثيون على مثال من تقدمهم الأمم عباد أورثان أيضاً، فقد عبدوا الرب تيشوبو وهو مثل هدد الآراميين وبعل الكنعانيين. وروي أنهم عبدوا الشمس وأخذوا عن الكنعانيين عبادة عشتروت وغيرها من الأرباب وألهوا مظاهر الطبيعة فعبدوا جمالها وجلالها. وعبد الكلدان والآشوريون أولاً رب السماء ورب الأرباب ورب الأرض ورب البحر، وجعلوا لكل رب هذه الأرباب ربة تكون قرينيه. وبعد حين عبدوا القمر والشمس والزهرة. والزهرة هذه ينظرون إليها أنها قد تجسدت فيها الحياة والحرب ففيها اللطف والهمجية، وقد بنوا لها في المدينة أرك هيكلاً للفحش حتى دعيت هذه المدينة بمدينة العاهرات. وعبد البابليون على عهد حمورابي مردوك رب الأكوان وعبدوا رب الحكمة والعلوم والحرب والصيد والزراعة والموت والزوابع والأنواء والأوبئة. واقتبس الآشوريون عامة معبودات البابليين وزادوا عليها ربهم أشور رب الأرباب عندهم،

ينزهونه عن الوالد والولد والزوج، ويعتقدون بحشر الأجساد أو ما يشبه ذلك في يوم الجزاء. ويرمزون إلى أربابهم بحيوانات ودواب كرمزهم بالأفاعي والطير والسمك والغزلان والبقر والخرفان. أما قدماء المصريين فقد اهتدوا إلى عبادة رب الأرباب وتمثلوه في الشمس الحاكمة على الأكوان. وقدسوا معبودهم على صور شتى ثم أصبح لكل مدينة ربها يعتقدون بأنه واحد يظهر في مظاهر مختلفة من مظاهر الطبيعة من نبات وحيوان وجماد وطواطب وأنهار ولا سيما النيل، وأقاموا لكل واحد من أربابهم الهياكل يخدمها الكهنة والسدنة ومن أهم معبوداتهم أوزيريس وإيزيس وهوروس أي الوالد والوالدة والولد. واعتقد المصريون بالآخرة والجزاء في العالم الثاني وحشر الأجساد، ولذلك عنوا بتحنيط موتاهم على ما لم يصل إليه أحد قبلهم، عل الميت يأنس بصورته. وعبد الفرس قوى الطبيعة التي وقعت تحت حسهم من شمس وقمر ونار وماء وهواء، ثم عبدوا ميترا التي هي الزهرة، ثم كان من مجوسهم على عهد زرادشت ولأخلافه أن عبدوا رب الخير والشر، واسم رب الخير يزدان أو رب النور وهو الرب الأعظم مبدع الكائنات، واسم رب الشر أهرمن وهو رب الظلمة وأصل كل بلاء. قال ماني: مبدأ العالم كونان أحدهما نور والأخر ظلمة كل واحد منهما منفصل من الآخر، فالنور هو العظيم الأول ليس بالعدو وهو الإله ملك جنان النور وله خمسة أعضاء الحلم والعلم والعقل والغيب والفطنة، وخمسة أخر روحانية وهي الحب والإيمان والوفاء والمروءة والحكمة، وزعم أنه بصفاته هذه أزلي ومعه شيئان اثنان أزليان أحدهما الجو والآخر الأرض، وأعضاء الجو خمسة الحلم والعلم والعقل والغيب والفطنة وأعضاء الأرض النسيم والريح والنور والماء والنار، والكون الآخر وهو الظلمة وأعضاؤها خمسة الضباب والحريق والسموم والسم والظلمة، ومن تلك الظلمة كان الشيطان. والصابئة هم القائلون بالأصنام الأرضية للأرباب السماوية أي الكواكب متوسطون إلى رب الأرباب، وينكرون الرسالة في الصور البشرية عن الله تعالى ولا ينكرونها عن الكواكب. هذا وقد دان اليونان كما دان كثير من الأمم القديمة قبلهم بتأليه الجمال

على اختلاف مظاهرة، عبدوا الجمادات لأول أمرهم ثم ترقوا إلى غيرها من تاليه الأشجار والرجوم والأحجار، وأنشأا يكومون الأفعى في هياكلهم كما يكرمون بعض حيوانات البحر وطيور البر. وكانوا يبالغون في إكرام الموتى من عظمائهم حتى ألحقوهم بأربابهم، ونسبوا إليهم كل صفات البشر وأبشع رذائلهم. ويقدمون في المذابح من الطيور والحيوانات والبشر مما كان عند الفينيقيين. وهكذا كثرت أربابهم إلى التي ليس بعدها، وكلما فتحوا أرضاً أضافوا إلى أربابهم بعض الأرباب التي وجدوها تعبد في الأقاليم المغلوبة على أمرهم، وكثرت خرافاتهم حتى كان يستهدف للموت كل من يريدهم من عقلائهم على أن يقلعوا عن تخريفهم. هذا غاية ما يشار إليه من أديان قدماء الدول التي طال أمرهم في هذه الديار. ومن أجيال العرب التي حكمت هنا أجزاء مهمة قبل الإسلام النبطيون في الجنوب والايطوريون في بعض الساحل وقد عبد النبطيون اللات والعزي، وكانت البتراء مركز عباداتهم قبل العهد اليوناني بستة قرون على الأقل. وعبد الايطوريون الكواكب والشمس والزهر وإذا الشرى، وربما تشابهت معبوداتهم ومعبودات النبيطيين. وكان لهم في بعلبك مذبح قالوا: إنه بيت من بيوتهم عظيم عندهم جداً. وصنم الأقيصر كان في مشارف الشام لقضاعة ولخم وجذام وعاملة وغطفان يحجون إليه ويحلقون رؤوسهم عنده وكلما حلق رجل منهم رأسه ألقى مع كل شعره قرة من دقيق أي قبضة. وعرف من الآثار أن أهل صرخد كانوا يعبدون اللات على ما اكتشف على باب كنيستها. ومعظم هذه الأصنام كان مما ينحت من الأحجار ومنها ما كان من الشبهة البرونز، وقد نقلوا هذه الأصنام إلى الغرب خصوصاً منذ أوائل القرن الثالث قبل المسيح لما قبض على زمام الإمبراطورية الرومانية أباطرة من الشاميين، وقد عثروا على بعضها في فرنسا والنمسا وإيطاليا. وكان ياهو المشهور في تاريخ الإسرائيليين حفيد يهو شافاط الذي قتل جميع أنبياء بعل وعبدته يعبد العجول في بيت أيل. وبيت أيل إلى شرقي خط يمتد من أورشليم إلى نابلس على بعد واحد من كلتا المدينتين وكانت قديماً عاصمة الكنعانيين. وقد عبد الرومان قوى الطبيعة من الأفلاك والشمس والأرض والنبات

والحيوان وأكرموا الينابيع والأشجار العظيمة والحجارة ثم عبدوا المشتري وأظهروه في مظاهر عديدة وكانوا يقولون رب البرق ورب الرعد ورب النور. وجعلوا للمشتري ربة اسمها جونون وعبدوا المريخ ورب الحرب يقدمون له ضحايا من الخنازير والبقر والغنم بل يقدون له الذبائح البشرية يختارونهم من أسرى الحرب على الأكثر. ولهم أرباب أخرى كرب البيت وحارسه ورب نار البيت وجعلوا لها هياكل أقاموا على حراستها بنات عذارى يتعهدون نارها حتى إذا غفلن عنها فأطفأت وأدوهن على ما كان أهل الجاهلية يئدون بناتهم خشية العار. ولما أختلط الرومان بالأمم الأخرى اقتبسوا منها ما راقهم من أربابهم ومنها عشترت المعبود الشامي. قال كلرمون غانوا: لم تكد تظهر الوثنية اليونانية الرومانية حتى أصبح الناس يحبونها أصقاع الشام كافة ويقبلونها راضين. وذلك لأنها قائمة على أساس التسامح القابل للظهور في كل مظهر وصورة. تلتئم بمرونة عجيبة مع أشكال الديانات التي تدين بها الشعوب الأخرى. وذلك بأن تمزج هذه الديانات بنفسها أو تمزج نفسها بها. ولم تدخل في ذاك المحيط الخاضع المدهوش إلا إصلاحاً واحداً وهو معرفة الأشياء الحسنة، ولم تقض إلا بقضاء واحد وهو الابتعاد عن البشاعة، ولم تضع إلا نظاماً واحداً وهو نظام السرور، ولا تعليماً واحداً غير تعليم الذوق، ولم توح بغير الجمال. وكانت ترفق بالأديان التي لا تستطيع الدفاع عن نفسها ولا تشتد إلا على الأديان التي تحاول مقاومتها. فالعبادات القديمة التي عرفت عند الكنعانيين استقت من هذا النبع الصافي البارد مأخوذة بشيء من الجنون اه. لما جاء كسرى إلى حلب وعمر بيتاً للنار كان في الشام أربعة أديان أمهات، وهي: اليهودية والنصرانية وعبادة الأوثان والنيران. ولما جاء الإسلام كان الناس يدينون بهذه الأديان. وكانت النصرانية قبل الإسلام على رواية اليعقوبة في ربيعو وغسان وبعض قضاعة، واليهودية في حمير وبني كنانة وبني الحارث بن كعب وكندة، والمجوسية في تميم، والزندقة في قريش أخذوها من الحيرة. وكان بنو حنيفة أخذوا في الجاهلية إلهاً من حيس،

اليهودية:

والحيس تمر يخلط بالسمن والأقط فيعجن، فعبدوه دهراً طويلاً ثم أصابتهم مجاعة فأكلوه. ولما مرض عمرو بن لحي وكان يلي أمر الكعبة في الجاهلية قيل له: إن بالبلقاء من الشام حمة إن أتيتها برأت فأتاها فاستحم بها فبرأ ووجد أهلها يعبدون الأصنام فقال: ما هذه؟ فقالوا: نستسقي بها ونستنصر بها على العدو، فسألهم أن يعطوه منها ففعلوا وقدم بها مكة ونصبها حول الكعبة. اليهودية: يرجع البشر على اختلاف مذاهبهم وأديانهم إلى جد واحد وهو آدم وإلى أبناء سيدنا نوح الذين تناسلوا وتكاثروا وانتشروا على سطح الأرض. ومعلوم أن عرب الجاهلية واليهود هم أبناء سام ولذلك سموا بالساميين واستوطنوا في الأصل الديار الكنعانية المعروفة اليوم بفلسطين ومشوا منها إلى حدود مصر جنوباً وإلى العراق ثم إلى منتصف آسيا شرقاً. والحاميون أبناء حام سكنوا مصر والحبشة وانتشروا القسم الثالث أي أبناء يافث فهم في القارة الأوربية والأرض التركية. ولما ظهر الأب الأول سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ومن بلدته الرها أورفة من ديار الكلدان جاء منقاداً بمشيئة الله إلى الأرض الكنعانية وأقام في بلدة حبرون أي خليل الرحمن رمزاً لمودة الخالق له. وهنا نغضي عن سرد ما أوتي من المعجزات ونغفل أيضاً عن ذكر من جاء بعده من الأباء والأنبياء الكرام وما أوتوا هم أيضاً من المعجزات والكتب المقدسة حافلة بكل ما يراد معرفته بهذا الشأن. ولا نرى بداً من الإشارة فقط إلى أن سيدنا إسماعيل بن الخليل الأكبر قد نزح وأمه هاجر من الأرض الكنعانية إلى شبه

جزيرة العرب وبقي أخوه إسحاق في تلك الأصقاع الموصوفة بأرض الميعاد، إشارة إلى العهد الذي أعطاه الخالق سبحانه وتعالى خليله إبراهيم القائل بإعطاء الأرض الكنعانية على رحبها إلى نسله. وقد سميت بالأرض المقدسة أيضاً عندما بدأ اليهود يحجون إلى الهيكل المقدس الذي بناه سليمان الحكيم. وقد كان بناء هذا الهيكل مدعاة لتمسك اليهود بهذه الديار ولعدم النزوح عنها إلا لتعاطي التجارة لمن كان مكروهاً بحكم الضرورة على الإقامة موقتاً في الأقطار المجاورة. وقد وجدت في الدهر الغابر آثار تاريخية كثيرة تدل على نزول اليهود حوران ودمشق وبلاد الفينيقيين الواقعة على شاطئ البحر المتوسط. ومما لا ريب فيه أن اليهود قد أقاموا عصوراً في القطرين الذين دوختهما جيوش النبي داود وأعني بهما سورية وشمال ما بين النهرين. ولما أعمل نبوخذ نصر ملك بابل 600ق م سيفه باليهود هاجر قسم منها إلى فارس وآسيا الوسطى وآب قسم أخر إلى دمشق. وعادت البقية وعلى رأسها نحميا ودانيان وجددوا بناء الهيكل المقدس ولم يلبث أن جاء تيطوس الروماني 70ب م وهدمه. وقد أعمل هو أيضاً السيف برقابه وأضطرهم إلى النزوح إلى الأمصار البعيدة كاليونان والأندلس وشمال إفريقية. وقد روي عن بولس الرسول أنه حاول إقناع اليهود القاطنين في الشام لا تباع السيد المسيح والتدين بدين النصرانية، وهذا مما يدل على وجودهم في تلك الأزمنة في هذه الديار. ثم أن قائدي عساكر سيدنا عمر عندما فتح الشام انتخبا نفراً غير قليل من اليهود والمسلمين الدمشقيين أرباب الصناعات والفنون الجميلة وجيء بهم بعد إلى بلاد بخارى فتوفروا على البناء المتوافر تمام المماثلة للنسق الدمشقي من حيث طرز البناء ورسومه وأشكاله وأدواته حتى يخيل لمن يزور تلك الأصقاع أنه في سوق أو دار من أسواق الشام ودورها. ثم إن نزول اليهود في دمشق منذ أمد بعيد مشهود ومحسوس من كنيس قرية جوبر التي تبعد بضع دقائق عن شرقي دمشق وقد جاء ذكره في التلمود الموضوع منذ أكثر من ألفي سنة وذلك بقوله في الحرف الواحد: كنشتاديبه جوبر ومعناه كنيسة جوبر القائمة إلى يومنا هذا والتي كانت مقراً للنبيين

إيليا الخضر وتلميذه اليشاع اليسع. وفي بعض دور الكتب العبرية في دمشق إلى اليوم آثار مخطوطة يرجع عهدها إلى القرن الحادي عشر للميلاد. وصفوة القول أن اليهود لم ينقطوا عن الشام لا سيما عند فتح المسامين لها إذ ثبتت أقدامهم فيها وتوفرت لهم أسباب الهناء والرخاء. ولم تؤثر التطورات والفتوحات التي وقعت في القطر في اعتقاد اليهود الديني ولا غيرت شكلاً من مراسيمهم، بل كانت بالعكس سبباً قوياً لتضافرهم وتحفزهم لدرء كل ما من شأنه أن يفسد لهم معاملاتهم وعاداتهم. وما زالوا منذ الخلقة كسائر اليهود يعبدون الله عز وجل ويوحدونه ويعرفونه بيهوه كما تسمى إلى آدم وإلى الآباء والأنبياء بقوله لهم باللفظ العبري: إني ي هـ وهـ أي أنا يهوه. وقد فصل المجتهدون من علماء اليهود اسمه المقدس تفصيلاً وافياً خلاصته باللغة العبرانية: هيا، هيو، يهيه ومعناه كان، في الماضي وكائن في الحال وسيمون في المستقبل أي إنه تعالى حي قيوم دائم إلى الأبد. وكان يرفق أحياناً اسمه الكريم في التوراة كلمة إلوهيم أو شداي ومعناهما الجبروت والشدة. ويحترم اليهود أيضاً الأنبياء الذين أوحي إليهم في زمن ملوكهم وعددهم 48. يتآلف اليهود مع مواطنيهم مهما اختلفت نزعاتهم. فهم فرنسيس في فرنسا، وروس في روسيا، وإنكليز في بريطانيا، وهنا أيضاً لا يختلفون عن الشاميين من حيث الأخلاق والزي. ولأسمائهم دخل قوي في الألفة مع مسلمي الشام. فهم يتسمون بأسماء لا يسمى بها غيرهم من اليهود كصبحي وصبري وعارف ومراد ويحيى وعبده وبهية وعائشة وجملية إلى ما هنالك من الأسماء المحضة، ومما يزيد ائتلافهم مع المسلمين أنهم مضطرون بحكم الدين الموسوي أن يراعوا مثلهم أحكام الختان والغسل والطهارة. ولغة اليهود العبرية أينما حلوا ورحلوا يتعرف بها بعضهم إلى بعض وبها يؤدون فروض صلواتهم اليومية وشعائرهم الدينية، ولغتهم هذه هي شقيقة اللغة العربية. فإن الصرفيين العرب لا يتعذر عليهم تعلم اللغة العربية والتعمق

السامرة:

في دقائقها. وهي كما قلنا لغة سامية تكتب كالعربية من اليمين إلى الشمال وأغلب كماتها هي كشقيقتها لفظاً ومعنى. وعدد حروفها 22 حرفاً وهي: اب ج د هـ وز ح ط ي ك ل م ن س ع ف ص ق ر ش ت أي أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت. وقد كان للغة العبرانية الفضل الأكبر في حفظ حياة اليهود إلى هذا الزمن فهي التي جمعت شملهم في البلدان المختلفة وهي التي ذبت عن حياضهم وحافظت على كيانهم. وقد العلماء المعاصرون على رفعها إلى مصاف اللغات الحية مما حدا بهم على تأسيس الجامعة العبرية في القدس الشريف في 1 نيسان سنة 1925 وبدءوا بترجمة الآثار النفيسة والكتب المفيدة إليها. ولا يمضي زمن حتى يكون لهذه اللغة على ما أرى شان عظيم ومركز سام. ورب قائل بقول: إنه قد يحثوا دون توسع علماء اليهود في الترجمة والإنشاء فقدان الكلمات الفنية الحديثة من اللغة العبرانية، فالجواب، أن التلمود أتي على ذكر بعض المخترعات التي نظنها وليدة القرن الغابر أو الحاضر كالمناطيد والكهرباء وسماها بأسمائها المخصوصة. وقد أعيدت إلى اللغة في هذا العصر ومع هذا لم يحجم علماء اللغة في القرن الماضي عن استعمال الكلمات الدخيلة المحتاج إليها والتي تفي بالمعاني المقصود إدخالها على اللغة العبرانية. السامرة: ينسب السامريون أنفسهم إلى سبط يوسف وينسب كهانهم أنفسهم إلى سبط لاوي ويقررون أن هذا السبط هو بيت الكهنوت الإسرائيلي حصراً. والسامرية نسبة إلى إقطاع شمر ونيم الذي كان في ملك سامير الأشوري الشمرونيمي. وذلك إن الآشوريين لما غزوا فلسطين غزوتهم الأولى انتشروا في الأقاليم وامتلكوا كثيراً من الإقطاعات. وكانت فرقة شمرونيم تملكت

إقطاع سبسطية وأخذوا يستغلون أرضه بعد أن خربوا المدينة المذكورة. ثم آل هذا الإقطاع إلى سامير أمير الفرقة فجاء إليه أحد ذوي اليسار من آل يوسف واشترى إقطاعه وأخذ يعمره هو وآله، فلبستهم نسبة الأرض ثم ابتنوا أخيراً مدينتهم التي تسمت بالسامرية نسبة إلى أصل تسمية الإقطاع ومالكه الآشوري. ويعزو السامريون سبب انشقاقهم عن سائر أسباط إسرائيل إلى خلاف ديني نشأ بينهم وبين هذه الأسباط. وذلك أن الإسرائيليين ظلوا إلى القرن الثالث من دخولهم أرض كنعان يقدسون جبل جرزيم الذي هو جبل نابلس الجنوبي ويقربون عليه قرابينهم اعتقاداً منهم أن يوشع أقام هيكل العبادة الأول في هذا الجبل. وكان إلى ذلك التاريخ مركز حجهم ومقام إمامهم الأكبر وكاهنهم الأعظم. فلما ورث الأمامي الكبرى الإمام عزي ابن بحقي وكان حديث السن فحسده الكاهن الأعظم عالي وأنف أن يكون له مرءوساً وأخذ يدس الدسائس حتى نجح في استمالة فريق من الإسرائيليين فهجروا جرزيم وانتقلوا إلى سيلون - قرب القدس وكان ماهراً في الشعوذة وأعمال السحر، فعظم حوله الجمع فأقام هيكلاً وصندوقاً للشواهد وادعى أنهما الأصليان وأوجب تقديسهما وصرف الوجوه عن جرزيم. وقد ساعده في عمله اختفاء الهيكل وصندوق الشواهد اللذين أقامهما يوشع على جرزيم بأعجوبة ربانية انتقاماً من اليهود لمخالفتهم الشريعة وانغماسهم في المعاصي. فاعتبر سائر اليهود قول عالي وأخذوا يقدسون هيكل سيلون. أما سبطا يوسف ولاوي فإنهما ظلا على عهدهما من نصر الإمام عزي وتقديس جرزيم واعتباره المحل المختار الذي اختاره الله للهيكل والذبيح. ومن هذا الحين أصبح الإسرائيليون فرقتين: فرقة عزي ومركزهم جرزيم وحددوه، وفرقة عالي ومركزهم سيلون. وقد استحكم العداء بين الفرقتين فأخذتا تبتعدان إحداهما عن الأخرى وطفقت كل فرقة تلصق بالأخرى التهم، وجرت بينهما مناقشات ومنازعات كانت تؤدي في بعض الأوقات إلى إراقة الدم. يقول السامريون: إن عالي الكاهن بعد أن عظم أمره أخذت مطامعه تظهر

وأساء السيرة في اليهود هو وأولاده وأخذوا يخالفون أوامر الله وشريعته، وقد تبنى ولداً أسمه صمويل أتقن الشعوذة. وأغتنم الفلسطينيون فرصة انشقاق الإسرائيليين على اليهود ونكلوا بهم، فلما مات الكاهن خلفه صمويل فلم ير إلا أن يدعي النبوة ربطاً لقلوب اليهود به، فصدقه هؤلاء لقوة شعوذته ودهائه ولكنهم طلبوا منه أن يقيم عليهم ملكاً يدير شؤونهم ويجمع شملهم دفعاً لخطر الفلسطينيين فأقام عليهم شاول الملك. وكان من أعمال هذا الملك إشهار الحرب على سبطي يوسف ولاوي لعدم اتباعهم لهم وعدم اعتبارهم هيكل سيلون وذبحهم معهم في مذبح سيلون. وقد كبس شاول السبطين في عيد المظال فقتل منهم كل من وجده وذبح إمامهم الأكبر شيشي بن عزي وخرب محل عبادتهم في جرزيم ونقض حجارة الهيكل. واحتل منطقتهم فتشتت قسم كبير من اللذين سلموا من القتل منهم. وظل آل يوسف ولاوي اثنين وعشرين عاماً ولا يقدرون على أداء فريضة الحج ولا يجرءون على التظاهر بشعائرهم الدينية. وقد حاول كاهنمه الأكبر باير داود حينما ملك باحترام جرزيم وبناء الهيكل فيه ينجح، وأخذ يقيم الهيكل في يابيس القدس الآن وادعى هو وابنه سليمان من بعده أنه المحل المختار وأناطوا به جميع المقدسات المنوطة بجرزيم دون أن يكون في أسفاره التوراة الخمسة دليل على ذلك في زعم السامريين. ولما غزا بختنصر فلسطين أجلى في من أجلاه آل يوسف إلى بابل وأسكن محلهم أمماً غريبة فسبب ذلك انحباس الأمطار وعطب الزيتون، فالتمس القاطنون من الملك أن يسأل آل يوسف عن سبب ذلك فأجابه هؤلاء أن لنا جبلاً مقدساً نحج إليه ونتقرب إلى الله فيه بالقرابين لا نرى فيه حبساً ولا عطباً، فعزم على أعادتهم إلى أرضهم ليقيموا شعائرهم. وقد وقع في هذا السياق بينهم وبين آل يهوذا خلاف على المحل المختار ولكن آل يوسف أقنعوا الملك بقوة نصوصهم فرجحهم وأعادهم وجعل لهم شيئاً من السلطة فجاءوا وأقاموا هيكلهم على يابيس وهدموا هيكلها. فكان نجاحهم هذا عاملاً جديداً في ازدياد النفرة بين الفريقين أولاً وتحريف اليهود نسخ التوراة الموجودة في أيديهم ثانياً.

وقد طعن اليهود في أصلهم فقالوا عنهم كوتيين ونعتوهم بأنهم وثنيون وأن لهم صنماً اسمه أشيما نكايةً وتغرضاً. وانتقاماً. وقد كان اليهود في عهد الحكم الروماني والفارسي كثار العدد. وكان لهم يد كبرى في الثورات الوطنية التي كانت تنشب من حين إلى آخر، وقد أفنت هذه المنازعات عدداً كبيراً. فلما دخل العرب فلسطين أخذ السامريون يدينون بالإسلام فيقل عددهم رويداً رويدا إلى أن أصبحوا طائفة قليلة جداً ربما لا يتجاوز عددها الآن مائتي نفر ذكوراً وإناثاً كباراً وصغاراً. وقد اقتبسوا من المسلمين واقتبس المسلمون منهم في نابلس على توالي الأيام كثيراً من العادات واللهجات. وهم الآن يتكلمون بالعربية النابلسية العامية. وقليل منهم يعرف العبرانية كما أن عبرانيتهم قديمة بينهما وبين عبرانية اليهود اختلاف بين وإن متت اللغتان إلى أصل واحد. ولا يزال أصل بعض الأسر المسلمة في نابلس معروف النسبة والأرومة في الطائفة السامرية. ينعت السامريون أنفسهم بالمحافظين لأنهم حافظوا ولا يزالون يحافظون على أدق شعائر العبادات والشريعة دون تأويل ولا انحراف. ويزعمون أن التوراة التي في أيديهم أصدق وأقدم توراة وأنها بخط أبيشع فينحس ابن العزر بن هرون نقلها أبيشع عن المدرج الذي كتبه بيده موسى عليه السلام. وتوراتهم هذه مدرج طويل من الرق له أسطوانة مفضضة محفوظة في معبدهم تكاد تكون سلوتهم الوحيدة في هذا العالم الذي أصبحوا فيه غرباء عن كل اُمَمِهِ وأثرها تاريخياً أكثر مما هو شعي حي. وهم يزعمون أن توراة اليهود قد فقدت مراراً وحرقت كثيراً وأن التوراة التي بين أيدي اليهود ملفقة بالظن والحدس على غير أساس، وأن اليهود عدا ذلك قد تسامحوا بكثير من مظاهر الدين وأولوا نصوص الشريعة فصار بينهم فروق كثيرة. وفي أيدي السامريين كتب جدلية كثيرة في تثبيت طريقهم والطعن في طريقة اليهود وتفسيراتهم وتأويلاتهم. وأول خلاف نشأ بينهم وبين اليهود خلاف القبلة. فالسامريون يعتبرون جبل جرزيم الجبل المقدس والمحل الذي أمر إبراهيم عليه السلام بذبح ولده عليه والذي أمر يوشع من قبل موسى بإقامة الهيكل فيه ويقررون أن عيد

الفسح وقرابينه لا تجوز إلا في هذا الجبل وحدود منطقته التي لا تتعدى منطقة نابلس الآن. ومن الخلافات بينهم وبين اليهود وقت الختان. فالسامريون لا يقبلون عذراً لتأخير يوم الختان إلى ما بعد اليوم الثامن من الولادة على حين يتجوز اليهود في ذلك. وبين الفريقين خلاف في مواعيد الأعياد وشعائرها وفروعها وفرضية القرابين والطبقات الملزمة بها. وللسامريين أصول فلكية دقيقة يستندون إليها في حساب تولد الأهلّة وتعيين مواعيد الأعياد والشعائر. ويخالف السامريون اليهود في تجويز بعض الأنكحة فهم يحرمون نكاح امرأة الأخ الشقيق وبنت الأخ وزوج الأخت وامرأة العم وامرأة الخال واليهود يحللونها. وكذلك هم يختلفون في بدء عيد الفطير والطقس الخمسيني ذوي الأسابيع السبعة المقدسة التي يحيي بها الإسرائيليون ذكرى أسابيع الخروج من مصر ودخول أرض كنعان. والسامريون يتشددون في شعائرهم الدينية لا سيما يوم السبت، ويزعمون أنهم يطبقون أوامر التوراة حرفياً. ويتشددون في أحكام الدم والنجاسات ومواعيد الطهارة وكيفياتها ويحملون أنفسهم عبئاً لا يملك الإنسان نفسه من الشفقة عليهم من أجله. وهم اليوم لا يغسلون موتاهم ولا يحملونهم وإنما يستأجرون لهذين الغرضين أناسا من المسلمين لأن للميت وغسله ومائه نجاسات يتعذر طهر السامري منها في الحال الحاضر. ويقولون: إن السامري لا يطهر منها إلا إذا رش بعد عزلة الأيام السبعة برماد بقرة مقررة الصفات. وقد نفذ هذا الرماد الذي كانوا يتوارثونه منذ أمد طويل ولم يمكنهم تعويضه. وللسامريين صلوات مفروضة يوم السبت وغيره. ففي غير السبت لهم صلاتان مفروضتان هما صلاة الصبح وصلاة المغرب. وفي يوم السبت صلاتان زائدتان على تينك الصلاتين هما صلاة الظهر وصلاة الصرفة. وصلاتهم ذات ركوع وسجود وانتصاب يتلون فيها سوراً من التوراة. وهم يتوضئون قبيل الصلاة وضوءاً يقرب من وضوء المسلمين. وأهم أعيادهم عيد الفسح في آخر أسبوع الفطير. ويكون في الرابع عشر من الشهر القمري الذي يجتمع مع شهر نيسان. وهو عيد سنوي جامع يشبه الحج. يصعد السامريون فيه كبارهم وصغارهم جبل جرزيم. ويوجبون

حضوره على كل سامري ولا يقبل للمتخلف عذر. فإذا كان يوم العيد وأخذت الشمس بالزوال تهيئوا للعيد في ثياب بيضاء وجبب زاهية واعتصموا بعمائم بيضاء أو حرير أغبانية مطرزة وهيئوا سبعة أكباش سالمة من كل عيب ونقص وحفروا تنوراً عميقاً يبنونه بحجارة مرصوفة من دون طين. فإذا آن وقت الغروب يأخذون بتلاوة التوراة وقراءة التراتيل مصطفين على شكل إمام ومؤتمين، فجينما يأزف الوقت المقرر وهو بين الغروبين يعطي الكاهن الأكبر إشارته فيذبح الذباحون الأكباش بسرعة البرق، ثم ينتهون من هذه الصلاة الأولى ويبادرون جميعاً لتحضير الذبائح ينتفها أناس ويملحها آخرون، وبعضهم يوقدون النار ويحمون التنور وهم في كل أعمالهم هذه في صلاة لا يفترون عن التلاوة والترتيل. ثم يحرقون شحوم القرابين وأطرافهم على مذبح يصنعونه من الحجارة ويلقون بعد ذلك الذبائح في التنور، ويقضون بعد ذلك ثلاث ساعات في الصلاة ريثما ينضج القرابين فيرفعون عنها الحجارة ويخرجونها ويأكلونها، وبعد أن ينتهوا من الأكل يحرقون الفضلات والعظام، إذ أنه لا يجوز لغريب أن يمس الذبيحة ولا أثراُ منها. وقد اعتاد المسلمون في نابلس أن يصعدوا الجبل في هذا اليوم للتفرج أولاً ولزيارة شيخ لهم اسمه الشيخ غانم يظن أنه من شهداء الحروب الصليبية اه. وفي كتاب ولاية بيروت أن شروط العقيدة الأصلية عند السامريين خمسة وهي الاعتقاد بوحدانية الله، ونبوة موسى، وأن التوراة كتاب منزل، وأن جبل جرزيم هو مقدس، وأن الساعة آتية لا ريب فيها. ويعتقدون أن الله منزه عن جميع الصفات ولا يؤمون بنبوة أحد من الأنبياء سوى موسى ويُشع ويعتقدون أن البشر يحاسبون على أعمالهم في اليوم الآخر ويؤمنون بمجيء المهدي ويطلقون عليه أسماء مختلفة فيسمونه حاشا حيب وحاطا حيب ومرجع وأن لظهور علائم فيظهر كلمة الله وينقل عصا موسى وألواحه العشرة ويجيء بقدرة المن وهي الحلوى الإلهية. ويعتقد السامرة بالملائكة ويفرض على كل سامري أن يصلي ويزكي، فلصلاة صلاتان: إحداهما صلاة الصبح، والثانية صلاة الغروب، وكل صلاة إحدى عشرة ركعة،

الأرثوذكسية:

جماعة أفضل، والصلاة مفروضة على الرجال والنساء ولكن النساء لا يخالطن الرجال خلال الصلاة، ويشترط أن يكون المصلي طاهراً والطهارة عندهم على نوعين الغسل أولاً والوضوء ثانياً، فالطهارة من الحدث شروط أولى على كل موسوي حتى إن لمس الحائض موجب للغسل، وعلى الحائض أن تحضر ثلاثاً من النساء يقفن على رأسها حين اغتسالها، وأما الوضوء فيغسل المتوضئ أولاً يديه، وإذا كان من أصحاب الأعمال اليدوية فيغسل يديه إلى المرفقين والساعدين ثلاث مرات. ثم يتمضمض ويستنشق ثلاثاً ثم يغسل وجهه ويمسح أُذنيه ويغسل رجليه ثلاثاً. ويتلون التوراة في الصلاة باللسان العبري القديم وتجوز تلاوتها باللغة السامرية. والحج عند السامريين هو عبارة عن زيارة جبل جرزيم وهو ثلاثة أشكال حج الفطير وحج العنصرة وحج المظال. ويمسكون في صومهم أربعاً وعشرين ساعة قبل حج المظال بخمسة أيام، فلا يدخل السامري كبيراً كان أو صغيراً شيئاً إلى فمه حتى الطفل الرضيع فإنه يمنع من الرضاعة طول هذه المدة، ولا ينامون مطلقاً في هذه الأربع والعشرين ساعة، بل يقضونها بالطاعة والعبادة. أما الزكاة في عبارة عن إعطاء واحد في العشرة من الأرباح إلى الكاهن والفقير. ويحجب السامريون نساءهم ويجوز الزواج ثانية إذا كانت المرأة عاقراً أو مريضة أو ذات عيب شرعي. وأصول مواريثهم لا تخالف أصول الشريعة المتبعة عند جميع الموسويين. الأرثوذكسية: ليس من دين يدين به أبناء آدم إلا فيه مذاهب متباينة بتباين منازع زعمائه. فقد خاصم أهل الختان المنتصرون رسل المسيح ليقنعونهم بوجوب اختتان الوثنيين الراغبين في التدين بالنصرانية. ولكن الرسل والكهنة اجتمعوا في أورشليم في السنة الخمسين بعد الميلاد وحكموا بألا يثقل بهذا الناموس على من يرجع إلى الله من الأمم اع11: 2 - 3 و15: 1 - 31 و16: 1 - 3. وفي القرن الثاني نشأت في الدين المسيحي بدع اليهود الناصريين والنيونيين والكلساعيين والشمشونيين والفنوستيين على تفرق نحلهم فانتبذتهم الكنيسة

وعاجلهم سهم القضاء. وقام بعدهم مبتدعون كثيرون اشتهر منهم في القرن الرابع قس كنيسة الإسكندرية آريوس، إذا كفر بألوهة المسيح فجمعت عليه الكنيسة سنة 325 مجمعاً مسكونياً في مدينة نيقية حضره ملوك المسيحيين القيصر قسطنطين الكبير وثلاثمائة وثمانين عشر أسقفاً ما عدا الكهنة والشمامسة والعلماء وحكمت عليه فعري من الكهنوت ونفي وقطع السبب بأتباعه. وبتأثير ضلال آريوس كفر مكدونيوس أسقف القسطنطينية بالروح القدس فحكمت عليه الكنيسة وعللى بدع آفنوميوس وأبوليناريوس وصباليوس وماركلوس وآفدوكسيوس وفوتينوس بالمجمع الثاني المسكوني الذي التام سنة 381 في القسطنطينية على عهد القيصر ثيوذوسيوس الكبير وحضره مائة وخمسين أسقفاً أثبتوا صلاحية المجمع الأول الشرعية وأكملوا دستور الإيمان الذي وضعه، قاضين بإقامته على كل أرثوذكسي فهو شعار إيماننا إلى اليوم القيامة ومطلعه أومن بإله وأحد آب ضابط الكل خالق السماء والأرض. . . وحطوا مكدونيوس من رتبته الكهنوتية فسكن نسيس مشايعه. وأولع نسطوريس أسقف القسطنطينية بعشق الإمامة نافراً إليها في شاكلة من خالف ليعرف فكفر بالمسيح وأمه مريم فرمته الكنيسة بإقحاف رأسه في مجمعها الثالث المسكوني الذي اجتمع في مدينة أفسس سنة 431 على عهد القيصر ثيوذوسيوس الصغير وحضره نحو مأتي أسقف قرعوا ضلال نسطوريوس بالحق فأسقط من الكهنوت ونفي إلى مصر وباتت بدعته تذمى في الكلدان كالخنفساء إلى اليوم. وركب أوطينما الراهب رأسه في محاربة ضلال نسطوريوس حتى انتشر عليه رأيه في طبيعتي المسيح ففسد إيمانه بهما وأغرق في غوايته حتى انتصفت منه الكنيسة بحكمها عليه وعلى بدعته بمجمعها المسكوني الرابع الذي اجتمع في خلكيدون سنة 451 وحضره القيصر مركيانوس وستمائة وثلاثون أسقفاً. وضرب الدهر بين القائلين بالطبيعة الواحدة فتشردوا قدداً عليها المنية لولا زعيمهم أسقف أرفاً يعقوب الزنزلي المشهور بالبرادعي. فإنه لأم صدعهم بتجديده لهم مركز البطريركية في إنطاكية فتسموا باليعاقبة إكراماً له وانقسموا إلى سريان وأرمن ومصريين.

وفي سنة 553 اجتمع المجمع المسكوني الخامس في القسطنطينية على عهد القيصر يوستنيانوس الكبير وكان أعضاؤه مائة وخمسة وستين أسقفاً حكموا على غوايات أوريجانوس الشهير وما يعرف في التاريخ الكنسي بالقضايا الثلاث وأثبتوا أحكام المجامع المسكونية الأربعة. وفي سنة 680 التأم المجمع المسكوني السادس في القسطنطينية وحضرة القيصر قسطنطين اللحياني ومائة وسبعون أسقفاً وفي رواية أخرى مائتان وتسعة وثمانون أباً حكموا على القائلين بالمشيئة الواحدة في المسيح، منهم سرجيون بطريرك القسطنطينية وأونوريوس بابا رومية وأقاموا المجامع المسكونية الخمسة فباتت هذه البدعة تعالج النزع في شيعة الراهب يوحنا مارون التي عرفت بالمردة وانحصرت على فتن لبنان وتسمى الآن بالمارونية نسبة إلى الراهب المذكور الذي صار أسقفاً أول عليها حتى استوفت أنفاسها أيام حملات الفرنج الصليبين على الشام سنة 1182 فإنهم جذبوا الموارنة إلى الخضوع لكنيسة رومية فثبتوا فيه بعد أن طرد المسلمون الصليبين، إلا أنهم أبدلوا بدعة المشيئة الواحدة بما ابتدعته رومية بعد أن قطعتها الكنيسة من شركتها في القرن الحادي عشر. وفي سنة 726 بدأ القيصر لاون الايصوري محاربة صور الأولياء الأيقونات وبقاياهم وشايعة أسقافه كثيرون فتأذنت الكنيسة من هذه البدعة حتى حكمت عليها في مجمعها السابع المسكوني الذي اجتمع في مدينة نيقة سنة 787 على عهد القيصرة إيريني الوصية على ابنها قسطنطين السادس وحضره ثلاثمائة وسبعة وستون أباً. إلا أن هذه البدعة تجددت في الشيع البروتستانتية في أوائل القرن الخامس عشر ولا تزال ترهقها بأضرار جمة عاملة على تشعث ألفتها وتمزق شملها. وفي سنة 879 التأم المجمع المسكوني الثامن في كنيسة أيا صوفيا وحضرة القيصر باسيليوس المكدوني وعماله ليحافظوا على النظام جرياً على عادة أسلافه العواهل العظام وثلاثمائة وثلاثة وثمانون رئيس كهنة أثبتوا دستور الإيمان الذي وضعه المجمعان الأول والثاني على ما مر قاضين بانتباذ من يزيد فيه أو ينقص منه. ولا يحصى هذا المجمع رسمياً مع المجامع السبعة

المذكورة، مع أن الكنيسة كلها شرقاً وغرباً اشتركت فيه وقررت أحكامه بالاتفاق التام جرياً على عادتها فيها. وسبب ذلك أنه لم يلتئم بعده مجمع مسكوني تام الشروط ليثبت صلاحيته الشرعية اتباعاً لنظام المجامع. ونشرت كنيسة رومية الدين المسيحي في شعوب أوربا أيام كان الله خاتماً على قلوبهم، فبذلوا لها مقادتهم وخشع ملوكهم أمام أساقفها فعصفت في رؤوس الباباوات زوابع المجد العالمي واسترسلوا في سعيهم وراء السلطة المطلقة على الممالك والكنائس، فنزل جهل الغرب المطبق على مقترحهم وأسدر عيونهم نور الشرق - والشرق مبعث النور - فنصح لهم البطريركان المسكونيان أن يتزعوا، فما كان منهم إلا أن غلوا في طغيانهم فنبذتهم الكنيسة بمجمع التأم على عهد القيصر قسطنطين مونوماخس والبطريرك ميخائيل المذكور، فعمدوا بعد يأسهم إلى القوة البدنية توصلاً إلى ما اشرأبت إليه أطماعهم فسيروا على الشرق الحملات الصليبية التي سودت بإفحاشها فيه مجلدات برمتها حتى محقها المسلمون وطهروه منها وردوا على الكنيسة الأرثوذكسية حقوقها التي منحها إياها الخليفة عمر بن الخطاب وخلفاؤه. فمقت الروم اللاتين حتى آثروا أن يروا عمامة السلطان محمد الثاني الفاتح في كنيسة أجيا صوفيا على أن يروا فيها كمة البابا. ولما انحجب نور الشرق عن رومية تاهت كنيستها في شعاب الباطل فأجفل منها معظم أمم أوربا متعوذين بالمذهب البرتستانتي، فأنشأت لهم ديوان التفتيش المشهور بفظائعه. ثم لما سطع فجر العلم في أوربا وامتنع عليها إكراه الناس على التدين بما تمليه عليهم عمدت إلى دهاء الرهبانيات كالجزويت والكبوشيين وغيرهم فاستغوت بالمال حزائق من الطواف الشرقية القديمة، منها حزيقة الروم الكاثوليك الذين استغوتهم من الملة الأرثوذكسية فانتحلوا لأنفسهم وصف الملكيين ليوهموا الناس أنهم الأصل ولكنهم لم يوهموا إلا أنفسهم فصدق فيهم قول المتنبي: إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه ... وصدق ما يعتاده من توهم أما الحقيقة التاريخية فهي أن القائلين بالطبيعة الواحدة من أقباط مصر

الكثلكة:

نعتوا الأرثوذكسيين بالملكيين لتمسكهم بإيمان ملوك القسطنطينية. فمن هذه الحقائق التاريخية التي أيدتها شواهد العقل والنقل المثبتة في المطولات يعلم المطالع: 1 - أن الحقيقة الإنجيلية حفظت في الكنيسة الأرثوذكسية مصونةً عن كل شائبة بدعة وضلال وستحفظ إلى منتهى الدهرمت16: 18و28: 20يو14: 16. 2 - وأن المملكة البيزنطية التي عاشت زهاء ألف ومائة وخمسين عاماً قد ناصرت الكنيسة على صيانة هذه الحقيقة مؤثرة إياها على المصلحة المادية. 3 - وأن أمر الكنيسة الأرثوذكسية شورى لأنها تعمد في حل المشكلات إلى المجامع اقتداء برسل المسيح المخلص فلا يستبد فيها شخص واحد برأيهمت 18: 15 - 17 واع 15: 6. 4 - وأن السلطة العليا فيها منحصرة في المجامع المسكونية وحدها فهي تؤمن بما حددته من عقائد الإيمان المقررة في الكتاب المقدس وتأتمر بأوامرها وتحفظ قوانينها وتنبذ كل نبذتها وتحكم على من يتجاسرون على نقض أحكامها والعبث بقراراتها أياً كانوا. 5 - وأن الشرق كان موطن أخبار الدين المحققين، وجهابذة اليقين الراسخين، الذين حددوا العقائد المسيحية تحديداً لا يحتمل التأويل والتبديل بما أقاموا عليها من البينات الواضحة والحجج الدامغة مما اضطر الغرب أن يجعل قياده في يده وينزل على حكمه في جميع الأمور الدينية. 6 - وأن الروم الأرثوذكسيين كانوا أصحاب البلاد وكان معتقدهم سائداً في من توطنها من العباد حتى افتتحها المسلمون وأمنوهم على دينهم وأموالهم فعاش بوجاهتهم في الممالك الإسلامية حتى اليوم بقية الطوائف النصرانية التي حكمت عليها الكنيسة قبلاً، وقد قال القرآن الشريف في الروم (غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون) سورة الروم. الكثلكة: الكثلكة أو الدين الكاثوليكي أو الكنيسة الكاثوليكية اسم واحد للمذهب

الديني المعروف الذي يدين به اليوم نيف وثلاثمائة مليون من البشر كما ورد في أضبط الإحصاءات الحديثة. يعلن أصحابه ويثبتون قولهم بالبرهان أنه هو الدين الوحيد الذي بشر به السيد المسيح قبل تسعة عشر قرناً وأخذه عنه رسله الحواريون لينشروه بأمره في كل العالم متى28: 18 - 20 مرقس 16: 15 تحت رئاسة الأساقفة الخاضعين للحبر الأعظم بابا رومية وخلف القديس بطرس المقام من السيد المسيح كالمتقلد الرئاسة العامة المطلقة على كنيسته وكراعي نعاجه وخرافه متى16: 18 - 19 يوحنا 21: 15 - 17 وأما اسمها فمشتق من لفظة يونانية معناها الجامعة والمنتشرة في كل الأرض لأن الكنيسة الكاثوليكية منذ عهد الرسل انتشرت في جميع أنحاء المعمور حتى ما وراء حدود المملكة الرومانية. وأصل الكثلكة تلك الجماعة الأولى التي أنشأها السيد المسيح بذاته ودعاها كنيسة متى 16 - 18 ألفها من الاثني عشر رسولاً متى 10: 2 - 5 ثم من الاثنين والسبعين تلميذاً لوقا 10: 1 وأنبأهم بتبشير إنجيله في كل العالم متى26: 13 وأوصى تلامذته قبل صعوده أن يتلمذوا كل الأمم ويعمدوهم باسم الأب والابن والروح القدس ويعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصاهم به متى28: 19 - 20 فما مر عليهم بضعة أيام حتى حل عليهم البارقليط أي الروح القدس الذي وعدهم بإرساله يوحنا15: 26 فأنطقهم بألسنة جميع الأمم التي كان حضر بعض أبنائها أورشليم لعيد العنصرة ووقفوا بذلك على الدين الجديد أعمال2: 1 - 12 فاعتمد في ذلك اليوم ثلاثة آلاف من اليهود أعمال2: 41 ثم بلغ عددهم خمسة آلاف بعد أيام 4: 4 ثم شاع اسمهم فعرفوا بالمسيحيين 11: 26 ثم صار التخصيص بظهور بعض الشيع فدعوا بالكاثوليك وكنيستهم بالكنيسة الكاثوليكية قريباً من عهد الرسل كما ورد في كتاب القديس أغناطيوس تلميذهم والفيلسوف يوستنيوس النابلسي المستشهد سنة 165م ولم يزل مذ ذاك الوقت اسمهم الخاص دون سواهم. يؤمن الكاثوليك بكل العقائد التي أوحى الله في الكتب المنزلة وفي التقليد. وتقسم الكتب المنزلة إلى قسمين أسفار العهد العتيق وأسفار العهد الجديد.

وأسفار العهد العتيق منها أولية ومنها ثانوية. فالأولية هي التي كتبت في الأصل باللغة العبرانية وهي: أسفار موسى الخمسة التكوين والخروج والأحبار والعدد وتثنية الاشتراع ثم الأسفار التاريخية يشوع والقضاة وراعوت والملوك الأربعة وأخبار الأيام الاثنان وعزرا ونحميا وأستير ثم الأسفار النبوية: أربعة كبار أشعيا وأرميا وحزقيال ودانيال واثنا عشر صغار هوشع ويوئيل وعاموس وعوبديا ويونان وميخا وناحوم وحبقوق وصفنيا وحجاي وزكريا ومليخا ثم الأسفار الحكيمة مزامير داود وأمثال سليمان وأيوب ونشيد الأناشيد والجامعة. أما الأسفار الثانوية فهي التي كتبت بالكلدانية أو اليونانية ونقلت في الترجمة المعروفة بالسبعينية وهي طوبيا ويهوديت وابن سيراخ والمكابيون اثنان. وهذه كتب العهد الجديد: الأناجيل الأربعة القانونية للرسولين متى ويوحنا وللتلميذين مرقس ولوقا. ثم سفر أعمال الرسل للقديس لوقا. ثم رسائل القديس بولس الأربع عشرة ثم رسالة القديس يعقوب ورسالتا بطرس وثلاث رسائل يوحنا ورسالة يهوذا ورؤيا يوحنا. وفي الكنيسة الكاثوليكية معتقدات أخر ليست مدونة في الأسفار المنزلة وإنما أخذتها بالتعليم الحي بسلسلة متواصلة من عهد الرسل إلى يومنا وأعلنت بها في مجامعها أو في براءات أحبارها وفي تعليمها اليومي. وخلاصة هذه المعتقدات المدونة في أسفار العهد ولا سيما في أسفار العهد الجديد مرجعها إلى ما يلي: أولاً عقيدة التوحيد: أي اعتقاد وجود إله واحد روح بسيط أزلي لا أول له ولا آخر لا يحصر جوهره المكان، قائم بذاته ذو صفات وكمالات لا حد لها من قداسة وحكمة وقدرة ورحمة وعدل. وهو خالق كل الكائنات الروحية والهيولية من العدم بجوده واختياره. ثانياً عقيدة التثليث: هذا الإله الصمد ذو الجوهر الفرد والطبيعة الإلهية الواحدة له ثلاثة أقانيم هي صفات جوهرية نسبية متساوية بكل كمال وكل

قدرة لا يفرقها شيء نسبة بعضها إلى بعض. فندعو الأقنوم الأول أباً وهو أصل اللاهوت غير مولود وغير منبثق. والثاني ابناً مولوداً من الآب منذ الأزل ليس ولادة جسدية بل ولادة عقلية روحية بمعرفة الأب لذاته وكمالاته يصدر بهذه المعرفة ابنه الشبيه به وضياء مجده وصورة جوهره عبرانيون 1: 3 كولوسي 1: 15 فهو إله من إله نور من نور إله حق من إله حق من جوهر الأب دستور نيقية. والثالث روحاً قدساً منبثقاً من الأب والابن ليس بطريق الولادة العقلية، بل بتبادل حب الأب لابنه وحب الابن لأبيه المولود منه. وهذا الحب ليس عرضياً بل جوهرياً ندعوه الروح القدس. وهذه عقيدة تثليت الأقانيم في الله أوصى بها الله بنوع خفي في العهد العتيق كما يؤخذ من بعض آياته، ثم صرح به السيد المسيح في نصوص عديدة من الإنجيل وقرره تلاميذه في رسائلهم بما لا يبقي في الأمر أدنى ريب وإن كان سراً يفوق الإدراك البشري. ثالثاً عقيدة التجسيد: هو سر الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس الذي تأنس وأتخذ في أحشاء مريم العذراء دون زرع بشري طبيعتنا البشرية بكل خواصها ما عدا الخطيئة ليفدي بني آدم من تبعة الخطيئة الأصلية التي ارتكبها الأبوان الأولان بمخالفتهما لأوامره تعالى في جنة عدن وخلفاها لسائر نسلهما وبها حصل هلاك الجنس البشري ففقد البرارة الأصلية التي منحها قبل خطيئته فلم يعد أهلاً للتمتع بالنعيم الأبدي ومشاهدة الله في السماء. وإذا كان الإنسان غير قادر على الوفاء عن خطيئته لجلال الله فإنه تعالى رحمه ووعده بمخلص يعيد له بفدائه ما فقده من تلك النعم تكوين 3: 15 وليس هذا المخلص إلا السيد المسيح منتظر الآباء والأنبياء وجميع الشعوب وهو الإله المتجسد ذو الأقنوم الإلهي الواحد وذو الطبيعتين الإلهية والإنسانية يوحنا 1: 14و3: 16 لوقا: 26 - 36 فهذا الإله المتأنس قضى على الأرض ثلاثاً وثلاثين سنة يعمل ويعلم وأنشأ كنيسة وأسلم نفسه اختياراً للعذابات وللموت ثم قام بقوة لاهوته من قبره في اليوم الثالث وتراءى مراراً لتلاميذه ثم صعد إلى السماء بعد أربعين يوماً. وبكل ذلك أتم جميع ما تنبأ عنه الأنبياء دون أن يخل من نبواتهم حرفاً.

ولما كانت أعماله سواء صدرت من طبيعته الإلهية كالمعجزات التي صنعها أو من طبيعته الإنسانية كمولده وموته ذات قيمة غير متناهية لصدورها عن شخصه الوحيد الإلهي شخص ابن الله فقدمها لأبيه ولا سيما موته على الصليب تكفيراً عن خطايا البشر الذين يستطيعون بعد ذلك أن ينالوا نعمة البرارة والخلاص الأبدي بواسطة المعمودية والأعمال الصالحة والتوبة عن الزلات. رابعاً عقيدة القيامة: يؤمن الكاثوليك بخلود النفس فعند انفصالها عن الجسد بالموت تدخل السماء أن كانت طاهرة من كل خطيئة ثقيلة أو خفيفة وتعاقب بعقوبات جهنم إن كانت في حال الخطأ المميت دون توبة عند الموت. أما إذا كانت مدنسة ببعض الخطايا الخفيفة أو لم تكفر تماماً عن خطاياها السابقة المغفورة فيحكم عليها بعذابات مؤقتة وذلك ما يدعونه المطهر ريثما تفي لعدل الله الوفاء التام. وفي آخر الأزمنة سيبعث الله الموتى من قبورهم فيعودون إلى أجسادهم ليحضروا الدينونة الأخيرة التي يتلوها السيد المسيح فيحكم نهائياً على البشر فيجازي الأبرار بالنعيم الأبدي ويعاقب الأشرار بالعذاب الدائم يوحنا5: 26 - 29. خامساً المعتقدات التقليدية: ماعدا المعتقدات السابقة التي وردت في الأسفار يؤمن أيضاً الكاثوليك ببعض الحقائق التي لم تصرح بها الكتب المنزلة وإن أمكن إثباتها من بعض آياتها كعقيدة عصمة الحبر الأعظم من الغلط في أمور الإيمان والآداب إذا علم كنائب المسيح وكخليفة هامة الرسل وكعقيدة حبل العذراء مريم بلا دنس وكعقيدة وجود المطهر وهلم جراً. فهذه العقائد يمكن ترقيتها بسلسلة متواصلة إلى زمن الرسل تشهد عليها نصوص الآباء والمجامع جيلاً بعد جيل ويُعلن بها أرباب الكنيسة في تعليمهم اليومي بالإجماع. لما كانت الكنيسة الكاثوليكية تعلن بكونها هي كنيسة المسيح ويعارضها في ذلك غيرها من الكنائس المنفصلة عنها كان لا بدّ أن تمتاز الكنيسة الحقيقية عن سواها ببعض العلامات الخاصة. وهذه العلامات قد سبق الرسل ودوّنها في دستور الإيمان المنسوب إليهم وتكرر ذكرها في كل دساتير الإيمان المتقررة بعدهم وهي أربعة: أن تكون الكنيسة واحدة

مقدسة جامعة رسولية. وهذه العلامات لا تستطيع أن تثبتها لنفسها أي كنيسة كانت إلا الكنيسة الكاثوليكية. فهي واحدة باتفاق جميع أعضائها في خضوعهم لرأس واحد منظور هو نائب المسيح وخليفة بطرس هامة الرسل ثم في اعتقادهم كا ما تعلمه الكنيسة دون خلاف وأخيراً في اشتراكهم بالأسرار عينها. وهي مقدسة لأن منشأها السيد المسيح هو القداسة بالذات ثم لأن كل تعاليمها وآدابها صالحة مقدسة ولأنها أيضاً تقدم لذويها وسائط جملة لتقديس نفوسهم لا سيما بالأسرار السبعة التي رسمها المخلص أعني المعمودية والميرون والتوبة والقربان الأقدس ومشحة المرضى والكهنوت والزواج بقريبة واحدة دون طلاق. ولذلك قد أولدت عدداً لا يحصى من القديسين في كل أنحاء العالم تشهد على قداستهم أعمالهم العجيبة وفضائلهم السامية التي لا تزال آثارها ظاهرة لكل ذي عينين. وكفى دليلاً عليه وجود الرهبانيات الساعية وراء الكمال بنذورها والمتفانية في عمل كل خير دون غاية زمنية. وهي جامعة لأنها وحدها قد نشرت تعاليمها في جميع أقطار العالم المعروف فقام دعاتها بأمر الرب الموصي بنشر إنجيله بين كل الأمم ومن ثم لا يكاد يخلو قطر من بعض تبعتها. وهي أعظم عدداً من أي مذهب كان إذا قيس بها منفرداً منقسماً كالروم والشيع البروتستانية والبوذية والبرهمانية وهلم جراً. وفي اسمها دليل على هذه السمة فإن الكاثوليكية معناها الجامعة. وقد ظهرت هذه العلامة منذ عهد الرسل إذ يقول القديس بولس في رسالته إلى أهل رومية 1: 8 إن إيمانكم يبشر به في العالم كله. وهي رسولية لأن سلسلة أخبارها الأعظميين تتصل دون انقطاع برأس الأول القديس بطرس هامة الرسل. وبيوس الحادي عشر الجالس اليوم سعيداً على كرسي رومية إنما هو خلفه المائتان والسادس والستون. هذه علامات الكنيسة الكاثوليكية الأصلية. أما ما يرى في بعض بلاد الشرق من الاختلافات في الطقوس واللغات والعادات الدينية فكل ذلك ثانوي عرضي يمكن تغييره مع الزمان دون أن يمس جوهر الكنيسة الكاثوليكية لا بل يزينها ويزيدها جمالاً.

ومعلوم أن الكنيسة الكاثوليكية انتشرت بكل سرعة في العالم كله منذ عهد الرسل الحواريين حتى تجاوزت حدود المملكة الرومانية. ولوقوع بلاد الشام في جوار فلسطين لا يستغرب انتشار النصرانية فيها قبل سواها. وذلك ما تثبته أقدم الشواهد التاريخية وأولها سفر أعمال الرسل الذي منذ يلوح إنشاء الدين المسيحي في إنطاكية 11: 26 وفي سائر سواحل الشام ذكر منها صور وعكة وقيصرية 21: 3 - 8. ويمكننا أن نتتبع تاريخ الكنيسة الكاثوليكية في الشام جيلاً بعد جيل على الرغم مما حل بها من اضطهادات الوثنيين وعلى الرغم مما شاع من البدع كالأريوسية واليعقوبية والنسطورية والمنوثلية فلم يكن بين الطوائف الشرقية ما يفصلها عن الكنيسة الرومانية في إيمانها وخضوعها لرأس الكنيسة الرومانية وآدابها غير الأعراض السابق ذكرها. والدليل على ذلك إكرام كنائس الشرق لقديسي الغرب وإكرام الغربيين للقديسين الشرقيين. وفي طقوس الشرقيين القديمة ما يشهد إلى اليوم بتلك الوحدة والاتفاق. وكذلك سير القديسين الشرقيين ثبت ذلك الأمر. وكثيرون منهم أزهروا في الشام كالقديس يوحنا فم الذهب والقديس أفرام السرياني والقديس مارون الناسك. غير أن تملك العرب على الشام واستفحال الشيع المضادة لتعاليم الكنيسة وصعوبة طرق المواصلات بين الشرق والغرب أضعفت الدين الكاثوليكي كثيراً في الشام، إلى أن عاد فتعزز بقدوم الصليبين إلى الشرق ثم بدخول المرسلين منذ القرن الثالث عشر في هذا القطر، فظهرت آثاره الطيبة أولاً بين الموارنة ثم بعد ذلك بزمن بين الروم والأرمن، ثم بين الكلدان والسريان حتى قامت لكل هذه الطوائف كنائس منظمة لها بطاركتها وأسقفتها ورعاياها، ولكل طائفة تاريخها الخاص يترجم عن أعمال بنيها ومشاهير ملتها وارتباطها مع الكرسي الروماني. واليوم يبلغ إحصاء الكاثوليك في الشام نيفاً وستمائة ألف معظمهم الموارنة. . .،. . 3. ثم الروم الكاثوليك. . .،. 12. ثم الأرمن. . .،. 8. ثم السريان. . .،. 2. ثم اللاتين. . .،. 1. ثم الكلدان. . . 2 هذا ماعدا المهاجرين إلى أميركا وغيرها.

المارونية:

وقد تعززت الكثلكة في الشام بدخول الرهبان وأقدمهم الفرنسيون في القرن الثالث عشر. ثم في القرن السابع عشر الكرمليون والكبوشيون واليسوعيون. ثم في أواخر القرن الثامن عشر اللعازريون، وفي القرن التاسع عشر أخوة المدارس المسيحية والأخوة المريميون مع راهبات من رهبانيات مختلفة كراهبات الزيارة وراهبات المحبة واليوسفيات وراهبات القلبين الأقدسين وراهبات السجود وراهبات العائلة المقدسة وراهبات العجز الخ. ولكل من هؤلاء الرهبان والراهبات من المشروعات الجليلة ما يكفي وحده لتشريف الكنيسة الكاثوليكية. ولله الحمد على كل حال. المارونية: الموارنة طائفة من النصارى الكاثوليكيين الشرقيين بعرف من تواريخهم أنهم ينتسبون إلى الناسك البار القديس مارون القورسي النشأة على ما يرجع. اعتزل هذا الفاضل الدنيا في أواخر القرن الرابع ولجأ إلى صومعة في قمة جبل غير بعيد عن إنطاكية فما لبث عرف فضائله أن فاح في تلك الأنحاء فجذب إليه جماعات قصدوه ليلتمسوا منه بركته وصلواته ويسترشدوا بتعاليمه ويقتدوا بسيرته. وقد زهد قوم منهم بالدنيا واختاروا العزلة والتفرغ لخدمة الله في المغاور وأعالي الجبال ليقيموا بعيدين عن ضوضاء العالم، على أن أريج حياتهم الطاهرة لم يمكن إخفاؤه فتقاطر المجاورون حول تلك المناسك وتألفت منهم طائفة عرفت فيما بعد باسم الطائفة المارونية، وكان أهم المراكز التي التفوا حولها دير القديس مارون المبني على ضفاف النهر العاصي في نواحي أفامية. ولما توافر عددهم مست الحاجة إلى تنظم أحوالهم الروحية فأقيم لهم بطريرك هو البار يوحنا مارون وبه تبتدئ سلسلة بطاركة الموارنة، وعاش هذا البطريرك الأول في أواخر القرن السابع في حين كان للموارنة أمراء يديرون شؤونهم الزمنية، ثم أخذ الموارنة يهجرون إلى الأقطار المجاورة، فنزل قوم منهم في جبال عكار وعمروا فيها القرى، وسارت فئة نحو الجنوب إلى لبنان الشمالي فما عتموا أن قويت شوكتهم فيه فبلغ في القرن العاشر عدد

رجالهم الصالحين للقتال أربعين ألفاً على ما ذكر مؤرخو الحروب الصليبية. وقصد فريق منهم سورية الداخلية فاستوطن جوار دمشق واستغل الأرض فيها وبني الدساكر والمرابط. وفريق أم القدس وآخر نزح إلى قبرس في أيام الصليبيين وبعض الأسر سكنت حلب في أواسط القرن الخامس عشر وهبط بعضهم مصر ورودس ومالطة. على أن الأغلب فضلوا الإقامة في جبال لبنان فاعتصموا بها ونموا وكثروا رغم ما أصابهم من النكبات في أوقات مختلفة. ولما ضاق بهم جبلهم رحل قسم منهم إلى بلاد المهجر كأمريكة وإفريقية وأوقيانية حيث ألفوا جاليات لها مقامها المعتبر في عالم التجارة والصناعة والأدب كسائر إخوانهم اللبنانيين والسوريين، وبلغ عدد الموازنة ويدخل فيه المهاجرون خمسمائة ألف نسمة. أما في الدينيات فيتفق الموازنة من الكاثوليكيين بمعتقدهم وشرائعهم الدينية والأدبية وهم مثلهم خاضعون لسلطة بابا رومية، وإنما لهم وللسريان لغة طقسية واحدة هي السريانية لكنهم يختلفون عن سائر الطوائف بترتيباتهم ونظام إدارتهم الروحي المبينة كلها في دستورهم المجمع اللبناني الذي عقد سنة 1736 وفي عاداتهم المشروعة، ويرأس الطائفة بطريرك يعرف ببطريرك إنطاكية مستقل عن سائر البطاركة الشرقيين مركزه الشتوي دير سيدة بكركي فوق جونية ومقره الصيفي جديدة قنوبين لبنان الشمالي فوق طرابلس. ويخضع لإدارته مطارنة يقيم بعضهم نوباً له بعضاً على أبرشيات معينة مستقل بعضها عن بعض، ويعهد إليهم في تدبير هذه الأبرشيات الروحي والزمني وإدارة أوقافها مباشرةً أو بواسطة وكلاء يسمونهم لذلك ويراقبون أعمالهم، وفي الأبرشيات كهنة يعنون بخدمة الرعايا. وفي الطائفة جمعيات رهبانية يقيم أعضاؤها في أديارهم ومدارسهم ويتفرغون لخدمة الله والنفوس. وكان للموازنة شرع خاص يتقاضون بموجبه أقره لهم جميع الذين حكموا القطر من النصارى وغيرهم، ولا تزال أغلب قوانينه مرعية الإجراء عندهم حتى اليوم. ونبغ منهم في رجال الدين كثيرون نذكر منهم البطاركة جرجس عميرة الذي ألف أول غراماطيق سرياني ووضع قواعده بالغة اللاتينية ليسهل على

البروتستانتية:

المستشرقين درس هذه اللغة، ثم العلامة أسطفانوس الدويهي المؤرخ المشهور، ويوسف جبيش وبولس مسعد ويوحنا الحاج، والبطريرك الحالي الياس الحويك صاحب المواقف المشهورة في القضايا الوطنية. ثم الأساقفة كالمطران جرمانوس فرحات والسيد يوسف سمعان السمعاني ويوحنا حبيب ويوسف الدبس وغيرهم كثيرون من رجال الدين ممن خدموا اللغة العربية والقانون والتاريخ. وبين العلمانيين أمراء شهاب وبيت أبي اللمع وأُناس امتازوا بخدمة وطنهم وأعمالهم المبرورة كآل خازن ودحداح وحبيش والسعد وكرم والظاهر ونبغ غيرهم في خدمة العلم كآل البستاني والشدياق والنقاش والباز. ولا يمكن في عجالة سرد أسماء جميعهم. البروتستانتية: التأم في أوائل سنة 1529 في إحدى مدن جرمانيا مؤتمر بأمر الإمبراطور كارلس الخامس قرر عدم السماح بإحداث تغيير في الرسوم الدينية وكان هذا القرار موجهاً ضد الإصلاح والمصلحين. وفي 19 نيسان من نفس السنة أرسل كثيرون من الأمراء والأشراف وأربع عشرة مدينة إمبراطورية احتجاجاً قالوا فيه: إنهم مستعدون أن يطيعوا الإمبراطور والمؤتمر في كل القضايا الواجبة والممكنة ولكنهم لا يخضعون لأحد في ما يعتقدونه مخالفاً لكلمة الله وضميرهم. فسموا من ذلك بروتستانت أو محتجين، ومن هذا الوقت أُطلق هذا الاسم على كل المسيحيين من غير اللاتين والكنائس الشرقية بفروعها. وهم يدعون أنفسهم غالباً إنجيليين ويدعون غيرهم تقليديين نسبةً إلى التقليد كما سنرى. والبروتستانتية بمعناها اللغوي لا يخلو منها دين أو مذهب، ففي كل زمان ومكان أفراد وجماعات يحتجون على رسوم في الدين أو مذهب الذي ولدوا فيه قد ينجحون أو لا ينجحون، أما البروتستانت فقد نجحوا نجاحاً لم يقدره أحد لهم فعددهم الآن يتجاوز مائتي مليون في الدرجة الأولى عدداً بعد اللاتين وكل من انضم إليهم من الكنائس الشرقية، وفي الدرجة الأولى في الرقي وسعة الملك. ثم إن البروتستانت وإن افترقت أكثر فرقهم في أمور أكثرها عرضية

فهم مجمعون على أمور كثيرة، وإليك التفصيل في ما هم مجمعون عليه وما هم مختلفون فيه: أهم ما تجمع عليه أكثر فرق البروتستانت عدا ما هم مجمعون عليه مع غيرهم مما يأتي بيانه: أ -: أن الكتاب المقدس هو القانون الوحيد في كل ما يلزم للخلاص. ب -: أن المسيح هو المخلص الوحيد وليس بأحد غيره خلاص. ج -: أن الخلاص كله نعمة مجانية من الله. د -: أن الإيمان هو السبيل الوحيد لنيل الخلاص. هـ: أن الأعمال الصالحة هي ثمر الأيمان الحي فنعمل لأننا مخلصون لا لكي نخلص. والبروتستانت إجمالاً قسمان كبيران - الأول الايسكوبيليان أي الأسقفيون وهو الذين يقولون: إن درجات الأكليروس ثلاث: الأسقف والقسيس والشماس - الثاني البرسبتيريان أي القسوسيون وهم الذين ليس عندهم رتبة أساقفة. وأكثر فرق البروتستانت هذا القسم. فالأسقفيون مثلاً يجرون العبادة غالباً بموجب كتاب صلاة أي صورة معينة تتلى وقت عبادة الجماعة. وأما العبادة العائلية والاجتماعات الأخرى الروحية فيتركونها لحرية القسيس أو من ينوب عنه. أما القسوسيون فالحرية مفوضة للخادم في كل الأوقات. وعندهم بعض صلوات وإرشادات مكتتبة لمساعدة القسيس في أحوال خصوصية. على أن هذا النظام لا يعد جوهرياً فهذه الكنيسة الأنكليكانية وهي تجري عبادتها بموجب كتاب صلاة تقول في العقيدة34 لا يلزم أن تكون التقاليد والطقوس في جميع الأماكن واحدة متساوية إذ قد اختلفت في كل الأزمان ويصح تغييرها على مقتضى اختلاف المكان والزمان وعادات الناس بحيث لا يرتب منها شيء مضاد لكلام الله. . . وكل كنيسة تختص بأمة فلها سلطان أن تثبت وتغير وتبطل طقوسها ورسومها التي رتبت بسلطان الناس فقط. وكل الأسقفيين والأكثرية العظمى من غيرهم يجرون السرين المعمودية والشركة ويعمدون الأطفال والبالغين الذين لم يعمدوا أطفالاً، أما بعض القسوسيين فلا يعمدون إلا البالغين ويسمون بالمعمدانيين، وبعضهم لا يجري السرين مطلقاً وهم المعروفون بالفرندس أو الكويكرس.

يتفق البروتستانت مع غيرهم في أمور كثيرة جوهرية ويخالفون في أمور أخرى وإليك التفصيل: أهم الأمور الجوهرية التي يتفق فيها البروتستانت مع غيرهم. يتفقون في قانوني الإيمان - أولاً القانون المعروف بقانون إيمان الرسل وهو يرجع إلى أواخر القرن الأول المسيحي بل قيل: إن الرسل أنفسهم وضعوه - ثانياً قانون الإيمان النيقاوي وضعه المجمع المسكوني الأول الذي التأم سنة325 في مدينة نيقية مع ما أضيف إليه في ما بعد سوى عبارة واحدة بخصوص انبثاق الروح من الابن أضيفت فيما بعد لا يقبلها الروم الأرثوذكس ويوجد قانون إيمان ثالث مجمع عليه يسمى قانون مار أثناسيوس ولكنه أقل شهرة وأقل استعمالاً من الأولين. ويمكن تلخيص الأمور الجوهرية التي يتفقون فيها في ما يأتي: 1 - التوحيد والتثليث. 2 - الخلق والسقوط والفداء. 3 - تجسيد الكلمة الأزلية المسيح ابن الله من مريم العذراء بالروح القدس وكل ما يتعلق بتاريخ فداء المسيح من ميلاده إلى مجيئه الثاني للدينونة. 4 - القيامة والدينونة. 5 - وجوب التبشير بالمسيح ودعوة الغير إلى الإيمان به. 6 - عدم تحريف الأسفار التي يتفقون على قانونيتها من الكتاب المقدس. وأهم الأمور المختلف فيها سلطان الكتاب المقدس. ويعتقد البروتستانت أنه المرجع الوحيد المعصوم الذي يجب الرجوع إليه في عقائد الإيمان. ويعتقد غيرهم أن للكتاب والتقليد سلطاناً متساوياً ومن هذا يدعوهم البروتستانت تقليديين. والتقليد عند المسيحيين كالتلمود عند اليهود والحديث عند المسلمين. وبعد فلا خلاف بين البروتستانت وغيرهم في عدد أسفار العهد الجديد إنما الخلاف في عدد أسفار العهد. فالبروتستانت لا يقبلون إلا الأسفار التي يقبلها اليهود وذكر عددها يوسيفوس. وغيرهم يضيف إليها أسفاراً تسمى أبوكريفا وجدت في الترجمة السبعينية مضمونة إلى باقي الأسفار. ومع تسليم البروتستانت بلزوم المجامع وفائدتها فهم لا يحسبون لما تقرره قوة ولا سلطاناً إلا إذا أثبت من الكتاب المقدس. أما المجامع عند الروم الأرثوذكس والمجامع والبابا عند البابويين فهم معصومون من الخطأ في ما يقررونه من عقائد الإيمان ويعتقد البروتستانت أن فرصة الخلاص تنتهي بالموت وبه يتقرر حال كل

نفس أما في النعيم أو في الجحيم. ويتفق معهم في حال أهل الجحيم ويخالفون في حال أهل النعيم فعندهم مكان عذاب وقتي غير الجحيم يسمى عند الباباويين المطهر وعند الروم الأرثوذكس عقالات الجحيم تذهب إليه الأنفس لتكفر عن ذنوب صغيرة، وتصرف فيه مدة تطول وتقصر بحسب عدد تلك الذنوب وصفتها، ويمكن تقصير هذه المدة بالصلوات والصدقات. يحصر البروتستانت الشفاعة وطلب الخلاص بالمسيح، وغيرهم يطلبهما منه ومن الملائكة والقديسين. عند البروتستانت سران فقط هما المعمودية والشركة وغيرهم يضيف إليهما خمسة فيصير العدد سبعة والمضافة هي: 1 - التثبيت عند اللاتين والموازنة. والميرون عند غيرهم. 2 - الكهنوت. 3 - الاعتراف للكاهن. 4 - الزواج. 5 - المسحة الأخيرة قبل الموت. أما الإفاضة في تعريف السر وفاعليته وما يحدث فيه وما يحدثه هو من التغيير وفي سبب هذا الخلاف فإنها تخرجنا كثيراً عن المقصد. والبروتستانت يعترفون لله وحده وللشخص الذي أخطئوا إليه، ولله وحده عندهم السلطان على مغفرة الخطايا. وغيرهم يوجب الاعتراف للكاهن وللكاهن سلطان مطلق علة غفران الخطايا. ولما كان البروتستانت في هذه الديار ثمرة الإرساليات نرى من الواجب أن نشير إلى الداعي إلى الإرساليات، فالداعي إليها أوامر الكتاب المقدس الكثيرة، وأهمها أمر المسيح الأخير الصريح اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الأب والابن والروح القدس. وقد أطاع رسله أمره وتفرقوا في أنحاء العالم المعروف حينئذ وليس لهم ما يستندون عليه أمام قوات هذا العالم سوى إيمانهم وثقتهم بوعده. وعدوا مخالفة أمره هذا جرماً عظيماً فقال الرسول بولس: إذ الضرورة موضوعة علي فويل لي إن كنت لا أبشر. ولا يزال هذا التبشير من مميزات الكنيسة الحقيقية ففي العقيدة 19 الأنكليكانية كنيسة المسيح المنظورة هي جماعة المؤمنين التي فيها يبشر بكلمة الله النقية. وقد وجه البروتستانت قواهم إلى هذا الواجب حالما تمكنوا من تنظيم

شؤونهم، فتألفت الجمعيات هنا وهناك، وربما كان أقدمها جمعية المورافيين نسبة إلى مورافيا على ضفاف الدانوب، وتعرف بجمعية الأخوة المتحدين، وقد كانوا ولا يزالون في المقدمة بالنسبة إلى عددهم الذي لا يتجاوز000000 3. وفي أواخر القرن الثامن عشر زاد عدد الإرساليات البرتستانتية وزاد نشاطها. وقد طلبت من أمين سر المستر هاردمان في القدس بعض إحصاءات لهذه الإرساليات فأسل آخر ما عرفه منها أعربه بالشكر قال: عدد إرساليات البروتستانت في العالم 380، عدد المرسلين رجالاً ونساءً 29049 والمال الذي صرفته خمسة عشر مليون ليرة إنكليزية هذا عدا ما جمع في حقول الإرساليات نفسها وصرف عليها أيضاً. وعدد الإرساليات في فلسطين17 وعدد المرسلين فيها 160. وعمل بعض هذه الإرساليات عام وبعضها خاص محصور في قارة أو مملكة أو إقليم أو دين أو مذهب أو رتبة من الناس أو الذكور أو الإناث أو الطب العام أو الخاص أو طبع الكتب أو نشرها أو التبشير مجرداً أو فتح المدارس فقط. وهذا الاختصاص في الغرب حتى في الأمور الدينية هو أساس نجاحه. ومن المبادئ الأساسية لهذه الإرساليات أن تنظم المهتدين جماعات تشرع بإدارة شؤونها بنفسها، وتسير نحو الاستقلال الإداري والمالي. ومنها عدم التدخل في سياسة البلاد التي يرسلون إليها، ووجوب إطاعة أوامر حكومتها، والمحافظة على قوانينها ونظاماتها في كل ما لا يخالف الضمير بناء على قول المسيح أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله وبناء على أوامر رسله المتعدد بالصلاة والطاعة للحكام. ومع ذلك فقد أوقعت السياسة الأوربية تهمه المداخلة في السياسة على المرسلين، لأنها استعملت الإرساليات على غير قصد من المرسلين جسراً عبرت عليه إلى مقاصدها الاستعمارية فشوهت سمعة المرسلين. ولقد كان من الطبيعي أن توجه الإرساليات أفكارها إلى هذه الديار مهبط الوحي ومهد المسيحية لإنعاش المسيحية وتبشير غير المسيحيين بها. وفي إحصاء بتاريخ سنة 1913 أن عدد الإرساليات في هذا القطر أكثر من

30 أمريكية وإنكليزية وإسكتلندية ايرلندية وألمانية ودنمركية ومورافقية وأسوجية. ويقوم بأكثرها أفراد أو مدينة أو جماعة صغيرة، وأعمالها غالباً محصورة في العواصم كالقدس وبيروت ودمشق أو بعض المدن والقرى كيافا وحيفا والناصرة وبيت لحم والخليل ورام الله وصفد والشويفات وبرامانا وبيت مري والشوير وشملان وبعلبك والنبك ودير عطية وغيرها. وليس بين كل هذه الإرساليات سوى إرساليتين عموميتين كبيرتين لهما طائفة منظمة بمجامع وقوانين وميزانية ومالية مستقلة عن ميزانية الإرسالية، والأولى أمريكية قسوسية في الشمال، والثانية إنكليزية أسقفية في الجنوب. إرسالية الشمال أمريكية قسوسية أسست سنة 1810. وفي سنة 1821 نزل أول مرسليها من ميناء يافا وشرعت بعملها في القدس وجوارها، ولكن قضت الأحوال أن ينحصر عملها في الجزء الواقع شمالي رأس الناقورة، وقام مرسلوها بمبادئ الإرساليات البروتستاتية بكل أمانة ونشاط وكان لهم اليد الطولى وفضل السبق في نشر العلم والمدنية لا بما عملوه فقط بل بتحريض غيرهم أيضاً. ودائرة عمل إرسالية الجنوب من رأس الناقورة شمالاً إلى حدود مصر جنوباً، وهي إنكليزية أسقفية أعضاؤها من كنيسة إنكلترا المثبتة. أسست في لندن في 12نيسان سنة 1899 وأسمها جمعية المرسلين الكنسية ويعبر عنها بالأحرف وللإحاطة بعمل إرسالية فلسطين لا بد من ذكر لمحة من تاريخ الأسقفية الإنكليزية فيها. وفي سنة 1841 أسست أسقفية أنكليكانية في القدس بالاشتراك مع بروسيا. وكان من مبادئ المرسلين الأولية أن لا يشقوا من الطوائف الأخرى المسيحية طائفة بروتستانتية وخصوصاً من طائفة الروم الأرثوذكس التي يعتبرونها أم الكنائس. بل قصدوا أن يعملوا بالاتفاق مع رؤسائها لإنعاش المسيحية من الغفلة التي استولت على معظم مسيحيي الشرق. ولكن مقاومة هؤلاء الرؤساء وهيجهم طوائفهم على المرسلين وعلى كل من يقترب منهم، اضطرتهم بعد تردد طويل إلى تأليف طوائف. وقدان بالمذهب البروتستانتي من كل الطبقات، وارتقى كثيرون من أولاد الفقراء والفلاحين إلى أسمى ما يمكن الوصول إليه من المراتب. على أن تأثير المرسلين

لم يقتصر على العدد القليل من البروتستانت العرب، بل عم القطر بل هم كانوا من أول عوامل الرقي. أن لكل من الإرساليات المذكورة عمالاً وأفراداً متعلقين بها وعددهم بحسب سعة عملها. ولكن للإرساليتين السابقتين فقط طوائف بروتستانتية منظمة بجامع وقوانين وميزانية مستقلة عن ميزانية الإرسالية كما مر. ليس لطائفة البروتستانت العرب كما مر قسوسية مشيخية، وليس لها كتاب صلاة تجري بموجبه عبادة الجماعة سوى بعض إرشادات مطبوعة ضرورية لإرشاد القسيس في بعض الواجبات وهو مع ذلك غير مقيد بها. وتستعمل كتاب ترتيل فيه الآن 432 ترتيلة بأنغام مختلفة غربية وبعض أنغام شرقية، وإنما العلامات الموسيقية كلها غربية. وهذا الكتاب مشترك بين سورية وفلسطين ومستعمل للعبادة في الكنيستين. وعدد نفوس الإنجيليين في لبنان 10 آلاف نفس. بقي الكنائس الأخرى غير الميخية منها كنيسة الفرندس في برمانا ورأس المتن والكنيسة المعمدانية في راشيا الوادي وجوارها والكنيسة الإنجيلية في دمشق للكنيسة المشيخية الاسكوتلاندية والكنائس الإنجيلية في جهات القلمون وهي تابعة للإرسالية الدنمركية ولها عدة مراكز في النبك ودير عطية ويبرود وصدد وغيرها. أما طائفة البروتستانت العربية في فلسطين فهي أسقفية انكليكانية تجري عبادتها بموجب كتاب الصلاة العامة المترجم عن الإنكليزية مع عقائد الدين التسع والثلاثين وكتاب الترتيل المشترك مع كنيسة سورية. رسم أول قسوسها الوطنيين سنة 1871 في الناصرة وكان طائفة الناصرة في مقدمة كنائس فلسطين في إقامة الأوقات والسعي نحو الاستقلال وكان أحد أفرادها عودة عزام المستوطن القدس في الربع الثالث من القرن الماضي وقف أملاكه كلها لكنيسة القدس وأصبحت الآن ذات قيمة كبيرة. وتبعه غيره في الوقف على الكنائس. ويبلغ مجموه البروتستانت في فلسطين وشرقي الأردن نحو ثمانية آلاف إنسان. وبعد فإن في العالم أجمع الآن حركتين متضادتين نعبر عنهما بالجذب والدفع، فبينما أنت ترى الشعوب تتحرك بدفع بعضها عن بعض فتتألف

أصل السنة:

كتلاً متفرقة تجدها في نفس الوقت تنجذب وتتقارب وتتفهم وتسعى لتوحيد هذه الكتل أو ربط بعضها ببعض على الأقل، وعلى الرغم مما نجده من التباعد بحركة الدفع والتمركز نجد الناس يقرب بعضهم من بعض بحركة الجذب، والعامل الأقوى في حركة الجذب سرعة المواصلة وانتشار العلم، فسرعة المواصلة قربت الناس بعضهم من بعض فأخذوا يتفاهمون والعلم جعلهم يحكمون العقل أكثر من العوطف فرأوا أن كثيراً من الفوارق إما وهمية أو عرضية أو مبالغ فيها. وما يجري في الدائرة البشرية الاجتماعية يجري في الدائرة الدينية. فعلى الرغم من بعد مسافة الفوارق الدينية والمذهبية نجد أهل هذه الأديان والمذاهب أكثر تسامحاً وأسرع سعياً نحو الاتفاق، حتى في الأديان التي نراها على أعظم مسافة من البعد، فلا تكاد تمر سنة حتى يعقد مؤتمر الأديان يجتمع فيه نواب معظم الأديان الإلهية كالمسيحية والإسلام واليهودية وغير الإلهية كالبوذية وغيرها. وقد عقد أول مؤتمر رسمي في 16 أيلول سنة 1924 في سوق الغرب اجتمع فيه نواب الجهتين للسعي في زيادة الاتحاد وتوحيد النظام. أصل السنة: لا يخفى أن الأحكام الشرعية التي علمت من الكتاب والسنة ثلاثة أقسام: الأول الأحكام الاعتقادية وأصولها المجملة ستة الإيمان بالله وبالملائكة وبالكتب وبالرسل وباليوم الآخر وبالقدر. ويقال لجميع هذه الأحكام دين الإسلام وهي ما جاء به جميع الأنبياء. وهذه وإن كانت في تعيينها مذاهب عديدة إلا أن ما عدا مذهب السنة باطل. القسم الثاني الأحكام العملية وهي عشرة: الفرض، الواجب، السنة، الاستحباب، الإباحة، الحرمة، الكراهة التحريمية، الكراهة التنزيهية، الصحة، الفساد. ولا يخلو فعل العاقل البالغ عن حكم منها، فالشرائع المتعلقة بأفعال المكلفين ثلاثة أنواع إجمالية: الأول العبادات وهي عبارة عن الصلاة والصوم والزكاة والحج وسائر الفرائض والواجبات. الثاني المعاملات كالنكاح والطلاق والهبة والوصية والبيع والشراء والكفالة والوكالة. الثالث العقوبات كالدية

والكفارة فدية والقصاص، وفي تعيينها مذاهب كثيرة إلا أنه تقرر فيها المذاهب الأربعة، وأصحابها أبو حنيفة النعمان بن ثابت، ومحمد بن إدريس الشافعي، ومالك بن أنس، وأحمد بن حنبل، فما اتفق عليه هؤلاء الأئمة الأربعة هو حق وصواب، وما اختلفوا فيه يحتمل الخطأ والصواب، لأن كل مجتهد يخطأ ويصيب، والحق واحد لا يتعدد، وكل مؤمن مأمور باتباع مذهب منها إذا لم يكن بلغ مرتبة الاجتهاد، ويلزمه الاعتقاد بصواب متبوعة، إذ لا يجوز له تقليده إن اعتقد خطأه. القسم الثالث الأحكام الشرعية المتعلقة بأحوال القلوب، والمتكفل بذلك علم الأخلاق والتصور. والقصد هنا بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة في القسم الأول. وينبغي أن نبين أولاً من أهم أهل السنة والجماعة ثم نذكر عقائدهم إذ ربما يضن بعض الناس أن كل من يطلق عليه اسم المسلم هو من أهل السنة والجماعة وليس الأمر كذلك، فإن أهل البدع والأهواء مخالفون لأهل السنة والجماعة، والحال أن فيهم من يعد من أهل ملة الإسلام، لذلك رأيت من اللازم أولاً بيان من هم أهل السنة والجماعة، ثم بيان عقائدهم التي اتفقوا عليها، ولم أتعرض للمخالفين لهم ولا بذكر حجج الطرفين، وسرد المسائل التي وقع فيها اختلاف بين الأشعرية والماتريدية لما أن ذلك خارج عن موضوع الخطط وإنما من خصائص كتب الكلام، فاقتصرت على أهم المسائل الاعتقادية التي يكلف كل مؤمن باعتقادها. وقد ألف كتباً لبيان الفرق الإسلامية ومقالاتها كالشهرستاني وابن حزم وعبد القاهر البغدادي وغيرهم. إذا أطلق أهل السنة والجماعة يراد بها الأشعرية والماتريدية، أما الأشعرية فهم أصحاب الإمام أبى الحسن علي بن الإسماعيلي من ذرية أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري الصحابي الجليل. أخذ علم الكلام أولاً عن شيخه محمد بن عبد الوهاب الجبائي شيخ المعتزلة وتبعه في الاعتزال حتى صار للمعتزلة إماماً ثم رجع عن مذهبه وصنف كتباً في الرد عليهم، وأجمع على عقيدة الأشعري المالكية والشافعية وبعض الحنفية وفضلاء الحبابلة، ولم يكن أبو الحسن أول متكلم بلسان أهل السنة، إنما جرى على سنن غيره أو على نصرة مذهب معروف فزاد المذهب

حجة وبياناً، وليس له في مذهب السلف أكثر من بسطه وشرحه وتأليفه في نصرته. ولد سنة ستسن ومائتين وتوفي سنة أربع وعشرين وثلاثمائة. وأما الماتريدية فهم أصحاب الإمام أبي منصور محمد بن محمد بن محمود الماتريدي نسبة إلى قرية بسمرقند، الحنفي المتكلم ناصر السنة وقامع البدعة وحيي الشريعة، كان إماماً جليلاً مناضلاً عن الدين موطداً لعقائد أهل السنة قطع المعتزلة وذوي البدع في مناظرتهم، وله مصنفات منها كتاب التوحيد وكتاب بيان وهم المعتزلة وكتاب تأويلات القرآن وهو كتاب لا يوازيه فيه كتاب. وليس هو من أتباع الأشعري لكونه أول من أظهر مذهب أهل السنة كما ظن. لأن الماتريدي مفصل لمذهب الإمام أبي حنيفة وأصاحبه المظهرين قبل الأشعري مذهب أهل السنة. وكانت وفاته بسمرقند سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة. والحاصل أن كلاً من هذين الإمامين الجليلين أبي الحسن وأبي منصور لم يبدعان من عندهما رأياً ولم يشتقا مذهباً إنما هما مقرران لمذاهب السلف مناضلان عما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. أحدهما قام بنصرة مذهب الشافعي وما دل عليه، والثاني قام بنصرة مذهب أبي حنيفة وما دل عليه. وناظر كل منهما ذوي البدع والضلالات حتى انقطعوا. ومما ينبغي أن يعلم أنه ليس بين هاتين الطائفتين اختلاف في أصول الدين، وإنما اختلفوا في بعض مسائل متفرعة عن الأصول لا تستلزم تضليلاً ولا تفسيقاً. ثم أن عقائد أهل السنة والجماعة تنحصر في أربعة أركان هي مبنى الإيمان: إلهيات والصفات والأفعال والسمعيات. الركن الأول فيما يجب لله تعالى وما يجوز وما يستحيل العالم بجميع أجزاءه حادث وجد بعد أن لم يكن، وهو قابل للفناء وله صانع واجب الوجود لذاته ممتنع العدم بالنظر لذاته، واحد لا شريك ولا مثيل له في ذاته وصفاته وأفعاله، قديم لا بداية له، أبدي لا نهاية له، متصف بصفات الكمال، منزه عن سمات النقص، ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض، ولا تحله الجواهر

ولا الأعراض، ولا يحل في غيره ولا يتحد بغيره، ولا يقوم بذاته حادث، منزه عن التحول والانتقال، استوى على العرش على الوجه الذي عناه بالمعنى الذي أراده، استواء يليق بجلال ذاته، وهو فوق سماواته فوق عرشه، مباين لخلقة لا يحمله العرش بل العرش وحملته محمولون بقدرته، ومع ذلك فهو قريب من كل موجود بل هو أقرب إلينا من حبل الوريد، وهو تعالى مرئي للمؤمنين بالأبصار في دار القرار، فيرونه لا في مكان ولا على جهة من قبالة واتصال شعاع أو ثبوت مسافة بين الرائي والمرئي. الركن الثاني في العلم بصفاته تعالى الله تعالى متصف بالعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام والحياة، وهي صفات لها أزلية ونعوت له أبدية، فهو تعالى قادر على جميع الممكنات، وجميع الحوادث واقعة بقدرته تعالى، وقدرة الله على المقدورات كلها قدرة واحدة، يقدر بها على جميع المقدورات على طريق الاختراع دون الاكتساب، ومقدوراته تعالى لا تفنى. وهو سبحانه مريد لأفعاله فلا وجود إلا وهو مستند إلى مشيئته وصادر عن إرادته، لا يقع شيء في العالم إلا بإرادته ومشيئته، فالخير والشر والطاعة والمعصية واقعة بإرادة الله تعالى وقضائه وقدره ومشيئته، ما شاء الله كان لم يشأ لم يكن، وإرادته تعالى قديمة وهي في القدم تعلقت بإحداث الحوادث في أوقاتها اللائقة بها على وفق سبق العلم الأزلي، والإرادة غير الأمر لأنه قد يأمر بالشيء ولا يريده، ويريد الشيء ولا يأمر به، ويريد الشيء ويأمر به، ولا يريد الشيء ولا يأمر به. وغير الرضى أيضاً فإن الإرادة قد تتعلق بما لا يرضي به الله تعالى كالكفر الواقع من الكفار فإنه تعالى أراده ولم يرض به ولا يرضي لعباده الكفر، وليست عين العلم لأن العلم يتعلق بالواجب والمستحيل والجائز، والإرادة لا تتعلق إلا بالجائز. وهو تعالى عالم بجميع الموجودات كلياتها وجزئياتها، ومحيط بكل المخلوقات لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماوات، وعلمه واحد يعلم به جميع المعلومات على تفصيلها من غير حس ولا بداهة ولا استدلال عليه، وعلمه قديم لم يزل عالماً بذاته وصفاته وما يبثه من مخلوقات، ومهما حدثت

المخلوقات لم يحدث له علم بها حصلت مكشوفة بالعالم الأزلي. وهو تعالى حي وحياته بلا روح ولا اغتذاء، وجميع الأرواح مخلوقة، والحياة شرط في العلم والقدرة والإرادة والرؤية والسمع، فمن ليس بحي لا يصح أن يكون عالماً قادراً مريداً سامعاً مبصراً. وهو سبحانه سميع بصير يسمع ويرى ولا يعزب عن سمعه مسموع وأن خفي، ولا يغيب عن رؤيته مرئي وأن دق، ولا يحجب سمعه بعد، ولا يدفع رؤيته ظلام، لم يزل رائياً لنفسه، وسامعاً لكلام نفسه، وأن الانكشاف بالسميع غير الانكشاف بالبصر، وأن كليهما غير الانكشاف بالعلم، بل لكل منها حقيقة يفوض علمها لله تعالى. وهو تعالى متكلم بكلام قائم بذاته ليس بحرف ولا صوت هو به أمرناه مخبر وأن القرآن كلام الله غير مخلوق. الركن الثالث في الأفعال الله تعالى لا خالق سواه وكل حادث في العالم حدث بقدرته وخلقه لا محدث له غيره، وجميع أفعال العبادة اختيارية واضطرارية، مخلوقة له تعالى ومتعلقة بقدرته وإنما الله خلق في العبد قوة تسمى الإرادة الجزئية وأقدر عبده على صرف هذه القوة إلى ما شاء من جزئيات المأمورات والمنهيات باختياره، وهذا الصرف هو الذي يسمى بالكسب تارة وبالميل والجزء الاختياري تارة آخرى، ويسمى أيضاً بقدرة العبد. وقد جرت عادة الله تعالى أنه لا يخلق القدرة على المعصية في أعضاء العبد حتى يصرف العبد إرادته الجزئية إليها، فإذا صرفها إليها بأن مال قلبه وعزم عليها فهناك يخلق الله تعالى القدرة في أعضاءه على فعلها فيفعلها، فقدرة العبد التي هي الميل المذكور مقارنة لإيجاد الله تعالى ليس لها تأثير في إيجاد الفعل بل مجرد مقارنة. وهو تعالى لا يحب عليه شيء من فعل الأصلح لعبادة، ورعاية الحكمة والمصلحة في فعله، فله أن يعذب على الطاعات ويثيب على المعاصي، وأن يبتلي عبده بضرب الآلام من غير جرم سابق ومن غير ثواب لاحق، ولا يعد ذلك منه قبيحاً ولا ظلماً لأنه يتصرف في ملكه لا في ملك غيره، يفعل ما يريد، ولا حاكم عليه بل له الحكم، وإنما يثيب على الطاعة بحكم الكرم والوعد لا بحكم الاستحقاق واللزوم، ويعاقب على المعصية عدلاً منه تعالى،

وقد راعى الحكمة فيما خلق وأمر تفضلاً منه ورحمة ولا باعث له على الفضل. بعثة الأنبياء ممكنة عقلاً وواقعة قطعاً، وفي وقوعها حكمة بالغة ورحمة للعالم شاملة، واحتياج الناس إلى الأنبياء كاحتياجهم إلى الأطباء، النبوة إنما تحصل بمجرد اصطفاء إلهي لا باستحقاق من المبعوث واجتماع شروط فيه، بل الله يختص برحمته من يشاء وهو تعالى اعلم حيث يجعل رسالته، وقد أرسل الله تعالى رسلاً من البشر إلى البشر مبشرين ومنذرين، لئلا يكون للناس على الله حجة، وأيدهم بالمعجزات الخارقة للعادات المقرونة بالتحدي، وكلهم جاءوا بتوحيد الله تعالى والنهي على الشرك وإخلاص العبادة له تعالى، وهم صادقون فيما جاءوا به مصونون عن التحريف والتبديل، معصومون من كل نقص حسي أو معنوي مبلغون أممهم جميع ما أمروا بتبليغه، وأولهم آدم وآخرهم نبينا محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. أن الله سبحانه أرسل نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الخلق كافة بشيراً نذيراً، وجعله خاتم النبيين فلا نبي بعده وأيده بالمعجزات الباهرة، والبراهين الظاهرة، وانزل عليه القرآن الكريم الذي هو له معجزات باقية إلى يوم الدين، فنسخ بشريعته الشرائع التي كانت قبله إلا ما قرر منها، وفضله على سائر الأنبياء وجعل الشهادة له بالرسالة شطر الإيمان، وألزم الناس تصديقه في جميع ما اخبر به عنه، وأمر بتبليغ ما انزل عليه فقال تعالى: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك) فبلغ صلوات الله وسلامه عليه الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة حتى أتاه اليقين. إن لله تعالى وملائكة هم عباد الله المكرمون ورسل الله بينه وبين أنبياءه وأمناؤه على وحيه لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، لا يوصفون بذكوره ولا انوثه، ولا يأكلون ولا يشربون، ولا يعلم حقيقتهم ولا عددهم إلا خالقهم، وهم أجسام لطيفة نورانية يروننا ولا نراهم بصورهم الأصلية. الركن الرابع في السمعيات إن لهذه الدنيا أجلاً محموداً فإذا جاء اجلها يتبدل نظام هذا الكون، فتبدل الأرض غير الأرض والسماوات غير السماوات،

الشيعة:

ويعبد الله تعالى الأرواح إلى الأجساد، ثم يجازي الله تعالى كل نفس بما كسبت إما بنعيم أبدي أو عذاب سرمدي، وجميع ما أخبر به الصادق من عذاب القبر ونعيمه، وسؤال الملكين ووزن الأعمال، والمرور على الصراط، والشفاعة لمن إذن له الرحمن، جميع ذلك حق يجب الإيمان به. الشيعة: الشيعة لفظ معناه الأتباع والأنصار يطلق على الواحد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث، تقوم هو شيعة وهما وهم وهن شيعة وجمعه شيع وأشياع، ثم صار علماً بالغلبة على أتباع علي بن أبي طالب عليه السلام. عرف جماعة من كبار الصحابة بموالاة علي في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل سليمان الفارسي القائل: بايعنا رسول الله على النصح للمسلمين والائتمام بعلي بن أبي طالب والموالاة له. ومثل أبي سعيد الخدري الذي يقول: أمر الناس بخمس فعلموا بأربع وتركوا واحدة. ولما سئل عن الأربع قال: الصلاة والزكاة وصوم شهر رمضان والحج قيل: فما الواحد التي ترموها؟ قال: ولاية علي بن أبي طالب قيل له: وإنما لمفروضة معهن قال: هي مفروضة معهن. ومثل أبي ذو الغفاري وعمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان وذي الشهادتين خزيمة بن ثابت وأبي أيوب الأنصاري وخالد بن سعيد بن العاص وقيس ابن سعد عبادة وكثير أمثالهم. ومن أرادهم فليراجع كتاب الدرجات الرفيعة لابن معصوم. عرف هؤلاء باسم شيعة علي ثم غلب فأطلق فقيل لهم شيعة. ذكر أبو حاتم الرازي في كتاب الزينة في الألفاظ المتداولة بين أرباب العلوم على ما نقل في كتاب الروضات أن أول اسم ظهر في الإسلام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلمالشيعة وكان لقب أربعة من الصحابة وهم أبو ذر وسليمان وعمار والمقداد إلى أن آن أوان صفين فاشتهر بين موالي علي عليه السلام. ومهما تكن منزلة هذه الرواية من الثقة فالأمر الذي لا خلاف أنه لما استقل الأمويون بالأمر وناهضوا الهاشميين وأتباعهم تلك المناهضة الشديدة كان اسم الشيعة على إطلاقه علماً على أتباع آل البيت.

أما ما ذهب إليه بعض المتاب من أن أصل مذهب التشيع من بدعة عبد الله ابن سبأ المعروف بابن السوداء فهو وهم وقلة علم بحقيقة مذهبهم. ومن علم منزلة هذا الرجل عند الشيعة وبراءتهم منه ومن أقواله وأعماله وكلام علمائهم في الطعن فيه بلا خلاف بينهم في ذلك، علم مبلغ هذا القول من الصواب. لا ريب في أن أول ظهور الشيعة كان في الحجاز بلد المتشيع له. وكان التشيع هناك ضعيف الحول ولكنه مكين في قلوب أهله. ثم استفحل أمره في العراق زمن خلافة علي السلام. أما في الشام فالمعروف بين الشيعة في جبل عامل خلفاً عن سلف أن الذي دلهم على هذا المذهب أبو ذر الغفاري لما سير إلى الشام ولا يزال في قرية الصرفند بين صيدا وصور له مقام معروف باسمه اتخذ مسجداً وعموراً وهو غير مسجد القرية الجامع، وفي قرية ميس الجبل له مقام آخر. وميس هذه قرية في جبل عامل على طريق القادم من دمشق. وروى الحر العاملي في كتابه أمل الآمل أن أبا ذر لما أخرج إلى الشام تشيع فيها جماعة ثم أخرجه معاوية إلى القرى فوقع في جبل عامل فتشيعوا من ذلك اليوم. ثم ذكر رواية عن الإمام أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه السلام وقد سئل عن أعمال الشقيق فقال: أرنون وبيوت وربوع وتعرف بسواحل البحار وأوطأة الجبال هؤلاء شيعتنا حقاً. وفي كتاب الروضة والفضائل لشاذان بن جبرئيل القمي رواية مسندة إلى عمار بن ياسر وزيد بن أرقم تدل على أنه كان زمن خلافة علي عليه السلام قرية في الشام عند جبل الثلج تسمى أسعار أهلها من الشيعة، وأسعار هذه قرية خربة بين مجدل شمس وجباتا الزيت وهناك نهر يعرف بنهر أسعار. المتأولة جمع متوالي مأخوذ من الموالاة وهي الحب، لموالاتهم أهل البيت واتباعهم طريقتهم. والظاهر أن تلقيبهم بهذا اللقب في جبل عامل لم يتقدم عن القرن الثاني عشر للهجرة لأنكل المؤرخين قبل هذا القرن لم يعرفوا لهم هذا اللقب ولم ينبزهم به أحد منهم، وكانوا إذا أرادوا ذلك تجنبوا الشيعة وقالوا: الرافضة كما فعل المحبي في خلاصة الأثر. ولكن من تأخر عن القرن الحادي عشر لم يلزمهم بترك نبزهم به كما فعل المرادي في سلك الدور فإنه لم يذكرهم في جبل عامل إلا باسم المتاولة وفاقاً للشهرة في عصره.

وقد جاء في إحدى السالنامات التركية أن ابتداء ظهور المتأولة سنة 1100 للهجرة. وعلى الجملة إن هذا اللقب أطلق عليهم لما أظهروا وجودهم السياسي وخلعوا طاعة أمراء لبنان واجتمعوا جملة واحدة في جبل عامل تحت قيادة آل نصار الوائليين، وفي بعلبك تحت لواء بني حرفوش، وفي شمالي لبنان بزعامة المشايخ آل حمادة. كانوا يومئذ ينتخون باسم بني متوال فعرفوا به واشتهر عنهم، ويدلنا على ذلك أن هذا اللقب لم يكن إلا للذين دخلوا في غمار تلك الفتنة فعرف به شيعة جبل عامل وبعبلك وشمالي لبنان، ولم يعرف لشيعة حلب وحمص وحماة، ولا لشيعة دمشق إلا الذين تديروا الصالحية وأطراف الميدان وهم من مهاجرة بعبلك وجبل عامل. الشيعة في الشام هم في جبل عامل، وهو البلد الوقع بين صفد جنوباً، ونهر الأولي شمالاً، وغور الحولة وما حاذاه إلى ارض البقاع شرقاً، والبحر المتوسط غرباً. وفي مدينة بعلبك وأعمالها وزمنهم فيها قديم. وفي أعمال حمص قرى قليلة لهم وفي نفس المدينة جماعات ظاهرة ومستترة، وفي أعمال إدلب قرى الفوعة ونبل وغيرهما وكلها شيعة، وفيهما إلى اليوم السادة بنو زهرة نقباء الأشراف في مدينة حلب في الزمن السالف. وكل هؤلاء من بقايا زمن الحمدانيين ومن فلول شيعة حلب يوم تشتت شملهم. وفي دمشق ويرجع عهدهم إلى القرن الأول للهجرة، وفي أكناف حوران وهم من مهاجرة جبل عامل، وفي شمالي لبنان والمتن والبترون وهم من مهاجرة بعلبك. ولا يقل عدد نفوس الشيعة في الشام عن مائتي ألف من الإمامية. معتقدات الشيعة، وهم فرقة من المسلمين، اعتقادات المسلمين العامة عينها ولكنهم في الأصوال يخالفون أهل السنة بالإمامة، وهي عندهم رياسة عامة في أمور الدين والدنيا لشخص من الأشخاص بحق النيابة عن النبي، وهي واجبة عقلاً على الله لأنها لطف وكل لطف واجب عليه تعالى، ولذلك خالفوا المعتزلة القائلين بوجوبها على الخلق عقلا، والأشاعرة القائلين على الخلق شرعاً. ويجب عندهم أن يكون الإمام معصوماً وانفرد بهذا الشرط الإمامية

والإسماعيلية من الشيعة، وأن يكون منصوصاً عليه وأن يكون افضل أهل زمانه. وأن الأئمة اثنا عشر أولهم علي بن أبي طالب المنصوص عليه من الرسول صلى الله عليه وسلم وآخرهم محمد بن الحسن العسكري الذي اختفى عام 260 في سر من رأى وهو حي يرزق ولا يعلم الناس مقره وسيظهر في آخر الزمان في مكة المكرمة، وقد قال بقولهم هذا فريق من أهل السنة. وأما القول بأنه يخرج من سرداب سر من رأى فلم يقل به أحد من الشيعة وأن نسبه إليهم من لا يعرف مذهبهم جهلاً بحقيقة الحال. ويخالفون الأشاعرة في بعض صفاته تعالى فالأشاعرة تقول في كونه تعالى متكلماً: إن الكلام معنى قائم بذاته تعالى ليس بحرف ولا صوت ولا شيء من أساليب الكلام وهو قديم. والشيعة والمعتزلة يقولون: إن الكلام قائم بالغير يراد من كونه متكلماً فعل الكلام لا أن الكلام قائم به ولذلك فالكلام حادث. والأشاعرة تقول: إن أفعاله تعالى لغرض وإلا لكان ناقصاً مستكملاً بذلك الغرض. وعند الإمامية أن أفعاله معللة بالعلل والأغراض وإلا كان عابثاً. والغرض عائد لغيره أما لمنفعة العبد أو لاقتضاء نظام الوجود ذلك الغرض. والأشاعرة تقول: إن أفعال كلها واقعة بقدر الله وأنه لا فعل للعبد أصلاً. وقال بعضهم: إن للعبد من ذلك الكسب أي كونه طاعة أو معصية. وقال آخرون: إن العبد إذا صمم خلق الله الفعل العقيب التصميم وأنه تعالى فاعل للكل حسناً أو قبيحاً. والشيعة الإمامية أو زيدية يقولون بقدرة العبد واختياره وأنه ليس بمجبر على فعله، بل أن يفعل وله أن لا يفعل وأن الفعل منسوب إليه وأنه يستحيل عليه تعالى فعل القبيح. وقالت الإمامية بوجوب اللطف عليه تعالى وهو ما يقرب من الطاعة ويبعد عن المعصية ولا حظ له في التمكين ولا يبلغ درجة الإلجاء. وقالوا بجريان المسببات عن أسبابها فالشبع مثلاً شيء حادث عن الأكل أنه شيء يحدثه الله عند الأكل. وقالت الأشاعرة بإمكان الرؤية البصرية يوم القيامة على الله تعالى. وقالت الشيعة والمعتزلة باستحالتها مطلقاً.

وقالت الأشاعرة في الحسن والقبح بأنهما شرعيان أي أنه ليس في العقل ما يدل على الحسن والقبح، بما حسنه الشرع فهو حسن وما قبحه فهو، قبيح، وقالت الشيعة الإمامية بأن الحسن حسن في نفسه يستحق صاحبه المدح، والقبيح قبيح بنفسه صاحبه الذم ولا يتوقف ذلك على حكم الشارع. ويقولون: إن العدل صفة من صفاته تعالى واجبة الثبوت له. هذه أمهات المسائل الأصولية التي يخالفون فيها بعض فرق المسلمين كالأشاعرة، وربما وافقهم في أكثرها غيرهم كالمعتزلة. وأما في الفروع فلا تكاد تجد لهم قولاً مخالفاً لا يكون قائلاً به غيرهم من فرق المسلمين اليوم. نعم انفردوا اليوم بالقول بالمتعة وأن كان أثرها في العرب منهم قليلاً بل أندر من النادر. وهي متعتان متعة النكاح ومتعة الحج، فالأولى هي الزواج إلى أجل مسمى تحل عقدته بانقضاء الأجل، وعلى الزوجة المتمتع بها بعد انقضاء الأجل أن تعتد العدة الشرعية فلا تنكح زوجاً غيره حتى تنقضي عدتها، ولا بد فيها من ذكر المهر والأجل، ولا توارث بينهما وبين الزوج للدليل الخاص إلا مع الاشتراط، ولكن الولد منها ولد شرعي لا فرق بينه وبين اخوته. وأما متعة الحج فهي الطواف الأخير المعروف بطواف النساء فلا تحل للمحرم النساء حتى يأتي به. ومنها في الميراث مسألة العول والتعصيب فهم ينكرون العول. ويقول إمامهم جعفر بن محمد الصادق على أن الذي أحصى رمال الحج عالج يعلم أن المواريث لا تعول، ويجرون فيما جاء من ذلك على قاعدة من له الغنم فعليه الغرم. ولا يقولون بالتعصيب بل يرثه أقرب الناس إليه، وطبقات الإرث في النسب ثلاث: الآباء والأبناء والاخوة والأجداد، والأخوال والأعمال. فالمتقدمة من هذه الطبقات تحجب ما بعدها، فإذا كان ذو فرض أخذ فرضه ورد الباقي على نفس الطبقة لا يتعداها سواء كان المردود عليه ذكراً أو أنثى. فإذا مات الميت عن بنت وأب أخذت البنت النصف والأب السدس بالفرض ورد الباقي عليهما كل بقدر سهمه لأنهما من طبقة واحدة، فلو لم

الباطنية:

يكون له أب بل وجد أو أخ كان الرد على البنت لأنها من الطبقة الأولى والجد والأخ من الطبقة الثانية فهي أولى منه بآية وأولو الأرحام. ويقولون بالجمع بين صلاتي الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء سفراً وحضراً ولكن التفريق أفضل. وإذا قال القائل لزوجته أنت طالق ثلاثاً فإن كانت جامعة لشروط الطلاق وقعت واحدة وإلا كان الطلاق باطلاً. وشرط صحة الطلاق أن تكون الزوجة طاهرة في طهر لم يواقعها الزوج فيه وأن يكون الطلاق بشهادة ذوي عدل. وتجتمع الشيعة في أيام عاشوراء فتقيم المآتم على الحسين بن علي شهيد كربلاء عليه السلام، وعهدهم بذلك بعيد يتصل بعصر الفاجعة وأول من رثاه أبو دهيل الجمحي بقصيدة يقول فيها: تبيت النشاوى من أمية نوماً ... وبالطف قتلى ما ينام حميمها والظاهر من سيرة ديك الجن الحمصي في كتاب الأغاني أن هذه الاجتماعات للمآتم كانت معروفة في زمانه. ثم إن بني بويه أيام دولتهم عنوا بها مزيد العناية. ولا تزال إلى تقام في جميع أقطار الشيعة، وليست هي من الفروض كما يتوهم بل يستحبونها لأنها تصدر عن ولاء ومحبة. وقد تطرق بعض العجم فأبدعوا فيها بدعاً فيها يمقتها الله والناس من ضرب أنفسهم بالمدى وغسالة الدماء على أثوابهم وعمل ما يسمونه الشبيه وقد مقته العلماء من الشيعة ولم تذعن لهم به العامة في كثير من البلدان التي استحكمت فيها هذه العادة. الباطنية: أطلق هذا اللقب على فرق خالفت الإسلام مدعية بأن لكل ظاهر باطناً ولكل تنزيل تأويلاً. ولهم ألقاب كثيرة سوى هذه على لسان قوم. فبالعلالق يسمون الباطنية والقرامطة والمزدكية، وبخراسان التعليمية والملحدة، وهم يقولون: نحن إسماعيلية لأنا تميزنا من فرق الشيعة بهذا السم وهذا الشخص، ثم الباطنية القديمة قد خلطوا كلامهم ببعض كلام الفلاسفة وصنفوا كتبهم على ذلك المنهاج هذا ما قاله الشهرستاني. وقال عبد القاهر

البغدادي: إن الذين وضعوا أساس دين الباطنية كانوا من أولاد المجوس، وكانوا مائلين إلى أسلافهم، ولم يجسروا على إظهاره خوفاً من سيوف المسلمين، فوضع الأغمار منهم أساساً من قبله صار في الباطن إلى تفضيل أديان المجوس، وتأولوا آيات القرآن وسنن النبي عليه الصلاة والسلام على موافقة أساسهم. ولما تأولت أصول الدين على الشرك احتالت أيضاً لتأويل أحكام الشريعة على وجوه تؤدي إلى رفع الشريعة أو إلى مثل أحكام المجوس. وذكر أنه خرج منهم أناس بالبحرين والقطيف والأحساء ومنهم من ظهر في طريق الحجاز واستولى على مكة. ومنهم من ظهر بالقيروان واستولى بأتباعه على بلاد المغرب. ومنهم من استولى على هجر. ومنهم من ظهر باليمن وقتل الكثير من أهلها. ومنهم من خرج بالشام وهو أبو القاسم بن مهرويه. وأن زعيمهم الأول ميمون بن ديصان كان مجوسياً أولاً. ومنهم من نسب الباطنية إلى الصابئين الذين هم بحران، واستدل على ذلك حمدان قرمط داعية الباطنية بعد ميمون بن ديصان كان من الصابئة الحرانية. واستدل على ذلك أيضاً بأن صابئة حران يكتمون أديانهم ولا يظهرونها أحلافهم إياه على أن لا يذكر أسرارهم لغيرهم. قال عبد القاهر: الذي يصح عندي من دين الباطنية أنهم دهرية زنادقة يقولون بقدم العالم وينكرون الرسل والشرائع كلها لميلهم إلى استباحة كل ما يميل إليه الطبع. والأرجح أن المحور الأعظم الذي تدور عليه الباطنية هو مسائل الملك والسلطان وهي أشبه من بعض الوجوه بالطريقة الماسونية. وعلى الجملة فإن منشأ هذه المذاهب خلافة علي بن أبي طالب، وطلب شيعته باسمه الملك فغالوا فيه مغالاة عظيمة حتى أخرجه بعضهم عن البشرية. وقد كان أكثر أهل الشام في القرون الثلاثة الأولى للإسلام على ما يظهر من مذاهب النصارى، والمسلمون اقل منهم. ولقد انتهى الحال بجميع القبائل القديمة في الشام مثل بني كلاب وبني جذام وبني عاملة أن دانوا بالإسلام ولم يتخلف عنهم بادئ بدء سوى تنوخ في حلب وتغلب في شمالي شرقي تدمر. ولما مر السائح ويليبالد في القرن الأول للهجرة بحمص كانت نصف

مسلمة وقويت عريكة الإسلام في القرون التالية لما سكنها العباس من قواد المروانيين في خمسين من أولاده. وكانت الشام في الإسلام توالي علياً وأصحابه تارة وتوالي غيره أخرى. وكان أهل حلب سنية حنفية حتى قدم الشريف أبو إبراهيم الممدوح فصار فيها شيعية وشافعية. وأتى صلاح الدين وخلفاؤه فيها على التشيع كما أتى عليه في مصر. وكان المؤذنون في جوامع الشهباء يؤذنون بحي على خير العمل. وحاول السلجوقيون مرات القضاء على التشيع فلم يوفقوا إلى ذلك. وكان حكم بني حمدان وهم شعية من جملة الأسباب الداعية إلى تأصل التشيع في الشمال. ولا يزال على حائط صحن المدفن الذي في سفح جبل جوشن بظاهر حلب ذكر الأئمة الثني عشر وقد خرب الآن. وفي سنة 141 ظهر في حلب قوم يقال لهم الراوندية خرجوا بحلب وحيران وكانوا يزعمون أنهم بمنزلة الملائكة، وصعدوا تلاً بحلب فيما قالوا ولبسوا ثياباً من حرير وطاروا من التل فكسروا وهلكوا. وصف المقدسي مذاهب الشام في القرن الرابع للهجرة فقال: إن السامرة فيه من فلسطين إلى طبرية ولا تجد فيه مجوسياً ولا صابئاً، مذاهبهم مستقيمة أهل جماعة وسنة. وأهل طبريا ونصف نابلس وقدس وأكثر عمان شيعة ولا ماء فيه لمعتزلي إنما هم خفية، وببيت المقدس خلق من الكرامية لهم خوانق ومجالس ولا ترى به مالكياً ولا داودياً، وللأوزاعية مجلس بجامع دمشق والعمل كان فيه على مذهب أصحاب الحديث، والفقهاء شفعوية وأقل قصبة أو بلد لبس فيه حنفي، وربما كانت القضاة منهم قال: واليوم اكثر العمل مذهب الفاطمي. ووصف ابن جبير المذاهب المتغلبة على الشام في القرن السادس فقال: وللشيعة في هذه البلاد أمور عجيبة وهم أكثر من السنيين بها وقد عموا البلاد بمذاهبهم، وهم فرق شتى منهم الرافضة وهم البسبابون ومنهم الإمامية والزيدية وهم يقولون بالتفضيل خاصة. ومنهم الإسماعيلية والنصيرية يزعمون الإلهية لعلي رضي الله تعالى عنه. ومنهم الغُرابية وهم يقولون: إن علياً رض كان أشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم من الغراب بالغراب، وينسبون إلى الروح

الأمين عليه السلام قولاً تعالى الله عنه علواً كبيراً. إلى فرق كثيرة يضيق عنهم الإحصاء. قال: وسلط الله على هذه الرافضة طائفة تعرف بالنُّبوية سنيون يدينون بالفتوة وبأمور الرجولة كلها، وكل من ألحقوه بهم لخصلة يرونها فيه منها يحرّمونه السراويل فيلحقونه بهم، ولا يرون أن يستعدى أحد بّر قسمه وهم يقتلون هؤلاء الروافض لين ما وجدوهم. وشأنهم عجيب في الأنفة والائتلاف. قال الشيخ الإسلام ابن تيمية في رسالته الرد على النصيرية أيام استولى هؤلاء على جانب كبير من الشام: إن للقرامطة في معاداة الإسلام وقائع مشهورة وكتباً مصنفة، فإذا كانت لهم مكنة سفكوا دماء المسلمين وقد قتلوا من علماء المسلمين ومشايخهم وأمرائهم وجندهم ما لا يحصي عدده إلا الله تعالى، وهم دائماً مع كل عدو للمسلمين، فهم مع النصارى على المسلمين، ومن أعظم المصائب عندهم انتصار المسلمين على التتار، ومن أعظم أعيادهم إذا استولى النصارى على ثغور المسلمين، وبسببهم استولى النصارى على القدس الشريف وغيره، فإن أحوالهم كانت أعظم الأسباب في ذلك. واتفقوا بعد صلاح الدين ونور الدين مع النصارى فجاهدهم المسلمون حتى فتحوا البلاد. وقال: إن لهم ألقاباً معروفة عند المسلمين تارةً يسمون الملاحدة وتارة يسمون القرامطة وتارةً يسمون الباطنية وتارةً يسمون الإسماعيلية وتارةً يسمون النصيرية وتارةً يسمون الخرمية وتارةً يسمون المحمرة. وهذه الأسماء منها ما يعمهم ومنها ما يخص بعض أصنافهم. وهم كما قال العلماء فيهم، ظاهر مذهبهم الرفض وباطنه الكفر المحض. وحقيقة أمرهم أنهم لا يؤمنون بنبي من الأنبياء والمرسلين لا بنوح ولا إبراهيم ولا موسى ولا عيسى ولا محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ولا بشيء من كتب الله المنزلة لا التوراة ولا الإنجيل ولا القرآن، ولا يقرون بأن للعالم خالقاً خلقه ولا بأن له ديناً أمر به، ولا أن له داراً يجزي الناس فيها على أعمالهم في غير هذه الدار، وهم يبنون قولهم على مذاهب الفلاسفة تارة وعلى أقوال المجوس الذين يعبدون النور. وقال: إن إخوان الصفا ونحوهم هم من أئمتهم

الإسماعيلية:

وينكرون على الرسل ودعوى أنهم من جنسهم طالبون للرئاسة فمنهم من أحسن بطلبها ومنهم من أساء في طلبها حتى قتل، ويجعلون محمداً وموسى من القسم الأول والمسيح من القسم الثاني ويستهزئون بالصلاة والزكاة والصوم والحج الخ اه. الإسماعيلية: هم القائلون بانتقال الإمامة بعد جعفر الصادق إلى ابنه الأكبر إسماعيل، انتقلت إليه بعد أبيه دون أخيه موسى الكاظم. وهم يوافقون الإمامة في سوق الإمامة من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب إلى جعفر الصادق ثم يعدلون بها عن موسى الكاظم الذي هو الإمام عند الإمامية إلى إسماعيل هذا. ثم يسوقونها في بنيه فيقولون: إن الإمامة انتقلت بعد أمير المؤمنين علي إلى ابنه الحسن ثم إلى أخيه الحسين ثم إلى ابنه علي زين العابدين ثم إلى ابنه محمد الباقر ثم إلى ابنه جعفر الصادق ثم إلى ابنه إسماعيل الذي تنسب إليه هذه الفرقة بالنص إلى ابنه جعفر الصادق ثم إلى ابنه محمد الحبيب ثم إلى ابنه عبيد الله المهدي أول خلفاء الفاطميين ببلاد المغرب، وهو جد الخلفاء الفاطميين بمصر، ثم إلى ابنه العزيز بالله أبي منصور نزار ثم إلى أبنه الظاهر لإعزاز دين الله أبي الحسن علي ثم إلى ابنه المستنصر بالله أبي تميم معد خامس خلفائهم بمصر. ومن هاهنا افترقت الإسماعيلية إلى فرقتين مستعلوية ونزارية. فأما المستعلوية فيقولون: إن الإمامة انتقلت بعد المستنصر بالله إلى ابنه المستعلي بالله أبي القاسم ثالث خلفائهم بمصر ثم إلى ابنه الآمر بأحكام الله أبي علي منصور إلى آخر من جاء بعدهم وهو حادي عشر خلفائهم بمصر. وأما النزارية فأنهم يقولون: إن الإمامة انتقلت بعد المستنصر إلى ابنه نزار بالنص من أبيه المستعلي. ثم الإسماعيلية في الجملة من المستعلوية والنزارية يسمون أنفسهم أصحاب الدعوة الهادية تبعا لإمامهم إسماعيل المذكور، وكان يسمى صاحب الدعوة الهادية - وفي القرن التاسع كانوا يسمون في ديوان الإنشاء بالقصاد وبين العامة بالفداوية - وهو يرون أن الأرواح مسجونة في هذه

الأجسام المكلفة بطاعة الإمام المطهر، فإذا انتقلت على الطاعة كانت قد تخلصت وانتقلت للأنوار العلوية، وأن انتقلت على العصيان هوت في الظلمات السفلية. وذكر في العبر أن منهم من يدعي ألوهية الإمام بنوع الحلول، ومنهم من يدعي رجعة من مات من الأئمة بنوع التناسخ والرجعة، ومنهم من ينتظر مجيء من يقطع بموته، ومنهم من ينتظر عود الأمر إلى أهل البيت. ويتفق المستعلون والنزارية في بعض المعتقدات ويختلفون في بعضها. ولدعاة الأئمة المستورين عندهم مكانة عظمى لا سيما الداعي القائم بذلك أولاً وهو الداعي إلى محمد المكتوم أول أئمتهم المستورين، فإن له من الرتبة عندهم فوق ما لغيره من الدعاة القائمين بعده. واشتهر من دعاتهم رمضان وابنه ميمون وعبد الله القداح بن ميمون، اطلع هذا على أسرار الدعوة من أبيه وسار من نواحي أصفهان إلى الأهواز والبصرة وسلمية من أرض الشام يدعو الناس إلى أهل البيت. ثم أنشأ ابنه أحمد فأرسل هذا أحد دعاته إلى اليمن وإلى المغرب. ومن نسب أحداً من هؤلاء الدعاة إلى ارتكاب محظور أو احتقاب إثم فقد ضل وخرج عن جادة الصواب عندهم، ويرون تخطئه من مالأ على الإمام عبيد الله المهدي أول أئمتهم القائمين ببلاد المغرب وارتكابه المحظور وضلاله عن طريق الحق، وكذلك من خذل الناس عن أتباع القائم بأمر الله بن عبيد الله ثاني خلفائهم ببلاد المغرب أو نقض الدولة على المعز لدين الله أول خلفائهم بمصر، ويرون ذلك من أعظم العظائم وأكبر الكبائر. ومن أعيادهم العظيمة الخطر عندهم يوم غدير خم غيضة بين مكة والمدينة على ثلاثة أيام من الجحفة وسبب جعلهم له عيداً أنهم يذكرون أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل فيه ذات يوم فقال لعلي: اللهم من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدار الحق معه حيث دار. ومن أكبر الكبائر عندهم وأعظم العظائم أن يرمي أحد من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ولا سيما الأئمة بكبيرة، أو ينسبها أحد إليهم أو يوالي لهم عدواً أو يعادي ولياً. ويقولون: إن الإمام منهم لا يموت إلا وقد خلف ولداً ذكراً منصوصاً عليه.

وأصل هذه الفرقة كانت بالبحرين في المائة الثانية وما بعدها، ومنهم كانت القرامطة الذين خرجوا من البحرين حينئذ ثم ظهروا بأصبهان في أيام السلطان ملكشاه السلجوقي، واشتهروا هنالك بالباطنية لأنهم يبطنون خلاف ما يظهرون، وبالملاحدة لأن مذهبهم كله إلحاد، ثم صاروا إلى الشام ونزلوا فيما حول طرابلس وأظهروا دعوتهم هناك، وإليهم تنسب قلاع الإسماعيلية المعروفة بقلاع الدعوة فيما حول طرابلس كمصياف والخوابي والقدموس والمرقب والعقليقة والكهف والرصافة وغيرها. وهم يعظمون راشد الدين سنان، وهو رجل كان بقلاع الدعوة وانتهت إليه رياستهم في زمن صلاح الدين. ولما افترق الإسماعيلية إلى مستعلوية ونزارية أخذ من منهم ببلاد المشرق بمذهب النزارية عملاً بدعوة ابن الصباح، واخذ من منهم بالشام بقلاع الإسماعيلية بمذهب المستعلوية وصاروا شيعة لمن بعد المستعلي من خلفاء الفاطميين بمصر واشتهروا باسم الفداوية لمفاداتهم بالمال على من يقتلونه. روى هذا القلقشندي وقال ابن ساعد: ويلقب الإسماعيلية بالسبعية لقولهم بسبعة أئمة، ويرون أن في كل دور سبعة أئمة، إما ظاهرون وهو دور الكشف، وإما مختفون وهو دور الستر، ولا بد من إمام، إما ظاهر وإما مستور، لقول أمير المؤمنين رضي الله عنه الأرض عن قائم لله بحججه، ويلقبون أيضاً بالباطنية لقولهم: إن لكل ظاهر باطناً، وبالتعليمية لقولهم: إن العلم بالتعلم من الأئمة خاصة، وربما لقبوا بالملاحدة لعدوهم عن ظواهر الكتاب والسنة لأنهم يتأولون سائر النصوص، وعندهم أن من مات ولم يعرف إمام زمانه وليس في عنقه بيعة إمام مات ميتة جاهلية اه. وذكر كتاب جلبي أنه كان للفداوية الذين اشتهروا في زمن الظاهر بيبرس - هكذا كانت العامة تسمي الإسماعيلية - من طرابلس إلى صيدا إلى حلب على الساحل حتى حوران سبعون قلعة أهمها قلعة صهيون. وقد ذكر مؤرخو حلب أنه جاء إلى جبل السماق سنان بن سلمان بن محمد أبو الحسن البصري صاحب الدعوة النزارية ومتولي الحصون الإسماعيلية، وكان أديباً فاضلاً عارفاً بعلم الفلسفة وله شعر حسن وكلام منثور جيد، وتمكن

في الحصون وانقادت إليه الطائفة الإسماعيلية ما لم ينقادوا إلى غيره. ويقضي مذهبهم على ما قال هوار في المعلمة الإسلامية بأن الله لا صفات له ولا تدركه العقول ولا تفهمه الألباب ولم يخلق العالم نباشرة، بل تجلت إرادته في أمره وهو العقل العام وفيه تختفي جميع الخصائص الإلهية وهو الله المتجلي. وإذ كان لا يصلي لكائن لا يدرك فإن الصلاة تتجه نحو صورتها الخارجية وهي العقل الذي هو حقيقة معبود الإسماعيلية. فكما أنه لا سبيل إلى معرفة الله بل يعرف العقل فقط فهذا العقل يطلق عليه أسماء الحجاب والمكان والأزل والعقل والأول. والعقل يخلق الروح العام الذي هو الجوهر في الحياة، وإذ كانت حياة العقل بالعلم وهو ناقص من هذا النظر فيرمي بالضرورة إلى تحقيق الكمال. ومن هنا تنشأ حركة بمعنى آخر عن حركة أخرى تتولد منها. الروح تخرج المادة الأولى التي تتألف منها الأرض والكواكب وهي غير عاملة بل تتجلى في أشكال تنطوي فيها الأفكار على العقل. وهناك كائنان ضروريان وأصليان وهما الأمد والزمان. والكواكب والعناصر نتيجة لازمة من عمل هذه المخلوقات الخمسة مشتركة. ويفسر ظهور الإنسان بالضرورة التي يشعر بها الروح العلم في إحراز العلم الكامل حتى يرقى إلى طبيعة العقل العام ومتى جرى الوصول إلى هذه الغاية تبطل كل حركة. وللخلاص يجب على المرء تحصيل العلم الذي لا يتأنى أن يأتي إلا من تجسد العقل على هذه الأرض ويتجسد ذلك في الرسول وخلفائه والأئمة. ويسمى الذي يتجلى قيه الكلام الموحى، والثاني هو ترجمان هذا الكلام بما يحوى من المعاني التي تؤول. والمبادئ الثلاثة الأخيرة هي الإمام والحجة، الذي يبرهن على رسالة الإسالة الأساس، والداعية. وكان محمد الناطق وعلي الأساس. والذين يرخص لهم بالاطلاع على أسرار الدين هم طبقات كانوا أولاً سبعة ثم صاروا تسعة. ويبدأ الداعية مع من يريد تلقينه أسرار الدعوة بأن يضع له مشكلات في صعوبة فهم الشريعة وهي الطريقة يجرى عليها الباطنية عامة، ولا يوال به حتى يذكر له أن هذه المشاكل قد حلت على أيسر

وجه بتأويل القرآن ومعرفة رموزه. وللحساب المستخرج من قيمة الحروف العددية شأن كبير. ومتى اقتنع المدعو بقوة البراهين التي أوردها له الداعية يستحلفه بأن لا يبوح بأدنى سر من الأسرار التي سيفضي بها غليه، ويعلمه بأن الواسطة للنجاة أن يخضع خضوعاً أعمى لأوامر الإمام الروحية والزمنية. وجمهور المؤمنين بهذه الدعوة ما كانوا يقفون على أكثر من الدرجة الأولى أو الثانية من الأسرار، والدعاة يصلون إلى الدرجة السادسة إلا قليلاً. ولا يبلغ الدرجة العالية غلا بعض الممتازين. وهذا أسبه بتعاليم الشيعة والمتصوفة في تعيين درجة الإنسان الكامل. والجنة معناها مجازاً حالة النفس الواصلة إلى كامل العلم، وجهنم معناها الجهل، وما من نفس يحكم عليها بالخلود في جهنم على الأبد، بل تعود إلى الأرض بالتناسخ حتى تعرف إمام الزمان وتأخذ عنه علوم الدين. والشر لا بقاء له ولا بد ما اشتهر عن الإسماعيلية من القتل يجب أن نذهب إلى أن ما اجترحوه لم ينشأ عن عقيدة لهم بل يجب أن ينظر فيه إلى الإفراط الذي عرف به رؤساؤهم في نيل السلطة السياسية. وقال رسو من السياح: إن من عرفهم من الإسماعيلية هم على جانب عظيم من الكرم ولطف الأخلاق، وقلما يحبون التنقل ويعملون في أرضهم ويتمسكون بأهداب دينهم الذي يخالف مذهبهم القديم كل المخالفة، وهم أشداء الحاجة خاضعون لزعمائهم. انتهى قول هوار. ولم يعرف الزمن الذي نزل فيه الإسماعيلية بعض لأرجاء الشام إذ لم يجر لهم ذكر قبل أوائل القرن الخامس للهجرة. وكان الحكيم المنجم وأبو طاهر الصائغ وهما من دعاة الإسماعيلية وأمثالهما من العجم أول من أظهر هذا المذهب بالشام في أيام الملك رضوان بن تتش السلجوقي صاحب حلب الذي أغضى عنهم وأراد اتخاذهم حزباً له فقيل دعوتهم على ما قبل، واستمالوا إليهم خلقاً كثيراً بسمين والجوز له فقيل دعوتهم على ما قيل، واستمالوا إليهم خلقاً كثيراً بسمين والجوز وجبل السماق وبني عليم وجعل لهم في حلب دار دعوة. ولم يلبثوا أن اغتالوا قي جامع حمص 496 عمه جناح الدولة وصاحب حمص، تولى ذلك ثلاثة من العجم يلبسون لباس الصوفية

بينما كان يتهيأ لغزوة صنجيل أمير طرابلس من الصليبيين لرفع الحصار عن حصن الأكراد. ولم يلبث هذا الطبيب المنجم أن قضى نحبه عاهداً بالدعوة إلى رفيقه أبي طاهر الصائغ. استولى الإسماعيلية على أفامية من الصليبيين ثم استرجعها هؤلاء منهم 498 ووضع السيف في الإسماعيلية بحلب سنة 507 و508 كما وضع فيهم في دمشق سنة 522 خطط الشام ج1 وج2 وكذلك كان حالهم في الباب من عمل حلب. قال ابن جبير: فداخلت أهل البلاد الحمية فتجمعوا من كل أوب عليهم ووضعوا السيوف فيهم فاستأصلوهم عن آخرهم. وقال: إن الإسماعيلية يبذلون الأنفس دون أمامهم سنان وحصلوا من طاعته وامتثال أمره بحيث يأمر أحدهم بالتردي من شاهقة جبل فيتردى. وفي تلك السنة أيضاً قتلوا برق بن جندل أحد مقدمي وادي التيم. وفي سنة 571 حاول أحد الإسماعيلية من العجم اغتيال السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب فأنجاه الله وأغضى الطرف عنهم وفي سنة 588 قتل الإسماعيلية كونراد أمير صور. وبعد مدة قتلوا ريموند بن بويمند الرابع المعروف بالأعور أمير إنطاكية من الصليبيين قتلوه في الكنيسة. وفتح الظاهر بيبرس والتتار قلاعهم وخضعوا بعد ذلك لمماليك مصر. وكان للإسماعيلية في بلاد العجم وقائع عظيمة وهم الذين قتلوا الوزير نظام الملك في بغداد وغيره من رجال الإسلام حتى ضاقت بهم الصدور. وقد سموا أوائل دخول الصليبيين إلى الشام بالحشاشين أو القتلة لأن رؤساءهم كانوا فيما قيل يعطون الحشيشة لمن يريدونه على قتل أحد خصومهم السياسيين. وكان الصليبيون يطلقون على رئيسهم شيخ الجبل. وقد نالوا من الصليبيين كثيراً كما نالوا من أمراء المسلمين وهم جمعية سياسية ترمي إلى إقامة مُلك. وما كان هذا القتل منهم عن باعث مذهبي بل سياسي. على أنهم أخافوا رجال السياسة في هذه الديار وهي في أشد أوقات ضيقها زمن الحروب الصليبية وحروب التتار. ويبلغ عدد الإسماعيلية اليوم في الشام نحو خمسة وثلاثين ألفاً منهم جماعة في سليمة وفي قلاع الدعوة في جبل النصيرية. ومن الإسماعيلية عشرات ألوف في العجم والهند والأفغان وعُمان ومسقط وزنجبار وإفريقية الشرقية. وإسماعيلية هذه الديار يجبون

النصيرية أو العلوية:

الزكاة كل سنة ويرسلونها إلى أمامهم أغا خان في الهند أما، سائر الإسماعيلية فليسوا مرتبطين به. وقد ذكر بعض أعيانهم أن الإسماعيلية اليوم يقولون: إن كل زمن لا يخلو عن رجل من السلالة الطاهرة يسمونه إماماً واعتباره اعتبار علمي ديني خالٍ من كل غرض سياسي. النصيرية أو العلوية: قال القدماء: هم أتباع نصير غلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وهم يدعون ألوهية علي رضي الله عنه مغالاةً فيه ويزعمون أن مسكنه السحاب وإذا مر بهم السحاب قالوا: السلام عليك يا أبا الحسن ويقولون: إن الرعد صوته والبرق ضحكه، وهم من أجل ذلك يعظمون السحاب، ويقولون: إن سلمان الفارسي رسوله، وإن كشف الحجاب عما يقوله من أي كتاب بغير إذن ضلال، ويحبون ابن ملجم قاتل علي ويقولون: إنه خلص اللاهوت من الناسوت ويخطئون من يلعنه. وإن لهم خطاباً بينهم من خاطبوه به لا يعود يرجع عنهم ولا يذيعه ولو ضرب عنقه. وهم يخفون مقالتهم من أذاعها فقد أخطأ عندهم. ولهم اعتقاد في تعظيم الخمر ويرون أنها من النور ولزمهم من ذلك أن عظموا شجرة العنب التي هي أصل الخمر حتى استعظموا قلعها. ويزعمون أن الصديق وأمير المؤمنين عمر وأمير المؤمنين عثمان تعدوا على علي ومنعوه حقه من الخلافة. وقال المحدثون منهم أنفسهم على ما ذكره صاحب تاريخ العلويين: إن النصيرية رجع لهم اسمهم القديم بعد انتهاء الحرب العامة 1918م وسميت العلوية وكانت محرومته مدة 412 سنة أي من قتال الاتراك للعلويين وإن اسم العلويين الذي كان يطلق على طائفتهم دثر عدة قرون وسمى الموجودون باسم الجبل ويظن بعضهم أن اسم النصيرية هو نسبة للسيد أبي شعيب محمد بن نصير البصري النميري مع أن الأصح هو لأنه تغلب اسم

الجبل إليهم وأصبحت كلمة النصيري أشنع كلمات التحقير. وقال: إن قوله تعالى (اليوم أكملت لكم دينكم)، معناه كمال الدين وكمال الدين هو ولاية علي، وهذه هي الحكمة المقصودة من نزول القرآن بالتدريج. ويقول العلويون: إنه لما أعلن كمال الإسلام كان لا يزال بعض العقائد مكتوما وخفيا، ولذلك بقي إلى هذا اليوم مكتوما بخصوصيته، وبتعبير أصح إن بقاء عقيدة العلويين مكتومة هو من كمال الإسلام وإعلانها مضر به لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بشر المؤمنين بولاية علي وبذلك كمل الإسلام، ولكنه بقي حريصا على كتمان البقية ولذلك كان كتمان البقية من كمال الإسلام أيضا. وهذا هو تعليل تكتم العلويين في عقيدتهم. وهم يقولون أيضا: إن بني هاشم كانوا يعرفون في زمن النبي أحكاما ما كان يعرفها الأمويون، وإن أهل البيت تعلموا علوما لم يسمعها غيرهم. وهنا مبدأ أسرار العلويين. ومن جملة أسباب تكتم العلويين أن بيعة غدير خم لم تكن إلا إفشاء لبعض حقوق أهل البيت والأمر بأتباعها واحترامها. وقال: إن السلطان سليما العثماني لما فتح الشام استدعى عشائر تركية من الأناضول إلى خراسان وقدرها تسعون ألف خيمة أي أكثر من نصف مليون تقريبا وأسكنهم في القلاع في جبال النصيرية والمواقع الغنية المرتفعة منه، ولم يمض أكثر من خمسين عاما حتى انقرض الأتراك في المنطقة الضيقة التي لم تكن حاصلاتها تكفي سكانها الأصليين، ولم يبق من الأتراك سوى خمسة عشر ألفا وهم اليوم في الباير والبوجاق وقليل منهم في الساحل، حافظوا على جنسيتهم ولسانهم، ومن نزل منهم أرجاء حماة وحمص تغلبت عليه العربية. وليس بين العلويين اختلاف في المذهب بل تفرقوا عشائر وأفخاذا فمنهم الكلبية وهي من أكبر العشائر والنواصر والجهينية والقراحلة والجلقية والرشاونة والشلاهمة والرسالنة والجردية والخياطية والبساترة والعبدية والبراعنة والفقاروة والعمامرة والحدادية وبنو علي والبشالوة والياشوطية والعتارية والمتاورة والحلبية والخرزجية والسوارخة والنيلاتية والسرانبة والصوارمة والمهالبة والدراوسة والمحارزة والبشارغة والجواهرة والسواحلية والإنطاكيون

والأطنويون. والنسبة في هذه الأسماء إما إلى أشخاص منهم معروفين عندهم أو إلى قرى ومدن معروفة في أراضيهم وغيرها. وقال أيضاً: ليس للعلويين ديانة خاصة أو مذهب خاص كما يظن بعضهم، بل إن العلويين مسلمون شيعيون جعفريون، لا تفرق بينهم وبين سائر الجعفرية قيود دينية أو اجتهادات علمية، ويعتقدون أن الأئمة الاثني عشر هم معصومون من الخطايا، وإن أقوال الأئمة دلائل قطعية، ولا يمكن أن يخالف الإمام القرآن والأحاديث ولا يحق لأحد أن يؤول القرآن، ولا أن يفرق بين محكمه ومتشابهه سوى أهل البيت، ولا تنفع عند العلوي القواعد الصرفية والنحوية أو الأصولية في استخراج الأحكام الشرعية، بل كل ذلك من جملة حقوق أهل البيت. وإن العلويين يمتازون على بقية الجعفرية أي الاثني عشرية بانتسابهم في الآداب الدينية إلى الطريقة الحنبلانية، وهذا الانتساب هو الذي أدى إلى افتراقهم عن بقية الاثني عشرية. ويرى المؤلف أن يتحد العلويين والشيعة المتأولة والإسماعيلية، وليس بين هؤلاء وبين العلويين سوى الافتراق الخاص في اعتبار الأئمة بعد جعفر الصادق. وقد سألنا الأستاذ سليمان أحمد من علمائهم فأجاب معتذراً عن التوسع في وصف مذهبهم وختم بقوله: أمة توالت عليها النوائب السياسية والاجتماعية خمسة أجيال فأخملتها أي إخمال، وانزوى علماؤها وصلحاؤها وعاث الجهل في عشائر فساداً، ليس من السهل الكتابة عنها، وليس بالهين ضلال التاريخ، وقل من جرى في ميدانه فلم يعثر. لا فرق بينهم وبين الإمامية إلا ما أوجبته السياسة والبيئة وعادات العشائر التي توارثها سكان الشام، أكثر الناس اختلافاً، وأقلهم ائتلافاً، إذ شيخ مذهبهم الذي ينتمون إليه الخصيبي من رجال الإمامية تقرأ ما له وما عليه في كتب الرجال. إنما لهم طريقة كالنقشبندية والرفاعية وغيراهما من طرق الصوفية بالنسبة إلى أهل السنة. وهذا مصدر التقولات الباطلة عليهم، وما أُبرّئ جهلتهم من كل ما يقال، ولكن أشهد بالغرض والتغريض على غالب المؤرخين الذين كتبوا عنهم اه. ويسكن النصيرية أو العلويون اليوم في جبال اللاذقية وطرابلس وحماة

الدروز:

ومنهم فئة قليلة في دمشق وصالحيتها وفي قرى عين فيت وزعورا وغجر في الحولة، وعدد العلويين اليوم أكثر من مائتي ألف. وقد استعملوا العنف معهم في أكثر الأدوار السالفة فنفروا وقد كان الظاهر بيبرس في القرن السابع أمر أن تبنى لهم جوامع في قراهم فبنوا في كل قرية جامعاً وما كانوا يدخلونها على عهد ابن بطوطة في القرن التاسع، بل كانت حظائر للغنم وإصطبلات للدواب، وأمر السلطان قلاوون أيضاً أن يبنى جامع في كل قرية من قرى النصيرية، وهكذا فعل عبد الحميد الثاني من العثمانيين فبنى لهم جوامع لم يلبثوا أن خربوها وأهانوها. وشأن العلويين شأن سائر الطوائف الإسلامية الصغرى كلما زادوا علماً وتربية رجعوا إلى الأصول الصحيحة. وفيهم كرم وشمم وشجاعة ومكارم أخلاق. الدروز: لما طمع الحاكم بأمر الله الفاطمي سادس خلفاء الفاطميين أو العبيديين بمصر في دعوى الربيوبية، أخذ يمهد لذلك المقدمات ولقب نفسه الحاكم بأمره وأمر الخطباء بأن يقرءوا بدل البسملة بسم الله الحاكم المحيي المميت وفي رواية أنهم كتبوا باسم الحاكم الله الرحمن الرحيم. فلما أنكروا عليهم كتبوا بسم الله الحاكم الرحمن الرحيم فجعلوا في الأول الله صفة للحاكم وجعلوا في الثاني العكس. وأنشأ يدعي علم المغيبات، وكان من دعاته رجلان عجميان من دعاة الباطنية يقال لأحدهما محمد بن إسماعيل الدرزي المعروف بنشتكين، وللآخر حمزة بن علي بن أحمد وهذا من أعظم دعاة الحاكم، كان يؤثره على جميع عشيرته، وكان صاحب الرسائل والمكاتبات عنده. وصنف الدرزي كتاباً كتب فيه أن روح آدم انتقلت إلى علي بن أبي طالب ومنه إلى أسلاف الحاكم متقمصة من واحد إلى آخر حتى انتهت إلى الحاكم بأمر الله. وقرئ هذا الكتاب في الجامع الأزهر بالقاهرة، فهجم الناس على مؤلفه ليقتلوه ففر منهم، وحدث شغب عظيم في القاهرة وقتلوا

كثيرين من أصحابه. وكانت بلغت جريدة أسمائهم ستة عشر ألفاً. ولم يسمع الحاكم بأمر الله بعد أن وقع ما وقع إلا أن ينبعث إلى الدرزي في السر مالاً وأوعز إليه أن يخرج إلى الشام وينشر فيها الدعوة، فنزل وادي تيم الله بن ثعلبة غربي دمشق، وقرأ الكتاب على أهله واستمال همك إلى الحاكم، وأعطاهم المال فكثر مشايعوه وأنصاره. وكان الأمراء التنوخيون سكان لبنان على استعداد لقبول دعوة الدرزي فانقادوا إليه فسمي جماعته بالدروز. والدروز ينكرون هذه التسمية ويحبون أن يدعوا بالموحدين، وكان يسميهم أصحابهم بالأعراف. وغلب عليهم في حوران في العهد الأخير لقب آل معروف دعوا به تحبباً. وهذا كان من شعار لانقسام هذه الطائفة إلى أصلين من أمهات أصول العرب في هذا القطر وهما القيسية واليمنية. ولما نشأ الدروز يبثون دعوتهم بين المسلمين غزوا في عقر دارهم وفي وادي التيم نحو سنة 410 على الأرجح وغزوا في جبل السماق من أرجاء حلب لما هاجروا بمذهبهم أيضاً وخربوا ما عندهم من المساجد فقتل دعاتهم وأعيانهم سنة 423 خطط الشام م1. ووقع خلاف بين الداعية الأول محمد بن إسماعيل الدرزي والداعية الثاني حمزة بن علي بن أحمد، فكتب التقدم لهذا ومات الدرزي سنة 411 فقام بالدعوة حمزة واصبح القوم يدرسون ويلقبونه بهادي المستجيبين وحجة القائم وغير ذلك. ولما هلك الحاكم كتب حمزة الرسالة المسماة بالسجل المعلق وعلقها على أبواب الجامع وفيها يقول: إن الحاكم اختفى امتحاناً لإيمان المؤمنين، وشرع حمزة يزرع في القلوب بذر الاعتقاد بألوهية الحاكم وتوحيده وعبادته، ويجتمع هو واتباعه في المعبد السري، حتى ثار عليهم المسلمون وطردوهم ففروا من مصر إلى الشام. قال سليم البخاري: إن الدروز يخالفون في عقائدهم عقائد الفرق من أرباب الديانات يتظاهرون بالتبعية لمن يكونون تبعاً له، وأما في الباطن فإنهم ينكرون الأنبياء عليهم السلام وينسبونهم إلى الجهل وأنهم كانوا يشيرون إلى توحيد العدم وما عرفوا المولى، ويشنعون بالطعن على جميع أرباب الديانات من المسلمين والنصارى واليهود، والديانة الحقة عندهم هي توحيد الحاكم،

ويفترض عندهم صدق اللسان بدل الصوم وحفظ الأخوان بدل الصلاة. ويقرءون القرآن ويؤولونه ويذهبون إلى قدم العالم تبعاً لبعض الفلاسفة ويقولون بالتناسخ معبرين عنه بالتقمص، فالسجد يسمى قميصاً عندهم، وأن الميت حين موته تنتقل روحه إلى من يولد وقتئذ، فالأرواح الإنسانية لا تنتقل عندهم إلا إلى قوالب إنسانية. ويقولون: الهوية الإلهية تنتقل من قالب وتحل في قالب آخر في كل عصر، فتتجلى في كل زمن بصورة وتجلت أخيراً في الحاكم، وأن حمزة أيضاً ظهر في كل عصر قالب، ففي زمان كان فيثاغورس الحكيم، وفي زمان كان شعيباً، وفي زمان كان سليمان بن داود، وفي زمان كان المسيح الحق، فهو نبي الكريم عندهم، وحمزة العصر المحمدي وهو سلمان الفارسي، ويزعمون أن القرآن قد أوحى حقيقة إلى سلمان الفارسي وأنه كلامه وأن محمداً أخذه وتلقاه عنه حتى زعموا بأن خطاب لقمان الذي خاطب به ولده في معرض الوصية بقوله: (يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر) هو خطاب سلمان لمحمد والتعبير بالنبوة إنما هو من خطاب المعلم للمتعلم. وإذا أراد أحد من جهالهم أن يدخل في سلك الموحدين ينبغي له أن يستجلب رضاهم بتقديم وسائل العطف مدة حتى تتحقق توبته، فإذا قبلوه أدخلوه على الإمام فيوصيه بحفظ السر وعدم إشهاره، ويأمره بتحرير العهد الواجب تحريره، إذ لا يكون موحداً خالصاً بدون تحرير العهد على نفسه، فإذا حرروه وسلمه إلى الإمام صار واحداً منهم. وصورة العهد وهو المعروف لأول انتشار الدروزية بميثاق ولي الزمان: توكلت على مولانا الحاكم الأحد الفرد المنزه عن الأزواج والعدد، أقر فلان بن فلان إقراراً أوجبه على نفسه وأشهد به على روحه في صحة من عقله وبدنه وجواز أمره طائعاً غير مكره ولا مجبر، أنه قد تبراً من جميع المذاهب والمقالات والأديان والاعتقادات كلها على أصناف اختلافاتها وأنه لا يعرف شيئاً غير طاعة مولانا الحاكم جل ذكره والطاعة هي العبادة وأنه لا يشرك في عبادته أحداً مضى أو حضر أو ينتظر وأنه قد سلم روحه وجسمه وماله وولده وجميع ما يملكه لمولانا الحاكم جل ذكره ورضي بجميع أحكامه له وعليه، غير معترض ولا منكر

لشيء من أفعاله ساءه ذلك أم سره، ومتى رجع عن دين مولانا الحاكم جل ذكره الذي كتبه على نفسه وأشهد به على روحه أو أشار به إلى غيره أو خالف شيئاً من أوامره، كلن بريئتاً من البارئ المعبود وحرم الإفادة من جميع الحدود واستحق العقوبة من البارئ العلي جل ذكره، ومن أقر أن ليس له في السماء إله معبود ولا في الأرض إمام موجود إلا مولانا الحاكم جل ذكره كان من الموحدين الفائزين. وكتب في شهر كذا وسنة كذا وكذا من سني عبد مولانا جل ذكره ومملوكه حمزة بن علي بن أحمد هادي المستجيبين المنتقم من المشركين والمرشدين بسيف مولانا جل ذكره وشدة سلطانه وحده. وليس لأحد من الناس أن يدخل في مذهب الدروز لأن ذلك لا يتأتى إلا إبان الدعوة الأولى، وقد سد هذا الباب بعد ذلك. ويحرص الدروز كل الحرص على كتمان عقائدهم ولذلك يعبرون عن مرامهم في كتبهم ورسائلهم بطريق الرمز والكناية فلا يفهم ما يراد منها إلا الطبقة العالية من أرباب الدين عندهم أو مشايخ العقل. ويذكرون مباحث من علم الكلام، وبعض مقالات غلاة المتصوفة، وتأويلات الرافضة والملاحدة، وخصوصاً الإسماعيلية من غلاة الشيعة. ولهم قضاة مهم يحكمون في المعاملات المدنية الجارية بينهم على مقتضى الشريعة، غير أنهم يخالفونها في بعض المعاملات بحكم العادة الموروثة وقد اصطلحوا على التوصية بما يشاءون لما يشاءون. ولا يجوز عندهم الجمع بين امرأتين فإن لم يطلق التي عنده لا يمكنه التزوج بغيرها. وتطلق المرأة بأدنى سبب، ولا يجوز عندهم رد المطلقة ولو كان بعد زوج آخر. ويقسم الدروز من حيث الدين إلى ثلاثة أقسام: العقال أو الأجاويد والشراح والجهال. ويرخص للشراح بالاطلاع على ما كتبه الشيخ الفاضل بشرح أحد أوليائهم الأمير عبد الله التنوخي الملقب بالسيد دفين قرية عبيه وهو الذي بنى المساجد وجدد الجوامع، وكان على ما قيل يريد أن يرجع بالدروز إلى مذهب أهل السنة والجماعة توفي سنة 874. ولا يباح للجهال من الديانة غير معرفة المسائل الأولية من الدين. ومن العقال طبقة أتقياء يقال لهم المتنزهون وهم مثابرون على العبادة والورع، ومنهم من لم يتزوج، ومنهم من لك يأكل لحماً طوال حياته، ومنهم من هو

صائم كل يوم، ولا يذوقون شيئاً من بيت أحد من غير العقال. والعقال جميعهم يعتقدون أن أموال الحكام والأمراء حرام فلا يأكلون شيئاً من طعامهم ولا من طعام خَدَمهم ولا من طعام حُمل على دابة مشتراة من مال حاكم، وقد يعتاشون من عمل لهم خاص يتعاطونه بأنفسهم من زراعة وصناعة. وينزهون ألسنتهم عن ألفاظ الفحش والبذاءة ويتجنبون الإسراف. واسمع بعد هذا رأي الأمير شكيب أسلان من مقالة في جريدة الشورى 15 جمادى الثانية سنة 1344 في الدروز قال: الدروز فرقة من الفرق الإسلامية أصلهم من الشيعة الإسماعيلية الفاطمية، والشيعة الإسماعيلية الفاطمية أصلها من الشيعة السبعية القائلين بالأئمة السبعة، وهؤلاء هم من جملة المسلمين كما لا يخفى. وإذا قيل: إن الدروز هم من الفرق الباطنية التي لا يحكم لها بالإسلام فالجواب أن الدروز يقولون: إنهم مسلمون ويقيمون جميع شعائر المسلمين ويتواصون بمرافقة الإسلام والمسلمين في السراء والضراء، ويقولون: إن من خرج عن ذلك منهم فليس بمسلم. ولهذا أصبح من الصعب على المسلم الذي فهم الإسلام كما فهمه السلف الصالح والذي سمع حديث فلا شققت عن قلبه أن يخرج الدروز من الإسلام. وفي الشرع المحمدي قاعدة: نحن لنا الظاهر والله يتولى السرائر. وقد قال الله تعالى: (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا) وهؤلاء لا يلقون السلام فقط بل يلقون السلام ويقولون: أنهم مسلمون، ويحفظون القرآن، ويلقن ملقنهم الميت إذا جاء منكر ونكير وسألك ما دينك ومن نبيك وما كتابك ومن إخوانكم وما قبلتك فقل لهمت الإسلام ديني ومحمد نبيي والقرآن كتابي والكعبة قبلتي والمسلمون اخوتي وليس من شعائر الإسلام شيء لا يقيمه أو لا يوجب إقامته الدروز. وإذا قيل: إنه مع كل هذه المظاهر تحتوي عقيدتهم الباطنية التي تعرفها طبقة العقال على ما يصادم أركان عقيدة السنة والجماعة ولا يتفق معها في شيء فالجواب قد وجد في الإسلام أئمة كبار يترضى عنهم عند ذكرهم ولهم قباب تزار وتعلق فيها القناديل وكانوا يقولون بوحدة الوجود! فهل وحدة الوجود مما يطابق السنة؟ كلا فهل أخرج المسلمون هؤلاء الأئمة من

البابية:

الإسلام؟ وأما تجسد الإله فليس من عقيدة الدروز كما يتهمهم بعضهم والتجسد شيء والترائي شيء آخر. وأما تأويل آي القرآن الكريم بحسب زعمهم فكم من فرقة في الإسلام انفردت بتأويلٍ للآيات الكريمة. . . . . اه. وبعد فإن للدروز روابط مهمة بينهم منها أنهم مهما كانت بينهم طوائل وحزازات يتخلون عنها ويصبحون جسماً واحداً يوم يريدون مقاومة عدّوٍ لهم. وهم من التسامح على جانب حتى مع من يخالفهم. ومعظم عاداتهم إسلامية وأسماؤهم إسلامية وفيهم من الإسلام شيء كثير من جوهره. وقد رأينا لعهدنا أبناء هذا المذهب كلما تعلموا قربوا من الأصول الإسلامية وفيهم اليوم فئة صالحة مستنيرة تريد الجهر بالرجوع إلى مذهب أهل السنة. ومن أراد زيادة تفاصيل في مذهب الدروز فعليه بالرجوع إلى كتبهم ورسائلهم وهي محفوظة في دور الكتب العامة هنا وفي الغرب. وينزل الدروز اليوم في شوف لبنان وجبل حوران ووادي التيم وبعض قرى الغوطة بدمشق والجبل الأعلى في حلب وبعض قرى عكا ولا يقل عددهم عن مائة وأربعين ألفاً. البابية: مؤسس هذا المذهب رجل من فارس اسمه المبرزا علي محمد الشيرازي ولد سمة 1235هـ وتوفي والده وهو حدث فكفله خاله وعلمه مبادئ الفارسية والعربية وحسن الخط واشتغل لأول أمره بالتجارة، وفي سن العشرين أخذ يكثر من الرياضة والعبادة فخاف خاله على صحته فأرسله إلى العراق وقضى أشهراً في كربلاء والنجف اجتمع خلالها إلى علماء الشيعة وخرج من العراق بأفكار تخالق ما عرفه الناس من الإسلام، وأخذ يبث دعوته فمال إليه جماعة وحج في تلك الأيام. وكان يقول: ادخلوا البيوت من أبوابها أنا مدينة العلم وعلي بابها يشير إلى أنه واسطة السعادة الأبدية، ثم دعا نفشه الباب ومعنى الباب عند الشيعة المهدي المنتظر وتخلى عن اسمه. وبعد مدة أرسل إلى بوشهر ومنها أرسل دعاته إلى شيراز وأصفهان يبثون دعوته. فعقد والي شيراز لهم مجالس المناظرة مع الفقهاء فأفتى هؤلاء بكفر

البابية ووجوب قتلهم. لكن الوالي اكتفى بقطع العصب الكعبري من كعابهم وسجنهم. وجيء بالباب من بوشهر 19رمضان سمة 1261 وأنزل في دار أبيه ريثما يهدأ روعة، ثم استقدمه الوالي سراً وبعد المفاوضة تظاهر الوالي بأنه اقتنع بصحة دعوة الباب وجعل هذا في قصره، ثم عقد له مجلساً لمناظرته فأفتوا بكفره فلم يسع الوالي إلا أن أشار بضربه على رجليه فلما استغاث أو عزوا إليه أن يصعد المنبر ويعلن توبته ففعل. وظهر الوباء في شيراز واختلت أحوال فارس فبعث والي أصفهان يستدعي الباب إليه، فلما رأى والي شيراز ذلك نفى جميع أصحاب الباب من ولايته، ولما حمل الباب إلى والي أصفهان أوعز هذا بأن يحسن القوم استقباله فاستقبلوه، ثم عقد له مجلس المناظرة فأفتى العلماء بقتله، فاعتذر الوالي عن تنفيذ فتواهم، وخبأه في قصره مطلقاً له حرية التأليف والكتابة وبقي في داره حتى قتل الوالي وخلفه في الحكم ابن أخيه، فطالع هذا رجال عاصمة الملك بالأمر، فأمروا بنفيه إلى أذربجان فحبس في قلعة جهريق ثم قلعة ماكو. وبث الباب دعلته وساعده المحيط واختلال الأمن في كثير من الولايات، فاشتد دعائه في بث دعونه فلقيت قبولاً من بعض الناس، وفي مقدمة أتباعه الملا حسين بشرويه الملقب بباب الأبواب في خراسان، والثاني الملا محمد علي البارفروشي بمازندران والثالثة امرأة من قزوين اسمها زرين تاج من عائلة عريقة في العلم وزوجة أحد المجتهدين وهي جميلة الصورة جميلة الأدب، تحفظ القرآن وتعرف تفسيره وأسراره، فاقتنعن بصحة دعوة الباب، ولم تلبث أن دعت إليه سراً وجهراً وإن لم تجتمع به، فمال الناس إلى مواعظها وفتنتهم بفصاحتها وجمالها وجميل شعرها، وقد حسرت نقابها ولقبت بقرة العين، ثم خرجت إلى خراسان فالتقت في رشت بالبارفروشي أحد الدعاة ومعه جند من البابية فبعثا منادياً ينادي عجلوا أيها الناس فقد ظاهر الإمام المنتظر فنصبوا منبراً ووقفت قرة العين سافرة وحثت الناس على الاعتقاد بالباب فآمن بعضهم وأنكر الآخر، ثم انتقلت على هودج إلى مازندران والناس يتبعونها، وأخذت تطوف القرى تبشر بدعوة الباب فقبضت عليها الحكومة وخنقتها وأحرقتها.

ثم قام تاملا حسين بشرويه وقد كثر أنصار الباب وألف منهم جيشاً صغيراً قاتل جيش الشاه في مازندران وجعل الملا علي البارفروشي مقدماً وسماه حضرت أعلى وحجبه عن الناس، وأصيب بشرويه في إحدى المعارك وأوصى جماعته بأن يطيعوا حضرت أعلى وتغلبت الحكومة على قلعتهم وقبضوا على ملا محمد وحاكموهم فقتلوهم على بكرة أبيهم. وبلغ عدد من قتل في هذه الوقائع ألفين وخمسمائة من البابية وخمسمائة من الجند وغيرهم. وحدث مثل ذلك بقيام أحد الدعاة الملا محمد علي الزنجاني في زنجان ولكنه لم يوفق. وكذلك وقع في مدينة تبريز فقاتلت حكومة فارس دعاتهم حتى أبادتهم. أما الباب فكان مسجوناً في سجن جهريق. ولما اندلع لسان الثورة في مازندران وزنجان وتبريز وقتلت الأنفس، ارتأى رئيس حكومة فارس قتله فقتله بمشورة الشاه في 28 شعبان سنة 1266هـ. ووضعت حكومة فارس في أشياعهم السيف في جميع مملكتها خصوصاً بعد أن ثبت أن الذي حاول اغتيال ناصر الدين شاه سنة 1268 هو من شيعة البابية. وكان من جملة العلماء الذين فتنوا بدعوة الباب رجل اسمه بهاء الله ميرزا حسين علي فلما وقعت هذه الحوادث قبض عليه وسجن ثم حوكم، وكان سفير روسيا يدافع عنه من تهمة الاتفاق مع الخارجين على الشاه، ثم أفرج عنه ونفي إلى العراق فأرسل مخفوراً بالجند الفارسي مع بعض فرسان من سفارة روسيا في طهران لئلا يغتالوا في الطريق فأقام في العراق 12 سنة ثم حمل إلى الآستانة ومنها إلى أدرنة فأقام فيها نحو خمس سنين ثم صدر الأمر بنفيه إلى قبرس وظل البهاء في عكا حتى وافاه أجله سنة 1309 فدفن فيها، وخلفه ابنه عباس أفندي وكان كأبيه على غاية من حسن السنت والأخلاق وعظم النفس وبسط اليد وجمال الأدب وحسن العشرة حتى استمال بأخلاقه من يعتقد بالبابية ومن لا يعتقد. ولما توفي سنة 1922 تفرق أمر الجماعة وانقلبوا فرقاً كما كان عباس أفندي في حياته مع صبح أزل متخاصمين متشاكسين. وسرت دعوتهم إلى عدد قليل من أبناء الشام وإلى بعض أهل أوربا وأميركا. ويبالغون في عدد من دانوا بهذا المذهب

في الغرب. وهم في الشام وفي أميركا وأوربا بضعة آلاف على الأغلب. يقولون: إن من تعاليم الباب تحريم الكتب المنزلة قبله ونسخ القرآن وأحكامه. وإنه قضى بهدم المزارات حتى الكعبة وقبر الرسول وفرض بناء 19 مزاراً باسمه ومن دخلها آمنلً، وأبطل الحج وقسم السنة إلى 19 شهراً وجعل الشهر الواحد 19 يوماً فأيام السنة عنده 361 وأضاف إليها خمسة أيام سماها المسروقة ورمز عنها بحرف هـ وجعل أول يوم من شهر فروردين ماه الفارسي الموافق للحادي والعشرين من شهر مارس الإفرنجي الغربي الذي هو يوم الاعتدال الربيعي وهو عيد النوروز عند الفرس عيداً للفطر وخصه بنسفه وسماه عيد رضوان. وجعل الصوم 19 يوماً من شروق الشمس إلى غروبها وخصص الأيام الخمسة المذكورة للهو والطرب قبل دخول شهر الصيام. والمطهران عنده خمسة النار والهواء والماء والتراب وكتاب الله أي الباب مع تلاوة آية التطهير 66 مرة على كل شيء نجس. وجعل الدم وروث البهائم وغيرها طاهراً. وللباب وخليفته بهاء الله عدة رسائل وكتب منها ما كتباه بالفارسية ومنها بالعربية، من أهلها من قلم الباب كتابه البيان وفيه شريعته وتعاليمه. ومن أهم كتب بهاء الله كتاب أقدس نهج فيه منهج القرآن في ترتيب الآيات والسور ودون قيه شريعته وأحكامها باللغة العربية. وقد أدخل البهاء عدة إصلاحات على مذهب الباب اقتضته الحال ذلك. وبعضهم يطلق على أهل هذا المذهب اسم البابية نسبة للمؤسس الأول وبعضهم يلقبهم بالبهائية نسبة لبهاء الله الذي زاد في المذهب ونقص منه، وهم يسمون أنفسهم أهل البيان. قال كليمان هوار: إن الباب أنشأ ديناً جديداً بتعاليمه وعقائده وأنشأ مجتمعاً جديداً تحت ستار الإصلاح في الإسلام. فالله واحد وعلي محمد مرآته التي ينعكس فيها النور الإلهي ويتأتى لكل إنسان أن يشاهدها. وقال الباب في كتابه البيان: عليكم أن تجعلوا من أنفسكم ومن أعمالكم مرائي بحيث لا ترون فيها إ لا الشمس التي تحبونها وقد برأ الله العالم على سبع صفات سميت حروف الحقيقة وهي القدر والقضاء والإرادة والمشيئة والإذن والأجل

والكتاب. ويدير شؤون الطائفة 19 رجلاً وكل بابي يدفع لهم في السنة خمسة في المائة من قيمة رأس المال، وتلغى جميع العقوبات ما عدا الغرامة التي توضع على زوجين لا يريدان أن يتعاشرا بالمعروف. والتجارة والعقود مشروعة، ويسمح بدفع فائدة عن بضائع بيعت بالنسيئة. والزوج إجباري بعد الحادية عشرة والطلاق ممقوت، ويمهل الزوجات المتخاصمان سنة لتأليف ذات بينهما، وعلى الأرامل من الرجال والنساء أن يتروجوا، وعدة الرجال منهم تسعون يوماً والنساء خمسة وتسعون يوماً وإذا لم يفعلا يغرمان غرامة. ولا يضرب الولد قبل أن يبلغ الخامسة وبعد ذلك لا يضرب أكثر من خمس ضربات. ويسمح لمن يدينون بهذا المذهب أن يستعملوا الحلي والجواهر خلافاً لما أمر به الشارع الإسلامي. ويسمح لهم بالوضوء ولكن لا على لأنه قرض، ويجب أن يكون في كل حي حمام، ولا يتحجب النساء ويؤذن بالتحدث إليهن من دون إكراه وأن يكون الكلام معهن جهراً لا سراً. ويحج أتباع الباب إلى البيت الذي ولد فيه حيث يقام له مسجد، أو إلى المكان الذي سجن هو فيه أو خاصة حوارييه، ولا يسمح لمن يدينون بمذهبهم بالارتحال والسياحة إلا لمن اضطر إلى ذلك، ولا يسمح بركوب البحار منهم إلى المكان الذي سجن إلا لمن اضطر إلى ذلك، ولا يسمح بركوب البحار منهم إلا للحجاج والتجار، ولا تقام صلاة جماعة إلا على الأموات وخطبة المسجد واجبة، ويدفن الموتى في زجاج أو في حجارة منحوتة مصقولة، ويجعل في يد الميت اليمنى خاتم يكتب على فصه لئلا يفزع الموتى في قبورهم. وليس من حق أحد أن يستعمل الشدة مع إنسان ولا أن يسيء إلى أخيه، ويجيبون على كل من يكلمهم أو يكاتبهم ويفرض عليهم أن يؤدوا الرسالة التي ائتمنوا عليها إلى صاحبها من دون عبث بها. ويحظر عليهم تعاطي المخدرات والمكسرات، ويجب أن يدعو كل واحد منهم في كل شهر تسعة عشر إنساناً، وأن يجتمع معهم ولو على شرب الماء القراح، ويحظر عليهم الكدية، ومن الضلال إعطاء الشحاذين. وتقسم مواريثهم على الصورى التالية بعد صرف نفقات الدفن والجنازة: للولد 9 من ستين وللزوج 8 من ستين وللوالد 7 من ستين وللأم 6 من ستين وللأخ 5 من ستين وللأخت 4 من ستين وللأستاذ 3 من ستين، ولا يرث أحد من ذوي القربي بعد ذلك اه. وحظر على البابية لما نزلوا عكا الدعاية إلى مذهبهم في الشام. ولما أعلنت

الحرية سنة 1908 انتقلوا إلى عكا وزاد أشياعهم قليلاً وهم هنا قلائل ربما لم يتجاوزوا المائتين وهم على غاية من حسن الأخلاق وجميل المعاملة قلما شكا منهم إنسان أو اشتكوا هم من إنسان، ولا تجد بينهم من لا يحترف حرفة ويعمل ويكد. ولا سيما رئيسهم الأخير عباس أفندي فقد كان محافظاً على صلواته مع الجماعة لم يخرج في سمته عن روح الشرع الإسلامي. فإما أن يكون صادقاً في إسلامه أو أنه عاش في تقية متقنة كما يعيش كثير من أرباب النحل الضعيفة بين المخالفين لهم من السواد الأعظم، ولا سيما الشيعة بين ظهراني أهل السنة. وكان عباس على علم وأدب إذا تكلم يمزح الفلسفة بالمنقولات فيتعذر على كل إنسان فهم كلامه، وله خطب ومواعظ انطلق بها لسانه في سياحة له في أوربا وأمريكا دانت خمس سنين، ويؤخذ من مجموع أقواله أن البهائية أو البابية ترمي إلى تطبيق الشرائع على العقل وحل المشاكل القائمة بين أهل الأديان السماوية الثلاثة اليهودية والنصرانية والإسلام. وقال مرة: إن الباب صاحب المذهب كان يريد التوفيق بين السنة والشيعة. بل كان يرمي إلى وحدة العالم الإنساني ونشر السلام العام والتأليف بين قلوب البشر بقوة الدين وتحكيم العقل والعلم، ونبذ التعصب الديني والجنسي والوطني والسياسي، ونشر العلم وإنشاء محكمة عامة كبرى تفصل الخلافات التي تحدث بين الشعوب والدول، وإلى تربية بني البشر على الفضائل الإنسانية وإلى إقامة القواعد الاقتصادية وتأليف لغة عامة تفهمها جميع الأمم. ويقال على الجملة: إن التشيع كان منشأ البابية والإسماعيلية والنصيرية والدرزية. وكما كانت فارس مثابة كثير من أسباب المدينة الإسلامية كانت أيضاً منشأ معظم ما تفرع من الإسلام من النحل والطرق الغربية. ولو تسامح أهل هذه المذاهب في نشر حقائقها، لما تقول عليهم المتقولون، ولا رماهم المخالفون بما قد يكونون منه أبرياء. وبقي أن يقال: إن في الشام مذهب اليزيدية عبدة الشيطان، وممن ينتحلون هذه النحلة قريتان في ضواحي حلب، ولما كانت جمهرة أهل مذهبهم في جبل سنجار من عمل الموصل لم تخصهم بمبحث اختص لأنهم لا يسترعون الانتباه ويتمثلون على الأغلب في سواد الأمة والله أعلم.

الأخلاق والعادات

الأخلاق والعادات عادات الدمشقيين: كان سمر الشاميين قبل نصف قرن تقريباً في بيوتهم، نكتفي كل طبقة باجتماعها مع أهل طبقتها، فنتج عن ذلك أن في المدينة الواحدة من مدن الشام المبيرة تبايناً وسمرهم ولهجاتهم، وبالطبع بتصوراتهم وعقليتهم إلى أن ولي الشام مدحت باشا الوالي العثماني الشهير ووضع أسس الإصلاح العلمي والاجتماعي والإداري، وبدأت النهضة الأدبية عقب ذلك فتعارف الأولاد بالمدرسة أولاً، وتقومت ألسنتهم، واعتادوا التلفظ بالفصيح الصحيح، وفتحت الأندية والمقاهي ودور التمثيل، ثم قاعات الصور المتحركة، وتعارف الناس وقلت الفوارق، وقضى على الأرستقراطية إلا قليلاً، وحلت محلها الديمقراطية، فنشأ عن ذلك اعتياد الشباب الراقي المتعلم ارتياد المحال العامة والاحتكاك بمن مضى وقت تعليمهم، فمرنوا أيضاً على التخاطب بالفصيح الصحيح ما أمكن، وعم ذلك جميع الطبقات حتى غير المسلمة وما نزال نوى ذلك في تقدم مستمر. تنقسم حفلات الدمشقيين إلى مدنية ودينية. أما الدينية فتنحصر فيما يلي: عيد الفطر والنحر، والرجوع من الحج، والإياب من زيارة مسجد الرسول عليه الصلاة السلام، وسنة الختان، وبعض نذور لله يقوم بها من أبل من مرض شديد، وآب من سفر خطر أو بعيد، وعادات القوم في تلك

الأعياد إخراج الصدقات والزكوات والتوسيع على الفقراء، وتكثر الزيارات ويتصافح القوم عما بينهم من سيئات، ويصلون أرحامهم ويوسعون على عيالهم. وعادتهم في ذلك أن يبدأ الأصغر سناً بزيارة الأكبر، ويقدم الأكبر سناً ويحترم في كل شيء. ومنشأ ذلك على ما أعلم الأمية فإن غلبة الأمية على قوم تضطرهم إلى احترام من كان أكثر تجربة منهم، ومن مرت عليه السنون، وحلب الدهر أشطره وكثرت تجاربه، كان جديراً بالاحترام. أما اليوم فحقيق بالاحترام من يقدم الخدم النافعة لأمته، وليس للسن دخل في ذلك. وخير الناس كما قيل أنفعهم للناس. ويتقدم عيد الفطر شهر رمضان، وللدمشقيين فيه عادات: منها إتمام فريضة الصيام، والانقطاع عن بعض عادات ضارة، ويقضون نهاره في سماع المواعظ في المساجد، وليلة في زيارات بعضهم بعضاً، وارتياد محال اللهو المباح، وتكثر حركة الأخذ والعطاء والبيع والشراء، وهو من المواسم المذكورة. أما حفلات الحج في هذا العصر، فتتم حين رجوع أحدهم من بعد أداء فريضة الحج بأن يقدم إلى خواص ذوي قرباه وجيرانه وأصدقائه وأحبابه هدية، وتختلف هذه الهدية بحسب مقدرته المالية، ويبتدئ المهنئون بزيارته في داره، ويقدم له خواص أصدقائه وأقربائه قبل وصوله إلى وطنه هدايا تكون غالباً من اللباس الفاخر، ويكون مثل ذلك بعد رجوع أحدهم من زيارة مسجد الرسول. وتختم هذه الزيارات غالباً بإقامة حفلة يدعونها مولداً وهي عبارة عن اجتماع يضم أصدقاء المحتفى به وذوي قرباه وزملاءه وجيرانه في داره، ويدعون المنشدين ويفتتحون بتلاوة بعض آيات من القرآن الكريم وينشدون بعض قصائد في مديح الرسول يتلون المولد النبوي فيه وتعداد بعض مآثره ونسبة وبعض إرهاصات تقدمت بعثته، وحين مولده، يقصدون من ذلك التبرك. ومثل ذلك حفلة الختان ومن المتعارف فيها أن يهدي إلى صاحب الحفلة أهلة وأصدقاؤه شيئاً كثيراً من السمن والأرز والغنم والقهوة، بل من جميع ما يلزم لتلك الحفلة، ويكون ذلك ديناً عليه وفاؤه، حين إقامة حفلة مثلها

عند المهدين. وتختم هذه الحفلة مثل أخواتها أيضاً بتلاوة المولد. ولم يبرح بعض من لا يعتد بعقولهم ينذرون بعض نذور غربية وهي ما يسمونه بالنوبة يقيمون لها حفلة هي عبارة عن دعوة بعض الفقراء المشعوذين، ممن يضربون على الطار والطبل، ويلعبون بالشيش، وبعض قطع من السلاح الأبيض ويطفئون بأفواههم النيران فيجتمع عليهم الأطفال وبعض صغار الأحلام فقط. وهي عادة أصبحت على وشك الزوال. ومن الحفلات الدينية أيضاً حفلات تكايا أو زوايا المولوية، وأرباب هذه الطريقة لهم حين إقامة هذه الحفلات لباس خاص وهو ثوب أبيض فضفاض، ويلبسون على رؤوسهم ما يسمونه كلاهاً وهو من اللباد مستطيل الشكل، ويمتاز رئيس تلك الطريقة بوضعه عمامة خضراء فوقها ويدورون على أنفسهم على نغمات موسيقية مطربة جداً من حيث الفن الموسيقي. وهي من حيث نظامها أتقن حفلات الشرق الدينية على الإطلاق، وهي بالحفلات المدنية أليق منها بالدينية. إذا حضرت أحدهم الوفاة تعلن وفاته إن كان من الأشراف والعلماء وأرباب الظهور في مآذن المدينة، ثم يحضر غسل المتوفى أصدقاؤه وذوو قرباه. وغسل الميت عند المسلمين يقوم مقام التقرير الطبي في هذه الأيام، يثبت بها أن الميت مات ميتة طبيعية فيطلع الغاسل على عامة جسمه، فإذا كان فيه أثر ضرب أو رض أو خنق ظهر ذلك لحاضري غسله، وهم غالباً من محبيه، فيشيع ذلك ويتصل بالحكام، وبعد غسله يشيعون جنازته إلى أحد المساجد ويصلون عليه، ويذهبون به إلى المقبرة ويمشي المؤذنون أما جنازته يذكرون الله وذلك إشهاراً لموته وإعلاناً له. وبعد رجوعهم من المقبرة يذهبون إلى منزل عميد الأسرة يعزونه ويحضرون على ثلاث ليال بعد العشاء أحد المساجد القريبة من دار المتوفى، يسمعون ما تيسر من القرآن الكريم، ويسمون ذلك صباحية، ويحضر تلك الحفلة أقرباء الراحل وجيرانه وزملاؤه ويصرفون على الفقراء والمعوزين الدراهم والطعام بحسب ثروة المتوفى. وهذه العادة كادت تبطل لمعرفة القوم بقيمة الوقت فأخذوا يكتفون بالتعزية في

بيت آل الفقيد. وعادة عيادة المريض معدودة عندهم من الواجبات يواسونه ويسلونه ويكررون الاختلاف إليه. من عاداتهم المدنية أنه متى بلغ الشاب العشرين إلى الثلاثين أن يتولى عميد أسرته إرسال عميدة العائلة مع من ترضاه من أخت وعمة وخالة ونسيبة وبعض خواص الجيران إلى بيوت المدينة يبحثن وينقبن على زوجة لذلك الشاب، وتكون قاعدتهم في خطبيهم غالباً الكفاءة من جهة الثروة والسن والآداب. ولا يزلن يوالين بحثهن عاماً كاملاً على العقل ومتى قر قرارهن على إحدى البنات يكررن التردد إلى دارها مرات عديدة ليرينها بجميع مظاهرها، يرينها في زينتها وفي وقت الغسيل ووقت الطبخ وتنظيف المنزل. وعادة الدور التي يكون بها بنات في سن الزواج وهي عادة من الخامسة عشرة إلى الخامسة والعشرين أن يناط بالبنات تقديم القهوة والشراب للخاطبات فيتأمل الخاطبات مشيتها ونقل أقدامها وأدبها في تقديم القهوة في الإياب والذهاب ويخاطبنها فيرين غنة كلامها وفصاحتها، ومتى أصبح الأمر تقريباً واقعاً يذهبن إلى الحمام معاً ويرين جسمها عارية وشعرها ويشممن آذانها وفمها وتحت إبطها ورائحة عرقها وثيابها، وينقلن ذلك إلى الخاطب وعميد الأسرة مع وصف شكلها وجمال وجهها وطولها وغير ذلك. هذا مما له مساس بالنساء من طرف الخاطب. أما وظيفة النساء من جهة الخاطب فيزرن الحي القاطن فيه سراً ويرسلن من يتقن به من أقربائهن وجيرانهن فيدخلن غالب بيوت ذلك الحي باحثات عن أخلاق الخاطب وثروته وتجارته أو وظيفته، وعن عدد آل بيته ومركز تلك الأسرة في الهيأة الاجتماعية. ويجري التقصي عن آداب بيت الخاطب وأصوله ويذهبن بالمخطوبة سراً إلى مقر الخاطب أو طريق ذهابه وإيابه فتراه فإذا راق الخاطب في أعينهن بعد تلك الاستخبارات يرفعن الأمر إلى عميد أسرة المخطوبة. وهنا تنتهي مهمة النساء، ثم يتألف شبه وفد من عميد أسرة الخاطب، والبعض من معارف عميد بيت المخطوبة، إلى دار ذلك العميد، ويطلبون منه الموافقة على زواج تلك البنت من ذلك الشاب، بعبارات تختلف بحسب مركز تلك الأسر في المجتمع. ويكون الأمر مقضياً على الأغلب

بعد تلك التمهيدات، ويقررون المهر ويقرءون فاتحة القرآن الكريم للتبرك دليلاً على رضى الطرفين. وبعد ثلاثة أيام يقدم الخاطب خاتم الخطبة. وبعد أسبوع غالباً يحتفل بحفلة العقد يقوم بها الخاطب، ويدعوا برقاع مطبوعة على غاية الإتقان أهله ومعارفه، معيناً وقت الدعوة ويومها، يرسل إلى عميد أسرة المخطوبة بعدد من تلك الرقاع ينفقون عليه من قبل، فيدعو من أراد من أسرته وأصدقائه. فيجتمع المدعوون في المحل المعين ويجري على الأغلب افتتاح تلك الحفلة بقراءة المولد، وتدار المرطبات وقراطيس الحلوى على المدعوين، بعد عقد قران الزوجين الشرعي، وينفض المدعوون، وتنتهي حفلة العقد بعد دفع المهر المقرر، وبعد شهرين أو ثلاثة غالباً يذهب وفد نسائي من قبل العروس بعد أن يكون أهل العروس أتموا لوازم عروسهم يحملن هدية تختلف بحسب مكانتهن، يسمينها تعيينة فيعين موعد حفلة العرس وعدد المدعوات من أهل العروس وتكون تلك الحفلة ليلاً في الغالب، ويرسلون بطاقات الدعوة، وليلة الحفلة يرسل وفد من النساء في مركبات على عدد المدعوات من النساء إلى دار العروس، يأتين بها من دارها مع المدعوات إلى دار العروس، وتكون هذه غاية الرواء والبهاء والزينة، ويدعى عادة إلى تلك الحفلة المغنيات والمطربات ويقضين تلك الليلة بعد دخول العروس بعرسه غرفة خلوتهما بالغناء والرقص وسماع الموسيقى وآلات الطرب، ويمسين على ذلك إلى الصباح، وتعود السيدات المدعوات إلى دورهن ويبقى في بيت العروس بعض الخواص من أهلها، مثل أمها وعمتها وخالتها ومربيتها سبعة أيام. هذه هي الحفلة النسائية أما الحفلة الخاصة بالعروس الرجل فيتقدم أحد وجوه أسرته أو أصدقائه غالباُ يعد داره لتلك الحفلة ويسمونها تلبيسة ويدعون إليها جميع أقارب العروس وأصدقائه وأرباب مهنته وجيرانه، في جوقة موسيقية تدير هذه الحفلة نحو ساعتين تطرب الحضور بأنغامها، ومتى حان للعروس لبس ثيابه يهزج الشاب عادة عند إلباسه كل قطعة من ثيابه بأهازيج وطنية عامية بحسب كل عصر ومصر. يذهب به الحضور عقبى ذلك إلى دار حفلة العروس بالأهازيج، ويدخلونه الدار مع عميد الأسرة

فيدخله ويضع يده بيد عرسه ويدخل بهما إلى غرفتهما ويذهب بسلام. هذه حفلات الزواج وعوائد القوم قديماً، واليوم قد زيد عليها معاينة صحة الزوجين، وينظرون إلى الكفاءة العلمية قبل كل شيء مما يبشر الأسرة المقبلة بأعلى درجات السعادة الزوجية، وهذا الشكل في تأسيس الأسرة يعض عليه المحافظون بالنواجذ، ويؤيدونه بكل ما أُوتوا من قوة، ويرونه أضمن لحفظ السعادة البيتية من جميع أشكال النظم المتبعة في العالم. ومن عاداتهم الخروج أواخر فصل الشتاء وأوائل الربيع إلى المتنزهات العامة يوميا في الأسبوع لاستنشاق الهواء النقي، على اختلاف عادهم ومذاهبهم، نساء ورجالاً، وتكون أماكن جلوس النساء خاصة بهن غالباً، ولا يتيسر للرجال أن يخالطوهن بحكم العادة، والشاذ قليل. ومن العادات القديمة التي نشأت من الأمية أيضاً سماع الفصاص في المقاهي وقد تلاشت الآن هذه العادة، وكان يجتمع في المقهى عدد يختلف بحسب المحل والقصاص، يتصدر القصاص الحكواتي في صدر المكان ويقرأ لهم غالباً القصص التي يرغبون فيها مثل رواية عنترة والزير وأبي زيد وهي روايات حماسية، تمثل الشجاعة والكرم والأنفة والحمية والوفاء والصدق والمروءة والجرأة وحفظ الذمام ورعاية الذمار والجار، إلى آخر ما هنالك من مكارم الأخلاق ينسبونها إلى أبطال الرواية، ويجعلون نهاية النصر لهم والدوائر على مناوئيهم، ويصفون الخصوم بالجبن والبخل والرياء والغدر والخيانة والنكث بالعهد إلى آخر ما هنالك من مفاسد الأخلاق، مما يربي نفوس السامعين على حب الفضائل ويحبب إليهم العمل بها، ويبغض إليهم النقائص ويحملهم على البعد عنها، وغالب من يجتمعون لسماع تلك الأقاصيص من طبقة العوام، وهم متصفون ببعض تلك الفضائل. ومن ملاهيهم خيال الظل والعوام يدعونه قره كوز، وكان في أول القرن الحاضر من أشد العوامل تأثيراً في تهذيب الأخلاق وتقويمها، بما يلقيه أستاذ هذا الفن المشهور بدمشق علي بي حبيب على ألسن تلك الخيالات من المواعظ الأخلاقية، بعبارات ملؤها انتقاد، تفعل في قلب أشد الناس بلادة، وكان يصور في كلامه العادات السيئة المتفشية في عصره، ويظهرها

في قالب ينفر الناس منها، ويصور ظلم الحكام وأصحاب النفوذ وأغلاطهم في صور نقد لطيف، وكان يحترمه علية القوم ويعد أستاذاً كبيراً في الموسيقى تخرج به كل من ينتمي لهذا الفن بدمشق. ومن العادات الشائعة تعاطي القهوة والشاي في المقاهي العامة شتاء، وأنواع المرطبات صيفاً، والتدخين بالتبغ والنارجيلة على الدوام، وتكون صورة اجتماعية حسب طبقاتهم، ويرتادون أماكن سمرهم هذا، بعد العشاء حين الانتهاء من مزاولة الأشغال وطلب الراحة. وأحاديثهم غالباً تدور على السياسة وفي موضوعات علمية واجتماعية يمتدحون فلاناً لمكرمة أتاها، ويذمون فلاناً لنقيصة بدرت منه. ارتقت أحاديثهم في هذا القرن إلى الخوض في هذه الشؤون العامة، ولم تكن في القرن الماضي تتعدى أحاديث البطون والفروج إلا قليلاً. ومنهم من يقضي سمره ببعض الألعاب الشائعة كالشطرنج والبليار والدومنية والدانا والنرد وألعاب الورق على اختلاف أشكالها وأسمائها. وقد فشت مؤخراً عادة ارتياد بعض الشباب أماكن الشراب، وموقعها غالباً بين الرياض والغياض، وعلى ضفاف الأنهار، وتكون أغلب تلك الاجتماعات متجانسة، فتراهم جماعات متشاكلين حوا مناضد الشراب، يجتمع كل أليف إلى أليفه، وتجد جالساً إلى كل منضدة غالباً رجل من أرباب الصوت الحسن ينشد أصحابه الأناشيد الحسان. ومنهم من يختلف إلى زمرة من الموسيقيين الفنانين، يصحبون آلاتهم كالعود والكمنجة والقانون والدائرة والناي. ومنهم من يقتصر على بعض تلك الآلات. وتجري غالب الاجتماعات في أماكن خاصة. وأما المحال العامة للشراب فنحوي من كل شيء أحسنه كالمنشدين والمغنين والآلاتية، وتسمى تلك الأماكن الجنائن، تضم غالباً الماء والخضرة والشكل الحسن، وتبتدئ وقت الغروب وتنتهي عند منتصف الليل. وهذا مجمل عادات دمشق ولا تختلف عنها عادات سكان القطر في الشمال والجنوب والغرب اختلافاً يذكر ما خلا بعض عادات دينية عند الطوائف غير المسلمة، وفيما عدا ذلك فهم متشابهون في أخلاقهم الاجتماعية، ويمتاز سكان هذا الديار من غيرهم في المحافظة على ما ورثوه من بعض أخلاق

عادات الحلبيين:

الفاتحين العرب منذ نيف وثلاثة عشر قرناً وهي الرزانة والوقار والصبر على المصائب، ويلتزمون هذه الرزانة وهذا الوقار في أعمالهم ومجالسهم بل وفي بيوتهم وبين ذويهم ومجالس سمرهم وشرابهم وأنسهم، ويكرهون من يتصف بالطيش والرعونة والشكوى الصريحة ويتجنبون مجالسته، ولكل عادة من هذه العادات شذوذ وهي قليلة. عادات الحلبيين: للحلبيين المسلمين عادات يستعملونها في أفراحهم وأتراحهم نذكر منها شيئاً يحفظه التاريخ إلى ما بعد أن يحتاجه تطور الزمن فيبقى ذكره من مستغرب الأخبار وروائع الآثار فنقول: مما يستعملونه في قضية الولادة أن الطفل متى تمخضت به أمه وولدته تلمسه القابلة فإن كان غلاماً صلت على محمد وإن كان جارية ترضت عن فاطنة الزهراء ثم يقدم إلى أحد أقاربه فيؤذن في أُذنه الأذان الشرعي يسمى من قبل وليه ويطبخ لأمه حلوى بالشونيز والجوز لتكثير لبنها وتقصير بالشرب على ماء الحمام المنقوع فيه أصول البنفسج مدة أسبوع ويرسل أحد أصدقاء الأسرة مائدة كبيرة تشتمل على مقدار عظيم من الزلابية معها أباليج السكر، ويولم أهل المولود في اليوم السابع وليمة حافلة بين أطعمتها حلوى قوامها الدبس والشمرة تعرف باسم المغلي وقد يحضر في ليلة تلك الوليمة قيان للنساء ومطربون للرجال، وكل صديق لأبوي المولود يقدم هدية بعضها مأكول وبعضها مما يتجلى به ومنها مسكوكات ذهبية قديمة تعلق في قلنسوة الطفل واسم ذلك تهناية وبعد مضي أربعين يوماً على الولادة تؤخذ النفساء إلى الحمام مع أترابها من النساء ويكبس بدنها بالشدود وهو المردقوش والخزامى المغربية. وإذا شعرت أم الطفل بمغص في بطنه تمضغ له لب عجو الدراقن وعصر لفظتها في فمه فيسكن مغصه وتدهن مراقه بالزيت وتذر عليه مسحوق ورق المرسين، ومتى بدأت أسنانه بالخروج تسلق له شيئاً من

الحنطة تدوفه بالسكر ولب الجوز واللوز والفستق وتطعمه منه وتفرق باقيه على الأهل والجيران. متى بلغ الطفل الخامسة من عمره يرسل إلى المكتب أو إلى الشيخة أو المعلمة إذا كان جارية ومتى ختم تعلم القرآن العظيم تعمل له حفلة نسمى نشيدة يحضر فيها إلى منزل الغلام جماعة الشداة والمطربين ودراويش الطريقة المولودية وبعد أن تقام نوبة سماح يطاف بالغلام ورفقانه بعض الشوارع البلدة وهم ينشدون أزجالاً في المدائح النبوية ماشياً وراء الغلام حامل المبخرة ورجل آخر ينثر الشعير على رؤوس الناس دفعاً لإصابة عيون العُيُن ثم يعود هذا الموكب إلأى منزل الغلام وتبسط له الموائد فيأكل وينصرف ويملأ جيب كل ولد فستقاً وزبيباً مضافاً إليهما شيء من النقود. وقد يختن الولد في هذا اليوم إذا لم يكن ختن من قبل. واعتاد كثير من الناس ختن أولادهم في اليوم السابع من ولادتهم كما اعتادوا ثقب شحمة أذن الأنثى فيه. وقد يفرد لختان الغلام حفلة يدعى إليها الأحباب والأصحاب ويولم لهم ثم يزين الغلام بالحلي والحلل ويركب على برذون مزين ويركب وراءه رديف يقال له العريف، ويطاف به في الشوارع يتقدمه أحد مشايخ الطرق راكباً على برذون مجلل بسجادة الإرشاد مكللا رأسه بطيلسان أحمر في يده عقافة يشير بها إلى جماعته وهم سائرون أمامه يحملون أعلام طريقتهم ويضربون طبولهم، وبعد أن ينتهوا من طوافهم يعودون إلى منزل الغلام وتتلى قصة المولد النبوي ختامها يختن الولد. وقد يرافق هذا الموكب طائفة من الدارعين ولابسي الجواشن والخوذ في أيديهم السيوف والتراس يقفون في فسحات الطرق ويلعبون بعضهم مع بعض بسيوفهم وقد سار وراء جموعهم رجل يقود جملاً على ظهره منصة مهندمة يقوم رجل يرتدي كسوة نساء عرب البادية يقال له عبلة قد أمسك بيديه صنوجاً يرقص بها حتى يصل إلى دار المختون وهذا الموكب يسمى عراضة. للغلام في أول يوم يصومه من رمضان طبق يملأ بأنواع الحلوى يفطر عليه. وإذا بلغ الغلام مبلغ الرجال وتاق للزواج تأخذ أمه وذوات قرابته يلتمسن له زوجة تنطبق أوصافها على أذواقهن. والأغنياء يغالبون بالمهر

وربما بلغت جملة المهر ذهب عثماني وزيادة، والمهر عند الفقراء لأحد لأقله والمعجل منه ثلثاه والمؤجل الثلث الباقي. والزوجة الغنية تضيف إلى المهر من مال أبيها قدره وربما زادت وتصرف الجميع على شراء أثاث المنزل. وعقد الزواج يكون في بيت الزوجة باحتفال فائق يحضره المطربون ويطاف على الحاضرين بكؤوس المرطبات وأنواع الحلوى المجففة. وبعد أن يتم العقد بأيام ينقل الجهاز الذي أعدته الزوجة إلى بيت الزوج بموكب حافل يتقدمه جماعة الحمالين ولاعبو السيوف والعصي، وشدادة الأزجال، ويسبق ليلة القران ليالٍ يسمونها التعاليل يحضر فيها المطربون والموسيقيون وتحرق الألعاب النارية وقبل ليلة القران بليلتين يدعو أهل الزوجة أقاربهن ويفرق عليهن الحناء ونقوشها فينلن منها على أيديهن ما تناله منها العروس على يديها ورجليها ومعصميها وتعرف تلك الليلة بلبلة النقش، ثم في صبيحة اليوم الذي يكون القران في مسائه تقام وليمة العرس وتكون الدعوى إليها جفلى يجلس على سماطها من أحب. وفي هذا اليوم يأخذ أهل الزوج الزوجة من بيت أهلها فيركبن العربات المزدانة ويأتين بها إلى بيت زوجها وكن قبل ظهور العربات يأتين بها إلى بيت زوجها ماشيات على أقدامهن يزغردن ولا يمرون بها على باب حمام زعماً بأن جنه يخطفها. وأصل هذا ما كان يفعله الانكشارية من اختطاف العرائس اللواتي يمررن على حمامهن فكانوا لا يطلقون سراح العروس إلا بعد أن يأخذوا شيئاً من حيلها أو نقوداً من زوجها. في مساء هذا اليوم يأخذ الزوج زينته في منزل أحد أصدقائه ويحضر إلى منزله بموكبه حافل من المطربين والموسيقيين وهو يسير الهوينى بين شابين يشبهانه يقال لهما سخاديج وأحدهما سخدوج. قد حملت أمامه مصابيح ضخمة على عتلات في مقدمتهم شداة يترنمون بمواليات كلما أتم أحدهم مواليه يهتف الجميع بقولهم: الله يساور جوز جوز جيز تحريف الله يصور الزوج زوج جهاز. وقدم تقدم صف الزوج صفوف المطربين وأصحاب الأزجال الحماسية وحملة المشاعل ومحرقو الألعاب النارية والمدرعون واللاعبون بالسيوف ألعاب الفروسية إلى أن يصل هذا الموكب منزل الزوج فيدخله وتتلقاه عرسه ويضع يدها في يده أقرب إنسان إليه ويدخلان الغرفة المعدة لهما

ويفتح على رأسيهما طيلسان وردّي اللون. وفي صبيحة تلك الليلة يدخل الزوج الحمام ومعه الجم والغفير من الخلان والإخوان، وبعد خروجه منه يعمل له أصدقاؤه الولائم على عدة أيام وهي المسماة بالصبيحات. وفي اليوم الخامس عشر يولم الزوج لأهل زوجته وليمة شيقة تسمى عزيمة الخامس عشر. ومما يستغرب من عادات بعض الأهلين من قطان أطراف حلب أنهم يفرشون ليلة القران في غرفة العروسين قطيفةً يجعلون رؤوس ما التوى من ريشها إلى جهة صدر الغرفة، فإذا وجد الزوج الوردة زراً غير باسم الثغر حول القطيفة أي جعل رؤوس ما التوى من ريشها إلى جهة عتبة البيت وإلا أبقاها يعلنان القضية وتعلو الضوضاء وتشتد الضجة ويفتضح الحال. ومما يستعمله الحلبيون المسلمون في أتراحهم من العادات هو أن بعض سكان أطراف البلدة يُحضر حين وفاة رجالهم الأعزاء عليهم - نائحات بدويات ينثرن على رؤوسهن الحناء ويشدن في أوساطهن المآزر ويخدشن خدودهن ويسودن وجوههم بسخام القدر، وحين خروج النعش من الدار يضربن جبهة بابها بإناء خزفي زاعمة أن هذا العمل يمنع من أن يلحق بالميت غيره من أهله، ونعش الميت يسيرون به وهم يجهزون بكلمة التوحيد، وقد يكون في مقدمته من يؤذن أذان الجوق وينشد المدائح النبوية، وقد يمشي أمام النعش جماعة الدراويش المولوية. وإذا كان الميت من مشايخ الطريق يتقدم جماعته ويجملون نعشه ويتجاذبونه ويتمسكون به كأنه يحاول الطيران وهم يمنعونه عنه وينادونه باسمه ويضرعون أليه بأن يعدل عن الطيران، وحملة أعلام الطريقة يفعلون بأعلامهم فعل حملة النعش به فيركضون بها إيهاماً بأنها تجرهم وتحاول أن تطير بهم إلى غير ذلك من الحركات التي ينكرها الشرع. إذا وصل النعش إلى القبر حطوه إلى الأرض وأخرجوا الميت منه ولحدود، ومن الناس من يودع في نقرة من جدار القبر قنينة فيها شيء من زيت الزيتون قصد تعتيقه لينتفع به بعد من يكون مصاباً بالريح فيطلي منه بدنه فيبرأ. في الليالي الثلاث الأولى من الوفاة يجتمع في المسجد الحي بين العشائين

نفر من الرجال والأطفال يكررون كلمة التوحيد وفي أيديهم سبحة كبيرة ينتظم في سلكها خمسمائة حبة كل حبة منها في حجم الجوزة. فإذا دارت دوراً سكتوا وتلا إمام المسجد شيئاً من القرآن. ثم تدور دوراً آخر في ختامه ينتهي الذكر ويفرق على الحاضرين الحلوى المعروفة بالغريبة. في صباح اليوم الثالث من الوفاة يجتمع الجم الغفير على القبر وتمد البسط على أطرافه وتوضع عليه قمام ماء الورد وتنثر فوقه الزهور ويفرق على الحاضرين أجزاء الربعات وبعد الانتهاء من قراءتها يصطف الناس حلقة ويذكرون الله تعالى ويفرق على الفقراء شيء من النقود ويعزى الناس أهل الميت وهم في المقبرة. وهذا اليوم يسمى الثالث وفيه وفي كل من اليوم السابع واليوم الأربعين واليوم المتمم للسنة من الوفاة يدعى جماعة من القراء إلى بيت الميت يتلون القرآن العظيم في نهارهم، وفي المساء تبسط الموائد ويفتح باب الدار للفقراء فيأكلون ويزودون. ومما اعتاده الحلبيون في أول يوم من المحرم أن يكون فطورهم من طعام حلو، وأن يخرج جماعة من العجزة يتصدق عليهم الناس بشيء من البرغل لهم فاز من صلى سموا يلازمه زجل ينشدونه على الأبواب وهو فاز من صلى على تاج العلى طه النبي المصطفى جد الحسين وبعض الناس يسمونهم الحسينية. وهذه العادة موروثة عن الطوائف العلوية التي كانت تقطن حلب. وفي يوم عاشور يوسع الناس على عيالهم بالمطاعم ويطبخون طعام الحبوب الذي يشير إليه ابن منير الطرابلسي الشاعر بقوله: وسهرت في طبخ الحبو ... ب من العشاء إلى السحر وفي يوم عاشور كانت الحكومة قبل خراب مشهد الحسين تولم فيه وليمة حافلة يحضرها الوالي ومن دونه وينشد أحد المطربين قصيدة ابن معتوق في رثاء الحسين التي مطلعها هل المحرم فاستهل مكبرا. وتعطل الحومة أيضاً في آخر أربعاء من صفر وفي اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول وتحتفل بتلاوة قصة المولد النبوي في الجامع الكبير، ويستمر الناس على تلاوة هذه القصة ليلاً ونهاراً إلى آخر هذا الشهر، ويولمون من أجلها الولائم العظيمة. وتعطل أيضاً في اليوم السابع والعشرين من رجب وتحتفل بقراءة قصة المعراج

في المشهد المذكور. ويجتمع الناس ليلة النصف من شعبان في المساجد بين العشائين ويقرءون سورة يس ثلاث مرات ويلقنهم الإمام دعاة ليلة النصف المذكور في كتاب نزهة المجالس وغيرها من الكتب، وتهجر المعاصي في شهر رمضان ويكثر ترداد الناس على الجوامع والمساجد ويقبلون على تلاوة القرآن ومنهم من يقصد المقاهي ليلاً لتفرج على المشعوذين والمتصارعين. ويخرج قرب السحر طبال يوقظ الناس للسحور ويعقبه شداة المدائح النبوية في منارات الجوامع. وبعد صلاة العيد يخرج الناس إلى المقابر لزيارة موتاهم، وكان يخرج قبل العيد بيومين رجل سخره معه مدرع بالودع والخزر والأجراس يستجدي الناس بالرقص ويضحكهم بحركات حماره يقال له جحش العيد. وكان يخرج في أيام العيد ولدان قد صبغوا أجسامهم بالسواد وعلى رؤوسهم الطراطير يستدرون إحسان الناس بالرقص والقفز ويقال لهم بيضه بيضه، وبعد انتهاء العيد رواد الحجاز أهبتهم ويسافرون لأداء فريضة الحج ويحتفل أحبابهم بوداعهم. وفي عيد النحر يقبل الناس على الضحايا. وفي تاسع آذار الرومي الشرقي يخرجون صباحاً إلى ضاحية البلدة لاستنشاق نسيم الصبا التي تهب في ذلك الوقت كما يزعمه بعض المنجمين. ويكثر خروج الناس في أوائل أيام الربيع إلى جبل الجوشن وما قرب منه فإذا نور الشجر وأوراق يترددون على البساتين. وفي شهر نيسان يحتكرون مؤوناتهم من السمن والجبن والفحم. وكان النساء في يومي أربعاء الزوبعة وخميس البيض ويكونان قبل يوم الأحد وهو أول يوم من عيد الفصح يخرجن إلى البساتين ويمضين فيها سحابة يومين ويفعلن مثل ذلك في يوم الاثنين الذي يلي عيد الفصح، ويزعمن أن من لم يخرج إلى النزهة في هذه الأيام لا يأمن الصداع ووجع الرأس، إلى غير ذلك من العادات التي بعضها مستحسن وبعضها مستهجن مما هو مذكور في كتاب نهر الذهب مسهباً مفصلاً. وأما ما يستعمله النصارى الحلبيون من العادات في أفراحهم وأتراحهم فمنها أن مريد الزواج منهم يبدأ بتصفح وجوه النسوة في مجامع الناس وحين خروجهن من الصلاة فمتى أعجبته أنثى سعى بإعلامهما أنه يرغب أن تكون له زوجة وهذه هي الخطبة الأولى. ثم يسعى بالخطبة الثانية وهي أن يرسل

أحد أوليائه مع كاهن طائفته إلى ولي مخطوبته فيعلماه أن موليهما يرغب أن تكون موليته زوجة له فإذا أجاب طلبهما وضع الكاهن يد أحدهما بيد الآخر علامة على الرضى المتبادل، وبعض الكهنة يسأل المخطوبة بقوله هل رضيت أن يكون فلان زوجاً لك فتطأطئ رأسها بالإيجاب وحينئذ يقدم له قطعة من الحلي مرسلة من زوجها وبعد ذلك يشرع الخاطب بزيارة مخطوبته، وطالما نهى الكهنة عن كثرة هذه الزيارة فذهب نهيهم سدى. وبعد مرة يرسل الكاهن إلى أهل المخطوبة ليتفق معهم على ميعاد عقد الخطبة وليقدم هدية الخاطب إلى مخطوبته. وهذا العمل يسمى المشورة وقد ينكث أهل المخطوبة ويفسخ عقد الخطبة فيقيم الكاهن الحجة على أهل المخطوبة ويغرمهم ما أنفقه الخاطب في مدة الخطبة. أما إذا لم يفسخ عقد الخطبة فإن رقاع الدعوة ترسل بتوقيع الوليين إلى المدعوين لحضور الإكليل، يقبل المدعوون إلى بيت الخاطب في اليوم المعين ثم يتوجهون إلى بيت المخطوبة فيضعون عليها خمارها وأزهارها وتكون جميع ثيابها بيضاء ويأتون بها في وقت العتمة إلى بيت خاطبها وهي تسير الهوينى بين امرأتين على شاكلتها وأمامها المصابيح وجماعة الموسيقي، حتى إذا اقتربت من بيت خاطبها خف لاستقبالها فخاصرها ودخل بها إلى منزله وانتظم عقد المدعوين، ثم يقف العروسان بين يدي مطران الطائفة ومن معه من الكهنة وهم متحلون بملابسهم الكنائسية ويشرع المطران يترنم بآيات من الإنجيل مخصصة بعقد الزواج ويجري بين العروسين الإيجاب والقبول ويلقي عليهما النصائح ويأمرهما بالتحابب والطاعة أحدهما الآخر للآخر ويستغرق ذلك ساعة من الزمن. وفي الختام يرفيهما هو والحاضرون ثم تعزف آلات الطرب وتدور أقداح الراح فيرقصون ويمرحون إلى الهزيع الأول من الليل، فيقدم للحاضرين سفرة الدخلة وهي قطع من لحم الدجاج الهندي والهضم المحمضة المعروفة بالمخلالات والخبز الحواري وغير ذلك وبعد أن يتم الحاضرون أكلهم يعودون إلى السماع والطرب. ثم في منتصف الليل يقوم بعض الأدباء ويهنئ العروسين بقصيدة، وفي الصباح يقدم للحاضرين الفطور من معمولات اللوز الهندي الشكولاته مع بعض الحلاوي واللحوم المقددة ثم يتحلق الحاضرون حلقاً العروسين بالرقص العربي والكردي ثم ينصرفون.

وفي هذه الصبيحة يهدي أحد أبوي الزوج إلى الزوجة قطعة من الحلي تسمى الصبيحة وفي اليوم الرابع يحضر المدعون إلى منزل الزوج لتهنئة العروسين، ثم في اليوم الثامن يزور العروسان أصحابهما فيحيون لهما ليلة طرب، ثم في اليوم الثاني عشر يولم الزوج إلى كهنة الطائفة وبعد شهر يطوف العروسان منازل الألى كانوا مدعوين ليلة القران ويردان إليهم الزيارة. المهر يدفع من الزوجة إلى الزوج عكس ما هو معروف عند المسلمين ولا حد لأكثره إذا كانت الزوجة غنية والرغبة منها في الزوج فوق رغبته بها وهو يسمى دوطه وبعض الكتبة يترجمون هذه اللفظة بكلمة بائنة وإذا كانت رغبة الزوجين في الزواج متساوية فليس هناك دوطة إنما كل واحد من الزوجين يهدي الآخر قطعة من الحلي قيمتها تناسب ثروته. بعد انتهاء هذه الحفلات يصرف بعض المتفرنجين شهراً من حياته بالتغيب عن منزله يسمونه شهر العسل يمضيه الزوجان في موضع نزه جميل يطلقان فيه حريتهما، كأن العروسين يمضيان هذا الشهر في وداع الحياة المطلقة المؤذنة بفراقها لحلول ذلك الضيف الثقيل بل القيد الأبدي الذي لا يحل وثاقه إلا بالموت: عادة أخذها الغربيون عن الأمم الوثنية القديمة كأنها رمز إلى سرعة انقضاء راحة الإنسان بالزواج وطول عنائه بعده، وذلك لأن الزوجين لا يلبث فرحهما بعد الاقتران سوى أيام قلائل حتى يدخلا في العريض الطويل من تكاليف الحياة وأوصابها التي لا تنفد إلا بنفاد العمر. فما أشبه الحياة وما فيها من الراحة والتعب بإناء مفعم من الصبر قد بسط على وجهه قليل من العسل، وكأن الإنسان لا يضطر إلى استعمال ما في هذا الإناء اضطراراً حقيقياً إلا بعد أن يتزوج فكأن مقدار ما يناله حينئذ من الراحة وما يعقبها من التعب كمقدار ما في ذلك الإناء من الصبر والعسل فلا يعلق من العسل غير قليل حتى ينفد ويظهر تحته الصبر، فيجرعه مكرهاً ضرورة عدم إمكان الحياة إلا به وهذا مصداق قول الناس في الزواج فرح شهر وتر دهر. وما يستعمله النصارى في أتراحهم أنه متى احتضر انه متى احتضر المريض يحضر إليه كاهنه ويستأديه واجباته الدينية، وبعد أن يقضي نحبه يتربصون بدفنه مدة أربع وعشرين ساعة يضعونه في خلالها في صندوق من الصفيح، وفي هذه البرهة

يرسلون رقاع الدعوة لحضور الاحتفال بالجنازة، ثم في الوقت المعين يضعون الصندوق في نعش مزدان بالأيقونات وأكاليل الزهر فيحمل إلى البيعة ليصلى عليه، ثم يحمل إلى المقبرة وأمامه صفوف الكهنة يترنمون بآيات من الإنجيل ووراءهم عظماء الطائفة وتلامذة المكاتب وحملة الصلبان والشموع، وقد اكتنف النعش أربعة من كبار الطائفة يمسكونه من أربع أطرافه بسفائف من الحرير الأسود، وحينما يصلون به إلى اللحد يضعه الحمالون عن كواهلهم ويتقدم أحد الأدباء فيرثيه نظماً أو نثراً ثم يوارونه في لحده، ويصطف أهل المتوفى للتعزية ويمر عليهم المشيعون لجنازته لتعزيتهم وفي مقدمتهم المطران ولفيف الكهنة. ولبعض الأسر الغنية ديماس تحت الأرض مختص بدفن موتاهم يقال له خشخاشة يودعون فيه النعش دون أن يهيلوا التراب عليه، وقد يكون هذا الديماس بناية تشبه البيت مبنية على وجه الأرض. في اليوم الثالث من الوفاة يحتفل للمتوفى بصلاة في البيعة يسمونها جنازاً يسرجون فيها من المصابيح قدر ما يقع عليه الاتفاق من النقود بين أهل الميت وبين كهنة طائفته، وهذه الصلاة تعاد في اليوم التاسع وفي يوم الأربعين وفي نصف السنة وتمام السنة. وحداد الولد على أبوية ثلاث سنين والأخ على أخيه والزوجين أحدهما على الآخر والأبوين على ابنيهما سنتان. ومما يستعمله اليهود الحلبيون من العادات في أفراحهم وأتراحهم أن يختنوا بعد يومين من ولادته، وإذا كان من سبط إسرائيل وكان بكر أبويه وجب على أبيه أن يفتديه من كاهن من سبط هارون يضع الطفل في حجره ويقول لأبيه: هذا المولود حق سبط الكهنة فيستوهبه أبوه منه بمقدار معلوم من الفضة. ومتى بلغ عمر الطفل سنة يأخذه أبواه كل سنة إلى وليمة قدوس أي زفاف يطعمانه من طعام السيعودته فإذا بلغ الثانية عشرة يؤمر بصيام ذلك اليوم، وإذا بلغ الثالثة عشرة يلبسونه كنفوت وهو صدرة تربط أطرافها الأربعة بفتائل من الغزل ويشد على رأسه وعضده الأيسر تيفلين وهو سير من الجلد يشتمل على الكلمات العشر والإصحاح الأول

من سفر الوصايا، وحينئذ يعتبر رجلاً متمماً صلاة الجماعة التي لا تتم إلا بعشرة رجال ويرث سهمين من تركة أبيه. وإذا بلغ الثامنة عشرة وجب عليه الزواج فيباشر الخطبة ومتى انتقى مخطوبة يكتب بينهما قنيان أي عهد يسمونه شيطاراً يعينان فيه مقدار المهر المدفوع من الطرفين ويذكران ما اتفقا عليه من الشروط، ثم في اليوم المعين تنعقد جمعية يسمونها كتبة فيها يكون تسلم الزوج الأمتعة والنقود التي تعهدت الزوجة بتقديمها إليه، وبعد ثلاثة أيام تكون حفلة الزفاف المعروفة باسم قدوس فيحضر المدعون وتعزف آلات الطرب وتدار كؤوس ابنة العنب من وقت العصر إلى وقت الغروب ثم يقوم رؤساء الدين ويجرون العقد بين العروسين ويقرأ أحدهم قداشين يقف الزوجان مدة قراءة الأول متقابلين ومدة قراءة الثاني متحاذيين، ويفتح على رأسيهما ملاءة من الصوف يسمونها طليطة أي طيلسان. وفي هذه الساعة يقدم الزوج إلى زوجته قطعة من الفضة فتأخذها منه ويشهد بذلك رجلان ليس لهما قرابة لأحد الطرفين، وحين تسلم الزوجة القطعة المذكورة من الزوج يخاطبها بقوله هاري آت ميقديشت لي بي طباعت زكيدات موشي وإسرائيل أي أنت مقدسة لي بهذه القطعة مثل دين موسى وإسرائيل. ثم يتقدم الحاخام الكبير وبيده كأس من الخمر فيبارك عليه بدعاء طويل باللغة العبرانية ويشرب منه جرعة ثم يدار على الحاضرين فيشرب من شفافته كل واحد منهم جرعة ثم يعاد إلى الحاخام فيرميه إلى الأرض فينكسر، وبعد ذلك يدخل الزوجان البيت المعد لخلوتهما فإذا التقى آدم مع حواء في تلك الليلة وجب عليه أن يمسك عنها مدة خمسة عشر يوماً، وأن ينطبل أي ينغمس في حوض خصوصي، وعلى الزوج أن يدعو في ثاني يوم من زواجه عشرة من رؤساء الدين ويولم لهم، وعلى رئيسهم قبل الأكل أن يبارك على المائدة سبع مرات كما بارك على كأس الخمر يوم الزفاف. ومما يستعملونه في أتراحهم أن المريض متى احتضر جلس عند رجليه رجلان يذكرانه بقولهما شيماع إسرائيل أدوناي ايلو هينو أدوناي احاد أي اسمع يا إسرائيل الديان إلهنا الديان واحد. فإذا قضى نحبه وضعوه على

عادات لبنان وأخلاقه:

اللوحوت أي المغتسل وغسلوه بالماء الفاتر وأدرجوه في ثوب من الكتان يعيبونه بالتقريض والحروق كيلا يطمع به نباشو القبور، ثم يضعون جثة الميت في الأورت أي النعش ويحضر أحد أقربائه ويقرأ عليه قداساً أي يصلي عليه صلاة الميت، ثم يحمل النعش بين ثلاثة أشخاص وعلى كل من مرت به الجنازة أن يمشي معها أربعة أذرع أو أكثر ويطلب من الميت السماح، إلى مدفنه ويوارونه في ترابه ويقوم أحد الحاضرين ويبارك عليه بقوله: باروخ ديان ها ايميت أي عيوننا ما رأت وأيدينا ما سفكت هذا الدم. فإذا وصلوا إلى بيت الميت قام أحد الحاضرين إلى كل وارث له وخرق ثوبه من زيقه وهو يقول: باروخ ديان ها ايميت ثم تحضر مائدة عليها أطعمة متنوعة يرسلها أحد الحاضرين فيأكل منها ورثة الميت على شرط أن يضع الطعام بأيديهم أحد الحاضرين ويبارك لهم بقوله: باروخ ميناحيم ابيليم أي تبارك الذي يسلي الحزين. وعلى ورثة الميت أن يلزموا منازلهم سبعة أيام لا يعلون فيها علاً مطلقاً ويسمونها التآبيل أي الحداد. وفي اليوم السابع يصنع طعام الفقراء وهكذا في اليوم الثلاثين تسعة أشهر ومرور السنة اه. عادات لبنان وأخلاقه: كانت عادات لبنان إلى أواخر القرن الماضي، قبل أن يبدأ أهله بالهجرة إلى أميركا، كعادات معظم جبال الشام، تغلب عليها السذاجة والفطرة السليمة، وفي مضاء ووفاء وإباء. يقل الكرم ويكثر الحرص في أهل القسم الشمالي منه وهم الموازنة والروم، وكان العكس في حال أهل القسم الجنوبي وهم الدروز والسنة والشيعة والنصارى الذين كانوا من أصول عربية، فإن أخلاقهم ظلت عربية بحتة، ولهم في باب الكرم وحفظ العهد فصول. وقد يكون الشماليون ألين عريكة وأقرب إلى السكون في الأحايين. والجنوبيون

أشد بأساً وأقوى شكيمة. ودخل تبدل كبير في العادات بانتشار المدارس الأجنبية في الجبل منذ نيف وستين سنة، واستبدلت العادات الإفرنجية ببعض العادات الوطنية إلا قليلاً. وحمل الذين عادوا من المهاجر بعض عادات من نزلوا عليهم، فأصبحت عادات الجبلين مزيجاً من الغربية والشرقية. ويكثر التقليد في سكان الشمال أكثر منه في سكان الجنوب. وهناك فروق ليست بقليلة بين سكان الجرود الشمالية والجنوبية. كانوا اللبنانيون من أول من نفخ في ديارهم بوق الهجرة إلى أمريكا، ولبوا دعواتها سراعاً قبل غيرهم من الشاميين، لأن حاصلات أرضهم قليلة لا تكفي لعوائلهم. وكانوا من قبل مولعين بمواطنهم، لا يحبون أن ينتقلوا ولو في أرجاء هذا القطر، وكان من يسافر من إحدى قرى الجبل إلى دمشق يضرب به المثل في بعد الهمة وكثرة الشجاعة. وكثير ما كانوا يتغنون بقولهم: جوزك يا مليحة ... راح عالشام وحده وكان أقصى ما يبلغه تصورهم من البعد إنطاكية شمالي الشام دنقلة في السودان، ويقال إلى اليوم أوصلك إلى دنقلة. وكان إذا نشط أحدهم للسفر إلى مصر أو الآستانة، بعد كمن وصل إلى المريخ، يقصدونه من القاصية ليسمعوا ما يقص عليهم من عجائب رحلته. فلما بدءوا بالهجرة وكثر عديدهم، واستسهلوا ركوب المخاطر في بلاد المهجر، ونجحوا وارتاشوا، تبدلت عقليتهم بعض الشيء، وهم كأكثر من يهاجرون في طلب الرزق يعتمدون على أنفسهم ومضائهم وتضامنهم، لا علم يحميهم ولا دولة يهمها أمرهم. حملوا في جنوبهم عزماً وحزماً، وحملوا أيضاً روح التحزب والفرقة الذي امتازوا به لما نشأهم عليه رؤساؤهم. وكان المتعلمون منهم في هذه السبيل أشد مراساً من العوام. ولما كان العائدون من طبقة الفلاحين والعاملين إلى قرارهم من ديار المهجر، أكثر من الراجعين من أصحاب المعامل والمزارع والتجارات، وبعبارة ثانية أن عدد الفلاحين الأميين كان أوفر من عدد الآيبين من المتعلمين والمغتنين أصبح تسرب العادات الغربية لا يكاد يشعر به بين العامة على كثرتهم، وهو ظاهر محسوس بين الخاصة على قلتهم. وقصارى ما يقال في هذا الباب أن أهل لبنان أخذوا مدينة الغرب من

مدارسه هنا وبالاختلاط بأهله وراء البحار بلا قيد ولا شرط، على حين كان غيرهم ولا يزالون يأخذونها ببعض الحذر والحيطة. ولبنان منذ عهد متطاول كانت علائقه بالغرب أكثر من غيره من أهل هذه الديار. والروح اللاتيني ترفرف عليه. يحمله إلى ربوعه الرهبان الموارنة من رومية وغيرهم من دعاة النصرانية والاستعمار. ولو مكنت طبيعة الجبل من إنشاء مدن كبرى فيه، لظهرت هذه الفروق على جليتها في أهله، كما تتجلى مثلاً في أهل المدن الداخلية. لم يبرح الدروز يعدون في المحافظين على عادتهم القديمة وأخلاقهم العربية من إباء ووفاء وحسن عشرة وكرم وحسن وفادة، يعظمون رؤساءهم ولو كانوا في سن صغير جداً. والدروز، ما خلا الطبقة المتمدنة منهم التي تلبس السراويل والمعاطف والسترات والأقمصة الإفرنجية على الأساليب الغريبة، ما زال جمهورهم يلبس لباساً واحداً في جميع البلاد التي ينزلونها: عمائم بيضاء وقفاطين من الأقمشة الغليظة القطنية وأعبئة قصيرة مخططة وأحذية بلدية ساذجة. كأن لباسهم لم يتبدل منذ حلو هذه الأرض، ونساؤهم محجبات قليلاً يسبلن على رؤوسهن شاشاً أبيض فإذا رأين غريباً أظهرن إحدى عينيهن فقط أي أن حجابهن الحجاب الشرعي. كان أهل لبنان قبل حادثة سنة 1860 يقسمون إلى خاصة وعامة، فالخاصة هم الأمراء والمقدمون والمشايخ. والمشايخ على ثلاث طبقات، مشايخ الإقطاع، والمشايخ الذين يدلون إلى مشايخ الإقطاع بنسب، وكانوا يعرفون بمشايخ الطبق، ثم مشايخ الطبقة الثالثة. وتختلف مصطلحات هذه الطبقات باختلاف العصور، وكلامنا هذا يتناول الأخيرة منها التي ثبتت إلى ظهور الجبل بمظهر الاستقلال الداخلي بعد حادثة الستين. ولهم عادات راسخة في خطابهم وكتابهم ومجالسهم وأفراحهم وأتراحهم، أمست عندهم بمثابة القواعد العامة، وتختلف عن مجموع ما هو من نوعها في سائر الأقطار، والسر في ذلك أن لبنان مدين بظهوره بمظهر المنعزل المستقل منذ عهد المماليك والعثمانيين لأمراء كانوا يتلون جباية الجبل على سبيل الإقطاع مقابل مال يؤدونه، وهم ينصرفون إلى توظيف طبقات الناس، وتصنيف أهلها على

ما يرون. ومما أثبت هذه الأصول بين الأشراف لبنان أن الأرستقراطية فيهم كانت ثابتة لا تتحول عنهم لفقر أو غيره. ويغلب على الظن أنهم جمعوا في عاداتهم بين العادات العربية، وشيء من العادات الغربية اكتسبوها في مخالطتهم الصليبيين. وفي الحق أن لبنان القديم وليد أمرائه من المعينين والتنوخيين والشهابيين واللمعيين والأرسلانيين وآل علم الدين. وقد أقر هذه العادات المشايخ الجنبلاطية والعمادية والنكدية والتلاحقة والملكية وبنو العيد، وفي المسيحيين آل الخازن والحداح والضاهر وحبيش وغيرهم. وأخذت تحتفظ كل طبقة بأصولها وعاداتها، لا يباح لأهل طبقة أن يتزوجوا من أهل طبقة أخرى، ولا أن يختلطوا بهم الاختلاط اللازم. وكان الجلال الوقار يغلبان على أهل كل طبقة. ويعدون من أسباب السقوط أن يسف ابن أسرة من أسر الأمراء أو المقدمين أو المشايخ فيصهر إلى غير أهل طبقته، ولذلك غلب ضعف الأجسام على بعض هذه الطبقات، وتأصلت فيها بالوراثة الأمراص العضالة لخروجهم عن الطبيعة في الزواج. وكانت لهم عادات نشأهم عليها حكامهم في الإسلام والجلوس والخطاب. وهم يغالبون في الحرص على كرامتهم، ويعد أكبر أعيانهم من الشرف أن يكتب إليه الحاكم ويلقيه الأخ العزيز ويوقع له بالمحب المخلص. ويكتب الأمير إلى الطبقة الثانية من الشعب وهي طبقة المشايخ عزيزنا أو أعز المحبين أو حضرة عزيزنا أو جناب بدل حضرة. وإذا كان طبق الورق صغيراً أو كبيراً، أو كان توقيع الحاكم في أسفل الكتابة أو في أعلاه فإن لكل ذلك معاني عندهم. والغالب أن القوم كانوا لقلة أشغالهم يتسلون بمثل هذه التفاهات، ويضعون لها قواعد من عند أنفسهم، ويتنافسون في رضا الحاكم والوصول إلى مجلسه وتقبيل يده وثوبه، تأصل هذا الداء فيهم إلى العصر الأخير، فكان من كتب له هذا الشرف تنافل خبره أهل بيته خلفاً عن سلف وعدوه في مفاخرهم. وقد كثر فيهم حب الظهور حتى أن المرء ليبيع وداره ويبذل مال ينال عملاً صغيراً في الحكومة أو ليكتسي الحرير هو وعياله ويتعاظم على أهل قريته. ومنه من ابتعدوا

عن مواطن الشرف ليتزلفوا إلى من اعتقدوا أن في أيديهم إسعادهم. وكم من بيوت خربت بسبب هذا التمجد بالباطل والتقرب من أصحاب السلطان بفساد الأخلاق. وكانوا إلى عهد قريب يقدمون الرجال على النساء في إعطاء القهوة أو الخمر، يرفعون مقام الرجل فوق مقام المرأة، ولا يزال أثر ذلك ظاهراً في الطوائف الإسلامية. فلما اقتبسوا المدينة الحديثة أصبح الرجل عند المسيحيين لا شيء تقريباً في بيته، والحكم لامرأته تصرفه على هواها، خصوصاً إذا كانت تعلماً منه، أو كانت أسرتها أغنى من أسرته وجاءته ببائنة أو جهاز. وهذه الأخلاق ماثلة في بيروت وفي بعض الأقاليم المكتظة بالسكان. ويحترم الأولاد آباءهم كما كان ذلك في سائر أرجاء القطر، على صورة فيها التشدد الزائد، حتى إن الولد لا يكاد بجالس أباه ولا يقعد أمامه، ولا يؤاكله ولا يدخلن أمامه ولا يرفع صوته، ولو تزوج وولد، ولا سيما في البيوت التي احتفظت بتقاليدها. وكانت العادة أن لا يتفرق أهل البيت الواحد مهما كثر أفراده، يسكنون في دار واحدة، وإذا كانت الأسرة فقيرة ففي غرفة واحدة. وكثيراً ما يخصون الولد الأكبر في الأرض بشيء من العقار وحفظ كرامة إلى أسرة أخرى، شأن كثيرين من المحنطين، بل شأن من يعدون أنفسهم في الراقين أيضاً. كان البناني يتزوج في الثامنة عشرة أو العشرين من عمره ولا سيما في الطوائف الإسلامية، والمسيحيون قد يتأخرون إلى الثلاثين وبعضهم إلى الأربعين، وقد يخطف العروس عروسه في بعض الطبقات، إذا كانت من طبقة غير طبقته، وتظاهر أهلها بأنهم يأبون زواجه، أو لعداء بين أهل الخاطب والمخطوبة، أو لعدم الكفاءة في النسب أو المال، وكانوا يحبون كثرة النسل بخلاف ما نراهم اليوم بعد الهجرة، فإنهم أصبحوا على مثال الأمم التي تريد تقليل الذرية في البيت ما أمكن حتى لا يدخله الفقر. وكانوا يعدون كثيرة العيال من اليسر والبركة، ويقلقون لمن يتأخر حملها من نسائهم، ويشرعون

بمداولتها أو وضع التعاويذ المصطلح عليها بينهم، وينذرون النذور إن رزقت ولداً، يقدمونها إلى قديسهم وأوليائهم. ولهم كغيرهم خرافات كثيرة منها تخزيف الأولاد في صغرهم بخيالات، ينشأ الولد عند بعض المسيحيين جباناً، والدروز منذ القدم في هذا الجيل على قلة عددهم يخاف جيرانهم باسمهم. وقد زاد هذا الجبن كثيراً من انتشار التعليم ومعروف قدرة الحياة، فأصبح يجبن من لم يكن يجبن، ونزعت الأخلاق الحربية إلا من الدروز، وأصبح القوم يؤثرون الراحة ويتطلبونها جيثما وجدوها، ويزهدون في سكنى جبالهم على كثرة غرامهم بها، وتمجيدهم لهوائها ومائها ومناظرها وهنائها. وربما كان أهل لبنان من أكثر الشاميين اقتداراً على الإعلان عن أرضهم، والإعجاب بجبلهم، والتبجح بثروتهم وأثاث بيوتهم، وتمجيد رؤسائهم وعلمائهم وأُدبائهم. وهذا مما ساعد على إعمار الجبل بما جلبه المهاجر اللبناني من المال إلى أرضه، وسمت الهمم بأهله أن يعمروه هذا العمران الواسع بالنسبة إلى البقاع الأخرى، ولذلك لكان كسائر جبال الشام انحطاطاً وفاقة. تسربت العادات الغربية إلى لبنان أكثر من غيره، فبعد أن كان اللبناني يأكل وأهله وضيوفه على سفرة في الأرض أو على خشبة مستديرة من صفحة واحدة، بأدوات منها الخوف ومنها ملاعق من الخشب من صنع أرضه، أصبح يجلس إلى خوان وأمامه صحاف وملاعق وشوكات وسكاكين ومائدته مغطاة بثوب أبيض، وعلى يده منديل الغمر أبيض، وألوان الطعام تأتيه إرسالاً. وأكثر هذا محسوس الأثر بين المسيحيين ولا سيما سكان الساحل. وقد بلغ ببعضهم حب التقليد أن أصبحوا لا يكتفون بخمر أرضهم، ويتغالى بعض أغنيائهم المترفين فيجلب خمور الغرب يسقيها ضيوفه على مائدته. وغدا لا يطيب له الزجل والمواليا والمعنّى والقراديات والغناء العربي والقصائد العربية، وكانت تنبسط أرواح أجداده إلى سماعها، بل يحاول أن يسمع النغمات الإفرنجية لأنها أجمل وهو تفرنج وتأورب ويحب أن يقطع صلاته مع آبائه.

وهكذا يقال في الرقص والألعاب كلها فإنها أصبحت بين الطبقات المتعلمين إفرنجية محضة في بيروت وفنادق لبنان الكبرى. وقد ولع بعض النساء في بيوت الراقية على الطراز الحديث بالرقص والمخاصرة والمقامرة ولا سيما في بيروت، ولوعاً لا تكاد تجد له مثيلاً فيما بلغنا وعرفنا من أخبار الأقطار الغربية. فقد ترى البيروتية ولا سيما من المسيحيات ترقص المتقدمة في السن منهن تجلس إلى منضدة القمار تقضي الساعات الطويلة، وقد يكون بناتها الفتيات واقفات ينتظرنها ليذهبن إلى النوم وهي مستغرقة. وكثير عدد النساء اللاتي فقدن صحتهن وشرفهن لشدة ولوعهن بالقمار والرقص، وإذا رأيت أزياءهن، حسبتهن أوربيات وزيادة إفراطه في التقليد، وغرتهن الظواهر من مدنية الغرب فاجتزان بها، وكانت المرأة المسيحية في جنوبي لبنان في القرن الماضي تتجنب وتتجافى عن غشيان مجالس الرجال من غير محارمها. وفي أندية بيروت في الشتاء والفنادق الكبرى في جبل مدة الصيف نموذج من الحياة البيروتية التي أصبحت مزيجاً غربياً من الأخرق والعادات، يبدو فيها التكلف والتصنيع، ويفقد منها الروح العربي، وليس المسلمون فيها على المستوى جيرانهم في النهوض الاجتماعي حتى ترسم لهم الآن صورة بعينهم. وقد أخذت بعض البيوت التي أخذت المدنية الحديثة لا تتكلم في بيوتها أو مجالسها واجتماعاتها إلا بالفرنسية وقليل منها بالإنكليزية، أو يمزجون لغتهم الأصلية باللغة التي تعلموها بعضها في المدارس، وأصبحت معظم عادات السكان إفرنجية مقتبسة منقولة لا أصلية. وأنت إذا دخلت اليوم دار لبناني متعلم ممن كتب له السفر كثيراً، ورأيت العادات القديمة محفوظة يأخذك العجب، لأن اللبناني يحاول أن يقلد، ولطالما عولج في هذه السبيل حتى تنزع منه عاداته وتقاليده، ويلحق بالإفرنج في مناحية منازعه. ومن أبشع ضروب التقليد أنه أخذ بعد أن تعلم بعضهم في المدارس تعليماً ناقصاً أبتر يستعمل في سلامه وحديثة بعض ألفاظ إفرنجية، تساوي في ذلك البحري الجاهل والتاجر المتمول، فصارت أحاديثهم مزيجاً

من العربية والإفرنجية كعاداتهم وأخلاقهم. وأثبت ابن هذا الصقع أنه ما استطاع أن يتخلى عن القديم برمته، ولا استعد لأن يقتبس الجميل من الجديد بجملته. واللبناني أكثر من غيره من سكان هذا القطر اقتصاداً وتؤدة، ومعرفة بأساليب الحياة، وبعَد هِمم، وشدة حذر. وهو نظيف لا كابن الجبال الأخرى، وفي مسكنه وزراعته وصناعته شيء من النظام. وقد تبيت في بيت الفقير منهم في إحدى المزارع الحقيرة، ولا تستنكف من مؤاكلته، ولا تأنف من النوم في فراشه، والجلوس على مقاعده، والاتكاء إلى وسادته. فالزعامة الزمنية من قبلُ عند غير المسيحيين، والرياسة الدينية عند المسيحيين، كانتا بين اللبنانيين على أتمهما لسهولة تسلط الزعيم أو الرئيس الروحي على رعاياه، لضيق الرقعة التي يمتد عليها نفوذه. وقد استفاد ابن الجبل من هذه الزعامة ترتيباً ونظاماً على الجملة، وولد فيه حب التضامن والصدق بما يلقنه إياه الشيخ أو الكاعن، ورُبط الناس بقيود يصعب التفلت منها بعض الصعوبة وهذا أقرب إلى النفع من الفوضى تضرب أطنابها بين سكان الجبال الأخرى، وجهالة ممتدة الرواق على الكبار والصغار لا تدري متى ينقشع ظلامها. وقد اضطر السكان أن يقلد بعضهم بعضاً في باب الأخذ بأسباب الترقي والتعليم. وكان للموازنة التقدم ثم لمن يليهم من الروم والكاثوليك، ثم يأتي الدروز فالسنة فالشيعة. فقدت عادات ليست بقليلة من الجبل ومما فقد أو كاد لباس الفلاحين وهي العمائم والسراويل والعباءات، ولا سيما من القرى التي هي مصطاف البروتين والطرابلسيين والمصريين، ولباس جمهور عظيم منهم الآ، هو اللباس الغربي، والقبعة الإفرنجية شائعة الاستعمال في النساء والرجال، ولا سيما عند من تعلموا التعليم الغربي في مدارس التبشير في بيروت وما إليها من القرى والمدن. والقبعة اليوم تهزم الطربوش والعمامة والكوفية والعقال أمامها، كما تنهزم المدنية الشرقية أمام المدنية الغربية طوعاً أو كراهاً، وربما كان لحالة لبنان السياسية مؤخراً دخل كبير في هذا التمثل السريع. والمغلوب أبداً مولع بشعار الغالب. وكل ما قام به اللبناني من اقتباس التمدن فبل هذا العهد كان مقدمة إلى هذه النتيجة. ولولا أن الهجرة نخرت عظام اللبنانيين،

العادات في الأرجاء الأخرى:

وتغلغل حبها في شغاف قلوبهم، لكان الخطر كبيراً من هذه السرعة في اقتباس عادات ليست عاداتهم، وأخلاف قلما تلائم أخلاقهم، في أرض هي مفتاح باب البحار. وكأنا بلبنان إذا ظل غرام أهله بالرحيل عنه على هذه الصورة طلب الغنى، يوشك أن يفرغ من سكانه، يتعلمون لا ليكون فلاحين وصناعاً بل تجاراً ومستخدمين. وقد أولعوا بتقليد الأمم العظيمة الغنية في عامة مناحيهم وهم لا ثروة ثابتة لهم، وفي ذلك ما يخشى عليهم من عواقبه، ومن أظهر شؤمه على مجتمعهم ما نسمع به اليوم بعد الآخر من كثرة الاختلاس والاحتيال في دواوين حكومتهم وبيوت تجارتهم بحيث كادت ترتفع ثقة الغرب منهم، ذلك لأن الصعلوك فيهم يحاول أن يعيش عيش أرباب الطبقة الوسطى، هؤلاء لا يقنعهم إلا أن يدانوا الطبقات العليا، وتقليد أوربا أوقعهم في شر أمورهم، وفاتهم أن الأمة لا تفلح إلا باقتباس الجديد، والاحتفاظ بالقديم المفيد، وأن كل شعب يحاول أن يرتجل عاداته، ويصطنع أخلاقه، يندغم في غيره، ويذوب في بوتفة من يريدهم ولا يريدهم. - العادات في الأرجاء الأخرى: تتخالف العادات في القرى وتتقارب، بحسب قربها وبعدها عن الحواضر على الأغلب، وبحسب أصول سكانها، فإذا كانوا من أصول عربية تجلت فيهم عادات البلدية كأهل حوران مثلاً فانهم على قربهم من دمشق قد رسخت فيهم العادات البدوية، كأهل الحواضر والوادي من سكان أقصى الجنوب. ذلك لأن العرب تسربوا إلى الشام أولاً من الجنوب قبل الإسلام بقرون، وما زالت موجات الهجرة تأتيها من تلك الأصقاع. وبينا تجد أهل غوطة دمشق كأهل الحضرة في مناحيهم كما يقول الرحالة ابن بطوطة، ترى أهل مرج دمشق، وما هم من الغوطة ببعيد، كأهل حوران، في عاداتهم ولباسهم وطراز معيشتهم. تتمثل فيهم عيش البداوة، وهم فلاحون مقيمون على الحرث والكرث وماشيتهم قليلة. وعادات المسيحيين في حوران وجبل الدروز ومادبا والكرك كعادات المسلمين السنة والدروز، والتعديل القليل على عادات المسيحيين لأنهم أسرع إلى التعليم من الأكثرية وإن كانت

الأقليات في الغالب تفنى في الأكثريات. بيد أن الحال كانت على ذلك قبل الانتباه الأخير في الأقلية. مثال ذلك أن النساء المسيحيات في نابلس وحماة يحتجبن كالمسلمات مراعاة لعادات الأكثرية. ولباس أهل بلاد غزة والخليل ونابلس كلباس أهل حوران، كوفية وعقال وعباءة وقفطان. وكذلك أهل بر حماة وحمص والمعرة وما إليها مما هو في سمت الشمال من الأصقاع. وسكات قرى حلب القريبة، كسكان قرى دمشق يلبسون العمائم. وهذه لا تلبس أن تزول بالطربوش، لأن المتعلمين من أبناء القرى يؤثرون لباس الطربوش على العمامة أو الكوفية. دع أهل المدن فقد قلت العمائم فيها. ولذلك يصح أن يقال: إن القبعة تهزم الطربوش من الساحل، والطربوش يهزم العمامة في الوسط، والعمامة تهزم الكوفية والعقال من سائر أطراف القطر النائية. وهكذا لا ترى وحدة في اللباس في أي ناحية من أنحاء الشام اجتزت بها. وقد يظن الغربي الذي اعتادت عيونه رؤية التوحيد في الملابس، إذا مر بإحدى الحواضر عندنا، أنه في قاعة تمثيل هزلي، تعرض فيها صور من البشر غربية في حركاتها وألبستها. جاء في دواني القطوف أن عادات الحورانيين في أعراسهم وولاداتهم ومآتمهم شبيهة بعوائد سورية القديمة ممتزجة ببعض عادات العرب، مثل دفع الخاطب لوالد عروسه تقدها في القديم عشرة آلاف غرش فخفض إلى ستة آلاف ثم إلى ألفي غرش فقط لعهدنا هذا عند المسيحيين. وعندهم الألطاف النقوط ورشق العروس عند مرورها في البلد بالعنصل بصل الفار. وفي المآتم يحملون الطعام إلى بيت الميت. ومدة النوح سبعة أيام كاملة. ومن العار عندهم بكاء الرجال إلى غير ذلك. وأهم ملابس الرجال القمصان الطويلة البيضاء المرسلة الأردان، والغنباز من نسيج الديما القطنية أو الحريرية، وسلطة قنطيشة واسعة الكمين قصيرة، من الجوخ الأزرق، مطرزة بالحرير الأحمر الناتىء، والفقراء يتخذونها من الخام الأزرق بلا طراز. وعلى رؤوسهم الكوفية والعقال. وفي أرجلهم المداس والجزمة الحذاء أما ملابس النساء فقميص أزرق ملون التطريز، وأسع الأردان والأكمام،. وفوقه سلطة أكبر مما يلبسه الرجال إما من الخام أو الجوخ. وعلى رؤوسهن

شنبر أسود حريري. فالمتزوجات يتلفعن به ويربطنه من الوراء. والعزبات يعصبن رؤوسهن فوق المنديل. ويلبسن البوابيج والجزمات القصيرة، ويتخذان زناراً من الفضة حياصة قيمته أكثر من ألف غرش، وله ذوائب مسترسلة، وفي معاصمهن أساور فضية ضخمة، وفي أرجلهن خلاخيل فضية، وفي آذانهن تراكي ذهب حلق مستدير، وعلى رؤوسهن عصابة من قماش مرصوفة بنقود ذهبية تعرف بالشبكة، وفي أصابعهن خواتم فضية. ويستعملون جميعهم نساءً ورجالاً الوشم إلى غير ذلك مما يختلف باختلاف حالتهم اه. وعادات السكان في القرى تتشابه وكذلك ألبستهم، وكلما بعدوا عما يقال له التمدن تمازجوا وتضامنوا، فما يزال المسلمون في بعض القرى وادي بردى إذا كان عند جارهم المسيحي فرح أو ترح يأتي المسلمون يخدمون ضيوفه، ويقدمون له الهدايا ليبيضوا وجهه أمام الواردين عليه وبالعكس. وهذا من أجمل العادات في التضامن بين أهل البلد الواحد. وعادات المسلمين في الساحل والداخل متشاكلة، وكلها مقتبس من عادات أهل دمشق. فدير الزور وحلب وحماة وحمص والمعرة وإنطاكية واللاذقية وطرابلس وبعلبك وبيروت وصيدا وصور وصفد والنبطية والصلت ونابلس وعكا وحيفا ويافا والقدس والخليل وغزة، وبالجملة فكل بلد فيه كتلة إسلامية أو مسيحية من السكان لا تجد عاداته إلا دمشقية، وأهله يقتبسون من دمشق إلى اليوم ما يروقهم من عاداتها، ومدينة دمشق محبوبة تهفو إليها نفوس الشاميين عامة، وأهلها محبوبون للرقة التي فطروا عليها، ولأنهم يعطفون كثيراً على الغريب، وربما أغرقوا في عطفهم وآثروه على ابن حيهم، وكل من دخلها ولا سيما من سكان القطر متى خرج منها اكتأب ودعا لها بالعمار ولو خسر فيها جزءاً من ماله قال القزويني: وأهل دمشق أحسن الناس خلقاً وزياً وأميلهم إلى اللهو واللعب ولهم في كل يوم سبت الاشتغال باللهو واللعب، ووصف المساخر والصراع والغناء والألعاب بما لا يخرج الآن عما كان منذ نحو ألف سنة. والغالب أن السبتية من عادات اليهود سكان البلاد الأصليين كما

أن إضراب بعض المشايخ عن القراءة أيام الثلاثاء، من عادات الصابئة لأن يوم البطالة عند الصابئة يوم الثلاثاء. ومع هذا فقد مدح الدمشقيون منذ القديم كثيراً وهجوا كثيراً. ولعل المادح والقادح لا يخلوان من مبالغة. ومن يتزوج من أهل هذا القطر بامرأة دمشقية يحسب نفسه سعيداً، فالدمشقيات يتغربن كثيراً، وما برحت دمشق تضم إليها الغرباء من أهل الكور الأخرى وتتمثلهم وتعيضها عمن يدخل إليها من الرجال بعض نسائها، يدخل فيها عادات العاصمة الأموية، ويمزجن أهل الوطن الواحد من طريق الأسر والبيوت. والبدو والحضر من جميع النحل يؤثرون البنين على البنات، وكلهم يلدون كثيراً، ويعيش الأطفال في المدن أكثر من القرى، للعناية بصحتهم ووجود الأطباء والقوابل. ولولا أن البدوي يولد له كل سنة لانقرض نسله لكثرة الغزو والذبح في الدهر السالف. وجميع نساء القرى من المسلمات في الشام سافرات يعمان مع الرجال في الحقول والمراعي على صيانة لا تبذل فيها، ما خلا بعض القرى القريبة من الحواضر فإن عادة الحجاب سرت إليهن، فيلبسن ملاءات من حبر أسود أو أزرق على الأغلب. وفي بعض المدن ملاءات ملونة بأصفر وأحمر معاً أو بأبيض فقط. ولكن نساء دمشق خاصةً اخترن زياً من الملاءات ومناديل الوجه، اقتبسنها عن نساء الآستانة أيام كان الحجاب شائعاً في نساء الترك. فلما كشف الحجاب في تركيا في العهد الأخير وأصبح زيهن كزي الغربيات، قبعات على الرؤوس وأثواب قصيرة خفيفة. وزال الحجاب أو كاد عند نساء مصر بالطبيعة لتغلب المدينة عليهن، بقي نساء حواضر الشام كبيروت ودمشق وحلب وطرابلس حائرات يطمح بعضهن إلى تقليد التركيات والمصريات. ولكن شدة المسيطرين من الرجال، اضطرتهن إلى الوقوف الآن عند حد حجابهن القديم، فيظهرن في الشوارع في حبرات سوداء مسدولة إلى أعقابهن ومناديل سود مسبلة على وجوههن، وقد تكون في المتبرجات شفافة جميلة لا تكاد تحجب الوجوه بل تزينها وتدعو الناظرين إلى إرسال الطرف إليهن. ومنذ هاجر الجركس من القافقاس بعد الحرب الروسية التركية سنة 1294 إلى الشام وأسكنتهم الدولة العثمانية في بعض قرى منبج وحمص

وسليمة ودمشق وعمان وجرش والقنيطرة، أدخلوا إلى الشام بعض عاداتهم في تربية المواشي والفلاحة والصناعات الزراعية. ويغلب على الجراكسة الإمساك والتضامن لأنهم في حاجة إليه لدفع عادية البوادي عنهم، ويغلب التدين على شيوخهم والشجاعة على شبابهم. وإذا أراد الشاب منهم أن يخطب فتاة خطفها من بيت أبيها مهما كانت منزلتها ومنزلته. ونساؤهم يظللن سافرات ما دمن أبكاراً وعانسات، حتى إذا تزوجن عمدن إلى الحجاب وابتعدن عن مجالس الرجال. والفتيات يختلطن بالفتيان ويغنين ويرقصن معاً ويتسامرون ويتحدثون من دون نكير. ويقل فيهم تعدد الزوجات، والمرأة الجركسية مثال المرأة الصالحة في تربية أولادها وإدارة شؤون بيتها. وقد أخذ الصهيونيون في فلسطين يدخلون عاداتهم منذ كثر سوادهم فيها، ولكن من الصعب أن يقتبسها السكان الأصليون لأنهم ينظرون إليهم نظر أعداء، وإن كان في عاداتهم الجميل جداً كحب النظام والترتيب والنظافة والاقتصاد، وتجويد الأعمال الزراعية على اختلاف ضروبها. وكذلك الحال في المهاجرين من الأرمن الذين تسربوا من الشمال وامتدوا إلى الجنوب قليلاً وإلى الغرب، فإن من عاداتهم ما هو المعقول، وهو تضامنهم إلى ما لا حد له، واقتصادهم ومهارتهم في التجارة والصناعة، بيد أنهم لا يمتزجون بالشاميين ويريدون كالصهيونيين أن يعاملوا أهل القطر ليربحوا منهم فقط، لا لتكون بينهم المنافع مشتركة كما هو الحال بين أبناء هذا الوطن الواحد على اختلاف نحلهم، وعلى كثرة ما يوقد الواقدون من الرؤساء المتعصبين من جذوة التعصب، يوشكون أن يقاطعوا غير أبناء جنسهم، ولكن السواد الأعظم إذا عاملهم بالمثل وعمدوا إلى مقاطعتهم لا يبقى أمامهم سوى الرحيل. وأهل دمشق وحلب بل وأكثر المدن الداخلية من أشد الشاميين محافظة على عاداتهم وأخلاقهم، ولهم غرام إلى اليوم بالتقليب بألفاظ التشريف، واستعمال الألقاب الضخمة، راجت رواجاً كثيراً على آخر عهد الترك العثمانيين، لأن رتبهم وألقابهم مما كانوا أسرفوا في منحه للرفيع والوضيع فصار أهل الطبقتين الوسطى والدنيا لا يتخاطبون إلا بلقب باشا أو بك أو أفندي ودولتك عطوفتك سعادتك سماحتك فضيلتك

سيادتك. أما ألقاب سيدنا ومولانا فتكاد تؤلف جزءاً مهماً من أحاديثهم ابتليت الأمة بهذه الألقاب كما ابتليت بالتلقيب بالدين في القرن الخامس إلى القرون الأخيرة. وقد وصف ابن جبير مآتم أهل دمشق وجنائزهم في الدولة الصلاحية فقال: ونقباء الجنائز يرفعون أصواتهم بالنداء لكل واصل للعزاء من محتشمي البلدة وأعيانها ويحلونهم بخططهم الهائلة التي قد وضعوها لكل واحد منهم بالإضافة إلى الدين فتسمع ما شئت من صدر الدين أو شمسه

أو بدره أو نجمه أو زينة أو بهائه أو جماله أو مجده أو فخره أو شرفه أو معينه أو محييه أو زكيه أو نجيبه إلى ما لا غاية له من هذه الألفاظ الموضوعة، وتتبعها ولا سيما في الفقهاء بما شئت أيضاً من سيد العلماء وجمال الأئمة وحجة الإسلام وفخر الشريعة وشرف الملة ومفتي الفريقين إلى ما لا نهاية له من هذه الألفاظ المحالية، فيصعد كل واحد منهم إلى الشريعة ساحباً أذياله من الكبر ثانياً عطفه وقذاله قال: ومخاطبة هذه الجهات قاطبة بعضهم لبعض بالتمويل والتسويد وبامتثال الخدمة وتعظيم الحضرة، وإذا لقي أحد منهم آخر مسلماً يقول: جاء المملوك أو الخادم برسم الخدمة كناية عن السلام، فيتعاطون المحال تعاطياً، والجد عندهم عنقاء مغرب. وصفه سلامهم إيماء للركوع أو السجود فترى الأعناق تتلاعب بين رفع وخفض وبسط وقبض وربما طالت بهم الحالة في ذلك، فواحد ينحط وآخر يقوم وعمائمهم تهوي بينهم هوياً. وهذه الحالة من الانعطاف الركوعي في السلام كنا عهدنا لقينات النساء. وعند استعراض رقيق الإماء، فيا عجباً لهؤلاء الرجال، كيف تحلوا بسمات ربات الحجال، لقد ابتذلوا أنفسهم فيما تأنف النفوس الأبية منه، واستعملوا تكفير الذمي المنهي في الشرع عنه، لهم في هذا الشأن طرائق عجيبة في الباطل، فيا للعجب منهم إذا تعاملوا بهذه المعاملة، وانتهوا إلى هذه الغاية في الألفاظ بينهم فبماذا يخاطبون سلاطينهم ويعاملونهم لقد تساوت الأذناب عندهم والرؤوس، ولم يميز لديهم الرئيس والمرؤوس اه. بمثل هذا اللسان الغريب وصفنا ابن جبير. ولما أفرط القوم في عاداتهم في الجنائز والمآتم والأفراح والمجتمعات والقيام والقعود وتبادل السلام وتقديم القهوة والشاي وغيرهما، ودخلت في طور من الهزل عجيب، زهد فيها المتعلمون على المناحي الغربية، وأنشئوا ينبذونها نبذ النواة. وخفت أيضاً

ألفاظ التكريم عن عهد الترك وهي آخذة بالزوال، وبقدر ما يكثر سواد المتعلمين يقل سواد المداهنين والمرائين، على ما يقل المخرفون والمعتقدون. فقد كان بعض الناس يعتقدون بالفال والمندل والكيمياء والأحلام والكشف، فقل اليوم من يلتفتون إلى هذه المسائل، وخفت وطأتها حتى من القرى البعيدة. والمنورون من الناس قسمان: قسم وقف عند حدود الشرع واكتفى بأوامره ونواهيه، وآخر نزع ربفة الدين ولكن في سره دون الجهر من القول. وبعض العادات لا تقوى على نزعها إلا الأيام الطويلة والنشوء السريع، وهذا متعذر الآن لتعذر نشر التعليم الإجباري في الشعب، فقد كان النساء إلى عهد قريب في الأحياء البعيدة عن مدينة حلب في الجنائز مسخمات وجوههن مخمشات لها لابسات ثياب الحداد، باكيات مولولات منتحبات، وهذا من عادات الجاهلية التي منعها الإسلام. وأول المسؤولين عن إقرار مثل هذه العادات المشايخ والوعاظ وأرباب الصحف. وقل أن رأينا من المشايخ والوعاظ من يتعرض لإنكار مثل هذه البدع والعادات الضارة. أما الصحف فعلى كثرة ما نشرت من الأنوار في طبقات مخصوصة من الناس فقد بقيت في ناحية من النواحي مقصرة كل التقصير، وهو البحث في العادات المضرة والأخلاق الساقطة. وإنا ليحزننا أن كان في الصحافيين أناس لا يزيدون المجتمع إلا فساداً فوق فساده، لأنهم يلقنون العامة الكذب والخديعة والملق، ويدعون أن قراءهم لا يرضون منهم إلا بهذه الطرق. ولكننا على يقين من أنهم هم يبيعون من قرائهم ما يتفق مع مصلحة جيوبهم وأكياسهم. كان التدجيل إلى عهد قريب من خصائص بعض مشايخ الطرق فذهبت الآن ريحهم أو كادت وخلفهم هذا الضرب من الناس. يمكن إرجاع أهم صفات الناس في هذا القطر إلى مادتين أصليتين الوفاء والكرم ولا تزال هاتان الصفتان ماثلتين في معظم الشاميين على كثرة ما اعتور مجتمعهم من تبديل وتعديل. وتجد هاتين المزيتين على أتمهما في كثير من أهل الطبقات الوسطى والدنيا، يقومون عليهما غالباً من دون أن يتوقعوا عنهما أجراً سماوي أو مظهراً دنيوياً. أما الطبقة العليا فمن النادر أن يكون فيها الوفاء والكرم، وإن وفت فلأمر ما تفي، أو تكارمت فلغرض

عادات القبائل وأخلاقها:

ترتجيه. وكلما ضعف الوازع الديني في القوم، وهاجمتهم عادات الغربيين، انحلوا م عهدة الوفاء والكرم، ولذلك ترى الأوفياء والكرماء بعيدين إلا قليلاً عن المناطق التي اختلطت بالغريب على سواحل البحر، وأخذت من معارفه، وتخلقت بأخلاقه، واعتادت عاداته. ومنذ شاع الكذب والحسد في الشاميين، ضعفت مادة حياتهم من التجارة والصناعة، وكادت ثقة الغرب ترتفع منهم، وإذا كتب لهم أن شاعوا في الجملة اليوم فبفضل الأسس القديمة التي قام عليها مجتمعهم وجامعتهم، وبفضل نشاطهم في مهاجرهم حيث رأوا أنفسهم أمام جاليات كثيرة من الأمم اضطرتهم الحال معها أن يظهروا بمظهر الأمانة ليعتاشوا ويرتاشوا. أما التحاسد والمشاغبة فلم تنقطع شأفتهما فيهم حتى في ديار الغربة، وربما زادهم على ما كانوا ألفوه منها ما روأوه في مهاجرهم عند الأمم الأخرى فاقتبسوه وأضافوه إلى رؤوس أموالهم. وربما بلغت الجالية الشامية نحو ألف ألف نسمة أي نحو سبع سكان القطر، فما أمرهم باليسير إذا حتى لا يشار إليهم بجملة، لأنهم على الأقل يمثلون صورة من أهل القطر في الخارج، والأجانب لا يعرفون إلا أنها صحيحة مطابقة للأصل، أو أنهم من أمثل طبقات الشعب. ولو تفرقوا في الأرجاء التي ينزلونها، كما تفرقت قلوبهم في موطنهم الأصلي، لكان لزماً أن يؤثر ذلك في أخلاقهم وعاداتهم، ولكنك تراهم في مهاجرهم يجتمعون أهل كل إقليم بإقليمه على الأكثر، وقد لا تختلط لفائفهم بسكان الديار التي ينزلونها إلا كما يختلط الشامي بالمصري إذا نزل مصر، يختلط به ليبرح منه ويحتفظ بشاميته وتقاليده بعد جيلين وثلاثة وأحياناً بعد أربعة وخمسة. عادات القبائل وأخلاقها: ثُمن أو سبع أهل القطر الشامي اليوم أي نحو خمسمائة ألف نسمة بادية أو قبائل رحالة، ويقال لهم في الاصطلاح: العرب أو العربان، تصطاف في مكان وتشتو في آخر، وقلّ من يألف منهم سكنى الدور، وبيوتهم من الخيام والمضارب تنسج من شعر المعزى، يعتمدونها بعمد ويشدونها بأطناب،

ويضربونها حيث نزلوا لرعية ماشيتهم، يحملون معهم أثاثهم وخرثيهم ودوابهم ومؤونتهم، وهم شاوية يقومون على تربية الشياه والعنز ويربي بعضهم الأباعر، والشاوية من الأسماء التي تطلق على عشائر دير الزور على الفرات خاصة لأنهم جماعة شياه. ومعاش البدو من مواشيهم وما تدر عليهم من السمون والألبان والأجبان والزبد وما يبيعون من نتاج قطعانهم، أو من غزو بعضهم بعضاً إن كانوا أشراراً على الفطرة لم تدمث أخلاقهم قليلاً بالاحتكاك بالمتحضرين، وإذ كان سكان البادية على هذه الحالة من التنقل وأكثرهم يوغل في الشياء إلى وسط ديار العرب انتجاعاً للكلأ والماء، أصبح من المتعذر أن تنشأ لهم حالة ثابتة يتأتى معها وصف كل قبيل منهم في عاداته وأخلاقه. وعرب الشام من أصول شتى وقد تتغير أسماء قبائلهم مهما عظمت قي كل قرن أو قرنين، فقد تغيرت أسماء القبائل التي كانت معروفة بدخول الإسلام الشام، في القرن الثالث أو الرابع، وما عرف من أسمائها في القرن الثامن أو التاسع تبدل في القرن الحادي عشر، وهكذا تتبدل أسماء العائلة تبعاً للمتأمر عليها، وقد تسمى القبيلة كلها باسم أميرها أو شيخها. والعشائر كلها تنقسم إلى أفخاذ وبطون، والإمارة أو المشيخة ترجع على الأغلب لمن كان له أصل قديم من بيته، أو من كان أذكى قومه جناناً، وأبسطهم بالكرم يداً، وأشجعهم يوم النزال قلباً، واصلبهم في الحوادث عوداً، ثم تنتقل بالوراثة. وغزو القبائل بعضها بعضاً يحول دون بقاء الثروة الناطقة والصامته فيهم، فقد تكون القبيلة اليوم في الغابة من طيب العيش، ناعمة البال بحلالها أي ماشيتها، فتغزى من الغد في عقر دارها، فلا تلبث أن تصبح أعرى من مغزل لا بد لها ولا لبد. دع ما يصيبها من نقص في الأنفس، فقد كان من النادر أن تجد رجلاً بلغ أقص سن الشيخوخة لأنه يعتبط في الغزوات، ويقتل في سن الفتوة غالباً. والحكومات الشامية اليوم تحظر على القبائل الغزو، وهم يخافون سطوتها لمكان السيارات ورشاشاتها في الأرض، والطيارات وقذائفها في الجو، وتحاول كل حكومة أن تعطي البادية أرضاً تزرعها لتأوي

إلى البيوت الثابتة، وتتخلى عن عيش البداوة وما تستلزمه من شقاوة وشقاء. ومن عشائر الشام ما عرف أنها كانت رحالة فأصبحت مزارعة مقيمة، ولذ لها عيشها الثاني فاغتنت يوم تحضرت، مثل الدنادشة أو بني دندش فهم قبيلة يمانية جلت إلى حوران منذ نحو ثلاثمائة سنة، ثم انتقلت إلى أرجاء تل كلخ من عمل حصن الأكراد، ولهم اليوم قرى عامرة وبيوت وقصور في قرى الفتايا والحوز ومدان وحير البصل والموح ومشتى حمودة ومشتى حمزة وبرج الدنادشة وغيرها، وظلت أخلاقهم إلى عهد قريب أخلاق العشائر يحبون الغزو والسطو وحمون الذمار والجار، وهم على حصة موفورة من الكرم والوفاء وصحة العهد. واتفق مثل هذا التحول لكثير من عشائر الحديديين والموالي وبني خالد، فإنهم لما امتلك السلطان عبد الحميد الثاني أرضاً واسعة في الشمال الشرقي من الشام في أرجاء حماة وحمص، حمى العشائر ومنع الغزو بينها، فتحضر من هذه العشائر عدد كبير انصرفوا إلى اعتمال الأرض والعناية بالزرع والضرع. وهكذا كانت الحال في القديم والحديث، تدخل البادية في الحضارة، وقل أن خرج أفراد من الحضارة إلى البداوة، لأن الترقي سنة الطبيعة، والبداوة أصل ثم يذوب أهلها على الزمن في الحضر. تبعد منازل البدو عن سواحل البحر المتوسط غالباً، ولا تزال تمتد في الداخل حتى ينتهي العامر من ديار الشام في الجنوب والشرق، وهناط البداوة بأجلى مظاهرها. والأولى أن يقال مثلاً في عشائر الفضل والهوادجة والبحاترة النازلين على ضفاف بحيرة الحلوة، وبني صخر الضاربين في البلقاء، وبني حسن في علجون، والحسينية والفواعرة والعكيدات في أرجاء حمص، وبني خالد عرب حماة، والحديديين والموالي واللهيب والغيار عرب حلب، والسًّبعَة والفدعان من عنترة النازلين من بحيرة الجبول إلى سليمة وعشائر البشاتورة والبواتية الغزاوية والمساعيد ونقار والصقور عرب بًيْسان ونابلس وجنين وطول كرم، وعشائر شرقي الأردن التي تشتو في وادي العربة أو الأغوار، أو الحماد أي الصحراء العربية شرقاً، وتصطاف في ارض معينة الحدود معروفة - فالأولى أن يطلق على هذه القبائل اسم نصف حضرية

لأن منها من يزرع الأرض، ومن أفلح في الفلاحة، وأيقن على الأيام أن العيش الثابت خير من المتقلقل، وأن من يدفع للدولة أجرة حمايته، أهنأ بالاَ ممن يتكل في حمايته على نفسه وسيفه وعصبيته. وهكذا يقال في عرب الغياث والعمور في اللجا والصفا، وعرب العدوان والأيديات والعباد والمشالخة والحمايدة والشوابكة والدعجة والعجمارمة والنمر والكايد في أطراف عَمّان والصلت ومادبا، والخرشان والجبور في الموقر والعليا والنقير، وبني حميدة والسليط والحجايا والحباشنة والصرايرة والطراونه وكثرربة والمعايطة والمجالي والمدنات في أرجاء الكرك، والحويطات والدمانية وأبي تايه والمطالقة والنعيمات والديابات وبني عطية في جهات معان، وعرب الشرور وبني عطا والهلالات والعبيدية والعلايا في وادي موسى وجبال الشراة، والحميدات وعبدين والبحارات والكلالدة والوهبيات والمنازعين في الطفيلة، فإن كثيراً منهم يزرعون الأرض، ويقومون على تعهد الماشية، وقد يبعدون في الانتجاع ثم يعودون أدراجهم. وعلى مثل هذه الحال عشيرة العمور في أرجاء تدمر وعشائر بو شعبان في السخنة والجبور في البو كمال والعكيدات في الميادين ودير الزور وغيرهم من العشائر النازلة على شط الفرات الغربي، فإنها كلها نصف متحضرة وبقليل من العناية تدخل في المدينة وتترك عاداتها وشقائها، ويسوغ لنا أن نستنتج أن البادية حتى أكثرها إيغالاً في البداوة يمكن تحضيرها إذا أكرهت على التحضر خلافاً لما يذهب إليه بعض أهل الغرب. وفي الشام قبائل من البدو مثل عرب الروالة من عنزة وهم لا يقلون عن عشرين ألف نسمة، ينتقلون أبداً كالنور أو الغجر كل مدة في ناحية، ولا ينزلون المدن إلا لابتياع حاجاتهم وبيع جمالهم وأصوافهم وألبانهم. والنور جيل منحط من الناس يرتحلون كالبدو ويعملون الأعمال الخسيسة، ولذلك يحتقرهم جميع أصناف العالم من أهل المدن والقرى والبدو، وهم قلما تخلو منهم بلد ومنهم عدد كبير في أوربا. ولا تختلف عادات العشائر لأنها كلها في حالة أولية فطرية هدتهم إليها الحاجة إلى الحياة، فعشائر ولد علي والسرحان والمعجل والسردية والنعيم

في حوران والقنيطرة والزوية، والزريقات في طرابلس والتياهة والعزازمة والترابين والجبارات والحناجرة والكعابنة والصرايعة والجهالين وفقرة وثباني وهارين وفرحات وزويديين وضواحك وسلامات وصقرير والرسيلات وأبي صونية والغوالبة في أقصى فلسطين أي في أرجاء بئر السبع وغزة والخليل والمجدل، وعشائر القدس ورام الله وبيت لحم وأريحا ويافا والرملة كالسويطرة وعرب النبي روبين والجماسين وأبي كشكو المالمة والعوجا والديوك والنويعمة والخطباء والفهيرات والعرينات والنصيرات والتعامرة والعبيدية والسواحرة وعرب حيفا وعكا وزمارين والناصرة وطبرية وصفد وهم الغابة والعواضين والشقارات والزبيدات والتواتحة والكمابية والضيبة وبني عزة والنغناغية والرمل التركمان وجسر الزرقاء وقسارية والفقرة ونفيعات والدمايرة والسواعيد والسمينة والغوارنة والسويطات والحجيرات والطوقية والمريسات وصبيح الحجيرات والمزاريب والسبارجة والجواميس والغزالين والتلاوية والمواسي والسرجونة والسدور والسمايرة والخرامية والسماكية والمنارة وكراد الخيط والملاحة والشمالنة والبويزية والزنغرية وزبيد وقديرية وطوبا وحسينية وعلمانية ووقاس والصويلات والنميرات، وعشرات من القبائل كلها متشابهة في عاداتها وأحوالها الطبيعية وجلها لا تسد مطامعه إلا الغارات واستباحة حمى المعمور، عرفوا بذلك منذ عرف تاريخهم. وكان الرومان خاصة يقيمون المخافر من اجتياحهم القرى ويقيمون لهم منهم زعماء يصدونهم عن الاعتداء بعضهم على بعض، أو يحولون دون اعتدائهم على المقيمين من سكان المزارع والدساكر. وفي تاريخ فلسطين أن العزة والسيطرة كانت في جميع بلاد الساحل والسهل البدو وأهل الدير، فبلاد السبع وغزة كانت منقسمة بين الغزارمة والحناجرة والترابين والجبارات، فالعزارمة يمانيون ومشايخهم أجداد ابن سعيد، وأمراء الترابين عائلة أبي ست، وأمراء التياها الهزءيل، وأنساب هذه القبائل غير صريحة فإنها مزيج من عشائر مختلفة وقبائل متنوعة وفيهم القيسي واليماني، وبلاد الخليل أكثرها قيسية ومقاطعة القدس يمانية وقيسية اه. وكما عرف البدوي بأنه يجير الملتجئ إليه، كذلك إذا آنس ضعفاً

من أحد أبناء السبيل في البرية سرق منه ماله وثيابه أو هيمانيه ودابته، وندر أن يقتله فشأنه شأن معظم البشر عبد القوة لا يحاذر غيرها. ولطالما كان الجنود الشاميون أيام كانوا يفرون على عهد الترك من اليمن تطيل البادية عليهم أيدي الاعتداء تارة ويكسونهم ويطعمونهم تارةً أخرى، وهكذا كان الفار يعرى ويكتسي مراراً حتى يصل إلى المعمور من دياره. وماذا يعمل البدوي وماشيته ترعى أمامه، وكيف يصرف ليله ونهاره، وكيف تطيب له الحياة في الصيف والشتاء، وهو معرض لأشد الحرارة وأشد لا جرم أن البدوي، وهو بذكائه وفراسته معروف موصوف أكثر من الفلاحين أهل القرى، يعرف من الأخبار التي تهمه من أنباء العالم ما ينبغي له الإحاطة به، ويتناقله بسرعة البرق، حتى إن ما يحدث في الحجاز أو العراق، يصل خبره إلى ابن بادية الشام وما وراءه من العرب، قبل أن تصل السيارة والبريد، فينتقل الخبر في الأفواه من فم إلى فم، ويسمون الأخبار العلوم وأول ما يسأل البدوي في البادية أو المعمورة عن العلوم. وإذا لم يمن عند البدوي ما يتسلى به من القصص والأخبار التي تمون في العادة نمطتً واحداً يأخذ شاعر القبيلة ربابة يضرب عليها، ويفكههم من نظمه أو من محفوظه بأشعار. وفي الغالب أن يكون ما ينشدهم إياه بلهجتهم التي يألفونها. ويحتوي على الأكثر الحماسيات وأخبار الغزاة والغزوات وأيام الشجعان وحوادث الكرماء والضيفان. والرقص معروف عندهم وهو الدبكة أو السحجة يرقص في الغالب الفتيان والفتيات، دون الرجال والنساء المتزوجات. ومهور النساء غالية في بعض العشائر، وتكون من الجمال والشياه غالباً لا من النقود لقلة تداول النقد بينهم فهم يتقايضون الحاصلات، كما يتقايضون البنات بالحيوانات. والبدوي يخصب إن جادت المراعي من خيرات السماء، وإلا فقد أترب وأجدب، ونفقت دوابه فأعوزته اللقيمات. ويجلس الرجال في العراء في خيمة مضروبة تكون في الغالب خيمة الشيخ أو الغني، يتعاطون قهوة البن وهم يجيدون طبخها لفراغهم وتوفرهم على معالجتها. وقد يستغني البدوي عن الأكل أو يقلل منه كثيراً، ولكنه لا

يستغني بحال عن تعاطي في كل ساعة فهي نقله وحلواؤه وشرابه المتنعش، وقد يصرف أحدهم ثمن بّن في السنة أكثر مما يصرف على طعامه ولباسه. وأحب الهدايا إلى قلب البدوي أن تحمل إليه مقداراً من البن. وطعامهم من أسهل الأشياء، مقصور على بعض الألبان والبّر والجريش والأقط والعصيدة، ولباسهم ساذج للغاية وكسوتهم متشابهة: قفطان من القطن، وعباءة خفيفة، وزنار عادي، وكوفية وعقال، ولا يلبسون في الأعم من حالاتهم قمصاناً وصُدَراً وسراويل، وأكثرهم حفاة، ويصطنع كسكان وادي موسى نعالاً من جلود الأباعر ينيطونها بحبال يدخلون فيها أباهِم أرجلهم تعلق بها. قّل أن تجد في البادية من يقرأ ويكتب، فقد تبلغ العشيرة ألف نسمة ولا تظفر فيها بمن يكتب جملة. ومن العشائر من تستأجر خطيباً من أهل الحضر يكون معها في مشتاها ومصيفها، ويعظم بما يعلم من أمور الدين. وأكثر البادية لا يتطهرون ولا يصلون ولا يصومون ولا يعرفون من الإسلام إلا أن الله واحد وأن محمداً رسوله. ولولا هاتان الكلمتان لقلنا إنهم كعرب الجاهلية حذو القذّة بالقذة وقد تصلي بعض القبائل كالرولة، ولما كان الماء يعوزهم في منتجعاتهم وتنقلاتهم فهم يتيممون صعيداً طيباً، والله يعلم هل يحسن أكثرهم قراءة فاتحة الكتاب، أو يعرفون سوره الصغار. وما كانت هذه العشيرة تصلي من قبل لولا أن لابسها بعض دعاة الشيعة وعلموا كل فريق منهم إقامة الصلوات، ولنقوهم بعض معتقدات التشيع من حيث لا يدرون. وقد تديّن اليوم أي دان بالمذهب الوهابي قسم من الروالة لما لحقوا بنجد، والمذهب الوهابي مذهب محمد بن عبد الوهاب وهو مذهب أحمد بن حنبل بأصوله وفروعه. وإذا كان من الأمور العادية في البادية أن تكون القبائل في خصام دائم، وهي أشبه بحكومات صغرى تتقاتل وتستعين بالغريب على خصمها، مست الحاجة إلى قضاة يفصلون بينها في المنازعات، وقضاتهم منهم يتقاضون عندهم بأجر معلوم، وأحكامهم سريعة نافذة، ومن أحكامهم ما هو مطابق للشرع

الإسلامي، ومنها ما هو من بنات أفكار القاضي، أو يأخذه من العرف والعادة. والاختلافات تفض بين المتخاصمين على أيدي الرؤساء صلحاً على الأكثر وقّل أن يراجع البدوي الحكومة في مسألة لأن من أصولها البحث والتحقيق، وهو يحب قضاء عاجلاً، وأن يحكم له أو عليه في جلسة واحدة، وينفي القاتل في بعض القبائل سبع سنين فإذا صالح أهل القتيل ودفع الدية يعود إلى عشيرته، وتختلف دية القتيل بين 33 ألف غرش إلى 15 ألفاً، ولا يحق عند بعضهم لأحد بعد سبع سنين أن يثأر للقتيل، والأخذ بالثأر كثير عندهم، ولا مدة عند معظمهم للمطالبة بالثأر. ومن المأثور عنهم أن البدوي أخذ ثأره بعد أربعين ستة وقال: إنني تعجلت أخذه. وجزاء السارق تغريمه المال المسروق من ضعفين إلى أربعة أضعاف، وينجو السارق بالفرار، ويدفع الضارب للمضروب إذا عطل منه عضواً نصف الدية. والزاني يرجم عندهم حتى يموت ولكنهم تساهلوا في هذا الحكم، والفحش عندهم على نسبة ما هو عند الحضر ويكثر في بعض العشائر ويقل بحسب اختلاطها بأهل المدن وبعدها عنها، والخمور لا أثر لها في البادية لأن العرب قلما يشبعون الخبز والإدام فمالهم إذاً والمدام، ولشطف العيش عندهم يعدون في الأعياد اليوم الذي ينزل على شيخهم ضيف يجب أن ينحر له شاة في تلك الوجبة مدعوون كلهم بالطبيعة، وعندما يأكلون اللحم فترى قطعانه تسافر من فوق الرؤوس حتى يطعم من المنسف البعيد منهم عنه، وتسمع عندها تعريق اللحم عن العظم أشبه بأصوات حيوانات وقعت على عظام. ويكثر تعدد الزوجات بينهم خصوصاً عند من يملك بعض نعجات أو بضعة أباعر فتراه طول النهار وجزءاً من الليل، تحت خيمته يتقهوى أي يشرب القهوة مستلقياً على قفاه، يقص أقاصيصه وينعم ببطالته، على حين ترعى امرأته وبناته الغنم والجمال، ويتحطبن الحطب أو يجمعن العشب، وتحمل المرأة الماء على رأسها من مكان بعيد، أو تستقيه في قرب تحملها على حمار إن كان صاحبها من أهل اليسار، وتستخرج المرأة الزبد والسمن وتعمل الجبن وتخبز الخبز وتهيئ الطعام. ويعيش أولادهم كالسائمة في البرية بدون عناية ويهلك معظمهم قبل الخامسة من العمر، ولهذا تكون أجسام من يفلتون

منهم من الموت قوية تبعاً لقاعدة بقاء الأنسب. وهم لا طبيب عندهم ولا جراح ولا قابلة إلا ما تعلموه من أجدادهم من الوصفات، وثقفوه بطول الزمن في مداواة الجروح، ويداوون أكثر الأمراض المستعصية بالكي أو بأدهان وحشائش لهم يعرفونها. وأمراضهم قليلة بالنسبة لخشونة عيشهم وجشوبة طعامهم وقلة تطهرهم، وذلك لمكان الهواء النقي والشمس المطهرة من أجسامهم ولندرة ما يطعمون من الأطعمة المركبة من حامض وحلو وحار وبارد، ولقلة الهموم التي تساورهم وما تساور في العادة إلا سكان المدن والقرى ممن يفقهون واجبات الحياة، ويكدحون في طلب المعاش ولا يزالون مأخوذين بحب التقليد. والبدوي حاد النظر يرى الأشباح من مسافة بعيدة جداً، وقد يرى والقمر ليلة هلاله ما لا يبصره الحضري، ومن رآه في تمييز المرئيات عن بعد باعد، يكاد يصدق ما ذكرته العرب عن نظر زرقاء اليمامة. وكما كانت أبصارهم حادة كانت أسنانهم وأضراسهم سليمة براقة للطف أخلاطهم وتخليطهم. قال أديب وهبة: إن سكنى البدوي في بيت الشعر في البوادي المحفوفة بالأخطار والمشاق، وبعده عن الحامية وانتباذه الأسوار، قد ولد فيه عدة مزايا يمتاز بها على الحضري، منها الشجاعة والعصبية والكرم والوفاء والأنفة والنجدة فتوغل البدو في البادية، وتولعهم بالغزو والغارات قد جعلهم في قتال أو استعداد دائم للقتال، فأصبحت الشجاعة فيهم طبيعة، وتعذر قيام الفرد مهما كان شجاعاً بمقابلة العدد من العدو قد اضطرهم للالتجاء إلى العصبية، وهي التضامن المطلق بين أفراد القبيلة، حتى تطلب العشيرة بأجمعها بحق أحد أفرادها، وأقرب أسبابها لديهم الأخوة والأبوة والعمومة، ومنها تتألف الأسرة، ومن الأسر تتألف الفصيلة وتتدرج بهذه الصورة إلى القبيلة. والذي عليه عشائر الشرق العربي أنها تطلب وتطالب بحقوق أفرادها إلى الجد الخامس من جدود الطالب والمطلوب، أي لكل فرد يتصل مع إيهاما بالجد الأول أو الثاني أو الثالث إلى الخامس الحق بطلب حق قريبه، وعليه أن يخضع للحق المطلوب منه، ولهم بذلك قوانين وقواعد موروثة. ثم إن ابتعاد البدو عن المدن وتفردهم في الأرض المقفرة يضطرهم إلى إكرام

رأي في الأخلاق الشامية:

الضيف والقاصد وحماية الضعيف والملتجئ، حتى إذا وقع أحد أفراد قبيلتهم بمثل هذا الأمر الذي يكثر حدوثه لديهم يتقاضى ما أسلفه. وقد قويت هذه المزية فيهم حتى ضرب بكرمهم المثل، وفاقوا به سائر الأمم. وإن مطاوي التاريخ العربي مستفيضة بأقاصيص كرماء العرب وكرمهم العجيب. والبدوي يعتقد أنه لا ذكر له ولا إرث أفضل من سمعة الكرم والجود. وإن هذه المزية لا تزال عند بدو الشرق العربي على ما كانت عليه في زمن أجدادهم الجاهليين فلا يحل ضيف بيت أحدهم غنياً كان أو معدماً، إلا ويسرع لتهيئة كل ما يرضيه ويسره، وإن الكثيرين منهم يضطرون إلى تحمل أعباء الدين الثقيلة لإرضاء قاصدهم. وإذا استأمنهم مستأمن على أمانة فدوا لحفظها أموالهم وأولادهم وأنفسهم، وكذلك إذا التجأ إليهم خائف، أو استجار بهم مظلوم، أو نزل عليهم موتور مطرود. رأي في الأخلاق الشامية: تمثل الأمم في العادة طبقتان من أبنائها الوسطى والعليا. والطبقة الدنيا وهي طبقة العامة مستتبعة لا متبوعة، لأن ما هي فيه من تأخر أسباب الحياة، لا يترك لها مجالا للتفكير في شئ، غير ما يقع تحت حسها مباشرة، تشتد حاجتها الطبيعية إليه. وقد تقلد الطبقة السفلى الطبقة الوسطى تقليدا خفيفا لا يكاد يشعر به، وتقليد الطبقة الوسطى الطبقة العليا أشد ظهورا من تقليد الدنيا للوسطى. وتتجلى في الطبقة العليا مظاهر السعة في العيش، والبسطة في العلم أو الحضارة، وهي أبدا حريصة على مكانتها، تحاذر سقوط شأنها من أنظار الطبقتين التاليين، وتعد السؤود كل السؤود، ما هي فيه من جاه ومال ومجد وعلم. يعد من الطبقة العليا العلماء والعظماء والقواد وأرباب الأموال، ممن يسيرون الجماعات إلى حياتها أو موتها، وينفثون في روعها ما يرقع مستواها العقلي، ويطهرون نفوسها من الآثام والآلام، وبأيديهم ربدة ثروة الأمة وجهودها، وإليهم منتهى ما بلغته قرائح أبنائها يمثلون التسلسل في الفكر، وتتجسم فيهم الإرادة الثابتة والعزيمة الصحيحة، وهم صورة البيوت الخالدة

ومنعكس التأثيرات الطريفة والتالدة، ومثال الشعب ورقيه ووجهه الوضاح الجميل، وفي قبضتهم مفاتيح المفاخر ومغاليق المآثر وهم المذكورون وهم المشهورون، ومصير غيرهم إلى الخمول والعفاء. من أجل هذا كان على تلك الطبقة أن تتحلى بحلي الفضيلة والشرف وأن تكون عفيفة الطعمة حسنة الأحدوثة، بعيدة عن الموبقات والبذخ والسرف، بأيدي العاثرين والبائسين، وتلقن أبناء أمتها علماً ينتج الثروة ويحفظ المجد، ويولي الكرامة. وإذا جُنت بالظهور من دون استعداد له وحاولت الاحتفاظ بمكانتها دون أن تتذرع بأسباب البقاء، وبتجديد مواد حياتها الحين بعد الآخر، فإن عزها لا يلبث أن يزول، وسعادتها توشك أن تضمحل، ومن العبث أن تعيش هذه الطبقة بشهرة أجدادها من الحكام وأهل الشرف وأرباب المظاهر، وأن تعتقد أن جماع المفاخر وقف على أحسابها وأنسابها، وتطلب من كل إنسان أن يرفع مقامها لأن من أجدادها من كان على شيء من الفهم أو الظهور، أو أنه كان يسفك الدماء ويستحيل أكل أموال الناس حتى أثرى وخلف عقاراً وقرى وصامتاً وناطقاً. ورب صعلوك في نظر المتمجدين كبير في عيون الخلق. والكبير من كبرت أخلاقه، ونفع الناس وانتفع بهم. وإذا جئنا نحاسب مثلاً بعض من انتسبوا إلى الدين، وهم أشرف الفئات في العرف نراهم أقرب الناس إلى امتهانه بأعمالهم، يأتون ما لا ينطبق على جلال منزلهم. فقد فشت المطامع فيهم واستحلوا الأموال مهما كان لونها وطعمها ورائحتها، وأتوا للاحتفاظ بمظاهرهم القديمة من الأعمال ما بدت به مقاتلهم، فقضوا بفساد ذممهم على أوضاع الأمة، وركبوا مراكب الهوى واستمرأوا لأنفسهم أكل ما اعتقدوه حلالاً طيباً فأضاعت الأمة مشخصاتها ومقوماتها، وأصبحت مزيجاً غريباً لا تعرف كيف تكيفه. وليس في المجتمع من يناقشهم الحساب، وكيف يناقشون وهم المرجع وهم الهادون. وكان المشار إليهم بالبنان من أهل هذه الطبقة في الدهر الغابر، يدلون بشممهم على الخلفاء والسلاطين، ويسيطرون بإخلاصهم على القضاء والحاكمين، ومن هانت عليه عزة نفسه يوشك أن يستهين بكل محمدة. ولقد أدركنا أحد كبار الشيوخ

العلم، لما شاهد هذا التسفل في طبقة العلماء يشير على طلاب العلم الديني أن يتقن كل واحد منهم صناعة حتى لا يسفّ لأحد يستجدي نواله، ولا يمسي عالة على أبواب الحكومات وأرباب السلطات، أن احتاج إلى صناعته احترف بها. وإلا كان لمناصب الدين والدنيا مخطوباً لا خاطباً. ولي سويد بن عبد العزيز قضاء بعلبك سنة 167هـ وكان محتاجاً، فلقيه داود ابن أبي شيبان الدمشقي فقال له: يا أبا محمد وليت القضاء بعلم العلم والحديث. قال: نشدتك الله أتحت جبتك شعار؟ فقال داود: نعم. فرفع سويد جبته وقال: لكن جبتي ليس تحتها شعار. وقال: أنشدك الله هل هذا الطيلسان لك؟ قال داود: نعم. قال سويد: فوالله ما هذا الطيلسان الذي ترى علي لي، وإنه لعارية، أفلا ألي القضاء بعد هذا، فوالله لو ولوني بيت المال فإنه شر من القضاء لوليته اه هذا قول عالم في زمن كان صاحب السلطان يطلب الأكفياء إلى القضاء فيفرون منه فرار السليم من الأجرب. ومنهم من ضرب لأنه لم يقبل أن يلي القضاء، وكان محتماً عليه قبوله لانتهاء الرياسة في العلم والعمل إليه. كان هذا في ذاك العصر الذهبي فما بالك بالعصر الأخير، والجهال يتطلبون مناصب الدين إلا في الندر، ويقدمون لتوليتها الرشي والهدايا وقل فيهم النزيه الذي يستحق أن يطلق عليه اسم العالم، أفلا تسقط بجدك هيبة هذه الطبقة من النفوس بعد هذا؟ وبينا تجد بعض القائمين على الدين من أهل السواد الأعظم لا يهتمون لغير إملاء جيوبهم وبطونهم، تشاهد بعض رجال الدين من أبناء الطوائف الصغيرة يجمعون شمل من التفوا حولهم، يقودونهم إلى محجة سعادتهم، ويؤسسون لهم دور التعليم والقربات، وينشلونهم من السقوط الذي صاروا إليه بحكم الأيام. فلا بدع إن جاء مجموع الطوائف المسيحية على قتله في الشام، أرقى من مجموع الطوائف الإسلامية على وفرة عدده وسعة ثروته. وكان من أثر الرياسة الدينية المنتفية من الإسلام أن استخدمها أهل النصرانية في المصالح المهمة، فكان لهم فيها عموم النفع. وكانت هذه الرياسة على ما فيها ناجعة في تهذيب الشعب عندهم، فأخرجوه من تيه الفوضى إلى باحة النظام. وهذا هو سر الترتيب الذي تراه ماثلاً في المجتمع النصراني وهو على

حصة ضئيلة في المجتمع الإسلامي ولا يؤاخذ الإسلام بانحطاط أهله وما المؤاخذ إلا من أخذوا على أنفسهم عهداً بأن يطبقوا مفاصله فأهملوا واجبهم، ولو كان الدين عاملاً من عوامل سقوط أمة ما كانت اليابان وهي تدين بالبوذية في مقدمة أمم الأرض علماً وعمراناً. ولا مشاحة في أن من طبقة الدينيين فئة صالحة، ولكنها كانت في كل عصر تلقي الحبل على الغارب لغلبة اليأس عليها، وهناك فئة أشد تأثيراً وظهوراً وهي التي طالما قدمت وأخرت وباعت من هذه الأمة المسكينة ما شاءت وشاءت منافعها ودارت في كل دور مع مطامعها كيف دارت. إلا أن الدهر عاقب هذه الطبقة بما احتقبته من الكبائر، فضربها ضربة آذنت بانقراضها لأنها لم تجار الزمن في نشوانه، كأن تكون مثال الفضائل تربأ بأنفسها عن الغيبة والنميمة وتتشرب أفئدتها حب الصدق والصدع بالحق وتتحامى مزالق التغرير والتضليل وتحضر وكدها في واجبها من إرشاد العامة من طريق العلم الصحيح، في زمن أشتد فيه النزاع بين القديم والحديث، أو بين الدين والإلحاد، وتجلى الانتقال في كل مظاهر الحياة. وما زالت هذه الفئة تحاول أن تسترد بالثرثرة والتبجح مجداً زائلاً، وهي في حالة المحتضر ولا تبدئ ولا تعيد. وما تحدثت أن تخرج من جهالتها، وتتطور بطور العصر، وتأخذ بحظ من العلم الديني والمدني، وتتحلى بشيء كثير من مكارم الأخلاق. كان أحد أفراد هذه الطبقة أبلى في الدعوة الدينية بلاء حسناً، ورزق قلماً ماضياً، وعزماً مؤاتياً، واستعد للنزول والنزال في ميدان دعوته، يحمل أكثر أدواتها. وما عتم أن ترك ما هيأته الفطرة له وأكسبته إياه التجربة وطول المدة وحاول بلوغ مظهر جديد اعتقد أنه جماع المظاهر، وهو لم يتمرس بآدابه، ولا يعرف مداخله ومخارجه، وغلبه حب الشهرة فادعى ما لم يخلق له ولا تخلق به ونسي الغرض الذي يضطلع به، وراح يستغل موضع الضعف من فطرته ولا يعمل فيما يرجى فيه كماله، ترك سيرته الأولى وهام بمظهرة الثاني، زهد فيما يحسن وحاول التلبس فيما لا يحسن. وغريب من إنسان لم يقنع بمنزلة طيبة وضعته فيها بيئته وتربيته، ويجاهد جهاداً آخر في ساحة الوغى ولا سلاح معه يستخدمه، ولا آلة من أدوات الحرب يتقنها، الذكاء

وحده ينفع إلى حد معين، وأدوات النجاح في طريقة تحتاج إلى علم وفطرة. والعلم بالتعليم والتريض، والفطرة هبة لا تباع ولا تشترى. أنت يا هذا إذا حفظت قواعد علم من العلوم، يتعذر عليك إن تدعي الكيمياء والطبيعة أو السياسة والاجتماع، علوم مختلفة طويلة الذيل لا ينفع معها التخليط. القواعد المجملة التي تحفظ من كتاب في موضوع تحتاج في إتقانها إلى صرف طائفة طويلة من عمرك فلا تعطيك القريحة قياد كل أمر ولا تسير في سبيلك كل دعوى. ولذلك ترى من هذه شأنه صاعداً متدلياً، ينفي اليوم ما أثبت أمس ويحارب حيناً من سالمه زمناً يصانع أرباب القوة طوراً ثم يقلب لهم ظهر المجن تارة، إذا لم يستمرئ ما أطعموه ولم يستقبل من أمره ما استدبر في وضع الخطط التي خطها لهم، والناس كلهم في نظره صغار عقول وأرباب فضول وهو لا يرى غير نفسه استجمعت ضروب المحامد، ولذلك لا يضن عليها بما يمجدها، ويضع الألقاب الضخمة لها وينوه أبداً بما انطوى عليه من شرف وعلم وعمل، ومن رضي عنه من الناس ينيله من عطفه ما لو وزن أيضاً في ميزان القسط لشالت كفته. والعاقل من أنصف نفسه قبل أن ينصف الناس منه، ومن ظلم نفسه كان حرياً بأن يظلم غيره، ولهذا أمثال غير قليلة فيمن يلقبونهم بالبارزين والخواص أي النابهين. نموذج آخر. بينا تجد الأول يجرع دعوته كما يجرع الصاب والعلقم ويستعلي ويستطيل ويحاول أن يثبت أنه مصدر كل خير، لو استمع الناس له لتمت سعادتهم الدنيوية والأخروية، ترى أخاه قد أتخذ في الحياة غير طريقته وخالفه في سيره وسيرته، فقد لقن في صباه مجملات يحكم فيها بالجزيئات على الكليات حكماً مسمطاً ويتلطف ويتطرف ليجد السبيل إلى قلوب العامة والسوقة لأنهم كثير سوادهم يستميلهم بالدعابة والفكاهة، وماذا يهمه من الخاصة وهم قليل عديدهم، وما يناله من غضبهم ورضاهم ما دام الجمهور عنه راضياً. وأحسن ما يراه للوصول إلى قلوب العامة أن يرضي كل صاحب سلطان، لأن في رضي القوي تنطوي المظاهر والدنيا وهو عبدها وغايته من الحياة السجود على أبواب سدنتها، لا يبالي أن يصعق

كل من لم يمالئوه، ويتوهم أن النقاد لا يفرقون بين الزيف والبهرج، ولا بين الهازل الماجن والمجد المجاهد، والعلم الحقيقي يولي صاحبه عزوفاً، وإذا قرن بالتهذيب لا يحاول صاحبه درجة إذا تخطاها أدركه العثار. عرفت عالمين دينيين أريدا على أن تفتح لهما أبواب الرزق، وتغدق عليهما المظاهر على أن يسفا إسفافاً خفيفاً يكون في السكوت عن رجل كان لهما صاحباً قديماً فحاز مظهراً كبيراً من مظاهر الدنيا حسده عليه عبيد المطامع والشهوات، وكان جوابهما كل مرة أن من لا يعمل للمصلحة العامة لا يستحق صداقتنا ليأت ما استطاع من الخير ونحن بالطبع له الأخلاء الأوفياء لا نريد منه جزاء. وهكذا قاطعاه وهو الحاكم المتحكم في الدولة، وهكذا عزفت نفسهما عن أن يرقصا للقرد في دولته ويزينا للظالم ظلمه وهو في أوج عزته. زهدا في الجاه العريض لزهد صاحبه في الفضائل وشدة هيامه بدرهمه وديناره. رجلان يأكلان اللقمة بالتسفل والرياء وآخران جاهرا بأنها تؤكل بدون هذا. وهذا مثال من أخلاق بعض المعاصرين، وعبرة للأعقاب في الغابرين. ظهر التعطيل في الإسلام منذ قرون، بما قام به المبتدعة من أهل الطرق وسخفاء الدجالين والقصاصين، فانحطت العقول وضعف مستوى العلم والتهذيب في الناس فمن تصدى يا ترى لمحاربة هذه الضلالات التي لم ينزل بها سلطان؟ قشت أخلاق سيئة تخالف هدي الدين فتغافل الموكل إليهم هداية الخلق عن انتشار سمومها كأنهم يقرونها، وتركوا رعيتهم هملاً كالسائمة. وكانت دروس العلم مباحة مورودة إلى أوائل هذا القرن، وبتساهلهم كاد العلم الإسلامي ينقرض. وجاء كثير من مرتزقة الوعاظ والخطباء والأئمة والقضاة جهلاء يفتون بغير علم، ويخطبون بالمبتذل الساقط، ويلهون الجمهور بالقشور، ويبيعونه من سلعهم الكاسدة ما لو ائتمر العوام بأوامرهم لرجعوا ألف سنة إلى الوراء. وإذا اجتمع هؤلاء الدينيون إلى أكثر زعماء الأديان الأخرى، ظهر الفرق بين التقصير والعناية وتجلت المباينة بين من ساروا مع الزمن، ومن عاندوا الحقائق وحاربوا العقل وجمدوا في الفكر، ومالوا إلى الكسل عن عمل. وفوق هذا تراهم يجمعون أموالهم بخرق حرمة كل

قانون وشريعة، وهم متخاذلون متفاشلون لا يكاد واحد منهم يزكي أخاه، ولا تجد خمسة منهم اتفقوا على مقصد واحد من مقاصد الخير. والعاقل يرجح الأمية على هذا العلم الذي لم ينتج خيراً لأهله ولا لغيرهم، والأميون لا تصدر منهم هذه الجرأة على العبث بناموس الكمال. ومن تفلتوا من حدود الشرائع على فربهم منه، كانوا أشد انتقاضاً عليها من الجاهلين والغافلين. وتتصرف على هذه الطبقة، طبقة تلتحم بالخاصة أو العليا أيضاً، من جماعة المتعلمين على الأصول المدنية الحديثة، فقد دب في بعض هذه الطبقة سوس الفساد ولما تزل في بدء تأسيسها، وظهر لأرباب البصائر أن الدروس الطبيعية والرياضية والاجتماعية والفلسفية والحقوقية تنير العقل، ولكنها لا تحسن الأخلاق، إذا كانت منحطة من أصلها. وربما كان العلم في بعض هذه الطبقة أداء شر تستخدمه حبائل لصيد ما يسد المطامع. والأخلاق مغروسة في الدم والأسرة، والعلم صناعة يتعلمه الذكي الدائب. وقد تلونت صبغة هذه الفئة في هذه الأرض الطيبة، بألوان أهوية الأقاليم وجوائها، بل بألوان المدارس التي تخرجت بأساتيذها، فمن تعلم منها في مدارس التبشير التي بها أهل أوروبة وأميركا على آسية وإفريقية، جاءت إلا قليلاً منحلة من ربقة حب الوطن وعهدة حب الجماعة، واستحكمت في كثير من أفرادها الأنانية والأثرة استحكاماً هون عليها كسرة قيود الحكمة والخروج على الأدب الصحيح. وقد اشتهر بعض هذه الطائفة بمعاداة الدينيين والأعيان، والإزراء بسائر الطبقات وأكل الحسد والحقد قلوبها، فهي لا تتحاب بينها ولا تحب غيرها، ولا تعرف من محيطها أكثر مما يعرف الدخلاء. شمخت بأنوفها، واحتقرت كل من لم يجر على مثالها، ولا تثقف تثقيفها. ومنهم من دفعه ما لقفه من تربية وحصله من تعليم ناقص، إلى خدمة الغريب، والفناء في محبته والدهشة بكل ما يأتي على يده وقبول كل ما حمله من خلق وثقافة والتغني بتاريخه ومجده والتغزل بجمال بلده والإعجاب بأوضاعه، أخذ كل ما أعطاه شاكراً مغتبطاً، فخرج بذلك عن قوميته، وكثير منهم هجر بلده، إلى مكان ينبت بزعمه العز ويدر أخلاف الرزق.

ومنهم من تعلموا في مدارس الدولة المنقطعة وتخلقوا بغير أخلاقهم، وانحلوا زمناً من قوميتهم فلا يفكرون ولا يتكلمون إلا بالتركية، ولا يكتبون إن كانوا ممن يحسبون الكتابة إلا بالتركية. فلما تبدلت الحالة السياسية بعد الحرب العامة دفعتهم الضرورة إلى ادعاء العربية وكانوا من قبل يعقونها وهم من أبنائها، زاعمين أنهم تبدلت أخلاقهم بمجرد الانتقال من دور إلى دور. وليست الأخلاق بدلت تنزعها، ولا طلاء تزيله وتستبدل غيره به. ولما كان معظم من تعلموا هذه العلوم في العهد السابق من أهل الطبقات النازلة في أصولهم، كان الموروث ولهم والمائل فيهم من الأخلاق مثلاً من أخلاق أهل جرثومتهم، ولذلك هان عليهم ويهون في كل دور أن ينزلوا عن مشخصاتهم لأول طارئ. وهذه الفئة مضرة بأخلاقها أكثر من الجهال لأنها تعلمت تعليماً ممسوخاً ظنته كل شيء. ومذ فارقت المدارس التي تفاخر بأنها تحمل شهاداتها، وكثيراً ما نال شهاداتها المتوسط الغبي، ظنت أنها قبضت على قياد العلوم وودعت الكتب فصارت ترجح القهقري في معارفها الأولية وتجلت أخلاقها في كل ما عانته من الأعمال، فكانت إذا وسد إليها أمر تلتهم الأخضر واليابس، وإذا بدا لها طمع تهزأ بالفضائل إذا لم تجلب لها السعادة التي تتصورها. رأى المجتمع من سقوط الأخلاق في بعض أهل هذه الطبقة ما تندى الجباة من تسجيله: رأى منهم من يقول ولا يخجل أنه إذا قيل لهم: إن الحالة الحاضرة ستتبدل بعد عشرين سنة يفكر مذ الآن في أمر راتبه الذي قبضه من سلك ما كان يحلم أن يحشر في جمله أهله، ويقول أبداً: اعذروني إذا خدمت أغراض كل صاحب قوة كما يشتهي، وإذا كنت آله في كل ما يحب. هو غني الجيب فقير النفس. جاهل يحشر نفسه في العلماء، والطبيعة تضعه حيث تريد. ومنهم من جعل رأس ماله في مصانعه ولاة الأمر مهما كانوا والتقرب إليهم بكل حيلة، لينال مظهراً يظهر به، لاعتقاده واعتقاد كثيرين أن الشرف كل الشرف في التقرب من الحكام، وأن كل مجد جاء من غير طريقهم لا وزن له إذا نصبت الموازين، وهؤلاء المتصدرون أسوأ مثال لمن حولهم.

يحبون إليهم الاتكال وضعة النفوس، وكأنهم يقولون: إن سبيلهم لا غيرها في سبيل الفلاح والتمجد، وأن الفضائل لا شأن لها أمام المغانم. وأن العلم لا ينفع بغير تدليس، والطريق المسلوك عندهم طريق المداجاة والمحاباة، وإتقان المؤامرات والسعايات. ومنهم أناس ظنوا وبالسوء ما ظنوا، أن السعادة مناط القحة، والسعادة هي المال، والمال محلل أخذه من كل وجه، فتراهم يرتكبون كل شأئن من العمل ليجمعوا مالاً ويعددوه ويستمتعوا بمتع الحياة، فهم حراص على كل ما يوصلهم إلى غايتهم، سلاط في التسور على مقامات أهل الفضل، يصمونهم بكل كبيرة وينبزونهم بالخفة والرعونة. جوزوا لأنفسهم السرقة، لأنهم لا مأرب لهم في غير الإثراء، وجمع المال جماع المزايا في نظرهم. احتقروا الشرائع عليهم بتبديل مذهبهم والتقرب إلى أهل كل دين وطريقة بدينهم وطريقتهم. ولو أنصفوا لعدوا لصوصاً عارفين باللصوصية، واللص يسرق خفية من طريق واحدة قد يكون فيها مكرهاً ليطعم نفسه وعياله، وهذا يسرق جهرة من كل طريق ويزيد على لؤم طباعة تبجحاً بالمبادئ والشرف والأمانة، ومن الغريب أن يرى حتى من الأذكياء من يجلونه أو يغالطون أنفسهم في انحطاط أخلاقه وهم يعرفونها، ورحم الله شاعر مصر إسماعيل صبري حيث قال: غاض ماء الحياة من كل وجه ... فغدا كالح الجوانب قفرا وتفشى العقوق في الناس حتى ... كاد رد السلام يحسب برا أوجه مثلما نثرت على الأج ... داث ورداً إن هن أبدين بشرا وشفاه يقلن أهلاً ولوأد ... ين في الحشا لما قلن خيرا ومنهم أناس ورثوا عن آبائهم استحلال آكل السحت والعبث بحقوق العباد. فلما تلقفوا القشور اللازمة لهم في المدارس التي سموها بالعليا ومرنوا على النفاق والباطل ومردوا على آداب الأديان وخرجوا عن أوضاع المجتمعات، جاءوا سراقاً يسكنون القصور، وعاشوا طول حياتهم في ذل النفوس، يجمعون بين المنازع المختلفة في وقت واحد علماً بأن إحدها لابد أن تكتب له الغلبة، فإذا نجح كان لهم حظ من نجاح أهله، وإذا أثمر الآخر لم تفهم خيراته، جعلوا

بيوتهم للخمر والقمر أندية ومسارح، وفطموا نفوسهم إلا عن إشباعها المال الحرام. وهم بأصحاب الملاعب أشبه منهم بالمتعلمين أصحاب المراتب، وإذا دخل الغر حانتهم وفيها كل مفعول جائز هلن عليه انتهالك الحرمات، وإذا عاشرتهم تعلم في بؤرتهم من التزوير والتغرير ما يعاب به الحيوان فضلاً عن الإنسان. ومنهم من ورثوا التذبذب من بيوتهم وأخذوا الدس والوقيعة بالسند المتصل بآبائهم، وكان قصارهم أن يحزوا مناصب تمكنهم من المتاجرة بحقوق الناس ودمائهم، ليتأثلوا وينفقوا في السفه ما تألثوه، فهم لا يستنكفون عن التقرب من أصحاب الشأن بكل ما لديهم من الوسائط، ويبسمون لعامة أصناف الناس بل ويصانعونهم على الجملة يعرف كذب مصانعه، ومع هذا يمضون في طريقهم وهم لا يحبون أحداً ولا يحبهم أحد. ونزع عقيدة عرفوا بها أمس، لتقلد غيرها اليوم، أسهل عليهم من نزع أحذيتهم وقمصانهم. قضوا أعمارهم في نصب الحيل والمكايد، لا يلذهم من دنياهم غيرها، وأكبر أفراحهم يوم يغشون ويسري في الناس غشهم، كأن المدرسة التي تعلموا فيها لم تعلمهم غير ذلك. ولكن هي الفطرة إذا فسدت فكل خير يأتيها يكون عارضاً عليها، تنبذه ولا تسيغه. ومنهم أناس عرفوا منذ قبضوا على زمام أعمالهم بسلب نعمة الضعيف ومحاولة التقرب من القوي نبذتهم الطبيعة أولاً، ثم عمي الدهر عنهم فبلغوا مأربهم من المراتب، ولم تسعهم جلودهم يوم شاهدوا العز بعد الذل، فظهروا في مظاهر من الكبرياء والعظمة، ومن أين للسافل بأصله أن يكون في فرعه عالياً. حصروا هممهم في العبث بالمصالح العامة، يفكرون بغير إملاء جيوبهم، والدهان لسادتهم مهما كانوا، وتوفير المنافع لمن يحف من حول عروشهم، وإن كانوا من أحد الطبقات معرفة وأخلاقاً. وقد رأينا من هذه الطائفة من يغير سيرته في السنة الواحدة مرتين، ويدخل في آن واحد في عدة أحزاب وجمعيات سرية وجهرية، يقسم لكل واحد منها اليمين الغموس، معاهداً طائفة على الإخلاص لطائفتها وحزبها وطريقتها دون غيرها، وهو لا يتوقع من هذه المرونة المستغربة إلا أن يكون له شأن مع كل

حزب إذا كتب له الظهور. ومن هذه الفئة أُناس لا يهنأُ لهم بال إلا إذا اغتنوا، فلما انتفخت صناديقهم بالوًرَث والوَرِق، ضيقوا حتى بنيهم وبناتهم لئلا يسرفوا في أموالهم، فاضطروهم إلى ارتكاب كل شنعاء، أما هم فعادوا يدعون الفاقة، فتراهم لا ينفقون إلا ما يحفظ عليهم مظهرهم، ويوصلون إلى مراميهم، كأن الدينار جعل للخزن فقط، والسعيد من يجمعه ولو لم يستمتع بع حياته. ويخلفه لمن هم عليه أشداء الأعداء، ويصرفونه في العهر والخمر والزمر والقمر. ولو أنصف هذا الظهور له أيضاً إن تاقت نفسه إلى الظهور. ومنهم طائفة تصلي وتصوم، وتلزم المساجد ودروس الوعظ، وتتظاهر بالدين، وتتقرب إلى حملة الشرع وأرباب الصلاح لا تُفلت السبح من أيديها، تتظاهر بأنها تذكر اسم الله في غدوها ورواحها، وهي في باطنها من أشد الخلائق عداوة للإنسانية، تقول بألسنتها ما ليس في قلوبهم، ولو كشفت عنها الغطاء لأيقنت أنها نمن الشفقة بحيث لو شاهدت صغاراً يتضورون جوعاً ما أطعمتهم فتات موائدها، ولو بَصُرت ببائسين يرتعدون دنقاً وعرياً ما كستهم بلاس بلاط ولا زودتهم حثالة مطابخها وأهرائها، وإذا وقع لها أن أكرهت على نجدة بائس نؤوف تبجحت بما أتت، وقامت تومئ بلسان الحال إلى أنه لولاها لنهار بناء الأمة وتداعت صروح مجدها، وتوهم أساليب غريبة مضحكة. ومنهم أناس إذا عرفتهم في العهد الماضي عرفتهم بعجمتهم التي لا غبار عليها، وهم ما كانوا يجوزون لأنفسهم التكلم بلغتهم الأصلية، فلما تبدلت السياسة تبدلوا لساعتهم، وصاروا لغير ما سبب معقول حرباً على من كانوا بالأمس يتمنون رضاهم، وأخذوا أنفسهم وأبنائهم بتعلم لغة من جاءوهم، وغيروا عاداتهم ولهجاتهم، وأنشئوا يستخدمون كل الطرق للاحتفاظ بكراسيهم، حتى إذا جلسوا عليها نسوا فضل المفضلين عليهم، وقد عاهدوا أنفسهم أن يخدموا كل صاحب قوة بالصورة التي تروقه مع

ذكاء فيهم وتجربة أحرزوها فهان عليهم أن يبيعوها مقابل عرض قليل ومظهر ضئيل. التجسس فيهم فطرة والإزراء بالقومية والوطنية من مألوفاتهم ما أساءوا استعمال ما ائتمنوا عليه إلا ليغتنوا بطرق عرفوها، ويغنوا أبناءهم ولو كان في ذلك هلاك مئات من الناس. ومنهم أُناس كانوا في أخذ المال كالعلقة يمتصون الطاهر وغير الطاهر ثم يفيضون منه على القانع والمعتر، ويطعمون الطعام ويكسون الأيتام. ومنهم من جمعوا العشرات الألوف ومئات الألوف ولا تجود أنفسهم بدانق لتعليم أطفال الفقراء وإنجاد البائسين وإكساء العراة. وإذا تصفحت جرائد الجمعيات الخيرية التي قامت في العهد الأخير لتعليم اليتامى وإغاثة المحاويج، ولا تسقط فيها إلا نادراً على أسماء بعض أرباب السعة، بمعنى أن هذه الطبقة كانت أقل الناس في معاونتها. والطبقتان الوسطى والنازلة هما اللتان جمعتا الدرهم فوق الدرهم، اقتطعتاه من رزق عيالها، لتطعما به من هم أجوع منها، وتنشل من السقطة من هم أكثر سقوطاً من بينها. وفي هذه الديار عشرات من الأغنياء يدمجون في سلك الأعيان يعتزون بأموالهم، ويضنون بها كل الضنانة، اللهم إلا إذا كان في صرفها إرضاء شهواتهم، وتوفير أنواع رفاهيتهم. وإذا أشير إليهم أن يشاركوا في المصالح الوطنية لووا وجوههم، وهزءوا في باطنهم بهذه الأعمال التافهة، حتى إذا حلت بهم مصيبة أخذوا يستنجدون ولا ينجدون، ويطاقون ألسنتهم في رجال كانوا بالأمس يقدسونهم، وأنهّى للأمة أن تعرفهم أيام شقائهم، وهم لم يتعرفوا إليها أيام سعادتهم. وهذا وهم أنصار كل حكومة تسوغهم أكل حقوقها وحقوق الضعفاء، وتطلق أيديهم في ظلم الفلاحين والمغفلين، وتعاونهم في محاكمها على فض قضاياهم بما يتفق مع رغائبهم، وتوسد إليهم أمورها المنتجة لهم مالاً وجاهاً. في هؤلاء الأعيان رجل كان عنده من أدوات الزينة والتبرج ما يساوي المئات من الدنانير، وربما كان ثمن ربطات رقبته المعمولة من الحرير لا يقل عن ألف جنيه، لأن عددها كان ألفي ربطة معروضة في قاعة كبيرة وكنت إذا أردته على أن يبتاع جريدة ليقرأها شكا إليك ضيق ذات يده،

وأظهر أن القراءة مما لا تسمح له به أوقاته الثمينة، وكان يدفن أمواله في الأرض حتى لا يظهر عليها الناس إذا وضعت في المصرف، فظهر ألوف بعد أن أصيب بنكبة اضطرته إلى نبشها. وبلغ الشح ببعضهم أنه كان يطعم خدامه وأولاده طعاماً غير ما يطعمه نفسه وزوجه، ويدعى مع كل من يجتمع إليه أنه فقير مملق، لا طاقة له على تحمل شيء، فلما اضطر إلى الكشف عن دفائنه كانت ألوفاً عدا ما يسلفه بالربا الممقوت أضعافاً مضاعفة وعدا مزارعه وحدائقه. ومن الغريب أن يتطوع مثل هذا الرجل الذي رد إلى أرذل العمر في الجاسوسية وهو يتظاهر بالتقوى. وأكثر هؤلاء الأشحة يظهرون في العامة بمظهر المتصدقين والمحسنين، وكأن تجود نفوسهم ببعض دريهمات لبعض المستكدين على رؤوس الأشهاد، ليقال عنهم إنهم أهل خير وصلاح. وهناك رجل يكذب على قومه طول حياته الطويلة، بنسبه وعلمه وتقواه، فلم يعدم ضعاف العقول من صدقوه في دعاويه، وعاش بمداهنة الناس وبلغ من ثقة القوم به أنه إذا حانت منية أحدهم، يلوب على من يأتمنه على أولاده بعده، فلا يجد غير هذا المزوّر يقيمه وصياً على عياله لما اشتهاه من أمانته بين السذج في كل دور، فلا يلبث مال الموصي أن يمزق بيد الوصي. وهكذا كان هذا الدعي بعد نصف قرن من المشار إليهم المجمع على تكريمهم، وقد عرف أيام تنولي القضاء بتبرئة المجرم وتجريم البريء. ومن العجب أنه لم يسأله أحد من أين جاء بثروته، والعادة على الأكثر أن لا يسأل الغني عن طرق غناه بل يتمسح به ويتبرك بأنفاسه، ولو كان لا ينزل منه عن قطمير لأحد. ظهر الكثير من العامة في حوادث وقعت بمظهر الغيراء على المصالح الوطنية، وأبانوا عن حمية وأريحية ما كان يرجى صدور مثلما من أرباب الطبقة العليا، ولا ممن اعتادوا أن يجعلوا من الأديان سلماً إلى درك شهواتهم، وقام من صفوف الأميين وأهل المتربة أُناس جعلوا هدفهم ما اعتقدوه حقاً نافعاً مخلصين في أقوالهم وأفعالهم، معتقدين الخير فيما بذلوا أنفسهم ونفائسهم في سبيله. وتجلى النبوغ في أفراد منهم بحكم قانون الرجعة، فأثبتوا في الشدائد بهذا الشرف المغيب أنهم ربما كانوا من سلالة عظماء أكارم. وهناك أُناس ظاهرهم مهذب براق أثروا

امتهان النفس في أخس الأعمال مقابل عرض ينالونه أو إقبال يتخيلونه، فارتكبوا كل ما يورثهم عار الأبد، فكان ظاهرهم مجملاً، وباطنهم خبثاً وخديعة، يفادون بكل ما ليس لهم فيه مصلحة، ويداجون كل من يلقاهم بما يريد، ولعلك على حق إذا قلت إن صيغ الكلام تضيق عن وصف أفعالهم. فهم ممن حُبب إليهم من دنُياهم أذى القريب لا ينامون ملء جفونهم إلا يوم يوقعون بأصحاب الشرف والمروءات. وما لنا والإكثار من ضرب الأمثلة بفئة هي معقد الآمال في الإصلاح وهي لم تكد تحقق رجاء إلى الآن، وليست في أخلاقها مما يرغب المرء كثيراُ في تكثير سوادها، لأن منها من تجرد من معنى الحق والصدق. ولو حللت نفوس أكثرهم تحليلاً دقيقاً لرأيتهم أعرف الناس بالمدخل والمخرج وأعراهم من أكثر الفضائل الكسبية واللدنية. ضعف عطفهم على جنسهم وهان عليهم أن يبيعوا وجداناتهم لمن يضمن لهم مظاهرهم. فهم أبداً سلاح الغريب على القريب، وهم يده الباطشة وأظافره الخادشة. ولطالما نضب حلم أرباب الحلوم من تلاعب أُناس استناروا بقبس العلم الحديث، يتهارشون على أبواب جمعية مدنية وهم في الحقيقة لا يهمهم من دعوتها إلا أن يحموا بسلطانها سلطانهم، ويستروا في حمى كهفها معايبهم، ومن الغريب أنه لا يكاد يرقى في درجاتها إلا من عرفوا بالاسترسال في حظوظهم، وكانوا من الممقوتين في العرف والعادة، وهذا وقانون الجمعية شديد في التسامح مه أمثالهم، ولكن كل قانون ينصبغ بصبغة محيطه، وما دام المحيط على ما ترى فلا بدع إن بعد هذا أعظم قانون سماوي أو أرضي في حكم العدم. ولا يفوتنك أن الطبقة الوسطى في ديارنا هي التي تتمثل فيها الأمة حقيقة لا مجازاً ويكثر فيها الخير ويقّل فيها الشر، وهي التي تقوم بجلب المنافع ودرء المضار، وتعيش في خوف الديان، وتهتم لسعادة الأوطان، وهي في الغالب محدودة بعقول أبنائها، وكثير بما يتم على أيديها من الخيرات باجتماعها، وهي التي تفكر وتقدر وقد قام كثير من الأعمال النافعة بصنيعها ومن وضعها. فيهم الصبر وفيهم الأناة وفيهم الرحمة، وخسيسهم أقل من رفيعهم، هم قوة الظهر

في جيش الأمة بل في طليعته المتيقظة. السخاء مغروس في أكثرهم والمروءة والوفاء غريزتان يورثهما الآباء لأبنائهم، وهم يبعدون عن أرباب السلطات دأبهم التوفر على صناعتهم وزراعتهم، وقلما تحدثهم أنفسهم أن يتخذوا بديلاً عن عمل عاناه آباؤهم وأجدادهم. الأخلاق التي تعبث بالفضائل هي التي رسخت في بعض العلية من أهله وشهد الله أن هذه الأمة لا تشكو قلة علمها بقدر ما تشكو ضعف أخلاقها، وإذا أخذت المطامع البشعة من قلوب دعاة الإصلاح وحماة الحوزة كيف يوجه اللوم على من كان دون طبقتهم؟ ومما يسوء أن كان أقرب الناس إلى إدراك معنى الفضائل أسرعهم إلى عقولها وانتهاك حرماتها. وإذا كانت في الطبقة الوسطى هناك لا تخلو منها إنسان فهي كالعوذة يتقي بها شر الحاسد، ويصان بها جمال المكرمات والمحامد، وقلما يخلو بشر من عيوب صغيرة ضررها على صاحبها وحده. أكثر ما تعاب به هذه الأمة عصيانها على الأنظمة والشرائع لا تُطبق منها إلا ما لا يمس بمصالحها الخاصة، فإذا كان في بعضها ما يخالف الشهوات والأغراض خرجت عليها وحاربتها والمهيمنين عليها. ولذلك صعبت هنا في كل قرن مهمة المصلحين في إصلاحهم لقلة الثبات وونى تاهمهم. فقد يسرع بعضهم في التصديق خصوصاً إذا أحسنت الدعاية بادئ بدء ولكنهم سرعان ما ينقضون العهد. ومن أضّر ما يضر هذا الشعب أنه قلما يخضع للزعيم خضوعاً حقيقياً تقرأُ معانيه في حركاته وسكناته ولو كان الزعيم في الغاية من حسن الأخلاق وإرادة الخير لها. وهذه أخلاق العرب بعينها أفرطوا في حب حريتهم فحاول الصعلوك فيهم أن يكون وجيهاً فسارع الانحلال إلى دولهم بالطبيعة وظهر التخبط في إحرازهم الرياسات منذ فجر الإسلام. وظلت هذه الأخلاق متسلسلة في دمائهم. وقد يريد الطامع في شيء أن تنقلب الدولة رأساً على عقب، وتنتقل ولو إلى عدوه، على أن يتولاها قريبه الذي لا يحبه وأن يهلك في الحمم والنيران المستعرة فريق عظيم من قومه إذا كان له من هذا الحريق ما يشوي به سمكته. وأنت إذا حللت روح الشاميين تراهم فرادى لا يقلون كثيراً عن

غيرهم من الراقين، وإذا جئت تحللهم جماعات فهنالك التفسيخ في القوى والانحلال في الروابط. والشاميون إذا اجتمعوا تخالفوا عادة على الرياسة والتصدر، وتباينوا في الفكر والاجتهاد، لأن الذكاء غالب عليهم، وحب الذات مستحكم في شغاف قلوبهم، وكل واحد يريد أن ينفذ قوله ولو كان مغلطاً، وإذا لم يوافقه رفقاؤه على ما ارتأى عاداهم وربما آذاهم، كأن الاختلاف في الاجتهاد يستلزم العدواة والسخيمة. فلا تستغرب بعد هذا إن أصيبت أكثر أعمال الجماعات عندهم بالشلل والفشل ومنها ما يموت كالجنين في بطن أمه قبل أن يتمثل بشراً سوياً. وقد ينشئ غير المسلمين الجمعيات والمجامع ويحالفهم النجاح أكثر من غيرهم لأنهم على تربية متقاربة وعلى تكافل ودؤوب في الجملة. وما ندري لعل العامل في هذا النجح الضرورة التي دعا إليها تماسك الصغير أمام قوة الكبير، على حين ترى أن هذا الكبير لا يحسن على الأغلب إلا الإدلال بقوته الموهومة والإعجاب بماضيه يقف عند حده، ولا يعرف أن يبرهن على العظمة الغابرة بسداد أعماله الحاضرة. ومن عيوب السواد الأعظم أن الهزل يغلب عليهم، والجد قليل فيهم، يحبون المداعبة والهزل واللهو، ويسوء بعض اللئام أن يروا في قربهم من يجد. يهزءون بمن يعملون وهم لا يعملون ولا يعرفون كيف يعملون، فسبيلهم سبيل العاطل والمعطل. ومن عيوبهم أنهم لا يصدقون صاحبهم لأن سوء الظن غالب عليهم، وهذا ولو جاءهم مستنصحاً مسترشداً، لأنهم أميل إلى المصانعة لا إلى الصدع بالحق، وأقرب إلى أن يرضوا جليسهم ويسكتوا أمامه عن هفواته، وربما التمسوا له في حضرته المعاذير حتى إذا غاب عن عيونهم نحتوا أثلته وعابوه بما قد لا تلزمه تبعته. ومن أجل هذا تأصلت في القوم عادات وأخلاق كان يتأتى نزعها لو كتب لها من ينقدها وينكرها غير مدالس ولا موالس. فالنعومة الظاهرة التي تشاهد في بعض الشاميين يحتاجون معها إلى شيء من الخشونة والقسوة. كانوا في الأيام الماضية إذا أرادوا الحط من شخص سلبوه صفاته واتهموه بالمروق من الدين وربما أوصلوه بهذه التهمة الشنعاء إلى ضرب عنقه، وهذا من بعض الأسباب في قلة النوابغ في القرون المتأخرة. واليوم

نشأ لهم زي جديد من أزياء التهمات يلبسونها من لا ترضيهم حاله، أضافوا إلى من يحاولون النيل منهم تهمة المروق من الوطنية كأن الوطنية ما هم فيه من الختل والتخاذل وطلب الظهور بقاصمة الظهور. ويا لشقاء الدين والوطن كم اتجر بهما متاجرون في الغابر والحاضر. ومن تدبر أحوال هذه الطائفة بأدنى نظر أدرك أن كل من يتبجحون بهذه الدعاوى هم أول من يدوس كل مقدس لبلوغ غرض حقير. والدواء الناجع في مداواة هذه الأخلاق هو أن يكون للصغار مدارس وطنية متقنة تلقنهم العلم الصحيح والأخلاق الصحيحة والقومية الصحيحة. أما الكبار الذين اشتهروا بسوء القالة فيقاطعون ويتجهم لهم العقلاء في كل أفق، لا يدنونهم من مجالسهم مهما بلغ من سلطانهم وجاههم ومالهم. فأن من السخف التلطف مع الأشرار في المحضر، والتهامس في قبيح سيرتهم في المغيب. يجب أن يناقشوا الحساب ولا يؤمن لهم على خطاب والمؤذي طبعاً يقتل شرعاً. سيقول فريق ممن يقرءون هذه الصفحات: أنها أغرقت في وصف أخلاق الطبقات وفضحت ما كان مكنوناً لا يعرفه إلا أرباب البصيرة، ونحن في زمن أحوج ما نكون إلى السكوت عن المعايب حتى لا يبدو عوارنا لغيرنا، كأن غيرنا لا يعرفنا أكثر مما نعرف أنفسنا. وكان الأولى في عرفهم أن نجامل ونجمجم، بيد أن السكوت عن العيوب عيب كبير، وكتمان العلة مدرجة إلى الهلكة، والتاريخ لا يكتب على الهوى ولا يملئ لإرضاء الناس. وما نخال منصفاً بصيراً إلا ويعترف وهو مثلنا جد آسف أن ما أصاب هذه الديار من المصائب منذ عهد طويل لم يكن إلا بسوء أخلاق من تولوا من أبنائها أمرها، وأنه من المستحيل بعد أن صرح الحق عن محضه أن تؤلف الشام كياناً يذكر وتقوم في ساحة الحضارة البشرية بعمل يشكر، ولو أوتيت علم الجرمانيين واللاتينيين، ورزقت غنى الإنكليز السكسونيين، ما دامت أخلاق أهل الحل والعقد فيها لا تعالج بالتقويم، ولا يحاول القضاء على مواطن الضعف من نفوسهم وعقولهم. والساكت عن الحق شيطان أخرس. فصلته لكن على عقلي فما ... مقياس عقلك كان لي معروفا

حياة محمد كرد علي

حياة محمد كرد علي مؤلف خطط الشام ترجمته بنفسه أصل أسرتنا من السليمانية تنسب إلى الأكراد الأيوبية، جاء جدي إلى دمشق في التجارة وكان من أهل اليسار فراقته وسكن فيها. ثم ذهب في بعض السنين إلى الحجاز متجراً، واتفق له أن انتقد ذات يوم عملاً من أعمال محافظ الحج، وكان ظالماً جباراً، فشق ذلك عليه، وأمر بمصادرته في كل ما يملك، فاضطر أن يذهب إلى الآستانة مستعدياً. وما زال يعمل الوسائط حتى اجتمع بالسلطان، واقترح عليه هذا أن يصرف النظر عن دعواه على محافظ الحج، ويأخذ مقابل ماله قريتين في الشام إقطاعاً له ولأولاده من بعده، فأبى وقال للسلطان: ما جئت لآخذ صدقة بل جئت أطلب عدلاً وأنصافاً. وهكذا رجع إلى دمشق مجرداً من ثروته وهلك قهراً بعد قليل. وخلف والدي يتيماً فقيراً فاشتغل لأول أمره في صناعة الخياطة ثم بالتجارة، فأثرى مرات وخسر مرات، وابتاع في آخر أمره مزرعة صغيرة في الغوطة تمززتها أنا واخوتي منذ صغاراً وإلى الآن. ولدت في دمشق أواخر صفر سنة 1293هـ 1876م، من أم شركسية، ولما بلغت السادسة في العمر أخذت بتلقي القراءة والكتابة ومبادئ العلوم الإسلامية والحساب والطبيعيات في مدرسة كافل سيباي الأميرية، وتلت شهادتها من الدرجة الأولى. ثم دخلت المكتب الرشدي العسكري فدرست مبادئ التركية، وكانت دروس الفرنسية ناقصة فأتاني والدي بمعلم إلى الدار أخذت عنه نحو هذه اللغة وصرفها على الأصول مدة ثلاث سنين،

وبرعت بالترجمة من الفرنسية إلى العربية وبالعكس. ولما أحرزت شهادة المدرسة الرشدية من درجة متوسطة، لأني لم أتمكن على ما يجب من الرياضيات لإصابتي بالحسر وضعف البصر - بحيث لم أكد أتبين عن بعد ما يرسم الأستاذ من أشكالها وخطوطها في اللوحة، ففاتني التبحر فيها مع الأسف - عينت مدة ست سنين موظفاً في قلم الأمور الأجنبية، فأخذت في خلالها أتقن آداب التركية. وشرعت أنشئ فيها كما أنشئ بالفرنسية، وقد اختلفت حولين كاملين إلى مدرسة اللعازاريين للاضطلاع بآداب اللغة الفرنسية، ودرست الطبيعيات ودروس الكيمياء بهذه اللغة لأزيد تمكناً منها. وقد اقتطعت مع ذلك جانباً من الوقت لدرس الآداب العربية والعلوم الإسلامية، وتلقيت اللغة الفارسية حتى حذقتها ثم أُنسيتها. وفي خلال تلك المدة اتصلت بالأساتذة الشيخ طاهر الجزائري والسيد محمد المبارك والشيخ سليم البخاري وأخذت عنهم وعن غيرهم من مشايخ الطبقة الطبعة الثانية كل ما وسعتني قراءته، من كتب اللغة والأدب والبيان والاجتماع والتاريخ والفقه والتفسير والفلسفة. وكان العامل الأكبر في توجيه إرادتي نحو الدعوة إلى الإصلاح الاجتماعي، والإقدام على التأليف والنشر، وإشرابي محبة الأجداد والتناغي بآثرهم، والحرص على تراث حضاراتهم، أُستاذي الأكبر الشيخ طاهر الجزائري، فما زلت ألزمه منذ اتصلت به إلى أن ذهب إلى ربه سنة 1338هـ حميد الأثر، وكنت بدأت بنظم الشعر فنهاني عن تعاطيه أُستاذي المبارك، وأرادني على إتقان الإنشاد فقط، وما ينبغي له من الأدوات، لئلا يشغلني الشعر بلذته عن طلب العلم. فصعدت بأمره، كما كنت قبلت نصيحة والدي، وأنا يافع، بترك الإنشاد بصوت رخيم. لأن ذلك كان يعدّ في نظره شيئاً وضيعاً كما روى ذلك عن شيخه. وهكذا حرمني والدي الموسيقى، وحرمني شيخي الشعر. ولولا نصيحتهما لعنيت بهذين الفنين، وكانا لي سلوى وأي سلوى. ولكن أُستاذي المبارك خرجني بالغة والإنشاء. ووالدي، وكان عامياً يقرب من الأمية، أنفق عن سعة ليعلمني. فكان مدة سنين يدر الرواتب على أساتذتي، وقد ابتاع لي خزانة كتب كانت تعد في ذلك العهد شيئاً في بلدتي.

وأهم ما أُولعت بمطالعته - بعد درس المطبوع من كتب الأدب العربي وجانب من المخطوط الذي عثرت عليه - كتب الفلاسفة وعلماء الاجتماع، وأصول الشعوب ومدنياتهم. وطالعت بالفرنسية أهم ما كتبه فولتير وروسو ومونتسكيو وبنتام وسبنسر وفوليه وتين ورنان وسيمون ولاقيس وهانوتو وبوترو ولوبون وبرونتيروبثي دي جولفيل ولمتر وسانت بوف، وتدارست المجلات الفلسفية الاجتماعية والتاريخية والأدبية بالغة الفرنجية. وجريت منذ نشأت على قاعدة مطردة لم أتخلف عنها قيد شبر، وهي أن أقرأ أكثر مما أكتب، وقلما دونّت موضوعاً لم أدرسه في الجملة ولم تتسربه نفسي. وعهد إليّ سنة 1315هـ. بتحرير جريدة الشام الأسبوعية فحررتها ثلاث سنين كانت مدرستي الأولى في الصحافة. وساعدتني فيها معرفة التركية والفرنسية. ثم دعيت إلى المؤازرة في مجلة المقتطف المصرية أكبر مجلاتنا العربية. فنشرت فيها أبحاثاً جمة في التاريخ والاجتماع والأدب مدة خمس سنين فبدأت لي شهرة في عالم الأدب العربي لمنزلة هذه المجلة إذ ذاك بين أبناء اللغة العربية، وكثرة من تقع تحت أنظارهم من العلماء والأدباء والباحثين. وفي عام 1901م هبطت مصر للسياحة بقصد الذهاب إلى باريز للدرس، فعرض علّي صاحب جريدة الرائد المصري نصف الأسبوعية أن أُحرز في جريدته، فلبيت الطلب متكارهاً، إذ كانت عاقتني عن العودة إلى الشام أمور قام بها المشاغبون المتجسسة في دمشق. واتهموني تشفياً بأمور هي من المحرمات في عرف الحكومة العثمانية، ثم رجعت إلى بعد عشرة أشهر. ومن أعظم ما استفدته من رحلتي هذه الأخذ عن عالم الإسلام والإصلاح الشيخ محمد عبده وحضور مجالسه الخاصة والعامة. وفي شتاء سنة 1323 فتشت الحكومة العثمانية داري في دمشق بحجة أنه علقت مناشير في شوارع البلدة مكتوبة بلغة سلسة، وفيها مطاعن في أحد الأعيان والوالي، ومثل هذه العبارة وهذه الأفكار لا يحسنها ولا يعرفها غيري! فظهر للحكومة افتراء المفترين واكتفت بأن شردتني أياماً عن داري. وفي هذه الوقعة نظم صديقي العلامة الأمير شكيب أرسلان قصيدة ارتجالية يداعبني بها، ويصف ما حل بي مجسماً قال سامحه الله:

ألا قل لمن في الدجى لم ينمْ ... طلاب المعالي سمير الألمْ ومن أرّقته دواعي الهوى ... فدون الذي أرقته الحكم فكم في الزوايا تخبى فتىً ... طريد الكتاب شريد القلم يرى الأرض ضيقاً كشق اليراع ... ويهوى على ذا الوجود العدم وكم ذا بجسرين من ليلة ... على مثل جمر الغضا في الضرم تمنى الأديب بها ندحة ... ولو بات يرعى هناك الغنم وكم سروة تحت جنح الظلام ... كسرًّ بصدر الأريب انكتم يخاف بها حركات الغصون ... ويخشى النسيم إذا ما نسم وإن تشدُ ورقاء في أيكة ... تؤرقه في صوتها والنغم وكم بات للنجم يرعة إذا ... أديم السما بالنجوم اتسم وطال به الليل حتى غدا ... يظن عمود الصبح انحطم ومن ذعره خال أن النجوم ... لتهدي إلى مسكه عن أمم إذا ما السمك بدا رامحاً ... توهمه نحوه قد هجم ولولا الدجى لم يتم النجا ... وقد أمكن الظلم لولا الظلم ولله در القرى إذ خفته ... فما بالسهولة يخفى العلم فجسرين زبدين والأشعريّ ... ديار بها قد أوى واعتصم ونحو المليحة رام الخفا ... وكم بالمليحة من متهم ديار أبي أهلها غدره ... وآواه فيها الوفا والكرم ولا شك رقوا لأحواله ... طريداًيعاني الجوى والسقم ليالي كانون في الأربعين ... وبرد العسيات أغلى الفحم بأرض تراها سماءً وماءً ... ففوقالسواني وتحت الديم يجول وقد صار مثل الخيال ... ودقّ فلو لاح لم يقتحم فوق الخدود كلون البهار ... وتحت المىقي كلون العتم وفي كل يوم سؤال وبحث ... وأنّي تولي وكيف انهزم وقد كان في كسبهم بيته ... بجلق قال وقيل عمم فكانت على كتبه غارة ... كغارات عرب الصفا بالنعم وقالوا سينفى إلى رودس ... وقالوا سيجزى بما قد جرم

وقالوا سيحمله أدهم ... وقد فيل فزان من دونه=وتلك السموم وتلك الحمم وبعض بسجن عليه قضى ... وبعض بضرب عليه حكم وكرد علي غدا عبرة ... ففات ومنه الرجاء انصرم فيا كرد لا تحزننك الخطوب ... فإن الهموم بقدر الهمم ومن رام أن يتعاطى البيان ... توقًّع أن يبلى بالنفم فذي حرفة القول حرّيفة ... وكم أدركت من لبيب وكم وكم نكتة أعقبت نكبة ... وكم من كلام لقلب كلم ومن بالكتابة أبدى هوىً ... فإن الكآبة منها القسم فيا كرد صبراً على محنة ... فكم محنة شيبت من لمم وصبراً على ورقات لها ... عيون المعاني يُبًكذين دم وواهباً لباقات زهر غدوت ... لها جامعاً يا أخي من قدم أزاهر تسهر في جمعها ... فلا غرو إن فاح عرف فنم وما نمَّ إلا بنشر ذكي ... وطيب يفوق عرار الأكم فقولوا لواش بكرد علي ... نشرت الثنا حين حاولت ذم الخ كان التضييق علي في الشام يزيد كما استفاضت شهرتي، والشهرة حقيقة كانت على صاحبها آفة في الدور الحميدي، فرأيت بعد طول التأمل أن المقام فيه عبثاً، فأخذت بالاستعداد للهجرة إلى مصر لأصدر مجلة المقتبس، فأصدرتها في أول سنة 1324هـ، وتوليت معها رئاسة تحرير جريدة الظاهر اليومية، وبعد سنة عينت أمير سر تحرير جريدة المؤيد. والجرائد ثلاث التي توليتها في مصر هي الرائد المصري والظاهر والمؤيد وكانت من الصحف التي تصدع بالوطنية المصرية، وتنتقد سياسة المحتلين، ولذلك كثر أصدقائي من الوطنيين لالمصريين، فعددت بهم مصر وطني الثاني، وكادوا هم يعدونني منهم. وقد آزرت في مجلة العالم الإسلامي الباريزية التي ما زالت تصدر في باريز باللغة الفرنسية إلى عهد قريب. حتى إذا حدث الانقلاب العثماني 1908م رجعت إلى دمشق وأصدرت في 17 كانون الأول

1908 جريدة المقتبس يومية سياسية، بعد أن صدر المقتبس ثلاث سنين في القاهرة مجلة شهرية علمية، وعدت إلى إصدار المجلة أيضاً. وكان المقتبس السياسي معتدلاً بلهجته، وطنياً بمسلكه، ينتقد ما يمكنه نقده من مواطن الخلل في الإدارة العثمانية، وما رمى إلى وما رمى إلى الانفصال عن الترك قط، بل كان يرمي إلى استحصال حقوق العرب ضمن الجامعة العثمانية الكبرى، فلم يرق هذا أيضاً بعد رجال الدور الحميدي، وأخذوا يقاومون المقتبس وصاحبه، ويقيمون عليه الدعاوى المزورة، يصدرها الظالمون المرتشون من الموظفين، ممن دأبنا على الكيد لهم، والعمل على تنحيتهم، حتى جاء زمن وعلى المقتبس عشرات من الدعاوى، يطلب فيها أصحابها جزاء المفتري على الأكثر، لأنهم أبرياء بزعمهم مما نسب إليهم. ومن أغرب دعوى الوالي الحميدي على في السنة الأولى اتهامه إياي بالارتجاح، أي أرجاء عهد عبد الحميد الاستبدادي، وهو الدور الذي بكيت من أهواله، وقد هجرت الأهل والوطن فراراً من كابوسه، ولكن أعمالي في خدمة الحرية سنين طويلة، كذبته وأشياعه من الحميديين الاتحاديين. وقد اضطررت في هذه الدعوى إلى مغادرة الشام، فركبت البحر إلى فرنسا، وأخذوا الوالي يهدد القضاء بالعزل إذا لم يحكموا علي بالجباية، وصرفت الوقت في باريز أدرس مدنيتها وأستفيد من لقاء علمائها وساستها، ووقفت وقوفاً حسناً على حركتها العلمية والسياسية، وذلك بواسطة جماعة من أصدقائي علماء المشرقيات، عرفوني إلى الطبقة العليا التي أردت التعرف إليها في عاصمة الفرنسيس، وفي مقدمتهم فيلسوف فرنسا المرحوم إميل بوترو. وقد سألته أن يكتب لي جريدة بأمهات الكتب التاريخية والاجتماعية والأدبية والاقتصادية، فتفضل وكتب لي ما أردت، فابتعته وطالعته كما مطالعة درس، ولا أزال إلى اليوم أجل تلك المجموعة المختارة سلوتي في خلوتي وجلوتي. كتبت خمساً وثلاثين مقالة ومحاضرة في وصف سياحتي، ولا سيما في وصف عاصمة فرنسا، وطبعت هذه المقامات في كتاب سميته غرائب الغرب وما كان في الحقيقة إلى غرائب باريز ليس إلا. وبعد أن أقمت ثلاثة أشهر في كارتيه لاتين بباريز عدت إلى الآستانة عن طريق فينا

مبرأ مما نسب إلي. وفي سنة 1912 أقام نفس الوالي الحميدي دعوى على المقتبس وقبض على مديره المسؤول المرحوم أخي أحمد، وأخذ عالماً من علماء المدينة اسمه الشيخ إبراهيم الأسكوبي، وأرسلهما إلى الآستانة فسجنا مدة، وذلك بتهمة أن المقتبس نشر قصيدة لهذا العالم تمس الآل السلطاني. والحقيقة أنها تأوهات ونصائح، وكان نشأت في جريدة من جرائد الشام قبل أن تنتشر في المقتبس بعشرين يوماً. أما أنا فتمكنت من الفرار كالمرة الأولى، وهبطت مصر عن طريق البر مع تجار الجمال. ودخلت الإسماعيلية بعد سير أربعة عشر يوماً، قطعن فيها الشام من الوسط إلى أقصى تخومها الجنوبية. ثم برأت مما نسب إلي كالمرة الأولى، وعدت إلى دمشق بعد ستة أشهر، وعاد المقتبس إلى الصدور. إلا أن الوالي كان تمكن من إجبار أحد أخوتي على بيع مربعتن، فاباعها بثمن بخس، فأضيفت الخسارة بها إلى ما خسرناه في إغلاق صحيفتنا السياسية مرتين. ولم يعوض علينا أحد شيئاً مما خسرناه. واكتفى المقتبس إلى ذاك حين باشتراكاته وإعلاناته ومطبوعاته فقط. وقد استقبلت يوم عودتي إلى دمشق وكما يستقبل العظماء، فضحكت من تبدل الرأي العام، وبالغ بعض من استقبلوني بالحفاوة، وهم يزيدون على ألفين، كانوا يوم وقعت في الدعوة ينكرون عملي في انتقاد الحكومة، ومن قبل كانوا يصفقون ويستحسنون، وينحنون ويدعون، فلم أدر وجهاً برضاهم ولا لغضبهم، فكتبت إلى صديقي المرحوم العلامة رفيق بك العظم أقول له: إن القوم لا قوني في دمشق في هذه المرة كما يلاقون الملك. فلم أفرح لهذا الإقبال، ولا ساءني ذلك الإدبار، وعجبت لجنون من ينخدع بالجماعات الذين لا يثبتون بحال على أفكارهم. وفي سنة 1913 زرت إيطاليا وسويسرا وفرنسا والمجر والآستانة، وكتبت 33 في وصف مدينة تلك المماليك. وكان الداعي إلى هذه الرحلة الثانية البحث عن المخطوطات التاريخية التي نقل عنها بالتصوير الشمسي صوراً، الأمير ليوني كايتاني من علماء إيطاليا وعظمائها. وقبل نشوب الحرب العامة ببضعة أشهر وقف والي دمشق المقتبس، بدعوى أنه نشر عبارة في كشف الحجاب، وهي منقولة عن الصحف التركية، والحقيقة أن المقتبس

كان توفر على كشف حجاب الاتحاديين، وأصلاهم حرباً عواناً هو وأنصاره من رجال البلاد وحملة الأقلام فيها، فأخذوا يخلقون له هذه التهم أو يكف عنهم. ولطالما تقاضوه ذلك، وله أن يتحكم في مطالبه الخاصة ما شاء فأبى، وربما كان رده لهم غير جميل لا يخلو من بعض خشونة، ثم ورد الأمر من نظارة الداخلية بعود المقتبس إلى الصدور، فأبيت إصداره، لما الحاكمين المتحكمين في السلطنة العثمانية بلا منازع. وألح أرباب الشأن بإعادة المقتبس إلى الصدور، فكان جوابي أنني زهدت في هذه الصناعة صناعة الصحافة، ما دامت أحكامهم غاشمة ظالمة. إلا أن الحكومة بقيت تحاذرني مدة أشهر. وأقامت شرطياً أمام داري يكتب كل يوم أسماء من يدخل علي من أربابا الطبقات المختلفة، حتى إذا خرجت إلى منتزه أو زيارة أحد يتبعني الجواسيس حيث سرت. أما كتبي وجرائدي وبرقياتي فإنها كانت تراقب أشد مراقبة، بل أضحكها وأبكاها. وبينا كان حالي كذلك أعلنت الحومة العثمانية النفير العام، وجاء الشام وال عاقل عادل اسمه خلوصي بك فنشأت بيني وبينه صداقة، ولا سيما عقب أن ظهر من تفتيش أوراق قنصل فرنسا أنني كنت دائماً إلى جانب خدمة العرب، ولم أمل إلى الخروج على الترك، ولا أسففت إلى خدمة غيرهم، مع أني أردت على ذلك مرات، وأغلوا لي الثمن والجعالة، فاحتقرت كل نفيس في سبيل خدمة المصلحة العامة، وهذا سر نجاتي من مخالف قتلة الاتحاديين الذي لم يراعوا عظيماً ولا غيره في الحرب، وصلبوا من صلبوا على أعواد المشانق بلا رحمة في مدن دمشق وبيروت وحلب. أرادني خلوصي بك ست مرات على إصدار المقتبس وأنا أحاوله وأطاوله، لكن قنصل ألمانيا كان يلح على الحكومة المحلية بإقناعي لإصداره، لما أيقن من تأثيره في أفكار الشاميين بل في بلاد العرب، فصحت بعد حين عزيمتي على أصداره، خصوصاً بعد أن أوحى ألي خلص أصدقائي، بأن القوم يتربصون بي الشر إذا لم أجبهم إلى إصدار المقتبس، ولم أخدم الحكومة في تلك الحالة الحرجة. وأنني إذا طلبت على إبائي يخشى أن يحاسبوني

عما اجترحته في الماضي حساباً غير يسير، وتكون حياتي في تهلكة، فاعتذرت بأن على المقتبس مبلغاً من الديون بسبب توقفه ثمانية أشهر وبيع مطبعته فقالوا إنهم يسددونها عني ففعلوا. وفي خلال ذلك جاء أحد أساطين الاتحاديين أحمد جمال باشاً قائداً للجيش الرابع، وحثي على التعجيل بإصدار المقتبس، وكان كلامه رجاءً في الصورة الظاهرة، وتهديداً في الحقيقة، فبادرت إلى امتثال الأمر فأصدرته، وبقيت سنة لا أكتب فيه إلا نادراً، ويتولى أخي سياسته، حتى تنبه جمال باشا للأمر وأرادني على كتابة مقالات افتتاحية باسمي ففعلت، وكثيراً ما كانت أفكاري ترشح اضطراراً من أفكار القائد العام مباشرة أو بالواسطة، فكانت إرادتي مسلوبة لتهديدي كل ساعة بنشر الحسابات القديمة مع الاتحاديين، وفي أواخر السنة الأولى للحرب أرسلي جمال باشا مع البعثة العلمية من علماء الشام إلى الآستانة فجناق قلعة، وأوعز إلى بإنشاء رحلة هذه البعثة، ووضع كتاب في رحلة أنور باشا، وكيل القائد العام وناظر الحربية، إلى الشام والحجاز. ففعلت مضطراً. وظهر هذان الكتابان الأول باسمي واسم ثلاثة من أرباب الصحف في الشام، والثاني باسمي فقط. وهما من كتب الدعاية السمجة في الحرب الممقوتة. وفي هذه السنة أيضاً أنشأت الدولة بإيعاز ألمانيا وترتيبها في مدينة دمشق جريدة يومية عربية أسمتها الشرق عهدت إلي برئاسة تحريرها فوليته مدة، واضطرني أحمد جمال باشا إلى رفع اسمي من جريدة المقتبس لتروج جريدة الشرق التي ظهرت إلى أواخر الحرب. وكانت جريدة ألمانية تركية بحتة يقصد بها الدعاية والتأثير في العالم العربي خاصة والعالم الإسلامي عامة. ولما بدأت جيوش الحلفاء تتقدم في جنوبي الشام غادر أحمد جمال باشا البلاد، فأردني خلفه جمال باشا المرسيني أن أظل على ما كنت في جريدة الشرق فقلت له: لم يستعبدني أحد في حياتي غير سلفك العالي ولا أريد أن أستعبد مرة أخرى. وقصدت إلى الآستانة للتجارة فمنعي الاتحاديون هناك بإيعاز من أحمد جمال باشا، ومنعوني من معاطاة أعمال لا أعرفها في الحقيقة. وبينا كنت أفاوضهم بذلك سقطت دمشق بأيدي الحلفاء، وانقطعت الطريق بين الشام والاستانة، إلى دمشق بعد ثلاثة أشهر

من سقوطها، لأعاود إصدار المقتبس، لكن الحاكم العسكري العام وكان من أصدقائي، ألح عليّ أن أتولى رئاسة ديوان المعارف فقبلت متكارهاً، وأخذت في درس حالة المدارس لإصلاحها على ما يلائم روح الأمة العربية، وبدأت بإنشاء دار للآثار وتجهيز دار الكتب الظاهرية بجهاز حديث. ثم حصل خلاف بيني وبين الحكومة فأردت التنحي عن رئاسة ديوان المعارف، فألحت علي الحكومة بالبقاء، إن كان ولا بد فينقلب ديوان المعارف بأعضائه ورئيسه إلى مجمع علمي، وتكون علاقته مع رئيس الحكومة مباشرةً، فقبل هذا الاقتراح وشرعت في تأسيس المجمع العلمي العربي في 8 حزيران سنة 1919. وفي آخر تشرين الثاني سنة 1919 صدر الأمر بدعوى الضيق المالي بصرف رئيس المجمع العلمي وأعضائه، إلا عضوين فقط للأشراف على داري الكتب والآثار. وكان ذلك تشفياً من بعض الأحزاب التي لم أشأ أن أسايرها على العمياء. ودمت منعزلاً في داري إلى ان عهدت إلي وزارة المعارف في 7 أيلول سنة 1920 أول دخول السلطة الفرنسية إلى المدن الربع، وهي الوزارة التي غيروا اسمها بعد مع سائر الوزارات باسممديرية عامة. وفي خلال ذلك أخذت عشرة من الطلاب للإخصاء في العلوم العالية في جامعات فرنسا. وزرتها للمرة الثالثة، كما زرت بلجيكيا وهولندا وإنكلترا وإسبانيا وألمانيا وسويسرا وإيطاليا، وكتبت الرحلة الثالثة في إحدى وخمسين مقالة، وأعدت طبع غرائب الغرب وأدخلت فيه الرحلات الثلاث، فجاء في مجلدين. وكان أحد أعوان الجنرال غورو أول مفوض سام للجمهورية الفرنسية ولبنان نشر على لساني وبدون اطلاعي في إحدى المجلات الباريزية عبارة يقصد منها مدح الانتداب الفرنسي إلى التي ليس بعدها وتقريظ غورو وأعوانه. فكذبت ما عزي إلي في الصحف. وكان أحد موظفي البعثة الفرنسية في دمشق دس أيضاً على لساني في خطبة أردت على إلقائها باللغة الفرنسية في معرض بيروت التجاري على جماعة من الفرنسيس جملاً بخصوص العهد الفيصلي لم تخطر لي في بال. فامتعضت مما وقع في المرة الأولى والمرة الثالثة، ولما لم يرق عملي من التكذيب في نظر وكيل المفوض

استقلت من المعارف، وبقيت في رئاسة المجمع، وكنت أديره أثناء وزارة المعارف وبعدها. وكان في ذلك الخير لأني حصرت وكدي في خدمة المجمع وتأسيسه على ما يجب وبقدر ما يساعد المحيط المالية. وعرضت عليّ وزارة المعارف في الحكومة المؤقتة خلال ثورة سنة 1344هـ فاعتذرت وآثرت الانقطاع إلى المجمع وإتمام كتابي خطط الشام. وفي 15 شباط سنة 1928م أسندت إلي وزارة المعارف في حكومة صاحب الفخامة الشيخ تاج الدين الحسني وبقيت أدير شؤون المجمع العلمي إلى الآن. وفي أواسط شهر تموز سنة 1928 ندبتني دولة سورية والمجمع العلمي لتمثيلها في مؤتمر المستشرقين السابع عشر بمدينة اكسفورد فرحلت إلى بلاد الإنكليز وزرت بلجيكيا وفرنسا. وقد اغتنمت فرصة وجودي في وزارة المعارف فأنشأت مدرسة العلوم الأدبية العليا جعلتها من فروع الجامعة السورية، كما هيأت جميع افتتاح أسباب كلية الإلهيات تضاف أيضاً إلى الجامعة وبذلك تمت لها أربع شعب، شعبة الطب، وشعبة الحقوق، وشعبة الآداب، وشعبة الإلهيات. وإذا انفسح الزمن للعمل ففي النية إضافة الفرع الأخير من فروع الجامعة وهو الفنون والعلوم. كان المقتبس عقب الهدنة قد عاد إلى الصدور وظل يطرد نشره، حتى ألفت العصابات لغزو الساحل الشامي وأصبح القول الفصل لأناس من صعاليك العامة وأغرار الشباب، ممن أخذوا يهدوننا سراً وجهراً إن لم نمالئهم على رغائبهم، في هيج الأفكار ودعوتها إلى الثورة، فآثرت توقيف المقتبس على إصداره آلة للفتنة بين الناس، وإهراق دماء الأبرياء ليربح المستعبدون. على حين كنت على مثل اليقين أن الانتداب الفرنسي واقع لا محالة. وقد شق عليّ بعد أن بلوت من السياسة حلوها ومرها، وكرعت خلها وخمرها، أن آتي ما يكون وباله عليّ قبل غيري من رجال الصحافة، في أمر لا فائدة منه إلا لمن يستثمرون الثورات لمصحتهم الخاصة. وبقيت جريدتنا معطلة سنة كاملة، حتى دخل الجيش الفرنسي فعادت إلى الظهور. وظهرت جريدة المقتبس بتحرير المرحوم شقيقي أحمد كرد علي تصدر حرة في الجملة، وطنية الصفة والمنزع، فلما هلك أصبح تحريرها ألعوبة في أيدي أناس أرادوا

تسخيرها في خدمة أحزابهم، فاضطررت إلى إغلاقها في صيف سنة 1928 بعد أن خدمت البلاد عشرين سنة. كان مذهب المقتبس السياسي معاونة الحكومة بالمعقول، وانتقادها عند الاقتضاء. وتحبيذها إذا أتت ما تحبذ عليه. ينزع أبداً إلى إنارة الأفكار، وبث الملكات الصحيحة وتقوية روح القومية العربية، وسياسته وطنية ليس فيها شيء من روح الكراهة للأجانب، ويرمي إلى فتح صدر الأمة لمعظم ما في المدينة الغربية من أسباب الرقي. ولا يتحزب المقتبس لحزب إلا إذا تجلى له غناؤه وبلاؤه في خدمة الأمة. فقد دخلت في جمعية الاتحاد والترقي قبيل الانقلاب العثماني بنحو اثنتي عشرة سنة، وخدمت ما استطعت وساعدت البيئة، ولم أجدد في الانقلاب للاتحاديين عهداً مع كثرة إلحاحهم علي. إذا رأيت وتناقضاً في الخطة، لأن مرامي الاتحاديين تجلت بأنها تقصد إلى تتريك العناصر، ومن أول مقاصدنا الدعوة إلى القومية العربية، وإنهاض العرب من كبوتهم. ولما عبث الاتحاديون بالمقصد الذي رسموه لأنفسهم يوم نشأتهم الجديدة، تألفنا في الشام والآستانة كتلة من العرب والترك، وألفنا حزب الحرية والائتلاف اشتغلنا به مدة، ثم رأينا من المصلحة حله فحللناه. وأقترح عليّ زمن الحومة العربية غير مرة الدخول في الأحزاب فأبيد. ولكن لما تفاقم الشر، وأصبحت دمشق عاصمة في الصورة، والمدبرون لها أغمارنا غرباء في الأكثر، صحت عزيمتنا مع جماعة من أهل الطبقة العالية مسلمين ومسيحيين وألفنا الحزب الوطني معدلاً لأمزجة الأحزاب الأخرى. فكان حاجزناً دون انبعاث ما يندر من العوم. وفي شباط 1924 عهد إلي تدريس الآداب العربية في معهد الحقوق بدمشق، فرأيت تفاوتاً في عربية الطلبة، وكان منهم المقتدر الذي يصلح للكتابة والخطابة، ومنهم الضعاف في مبادئ النحو والصرف، لأن مدرستي الحقوق والطب كانتا تحاولان تكثير سواد الطلبة وتقبل منهم حتى المقصرين في الفروع المهمة، ولا سيما اللغة العربية التي يعدونها ثانوية! فاضطرت إلى إلقاء بعض دروس نحوية مختصرة على التلاميذ ريثما يستعدون لتلقي

الآداب، فحاولت تعليمهم الإنشاء والخطابة بالعمل أكثر من النظر. ولم ترق بعض الطلبة العلامات التي نالوها في الفحص العام، وكان بعض أساتذتهم يشوقونهم من طرف خفي على رفع أصواتهم بالشكوى من المدرس ليظموا درسه إلى دروسهم، ورأى رئيس الجامعة الطبيب الكحال السيد رضى سعيد الايتوني استثمار هذه الحركة لمصلحته، ومصلحته أبداً في إقصاء الأكفياء أرباب الإرادات المستقلة من تدريس الجامعة، فقام مدفوعاً أيضاً بيد رئيس الحكومة إذ ذاك السيد صبحي بركات. وكان هذا مغيظاً محنقاً من صاحب الترجمة لأن جريدة المقتبس لم تمالئه على خطبته، وصعب علي أن أترضاه، ولو بأن أذكر له على الأقل أن لا علاقة لي بالمقتبس منذ مدة طويلة، وأنني لا أديره ولا أحرره ولا ينطق بلساني. وكانت المؤامرة فاستكتب رئيس الجامعة عض الصحف للنيل مني، وأعطاها فيما قيل دراهم لتكتب له المطاعن على علي بما يفيد في تنحيتي. ومن الرسائل ما كتبه له بعض مستخدميه ممن كان يغطي عن سراقته في مدرسة الطب مقابل هذا التطوع في خدمة أغراضه، ومنهم طلبة مقصرون في دروسهم كافئهم على ما نشروه له من الطعن بي بأن منحهم شهادة الطب، ومعذرته أنه في حاجة إلى من يحسن من جماعته كتابة سطرين بالعربية، لأنه هو ورئيس الحكومة ابن بركات لا يحسنان كتابة سطر واحد، وإذا قرأ أو قرئ عليهما كلام عربي لا يفهمانه بحال. وهكذا جمع رئيس الجامعة بعض الطلبة المقصرين في دروسهم في دار أحد من يدهنون له من أطباء مدرسته، ولقنوهم كيف يجرئون على الشكوى من الدرس ويكتبون محضراً بهذا الطب، ومن لم يوقعه من الطلبة يهدد بما يخاف منه على مستقبله. وأخيراً تقرر إرسال بضعة من طلبة مدرسة الطب إلى درس الخطابة في دار الحقوق لينادوا بإسقاط خمسة من الأساتذة من جملتهم مدرس الآداب العربية، وخطب بحضوري أحد الطلبة، وهو أبن أحد أخصاء رئيس الحكومة خطبة لقنها، وكوفئ عليها بعد هو ووالده، فخرجت من المدرسة على أن لا أعود إليها، وتم لبعض الأساتيذ ما أرادوه، فاستأثروا بأكثر الدروس الشاغرة، ولم يعد من المخطوب فيهم إلا واحد وهو مدير المعهد السيد عبد القادر العظم الذي

أسترضى الطلبة وصانع رئيس الجامعة مع أنه أضعف الأساتذة المشتكي منهم ولا صلة له بالعلم. أهم المطبوع منة كتبي مجلة المقتبس ثمانية مجلدات وجزآن صدر منها ثلاث سنين في مصر وخمس في الشام وهي تبحث في الاجتماع والأدب والتربية والتعليم والتاريخ ومنها رسائل البلغاء وغرائب الغرب وغابر الأندلس وحاضرها وتاريخ الحضارة والقديم والحديث ورواية المجرم البريء وقصة الفضيلة والرذيلة. وأول ما نشرت رواية يتيمة الزمان سنة 1312هـ. وآخره خطط الشام وهو كتاب في مدينة الشام وتاريخه صرفت في تأليفه ثلاثين عاماً، وطالعت لأجله زهاء ألف ومائتي مجلد بالغات الثلاثة العربية والتركية والإفرنسية، وأنفقت في سبيل تأليفه نحو ألف وخمسمائة جنيه، ويدخل في ستة مجلدات وربما كان معجمه في أربعة. وعندي من التأليف التي لم تطبع حرية الوجدان والحرية المدنية والحرية السياسية معربة من جول سيمون الفيلسوف الفرنسي. ومنها كنوز الأجداد ومكتشفات الأحفاد وأمراء الإنشاء وأخلاق المعاصرين إلى غير ذلك من المقالات والأبحاث المنشورة في المجلات والصحف وآخرها مقالاتي وانتقاداتي في مجلة المجمع العلمي العربي خلال تسع سنين. خلقت عصبي المزاج دموية، مغرماً بالموسيقى العربية، محباً للطرب والأنس والدعابة، عاشقاً للطبيعة والساحة. وقد كان للمزرعة الصغيرة التي أورثنا إياها المرحوم والدنا في قرية جسرين ومن قرى الغوطة أثر ظاهر في تربية ملكتي. وبها استغنيت أنا واخوتي لأول أمرنا عن طرق الأبواب للتحيل أو التسفل للمعاش. ولم أخل منذ اشتغلت بسياسة البلاد وحتى بعد أن تجردت العلم المحض، من جرائد كان من جملة أغراضها ثلبي، وكثير من كتاب الذين عرفوا بالسفاهة كانوا يرزقون الجنيهات الكثيرة على حساب النيل مني، والتطاول علي، وما زالت حتى الساعة لا أخلو من أناس يتطاولون علي حب الشهرة، ينالونها من طريق الطعن بمن اشتهروا، ولم يحدث لي أن أجبت أحد هؤلاء

الطاعنين في وقت من الأوقات. اللهم إلا إذا كان هناك تحريف لحقيقة وطنية أو قضية علمية، فأذكر الواقع بدون اسم المتحامل المخالف. وقد وقع مرة لمجلة ألبسها أصحابها ثوب الدين، أن سجلت نحو ثلاث سنين تكتب في المقالات والقطع الصغيرة فلم أجبها، ولم أقرأ أكثر ما كتبت، حتى إذا نضبت مادتها من المال والقول، أجبتها بمقالة نشرت في كتاب القديم والحديث باسم الإصلاح وهي من المقالات التي لم تخل من حدة. أعشق النظام والتدقيق، وأحب الحرية والصراحة، وقد أولعت بالتجدد، ومن عادتي أن اقف بمعالجته عند حد لا أتعداه إلى هدم أصل من الأصول المقدسة، وأدور من الإصلاح التدريجي العلمي في دائرة لا تتعدى الثروة في الأفكار، أجاهر في الحق، وأطعن في المنافقين وأتجهم لهم، وأجبت المرتشدين والمخربين، لذلك يكثر أعدائي من أهل هذه الطبقة. ولطالما كادوا لي وآذوني في مادياتي فلذ لي عملي تسؤني نتائجه. أخلص للصاحب وأخدمه خدمة خالصة، وأغار من مصلحته. وربما أرفعه فوق قدريه، حتى إذا بدرت منه بادرة سوء نحوي أو نحو المجتمع، ألوي وجهي عنه آخر الدهر. ولطالما آخذني بعض أصحابي على إسداء المعروف إلى من هم أول من ينكرونه، وإسراعي إلى التصديق من حولي، في زمن يكذب فيه معظم أهله، دعاني إلى الإحسان إلى أناس ليسوا أحرياء به، وألي الأخذ بأيدي فئة كان الأولى لهم أن يظلموا مغمورين، ومعظمهم كانوا لمقاصد لهم يتخيلونها أول من حملوا علي وعادوني، فكان الجواب، أني أحمل الناس على محمل الخير، فإذا ظهرت تربيتهم الحقيقية، وتبين أني كنت مغروراً بهم كان جزاؤهم الإعراض، وهل يجوز العقل أن تعض الكلب الذي يعضك، والحيوان المفترس الذي يحاول إهلاكك ولو أطعمته وسقيته. أكره الفوضى وأتألم للظلم، وأحارب التعصب، وأمقت الرياء، وإذا حاربت لأجل المظلومين، وهاجمت طغمة المتعصبين، فإنما أحارب وأهجم بذوق وفهم على الأغلب، وأميل إلى الشدة، وقد تكون إلى الإفراط أحياناً، لتفعل البلاغة فعلها في عقول من يراد إرشادهم أو إسقاطهم. وتنقبض نفسي منذ الصغر من غشيان المجالس والمجتمعات الغاصة بأنواع الناس، وأحرص على الوقت فلا أكاد أنفقه إلا لمنفعة عامة أو خاصة اهـ.

§1/1