خطب المسجد الحرام

مجموعة من المؤلفين

1432

خطبة المسجد الحرام - 4 محرم 1432 - الاعتبار بانقضاء الأعمار - الشيخ عبد الرحمن السديس الخطبة الأولى إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، أحمده - سبحانه - تفرَّد بالمجد والثناء إجلالاً وإعظامًا، وأشكره تعالى حَبَانا نِعمًا مباركةً فِعامًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له جعل لنا من تصرُّم الزمان عِبَرًا عِظامًا، فذا عامٌ تلا عامًا، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله خيرُ من حاسَبَ نفسَه - بأبي هو وأمي - قدوةً وإمامًا، صلَّى الله وبارَك عليه وعلى آله المتألِّقين بدورًا وأعلامًا، وصحبه البالغين من الهمة الشمَّاء مجدًا ترامى، والتابعين ومن تبعهم بإحسان، وسلَّم تسليمًا كثيرًا ما تعاقَبَ المَلَوَان ودامًا. أما بعد، فيا عباد الله: اتقوا الله الواحد القهار، واحذروا الغَفَلات والاغترار، واعتبِروا بتقضِّي الدهور والأعمار، واتخذوا تقواه - سبحانه - ألحَبَ سبيل لكم ومنار، تفوزوا - يا بشراكم - بالنعيم المُقيم وأزكى القرار. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر: 18]. عليك بتقوى الله في كل أمرٍ تجِد غِبَّها يوم الحساب المُطوَّلِ ولا خيرَ في طول الحياةِ وعيشِها إذا أنت منها بالتُّقَى لم ترحَلِ أيها المسلمون: في ارتحال الزمان، وتعاقُب الشهور والأعوام بالتقضِّي والانصرام عِبَرٌ وعِظات، لمن رامَ استدراكَ الهَفَوَات، ومحاسبة الذَّوَات قبل الفَوَات، بالتقويم والمراجعات. فالأمم الناهضة الباقية، المُستبصِرة الراقية هي التي تستنبئُ دقائقَ الأحداث الغابرة، وتفاصيل الوقائع العابرة، والغِيَر الدابرة، فتفترِضها معاقل ادِّكار، ومجاليَ استئنافٍ للطموح واعتبار، وذلك هدي القرآن الكريم في أعظم مسالك الإبصار، يقول العزيز الغفار: فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ [الحشر: 2]. أحبتنا الأكارم، معاشر الأخيار: وفي هذه الأيام السوالِف ودَّعَت أمتنا الإسلامية عامًا قد مضى وتولَّى، واستقبَلَت آخر وافانا وتدلَّى، عامٌ انقلَبَ بما لَنا وما علينا في مطاويه، وآخرُ استهلَّ شاهدًا على مُضِيِّ الدهر في تعادِيه، فنسألُك اللهم أن تُبارِك للأمة في ما قدَّرتَ فيه. مرَّتْ سنونٌ بالوِصَالِ وبِالهَنافكأنَّها من قِصَرِها أيامُ ثمَّ انقَضَتْ تلكَ السنُونُ وأهلُها فكأنَّها وكأنَّهم أحلامُ ومن لم يتَّعِظ بزوال الأيام، ولم يعتَبِر بتصرُّم الأعوام فما تفكَّر في مصيره ولا أناب، ولا اتَّصَف بمكارم الخُلَّص أولي الألباب، يقول الرحيم التواب: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ [آل عمران: 190]، وتغافَلَ عن حقيقةٍ قاطعةٍ ساطعة هي كونُ الآخرة أبدًا، والدنيا أمدًا، أعمالُنا فيها مشهودة، وأعمارنا معدودة، وأنفاسُنا محدودة، وأقوالُنا مرصودة، والوَدَائع - لا محالةَ - مردودة، والمقام - يا عباد الله - لتبصير النفوس وإرشادها، وتصحيح عِثَار المسيرة وتذليل كئادِها، وتوجيه الأمة المباركة شطرَ العلاء الوَثَّاب، والحَزْمِ الهادِفِ الغَلاَّب. فما أحوجَ أمتنا في هذه السانحة البينية أن تنعطِفَ حيالَ أنوار البصيرة فتستدرِكَ فَرَطَاتها، وتنعتِقَ من وَرَطَاتها، وتُفْعِمَ روحها بمعاني التفاؤل السَّنِيَّة، والرجاءات الربانيَّة، والآمال الإيجابية، والعزائم الفولاذية، وصوارِم الهِمَم الفَتِيَّة؛ كي تفِيءَ إلى مراسي الاهتداء والقِمَم، وبدائع الخِلاَلِ والقِيَم، على ضوء المَوْرِد المَعِين، والنَّبْع الإلهي المبين: هديِ الوحيَيْن الشريفَيْن، إبَّانها ستَتَعَافَى أمتُنا من التفرُّق والشَّتَات، والدُّون والانبِتات، وستنبو في قضاياها الحاسِمة عن مدارِكِ الفَشَلِ الذَّرِيع، وتَبِعَات التلكُّؤ الفظِيع. وإنها لسانِحةٌ غرَّاء للمُناشَدة الحرَّاء التي لا يُمَلُّ تَكرارها، ولا يُسأمُ تَردَادُها للعمل الجادِّ الدَّؤُوب لحلِّ قضايا أمتنا، وانقاذ مُقدَّساتها، وتحرير المسجد الأقصى المبارك من أغلال المعتدين، وبراثِنِ المُحتلِّين بعد أن بَلَغَ السَّيْلُ زُبَاه، والصَّلَفُ الأَرْعَنُ مَدَاه، وإنه لأَوْلَى ما تهتَزُّ له الهِمَم، وتنبَعِثُ له أفئدةُ الإباء والشَّمَم. ولو عمِلَت بدين الله حقًّالغَيَّر ما بها أملاً ويُسرًا بوعدِ الله أمَّتُنا ستحْيَا وتَلْقَى منه تأييدًا وأَزْرًا إخوة الإيمان: ومن الفوادِح الحازِمة التي تُكتِّم من الغَيُور أنفاسَه، وتُكبِّلُ حواسَّه: أن تَتَنَاهَشَ فئامًا من الأمة وأجيالها بوارُ الحيرة والتقاعُس، وتفترسَ كثيرًا منهم فتنُ الشهوات التي طوَّحَت بهم في كَدَر المباءَات - عياذًا بالله -. وآخرين عَصَفَتْ بهم أضالِيلُ الشُّبُهات، فنَصَبوا أشرِعَتَهم صَوْبَ فِكر التكفير والتفجير، والتخريب والتدمير، وسوى ذلك من الطوامِّ التي يتبرَّأُ منها كلُّ مؤمنٍ بالله واليوم الآخر. ألا رُحماك ربنا رُحماك، وحمدًا لك اللهم حمدًا أن كشفتَ عَوَارَهم وفَضَحْتَ أخبارهم. ذلكم - يا رعاكم الله -؛ وأيُّ نوائب أخرى حين يُطوِّقُ الخمول والكسل والبطالة والإحباط أفئدةً غضَّةً بضَّةً من الأمة، وأيُّ مُحرِجةٍ تلك حين تَرزَحُ أجيالٌ من الأمة منها ذوات الخدور تحت أوطار التفلُّتِ الهَبَاء، والانهزامِيَّة الرَّعْناء، واهتزازِ الثِّقةِ البَلْجَاء. إضافةً إلى قضايا الأمة الجُلَّى التي تقُضُّ المضاجِع وتفُضُّ المَدَامِع، وإلى الله وحدَهُ المُشتَكى والمُلتجَا، وبه وحدَهُ المستعانُ والمُرتَجَى. إخوة الإسلام: وإننا لنُرسِلُها هتَّافةً مُكرَّرة، مُدوِّيةً مُكبَّرة، في مَطلَعِ عامنا الهجري الميمون: إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد: 11]، التغيير المُنعَكِس بصدقٍ وإخلاصٍ ورُسُوخ على صعيدِ الواقع والتربية والسلوك التغييرَ الذاتي الذي يبني المجتمعات، ويستشرِفُ طلائع الأجيال الفتيَّة الصاعدة، وسبيل ذلك ورافِدُه، وأولُهُ وبادِئُه: إلهابُ علوِّ الهمة في نفوس الأمة كي تعتلِيَ الذُّرَى والقِمَّة، وإذكاءُ جُذَا الأمل والتفاؤُل في أطوار الشباب كي يستنفِرَ قُدراته ومَلَكَاته، وكفاءَاته وانتماءَاته؛ ليعيشَ حلاوة الإيمان، وبَرْدَ اليقين، وبهجة الطموح بقلبه وعقله ومشاعره، فالهمةُ القَعْسَاء، والآمالُ الشمَّاء ضياءٌ ساطعٌ في دامسِ الخُطُوب، وحكيمٌ حاذِقٌ في يهمَاء الكروب. إنها الأمل المُشرِف المُزهِر الذي يحمِلُ النفسَ على وُلُوج المَكَارِهِ والمَصَاعِب، وخَوضِ غِمارِ المتاعب لبُلُوغ مراقي العِزَّة والفلاح، ومدرات الفوز والصلاح، يقول - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله تعالى يحب معالِيَ الأمور وأشرافَها، ويكرهُ سفْسَافَها»؛ أخرجه الطبراني في "معجمه"، والبيهقي في "شعبه". وإذا كانت النفوس كِبارًا تعِبَت في مُرادِها الأجسادُ وقد أرشدنا الحبيب - صلى الله عليه وسلم - إلى عَلِيِّ المنازل، وسَنِيِّ المقاصد؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا سألتُم الله فاسألوه الفردوسَ؛ فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن»؛ أخرجه الطبراني في "معجمه"، وابن أبي عاصمٍ في "كتاب السنة" بسندٍ صحيحٍ. الله أكبر؛ ذلكم هو المنهج المحمدي الذي بنى طموحَ الأبطال، وزكَّى هِمَم الأجيال، وسقى فيهم حلاوة الحق بعد الوَصَب، ومعالِيَ الخلود إثرَ النصَب، وأذكى في أرواحهم مجامِر المجد ولوافِح الصمود. إذا هَمَّ ألقى بين عينَيْه عَزْمَهونكَّبَ عن ذكر العَواقِبِ جانِبًا أُثِر عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قوله: "لا تصغُرنَّ هِمَمُكم؛ فإني لم أَأقعَدَ عن المكرُمات من صِغَر الهِمَّة". يستنهِضُ الهِمَم العريضة للعُلاويحُثُّ منها نُخبةً أنجابًا تُحيِي من الآمال أجملها وقد أحْيَت بجَذْوةِ فِكرِها الألبابَا ولله درُّ الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - في هِمَّته السابقة السامِقة التي عانَقَت الجَوْزَاء؛ حيث قال: "إن لي نفسًا توَّاقة لم تزَل تتوقُ إلى الإمارة، فلما نِلتُها تاقَت إلى الخِلافة، فلما نِلْتُها تاقَتْ إلى الجنة". وقد ذكر أهل السير عن الإمام البخاري - رحمه الله - في هِمَّته العلياء أنه يستيقِظ من الليل زُهاء عشرين مرة لتدوين الحديث الشريف. وقال أبو الوفاء ابن عقيل - رحمه الله -: "وإني لأجدُ من هِمَّتي وحِرْصِي على العلمِ وأنا في عشر الثمانين أشدَّ مما كنتُ أجدُ وأنا ابن عشرين سنة". يا لله! يا لله! عباد الله: أولئك الذين خلَّدَتْ هِمَمَهم وآمالَهم الدواوينُ المُسطَّرة، وسَرَتْ بأمجادهم الأنفاسُ المُعطَّرة، فلا بلوغ لمقامات العلاء إلا بمكابدة اللأْواء، واحتساء كؤوس العناء، واللُّجَيْن والدُّرّ لا يُنَالاَ إلا بالصَّابِ والمُرّ. من أراد العُلا عفوًا بلا تعَبِ انقضَىولم يقضِ من إدراكها وَطَرَا لا يُبلَغُ السُّؤْلُ إلا بعد مُؤلِمَةٍ ولا يتمُّ المُنَى إلا لمن صَبَرَا وكيف يُظنُّ أن غَوَالِيَ الأماني تُدرَك بالهُوَيْنَ أو التَّوَاني؟! وهل النبوغ والحضارات وأفانِين الإبداع في العلوم والنهضات لُحْمَتُها إلا الهِمَمُ الوَضَّاءة، وسَدَاها إلا العزائمُ المضَّاءة. فيا أمة الإسلام، يا أمة الهِمَم وأجيال القِمَم: ليكن عامُكُم الجديد للتشاؤم والتضاؤُل ناسخًا، وللإحباط والتقاعُس فاسخًا، وادأَبوا - يا رعاكم الله - أن تكونوا بالتفاؤل والإيجابية بعد التوكُّل على الله - عز وجل - واستمداد العزم والتوفيق منه كالنور الساطع يُبدِّد الظلمات، ويستحِثُّ للمكرُمات العَزَمات، وكالغيث النافع يُحيِي من الأمل ما ذبُلَ وفات، تسعَدوا وتفوزوا، وللنصر والتمكين تحوزوا، وما ذلك على الله بعزيز. اللهم إنا نسألك باسمك الأعظم الذي إذا دُعيتَ به أجبتَ، وإذا سُئِلتَ به أعطيتَ؛ أن تجعل عامنا هذا عام خيرٍ وبركة ونصرٍ وتمكينٍ للإسلام والمسلمين، وهيِّئ فيه لأمة الإسلام من أمرها رشدًا، اللهم حرِّر فيه مُقدَّسات المسلمين، وأصلِح أحوالهم، ووحِّد صفوفهم، واجمع كلمتهم على الحق والهدى يا جواد يا كريم. اللهم لا تَدَعْنا في غفلة، ولا تجعلنا في غَمْرة، ولا تأخذنا على غِرَّة، واجعل حاضِرَنا خيرًا من ماضينا، ومستقبَلَنا خيرًا من حاضِرِنا، واجعل لنا من مرور الأيام مُدَّكرًا، ومن تقضِّي الأعوام مُعتبرًا، إنك خيرُ المسؤولين، وأكرمُ المأمولين. بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعنا وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافة المسلمين والمسلمات من جميع الذنوب والخطيئات، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم. الخطبة الثانية الحمد لله، لم يزَل - سبحانه - للثناء مُستوجِبًا مُستحِقًّا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له حقًّا حقًّا، وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله أزكى العالمين همَّةً وأرقى، صلَّى الله عليه

11 محرم 1432 - الزهد في الدنيا - الشيخ صالح بن حميد

خطبة المسجد الحرام - 11 محرم 1432 - الزهد في الدنيا - الشيخ صالح بن حميد الخطبة الأولى الحمد لله، الحمد لله الذي تفرَّد بالخلق والتدبير، وتصرَّف بالحكمة البالغة وبديع التقدير، لا يعزُب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء وهو اللطيف الخبير، أحمده - سبحانه - وأشكره توالَت علينا نعماؤه، وترادَفَت آلاؤه، وهو نعم المولى ونعم النصير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تنزَّه عن التشبيه وتقدَّس عن النظير، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله جاء بملَّةٍ حنيفية وشريعةٍ بيضاء نقية فهو السراج المنير، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله السادة ذوي القدر العليِّ وأصحابه الكرام ذوي الشرف الكبير، والتابعين ومن تبعهم بإحسان، وعلى نهج الحق والهدى يسير. أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله - رحمكم الله -، واجعلوا مراقبتكم لمن لا يغيب عنكم نظره، وشكركم لمن تترادف عليكم نعمه، وخضوعكم لمن لا تخرجون عن ملكه وسلطانه، ما شغل عن الله فهو شُؤم، والتُّؤَدة خيرٌ إلا في أمر الآخرة، وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [طه: 84]. توبوا من المعاصي، واستعِدُّوا ليومٍ يُؤخَذ فيه بالأقدام والنواصي، بضاعة الأقوياء العمل، وبضاعة الضعفاء الأماني، وإخوان السوء كالنار يُحرِق بعضها بعضًا، وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف: 37]. معاشر المسلمين: ها أنتم في مُقتبل عامٍ هجريٍّ جديد جعله الله عام خيرٍ وبركةٍ وأمنٍ وأمان، وجمع فيه كلمة المسلمين على الحق، وأعزَّ فيه الحق وأهله، ونصر الحق وأولياءه، تُستعذَب فيه المحاسبة، وتُستحسَن فيه وقفات التأمل والاعتبار، إن في قوارع الدهر العِبَرا، وإن في حوادث الأيام لمُزدَجرا، مرور الليالي والأيام يُخرِّب عامرا ويعمُر القفرا، فاحذروا الزخارف المُضِلَّة، والفرص تفوت، والأجل موقوت، والإقامة محدودة، والأيام معدودة، وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون: 11]. أيها المسلمون: وحديثُ الزهد ليس تزهيدًا في العمل ولا في عمارة الأرض، ذلكم أن الصلاح الإنساني - رحمكم الله - ينبُع من أعماق النفوس والقلوب التي في الصدور، تزكو القلوب بالإيمان وأنوار القرآن، وتتطهَّر النفوس بالطيب من القول الصالح من العمل، والحسن من الخلق، مصدر النعيم الأكبر في الدنيا قلبٌ خالَطَته بشاشة الإيمان، نعيمٌ يُغني عن كل نعيم. حتى قال بعض السلف: "إنه لتمرُّ بي أوقات أقول فيها: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب". معاشر المسلمين: عالم اليوم يعيش أزمات فكرية كما يعيش مشكلاتٍ أسرية، ومُختنقات مالية، وعلاقة الإنسان في ديننا في هذا الدنيا عمل وتسخير، وبناءٌ وتعمير، وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ [الجاثية: 13]، هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة: 29]. كما أنها في ذات الوقت علاقة ابتلاء واختبار، الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك: 2]، وغاية ذلك كله: تحقيق العبادة لله - عز وجل -، وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 21]. والمسلمون في عباداتهم يجمعون بين تحقيق العبودية لله وتوحيد والإخلاص له وبين شهود المنافع وابتغاء فضل الله؛ ففي الصلاة وهي التي مُقدِّماتها طهارة في البدن، وطهارة في الثوب، وطهارة في البقعة، يقول الله - عز وجل -: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الجمعة: 10]، في الحج: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ [البقرة: 197]، يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [الحج: 27]، وفي عموم الطاعات: وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [المزمل: 20]. والممدوحون في كتاب الله - عز وجل - من عمَّار البيوت أهل بيع وتجارة، ولكن لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ [النور: 37]. من هذه المُنطلقات والبواعث أيها المسلمون -، ومن هذه الحِكَم والأحكام والربط بين الدين والدنيا، وعمل القلب وعمارة الأرض يستبين طريق الترقِّي في مدارج الكمال المنشود، وروافد الطُّهر المُبتغى الذي يحفظ الحياة ويصونها، ويُربِّي النفس ويُعلي قدرها، وينشر الطمأنينة ويُحقِّق الرضا. معاشر الأحبة: وهذا مزيد إيضاح وبسط لارتباط الدين بالدنيا، والعبادة بالعمارة، والزهد بالجد، والقناعة بالكد، وأنتم في مُقتبل هذا العام، يقول علي - رضي الله عنه - في وصف الدنيا وبيان حالها: "دار صدقٍ لمن صدقها، ودار عاقبةٍ لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزوَّد فيها، مسجد أحباء الله، ومهبط وحيه، ومُصلَّى ملائكته، ومُتَّجر أوليائه، اكتسَبوا فيها الرحمة، ورجَوا فيها الجنة، فمن ذا يذمُّ الدنيا وقد آذنَت في فراقها، ونادَت بعيبها، ونعَت نفسها وأهلها، فمثَّلَت ببلائها البلاء، وشوَّقَت بسرورها السرور، فذمَّها قومٌ عند الندامة، وحمِدها آخرون فصدقوا، وذكَّرتهم فذكروا". ويقول أبو سليمان الداراني: "الدنيا حجابٌ عن الله لأعدائه، ومطيةٌ مُوصِلة لأوليائه، فسبحان من جعل شيئًا واحدًا سببًا للاتصال والانقطاع". وجاء في الحديث مرفوعًا وموقوفًا عن أحمد والترمذي وابن ماجه: «الزَّهادة في الدنيا ليست بتحريم الحلال ولا إضاعة المال، ولكن الزَّهادة في الدنيا ألا تكون بما في يديك أوثق مما في يد الله، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أنت أُصِبت بها أرغب فيها لو أنها بقيت لك، وأشد رجاءً لأجرها وذُخرها من إياها لو بقيت لك، وأن يكون مادحُك وذامُّك في الحق سواء». وهذه كلها - رحمكم الله - من أعمال القلوب لا من أعمال الجوارح، فافقهوا وتأمَّلوا. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - مرفوعًا: «من سرَّه أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يده»؛ أخرجه الحاكم والبيهقي. عباد الله: الزهد في الدنيا يكون في ستة أشياء: في النفس، والناس، والصورة، والمال، والرئاسة، وكل ما دون الله. يقول ابن القيم - رحمه الله - مُعلِّقًا على ذلك: "وليس المراد رفضها، فقد كان داود وسليمان - عليهما السلام - من أزهد أهل زمانهما، ولهما من الملك والمال والنساء ما لهما، وكان نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - من أزهد البشر على الإطلاق، وقدوة الزاهدين، وكان يأكل اللحم والحلوى والعسل ويحب النساء والطيب والثياب الحسنة، وكان علي بن أبي طالب وعبد الرحمن بن عوف والزبير وعثمان بن عفان - رضي الله عنهم أجمعين - من الزُّهاد على ما كان لهم من الأموال الكثيرة، وقد قيل للإمام أحمد: أيكون الرجل زاهدًا ومعه ألف دينار؟ قال: نعم، على ألا يفرح إذا زادَت، ولا يحزن إذا نقَصَت، قال - رحمه الله -: ولقد كان الصحابة أزهد الأمة مع ما عندهم من الأموال". وفي عبارةٍ لسفيان الثوري - رحمه الله -: أيكون الرجل زاهدًا وله مال؟ قال: "نعم، إذا كان إذا ابتُلِي صبر، وإذا أُعطِي شكر"، وفي عبارةٍ أخرى له: "الزاهد إذا أنعم الله عليه نعمةً فشكرها، وإذا ابتُلِي ببليَّةٍ فصبر عليها، فذلك الزاهد". ويقول العلامة المُناوي - رحمه الله -: "ليس الزهد تجنُّب المال؛ بل تساوي وجوده وعدمه، وعدم تعلُّق القلب إليه، فإن الدنيا لا تُذمُّ لذاتها، فإنها مزرعة الآخرة، فمن أخذها مُراعيًا قوانين الشرع أعانَته على آخرته". قال: "فلا تتركها، فإن الآخرة لا تُنال إلا بها". ولهذا قال الحسن: "ليس من حبِّك للدنيا طلبُك ما يُصلِحك بها، ومن زُهدك فيها تركك الحاجة يسدُّك عنك تركها". وقال سعيد بن جبير: " مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران: 185] ما يُلهيك عن طلب الآخرة، وما لم يُلهِك فليس بمتاع الغرور، ولكنه متاع بلاغٍ إلى ما هو خيرٌ منه". عباد الله: من حقَّق اليقين وثِق بالله في أموره كلها، ورضِي بتدبيره، ولم يتعلَّق بمخلوقٍ لا خوفًا ولا رجاءً، وطلَبَ الدنيا بأسبابها المشروعة، ومن رُزِق اليقين لم يُرضِ الناس بسخط الله، ولم يحمدهم على رزق الله، ولم يذمَّهم على ما لم يُؤتِه الله، وقد علِم أن رزق الله لا يجُرُّه حرصُ حريص، ولا ترُدُّه كراهية كارهٍ، فكفى باليقين غنى، ومن غنِيَ قلبه غنِيَن يداه، ومن افتقَرَ قلبه لم ينفعه غناه، والقناعة لا تمنع ما كُتِب، والحِرص والطمع لا يجلبُ ما لم يُكتَب، وما أصابك لم يكن ليُخطئك، وما أخطأك لم يكن ليُصيبك، وليخلُ قلبُك مما خلَت منه يداك. وبعد، أيها المسلمون: من اعتمد على الله كفاه، ومن سأله أعطاه، ومن استغنى به أغناه، والقناعة كنزٌ لا يفنى، والرضا مالٌ لا ينفَد، وقليلٌ يكفي خيرٌ من كثيرٍ يُلهِي، والبرُّ لا يبلى، والإثم لا يُنسى، والديَّان لا يموت، وكمال الرجل أن يستوي قلبُه في المنع والعطاء، والقوة والضعف، والعز والذل، وأطول الناس غمًّا الحسود، وأهناهم عيشًا القنوع، والحرُّ الكريم يخرج من الدنيا قبل أن يُخرَج منها، وطول الأمل يُنسي الآخرة، وإذا ما سألتَ عن البركة وصالح الثمرة، أو سألتَ عن ضياع الحقوق وانتشار الفسوق فانظر الناس وافحصهم في القناعة وسلامة الصدر وترك ما يريب، وتجنُّب ما يعيب. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [القصص: 77]. نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم. الخطبة الثانية الحمد لله، الحمد لله على ما ستر من العيوب، والشكر له على ما كشف من الكروب، وأتوب إليه وأستغفره وهو غفَّار الذنوب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له علاَّم الغيوب، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله كشف به ربُّه الغمَّة ودفع الخطوب، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما أشرقَت شمسٌ وآذنَت للغروب، وسلَّم تسليمًا كثيرًا. أما بعد، عباد الله: من عظُمَت الدنيا في عينه أحبَّ المدح وكرِه الذمَّ، وربما حمله ذلك على ترك كثيرٍ من الحق خشية الذم، والإقدام على شيءٍ من الباطل ابتغاء المدح، فهو كاسبٌ لغيره، ساعٍ لقاعد، جائعٌ لواجِد، فقرُه بلُؤم طبعه، وفرَط شرَهه، وإشراف نفسه، لا ينتفع بشيء، ولا يستريخ من تعب، كم من غنيٍّ كثير المال تحسبُه فقيرًا مُعدَمًا نفسُه صغيرة ووجهُه عابس ترهقُه

18 محرم 1432 - مكانة الطفل في الإسلام - الشيخ صالح بن محمد آل طالب

خطبة المسجد الحرام - 18 محرم 1432 - مكانة الطفل في الإسلام - الشيخ صالح بن محمد آل طالب الخطبة الأولى الحمد لله، الحمد لله الذي لا يُحيط بحمده حامد، ولا يُحصِي نعماءه مُحصٍ، ولا يُحيط بها راصِد، أنعمَ على خلقه فجعلهم ما بين مولودٍ ووالد، وهو الغني بذاته فلم يتخذ صاحبةً ولا ولدًا ولم يكن له فيما مضى والد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أكرمُ نبيٌّ وأكرمُ عابد، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد، أيها المسلمون: فإن الوصية المبذولة هي التقوى، فالزموها سرًّا ونجوى؛ يكن الله لكم في كل حال، ويُعقِبُكم دومًا خير مآل. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1]. أيها المسلمون: في دُورِنا وتحت سقوف منازلنا أبشارٌ غضَّةٌ وأجنحةٌ كثيرة، وفي أغصان دَوحِنا أعوادٌ طريَّةٌ وبراعِم ناشئة، إنها براعمُ لم تُزهِر، وزهورٌ بعدُ لم تُثمِر؛ أولئك هم الأطفال، ثمراتُ القلوب، وقِطع الأكباد، أطفالُنا عجزٌ تحت قُدرتنا، ومسكنةٌ تتفيَّأُ قوتنا، وهم مستقبلٌ مرهونٌ بحاضرنا، وحياةٌ تتشكَّل بتربيتنا وتُصاغ بها، وهم بعد ذلك كله هم بعضُ الحاضر وكل المستقبل. الطفولة - أيها المسلمون - كهفٌ يأوي إليه الكبارُ فيغسِلوا همومهم في براءة أطفالهم، ويجتلوا جمال الحياة في بَسَمات صبيانهم، أفصحُ تعبيرٍ يستمطِر الحنان تأتأةُ طفل، وأبلغُ نداءٍ يستجيشُ الحب لثغةُ صغير، (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) [الكهف: 46]. وهم نعمٌ بين أيدينا سانِحة، ومِنَنٌ غاديةٌ علينا ورائِحة، ولقد جاءت شريعة الله راعيةً للطفولة حقَّها، مُحيطةً بحقوق الطفل المعنوية والحِسِّيَّة، من حين كونه جنينًا إلى أن يبلغ مبلغ الرجال. الراشي وبرزت العناية بالجانب النفسي والمعنوي بالطفل في سيرة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وتوجيهاته؛ فقد كان يُمازِح الصبيان، ويُؤاكِل الأيتام، ويمسح على رؤوسهم، وقال: «أنا وكافِل اليتيم في الجنة كهاتين»، وقال: «من عالَ جاريتين دخلُ أنا وهو الجنة كهاتين» - وأشار بأصبعيه -، وقال: «ليس منَّا من لم يرحَم صغيرنا»، وأمر بكفِّ الصبيان عن اللعب حين انتشار الشياطين، واستعجَل في صلاته حين سمِع بكاء طفل، ونهى أن يُفرَّق بين الأَمَة وولدها في البيع. بل وسِعَت شريعته - صلى الله عليه وسلم - حتى أولاد البهائم؛ فأمَر من أخذ فراخَ طائرٍ أن يرُدَّها، وقال: «من فجِعَ هذه بولدها»، كما ورد النهي عن التفريق بين الشاة وولدها. حتى إنه - صلى الله عليه وسلم - حفِظ حق الجنين وإن كان نطفةً حرامًا، فأمر المرأة التي زَنَت أن تذهب حتى تضعَ طفلَها، وأخَّر إقامة الحدِّ حفظًا لحق الوليد حين وضَعَتْ ولدَها؛ فأمَرها أن تعود حتى تستكمِل سنتَيْ رضاعته. بل وفي أهم فروض الدين وأشدها تعظيمًا كان - عليه الصلاة والسلام - يُصلِّي وهو حاملٌ أُمامة ابنة بنته زينب - رضي الله عنهما -، ويُصلِّي وهو حاملٌ الحسن ابن ابنته فاطمة - رضي الله عنهما -، وحين سجد - عليه الصلاة والسلام - فركِبَ الحسن على ظهره أطال لأجله السجود، وحين سُئِل عن ذلك قال: «إن ابني هذا ارتحَلَني، فكرهتُ أن أُعجِلَه حتى يقضي حاجتَه». فلم تمنعه خشيتُه لربه ولا وقوفه بين يديه من ملاطفة الصغار ومراعاة مشاعرهم. أيها المسلمون: وهل الطفولة والأطفال في حاجةٍ للتذكير بحقهم واستثارة المشاعر نحوهم؛ رغم أن الفطرة داعية لذلك، والطبع مُنساقٌ وميَّالٌ كذلك؟! يقال - بكل أسى -: نعم؛ فرغم كثرة ما أنتَجَتْه المدنيَّةُ الحديثة من خيرٍ، إلا أن ثمَّةَ أنماطًا سلوكية، وظواهر لم تعُد خفيَّة أصبَحنا نتبيَّنُها في مجتمعاتنا، وما كانت فيها من قبل. فتحت ضغوط الحياة اليومية، وكثرة الأمراض النفسية، والجرأة على تعاطي المُؤثِّرات العقلية؛ وُجِد فئةٌ من الآباء والأمهات غاضَ نبعُ الحب في قلوبهم، وأسقطَ خريفُ القسوة أوراق الحنان من نفوسهم، فاستُلِبَت من بين جوانحهم إنسانيتهم، وكانت أول ضحايا ذلك الاستلاب هم الأطفال. فكم بين جُدران البيوت وأسوار المدارس من طفولةٍ مُنتَهَكة، وبراءةٍ مُغتالة، يتعرَّضُ الأطفال في صورها للضغط النفسي، والعنف البدني، والتعذيب الجسدي، ترى ذا الخمسة أعوام يُقلِّب عينين ماؤهما الطُّهْر، وبريقُهما البراءة، يُقلِّبُها في أبيه القادم إليه، ويخفِقُ فؤادُه الغضُّ لمرأى أبيه، مُنتظرًا منه ضمَّةً أو قُبلة، فإذا لسعُ النار يفجَرُه، أو الضرب العنيف يتلقَّفُه، وسلاحُ الطفل - ويا لسلاحه - أنَّاتٌ متقطِّعة، وزَفَراتٌ مُتحشرِجة، وقد غابَ المُعين والناصر. واستعِن - أيها السامع - بخيال شاعرٍ أو سُبُحات أديب لتتصوَّر ما الذي يُحسُّه ذلك الطفل ويشعُر به، وكيف تُوأدُ في نفسه كل مباهِج الحياة، ويغيضُ في مُخيِّلته كل جميلٍ يبلُغه خيالُه الحالِم. وثمَّة طفل لم تجد أمُّه المُضطربة نفسيًّا ما تُفرِغُ فيه اضطرابها إلا جسد طفلها، وكم يحدث في المجتمع من أمثال هذه الانتهاكات، وكم تُمارَسُ هذه الوحشية داخل البيوتات، ولا يشعر بها جيرانٌ ولا أهل؛ فقد أساء آباء لأطفالهم، وأدَّبَت زوجاتٌ أولادَ أزواجهن، ولم يسلَم الأطفال حتى من أذيَّة عاملات المنازل، وعاش من عاش منهم مُشوَّه الإنسانية، مُتَّشِحًا بالعدوانية، له مستقبلٌ قاتِم، وربما احترف الجريمة والانحراف فخسِر نفسه ثم خسِرَه المجتمع. أيها المسلمون: إن هذه المظاهر ليست - بحمد الله - عامةً ولا شائعة، ولكنها توجد بقدرٍ غير قليل، وإن من أعظم أنواع الاحتساب: أن يحتسِب المجتمع في رفع الظلم عن هذه الفِئة؛ خصوصًا إذا كان الظلم واقعًا من ذوي القُربى. وظلمُ ذوي القُربى أشدُّ مضاضةً على النفس من وقعِ الحُسام المُهنَّدِ يجب التفطُّن لصغارِ من ابتُلُوا بمرضٍ نفسيّ، أو تورَّطوا بمُؤثِّر عقليّ؛ خصوصًا وأن الطفل المُعنَّف والمُعذَّب حين تصدُفُه قد لا تسمع منه تعبيرًا يكشِف ما أصابه، وقد حفَرَت تلك الاعتداءاتُ في نفسه أخاديدها، وإن الطفل المُعذَّب وإن عجِز لسانُ مقاله عن الشكوى فإن لسان حاله سينطِقُ بالكثير، والصغير لا يَنسى، وجراحُ الطفولة لا تندمِل، وإن لم يتدارَكها الوُساة فيُوشِك أن تنتهي إلى مقتل. وإنها لظاهرةٌ حسنةٌ تلك المراكز والدُّور التي تُعنى بحماية الطفل، وتوعية الآباء والأمهات، والقائمون عليها على خيرٍ عظيم، ينبغي دعمُهم والتواصُل معهم والإشادة بهم. عباد الله: وثمَّة صفحةٌ أخرى من كتاب مآسي الطفل، عنوانها: الخلافات الزوجية؛ فعندما يحضر الشيطان بين زوجين، ويتقصَّدُ كلٌّ منهما الإساءة إلى الآخر، وعيون الأطفال تُشاهد وتترقَّب، ونفوسهم تتوجَّد وتنزِف، ويرَون إساءةً لفظيةً من الأب لأمهم، أو إهانةً معنويةً من الأم لأبيهم، أو اعتداءً جسديًّا من أحدهما على الآخر؛ فإن الطفولة - حينئذٍ - في هباء، وثمَّةَ ساعتها عُقدٌ نفسية تنمو في خفاء، ويخبُو وهَجُ الحياة لدى الطفل، وينسحِبُ ذلك على عدمِ مُبالاته بالتعليم فلا يعنيه، ويُعتِم المستقبل في ناظرَيْه؛ فلا حُلم يُداعبُه ولا أمل يُلاغيه. شاهَت الأيام في عينيه، وساءت معاني الأمومة والأُبُوَّة في ناظرَيْه، والوالدان غيرُ مُبالِيَيْن، يتنافسان أيهما الأسوأ، وأيهما الذي ينتأُ جُرح طفلهما فلا يبرأ. يا أيها الأزواج المُتخاصِمون: إن الله - عز وجل - حدَّد أوقاتًا لا يدخل فيها الأولاد على والديهم حتى لا تقع أعيُنهم على ما لا يُدرِكون من المُباح؛ أفليس من باب أَوْلَى أن نُشيحَ بأبصار الصغار ونصرِف علمهم عن العلاقة السلبية بين والديهم، فيعيشوا في بيئةٍ نقية، ونفسيةٍ رضيَّة. إن الخلاف له آداب، والخصومة لها حدود، ولا ضحية هنا للتجاوُز إلا المتجاوِز نفسه وأسرته ومستقبلهم جميعًا. أما بعد الطلاق والانفصال فتثور مسألة نفقة الأطفال، وزيارتهم لأحد الوالدين، وكم في هذه المسألة من صورٍ مِدادُها الأسى، وألوانها العناء؛ مع أن الله تعالى يقول: (لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ) [البقرة: 233]. وكم طفلٍ غُيِّب عن أمه ولا ذنب له إلا خلافٌ لم يكن طرفًا فيه، ولكنه عُوقِب به، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من فرَّق بين والدةٍ وولدها فرَّق الله بينه وبين أحبَّته يوم القيامة»؛ أخرجه أحمد، وصحَّحه الحاكم. فبأيِّ ذنبٍ يُحرَم الطفل حنان أمه أو لقاء أبيه وهو بَضعةٌ منهما، ولا غِنى له بأحدهما عن الآخر مهما فعل الأول، يجب أن يُمكَّن الطفل من رؤية والدَيْه، ومن الاتصال بهما متى أراد دون مُحاسبةٍ أو مُضايقة، ولا يجوز بحالٍ أن يكون الانفصالُ بين الوالدين داعيًا لأن يُربَّى الطفل على عقوق أحدهما أو عدم الإحسان إلى الآخر. يا من وقع الطلاق بينهم من الآباء والأمهات! لا تنسوا الفضل بينكم، واتقوا الله في أولادكم، إن خلافاتكم حبلٌ ممدود طرفاه بأيديكم، وفي وسطه عقدةٌ مُلتفَّةٌ على عنق الطفل، فكلما اشتدَّ أحدُ الأبَوَيْن في الجذب استحكَمَت العُقدة على عنق الطفل، مع أن خلافات الأبوين في الغالب يكون المغلوب فيها خيرًا من الغالب. كم من أبٍ يتحايلُ في تقليل نفقة أولاده، أو الهروب منها، لا لشيء إلا ليغيظ أمهم؛ فكيف يرجو برَّ أولاده بعد ذلك، ويتأمَّل دعاءهم وصدقتهم عنه حين يكبرون؟! أيها المسلمون: ومن صور الإساءة المنتشرة: الصياحُ والصراخُ في وجه الطفل، وتهديده وتخويفه، وكثرةُ مُعاتبته وتعنيفُه، وهذا مما يتساهلُ فيه الآباء والأمهات، والمُربُّون والمُربِّيات، ويتصرَّفون بمشاعرهم الغاضبة دون إدراكٍ للعواقب المُدمِّرة لنفسية الطفل. والتعنيفُ والتخويفُ يُورِث شخصيةً مهزوزة، ونفسيةً مُضطربة، ألا فاتقوا الله في وصيته: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ) [النساء: 11]، وليتق الله كلٌّ في رعيَّته؛ فكلٌّ مسؤولٌ ومُحاسَب. اللهم بارِك لنا في الكتاب والسنة، وانفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم. الخطبة الثانية الحمد لله حق الحمد وأوفاه، والصلاة والسلام على رسوله ومُصطفاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أيها المسلمون: خطأ الأطفال مغفور، وذنبهم معفوٌّ عنه، الله قد رفع عنهم قلم التكليف، فارفعوا أنتم عنهم أساليب التعنيف، قِفُوا بين العنف والضعف في موقف الحزم، واقدُرُوا لحداثة السن ومحبة اللهو قدرَها، وإذا كان الطفل لا يُضرَبُ على الصلاة وهي عمود الدين إلا وهو في العاشرة من عمره وبعد أن يُؤمَر بها مئات المرات؛ فكيف يُضربُ ابنُ سنتين وثلاث، وابنُ خمسٍ وسبع على شقاوةٍ فطرية، أو لهوٍ بريء؟! ولكم في هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - قدوةٌ وأُسوة؛ عن أس - رضي الله عنه - قال: "خدمتُ النبي -

25 محرم 1432 - أهمية تطبيق مبدأ الثواب والعقاب - الشيخ سعود الشريم

خطبة المسجد الحرام - 25 محرم 1432 - أهمية تطبيق مبدأ الثواب والعقاب - الشيخ سعود الشريم الخطبة الأولى الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيْرٌ [فاطر: 1]، خلق الخلق بعلمه وقدَّر لهم أقدارًا، جعل منهم الكافر والمؤمن، وصوَّرهم فأحسن صورهم وإليه المصير. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، بعثه الله بالحنيفية السمحة، فما ترك خيرًا إلا دلَّ الأمة عليه، ولا شرًّا إلا حذَّرها منه، وجعلنا على المحجَّة البيضاء ليلُها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه الغُرِّ الميامين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا. أما بعد: فأوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله - سبحانه -، والاعتصام به، والعضِّ بالنواجذ على كتابه وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، فبهما النجاة من الضلالة، والدليل إلى الهداية، فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة: 100]. أيها الناس: في ماضي دنيانا وحاضرها تواجدٌ محسوس للشيء ونقضيه، والشيء وضدِّه، والشيء ومثيله، والشيء وخلافه، ولو نظرنا بأنفسنا إلى كثيرٍ مما نعلمه بالحسِّ والمشاهدة والعقل لوجَدنا الخير والشر، والكفر والإيمان، والطاعة والمعصية، والحسن والقبيح، والحلال والحرام، والعدل والظلم، وهلُمَّ جرًّا. ولو دقَّقنا النظر بتدبُّرٍ وتفكُّر لرأينا أن مردَّ تلكم الأمور السالفة ونحوها راجعٌ إلى أصلٍ عظيمٍ وأُسٍّ أساس لا بد منه لإقرار التوازن، وتحقيق التقابل والتوسُّط المنشود الذي يقف بين الإفراط والتفريط، وبين الغلوِّ والجفاء، ولا تكمُن حقيقة هذا الأصل إلا في مبدأ الثواب والعقاب، نعم، في مبدأ الثواب والعقاب، والغُنْم والغُرْم، الثواب والغُنْم جزاءً لكل زَيْنٍ مما مضى ذكرُه، والعقابُ والغُرْم جزاءً لكل شَيْن مما مضى ذكرُه. أعني: الثواب بسبب الإيمان والخير والحسن والحلال والعدل والطاعة، ونحو ذلكم، وأعني: العقاب بسبب الكفر والقبيح والحرام والظلم والمعصية، ونحو ذلكم. وإنه لمِن المُسلَّم عقلاً وشرعًا أن ديننا الحنيف وشريعتنا الغرَّاء قد قاما على هذا المبدأ، وعلى جعل العقاب في كل أمرٍ محرمٍ ممنوع، وجعل الثواب في كل واجبٍ ومُستحب، والآيات في هذا المقام كثيرٌ جدًّا؛ فمنها - على سبيل المثال لا الحصر -: قوله تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت: 46]، وقوله: وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ [فصلت: 34]، وقوله: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس: 26]، وقوله: وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ [يونس: 27]، وقوله: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [النمل: 89، 90]، وقوله: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: 7، 8]. فإذا كانت هذه الآيات دالَّةً على التفريق والمُغايَرة بين الحسنة والسيئة؛ فإن هناك أيضًا ما يدل على التفريق بين فاعل الحسنة ومُرتكب السيئة، كما قال - سبحانه وتعالى -: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص: 28]، كل ذلك فيه دلالةٌ واضحة على دفع الإنسان وحثِّه على الالتزام بكل خيرٍ دعَت إليه شِرعة الإسلام، وتحذيره وزجره عن أن يقع فريسةً لكل شرٍّ نهَتْ عنه. وما كانت بعثتُه - صلى الله عليه وسلم - وإرساله إلى الناس كافة إلا من هذا الباب؛ فقد قال - صلوات الله وسلامه عليه -: «إنما بُعِثتُ لأُتمِّمَ صالح الأخلاق»؛ رواه أحمد، والبخاري في "الأدب المفرد". وقال - عليه الصلاة والسلام -: «كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبَى». قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: «من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبَى»؛ رواه البخاري وغيره. ومن هنا - عباد الله - فإنه لا يمكن لأي مجتمع مسلم أن يقوم مستقرًّا إلا بتحقيق مبدأ الثواب والعقاب في أوساطه، وعلى كافة أحواله؛ في العبادات والمعاملات والتربية والفكر والأسرة والبيئة والاقتصاد والإعلام والحقوق، على الذكر والأنثى، والشريف والوضيع، والغني والفقير، كما أنه لن يستقر مجتمعٌ انحازَ إلى أحد شطرَي هذا المبدأ، فلن يُفلِح مجتمعٌ لا يعرف إلا الثواب، ولن يسلك إلا مسلك الإرجاء، كما أنه لن ينهض مجتمعٌ لا يعرف إلا العقاب، ولم يسلك إلا طريق التنطُّع والمُشادَّة. ولأجل هذا - عباد الله - وصف الله أمة الإسلام بأنها الأمة الوسط، وما جعلهم خير أمةٍ أُخرِجت للناس إلا بتحقيقها مبدأ الثواب والعقاب؛ الثواب المُشار إليه بالأمر بالمعروف، والعقاب المُشار إليه بالنهي عن المنكر، كما قال تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران: 110]، وهذا هو سر تفضيل هذه الأمة؛ لأنها هي وحدها التي تملك هذا التوازن وتُمسِك به مع الوسط حتى لا يغلبَ طرفٌ طرفًا، ولا يبغي جانبٌ على جانب، ولولا هذا المبدأ لتساوى المُحسِن والمُسيء، والمؤمن والكافر، والعادل والظالم، والصادق والكاذب، والله - جل وعلا - يقول: وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ [غافر: 58]. ألا فاتقوا الله - يا رعاكم الله -، واعلموا أن الله شديد العقاب، وأن الله غفورٌ رحيمٌ، وأن الاستقامة الحقَّة والنجاح والفلاح في قولنا للمُحسِن: أحسنتَ، وقولنا للمُسيء: أسأتَ، دون نفاقٍ أو شقاق؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إذا رأيتَ أمتي لا يقولون للظالم منهم: أنت ظالم؛ فقد تُودِّع منهم»؛ رواه أحمد، والحاكم. وعلينا ألا نُهمِل الثواب؛ لأن الله - جل وعلا - يقول: وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ [الأعراف: 85]، ويقول - صلوات الله وسلامه عليه -: «من صنع إليكم معروفًا فكافِئوه». وألا نغُضَّ الطرف في الوقت نفسه عن العقاب؛ لأن من أَمِنَ العقوبة أساء الأدب، وأن من لم يستحِ فسيصنع ما شاء، والله - جل وعلا - يقول: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف: 99]. فإذا ما عمَّ مبدأ الثواب والعقاب مجتمعًا ما فلن يكون بين ذويه إلا الاتحاد والالتئام، والسِّياجُ الذي لا يُخرَق، والحِرز الذي لا يُنتهَك، وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود: 117]، وما اختلَّ هذا المبدأ في مجتمعٍ ما إلا صار بأسُهم بينهم شديدًا، وعلا بعضُهم على بعض، ويلعن بعضُهم بعضًا، تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى [الحشر: 14]، أعِزَّةً على بعضهم، أذِلَّةً على عدوهم، يخفِضون لعدوهم جناح الذلِّ من الرحمة والتبَعيَّة، ويرون الحسن من المخلصين قبيحًا، والجليل حقيرًا، حتى يضمحِلَّ المجتمع، وتتنسَّخ هيبتُه، فيذوب في أمةٍ ليست منه ولا هو منها، وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ [القصص: 59]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلتُ ما قلت، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفَّارًا. الخطبة الثانية الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. وبعد، فيا أيها الناس: قد جنَحَ بعضُ ذوي الأفهام المغلوطة فوصفوا الشريعة بأنها مجموعة تعاليم يغلب عليها العقاب والترهيب والتخويف الداعي إلى التنفير، وقد كذِب فهمُهم وخابَ ظنُّهم؛ حيث لم ينظروا إلا بعينٍ واحدة، ولم يُدرِكوا أن الثواب والعقاب صبغة الله، وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ [البقرة: 138]، فسخِروا من مبدأ العقاب والترهيب ووصفوه بالغِلظة والشدة والتشنُّج، كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا [الكهف: 5]، فاتهموا العقوبات في الإسلام، وقدَحوا في الحدود الشرعية، ووصفوها بألسنةٍ حِداد، فذمُّوا القِصاص، وقطع يد السارق، ورجم الزاني الثيِّب، وجلد شارب الخمر، وأرادوا للمجتمعات أن تسير عرجاء برِجلٍ واحدة وهي: الثواب لا غير. وآخرون غلطوا غلطًا فاحشًا في تطبيق الثواب والعقاب، وذلك من خلال أمورٍ أربعة: أولها: أنهم وضعوا الثواب في موضع العقاب، وجعلوا جزاء المُخطئ المثوبة كالمُحسِن على حدٍّ سواء، وهذا انحرافٌ مشين، وخروجٌ عن السبيل؛ إذ كيف يُثاب العاصي على معصيته، وكيف يُكرَم المرء على خطئه، فيُقلبُ حسنةً ومنقبة. وثانيها: أنهم وضعوا الثواب موضع العقاب؛ فجعلوا جزاء المُحسِن الحِرمان، وأنه هو والمُسيء على حدٍّ سواء، والله - جل وعلا - يقول: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [النحل: 76]، وصار البعض ينظر بعين العداوة، ولو أنها عين الرضا لاستحسنوا ما استقبحوه، ويا لله العجب حين تُعدُّ محاسن المرء التي يُدِلُّ بها ذنوبًا؛ فكيف سيعتذر منها؟! وثالثها: أنهم ميَّزوا بين الناس في الثواب والعقاب؛ فكان للنسب والجاه والمكانة والقرابة تأثيرٌ في ذلك، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إنما أهلكَ من كان قبلكم أنهم إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايْمُ الله! لو أن فاطمة بنت محمدٍ سرقَت لقطعتُ يدها»؛ رواه البخاري ومسلم. وحال البعض - عباد الله - أن عين الرضا عن كل عيبٍ كليلة، وأصبحت عينُ السُّخط لا تُبدي إلا المساوئ. ورابع الأمور: هو الإسراف في المثوبة فوق الاستحقاق، والإسراف في العقوبة فوق ما ينبغي، وما أحسن ما قال معاوية - رضي الله عنه -: "لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، فإن لم أجد من السيف بُدًّا ركِبتُه"، ولسانُ حاله يقول: ووضعُ النَّدى في موضع السيف بالعُلا مُضِرٌّ كوضع السيف في موضع الندى ألا فاتقوا الله - عباد الله، واقدروا هذا المبدأ حق قدره، وإياكم والاستحياء من الأخذ به سرًّا وجهرًا، فما المعرَّة إلا في تركه، أو تطبيقه على استحياءٍ أو تخوُّف، أو المِكيال فيه بمكيالَيْن، وماذا بعد الحق إلا الضلال. وإذا لم يُغبِّر حائطٌ في

3 صفر 1432 - الفرق بين نعيم الدنيا ونعيم الآخرة - الشيخ أسامة خياط

خطبة المسجد الحرام - 3 صفر 1432 - الفرق بين نعيم الدنيا ونعيم الآخرة - الشيخ أسامة خياط الخطبة الأولى الحمد لله الحكم العدل اللطيف الخبير، أحمده - سبحانه - له الدنيا والآخرة وإليه المصير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله البشير النذير، والسراج المنير، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه. أما بعد: فاتقوا الله - عباد الله -، واذكروا وقوفكم بين يديه يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا [النبأ: 40]. عباد الله: في ضرب الأمثال للناس من تقليب المعاني وإيضاح الحقائق ما يبعثُ على حُسن القبول وكمال التسليم لبراعة التصوير وبلاغة التشبيه، وهي من فنون القول البليغ الذي أمر الله به نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - بقوله: وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا [النساء: 63]. ولذا فحين أراد - عليه الصلاة والسلام - أن يُوجِّه الأنظار إلى حقيقة الحياة الدنيا وافتتان النفوس بها وافتتان الناس بها وبزهرتها وزينتها وزخرفها قال: «إن الدنيا حلوةٌ خضِرة، وإن الله مُستخلِفكم فيها فينظر كيف تعملون .. » الحديث؛ أخرجه مسلم في "صحيحه"، والنسائي في "سننه". ولا ريب أن للحلاوة والخُضرة مقامهما في النفوس؛ إذ هما موضع أنسٍ لها، وسبب إمتاعٍ تبلغُ به من السرور ما يحمِلُها على دوام الإقبال عليه والانصراف إليه، وللناس في هذا الإقبال والانصراف موقفان: أحدهما: موقف أُولي الألباب الذين هداهم الله، فسلكوا أصوبَ المسالك، واهتدوا إلى أشرف غاية، فعلموا - وإن كان لهم أن يأخذوا بحظِّهم ويُصيبوا ما قُدِّر لهم من نعيم العاجلة - فإن عليهم الحذر من أن يُشغِلهم هذا النعيم ببهجته ونضرته وبريق سحره عن ذلك النعيم المُقيم، والبهجة الباقية، والمتاع الذي لا يفنى، ذلك المتاع الذي أعدَّه الله للصالحين من عباده، وأخبر عنه بقوله - عزَّ اسمه -: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا [الكهف: 30، 31]. وأخبر عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله - في الحديث الذي أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «قال الله - عزَّ وجل -: أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأَت، ولا أُذنٌ سمعت، ولا خَطَر على قلب بشر، واقرأوا إن شئتم: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة: 17]». والذي وصفه أيضًا بقوله - عليه الصلاة والسلام -: «إذا دخل أهل الجنةِ الجنةَ يُنادِي منادٍ: إن لكم أن تصِحُّوا فلا تسقَموا أبدًا، وإن لكم أن تحيَوا فلا تموتوا أبدًا، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدًا، وذلك قول الله - عز وجل -: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الأعراف: 43]»؛ أخرجه مسلم في "صحيحه"، والترمذي في "جامعه" من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -. وبيَّن عِظَم قدره وعلوَّ منزلته على كل نعيمٍ في الدنيا بقوله: «غَدوةٌ في سبيل الله أو رَوحةٌ خيرٌ من الدنيا وما فيها، ولَقَابُ قوسِ أحدكم أو موضع قيده - أي: السوط - في الجنة خيرٌ من الدنيا وما فيها، ولو أن امرأةً من نساء أهل الجنة اطَّلَعت على أهل الأرض لأضاءَت الدنيا وما فيها ولملأَت ما بينهما ريحًا، ولنَصِيفُها خيرٌ من الدنيا وما فيها»؛ أخرجه البخاري ومسلم في "صحيحيهما"، والترمذي في "جامعه"، واللفظ له. إنه - يا عباد الله - نعيمٌ لا مُكافِئَ ولا مُساوي له فضلاً عن أن يفوقه أو يزيد عليه، فلا عجبَ أن يكون لهم في كل بابٍ من أبواب الخير نصيبٌ وافرٌ بالقيام بأوامر ربهم - سبحانه - أداءً للفرائض، وكفًّا عن المحارم، وازدلافًا إليه بالنوافل، واشتغالاً بكل نافعٍ يمكُثُ في الأرض، وإعراضًا عن الفضول والزَّبَد الذي يذهبُ جُفاءً، مُستيقنين أنهم حين يتخذون من أعمارهم المحدودة طريقًا إلى رضوان ربهم بما يستغرقونها من الأعمال وما يُودِعونها من الصالحات إنما يزرعون اليوم ليحصُدوا ثمار غرسهم غدًا، مُستحضِرين - على الدوام - قول ربهم - عزَّ وجل -: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ [الشورى: 20]، وقوله - سبحانه -: وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا [الإسراء: 19]. فكانوا بهذا النهج السديد، وهذا المسلك الرشيد خيرَ من امتثل الأمر الرباني الوارِد في وصية لقمان لابنه: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ .. الآية [القصص: 77]، فأحسَنوا إلى أنفسهم غاية الإحسان باتخاذهم الحياة الدنيا مُسلةً وسبيلاً مُوصِلاً إلى رضوان الله، وإلى نزول الجنة دار النعيم المُقيم، وكانوا بذلك أحكم الخلق، وأعقل العباد وأكرمهم على الله. وعلى العكس منهم: أولئك الذين أغفل الله قلوبهم عن ذكره، واتبعوا أهواءهم وكان أمرهم فُرُطًا، فإنهم جنَحوا إلى سُبُل الضلال، وحادوا عن الجادة، فقعدوا عن أداء الفرائض، ووقعوا في محارم الله، واستكثَروا من أكل الحرام، وعبَدوا الدينار والدرهم، وقام الشُّحُّ عندهم مقام البذل فتقطَّعت بينهم الأسباب، ووَهَت الوشائج، وانفَصَمت العُرى، وأضحَى التمتُّع بالنعيم الفاني مُنتهى قصدهم، وغاية سعيِهم، وأكبر همِّهم، ومبلغ علمهم، جمعوا لدنياهم ونسوا أخراهم، فلم يرفعوا بثوابها رأسًا، فكان جزاؤهم كما قال - سبحانه -: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا [الإسراء: 18]، وحقَّ عليهم ذمُّ الله وتوعُّده لهم في قوله - عزَّ من قائل -: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ [التكاثر: 1 - 8]. فاتقوا الله - عباد الله -، وكونوا مع الذين ابتغَوا فيما آتاهم الله الدار الآخرة، ولم ينسَوا نصيبَهم من الدنيا، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولوا الألباب، ولا تغُرنَّكم الحياة الدنيا بزخرفتها وزينتها؛ فقد بيَّن لكم ربكم - سبحانه - حقيقتَها وواقعها بأوضح بيانٍ فقال - وهو أصدق القائلين -: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [الحديد: 20]. نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنه نبيه - صلى الله عليه وسلم -، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ، إنه هو الغفور الرحيم. الخطبة الثانية إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه. أما بعد، فيا عباد الله: جاء في الحديث الذي أخرجه مسلم في "صحيحه"، والترمذي في "جامعه" عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «قد أفلَحَ من أسلم ورُزِق كفافًا وقنَّعه الله بما آتاه». وفي الحديث الذي أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «اللهم اجعل رزق آل محمدٍ قوتًا»، وفي رواية: «كفافًا». وهو توجيهٌ نبويٌّ ما أحكمه وما أعظمه، وما أجمل العُقبى في الأخذ به بانتهاج نهج القناعة التي تسكن بها النفس، ويطمئنُّ القلب، وتطيبُ الحياة، فإنما هي دار انتقالٍ ومرٍّ لا يصحبُ المرءَ منها إلا ما قدَّم لنفسه من الصالحات. فاتقوا الله - عباد الله -، وليكن هذا النهج السديد خير ما تعتدُّونه في سيركم إلى ربكم. واذكروا على الدوام أن الله تعالى قد أمركم بالصلاة والسلام على خير الأنام، فقال في أصدق الحديث وأحسن الكلام: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56]. اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الآل والصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا خير من تجاوز وعفا. اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزة الدين، ودمِّر أعداء الدين، وسائر الطغاة والمفسدين، وألِّف بين قلوب المسلمين، ووحِّد صفوفهم، وأصلِح قادتهم، واجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين. اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم - وعبادك المؤمنين المجاهدين الصادقين. اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامنا ووليَّ أمرنا، وهيِّئ له البِطانة الصالحة، ووفِّقه لما تحب وترضى يا سميع الدعاء، واكتب له ثوب الصحة وأتِمَّ عليه ثوب الصحة والعافية. اللهم وفِّقه ونائبَيه إلى ما فيه خير الإسلام والمسلمين، وإلى ما فيه صلاح العباد والبلاد، يا من إليه المرجع يوم المعاد. اللهم أحسِن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجِرنا من خِزي الدنيا وعذاب الآخرة. اللهم زِدنا ولا تنقصنا، وأكرِمنا ولا تُهِنَّا، وأعطِنا ولا تحرِمنا، وآثِرنا ولا تُؤثِر علينا، وأرضِنا وارضَ عنَّا يا رب العالمين. اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحوُّل عافيتك، وفُجاءة نقمتك، وجميع سخطك. اللهم أصلِح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلِح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلِح لنا آخرتنا التي إليها معادُنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، والموتَ راحةً لنا من كل شر. اللهم اكفِنا أعداءك وأعداءنا بما شئتَ، اللهم اكفِنا أعداءك وأعداءنا بما شئتَ، اللهم اكفِنا أعداءك وأعداءنا بما شئتَ يا رب العالمين، اللهم إنا نجعلك في نحور

10 صفر 1432 - الرقية الشرعية أحكام وآداب - الشيخ عبد الرحمن السديس

خطبة المسجد الحرام - 10 صفر 1432 - الرقية الشرعية أحكام وآداب - الشيخ عبد الرحمن السديس الخطبة الأولى الحمدُ لله وليِّ النِّعَم الهَامِيَة ومُعقِّباتها، ومانِحِ القلوب أسباب العافية بصدق نيَّاتها، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً تُبرِئُ الأبدانَ من اعتلالاتها، وتُوفِّيها من السلامة اعتدالاتِها، وأشهد أن نبيَّنا وحبيبَنا محمدًا عبد الله ورسوله، وصفيُّه وخليلُه، خيرُ من طبَّ الأدواءَ بأزكَى علاجاتِها، وبلَّغ الأمة من السعادة غاياتها، صلَّى الله عليه وعلى آله البالغين من مقامات التُّقَى في الرُّقَى نهاياتها، وأصحابِه الكرام فُرسان الهداية ودُعاتها، والتابعين المُقتفين آثارهم في عوائد الأمور وبداياتها، ومن تبعهم بإحسانٍ وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله - يا عباد الله -، واستمسِكوا من التقوى بالعُروة الوُثقى؛ فما أزكَى مغبَّاتها، وأهنَى ثمراتها، واعتبِروا صحة الأبدان قبل العِلَل وآفاتها، وابتدِروا القُرُبات والصالحات قبل فواتها، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة: 197]. فيا أيها الإنسان بادِر إلى التُّقَى وسارِع إلى الخيراتِ ما دُمتَ مُمهَلُ فما أحسنَ التقوى وأهدَى سبيلَها بها يرفعُ الإنسانُ ما كان يعملُ أيها المؤمنون: دبَّجَت أمتُنا الإسلامية عبر حضارتها الإنسانية السامِقة المثلَ المُبهِر الجليل في ميادين الاستشفاء الأصيل المُعتمِد على نور الكتاب والسنة القاضِيَيْن بإخراج الناس روحًا وذاتًا من دَرَك الأدواء والدُجُنَّة، ولكن في هذا العصر الزخَّار بشتَّى التحدِّيات، المُضطرِب بمَشُوب المقاصد والنيَّات، أسفَرَ عن قضية علاجيَّة عقديَّة، ومسألةٍ مهمَّةٍ سنيَّة؛ تلكُم - أيها الأحبة الأكارم -: دوائية الرُّقْية الشرعية، والأدعية النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحيَّة. وتكمُن أهميتها القُصوى في كون جوهرها علاج الأبدان والنفوس التي ليس لها دون التفريط فيها عِوَضٌ أو بدل، وتحصيل حِفظها وسلامتها غايةُ المُنى والأمل، يقول - صلى الله عليه وسلم -: «من باتَ آمنًا في سِرْبه، مُعافًى في بدنه، عنده قُوتُ يومه؛ فكأنما حِيْزَت له الدنيا بحذافِيرها»؛ أخرجه الترمذي وحسَّنه. معاشر المسلمين: وفي هذا الزمان عمَّت أمراضٌ مُتفاقِمة، جمًّا من الأقطار وفيها توغَّلَت، وأمَّتْها العِللُ وتغلغلَت؛ من صَرَعٍ ومسٍّ وسحرٍ وعينٍ، ونفسٍ وحسدٍ مُفضٍ إلى حَيْن، وقد أشرَقَت الآيات القرآنية بأعظم برهان، والنصوص الحديثية بأروع بيان، والشاهد من الواقع والعَيَان أنهما البلسَمُ والشفاء لكل داءٍ عَيَاء، يقول - سبحانه -: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ [فصلت: 44]، ويقول - صلى الله عليه وسلم - في معرِضِ تقرير الرُّقَى والحثِّ عليها -: «اعرِضُوا عليَّ رُقاكم، لا بأسَ بالرُّقَى ما لم تكن شركًا»؛ أخرجه الإمام مسلم. وكم من مريضٍ أشرفَ على الهَلَكات والممات، ولم تُجدِ في عِلَّته فخامةُ المِصحَّات، ولا البراعةُ من النِّقاسيِّين والأطباء، واستطبَّ بالرُّقية الشرعية، فحقَّق الله له البُرءَ والشفاء، وذلك مصداقُ قوله - صلى الله عليه وسلم -: «عليكم بالشِّفاءَيْن: القرآن والعسل»؛ أخرجه ابن ماجه، والحاكم، والبيهقي بسندٍ صحيحٍ. قال الإمام السيوطي - رحمه الله -: "جمع - صلى الله عليه وسلم - بين الطبِّ الإلهي والطبِّ البشري". ويقول العلامة ابن القيم - رحمه الله -: "فالقرآن هو الشفاء التام من جميع الأدواء القلبية والبدنية إذا أحسن العليلُ التداوي به، وكيف تُقاوِمُ الأدواءُ كلامَ ربِّ الأرض والسماء الذي لو نزل على الجيال لصدَّعَها، أو على الأرض لقطَّعَها". الله أكبر! يا له من قولٍ كالإبريز، من نحريرٍ أربَى على التَّبْريز. إخوة الإيمان: وفي إغفال كثيرٍ من شرائح المُجتمع آثارَ الرُّقيَة الشرعية، والجوانب الإيمانية والعَقَدية لدى المرضى انجَفَل كثيرٌ منهم إذا بطَّأَ بهم الشفاء، وفدَّحَتهم الآلام والأدواء، وقرَّحَهم السِّقامُ والرَّهَق، وغدَوا من العجز والضراعة في وَهَق - عافاهم الله -، انجَفَلوا بقصدٍ أو بغيره إلى أحلاسِ الشعوذة والدَّجَل والطلاسِم والخُرافات والسحر والخُزعبلات والمخالفات، وتلقَّفَهم من في سِلكِهم من أدعياء الرُّقيَة الشرعية. وهنا - يا عباد الله - مقامُ عَجْم الحروف، ولا بُدَّ من كشف أحوال الرُّقاة الزُّيُوف، ومنعِ من يتطرَّق إلى مجال الرُّقيَة وهو عارٍ عن ردائها، وكفِّ من يتقحَّمُ علاجَ النفوس وهو عُضْلٌ عن معرفة أدوائها، فضلاً عن دائِها. وأن تُصانَ أوصابُ العباد عن غير راقِيها الصادق البصير، وتُحمَى حوزةُ الاسترقاء عن الجَهَلة وأهل التكدير، كيف وإنك راءٍ خلف الأَكَمَات عجبًا؛ فهذا راقٍ يُسفسِطُ بكتابةٍ غامضةٍ ويُتمتِمُ، وآخرُ يُهرطِقُ بمُبهَم الكلام ويُدمدِم، وآخرُ يقطعُ بأن الداء عين، والعائِنُ من ذوي القُرْبى، وما درَى أنه أتى الحُمقَ وقطع الأرحامَ وأردَى. أما الرُّقَى المجهولة المعاني؛ فذاك وسواسٌ من الشيطان، فحذرًا ثم حذارِ منه، لا تعرِفِ الحقَّ وتنأَى عنه. وآخرُ لا ينفكُّ عن ضربٍ مُبرِّحٍ يهدِمُ الجلامِيد، فكيف بالجسم المُعنَّى العميد، ويزعُمُ - في بُهتان - أن العذابَ الأليمَ للمارِدِ لا للإنسان، والمريضُ الضارعُ يُدافِعُ سوادَ فعلةِ الرَّاقي بصمتٍ لاهبٍ كالحميم، وبعضُهم يتجلَّد بالأنين الجاذِع الكظيم. وسواهم إن أعيَتْه الحِيَل لبَّبَ العليلَ من المخانِق؛ فِعلَ عدوٍّ حانِق، وآخرُ يصعقُ بالكهرباء حتى الإغماء أو الإفناء. ربَّاه ربَّاه! أيُّ جهلٍ مُركَّبٍ أُوتوه، رُحماك ربَّنا رُحماك. أيها المسلمون: وجُلُّ هؤلاء الأدعياء يُموِّهون بإظهار سمتِ العُقلاء التُّقاة، وإن هم إلا من المُخادِعين الدُّهاة، المُحتالين لابتزازِ أموال الناس واستدرارِها على غير قياس، وقد يُزجُّ بوصَفَاتٍ تُروِّجُ للوَهم وتجارة الدَّجَل باسم المشاهير لخِداع الجماهير، واستغلال ربَّات الخُدُور بما يجُرُّ إلى البلايا والشرور، وإنك لواجِدٌ في عالم المرأة مع هؤلاء الدجاجِلة ما يُذهِلُ الألباب، ويُثيرُ العَجَبَ العُجاب، كيف والمُدنَفُ العليل تمنَّى زوَال السَّقَم ولو فدَّاه بالنُّضار وما ملَكَت يداه. وعلى إثر تلك التجاوزات الشرعية، والمخالفات الزَّرِيَّة لزِمَ ألا يتعرَّضَ لهذا العلم الشرعي إلا ذو ديانةٍ مشهورةٍ، وأمانةٍ منشورة، وسيرةٍ مُثْلَى مشكورة، بصدقٍ في العلاج شاف، وحِذْقٍ كاف، وورعٍ عما في أيدي الناس صاف، وتنزُّهٍ عن الغِلْظة والعُجب والتجاف، وأن يكون الرَّاقِي رحيمًا رقيقًا بالمرضى رفيقًا، غاضًّا أطرافه دون موضع الداء خصوصًا لدى النساء، مع الحَذَر من دواعي الاختلاء المُحرَّم، وما يدعو إلى الفتنة والالتزام بالضوابط الشرعية في هذا المجال. ومن كان هذا لازمَ وصفه حقيقٌ أن يُوفَّق ويُسدَّد، وترمُقَه الأبصارُ بالتقدير والوَقار، وقد عدَّ أهل العلم شروطًا ثلاثة للرُّقية الصحيحة: أولها: أن تكون بأسماء الله وصفاته وآياته القولية. الثاني: أن تكون بلغةٍ عربية واضحةٍ المباني مفهومةِ المعاني. الثالث: أن يُعتقَد أن الرُّقيَة لا تُؤثِّر بذاتها؛ بل بتقدير الله تعالى. أيها الإخوة الأحبة المُسترقُون: أيها المُتلهِّفون للعافية والإبلال - منَّ الله عليكم بالبُرْء من الاعتلال -: عليكم بالرُّقاة الصادقين الأخيار، وهم وَفرٌ - بحمد الله -، المُتمسِّكين بالمنهج الصحيح في العلاج، والأملُ أن تحظَوا بالفَرَج والانبِلاج، والأكملُ أن يرقِيَ المريضُ نفسَه؛ لأنه أدعى لمقام الذلِّ والافتقار. شكى عثمان بن أبي العاص - رضي الله عنه - إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجعًا في جسده، فأرشده - عليه الصلاة والسلام - قائلاً: «ضع يدَكَ على الذي تألَّم من جسدك وقل: بسم الله ثلاثًا، وقل سبع مراتٍ: أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجِد وأُحاذِر»؛ أخرجه الإمام مسلم. إن الرُّقَى من حَمًى أو عيْن فإن تكن من خالص الوحيَيْن فذاك من هدي النبي وشِرعَته وذاك لا اختلافَ في سنيَّتِه ناهِيكم عن تحصين البيوت والأولاد بالأوراد الشرعية، والأذكار الصباحية والمسائية؛ فهي الحِصن الواقي - بإذن الله -، مع التوكُّل الجازِم على المولى البصير السميع، وتفويض الأمر لتدبيره المُحكَم البديع، وليس معنى ذلك: ترك الأسباب وحُسن التدبير؛ كلا، وإنما حقيقته: عدمُ الاعتداد بمُكْنة الرَّاقي وكفايته، والاعتمادُ في حصول السبب على توفيق الله وعنايته، أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [الزمر: 36]. فاليقينُ في الله أجلُّ العزائمِ قدرًا، وأجلاها في حُلَك الحيرة بدرًا. وثِقتُ بربي وفوَّضتُ أمري إليه وحسبي به من مُعيني فلا تبتئس لصروف الزمان ودعْني فإن يقيني يقيني مع اتخاذ السبب الدوائي من الطبِّ الحديث، سواءٌ أكان المرضُ عضويًّا أم نفسيًّا، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «تَدَاوَوا - عباد الله - ولا تَداوَوا بحرام»؛ أخرجه أبو داود، والبيهقي بإسنادٍ صحيح. وبعدُ، أمة الإسلام: فإن الرُّقية الشرعية تطبيقًا وعلاجًا تستوجِبُ استِنفار الهِمَم، وتبرِئَة الذِّمَم في سائر الأقطار للضبط والتأصيل، والبيان والتفصيل، تحت مِظلَّةٍ راسِخةٍ علمية، مكينةٍ رسمية، تنطلقُ بهذا العلم الدوائي إلى معارِج النور والانتفاع، والتألُّق والإبداع، حفظًا للأفراد والمجتمعات، وغيرةً لجانب العقيدة العتيدة، وحِيَاض الشريعة البديعة الفريدة. ذلكم وإنا لنحمدُ الله - سبحانه - على ما تنعَمُ به هذه البلادُ المباركة من عنايةٍ بتحقيق الرُّقية الشرعية، وفق الضوابط المرعيَّة والآداب السنيَّة في تعقُّبٍ يقِظ لأهل الشَّعْوَذة والدَّجَل، ومن في مسلكهم من أهل الزَّيْغ والضلال والدَّخَل، تصحيحًا للمسار، وكشفًا للدُّخَلاء. وإن الغَيُور ليُبارِك هذه التوجُّهات الميمونة الحديثة حِيال تنظيم أمر الرُّقَى ومتابعة الرُّقاة، في الوقت الذي كثُر فيه الأدعياء والمُتخرِّصون والمُتاجِرون الذين وصل بهم الحال إلى استِنفار وسائل الاتصال الحديثة، والقنوات الفضائية لنشر الأضاليل الأباطيل. وإنه لا بُدَّ لصدِّ هذا الطوفان الجارِف من تأهيل كل مُتصدٍّ لهذا المجال وحُصوله على ما يُؤهِّلُه لذلك؛ من شهاداتٍ شرعية، وتزكيَاتٍ علمية من جهات الاختصاص. والله المسؤول أن يُبارِك في صادق الجهود، وتحقيق كل أملٍ منشود، إنه جوادٌ كريم. أعوذ بالله من الشيطان: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا [الإسراء: 82]. بارك الله ولكم في آيِ الكتاب، وبسنَّة النبي المُصطفى الأوَّاب، أقولُ قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافة المسلمين من كل خطيئةٍ وإثم، فاستغفوره وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم. الخطبة الثانية الحمد لله، أسبغ على عباده النِّعَم الدُّرَر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يعلمُ خفيَّات القلوب من أسرَّ ومن جهَر، وأشهد أن نبينا محمدًا عبدُ الله ورسوله ا

17 صفر 1432 - حرمة دم المسلم - الشيخ صالح آل طالب

خطبة المسجد الحرام - 17 صفر 1432 - حرمة دم المسلم - الشيخ صالح آل طالب الخطبة الأولى إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله تعالى حق التقوى، واستمسِكوا من الإسلام بالعُروة الوُثقى. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102]. التقوى شعورٌ حيٌّ في داخلِك يُشعِرك أن الله يراك ويُراقِبُك ويُحصِي عملك، فاتقوا الله واعلموا أنكم مُلاقوه. أيها المسلمون: لله في خلقه إبداعٌ وتصوير، وله في ملكوته تكوينٌ مُذهِلٌ وتقدير، السماوات وعُمَّارُها، والأراضون وسُكَّانُها، والبحار وأعماقُها، وكل ما جرى عليه قدر النشأة وإرادة التكوين، كل أولئك بالغاتٌ من الحُسن أعلاه، ومن الجمال ذُراه، ومن الإبداع غايته ومُنتهاه. ألا وإن محلَّ الإنسان من ذلك الخَلق، وقدرَه من ذلك الإبداع هو محلُّ الجوهرة من التاج، ومكان الغُرَّة من الجبين، الإنسان أحسنُ خلق الله تقويمًا، وأعدلُه تسويةً وأحكمُه تركيبًا، وأعظمُه حُرمةً وأكثرُه تكريمًا، وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ [الإسراء: 70]، يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ [الانفطار: 6 - 8]، وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين: 1 - 4]. الإنسان بُنيان الله، وهو محلُّ التكليف من الخلق، رُوحه وديعةُ الله فيه، ودمُه أمانةٌ تنسابُ في أورِدَته ومجاريه، خلقَه وسوَّاه ونفخَ فيه من روحه، فأعظمُ الإثم وأشدُّ الحَوْب: أن يعتدي مُعتدٍ فيهدِم ذلك البُنيان، ويستلِبَ تلك الروح، ويُهدِر ذلك الدم، كائنًا من كان المُعتدِي وكائنًا من كان المُعتدَى عليه. أما إذا كان المُعتدَى عليه مُسلمًا قد لهَجَ لسانُه بالشهادتين، واطمأنَّ قلبُه بالوحيَيْن، وذلَّتْ جوارِحُه لأحكام الدين؛ فإن العُدوان عليه أشد خطرًا، وأعظمُ وِزرًا، لذا كانت حُرمتُه أشدَّ من حُرمة الكعبة، وكان زوالُ الدين أهون عند الله من قتل رجلٍ مسلمٍ؛ رواه الترمذي، والنسائي. إن مكانة الفرد في الإسلام رسالةٌ مُقدَّسةٌ تنزَّلت من رب العالمين: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء: 93]، وعيدٌ شديد لا يحتاج إلى شرحٍ أو تعقيب. أيها المسلمون: لقد طال الأمَدُ على الناس بعد الأنبياء، وخبَت في نفوسهم قيمةُ الإنسان وحُرمتُه، فاسترخَصوا الدماء، واستسهَلوا الاعتداء، واحتقَروا الإنسان؛ إما لطمعٍ دنيوي، أو تأوُّلٍ ديني، أو دافعٍ عنصري وقبَلي، أو حِراكٍ سياسي، وجِماعُ ذلك كله: ضعفُ الدين في النفوس وبقايا جاهليةٍ في العقول. لقد جاء الإسلام يوم جاء والعربُ ترفُلُ في ثيابٍ من الجهل، حُرمة البهيمة عند بعضهم أشد من حُرمة الإنسان، فلأجل ناقة البَسُوس امتدَّت حربٌ بين العرب لعقود، وذهَبَت فيها كثيرٌ من الأرواح، وانتقَضَت جراحٌ وسالَت شِعابٌ من الدماء، وكانت الحربُ بين الحيَّيْن من العرب تقومُ بسبب بيتٍ من الشعر أو كلمة، وقال قائلُهم: وأمرُ الحرب مبدأُه كلام. وكان إذا قُتِل الشريفُ في قومٍ لم يبرُد دمُه إلا بالقِصاص من عددٍ من قومِ القاتل أو أشرافهم، إلى هذا القدر كان التساهُل في الدماء، واسترخاصُ الجِناية والاعتداء. وكلما خبَت أنوار العلم في أمة، وتضاءَل الدينُ في نفوس أفرادها؛ كلما اقتبَسوا من تلك الجاهلية شُعَلاً، واستمدُّوا من جهلها جهلاً، إلى أن جاء الإسلام فكرَّم الإنسان، وجعل أول ما جعل معبودَه الله، وخلَّصه من عبادة الشجر والحجر، ثم أسَّس وعظَّم مسألة الدماء؛ فأكَّد القرآنُ الكريمُ شريعةً غابرةً من شرائع بني إسرائيل، فقال الله - عز وجل -: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة: 32]. لأن الاستهانة بحياة واحدٍ هي استهانةٌ بحياة الناس كلهم، وقتلُ النفس الواحدة هو بمثابة قتل الإنسانية جمعاء، فجعل الواحدَ يُساوي أمةً في حُرمة دمه، بعكس الجاهلية التي جعلت الأمةَ من الناس تُساوي واحدًا، إلا إنه عند الإحياء جعل القرآنُ إحياءَ الواحد يُساوي إحياءَ أمة. وتوالَت النصوص وتتابَعَت التشريعات تحفظُ للإنسان دمَه، وتحرِمُ رُوحه وحقَّه في الحياة مُسلمًا كان أو كافرًا؛ بل إن أعظم ذنبٍ - وهو الشرك - أجمعَت الأمة على أن لمن اقترَفَه توبة منه - وهو الإسلام والتوحيد -، في حين أن القاتل اختلف أهلُ العلم فيه هل له توبةٌ أو لا؟ إلى هذا الحد بلغ الخطرُ في التعرُّض للإنسان قتلاً كان أو جرحًا، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كل دمٍ عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموتُ كافرًا، أو الرجل يقتل مؤمنًا متعمِّدًا»؛ أخرجه أبو داود، وقال الحاكم: صحيحٌ الإسناد، وأخرجه النسائي أيضًا. وقد كان ابن عباس وجمعٌ من الصحابة - رضي الله عنهم - يرون أنه لا توبة لقاتل المؤمن عمدًا. وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لن يزال المسلمُ في فُسحةٍ من دينه ما لم يُصِب دمًا حرامًا»؛ رواه البخاري. وعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: "إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسَه فيها: سفكَ الدم الحرام بغير حِلِّه"؛ رواه البخاري. وفي التنزيل العزيز: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا [الفرقان: 68، 69]. وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أول ما يُقضَى بين الناس في الدماء»؛ أخرجه البخاري ومسلم. وفي "الصحيحين" قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أكبرُ الكبائر: الشرك بالله، وقتل النفس .. » الحديث. عباد الله: ولأن الله اختصَّ بشأن هذه النفس وبأمر الروح فلا يملِك الإنسانُ أن يعتدِي على نفسه، أو يُزهِقَ روحَه، فهي وديعةُ الله ومُلكُه، ليس لصاحبها إلا حراستُها حتى تُستوفَى منه، فمن حاول الاعتداء على نفسه ولم يمُت عُوقِبَ، وإن مات فوعِيدُه في الآخرة شديد، وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا [النساء: 29، 30]. إن الانتحار والإلقاء بالنفس للهلاك جريمةٌ واعتداء تجاه الفطرة والإنسانية والدين، عن جُندب - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «كان برجلٍ جراحٌ فقتلَ نفسَه، فقال الله: بَدَرَني عبدي بنفسه، حرَّمتُ عليه الجنة»؛ رواه البخاري ومسلم. وفي "الصحيحين" أيضًا: شهِدَ النبي - صلى الله عليه وسلم - لقاتل نفسه بالنار مع أنه كان يُجاهِد مع المسلمين، لكنه جزِعَ من جِراحه. أيها المكروبون: من خاف شيئًا أو أصابه بلاء، أو نزلت به محنةٌ أو اشتدَّت عليه كُربة، فلا يجوز له أبدًا أن يقتُل نفسَه، فإن فعل فإن مصيره إلى النار. إن بروز ظاهرة الانتحار تستلزِم من أرباب التربية والمُصلِحين وقفةً جادَّةً تجاه ملاحظة أصحابها وأسبابها ومُؤجِّجاتها؛ من ضعف الدين، والانحراف، والبَطَالة، وتعاطِي المُسكِرات والمُخدِّرات، ومُثيرات الضغوط النفسية في الحياة، يجبُ أن يُعالَج كل ما يؤدِّي إلى اليأس والإحباط، وأن تُربَّى النفوس على الإيمان بالله، والاعتصام به، واللَّجَأ إليه، وما يؤدِّي إلى الطمأنينة بالله، ولا يكون ذلك إلا بالتزكية بالإيمان. عباد الله: ولما اقتضَت سنة الله في الكون أن يتعاظَم الشر في بعض النفوس فلا تنتهي عن شرها إلا بالقتل، وأن يصطرع الهدى والضلال فلا يحكم بينهم إلا السيف؛ كانت شِرعة الله العادلة: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 179]، القِصاص إبقاءٌ على الحياة كلها، وربطَ الأمرَ بالتقوى؛ لأنه بغير التقوى لا تقوم شريعة، ولا يُفلِح قانون، ولا يتحرَّج مُتحرِّج. وما أكثر الأمراض النفسية والفكرية التي تظهر أو تخفى في سلوك الأفراد، وقد شُرِعت سيرٌ وعباداتٌ منوعة يستشفي بها الذين ينشُدون العافية، والذين يُؤثِرون حياة الشرف والسِّلم، فلا يبسُطون أيديهم بالأذى، ولا يلَغون في دمٍ أو عِرضٍ أو مال؛ فهل نعتذِر لشخصٍ يهتِك الحُرمات؛ لأنه مُستطار الشهوة، أو نعتذِر لسفَّاكٍ يُرخِصُ الدماء؛ لأنه مُنحرِف المزاج، وإلا فلماذا إذًا تُقتل الكلابُ المسعورة والذئابُ المُغتالة. إن القاتل يُقتل ولا مساغ للجدال عنه، وإن القِصاص في النفس والأطراف شريعةٌ قديمة عادلةٌ حكيمة: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ [المائدة: 45]، وكانت الشريعةُ حاسمةً في صيانة النفس بلا تهاونٍ ولا تساهُل. أيها المسلمون: أحكام القِصاص والمغازي والحروب من أدق الأحكام وأكثرها تفصيلاً، وجُعِل أمرُها لأمراء المسلمين وقضاتهم، واحتيطَ في أمرها أشد الاحتياط، وكم غضب النبي - صلى الله عليه وسلم - وتبرَّأ من فعل بعض أصحابه حين اجتهدوا وتجاوزوا في مقاتلة المُشركين، وعاتَبَ أسامة بن زيد عتابًا مُرًّا، وقال: «أقتلتَه بعد ما قال: لا إله إلا الله» حتى قال أسامة: ودِدتُ أني لم أُسلِم إلا حينئذٍ؛ متفق عليه. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من خرج على أمتي يضرِبُ بَرَّها وفاجِرَها، ولا يتحاشَى من مؤمنها ولا يفي لذي عهدٍ عهدَه فليس مني ولستُ منه»؛ أخرجه مسلم. ألا فليسمع ذلك وليعِه شبابٌ أغرار جعلوا دماء المسلمين والمُستأمنين مسألةً خاضعةً لنقاش سُفهاء وجُهلاء لم يتجاوزوا ربيع العشرين من أعمارهم، فتنطلق رصاصةٌ هنا وتنفجِر عبوةٌ هناك، سالبةً معها أرواحًا ومُحدِثةً جِراحًا، ويأملون بعد ذلك الأجرَ من الله، وربما كُتِبوا في عِداد الأشقياء وهم لا يعلمون. ألا فاتقوا الله تعالى في الدماء، واحذروا التهاون في إزهاق الأنفس والأرواح، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُ

24 صفر 1432 - أهمية التخصص في تولي العمل- الشيخ سعود الشريم

خطبة المسجد الحرام - 24 صفر 1432 - أهمية التخصص في تولي العمل- الشيخ سعود الشريم الخطبة الأولى الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، أعطى كل شي خلقه ثم هدى، له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم وإليه ترجعون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدً عبدالله ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وعلى أصحابه والتابعين ومن سار على طريقهم واتبع هداهم إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيرا. أما بعد فأوصيكم - أيها الناس- بتقوى الله والاستقامة على دينة، والدعوة إليه، والعمل به، فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه، واشكروا له، إليه ترجعون. أيها الناس .. إنه لانجاح لأي مجتمع مسلم دون تكامل، ولا تكامل دون معرفة كل فرد ماله وما عليه، وما هو من شأنه وما هو ليس من شأنه، وما هو مهم وما هو أهم، كما أنه لا استقرار ولا توازن للمجتمع دون إدراك لقائمة الأولويات ومعرفة ما يجب تحصيله من المصالح، وما يجب درءه من المفاسد، وما هو من الاختصاص وما ليس من الاختصاص. ذلك كله كي لا تختلط الأمور، ولا تتبعثر المصالح، ولئلا يصبح الناس فوضى لا سراةَ لهم. وإن مما يعنينا من هذا كله ما يسمى بمبدأ "التخصص"، نعم التخصص الذي يعني اقتصار عضواً أو فردً أو جماعةً على فنٍ معين، أو عملٍ معين، وهو من الضرورات للمجتمع المتكامل، حيث يفرق الأعمال والعلوم بين الأفراد، كل فرد بما وهبه الله من قدرة ومعرفة في مجاله، أو بما أوكل إليه من مصالح المسلمين. وهو بلا شك، يزيد في الاتقان ويؤدي إلى المهارة والجودة والاكتشاف والاختراع، ويحد من الفوضى بتنازع الاختصاص أو تدافعه، لاسيما إذا كان تنازع تضاد لا تنازع تنوع. ومن تتبع أمثلة من الخلاف والفرقة والتنازع عبر التاريخ والاخفاق في مصالح المسلمين لوجد لإهمال جانب التخصص دوراً كبيراً في هذا الإذكاء، وبما أن الشريعة الاسلامية هي شريعة التكامل التي لا يعتريها النقص بوجه من الوجوه، فإن الباري -جل شأنه- ذكر في كتابه المبين ما يؤكد هذا الأمر تأكيد لا مجال للتنازع فيه فقد قال سبحانه وتعالى (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) فقد دلت هذه الآية على أنه لا يمكن أن يكون كل الناس علماء، ولا أن يكون كل الناس حكّاماً ولا أن يكون كلهم مجاهدين، ولا أن يكونوا كلهم فلاحين أو دارسين أو غير ذلك. وقد جاء في آية أخرى ما يدل على هذا المعنى وعلى أنه يجب أن يُرد الاختصاص إلى أهله وأن لا يفتات عليهم فيه، فقد قال سبحانه: (لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً) ولم يقف التوجيه للتخصص عند هذا الحد -عباد الله-، بل إنه قد جاء في السنة ما يدل على أن الاختصاص ينبغي أن يرد إلى أهله وأن لا يتطفل عليهم فيه، أو ينتزع منهم، وليس ذلك مختصا بأمور الدين فحسب، بل حتى في أمور الدنيا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في مسئلة توبير النخل (أنتم أعلم بأمور دنياكم) وكقوله - صلى الله عليه وسلم - في حق الطب (من تتطبب ولم يعلم منه طب فهو ضامن)، فهاهو صلى الله عليه وسلم هنا يعيد الاختصاص إلى أهله وهو في الوقت نفسه يحذر من التطفل عليه بل إنه يتوعد المتطفلين عليه بالمسائلة والمحاسبة، فكيف بالمقصرين فيه من ذويه وأهله. وأن تعجبوا عباد الله، فعجب فعل بعض المتطفلين على جميع التخصصات والذين نصبوا أنفسهم من ذوي الإحاطة بجميع الأمور، دينية كانت أو دنيوية، وجعلوا من أنفسهم حكاما ومفتين وأطباء واقتصاديين ومفكرين، وهم لا يعدون كونهم كتبة على ورق مبتذل، لارائد لهم فيه إلا التطفل وحب الشهرة، وطلب الرياسة والثناء بالجرأة، والإقتدار الزائف بإجادة كل فن وإحسان كل طرح زعموا، ولو أدى ذلك إلى إحداث جذام في حال تطبب الزكام، وفقأ العين في حال إزالة القذى، حتى أصبح عامة الناس لا يميزون في بعض الأحايين بين الطبيب والعالم والصحفي والمفكر والداعي، وبالأخص فيما يتعلق بأمور الفتوى والسياسة الشرعية ومصالح المسلمين العامة، ناسين أو جاهلين تربية النبي صلى الله عليه وسلم أمته على احترام التخصص وعدم اهماله أو التطفل عليه، فقد أمر صلوات الله وسلامه عليه عبدالله بن زيد -صاحب رؤيا الأذان- أن يلقي ذلك على بلال لأنه أندى منه صوتاً. كما أنه صلوات الله وسلامه عليه قد روي عنه أنه قال (أفرضكم زيد) أي أعلمكم بالفرائض وقال صلوات الله وسلامة عليه (أقرأكم أبُي)، أي أحسنكم قراءة للقرآن، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه أشاد بحسان بن ثابت على أنه أشعر الصحابة، وعلى أن علي أقرأهم، ومعاذً أعلمهم بالحلال والحرام، وعلى أن علي أقضاهم ومعاذاً أعلمهم بالحلال والحرام وأن خالد بن الوليد سيف الله المسلول، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال (يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله) .. الحديث. والنصوص في ذلك من سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم أكثر من أن تحصى في مثل هذه اللحظات، وقد ذكر أهل العلم أن القضاة لابد لهم من أعوان في أمور قد تكون خارج اختصاصهم كالطبيب والمهندس والمترجم وغير ذلك، كلاً في تخصصه ومجاله الذي يتقنه. وأنه متى عَسَفَ المرء نفسه إلى غير تخصصها أو طبيعتها التي تحسنها فإن العاقبة هي الزلل لا محالة، كما قال ابن القيم رحمه الله في كتابه (تحف المولود) "لا تعسف الشاب بعد أن يكبر عن ما ينافي طبعه أي تخصصه وميوله التي يجيدها ويتقنها لأنه سيقصر فيها أكثر مما يحسن". وبعد يا رعاكم الله .. فإن تطفل المرء على تخصص ليس منه ولا هو من بابته في ورد ولا صدر، لهوا عين الافتيات والتدخل فيما لا يعني، وكفى بهذا سوءً ووقوعاً في مخالفة هدي النبي صلى الله عليه وسلم بقوله (من حسن اسلام المرء تركه ما لايعنيه). الا أنه من المؤسف - عباد الله - أن نشاهد في عصر المعرفة والتقدم المعلوماتي ما يسيء إلى آدابها ويعكر صفو موردها حيث كثر الخلط واللغط وضعف مفهوم التخصص في أوسط الناس وأصبح يشاهد في العيان التطفل على الحاكم والتطفل على العالم والتطفل على المصلح والتطفل على الناصح كلاً يلتّ ويعجن، ويهرف بما لايعرف، دون هيبة للمرجعية ولا إحترام للتخصص، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول (أعطوا كل ذي حق حقة). وكم من عبقريةً - عباد الله - مرغها في الوحل تنازع دني في الاختصاص، فلربما رأى الدنيء أن كل جمال تحدي له، والغبي يرى في الذكاء عدواناً عليه، والفاشل يرى في النجاح ازراءً به. الا فاتقوا الله عباد الله .. وحذار حذار من الفوضى، فحذاري يا طالب العلم أن تتحدث فيما ليس عندك من الله برهان، وحذاري أيها الطبيب أن تتطبب فيما لا تعرف، وحذار أيها الكاتب أن تتطفل على موائد العلماء والمصالح العامة وأن تنصب نفسك وصياً في الطقطقة عليهم ونهش لحومهم فتتنطع في القذاة وتتعامى عن الورم. الا فليعرف كل امريء قدره، وليتقي الله فيما يأخذ وما يذر، فرحم الله امرءً عرفَ قدرَ نفسه، وقد أحسن من انتهى إلى ما سمع، أو علم أو رأى، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحِمىَ يوشك أن يرتع فيه. ولقد أحسن من قال إذا كنت ذا لب فحاذر تطفلا ولا تقف شيئا غير ما أنت عارفَ لكي لا ترى من يزدريك زلة فللناس فيما تتدعيه معارف (ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) الا رحم الله امرئً سمعَ فاعتبر، وأدرك فانتهى، وعلم العاقبة فتفطن، وحذر الآخرة ورجا رحمة ربه، واستمع القول فاتبع أحسنه، والله جل وعلا يقول (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً). بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلت ما قلت، إن صواباً فمن الله وإن خطأ فمن نفسي والشيطان، فاستغفروا الله إنه كان غفارا. الخطبة الثانية: الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه .. اما بعد: فاتقوا الله - عباد الله - واعلموا أن مراعاة التخصص من أهمّ مقومات النجاح والتوازن والاستقرار، حيث لا يبغي بعض على بعض، ولا يموج بعض في بعض، فنقدر للحاكم حكمه، وللفقيه فقهه، وللطبيب طِبّه، وللإقتصادي اقتصاده، ويجمعنا في ذلكم كله مظلة الشريعة الإسلامية، التي تحض على التناصح والتواصي، اذ لا يعني التخصص ألا يقصر أحد في تخصصه أو لا يعتريه النقص بوجه من الوجوه .. كلا ... فالكمال لله والعصمة لرسوله صلى الله عليه وسلم، غير أن من الغلط أن يقصر المتخصص فلا يحاسب على تقصيره، لا سيما إذا كان يتعلق بمصالح المسلمين العامة دينيةً كانت او دنيوية ومنها ما رأيناه قبل يومين لاخواننا المتضررين من السيول الجارفة والذين اضحوا ضحية المقصرين والمستهترين بالامانه التي اوكلها اليهم ولي الامر وحذرهم من التقصير فيها اكثر من مره وبين ان المقصر سيحاسب كما ان من الغلط تتدافع التخصص لانه خذلان واسلام الى الفوضى فاذا تنصل كل احد عن مسؤليته فمن المسؤل اذا ولله ما احسن مالك بن دينار وقد كان يعض في درسه والناس يبكون من حوله فالتفت الى مصحفه فلم يجده فقال لمن حوله ويحكم كلكم يبكي فمن سرق المصحف؟ فمن سرق المصحف؟ ويحكم كلكم يبكي فمن سرق المصحف وان من الغلط ايضا تنازع التخصص لانه تطفل وافتيات ودخول فيما لا يعني ونشر لفوضى النقد دون محاسبة او رقابة كما اننا ينبغي ان نعي جميعا ان مردنا عند التنازع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهما المهيمنان علينا وهما اللذان امرنا بالرجوع اليهما عند الخلاف ولا يعني التسليم بالتخصص ايضا ولو كان دنيويا ان لا يتدخل اهل العلم والفقه بالنصح فيه اذا كان لتدخلهم برهان من كتاب الله وسنة رسوله فهذا النبي وهو لا يقول الشعر، لم يصده ذلك عن بيان الحق وعدم تأخيره عن وقت الحاجة حيث قال صلوات الله وسلامه عليه (اصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد الا كل شي ما خلا الله) باطل رواه مسلم وقد اغفل النبي عجز البيت الذي يقول فيه لبيد "وكل نعيم لا محالة زائل" لأن نعيم الجنة لا يزول ولا يحول وهذا يدل على عدم موافقة النبي لعجز البيت بدلالة الإيماء والتنبيه. ثم اعلموا يا رعاكم الله ان زج المسلم فيما لا يحسن وما ليس من تخصصه لهو مضنة حدوث الزلل واستهداف الناس عليه والوقوع في هوة الافتيات. ورحم الله ابا المصفر السمعاني حيث رد على احدهم في كتابه قواطع الادلة قائلا: فكان الاولى به عفي الله عنه ان يترك الخوض في ه

1 ربيع الأول 1432 - خطورة الغيبة - صالح بن حميد

خطبة المسجد الحرام - 1 ربيع الأول 1432 - خطورة الغيبة - صالح بن حميد الخطبة الأولى الحمد لله إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له: كن، فيكون، يُعذِّب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تُقلبون، خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ [الروم: 20]، أحمده - سبحانه - وأشكره ترادَفت علينا نِعمه وتوالَت آلاؤه، وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ [النحل: 53]. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً خالصةً مُخلِصة تنفع قائلها يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله النبي المُصطفى والرسول المُجتبى الأمينُ المأمون، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله الأطهار وصحابته الأخيار الذين هدَوا بالحق وبه كانوا يعدلون، والتابعين ومن تبعهم بإحسان، صلاةً وسلامًا دائمين إلى يوم يبعثون. أما بعد: فأوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله - عز وجل -، فاتقوا الله - رحمكم الله -، واطلبوا الكرامة في التقوى، والعبادة في الورع، والأُنس في كتاب الله، والنصر في الصبر، والغِنى في القناعة، والنجاة في الصدق، والشكر في الرضا، والراحة في ترك الحسد، وثِقَل الميزان في حسن الخلق، والسلامة في حفظ اللسان، ونِعم الصاحبُ العمل الصالح. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الحديد: 28]. أيها المسلمون: مظهرٌ من مظاهر ضعف الديانة وقلة الورع والخلل في فقه التديُّن؛ بل مُوبِقةٌ من مُوبِقات الآثام، وحالقةٌ من حالقات الدين، تنهَش في الحُرمات وصيانة الأعراض، خصلةٌ من خصال السوء ذميمة، تُرى بارزةً شاهدة في اجتماعات الناس وتجمُّعاتهم ومجالسهم ومُنتدياتهم، لا يكاد يُستثنى منها أحد، علماء وعامة، رجالٌ ونساء، صغارٌ وكبار، جُرمها خطير، وعلاجُها عسير، داءٌ عُضال يهدِم المجتمع، ويُقوِّضُ البنيان، ويقطع عُرى التواصل، ويُمزِّق أواصر المحبة، يُوغِر الصدور، ويشحن النفوس، ويُفسِد المودة، وينشر الضغائن، ويُولِّد الأحقاد. كم هُتِك فيه من أستار، وانتُقِص بسببه من أخيار، ولُفِّق في سبيله من أخبار، يشترك في ذلك الفاعل والسامع والراضي، هل عرفتموها - عباد الله -؟ إنها: ضيافة الفُسَّاق، وجهد العاجزين، ومرعى اللئام، إنهم أكَلة لحوم البشر؛ بل إنهم آكِلو الجِيَف، إنها: الغِيبة، وقاكم الله وحفظكم، وما أدراك ما الغِيبة؟! نَهشُ الأعراض، وإن أربَى الرِّبا: استطالةُ المرء في عِرض أخيه، ولقد حدَّها رسولُنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وبيَّنها بيانًا شافيًا فقال - عليه الصلاة والسلام -: «الغِيبة: ذِكرُك أخاك بما يكره». الله أكبر - عباد الله -، الغِيبة كل ما أفحمتَ به غيرَك انتقاص أخيك أو القدح فيه، الغِيبة - رحمكم الله وعافاكم - تكون بانتقاص أخيك في خلقه وخُلُقه، ودينه ودنياه، وبدنه ولباسه، وولده ووالده، وزوجه وأهله، وخادمه وهيئته، وعمله ومعاملته، وحركاته وبشاشته وعُبوسه. الغِيبة تكون بالقول والفعل والوصف والحركات والإشارات والرموز، باليد وباللسان والعين والأصبع، غمزًا وهمزًا ولمزًا؛ بل الأشد والأنكَى أنها لا تُحصَر في طريقة، ولا تنحصِر في أسلوب، ولكنها ترجع إلى بواعِث النفوس، وأساليب المُبتَلَيْن بها - عياذًا بالله -. فقد يُخرِجها المُغتاب في قالَب التديُّن والصلاح والعفاف والورع، فتراه يقول: فلانٌ غفر الله لنا وله فيه كذا وكذا لعل الله أن يُعافِيَه! وقد يُخرِجها هذا المُبتَلى في صيغة التعجُّب فيقول: كيف يفعل فلانٌ كذا، وإني أستغفر الله، كيف يفعل فلانٌ كذا؟! ومنهم من يُظهِرها بأسلوب التحسُّر وإظهار المحبة والشفقة فيقول: لقد أغمَّني حالُ فلان، وإني مُشفِقٌ على أخينا فلان لما فعل من كذا وكذا، عافانا الله وإياه. وقد يقول: فعل هذا بعض الناس، أو بعض من مرَّ بنا، أو من تعرفون، والمُخاطَبون أو الجالسون يعرفونه بعينه أو بشخصه. ومن الغِيبة: التعريضُ بالكلام؛ فإذا سُئِل أحدهم: كيف حال فلان؟ قال: أصلحنا الله وإياه، أو عافانا الله وإياه - تعريضًا بحاله -؛ بل لعله يقول: فلانٌ مُبتَلى بما ابتُلينا به. ويعظُم الحال ويشتدُّ الخطر إن أظهرها بأسلوب الإنكار، والله يعلم منه أنه لا يقصِد الإنكار، ولكنه يقصِد التشهير، فلا حول ولا قوة إلا بالله. بل يُقرِّر أهل العلم أن سوء الظن بالمسلم من الغِيبة، فإذا ظننتَ - أخي المسلم - فلا تُتبِع العمل. ولقد قال الإمام الغزالي - رحمه الله -: "إذا قال بلسانه: اسكت، وهو يشتهي استمراره فهو نفاقٌ لا يُخرِجه من الإثم". والغِيبة - حفظكم الله وعافاكم - ليس لطرائقها حد ولا لأبوابها سد، وحينما سأل رجلٌ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال له: أرأيتَ إن كان فيه ما أقول، فقال - عليه الصلاة والسلام -: «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبتَه، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتَّه»؛ أخرجه مسلم وغيره. ويقول الحسن - رحمه الله -: "ذكر الغير ثلاثة: الغِيبة والبُهتان والإفك؛ فالغِيبة: أن تقول ما فيه، والبُهتان: أن تقول ما ليس فيه، والإفك: أن تقول ما بلغك عنه". ومن أجل أن تُدرِكوا عِظَم البلاء، فانظروا - رحمكم الله - ما يخوض فيه المُتخوِّضون في شبكات المعلومات؛ ففي ذلك شيءٌ كثيرٌ وكثير من نشر معايب الناس ومثالب أهل الفضل والصلاح، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. معاشر المسلمين: كم ترون من مسلمٍ مُتهاونٍ قد جرَّد لسانه مِقراضًا للأعراض، وانتهاكًا للحُرمات في همزٍ ولمزٍ وحطٍّ وانتقاصٍ، فهذا طويل، وهذا قصير، وهذا أحمق، وهذا فاسق، وهذا منافق، وهذا مُداهِن؛ بل كم ترى من رجلٍ مُتورِّعٍ عن الفواحِش والظلم وعليه مظاهر صلاح من صلاةٍ وصيامٍ وصدقاتٍ، ولكن لسانه يفرِي في أعراض الناس الأحياء منهم والأموات، لا يُبالي ما يقول، فهلاَّ حجَزَته عبادتُه! وهلاَّ كفَّه صلاحُه! وهل يكبُّ الناسَ في النار على وجوههم إلا حصائدُ ألسنتهم. مجالس الغِيبة مجالس شرٍّ وبلاءٍ وفتنة، وأكلٍ للحسنات، تُؤكَل فيها لحوم المؤمنين، وتُنتَهَك فيها أعراضُ الغافلين، موائد هلاك، ومسالك عطَب، مجالس تنضَح بالوقيعة في الخلق، يُؤذِي المُغتابُ فيها نفسَه وجليسَه، ويؤذُون فيها عبادَ الله، استفتاءٌ بالناس، واستخفافٌ بالحُرمات، ضلالٌ في الدين، وسوء مسلكٍ في العاقلين. يقول سفيان بن عيينة - رحمه الله -: "الغِيبة أشد عند الله من الزنا وشرب الخمر؛ لأن الزنا وشرب الخمر ذنبٌ فيما بينك وبين الله - عز وجل -، فإن تُبتَ تاب الله عليك، والغِيبة لا يُغفَر لك حتى يغفِر لك صاحبُك". ما الذي أوقعهم فيما أوقعهم إلا ضعفُ الديانة، وقلة الورع، وأشد الورع في اللسان، وموافقة الأقران، ومجاملة الجلساء. أيها المُغتاب: كم من أشعث أغبر ذي طِمرَين خيرٌ منك عند الله، وخيرٌ منك في نفسه، وخيرٌ منك في أهله! معاشر المسلمين: الغِيبة محرمة في كتاب الله وسنة رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - وإجماع أهل العلم، وتأباها الفِطَر المستقيمة، والنفوس الطاهرة، والصدور السليمة، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ [الحجرات: 12]. ألم تتعجَّبوا كيف ضرب الله هذا المثل الشنيع الوضيع للمُغتاب؟! إنه ذلك الكريه الذي بسَط يدَه وثَغَر فاه ليأكل لحم هذه الجِيفة، وليست جِيفة حيوان بهيم، ولكنها لحمُ أخيه ميتًا، وحينما عُرِج بنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - مرَّ بقومٍ لهم أظفارٌ من نحاس يخمِشون بها وجوههم وصدورهم، فقال: «يا جبريل! من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم»؛ أخرجه الإمام أحمد، وهو صحيح الإسناد. وفي "الصحيح" عن عائشة - رضي الله عنها - قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم -: حسبُك من صفية كذا وكذا - تعني: أنها قصيرة -، فقال: «لقد قلتِ كلمةً لو مُزِجَت بماء البحر لمَزَجَته»؛ أخرجه أبو داود بسندٍ صحيح. سبحان الله! كلمة واحدة يستهين بها المُتكلِّم، لو مُزِجت بماء البحر لمَزَجَته، فما بالُكم بمن يُقطِّعون مجالسهم، ويُمضون ساعاتهم مُتلذِّذين بتمزيق أعراض الناس، فكِهين بنهش لحومهم. عباد الله: من وقاه الله شرَّ ما بين لحييْه وشر ما بين رِجلَيْه دخل الجنة، فلا تُكثِروا - رحمكم الله - الكلامَ بما لا يُفيد، فكثرة الكلام بغير ذكر الله تُورِثُ قسوة القلب، وإن أبعد الناس من الله: القلبُ القاسي، ولا يستقيم إيمان عبدٍ حتى يستقيم قلبُه، ولا يستقيم قلبُه حتى يستقيم لسانه. اشتغل - حفظك الله - بعيوب نفسك، عجبًا! يرى هذا المُبتَلى القَذَى في عين أخيه ثم يعجز أن يرى أحمال الحَطب يحملها على ظهره. فتِّش في نفسك، احفظ وقتك ولسانك، فتِّش في أمانتك، في أخلاقك، في أمانتك، في مسؤولياتك، في أهل بيتك وعملك، اشتغل بعيوب نفسك - رحمك الله -. معاشر المسلمين: لو حاسبَ المُغتابُ نفسَه حقًّا لعلِمَ أنما هو واقعٌ فيه قد أهلك فيه نفسَه وأهلك جلساءَه إن لم ينهَوه وينصحوه ويُنكِروا عليه، فالمُستمِعُ شريكٌ والمُقِرُّ شريكٌ، فيجب الإنكار والتوبة والتناصُح والذَّبُّ عن أعراض المؤمنين، ومن ردَّ عن عِرض أخيه ردَّ الله عن وجهه النار يوم القيامة، بهذا جاء الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وبعد، عباد الله: فمن تتبَّع عورة أخيه تتبَّع الله عورَتَه، ومن تتبَّع الله عورَتَه فضَحَه ولو في جوف بيته، وإذا ظهرَت الغِيبة ارتَفَعت الأُخُوَّة في الله، كما قال ذلك الفُضيل بن عياض - رحمه الله -. ويقول بعض الصالحين: "لو كنتُ مُغتابًا لاغتبتُ والديَّ؛ لأنهما أحق الناس بحسناتي". وأراد رجلٌ أن يُطلِّق زوجتَه، فقيل له: ما يسوؤُك منها؟ قال: العاقل لا يهتِكُ سِتر زوجته، فلما طلَّقَها قيل له: لم طلَّقتَها؟ قال: ما لي وللكلام في امرأةٍ أجنبية؟! ألا فاتقوا الله - رحمكم الله -، وحذارِ أن تكون أعراض الناس فاكهة مجالسكم، ولحوم الناس موائد مُنتدياتكم، فالغِيبة أسرع في دين المسلم من الأَكَلة في الأجساد. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: 16 - 18]. نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم. الخطبة الثانية الحمد لله، الحمد لله تعاظَم ملكوته فاقتَدر، سبحانه وبحمده رفع بحكمته أقوامًا وخفضَ أقوامًا أُخَر، وأشكره على نِعمٍ عُظمَى وآلاءٍ لا تُح

8 ربيع الأول 1432 - النصحية وأهميتها - الشيخ أسامة خياط

خطبة المسجد الحرام - 8 ربيع الأول 1432 - النصحية وأهميتها - الشيخ أسامة خياط الخطبة الأولى الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، أحمده - سبحانه - الملك الحق المبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله الناصح لأمته الصادق الأمين، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه الغُرِّ الميامين، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله - عباد الله -، وابتغوا إليه الوسيلة وراقِبوه فإن السعيد من اتقى الله وأقبل على مولاه فأكرمه ونعَّمه واجتباه. أيها المسلمون: إن من أجلِّ نعم الله التي أسبغها على عباده - بعد نعمة الهداية إلى دين الإسلام -: ما هيَّأ لهم - سبحانه - من أولئك الناصحين الصادقين من إخوانهم في الدين الذين يُسدون إليهم أعظم الجميل حين يُذكِّرونهم بالله فيُحسِنون التذكير، وحين يُبصِّرونهم بخفِيِّ عيوبهم فيُحكِمون التبصير، وحين يقِفونهم على مواطن العِلل وأسباب الآفات وبواعث الهلَكات، فيبلُغون من ذلك أوفَر حظٍّ من التوفيق. ولذا كان معنى النصيحة: حيازَة الحظِّ من الخير للمنصوح من كل خيرٍ عاجلٍ أو آجِل، وأن أصل النصح: الصفاء والخلوص؛ فإن قبول النصح والاحتفاء بالتذكير سجِيَّةٌ جميلة ومنقبةٌ جليلة وخُلُقٌ كريم يتبيَّنُ به كمال العقل، ونُبل نفس، وسلامة سريرة، وصفاء طوِيَّة، فالنقص محيطٌ بالبشر، لازِمٌ لهم لا ينفكُّ عنهم، ولا يتمُّ تدارُك ذلك إلا بفضل الله وبرحمته، ثم بنُصحٍ صادقٍ تحسُن به العُقبى، وتكون به إلى الله الزُّلْفَى. ولذا فقد أخبر رسول الهدى - صلى الله عليه وسلم - عن عِظَم مقام النُّصح في دين الله وعن شرف منزلته في حديثٍ عظيمٍ هو من جوامع كلِمِه، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة». قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله - عز وجل -، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم»؛ أخرجه مسلم - رحمه الله - في "صحيحه" من حديث تميم الداري - رضي الله عنه -. فأما النصيحة لله - يا عباد الله -، فتكون بتوحيده - سبحانه - في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته بالإيمان أنه - سبحانه - الخالقُ الرازق المُحيِي المميت الذي يُربِّي الخلائق بنعمته، فلا قيام لها بغيره، وأنه على كل شيءٍ قدير، وأن كل شيءٍ إليه فقير، يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر: 15]، فلا حاجة به إلى أحدٍ من خلقه، وكل الخلق فقراء إليه. وبالإيمان أيضًا أنه المستحق لصرف جميع أنواع العبادة له وحده - سبحانه - دون سواه؛ إذ لا معبود بحقٍّ إلا الله، وبالإيمان بما وصَف به نفسَه وما وصفَه به نبيُّه - صلى الله عليه وسلم - من غير تحريفٍ ولا تعطيلٍ ولا تكييفٍ ولا تمثيل، وأنه لا نِدَّ له ولا سمِيَّ ولا شبيه، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11]. وبالخضوع له ظاهرًا وباطنًا، وبتقديم حقه - سبحانه -، وبالرغبة في محابِّه بفعل مراضيه، والرهبة من سخَطِه بترك معاصيه، وبالاجتهاد في ردِّ العُصاة إليه. وأما النصيحة لكتابه، فبتعلُّمه وتعليمه والعمل به وبما أنزل الله فيه، وبإقامة حروفه، وحفظ حدوده، وذبِّ تحريف الغالين عنه وانتحال المُبطِلين وتأويل الجاهلين. وأما النصيحة لرسوله، فمحبته وطاعته ونصرته واتباع هديه وإحياء سنته تعلُّمًا وتعليمًا وعملاً، وبالاقتداء به في أقواله وأفعاله وتقديم هديه على قول غيره كائنًا من كان، ونبذ الابتداع في دينه. وأما النصيحة لأئمة المسلمين، فبإعانتهم على ما حُمِّلوا القيام به، وبتنبيههم عند الغفلة، وسدِّ خلَّتهم عند الهَفوة، وجمع الكلمة عليهم، وردِّ القلوب النافرة إليهم. ومن جملة أئمة المسلمين: الأئمة المجتهدون، ونُصحهم ببثِّ علومهم، وإشاعة مناقبهم، وتحسين الظن بهم. وأما النصيحة لعامة المسلمين، فبالشفقة عليهم، والسعي فيما يعود نفعُه عليهم، وبتعليمهم ما ينفعهم، وكفّ الأذى عنهم، وأن يحبَّ الناصحُ لهم ما يحبُّ لنفسه، وأن يكره لهم ما يكره لنفسه. ومما يدل أيضًا على عِظَم مقام النُّصح في الدين ولزومه وتأكُّده وضرورة إشاعته بين أبناء المجتمع المسلم: أنه - صلوات الله وسلامه عليه - كان يشرُطُه على من يُبايِعه على الإسلام، كما جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري - رحمه الله - في "صحيحه" عن زياد بن علاقة أنه قال: سمعت جرير بن عبد الله - رضي الله عنه - يقول يوم مات المغيرة بن شعبة: إني أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلتُ: أُبايِعُك على الإسلام، فشَرَط عليَّ: «والنُّصح - أي: وعلى النُّصح - لكل مسلم»، فبايعتُه على هذا. وعلى العكس من ذلك - يا عباد الله -؛ من أصمَّ أُذنَيْه عن سماع النُّصح وأعرض عن التذكير شأن كل مُستكبرٍ قال الله في حقه: وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ [البقرة: 206]. إنه استكبارٌ على الله، وعُتُوٌّ عن أمره، جاء في كتاب الله بيان عاقبته فيما خصَّ الله من أنباء ما قد سبق من الأمم الهالكة وما نزل بهم من بأس الله نتيجة إعراضهم عن نُصح المرسلين ليكون عبرةً للمُعتبرين، وذكرى للذاكرين، وآيةً بيِّنةً على وَبال عاقبة كل من حادَّ الله، وصدَّ عن سبيله، وعادَى أولياءَه، وأصمَّ أُذنَيْه عن سماع النُّصح، ولم يستجِب للتذكير؛ بل تشبَّث بباطِله واتبع هواه وكان أمره فُرُطًا. كما في خبر ثمود قوم صالح - عليه السلام - حين أصمُّوا آذانهم عن تذكيره وتحذيره، فقال في شأنهم: فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ [الأعراف: 77 - 79]، وقال في شأن مدين نبي الله شُعيب - عليه السلام -: وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ [الأعراف: 90 - 93]. عباد الله: إن النصيحة لن تكون بالغةً مبلغها في التأثير إلا حين يكون الناصحُ صادقًا مخلِصًا لله في نُصحه، عظيم الشفقة على خلقه، مُريدًا لهم الخير بتجنيبهم أسباب الهَلَكة، دالاًّ لهم على سُبل النجاة، حكيمًا عليمًا بأولويات الأمور فلا يُقدِّم ما حقُّه التأخير، ولا يُؤخِّر ما حقُّه التقديم، قادرًا على الموازنة الدقيقة بين المصالح والمفاسد، والمنافع والمضارّ، والعاجِل والآجِل، لا سيَّما في النوازِل، وحين يتعلَّق الأمر بقضايا كبرى، وما تعمُّ به البلوى، وتعظُم آثارُه، وتتسِع أبعادُه، وأن يأخذ نفسَه بالرِّفق في نُصحه وفي شأنه كله، كما قال نبي الرحمة - صلوات الله وسلامه عليه -: «ما يكون في شأنٍ إلا زانَه، وما نُزِع من شيءٍ إلا شانَه»؛ أخرجه مسلم في "صحيحه". وفي "الصحيحين" من حديث عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله رفيقٌ يحبُّ الرِّفق في الأمر كله». هنالك يكون للنُّصح طريقُه إلى النفوس، وسلطانه على القلوب، وتبرأ به ذِمَّة الناصِح، وتقوم به الحُجَّة على المنصوح. فاتقوا الله - عباد الله -، واتخذوا من النصيحة منهجًا وسبيلاً يتعيَّن سلوكه لبلوغ الحياة الطيبة الدنيا والسعادة والفوز في الأخرى، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ [الزمر: 17، 18]. نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنه نبيه - صلى الله عليه وسلم -، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، إنه هو الغفور الرحيم. الخطبة الثانية الحمد لله الولي الحميد، الفعَّال لما يُريد، أحمده - سبحانه - وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله صاحب النهج الراشد والرأي السديد، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه. أما بعد، فيا عباد الله: لقد صوَّر بعضُ السلف - رضوان الله عليهم - حقيقة الناصح الصادق أبلغ تصوير، فقال: "اعلم أن من نصحَك فقد أحبَّك، ومن داهَنَك فقد غشَّك". وهي كلمةٌ صادقةٌ مُعبِّرةٌ عن واقع لا ريب فيه، فبالنُّصح يُعرَف الداء، ويُوصَف الدواء، ويسلم الجسد، وتنتفي العلَّة، وبالمُداهَنة تُستَر الآفات، وتُستبقَى العِلل، فما تزال بالجسد حتى تُهلِكه، وبهذا يستبين المُحِبّ على الحقيقة من الغاشّ، ويُعلَم الموضع الذي يجب أن تُحِلَّه منها القلوب والأنفُس والعقول. فاتقوا الله - عباد الله -، وصلُّوا وسلِّموا على خير خلق الله محمد بن عبد الله، فقد أُمِرتُم بذلك في كتاب الله؛ حيث قال الله - سبحانه -: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56]. اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الآل والصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا خير من تجاوز وعفا. اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وادرأ عن بلادهم كيدَ الكائدين أجمعين يا رب العالمين، اللهم احفظ هذه البلاد حائزةً كل خير، سالمةً من كل شر، وسائر بلاد المسلمين يا رب العالمين. اللهم احفظ مصر وشعبَها من كل سوء، اللهم احفظها من كل سوء، وجنِّب أهلها القلاقِل والفتن ما ظهر منها وما بطَن، اللهم احفظ بلاد المسلمين أجمعين من كيد الكائدين وحقد الحاقدين وحسد الحاسدين يا رب العالمين. اللهم جنِّب بلاد المسلمين أجمعين من تسلُّط الأعداء، اللهم جنِّب بلاد المسلمين أجمعين من تسلُّط الأعداء عليها يا رب العالمين، ووحِّد كلمتهم، ووحِّد صفوفهم، وأصلِح قادتهم، واجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين. اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم - وعبادك المؤمنين المجاهدين الصادقين. اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق وليَّ أمرنا يا رب العالمين، وهيِّئ له البِطانة الصالحة، ووفِّقه لما تح

15 ربيع الأول 1432 - الحب في الله - الشيخ عبد الرحمن السديس

خطبة المسجد الحرام - 15 ربيع الأول 1432 - الحب في الله - الشيخ عبد الرحمن السديس الخطبة الأولى الحمد لله، نحمده تعالى حق حمده - سبحانه - لم يزل بديعًا خلاَّقًا، أودعَ البريَّة مشاعرَ نوازِعَ وأشواقًا، وأعقبَها جزاءً وِفاقًا، ربِّي لك الحمدُ العظيمُ لذاتِك، حمدًا وليس لواحدٍ إلاَّكَ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً تعمُر القلبَ إشراقًا، والروحَ ندًى وإيراقًا، وأشهد أن نبينا وحبيبَنا وسيدَنا محمدًا عبد الله ورسوله أزكَى العالمين أرُومةً وأعراقًا، صلَّى الله وبارَك عليه نهَلَنا من الحب الطهور كأسًا دهاقًا، وعلى آله الطيبين المُترَعين حنانًا وإشفاقًا، وصحابته الغُرِّ الذين انبَثَقَ بهم الحقُّ انبثاقًا، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ تنافُسًا في الجِنان واستباقًا، وسلَّم تسليمًا كثيرًا أبدَ الدهر رقراقًا. أما بعد، فيا عباد الله: اتقوا الله حقَّ تقاته، واعلموا أن تقواه أعظم مِصداق، وأقوى ميثاق، من استعصَم بها فاز وفاقَ، وحاز من البرِّ والخيرات أنفسَ الأطواق، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة: 197]. وأكثِر من التقوى لتحمَدَ غِبَّها بِدارِ الجَزَا دارٌ بها سوف تنزِلُ وسارِع إلى الخيرات لا تُهمِلَنَّها فإنك إن أهملتَ ما أنت مُهمَلُ أيها المسلمون: في عالمٍ يموجُ بالفتن والأزمات، ويصطخِبُ بالمِحَن والمُتغيِّرات، وتبصُّرًا في خَلَجات النفس الإنسانية ومساتِرها السنيَّة تتبدَّى في إشراقٍ وبهاءٍ، ونضارةٍ وصفاءٍ صفةٌ أخَّاذةٌ بديعة، وقيمةٌ لشَدَّ ما هي خلاَّقةٌ رفيعة، جُبِل عليها الإنسان، واستقرَّت منه في مُغرورقِ الجَنان، في وارِفِ أفيائها أناخَت النفوس ركائبها، فحازَت شريف مآرِبها، ونَجَت من نزَوَاتها ومعاطبها، انطوَى عليها العُبَّاد والنبلاء، والزُّهَّادُ والأصفياء، والخاصةُ والدهماء. وصفوةُ القول: إنها لم تُغادِر قلبًا إلا تصبَّتْه، ولا وِجدانًا إلا سبَتْه؛ بل اتَّصَف بها الباري - جل في علاه -، وكذا حبيبُه ومُصطفاه - صلى الله عليه وسلم -، تلكم - يا رعاكم الله - هي: صفة الحب والمحبة. يقول - سبحانه -: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [المائدة: 42]، ويقول - عزَّ اسمه -: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي [طه: 39]، ويقول تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا [مريم: 96]، والوُدُّ: هو خالصُ الحب. وفي منزلة الحب الأفيلة يقول العلامة ابن القيم - رضي الله عنه -: "هي المنزلة التي إلى عالمِها شمَّر السابقون، وعليها تفانَى المُحبُّون، وهي الحياة التي من حُرِمَها فهو من جملة الأموات، والنور الذي من فقَدَه فهو في بحار الظلمات". الحبُّ كم لبَّى له النُّبلاءُ فتمايَلَت حاءٌ هناك وباءُ أرَجٌ وِدادٌ ولهفةُ ذي ضَنَى وتصبُّرٌ وتجمُّلٌ وصفاءُ أيها المؤمنون: أودعَ الباري - تعالى - في العقول معاقدَ الفهم والإدراك، وعضَّدَها بنصوص المنقول الدِّرَاك، ووشَّى الأفئدةَ بلواعِجِ العواطِف، والأشواق اللواطِف، فانتشَى الإنسانُ بحبُّ ما فُطِر عليه، لذلك كانت أشرف الأرواح وأصفاها أسناها محبوبًا وأسماها؛ كحب الرحمن الواحد الديَّان، وحب القرآن، وحب سيد ولد عدنان - عليه الصلاة والسلام -، وحب أوصاف الجمال والكمال، ومكارم الخِلال، ومحاسن الجَلال مما لا يُناسبُ إلا جواهر النفوس الزكيَّة، وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة: 165]. فالمراضي المرغوبة، والمحابُّ المطلوبة، والنوازِع المشبوبة لا تتفتَّقُ أزهارها إلا بأريجِ الحبِّ وبليجِ نسائمِه، فلله ما خالطَ هذا الخفقُ السنِيُّ النفوسَ إلا كساها من الغِبطة والنَّدَى أنضَر لَبُوس، وألقًا في الجوارح وسعادةً في الروح، وبهجةً تغدو في الحنايا ولا تروح، كيف وقد عُلِّق عليه الإيمان؟! يقول - صلى الله عليه وسلم -: «ولا تؤمنوا حتى تحابُّوا»؛ أخرجه البيهقي وغيره. فهذا الحب المُجتمعي المُتقارب الذي حثَّ عليه المصطفى - صلى الله عليه وسلم - هو من تآصُر الأمم غرائسها، ومن نهضتها نقادِسها، وما فرَّطَت فيه المجتمعات إلا بهَطَتْها المِحن، وضرَّستها الإِحَن. فلا والحق! لولا الحب صارَت قلوبُ الناس خاليةً يَبابًا به ذُبْنا كأنسابٍ وذابَت مواجِدُنا وقد كانت صِعابًا إنه الحب الطهور المُطرَّز بالرِّقَّة العاطرة، والمشاعر المشبوبة الماطِرة في حنانٍ مُنساب، وإباءٍ غلاَّب، وتقاربٍ للوُدِّ سكَّاب؛ حيث ينطلق بين العالمين آشعةً للحق والهدى هادية، وسعادةً مُرتسمةً في المباسِم بادية، ومسرَّةً في السُّوَيْداء شادية، وذاك ترجمان قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاثٌ من كُنَّ فيه وجَدَ بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يحبَّ المرءَ لا يُحبُّه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يُقذَفَ في النار»؛ متفق عليه. أيها الأحبة الأوِدَّاء: حيَّهلاً إلى مناجاةٍ للحبيب - صلوات الله وسلامه عليه - مشرقة بالضراعة والطمأنينة لاستدرار جيَّاش الحب والسكينة، ولكن أيَا قلوب المُحبِّين! لُطفًا أنصِتِي وعِي، ويا مشاعر تسمَّعي تسمَّعي. دعا - صلى الله عليه وسلم - ربَّه قائلاً: «اللهم إني أسألك حبَّك وحبَّ من يُحبُّك وحبَّ العمل الذي يُقرِّبُني إلى حبِّك»؛ أخرجه الترمذي. الله أكبر! أيُّ حبٍّ عظيمٍ هامِر زكيٍّ غامِر، أرشَفَنا إيَّاه المُجتَبى - بأبي هو وأمي - عليه الصلاة والسلام - القائل: «المرءُ مع من أحبَّ»؛ أخرجه مسلم في "صحيحه". ونُشهِدُ الله أننا نُحبُّه ونحبُّ رسوله - صلى الله عليه وسلم - حبًّا يفوقُ حبَّ النفس والولد والوالد والناس أجمعين. نبيَّ الهدى والعدل والحبِّ والنَّدَى طوَى ذِكرُك الآفاق والأنجُم الزُّهْرا نحبُّكَ حبًّا لا سبيل لوصفِه تغلغلَ في أرواحنا طاهر المَسْرَى إخوة الإيمان: وبعد أن تأصَّل من تجبُ له محبَّةُ الجَنان، وتمثُّلها بالأركان، إنه من سبَى اللُّبَّ، وتسابَقَت لطاعته كتائبُ الحب: حبيبُنا محمد - صلى الله عليه وسلم -، فإن آية ذلك خُبْرًا وخَبَرًا اتباعُ سنَّته واقتفاءُ سيرته في كل الأحوال كي ننعم بحب الكبير المُتعال. فيا أيها المُحبُّون: أنَّى وعلامَ وكيف وحتَّاما يكون الحب المُؤصَّلُ الرَّصين، والمنهجُ النبوي الأمين، مدى الأعمار والسنين قصرًا على مُحدَثاتٍ ومخالفات، وانبِتاتٍ عن معين السنة البَلْجاء أيِّ انبِتات، ليت شِعري! إنه الحب الهَباء الأخفّ، وفي الموازين هو الأطَفُّ. سَلْهم عن الحب الصحيح ووصفِه فلسَوف تسمعُ صادقَ الأخبار إحياءُ سنَّته حقيقةُ حبِّه في القلب في الكلمات في الأفكار أما البَوح الذي ترجَمَ نوابِض الإحساس، وجلَّى في خفَرٍ مقاصِد الأنفاس، فكان أشذَى من الآس: بَوحُ حبِّ صحابة الحبيب - رضي الله عنهم أجمعين -، وأزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين لحبيبهم - صلى الله عليه وسلم -. وتلك معانٍ لا يعيها إلا صِحاحُ الوِجدان، ولا يُفسِّرُها إلا قاموس القلوب الترجمان، فالحبُّ الزاخِر بأزكَى العواطِف وأنبَل المشاعر خيرُ مهادٍ للتراحُم بين الآباء والأبناء، والزوجين الكريمين، وسعادة الأسرة دون مَيْن، ومشاعر الرِّضا والوِداد لا تنمو إلا في رياض الحبِّ ورُباه، ينأَى بها عن الإجداب العاطفيّ الذي تسعَّرَت به كثيرٌ من البيوتات جرَّاء ويلات الفضائيات ووسائل الاتصالات التي بثَّت كثيرًا من الزعازِع والفتن والتحدِّيات. الحبُّ وردٌ في القلوب مُؤرَّجٌ فسعادةٌ وتواصُلٌ وهناءُ جمع الخِصالَ كريمَها وعزيزَها وتتوَّجَت بأريجه الكرماءُ فيا حملة الأقلام، ورادَة اللِّثام، ورجال الفكر والإعلام: لا بُدَّ من تأصيل ثقافة الحب والتَّحنان روحًا ووجدانًا، وتعامُلاً وتخاطُبًا وتبيانًا. أما السماسرة الإمَّعات فهم الذين يُفسِدون الأفئدة والأذواق، ويُلوِّثون رقراق الأشواق بشباب الأمة وفتياتها بجراثيم الغرائز والفُجور، وقصص الإسفاف والتزييف والزُّور المطوِّحة في الأوحال والشرور، وقد تجسَّرت خائنةُ الأعين وما تُخفِي الصدور من الكيد والبُهتان، وسلب الحياء والامتهان، ويخدعون الأغرار مُختلسين منهم نفيس الأوقات والأعمار، بوَجْدٍ مُحرَّمٍ صفيق خدَّاعِ البريق، لا بهاء له ولا رحيق؛ بل مآلُه الويلُ والحريق. إن هؤلاء والمُنحَطّ لدمارُ الجيل وداؤه، وشِقوتُه وبلاؤه، ولكن ها هو الجيلُ الواعدُ - بحمد الله - شبَّ عن الأطواق، ولاحَت مخايِلُ يَنْعِه وشموخه في الآفاق. ألا فاتقوا الله - أيها المؤمنون -، وأفعِموا قلوبكم بحب الله ورسوله واعمروها، وزَكُّوها بالطاعات واغمُروها، تسعَدوا تفوزوا، وللهُدى تحُوزوا. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران: 31]. اللهم إنا نسألك حبَّك وحبَّ رسولك - صلى الله عليه وسلم -، اللهم اجعل حبَّك وحبَّ رسولك - عليه الصلاة والسلام - أحبَّ إلينا من أنفسنا وأهلينا وأموالنا، ومن الماء البارد على الظَّمَأ، إنك خيرُ مسؤولٍ وأكرمُ مأمول. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافة المسلمين والمسلمات من جميع الذنوب والخطيئات، فاستغفروه وتوبوا إليه، إن ربي لغفورٌ رحيم. الخطبة الثانية الحمد لله، جعل محابَّه إلى الجِنان سبيلاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبد الله ورسوله اتخَذَه المولى صفيًّا خليلاً، من امتثَلَ حبَّه فيا بُشراه نَهَلَ من السعادة سلسبيلاً، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله الأطهار وصحابته الأبرار المُفضَّلين تفضيلاً، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ، صلاةً وسلامًا يتعاقبان بكرةً وأصيلاً. أما بعد، فيا إخوة الإسلام: ومن المحابِّ التي انعطَفَ إليها جَنانُ الإنسان فجَرَت في حناياه بأصدق الشعور وأهمَى الوِجدان: حبُّ البلاد والأوطان التي لا تُعمَر إلا في ظلال الكرامة والأمن والأمان، والعدل والنظام والاطمئنان، ولن يُوطَّد ذلك راسخَ الأركان إلا بالاعتصام بشِرْعة الديَّان، واجتنابِ الفُرْقة والنِّزاع والانقسام والعُدوان. ألا فليكن منكم بحُسبان أن المواطنة الصالحة ليست هُتافاتٍ تُردَّد ولا شِعاراتٍ تُعدَّد؛ بل هي إخلاصٌ وإيجابيات وشفافيةٌ ومِصداقيَّات، وقِيمٌ ومبادئُ عصيَّاتٌ عن المُساومات، أبِيَّةٌ عن الإملاءات والتدخُّلات، معي الوعي بعواقب الأمور واعتبار والمآلات، وألاَّ يُعرَّض الأمنُ والاستقرار والمصالحُ العُليا في الأوطان للفوضى والفساد والاضطراب، ولا المُقدَّرات والمُكتسبات للنَّهْب والسَّلْبِ والاحتراب، وأن تتضافَر الجهود وتتَّحِد المواقف على حماية الأوطان ومُعالجة قضاياها بكل تعقُّلٍ وحكمة، وتفطُّنٍ ويقظةٍ لمكائد الأعداء ومطامِع الألِدَّاء، ولله درُّ القائل: بلادي هواها في لساني وفي دمي يُردِّدها قلبي ويدعو لها فمي ولا خيرَ فيمن لا يُحبُّ بلادَه ولا في حليف الحب إن لم يُتيَّم فيا أحبَّتنا الأك

22 ربيع الأول 1432 - صفات العلماء الربانيين - الشيخ صالح آل طالب

خطبة المسجد الحرام - 22 ربيع الأول 1432 - صفات العلماء الربانيين - الشيخ صالح آل طالب الخطبة الأولى إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغُرِّ الميامين، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله؛ فهي الحِصنُ الحصين، والحِرزُ المكين، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102]. اتقوا الله بفعل ما أمر، واجتناب ما نهى عنه وزجَر، تزوَّدوا من الصالحات، واستكثِروا من الحسنات، ولا ينبغي لمؤمنٍ أن يزهَد في قليلٍ من الخيرِ أن يأتيَه، ولا في قليلٍ من الشرِّ أن يجتنِبَه؛ فإنه لا يعلم الحسنةَ التي يرحمُه الله بها، ولا السيئةَ التي يسخطُ عليه بها، وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء: 47]. عباد الله: في زمن الفتن والاضطراب، وكثرة المخالفات والمعاصي، وتسلُّط الفُسَّاق، قد يتسلَّل اليأسُ والقُنوط إلى بعض النفوس، فتضعُف وتستكين، وتتخاذلُ وتلين، ناسيةً أن الدنيا دار ابتلاءٍ وامتحان، وأن طريق الدعوة والإصلاح طريقٌ طويلٌ شاقٌّ، مملوءٌ بالإيذاء والابتلاء، حافلٌ بالعوائق والمُحبِطات، والصوارِف والعقبات، ناحَ لأجله نوح، ورُمِي في النار الخليل، وأُضجِعَ للذبح إسماعيل، وبِيعَ يوسف بثمنٍ بخسٍ ولبِثَ في السجن بِضع سنين، ونُشِر بالمنشار زكريا، وذُبِح السيدُ الحصورُ يحيى، وقاسَى الضُّرَّ أيوب، ولاقَى محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - من ألوان الأذى ما لاقَى؛ أوذِيَ وكُذِّب، وطُرِدَ وقُوتِل، ومات من يُناصِره ويُؤازِرُه، حتى سُمِّي ذلك العام: عام الحُزن. بل رُمِي - صلى الله عليه وسلم - في عِرْضِه، لم تصفُ له الحياة من الكَدْر والتعب، ومع ذلك يتجدَّد نشاطُه في نشر رسالة ربه، والتبشير بها، وهو صابرٌ مُحتسِب، وبقِيَ في كل الأحوال النبيَّ الناصحَ، والرسولَ المُبلِّغ، والمُعلِّمَ الرحيمَ، لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب: 21]. فالأمر الذي تُندَبون له أمرٌ عظيمٌ، ومن قبلكم مرَّ الأنبياءُ بالشدائد والصِّعاب. أيها المسلمون: والعلماء هم ورثةُ الأنبياء، فلا بُدَّ أن يأخذوا نصيبَهم من هذا الميراث، ولا بُدَّ أن يُصيبَه ما أصابَ مُورِّثيهم من ألوان الأذى، هذا هو الأمرُ المُطَّرِدُ في كل دعوة، ومع أتباع الأنبياء في كل شِرْعة. ولقد ضربَ الله لنا المثلَ بالربانيين من أتباع الأنبياء قبلَنا ليربطنا نحن المؤمنين بموكِب الإيمان، ويُقرِّر قرابةَ المؤمنين للمؤمنين، ويُقِرَّ في أخلادهم أن أمر العقيدة كله واحد، ويُعلِّمنا أدبَ الربانيين مع الله وهم يُعانون في سبيله ما يُعانون، فقال - عز وجل -: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا [آل عمران: 146]، ما ضعُفَت نفوسهم لما أصابَهم من البلاء والكرب والشدة والجِراح، وما ضعُفت قواهم عن الاستمرار في الكفاح، وما استسلموا للجزع ولا للأعداء. هذا هو شأن المؤمنين المُنافِحين عن العقيدة والدين، والله يحبُّ الصابرين، هنيئًا للصابرين في ميادين الدعوة والإصلاح الذين لا تضعُف نفوسهم، ولا تتضعضَعُ قواهم، ولا تلينُ عزائمُهم، ولا يستكينون أو يستسلمون، ولا يتهرَّبون من الميدان، ولا يتخلَّون عن المهمة، هنيئًا لهم محبة ربهم، إنها المحبة التي تأسو الجِراح، وتمسح على القَرْح، وتُعوِّضُ عن كل ما يُصيبهم في هذا الطريق. إن الربانيين من أتباع الرسل قبلنا لم يطلبوا مقابل دعوتهم وجهادهم وصبرهم نعمةً ولا ثراءً؛ بل لم يطلبوا ثوابًا ولا جزاءً، لم يطلبوا ثواب الدنيا، لقد كانوا أكثر أدبًا مع الله وهم يتوجَّهون إليه بينما هم يجاهدون في سبيله، وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [آل عمران: 147]. فلم يطلبوا منه - سبحانه - إلا غُفران الذنوب، وتثبيت الأقدام، والنصر على الكافرين، حتى النصر لا يطلبونه لأنفسهم إنما يطلبونه هزيمةً للكفر وعقوبةً للكافرين. وهؤلاء الذين لم يطلبوا لأنفسهم شيئًا أعطاهم الله من عنده كل شيء، أعطاهم كل ما يتمنَّاه طلاَّبُ الدنيا وزيادة، وأعطاهم كذلك كل ما يتمنَّاه طلاَّبُ الآخرة ويرجونه، فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران: 148]، شهِد لهم - سبحانه - بالإحسان؛ فقد أحسَنوا الأدب وأحسَنوا الجهاد، وأعلنَ حبَّه لهم، وهو أكبر نعمةٍ وأكثر ثواب. أيها المؤمنون: هؤلاء هم الربانيون، وهذه أخلاقُهم أمام الابتلاء، لذلك أضافهم الله إلى نفسَه، ونسبَهم إلى ربوبيته، فأكرِم بها من نسبةٍ، وأعظِم بها من إضافة. عباد الله: ولقد دعاكم ربُّكم إلى أن تهتدوا بهديِ من سبقكم من الربانيين، وأن تسيروا على خُطاهم، فقال - عز وجل -: وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ [آل عمران: 79]، كل مؤمنٍ على وجه الأرض مأمورٌ بأن يكون ربَّانيًّا، بأتن يُطيعَ ربَّه ف كل أمرٍ، ويحمَده على كل حال، ويذكُره في كل حين، وأن يكون لسانُ حاله ومقاله: إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ [الأنعام: 162، 163]. المؤمن الرباني مع ربه - جل جلاله - في كل أمرٍ يأمره به، أو قضاءٍ يُقدِّرُه عليه، أو نعمةٍ يمنحه إياها، إن أمره الله بأمرٍ امتثلَ أمر ربه بإخلاصٍ واتباع، وإذا نهاه عن شيءٍ اجتنَبَ ما نُهِيَ عنه بخضوعٍ ومحبةٍ وتسليم، وإذا أصابَتْه مصيبة فهو الصابر الشاكر لربه، الراضي عن مولاه، يعلمُ أن اختيار ربه له خيرٌ من اختياره لنفسه، وأن رحمته به أعظم من رحمة أمه، فيرضى ويُسلِّم. وإذا فعل فاحشةً أو ظلمَ نفسَه بادرَ إلى الله تائبًا مُنيبًا، ووقف في مقام الاعتذار والانكسار، عالمًا بأنه لا يغفِرُ الذنوب إلا الله، ولا يقيه من السيئات أحدٌ سواه، يعوذُ برضاه من سخَطه، وبعفوه من عقوبته، وإذا أنعم ربُّه عليه فهو الحامدُ الشاكر ينسبُ نعمةَ الله إلى الله، ويُثنِي بها عليه، ويستعملها فيما يُقرِّبُ إليه، ولا تزيدُه النعمُ إلا محبةً للمُنعِم، وكلما جدَّد له نعمةً أحدَثَ له عبوديةً ومحبةً وخضوعًا وذُلاًّ، وكلما وقع في ذنبٍ أحدَثَ لذلك توبًا واعتذارًا وانكسارًا، وإذا منعه ربُّه شيئًا قابَلَ ذلك بالرضا عنه - سبحانه -، والثقة برحمته وحكمته؛ فهذا هو المؤمن الرباني، وهذه هي حياتُه. أيها المؤمنون: لقد وصف الله الربانيين بالثبات في الجهاد، والصبر على البلاء: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران: 146]، ووُصِفوا بتحكيم الشرعية: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ [المائدة: 44]، ووُصِفوا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ [المائدة: 63]، ووُصِفوا بتعليم الكتاب والسنة ودلالة الخلق على ما دلَّهم عليه الأنبياء: وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ [آل عمران: 79]. قال البخاري - رحمه الله - في باب: "العلم قبل القول والعمل": "وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: كُونُوا رَبَّانِيِّينَ؛ أي: حكماء فقهاء، ويُقال: الرباني: الذي يُربِّي الناس بصِغار العلمِ قبل كِباره، وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: حكماء علماء، وقال ابن جُبير: حكماء أتقياء". إن هذا الخطاب يتَّجِه للمؤمنين عامة، وللعلماء والصالحين خاصة، والذين يتبوأون مراكز التوجيه، ويتصدَّرون ساحات الجهاد في الحياة لا بُدَّ أن يأخذوا أنفسهم بالعزيمة ليُحسِنوا أداء دور الرسل، فالرسل أولو عزمٍ، وهو نداءٌ لدعاة الخير وشُداة الإصلاح: أن خُذوا الكتابَ بقوة، استمسِكوا بالذي أُوحِي إليكم فأنتم على صراطٍ مستقيم، تحمَّلوا العِبءَ، وانهَضوا بالأمانة في قوةٍ وعزمٍ بلا ضعفٍ ولا تهاوُن، ولا تراجُعٍ عن تكاليف الدعوة، ولا انهزامٍ أمام مشاقِّ الطريق، حتى تكونوا ربانيين. ومن دعاء عباد الرحمن: وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان: 74]؛ أي: قدوةً في الخير والصلاح والاستقامة والتقوى، أئمةً في التقوى، نأتمُّ بمن قبلنا، ويأتمُّ بنا مَن بعدَنا. وقد أمر اللهُ رسولَه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بالاقتداء بالأنبياء قبله، فقال - سبحانه -: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90]، وإن لم يكن المؤمنون على هذا المستوى من الأُسوة حُرِموا الاستخلاف في الأرض، قال إبراهيم - عليه السلام -: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [البقرة: 124]، قال الله: لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة: 124]. وإن الذي يُسابِقُ في الملذَّات لن يرقَى في سُلَّم الطاعات، فلم نُخلَق للخلود في الدنيا ولا للإخلاد إلى الأرض، وإنما خُلِقنا - والله - لأمرٍ عظيم، فلا تغُرَّنَّكم الحياة الدنيا، ولا تُلهيَنَّكم عن الآخرة؛ فأتباعُ الأنبياء لا يُزاحِمون على طلب المتاع والتعلُّق بالدنيا. ولا تيأسوا من كثرة الهالكين أو تسلُّط الفاسقين، عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا [المائدة: 105]. إن المسلمين منذ فجر الرسالة لم يصفُ لهم الجو ولا خلا لهم الطريق، والابتلاء سنةٌ ماضية، وكل استرخاءٍ أو تخاذُل سيستغِلُّه شياطين الجن والإنس للنَّيْل من الحق والانحراف بالخلق. إن الصلاح هو تزكية النفس، والإصلاح هو تزكية المجتمع، والمسلم الحقيقي هو الذي يتعهَّد نفسَه بالتقوى، ويُقبِل في الوقت نفسِه على المجتمع ليُؤازِر الحق ويعوقَ الباطل. والجهاد الهائل الذي قام به خاتمُ الأنبياء هو صُنع أمةٍ راجحةِ الكِفَّة في كل ميدانٍ من ميادين الحياة، إن الله أنزل عليه الوحي وشرَّفه هذا القرآن، ثم كلَّفه أن يفتح بهذا القرآن أقفالاً، وأن يُنير به آفاقًا، وعن طريق المسجد ربَطَ الناسَ بالله، ورصَّ صفوفهم لتتماسك بعدُ في ميادين الحرب والسلام، مُعليَةً كلمات الله، وكلماتُ الله لا يُعليها رجالٌ صغار، إنما ي

29 ربيع الأول 1432 - النوازل والتعامل معها بحكمة - الشيخ سعود الشريم

خطبة المسجد الحرام - 29 ربيع الأول 1432 - النوازل والتعامل معها بحكمة - الشيخ سعود الشريم الخطبة الأولى الحمد لله عالمِ الغيبِ والشهادة ربِّ كل شيءٍ وملِيكِه، خلق فسوَّى، وقدَّر فهدى، له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم وإليه ترجعون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، وصفيُّه وخليلُه، وخِيرتُه من خلقه، بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصحَ الأمة، وجاهدَ في الله حقَّ جهاده، فصلوات الله وسلامُه عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا. أما بعد: فاتقوا الله - عباد الله -، واعلموا أن أصدق الحديث كلامُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وشرَّ الأمور مُحدَثاتُها، وكلَّ مُحدَثَةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة. عباد الله: الأمم والمجتمعات المعاصرة تعيشُ أوجَ حضارتها حتى أكلَت منها وشبِعَت، فأصابَها القَيْءُ بعد التُّخْمة، والجوع بعد القَيْء، ومن المعلوم بداهةً أن التُّخْمة لا تقلُّ شرًّا عن الجوع، ونحن في هذا الزمن لدينا مخزونٌ هائلٌ في مجال العلم والفقه والإعلام والسياسة والاقتصاد والفكر، وحياةُ الناس بعامة مليئةٌ بالمُدلهِمَّات والخُطوب، ونوازلُ المجتمعات والأمم بين مدٍّ وجَزر، لا يسلمُ منهما مجتمعٌ ولا يكاد إلا من رحِمَ الله. وإن من أعظم النوازل أثرًا، وأخطرها تهديدًا لاستقرار المجتمعات: هي تلكم النوازل الفكرية، والمُدلهِمَّات الثقافية، والحِراك السياسي، والتي اعتَرَت المجتمعات المسلِمة على حينٍ فترةٍ من الوِفاق، وقوةٍ مرجعية، ومتانة الانتماء للدين، والمجتمع المُتديِّن، ما سبَّب تعارُك الثقافات والسياسات، وبُروز المُطارحات تلوَ المُطارَحات دون زِمامٍ ولا خِطام، في فوضى خصومةٍ ثائرة ليس فيها من أطراف الخلاف إلا المُدَّعِي والمُدَّعَى عليه وحضور الخصومة. كلُّ يُدلِي بدعواه، ويرى أنها الحق في ظل تشويشٍ وتهميش، وما الظنُّ - يا رعاكم الله - بخصومةٍ تفتقِدُ قاضيها؟! نعم، عباد الله: إذ في الليلة الظلماء يُفتقَد البدر، وما هو هذا البدر الذي سيمحُو ظلمة التحارُش والتهارُش، واللَّمزِ والغَمْزِ، إن هذا البدر - عباد الله - هو: الحكمة، نعم، الحكمة الغائبة في ظل الخلافات المُتفتِّقة، الحكمة التي تقود الرَّكب إلى برِّ الأمان والنجاة من الهلَكَة، الحكمة التي يفتقِرُ إليها كلُّ مجتمعٍ ينشُدُ الفلاح لتُرتِّب لهم قائمة الأولويات ودرجات المصالح ودرَكَات المفاسِد، الحكمة التي لا تُوجَد إلا في مُستودَع المرء الصفيّ النقيّ الصادق العامل، والعالِم الواعي، والسياسيّ المُحنَّك العارف بواقعه وحال مجتمعه، المُخلِص لربِّه، المُتَّبِع لنبيه - صلى الله عليه وسلم -، الحريصِ على استقرار مجتمعه ووطنه. الحكمةُ - عباد الله - مأخوذةٌ من الحكم - وهو المنع -، فكأن الحكمة تمنع المرءَ من الشَّيْن، وتقودُه إلى الزَّيْن، يُقال: حكَمَت الدابَّة إذا امتنَعَت عن السير، والحكمةُ كلُّها خيرٌ، ولا تأتي إلا بخيرٍ، ولم يأتِ ذِكرُها على وجه الذمِّ قطّ، لا في كتاب الله ولا سنة رسول - صلى الله عليه وسلم - ولا في كلام السابقين. والناس ثلاثة: حكيمٌ، ونزِقٌ، وجاهلٌ؛ فالحكيم الدينُ شريعتُه، والرأيُ الحسن سجيَّتُه، وأما النَّزِق فإن تكلَّم عجِل، وإن حدَّثَ أخطأ، وأما الجاهل فإن حدَّثتَه شانَك، وإن وثِقتَ به لم يرْعَك. وللحكمة في الكتاب والسنة معانٍ كثيرة، وقد ورد لفظُها في القرآن عشرين مرة، وقد سمَّى الله نفسَه الحكيم، ومن صفاته - جل وعلا -: الحكمة. ومما قيل عن الحكمة: أنها وضعُ الشيء في موضعه اللائق به، وقيل: هي فعلُ ما ينبغي كما ينبغي في الوقت الذي ينبغي، وهذا هو أظرفُ معاني الحكمة، وهي مُكمِّلةُ العلم والفقه؛ حيث أثنى الله على نبيه سليمان - عليه السلام - حين آتاه هذه المنَّة، فقال - سبحانه -: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا [الأنبياء: 79]. ولقد وهبَ لقمانَ الحكمةَ منَّةً منه - سبحانه - وفضلاً، فقال - جل وعلا -: وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ [لقمان: 12]. فالحكمة منَّةٌ من الله - سبحانه - لعباده؛ إذ ما أُعطِي العبدُ شيئًا بعد الإيمان بالله والخُلُق الحسن أغلى من الحكمة، كيف لا وهي منحةٌ اختصَّ الله بها من يشاء من عباده، فقد قال - سبحانه -: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ [البقرة: 269]. والحكمةُ خيرٌ كثيرٌ تجمعُ للمرء مكارِمَ الأخلاق والتصرُّفات، فهي مِقبَضُ رَحاها، وأُسُّها الحاكم، ولقد صدق الله: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ [البقرة: 269]. فكم هو مُفرِّطٌ من لم يسعَ للحكمة، وكم هو أحمق من لم يُرِد الحكمة، وكم هو عبدٌ لهواه من استنكَفَ عنها؟! الحكمة - عباد الله - لا تُشترى بالمال ولا بالذهب ولا بالمرجان والإبريز، واستخراجُها يفوق استخراج اللآلِئ من أعماق البحار، فيا لله ماذا يصنع فاقِد الحكمة، ويا لله ماذا يخشى من أُوتِيَها؟! الحكيمُ - عباد الله - يعرِفُ متى يتكلَّم ومتى يسكت؛ لأن من الناس من لا يُكرَم إلا بلسانه ولا يُهانُ إلا به، والحكيمُ يعرِفُ مواضعَ الإكرام ومواضعَ الإهانة؛ لأنه يُدرِك أنه إذا قال ربما ندِم، وإن لم يقُل لم يندَم، وهو على ردِّ ما لم يقُل أقدرُ منه على ردِّ ما قال، والكلمةُ إذا تكلَّم بها ملَكَته، وإن لم يتكلَّم بها ملَكَها. وربما صار حكيمًا بالصمت تارة، وربما صار حكيمًا بالنطق تارات، وعند المُدلهِمَّات يُعرفُ الحكماء الذين لا تحكمُهم المصالحُ الشخصية والأهواءُ فيها، ولا تقودُهم الشُّبْهة والشهوة إليها. ورضِيَ الله عن معاوية مثلاً يُحتَذَى في الحكمة من خلال مبدأ الشِّعرة التي عُرِف بها عند السابق واللاحِق. ولقد ضرب لنا شيخُ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - مثلاً رائعًا يتجلَّى من خلال مفهوم الحكمة في واقعه وتعامُله مع المخالفين للصواب؛ حيث قال: "كنتُ أقول للجهمية من الحلولية والنُّفاة الذين نفوا أن الله فوق العرش لما وقعَت محنتُهم: أنا لا وافقتُكم كنتُ كافرًا؛ لأني أعلمُ أن قولَكم كفرٌُ، وأنتم عندي لا تكفُرون؛ لأنكم جُهَّال". فالله أكبر! ما أعظم هذا العلم المُعطَّر بالحكمة المتينة؟! ولذا عندما يكون الحَدَثُ مُشوَّشًا مُتنازَع الهويَّة، غامِضَ المآلات، فإن البُسطاء هم أول من يتَّبِعه، ويسيرُ في رِكابه، ويلهَثُ وراءه، فيسيرون كأسراب طيرٍ يتبَع بعضُهم بعضًا، يتفقِرون إلى الحكمة التي هي مزيجٌ يتفاعلُ فيه العلمُ مع الواقع المُتفتِّح على حركة المُجتمعات في الحياة، لتُصبِح عنصرًا مُتجدِّدًا يُلاحِقُ الحياة في آفاقها وخُطواتها، ليتبلور من خلالها الرأيُ السديد والأسلوبُ العملي الذي يتلاءَمُ مع الذهنية العامة للمجتمع بكافة مسؤولياته. ومن هنا تبرزُ الشخصيةُ الحكيمة التي تُفكِّرُ بحسابٍ، وتعمل بحسابٍٍ، وتلجُم الانفعال والحماسَ والخمولَ والاستكانة بلجامٍ من عقلٍ وفكرٍ واتِّزان. الحكمة - عباد الله - معدِنٌ نفيس لا يُنال بـ "ليت" ولا "لعل"، ولقد صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ حيث قال: «الناس كإبلٍ مائة، لا تكادُ تجِدُ فيها راحِلة»؛ هذا لفظُ البخاري، وقد رواه مسلمٌ أيضًا. فالحكمةُ إذًا هي ضالَّةُ المؤمن أنَّى وجَدَها أخَذَ بها، ولن يجِدَها من لم يكن كتابُ الله وسنةُ نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - هما من يقُودان فؤادَه؛ لأنها ذُكِرت في القرآن تاليةً لكتاب الله، كما قال تعالى: فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [النساء: 54]، كأن في ذلكم إشارةً إلى أن الحكمة لا تكون بمفاهيمها وقطورها في معزلٍ عن كتاب الله وسنة نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - كي لا تفتقِد قيمَتَها؛ لأن العقل البشري وحدَه غيرُ كافٍ في تحصيلِ لُباب الحكمة والظَّفَر بها. ورسولُنا - صلى الله عليه وسلم - بإجماع العُقلاء أنه كان أعقل الناس وأكمل الناس ذهنًا وعقلاً، غير أن ذلك لم يكن كافيًا وحده دون نورٍ من الله وهُدًى، ولذلك قال الله تعالى عنه: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى: 52]. ولقد أحسن من قال: ولا خير في عقلٍ إذا العلمُ غائبٌ ولا خيرَ في علمٍ يكونُ بلا عقلِ فلا بُدَّ من عقلٍ وعلمٍ كلاهما يقُوداننا نحو الرَّزانة والفضلِ بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والذكر والحكمة، قد قلتُ ما قلت، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفَّارًا. الخطبة الثانية الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه. أما بعد: فاتقوا الله - عباد الله -، واعلموا أن كثيرًا من المهتمين تناوشُوا الحكمة على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم حتى الْتقى في هذه المناوشَة الفقيهُ والسياسيُّ، والاقتصاديُّ والصُّحُفيُّ والإعلاميُّ، والمُرجِفُ والمُخذِّل، ونحوُهم، [14:12] كثيرٌ منهم حتى أصبحت الحكمة بين الغالي فيها والجافي عنها، وقلَّ من توسَّط في ذلك. ولقد بلَغَت الحكمةُ من التشويه مبلغًا جعلت الرامِقَ ببصيرته من بعيد لا يُخرِجُها من خلال ما يُطرَح عن دائرة الغلوِّ تارةً، والتفلُّت تاراتٍ أخرى، والمصادرةِ لها ونقضِ العُرى بها تارةً أخرى، ليدَعُوا الحليم حيران حتى حجبَ كثرةُ صراخهم أصواتَ الحكماء، فأضحَت غير مسموعةٍ وصت أهازيج الفُرقاء، ثم باتَت تلك الأصوات حبيسةَ حناجر الحكماء فحسبُ. وإلا فما ظنُّكم بمجتمعٍ ترتفعُ فيه أصواتُ الحكماء، أترونَه سيُعاني من تهارُش بني مجتمعه؟! أترونه يضِلُّ طريقَه؟! أترَونَه يكثُر فيه الطلاقُ والغِشُّ والظلم والأَثَرة والنِّزاع؟! كلا، وألف لا. وفي الطرف المُقابل لذلكم كله: فإنه ينبغي التوقِّي والحَذَر من الوقوع في الحكمة الزائفة المُذوَّقة التي لا تستنِدُ إلى علمٍ ولا هُدًى ولا منطق، وإنما تنطلقُ من مواقف ضعفٍ مُثبِّطة، أو من دوافع عنفٍ مُرجِفة، بقطع النظر عن العواقِب والمآلات، وألا تُغرِيَنا العُقول والأفهامُ لتجعلَنا حُكَّامًا على كتابِ ربنا وسنةِ نبينا - صلى الله عليه وسلم - لا محكومين بهما، وألا تكون عقولنا - أيضًا - قادةً وحيدةً في فرزِ ما يصِحُّ وما لا يصِحُّ. وحَذَارِ حذارِ من الحكمة المُقنَّعة التي تُصافِحُ عقولَ البُسطاء بقُفَّازٍ ليس مخيطًا لها، ولنلتمِس الحكمة التي أرادها الله لنا في قوله: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: 125]، فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت: 34]. ولنلتمِس الحكماء الذين يُجيدون فرزَ المصالحِ والمفاسِد، الحُكماء الذين يعُونَ قيمةَ المصلحةِ العُليا، المُؤسَّ

6 ربيع الثاني 1432 - الفتنة ودور الشيطان في إشعالها - الشيخ أسامة خياط

خطبة المسجد الحرام - 6 ربيع الثاني 1432 - الفتنة ودور الشيطان في إشعالها - الشيخ أسامة خياط الخطبة الأولى الحمد لله الذي خلق فسوَّى، والذي قدَّر فهدى، أحمده - سبحانه - وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خالقُ الأرض والسماوات العُلَى، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله النبيُّ المُجتَبَى، والرسولُ المُرتضَى، والحبيبُ المُفتدَى، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أهل البرِّ والتُّقَى. أما بعد: فاتقوا الله - عباد الله -، واذكروا وقوفكم بين يديه يوم تُعرَضون عليه يوم يفِرُّ المرءُ من أخيه، وأمِّه وأبيه، وصاحبته وبنِيه، لكل امرئٍ منهم يومئذٍ شأنٌ يُغنِيه. عباد الله: ديدَنُ اللبيب الواعي وشأنُ الأريب اليَقِظ: كمالُ الحَذَر من كيد العدو، وأخذُ الأُهبَة لاتِّقاء مكره ودرء خطره، ولئن تفاوتَ هذا الخطر بحسب قوة العدو وعلى قدر تمكُّنه من وسائل الإثخان في عدوه وإيصال الأذى إليه، فإن من أشد العداوات ضررًا وأبعدها أثرًا: عداوة من ذكَر الله في كتابه مُحذِّرًا منه بقوله: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر: 6]. وتتجلَّى هذه العداوة التي ابتدأَت بإبائه السجود لآدم - عليه السلام - وخروجه من الجنة في توعُّده لبني آدم بالإضلال وتربُّصه بهم، وقُعوده لهم كل مرصَد، كما أخبرنا - سبحانه - عن ذلك بقوله - عزَّ اسمه -: قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [الأعراف: 16، 17]. ويتجلَّى في تعهُّده الذي أخذه على نفسه بألا يدَع سبيلاً للإغواء إلا سلَكَه: وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ [النساء: 119]. وإذا كان إضلالُه لهم وشغلُه بالأمانِيِّ الكاذبة ودعوتُه لهم إلى تشقيق آذان الأنعام وتغيير خلق الله وهيئتِه التي فُطِروا عليها بعضَ ما في كِنانتِه؛ فإن فيها ضربًا لا يقل عن ذلك خطرًا؛ ذلك أن من أظهر ما يُبغِضُه ما يرى من أُلفَة المؤمنين وتوادِّهم وتراحُمهم واجتماع كلمتهم واتحاد صفوفهم، فيحمِله ذلك على إثارة أسباب الفُرقة والشِّقاق بينهم، وبذل بذور الفتنة بضرب بعضهم ببعض سعيًا إلى قطع رابطة الأُخُوَّة، والقضاء على وشيجة الإيمان، وهو التحريش الذي أخبر عنه نبيُّ الرحمة - صلى الله عليه وسلم - مُحذِّرًا منه أمَّتَه بقوله: «إن الشيطان قد أيِسَ أن يعبُدَه المُصلُّون في جزيرة العرب، لكن في التحريش بينهم»؛ أخرجه مسلم في "صحيحه"، وأحمد في "مسنده"، والترمذي في "جامعه" من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -. إن سعيَه إلى التحريش وأملَه في الظَّفَر بآثاره باقٍ لم يتطرَّق إليه يأس، ولذا فهو يعمل له ويدأَبُ فيه، ويتوسَّل إليه بإعمال الحِيلة لإغراء بعض أبناء الأمة على بعضها الآخر؛ بإثارة عوامل النزاع وإهاجة أسباب التناحُر بطرائق ومسالك يُزيِّنها ويُظهِرها في صورة مصالح ومنافع تبدو خلاَّبةً للعقول، آخِذةً بمجامِع النفوس، ويستعينُ على بلوغ ما يريد بمن رضِيَ باتباع خُطواتِه، والانضِواء تحت لوائه، والاستجابة لوسوستِه، كما جاء في الحديث الذي أخرجه مسلم في "صحيحه" من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن عرش إبليس على البحر فيبعَثُ سراياه فيفتِنون بين الناس، فأعظمُهم عنده أعظمُهم فتنة، يجيءُ أحدهم فيقول: فعلتُ كذا وكذا، فيقول: ما صنعتَ شيئًا، ثم يجيءُ أحدهم فيقول: فعلتُ كذا وكذا، فيقول: ما صنعتَ شيئًا، ويجيءُ أحدهم فيقول: ما تركتُه حتى فرَّقتُ بينَه وبين امرأته، فيُدنيه منه ويقول: نِعْم أنت». وانظروا إلى ما فعل بإخوة يوسف - عليه السلام - حين نزغ بينه وبينهم، ففعلوا ما فعلوا من الكيد له، والعدوان عليه. غيرَ أن أولي الألباب الذين لم يجعل الله للشيطان سلطانًا عليهم يعلمون أن ربهم الرؤوف الرحيم بهم كما حذَّرهم من طاعة الشيطان ومن اتخاذه وليًّا من دون الله؛ فقد بيَّن لهم بما أنزل في كتابه من البيِّنات والهدى ما يستعصِمون به من تحريش الشيطان وتفريقه وفتنته. وفي الطليعة من ذلك: الاعتصام بحبل الله كما أمر الله ورضِيَه لنا، فقال - سبحانه -: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران: 103]. وهو أمرٌ بالاستمساك بدين الإسلام أو بالقرآن، وكما جاء في الحديث الذي أخرجه مسلم في "صحيحه"، وأحمد في "مسنده" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله تعالى يرضَى لكم ثلاثًا، ويكره لكم ثلاثًا؛ فيرضَى لكم: أن تعبدوه ولا تُشرِكوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرَّقوا، وأن تُناصِحوا من ولاَّه الله أمرَكم، ويكره لكم: قِيل وقَال، وكثرةَ السؤال، وإضاعَة المال». ومن ذلك: تذكُّر نعمة الله على عباده وما منَّ عليهم من نعمة الأُخُوَّة في الدين بعد ما كانوا عليه من عداوات الجاهلية وقتالها وثاراتها. ومنه: اتباع صراط الله المستقيم والحذَر من اتباع السُّبُل؛ لأن على كل سبيلٍ منها شيطانًا يدعو إليها، كما جاء في الحديث الذي أخرجه أحمد في "مسنده"، والنسائي في "سننه"، وابن حبان في "صحيحه"، والحاكم في "مستدركه" بإسنادٍ صحيح عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: خطَّ لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا خطًّا فقال: «هذا سبيلُ الله»، ثم خطَّ خطوطًا عن يمين الخط وعن شماله فقال: «هذه السُّبُل، على كل سبيلٍ منها شيطانٌ يدعو إليه»، ثم قرأ: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام: 153]. وهي وصيةٌ ربانيةٌ كريمةٌ من ربٍّ رحيم، وصية لعباده بأن يتخذوا من صراط الله منهاجًا يسلُكونه، ولا يحِيدون عنه، ولا يسلُكون طريقًا سواه، ولا يبغُون دينًا غيرَه؛ لأنهم إن اتَّبَعوا سُبُل الشيطان حادَت بهم وانحرَفَت عن طريق الله ودينه وشرعه الذي شرَعَه لهم ورضِيَه، وهو الإسلام الذي وصَّى به الأنبياء، وأمرَ به الأُمَمَ من قبلنا. ومن أسباب السلامة من تحريش الشيطان أيضًا: تعويدُ الألسنة القولَ الحسنَ والكلمةَ الطيبة، كما قال - سبحانه -: وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا [الإسراء: 53]. وهو كما قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: "أمرٌ من الله - تبارك وتعالى - لرسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يأمر عبادَ الله المؤمنين أن يقولوا في مُخاطباتهم ومُحاوراتهم الكلامَ الأحسن والكلمةَ الطيبة؛ فإنه إذا لم يفعلوا ذلك نزَغَ الشيطانُ بينهم وأخرج الكلام إلى الفِعال، ووقع الشر والمُخاصَمة والمُقاتلة". فالقولُ الحسن والكلمة الطيبة - يا عباد الله - رسولٌ إلى الخير، وقائدٌ إلى الأُلفة واجتماع الكلمة، وسبيلٌ إلى اتحاد الصفوف، وطريقٌ إلى إرغام الشيطان وإحباطِ سعيِه إلى الفتنة والفُرقة والتنازُع بين أبناء الأمة الواحدة، ذلك التنازُع الذي نهى اللهُ عبادَه عنه مُبيِّنًا قُبحَ مآله، وسوءَ عاقبتِه بقوله: وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال: 46]. وكفى بالفشل وذهابِ الرِّيح المُعبِّرَيْن عن أسوأ عاقبة وأقبح مآل ينتظرُ المُتنازِعين، كفى به نذيرًا صارخًا لأُولِي الألباب ليأخذوا حِذرَهم من وساوِس الشيطان واتباع خُطواته، وانتهاج سُبُله التي يُزيِّنُها بزُخرف القول يغُرُّ به من أطاعَه وأسلم له قيادَه، ويُحسِّنُها بالوعود والأمانِيِّ الكاذبة التي اتخذَت لها في أعقاب الزمن صورًا لا يُحيطُ بها الحصرُ، ولا يستوعِبُها العدُّ، حتى صار لها اليوم من أجهزة الإعلام الحديثة وشبكات المعلومات العالمية بما فيها من قنواتٍ ومواقع وما تُتيحُه من قُدرات ووسائل، صار لها اليوم ساحةٌ لا حدود لها، وميدانٌ لنشر دعواتٍ والترويج لاتجاهات، والحثِّ على مسيرات، وما يُسمَّى: تظاهرات واعتصامات، يستيقِنُ كلُّ عاقلٍ مُخلِصٍ لله، ناصحٍ لعباده، مُحبٍّ لهم، عظيمِ الشفقةِ عليهم، مُريد الخير بهم أنها بابٌ عاجلٌ، وبعثُ فتنةٍ نائمة، وسبيلُ فُرقةٍ مائِجة، وطريقُ فوضَى عارِمة، وتعطيلُ مصالح لازمة، وعبَثٌ بأمنٍ راسِخ لا غناء عنه ولا بديل. فإن شأن الفتنة أن ضررها يعُمّ ولا يخُصّ، وأن من استشرَفَ لها استشرَفَته؛ بل من تطلَّع إليها وتعرَّض لها أشرفَ منها على الهلاك، وأن القاعد فيها خيرٌ من القائم، وأن القائم فيها خيرٌ من الماشي، والماشي فيها خيرٌ من الساعي، كما أخبر بذلك نبيُّ الرحمة الرؤوف الرحيم الناصحُ الأمين الصادق الذي لا ينطِق عن الهوى - صلوات الله وسلامه عليه - في الأحاديث الصحيحة في "الصحيحين" وغيرهما. وإن كل من ذكر نعمَ الله عليه التي إن عدَّها لم يُحصِها من استشعَر مسؤوليتَه العُظمَى عن الدين، وسلامة الوطن، ووحدة الأمة، وأن كل من أُوتِي الحكمة ورُزِق حظًّا وافرًا من ذكاء الحِسّ وكمال الوعي وسداد الرأي، فنظَر في العواقِب، واتَّقى الفتن، ووازَنَ بين المصالح المتوهَّمة الظنية والمفاسد المُحقَّقة القطعية لن يكون أبدًا إلا مُجانِبًا لهذا النُّكْر، رافضًا ذا الفكر، مُعرِضًا عن هذا الطَّرْح، سبَّاقًا إلى الدعوة إلى ائتلاف القلوب واجتماعها، ونبذ أسباب الفُرقة. والحَذَر من كل سبيلٍ يُفضِي إليها أو يُعين عليها، باذلاً وُسعه في البيان، مُستغرِقًا وقتَه في النُّصح، صارفًا همَّته إلى التحذير، وفي تضافُر جهده وجهد كل الحكماء والعقلاء ما يُسدِّد الله به الخُطى، ويُبارِك به السعي، وتُحفَظ به الحوزة، وتُطفَأ به الفتنة، وتحصُل به العاقبة. فاتقوا الله - عباد الله -، واذكروا أن في اعتصامكم بحبل الله واتباع صراطه المستقيم والحذر من اتباع السُّبُل، والشدِّ على روابط القوة، والحفاظِ على أسباب الوحدة خيرَ عُدَّةٍ لبلوغ ما ترجون من رضوان الربِّ الرحيم الرحمن، ودحر عدوكم الشيطان، وردِّ كيدِه، وهزيمة جُنده وأتباعه. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَع

13 ربيع الثاني 1432 - وجوب الإجتماع ونبذ الفرقة - الشيخ عبد الرحمن السديس

خطبة المسجد الحرام - 13 ربيع الثاني 1432 - وجوب الإجتماع ونبذ الفرقة - الشيخ عبد الرحمن السديس الخطبة الأولى الحمدُ لله حمدًا لم يزَل مِدرارًا وكَّافًا، ونشكرُه - سبحانه - على ترادُف نعمائه شكرًا يتوالَى أضعافًا. لك الحمدُ اللهم حمدًا مُخلَّدًا على نعمٍ لم تُحصَ عدًّا فتنفَدا ونسألك التوفيق للشكر إنه يكون لنعماء الإله مُقيِّدًا وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تقدَّس أسماءً وجلَّ أوصافًا، شهادةً نُحقِّقُ بها تآزُرًا وائتلافًا، وأشهد أن نبيَّنا وسيدنا محمدًا عبدُ الله ورسوله خيرُ من ألَّف الأشتات إيلافًا، صلَّى الله وبارَك عليه وعلى آله المُوطَّئين أكنافًا، وصحابته الأُلَى كانوا في التلاحُم أحلافًا، وعن التنازُع صُدَّافًا، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ من المُقتفين أسلافًا، وسلِّم يا رب تسليمًا عديدًا مديدًا إلى يوم الدين. أما بعد، فيا عباد الله: أنفسُ ما يُوصَى به دوامًا لمن رامَ اجتماعًا والتئامًا، وهفَا للحق اعتصامًا به والتِزامًا، وقصدًا للوحدة الإسلامية واعتِزامًا: تقوى الله دوامًا، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102]. إخوة الإيمان: من أنعمَ النظرَ في آفاق التأريخ العافي والأَمَم، واستقرأَ أحوالَ الأُمَم وما نابَها من غِيَر الدُّثُور بعد الاستقرار والظهور عبر الدهور ألفَا دون عناء وبمديد الجلاء أن ما أصابها من التشرذُم أو الفَناء والهلَكَة والانمِحاء إنما سببُه قاصمةٌ دهيَاء، هي بريدُ الشِّقاق والفساد، ومطيَّةُ القلاقِل والكَساد، وداعيةُ الفتن والخُسران والهوان والخُذلان، تلكم - يا رعاكم الله - هي: صفة التنازُع والشِّقاق والتخالُف والافتراق، إنها الخَطْبُ الراصِد، والبلاءُ الواصِد، والجهلُ الحاصِد، ما زحَفَت أصلالُها في مجتمع إلا مزَّقَته شَذَر مذَر، وأردَتْه حديثًا لمن غَبَر، وآضَ عبرةً لمن اعتبَر. وفي ديار الإسلام أناخَت تلك الرزِيَّةُ كلكَلَها بقَدَر، ولن يصُدَّ تيَّارَها تيكَ التشتُّت وآتيَّه ولن يُقوِّم مُعوَجَّه وعصِيَّه إلا اتحادُ المسلمين وتلاحُمهم وترابُط تآخيهم وتراحُمهم، وتلكم هي الشعيرة التي احتفَى بها الإسلام أيَّ احتفاءٍ، فوطَّدَها وعزَّزها ووتَّدَها، أليست هي عمادُ القوة والمُنَّة، ونعمَت النعمةُ والمِنَّة؟! يقول - جل جلاله -: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [آل عمران: 103]. وذلك - يا عباد الله - لما يتَرتَّبُ على الاتحاد من المحبة والوِداد، واستئصالِ السخائمِ والأحقاد. أيها المسلمون: فإذا انقادَت الأمةُ فكريًّا وسياسيًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا للائتلاف، ونبذَت ظهريًّا الاختلاف، واستمسَكَت بالحق وأزِمَّته، وانقادَت للدين وشِرعَته، قرَّت منها العين، وفازَت بالحُسنيَيْن، واندفَعت عنها الشرور، وانقلَع الثُّبُور، وأحرَزَت في العالمين توقيرًا وهيبةً واحترامًا، ولم ينَل منها المُتربِّصون مرامًا، يقول - صلى الله عليه وسلم -: «عليكم بالجماعة؛ فإن يدَ الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار»؛ أخرجه الترمذي وصحَّحه. ففي الجماعة أمةٌ تعِزُّ وترقَى، ومجدٌ يسُطَّر ويبقَى. معاشر المسلمين: ولئن اصطلَحَت على أمتنا الأبِيَّة مع الأسى أعضلُ أدواء التنافُر والشتات والتناثُر، وحاقَ بفئامٍ التغطرُس والفشل، فأصبحَ هاديهم النَّصَل والأَسَل، فأراقوا الدماء على مسارِحِ اليَهْماء، جرَّاء الرُّعونة العمياء، وكانوا أنكَى في الإسلام من أعدائه، وأشدَّ ضراوةً على أوليائه، وتشفيًّا من أبنائه. فليتذكَّروا أن الظلمَ قصيرُ المدة فَليلُ العُدَّة وإن تناهَى في البطشِ والشدَّة، وتظاهَر بالسطوَة والحِدَّة، وفي مسطور الحِكَم: "من طال تعدِّيه كثُرت أعادِيه". يتحدَّثُ القصفُ الرَّهيبُ بلهجةٍ مسروقةٍ من لهجَة الزلزالِ يا إخوةَ الإسلام سافرَ حُزنُنا فينا وأوغلَ أيَّما إيغَالِ إخوة الإسلام: يُساف ذلك والألمُ المُبرِّحُ ملءَ دواخِلنا؛ حيث غدا شأنُ الأمة في أمرٍ مريجٍ، والحقُّ والباطلُ في مزيجٍ، تُزمجِرُ بالمجتمعات القواصِمُ القواصِف، والفتنُ العواصِف، ومُقدَّراتُها في تناهُب، وسلبٍ وتواهُب، يقول - عزَّ اسمُه -: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ [آل عمران: 105]. وما سببُ ذلك إلا البُعد عن صراط العزيز الحميد الذي صمُّوا عن هديِه ودعائه وعَمُوا عن نوره وضيائه، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء: 9]. مع انحرافٍ في تلقِّي الوحيَيْن وسوء الفهم واستحكامِ الهوى وغلبةِ الوَهم، وذلك شرُّ أدواء الفُرقة وبَالاً، وأشدُّها في الأمة فتكًا بالقلوب واستِفعالاً. ? فما الشِّقاقُ - بُناة المجدِ - مبدؤُكم ولا النزاعُ ولا الإحجامُ عن قِيَمِ فسارِعوا سدَّ ثغرِ الخُلفِ واعتصِموا لو اعتصَمنَا بحبل الله لم نُضَمِ أمة الإسلام: وتلقاء هذه المرحلة العصيبة في الأمة من التنصُّل عن الجماعة والتمزُّع، ونُوَب التفرُّق والتوزُّع التي تدُكُّ صرحَ الأمة دكًّا؛ لزِمَ استنباءُ الأحداث واستشفافُ العِبَر، وتقويمُ قضايانا الإسلامية بمِسبار الشفافية والاستِهداء، وصحة التمييز بين الألِدَّاء والأوِدَّاء، ودقةِ الموازنة في جلبِ المصالحِ ودرءِ المفاسِد، وبصيرة النازِلة لتحقيق الطموح والآمال، وتعزيز مناهِجِ الوسَطِ والاعتدال التي تُحقِّقُ النموذجَ والاعتدال في التآلُف وبديع الامتِثال، وأن تُبنَى النفوس ويُربَّى شبابُ الأمة معقِدُ أملها الباسِل على ثقافة الحوار والائتلاف والترابُط وذمِّ الاختلاف، في سموٍّ للنيات عن الذاتيات والأنانيَّات، ومقيت الحِزبيَّات وآسِن العصبيَّات، ووبيلِ الأفكار الهادِات التي تجُرُّ المآسي وتتأبَّى عن رفوِ المُواسِي، مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الروم: 31، 32]. مع الرجوع لأعلام الهُدى ومصابيح الدُّجَى وأنوار الاقتِدا: العلماء الربانيين الذين تُجلَّى بعلومهم حوازِمُ الأمور، وفتنٌ ظلمَاءُ كالدَّيْجُور، وتُشدُّ لهم في المُعضِلات الرِّحال، وبهم تُحذَى مطايا الائتلاف والآمال، فالصُّدُور عنهم - لا سيَّما في الفتن والأزمات - لهو المنهجُ الحق الأنقى، وسبيلُ الرشاد والسلام الأقوى، وبذلم تستأنِفُ أمتُنا العتيدة مكانتها المُشرِقة وتماسُكها واتحادَها واستقرارَها واعتِدادَها، فيرهَبُها الجافِي وينعطِفُ إليها المُوافِي، وتقتعِدُ - بإذن الله - غاربَ العزةِ والهُدى، وترتبؤ نواحِي الإصلاح بسيطِ المدى؛ فتُرى في كل مجتمعٍ قويةَ الكِيان، مُتراصَّةَ البُنيان، نديَّة الوِجدان، حول الكتاب والسنة مُلتفَّة، وبالجماعة معتصِمةً مُحتفَّة، ما صحَّت العزائمُ والطوايا، وخلُصَت الهِمَمُ والنوايا، وما ذلك على الله بعزيز. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء: 83]. بارك الله ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقولُ قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافة المسلمين والمسلمات من جميع الذنوب والخطيئات، فاستغفوره وتوبوا إليه، إنه كان توابًا. الخطبة الثانية الحمد لله، أسبغ علينا نعمًا مباركاتٍ تتالَت أفواجًا، وحذَّر ممن سعى بالفتن بين المسلمين وداجا، وصلواتُ الله على رسوله ومُصطفاه، وعلى آله وصحابته البالغين من التلاحُم أثباجًا، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ وسلمَّ تسليمًا ما لهَجَ ضارِعٌ بالدعاءِ إلهاجًا. أما بعد، فيا إخوة الإيمان: ولما كانت بلاد الحرمين الشريفين المملكةُ العربية السعودية - حرسها الله - قبلةَ الأوطان زينةَ البلدان، ومنها تستقِي الدنيا والتأريخُ والحضارات رحيقَ المجد والسلام والاتحاد والوِئام، وترتشِفُ منها الأُممُ والأجيال شهدَ الروح والجَنان، وتنسمُ نفحات الجِنان ومراضِي الرحيم الرحمن، فإنها لم تفتَأ من قِبَل الأَفَكَة المكرَة محسودة، وبالأذى والحقدِ مقصودة، فكم من أرعنٍ ضحِل المروءة والهِمَّة خافِرٍ للجماعة والذِّمَّة يُزيِّنُ الباطلَ للتفريق، ويُشوِّه الحقَّ للتمزيق، ويُغرِي - يا بُؤسَه - بالفوضى لتزِلّ، وبالفتن - زعَم - لتذِلّ، عبر أفكارٍ دخيلةٍ هَوجاء، ومسارِبَ كالحةٍ رَعناء، لم تتألَّق بالسداد بنفحة، ولا من نورِ الحق بصفحة، وليس لها من الهدي المُحمدي أثَر؛ بل ادَّارَكت فيما زاغَ عنه الفِكرُ وعَثَر. عباد الله: أوَمَا درَى من يُذكِي الفتن ويرزعُ الإحَن وكل حاسدٍ مارِق بوحدتنا غاصٌّ وشارِق، وقد درَى العالمُ أجمع أن هذا الوطن - بفضل الله - مُتفرِّدٌ عن سائر الأوطان بخصائصه ومميزاته، وأصوله ومُسلَّماته؛ فقد قامَ منذ عهد المُؤسِّس - رحمه الله - على نور الكتاب والسنة ومنهج سلف هذه الأمة القاضيَيْن بلُزوم الجماعة والبَيْعة على السمع والطاعة، وما خصَّه المولى - سبحانه - بإمامٍ مُوفَّق، قد انبلَجَ صبحُ صلاحه، وأشرقَت شموس برِّه وإصلاحه. هنا قبلة الإسلام ذاتُ الدعائمِ هنا مثلٌ أعلى لروحِ التلاحُمِ هنا قلعةُ التوحيد تبقَى قويةً بمنهجِها السامي أمام الشراذِمِ أوَمَا درَوا أن المسلم الصالح يقتضيه صلاحُه الوفاءَ للوطن والصدق في السر والعلَن، وصونَه عن الإِحَن، وما يعتاقُه من الوَهَن، في بُعدٍ عن مظاهر الفوضَى والاضطراب؛ من مظاهراتٍ بدعية، ومسيراتٍ تخريبية، واعتصاماتٍ غوغائية، وتجمُّعاتٍ فوضوية، ودعاوى كيدية، وبياناتٍ تحريضية. ولكن - بحمد الله حقَّ حمده - تقشَّعَت دعاواهم الزُّيُوف المُفضِيَةُ للحُتُوف عن سحابٍ قُلَّب، وسرابٍ خادعٍ خُلَّب، وأظهرَ المجتمعُ المُتماسِكُ الأريب، عن قمةِ التلاحُم البديع والالتفاف الفلاني المنيع حول قيادته ووُلاته، وكان شِعارُهم: "اللُّحمةُ والتلاحُم عُدَّتُنا زمنَ الفتن والملاحِم". فلله هذا التلاحُم بالصدقِ والوفاء ما أضوعَه، وبالحب والصفاء ما أبدَعَه، وبالترابُط والولاء ما ألمَعَه، وبالسمع والطاعةِ ما أروعَه، وعن مظاهر الخِداعِ ما أمنعَه، فهنيئًا لقيادةِ هذه البلاد المباركة وشعبُها الواعي الأبِيّ اليقِظُ الوفِيّ، الذي زمجَرَ في وجه الكائدين وما لبَّى، واستعصَى عليهم وتأبَّى. ? ألا أيها الشعبُ المبارَكُ: إنها مؤامرةٌ فارفع لها كفَّ حازمِ إذا الفتنةُ الهوجاءُ بانَ لهيبُها فلا فرقَ

20 ربيع الثاني 1432 - نعمة الأمن في ظل توحيد الله - الشيخ صالح آل طالب

خطبة المسجد الحرام - 20 ربيع الثاني 1432 - نعمة الأمن في ظل توحيد الله - الشيخ صالح آل طالب الخطبة الأولى إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا. أما بعد: فاتقوا الله - عباد الله - حق التقوى، واستمسِكوا من الإسلام بالعُروة الوُثقى. أيها المسلمون: لقد منَّ الله على عباده بدينٍ متينٍ يُخاطِبُ العقلَ والقلبَ، ويُؤصِّلُ القواعدَ والأحكام، شاملٌ للكليات والجزئيات، والاعتقادات والعبادات، والسلوك والآداب، وقرَّر أصول التعامل مع البسطاء والعُظماء، وأهل البطالة والأثرياء، والفقراء والأغنياء، قال - جل شأنُه -: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: 38]. ولكماله شَرَقَ الأعداءُ بتمسُّك أهل الإسلام به، قال - سبحانه -: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [البقرة: 109]، فيسعون إلى إقصاء أهله عنه: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [الصف: 8]. ومن أعظم مداخل أهل الباطل على المسلمين: زعزعةُ الأمن في بلدانهم، فإذا فقدوه انقطَعَت السُّبُل، وتفرَّقَت الكلمةُ وحلَّ الفقر وانتشرت الأسقام، وسُلِبَت الأموال والممتلكات، وهُتِكَت الأعراضُ وسُفِكَت الدماء، فيعمُّ الجهلُ والخوفُ وينشغِلُ الناسُ عن دينهم، ويظهر أهل الريبِ والشك وأربابُ البغيِ والإفساد. وكلما ابتعد الناسُ عن زمنِ النبوة ظهرت الفتنُ والمِحَن، قال - عليه الصلاة والسلام -: «إن بين أيديكم فتنًا كقِطَع الليل المُظلِم، يُصبِحُ الرجلُ فيها مؤمنًا ويُمسِي كافرًا، ويُمسِي مؤمنًا ويُصبِحُ كافرًا»؛ رواه أحمد. والثباتُ في المُدلهِمَّات الحوادث والأزمان عزيز، ولا تظهر فتنةٌ إلا ويسقطُ فيها رجال، قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ [الحج: 11]. وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أمتَه بالتعوُّذ من الفتن قبل ظهورها وعند نزولها، فقال: «تعوَّذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بَطَن»؛ رواه مسلم. ومن دوائها: عدمُ الخوض فيها وتركُ الأمر لأهله من الولاة والعلماء لعرضِها على الكتاب والسنة، قال - جل شأنه -: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء: 83]. والفتنةُ إذا أقبلَت عرفَها العلماءُ، فإذا أدبَرَت عرفَها العامةُ ولكن بعد الفوات، والعلماءُ هم ورثةُ الأنبياء، ولا غِنَى للحاكم والمحكوم عنهم في السرَّاء والضرَّاء، والشدة والرخاء، فالله أمر بسؤالهم في جميع الأحوال، فقال - سبحانه -: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [النحل: 43]. وهم - بأمر الله - أمانٌ للمجتمع من الفوضى والتطاوُل على الحاكم، وهم الناصِحون لوليِّ الأمر المُذكِّرون له بما يُرضِي الله، قال سهلُ بن عبد الله: "لا يزالُ الناسُ بخيرٍ ما عظَّموا السلطانَ والعلماء، فإن عظَّموا هذيْن أصلحَ الله دنياهم وأخراهم". ومن أُسس هذا الدين: النصيحةُ لكل فردٍ وإن علا، قال - صلى الله عليه وسلم -: «الدينُ النصيحة»، قلنا: لمن؟ قال: «لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم»؛ رواه مسلم. وقد سلك السلفُ الصالحُ لسبيلَ الأقومَ في النُّصح للحاكم على ما جاء به الكتابُ والسنة من غير تشهيرٍ به ولا تنقُّص، قال ابن القيِّم - رحمه الله -: "مخاطبةُ الرؤساء بالقول الليِّن أمرٌ مطلوبٌ شرعًا وعقلاً وعُرفًا، ولذلك تجِد الناس كالمفطورين عليه، وهكذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُخاطِبُ رؤساء العشائر والقبائل". وإذا اجتمعت القلوب على الحق والنُّصح قوِيَت في العبادة وحسُنَت بينهم المُعاملة، وحفِظَ الله المجتمعَ من الشرور، وكانت يدُ الله معهم، قال - عليه الصلاة والسلام -: «يدُ الله مع الجماعة»؛ رواه الترمذي. ومن أوائل أعمال النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قدِم المدينة: مؤاخاته بين المهاجرين والأنصار، وتوحيد صفِّه لتقوَى شوكةُ المسلمين ويعيش الجميعُ في أمنٍ واستقرار. ومن تعظيم الإسلام للجماعة: أنه أمر بقتل من أراد تفريقها، قال - عليه الصلاة والسلام -: «إنه ستكون هنَّاتٌ وهنَّاتٌ - أي: فتن ومِحَن -؛ فمن أراد أن يُفرِّق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائنًا من كان»؛ رواه مسلم. ولا دينَ إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمامة، ولا إمامة إلا بسمعٍ وطاعة، قال الإمام أحمد: "إذا لم يكن إمامٌ يقوم بأمر الناس فهي الفتنة". وقد أدرك الصحابةُ - رضي الله عنهم - ذلك، فلما تُوفِّي النبي - صلى الله عليه وسلم - سجَّاه الصحابة - أي: غطَّوه -، ثم ذهبوا إلى سقيفة بني ساعِدة لاختيار خليفةٍ له، ولما بايَعُوا أبا بكرٍ - رضي الله عنه - عادُوا إلى تجهيز النبي - صلى الله عليه وسلم - من غَسْله وتكفينه ودفنِه، فقدَّموا اختيار الخليفة على دفنه - صلى الله عليه وسلم - لعلمهم للحاجة أن المجتمع لا يصلُح - ولو ساعةً - بلا والي. قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: "لا بدَّ للناس من إمارةٍ برَّةٍ كانت أو فاجرة"، قيل له: هذه البَرَّة قد عرفناها، فما بالُ الفاجرة؟ قال: "يُؤمَّنُ بها السبيلُ، ويُقامُ بها الحُدود، ويُجاهَدُ بها العدو، ويُقسَمُ بها الفَيْءُ". ومن مُعتقَد أهل السنة والجماعة: طاعةُ وليِّ الأمر بالمعروف وإن كان ظالمًا، قال - عليه الصلاة والسلام -: «تسمعُ وتُطيعُ للأمير وإن ضربَ ظهرَك وأخذ مالَكَ، فاسمَع وأطِع»؛ رواه مسلم. قال الإمام الطحاوي - رحمه الله -: "ونرى طاعتَهم من طاعة الله - عز وجل - فريضة ما لم يأمروا بمعصية، وندعو لهم بالصلاح والمُعافاة". ومن رأى من واليه تقصيرًا أو ظلمًا فهو مأمورٌ بالصبر على بغيِه منهيٌّ عن معصيته والخروج عليه، قال - عليه الصلاة والسلام -: «من كرِهَ من أميره شيئًا فليصبِر عليه، فإنه ليس أحدٌ من الناس خرجَ من السلطان شبرًا فمات عليه إلا مات ميتةً جاهلية» - أي: كأنه لم يُدرِك الإسلام -؛ رواه مسلم. وعلى هذا النهج العظيم سار سلفُ هذه الأمة، فكان كِبارُ الصحابة وكِبارُ التابعين؛ كابن عمر، وابن سيرين، وابن المُسيَّب يُصلُّون خلف الحَجَّاج مع عظيم ظلمه، وكثرة قلته وبطشِه، ويدعون له، قال الحسن البصري - رحمه الله -: «إن الحَجَّاج عذابُ الله، فلا تدفعوا عذابَ الله بأيديكم، ولكن عليكم بالاستِكانة والتضرُّع». والإسلامُ جاء بدرءِ كل مفسدةٍ عن الأفراد والشعوب ليبقى الجميعُ يدًا واحدةً مُتلاحِمة مُطمئنةً، نابذين كل فُرقةٍ واختلاف، قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: "وما تكرهون في الجماعة خيرٌ مما تُحبُّون في الفُرقة". وأخذ بهذه القاعدة علماءُ أهل السنة والجماعة، فاجتنَبوا الشذوذ والخلافَ والفُرقة، ونهوا عن كل وسيلةٍ تدعو إلى مُنابَذَة السلطان أو الخروج عليه. والصحابةُ - رضي الله عنهم - أجمعوا على تحريم هذا، وذلك حين حُدوث أول خروجٍ على الإمام في الإسلام، لما قدِمَ نفرٌ من أهل مصر والبصرة والكوفة ونزلوا على مشارِفِ المدينة لحِصار عثمان بن عفان في داره، طالبين عزلَ نفسه من الخلافة أو قتلَه. قال ابن كثير - رحمه الله -: "فكل الناس أبَى دخولهم - أي: إلى المدينة - ونهى عنه". فكا تظاهُر سواءٌ كان بسلاحٍ أو خلا من سلاح فهو محرمٌ في ديننا، قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: "أهلُ العلم والدين والفضل لا يُرخِّصون لأحدٍ فيما نهى الله عنه من معصية وُلاة الأمور وغشِّهم والخروج عليهم بوجهٍ من الوجوه، كما قد عُرِف من عادات أهل السنة والدين قديمًا وحديثًا". وأجمع العلماء على تحريم الخروج عليهم وإن بدَر منهم ظلمٌ أو قُصور، قال النووي - رحمه الله -: "الخروج عليهم وقتالُهم حرامٌ بإجماع المسلمين، وإن كانوا فسقةً ظالمين". ولم يخرج أحدٌ على إمامه إلا ندِم وكانت مفسدةُ خروجه أعظمَ من الصبر عليه، قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: "أهل السنة يأمرون بالصبر على جَور الأئمة وترك قتالهم؛ لأن الفساد الناشئ من القتال في الفتنة أعظم من فساد ظلم ولاة الأمر، وقلَّ من خرج على إمامٍ ذي سلطانٍ إلا كان ما تولَّد على فعله من الشر أعظمَ مما تولَّد من الخير". وحدثَ من الخليفة المأمون أمورٌ في الدين جِسام، كان في صفات الله - عز وجل - والقول بخلق القرآن، وعذَّب من أنكر ما دعا إليه، فسجَنَ وجلَدَ إمامَ أهل السنة أحمد بن حنبل - رحمه الله -، ولم يأمر أحمدُ بن حنبل ولا كِبار أهل العلم في عصره؛ كإسحاق بن راهويه ومحمد بن نوحٍ ولا غيرهم بالخروج عليه. وفي حشد الناس والتنادي بجمعهم والتكالُب ضد إمامهم شتاتٌ لشمل الأمة وتفريقٌ لكلمتها، وإثارةٌ للفتن والفساد، ويُوقِعُها في خُنوعٍ وكروبٍ، وجوعٍ وحروب، ونهبٍ وسفك دماء، وتحقيقٍ لمآربِ الأعداء، ومن يتحمَّل إثمَ سفك الدماء وقتل الذَّراري وترمُّل النساء وهتك الأعراض وسلب الأموال ونهب الخيرات؟! قال الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله -: "والاجتماعُ الذي فيه نقصٌ كبير خيرٌ من الافتراق الذي يُظنُّ فيه خيرٌ كثير". والقتالُ وسفكُ الدماء بين الأمة هو ما خشِيَه النبي - صلى الله عليه وسلم - عليها، فقال: «لا ترجعوا بعدي كفَّارًا يضربُ بعضُكم رِقابَ بعض»؛ متفق عليه. فكلُّ تظاهر على الحاكم فهو محرمٌ وإن أذِنَت به أنظمةٌ وضعية، لمُخالفتها لما جاء به الإسلام، قال ابن القيم - رحمه الله -: "وما يحصُل بسبب قتالهم والخروج عليهم أضعافُ أضعاف ما هم عليه". ولما كانت هذه البلاد - بحمد الله - مُحكِّمةً لشرع الله، مُستنيرةً بآراء العلماء؛ عمَّ في أرجائها - بفضل الله - الأمنُ والرخاء، وخابَت فيها ظنون الأعداء، وتلاحَمَت فيها يدُ المحكوم مع الحاكم. أيها المسلمون: دينُ الإسلام دينُ اعتدالٍ وأمان، مُوافقٌ للفِطَر والعقول، قال - سبحانه -: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم: 30]. ولا ينفع للشعوب سوى الإسلام؛ فبه الأمان والسكينة، وهو وقايةٌ من الفُرقة والاختلاف، قال - عز وجل -: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام: 82]. وإذا سلَكت الشعوب منهجَ أهل السنة والجماعة في مُعتقداتها مع خالقها، ومعاملاتها مع الخلق؛ اطمأنَّ الراعي والرعيَّة، فلا خروج ولا فوضى ولا اضطراب، وإذا ابتعدَ الناسُ عن الدين دخلت الأهواء في النفوس، واختلفَت الآراء، فتفرَّقت الكلمةُ وعمَّ البلاء. وفي زمن الفتن يتأكَّدُ العلمُ الشرعي وغرس العقيدة الصحيحة في نفوس الناشئة والشباب والكهول، لتكون درعًا حصينًا في و

27 ربيع الثاني 1432 - انتقائية الهوى والإنصاف - الشيخ سعود الشريم

خطبة المسجد الحرام - 27 ربيع الثاني 1432 - انتقائية الهوى والإنصاف - الشيخ سعود الشريم الخطبة الأولى إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102]. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء: 1]. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70، 71]. أما بعد، فيا أيها الناس: مقولةٌ مشهورة، تناقلها الماضون الغابرون، وسارَت بها الرُّكبان في المشرق والمغرب، وحكاها اللاحِق عن السابق بالوراثة العلمية الخبرية، حتى صارت عبارةً حاسمةً في محل النزاع، وسياجًا منيعًا أمام أي سطوٍ أو تجاوُز، ضاربةً بالأهواء والشُّبهات والشهوات عُرْض الحائط، لها وقعُ المطارِق على كل ذي ميلٍ وحَيْدة، ويُسمَع لها رجعُ الصدَى في ساحات الباحثين عن الحق والعدل، والتوازن والاعتدال. إنها كلماتٌ يسيرة المبنى واسعةُ المعنى، إنها تلكم الكلمات المشهورة التي أُثِرت عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، وعن مجاهدٍ والإمام مالك - رحمهما الله -، وهي قولهم: "ليس أحدٌ بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا يُؤخَذ من قوله ويُترَك إلا النبي - صلى الله عليه وسلم -". إنها لنعمَ الميزان - عباد الله -، ولنِعم القِسط والحكم. أيها المسلمون: إننا نعيشُ زمنًا مُلتهبًا من أبرز معالمه: الفورة الإعلامية الظاهرة التي قرَّبَت البعيد، وأدنَت النائي، وبلغَت مبلغًا أضحَت به منظارًا أو حلبةً للمُطارَحات الفكرية، والعلمية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، وغيرها. وعند النظر الثاقِب والعقل المُتيقِّظ يتَّضِح جليًّا ما يكتنِفُ تلك الفورة من الدور البارِز في التأثير الآنِيّ في المُتلقِّي، وإثارة المشاعر، والاعتماد على التعبيرات العاطفية، حتى وإن كانت عاريةً عن الأدلة الشرعية الصحيحة، والمُقدِّمات العقلية الصريحة، وهي مبنيةٌ - في الغالب - على الظن الكاذب، والتهويل الزائف، والهوى والتحيُّز الجازِمَيْن على أفئدة جملةٍ من ذوي الأقلام السيَّالة، والمُطارَحات الميَّالة، والكرِّ والفرِّ الصُّحُفيّ. رائدُهم في ذلك: السبق في الطرح، وكسبُ القرَّاء والمُشاهدين والمُستمعين، والتلبيس وخلطُ الأوراق على العامة، وذلكم من خلال تمثيل وجهة نظرٍ واحدة، وهي وجهة نظر الغالب أو المُسيطِر في حين إنها انتقائيةٌ مُوجَّهة لا تخضع لقوةٍ مُنصِفة، ولا لوازعٍ مهيب. وهذا ما يُؤسِفُ ذوي الألباب، وأصحاب الفِطَر السلمية، وقديمًا قيل: "ويلٌ للشجِيِّ من الخلِيِّ". ومن هنا - عباد الله - تبرُزُ الانتقائيةُ الباطِشة فتنهَشُ العدلَ والإنصافَ والوسطية، نعم؛ الوسطية التي هي الحق أيًّا كان، لا الوسطية التي هي وسطٌ بين طرفين، كما يفهم ذلك بعضُ من لم ترتقِ أفهامُهم لحقيقة الوسطية والمراد بها. نعم - أيها المسلمون- إنها الانتقائية السائدة إبَّان فترةٍ من الإنصاف والقِسط ونُشدان الحقيقة، ولا غَرْوَ على أحدٍ يريد أن يحكُم على مجتمعٍ ما في ثقافته وفكره وعلمه أن ينظر موقِع مُثقَّفيه وكتَبَته من الانتقائية قُربًا أو بُعدًا، فعلاً أو قولاً. الانتقائية التي نعنيها هنا - عباد الله - هي: تضخيمُ الجانب الأقل خطرًا على حساب القيمة الحقيقية عن الجانب الأخطر، أو بعبارةٍ أخرى: هي التمسُّك بالحقيقة فيما يُوافِق هوى النفس، والنأْيُ عنها وتحميسُها فيما لا يُوافِقُ ذلك. وقد تكون أحيانًا أخرى في التمسُّك بما يُوافِقُ الهوى والمصلحة الذاتية وإن كان لا قوة له في الشرع والمنطق، أو التهويل لما يُخالف الهوى والمصلحة، وإن كان قويًّا في الدلالة، صريحًا في المنطق. وهذه الصفة - عباد الله - هي سببُ مقت الله لأممٍ تدثَّرَت بها، كما قال تعالى: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [البقرة: 85]، وهي التي أرادها الله بقوله: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ [المطففين: 1 - 3]. نعم، إنها الانتقائية التي تصرِفُ الاختيار والانحياز لما تميلُ إليه الشهوة، وتتطلَّبُه المصلحةُ الشخصية دون اكتراثٍ بالقيمة المطلقة للحق، ووجوب الأخذ به، وإن كان له مرارةٌ على النفس، وهذا ما نقرأه في كتاب ربنا عمن قال الله فيهم: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ [التوبة: 58]. قال ابن القيم - رحمه الله -: "وقد ذمَّ الله تعالى من يردُّ الحقَّ إذا جاء به من يُبغِضُه، ويقبَله إذا جاء به من يُحبُّه، فهذا خُلُق الأمة الغضبية". ويشتد الأمر خطورةً - عباد الله - حينما تكون الدعوة إلى الله ورسوله ليحكُم بين الناس فيما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، فتبرُز الانتقائية المَشينة، حتى في حال تواجُد هيبة الحق الشرعي، وطلب الرجوع إليه، كما قال تعالى واصفًا أمثالهم: وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [النور: 48 - 50]. ولقد أحسن الإمامُ الدارمي - رحمه الله - حين ردَّ على بعض أهل الأهواء الذين ردُّوا النصوص المُثبِتة رؤية المؤمنين ربهم، ثم تمسَّكوا بأثرٍ ضعيفٍ عن مجاهدٍ - رحمه الله - فسَّر فيه قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة: 22، 23] أي: تنتظر ثوابَ ربها، فقال الدارمي: "أوَ لستم زعمتم أنكم لا تقبلون هذه الآثار ولا تحتجُّون بها؛ فكيف تحتجُّون بالأثر عن مجاهد إذ وجدتم سبيلاً إلى التعلُّق به لباطلكم على غير بيان، وتركتم آثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والتابعين إذ خالفَت مذهبَكم إلا من ريبةٍ وشذوذٍ عن الحق؟! ". إنها الانتقائية - عباد الله -، نعم؛ إنها الانتقائية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، وهي عدم قبول الحق إلا إذا كان يخدم القضية الشخصية، والمصلحة الفكرية؛ بل حتى في تهذيب النفس حال التلبُّس بالمعصية؛ حيث لا تستحضِر بعض النفوس المُبتلاة بالانتقائية إلا أن الله غفورٌ رحيم، ويغُضُّون الطرفَ عن كونه شديدَ العِقاب. نرى المُلتاثين بالانتقائية يستحضِرون الأدلة على وجوب الأمر والنهي في الإصلاح والاحتساب على الوُلاة، ويغُضُّون الطرفَ عن أدلة السمع والطاعة في المعروف، ولزوم جماعة المسلمين وإمامهم، ولا ينظرون إلا إلى قول الله لموسى - عليه الصلاة والسلام - حينما قال: وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا [الإسراء: 102]، ونسوا قول الله - جل وعلا - لموسى: فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا [طه: 44]، ونراهم كذلك يُمارِسون الإسقاط الذهني فيما لو سرق شخصٌ في المسجد بأنه ينبغي أن يُهدَم هذا المسجد، وفيما لو أن مُحجَّبةً غشَّت وخدَعَت بأنه يجبُ نزعُ الحِجاب، فلا هم دعوا إلى قطع يد السارق، ولا تعزير تلك التي غشَّت وخدَعت، وإنما دعَوا إلى هدم المسجد ونزع الحِجاب، وهنا مكمن الانتقائية المُتسلِّطة. ولذا كان من سِمات الانتقائيين: أنهم يقتلون النفسَ التي حرَّم الله، ويسألون عن قتل الذباب في الحَرَم! ولسان حالهم يقول: أصُمُّ عن الأمر الذي لا أريده وأسمع خلقَ الله حين أشاء ومن سِماتهم أيضًا: أنهم لا يرون إلا القذاة ويغُضُّون الطرفَ عن الورم، فيُمارِسون الازدواجية، وخِداع الذات، والتنويم الفكري للنفس والمجتمع، من خلال أسلوب الإسقاط الذهني والأخلاقي؛ لأجل ما تهواه النفس وتميلُ إليه، لا لما يجبُ أن يكون وفقًا لما أمر الله به وأمر به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، أو نهى عنه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ [النور: 51، 52]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلتُ ما قلت، إن كان صوابًا فمن الله، وإن كان خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفَّارًا. الخطبة الثانية الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. وبعد: فاعلموا - يا رعاكم الله - أن الانتقائية صفةٌ مذمومة، وعوارٌ مشين؛ إذ هي تُفقِدُ المصداقية والتوازن، وحينما يتَّصِفُ بها شخصٌ ما فكأنما يحكُم على نفسه بالسقوط والحِطَّة من أعين ذوي الأفهام السليمة، فلن ينجح أو يُفلِح والدٌ انتقائي ولا صديقٌ انتقائي ولا مُعلِّمٌ انتقائي، وقولوا مثل ذلكم في طالب العلم والمُفكِّر والكاتب والناصح والسياسي. ومَن حالُه مُلتاثةٌ بالانتقائية فستكشِفُه الصروف لا محالة؛ لأن من استطيَر وراء لهب الانتقائية، فقد يُصدَمُ غدًا بنقيض حاله حينما يحتاج إلى ضد انتقائيته الأولى، ولات ساعة استطاعة. ولأجل هذا كان مما أوصى به رسولُنا - صلى الله عليه وسلم - أحدَ صحابته أن قال له: «ولا تكلَّم بكلامٍ تعتذر منه غدًا»؛ رواه أحمد وابن ماجه. ولأجل أن نرفع الانتقائية عن واقعنا فإنه يجبُ علينا استحضار أمرين مهمين: أحدهما: توفير المنظور السليم في العرض. وثانيهما: شمول الرؤية في العرض. وقد حرِصَ سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - على تأكيد هذين الأمرين في الشاب الذي جاء إليه - كما في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد - وطلبَه أن يأذَن له بالزِّنَا، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أتُحبُّه لأمك؟»، قال: لا والله، جعلني الله فِداك، قال: «ولا الناسُ يُحبُّونه لأمهاتهم»، ثم سأله بعد ذلك: هل يحبُّه لابنته، ولأخته، ولعمته، ولخالته. ومن هذه القصة يُؤصِّلُ موقفُ النبي - صلى الله عليه وسلم - في نفوسنا منهجًا في الحكم على الأشياء والتعامُل معها، وذلك من خلال توفُّر عنصرين أساسين، وهما: عنصر العدل، وعنصر العلم؛ لأنه ينبغي علينا في جميع شؤوننا أن نستهدِف الهداية لا الإغاضة، والتوجيه لا الإثارة، والنُّصحَ لا التعيير، والتبيين للناس لا التنفيس عن المشاعر ا

4 جمادى الأولى 1432 - بلاد الحرمين ومميزاتها - الشيخ صالح بن حميد

خطبة المسجد الحرام - 4 جمادى الأولى 1432 - بلاد الحرمين ومميزاتها - الشيخ صالح بن حميد الخطبة الأولى الحمد لله، الحمد لله تفرَّد بالوحدانية والخلق والإيجاد، وتنزَّه عن الشركاء والنُّظراء والأنداد، رضِيَ لنا الإسلامَ دينًا وجعلنا من خير العباد، أحمده - سبحانه - وأشكره أفاض علينا نعمًا ليس لها تعداد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً حقٍّ وإخلاص إرغامًا لأهل الكفر والإلحاد، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله هدى إلى الحق وطريق الرشاد، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابه أهل الصدق والجهاد، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم المعاد. أما بعد: فأوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله - رحمكم الله -، عرفتم ربكم فأدُّوا حقَّه، وأفاض عليكم نِعَمه فاشكروا له، أحببتم رسولكم محمدًا - صلى الله عليه وسلم - فالزموا سنَّته، وقرأتم كتابَ ربكم فاعملوا به، من يرجُ الجنة يُعِدُّ لها، ومن يخاف النار يهرب منها، من اتخذ الشيطانَ عدوًّا اجتنَبَ سبيلَه، ومن علِمَ الموتَ حقًّا استعدَّ له، والسعيدُ من وُعِظَ بغيره. يقول الحسن - رحمه الله -: "عجبًا لقومٍ أُمِروا بالزاد، ونُودِي فيهم بالرحيل حُبِسَ أولهم على آخرهم وهم قعودٌ يلعبون في غمرةٍ ساهون، أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ [المؤمنون: 115] ". أيها المسلمون: التعاطي مع الأحداث وأخذُ العِبَر ودروس الاعتبار يكون ذلك كله بالعقل الحصيف، والهدوء الحَذِر، وفي ظل الأحداث المُتسارعة والتقلُّبات المتتابعة تكون الحكمةُ ضالَّةَ المؤمن، فليس التزلُّف حاميًا للدول، ولا التذمُّر مُصلحًا للأمم، والنقدُ وحده لا يُقدِّمُ مشروعًا، وردود الأفعال لا تبني رؤيةً راشِدة. وبلادُنا بلاد الحرمين الشريفين المملكة العربية السعودية تمتدُّ على هذه الأرض المباركة بصحرائها وسهولها وجبالها وأوديتها وبحارها، فيها أول بيتٍ وُضِع للناس، وخُتِم بنبيها الرسالات، وتنزَّل آخر كتابٍ في ديارها، خصوصيتُنا في موقعنا وفيما اختار الله لنا من مُتنزَّل وحيه، ومولد رسوله، ومبعثه ومُهاجَره، ومماته - عليه الصلاة والسلام -. بلادُنا قبلةًُ المسلمين تحتضِن شعائرَهم ومَشاعرهم، بلدُنا ليس مُرتبطًا بمشاعرنا وحدنا؛ بل مرتبطٌ به كل مسلم، فأمنُنا أمنُهم، واستقرارُنا استقرارُهم، جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ [المائدة: 97]. أرضُنا - بإذن الله - هي التي صنعت التاريخ؛ بل أهم حدثٍ في تاريخ الدنيا، تغيَّرت به وجوه الأمم والممالك، ودولتُنا في تأريخها الحديث هي امتدادٌ لذلك التاريخ العظيم، والتزامٌ بتلك الرسالة الخالدة، وقيامٌ على الشريعة المُطهَّرة، واتباعٌ لسيدنا ونبينا محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -. وتاريخُ مملكتنا تاريخٌ دين ومبادئ يجتمع عليها الجميع، ويقبلها ويعتزُّ بها الجميع، ويتمسَّك بها الجميع، ليست مبنيَّةً على عصبية ولا إقليمية ولا مذهبية. الرجال الذين أقاموا هذا الكِيان لا يعتصِمون بقبيلة، ولا يتعصَّبون لفئة. إنه تاريخُ الدين والدولة والأسرة والوطن الذي ينتهِجُ الجمعَ بين الأصالة والمعاصَرة والالتزام والتحديث، جذوره تضرب في أصول الإسلام، وفروعُه تتطاوَل خضراء مُزهِرة مُثمِرة، تعيشُ بيئَتها، وتتأقلَمُ مع مُحيطها، أصلُها ثابتٌ وفرعُها في السماء، تُؤتِي أُكلَها بإذن ربها. بلادُنا وبلدُنا لم تقم فيه معركةٌ بين الدين والدنيا، استقرارٌ وأمن ووحدةٌ وصلاحٌ وإصلاحٌ، فلله الحمدُ والمنَّة. معاشر الإخوة: نُشوء الدول وقيامُها من أهم الظواهر السياسية والاجتماعية التي تُسجِّلُها صحائفُ التاريخ، ثم يعكف الباحثون على دراسة مختلف جوانبها، وكلما كانت الدولة متميزةً في ظروف نشأتها، متفرِّدةً في عوامل قيامها كانت أجدر بالبحث في طبيعتها وجوهرها وعناصر مُكوناتها، وإذا كان ذلك كذلك فهذه نظرةٌ في بعض عناصر المكونات الكبرى لبلدنا، والجوهر البارز من خصائصها. من ذلك - معاشر الأحبة -: أن غايتنا في رايتنا: لا إله إلا الله، محمد رسول الله؛ لقد رفعت دولتُنا شِعارَ توحيد الله، والحكم لله، والأمة الواحدة، والأُخوَّة الإيمانية، والطاعة لولي الأمر، والبيعة على كتاب الله وسنة رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الإسلامُ نهجُها، والكتابُ والسنةُ دستورُها، الدينُ والحكمُ في دولتنا أخَوَان، لم تتقوقَع في مسلكٍ اقتصادي، أو مبدأ سياسي، أو عقدٍ اجتماعي؛ بل ينتظمُ ذلك كلَّه في سياسة الدين والدنيا. دولتُنا ارتفعت حين رفعت راية الدين والتوحيد والوحدة، فحفِظَ الله - بفضله ومنَّته - علينا دينَنا، وجمع فُرقتنا، وأغنانا من بعد عَيْلة، وآمَنَنا من بعد خوف، وعلَّمَنا من بعد جهلٍ، وألبَسَنا لباسَ الصحة والعافية، ومن كل خيرٍ وفضلٍ أمدَّنا وأعطانا. إن دولتنا ظاهرةٌ عزيزة، استطاعت - بعون الله وتوفيقه - أن تُحقِّق الاستمرار التاريخي على خلاف توقُّعات كل الخُصوم وتمنِّياتهم. وتطبيقُ الإسلام عندنا ليس وظيفة، وليس مجرد نشاطٍ من النشاطات؛ بل هو الروح والحياة والغاية، وهو المُجسِّد للهوِيَّة، والمُحقِّق للولاء والانتماء، على حدِّّ قوله - عزَّ شأنُه -: قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ [الأنعام: 162، 163]. وأيُّ غفلةٍ عن مُقوِّمات هذه الهويَّة للدولة، أو إخلالٍ بها، أو تهاونٍ في المحافظة عليها هو هدمٌ يتحقَّقُ أثره بقدر حجمه، ومن هنا فلا يمكن التفريقُ بين الكِيان والنظام، فهما دولةٌ ودين، ووطنٌ وشعبٌ. مملكتُنا هي العروبة المُلتحمة بالإسلام، والإسلام المُحتفِي بالعروبة، دينُنا دينُ الدولة والدعوة والحوار والثواب والتفاعُل الإيجابي مع التجارب الإنسانية، وأخذ العبرة ودروس التاريخ، لم يكن التقرُّب للحاكم على حساب المحكوم، ولم تكن مُجاملةُ الناس على حساب الحق والعدل. معاشر المسلمين: ومن عناصر مُكوِّنات دولتنا المُميَّزة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ إنه ركيزةٌ أساس من ركائز هذه الدولة المباركة في أدوراها الثلاثة، صريحٌ في نظامها الأساسي، وأحد ترتيباتها الإدارية، إن هذا المُكوِّن أعطى دولتنا ومجتمعنا بُعدًا مُتميِّزًا في الأمن الاجتماعي، والضبط الأخلاقي، ومنهج النُّصح والإرشاد والتوجيه، والإجراءات الوقائية، إنه صورةٌ من صور التكافُل الحِسِّي والمعنويّ للمجتمع، ينعكِسُ أثرُه على المواطن والمُقيم على حدٍّ سواء، إنه يحمي الجميعَ - بإذن الله - من سلُوك قلَّة، أو تصرُّفٍ شاذٍّ محنرفٍ بصاحبه عن الصراط السوِيّ، كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران: 110]، وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران: 104]. أيها الإخوة في الله: ومن خصائص دولتنا ومزاياها: علماؤها ورجالُ الشرع فيها، فلهم مكانتهم، رجالُ علمٍ ودعوة واحتساب، برز ذلك في تاريخ الدولة الطويل؛ فالحاكمُ يطلبُ النصيحة ويستقبِلُها ويقبلُها، والعالمُ ورجلُ الشرع يبذُلُها، ويقوم بالاحتساب عدا الحاكم والمحكوم؛ بل لا يُتصوَّر في ذه الدولة المباركة أن يتقاعَسَ طالبُ علمٍ عن الاحتساب والمُناصحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على مستوى الدولة والأمة. ولتستبينَ هذه الخَصيصة فلتنظروا في تاريخ علماء المسلمين من بعد الخلافة الراشدة والقرون المُفضَّلة، لا يكاد يرى المُتأمِّلُ ارتباطًا وثيقًا بين علم العالِم والعمل الاحتسابي في الساحة العامة؛ فغالبُهم يكثُر اشتغالُه على التعلُّم والتعليم والتدريس والقضاء والفُتيا والتأليف، فليس من السهل عندهم الاحتساب على الناس والولاة إلا قلَّةٌ قليلة يُذكَر ذلك في سيرهم وتراجُمهم، أثابهم الله جميعًا وغفر لهم، وأحسن جزاءهم لقاء ما قدَّموا للإسلام والمسلمين. أيها الإخوة المسلمون: إن المملكة العربية السعودية بلاد الحرمين الشريفين هي بلادُنا ودارُنا وبيتُنا ومُستقرُّنا، الولاءُ لها بعد ولاء الدين، الولاءُ للوطن فوق كل ولاءٍ وانتماء، وأمنُه واستقرارُه مُقدَّمٌ على كل تطلُّعات وفوق كل مُطالَبات، سواءً في ذلك الحاكم والمحكوم، وعند التقلُّبات والشدائد هذا هو أول وأولَى ما يجب النظرُ فيه والتطلُّع إليه، والمحافظةُ عليه، والاستمساكُ به، فمهما اختلفنا ومهما تعدَّدت مطالبُنا وتنوَّعَت رغباتُنا وآمالنُا المشروعة فيجبُ أن نكون على يقظةٍ تامة من أمرنا. فكم من مُتربِّصٍ يريد تفتيت بلادنا وتمزيق شملنا وهدم وحدتنا وانهيار كِياننا، والسعيدُ من وُعِظَ بغيره. الأمنُ والوحدةُ الوطنية وتماسُك المجتمع وحماية المُقدَّسات هي أعلى وأغلى ما نملك بعد عزِّ الإسلام وحفظ الدين، هذا الأمن - بفضل الله وعونه - شارك في صُنعه آباؤنا وأجدادُنا بقيادة الرجل المبارك القائد الإمام الملك عبد العزيز - رحمه الله -، وحفِظَ ذلك وحفِظَ ذلك أبناؤه الملوك من بعده، ويسهر عليه رجالُ الأمن والعسكر بكل قطاعاته وفي مُختلف رُتَبه، ومن كل أبناء الوطن، إنهم يحفَظون أمنَنا ومُقدَّساتنا وسعادتنا وأحوالنا وأموالَنا وأنفسنا وأهلينا. والساعةُ للصادقين المُخلصين، والانتماء الوطني هو الأغلى، وتيارُ الحق والكرامة هو الأقوى في عدالةٍ ساعدة، وحريةٍ مُنضبِطة، وشعورٍ جماعي بالحِفاظ على الوطن والممتلكات والمُكتسبات، والالتفاف حول الولاية الشرعية، وكل فتنةٍ أو مسلكٍ أو دعوةٍ تُهدِّد الوطن ووحدته والمجتمعَ وعيشَه يقفُ أمامَها الجميعُ بالمرصاد صفًّا واحدًا في كتيبةٍ واحدةٍ مُتراصَّة في وجه كل مُتربِّصٍ، ومُواجهة كل صائل، ودحْر كل عادٍ كأين من كان! وبعد: فالحمدُ لله على ما منَّ به وتفضَّل، وما أنعمَ به وأجزَل، فقد تعانقَت الدولةُ والدعوة في وضوحِ منهج وجلاء مسلَك، كتابًا وسنَّة ومنهجًا على طريق السلف الصالح، في مبادئ ثابتة لا تُؤثِّر فيها أقوالُ المُتقوِّلين، ولا تُعكِّرُ عليها تخرُّصات المُتخرِّصين، ولا تنالُ منها افتراءات المُفترين، إعلانٌ للشرع نصَّ عليه النظام، وتطبيقٌ في العمل والأحكام، وتوحيدٌ للوطن، واجتماعٌ للكلمة، ونبذُ كل ألوان العصبية وعوامل الفُرقة. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ [الحج: 40، 41]. نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنة نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم. الخطبة ا

11 جمادى الأولى 1432 - الأخوة الإسلامية ولوازمها - الشيخ أسامة خياط

خطبة المسجد الحرام - 11 جمادى الأولى 1432 - الأخوة الإسلامية ولوازمها - الشيخ أسامة خياط الخطبة الأولى الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، أحمده - سبحانه - وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله إمام المرسلين وخاتم النبيين، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله - عباد الله -، وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [البقرة: 281]. عباد الله: صروف الليالي وتقلُّب الأيام يُعقِبان المرءَ تبدُّل أحوال، ونزول شدائد، وحُلول كُرَب فيها من الغموم والهموم ما يستحوِذُ على صاحبها، ويسوؤه في نفسه أو جسمه أو عِرضه أو ماله أو بلده، فيضيقُ بها صدره، ويلتمسُ تفريجَها وكشف ضرَّها، فيذكر قولَ ربه الأعلى - سبحانه -: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأنعام: 17]، وقولَه - عز اسمه -: قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ [الأنعام: 63، 64]. فيستيقِن أنه - سبحانه - المُنجِّي من كل كربٍ، الكاشفُ كل ضُرٍّ، المُغيث لكل ملهوف، فيتوجَّهُ إليه بالدعاء مُتضرِّعًا مُخلصًا خاشعًا خاضعًا مُخبِتًا مُتحرِّيًا أوقات الإجابة؛ امتثالاً لقوله - عز وجل -: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: 60]، راجيًا أن يُفرِّج كربَه، ويكشف غمَّه، ويُذهِبَ همَّه. ويتوسَّلُ إليه بما كان يتوسَّل إليه به نبيُّه - صلى الله عليه وسلم - من جوامع الدعاء، كما في الحديث الذي أخرجه الترمذي في "جامعه" بإسناد حسن عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كرَبَه أمرٌ يقول: «يا حيُّ يا قيوم، برحمتك أستغيث». وكما جاء في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" بإسنادٍ صحيح عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما أصاب أحدًا همٌّ ولا حزنٌ فقال: اللهم إني عبدك، وابنُ عبدك، وابنُ أمَتِك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عدلٌ فيَّ قضاؤك، أسألك بكلِّ اسمٍ هو لك سمَّيتَ به نفسَك، أو علَّمتَه أحدًا من خلقك، أو أنزلتَه في كتابك، أو استأثرتَ به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيعَ قلبي، ونورَ صدري، وجلاءَ حزني، وذهاب همِّي؛ إلا أذهبَ الله همَّه وأبدلَه مكانَه فَرَجًا». قيل: يا رسول الله! ألا نتعلَّمها؟ قال: «بلى؛ ينبغي لمن سمِعها أن يتعلَّمها». ومن ذلك: دعاء نبي الله يونس - عليه السلام - وهو في بطن الحوت؛ فقد أخرج الحاكم - رحمه الله - في "مستدركه" عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «دعوة ذي النون إذ دعا وهو في بطن الحوت: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء: 87] لم يدعُ بها مسلمٌ في شيءٍ قطّ إلا استجابَ الله له بها» وذلك مصداقًا لقوله - سبحانه -: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء: 88]. ومن أعظم ما يُرجى لتفريج الكُربة ورفع الشدة في العاجلة، والفوز والنجاة من أهوال يوم القيامة: القيام بحق الله؛ بالإيمان به، والمُسارعة إلى مرضاته، والإيمان برسوله - صلى الله عليه وسلم - واتباع سنته، وتحكيم شرعه. ومن ذلك: القيام بحقوق عباد الله؛ بالإحسان إليهم في كل دروب الإحسان؛ تأسِّيًا بهذا النبي الكريم - صلوات الله وسلامه عليه - الذي قالت له أم المؤمنين خديجة - رضي الله عنها - لما ذكر لها ما وقع له في غار حراء حين جاءه جبريل - عليه السلام - بالوحي، قالت: كلا؛ والله لا يُخزِيك الله أبدًا، إنك لتصِلُ الرَّحِم، وتحمِلُ الكلَّ، وتقرِي الضيفَ، وتُكسِبُ المعدومَ، وتُعينُ على نوائبِ الحق؛ أخرجه البخاري ومسلم - رحمهما الله - في "صحيحيهما". وفي هذه الإعانة والإكساب للمعدوم تفريجٌ للكَرب عن المكروب، ورفع كابوس المحنةِ عن كاهله، وقال - عليه الصلاة والسلام - في الحثِّ على اصطناع المعروف: «صنائعُ المعروف تقِي مصارِعَ السوء والآفات والهلَكَات، وأهلُ المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة»؛ أخرجه الحاكم في "مستدركه" بإسنادٍ صحيحٍ. وفي هذا الإحسان أيضًا قيامٌ بحقِّ الأُخُوَّة في الدين التي ذكرها الله تعالى بقوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات: 10]، وبقوله: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة: 71]، وبقوله - صلى الله عليه وسلم -: «مثلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم مثَلُ الجسد؛ إذا اشتكَى منه عضوٌ تداعَى له سائرُ الجسد بالسهَر والحُمَّى»؛ أخرجه مسلم في "صحيحه" من حديث النعمان بن بشير - رضي الله عنه -. وهذا تعبيرٌ غنيُّ الدلالة على أن من مُقتضيات هذه الأُخُوَّة الإيمانية: تفريجَ الكربة عن المسلم، والوقوف معه في مِحنَته، وإعانته على بلائه رجاء ما ورد في ثواب ذلك من الموعود والجزاء الضافي والأجر الكريم الذي جاء بيانُه في الحديث الذي أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" - واللفظ للبخاري - عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «المسلمُ أخو المسلم؛ لا يظلِمُه، ولا يُسلِمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرَّج عن مسلمٍ كُربةً فرَّجَ الله عنه كُربةً من كُرُبات يوم القيامة، ومن ستَر مسلمًا سترَه الله يوم القيامة». وزاد في لفظ مسلم: «ومن يسَّر على مُعسِرٍ في الدنيا يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبدُ في عون أخيه». وفي هذا الحديث - كما قال أهل العلم - إشارةٌ إلى أن الجزاء من جنس العمل؛ فجزاءُ التفريج في الدنيا تفريجٌ في الآخرة، ولا مُساواة - يا عباد الله - بين كُرَب الدنيا وكُرب يوم القيامة؛ فإن شدائد الآخرة وأهوالها جسيمةٌ عظيمة، فكان ادِّخارُ الله تعالى جزاء تفريج الكُرَب الدنيوية ليُفرِّجَ بها عن عباده كُرُباتهم يوم القيامة حين يكون الإنسان أحوجَ ما يكون إلى فضل الله ورحمته، وإنما يرحمُ الله من عباده الرُّحَماء. فاتقوا الله - عباد الله -، واعملوا على القيام بحقوق الأُخوَّة في الدين؛ بالوقوف من الإخوة عند الكُرَب ونزول الشدائد بساحتهم، وتجهُّم الزمان لهم، وإعانتهم بما ينفعهم ولا يضرُّكم مما أنعم الله به عليكم من نِعَمه العِظَام؛ لتحظَوا برضوان ربكم، ولتُسهِموا بنصيبكم في الدعوة لدينكم وإلى سبيل ربكم بالعمل على إبراز الصورة المُثلَى للمجتمع المسلم الذي يُقدِّمُ للعالمين الأُنموذجَ المُشرِقَ للحياة الطيبة الناشئة في رحاب الإيمان، المُهتدِيَة بهديِ القرآن وسنة سيد الأنام - عليه أفضل الصلاة وأكمل السلام -. نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنه نبيه - صلى الله عليه وسلم -، أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ، إنه هو الغفور الرحيم. الخطبة الثانية الحمد لله الولي الحميد، الفعَّال لما يُريد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله صاحب الخُلُق الراشد والنهج السديد، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه. أما بعد، فيا عباد الله: قال بعض أهل العلم بالحديث تعليقًا على قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ومن فرَّجَ عن مسلمٍ كُربةً فرَّجَ الله عنه بها كُربةً من كُرَب يوم القيامة»: "فيه عظيمُ فضل قضاء حوائج المسلمين ونفعهم بما تيسَّر من علمٍ، أو جاهٍ، أو إشارةٍ، أو نُصحٍ، أو دلالةٍ على خير، أو إعانةٍ بنفسه، أو سَفارته ووساطَته، أو شفاعته، أو دعائه بظهر الغيب". ومما يُعلِمُك بعِظَم الفضل في هذا وما بعده: أن الخلق عِيالُ الله، وتنفيسُ الكُرَب إحسانٌ إليهم، والعادةُ أن السيد والمالكَ يحبُّ الإحسان لعِياله وحاشيتِه، وليس شيءٌ أسهل من كشف الكُروب ودفع الخُطوب إذا ألمَّت بالمؤمن الذي لا يرى نفسَه إلا وقفًا على إخوانه، يُعينهم فيما استطاع، ويُصبِّرُهم على ما كان، ويُؤمِّنُ خائفَهم، ويُساعِدُ ضعيفَهم، ويحمِل ثِقَلهم، ويجِدون عنده المعدومَ، ولا يضجَرُ منهم، ولا يسأمُهم ولا يملُّهم. ومثلُ هذا في الاحتفاظ بحقوق المسلمين وكفِّ الشرِّ عنهم قولُه - صلى الله عليه وسلم -: «لا تَحاسَدوا، ولا تباغَضوا، ولا تَدابَروا، ولا يبِعْ بعضُكم على بعضٍ، وكونوا عباد الله إخوانًا، المسلمُ أخو المسلم؛ لا يظلِمُه، ولا يخذُلُه، ولا يحقِرُه، التقوى ها هنا - وأشار إلى صدره ثلاث مراتٍ -، بحسب امرئٍ من الشرِّ أن يحقِرَ أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرامٌ؛ دمُه ومالُه وعِرضُه». فاتقوا الله - عباد الله -، واعملوا على القيام بحقوق الإخوة في الله أينما كانوا، وكونوا أعوانًا لهم على الخير، وسدًّا منيعًا أمام مُخطَّطات المُغرِضين من أهل الأهواء وذوِي الأغراضِ والمصالحِ الخاصة. واذكروا على الدوام أن اللهَ تعالى قد أمركم بالصلاة والسلام على خير الأنام، فقال في أصدق الحديث وأحسن الكلام: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56]. اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الآل والصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين. اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزة الدين، ودمِّر أعداء الدين، وسائر الطغاة والمُفسدين، وألِّف بين قلوب المسلمين، ووحِّد صفوفهم، وأصلِح قادتَهم، واجمع كلمتَهم على الحق يا رب العالمين. اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم - وعبادك المؤمنين المجاهدين الصادقين. اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، وهيِّئ له البِطانة الصالحة، ووفِّقه لما تحب وترضى يا سميع الدعاء. اللهم وفِّقه ونائبَيْه وإخوانه إلى ما فيه خير الإسلام والمسلمين، وإلى ما فيه صلاح العباد والبلاد، يا من إليه المرجع يوم التناد. اللهم أحسِن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجِرنا من خِزي الدنيا وعذاب الآخرة. اللهم أصلِح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلِح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلِح لنا آخرتنا التي فيها معادُنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموتَ راحةً

18 جمادى الأولى 1432 - آداب النوم والاستيقاظ - الشيخ صالح آل طالب

خطبة المسجد الحرام - 18 جمادى الأولى 1432 - آداب النوم والاستيقاظ - الشيخ صالح آل طالب الخطبة الأولى إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له عزَّ عن الشبيه وعن النِّدِّ وعن المثيل وعن النظير، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11]، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصفيُّه من خلقه، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. أما بعد: فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله التي لا يقبَلُ غيرَها، ولا يرحمُ إلا أهلَها، ولا يُثيبُ إلا عليها؛ فإن الواعظين بها كثير، والعاملين بها قليل، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ [البقرة: 197]، واستمسِكوا من الإسلام بالعُروة الوُثقى، واعلموا أنكم غدًا مُحاسَبون، وبأعمالكم مَجزيُّون، وأن أجسادكم لا تصبر على حرِّ النار ولا تقوَى. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر: 18]. أيها المسلمون: لم يترُك النبي - صلى الله عليه وسلم - خيرًا إلا دلَّنا عليه، ولا بابًا للجنة إلا عرَّفنا طريقَه، ولا سببًا للسعادة والهناء إلا أرشدَنا له وحثَّنا عليه، وفي ذات الوقت ربَّانا على لزوم السُّنن، وعلَّمَنا الآداب، وأرادنا أن نكون على مُراد الله في كل الأحوال؛ في منامنا ويقظَتنا، في مِحراب التعبُّد أو في ميدان السعي للدنيا، أن يكون حالُنا ومُنقلبُنا لله، قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام: 162]، وهذه هي غاية العبودية، والعبودية هي الغاية. أيها المسلمون: لا يخلو الإنسان أن يكون في حالِ يقظةٍ أو حال نومٍ، يتقلَّبُ بينهما كما يتقلَّبُ الليل والنهار، والنومُ حالٌ عجيبٌ من أحوال الإنسان، وآيةٌ من آيات الله العِظام، وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ [الروم: 23]. ويُشكِّلُ النومُ جزءًا كبيرًا من اهتمام الناس، فيتخِذون له الفُرش والأثاث، ويتهيَّأون له بالوسائل والأحوال، ويتحكَّم في أوقاتهم ومعاشِهم، وإذا اختلف بزيادةٍ أو نقصٍ أثَّر على صحة الإنسان بدنيًّا ونفسيًّا، وبذَلَ للعلاج الكثيرَ من الأموال، والإنسانُ يُمضِي ثُلُثَ حياته في النوم. ومن هنا جاءت الآداب النبوية والسنن المحمدية بالإرشاد والتوجيه، حتى يكون منامُنا طاعة ونومُنا عبادة، والتزامُ هذه السنن سببٌ للأجر، ومُعينٌ على القيام لصلاة الفجر، والنشاط في سائر اليوم، والبُعد عن الوساوس والأحلام المُزعِجة، والأمراض النفسية. وهذه السنن والآداب - على أهميتها وعظيم أجر فاعلها - قد أعرض كثيرٌ من المسلمين عنها جهلاً أو تكاسُلاً، أو زُهدًا فيما عند الله من ثواب. وإليكم - أيها المسلمون - طائفةً مما صحَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من سُنن النوم وآدابه، فيها الخير والسعادةُ في الدنيا والآخرة: فأول ذلك: ما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من التبكير في النوم؛ فعن أبي بَرزةَ - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يكره النومَ قبل العشاء، والحديثَ بعدها؛ أخرجه البخاري ومسلم. ثم الوِتر قبل النوم لمن خشِيَ ألا يقومَ آخر الليل؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: أوصاني خليل - صلى الله عليه وسلم - بثلاث: بصيامِ ثلاثةِ أيامٍ من كل شهر، وركعتَيْ الضُّحَى، وأن أُوتِر قبل أن أرقُد؛ أخرجه مسلم. ومن الآداب: إطفاءُ النار، وتخميرُ الإناء، وإغلاقُ الأبواب؛ عن جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أطفِئوا المصابيح إذا رقدتُم، وغلِّقوا الأبواب، وأوكُوا الأسقِية، وخمِّروا الطعام والشراب - وأحسِبُه قال: ولو بعودٍ تعرِضُه عليه -»؛ أخرجه البخاري ومسلم. وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تترُكوا النار في بيوتكم حين تنامون»؛ أخرجه البخاري ومسلم. وعن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: احترق بيتٌ بالمدينة على أهله من الليل، فحُدِّث بشأنهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: «إن هذه النار إنما هي عدوٌّ لكم، فإذا نِمتُم فأطفِئوها عنكم»؛ أخرجه البخاري ومسلم. ومن الآداب: عدمُ النوم على مكانٍ مُرتفعٍ بلا حواجز؛ عن علي بن شيبان - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من باتَ على ظهر بيتٍ ليس له حِجارٌ فقد برِئَت منه الذِّمَّة»؛ أخرجه أبو داود، وله عدةُ شواهد. ومن الآداب: غسلُ اليد والفم من أثر الأكل والدَّسَم ونحوه؛ عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من نامَ وفي يده غَمَرٌ ولم يغسِله فأصابَه شيءٌ، فلا يلومنَّ إلا نفسَه»؛ أخرجه أبو داود. ومن السنن: الوضوء قبل النوم؛ عن البراء بن عازبٍ - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أتيتَ مضجِعك فتوضَّأ وضوءَك للصلاة»؛ أخرجه البخاري ومسلم. ويُسنُّ الوضوء أيضًا حتى ولو كان الإنسان جُنُبًا؛ عن ابن عمر - رضي الله عنه - أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - سأل رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -: أيرقُد أحدُنا وهو جُنُب؟ قال: «نعم، إذا توضَّأ أحدكم فليرقُد وهو جُنُب»؛ أخرجه البخاري ومسلم. ومن آداب النوم: نفضُ الفراش والتسمية؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أوى أحدُكم إلى فراشه فليأخذ داخِلة إزاره، فلينفُض بها فِراشه وليُسمِّ الله؛ فإنه لا يعلمُ ما خلَفَه بعده على فِراشه»؛ أخرجه البخاري ومسلم. ويحرِصُ المسلمُ على التستُّر حتى لا تنكشِفَ عورتُه وهو نائمٌ؛ عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يستلقِيَنَّ أحدكم ثم يضعُ إحدى رجلَيْه على الأخرى»؛ أخرجه مسلم. ومن الآداب: تباعُد النائمين عن بعضهم؛ فعن عمرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جدِّه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مُروا أولادَكم بالصلاة وهم أبناءُ سبع سنين، واضرِبوهم عليها وهم أبناءُ عشرٍ، وفرِّقوا بينهم في المضاجِع»؛ أخرجه أحمد وأبو داود. ومن السنن: كتابةُ الوصية؛ فعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما حقُّ امرئٍ مسلمٍ له شيءٌ يُوصِي فيه يبيتُ ليلتين إلا ووصيتُه مكتوبةٌ عنده»؛ أخرجه البخاري ومسلم. وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النوم على البطن، وقال: «إنها ضَجعةُ أهل النار»، وقال: «إنها ضَجعةٌ يُبغِضُها الله - عز وجل -»؛ رواه أبو داود بإسنادٍ صحيحٍ. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً مُضطجِعًا على بطنه، فقال: «إن هذه ضَجعةٌ يُبغِضُها الله ورسولُه»؛ أخرجه الترمذي. أيها المسلمون: ومن السنة: النوم على الشِّقِّ الأيمن؛ فعن البراء بن عازبٍ - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أتيتَ مضجِعك فتوضَّأ وضوءَك للصلاة، ثم اضطجِع على شِقِّك الأيمن»؛ أخرجه البخاري ومسلم. ومن السنة: وضعُ اليد تحت الخدِّ؛ فعن حذيفة - رضي الله عنه - قال: كان - صلى الله عليه وسلم - إذا أخذ مضجِعَه من الليل وضع يدَه تحت خدِّه؛ أخرجه البخاري. عباد الله: هذه بعضُ السنن العملية، وإليكم طائفةً أخرى من الأدعية والأذكار التي صحَّت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحرِيٌّ بكل مسلمٍ أن يحفَظَها ويتلُوها ويجعلها وِردَه وطمأنينة قلبه، وذِكرُ الله مطلوبٌ عند النوم؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من اضطجَع مضجِعًا لا يذكرُ اللهَ فيه كانت عليه من الله تِرة»؛ أخرجه أبو داود. ومن هذه الأذكار: قراءةُ آية الكرسي؛ ففي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - الطويل، قال: إذا أويتَ إلى فِراشك فاقرأ آيةَ الكرسي؛ فإنه لن يزالَ عليك من الله حافظٌ ولا يقربُك شيطانٌ حتى تُصبِح. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «صدَقَك وهو كذوبٌ، ذاك شيطان»؛ أخرجه البخاري ومسلم. ومن الذِّكر قبل النوم: التسبيحُ ثلاثًا وثلاثين، والحمدُ ثلاثًا وثلاثين، والتكبيرُ أربعًا وثلاثين، وفيه حديثُ علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وشكوى فاطمة - رضي الله عنها - ما تلقى من الرَّحَى مما تطحَن، وطلبَت خادمًا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أدلُّكما على خيرٍ مما سألتُماه؟ إذا أخذتُما مضاجِعكما فكبِّرا اللهَ أربعًا وثلاثين، واحمدَا ثلاثًا وثلاثين، وسبِّحا ثلاثًا وثلاثين؛ فإن ذلك خيرٌ لكما مما سألتُماه»؛ أخرجه البخاري ومسلم. عباد الله: ومن الدعاء الذي كان يقوله - صلى الله عليه وسلم -: ما رواه حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أوى إلى فِراشه قال: «باسمك اللهم أموتُ وأحيا»، وإذا قام قال: «الحمدُ لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا، وإليه النشور»؛ أخرجه البخاري. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أوى أحدُكم إلى فِراشه فلينفُض فِراشه بداخِلَة إزاره؛ فإنه لا يدري ما خلَفَه عليه، ثم يقول: باسمك ربي وضعتُ جنبي وبك أرفعُه، إن أمسكتَ نفسي فارحمها، وإن أرسلتَها فاحفظها بما تحفَظ به عبادَك الصالحين»؛ أخرجه البخاري ومسلم. وعن ابن عمر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول إذا أخذ مضجِعَه: «الحمدُ لله الذي كفاني وآواني، وأطعمني وسقاني، والذي منَّ عليَّ فأفضَلَ، والذي أعطاني فأجزَل، الحمدُ لله على كل حال، اللهم ربَّ كل شيءٍ ومليكَه وإلهَ كل شيءٍ، أعوذ بك من النار»؛ أخرجه أبو داود، وصحَّحه ابن حبان والنووي. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن أبا بكرٍ الصِّدِّيق - رضي الله عنه - قال: يا رسول الله! مُرني بكلماتٍ أقولهنَّ إذا أصبحتُ وإذا أمسيتُ، قال: «قل: اللهم فاطر السماوات والأرض، عالمَ الغيب والشهادة، ربَّ كل شيءٍ ومليكَه، أشهد أن لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شرِّ نفسي وشرِّ الشيطان وشِرْكِه، قُلها إذا أصبحتَ وإذا أمسيتَ وإذا أخذتَ مضجِعَك»؛ أخرجه أبو داود. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: أتَت فاطمةُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - تسألُه خادمًا، فقال لها: «قولي: اللهم ربَّ السماوات وربَّ الأرض، وربَّ العرش العظيم، ربَّنا وربَّ كل شيءٍ، فالقَ الحبِّ والنوى، ومُنزِل التوراة والإنجيل والفُرقان، أعوذ بك من شرِّ كل شيءٍ أنت آخِذٌ بناصيته، اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخِرُ فليس بعدك شيء، وأنت الظاهرُ فليس فوقَك شيء، وأنت الباطنُ فليس دونَك شيء، اقضِ عنا الدَّيْن، وأغنِنا من الفقر»؛ أخرجه مسلم. وعن البراء بن عازبٍ - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن ينام توسَّد يمينَه ويقول: «اللهم قِني عذابَك يوم تجمعُ عبادَك»؛ أخرجه أحمد

25 جمادى الأولى 1432 - لزوم جماعة المسلمين - الشيخ عبد الرحمن السديس

خطبة المسجد الحرام - 25 جمادى الأولى 1432 - لزوم جماعة المسلمين - الشيخ عبد الرحمن السديس الخطبة الأولى إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، تبارك ربُّنا إلهًا مُعينًا غفَّارًا، لم يزل توفيقُه مِدرارًا لمن رامَ من الاجتماع القُصارى. لك الحمدُ اللهم يا خيرَ ناصرٍ لدين الهدى ما لاحَ نجمٌ لناظرِ لك الحمدُ ما هبَّ النسيمُ من الصَّبَا على نِعمٍ لم يُحصِها عدُّ حاصرِ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً تنهجُ لنا من حِمَى الجماعة سدادًا واستبصارًا، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبد الله ورسوله أعظمُ البرية قدرًا ووقارًا، حثَّ على لزوم الجماعة ترغيبًا واصطبارًا، اللهم فصلِّ عليه وعلى آله الزاكين نفوسًا السامقين أقدارًا، وصحابته البالغين من الاجتماع شأوًا لا يُجارَى، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ يرجو من المولى الكريم فوزًا عظيمًا واستبشارًا، وسلِّم يا رب تسليمًا زاكيًا درَّارًا. أما بعد: فاتقوا الله - عباد الله -؛ فبالتقوى ينقادُ للأمة ما استعصَى والتوَى، ويتحقَّقُ لكل فردٍ من الخير ما انتوى، والزموا - رحمكم الله - حِياضَ الجماعة؛ فإنها نعمت الآصِرة أوان الفتن وفي كل ساعة، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ [النور: 52]. أيها المسلمون: في هذا الأوان الذي تلاطمَت أمواجُه، وامتزجَ حُلوهُ وأُجاجُه، ورفعت فيه الفتنُ أجيادَها، واستنفرَت أجنادَها؛ تبرُزُ قضيةٌ سنيَّةٌ عريقة، بلجاءُ وريقة، هي من ضرورات الدين ومُحكَمات، وأصوله ومُسلَّماته، كما هي من أساس الأمن والاطمئنان، ودعائم الحضارة والعمران؛ بل هي معراجٌ لبلوغ مرضاة الديَّان، وخيرُ عنوانٍ لسلامة الأديان، وتلكم القضية - يا رعاكم الله - ما استمسَكَت بها أمةٌ إلا أفلَحَت وقادَت وبلغَت الأوجَ وسادَت، وكانت شجًى في حُلوق عِداتها، وقذًى في عيون لِداتها. وبرهان ذلك: النظر والأثر وما سطَّره التأريخ بشاهد الصدق من الخبر، إنها: شعيرةُ لزوم الجماعة، وما تقتضيه من السمع والطاعة. يقول - عزَّ من قائل -: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا [آل عمران: 103]، قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: "حبلُ الله هو الجماعة". وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لن تجتمع أمتي على ضلالة، فعليكم بالجماعة؛ فإن يد الله على الجماعة»؛ أخرجه الترمذي، والطبراني بإسنادٍ صحيح. وما ذلكم - يا عباد الله - إلا لأن الخروج عن الجماعة، والشذوذ عن الطاعة يُمزِّقُ الشملَ النظيمَ بددًا، ويُحيلُه طرائق قِددًا. معاشر المسلمين: وفي وَبيلِ عاقبة من مات مارقًا، ولأهل الاعتصام والجماعة مُفارِقًا، يقول - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه أبو هريرة - رضي الله عنه -: «من خرج عن الطاعة، وفارق الجماعة، فمات مات ميتةً جاهلية، ومن قتل تحت رايةٍ عُمِّيّة، يغضبُ لعصبية أو يدعو إلى عصبية، أو ينصر عصبية، فقُتِل فقِتلَتُه جاهلية، ومن خرج على أمتي يضربُ برَّها وفاجِرَها، لا يتحاشَى من مؤمنها، ولا يفِي بعهد ذي عهد؛ فليس مني ولستُ منه»؛ أخرجه مسلم وغيره. إخوة الإيمان: وامتثالاً لهذه الشعيرة السامية؛ فقد تحقَّق بها الأسلافُ الكرامُ في ذواتهم، ودعَوا إليها في مجتمعاتهم، ونصُّوا عليها في مُصنَّفاتهم، يقول الإمام الطحاوي - رحمه الله -: "ونرى الجماعة حقًّا وصوابًا، والفُرقة زيغًا وعذابًا". وفي الأثر عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه خطب الناس فقال: "إن الذي تكرهون في الجماعة خيرٌ ما تحبون في الفُرقة". فمن شقَّ عصا الطاعة، وتنصَّل من الجماعة زلَّ وزَلَج، وما أفلحَ ولا فلَج؛ بل أوبقَ نفسَه وهوى، وأسلم أرسانَه لمُرديات الهوى، يقول - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاثةٌ لا يغِلُّ عليهن قدرُ امرئٍ مسلمٍ: إخلاصُ العمل لله، ومناصحةُ ولاة الأمر، ولزومُ جماعة المسلمين»؛ أخرجه الإمام أحمد، وابن ماجه، والحاكم وصحَّحه. وفي معنى ذلك: يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "ثم إن الاعتصام بالجماعة والائتلاف أصلٌ من أصول الدين". ويقول العلامة ابن القيم - رحمه الله -: "ولزوم الجماعة مما يُطهِّر القلبَ من الغلِّ والغش؛ فإن المسلم للزومه جماعة المسلمين يحبُّ لهم ما يحبُّ لنفسه ويكره لهم ما يكره لها، بخلاف من انحاز عنهم، وانشغل بالطعن عليهم والذمِّ لهم". انتهى كلامُه - رحمه الله -. أمة الإسلام: ولن تلتئم من الأمة مصالحُها وتتحقَّق مناجحُها إلا بالجماعة، ولا جماعة إلا بإمامٍ، ولا إمام إلا بسمعٍ وطاعة؛ عن عُبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: بايَعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة في العُسر واليُسر، والمنشَط والمكرَه، وعلى أثَرَةٍ علينا، وعلى ألا نُنازِعَ الأمرَ أهلَه؛ رواه الشيخان. وفي سُلطة الإمام وأمره وبليغ نهيِه وزجره يقول أمير المؤمنين عثمان - رضي الله عنه وأرضاه -: "إن الله ليَزَعُ بالسلطان ما لا يزَعُ بالقرآن". ولله درُّ الإمام عبد الله بن المبارك - رحمه الله -؛ حيث يقول: إن الجماعة حبلُ الله فاعتصِموا منه بعُروته الوُثقى لمن دانَا كم يدفعُ الله بالسلطان مُعضِلةً في ديننا رحمةً منه ودُنيانا لولا الإمامة لم تُؤمَن لنا سُبُلٌ وكان أضعفُنا نهبًا لأقوَانا معاشر المؤمنين: فأهلُ السنة والهدى على الجماعة والحق يأتلِفون، ولولاتهم سميعون مُطيعون، بكل الحب والاستبشار دون استنكافٍ أو استكبار، عقيدةً وديانةً وعبادة لا عُرفًا وعادة، ووجوب ذلك مُتأكِّدٌ في كل وقتٍ وحين، لكنه زمن الفتن والأزمات والنوازل والمُلِمَّات آكَد وأشد، وأوثقُ وأسَدّ، وما ذاك إلا امتثالاً لما قصَدَه الشارعُ من تحقيق المقاصِد وتكميلها، ودرء المفاسِد وتقليلها؛ كيف وفي الجماعة يتحقَّقُ الأمنُ ويتأكَّد، ويعُمُّ الأمانُ ويتوقَّد، ويزدهِرُ الإنماءُ والإعمار، وينحسِر الاضطرابُ والبَوَار. فلله ثم لله، لله ثم لله! كم للزوم الجماعة من الفضائل والبركات والآثار السنيَّات؟! ففي الجماعة: نصرُ الله الخفيّ، وتوفيقُه الحفِيّ، المُتضوِّعُ بأهنا عيشٍ، والمُتحصِّنُ بأقوى جيشٍ؛ إذ هي رابطةُ الأمة، منعَتُها في قوتها، ووهَنُها من ضعفها، فيها يعبدُ المسلمُ ربَّه آمنًا، ويدعو إليه تعالى مُؤيَّدًا، المُستضعَفُ في كنفها قوي، والمظلومُ في ميدانها أبِيّ، والظالمُ مُدان، والعاجزُ في ظلِّها مُعان. بالجماعة وحُسن الطاعة فيما يُرضِي المولى - سبحانه - تعِزُّ الأمة وتبقى، وفي ذُرَى المجد تعلو وترقى، وبها تزكو المقاصدُ وتتحقَّقُ، وتعُمُّ الرَّحماتُ وتتدفَّق، وتنفِي التعصُّبات العِرقية، والنَّعَراتُ الجاهلية، والأهواء الزرِيَّة، والحِزبيَّاتُ الردِيَّة. فيا إخوة الإسلام: يا أهل المُعتقَد الصحيح، والمنهج اللاحِم الصحيح: استشعِروا جلالَ الأُلفة والجماعة، اللهَ اللهَ في الائتلاف والائتساء بما كان عليه الأسلاف، احذروا مِزعَ الآراء والأهواء؛ فإنها الشر المُستطير وبئس الداء، وحيَّهلاً حيَّهلاً إلى لفيف الجماعة، كونوا جماعةً واحدةً في التمسُّك بسنة خير البريَّة - عليه أفضل الصلاة والسلام والتحية -، جماعةً في العقيدة والمنهج والفِكر، ورعاية الأمر والسلوك، جماعةً في الطموحات والأهداف السنيَّة، جماعةً في الأمانة والنزاهة والمسؤولية، جماعةً في التراحُم والمودة والحب، جماعةً فيما يُرضِي ربَّنا ويحبّ، جماعةً في تعزيز الوسطية والاعتدال وترسيخها مُعتقدًا لدى الأجيال، جماعةً ضد الفُرقة وكل مُنازِع، جماعةً صَوبَ أنبَل المنازِع؛ تغنَموا بإذن الله وتنعَموا. معاشر الأحِبَّة الأكارِم: تلك هتفةٌ تقُضُّ مضاجِعَ الشانئين، وتُنبِّه عقول الغافِين؛ بل هي دعوةٌ تشُدُّ من أزر الصادقين، وتبعثُ مزيدَ الأمل والتآصُر في عزائم أهل الحق المُبين للثبات على غَرزِ السنة والجماعة، وتلكم - وايمُ الحق - قاعدةُ الفلاح والصلاح الرَّصينة، وأسوار الأمن والسُّؤدَد الرَّصينة. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران: 105]. اللهم بارِك لنا في القرآن العظيم، وانفعنا وارفعنا بهدي سيد المرسلين، وثبِّتنا على السنة والجماعة والصراط المستقيم، وأجِرنا بمنِّك وكرمِك من العذاب الأليم، إنك جوادٌ كريم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه وتوبوا إليه، إن ربي غفورٌ ودود. الخطبة الثانية الحمد لله، أمر بالائتلاف والجماعة عدلاً وإرشادًا، وبلوغًا لذُرَى الخيرية وإسعادًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً نزكو بها حالاً ومعادًا، وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله أبانَ معالم السنة والجماعة، فكان الحقُّ والهدى غايةً ومُرادًا، اللهم فصلِّ وسلِّم وبارِك عليه وعلى آله وصحبه البالغين من الترابُط أمجادًا، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. أما بعد، فيا عباد الله: اتقوا الله حق تقاته، واجتمِعوا على وحدتكم وائتلِفوا، وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا [آل عمران: 105]، واعلموا أن أصدق الحديث كتاب الله، وخيرَ الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور مُحدثاتها، وعليكم بالجماعة؛ فإن يدَ الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار. إخوة الإيمان: ومن آثار السمع والطاعة وترابُط أهل السنة والجماعة: ائتلاف دروبهم وتوادُد قلوبهم ودحرُهم للأراجيف والشائعات، والأباطيل السافرات من جلاوِزة الفتن وخفافيش الإحَن، ممن قال اللهم فيهم: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ [التوبة: 47]. نعم؛ يا عباد الله: إنها الفتنة بالتشكيك والإرجاف، والمُزايَدة بيسير الأخطاء والاختلاف، فلا يقرُّ لهم حال، ولا ينعمَون بِبَال إلا برفع عقيرَتهم لبثِّ الفُرقة ووأد الائتلاف بكل رُعونةٍ واعتِساف، وإصلات سيف التفريق في صفوف الأمة بكل تنحُّلٍ وانجراف، ذلك ديدنُهم وهِجِّيراهم، وذاك أرَبُهم ومُنتواهُم، سواءٌ أكان في مجال العقيدة أم الفكر أم السلوك، مُتناسين أن من أبواب الخروج على الجماعة: مخالفة عقيدتها الصحيحة ومنهجها السليم، وفكرها القويم، وسلوكها المُستقيم، والإخلال بأمنها واستقرارها، والعبثَ بمُقدَّراتها ومُكتسباتها. وإنك لواجِدٌ في المواقع والمُنتديات عبر شبكات المعلومات من ذلك عجبًا عُجابًا، وما تلك إلا مُديَةٌ يزعمون أنهم يجأرون بها خواصِر أهل الإسلام في ليلٍ حالك الدُجُنَّة والظلام، ولكن ثم لكن لن تزيدَ ألسِنةُ الحقد وأقلام الحسد المؤمنين الصادقين إلا ثباتًا ورسوخًا وقوةً وشموخًا، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [النساء: 175]. وقد أرشد الرؤوف الرحيمُ بأمته إلى أصل العواصم من الفتن القواص

3 جمادى الثانية 1432 - سبل الوقاية من الفتن - الشيخ سعود الشريم

خطبة المسجد الحرام - 3 جمادى الثانية 1432 - سبل الوقاية من الفتن - الشيخ سعود الشريم الخطبة الأولى إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102]. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء: 1]. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70، 71]. أما بعد، فيا أيها الناس: من رحمة الله - جل وعلا - على عباده أن بعثَ رسول الهدى شاهدًا ومُبشِّرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا مُنيرًا، ولقد لقِيَ - صلوات الله وسلامه عليه -، وهو لم يدَع خيرًا إلا دلَّ الأمةَ عليه، ولا شرًّا إلا حذَّر الأمة منه، وإن مما حذَّر منه أمتَه: الفتن التي تكون آخر الزمن وتكاثُرها وترادُف حلقاتها، والغواسِق التي تُحيطُ بالناس والمُجتمعات من كل جانبٍ، فتمُوجُ بهم كموجِ البحر، وتقعُ القوارِعُ في دارهم أو قريبًا من دارهم على حين غِرَّةٍ لم تخطُر على بالِ آمنٍ لاهٍ، ولم تلُحْ له في أُفق؛ فتحِلُّ الفجأة، وتعظُم الدهشةُ والذهول لهول الأحداث والمُستجدَّات وسرعتها، حتى يتلقَّاها السامعُ والمُشاهِد، ولا يكادُ يُسيغُها إلا بشَرَق الرَّوْع؛ لأنها لم تدُر بخلَده أو تقع في ظنِّه أن غِيَرًا وأحداثًا كونيةً واجتماعيةً وسياسيةً وفكريةً ستحِلُّ فجأةً على وجه التسارُع والتدافُع. وهذا ما يُذكِّرنا بما أخبرنا به المصطفى - صلى الله عليه وسلم - عن أشراط الساعة وقيامها في سرعةٍ لم تخطُر على بالٍ الأحياء إبَّانَها، كما جاء في "الصحيحين" أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لتقُومنَّ الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما، فلا يتبايَعانه ولا يطوِيانه، ولتقُومنَّ الساعة وقد انصرفَ الرجل بلبنِ لِقحَته فلا يطعمُه، ولتقُومنَّ الساعة وهو يُليطُ حوضَه فلا يسقِي منه، ولتقُومنَّ الساعة وقد رفع أكلَته إلى فِيه فلا يطعَمها». كل ذلك - عباد الله - دليلٌ على سرعة وقوع الحدث وما يحمِلُه من مفاجآت، وأن نفسًا لا تدري ماذا تكسِب غدًا ولا بأي أرضٍ تموت. ألا وإن تعاقُب الأحداث وترادُفها، وطلب بعضها بعضًا طلبًا حثيثًا لهو من سِمات هذه البُرهة من الزمن الحاضر الذي بلَغَت فيه الحضارة المادية أوْجَها، والغليَان المعرفي والتِّقَنيُّ قمَّته، ويخلقُ الله ما لا تعلمون. ولقد صار من سرعة الأحداث والمُدلهِمَّات أن رياحَها لا تُتيحُ لأي رمادٍ أن يجثِمَ مكانه، ولا لأي جمرةٍ أن ينطفِئَ وميضُها، فتتراكمُ التداعيات بعضُها على بعضٍ ليخِرَّ سقفُ الهدوء، وتُقبِلَ فُلول الطوارئ والمُفاجآت في عسعسةِ الليل أو تنفُّس الصبح. غير أن هذا كله لم يأتِ طفرةً دون مُقدِّماتٍ أو مُسبِّبات، مع اتفاقنا جميعًا بأن ساعة الحدوث تُعدُّ مفاجِئةً بسبب شَرَر وميض جمرٍ خِلَل الرماد، اشتدَّت به الريحُ في يومٍ عاصفٍ، فتطايَرَ شَرَره إلى قشٍّ يَباسٍ، فما هو إلا الضِّرام ما منه بُدٌّ، مع أن أصواتًا صادقةً وصيحاتٍ ناصحةً قد سُمِعت، فلم تلقَ رجعَ الصدى، ولم يستبِن السامعون ذلكم النُّصح إلا ضُحى الغد، ولاتَ حين مناص. عباد الله: إننا في الوقت الذي يحمدُ اللهَ فيه كلُّ مسلم أو مجتمعٍ لم تنَلْه تلكم الأحداث والمُستجدَّات، ولم تحُلَّ بدارهم؛ يجبُ ألا يبخَلوا على أنفسهم من سؤال العافية والسلامة وألا تمُرَّ عليهم تلكم الخطوب دون أخذ الدروس والعِظَة والعِبرة؛ فالنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «السعيدُ من وُعِظَ بغيره، والشقيُّ من شقِيَ في بطن أمه»؛ رواه مسلم. وإن أحسن أحوال العِبرة والعِظة - عباد الله - ما كان مُتزامنًا مع سببها، لكون الاستعداد النفسي أبلغ في مُقابل قوة الحدث، وإلا وقع السهو والنسيان، وإذا لم يُغبِّر حائطٌ في وقوعه فليس له بعد الوقوع غُبار، وحينئذٍ فإن أي قُربانٍ سيجيءُ مُتأخرًا فستأكله نيران الأحداث يتغيُّظٍ وزفير. كل ذلك - عباد الله - لتكون العِبرة والعِظة داعيةً إلى الاستباق الآمِن من الوقوع في مثلها، أو بعبارة العصريين: الوقاية خيرٌ من العلاج، أو ما يُسمَّى بـ "الأمن الوقائي"، أو بالعبارة الشرعية الأصيلة: "الدفع أولى من الرفع"، فإن مما يتفق عليه العُقلاء جميعًا أن منع وقوع الشيء المكروه خيرٌ وأولى من رفعه بعد وقوعه، وشريعتُنا الغرَّاء جاءت حاضَّةً على المُبادرة والمُسارعة بالأمور الدافعة للمكاره قبل أن تحِلَّ بالمرء والمجتمع. فمن ذلك: قوله تعالى: وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ [الزمر: 54]، ومنه قوله - سبحانه -: وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [الأنعام: 151]؛ فنهى عن القُرب منها؛ لأن القُرب سببٌ في الوقوع، وهذا دليلٌ على وجوب الوقاية. وق جاء في السنة المطهَّرة ما يُؤكِّد هذا المعنى صراحةً؛ حيث قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «بادِروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المُظلِم، يُصبِحُ فيه الرجلُ مؤمنًا ويُمسِي كافرًا، ويُمسِي مؤمنًا ويُصبِح كافرًا، يبيعُ دينَه بعَرَضٍ من الدنيا»؛ رواه مسلم. وقال - صلوات الله وسلامه عليه -: «اغتنِم خمسًا قبل خمس: شبابَك قبل هرَمك، وصحَّتك قبل سقَمك، وغناءَك قبل فقرك، وفراغك قبل شُغُلك، وحياتَك قبل موتك»؛ رواه الحاكم وغيره. ومما يدل أيضًا على رعاية الشريعة وحضِّها للوقاية والمُبادرة والحَذر: ما جاء من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يُورِد مُمرِضٌ على مُصِحّ»؛ رواه الشيخان. وعند مسلم في "صحيحه" أنه كان في وفد ثقيف رجلٌ مجذوم، فأرسلَ إليه: «أنِ ارجع؛ فقد بايعناك». وفي ذلك دليلٌ - عباد الله - على الوقاية من جُذامه بالاكتفاء بالمُبايعة عن بُعدٍ دفعًا للعدوى. إذا عُرِف ذلكم - عباد الله -؛ فإن مبدأ الوقاية خيرٌ من العلاج مبدأٌ شاملٌ لكل شؤون الحياة، وإن من الخطأ الصريح: قصرَه على المجال الصحيّ فحسب؛ بل إنه يمتد إلى المجال الغذائي والعلمي والفكري والإعلامي والاقتصادي والسياسي على حدٍّ سواء، وإن الجهد الذي يُبذَل في الوقاية في ذلكم كله ينبغي أن يكون أسبق، وأن ينال اهتمام جميع الفئات في المجتمع بصورةٍ أكبر مما يُبذَل في العلاج، وهنا مكمنُ شعور كل فردٍ مسلم وإدراكه للعواقب، والتوجُّس من المُدلهِمَّات. وإذا كانت الشريعةُ الغرَّاء قد حضَّت على المُبادرة بالأعمال؛ فإن هذا التحريض لم يكن قاصرًا على جهةٍ دون أخرى؛ بل إنه يشمل الفرد والأسرة، والعامِّي والعالِم، والسياسي والمُفكِّر، وأمثالهم ممن هم صورة المجتمع وتكوينه؛ إذ من الخطأ قصرُه على جهةٍ دون أخرى؛ كأن يُقصَر على القيادة فقط، أو العلماء فحسب؛ كلا، فلُحمة المجتمع، والشعور بالواجب تجاهه مهمة الجميع، والحرصُ على حمايته من أي داخلةٍ فيه انتماءٌ إيجابي يدلُّ على الأمانة الحقَّة في سبيل الاجتماع على الحق والخير، والتعاوُن على البرِّ والتقوى، لا على الإثم والعدوان؛ ليتمَّ السير بسفينة المجتمع الماخِرة إلى برِّ الأمان بعد الخروج بها من ظُلمات البحر اللُّجِّي الذي يغشاه موجٌ من فوقه موجٌ من فوقه سحاب. وبعد - يا رعاكم الله -: فإن ذهول الكثيرين منا تجاه ما يقع في هذه الآونة من مُستجدَّاتٍ وغِيَر لم يكن عائدًا إلى تدنٍّ في مستوى ذكاء عموم المجتمعات، أو لضعفٍ في آلية الإنذار المُبكِّر بقدر ما كان سبب إهمال مبدأ الوقاية وتوفير أسبابها واستحضار حكمها؛ لأن الإفراط في الأمن من المُتغيِّرات هو مكمنُ الخوف والخطر، كما أن الحذر المُفرِط أيضًا مكمنٌ للجُمود والبَلادة وتأخُّر المسير. وخيرُ الأمور في ذلكم: الوسط، وقد قيل: إن التوسُّط في الأمور سلامةٌ كي لا ضِرارَ ينالُ منك ولا ضَرَر قد يُهلِكُ الإنسانَ أمنٌ مُفرِطٌ أو يعتَريه السوءُ من فرطِ الحذر إن عدم الوعي التام بقيمة الوقاية من قِبَل العموم ومدى تقديرهم لحجم وطبيعة مُتطلَّبات الوقاية لهُوَ سببُ تحمُّل وقوع الشيء، ومن ثَمَّ علاجُه، وكلا الأمرين بُعدٌ عن الواقع وبرودٌ في التعامل مع المُتغيِّرات بما من شأنه دفعُ عجلة المُدلهِمَّات عن الوقوع، أو على أقل تقديرٍ الإبطاء بها إلى حين وضع السياج الآمِن الذي يحمي من خطر وقوعها إن هي وقعت؛ فضلاً عن أن الشعور بوجود عصًا سحرية لديها الاستعداد على دفع كل شيء إنما هو شعورٌ مُتولِّدٌ من لا شعور؛ لأن الفائدة من الوقاية هي التطلُّع إلى وضعٍ أفضل، أو التخلُّص من وضعٍ أسوأ؛ لأن أي أحدٍ منَّا لن يستطيع إصلاح عجلة الطائرة بعد إقلاعها، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأنفال: 53]. وبما أن الشيء بالشيء يُذكَر؛ فإن هذه البلاد - حرسها الله - قد ضربَت مثلاً في الصلة والتلاحُم بين قيادتها وعلمائها وأفرادها، ووقفت في خِضَمِّ الأحداث موقف المسؤولية والشعور بالخطر، فيما لو أهمل كل واحدٍ منا مسؤوليته، فكان ذلك البيانُ الشافي من هيئة كبار العلماء في هذه البلاد - حرسها الله -، وكانت تلكم القرارات المشهودة الصادرة عن وليِّ أمرنا - حفظه الله - والتي أكَّد من خلالها أن الشريعة الإسلامية هي قدَرُ هذه البلاد، وأكَّد من خلالها أيضًا مكانة العلماء وأثرَهم في المجتمع بقيادتهم العلمية الداعِمة للقيادة السياسية، كما لامَسَت تلك القرارات احتياجات المجتمع والمواطن التي تفتقِرُ إلى إصلاحٍ وتجدُّد. جعل الله ذلك في ميزان الحسنات، ووفَّق هذه البلاد قيادةً وعلماء وشعبًا إلى البر والتقوى، ووقاه كل سوءٍ وفتنة، ووقى جميع بلاد المسلمين شرَّ الفتن ما ظهر منها وما بطن. وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ [البقرة: 197]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلتُ ما قلت، إن كان صوابًا فمن الله، وإن كان خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفَّارًا. الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. أما بعد: فاعلموا - عباد رعاكم الله - أننا اتفقنا على ضرورة الأخذ بمبدأ الوقاية والإقرار به، فإن المشكلة حينئذٍ لن تكون في كيف نقِي أنفسنا، وإنما هي في متى نقِي أنفسنا و

10 جمادى الثانية 1432 - الجليس الصالح والجليس السوء - الشيخ أسامة خياط

خطبة المسجد الحرام - 10 جمادى الثانية 1432 - الجليس الصالح والجليس السوء - الشيخ أسامة خياط الخطبة الأولى الحمد لله فالق الحبِّ والنوى، أحمده - سبحانه -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خالقُ الأرض والسماوات العُلى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله النبيُّ المُجتبى والرسولُ المُرتضى والحبيبُ المُفتدَى، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أئمة الهُدى ونجوم الدُّجَى. أما بعد: فاتقوا الله - عباد الله -، وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [البقرة: 281]. أيها المسلمون: عندما تُحدِقُ الأخطار وتعظُم الخُطوب وتُطِلُّ الفتنُ برؤوسها ينظرُ أولو الألباب إلى الشباب نظرَ أصحاب الثروات إلى ثرواتهم، فيرون لزامًا عليهم المُسارعة إلى سلوك كل سبيلٍ يبلُغُون به ما يريدون من الحِفاظ عليهم والذبِّ عنهم بما يحفظُ الحَوزَة، ويردُّ الغائلة، ويدفعُ الصَّولة، ويدرأُ العُدوان؛ ذلك أن للحفاظ على شباب الأمة أعظمَ الآثار في صيانة كِيانها وإعلاء صُروح نهضتها لتأخذ مكانها اللائقَ بها بين الأمم، ولتكون كما أراد الله: خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران: 110]. وإنما يكون ذلك بكمال العناية بهم، وجمال الرعاية لهم؛ لأنها من أقوى البواعِث على امتلاك القلوب، والأخذ بمجامع النفوس. وكما تكون هذه العناية والرعاية غرسًا لصحيح العقيدة، وحراسةً لشرائع الدين بالعلم والعمل، وبذرًا لمحاسن الأخلاق، وتعويدًا على صالح العادات والمُفرَط من المثالب والمعايب وكل ما يُعتَذر منه؛ تكون أيضًا بحُسن تعهُّدهم في باب المُصاحبة والمُجالسة والمُعاشَرة؛ لأنها من أعظم الأسباب فيما يكون من تقدُّم أو تأخُّر، ونجاحٍ أو إخفاقٍ، وقلقٍ أو اطمئنان. ولما كان للصاحب أو الجليس أثرُه العميق في نفس صاحبه وجليسه فإن من الحكمة البالغة: الاحتياط في أمره، والتريُّث في وصل حبل وُدِّه حتى تُبلَى أخبارُه، ويتميَّز معدِنُه، ويُوثَق بدينه وخُلُقه. وقد عبَّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن هذا أبلغَ تعبيرٍ؛ فقال في مقام التبصير والتحذير: «المرءُ على دين خليلِه؛ فلينظُر أحدُكم من يُخالِل»؛ أخرجه الإمام أحمد في "مسنده"، وأبو داود، والترمذي واللفظُ له، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - بإسنادٍ حسنٍ. لأن الطبع يسرقُ من الطبع، وسُرعان ما يمضِي المرءُ في الطريق الذي يُؤثِره ويختارُه جليسُه، ولذا صوَّر نبيُّ الرحمة - صلى الله عليه وسلم - هذا المعنى في مثلٍ نبويٍّ بليغٍ؛ فقال: «مثلُ الجليس الصالح والجليس السوء كحالِ المِسكِ ونافخِ الكِير؛ فحامِلُ المِسك إما أن يُحذِيَك، وإما أن تبتاعَ منه، وإما أن تجِدَ منه ريحًا طيبة، ونافخُ الكِير إما أن يُحرِقَ ثيابَك، وإما أن تجِدَ ريحًا خبيثة»؛ أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -. فأما إن كان الجليسُ ممن يسُدُّ الخَلَّة، ويغفرُ الزَّلَّة، ويُقيلُ العَثْرة، ويستُر العَورة، ويقودُ جليسَه إلى الخير ويُراقِبُه فيه، ويُعينُه عليه، ويُزيِّنُ له الطاعة، ويُقبِّح له المعصية، ويحُولُ بينه وبينها بتذكيره بما تعودُ عليه من ذلٍّ وخِزيٍ وعقابٍ في الدنيا والآخرة؛ فذلك هو الجليسُ الصالحُ الذي يسعَدُ به جليسُه، وتحسُنُ بمجالسته عاقبتُه. وأما إن كان الجليسُ ممن يُزيِّنُ القبيحَ، ويُحسِّن السوءَ من الأقوال والأفعال والعقائد الفاسدة، والنِّحَل الضالة، ويحُثُّ على الانضواء تحت لوائها، والتردِّي في وَهدتها؛ فذلك هو الجليسُ السوء الذي يشقَى به جليسُه؛ لأنه كان وبالاً عليه؛ إذ أطاعه وأسلمَ إليه قِيادَه، فانتهى به إلى البوار وعذاب النار، فقرَعَ سِنَّ الندم حين لا ينفعُ ندم، وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا [الفرقان: 27 - 29]. فلا عجَبَ أن تنقلِبَ خُلَّة هذا الفريق إلى عداوة، الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف: 67]. وهذا كما قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: "شأنُ كل مشتركين في غرضٍ يتوادُّون ما داموا مُتساعدين على حصوله، فإذا انقطعَ ذلك الغرض أعقبَ ندامةً وحُزنًا وألمًا، وانقلَبَت تلك المودةُ بُغضًا ولعنًا وذمًّا من بعضهم لبعض لما انقلب ذلك الغرضُ حُزنًا وعذابًا، كما يُشاهَد في هذه الدار من المُشتركين في خِزية، إذا أُخِذوا وعُوقِبوا فكلُّ مُتساعِدَيْن على باطلٍ مُتوادَّيْن عليه لا بدَّ أن تنقلِبَ مودتُهما بُغضًا وعداوة". انتهى. ولا عجَبَ أن يضِنَّ اللبيبُ بصُحبته ومُجالسته؛ فلا يجعلها إلا لأهل الإيمان، ولا يبذُلُها إلا لأصحاب التُّقى؛ عملاً بتوجيه خير الورى - صلوات الله وسلامه عليه - في قوله: «لا تُصاحِب إلا مؤمنًا، ولا يأكل طعامَك إلا تقيٌّ»؛ أخرجه الإمام أحمد في "مسنده"، وأبو داود في "سننه"، والترمذي في "جامعه" بإسنادٍ حسنٍ. إن المُصاحبَة - أيها الإخوة - يجب أن تكون خالصةً لوجه الله، نقيةً من الأغراض، بعيدةً عن الأهواء؛ بأن تنشأ وتنمو في رِحاب الإيمان، محكومةً بسلطان العقيدة ونِظام الشريعة، بما فيه من أوامر ونواهٍ يستوحيها المؤمنُ في كل اتجاهات قلبه وحركات وسكَنَات جوارِحه، هنالك يرتقِي بحبِّه أهل الخير والصلاح فوق منزلته في الدار الآخرة درجات، فيلتحقُ بمن أحبَّ وإن لم يعمل مثل عمله. كما جاء في الحديث الذي أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: جاء رجلٌ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! كيف ترى في رجلٍ أحبَّ قومًا ولمَّا يلحَق بهم؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «المرءُ مع من أحبَّ». هذا؛ وقد كان لتطوُّر وسائل العصر - لا سيما في مجال الإعلام الحديث بشبكات معلوماته، وقنواته، وما اشتملت عليه من مواقع تواصلٍ وغرفِ مُحادثةٍ وغيرها - كان لهذا التطوُّر أثرُه في الانتقال بمعنى المُجالسة والمُصاحبة إلى معانٍ جديدة لم تكن معروفةً من قبل، وأضحَى لهذه المُجالسة التي تكون عبر هذه المواقع من قوة التأثير ما يربُو على غيرها؛ لاتساع دائرة استخدامها، وتنوُّع وتعدُّد ثقافات ومشارِب وبُلدان مُستخدميها. وهذا يفرِضُ علينا عِبئًا ثقيلاً، ومسؤوليةً مُضاعفة على عاتق الآباء والأمهات، والعلماء والدُعاة، والمُربِّين والمُربِّيات، وغيرهم من ذوي الشأن في سبيل الحِفاظ على شباب الأمة وتحصينهم. وإن في جهود المُخلِصين وفيما أُوتوا من حِنكةٍ وحكمةٍ ودرايةٍ، ونيةٍ صادقةٍ، ورغبةٍ في بذلِ النُّصح، وحرصٍ على الخير ما يُسدِّد الله به الخُطَى، ويُبارِك السعيَ، ويُبلِّغُ الآمال. نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنه نبيه - صلى الله عليه وسلم -، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ، إنه هو الغفور الرحيم. الخطبة الثانية إن الحمد لله نحمده ونستعينُه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد. أما بعد، فيا عباد الله: إن أظهر صفات الجليس الصالح وأجلَّها وأقواها أثرًا في قلب وعقل جليسه: أنه ذو قلبٍ سليم، والقلبُ السليمُ الذي ينتفعُ به صاحبُه في دُنياه وحين يأتي ربَّه يوم القيامة قد اختلفت عباراتُ الناس في معناه، لكن الجامع لذلك كما قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: "أنه الذي سلِمَ من كل شهوةٍ تُخالِف أمرَ الله ونهيَه، ومن كل شُبهةٍ تُعارِضُ خبرَه، فسلِمَ من عبودية ما سواه، وسلِمَ من تحكيم غير رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فسلِمَ في محبة الله مع تحكيمه لرسوله في خوفه ورجائه والتوكُّل عليه والإنابة إليه والذلِّ له وإيثار مرضاته في كل حال، والتباعُد من سخَطه بكل طريقٍ، وهذه حقيقةُ العبودية التي لا تصلحُ إلا لله وحده، فالقلبُ السليم: هو الذي سلِمَ من أن يكون لغير الله فيه شركٌ بوجهٍ ما؛ بل قد خلُصَت عبوديتُه لله تعالى إرادةً ومحبةً وتوكُّلاً وإنابةً وإخباتًا وخشيةً ورجاءً، وخلُصَ عملُه لله؛ فإن أحبَّ أحبَّ في الله، وإن أبغضَ أبغضَ في الله، وإن أعطى أعطى لله، وإن منعَ منعَ لله". فاتقوا الله - عباد الله -، واتخذوا من جُلساء الخير أفضل ما تعتدُّون به لبُلوغ رضوان الله، وصلُّوا وسلِّموا على خير خلق الله: محمد بن عبد الله؛ فقد أُمِرتم بذلك في كتاب الله؛ حيث قال - سبحانه -: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56]. اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الآل والصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا خير من تجاوزَ وعفا. اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزة الدين، ودمِّر أعداء الدين، وسائرَ الطغاة والمُفسدين، وألِّف بين قلوب المسلمين، ووحِّد صفوفهم، وأصلِح قادتَهم، واجمع كلمتَهم على الحق يا رب العالمين. اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم - وعبادك المؤمنين المجاهدين الصادقين. اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، وهيِّئ له البِطانة الصالحة، ووفِّقه لما تحب وترضى يا سميع الدعاء، اللهم وفِّقه ونائبَيْه وإخوانه إلى ما فيه خير الإسلام والمسلمين، وإلى ما فيه صلاح العباد والبلاد، يا من إليه المرجع يوم التناد. اللهم اكفِنا أعداءَك وأعداءنا بما شئتَ، اللهم اكفِنا أعداءَك وأعداءنا بما شئتَ يا رب العالمين، اللهم اكفِنا أعداءَك وأعداءنا بما شئتَ يا رب العالمين، اللهم إنا نجعلك في نحور أعدائك وأعدائنا، ونعوذ بك من شرورهم، اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم، اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم. اللهم أحسِن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجِرنا من خِزي الدنيا وعذاب الآخرة. اللهم أصلِح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلِح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلِح لنا آخرتنا التي فيها معادُنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموتَ راحةً لنا من كل شر. اللهم أصلِح أحوال المسلمين أجمعين، وارزقهم العملَ الصالحَ والفقهَ الدين، وقِهِم شر الفتن ما ظهر منها وما بطَن، اللهم آمِنهم في أوطانهم، وانصرهم على عدوِّك وعدوِّهم يا رب العالمين. اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحوُّل عافيتك، وفُجاءة نقمتك، وجميعَ سخطك.

17 جمادى الثانية 1432 - السعادة في الإعتصام بالكتاب والسنة - الشيخ عبد الرحمن السديس

خطبة المسجد الحرام - 17 جمادى الثانية 1432 - السعادة في الإعتصام بالكتاب والسنة - الشيخ عبد الرحمن السديس الخطبة الأولى إن الحمد لله، نحمدك ربي ونستعينُك ونستغفرُك ونُثنِي عليك الخير كلَّه، سبحانك ربنا وبحمدك، توالَت مِنَنُك علينا وُحدانًا ووفدًا، الحمد لله حمدًا دائمًا وكفى، شكرًا على سيبِ جدواه الذي وكَفَا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً نستلهِمُ به التوفيقَ والرُّشدَا، وأشهد أن نبينا وسيدنا وحبيبنا محمدًا عبد الله ورسوله أزكى البريَّة سيدًا وعبدًا، صلَّى الله عليه وعلى آله الأطهار محتِدًا لم يزَل يندَى، وذريَّتِه المُبارَكين ثناءً ومجدًا، وصحابته الأبرار، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ ممن هامَ بهم اقتداءً ووجدًا، سلِّم إله العرش تسليمًا عديدًا مديدًا هم به أحرى وأجْدا. أما بعد، فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حقًّا حقًّا؛ فتقواه تعالى هي الحُلَّة الأنقى والعصمةُ الأبقى، تصلح أحوالُكم وترقَى، وتبلُغوا من الأمجاد شأوًا مجيدًا وسَبقًا. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102]. فمن تدرَّع بالتقوى استنارَ بها وباتَ في بهجةِ الأعمال جذلانًا فسِرْ أمامك دربُ الخير مُزدهِرٌ شُجونُه امتلأت روحًا وريحانًا أيها المسلمون: حينما تكثُر الفتنُ في الأمة والمُتغيِّرات، وتدلهِمُّ الخُطوبُ والمحنُ في المجتمعات، ويُخيِّمُ على سمائها الصافية سُحُبُ المخالفات، فيلتبِسُ الحق بالباطل، ويختلطُ الهدى بالضلال؛ فإن الأمة لن تجِدَ إلا في التمسُّك بالكتاب والسنة المُستعصَم؛ لأن في الكتاب والسنة الفوزَ والنجاةَ من المحَن، والمخرجَ من الورَطات والفتن. وإنه في هذا العصر وبعد أن تسرَّبَت إلى صفوف الأمة ألوانٌ من المسالك المُنحرفة، وتسلَّلت صنوفٌ من الطرق الفاسدة، واختلطَ الحابلُ بالنابل، وتشعَّبت المناهجُ والغايات، وعمَّت الفتن والابتلاءات، وتفرَّقت الأمةُ شيَعًا وأحزابًا، وتاهَت في أيام الزمان أعوامًا وأحقابًا، وثارَت عليها عواصفُ التغيير والمُستجِدَّات، وهبَّت عليها أعاصير التموُّجات والتحوُّلات، وتداعَت عليها الأمم؛ فإنه لا منجَ لهذه الأمة إلا بالتمسُّك بكتاب ربها وسنة نبيها - صلى الله عليه وسلم -. يقول - سبحانه -: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى [طه: 123]، ويقول - عليه الصلاة والسلام -: «تركتُ فيكم ما إن اعتصمتُم به فلن تضِلُّوا بعدي أبدًا: كتابَ الله وسنتي»؛ خرَّجه مالك في "الموطأ". معاشر المسلمين: وإن الوهَن الذي أصابَ الأمة، والضعفَ الذي حلَّ عليها كالغُمَّة، حتى انقلَبَت الموازين واختلفَت المقاييس، وانتكَسَت الرايات، واحلولَكَت الظلمات، وعلَت الفتنُ كأمواج البحار الهادِرة، وصار أفرادُ الأمة كضرائر الحسناء، وفشَت فيهم مُعضِلات الأدواء، فعَلا صوتُ الغوغاء فوق الحُكماء. فالوحيُ كافٍ للذي يُعنَى به شافٍ لداء جهالةِ الإنسان واللهِ ما قال امرؤٌ مُتحذلِقٌ بسواهما إلا من الهَذَيَان إخوة الإسلام: وإن امتطاءَ صهوة الأهواء، والافتتان بالآراء، والبُعد عن كتاب الله وسنة رسوله - عليه الصلاة والسلام - لهُوَ الضلال والخُسران والخِزيُ والحِرمان؛ حيث الفتنةُ المُشتدَّة، والمحنُ المُتلاحقةُ المُمتدة، وقد قال ربُّنا - سبحانه - وهو أصدق القائلين -: وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [آل عمران: 101]. قال الإمام الطبري - رحمه الله -: "ومن يتعلَّق بأسباب الله، ويتمسَّك بدينه وطاعته فقد وُفِّق لطريقٍ واضح، ومحجَّةٍ مُستقيمةٍ غير مُعوجَّة". وفي الحديث: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن السعيدَ لمن جُنِّبَ الفتن، إن السعيدَ لمن جُنِّبَ الفتن، ولمن ابتُلِي فصبَر فواها»؛ خرَّجه مسلم في "صحيحه". وأحييتَ في الإسلام علمًا وسنةً ولم تبتدع حكمًا من الحكم أزحمَا ففي كل يومٍ كنتَ تهدِمُ بدعةً وتبنِي لنا من سنةٍ ما تهدَّمَا يقول الإمام مالك - رحمه الله -: "لا يصلُح آخرُ هذه الأمة إلا بما صلح بها أولُها"، فإذا كان أولها صلَح بالكتاب والسنة فلن يصلُح آخرُها إلا بالكتاب والسنة. أمة الإسلام: لقد أمرنا الله تعالى بالرجوع إليه وإلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - عند التنازُع والاختلاف، يقول - سبحانه -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء: 59]. قال مجاهد - رحمه الله - في قوله تعالى: فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ: "أي: فرُدُّوه إلى كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -". وأخرج أهلُ السنن من حديث العرباض بن سارية - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: « .. فإنه من يعِش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا؛ فعليكم بسُنَّتي وسنةِ الخلفاء الراشدين المهديين من بعيد، عضُّوا عليها بالنواجِذ، وإياكم ومُحدَثات الأمور؛ فإن كل بدعةٍ ضلالة». ولذلك فإن الواجبَ على الأمة الرجوع في المُشكِلات - لا سيما عند الأزمات - إلى الراسخين في العلم الصادقين في الدين؛ فهم أكثرُ الناس فقهًا وعلمًا، وأعلم الناس بالحلال والحرام ومقاصد الأحكام، الذين يعرفون المُحكَم من المُتشابِه، كما جاء عنهم في قوله - سبحانه -: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ [آل عمران: 7]. فالرجوع للعلماء الراسخين في العلم - لا سيما في زمن الفتن والنوازل - ليس اختيارًا؛ بل هو فرضٌ شرعي، وأمرٌ إلهي. يقول تعالى: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء: 83]. ومن منارات ودلائل الاهتداء في الفتن: البُعد عن كل ما يُفضِي إلى الفُرقة والاختلاف؛ ومن ذلك: ما يحصُل من بعض المُجادَلات العقيمة التي تُثير الشحناء والبغضاء، فقد كرِه النبي - صلى الله عليه وسلم - من المُجادَلة ما يُفضِي إلى الاختلاف والتفرُّق؛ فقد روى الترمذي في "سننه" أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج على قومٍ من أصحابه وهم يتجادَلون في القدَر، فكأنما فُقِئَ في وجهه حبُّ الرمان، وقال: «أبِهذا أُمِرتم؟ أم إلى هذا دُعيتُم؟ أن تضربوا كتابَ الله بعضَه ببعض، إنما هلكَ من كان قبلكم بهذا، ضربوا كتابَ الله بعضَه ببعض». أمة الإسلام: وإنه إزاء ما تعيشُه بعضُ بلاد المسلمين من فتنٍ وأحداث فإن كل غيورٍ مهتمٌّ بشأن أمته يُلاحِظُ أنه حدَثَت فتنٌ في تضاعيف هذه الأحداث تُشعِلُ فتيلَها والأُوَار، وتسكُبُ الزيتَ على النار، وتعمل على إذكاء النَّعَرات والعصبيات التي تُفاقِمُ الأوضاع سوءًا، وتُمكِّن لأعداء الأمة استغلالَها لأغراضٍ خطيرة، مما يتطلَّبُ الوعيَ والإدراكَ لما يُحاكُ للأمة الإسلامية من مُؤامرات ترمي إلى الإضرار بوحدتها والعبَث بأمنها واستقرارها، وتشحنُ النفوس نحو الفتنة والفُرقة بدعواتٍ مُضلِّلة، وشائعاتٍ مُغرِضة تنالُ من الثوابت والمُسلَّمات، وتطالُ الإساءة للرموز والمُحكَمات، أو المُزايَدة على الشريعة والتهجُّم على دُور العبادة ليتحقَّق للأعداء ما يُريدون من إهدارٍ للطاقات، وتدميرٍ للمُقدَّرات، بما أفضى إلى إشغال أمتنا عن كُبرى قضاياها ونكئِ مآسيها في ذكرى نكبتِها. ولعل الغُيُر يتفاءَلون بأَخَرة بالمُصالحة والاتفاق بعد التجافي والافتراق. أمة التوحيد والوحدة: وإن من الفتن التي ضاعَفت المِحنُ علَّتها، ودأَبَت على تأجيج جذوَتها: فتنةَ إذكاء النَّعَرات الطائفية المَقيتة المُحتدَّة، والعصبية الشتيتة المُمتدَّة التي انحرَفَت عن الولاء الصحيح، وفرَّقَت صفَّ الأمة الصريح. إن ركوبَ موجة النَّعَرات الطائفية الجانحة المُتدرِّعة بحُجَجٍ واهية - وفي هذه الآونة تحديدًا - لم يكن من دَيدَنه إلا تصديرُ الفتن والقلاقِل والبغضاء، وصناعةُ الزوابِع والشحناء، وإفسادُ العلاقات البريئة بين أفراد المجتمع الواحد، وبين أفراد الأمة جمعاء؛ تشتيتًا للوحدة الإسلامية، إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 92]، دون عقلٍ رادِع، ولا ضميرٍ وازِع. وإن من المُقلِق للغَيُورين: أن تلكم النَّعرات الرَّعناء قد أمِرَ أمرُها وازداد، وتوسَّع مدُّها وارتاد، ولكن دون إنصافٍ أو سداد؛ حيث تتناولُ الحقائقُ المُدلَّلة الراسخة بالمُغالطات الماسِخة، وتتصدَّر الحقَّ الصُّراح، بالتمويه والجُناح، وأسانيد مبتورة الجَناح. ولعَمرُ الله؛ إنه لا فوز للأمة وسعادة للخلق إلا بالدين الحق على هدي الوحيَيْن الشريفين. وإن كتابَ الله أعدلُ حاكمٍ فيه الشِّفا وهدايةُ الحيرانِ والحاكمُ الثاني كلامُ رسوله ما ثمَّ غيرُهما لذي إيمانِ وصدق الله العظيم حيث يقول في كتابه الكريم - وهو أصدق القائلين -: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام: 153]. بارَك الله لي ولكم في الكتاب والسنة، ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين والمسلمات من جميع الذنوب والخطيئات، فاستغفروه وتوبوا إليه، إن ربي لغفورٌ رحيم. الخطبة الثانية الحمد لله على نعمٍ أثنَت بها الجوارِحُ والسرائر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً لهَجَت بها الألسُن والضمائرُ، وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله أزكى الأوائل والأواخر، من اقتفى هديَه حازَ المآثِر والمفاخِر، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وذريَّته النجومِ الزواهِر، وصحابته البالغين أسمى البشائر، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله - عباد الله -، والزَموا دينَ الحق وما له من زكِيِّ الشعائر تفوزوا بخير الجزاء وعظيم الذخائر، وتُهدَوا إلى أسنَى الدلائل والبصائر. معاشر المسلمين: وفي خِضَمِّ هاتيك الأمواج وزخارِها الثَّجَّاج، واستشرافًا لآفاق مُستقبلٍ أزهرٍ أغرّ؛ لزِمَ المجتمعات والأمم أن يُعيدَا صياغةَ أذهان الجيل من الشباب والفَتَيات، وتنمية الوعي الإسلامي الصحيح لديهم، في تواكُبٍ لأحداث العصر ومُتطلَّباته، وتطوُّراته وتحدياته، واستنهاضِهم للاعتزاز بالهديَيْن الشريفين: كتابِ الله وسنةِ نبيه - صل

24 جمادى الثانية 1432 - شرف الانتساب للسلف الصالح - الشيخ صالح آل طالب

خطبة المسجد الحرام - 24 جمادى الثانية 1432 - شرف الانتساب للسلف الصالح - الشيخ صالح آل طالب الخطبة الأولى إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له عزَّ عن الشبيه وعن النِّدِّ وعن المَثيل وعن النَّظير، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11]، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهَدي هديُ محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشرَّ الأمور مُحدثاتُها، وكلَّ مُحدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالة، وكلَّ ضلالةٍ في النار. ألا وإن خير الوصايا بعد المحامِد والتحايا: الوصيةُ بتقوى الله العظيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102]. من اتقى اللهَ كان معه، وأحبَّه وتولاَّه، إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل: 128]، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [التوبة: 4]، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [التوبة: 4]. فإذا حظِيَ العبدُ بمعيَّة الله هانَت عليه المشاقُّ، وانقلَبَت المخاوفُ في حقه أمنًا، فبالله يهُون كل صعبٍ، ويسهُلُ كل عسيرٍ، ويقرُب كل بعيد، وبالله تزول الهموم والغموم، وتنزاحُ الأكدار والأحزان؛ فلا همَّ مع الله، ولا غمَّ ولا حزن. وإذا كان الله معك فمن تخاف؟! وإذا كان عليك؛ فمن ترجو؟! أيها المسلمون: الحضارةُ الإنسانية بمُكتشفاتها ومُخترعاتها غالبًا ما يكون آخرُها خيرًا من أولها بخلاف أديان الناس ومُعتقداتهم؛ فإن مُتديِّني كل دينٍ صحيحٍ يكون أولهم خيرًا من آخرهم، وسلَفُهم أهدى من آخرهم، ذلك أن الحضارة بدأت تحبو، في حين أن الأديان وُلِدت واقفة، والحضارةُ تراكمٌ معرفي، أما الدين فهو وحيٌ مُنزَّل وهديٌ مُحكَم. والفرقُ بين الأتباع الأوائل لكل دينٍ صحيح وبين مُتأخِّريهم كمثل الفرق بين الماء عند منبعه والماء عند مصبِّه بعدما جرى وخالطَ ما خالطَ من الشوائب. لذا فإن خير يهود: أنبياؤهم وأحبارُهم الأولون، وخيرَ النصارى: عيسى ابن مريم وحواريُّوه، وخيرَ المسلمين: محمد - صلى الله عليه وسلم - وصحابتُه المرضيُّون ثم الذين يلُونهم ثم الذين يلُونَهم. وكلما غبَرت أمةٌ أو قرنٌ من الناس طُوِي معهم علمٌ ورُفِع معهم فضل، مِصداقُ ذلك ما ورد في وصية الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه قبل الرحيل: «إنه من يعِش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسُنَّتي وسُنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسَّكوا بها، وعَضُّوا عليها بالنواجِذ، وإياكم ومُحدثات الأمور؛ فإن كل مُحدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالة». وإذا شئتَ أن تعرف قُربَ أهل دينٍ من دينهم فانظر إلى قُربهم من سلَفهم، فكلما اقتربوا اهتدَوا، وكلما جفَوا ضلُّوا، أما إن لعنَ خلفُ أمةٍ سلَفَهم فإنه لا خير فيهم؛ فهم دسيسةُ عدوٍّ، وصنيعةُ كائد. قال الإمام أحمد - رحمه الله -: "إذا رأيتَ الرجلَ يذكر أحدًا من الصحابة بسوءٍ فاتَّهمه على الإسلام". ولأجل هذا زخرَت مُصنَّفاتُ الأئمة بالحثِّ على التمسُّك بحُجَجِ السلف عند الاتباع وفهمِ نصوص الوحيَيْن؛ فهو أمَنةٌ من الانحراف، وضمانةٌ من الضلال. أيها المسلمون: يتأكدُ الحديثُ عن المنهج الحق في وقتٍ تعدَّدت فيه المرجعيَّات، وتبايَن الاستمداد، وقلَّ العلماء، وندَر الناصحون، حين تكثُر الشُّبَه، ويُلبَّسُ الحق على أهله، ويحُولُ بينهم وبينه دعاةُ الضلالة وعِداةُ الهداية وأدعياءُ العلم، وهم أقربُ إلى الضلال وإن تباكَوا على الإسلام ورسوله والآل. وحين أدرك العدوُّ هذه الحقيقة سعى لفصل خلف هذه الأمة عن سلفها، وإيغار قلوب مُتأخِّريها على مُتقدِّميها، وتشويه سِيَرهم وتواريخهم. عباد الله: ولأن الأمم تُؤتَى - في الغالب - من جهل أبنائها؛ فقد أكمل بعضُ من نُحسِنُ بهم الظنَّ من جهلة الأمة مشروعَ عدوهم، فانتسَبوا للسلف وتسمَّوا باسمهم، وأنشأوا جماعاتٍ ومُنظَّماتٍ اختطفَت ذلك الاسم الشريف واستأثرَت به، ثم ارتكَبَت باسمه انحرافات، وافتعَلَت خُصومات. ولم يُفوِّت عدوُّهم تلك الفرصة فدفع بعملائه ليركَبوا معهم المَوجة، ويُوسِّعوا الهُوَّة بالانتساب للسلف الصالحين، ونصَّبوا أنفسَهم مُمثِّلين للسلفية، فحُمِل خطؤهم على صوابها، وغُلُوُّهم على وسطيَّتها واعتدالها، حتى صار الإسلام يُعادَى باسم مُحاربة السلفية، وصار الإعلامُ يصِف المُتطرِّفين والإرهابيين بأنهم سلفيُّون، ووُصِفت عودةُ الأمة لدينها الصحيح بالسلفية المُتطرِّفة تنفيرًا وتشويهًا للتديُّن، وأصبحت السلفيَّةُ سُبَّةً وجريمةً يُلاحَقُ أربابُها، ويَتبرَّأ منها أصحابُها الذين هم أصحابُها، وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا [الفتح: 26]. يا أيها المسلمون: سلفُكم هو محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - وصحابتُه والقرون المُفضَّلة؛ فبأيِّ كتابٍ وجدتموهم يقتلون المسلمين، أو يخونون المُستأمَنين، أو يدعون من دون الله الأئمةَ والصالحين، أو يتبرَّكون بالأضرحة وقبور السالفين، أو يُثيرون الفتن بين المسلمين؟! سلفُكم - يا أيها المسلمون - حريصون على جمع الكلمة، ووحدة الصفِّ، وتنقية الدين من تحريف الغالين، وانتحال المُبطِلين، وتأويل الجاهلين، سلفُكم كانوا أهدى طريقًا، وأقوم مسلكًا، وأتبعَ للكتاب والسنة، وأعلمَ بالوحي؛ فكانوا حقًّا مسلمين. الانتسابُ للسلف ليس دعوى يدَّعيها شخصٌ أو جماعة، أو يتبنَّاها حزبٌ أو مُنظَّمة؛ بل هي طاعةٌ واتباع، ووحدةٌ واجتماع، ونبذٌ للفُرقة والاجتماع. منهج السلف الصالح هو الإسلام الأول الذي عرفه أبو بكرٍ وعمر وعثمانُ وعلي، هو النَّهجُ الذي قاتلَ لأجله خالدٌ وسعد، واستُشهِد في سبيله حمزة ومُصعب، هو الجادَّة الذي سلَكها ابنُ مسعودٍ وابنُ عباس، وهو السبيلُ الذي ترسَّمه الحسنُ البصري والنَّخعيُّ والشعبيُّ، وهو الفِجاجُ التي طرَقَها أبو حنيفة ومالك والشافعيُّ وأحمد، هو الطريق الذي خطا فيه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي، وأولئك كل أولئك وكثيرٌ غيرهم على منهجهم، سِيَرهم محفوظة، وآثارُهم معلومة، وكتبُهم مُسطَّرةٌ ومخطوطة. فالسعيدُ من تمسَّك بما كان عليه السلف، واجتنبَ ما أحدثَه الخلف، وما أسهل الاتباع وأيسر الاهتداء إن عافَى الله من دعاة الضلالة. وقد شهِد الله تعالى بقوله: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة: 100]. عن عمران بن حُصين - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خيرُ الناس قرني، ثم الذين يلُونهم، ثم الذين يلُونَهم .. » الحديث؛ أخرجه البخاري ومسلم. أيها المسلمون: إن منهج السلف الصالح هو المنهجُ الذي يُمثِّل هذا الدين العظيم في شُموله وصفائه كما يُمثِّل المسلمين في اجتماعهم وائتلافهم، إنه اسمٌ ينتظِمُ الإسلامَ كلَّه كما ينتظِمُ جميعَ المسلمين الثابتين على الإسلام الذي كان عليه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابُه، فهو شريعةُ الله في صفائها، وهو عقيدةُ الحق في نقائها، لا يحقُّ لجماعةٍ أو فردٍ أن تحتقِرَه. فالذي يرسمُ حدودَ هذا المنهج هو القرآنُ الكريم، والذي يُحدِّدُ معالمَه سنةُ النبي الخاتم، وهو الأمَنةُ من كل خلافٍ واختلاف، بذلك المنهج تُعرفُ الحادثات من الدين فتُتَّقى، ويُعرفُ الأدعياء في علم الشريعة فيُحذَرون، ويُعرف الشاقُّون لصف الأمة ووحدتها فيُجتنَبون، ويُعرف المُخلِصون المُهتَدون فيُتَّبعون. تكمُن أهميةُ نهج السلف الصالح في كونه التطبيقَ العمليَّ الأول للإسلام، تحت سمع وبصر رسول السلام - عليه الصلاة والسلام -، وتمثَّله التابعون بعد ذلك تحت سمع وبصر الصحابة المشهود لهم بالخيريَّة والاصطفاء، وكذلك تابِعوهم؛ فمن الذين يُزايِدُ على ذلك النهج، ومن يجرؤُ أن يدَّعيَ أن الحق خلافَه؟! أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء: 59]. بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة، ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم. الخطبة الثانية الحمد لله وكفى، خلقَ خلقَه واصطفَى منهم من اصطفَى، وجعل خيرتَهم أنبياءهم ومن ترسَّم سبيلَهم واقتفَى، وتبارك الله مُثيب الطائعين لأمره، ومن خالفَ منهم إن شاء عذَّب أو عفا، وأشهد أن إله إلا الله وحده لا شريك له ولا مَثيل ولا شبيه ولا كِفَا، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه المُصطفى، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وأصحابه ومن لمنهجهم اقتفَى. أيها المسلمون: منهجُ السلف منهجٌ شاملٌ في النظر والاستدلال، في التلقِّي والاستمداد، والارتباط بالنصِّ الشرعي، وفي نبذ المُحدثات في السلوك والتعبُّد، ولا يكادُ يخلو أحدٌ من المُنتسبين إليه في كل مكانٍ من خللٍ في الفهم أو في التطبيق، إلا أن الخلاف في امتثال هذا المنهج في بعض الفروع وجُزئيات لا يجوز أن يكون داعيًا إلى تصنيف المُخالِف، أو نبذه باسمٍ يقطعُ نسبتَه إلى السلف؛ فإن الأصل في كل مسلمٍ لم يتلبَّس بشيءٍ من الأصول البدعية المُحدثة أنه على نهج السلف وإن وقع في معصيةٍ أو خالفَ في مسألةٍ اجتهادية، ومن قال بالكتاب والسنة والإجماع كان من أهل السنة والجماعة، وشِعارُ المُخالف: مُفارقة الكتاب والسنة وإجماع المسلمين. أيها المسلمون: لقد تسرَّب الوهنُ للأمة بقدر ما تسرَّب إليها من البدع والمُحدثات، والانحراف عن الطريق الحق، وضعف الاستمداد من الوحييْن، وإذا كان المسلمون يلتمِسون اليومَ طريقًا للنهوض فليس لهم من سبيلٍ إلا وحدة جماعتهم، ولا سبيل إلى وحدة الجماعة إلا على الإسلام الصحيح، والإسلامُ الصحيح مصدرُه القرآن والسنة، وهذه خُلاصة الاتجاه السلفي. عودةٌ بالإسلام إلى معينه الصافي من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فلا تلتبِس عليكم السُّبُل، ولا تُضلَّنكم الأهواء، ولا يصُدَّنكم كثرةُ الأعداء أو سَطوة الأدعياء. اللهم أرِنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعَه، وأرِنا الباطلَ باطلاً وارزقنا اجتنابَه. هذا وصلُّوا وسلِّموا على خير البرية، وأزكى البشرية: محمد بن عبد الله، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغُرِّ الميامين، وا

1 رجب 1432 - الإعتصام بالكتاب والسنة سبيل النجاة - الشيخ أسامة خياط

خطبة المسجد الحرام - 1 رجب 1432 - الإعتصام بالكتاب والسنة سبيل النجاة - الشيخ أسامة خياط الخطبة الأولى الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، أحمده - سبحانه - وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أحكمُ الحاكمين وأسرعُ الحاسبين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله خاتمُ النبيين وإمام المرسلين وقائد الغُرِّ المُحجَّلين، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه الغُرِّ الميامين، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله - عباد الله -؛ فإن المرء لا يزالُ بخيرٍ ما اتقى الله وخالفَ نفسَه وهواه، ولم تُشغِله دنياه عن أُخراه. أيها المسلمون: حياةُ القلب وطُمأنينة النفس وسُمُوُّ الروح مطمحُ كل عاقلٍ، ومقصدُ كل لبيبٍ، ومُبتغَى كل أوَّاب، ومُنتهى أمل كل راغبٍ في حيازةِ الخير لنفسه، ساعٍ إلى خلاصها من أغلال الشقاء، واستنقاذها من ظلمات الحَيرة ومسالك الخيبة وأسباب الهلاك. وإذا كان لكل امرئٍ في بلوغ ذلك وجهةٌ هو مُولِّيها وجادَّةٌ يسلُكها؛ فإن المُوفَّقين من أُولي الألباب الذين يسيرون في حياتهم على هُدًى من ربهم، واقتفاءٍ لأثر نبيهم - صلى الله عليه وسلم - لا يملِكون إلا أن يذكروا - وهم يلعقون الجراح، ويتجرَّعون مرارة الفُرقة، وغُصَص التباغُض والتقاتُل - لا يملِكون إلا أن يذكروا آياتِ الكتاب الحكيم وهي تدلُّهم على الطريق، وتقودُهم إلى النجاة. حين تُذكِّرُهم بتاريخ هذه الأمة المُشرقِ الوضِيء، وتُبيِّنُ لهم كيف سمَت وعلَت وتألَّق نجمُها وأضاء منارُها، وكيف كان الرَّعيلُ الأول منها مُستضعفًا مهيبَ الجناح، تعصِفُ به أعاصيرُ الباطل، وترميه الناسُ عن قوسٍ واحدة، فآواه الله ونصرَه نصرًا عزيزًا مُؤزَّرًا، وأسبغَ عليه نعَمَه، وأفاضَ عليه البركات، ورزقَه من الطيبات، وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الأنفال: 26]. إنه إيواءٌ إلهي، وتأييدٌ ربَّاني من الله القوي القادر القاهر الغالب على أمره، تأييدٌ مُحقِّقٌ وعده الذي لا يتخلَّفُ لهذه الأمة بالاستخلاف في الأرض، والتمكين تبديل خوفها أمنًا إن هي آمنت بالله، وعمِلت الصالحات، وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور: 55]. ولا غَروَ أن يبلغ ذلك الرعيلُ الأول من التقدُّم والرُّقِيّ مبلغًا لم يسبِقه إليه ولم يلحق به أحدٌ عاش على هذه الأرض؛ لأن الإيمان دليلُه، ولأن الإسلام قائدُه، ولأن الشريعة المُباركة منهجه ونظامُ حياته، فاستحقَّ الخيرية التي كتبَها الله لمن آمنَ به واتبع هُداه، وتبوَّأ مقام الشهادة على الناس يوم القيامة، كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران: 110]، وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة: 143]. وإن آيات الكتاب الحكيم لتُذكِّرهم أيضًا أن الاستقامة على منهج الله واتباعَ رضوانه وتحكيم شرعه لا يكون أثرُه مُقتصرًا على الحَظوة بالسعادة في الآخرة ونزول جنات النعيم فيها فحسب؛ بل يضمنُ كذلك التمتُّع بالحياة الطيبة في الدنيا، وتلك سنةٌ من سُنن الله في عباده لا تتخلَّفُ ولا تتبدَّل، مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: 97]، وقال - سبحانه -: الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ [هود: 1 - 3]. فحين تكون حَيدةُ الخلق عن دين الله، والجَفوة بينهم وبين ربِّهم بالإعراض عن منهجه؛ هنالك يقع الخلل، ويثور الاضطرابُ المُفضِي إلى فسادٍ وشرٍّ عظيم عانَت من ويلاته الأمم من قبلنا، فحلَّ الخِصامُ بينهم، واضطرَمت نارُ العداوة والبغضاء بعدما كانت المحبةُ والأُلفةُ تُظلُّهم بظِلالها، فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [المائدة: 14]. وهو خللٌ يتجاوز فسادُه وتتسعُ دائرتُه فتشمل الأرضَ والبيئةَ كلها، ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم: 41]. ذلك أن الصلة وثيقةٌ بين الكون وبين ما نأتي وما نذَر من أعمال، فإن مشَت على سَنَنٍ قويم وطريقٍ مستقيم بإدراك الغاية من خلق الإنسان، وتحقيق العبودية لله رب العالمين، والمُسارعة إلى مرضاته، والاستقامة على منهجه؛ فإن الله يُفيضُ عليهم من خزائن رحمته، ويُنزِّلُ عليهم بركاتٍ من السماء، ويُفيئُ عليهم خيرات الأرض، كما عبَّر عن ذلك نوحٌ - عليه السلام - في دعوته لقومه وحثِّه لهم على الإيمان بربهم والاستغفار لذنوبهم: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [نوح: 10 - 12]. وقال - عزَّ اسمُه - في شأن المُعذَّبين من أهل القرى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف: 96]. وتلك مساكنُ وآثار الذين ظلموا أنفسَهم بنبذ كتاب الله وراءهم ظِهريًّا، واتخاذهم أهواءهم آلهةً من دون الله، واتباعهم ما أسخط اللهَ، وكراهتهم رضوانه؛ فكانت تلك الديار مشاهِد عِظةٍ وذكرى لأولي الألباب، فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ [الحج: 45]. ولذا فإن أُولي النُّهى لا يملكون - وهم يسمعون نداء الله يُتلى عليهم في كتابه - إلا أن يُصيخوا ويستجيبوا لله وللرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ إذ هي دعوةٌ تحيا بالاستجابة لها القلوب، القلوب التي لا حياة لها إلا بالإقبال على الله تعالى وتحقيق العبودية له، ومحبته وطاعته، والحذر من أسباب غضبه، وبمحبة رسوله - صلى الله عليه وسلم - واتباع سنته، والاهتداء بهديه، وتحكيم شرعه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الأنفال: 24]. فإنه - سبحانه - يحُول بين المؤمن وبين الكفر وبين الكافر وبين الإيمان - كما قال ابن عباس - رضي الله عنهما - أي: فلا يستطيع أن يُؤمن ولا يكفر إلا بإذنه - عز وجل -. كما جاء في الحديث الذي أخرجه أحمد في "مسنده"، والنسائي وابن ماجه في "سننهما" بإسناد صحيح عن النواس بن سمعان - رضي الله عنه - أنه قال: سمعتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ما من قلبٍ إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن رب العالمين، إذا شاء أن يُقيمَه أقامَه، وإذا شاء أن يُزيغَه أزاغَه»، وكان يقول: «يا مُقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك»، قال: «والميزانُ بيد الرحمن يخفِضه ويرفعه». فاتقوا الله - عباد الله -، واستجيبوا لله وللرسول، واذكروا أن ربكم قد ضمِن لمن اتبع هُداه وسار على منهجه أن يُؤتِيَه المجدَ ويُبلِّغه الرِّفعةَ التي تصبُو إليها نفسُه، فقال - عزَّ اسمُه -: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ [الزخرف: 44]، وقال - سبحانه -: لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [الأنبياء: 10]؛ أي: شرفكم، ومجدكم، ومكارم أخلاقكم، ومحاسن أعمالكم، وفوزكم في الدنيا والآخرة. نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ، إنه هو الغفور الرحيم. الخطبة الثانية إن الحمد لله نحمده ونستعينُه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا. أما بعد، فيا عباد الله: إن المؤمن حين يقفُ على مُفترق طرقٍ، وحين تُعرضُ عليه شتَّى المناهج؛ لا تعتريه حيرةٌ، ولا يُخالِجه شكٌّ في أن منهج ربِّه الأعلى وطريقه هو سبيل النجاة وطريق السعادة في حياته الدنيا ويوم يقوم الناس لرب العالمين. وفي آيات الكتاب الحكيم مما قصَّ الله علينا نبأه في شأن أبينا آدم - عليه السلام - حين أُهبِط من الجنة بتأثير إغواء الشيطان وتزيين المعصية له أوضح الأدلة على ذلك، فأما المُتِّبعُ هُدى ربِّه فهو السعيدُ حقًّا، قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى [طه: 123]، وأما المُعرِض عن ذكر ربه بمخالفة أمره وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وبالأخذ من غيره فعاقبةُ أمره خُسره، ومعيشة ضنكًا، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى [طه: 124 - 126]. إنها معيشةٌ يُصوِّر واقعَها الإمام الحافظُ ابن كثيرٍ - رحمه الله - بقوله: "أي: ضنكًا في الدنيا؛ فلا طمأنينة له، ولا انشراحَ لصدره؛ بل صدرُه ضيِّقٌ حرِجٌ لضلاله وإن تنعَّم ظاهرُه، ولبِسَ ما شاء، وأكل ما شاء، وسكنَ حيث شاء؛ فإن قلبه ما لم يخلُص إلى اليقين والهُدى فهو في قلقٍ وحيرةٍ وشكٍّ، فلا يزالُ في ريبه يتردَّد، فهذا من

7 رجب 1432 - قاعدة سد الذرائع - الشيخ سعود الشريم

خطبة المسجد الحرام - 7 رجب 1432 - قاعدة سد الذرائع - الشيخ سعود الشريم الخطبة الأولى الحمد لله وليِّ الصالحين، ذي القوة المتين، الرحيم الرحمن الحق المبين، خلق كلَّ شيء فقدَّره تقديرًا، يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد: 39]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، أرسله الله بالحق بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، وجعلنا على المحجَّة البيضاء ليلُها كنهارها، لا يزيغُ عنها إلا هالك، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه والتابعين، ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا. أما بعد: فأوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله - سبحانه -، والعضِّ على دينه بالنواجِذ، وإياكم ومُحدثات الأمور؛ فإن كل مُحدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف: 90]. أيها الناس: لا يشك أحدٌ ذو لُبٍّ يعِي أو عينٍ ترمُق أننا نُعالجُ زمنًا اتَّسعت فيه الثقافات والمعارف بحلوها ومُرِّها، وزَيْنها وشَيْنها، وكبيرها وصغيرها، وسهُلت طريقة الوصول إليها حتى درجة الابتذال المُفقِد لقيمتها وأثرها، في صورةٍ لم تكن لمن قبلنا. بَيْد أن القُرَّاء ليسوا كأولئك القُرَّاء، والمُفكِّرين ليسوا كأولئك المُفكِّرين؛ حيث إن هذا الاتساع برُمَّته لم يكن خيرًا كلُّه، كما أنه ليس شرًّا كلُّه، كما أن هناك خلطًا وعصفًا ذهنيًّا خارج طاوِلة الاختصاص، فأصبح الحديثُ عن المعارف والثقافات والمسائل وقضايا الناس العامة كلأً مُباحًا لكل أحد كيفما اتفق، فقلَّ الفقهاء، وضعُف المُدقِّقون ذوو الأفهام الذين يُحسِنون الربط بين المُتماثلات، والفرزَ بين المُختلِفات، فجُمِع بين المُتعارِضَيْن، وأُلِّف بين المُتناقِضَيْن قسرًا بلا مِعيار. وإننا لو نظرنا نظرةً مُجملةً إلى الضرورات التي أجمعت الشرائعُ السماوية على حفظها وحمايتها لوجدناها خمسَ ضرورات، وهي: الدين، والنفس، والعقل، والمال، والعِرض، وأنه لا يمكن لأي شريعةٍ أن تُهمِل واحدًا منها، كما لا يمكن لأي مجتمعٍ بشري - أيًّا كان تديُّنه ومِلَّتُه ووعيُه - أن يُكتبَ له البقاء إذا لم يكن حفظُ هذه الضرورات غايةً من غاياته. وبما أن الشريعة الإسلامية هي خاتمةُ الشرائع؛ فإنها جاءت جامعةً مانعة لما يُحقِّق حفظَ هذه الضرورات بكل وجهٍ من الوجوه المُمكِنة، فقد يكون الحفظُ تارةً عن طريق النصوص الصريحة الصحيحة في كل ضرورة، وقد يكون في الإجماع أو القياس تارةً أخرى، كما أنه قد يكون تاراتٍ أخرى في قاعدةٍ مشهورة لا يمكن تجاهُلها، وهي القاعدة المعروفة بـ "سد الذرائع أو فتحها"، وهي التي تعنِينا في مقامنا هذا. فالذريعةُ - عباد الله - هي: ما كان وسيلةً وطريقًا إلى الشيء، وهذا هو أصلُها في اللغة، ولكنها صارت في عُرف الفقهاء عبارةً لما أفضَت إلى فعلٍ مُحرَّم، هذه هي الذريعةُ - يا رعاكم الله -. وأما سدُّها؛ فإنه يعني: تركَ مباشرتها، أو الحيلولة بينها وبين المقصود المُحرَّم بحائلٍ مادي أو معنوي. وإنه ما من شيءٍ في الشريعة الإسلامية إلا وهو راجعٌ إلى مسالة الذرائع سدًّا أو فتحًا؛ فالمُحرَّمات ذريعةٌ إلى النار، والواجبات والسنن ذريعةٌ إلى الجنة، فما أدى إلى الجنة من الذرائع فُتِح، وما أدى إلى النار سُدَّ. وإذا علِمنا ذلكم - عباد الله - فلنعلَم أن قاعدة سد الذرائع وفتحها قد أوجزَ الحديثَ عنها العلامةُ ابن القيم - رحمه الله - في عباراتٍ مُوجزةٍ؛ حيث قال: "لما كانت المقاصد لا يُتوصَّل إليها إلا بأسبابٍ وطرقٍ تُفضِي إليها كانت طرقها وأسبابُها تابعةً لها مُعتبرةً بها، فإذا حرَّم الربُّ تعالى شيئًا وله طرقٌ ووسائل تُفضِي إليه فإنه يُحرِّمها ويمنع منها؛ تحقيقًا لتحريمه، وتثبيتًا له، ومنعًا أن يُقربَ حِماه، ولو أباحَ الوسائل والذرائع المُفضِية إليه لكان ذلك نقضًا للتحريم، وإغراءً للنفوس به، وحكمةُ الله تعالى وعلمُه يأبى ذلك كل الإباء". اهـ كلامه - رحمه الله -. ثم لتعلَموا - عباد الله - أن قاعدة سد الذرائع ليست بدعًا من المسائل، ولا هي ظنًّا أو خرصًا يُدلِي به الخرَّاصون، كلا؛ بل هي قاعدةٌ ثابتةٌ بالشرع والعقل: فمن الشرع: قوله تعالى: وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام: 108]، فنهى الله - جل وعلا - عن سبِّ آلهة المشركين - وإن كان فيه مصلحة - إلا أنه يترتَّب عليه مفسدةٌ أعظم منها، وهي: سبُّ المشركين اللهَ - عز وجل -، وهذا دليلٌ على منع الجائز إذا كان يُفضِي إلى محرَّم، ومنه: قوله تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ [النور: 30]، وقوله: وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ [النور: 31]، والنظرُ في حدِّ ذاته مُباح؛ بل هو نعمةٌ من الله على عباده، ولكن لما كان نظرُ الرجال إلى النساء ونظرُ النساء إلى الرجال وسيلةً قد تُفضِي إلى الفتنة أمر الله بغضِّ البصر إلى غير المحارم. وقد جاء في سنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ما يدلُّ على ذلكم؛ فقد قال - صلوات الله وسلامه عليه -: «إياكم والجلوسَ في الطرقات». فقالوا: يا رسول الله! ما لنا من مجالسنا بُدٌّ نتحدَّث فيها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقَّه». قالوا: وما حقُّ الطريق يا رسول الله! قال: «غضُّ البصر، وكفُّ الأذى، وردُّ السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»؛ متفق عليه. فانظروا - يا رعاكم الله - كيف نهاهم عن الجلوس في الطرقات مع أن أصل الجلوس مُباح؟ ولكنه إذا كان سبيلاً إلى النظر إلى ما حرَّم الله أو وقوع الأذى فإنه يُمنع سدًّا لذريعة المخالفة لأوامر الله ونواهيه. وأما دليل سدِّ الذرائع من جهة العقل: فإننا نعجزُ جميعًا عن حصر ذلكم؛ بل لن نُبعِد النجعةَ لو قلنا: إن حياتنا اليومية مليئةٌ بقاعدة سد الذرائع أو فتحها، ولا يُنكِر ذلك إلا غِرٌّ مُكابِر. ألسنا نمنع أطفالنا من تناوُل الحلوى سدًّا لذريعة التسوُّس؟ ألسنا نمنعُ قطع إشارات المرور سدًّا لذريعة الحوادث؟ ألسنا نمنعُ السرعة الجنونية سدًّا لذريعة الهلاك؟ ألسنا نمنعُ استهلاك العقاقير إلا بوصف الطبيب سدًّا لذريعة الوقوع في الخطر؟ وهكذا الأمر دوالَيك، لا نكاد نُصبِح ونُمسي إلا وتمرُّ بنا قاعدةُ سدِّ الذرائع في حياتنا، غير أن سوء فهم البعض لهذه القاعدة المهمة أنهم قصَروا المحرمات على ما جاءت به النصوص صراحةً فحسب، وهنا مكمنُ النقص؛ لأن بعض الأفهام لا تقنَع بمنعٍ أو تحريمٍ يخرج عن هذا الإطار؛ بل وصل الأمر ببعضهم إلى الهمز واللمز بمن يُعمِلون قاعدةَ سد الذرائع على وجهها الصحيح؛ حيث أصبحت إدانتُها وتهوينُها تُكأةً يتَّكِئُ عليها المُعارِضون لها، فلاكُوها بأفواههم وقد خلَت بها المثُلات، وتلاعَبَت بها أمواجُ التأويلات والآراء والأهواء. وليس أساس البلاء في الشعارات، وإنما هو في الرُّؤى والمضامين، وقديمًا قيل: "تحت الرُّغوة اللبنُ الصريح". إنه لا أحد يستطيع أن يحيا على هذه البسيطة دون أن يتعامل مع قاعدة سد الذرائع وإحسان إيجادها في كل ضرورةٍ من الضرورات الخمس التي سبق ذكرُها، حسب ما تتطلَّبه حالُ كل ضرورة، ولو أخذنا بقول المُعارضين لقاعدة سد الذرائع لَما حرَّمنا المُخدِّرات، ولا غسيل الأموال، ولا الاتِّجار بالبشر، ولا أسلحة الدمار الشامل، ولا كثيرًا من أمثال ذلكم. ثم إنه قد يُلاحِظ المتأمِّل أن القاسم المشترك بين تلكم الضرورات الخمس: هو عنصر الأمن، فلا تديُّن بلا أمن، ولا نفسٌ مستقرةٌ بلا أمن، ولا مالٌ ثابتٌ بلا أمن، ولا عقلٌ مُتَّزنٌ بلا أمن، ولا عِرضٌ سالمٌ من الأذى بلا أمن. وهنا تبرُز الدقةُ في الفقه والإدراك للواقع الذي يُؤلِّف بينهما تحقُّق عنصر الأمن بوجود الشيء وعدمه، سواءٌ كان أمنًا فكريًّا أو ماليًّا أو غير ذلك، وهذه مسألةٌ لا يُدرِكها إلا صيارفةُ الفقه والوعي للوقائع والمآلات الذين تحكُمهم المصلحةُ العامةُ لحماية كل ضرورة دون مُزاحمةٍ فكريةٍ مُعاكِسة، أو استفزازٍ إعلامي، أو حراكٍ ثقافيٍّ مُشوَّش، حتى يكون تكييفُ المسائل وإقرارُها بعيدًا عن أي مُشوِّش وجودًا وعدمًا، إيجادًا وسلبًا. وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يقضيَ القاضي وهو غضبان في مسألةٍ فرديةٍ حقوقية؛ فكيف بالقضايا الكِبار التي تمسُّ جميعَ شرائح المجتمع؟! وإنه متى وقع مثلُ ذلكم في الخائضين في مثل تلكم القضايا فسيكونون للزَّلَل أقرب، ومن الصواب أبعد؛ بل ربما صار بينهم وبين الصواب مفاوِزُ ومهامِه. إننا بحاجةٍ ماسة إلى تهيئة أجواءٍ تُبرِزُ الفقهاء والمُفكِّرين والمُثقَّفين الذين تتوفَّر فيهم القوة الفقهية والقوة الواعية لما عليه الناس، وما عليه العصر؛ إذ هما مُتلازمان تلازمًا لا يجوز انفِكاكُه للفقيه والمُفكِّر والمُثقَّف الذي يريد أن يكون له أثرٌ في الأمة لِيُوجِد حلولاً لمُشكلاتهم، وليربِطَ بين أحكام الشريعة ومُستجدَّات العصر ونوازِله؛ ليُعلَم ما يصحُّ منها وما لا يصح، وهذا لا يكون إلا لمن جمع بين الدليل الشرعي وبين الواقع العملي. ولهذا فرَّق الإمام القَرافيُّ - رحمه الله - بين أدلة الأحكام وأدلة وقوع الأحكام؛ إذ ما كل من علِمَ الحكمَ استطاعَ أن يُنزِّله على الواقع، كما أن من يعلمَ الواقع لا يستطيع أن يحكم عليه إذا لم يُتقِن الدليل. ومن هنا جاء الانفكاك في كثيرٍ من مسائل العصر؛ فإما قوةُ فقهٍ تفتقِرُ إلى إدراكٍ لواقع الحال، أو فهمٌ واستيعابٌ لواقع الحال دون فقهٍ دقيق، وكلاهما مُؤخِّرٌ للوصول إلى مُبتغاه، ولذا كانت مواقف السلف الأفذاذ الذين أصَّلوا الشريعة وقعَّدوا له القواعد المُنتظمة مع مقاصد الشارع الحكيم ظاهرةً جليَّة لكل سابرٍ أقوالهم، فكان من أجمع ما ذكروه حول هذه القاعدة أن قالوا: إذا تعارَضت مفسدةٌ ومصلحة، فإن كانت المفسدةُ أقوى وجبَ درءُها - وهذا ما يُسمَّى سدَّ الذرائع - وإن كانت المصلحةُ أقوى وجبَ اختيارُها - وهذا ما يُسمَّى فتح الذرائع -. ومن رزقه الله العلمَ والخشية رزقَه الله البصيرةَ والتوفيقَ، قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف: 108]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلتُ ما قلت، إن كان صوابًا فمن الله، وإن كان خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفَّارًا. الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فاتقوا الله - عباد الله -، واعلموا أن مسألة سد الذرائع وفتحها مسألةٌ جدُّ مهمة؛ لأنها تمسُّ كثيرًا من جوانب حياتنا، فإنه مُخطئٌ من يرُدُّها هكذا سبهللاً، ومُخطئٌ أيضًا من يأخذها على مِصارعَيْها دون ضبطٍ أو فقهٍ لمضامينها، والاعتدالُ هو قِسُّ

15 رجب 1432 - خطورة النميمة - الشيخ صالح بن حميد

خطبة المسجد الحرام - 15 رجب 1432 - خطورة النميمة - الشيخ صالح بن حميد الخطبة الأولى الحمد لله، الحمد لله من لجأ إليه بلَّغه فوق مأموله، ومن سأله أعطاه أكثر من سُوله، أحمده - سبحانه - منَّ على من تاب إليه وأنابَ بعفوه وغُفرانه وقَبوله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةَ مؤمنٍ بالله ورسوله، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله بيَّن سبل الهدى وبلَّغ الدينَ كلَّه بفروعه وأصوله، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابه أقاموا شرع ربهم بكماله وشموله، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ وسلَّم تسليمًا كثيرًا. أما بعد: فأوصيكم - أيها المسلمون - ونفسي بتقوى الله - عز وجل -، فاتقوا الله - رحمكم الله - فلقد نطقَت الغِيَر بالعِبَر، فانظروا لخلاصكم قبل انقضاء أعماركم، واعتبِروا بمن مضى من القرون والأقران، وسلُوا القبورَ عن ساكنِيها، فالعاقلُ من راقبَ العواقبَ، ومن أخطأَته سهامُ المنيَّة قيَّده عِقالُ الهَرَم، ألا يكفي زاجرًا للمُقيمين مَن رحَل؟! فإذا عزمتَ - يا عبد الله - على الخير فبادِر، فالموت يفصِمُ العُرى، وليس في الآخرة من عِوَض، وسكرانُ الهوى بعيدُ الإفاقة. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون: 9 - 11]. أيها المسلمون: داءٌ وَبيل وشرٌّ خطير يُولِّد أعظمَ الشرور، ويُنتِج أشد المفاسد، كم أُدمِيَت به من أفئدة، وقَرَحت من أكباد، وقُطِّعت من أرحام، وقُتِّل من أبرياء، وعُذِّب مظلومون، وطُلِّقَت نساء، وقُذِفَت مُحصَنات، وانتُهِكت أعراض، وتفكَّكَت أُسَر، وهُدِّمت بيوت؛ بل كم قد أُوقِدت به من فتن، وأُثِيرت نعَرات على مستوى الأفراد والأُسَر والبلدان والأقاليم، ففسَدت العلاقات، وساءت الظنون، ولم يدَع مُقترِفُها هذا الداء للصلح موضعًا، ولا للوُدِّ مكانًا. مرضٌ خطيرٌ من أمراض القلوب وآفات اللسان وأدواء المجتمعات، وعصرُنا في إعلامه واتصالاته ومواصلاته ساعَدَ على انتشاره وزاد في آثاره، هل عرفتم هذا الداء - عباد الله -؟! إنه: مرض الوِشاية والسعاية وبلاءُ النميمة وقَالة السوء؛ نقلُ الكلام بين الناس على جهة الإفساد، وزرع الأحقاد، وبثِّ الضغائن، النميمةُ رأس الغدر، وأساسُ الشر، وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ [القلم: 10 - 13]. صفاتٌ مُتواليات، ونُعوتٌ مُتتابعات، كل خصلةٍ أشد من الأخرى، حلاَّفٌ كثيرُ الحلِف؛ لأنه يعلم من نفسه عدم صدقه وشك الناس فيه وانتزاع الثقة منه، مَهينٌ حقير ولو بدا نظيرَ الهيئة بهيَّ الطلعة؛ لأنه لم يُكرِم نفسَه في داخله، ولم يقدُر الناسَ، والمهانة صفةٌ نفسية تلصقُ بالمرء ولو كان ذا جاهٍ أو مالٍ أو جمال. همَّازٌ غمَّاز باللَّحَظ واللفظ والإشارة والحضور والغَيبة. منَّاعٌ للغير عن نفسه وعن غيره، مُعتدٍ مُتجاوزٌ للحق والعدل والإنصاف، فضلاً عن أن يكون من أهل الإحسان ونشر الخير والمحبة. أثيمٌ واقعٌ في المحرمات، والغٌ في المعاصي، عُتُلٌّ فظٌّ قاسٍ مكروهٌ ولو بدا فيه لُطفٌ مُتصنَّع ورقَّةٌ مُتكلَّفة، زنيمٌ شرير يحبُّ الإيذاء ويستمتعُ ببذل الشر وزرع الأحقاد. النمَّام - معاشر الأحبة - ذو الوجهين يُقابِل هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه، مُتلوِّن حسب المواقف والمصالح، ما دفعَه إلا عداوةٌ وبغضاء، أو مُشاركة أصحاب السوء ورفاق الرذيلة، أو حب التحدُّث أو التزيُّن في المجالس بأعراض الناس، أو إرادة السوء بمن حكَى عنهم ووقع فيهم. الواشي ينسى نفسَه ويشتغل بعيوب غيره، إن علِم خيرًا أخفاه، وإن درَى بشرٍّ أفشاه، وإن لم يعلَم هذا ولا ذاك امتطَى مطيَّة الكذب، وبئس مطيَّة الكذب: زعَموا. الواشُون والنمَّامون باعوا دينَهم بدنيا غيرهم، ورضا الناس بسخَط الله، تملَّكوا الناس ولم يخافوا الله، لا يألون الأمةَ خسفًا، والأمانةَ تضييعًا، والأعراض انتهاكًا وتقطيعًا. النمَّام لسانُه حلو وقلبه يلتهِب، يُفسِد في ساعة ما لا يُفسِده الساحر في سنة، لا يعرف للشهامة سبيلاً ولا للمروءة طريقًا، كم حمل هذا النمَّام من الأوزار والآثام والخطايا، ولهذا جاء في الحديث الصحيح: «لا يدخل الجنةَ نمَّام»؛ متفق عليه من حديث حذيفة - رضي الله عنه -. وقد مرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقبرين، فقال: «إنهما ليُعذَّبان وما يُعذَّبان في كبير؛ بلى إنه كبير، أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتِرُ من البول»؛ متفق عليه. وفي الحديث عند مسلم: عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أُنبِّئكم والعَضْه؟ هي النميمة القالَة بين الناس». وفي الحديث الآخر: «تجدُ من شر الناس عند الله يوم القيامة ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجهٍ وهؤلاء بوجهٍ». ويقول أبو هريرة - رضي الله عنه -: "النمَّامُ شر خلق الله". وقد أجمعت الأمة على تحريم النميمة؛ فهي من أعظم الذنوب والكبائر، وفي الحديث: «شرُّ عباد الله المشَّاؤون بالنميمة، المُفرِّقون بين الأحبة، الباغون للبُرآء العَنَت»؛ أخرجه أحمد. معاشر الإخوة: النميمة مبنيةٌ على الكذب والحسد والنفاق، وهذه أثافِيُّ الذل، وكفى بذلك قُبحًا وذمًّا وسوءًا. النميمة من شر ما مُنِيت به الفضائل ورُزِئَت به العلاقات، والنميمة - وقاكم الله - تكون بالقول وبالكتابة وبالرمز وبالإشارة وبالإيماء. معاشر الإخوة: والنميمة تقعُ بين الأُسَر والأزواج، تُضرِمُ النار في البيوت العامرة، وتنشر الفُرقة في الأُسَر الكريمة، تُوغِر الصدور، وتُقطِّع الأرحام، وتقعُ في الموظَّفين والمسؤولين وأصحاب الأعمال بقصد إلحاق الضرر والحرمان من المُستحقَّات المالية والوظيفية. وليَحذر الكبراء والوُجهاء والعلماء من بعض الجُلساء ممن قلَّت ديانتُه، وضعُفَت أمانتُه، الذين يُرضون الناسَ بسخط الله، فعلى هؤلاء الفُضلاء الكُرماء التثبُّت فيما يُنقَل، والتمحيصُ فيما يُقال، حتى لا تُبسَط أيدي، وتقوى أطماع، ومن ثمَّ تحُلُّ العقوبة بالأبرياء، وتُؤكَل أموال الضعفاء. ومن أهم ما يجب التنبُّه إليه، والتحذير منه، والتمعُّن فيه: ما تتناقَله وسائل الإعلام، وما يكتُبه بعضُ الكاتبين من: قالَ فلان، وأخبر فلان، ورأى فلان. ومن ذلك: ما تُمارِسُه بعض وسائل الإعلام وشبكات المعلومات والاتصالات ومواقع التواصل الاجتماعي فيما يُعرف بالتعليقات والتحريرات والأخبار والمتابعات والأحداث، فهي لا تخلو من وِشاية وسِعاية وتحريفٍ على جهة الغمز واللمز والطعن المُباشر وغير المباشر مما يُثير الفتن، ويُثير النعَرات الإقليمية والمذهبية والسياسية في أكاذيب وأراجيف وظنونٍ لا تقِف عند حد. وفي أيام الحروب والفتن واضطراب الأحوال وظروف الشائعات يعظُم الأمر ويشتد الخَطب، مما يدعو إلى مزيدٍ من الحيطة والحذر والتحرِّي، ناهيكم بما تبلُغه هذه الكلمات والتعليقات المُبطَّنة بالوشاية والنمنمات تبلغه في أصقاع الدنيا وآفاقها وقد ركِبت القاعدة الظالمة: الغاية تُبرِّر الوسيلة، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. معاشر المسلمين: ومن حُمِلت إليه النميمة، أو بلَغته الوِشاية، أو حضر مجلس نمَّام، أو سمِعه فينبغي ألا يُصدِّقه، فإنما هو فاسق، وقد قال - عز شأنه -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [الحجرات: 6]، كما يجبُ بُغض هذا المسلك والنفرة منه، فهو معصيةٌ من أكبر المعاصي، وكبيرةٌ من كبائر الذنوب. والأجمل بالمسلم والأجدر ألا يُسيءَ الظنَّ بأخيه الذي نُقِل عنه الكلام، ثم إذا سمِع كلامًا أو بلغه حديث فلا يتجسَّس ولا يتتبَّع، وليحذَر أن يكون نمَّامًا ليحكي ما بلَغه وينقُل ما سمِعه. ومن قبل ذلك وبعده فليتق الله ولينصَح وليُنكِر بالحكمة والموعظة الحسنة؛ فالخطر عظيم، والأثر جسيم، نصحًا لإخوانه، وحبًّا لهم، وشفقةً عليهم، فيسعى في كل ما يُؤلِّف القلوب، ويجمع الكلمة، ويحفظ المودة، وينبذ الفُرقة، ويُجنِّب البغضاء. فاحذروا - رحمكم الله وعافاكم -، ومحِّصوا وتحقَّقوا، ولا تتعجَّلوا، واعفوا واصفَحوا واغفروا واسمعوا وأطيعوا. سعى رجلٌ إلى عليِّ - رضي الله عنه - برجلٍ، فقال عليٌّ - رضي الله عنه -: "يا هذا! إن كنتَ صادقًا فقد مقتناك، وإن كنت كاذبًا عاقبناك، وإن شئتَ الإقالَة أقلناك"، فقال: أقِلني يا أمير المؤمنين. وسعى رجلٌ بالليث بن سعد إلى والي مصر، فبعث الوالي إلى الليث، فلما دخل عليه قال الوالي: يا أبا الحارث! إن هذا أبلغني عنك كذا وكذا، فقال الليث: "سَلْه - أصلح الله الأمير - عما أبلَغَك: أهو شيءٌ ائتمنَّاه عليه فخاننا فيه فما ينبغي أن تقبَل من خائن، أو شيءٌ كذبَ علينا فيه فما ينبغي أن تقبَل من كاذب"، فقال الوالي: صدقتَ يا أبا الحارث. وجاء رجلٌ إلى وهبِ بن مُنبِّه فقال: إن فلانًا يقول فيك كذا وكذا، فقال: "أما وجدَ الشيطانُ بريدًا غيرَك؟! ". وبعد، عباد الله: فكم جرَّت هذه الصفةُ الذميمة على كثيرٍ من الأبرياء والغافلين طاهري القلوب سليمي الصدور، كم جرَّت من مآسٍ، وكم قضَت على أنفُس، وسلَبَت من أموال، وشتَّتت من أُسَر، وأوقعَت من علماء، وأخرجَت من ديار، وجلَبَت من مِحَن، واغبرَّت بصالحين مُطمئنين، وحرَمت أطفالاً وأمهاتٍ من أُسرهم وأهليهم، قطَّعت أرزاق ومنَعت نفقات بدون جنايةٍ اقترفوها؛ بل بوشايةٍ كانوا ضحيَّتها. ألا فاتقوا الله - رحمكم الله -، فكم هي نعمةُ الله على عبده ألا يكون ممن يحسُدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، فيعصِمه الله من النميمة، ويحفظه من الوشاية، ويحميه من قالَة السوء، ومن أراد السلامة فليجتنِب كثرة الكلام، وإفشاء الأسرار، وقبول مقالات الأقوام. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: بسم الله الرحمن الرحيم وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ [الهمزة: 1 - 9]. نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم. الخطبة الثانية الحمد لله وهو بالحمد جدير، أحمده - سبحانه - وأشكره على فضله العميم وخيره الوفير

22 رجب 1432 - الغيرة على الأعراض - الشيخ عبد الرحمن السديس

خطبة المسجد الحرام - 22 رجب 1432 - الغيرة على الأعراض - الشيخ عبد الرحمن السديس الخطبة الأولى الحمد لله أسبغ علينا نعمًا لم تزَل تترى فِياضًا، أحمده - سبحانه - وعدَ عبادَه المُتطهِّرين جناتٍ ألفافًا عِراضًا، فطُوبى ثم طُوبى لمن صانَ لمحارمِه أعراضًا، وأعرض عن الدنايا إعراضًا، الحمد لله حمدًا زاكِيَ الأثر، مُردَّد الذكر بالآصال والبُكَر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً نسمو بها مقاصد وأغراضًا، وثباتًا على التُّقى وحِفاظًا، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبد الله ورسوله بعثَ اللهُ به العفافَ والطُّهرَ بعد أن غاضَا، صلَّى عليه الباري وعلى آله الطاهرين الطيبين الداعين إلى المكارم فِعالاً وألفاظًا، وصحبه الأُلَى نشروا الفضائل في العالمين وألظُّوا بذلك إلظاظًا، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ يرجو من المنَّان شرابًا طهورًا وحِياضًا، وسلَّم تسليمًا مباركًا إلى يوم الدين ما تعاقبَ الملَوانَ وآضَا. أما بعد، فيا عباد الله: أنفسُ ما يُنحَلُ من الوصايا المُنجِحات والعِظات المُبهِجات: تقوى الله - عز وجل - ربِّ البريَّات، فالتقوى - رحمكم الله - لصيانة المحارم أوثقُ العُرى، وأغنى غناء لمن رامَ من المكارم الذُّرَى، وأعظمُ الزاد للشرف سَيرًا وسُرًى، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة: 197]. بُشرى لمن زُوِّد التقوى لمُنقلبٍ حيَّاه مُدَّخرٌ فيه ومُطَّلَعُ أيها المسلمون: قصدَت شريعتُنا الغرَّاء تحقيق أعظم المصالح وأسنى المقاصد، وتزكية النفوس دون البوائِق والمفاسد، فصاغَت مجتمعًا شريفًا أَنوفًا للآفات والمُحرَّمات عَيُوفًا، وعن مساقط الأدران عَزوفًا، وبذلك قادَت أمتُنا المباركةُ حفظَ الأعراض بزمام، وبلغت من الذَّود عن المحارم الذِّروة والسَّنام، ومن ثَمَّ أذهَلت العالمين سلسال العفاف بعد الأُوام، يقول الملك العلاَّم: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران: 110]. ومن تلك الخيرية الزكيَّة: أن جعل الديَّانُ انتهاكَ الأعراض قرينَ الشرك وقتل النفس المعصومة، يقول - جلَّ اسمه -: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا [الفرقان: 68]، فالمؤمنُ الغَيور يُؤثِر الموتَ على أن يرِد من الخَنا أكدار، والفوتَ اختناقًا على أن يتنسَّم أقذَار؛ بل إن خُدِشَ عِرضُه أبرقَ حميَّةً وثار، وأرعدَ واستثار، وكان كالقسورة إن دِيسَ عَرينُه أو وُسِم عِرنينُه، إنها الغيرةُ الإسلامية، والنخوة الإيمانية التي ملأت عليه وجدانَه ونفسَه، وفِكرَه وحِسَّه. في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «المؤمنُ يَغار، والله أشد غيرة»، وفي رواية: «وغيرةُ الله أن يأتي المؤمنُ ما حرَّم الله عليه»؛ رواه البخاري ومسلم. إخوة الإيمان: وفي هذا العصر الطافح - مع شديد الأسى اللافِح - عمَّ التفريطُ في أرسان العِفَّة والحياء والتصوُّن والإباء، ونهَضَ أقوامٌ خلف سراب التحرُّر - بلْهَ ضِرام الإغراء -، وأرخى كثيرٌ من الآباء والأزواج لمحارمهم الزِّمام، فلاطَفَت المرأةُ الرجلَ ومازَحَت، وتساهَلت في صيانتها وتسامَحت؛ بل في كثيرٍ من المجتمعات هتَكَت الحياء، فكشَفَت عن مواطن الفتنة والإغراء دون حرجٍ أو إغضاء، وما درَت أنها تُحاربُ المجتمع بسلاح الإثارة، وتُزنِقُ النفوسَ في أودية الغواية وحمأة الخطيئة. وفي مُوازي ذلك تمُدُّ أوابدُ من البشر المُفترسة، وسباعٌ من الإنس الضارية حبائلَ التحرُّش وخُدع الإغواء لإيقاع الأنفس الطاهرة في الغيِّ الدنيء، والمُستنقَع الآسِن الوبِيء، وإرغام شُمِّ المعاطِس بتدنيس شرفهم النقي وعِرضهم السنِيّ. إنها النَّزوات الطائشات والخيانات الهاصِرات التي قوَّضت حصنَ الأعراض، وكانت عن الغيرة في جفاءٍ وإعراض، خصوصًا في الإجازات عند المُنتجعات والسياحات، هنالك وهناك. أصونُ عِرضي بمالي لا أُدنِّسُه لا بارَكَ الله بعد العِرضِ بالمال لأن اكتساب المال لصيانة الأعراض لا لابتذالها، ولعِزِّ النفوس لا لإذلالها. ربَّاه ربَّاه! أين فوارس الحياء والحِشمة، أين لُيوث الشَّرف والعصمة؟! وا حرَّ قلباه إن تبلَّد الإحساس وهانت المحارم لدى الناس. أيها المسلمون، أيها الشُّرفاء الغُير: هنا تُزمجِرُ الحروف، وتصطرخُ الكلمات، وتتفجَّرُ العبارات، وتتفجَّر شآبيبُ العَبَرات حيالَ اغتصاب العِرض والشرف، وما جرَّ من كمدٍ وأسف؛ فكم من فتاةٍ فرَّطت في خَفرها فانطفأ سَناؤها؟ وكم من مُراهِقةٍ أغراها أغلفُ القلب صفيقُ الشعور فتحطَّم إباؤها؟ وكم من نفسٍ وادِعة اجتُثَّ صفاؤها؟ وكم من أُسرٍ هانئة مُزِّق هناؤها؟ فكانت الحسرات والجراحات، والحروقات والنشَّجات، إن غَيمةً واحدة قد تحجُب شمسَ السعادة أبدًا؛ فكيف بهاتيك الصواعق والرُّهوب. يا هاتكًا حُرُم الرجال وسِتـ ـرَهم قد عِشتَ غير مُكرَّمِ عِفُّوا تعِفُّ نساؤكم في المَحرَمِ وتجنَّبوا ما لا يليقُ بمسلمِ ويا سبحان الله! عباد الله: أغاضَت ينابيعُ الغيرة في القلوب، وغدَت جذوةُ النَّخوة في هُفولٍ ولُغوب؟! وبأخرةٍ تتكسَّر النِّصالُ على النِّصال، في افتراسِ القاصِرات، تلكم الزَّهرات الزاهِرات، العَبَقات الناصِعات. ووايْمُ الله! لئن كان سارق المال مجرمًا؛ فإن سارق الأعراض رأسُ الجُناة وأكبرُ المجرمين، وما شرع الله الزواجِر والحدود إلا لتطهير المجتمعات من كل غويٍّ لَدود، ولانزجار النفوس عن شُؤم تلك الجريمة الباتِكة الأليمة كانت العقوبة على سمع المؤمنين وبصرهم، يقول الحق - تبارك وتعالى -: وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النور: 2]. معاشر المسلمين: وصَوبَ هذه القضية التي انداحَ ضررُها واستحَرَّ خطرُها لزِمَ كشفُ الشُّبهة والمِرية، ودحضُ المُغالَطة والفِرية، وذلكم - يا رعاكم الله - أن فِئامًا عدُّوا حفظَ المكارم وصَون المحارم من لدن الأُباة تنكُّرًا لطبيعة الرُّقِيِّ في الحياة، ووأدًا للطموحات وتقدُّم المجتمعات، واتهامًا للنوايا البريئات؛ بل هو ببُهتهم شِنشِنةُ مادَت وبادَت. والتأكيدُ على حجابِ المرأة وسِترها رأوه هضمًا لحقِّها، وحكمًا برِقِّها، يا لله والله أكبر؛ آلدعوة إلى حماية الشرف على هدي خير السلف معرَّةٌ تُدفَع ومسبَّةٌ تُرفع؟! يُهاجمُها المأفونون دون بأسٍ وخجَل، أو استفظاعٍ ووجَل، يُعزّزُ أهواءَهم أقلامٌ مسمومة تُروِّجُ لإبراز الوضيعات ووصف الوَضاعات، وتأجيجِ الشهوات والنزوات التي تدُكُّ معاقلَ النخوة والرجولة، وتبُكُّ الحفيظةَ والبطولة، وما ذلك إلا سقوطٌ بالفطرة العفيفة، وارتكاسٌ بالأخلاق الشريفة، وتمرُّدٌ على أحكام الديَّان وشِرعة الرحمن. ألا ليتَ شِعري يا أمة النخوة والإباء؛ لئن أُصيبت الغيرةُ على الأعراض بخدشٍ أو مِقراض ونحن عُصبةٌ أيقاظ إنا إذًا لخاسرون، إنا إذًا لخاسرون، وغدًا لنادمون!! وفي ديوان الحِكَم المأثورة: "الذبُّ عن الشرفِ والعِرض أربَى من الذِّيَاد عن الحِمَى والأرض، ومن أحبَّ المكارم غارَ على المحارم". إذا المرءُ لم يَدنَس من اللُّؤمِ عِرضُه فكلُّ رداءٍ يرتديه جميلُ وإن هو لم يحمِلْ على النفس ضَيمَها فليس إلى حُسن الثناء سبيلُ أيتها الأخوات الشريفات، والحرائرُ المَصونات العفيفات: يا من أعزَّكنَّ الله بالحجاب، وشرَّفكنَّ بالسِّتر والجلباب! تمسَّكن بحجابكنَّ، اللهَ اللهَ في حيائكنَّ وعفافكنَّ، اعلَمن - يا رعاكنَّ الله - أن صحوةَ المرأة الحَصان الرَّزان المُنبثِقَة عن مشكاةِ الشرع الحنيفِ ومقاصِده الكلية وقواعد المرعيَّة العليَّة هي التي تقود من مسيرة الفضيلة والذكاء مراكبها، وتتصدَّرُ من الدعوة للطُّهر والنقاء مواكِبها، يقول - عز وجل -: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى [الأحزاب: 33]. إنه لعَمرُ الحق الخُلُق الحيِيُّ الرفيعُ الخفِرُ البديع لما يجبُ أن يكون عليه الأوانِسُ الطاهرات، والنساءُ الفُضليَّات، حفظًا لفطرتهنَّ النفسية، ولطائفهنَّ الوجدانية، وتحقيقًا للفوز والحياة، والعصمة والنجاة. وبعدُ، أمة الإسلام: ألا فلنحذَر على عِفَّتنا وعِزَّتنا وغيرتنا وكرامتنا من أحلاسِ الغريزة الخَسيسة، والنَّزوات الخبيثة التعيسة، التي تفتِكُ بالأمن والاطمئنان، وتُثيرُ الأضغانَ في المجتمع والعُدوان، لذلك يقول المُجتبى - عليه الصلاة والسلام -: «فإن الله قد حرَّم عليكم دماءَكم وأموالَكم وأعراضَكم»؛ خرَّجه الإمام أحمد في "مسنده". فجمع في التحريم بين الدم والعِرض لِما فيه من إيغار الصدور وإثارة الأعداء للشرور، هذا وإن أهل الحِفاظ على الأعراض لا يرُومون لأمتهم إلا الحياةَ الفاضلةَ النظيفة والعِيشَة الرضيَّة الشريفة، فضلاً من الله ومنّة، لا باكتسابٍ منَّا. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الأحزاب: 59]. بارك الله في الجهود، وحقَّق أجلَّ المُنَى وأسنى القُصود، إنه غفورٌ ودود، أقول قولي هذا، وأستغفرُ الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولكافة المسلمين والمسلمات من كل الذنوب والخطيئات، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه كان حليمًا غفورًا. الخطبة الثانية الحمد لله على ما أسدَى من النِّعم، أحمده - سبحانه - حثَّ على حفظ الأعراض من بوائِق الغَشَم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أجزلَ لأهل العفافِ المثوبَة والكرَم، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبد الله ورسوله البالغُ من الطُّهر شُمَّ القِمَم، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وصحبه الأندَى من زَهر الأكَم، ذوي المناقِب السنيَّة والشِّيَم، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله - عباد الله -، وصُونوا الأعراض عن الرِّيَب والتُّهم، تبلُغوا من الشرف المَروم أسنى القِسَم، ومن تولَّى بعدُ فقد زاغَ وظلَم. أيها المسلمون: ومن الرِّماح الهاتِكة لحِمَى العفاف والاحتشام: الدعوةُ إلى الاختلاط المحرَّم بين الإناث والذكور الباعِث على الشرور والثُّبور دون إنكارٍ أو اعتراض، أو توجيه من الآباء أو امتعاض، وكون ذلك - بزعمهم - من الثقة المحمودة الآثار، ولكن هيهات هيهات! لا يصحُّ ذلك إلا لدى الأغمار، فخضراءُ الدِّمَن شرَكُ الفتن ومهوَى الحسرة والنَّدَم، يقول - عليه الصلاة والسلام -: «ما تركتُ بعدي فتنةً هي أضرَّ على الرجال من النساء»؛ متفق عليه. وبحسب غيرةِ الأبَوين يكون الأبناءُ شجًى في الحلق أو قُرَّةً للعين، أما منبتُ الدنايا ومسرحُ الرذائلِ والدنايا التي ترشُقُ الشرفَ والحشمةَ بمُدمِّر الشظايا: فوسائلُ الاتصالات، وأجهزةُ التِّقانات، وأعمدةُ المقالات والكتابات، وقنواتُ الفضائيات وشبكاتُ المعلومات ا

29 رجب 1432 - تأملات في معنى التشهد - الشيخ صالح آل طالب

خطبة المسجد الحرام - 29 رجب 1432 - تأملات في معنى التشهد - الشيخ صالح آل طالب الخطبة الأولى إن الحمد لله وله بعد الحمد التحايا الزاكيات، وهو المستعان فمن غيرُه يُرتَجى عند الكروب ودَهم المُلِمَّات، وعليه التُّكلان فحسبُنا الله وهو حسبُ الكائنات، وأشهد أن لا إله إلا الله وله تُزجَى كل تحية، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المجبولُ على أكرم سجيَّة، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وذريته أكرم ذرية، وعلى صحابته ذوي النفوس الرضيَّة، ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. أما بعد: فأوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله - عز وجل -، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102]. من اتقى الله وقاه، وكفاه وأسعدَه وآواه، وتقوى الله خيرُ الزاد ذُخرًا، وعند الله لأتقى مزيد. أيها المسلمون: مُذ كان الأدبُ في الناس والناسُ يكسُون به فِعالَهم وكلامَهم عند مخاطبة العظماء ومُلاقاتهم، وخيرُ الناس خُلُقًا أحسنُهم أدبًا، ودينُ الإسلام يُعلِّمنا في الصلاة التي هي عمود الدين وشرفُ العبادات لله رب العالمين أن نتوسَّل إلى الله بأجمل التحايا، وأن تلهَجَ ألسنتُنا بأطيب العبارات وأزكى الكلمات، ومن أعظمُ من الله، ومن أكرمُ منه - جلَّ في عُلاه -؟! وتأمَّل كيف تتحرك جميعُ أعضاء المُصلِّي وجوارحُه في الصلاة عبوديةً لله خشوعًا وخضوعًا، فإذا أكملَ المُصلِّي هذه العبادة وقبل أن يُسلِّم انتهت حركاتُه، وختمَها بالجلوس بين يدي الرب تعالى جلوسَ تذلُّل وانكسار وخضوعٍ لعظمته - عز وجل - كما يجلسُ العبدُ الذليلُ بين يدي سيده. وجلوس الصلاة أخشع ما يكون من الجلوس وأعظمُه خضوعًا وتذلُّلاً، فأُذِن للعبد في هذه الحال بالثناء على الله - تبارك وتعالى - بأبلغ أنواع الثناء، وهو: التحيات لله والصلوات والطيبات. عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: كنا إذا جلسنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة قُلنا: السلامُ على الله من عباده، السلامُ على فلان وفلان، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تقولوا: السلامُ على الله؛ فإن الله هو السلام، ولكن قولوا: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلامُ عليك أيها النبي ورحمةُ الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فإنكم إذا قلتُم أصابَ كلَّ عبدٍ صالحٍ في السماء أو بين السماء والأرض، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ثم يتخيَّرُ من الدعاء أعجبَه إليه فيدعو به»؛ رواه البخاري ومسلم. أيها المسلمون: من عادة الناس إذا دخلوا على ملوكهم أن يُحيُّوهم بما يليقُ بهم تعظيمًا لهم وثناءً عليهم، واللهُ أحقُّ بالتعظيم والثناء من كل أحدٍ من خلقه، وفي التشهُّد يجمعُ العبدُ أنواعَ الثناء على الله - عز وجل - وأجمل عبارات الأدب والتحية، والتحيات جمع تحية، والتحية هي التعظيم، فكل نوعٍ من أنواع التحيات الطيبة فهو لله، والتحياتُ على سبيل العموم والكمال والإطلاق لا تكون إلا لله - عز وجل -، وهو - سبحانه - أهلٌ للتعظيم المُطلق، فالعظمة والملكُ والبقاءُ لله. والصلواتُ؛ أي: والصلوات لله، وهو شاملٌ لكل ما يُطلَق عليه صلاةٌ لغةً أو شرعًا من الدعاء والتضرُّع والرحمة، فالصلواتُ كلها لله، لا أحد يستحقُّها سواه، والدعاءُ أيضًا حقٌّ لله - عز وجل -، كما قال - سبحانه -: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر: 60]. فكل الصلوات فرضُها ونفلُها لله، وكل الأدعية لله. والطيبات: هي الأعمال الزكية، ما يتعلَّقُ بالله وما يتعلَّقُ بأفعال العباد؛ فما يتعلَّق بالله فإن له من الأوصاف أطيبَها، ومن الأفعال أطيبَها، ومن الأقوال أطيبَها، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله طيبٌ لا يقبلُ إلا طيبًا»؛ أخرجه مسلم. فهو - سبحانه - طيبٌ في كل شيء، في ذاته وصفاته وأفعاله. وله أيضًا من أعمال العباد القولية والفعلية الطيب؛ فإن الطيب لا يليقُ به إلا الطيب، ولا يُقدَّمُ له إلا الطيب، وقد قال - عزَّ اسمُه -: وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ [النور: 26]، فهذه سنةُ الله - عز وجل -، لا يليقُ به إلا الطيبُ من الأقوال والأفعال من الخلق، إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر: 10]. فكانت الطيبات كلها له ومنه وإليه، له مُلكًا ووصفًا، ومنه مجيئُها وابتداؤها، وإليه مصعَدها ومُنتهاها. ولما أتى بهذا الثناء على الله تعالى التفَت إلى شأن الرسول الذي حصل هذا الخيرُ على يديه فسلَّم عليه أتمَّ سلامٍ مقرونًا بالرحمة والبركة، فيقول المُتشهِّد: «السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته»، والسلامُ اسم الله - عز وجل -؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله هو السلام»؛ رواه البخاري. وقال - عز وجل -: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ [الحشر: 23]. فيكون المعنى: أن الله تعالى يتولَّى رسولَه - صلى الله عليه وسلم - بالحفظِ والكلاءة والعناية. والسلام أيضًا بمعنى: التسليم، كما قال - عز وجل -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56] فهو دعاءٌ وتحية. ثم يُسلِّمُ المُتشهِّد على نفسه وعلى من معه من المُصلِّين والملائكةِ الحاضرين، وقيل: بل جميعُ أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وذلك بقوله: «السلامُ علينا وعلى عباد الله الصالحين»، وعبادُ الله الصالحون: هم كل عبدٍ صالحٍ في السماء والأرض من الآدميين والملائكة والجن من الأحياء والأموات، وعبادُ الله: هم الذين تعبَّدوا الله؛ أي: تذلَّلوا له بالطاعة امتثالاً لأمره واجتنابًا لنهيه، وأشرفُ وصفٍ للإنسان أن يكون عبدًا للإنسان لا عبدًا لهواه، فإذا سمِع أمر ربه قال: سمِعنا وأطعنا. وعبادُ الله الصالحون هم الذين صلُحت سرائرُهم وظواهِرهم بإخلاص العبادة لله ومُتابعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. ثم ختمَ هذا المقام بعقد الإسلام، وهو: التشهُّد بشهادة الحق والتوحيد: «أشهد أن لا إله إلا الله»، ولا إله إلا الله كلمةُ التوحيد التي بعثَ الله بها جميعَ الرسل، كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25]. ومعناها: لا معبود حقٌّ إلا الله. ثم يقول المُتشهِّد: «وأشهد أن حمدًا عبده ورسوله»، فرسولُ الله الخاتَم هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب القرشي الهاشمي، بعثَه الله - عز وجل - بمكة أم القرى وأحب البلاد إلى الله، وهاجر إلى المدينة، وتُوفِّي فيها - صلى الله عليه وسلم -. فهو عبدٌ لله، ليس له في العبادة شرك، وقد أمره الله تعالى أن يقول: لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ [الأنعام: 50]، وقال له في آية أخرى: قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ [الجن: 21 - 23]، فهو عبدٌ من العباد، لكنه أفضلُهم، ورسولٌ من الرسل، لكنه أشرفُهم. وهو - صلى الله عليه وسلم - أشد الناس خشيةً لله وأقومهم تعبُّدًا لله، حتى إنهم كان يقوم مُصلِّيًا حتى تتورَّم قدماه، فيُقال له: لقد غفر الله من ذنبك ما تقدَّم وما تأخَّر، فيقول: «أفلا أكون عبدًا شكورًا»؛ رواه مسلم. ومعنى: ورسوله؛ أي: مُرسَله، أرسله الله - عز وجل - وجعله واسطةً بينه وبين الخلق في تبليغ شرعه؛ إذ لولا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما عرَفنا كيف نعبد الله - عز وجل -، فكان - عليه الصلاة والسلام - رسولاً من الله إلى الخلق، ونِعم الرسول، ونِعم المُرسِل، ونِعم المُرسَل به، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - هو رسولٌ مُرسلٌ من الله، وهو أفضل الرسل خاتمُهم وإمامُهم، لما جُمِعوا له ليلة المِعراج تقدَّمهم إمامًا مع أنه آخرُهم مبعثًا - عليه الصلاة والسلام -، كما روى ذلك الإمام أحمد. أيها المسلمون: هذا ما يقوله المُصلِّي حين يجلسُ في التشهُّد في الركعة الثانية من صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وأما الجلوس للتشهُّد الأخير قبل السلام فيأتي بهذا التشهُّد أيضًا، ويزيدُ عليه الصلاةَ على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيقول بعد الشهادتين: «اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صلَّيتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد، وبارِك على محمد وعلى آل محمد، كما بارَكتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد». وفي "الصحيحين" عن كعب بن عُذرة - رضي الله عنه - قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقُلنا: قد عرفنا كيف نُسلِّم عليك، فكيف نُصلِّي عليك؟ قال: «قولوا: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صلَّيتَ على إبراهيم إنك حميدٌ مجيد». وفي "الصحيحين" أيضًا عن أبي حميدٍ الساعدي أنهم قالوا: يا رسول الله! كيف نُصلِّي عليك؟ قال: «قولوا: اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى أزواجه وذريته، كما صلَّيتَ على إبراهيم، وبارِك على محمدٍ وعلى أزواجه وذريته، كما بارَكتَ على إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد». وفي رواية عند مسلم: «كما بارَكتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميدٌ مجيد، والسلام كما قد علِمتم، أو كما قد عُلِّمتم». ومعنى: صلِّ على محمد؛ قيل: إن الصلاة من الله: الرحمة، وقيل: ثناؤه عليه في الملأ الأعلى، كما أخرجه البخاري مُعلَّقًا بصيغة الجزم، ولفظُه: صلاة الله: ثناؤه عليه عند الملائكة. وآل محمد: هم قرابتُه المؤمنون من بني هاشم ومن تفرَّع منهم، وقيل: المقصود: أتباعُه على دينه. كما صلَّيتَ على آل إبراهيم؛ أي: كما أنك - سبحانك - سبقَ الفضلُ منك على آل إبراهيم فألحِق الفضلَ منك على محمدٍ وآله. وبارِك على محمدٍ وعلى آل محمد؛ أي: أنزِل عليه البركة، وهي: كثرةُ الخيرات ودوامُها واستمرارُها، ويشملُ البركةَ في العمل والبركةَ في الأثر. إنك حميدٌ مجيد: حميدٌ؛ أي: حامدٌ لعباده وأوليائه الذين قاموا بأمره، ومحمودٌ يُحمَد - عز وجل - على ما له من صفاتِ الكمال وجزيلِ الإنعام. وأما المجيد: فهو ذو المجد، والمجدُ هو العظمةُ وكمال السلطان، فتأمَّل جمالَ هذه التحيات وكمالها وحُسنَها وجمالَها، وتدبَّر معانيها حين تزدلِفُ بها إلى ربك في جلوس التشهُّد وأنت خاشعٌ مُتأدِّب. فالحمدُ لله الذي هدانا إليها، وأنعمَ بها علينا. اللهم بارِك لنا في الكتاب والسنة، وانفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم. الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه الصادق الأمين، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين. أيها المسلمون: وقد جاءت السنةُ بالترغ

7 شعبان 1432 - تزكية النفوس وإصلاح القلوب - الشيخ أسامة الخياط

خطبة المسجد الحرام - 7 شعبان 1432 - تزكية النفوس وإصلاح القلوب - الشيخ أسامة الخياط الخطبة الأولى الحمد لله العلي الأعلى، أحمده - سبحانه - وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خلق فسوَّى وقدَّر فهدى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله نبي الرحمة والهُدى، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه الأئمة الأبرار النُّجَباء، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم البعث والنشور والجزا. أما بعد: فاتقوا الله - عباد الله -؛ واذكروا أنكم موقوفون عليه، مسؤولون بين يديه يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس: 34 - 37]. عباد الله: تزكيةُ النفوس وتقويمُها، وإصلاحُ القلوب وتطهيرُها أملٌ سعى إليه العُقلاء في كل الثقافات وفي كل الحضارات منذ أقدم العصور، فسلكوا إلى بلوغه مسالك شتَّى، وشرعوا لأنفسهم مناهجَ وطرائقَ قِددًا، وحسِبوا أن في أخذهم أنفسهم بها إدراكَ المُنى، وبلوغَ الآمال في الحَظوة بالحياة الطيبة والعيش الهانئ السعيد. فمن تعذيبٍ للجسد بأمورٍ وأعمالٍ مُضنِية أسمَوها: رياضات ومُجاهدات، إلى إغراقٍ في الشهوات وانهماكٍ في طلب اللذَّات بإسرافٍ على النفس لا حدَّ يحُدُّه، إلى عُكوفٍ على مناهجَ فلسفية وتأملاتٍ قائمةٍ على شطَحاتٍ وخيالات لا سند لها من واقعٍ، ولا ظهيرَ لها من عقلٍ، إلى غير ذلك من نزَعاتٍ وطرائقَ لا يجدُ فيها اللبيبُ ضالَّتَه، ولا يبلغُ منها بُغيتَه. غير أن كل من أُوتِي حظًّا من الإنصاف، ونصيبًا من حُسن النظر والبصر بالأمور لا يجدُ حرجًا في الإقرار بأن السعادة الحقَّة التي تطيبُ بها الدنيا، وتطمئنُّ بها القلوب وتزكُو النفوس هي تلك التي يُبيِّنُها ويكشِفُ عن حقيقتها الكتابُ الحكيم والسنةُ الشريفة بأوضح عبارةٍ وأدقِّها وأجمعها في الدلالة على المقصود. عباد الله: لقد أرسل الله رسلَه وأنزل كتبَه ليُرشِد الناس إلى سُبُل تزكية أنفسهم وإصلاح قلوبهم، وليُبيِّن لهم أن ذلك الأمر لن يتحقَّق إلا حين يُؤدُّون حقَّ الله عليهم في إخلاص العبودية له؛ إذ هي الغايةُ من خلقه - سبحانه - لهم: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات: 56 - 58]. وقد جاء في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - بيانُ الطريق إلى هذه التزكية التي جعل الله فلاحَ المرء مرهونًا بها، وجعل الخيبةَ والخُسران مرهونًا بضدِّها، وهو: التدسِية؛ أي: تخبيثُ وتلويثُ النفس وإفسادُها بالخطايا، فقال - سبحانه -: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس: 7 - 10]، وقال - عزَّ اسمه -: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [الأعلى: 14، 15]، وقال - سبحانه - في خطاب نبيِّه موسى - على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام - حين أرسله إلى فرعون: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى [النازعات: 17 - 19]. وإن هذا الكتاب المبارَك الذي جعله الله روحًا تحيا به القلوب، ونورًا تنجابُ به الظلمات: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى: 52]، إن هذا الكتاب ليُصرِّحُ أن أساس التزكيةِ في الإسلام وروحها وعمادَها ومحورَها توحيدُ الله تعالى. وحقيقتُه - كما قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: "أن يشهدَ العبدُ انفرادَ الربِّ - تبارك وتعالى - بالخلق والحكم، وأنه ما شاء كان وما لم يشَأ لم يكن، وأنه لا تتحرَّك ذرَّةٌ إلا بإذنه، وأن الخلقَ مقهورون تحت قبضَته، وأنه ما من قلبٍ إلا وهو بين إصبعين من أصابعه إن شاء أن يُقيمَه أقامَه، وإن شاء أن يُزيغَه أزاغَه، فالقلوب بيده وهو مُقلِّبها ومُصرِّفها كيف شاء وكيف أراد، وأنه هو الذي آتَى نفوس المؤمنين تقواها، وهو الذي هداها وزكَّاها، وألهمَ نفوسَ الفُجَّار فجورَها وأشقاها، من يهدِ الله فهو المُهتَد، ومن يُضلِل فلا هادي له، يهدي من يشاء بفضله ورحمته، ويُضِلُّ من يشاء بعدله وحكمته، هذا فضُه وعطاؤه وما فضلُ الكريم بممنون، وهذا عدلُه وقضاؤه لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء: 23] ... وفي هذا المشهد يتحقَّقُ للعبد مقامُ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 5] علمًا وحالاً؛ فيثبُت قدمُ العبد في توحيد الربوبية، ثم يرقى منه صاعدًا إلى توحيد الإلهية، فإنه إذا تيقَّن أن الضرَّ والنفع والعطاءَ والمنعَ والهُدى والضلال والسعادةَ والشقاء؛ كل ذلك بيد الله لا بيد غيره، وأنه الذي يُقلِّبُ القلوب ويُصرِّفها كيف يشاء، وأنه لا مُوفَّق إلا من وفَّقه وأعانَه، ولا مخذولَ إلا من خذَلَه وأهانَه وتخلَّى عنه، وأن أصحَّ القلوب وأسلمَها وأقومَها وأرقَّها وأصفاها وأشدَّها وأليَنها: من اتخذَه وحده إلهًا ومعبودًا، فكان أحبَّ إليه من كل ما سواه، وأخوفَ عنده من كل ما سواه، وأرجَى له من كل ما سواه؛ فتتقدَّمُ محبتُه في قلبه جميعَ المحابِّ، فتنساقُ المحابُّ تبعًا لها كما ينساقُ الجيشُ تبعًا للسلطان، ويتقدَّمُ خوفًُه في قلبه جميعَ المخوفات فتنساقُ المخاوفُ كلها تبعًا لخوفه، ويتقدَّمُ رجاؤه في قلبه جميعَ الرجاء، فينساقُ كل رجاءٍ تبعًا لرجائه. فهذا علامةُ توحيد الألوهية في هذا القلب، والباب الذي دخل إليه منه هو: توحيد الربوبية ... والمقصود: أن العبد يحصلُ له في هذا المشهد من مُطالعَة الجنايات والذنوب وجريانِها عليه وعلى الخليقة بتقدير العزيز الحكيم وأنه لا عاصمَ من غضبه وأسباب سخَطه إلا هُو، ولا سبيلَ إلى طاعته إلا بمعُونته، ولا وصول إلى مرضاته إلا بتوفيقِه؛ فمواردُ الأمور كلها منه، ومصادرُها إليه، وأزِمَّةُ التوفيقِ جميعُها بيديه، فلا مُستعانَ للعباد إلا به، ولا مُتَّكَل إلا عليه، كما قال شعيب خطيب الأنبياء: وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود: 88] ". اهـ. وإن أثر التوحيد في التزكية - بل في حياة المسلم - ليَبدو جليًّا في توحيد الهدف والغاية واتفاق العلم والعمل؛ حتى يكون فهمُ المسلم وعقيدتُه وعلمُه وعملُه وقصدُه واتجاهاتُ قلبه ونشاطُه منتظمًا في سلكٍ واحد، مُتوافقٍ مُؤتلِف، لا تعارُض فيه ولا تضارُب، ويرتفعُ عن كاهل الإنسان ذلك الضيقُ المُمِضُّ الذي يستشعِرُه حين تتعارضُ في نفسه الأهداف، وتتناقضُ الأعمال. ومما يُزكِّي النفوس أيضًا: تجديدُ الإيمان فيها على الدوام؛ إذ الإيمانُ يخلَقُ كما تخلَقُ الثياب، ولذا كان صحابةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأخذُ أحدُهم بيد الآخر فيقول: "تعالَ نُؤمن ساعة"، فيجلِسان فيذكُران الله تعالى. وفي ذكر الله تعالى وتلاوة كتابه وطاعته والازدلاف إليه أعظمُ ما يُجدِّدُ الإيمانَ في نفس المؤمن الذي يعلَمُ أن الإيمان يزيدُ بالطاعة وينقُص بالمعصية، فيعمل على زيادة إيمانه بصدق الالتجاء إلى الله تعالى الذي تكون أظهرُ ثِماره المُباركة تزكيةُ النفوس كما جاء في الدعاء النبوي الكريم: «اللهم آتِ نفوسَنا تقواها، وزكِّها أنت خيرُ من زكَّاها». ومما يُزكِّي النفسَ ويُصلِحُ القلب: دوامُ تذكُّر نعم الله التي أنعمَ بها على عباده؛ فإن إحصاءها خارجٌ عن مقدور البشر، كما قال تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [النحل: 18]، فإن هذا التذكُّر لهذه النعم يُورِثُ الذاكِر لها كمالَ تعلُّقٍ، وتمامَ توجُّهٍ إليه، وخضوعًا وتذلُّلاً له - سبحانه -؛ فإن كل ما وهبَه من حياةٍ وصحةٍ ومالٍ وولدٍ وجاهٍ وغيرها إنما هو منَّةٌ منه، وفضلٌ وإنعامٌ أنعمَ به كيف ومتى شاء، ولو شاء لسلَبَ ذلك منه متى شاء؛ فإنه مالكُ الملك كله، بيده الخيرُ يُؤتيه من يشاء ويصرِفُه عمن يشاء. ومعرفةُ ذلك ودوامُ تذكُّره باعثٌ على معرفة العبد بعجزه وضعفه وافتقاره إلى ربه في كل شؤونه، غير أن تذكُّر النعم لا بد من اقترانه بالعمل الذي يرضاه الله ويُحبُّه ويُثيبُ عليه يوم القيامة، وحقيقتُه: فعلُ الخيرات، وتركُ المنكرات على هُدًى من الله، ومتابعةٍ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مع العنايةِ الخاصةِ بالفرائضِ التي افترضَها الله على عباده؛ إذ هي أحبُّ ما يتقرَّبُ به العبدُ إلى ربه، كما جاء في الحديث: «إن الله تعالى قال: من عادَى لي وليًّا فقد آذنتُه بالحرب، وما تقرَّبَ إليَّ عبدي بشيءٍ أحبَّ إليَّ مما افترضتُه عليه، ولا يزالُ عبدي يتقرَّبُ إليَّ بالنوافل حتى أُحِبَّه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يسمعُ به، وبصرَه الذي يُبصِرُ به، ويدَه التي يبطِشُ بها، ورِجلَه التي يمشي بها، ولئن سألني لأُعطينَّه، ولئن استعاذَني لأُعيذنَّه»؛ أخرجه الإمام البخاري في "صحيحه" من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. ومما يُزكِّي النفسَ أيضًا: أعمالُ القلوب؛ فإن القلبَ ملكُ الجوارح، تصلُح بصلاحه وتفسُد بفساده، كما جاء في الحديث: «ألا وإن في الجسد مُضغةً إذا صلَحت صلَح الجسدُ كله، وإذا فسَدت فسدَ الجسدُ كلُّه، ألا وهي القلب»؛ أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" من حديث النعمان بن بشير - رضي الله عنهما -. ومن أهمها وأعظمها: نيةُ المرء ومقصودُه من كل عملٍ يعمله؛ فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى؛ فمن كانت هجرتُه إلى الله ورسوله فهجرتُه إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرتُه لدُنيا يُصيبُها، أو امرأةٍ ينكِحُها فهجرتُه إلى ما هاجرَ إليه»؛ أخرجه الشيخان في "صحيحيهما". فاتقوا الله - عباد الله -، واتخذوا من كتاب ربكم وسنة نبيكم - صلى الله عليه وسلم - خيرَ منهجٍ لتزكية النفوس وإصلاح القلوب، ابتغاءَ رضوان الله، واقتفاءً لأثر الصفوة من عباد الله: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ [الزمر: 18]. نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ، إنه هو الغفور الرحيم. الخطبة الثانية الحمد لله الوليِّ الحميد، الفعَّالِ لما يُريد، أحمده - سبحانه - يخلقُ ما يشاء ويفعلُ ما يُريد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله صاحب الخُلق الراشد والنهجِ السديد، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه. أما بعد، فيا عباد الله: إن النقص والتقصير والخطأ لا ينفكُّ عنه إنسان، ولا يسلمُ منه إلا من عصمَه الله، ولذا جاء الأمرُ بالتوبة للناس جميعًا

14 شعبان 1432 - معالم الهدى في أجواء الفتن - الشيخ صالح بن حميد

خطبة المسجد الحرام - 14 شعبان 1432 - معالم الهدى في أجواء الفتن - الشيخ صالح بن حميد الخطبة الأولى الحمد لله، الحمد لله المُتفرِّد بكمال القدرة، لا إله إلا هو الواحد القهَّار لا يقدُر أحدٌ قدرَه، أستغفره وأستهديه كم صفَحَ وكم غفَر وكم أقالَ من عثْرَة، وأُثني عليه بما هو أهلُه وأشكرُه على سوابغِ نعمٍ لا تُحصَى عددًا وآلاءٍ لا يُحاطُ بها كثرة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً خالصةً مُخلِصة أرجو بها النجاةَ بدُ الله ورسوله عبدٌ لا يُعبَد ورسولٌ لا يُكذَّب بل يُطاع ويُتَّبَع ويُسمَع له في العُسر واليُسر والمنشَط والمَكرَه، صلَّى الله وسلَم وبارَك عليه وعلى أصحابه الكرام وآله السادة العِترة، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ ممن اجتنَبَ نهيَه واتبعَ أمره وسلَّم تسليمًا دائمًا عشيَّةً وبكرة. أما بعد: فأُوصيكم - عباد الله - ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله - رحمكم الله -؛ فأكرم الناس عند الله أتقاهم، وأكرم الخلق على الله نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - رسول الله ومُصطفاه وخليلُه ومُجتباه، وقد أمره بقوله - عز شأنه -: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب: 1]. فاتقوا الله - رحمكم الله -، واسمعوا وأطيعوا؛ فطُوبى لمن سمِع فوعَى، ثم طُوبَى لمن تذكَّر لحدَه يوم يُوضَع فيه وحده، يوم يُنفَخ في الصور، ووُضِع الكتاب، وتقطَّعَت الأسباب، فشخَصَت الأبصار؛ فإما إلى جنةٍ وإما إلى النار، وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية: 28، 29]. أيها المسلمون: إن من منَّة الله على أهل الإسلام: أن وحَّد لهم مصدرَ التلقِّي، فلا تذبذُب ولا اضطراب في تلقِّي حقائق العقائد والأحكام وسُبل الهدى، المصدر: هو الوحي المعصوم الثابت من كتاب الله الذي لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خلفه، وما صحَّ من سنة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، يُؤمنُ أهل الإسلام بكل ما ثبتَ به اللفظ وصحَّ به الخبر فيما هو شاهد وفيما هو غائب، ما عقَلناه وما جهِلناه، ما أحطنا بحقائقه وما لم نُحِط، ومن طلبَ الحق في أمور الدين من الأحكام والعقائد والهُدى من غير هذا المصدر فقد ضلَّ سواء السبيل. ومن ظنَّ أنه يعتمِد على فهمه في هذه النصوص والأخبار دون النظر في فهمِ السلف الصالحين وأهل العلم الأثبات الراسخين، وأن فهمَه مُقدَّمٌ على فهومهم فقد سلكَ المسالكَ المُعوَجَّة. يُقال ذلك - أيها المسلمون - ويُقرَّر حين يكون الحديثُ عن الفتن وتبيُّنها وأخبار الملاحِم وأنباء الحوادث الكُبرى، أخبارٌ وأنباءٌ تتعلَّق النفوس بها وتبحث عن تأويلها وأوقات حُدوثها ومواعيد وقوعها، ومما يستدعِي الإيضاحَ والبيان: أن من قواعد البشر التعلُّق بالغيبيات والتشوُّف لاستشراف المستقبل والتتبُّع لمعرفة أنباء مخبوء الغيب؛ من تأويل النوازل، وتفسير الأحداث، وأعمار الدول، وفناء الأمم؛ بل تراهم يتعلَّقون بالرُّؤى والمنامات وأنباء الغيب، حتى إنهم ليلجئون إلى الكهَّان والمُنجِّمين والمُشعوِذين والمُعبِّرين وأضرابِهم بُغيةَ استكشاف ما وراء الحُجُب؛ ذلك أن العلة بما سيكون والتطلُّع لحوادث المستقبل أمرٌ تنجذِب إليه النفوس؛ فهو حلوُ المذاق، عذبُ الطعم، وفي مقدمة ذلك: أحاديث الفتن والملاحِم وأخبار آخر الزمان، تتشوّق لها نفوسهم، وتتشوَّف لها رغباتُهم، وتمتدُّ إلى سماع أخبارها أعناقُهم. غير أن الله - سبحانه - طوَى عن الخلق حقائق الغيب، وضربَ دونه الأسداد، وحجَبَه عن أكثر العباد، وفتحَ لهم بابًا يكون لهم فيه نفعُهم في أمور دينهم ودنياهم، لا يدخل عليهم ضرر، ولا يشغلهم عن مهماتهم ووظائفهم. أيها المسلمون: وهذا بيانٌ لمعالم هُدى يتبيَّنها المسلم وهو ينظر في أحاديث الفتن ويستمِعُ إليها ويقرأُ عنها؛ فمن معالم الهُدى: أن نبينا محمدًا - صلى الله عليه وآله وسلم - يُخبِرنا عن حلول الفتن واضطراب الأحوال وأنباء الهَرْج والمَرج وحوادث آخر الزمان وأشراط الساعة، فليس من أل التخويف والإنذار وحده، ولا لمجرد الإخبار باقتراب الزمان وتغيُّر الناس وحُلول الهَرْج والمَرْج؛ بل لأجل الاشتغال بالعمل وبذل مزيدٍ من الصالحات. ألم تروا إلى نبيكم محمد - صلى الله عليه وسلم - حين سُئِل عن الساعة، فقال للسائل: «ماذا أعددتَ لها؟»، وفي لفظٍ: «ويلكَ؛ ما أعددتَ لها؟». فتأمَّلوا هذا التوجيهَ النبوي من المعلِّم الهادي - صلى الله عليه وسلم -، فقد صرفَ السائلَ إلى ما يعنيه ويُفيده. يقول الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: "والحكمةُ من هذه الأحاديث والأنباء إيقاظُ الغافلين، والحثُّ على التوبة، والاستعداد؛ فهذه الأخبار مواعظُ تزجُر القلوب لتُقبِل على علاَّم الغيوب - جل وعلا -". فالعبدُ الحازمُ المؤمنُ من إذا سمِع ما صحَّ من هذه الأخبار قادَه ذلك إلى العمل والحَزم والاستعداد، والخُسران والدَّمار لمن أعرضَ واشتغل بالتأويلات والتخييلات الصارفة، فهي أخبارٌ وأنباءٌ لزيادة الإيمان وإقامة الحُجَّة ومزيد العمل والعبادة. وتأمَّلوا هذا التوجيهَ النبوي في قوله - عليه الصلاة والسلام - وهو يذكُر الفتن: «فإن من ورائكم أيام الصبر، الصبرُ فيهن مثلُ قبضٍ على الجمر، للعامل فيهن مثلُ أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم». قالوا: يا رسول الله! أجر خمسين منهم؟ قال: «أجر خمسين منكم»؛ أخرجه أبو داود، وابن ماجه، والترمذي، والطبراني في "الكبير" و"الأوسط" من حديث أبي ثعلبَة الخُشنيِّ - رضي الله عنه -. وفي حديث معقِل بن يسار - رضي الله عنه - في "صحيح مسلم" عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «العبادة في الهَرْج كهجرةٍ إليَّ». قال أهل العلم: "أي: العبادة في وقت اختلاف الناس واشتغالهم"، قالوا: "وعظُم الفضل لأن الناس يغفلونَ عنها ويشتغِلون بها، ولا يتفرَّغ إلا من رحِم الله وعصَم". وتأمَّل ما تفعلهُ وسائلُ الإعلام في صرفِ الناس وانشغالهم بمُتابعتها ليلاً ونهارًا، يشغلُ بها المُبتَلى نفسَه وفِكرَه وأصحابه في تحليلات وتعليلات وتخييلات وهو ليس فيها من قبيلٍ ولا دبيرٍ؛ هل هذا خير أم انصراف المرء إلى الإحسان في عمله ومسؤولياته المُؤتَمن عليها والمسؤولٍ عنها والمُحاسَب عليها. شغلَ نفسَه بقراءة الصحف وسماع المِذياع ومُشاهَدة القنوات ومُتابعة المواقع، ومن انشغلَ بما لا يعنيه انصرف عما يعنيه. ولعلَّ المُتأمِّل يُدركُ لماذا شبَّه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - العبادَة بالهجرة؟ قال أهل العلم: "لأن الهجرة فرارٌ بالدين من المكان المَخوف المُضطرب إلى المكان الآمِن الذي يُقيم فيه المسلمُ دينَه". والعبادةُ في أزمان الفتن فرارٌ من هذه الموجات، فرارٌ إيجابي وليس انهزامًا وسلبية؛ بل هو البناءُ والعمل، اشتغالٌ بالعمل الصالح والعبادة والإصلاح ونُصرة الدين وجمع الكلمة والتحذير من الفُرقة، في أبوابٍ من عمل الخير وأنواعٍ من العبادات الواسعة مفتوحة؛ من صلواتٍ، وصدقاتٍ، وصيامٍ، وحجٍّ، وعمرةٍ، وزيارةٍ، وإحسانٍ في المعاملات، وصدقٍ في العلاقات، وصفاءٍ في القلوب، وحبٍّ في الخير، والنُّصح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من كل ما يُحبُّه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، من أعمالٍ مالية وبدنية وقولية وقلبية، وما فتحَ الله من أنواع الأعمال والطاعات، ولكل عملٍ بابٌ من أبواب الجنة. فشمَّر الصالحون المُوفَّقون عن ساعد الجدِّ، وتلمَّسوا أبوابَ الخير والنجاة والثبات، واتقَوا الفتن، واجتنَبوا أبوابَ الشر، «وإذا قامَت القيامة وفي يد أحدكم فَسيلة فليغرِسها». أيها المسلمون: ومن معالم الهُدى في أوقات الفتن وسماع أخبار الملاحِم: التأنِّي في الفهم والتأويل، والتأنِّي في تنزيل الأخبار على الوقائع والأحداث، يقول عبد الله: "إنها ستكون هنَّاتٌ وأمورٌ مُشتبِهات؛ فعليك بالتُّؤدة، فلأَن تكون تابعًا في الخير خيرٌ من أن تكون رأسًا في الشر". فالعاقل الزاكي من يُدرِك الأمور بعقله وبصيرته، والجاهلُ يندفِعُ بعاطفته وغفلته، العاقل المُتثبِّت يلزمُ الهدوء والسكينة والاعتدال، ويجتنبُ العجلَة والخفَّة، لا يقنَط عند المُصيبة، ولا يضطرِبُ عند النازِلة، ولا يتعدَّ حدود الشر ولا سيما ذوو الرأي والريادة ومن هم في مقام الرئاسات والتوجيه وذوي الشأن. ولقد قال الحبيبُ المُصطفى - صلى الله عليه وآله وسلم - لأصحابه - وقد سمِعوا اضطرابًا في المدينة -: «لن تُراعوا». وتأمَّلوا ثبات أبي بكر - رضي الله عنه - عند موت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهل هناك مُصابٌ جلَلٌ أعظمُ منه؟! لقد جمع الله لأبي بكر - رضي الله عنه - الصبرَ والثباتَ واليقينَ، يقول أنس - رضي الله عنه -: "خطَبَنا رسول الله أبو بكر - رضي الله عنه - وكنا كالثعالب، فما زال يُشجِّعُنا حتى صِرنا كالأسود"، ثم كان من أبي بكر ما كان؛ من بعثِ جيش أسامة، وحروب الرِّدَّة ومانِعي الزكاة، فثبَّتَ الله به الدين والأصحابَ، وقوَّى العزائم، وحفِظَ الإسلام. ومن التثبُّت: التروِّي وعدم التعجُّل في إعطاء الرأي أو إبداء الحكم أو التفسير؛ بل قد لا يلزمُ إبداء الرأي ولا التكلُّم في كل نازلة، فما كل رأيٍ يُجهَر به، ولا كل ما يُعلَم يُقال، ولا كل ما يصلُح للقول يُقال عند كل أحد. وقد قال بعض الحكماء: "إن لابتداء الكلام فتنةً تروق، وجِدَّةً تُعجِب، ومن سكت لا يكاد يندَم، ومن تكلَّم لا يكاد يسلَم، والعجِل يقول قبل أن يعلَم، ويُجيبُ قبل أن يفهَم، ويعزِم قبل أن يُفكِّر، ويمضِي قبل أن يعزِم، وخَميرُ الرأي خيرٌ من فَطيره، والخطأُ زادُ العَجول، ورُبَّ رجلٍ واسعِ العلمِ بحرٍ لا يُزاحَم، لكنه قصير النظر، يُؤتَى من جُرأته وتسرُّعه وقلَّة أناتِه وتدبُّره". ومن معالم الهدى - يا عبد الله -: إن كنتَ ممن لم يتبيَّن له موقفٌ واضحٌ من تلقاء نفسه، أو من توجيه علماء خُبراء ثقات؛ فلتعتزِل الخوضَ في ذلك والاشتغال به، ولتلتفِت إلى خاصَّة نفسك، وفي مثل ذلك جاء الحديث الصحيح في "سنن أبي داود" عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن بين أيديكم فتنًا كقطع الليل المُظلِم، يُصبِح الرجلُ فيها مؤمنًا ويُمسِي كافرًا، ويُمسِي مؤمنًا ويُصبِح كافرًا، القاعدُ فيها خيرٌ من القائم، والقائمُ فيها خيرٌ من الماشي، والماشي فيها خيرٌ من الساعي». قالوا: فما تأمرنا؟ قال: «كونوا أحلاسَ بيوتكم». وفي خبرٍ آخر في "سنن الترمذي": «أمسِك عليك لسانَك، وليسَعْك بيتُك، وابكِ على خطيئتك». وعند أبي داود أيضًا: «إن السعيدَ لمن جُنِّب الفتن، إن السعيدَ لمن جُنِّب الفتن، إن السعيدَ لمن جُنِّب الفتن، ولمن ابتُلِي فصبَر». ومن أظهر مظاهر الاعتزال: كفُّ اللسان؛ فقد أخرج ابن ماجه في "سننه" عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «تكون فتنة تستنظِفُ العرب - أي: تقتلهم -، قتلاها في النار، اللسانُ فيها أشدُّ من وَقع السيف». وكم للإعلام في ذلك بوسائله من ضحايا

21 شعبان 1432 - القمر أحكام وآداب - الشيخ سعود الشريم

خطبة المسجد الحرام - 21 شعبان 1432 - القمر أحكام وآداب - الشيخ سعود الشريم الخطبة الأولى الحمد لله فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [الأنعام: 96]، يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [لقمان: 29]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، وصفيُّه وخليلُه، وخِيرتُه من خلقه، دعا إلى سبيل ربه بالحكمةِ والموعظةِ الحسنة وجادلَ بالتي هي أحسن، وجاهدَ في الله حقَّ جهاده حتى أتاه اليقين، فصلواتُ الله وسلامُه عليه وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه والتابعين، ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا. أما بعد: فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي - بلزوم تقوى الله حقَّ التقوى، والاستمساك من الإسلام بالعُروة الوُثقى، أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس: 62، 63]. عباد الله: مخلوقٌ عظيمٌ من مخلوقاتِ الله، له وقعٌ في نفوس العباد، وفيه إطلالةٌ ونورٌ يُشعِلان الحياةَ في وجودنا، كما أنه آيةٌ من آيات الله الظاهرة، ذكره الله في كتابه سبعًا وعشرين مرةً، وأقسم به في ثلاثة مواضع من كتابه الكريم، وسُمِّيت سورةٌ كاملةٌ باسمه، هو مضرِبُ الأمثال في تحريك مشاعر الحزن والبهاء والوصف والجمال، للشعراء معه غدوةٌ ورَوحة، فيه من صفات الإنسان مرحلةُ تكوينه؛ حيث يبدو وليدًا، فلا يزالُ ينمو إلى أن يتمَّ ويكتمل ليتلقَّى سنةَ الله في النقصان بعد الكمال والأُفول بعد الظهور والبُروز. وللهِ ما أشدَّ فقدَه في الليلة الظلماء؛ إذ في الليلة الظلماء يُفتقَد البدر، إنه القمر - عباد الله -، القمر الفاضلُ على سائر الكواكب، والذي يُشيرُ إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - في أكثر من موضع من سنته حالةَ التفضيل بين الأشياء، وذلك بقوله: «كفضل القمر على سائر الكواكب». نعم؛ إنه القمر الذي يُذكِّرنا بالوجوه الناضرة التي هي إلى ربها ناظرة وذلك يوم القيامة؛ حيث يقول جرير بن عبد الله البجلي - رضي الله عنه -: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جلوسًا، فنظر إلى القمر ليلةَ البدر - ليلةَ أربع عشرة -، فقال: «إنكم سترون ربَّكم كما ترون هذا لا تُضامون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تُغلَبوا على صلاةٍ قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا»، ثم قرأ هذه الآية: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا [طه: 130]؛ رواه البخاري ومسلم. أيها المسلمون: قلوب العباد مُشرئبَّة، وعيونهم مُحدِقةٌ بلَهَف المُشتاق ولوعَة الفاقد، مُشرئبَّةٌ لانبثاق هلال رمضان الوليد الذي سيُطِلُّ عليهم بعد أيامٍ معدودة، يترقَّبون ذلك الوليد ليُؤذَنوا بشهرٍ له في مجتمعهم تأثير، وفي نفوسهم تأديب، وفي مشاعرهم إيقاظ. يترقَّبون ذلك الوليد بعد أن ظلُّوا أحدَ عشر شهرًا وهم سائرون في مسالك الحياة ودروبها، ينالون منها وتنالُ منهم. فيا لله العجب؛ كيف أودع الله في هذا المخلوق من العِبر والحِكم ما لو استشعرَ العبدُ أثرَه وقيمتَه وتتبَّع أسراره لوجدَ ما يهديه إلى زيادة المعرفة بربه وقدره حقَّ قدره، وكيف أن الله أقسم به فقال: كَلَّا وَالْقَمَرِ [المدثر: 32]، وقال: وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا [الشمس: 2]، وقال: وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ [الانشقاق: 18]. إن الله لا يُقسِم إلا بشيءٍ عظيم، وله - سبحانه - أن يُقسِم بما شاء من مخلوقاته وليس للبشر ذلك، فليس لهم الحلِفُ إلا بالله، ولا القسَم إلا بالله، وأن من حلَفَ بغير الله فقد كفرَ أو أشركَ، كما صحَّ بذلكم الخبر عن الصادق المصدوق - صلوات الله وسلامه عليه -. لقد كتب الله على القمر إهلالاً ثم إبدارًا ثم أُفولاً، وهذه سنة الله في الأشياء: وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ [يس: 39]؛ لأن لكل شيءٍ إذا ما تمَّ نقصانًا ونهاية، وهذه حالُ الناس؛ فدوامُ الحال من المُحال، وكل اجتماع فإلى افتراق، والدهرُ ذو فتحٍ وذو إغلاق، فقد جاء في "الصحيح" أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن حقًّا على الله ألا يرفعَ شيئًا من الدنيا إلا وضعَه». فعلامَ إذًا ينتشِي المرءُ ويُصيبُه الزُهُوُّ والغرور والإعجابُ بالنفس وهو إلى الزوال صائر، وإلى الأُفول سائر، كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن: 26، 27]، وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ [الفرقان: 58]. اُرقُب زوالاً إن تكن حُزتَ العُلا فالشيءُ يهوِي بعد أن كان ارتفع ما طارَ طيرٌ مرةً نحو السما مُستمتِعًا إلا كما طار وقع إن مما ألجَمَ به الخليلُ - عليه السلام - أفواهَ قومه في عبادةِ غير الله أو الإشراك به أن جعل القمر علامةً على وحدانيته - سبحانه -، وأنه مُستحقٌّ للعبادة وحده دون سواه، وذلك حين قال عنه: فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ [الأنعام: 77]، ومَن مَصيرهُ الأُفول فهو ليس مُستحقًّا للعبادة، فـ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ [البقرة: 255]. أيها المسلمون: أخرج البخاري ومسلم في "صحيحيهما" من حديث أنس - رضي الله عنه - أن أهلَ مكة سألوا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُريَهم آيةً، فأراهم القمرَ شِقَّين، حتى رأوا حِراء بينهما، وقد قال الله - جل وعلا -: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر: 1]، فكان حادثُ الانشقاق من مُعجِزاته - صلى الله عليه وسلم - ودلائل نبوَّته وهو الصادق المصدوق. عباد الله: إن الله - جل وعلا - جعل للعبادات أوقاتًا زمانيةً وأوقاتًا مكانية، وقد احتلَّ القمرُ جزءًا كبيرًا من الأوقات الزمانية؛ كالحج في قوله: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [البقرة: 197]، وكالصوم في قوله: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة: 185]، وغير ذلكم من المواقيت الزمانية المرهونةِ بالأهِلَّة ومنازلِ القمر؛ كالعِدَد، وأيام البِيض، وغيرها. والتوقيتُ القمريُّ هو مما امتنَّ الله به على أمة الإسلام وجعله من خصائصها؛ حيث كانت الأمم السابقة تعتبِر ميقاتها وأعوامَها بالسنة الشمسية وهي تزيدُ على القمرية بأحد عشر يومًا، ومنه قوله تعالى: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا [الكهف: 25]، فثلاثمائة بتقدير الشمس، وثلاثمائة وتسع بتقدير القمر، وكان ميقاتَ العرب قبل الإسلام هو القمر خلافًا لمن سواهم، فوافقَ الإسلامُ هذا التوقيتَ ووجَّهَه. وقد صحَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إنا أمةٌ أمِّية لا نكتُب ولا نحسِب، الشهرُ هكذا وهكذا» - يعني: مرةً تسعةً وعشرين، ومرةً ثلاثين -؛ رواه البخاري ومسلم. وبعدُ، أيها الناس: فإن القمر آيةٌ من آيات الله يُخوِّفُ الله به عبادَه بخُسوفه في الدنيا وخُسوفه في الآخرة، كما قال تعالى: فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ [القيامة: 7 - 12]. هذا هو القمر - عباد الله -، وتلكم بعض المُلَح والطرائف والحِكَم التي أودعها الله هذا المخلوق العظيم، والله - جل وعلا - يقول: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ [لقمان: 11]، ولذا فإن من العيب كل العيب الاستهانةَ به، ومن الانحرافَ المشين التوقيتَ والتأريخ بغيره، كما أن من الخطأ تنشِئَة الصغار على التعلُّق بالرسوم، سواء كانت ثابتةً أو متحركةً والتي يُبرِزون من خلالها القمرَ وله عينان وأنف ونحو ذلك، أو أن له فمًا أو أنه يضحك ويبكي، فهو آيةٌ من آيات الله لا يجوز امتهانُها والاستخفافُ بها، إنما هي للاعتبار واستشعار عظمة الله وقدرِ الخالق حق قدره، فالله - جل وعلا - يقول: وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ [الرعد: 2]، وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [فصلت: 37]. وقد وقع في قديم الزمان وحديثه لدى بعض الأمم والشعوب اعتقاداتٌ خاطئةٌ في القمر خرجوا بها عما خلقه الله من أجله؛ فمنهم من ظنَّ أن يخسِف لموت أحدٍ أو حياته، وقد أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك في قصة الكسوف حين ظنَّ بعضهم أن الشمسَ كسَفَت لموت ابنه إبراهيم. وقد كان المُنجِّمون والسحَرة والمُشعوِذون قديمًا وحديثًا يُقحِمون القمر في أمور الناس؛ فقد ذكر شيخ الإسلام وغيره أن عليًّا - رضي الله عنه - عندما أراد المسيرَ لقتال الخوارج عرضَ له مُنجِّم، فقال: يا أمير المؤمنين! لا تُسافر والقمر في العقرب، فإنك إن سافرتَ والقمر في العقرب هُزِم أصحابُك، فقال: "بل نُسافر ثقةً بالله، وتوكُّلاً على الله، وتكذيبًا لك"، فسافر فبُورِك له في ذلك، حتى عامةَ الخوارج. وقد يعجبُ بعضُنا حينما يعلم أن دراساتٍ نفسية مُعاصرة لدى غير المسلمين كوَّنوا منها اعتقادًا باطلاً، وهو أن للقمر تأثيرًا على مِزاج الإنسان، وأن الجرائم تزداد عندما يكون بدرًا، ويُعلِّلون لذلك - تعسُّفًا منهم -: أن القمر له علاقةٌ بمدِّ البحار وجزرها، فكذلك الإنسان؛ لأن الماء يُمثِّل ثمانين بالمائة من وزنه. ويزداد العجبُ - عباد الله - حينما يغترُّ بعضُ المسلمين بذلكم، ويُطوِّع النصوصَ الشرعية لتُوافقُ اعتقادًا خرافيًّا أبطلَه عُقلاءُ أولئك القوم، فكان من تطويع بعض المُغترِّين من المسلمين لهذه النصوص أن ربطَ بين الحكمةِ من صيام أيام البِيض وتأثير القمر على الإنسان حالَ الإبدار؛ وذلك للإقلال من الجرائم. معاذ الله! مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ [ص: 7]، وما القمرُ إلا خلقٌ من خلق الله يسجدُ له كما يسجدُ بنو آدم: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ [الحج: 18]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلتُ ما قلت، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفَّارًا. الخطبة الثانية

28 شعبان 1432 - رمضان موسم الخيرات والبركات - الشيخ عبد الرحمن السديس

خطبة المسجد الحرام - 28 شعبان 1432 - رمضان موسم الخيرات والبركات - الشيخ عبد الرحمن السديس الخطبة الأولى إن الحمد لله نحمده - سبحانه - ونستعينه ونستغفره، هو وليُّ التوفيق والهُدى، خصَّنا بموسمٍ للطاعات ما أهناه مورِدًا، من استبَقَه بلغَ من مراضي الديَّان فرقدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً نتبوَّأ بها من الجِنان مقعَدً، وأشهد أن نبينا وقدوتنا محمدًا عبد الله ورسوله خيرُ من صامَ وقامَ فكان في الفضلِ أوحدًا، اللهم ربنا فصلِّ عليه محمدًا وأحمدًا، وعلى آله الأُلَى بلغوا من شهر التُّقَى مجدًا وسُؤددًا، وصحبِه الكرام الذين أمضَوا رمضانَ رُكَّعًا وسُجَّدًا، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ يرجو المآلَ الأسعدا، وسلِّم تسليمًا كثيرًا لا يزالُ عذْبًا مُردَّدًا، ما راحَ في الإحسانِ رائحٌ أو غدا. أما بعد، فيا عباد الله: إن رُمتُم عزًّا سرمدًا فاتقوا الله العظيمَ الأمجدا، واغتبِطوا بشهر الصيام تُفلِحوا اليوم وغدًا؛ فالسعيدُ من اتقى ربَّه واهتدَى، ولم يُضيِّع شريفَ الأوقاتِ بددًا، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر: 18]. عليك بتقوى الله سرًّا وجهرةً ففيها جميعُ الخير حقًّا تأكَّدا لتُجزَى من الله الكريم بفضلِه مُبوَّأ صدقٍ في الجِنانِ مُخلَّدًا أيها المسلمون: في مُضِيِّ المسلم لربِّه بالآصال والبُكور، وفي سيره لمولاه في جميع الأمور، مع ما يكتنِفُ ذلك من الماديات، وما يُصاحِبُه من مُتغيِّرات، وما يعيشُه كثيرون من فراغٍ وإجازاتٍ وأسفارٍ وسياحةٍ وتنقُّلات، وما تُعانيه الأمةُ من أحداثٍ ومُستجِدَّات، لا غرْوَ أن ينتابَه التواني والفُتور، والنَّمطِيَّةُ عبر الشهور؛ بل لربما التِّرَةُ والقصور في القِيَم والعبادات وشتَّى المجالات. من أجل ذلك - وما أعظم ما هنالك - خصَّنا المولى - جلَّ اسمه - بأزمنةٍ مباركةٍ ومواسم بالخيرات والمِنَح نواسِم، اكتنَزَت حِكَمًا لاستنهاضِ النفوس مقصودة، وغاياتٍ باهراتٍ للتشويق للطاعات معقودة، فيها ينعطِفُ المسلمُ لشِيَمه التعبُّدية المحمودة، ويُعاوِد انبعاثَته في الخير المعهودة. ومن تلك الأزمنةِ المَشوقة: شهرٌ عظيمٌ شأنه، شريفٌ زمانه، تبدَّى ببهائه إلينا، وأقبلَ برائع مُحيَّاه علينا، فيه تُدرِكُ النفوسُ ألَقَ الإحسان، ونداوَة اليقين وحلاوةَ الإيمان، إنه شهر رمضان المُبارك الميمون، أقبل ليُجدِّد لنا في كل يومٍ مسرَّةً وبُشرى، وينفَحَنا أريجًا طابَ عرْفًا ونشرًا، ويُزكِّي القلوبَ بالرحمات وقد أصارَها لديه أصرًا، وكم شدَّ بالتراويح والتهجُّد منا أزرًا وأزرًا، وأدلَجَ بنا في أنداء الطُّهر وأسرَى. إخوة الإيمان: إنه شهرُ الصيام والقيام، أقبلَ ليُوقِظَ فينا جمالَ الرجاء، ولذَّة الدعاء، وشوقَ التبتُّل الصادق الهتَّان، وتباريحَ التضرُّع الفَيْنان، بين يدي الرحمن، ولننهَل من كوثره الرقراق كؤوس الهُدى الدِّهاق، فيُحيلُ - بإذن الله - أرواحَنا أزهارًا مُمرِعة بسُيُوب الغفران، أسِيَةً بخمائل الرضوان. فأهلاً بشهر التُّقى والجُود والكرَمِشهر الصيامِ رفيعِ القدرِ في الأُممِ نفوسُ أهل التُّقَى في حبِّكم غرِقَت وهزَّها الشوقُ شوقُ المُصلِح العلَمِ معاشر المسلمين: ضيفُكم الكريم هو الفرصةُ السانِحة، والصفقةُ الربانيةُ الرابحة للتزوُّد للدار الآخرة بالأعمال الصالحة، وليس إلى مرضات الرحمن - بحمد الله - كبيرُ مشقَّةٍ واقتحامِ عناء، إن راقبَ المسلمُ نفسَه وأولاهَا الحزمَ والاعتناء، وبادرَ إلى الطاعة دون تلكُّؤٍ أو وَناء، مُعتبِرًا بمن كانوا بيننا في العام الماضي وقد سرَت بهم المنَايَا القواضِي، فالبِدار البِدار إلى فضل الله الممنوح قبل فواتِ الروح، وأجهِدوا أنفسَكم أن يكون عهدُ التوانِي منسوخًا، وزمنُ التسويفِ مفسوخًا. وفي مأثور الحِكَم: "من أشدِّ الغُصَص فواتُ الفرص، ومن أخدَ للتواني حصدَ الأوهامَ والأماني". وخيرُ الدُّرَر ما صحَّ عن سيد البشر - بأبي هو وأمي - عليه الصلاة والسلام -؛ فعن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجتهِد في رمضان ما لا يجتهِد في غيره؛ رواه مسلم. ومن شمَّر عن ساعدِ العبادة والجِدِّ انصرفَ بمديد الفوز والجَدِّ. يا أمتي! استقبِلوا شهرًا بروحِ تُقًىوتوبةِ الصدقِ فالتأخيرُ إغواءُ توبوا إلى ربكم فالذنبُ داهيةٌ ذلَّت به أممٌ واحتلَّها الداءُ أيها المؤمنون: في رمضان يفتحُ الحُبور للصائم بابًا، ويفوزُ يومَ يُؤتَى باليمين كتابَه، وإذا لقِيض ربَّه وفَّاه حسابَه؛ عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «للصائم فرحتان يفرحُهما: إذا أفطرَ فرِح، وإذا لقِيَ ربَّه فرِحَ بصومه»؛ خرَّجه الشيخان. وما دعا ربَّه إلا أجابَه، ولم يُوصِد دونه بابَه؛ يقول - عليه الصلاة والسلام -: «إن للصائم عند فِطره لدعوةً ما تُردُّ»؛ أخرجه ابن ماجه وغيره. وإذا كانت أول ليلةٍ من رمضان صُفِّدت الشياطينُ ومرَدَةُ الجن، وغُلِّقَت أبوابُ النار فلم يُفتَح منها باب، وفُتِّحت أبوابُ الجنة فلم يُغلَق منها باب، ويُنادِي مُنادٍ: يا باغي الخير أقبِل، ويا باغِي الشرِّ أقصِر، ولله عُتقاءُ من النار، وذلك كل ليلة؛ أخرجه الترمذي، وابن ماجه، وابن خزيمة وصحَّحه. الله أكبر! ما أكرمه من عطاءٍ، وما أعظمَه من حِباء. وكم لله من نفحَاتِ خيرٍبمقدَمِك السعيدِ أخا السناءِ فكم خشَعَت قلوبُ ذوي صلاحٍ وكم دمَعَت عيونُ الأتقياءِ فحيَّ هلاً بمن اختار الخيرَ بنواحِيه وأطرافه، ولزِمَ المعروفَ من قواصِيه وأكنافِه، وكان دَيدَنُه الذكرَ والترتيلَ والصدقَة، والاستغفارَ والتوبةَ والنفقَة، وأداء الحقوق، والخروج من المظالِم، والرحمةَ والجُود على ذوي المَسغَبَة ممن أعوَزَهم الفقرُ والفاقَة والجفافُ والمجاعة. أمة القرآن: وطُوبَى لقومٍ يُلقون قلوبَهم إلى القرآن بالتدبُّر والسمع، فتفيضُ أعينُهم من الوجَل بالدمع، أزلفَهم الله إليه وأراضهم، وأكرمَ قلوبَهم بالقرآن وأحظاهم. أمة الصيام والقيام: تلك - وايْمُ الله، ثم وايْمُ الله - حقيقة القلوبِ والأجساد التي ما فُطِرت إلا لعبادة ربِّ العباد، ولتتملَّى مِنَح البرِّ الوَدود في محاريبِ الطاعات والسجود، فأين المُشتاقون لجنات الخلود؟! ألا فلتجعلوا - معاشر المؤمنين، رحمكم الله - لجوارحِكم زِمامًا من العقل والنُّهَى، ورقيبًا من الورَعِ والتُّقَى؛ حِفظًا للصيامِ عن النقصِ والانفِلام؛ فأيُّ غَناءٍ في أن يدَعَ بعضُ المسلمين طعامَه وشرابَه ثم يركبُ الصعبَ والذَّلول للآثام والمُوبِقات والمعاصي والمنكرات، لا يردُّه من الدين وازِع، ولا ينزِع به من حُرمة الشهر نازِع. وتحذيرًا للوالغين في هذا المكرَعِ الآسِن وتنبيهًا، يقول المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: «رُبَّ صائمٍ ليس له من صيامه إلا الجوعُ والعطَش، ورُبَّ قائمٍ ليس له من قيامِه إلا السهرُ والتعب»؛ خرَّجه النسائي، وابن ماجه. وهل مقاصد الصيام العِظام - يا أمة خير الأنام - عليه الصلاة والسلام - إلا تهذيبُ النفوس وترقِيَتُها، وذمُّها عن أدرانِها وتزكيتُها، وتقويمُ جُنوحِها، وسَوسُ شِماسِها وجُموحِها، وذلك هو المُرادُ الأسمَى، والهدفُ الأسنَى من شِرعةِ الصيام في الإسلام؛ ألا هو: تحقيقُ التقوى، يقول - سبحانه -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 183]. أي: تحقيقًا للتقوى ورجاءً، وغايةً وابتغاءً؛ فهل يعِي ذلك من غفَلوا عن مقاصد الصيام الحقيقية وكرِعوا في المقاصد الدنيوية الدنيئة من أهل الجشَع والطمَع والهلَع، وزيادةِ الأسعارِ وإغلاءِ السِّلَع، أو من أربابِ الشهواتِ القميئَة ممن يتسمَّرون أمام القنوات والفضائيات، فالله المستعان. ألا فاتقوا الله - عباد الله -، واستقبِلوا شهركم بالاغتِباط والاستبشار، وكثرةِ التوبة والاستغفار؛ فقد كان المصطفى - صلى الله عليه وسلم - يُبشِّر أصحابَه بقدوم شهر رمضان، ويقول: «قد أظلَّكم شهرٌ عظيمُ مُبارَك»؛ خرَّجه ابن خزيمة وابن حبان في "صحيحيهما". وما ذاك إلا تهيِئةً للنفوس، وشحنًا للهِمَم، وتقويةً للعزائم عن الفُتور والنُّكُوص، فهنيئًا لأمتنا الإسلامية بحُلول شهر الصيام، ويا بُشرى لها بموسمِ الرحمةِ والغفرانِ والعتقِ من النيران، وبارَكَ الله لها في أيامِه الغُرِّ ولياليه الزُّهْر، وأصلَحَ فيه أحوالَها، وحقنَ دماءَها، وحقَّق وحدتَها، وجمعَ كلمتَها على الحق والهُدى، إنه جوادٌ كريم. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة: 185]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم والسنة الشريفة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات الباهِرات والحِكَم المُنيفة، أقول قولي هذا، وأستغفرُ الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولكافة المسلمين والمسلمات من جميع الآثام والخطيئات، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه كان للأوابين غفورًا. الخطبة الثانية الحمد لله رفعَ لشهر الصيام قدرًا، وحثَّنا على تحقيق مقاصده الكُبرى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أجرَى في شهر الصيام من البرَكات ما أجرى، وأشهدُ أن نبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله أكرمُ العبادِ أرُومةً وذُخرًا، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وصحبه البالغين من الخير فضلاً عظيمًا وأجرًا، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله - عباد الله -، واستلهِموا التوفيقَ لشهر الصيام، واغتنِموا أيامَه وليالِيَه الكِرام؛ تفوزوا بمرضاة الملكِ العلاَّم. أمةَ الإسلام: يُهِلُّ علينا شهرُ رمضان المبارك وأمتُنا الإسلامية تلفَحُها المآسِي والفِتَن، ويطؤُها منسِمُ الرزَّايا والمِحَن، قد استحكَمَ في كثيرٍ من أقطارها الافتراق والاضطرابُ والشِّقاق، ولكن ثم لكن يحدُونا التفاؤلُ المُشرِق أن تقتبِسَ أمتُنا من مدرسةِ الصيامِ والقيام الحِكَمَ والعِظات، والعِبَر الهادِيات، وأن تُفِيءَ إلى رحابِ الاتحادِ والاعتصام، والتراحُم والوِئام، بدلَ الفُرقة والانقسام، وتنخلِعَ من ضيقِ المصالحِ الذاتية إلى سَعَة المقاصد الشرعية، ومن سَمِّ التعصُّبِ للآراء والأفكار إلى رَحابَة التشاوُر والحِوار، وتغليبٍ لصوت العقل والحِكمَة وإلقاء السلاح، ووقفِ نزيفِ الدمِ المُهرَاق؛ صيانةً للدماء المعصومة، وبُعدًا عن الفوضَى والاضطراب، والفتنِ والعُنفِ والتدميرِ والاحتِراب،

5 رمضان 1432 - تقوى الله في صيام رمضان - الشيخ صالح آل طالب

خطبة المسجد الحرام - 5 رمضان 1432 - تقوى الله في صيام رمضان - الشيخ صالح آل طالب الخطبة الأولى الحمد لله، الحمد لله الذي أفاضَ علينا من خيره ولم يزَل يُفيض، يدُه سحَّاء الليل والنهار، لا تُعجِزها نفقةٌ ولا تغيض، له المحامدُ والمكارم فلا يُحيطُ بحمده نثرٌ ولا قَريض، أحمده تعالى أشكره، وأُثني عليه وأستغفره، تفضَّل علينا بسيد الشهور، ويسَّر لنا فيه ما نحوزُ به عظيمَ الأجور، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم البعث والنشور. أما بعد: فالوصيةُ المبذولةُ الكبرى هي الوصيةُ بالتقوى؛ بها تكفيرُ الذنوب، والنجاةُ من الخُطوب، ومعرفةُ الحق حين التباسِ الدُّروب، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الأنفال: 29]. ترفَّعوا عن هذه الدنيا كما زهِد فيها الصالحون، وأعِدُّوا الزادَ لنُقلةٍ لا بد لها أن تكون، واعتبِروا بما تدور به الأيامُ والسنون، وتنبَّهوا فالغفلةُ قد تناهَت، والفتنُ عاصفةٌ قد تدانَت، ورحِم الله من تداركَ نفسَه، فشتَّان بين من عصَى اللهَ وخالفَ أمره وبين من قطع عمره في معاملة ربه وذكره، ولزِمَ الوقوف ببابه، ومرَّغ خدَّه على أعتابِه، فيا خجلةَ الخطَّائين، ويا ندامةَ المُفرِّطين. أيها المسلمون: شهرُكم المُعظَّم قد حلَّ، وفرصتُكم في التزوُّد حانَت، والعبدُ في هذا الشهر إما مُوفَّقٌ أو مخذول، أما وقد مضى من شهرنا ليالي، فستمرُّ أيامه سِراعًا، وتمضِي تِباعًا، وسيكون من شأن المُوفَّقين تحصيلُ وافِر الأجور، والسعادة في الدنيا وفي يوم النُّشور. وسيبكي أقوامٌ أسًى وندمًا على ضياعِ الليالي وفواتِ الأوقات، ولاتَ ساعة ندمٍ ولا بكاء، فاستبِقوا الخيرات، وتدارَكوا الأيام بالباقيات الصالحات، وقد صحَّت الأخبارُ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الشيخان - أن «من صامَ رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه»، وأن «من قامَ رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه»، وأن «من قامَ ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه». وصحَّ عن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «رغِم أنفُ امرئٍ أدركه رمضان فلم يُغفَر له». فكم رغِمت أنوفٌ ألهَتها شهواتُها والأهواء، ويا أيها الراكبون خلف سراب الدنيا قد حبسَت الأشغالُ أنفاسَهم، ويا أيها اللاهِثون وراء متابعة الأخبار، الباحثون عن كل تفاصيل الأنباء وإشاعاتها، وإلى اللاهين بالمسلسلات والقنوات السادرين في غفلة المُوبِقات، قد أعشَت الشاشاتُ أبصارَهم؛ إنها فرصتُكم لتتوقَّفوا قليلاً، وإنه شهرُكم لتهدأ فيه الأنفاس، ويطمئنَّ القلبُ، وتؤوبَ الروحُ إلى باريها، تبحثُ عن السعادة في جنَبات المسجد، ومن خلال آي القرآن، وتأنسُ بالجلوس للأسرة والأولاد. ليكن شأنُكم التقلُّل من أعراض الدنيا، والإحسانَ إلى الأقربين، وإدامةَ ذكر الله، وتحقيقَ التقوى التي شرعَ الله الصيامَ لأجلها: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 183]. يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفُث ولا يصخَب، فإن سابَّه أحدٌ أو قاتَلَه فليقل: إني امرؤٌ صائم»؛ رواه البخاري ومسلم. فهذا توجيهٌ لما يجبُ أن يكون عليه الصائم من كمال النفس، وطِيب الروح، وتأثير التقوى؛ لأن رمضان يصِل النفوس بالله فيُشرِقُ عليها من لدُنه النور حتى تذوقَ حلاوةَ الإيمان، ومن ذاقَ حلاوةَ الإيمان لم يعرفِ البغضاء ولا الشر ولا العُدوان. وإذا تحقَّقت التقوى في القلوب فإنه تمحُو الغشَّ من نفوس أهلها محوًا، ويملؤها خوفُ الله ورجاؤه فتعِفُّ نفوسهم عن الحرام، وتغضُّ أبصارهم عن المحارم، وتقِف ألسنتُهم عن الكذب؛ لأنها جرَت بذكر الله واستغفاره، وهانَت عليهم الدنيا حين أرادوا اللهَ والدار الآخرة، فغدَا الناسُ آمنين أن يغشَّهم تاجر، أو يعتدِي عليهم فاجِر. أيها المؤمنون: الصومُ الحقُّ يسوقُ المؤمنَ إلى تقوى الله سوقًا، ويحدُوه إلى العمل الصالح، والسعي والمسارعة إلى الحسنات تدارُكًا للزمن الفاضل، ومُبادرةً قبل الفوات؛ بَيدَ أن المُشاهَد في الحال أن رمضان لا يعدُو عند الكثيرين أن يكون توقُّفًا عن الطعام والشراب فحسب من غير زيادة عمل، ولا مزيد ورع، والله تعالى يقول: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. فإن لم يزدَد إيمانُك، وتكثُر أعمالُك، وينتهي عصيانُك، فراجِع نفسَك لئلا تكون من المُفرِّطين. وإذا آمنَ الإنسانُ بالله العظيم، وأيقنَ باليوم الآخر والحساب والجزاء دفعَه ذلك إلى استرضاء ربه والاستعداد للقائه والاستقامة على صراطه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 183]، بدأ بالإيمان وختمَ بالتقوى. ومن الضلال أن يهبِط الإنسانُ بحقيقة الدين، فيجعلُ الإسلامَ كلمةً لا تكاليفَ لها، وأمانيَّ لا عمل معها، فلا يقوم إلى واجب، ولا ينتهي عن محرم، فيكون من الذين اتخذوا دينَهم لهوًا ولعبًا وغرَّتهم الحياةُ الدنيا. وما من آيةٍ في كتاب الله ذكرت الإيمانَ مجردًا؛ بل عطَفَت عليه عملَ الصالحات أو تقوى الله أو الإسلامَ له؛ بحيث أصبحت صلةُ العمل بالإيمان آصرةٌ لا فَكاك عنها، وكثيرًا ما يُشار إلى الإسلام وحقيقته الشاملة بمظاهر عمليةٍ محدودة، فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ [البلد: 11 - 16]. بل إن العلامة التي ينصِبُها القرآنُ دليلاً على فراغ النفس من العقيدة، وخراب القلب من الإيمان هي في النُّكوص عن القيام ببعض الأعمال الصالحة، أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ [الماعون: 1 - 3]. يتقرَّر هذا - أيها المسلمون - في مشهد الضعف العام والتوانِي عن الأعمال، وهناك أناسٌ مزَّقَت المعاصي صِلَتهم بالله شرَّ مُمزَّق، وظلَّت أهواؤهم تجنحُ بهم بعيدًا عن الله حتى نسوا اللهَ أتمَّ نسيان، ولم يعرِفوا قدرَ رمضان. وإنكم - أيها المسلمون - تعرفون تاريخَ أممٍ هلَكت بسوء عملها، وتعرفون أن الله نقم على قوم لوط لارتكابهم الفاحشة، وعلى قوم شُعيب لبخسِهم المكيال والميزان، وقد عرفتُم مصائرَ أولئك الفاسقين؛ فهل أمتُنا وحدها هي التي تريد أن ترتكب السيئات دون حذرٍ أو وجَل، إن الإسلام ليس بِدعًا من الشرائع السابقة فيُوجِبُ الإيمان دون العمل؛ بل إن القرآن الكريم ليقُصُّ علينا عِبَر السابقين لنتَّعِظ منها، ثم لنسمَع قولَ الله بعد ذلك: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [يونس: 13، 14]، هكذا نُمتَحن، وتُراقَب تصرُّفاتنا، ويُكلِّفُنا الله بالإيمان والعمل جميعًا، ثم ينظر وفاءَنا بما حُمِّلنا من أعباء. وقد خاطَبَ الله بني آدم بهذه الحقيقة الجليَّة، وأفهَمهم أن نجاتَهم في الصلاح والتقوى لا في النفاق والدعوى: يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [الأعراف: 35، 36]. فرمضان شهرٌ يُثمِر التقوى والعملَ الصالح لا مجرَّد الإمساك عن الأكل والشرب، و «من لم يدَع قولَ الزور والعملَ به والجهلَ فليس لله حاجةٌ أن يدَع طعامَه وشرابَه»، ومن كان صادقًا فليجعل رمضان شهرَ عبادةٍ وخشوعٍ وتوبةٍ وإنابةٍ، يلتزِم فيه الأدب، ويترفَع عن الدنايا والرِّيَب، ويستحضِر العبودية بصيامه، ويعمُر وقتَه بالقُربات، ويستزيدُ من الطاعات، ما بين تلاوةٍ للقرآن، وتدبُّر لآياته، أو صدقةٍ وصلة، وإحسانٍ وبرٍّ، وذكرٍ لله تعالى بأنواع الذكر مع الخشوع والسكينة. ويمضِي النهارُ كلُّه على ذلك، فإذا كان الأصيلُ ودنا الغروب تجلَّى رمضان على الكون بوجهه، فهشَّت له وجوهُ الناس، وهتفَت باسمه الشِّفاه، وانظر إلى رمضان وقد سكَّن الدنيا ساعة الإفطار، وأراحَ أهلَها من التكالُب على الدنيا والازدحام على الشهوات، وضمَّ الرجلَ إلى أهله، وجمعَ الأسرةَ على أطيب مائدةٍ وأجمل مجلس، وأنفع مدرسة. ثم يتلو ذلك قيامُ الليل وتلاوة القرآن والدعاء والتضرُّع والإنابة والاستغفار، فيا باغِي الخير أقبِل، ويا باغِي الشر أقصِر. تقبَّل الله منا ومنكم. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُون [البقرة: 183 - 186]. بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة، ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم. الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد، أيها المسلمون: في كل عامٍ نترقَّب هذا الشهر لنستريحَ من وعثاء الدنيا وصخَبها، ولتستروِح قلوبُنا وتبتلَّ نفوسُنا وقد ألحفَها جفافُ السنين، وأرهقَها عصفُ الحياة، يعود شهرُ الخير لتتصافحَ الأيادي المُتباعِدة، وتت

12 رمضان 1432 - وجوب تدبر القرآن - الشيخ أسامة خياط

خطبة المسجد الحرام - 12 رمضان 1432 - وجوب تدبر القرآن - الشيخ أسامة خياط الخطبة الأولى الحمد لله العلي الأعلى، أحمده - سبحانه - وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثَّرى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله إمام المرسلين وخاتم النبيين وخيرُ الوَرى، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أئمة الهُدى ونجوم الدُّجَى. أما بعد: فاتقوا الله - عباد الله -؛ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [البقرة: 281]. عباد الله: لقد منَّ الله على هذه الأمة بإنزال كتابه العزيز قيِّمًا مباركًا لم يجعل له عِوجًا، فكان كتابَ هدايةٍ للتي هي أقوم، دلَّ الله به العبادَ إلى كل خيرٍ تطيبُ به حياتُهم، وتسعدُ به نفوسُهم، وتحسُن به عاقبةُ أمرهم، فأحيا به مواتَ القلوب، وأضاء به ظلماتُ الدروب، وكان كما قال الله في وصفه: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ص: 29]. وإن وجوه بركته - يا عباد الله - لا حدَّ لها، لا حدَّ يحُدُّها ولا مُنتهى لها، غير أن سبيلَ ذَيْن هذه البركة، وإن الطريق إلى إدراكها هو طريقُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي جعله الله لنا أُسوةً نقتدي به، ونترسَّم خُطاه، ونهتدي بهديه، لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب: 21]. وقد أوضح - صلى الله عليه وسلم - لأمته النهجَ الأمثلَ للانتفاع بالقرآن والاهتداء بهديه؛ فبهما تتجلَّى بركتُه، ويستبينُ سبيلُ العمل به، فبيَّن ما للاشتغال بتلاوة هذا الكتاب من بركةٍ تغمُر من يتلوه بالحسنات والأجر الضافِي، وترقَى به إلى المقامات العالية، وتُبلِّغُه المنازلَ الشريفة التي أعدَّها الله لحمَلَته يوم القيامة، وذلك في مثل قوله - صلوات الله وسلامه عليه -: «اقرأوا القرآن؛ فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه»؛ أخرجه مسلم في "صحيحه" من حديث أبي أُمامة - رضي الله عنه -. وفي مثل قوله - عليه الصلاة والسلام -: «يُؤتَى يوم القيامة بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا تقدُمه سورةُ البقرة وآل عمران تُحاجَّان عن صاحبهما»؛ أخرجه مسلم في "صحيحه" من حديث النواس بن سمعان - رضي الله عنه -. وفي مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا ويضعُ به آخرين»؛ أخرجه مسلم في "الصحيح" من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. وفي مثل قوله: «الذي يقرأ القرآنَ وهو ماهرٌ به مع السفَرَة الكرام البَرَرة، والذي يقرأ القرآنَ ويتتعتَعُ فيه وهو عليه شاقٌّ له أجران»؛ أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" من حديث عائشة - رضي الله عنها -. وفي مثل قوله - عليه الصلاة والسلام -: «يُقال لصاحب القرآن يوم القيامة: اقرأ وارتقِ ورتِّل كما كنتَ تُرتِّل في الدنيا؛ فإن منزلتك عند آخر آيةٍ تقرأ بها»؛ أخرجه الإمام أحمد في "مسنده"، والترمذي، وأبو داود في "سننهما" من حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - بإسنادٍ صحيح. غير أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يقصُر البيانَ على هذا؛ بل بيَّن للأمة أيضًا أن بركة هذا الكتاب وحقيقةَ الانتفاعِ به وسبيلَ الاهتداء بهديه إنما تكون لمن لم يجعل أكبر همِّه ومبلغَ علمه التلاوةَ وحسب؛ بل أخذ بحظِّه من تدبُّره وتفهُّم معانيه؛ إذ هو المقصود من القراءة، والغايةُ من التلاوة. وصفتُه - كما قال أهل العلم -: أن يشغل قلبَه بالتفكُّر في معنى ما يلفِظُ به، فيعرفَ معنى كل آية، ويتأمَّل ما فيها من الأوامر والنواهي، ويعتقدَ قبولَ ذلك، فإن كان مما قصَّر فيه فيما مضى اعتذَرَ واستغفرَ، وإذا مرَّ بآية رحمةٍ استبشَرَ وسأل، أو عذابٍ أشفقَ وتعوَّذ، أو تنزيهٍ نزَّه وعظَّم، أو دعاءٍ تضرَّع وطلبَ. وقد كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هذا النصيبُ الأوفَى والقِدحُ المُعلَّى؛ فقد أخبر حذيفةُ بن اليمان - رضي الله عنه - أنه "صلَّى معه - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة، فافتتحَ البقرة، قال: فقلتُ: يركعُ عند المائة، ثم مضى، فقلتُ: يُصلِّي بها، فمضى، فقلتُ: يركعُ بها، ثم افتتحَ النساءَ فقرأها، ثم افتتحَ آل عمران فقرأها، يقرأ مُترسِّلاً، إذا مضى بآيةٍ فيها تسبيحٌ سبَّح، وإذا مضى بسؤالٍ سأل، وإذا مرَّ بتعوُّذٍ تعوَّذ"؛ أخرجه مسلم في "صحيحه". وقد بلغ - عليه الصلاة والسلام - في تدبُّر القرآن، وكمال التفكُّر فيه، واستحضار معانيه في القلب، واستشعار عظمة ربه المُتكلِّم به - سبحانه - بلغ مبلغًا حملَه على أن قام في ليلةٍ بآية واحدةٍ يُكرِّرها، كما جاء في الحديث - الذي أخرجه الإمام أحمد في "مسنده"، والنسائي وابن ماجه في "سننهما"، والحاكم في "مستدركه" بإسنادٍ صحيحٍ - عن أبي ذرٍّ الغفاري - رضي الله عنه - أنه قال: قام النبي - صلى الله عليه وسلم - بآيةٍ حتى أصبح، بها يركع، وبها يسجُد، وهي قوله - سبحانه -: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة: 118]. ولا عجبَ أن يكون لهذا الهدي النبوي أثرُه البالغُ في قلوبِ وعقول سلفنا الصالح - رضوان الله عليهم -؛ فهذا زيدُ بن ثابتٍ - رضي الله عنه - يسأله رجلٌ فيقول: كيف ترى في قراءة القرآن في سبع؟ قال زيدٌ: ذلك حسن، ولأَن أقرأه في نصف شهرٍ أو عشرين أحبُّ إليَّ، وسلْني: لمَ ذلك؟ قال: إني أسألك. قال زيدٌ: لكي أتدبَّر وأقِف عليه؛ أخرجه الإمام مالك في "الموطأ"، وعبد الرزاق في "مصنفه". وهذا ابن عباس - رضي الله عنهما - يقول له نصرُ بن عمران: إني سريعُ القراءة - وفي لفظٍ: إني سريع القرآن -، إني أقرأ القرآن في ثلاث، فيقول ابن عباس - رضي الله عنهما -: "لأَن أقرأ البقرةَ في ليلةٍ أتدبَّرُها وأُرتِّلُها أحبُّ إليَّ أن أقرأ كما تقرأ". وهذا عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - يقول له رجلٌ: إني لأقرأ المُفصَّل في ركعة، فيقول ابن مسعود - رضي الله عنه -: "هَذًّا كهذِّ الشعر؟! إن أقوامًا يقرأون القرآن لا يُجاوِزُ تراقِيَهم، ولكن إذا وقع في القلب فرسخَ فيه نفع". وقال - رضي الله عنه - أيضًا: "اقرأوا القرآن وحرِّكوا به القلوب، وقِفوا عند عجائبه، ولا يكن همُّ أحدكم آخرَ السورة". وقد أعرض كثيرٌ من الناس في أعقابِ الزمن عن هذا الهدي النبوي والطريق السلفي؛ فصار شُغل أحدهم الشاغل - لا سيما في شهر رمضان - الإكثارَ من ختم القرآن في عجلةٍ شديدة، وإسراعٍ لا نظيرَ له دون اهتمامٍ بتدبُّره وتفهُّم معانيه، وهو أمرٌ جعله ابن الجوزي - رحمه الله - من تلبيس إبليس عليهم في قراءة القرآن، فقال: "وقد لبَّس - أي: إبليس - على قومٍ بكثرة التلاوة، فم يهُذُّون هذًّا من غير ترتيلٍ ولا تثبُّت، وهذه حالةٌ ليست بمحمودة، وقد رُوِي عن جماعةٍ من السلف أنهم كانوا يقرأون القرآن في كل يومٍ أو في كل ركعة، وهذا يكون نادرًا منهم، ومن داومَ عليه فإنه - وإن كان جائزًا - إلا أن الترتيل والتثبُّت أحبُّ إلى العلماء، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يفقَهُ من قرأه في أقلَّ من ثلاث» "؛ أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه في "سننهم" بإسنادٍ صحيح. قال: "وقد لبَّس إبليس على قومٍ من القرَّاء فهم يقرأون القرآنَ في منارةِ المسجد بالليل بالأصوات المجتمعة المرتفعة الجزءَ والجزئين، فيجمعون بين أذى الناس في منعهم من النوم، وبين التعرُّض للرياء، ومنهم من يقرأ في مسجده وقت الأذان؛ لأنه حين اجتماع الناس في المسجد. ومن أعجبِ ما رأيتُ فيهم: أن رجلاً كان يُصلِّي بالناس صلاة الصبح يوم الجمعة، ثم يلتفت فيقرأ المعوذتين ويدعو دعاءَ الختمة، ليُعلِمَ الناس أني قد ختمتُ الختمةَ! وما هذه طريقة السلف؛ فإن السلفَ كانوا يستُرون عبادتَهم، وكان عملُ الربيع بن خُثَيْم كله سرًّا، فربما دخل عليه الداخلُ وقد نشرَ المصحفَ فيُغطِّيه بثوبه، وكان أحمد بن حنبل يقرأُ القرآنَ كثيرًا، ولا يُدرَى متى يختِم". اهـ كلامه - رحمه الله، وجزاه خيرًا على نُصحه وبيانه وتحذيره وتذكيره -. فاتقوا الله - عباد الله -، وليكن لكم في أمر الله وفيما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيرَ باعثٍ على تدبُّر كتاب الله تعالى؛ فإن التدبُّر الباعثَ على العمل هو المقصود الأعظم الذي حثَّ عليه ربُّنا أبلغَ حثٍّ بقوله: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا [النساء: 82]. نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ، إنه هو الغفور الرحيم. الخطبة الثانية الحمد لله الوليِّ الحميد، الفعَّالِ لما يُريد، أحمده - سبحانه -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المُبدِئُ المُعيد، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله صاحب الهديِ الراشد والنهجِ السديد، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه. أما بعد، فيا عباد الله: إن في قول الله تعالى: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد: 24] دلالةً عند بعض العلماء على وجوب تدبُّر القرآن في حقِّ المُكلَّفين جميعًا؛ لأنه - سبحانه - حثَّ على التدبُّر في مقام الذمِّ لمن أعرض عنه - أي: عن التدبُّر - ولم يرفع به رأسًا، فأسقطَه من حسابه؛ فدلَّ على وجوبه على الناس في الجملة - ولا سيما - ما لا يسعُ أحدًا جهلُه، ولا يجوز تركه، ولا تصحُّ عبادةٌ بدونه؛ كتوحيد الله تعالى، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحجِّ بيت الله الحرام، أما فروع ذلك وتفصيلُه وتأصيلُه والإفاضةُ فيه وفيما سواه من أبواب العلم فهو شأنُ الراسخين في العلم؛ لامتلاكهم أزِمَّته، وحيازَتهم أدواته. وما أحسنَ أن تُعقَد لتدبُّر القرآن مجالسُ في المساجد والبيوت ودُور العلم وغيرها ليشيعَ بين الناس هذا اللونُ من ألوان الهداية، ويكثُر به الخيرُ، ويعظُم به الانتفاع، ويُرجَى به نوالُ الموعودِ الواردِ في قوله - عليه الصلاة والسلام -: «ما اجتمعَ قومٌ في بيتٍ من بيوت الله يتلونَ كتابَ الله، ويتدارَسونَه بينهم إلا نزلَت عليهم السَّكِينة، وغشِيَتهم الرحمة، وحفَّتهم الملائكة، وذكَرهم الله فيمن عنده»؛ أخرجه مسلم في "صحيحه". وإن في أيام هذا الشهر المبارَك ولياليه خيرَ مُعينٍ على إدراك هذه الأُمنية، وبلوغ هذا المأمول. فاتقوا الله - عباد الله -، وليكن لكم من تدبُّر كتاب الله خيرَ عُدَّةٍ تعتدُّونها، وأقوى باعثٍ على العمل بما يُحبُّه ربُّكم ويرضاه. وصلُّوا وسلِّموا على نبيِّه ومُجتباه: محمد بن عبد الله؛ فقد أُمِرتم الله بذلك في كتابه؛ حيث قال الله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56]. اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر، وعمر،

19 رمضان 1432 - التوبة والعشر الأواخر من رمضان - الشيخ صالح بن حميد

خطبة المسجد الحرام - 19 رمضان 1432 - التوبة والعشر الأواخر من رمضان - الشيخ صالح بن حميد الخطبة الأولى الحمد لله، الحمد لله وهو الكريم أسبغَ علينا نعمَه باطنةً وظاهرةً، والحمد لله وهو الرحيم لم تزَل ألطافُه علينا مُتظاهرة، والحمد لله وهو العزيز ذلَّت لعزَّته رِقابُ الجبابرة، أحمده - سبحانه - وأشكره وهو الشكور دامَت علينا نعمُه مُتكاثرةً مُتوافرةً مُتواترة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً تُنجِي صاحبها في الدار الآخرة، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُ الله ورسوله المُؤيَّد بالآيات الكُبرى والمُعجِزات الباهرة، صلَّى الله وسلَم وبارَك عليه وعلى آله العِترة الطاهرة، وعلى أصحابه النجوم الزاهِرة، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ وسلَّم تسليمًا كثيرًا. أما بعد: فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله - عز وجل -، فاتقوا الله - رحمكم الله -؛ فكفى بالله مُحبًّا ومحبوبًا، وكفى برسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قدوةً ومتبوعًا، وكفى بالقرآن مُؤنِسًا ورفيقًا، وكفى بالموت واعِظًا، وكفى بخشية الله علمًا. علامة الدين: الإخلاص لله في السر والعلَن، وعلامة الشكر: الرضا بالقضاء والقدر، وعلامة الحب: كثرة ذكر المحبوب؛ فاتبع - يا عبد الله - ولا تبتدع، وتواضَع ولا ترتفع، ومن ورِع لا يتسع، وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ [القصص: 60]. أيها المسلمون: استقامةُ النفوس وإصلاحُها، وتزكيةُ القلوب وتطهيرها مسالكُ تفتحُ أبوابَ الأمل من أجل حياةٍ أفضل ومسيرةٍ أزكى، النفوس لا تُحقِّق عزَّتها، والقلوب لا تُحصِّل سكينتَها إلا إذا تذلَّلَت لربها راضية، وخضعَت لخالقها راغِبة، وأقبلَت على مولاها خائفة، وسارَت إليه مُشفِقةً وجِلة؛ لتنالَ الأمنَ وتذوقَ لذَّة المناجاة، وحينئذٍ تطمئنُّ النفوس، وتنشرِحُ الصدور، وتستنيرُ القلوب، فالله - سبحانه - عند المُنكسِرة قلوبهم، الصادق تذلُّلهم. أيها المسلمون، أيها الصائمون: وهذه وقفةٌ مع عبوديةٍ من أحب العبوديات إلى الله وأكرمها عنده، عبوديةٌ تُنتِجُ للعبد آثارًا عجيبة من المقامات والمنازل، تُنتِج المحبة والرِّقة والانكسار والحمدَ والرضا والشكرَ والخضوعَ لله - عز وجل -. عبوديةٌ قال فيها أهل العلم: "إنها من مهمات الإسلام وقواعده ومقاماته المتأكدة". منَّةٌ من الله ونعمة لا تدَع ذنبًا إلا تناوَلَته، ولا معصيةً إلا محَتها، ولا تقصيرًا إلا جبَرَته، هذه العبودية وهذه المنَّة الإلهية والمنحةُ الربانية نهرٌ نميرٌ طاهرٌ يتطهَّرُ به العبدُ من أدرانه، إنها التوبة - يا عباد الله -، إنها العودة الغانمة، والتجارة الرابحة، والرياضُ التي لا يذبُلُ زهرُها. التوبة - تقبَّل الله صيامَكم وقيامَكم - رجوعٌ إلى الله بالتزام فعل ما يحب باطنًا وظاهرًا، وترك ما يكره باطنًا وظاهرًا، دعاءٌ وتضرُّع وتذلُّل وإقرارٌ بحول الله وقوته، وقدرته ومشيئته، وعدله وحكمته، وفضله ورحمته، واعترافٌ بالضعف البشري والتقصير والحاجة. التوبة - أيها التائبون -: ترك الذنب علمًا بقُبحه، وندمًا على فعله، وعزمًا على عدم العودة إليه، وتدارُكًا للأعمال الصالحة من غير تردُّدٍ أو انتظارٍ أو يأس، في إخلاصٍ لله وما عنده من عظيم الثواب وخوفٍ من أليم العقاب. إخوة الإيمان: وكل عبدٍ مُحتاجٌ إلى التوبة، مُفتقِر إلى الإنابة، فلا يُتصوَّر أن يستغنِي عنها أحد مهما بلغَ مقامُه، ومهما كانت طاعتُه وصلاحُه؛ بل هي خُلُق الأنبياء والمرسلين، فهي تُصاحبُ البشرية منذ أبيهم آدم - عليه السلام -: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة: 37]، قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف: 23]. ونبيكم محمد - صلى الله عليه وسلم -: «يا أيها الناس! توبوا إلى الله؛ فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة». معاشر الصائمين والصائمات: بالتوبة النَّصُوح ينتقلُ العبدُ من المعصية إلى الطاعة، ومن الضعف إلى القوة، ومن الهَدم إلى الإصلاح، ومن الظلم إلى العدل والرحمة والإحسان، التوبة سدٌّ عظيمٌ أمام الفساد والمُفسِدين يعرِضها الإسلام على الكفار وعلى المحاربين والمرتدين وعلى كل المُفسِدين في الأرض مهما بلغَ كفرُهم وفسادُهم وطغيانُهم: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ [الأنفال: 38]، وفي المحارِبين والمُفسِدين: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة: 34]. بالتوبة الصادقة يتطهَّر المجتمع من المآثِم والجرائم ليقلَّ خطرُها ويُحاصَر أثرُها، بالتوبة يتجسَّد للعبد ذلُّ الحاجة، وذلُّ الطاعة والعبودية، وذلُّ المحبة والانقياد، وذلُّ المعصية والخطيئة، ومن اجتمع له ذلك كلُّه فقد خضَع لله تمام الخضوع، وحقَّق العبوديةَ والاستكانة. وهل يُسكِنُ تأنيبَ الضمير وأوجاعَ النفوس إلا التوبة والذكر والاستغفار: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: 28]. أيها المسلمون: هلا وقفتُم عند فرح الله بتوبة عبده؟! «للهُ أفرحُ بتوبة عبده من رجلٍ أضلَّ راحِلَته في فلاة وعليه متاعُه وطعامُه وشرابُه، حتى اشتدَّ عليه الحرُّ والعطش، فنام نومةً، ثم رفع رأسَه فإذا راحِلتُه عنده». ألا يبهَرُ الصالحين هذا الترحابُ الغامِر؟ أتُرى سرورًا يعدِلُ هذه البهجةَ الخالصة؟ توبةٌ وأوبةٌ يفرحُ الله بها، فهي انتصارُ العبد على أسباب الضعف والنفس الأمَّارة بالسوء والشيطان الرجيم، إنه فرحُ الله البرِّ اللطيف المُحسِن الكريم الجواد الرحيم. الله أكبر - عباد الله -؛ لقد جعل الله التوبةَ وسيلةً لمحبته وسبيلاً لفرحه، ولم يكن هذا الفرحُ من الله في شيءٍ من الطاعات غير التوبة، فرحُ إحسانٍ من العليِّ الأعلى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة: 222]، ربُّنا - عزَّ شأنه - يحب التوابين؛ لأن التائب المُوفَّق يكون في حالٍ من الوَجَل والإشفاق والانكسار والتذلُّل والتضرُّع والرجاء بأن يقبل الله توبتَه، ويغفِر زلَّته، ويتجاوز عن ذنبه، ويغسِل حوبَته، ويمحو خطيئتَه. وهذه الأحوال من أفضل أحوال العبد التي يحبُّها الله، فالله يحبُّ من عبده أنه كلما أحدثَ زلَّةً أحدثَ لها توبةً، وهذا هو العبدُ التواب، والله التواب هو الحليم الكريم العفوُّ الغفور الجوادُ الرحيم. توابون أوابون يشعرون بحب الله ومعيَّته؛ لأنهم لا يشعرون أنهم مُنفرِدون بهمِّهم، ولا وحيدون بمُصابهم؛ بل يأوون إلا ركنٍ شديد، ويلجئون إلى كنَفِ رحيم. معاشر الصائمين والقائمين: ووقفةٌ أخرى مع مظاهر هذه المحبة الإلهية والفرح الربَّاني، إنه تبديلُ السيئات حسنات: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الفرقان: 70]، فأيُّ جودٍ من ربنا أعظمُ من هذا؟ وأيُّ كرمٍ أوسع من هذا؟ نعم - عباد الله -؛ التوبة لا تمحو الذنب فقط؛ بل تُحوِّله حسنات تُضاف إلى رصيد الحسنات، الربُّ يتحبَّبُ إلى عبده وهو الغنيُّ، والعبدُ يُقدِمُ على التقصير وهو الفقير، «اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدُك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطَعت، أبوءُ لك بنعمتك عليَّ وأبوءُ بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوبَ إلا أنت». ومن لُطف الله ورحمته وفرحه بتوبة عبده: أن العبدَ إذا كان له حسنات ثم عمِل سيئاتٍ استغرقَت هذه الحسنات، ثم تابَ بعد ذلك، فإن حسناته الأولى تعود إليه، يقول حكيمٌ بن حزام - رضي الله عنه -: قلتُ: يا رسول الله! أرأيتَ أشياء كنتُ أتحنَّثُ بها - أي: أتعبَّدُ بها - في الجاهلية؛ من صدقةٍ، وعِتاقٍ، وصلةِ رحِم؛ فهل فيها أجر؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أسلمتَ على ما أسلفتَ من خيرٍ»؛ متفق عليه. قال الحافظ ابن حجر: "لا مانع أن يُضيف الله إلى حسناته في الإسلام ثوابَ ما كان صدر منه في الكفر تفضُّلاً وإحسانًا". معاشر الأحبة من أهل الصيام والقيام: حين يمُنُّ الله على العبد بالتوبة ويُبدِّلُ الله سيئاته حسنات كيف يكون حالُه وحالُ من حوله وحالُ المجتمع؟ تأمَّلوا في حال عاقِّ والدَيْه حين يمُنُّ الله عليه بالتوبة فيصلُح حالُه، ويعزِمُ على التوبة النَّصوح، فيُقيمُ على أنقاض العقوق صروحَ البرِّ والإحسان، فيبَرَّ والدَيْه ويصِلَهما، ويُغدِق عليهما، ويُحسِن حديثَه إليهما، ويخفِضَ الجناحَ لهما، ويدعُو لهما، رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا [الإسراء: 25]. وحين يمُنُّ الله على قاطع الرحِم، فتزول عنه الغِشاوة، فيرى تفريطَه في قرابته، وقطيعتَه لأهله فيفِرّ - بعون الله - إلى التوبة، فلا يقف عند الندم والاعترافِ بالخطأ والاستغفار؛ بل يُسارِع إلى وصلِ رحِمِه، ويُؤسِّس لعهدٍ جديدٍ مع الأقربين في الزيارات والاتصالات والمساعدات وقضاء الحوائج قدر المُستطاع. وما أجمل حُسن المتاب للمُغتاب؛ فبعد أن كان يتتبَّعُ السلبيات وكشفَ العورات وبثَّ الأخبار المُغرِضة، والشائعات الكاذِبة، والازدراء والانتقاص يتوبُ إلى ربه، ويؤوبُ إلى فضل الله ورحمته، فلا يكتفِي بكفِّ لسانه عن الحرام والممنوع؛ بل ينتقل إلى ذكر المحاسن، ونشر الفضائل، والتماسِ الأعذار، وسدِّ النقائص، أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ [الحجرات: 12]. وما أجمل من ابتُلِي بنشر الرذائل؛ كلمةً، وصوتًا، وصورةً، ذكرًا أو أُنثى، حين يُزيِّنُ الفواحِش، ويُحبُّ أن تشيعَ الفاحِشةُ في الذين آمنوا، في قصصٍ وأفلامٍ ورواياتٍ وتمثيليات وكتاباتٍ ومقالاتٍ ومُنتجات؛ نعم، منَّ الله عليه فتابَ وآمنَ وعملَ عملاً صالحًا، أعمالاً صالحة تدفِنُ الماضي الذين أفنى فيه زهرَة عُمره، فيدعو إلى الخير والفضيلة والالتزام بقِيَم الإسلام؛ في مُؤلَّفاتٍ ومُنتجاتٍ، هذا خيرٌ ممن يقتصر على سلوك مسلك الاعتزال عن ماضيه، وإن كان هذا الاعتزالُ حسنًا وخيرًا ولكن أن يمُنَّ الله عليه فيكتُب ويُؤلِّف ويُبيِّن مواطن الخطأ، ويصدُّ عن مسالك الغواية، ويرسمُ مناهج الحق، فهذا خيرٌ وأولَى وأصلَح. وما أجمل صاحب المظالم وقد منَّ الله عليه بتوبةٍ نصوحٍ وندمٍ عريض، فيرجعُ إلى ربه، ويردُّ المظالمَ إلى أهلها، ويُعيدُ الحقوقَ إلى أصحابها ماديةً ومعنوية، ماليةً وسياسية وفكريةً وغيرها. وبعدُ، عبا الله، وبعدُ، معاشر الإخوة: فهذه هي قوافل التائبين ومراكب الناجين؛ فهل شممتَ ريحًا أطيبَ من أنفاس التوابين؟ وهل رأيتَ أعذ

26 رمضان 1432 - تدبر الأمثال في القرآن الكريم - الشيخ سعود الشر

خطبة المسجد الحرام - 26 رمضان 1432 - تدبر الأمثال في القرآن الكريم - الشيخ سعود الشريم الخطبة الأولى الحمد لله الكبير المُتعال، ذي العزَّة والجبروت والجلال، له الحمدُ في الأولى والآخرة، وله الحكمُ وإليه المردُّ والمآل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، طيِّبُ الخِصال، صادقُ الفِعال، صلواتُ الله وسلامُه عليه وعلى آله وأصحابه والآل، وسلَّم تسليمًا كثيرًا. أما بعد: فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله - سبحانه -، والاعتصام بحبله المتين، ونهجِه القويم، وإياكم والكسلَ والخُذلان؛ فما نالَ العُلا كسلان، ولا وردَ الصفوة خُذلان، إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف: 90]. أيها الناس: لله ما أجملَ هذا الشهر المبارك وما أروعه، لله ما أصفاه وأعذَبَه، له حلاوةٌ كحلاوة الشهد وهو يُكرَّر، وله أُنسٌ وطُمأنينةٌ وسكِينة تجعل من لامسَها يتمنَّى أن لو كانت السنةُ كلُّها رمضان. نعم، عباد الله: لقد خُضنا خمسة أسداس هذا الشهر المبارك، فكأن شيئًا لم يكن إذا انقضى، وما مضى مما مضى فقد مضى، لقد مرَّت أيامُه كلمحِ البصر، وتناقَصَت لياليه وكأنها أوراقُ الخريف عصَفَت بها الريحُ حثيثةً، فصارت أثرًا بعد ذات وخبرًا بعد كان. لقد أبحرنا جميعًا في هذا الشهر المبارك مع أطهر الكلام وأصدقه، هو عزٌّ لا يُهزَم أنصارُه، ومنهاجٌ لا يضِلُّ ناهِجُه، هو معدِنُ الإيمان وينبوعُ العلم، هو ربيعُ القلوب والدواء الذي ليس بعده دواء، فيه نبأُ من قبلَنا، وخبرُ ما بعدنا، وفضلُ ما بيننا، يرفع الله به أقوامًا ويضعُ آخرين، ومن تمسَّك به فقد هُدِي إلى صراطٍ مستقيم، وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ [المائدة: 83]. هو الكتابُ الذي من قامَ يقرؤه…كأنما خاطَبَ الرحمنَ بالكلِمِ إننا - عباد الله - لن نجِد قصصًا ولا أمثالاً ولا أخبارًا أصدق منه، ولن نجد أكثر تشويقًا ولا أخذًا للألباب من كلام الباري - جل شأنُه - الذي نزل به الروحُ الأمين على قلب نبينا - صلى الله عليه وسلم - ليكون من المُنذرين بلسانٍ عربي مبين، أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا [النساء: 82]. وشهر رمضان المبارك خيرُ فرصةٍ سانحةٍ لأن يعيش المؤمن هذه الأجواء، ويُبحِر بفكره ولُبِّه في أمثاله وعجائبه، وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا [الإسراء: 106 - 108]. ولو دقَّقنا النظر - عباد الله - في الأمثال المضروبة في القرآن لسمِعنا قرآنًا عجبًا يهدي إلى الرشد، فالله تعالى يقول: وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ [الروم: 58]. وقد جاء في القرآن ثلاثةٌ وأربعون مثلاً لا يتدبَّرها ولا يستطعِمُ بلاغتَها إلا من له عقلٌ حيٌّ ولُبٌّ يلمَح، قال أحد السلف: "كنتُ إذا قرأتُ مثلاً من القرآن فلم أتدبَّره بكيتُ على نفسي؛ لأن الله يقول: وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [العنكبوت: 43] ". لقد ضرب الله لنا في القرآن أمثالاً متنوعة لم تكن قاصرةً على خلقٍ دون آخر؛ فقد يضربُ الله المثلَ في نباتٍ؛ كقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ [إبراهيم: 24]، وقد يضرب الله المثلَ بحيوانٍ أعجم؛ كما ذكر عن الذي آتاه آياته فانسلَخَ منها، فأتبعَه الشيطان فكان من الغاوين، وذلك كقوله: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الأعراف: 176]، وقد يضربُ الله مثلاً بالإنسان، كما في قوله: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [النحل: 76]. فلله ما أعظم هذه الأمثال وما أعظم ما تحويه من نهايةٍ في العِظَة والعِبرة، ونهايةٍ في البلاغة وإيجاز اللفظ وحُسن التشبيه وقوة الكناية، ولقد صدقَ الله - سبحانه - إذ يقول: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الزمر: 23]. وإن تعجَبوا - عباد الله -، فعجَبٌ حينما يضربُ الله مثلاً لعباده بأحقر مخلوقاته وأصغرها؛ فقد قال تعالى عن العنكبوت: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت: 41]، فهذه حال كل من تعلَّق بغير الله أو خافَ غيرَ الله أو رجا غيرَه أو أرضى الناسَ بسخط الله؛ فمن فقد اللهَ فماذا عساه أن يجِد؟! ومن وجدَ اللهَ فما عساه أن يفقِد؟! قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ [الأنعام: 14]، وقد صحَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من تعلَّق شيئًا وُكِل إليه". فيا خيبةَ من تعلَّق بغير الله في كافة شؤونه! وقد ضرب الله لنا مثلاً أيضًا بالبعوضة الصغيرة التي لا نأبَهُ لها ولا نُعيرُها اهتمامًا إلا في قتلها، تلكم البعوضة التي قال الله عنها: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا [البقرة: 26]، ألا فسبحان الله هلاَّ سألنا أنفسَنا: لماذا يضربُ الله لنا مثلاً بالبعوضة؟! نعم، البعوضة التي لا يعرفُ من نزلت عليهم هذه الآية منها إلا صورتَها، فكيف بنا ونحن في زمنٍ كشفَ في البعوضة قلبَها ودماغَها وعيونَها وعروقَها، فهذه المخلوقةُ الصغيرة لا تُحقَر ولا تُزدَرى، فهي التي قيل في مثلها: لا تحقِرنَّ صغيرًا في مُخاصمةٍ…إن البعوضةَ تُدمِي مُقلةَ الأسدِ وإن العجبَ ليزداد - عباد الله - حينما يضربُ الله لنا مثلاً في الذُّباب، ذلكم المخلوق الذي يأنَفُ منه العموم تأفُّفًا وازدراءً، ويخُصُّه الله بالحضِّ على الإنصات والاستماع إليه بخلاف غيره من الأمثال، فيقول - سبحانه -: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج: 73، 74]. فيا لله العجَب؛ كيف يضربُ الله مثلاً بهذه المخلوق الصغير جدًّا، المُحتقَر لدى أهل الدنيا، ولو علِموا ما فيه من الأسرار لأدركوا عظمةَ الباري - جل شأنُه -، ولأيقَنوا أنهم لا يُحيطون به علمًا، فإنه - سبحانه - قد يجعل أسرارًا عظيمة في أضعف مخلوقاته. فلله كم أدهشَ هذا المخلوق ألبابَ العلماء والأطباء والصيادلة وذوي المعامل والمُختبرات، ولله كم أقاموا فيه من التجارب، وتوصَّلوا إليه من الإعجاز ما يُذهِلُ الألباب ويُحدِقُ بالأبصار، ولا غروَ حينما يُسلِمُ بعضُهم عندما يرى عظمةَ الله في خلق الذُّباب، وكيف أن من أسراره قوة الإحساس في التخلُّص من الضرب بحيث يصعُب صيدُه لما خلقَ الله فيه من هذه الخاصية العجيبة، وكيف أنه في الوقت نفسه يحمِلُ داءً ودواءً بين جناحيه؛ حيث صحَّ بذلكم الخبر عن الصادق المصدوق في قوله: "إذا وقع الذُّباب في إناءِ أحدكم فليغمِسْهُ كلَّه ثم ليطرَحْه؛ فإن في أحد جناحَيْه الداء وفي الآخر شفاء". فالله أكبر! ما أعظم مثل الباري - سبحانه -، والله أكبر! لا نُحصِي ثناءً عليه وتمجيدًا له وهو كما أثنى على نفسه. وإذا كان هذا هو خلقَ الذُّباب؛ فكيف بخلق الناس، وإذا كان خلقُ الناس هو ما نعلمُه ونُشاهِدُه وما غابَ عنا كل أسراره؛ فكيف بخلق السماوات والأرض، فلا إله إلا الله، آمنَّا بما أنزل واتَّبَعنا الرسولَ، فاللهم اكتُبنا مع الشاهدين، ولقد صدق الله: لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [غافر: 57]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلتُ ما قلت، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفَّارًا. الخطبة الثانية الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. وبعد: فاتقوا الله - عباد الله -، واعلموا أن الله ضربَ الأمثالَ للاعتبار والعِظة، وقد قال الماوردي - رحمه الله -: "من أعظم علمِ القرآن علمُ أمثاله، والناس في غفلةٍ عنه لاشتغالهم بالأمثال وإغفالهم المُمثَّلات". وذلك - عباد الله - لما في الأمثال من تبكيتٍ للخصم الشديد الخصومة، وقمعٍ لضراوة الجامح الآبِي؛ فإنه تُؤثِّر في القلوب ما لا يُؤثِّره وصفُ الشيء في نفسه. ولو تأمَّلنا - عباد الله - ضربَ الله المثل في الذباب وما أتبعَه من قوله: مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الحج: 74] لأدركنا سُحق الهوَّة بيننا وبين استحضار عظمة الله في جميع شؤوننا؛ فهل نُدرِك قولاً وعملاً ما خلقَنا الله لأجله؟ وهل نُدرِك حقًّا عظمةَ الله وقدرَه حقَّ قدره؟ وهل نستشعِرُ خضوعَ جميع المخلوقات له وحده - سبحانه - لا شريك له: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء: 44]، إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا [مريم: 93]. لقد أدركَت البهائمُ ما خُلِقت له؛ فهل نُدرِك نحن لماذا خُلِقنا؟! صلَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاةَ الصبح ثم أقبل على الناس، فقال: "بيْنا رجلٌ يسوقُ بقرةً إذ ركِبَها، فضربَها، فقالت: إنا لم نُخلَق لهذا، إنما خُلِقنا للحَرث، فقال الناس: سبحان الله! بقرةٌ تكلَّم"، فقال: "فإني أُؤمِنُ بهذا أنا وأبو بكرٍ

1 شوال 1432 - خطبة عيد الفطر - التفاؤل والتشاؤم بالأحداث الجارية - الشيخ صالح بن حميد

خطبة المسجد الحرام - 1 شوال 1432 - خطبة عيد الفطر - التفاؤل والتشاؤم بالأحداث الجارية - الشيخ صالح بن حميد الخطبة الأولى الحمد لله وأكبِّره تكبيرًا، والله أكبر وأذكره ذكرًا كثيرًا، والحمد لله رفع أقدار ذوي الأقدار، والله أكبر أنفَذَ تصاريفَ الأقدار، وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ [القصص: 68]، والحمد لله عددَ ما ذرَفَت العيون في مواسم الطاعات من عبَرات، والله أكبر ما تقرَّبوا إلى مولاهم بالعبادات؛ صلواتٍ وصيامًا وصدقات، والحمد لله أفاضَ علينا من خزائن جُوده ما لا يُحصَر، والله أكبر شرعَ لنا شرائعَ الأحكام ويسَّر، أحمدُه - سبحانه - وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره وهو الكريم الجواد، أحقُّ من عُبِد، وأحقُّ من ذُكِر، وأحقُّ من يُشكَر، ذو الفضل والإحسان والمنَّة يمنحُ الجزاءَ الأوفَى، ويهَبُ الفضلَ الأكبر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له والعزَّةُ لله ولرسوله وللمؤمنين، والذِّلَّةُ والصّغَار والهوانُ لأهل الكفر والفُجور والمُعاندين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُ الله ورسوله خاتمُ النبيين وإمام المرسلين ورحمةُ الله للعالمين، صلَّى الله وسلَّم وباركَ عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى أصحابه الغُرِّ الميامين أقاموا الدين، وجاهدوا في الله حقَّ جهاده صابرين مُخبتين مُحتسبين، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرةً وأصيلاً، وصلَّى الله وسلَّم وبارَك على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا. أما بعد: فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله - رحمكم الله -، اتقوا الله وأطيعوه، وعظِّموا أمره ولا تعصُوه؛ فمن اتقى اللهَ حسُن توكُّله على ربه فيما نابَه، وحسُن رِضاه بما آتاه، وحسُن زهدُه فيما فاتَه. اتقوا الله حق التقوى، وتقرَّبوا إليه بما يحبُّ ويرضى، تزيَّنوا بلباس التقوى؛ فالفائز من ألبسَه مولاه حُلَل مولاه، وتأهَّبوا للعرض الأكبر يوم يُعرضُ الناسُ حُفاةٌ عُراة، وينظرُ كلُّ امرئٍ ما قدَّمَت يداه، يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة: 18]. الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرةً وأصيلاً. أيها المسلمون: عيدُكم مُبارك، وتقبَّل الله صيامَكم وقيامَكم، وصلواتكم وصدقاتكم، وجميعَ طاعاتكم، وكما فرِحتم بصيامكم، فافرحوا بفِطركم، وقد علِمتم أن للصائم فرحتين: فرحةٍ عند فِطره، وفرحةٍ بلقاء ربه، أدَّيتم فرضَكم، وأطعتُم ربَّكم، صُمتم وقرأتُم وتصدَّقتُم، فهنيئًا لكم ما قدَّمتم، وبُشراكم الفوزَ - بإذن الله وفضله -. افرحوا وابتهِجوا واسعَدوا، وانشروا السعادةَ والبهجةَ فيمن حولكم، إن حقكم أن تفرحوا بعيدكم وتبتهِجوا بهذا اليوم يوم الزينةِ والسرور، ومن حقِّ أهل الإسلام في يوم بهجتهم أن يسمعوا كلامًا جميلاً، وحديثًا مُبهِجًا، وأن يرقُبوا آمالاً عِراضًا ومُستقبلاً زاهرًا لهم ولدينهم ولأمتهم. قد يقول بعض المتأملين - أحسن الله إليهم -: إن المسلمين اليوم يعيشون مِحَنًا ورزايَا، وفتنًا وبلايا، لهم في كل أرضٍ أرملة وقتيل، وفي كل ركنٍ بكاءٌ وعَويل، وفي كل صِقعٍ مُطارَدٌ وأسير، صورٌ من الذلِّ والهوان والفُرقة والطائفية والإقصاء، دماءٌ وأشلاء، وتسلُّطٌ من الأعداء، وكأن الناظرَ لا يرى دماءً سوى دمائنا، ولا جراحًا سوى جراحاتنا، زاغَت الأبصار، وبلغَت القلوبُ الحناجِر، وظنَّ ظانُّون بالله الظنُونا. ثم يقول هذا القائل: هل بعد هذه الأحزان من أفراح؟ وهل بعد هذه المضائق من مخارج؟ وهل وراء هذه الآلام من آمال؟ وهل في طيَّات هذه المِحَن من مِنَح؟ ومتى يلُوحُ نورُ الإصلاح؟ يقول المُستبشِر المُحتفِي بعيده حسنُ الظن بربه: نعم، ثم نعم، فاهنأوا بعيدكم، وابتهِجوا بأفراحكم، وهل يكون انتظار الفرج إلا في الأزمات؟ وهل يُطلَبُ حسنُ الظن إلا في المُلِمَّات؟ يقول ربكم في الحديث القدسي - عزَّ شأنه -: «أنا عند ظنِّ عبدي بي فليظنَّ بي ما شاء». والمؤمنون قال الله فيهم: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [الأحزاب: 22]، وقال في آخرين: وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا [الفتح: 12]، وقال تعالى: وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ [فصلت: 23]. وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: "والذي لا إله غيره؛ ما أُعطِي عبدٌ مؤمنٌ شيئًا خيرًا من حُسن الظنِّ بالله، والذي لا إله غيره؛ لا يُحسِن عبدٌ بالله - عز وجل - الظنَّ إلا أعطاه الله - عز وجل - ظنَّه؛ ذلك بأن الخير بيده". وفي الحديث: «إذا تمنَّى أحدُكم فليستكثِر؛ فإنما يسأل ربَّه»؛ حديثٌ صحيح على شرط الشيخين. الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر ما تنزَّلت الرحماتُ من الرحيم الرحمن، والله أكبر ما صلَّى المُصلُّون وسلَّموا على المبعوث بالسنة والقرآن، صلَّى الله عليه وسلَّم. عباد الله: ما دام أن أمتنا شاهدةٌ على الأمم فهي باقيةٌ ما بقِيت الحاجةُ إلى الشهادة، وما دام أن رسالتنا هي الخاتمة فهي باقيةٌ إلى آخر الدهر، وفي تاريخ الأمة مئاتُ العُظماء بل آلافٌ وآلاف قد وُلِدوا وسوف يُولَد أمثالُهم وأمثالُهم - بإذن الله -، وهذه سنة الله. بل ها هي أحداث ومُستجِدَّات، ونوازِل ومُتغيِّرات تحدث أمام ناظرَيْكم مما يوَدُّه المُتابِعُ وما لا يوَدُّه، ظنَّ أصحابُها أنهم مانعَتُهم حُصونُهم فأتاهم الأمرُ من حيث لم يحتسِبوا فُدَّت عليهم المخارج وضاقَت عليهم الحِيَل، وها هي أساليب الاتصال ومواقع التواصل وطرق التعبير فتحت من الأبواب، وهيَّات من الأسباب مما يحسُن فهمُه وفقهُه. معاشر المسلمين: وأنتم في استقبال عيدكم أحسِنوا الظنَّ بربكم، فكلما ازداد التحدِّي ازداد اليقين، ولا يرى الجمالَ إلا الجميل، ومن كانت نفسُه بغير جمال فلن يرى في الوجود شيئًا جميلاً، والكون ليس محدودًا بما تراه عيناك ولكن ما يراه قلبُك وفكرُك، فجفِّف دمعَك، واجبُر كسرَك، وارفع رأسَك؛ فإن النصر مع الصبر، وإن الفرج مع الكرب، وإن مع العُسر يُسرًا. مشى المُعافَى بن سليمان مع صاحبٍ له، فالتفتَ إليه صاحبُه عابسًا مُتبرِّمًا وقال: ما أشدَّ برد هذا اليوم! فقال له المُعافَى: وهل استدفأتَ الآن؟ قال: لا. قال: فماذا استفدتَ من الذم؟ لو ذكرتَ اللهَ لكان خيرًا لك. المهزومُ من هزمَته نفسُك، ومن قال: هلكَ الناس فهو أهلكُهم، ومن أجل هذا أمرَ دينُنا بالتفاؤل، ونهانا عن التشاؤم؛ بل إن نبينا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - يحبُّ التفاؤل ويُعجِبُه الفأل، ويُعجِبُه أن يسمع: يا نجيح، ويا راشد؛ لأن التفاؤل - أسعدكم الله، وزادكم في عيدكم بهجة -: كل ما أدخل على الإنسان سرورًا وبهجةً وانشراحًا مما يدفعُ إلى العمل، ويفتحُ أبوابَ الأمل، وتنطلِقُ معه النفوس. يقول ابن بطَّال: "جعل الله من فِطَر الناس: محبة الكلمة الطيبة والأُنس بها، كما جعل فيهم الارتياحَ بالمنظر الأنيق والماء الصافي وإن كان لا يملكه ولا يشربُه". الإنسان يبتهِجُ بالهيئة الحسنة، والمكان الفسيح، والمنظر البهيج، الفألُ حُسن ظنٍّ بالله وتعلُّقٌ برجائه، التفاؤل استعانةٌ بالموجود لتحصيل المفقود، وهو تقويةٌ للعزم، وباعثٌ على الجِدّ، ومعونةٌ على الظَّفَر. التفاؤل يقلِبُ العلقمَ زُلالاً، والصحراء جنة، والحنظلَ عسلاً، والدار الضيقةَ قصرًا، والقلةَ غِنًى، وهل يشعُر بسعَة الدنيا من كان حِذاؤه ضيِّقًا؟! المتفائل يسقط من أجل أن ينهض، ويُهزَم من أجل أن ينتصر، وينام من أجل أن يستيقظ، ومن جدَّ وجَد، ومن زرعَ حصَد. المتفائل لا تُزعزِعُ يقينَه المصائب، ولا تفُلُّ عزيمتَه الفواجِع، ولا تُضعِفُ إيمانَه الحوادث، وفي الحديث: «إن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر، وإن من الناس مفاتيح للشر مغاليق للشر، فطُوبَى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه، وويلٌ لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه»؛ رواه ابن ماجه. ولهذا قيل: "قُدراتُك هي السببُ في كل ما يحدث لك، ونفسُ المرء مثل غرفته إن شاء فتح النوافذ فدخل النور والضياء والهواء والعليل، وإن شاء أغلقا فبقِيَ في الظلام". وقال أهلُ الحكمة: "إن قسَمات وجه المرء انعكاسٌ لأفكاره، ومصائب الحياة تتماشى مع هِمَم الرجال صعودًا وهبوطًا، وتشيبُ الرؤوس ولا تشيبُ الهِمَم". فاحترِم نفسك - رحمك الله - فهي أجملُ مخلوقٍ على وجه الأرض، والذين لا يُغيِّرون ما بأنفسهم لا يُغيِّرون ما حولَهم، ولهذا ترى الجميعَ يُفكِّر بتغيير العالَم، وقليلٌ منهم من يُفكِّر بتغيير نفسه، وفي التنزيل العزيز: إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد: 11]. الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر ما قصَدوا هذه البِقاع الطاهرة وعمَّتهم نعَمُ مولاهم الباطنة والظاهرة، والله أكبر ما سعَت الأقدام لزيارة مسجد سيد الأنام، وحظِيَت بالسلام على الحبيب المصطفى - عليه الصلاة والسلام -. معاشر المسلمين المُبتهِجين: ومن أجل مزيدٍ من الوضوح والإيضاح، ولمزيدٍ من الابتهاج والفرَح وحُسن الظنِّ بالله - عز وجل -، والأمل العريض للأمة تأمَّلوا هذه المقارنات والموازنات: المتفائل ينظرُ إلى الحل، والمتشائم ينظرُ في المشكلة، المتفائل مُجِدٌّ على الدوام لا يعرفُ الإحباطَ والضررَ، يرى الحياةَ حقًّا له وحقًّا للآخرين، والمتشائم جلاَّد نفسه يرى غيرَه أسعدَ منه، ثم هو يريدُ أن يكون أسعدَ من الآخرين، وهل مثلُ هذا يُحقِّقُ السعادة؟ المتفائل يرى ضوءًا لا يراه الآخرون، والمتشائم يعمَى أن يرى الضوءَ الذي أمام ناظرَيْه، المتفائل مستفيدٌ من ماضيه، مُتحمِّسٌ لحاضره، مُستشرفٌ لمُستقبَلِه، والمتشائم أسيرٌ لماضيه، مُحبَطٌ من حاضره، هليعٌ على مُستقبَلِه. المتفائل يطلُبُ المعاذير والمخارج لسلامة طوِيَّته وانشراح صدره، والمتشائم يشتغِلُ بالعيوب ويحشُرُ نفسَه في المضائق لظُلمة باطنه. المتشائم يحسَبُ كل صيحةٍ عليه، يجوعُ وهو شبعان، ويفتقِر وهو غني، الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة: 268]. المتشائم يذكُر النعَمَ المفقودة ويعمَى عن النعَم الموجودة. الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر ما تصافحَ المسلمون وتصافَوا في هذا العيد البَهيج، والله أكبر ما استقبَلَت هذه البِقاعَ الطاهرة العُمَّار والزُّوَّارَ والحَجيج. معاشر المسلمين: عيدُكم مبارك، وأيامكم بالخير والسعادة محفوظة؛ هل لاحَظتُم أن التفاؤل لا يُحتاجُ إليه في وقت الرخاء والأمن والنعيم؛ إذ في وضَح النهار لا تحتاج إلى الشموع والمص

4 شوال 1432 - النجاة من الفتن - الشيخ أسامة خياط

خطبة المسجد الحرام - 4 شوال 1432 - النجاة من الفتن - الشيخ أسامة خياط الخطبة الأولى الحمد لله الملك القدوس السلام، أحمده - سبحانه - على آلائه العِظام ومِنَنه الجِسام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يُحيِي ويُميت، بيده الخيرُ، وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ [الرحمن: 24]، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله خيرُ البرية سيدُ الأنام، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه صلاةً وسلامًا دائمَيْن ما تعاقَبَت الليالي والأيام. أما بعد: فاتقوا الله - عباد الله -، واذكروا وقوفكم بين يديه، يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء: 88، 89]، يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [النحل: 111]. أيها المسلمون: إن للمتقين من كمال الحرص على اتقاء الفتنة والحَذر من سلوك سبيلها ما لا نظيرَ له ولا مزيدَ عليه، يحدُوهم على ذلك يقينٌ لا يتزعزَع بما جاء عن الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - في التحذير من غوائلها، والدلالة إلى سبيل السلامة من شُرورها، والإرشاد إلى الطريق الواجبِ انتهاجُه في زمنها؛ من مثل قوله - سبحانه -: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال: 25]، ومن مثل قوله - عليه الصلاة والسلام -: «ستكون فتنٌ القاعدُ فيها خيرٌ من القائم، والقائمُ فيها خيرٌ من الماشي، والماشي فيها خيرٌ من الساعي، ومن تشرَّف لها تستشرِفُه، ومن وجدَ ملجأً أو معاذًا فليعُذْ به»؛ أخرجه الشيخان في "صحيحيهما". ومن قوله - صلوات الله وسلامه عليه -: «يُوشِك أن يكون خيرَ مالِ المسلم غنمٌ يتَّبِعُ بهاش عثَ الجبال ومواقع القطر يفِرُّ بدينه من الفتن»؛ أخرجه البخاري في "صحيحه". ومن مثل قوله في الحديث الذي أخرجه مسلم في "صحيحه" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «بادِروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المُظلِم، يُصبِحُ الرجلُ مؤمنًا ويُمسِي كافرًا، ويُمسِي مؤمنًا ويُصبِحُ كافرًا، يبيعُ دينَه بعَرَضٍ من الدنيا». ولما كان للفتنة خطرُها العظيم وضررُها الشديد الذي تعمُّ به البلوى وتفدُحُ الخُطوب؛ فقد جاء الكلام عليها فيما بيَّنه أهلُ العلم؛ فقال ابن القيم - رحمه الله -: "الفتنةُ نوعان: فتنة الشبهات - وهي أعظم الفتنتين -، وفتنة الشهوات، وقد يجتمعان للعبد، وقد ينفرد بإحداهما. ففتنةُ الشبهات من ضعفِ البصيرة وقلَّة العلم، ولا سيَّما إذا اقترنَ بذلك فسادُ القصد وحصولُ الهوى، فهنالك الفتنةُ العُظمى والمصيبةُ الكبرى، فقل ما شئتَ في ضلالِ سيءِ القصد الحاكم عليه الهوى لا الهُدى، مع ضعف بصيرته وقلَّة علمه بما بعثَ اللهُ به رسولَه، فهو من الذين قال الله تعالى فيهم: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ [النجم: 23]، وقد أخبر الله - سبحانه - أن اتباعَ الهوى يُضِلُّ عن سبيل الله؛ فقال: يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ [ص: 26]. وهذه الفتنة مآلُها إلى الكفر والنفاق، وهي فتنةُ المنافقين وفتنة أهل البدع على حسب مراتب بدعهم .. ولا يُنجِّي من هذه الفتنة إلا تجريدُ اتباع الرسول وتحكيمُه في دِقِّ الدين وجِلِّه، ظاهرِه وباطنِه، عقائدهِ وأعمالهِ، حقائقهِ وشرائعهِ، فيُتلقَّى عنه حقائقُ الإيمان وشرائعُ الإسلام وما يُثبِتُه لله من الصفات والأفعال والأسماء وما ينفيه عنه، كما يُتلقَّى عنه وجوبُ الصلوات وأوقاتُها وأعدادُها، ومقاديرُ نُصُب الزكاة ومُستحقِّيها، ووجوبُ الوضوء والغُسلِ من الجنابة، وصومُ رمضان؛ فلا يجعلُه رسولاً في شيءٍ دون شيءٍ من أمور الدين؛ بل هو رسولٌ في كل شيءٍ تحتاجُ إليه الأمةُ في العلم والعمل، لا يُتلقَّى إلا عنه، ولا يُؤخَذ إلا منه .. وأما النوع الثاني من الفتنة: ففتنةُ الشهوات، وقد جمع - سبحانه - بين ذكر الفتنتَيْن في قوله: كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ [التوبة: 69]؛ أي: تمتَّعوا بنصيبهم من الدنيا وشهواتها، والخَلاَق: هو النصيبُ المُقدَّر، ثم قال: وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا، فهذا الخوضُ بالباطل، وهو الشُّبُهات. فأشار - سبحانه - في هذه الآية إلى ما يحصُلُ به فسادُ القلوب والأديان من الاستمتاعِ بالخَلاقِ والخوض بالباطل؛ لأن فساد الدين إما أن يكون باعتقاد الباطل والتكلُّم به، أو بالعمل بخلاف العلم الصحيح؛ فالأول: هو البدع وما والاها، والثاني: فسقُ الأعمال .. وأصلُ كل فتنةٍ إنما هو من تقديم الرأيِ على الشرع، والهوى على العقل؛ فالأولُ: أصل فتنة الشبهة، والثاني: أصلُ فتنة الشهوة. ففتنةُ الشُّبُهات تُدفَع باليقين، وفتنةُ الشهوات تُدفَعُ بالصبر، ولذلك جعل - سبحانه - إمامةَ الدين منوطةً بهذين الأمرين؛ فقال: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة: 24]، فدلَّ على أنه بالصبر واليقين تُنالُ الإمامةُ في الدين .. فبكمال العقل والصبر تُدفَعُ فتنةُ الشهوة، وبكمال البصيرة واليقين تُدفَعُ فتنةُ الشُّبهة، والله المستعان". اهـ. فاتقوا الله - عباد الله -، واتخِذوا من كمال العقل والصبر، ومن كمال البصيرة واليقين خيرَ عُدَّةٍ تُنجِيكم من فتنِ الشُّبهات والشهوات، وتُرضون بها ربَّ الأرض والسماوات. نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ، إنه هو الغفور الرحيم. الخطبة الثانية الحمد لله الذي خلق فسوَّى، والذي قدَّر فهدى، أحمده - سبحانه - خلق الأرض والسماوات العُلَى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثَّرى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله المُصطفى وحبيبُه المُجتبى، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه ومن سار عل نهجِه وبسُنَّته اهتدَى. أما بعد، فيا عباد الله: لقد حذَّر ربُّنا - عز وجل - عبادَه من سببٍ هو من أعظمِ أسباب الفتنةِ في الدين ومن أظهر بواعِث الفُرقة بين المسلمين، ألا وهو: مُخالفةُ هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - وهجرُ سُنَّته وطريقته، ورفضُ شريعته، فقال - عزَّ من قائل -: لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور: 63]. وأمرُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي توعَّد الله من خالفَه عنه بهذا الوعيد هو كما قال الإمام الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: "هو سبيلُه ومنهاجُه وطريقتُه وسُنَّتُه وشريعتُه، فما وافقَ ذلك قُبِل، وما خالفَه فهو مردودٌ على قائله وفاعله كائنًا من كان، كما ثبتَ في "الصحيحين" - واللفظ لمسلم - عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من عمِلَ عملاً ليس عليه أمرُنا فهو ردٌّ» أي: فليحذَر وليخشَ من خالفَ شريعةَ الرسول - صلى الله عليه وسلم - باطنًا وظاهرًا أن تُصيبَهم فتنةٌ - أي: في قلوبهم -؛ من كفرٍ أو نفاقٍ أو بدعة، أو يُصيبَهم عذابٌ أليم - أي: في الدنيا -؛ بقتلٍ أو حدٍّ أو حبسٍ أو نحو ذلك. كما روى الإمام أحمد والشيخان عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مثَلي ومثَلُكم كمثَلِ رجلٍ استوقدَ نارًا فلما أضاءَت ما حولها جعل الفراشُ وهذه الدوابُّ يقعْن في النار، وجعل يحجِزهُنَّ ويغلِبْنَه فيقتحِمنَ فيها»، قال: «فذلك مثَلِي ومثَلُكم، أنا آخِذٌ بحُجَزِكم: هلُمَّ عن النار، فتغلِبونني وتقتحِمون فيها» "؛ أخرجه الشيخان من حديث عبد الرزاق - رحمه الله -. فاتقوا الله - عباد الله -، وحذارِ من المُخالفة عن أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فإن عُقبى ذلك: الوقوعُ في الفتنة وحُلول عذاب الله. وصلُّوا وسلِّموا على خيرِ خلق الله: محمد بن عبد الله؛ فقد أمركم بذلك الله - سبحانه -، فقال في كتابه الكريم: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56]. اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الآلِ والصحابةِ والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين. اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزةَ الدين، ودمِّر أعداء الدين، وسائرَ الطُّغاةِ والمُفسدين، وألِّف بين قلوب المسلمين، ووحِّد صفوفَهم، وأصلِح قادتَهم، واجمع كلمتَهم على الحق يا رب العالمين. اللهم انصر دينكَ وكتابكَ وسنةَ نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم - وعبادكَ المؤمنين المُجاهِدين الصادقين. اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحةَ، ووفِّقه لما تُحبُّ وترضى يا سميعَ الدعاء. اللهم وفِّقه ونائبَيْه وإخوانه إلى ما فيه خير الإسلام والمسلمين، وإلى ما فيه صلاحُ العباد والبلاد، يا من إليه المرجِعُ يوم التناد. اللهم أحسِن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجِرنا من خِزي الدنيا وعذاب الآخرة. اللهم أصلِح لنا ديننا الذي هو عصمةُ أمرنا، وأصلِح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلِح لنا آخرتَنا التي فيها معادُنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كل خير، والموتَ راحةً لنا من كل شر. اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحوُّل عافيتك، وفُجاءة نقمتك، وجميعِ سخطك. اللهم اشفِ مرضانا، وارحم موتانا، وبلِّغنا فيما يُرضيكَ آمالَنا، واختِم بالصالحات أعمالَنا. رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف: 23]، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة: 201]. وصلَّى الله وسلَّم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

11 شوال 1432 - معنى قوله تعالى: (ادخلوا في السلم كافة) - الشيخ صالح آل طالب

خطبة المسجد الحرام - 11 شوال 1432 - معنى قوله تعالى: (ادخلوا في السلم كافة) - الشيخ صالح آل طالب الخطبة الأولى إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. أما بعد، أيها المسلمون: فأُوصيكم ونفسي بتقوى الله في السرِّ والعلانية؛ فهي العُدَّة، وهي مهبَطُ الفضائل ومُتنزَّلُ المحامد، وهي مبعثُ القوة ومِعراجُ السمُوّ، والرابطُ الوثيقُ على القلوب عند الفتن، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102]. عباد الله: في لفحِ هجير الحياة وعند متاهات الدروب وفقد الاتجاه، فإن الساري بحاجةٍ إلى ضوءٍ يُؤوِيه، وماءٍ يسقيه، ومنارٍ يُرشِدُه ويهديه، ذلكم - أيها المسلمون -: هو الوحيُ الخالد، والنورُ التالِد، والذي قال فيه ربُّنا: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء: 9]؛ أي: للتي هي أحسنُ وأكملُ وأجملُ وأفضلُ؛ فمن أراد الهُدى فليلزَم كتابَ الله، وليتدبَّر عِظاته، كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ص: 29]. أيها المسلمون: ومن جميل الهدايات، وعظيم الآيات: ما خاطَبَكم به ربُّكم في كتابه العزيز بقوله - سبحانه -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة: 208]. قال ابن كثيرٍ - رحمه الله - في "تفسيره": "أمرَ اللهُ عبادَه المؤمنين المُصدِّقين برسوله أن يأخذوا بجميع عُرى الإسلام وشرائعِه، والعمل بجميع أوامره، وترك جميع زواجِره. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله: ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ: يعني: الإسلام، وقوله: كَافَّةً: أي: اعملوا بجميع الأعمال ووجوه البرِّ". هذا هو التفسيرُ الذي نقلَه ابن كثيرٍ والقرطبيُّ وغيرُهما - رحمهما الله - عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. عباد الله: هذه الدعوةُ الكريمةُ من الله تعالى للمؤمنين تُشِيرُ إلى حاجة النفوس إلى التذكير والتأكيد أن تلتزِمَ بجميع شرائع الإسلام، ومع وجود أصل الإيمان في المجتمع المسلم إلا أنه قد يوجد من يحتاجُ لهذه الدعوة ليتجرَّد ويستسلِم لله، وتتوافقَ خطَرَاتُهم واتجاهاتُهم، مع ما يُريدُه الله منهم وما يقودُهم إليه نبيُّهم من غير تردُّدٍ ولا تفلُّت، وهذا هو معنى الإسلام؛ الاستسلام لله والانقيادُ له بالطاعة. وحين يستجيبُ المسلمُ لهذا النداء فإنه يدخلُ عالمَ السعادة، والسلمِ والسلام، والثقةِ والاطمئنان، والرِّضا والاستقرار، فلا حيرةَ ولا قلق، ولا نزاعَ ولا ضلال. أيها المسلمون: وأولُ ما يُفيضُ السلامُ على القلب من صحةِ توحيده لله وإيمانه به ويقينه عليه وإفراده بالعبادة ومعرفة أسمائه وصفاته، يعلمُ أن اللهَ إلهٌ واحدٌ يتَّجِهُ إليه بكلِّيَّته، وجهةٌ واحدةٌ يستقرُّ عليها قلبُه، فلا تتفرَّقُ به السُّبُل، وتلتبِسُ به الأهواء، وتتكاثرُ عليه الآلهة، فيعبُدُ ربًّا ونبيًّا، أو يدعو كلَّ يومٍ وليًّا، فكأنَّ كلَّ مشهدٍ كعبة، وكل ضريحٍ ربٌّ يُدعَى. فهل هذا من الإسلام؟! إن المؤمنَ بإسلامه لله وحده يعيشُ عقيدةً صافية، وفكرًا نقيًّا، وحياةً مُستقرَّة، ويعلم من صفات الله ما تطمئنُّ به نفسُه، ويسكُنُ به قلبُه، فالله تعالى هو القويُّ القادر، والعزيزُ القاهِر، والوليُّ الناصِر. فإذا التجأَ إليه المؤمنُ فقد التجأَ إلى القوة الحقيقية في هذا العالَم، وقد أمِنَ من كل خوفٍ واطمأنَّ بالله واستراحَ، ويعلمُ أن الله يُجيبُ المُضطرَّ إذا دعاه، ويكشِفُ السوءَ، ويُفرِّجُ الكُرُبات، ويشفِي الأسقام، ويُذهِبُ الآلامَ والأحزان؛ فالمؤمنُ في كنَفِ الله آمنٌ وادِع، يتقلَّبُ في الطمأنينة والرضا، يُفيضُ الإيمانُ بالأسماء والصفات على قلبه بردًا وسلامًا. والإيمانُ باليوم الآخر يجلِبُ الطمأنينةَ والسلام، وينفِي القلقَ والإحباطَ، أو الإحساسَ باليأس، إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ [يوسف: 87]، ذلك أن لجميع العالمين يومًا يجتمعون فيه، كلُّ العالمين، إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [مريم: 93 - 95]، وهنالك الحساب، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: 7، 8]. ومن كمال عدل الله أن يُثيبَ المُحسنين، ويُحاسِبَ المُسيئين، ويقتصَّ للمظلوم، وإذا علِمَ المسلمُ أن الدنيا ليست النهاية، وأن لا شيء يضيعُ، فعند ذلك يصبِرُ ويحتسِب، ويعملُ ويجتهِد، حتى ولو لم يلقَ من الناس شُكرًا، فإن الله لا يُضيعُ أجرَ من أحسنَ عملاً. أيها المسلمون: والإيمانُ بالآخرة أيضًا حاجزٌ دون الصراع المحموم بين البشر على حُطام الدنيا ومتاعها، هذا التنافُس الذي تُنسَى فيه القِيَم، وتُنتهَكُ الحُرمات، في لهاثٍ خلف الشهوات والرغَبات، إن الإيمان بالحساب والجزاء يُلبِسُ المؤمنَ رداءَ التجمُّل في هذا السِّباق، ويُوقِفُه عند الأدب والحياء، والحدود والحقوق. فما أجملَ الطمأنينةَ والسلمَ في هذا الإسلام! عباد الله: ودخول المؤمن في السلمِ كافة دخوله في كل شرائع الإسلام، كما قال ابن عباس - رضي الله عنهما -، والتزامُه بها، ويربِطُه بالحقيقة التي من أجلها خُلِق الناس، وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56]. والعبادةُ ليست مجرد فرضٍ يُؤدَّى في المسجد فحسب؛ بل إنها منهجُ حياة، قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ [الأنعام: 162، 163]، عبادةٌ بأداء الواجبات، واجتناب المنهيات، عبادةٌ في كسبك وإنفاقك، وفي عملك ونشاطك؛ فاتق اللهَ في كل تصرُّفاتك وتعامُلاتك، لا تُقصِّر في واجبٍ، ولا تتقحَّم في مُحرَّم. أيها المسلمون: والتكاليفُ التي يفرِضُها الإسلام كلها من الفِطرة، ولا تتجاوزُ طاقةَ الإنسان، ولا تتجاهلُ طبيعتَه، وهي يُسرٌ وسماحة، وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج: 78]، إن أحكام الله تعالى وشريعتَه وحدوده ومحارمَه جاءت منظومةً مُتكاملة لتحفَظَ الضرورات الخمس، ولتُحيطَ الإنسان بضماناتٍ تُورِثُه الطمأنينةَ والسلام، لقد جاء الإسلامُ بكل ما يحفظُ الدين والنفسَ والعقلَ والعِرضَ والمالَ. وأيضًا ما يحفظُ ترابُط المجتمع وتماسُكه، وشرعَ ما يُؤدِّي إلى التكافُل والتعاوُن، ودعا لإطعام الطعام، وإفشاء السلام، وأذابَ الحواجز الأرضية ليجمعَ الناسَ على آصِرة العقيدة وأُخُوَّة الإيمان، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات: 10]. وفي آداب هذا المجتمع: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ [الحجرات: 11]. وفي "الصحيحين" يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كلُّ المسلمِ على المسلمِ حرامٌ، دمُه ومالُه وعِرضُه». أرأيتُم كيف يكون الدخولُ في شرائع الإسلام كافَّة؟! أيها المسلمون: إن هذا النداء بالدخول في شرائع الإسلام كافَّة يصنَعُ مجتمعًا طاهرًا عفيفًا لا تشيعُ فيه الفاحشةُ، ولا تروجُ فيه الفتنة، ولا تتلفَّتُ فيه الأعينُ على العورات، ولا تطغَى فيه الشهوات، تحكمُه توجيهاتٌ ربانية، يسمعُ قولَ الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [النور: 19]، ويسمعُ التشديد والوعيدَ الشديد لمن يرمِي المؤمنات، ويقذِفُ العفيفات المُحصنات، إن بابَ الأعراض بابٌ مُحترم لا يجوزُ التهاوُن فيه ولا الترفُّق بلصوصه، وفي حكم القرآن على الزانِيَيْن: وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النور: 2]. ولحماية هذا الباب وسدِّ مداخل الشيطان يقول الله - عزَّ وجل -: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [النور: 30، 31]. ففي ظلِّ هذه التوجيهات يأمنُ الناسُ على حُرماتهم وأعراضهم، وتسلَمُ قلوبُهم، فلا تقعُ الأبصارُ على المفاتِن، ولا تقودُ العيونُ القلوبَ إلى المحارم، فإما خيانةٌ وفواحِش، وإما رغباتٌ مكبوتة، وأمراضُ نفوس، وفسادُ قلوب، بينما المجتمعُ المسلمُ العفيفُ آمِنٌ ساكِن، ترِفُّ عليه أهدابُ السِّلم والطُّهْر والأمان، وفي التوجيه الكريم أمرَ اللهُ بتزويج الشباب والفتيات، والأمرُ للوجوب. عباد الله: وهذا المجتمعُ المُستسلِمُ لله تُكفَلُ فيه الحرياتُ والكرامات، والأموالُ والحقوقُ والحُرمات بحكم التشريع بعد كفالتها بالتوجيه الربَّاني المُطاع؛ فلا يُراقُ دمٌ والقِصاصُ حاضر، ولا يضيعُ حقٌّ أو مالٌ والحُدودُ قائمة، ومن لم تزجُرهُ المواعِظ زجَرَته الحُدود. هذه بعضُ معالم المجتمع المُطمئن المُستسلِم لله، وبعضُ معاني السلم الذي دعَت الآيةُ إلى الدخول فيه كافة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة: 208]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم. الخطبة الثانية الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا [الكهف: 1، 2]، وأشهد أن إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فإن الله تعالى لما دعانا للدخول في السلمِ كافةً حذَّرَنا من اتباع خطوات الشيطان؛ إذ ليس إلا طريقان: إما الدخول في السلم، وإما اتباع الشيطان، إما هُدًى، وإما ضلال، ليس للمسلم

18 شوال 1432 - الفهم الصحيح للواقع والواجب نحوه - الشيخ عبد الرحمن السديس

خطبة المسجد الحرام - 18 شوال 1432 - الفهم الصحيح للواقع والواجب نحوه - الشيخ عبد الرحمن السديس الخطبة الأولى إن الحمد لله نحمدك ربي ونستعينك ونتوبُ إليك ونستغفرك، تباركَ ربُّنا حَبانَا شِرعةً غرَّاء جلَّت أحكامًا، سبحانه وبحمده توحَّد بالعزَّة والجلالِ سرمدًا ودوامًا. فالحمدُ لله حمدًا على الآلاء حمدًا كثيرًا جلَّ عن إحصاءِ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً نرجو بها استبصارًا في الحق وإلهامًا، وأشهد أن نبيَّنا وسيدنا محمدًا عبد الله ورسوله بلَّغ رسالةَ الباري تعلمًا وإفهامًا، فزكَّى من البريَّة - بإذن ربه - أرواحًا وأفهامًا، صلَّى عليه اللهُ وعلى آله الطاهرين الطيبين نفوسًا وأحلامًا، وصحبِه البالغين من مداركِ الأحكام قِممًا أنَّى تُسامًا، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ يرجو من الحق الذُّرَى والمرامَا، وسلَّم تسليمًا كثيرًا عديدًا مُباركًا مديدًا مزيدًا. أما بعد: فاتقوا الله - عباد الله -، إن رُمتُم من الأمجاد غاياتها، ومن رحمات الهداية نهاياتها فاستعصِموا من التقوى بالعُروة الوُثقى؛ فللهِ ما أزكى مغبَّاتها وأهنأَ ثمراتها، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ [النور: 52]. من يتقِ اللهَ يجعل عُسرَهُ يُسرًا ويُعظِمُ اللهُ بالتقوى له أجرًا أيها المسلمون: في هذه الآونة التأريخية تعيشُ أمتنا الإسلاميةُ فتنًا حالِكة وعواصفَ من المآسي هالِكة، اختلفَت ضُروبُها واستحرَّت كُروبُها، وغدَت كعارضٍ مُنهمِر، وبرقٍ مُستمِر، أملَت على المسلمين التدبُّر والاعتبار، وعلاجها عاجلاً بأوفقِ مِسبار، ولكن في حكمةٍ واقتدار. من أنكى تلكم الفتن في الأمة وملَّتها ووحدتها وأُلفتِها: فتنةُ انحرافِ الفُهوم والعُقول وتأويلِ النصوص والنُّقول إلى غير المراد واللامعقول من قول الباري - تبارك وتعالى - وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومنهج السلف وخير الخلَف - رحمة الله تعالى عليهم -، لذلك كان الفهمُ الوثيق والإدراكُ المتينُ الدقيق للوحيَيْن الشريفين من أزكى مِنَن الباري وأسناها، وأجلِّ حصائد العلوم وأغلاها، وأسمَى وسائل الاستنباط وأزكاها، به يسمو صاحبُه، وتجِلُّ مناقبُه، وتنبُو عن الفَرَطات عواقِبُه. أما اختصَّ المولى - سبحانه - بالفهمِ الرجيح نبيَّه سليمان - عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام - في قوله تعالى: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا [الأنبياء: 79]. وأرشدَ أميرُ المؤمنين عمرُ بن الخطاب - رضي الله عنه - في كتابه لأبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - للزوم الفهم وصُواه في قولٍ ما أجلَّ فحواه: "الفهمَ الفهمَ فيما أُدلِي إليك". وفي الأثر عن أبي جُحيفة قال: قلتُ لعليٍّ - رضي الله عنه -: هل عندكم كتابٌ؟ قال: "لا، إلا كتاب الله، أو فهمٌ أُعطيَه رجلٌ مسلم"؛ خرَّجه البخاري وأهلُ السنن. وما ذاك إلا لأن آثار الفهم في مُعتركِ الاختلاف مُسدَّدةٌ مضمونة، وقُصودَه في معاضِلِ الترجيح راسخةٌ مأمونة، يُفضِي لتحقيق السعادتين ونَيْل الحُسنيَيْن. إخوة الإسلام: ومن بدائع العلامة ابن القيم - رحمه الله - قوله: "وصحةُ الفهم نورٌ يقذِفُه اللهُ في قلب العبد يُميِّزُ به بين الصحيح والفاسد، والحق والباطل، والهُدى والضلال، والغيِّ والرشاد .. " إلى أن قال - رحمه الله -: " .. ولا يتمكَّن المُفتي ولا الحاكمُ من الفتوى والحُكم بالحق إلا بنوعين من الفهم؛ أحدهما: فهم الواقع والفقهُ فيه، والثاني: فهمُ الواجب في الواقع، وهو فهمُ حكمِ الله الذي حكَمَ به في كتابه أو على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -". اهـ كلامه - رحمه الله -. لأن صحةَ الفهم وحُسن القصد - يا رعاكم الله - سلامةٌ للدين والذِّمَم والأحكام والقِيَم، وانطلاقًا بالأمة وأمنِها ووحدتها صوبَ السبيل الأرشد الأمَم. أيها المؤمنون: وقد كان الاختلافُ في فهم النصوص وتفسيرها لدى أهل الاجتهاد روضًا خصبًا في بيان سعة الشريعةِ ومُرونتها، وبُرهانًا ساطعًا على يُسر الدين وانسجامه مع المُتغيِّرات، ورعايته للمقاصد النيِّرات، وتحقيقه للمناط الصحيح في النوازل والمُستجِدَّات. أخرج البخاري ومسلم في "صحيحيهما" من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يومًا لأصحابه: «من كان يؤمنُ بالله واليوم الآخر فلا يُصلِّينَّ العصرَ إلا في بني قُريظَة»، فاختلفوا - رضي الله عنهم - في فهم ذلك على رأيَيْن مشهوريْن، أقرَّهما المُصطفى - صلى الله عليه وسلم -. وهكذا في جملةٍ من المسائل والفروع عدَّها أهلُ العلم من اليُسر والسَّعة التي لا يعيبُ فيها أحدٌ على الآخر، على ضوء القاعدة التيمية الذهبية المشهورة: "رفعُ الملام عن الأئمة الأعلام"، هذا؛ وقد بوَّب البخاريُّ - رحمه الله -: "بابٌ: الفهمُ في العلم". كل ذلك - يها المُوفَّقون - شريطةُ أن تكون قراءةُ النصوص وفهمُها على مُقتضى النصوص الصحيحة والمقاصد الصريحة وفهمِ السلف الصالح ذوي الديانة والقريحة، وأن يكون المُتحلِّي به من أهل العلم الربَّانيين، وكفى بذلك مكانةً لروح الشريعة في نفوس المُكلَّفين، مصدرًا ثرًّى للمُجتهِدين المُعتبَرين. إخوة الإسلام: وكم للفُهوم المُنحرفة الجانحة بين المسلمين من معرَّاتٍ وويلات، أذهبَت فيهم روحَ الكراهية والصراعات، وأجَّجت أُوارَ التعصُّب والنزاعات، وها هو الواقعُ البئيس عبر المجالس والمُنتديات، والإعلام والفضائيات ينطقُ باستعلاءٍ أباطيل وافتراءات، وفُشُوِّ أضاليل وادِّعاءات، وانتشار قناعاتٍ شاذَّى وافتراءات، تقضِمُ بهبُوبِها الأصولَ والثوابت، وتشرخُ بشُبُوبها معالمَ الدين الباسقة النوابِت. هذا نصٌّ تقضَّى أوانُه، وذاك حكمٌُ فاتَ زمانُه؛ لأن الحياة بلَغت شأوًا مديدًا من الرُّقيّ يقضي بذلك! زعموا، وبئس ما زعموا! وكم عائبٍ قولاً صحيحًا وآفتُه من الفهمِ السقيمِ ولكن تأخذُ الأسماعُ منه على قدرِ القرائح والفُهومِ وهل يكونُ الحرامُ الصُّراحُ يومًا ما حلالاً، والمِلحُ الأُجاجُ حالاً عذبًا زُلالاً؟! وهل تكونُ شعيرةُ الحِسْبة التي حازَت بها أمتُنا الخيريةَ على العالمين اقتحامًا للخصوصية، وخرقًا للحرية الشخصية؟! وهل يكونُ ميراثُ الرجل بمُقتضى النص: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [النساء: 11] على السواء من المرأة؟! وأيُّ وجهٍ للمُفاضلة في ذلك بزعمهم؟! وكم، وكم. من الذين يُحرِّفون الكلِمَ عن مواضِعِه، ويتطاوَلون على الأصول والمُحكَمات، ويُزايِدون على الثوابتِ والمُسلَّمات من الذين تنزِعُ فُهومُهم النَّزِقة من مشاربِ التغريب والتعلمُن وإيديولوجيات العصرنةِ والتعولُم! وحقًّا: إذا لم يُفِدكَ العلمُ خيرًا فخيرًا منه أن لو قد جهِلتَ وإن ألقاكَ فهمُك في مهاوٍ فليتكَ ثم ليتكَ ما فهِمتَ فكلُّ اقتحامٍ لثابت التشريعات ومُسلَّم المُحكَمات بالتحويرِ وسيءِ الأفهام فهو افتراءٌ على الله، وافتياتٌ على دينه، وتهجُّمٌ على الحق بغير علمٍ، وليٌّ لأعناق النصوص بما يخدِمُ الهوى، ويُضِلُّ عن الهُدى، ويُذكِي رواجَ الشُّبُهات، ويُطوِّحُ بالمسلمِ إلى مساءات التحلُّل والتميُّع والانهزامية والتغريب، أو مباءات التكفير والتدمير والعنف والتخريب. ولهم نصوصٌ قصَّروا في فهمها فأُتوا من التقصير في العِرفانِ حتى زلَّت كثيرٌ من الأقدام، وضلَّت عديدٌ من الأفهام، والله المستعان. ومما أسفرَ عن المفاهيم السياسية الإصلاحية القاتِمة النرجسية ذات الآحادية العُنجهيَّة: التسلُّط لمُصادرة آراء الآخرين، وإقصاء طُموحاتهم، وطمس كراماتهم بشتَّى أساليب القمعِ والقهرِ وقصمِ الظهر في تحدٍّ للعالَم سافرٍ أرعَن، وما ذلك إلا لانتكاسِ الفهم، واستحكامِ الهوى والوَهم. أمة الإسلام: ومن ضُروبِ القضايا المُلِحَّة في هذا الأوان المُصطخِب والتي ونَت فيها الأفهام، واعتراها الخللُ والإيهام لدى كثيرٍ من الأفهام: قضايا في الاعتقاد، والمُعاملات المصرفية، ومسائل الربا، والمرأة وحجابها وعملها، والفتوى والمُتغيِّرات، والفكر والحوارِ والمُستجِدَّات، وإنها لقمينةٌ بأن تُؤصَّلَ على ضوءِ المفاهيم الشرعية الصحيحة التي تُجلِّي فقهَ المآلات واعتبار الأولويات، ولن يكون استنباطُ الرأيِ صوابًا سديدًا والفهمُ مُحكَمًا رشيدًا إلا أن يرِدَ أدلَّة مُسلَّمات الشريعة، وقواعِدها المَنيعَة، ومقاصِدها السامية الرفيعة، في ترفُّعٍ أن تلوكَها أقلامُ الصحافة، ومُلاسَناتُ المُتشاكسين، أو تتراشقَها المُنتديات، وشبكاتُ المعلومات. فالمرجعيَّةُ الضابطة للمفاهيم البائرة والآراء الخائرة هي - ولا مَيْن - للوحيَيْن الشريفين. فعليك بالوحيَيْن لا تعدُوهُما واسلُك طريقَهما بفهمٍ جيدٍ فإذا تعذَّرَ فهمُ نصٍّ غامضِ فاستفتِ أهلَ الذكر كالمُسترشِدِ يقول الإمامُ الشافعيُّ - رحمه الله - في آراء الصحابة - رضوان الله تعالى عليهم -: "وآراؤهم لنا أحمدُ وأولى لنا من آرائنا عندنا لأنفسنا". ولله درُّ الشاطبي - رحمه الله -؛ حيث يقول: "يجبُ على كل ناظرٍ في الدليل الشرعي مُراعاةُ ما فهِمَ منه الأولون وما كانوا عليه في العمل به؛ فهم أحرى بالصواب، وأقومُ في العلم والعمل". معاشر الأحبَّة: وإذا كان اختلافُ الناس جِبِلَّةً في الخلق، كما قال تعالى: وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ [هود: 118]؛ لتفاوُتِ مدارِكهم وفُهومهم وتبايُن معارفهم وعلومهم، فإن مجالَ ذلك في دائرة المُسموح به شرعًا، ومما يسُوغُ فيه اختلافُ وجهات النظر، ومن ذوي مُكنةٍ مُتجرِّدٍ عن العصبية والهوى، مُعرِّدٍ واسع الاطَّلاع على النصوص والأقوال، دقيق الإدراك لكليَّاتها، وثيق التمييز بين تطبيقاتها، مُطَّلِعًا بمسالك الخلافات وأدبياتها وأوجه الاستدلال ومُدرَكَاتها. ومن كان كذلك - ونِعَمَّ ذلك - فيُمِدُّه ربُّ العباد بهديِه، وبكُلِّ مكرُمةٍ وفهمٍ أجدرُه، ولرُبَّ خائضٍ مُعترَك المفاهيم والآراء يقول ببجاحةٍ عاتَّة في قطعيَّةٍ باتَّة: فهمِي صوابٌ لا يحتمِلُ الخطأ، وفهمُ غيري خطأٌ لا يحتمِلُ الصواب! وهذا المسلكُ مُصادمٌ لأدب الخلاف والحوار؛ إذ يقتضي تزكيةَ النفس وتنزيهها عن المزَالّ، خلافًا لأدب الجِلَّةِ من العلماء من التواضُع وخفضِ الجناح، كما أُثِرَ عن الإمام الشافعي - رحمه الله - قولُه: "رأيِي صوابٌ يحتمِلُ الخطأ، ورأيُ غيري خطأٌ يحتمِلُ الصواب". وإن هذه الاغترارَ من أولئك مما تئِنُّ منه حلائبُ العلم وميادينُه وساحاتُه، وتصطرخُ منه المُنتدياتُ والمُلتقيات، وحُسن الظنِّ في هؤلاء أن يكونوا في الأمةِ دواءَها، فكانوا بلاءَها وداءَها، والله المُستعان. وبعدُ، معاشر المسلمين: ففي زمن الانفتاحِ الإعلامي العالمي المُبهِر بفضائياته وتِقاناته لزِمَ العلماءَ والدعاةَ الفُضلاء ورجالَ الإعلام وحمَلَة الأقلام بذلُ غاية الجهود لتحقيق أسمى القُصود في تصحيح المفاهيم المدخولة العليلة والآراء الجافيةِ الوبيلَة، وبيانُ المنهج الحق وآلياته في التلقِّي عن الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وإدراك معاقِد مُرادهما، وأن تُجيَّش في سبيل ذلك

25 شوال 1432 - حسن الظن بالله وآثاره - الشيخ أسامة خياط

خطبة المسجد الحرام - 25 شوال 1432 - حسن الظن بالله وآثاره - الشيخ أسامة خياط الخطبة الأولى الحمد لله الهادي لمن استهداه، الكافي من تولاَّه، أحمده - سبحانه - حمدًا نبتغي به وجهَه ورِضاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له لا ربَّ غيرُه ولا إله سِواه، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله أفضلُ نبيٍّ هداه ربُّه واصطفاهُ واجتباه، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه صلاةً وسلامًا تزكُو بهما النفوس وتسمُو وتطيبُ بهما الحياة. أما بعد: فاتقوا الله - عباد الله -، وتوبوا إليه واستغفِروه يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [نوح: 11، 12]. عباد الله: ديدَنُ أُولي الألباب ونَهجُ المتقين وشأنُ عباد الرحمن: إحسانُ الظنِّ بربهم الأعلى لا حَيْدَة عنه، ولا مَيْل عن سبيله، ولا توقُّف فيه ولا نُكوص عنه، ولا عجبَ أن يكون لهم هذا النهج، وأن يُعرَف لهم هذا المسلَك وهذا التعامُل مع ربهم؛ فقد جاءهم منه - سبحانه - ما يبعَثُ على الاستمساك به والعضّ عليه بالنواجِذ، وذلك في الحديث الذي أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «قال الله: أنا عند ظنِّ عبدي بي، وأنا معه إذا ذكَرني .. » الحديث. وفي الحديث الذي أخرجه مسلمٌ في "صحيحه" عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يمُوتنَّ أحدُكم إلا وهو يُحسِنُ الظنَّ بالله تعالى». وهذا مُبايِنٌ أعظم المُبايَنة، ومُخالفٌ أشد المُخالَفة لطريق الظانِّين بالله ظنَّ السَّوْء، أولئك الذين نعى اللهُ عليهم هذا وشدَّد عليهم فيه النكير، فقال - سبحانه - فيما قصَّ علينا من أنباء غزوة أُحُد وما كان فيها من أحداثٍ وعِبَر: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [آل عمران: 154]. إنه حديثٌ عن فِئة أهل شكٍّ ورَيبٍ في الله - عزَّ وجل -، لم يغشَها النُّعاس الذي بعثَه الله يوم أُحُد بسبب ما كانت عليه - أي: هذه الفِئة - من قلقٍ وجزَعٍ وخوف، تظنُّ بالله غيرَ الظنِّ الحق الذي يجبُ أن يُظنَّ به - سبحانه -، كما قال - عزَّ اسمُه -: بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا [الفتح: 12]. وهكذا اعتقدَت هذه الفِئَة أن مُشركي قريش لما ظهَروا أن هذا الظهر هو الفَيصلُ، وأن اللهَ لا ينصُر رسولَه، وأن أمره سيضمَحِلّ، وأنه يُسلِمُه إلى القتل. وفُسِّر - كما قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: بأن ما أصابَهم لم يكن بقضائه وقدره ولا حكمة له فيه، ففُسِّر بإنكار الحكمة، وإنكار القدر، وإنكار أن يُتِمَّ أمر رسوله، ويُظهِره على الدين كله. وهذا هو ظنُّ السوء الذي ظنَّه المُنافِقون والمُشركون به - سبحانه وتعالى - في سورة الفتح؛ حيث يقول: وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [الفتح: 6]. وإنما كان هذا ظنَّ السوء وظنَّ الجاهلية الذي نُسِب إلى أهل الجهل وظنَّ غير الحق؛ لأنه ظنٌّ لا يليقُ بأسمائه الحُسنى وصفاته العُليا وذاته المُبرَّأة من كل سوء، بخلاف ما يليقُ بحكمته وحده وبتفرُّده بالربوبية والألوهية، وما يليقُ بوعده الصادق الذي لا يُخلِفُه، وبكلمته التي سبَقَت لرُسُله أن ينصُرَهم ولا يخذُلَهم، ولجُنده بأنهم هم الغالبون. فمن ظنَّ بالله أنه لا ينصُر رسولَه ولا يُتِمُّ أمره ولا يُؤيِّده، ولا يُؤيِّد جُندَه، ولا يُعلِيهم ويُظفِرُهم بأعدائه ويُظهِرهم عليهم، وأنه لا ينصُر دينَه وكتابَه، وأنه يُديلُ الشركَ على التوحيد، والباطلَ على الحق إدالةً مُستقرَّةً يضمحِلُّ معها التوحيدُ والحقُّ اضمحلالاً لا يقومُ بعده أبدًا؛ فقد ظنَّ بالله ظنَّ السوء، ونسبَه إلى خلاف ما يليقُ بكماله وجلاله وصفاته ونُعوته، فإن عزَّته وحكمةَ إلهيته تأبَى ذلك، وتأبَى أن يُذِلَّ حِزبَه وجُنده، وأن تكون النُّصرةُ المُستقرَّة والظَّفَر الدائم لأعدائه المُشركين به العادِلين به. فمن ظنَّ به ذلك فما عرَفَه ولا عرفَ أسماءه ولا عرَفَ صفات كماله، وكذلك من أنكر أن يكون ذلك بقضائه وقدره فما عرَفَه ولا عرَفَ ربوبيته ومُلكَه وعظمَتَه، وكذلك من أنكر أن يكون ما قدَّر اللهُ من ذلك وغيره لحكمةٍ بالغة وغايةٍ محمودة يستحقُّ الحمدَ عليها، وأن ذلك إنما صدَرَ عن مشيئةٍ مُجرَّدةٍ عن حكمةٍ وغايةٍ مطلوبةٍ هي أحبُّ إليه من فَوتها، وأن تلك الأسباب المكروهة المُفضِيَة إليها لا يخرج تقديرُها عن الحكمة؛ لإفضائها إلى ما يُحبُّ - وإن كانت مكروهةً له -، فما قدَّرها سُدًى، ولا أنشأها عبثًا، ولا خلقها باطلاً، ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [ص: 27]. وأكثرُ الناس يظنُّون بالله غيرَ الحق ظنَّ السوء فيما يختصُّ بهم، وفيما يفعلُه - سبحانه - بغيرهم، ولا يسلمُ من ذلك إلا من عرفَ اللهَ وعرفَ أسماءَه وصفاتِه، وعرفَ مُوجِبَ حمده، وعلِمَ حكمته؛ فمن قنطَ من رحمته، وأيِسَ من روحه فقد ظنَّ به السوء. ومن جوَّز عليه أن يُعذِّب أولياءَه مع إحسانهم وإخلاصهم، ويُسوِّي بينهم وبين أعدائه فقد ظنَّ به السوء. ومن ظنَّ به أنه يترك خلقَه سُدًى مُعطَّلين من الأمر والنهي، ولا يُرسِلُ إليهم رُسلَه، ولا يُنزِّلُ عليهم كتبَه؛ بل يترُكهم هملاً كالأنعام؛ فقد ظنَّ به ظنَّ السوء. ومن ظنَّ أنه لن يجمَع عبيدَه بعد موتهم للثواب والعِقاب في دارٍ يُجازَى فيها المُحسِن بإحسانه والمُسيءُ بإساءته، وليُبيَّن لخلقه حقيقة ما اختلفوا فيه، وليُظهِر للعالمين كلهم صدقَه وصدقَ رُسله، وأن أعداءه كانوا هم الكاذبين؛ فقد ظنَّ به ظنَّ السوء. ومن ظنَّ أنه يُضيعُ عليه عملَه الصالحَ الذي عمِلَه خالصًا لوجهه الكريم على امتثال أمره، ويُبطِله عليه بلا سببٍ من العبد، وأنه يُعاقِبُه بما لا صنيعَ فيه ولا اختيار ولا قُدرةَ ولا إرادةَ في حصوله؛ بل يُعاقِبُه على فعله هو - سبحانه - به، أو ظنَّ أنه يجوز عليه أن يُؤيِّدَ أعداءَه الكاذبين عليه بالمُعجِزات التي يُؤيِّدُ بها أنبياءَه ورُسُله، وأن يُجرِيَها على أيديهم يُضلُّون بها عبادَه، وأنه يحسُنُ منه كلُّ شيءٍ حتى أن يُعذِّبَ من أفنى عمرَه في طاعته فيُخلِّدَه في الجحيم أسفل سافلين، ويُنعِّمَ من استنفذَ عمرَه في عداوته وعداوة رُسله ودينه، فيرفعه إلى أعلى عليِّين، وأن كلا الأمرين في الحُسن سواءٌ عنده؛ فقد ظنَّ به ظنَّ السوء. ومن ظنَّ به أنه أخبرَ عن نفسه وصفاته وأفعاله بما ظاهرُه باطلٌ وتشبيهٌ وتمثيل، وتركَ الحقَّ ولم يُخبِر به، وإنما رمزَ إليه رموزًا بعيدة، وأشارَ إليه إشاراتٍ بالألغاز، وأراد من خلقه أن يُتعِبوا أذهانَهم وقُواهَم وأفكارَهم في تحريف كلامه عن مواضِعه، وتأويله على غير تأويله، من ظنَّ به - سبحانه - ذلك فقد ظنَّ به ظنَّ السوء. ومن ظنَّ به أنه إذا صدَقَه في الرغبةِ والرهبةِ، وتضرَّع إليه وسألَه، واستعانَ به، وتوكَّلَ عليه، أنه يُخيِّبُه ولا يُعطيه ما سألَه؛ فقد ظنَّ به ظنَّ السوء، وظنَّ به خلافًَ ما هو أهلُه. فأكثرُ الخلق - بل كلُّهم - كما قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: "أكثرُ الخلق - بل كلُّهم - إلا من شاء الله منهم - يظنُّون بالله غيرَ الحق ظنَّ السوء؛ فإن غالبَ بني آدم يعتقِدُ أنه مبخوسُ الحق، ناقِصُ الحظ، وأنه يستحقُّ فوق ما أعطاه الله، ولسانُ حالِه يقول: ظلمَني ربي، ومنعني حقي، ونفسُه تشهَدُ عليه بذلك، وهو بلسانه يُنكِرُه، ولا يتجاسَرُ على التصريح به، ومن فتَّشَ نفسَه وتغلغلَ في معرفة دفائنِها وطواياها رأى ذلك فيها كامِنًا كُمُونَ النار في الزناد، فمُستقِلٌّ ومُستكثِر". ففتِّش نفسَك: هل أنت سالمٌ من ذلك؟! فإن تنجُ منها تنجُو من ذي عظيمةٍ وإلا فإني لا إِخالُكَ ناجيًا فليعتنِ اللبيبُ الناصِحُ نفسَه بهذا الموضع، وليتُب إلى الله ويستغفِره كل وقتٍ من ظنِّه بربه ظنَّ السوء، وليظنَّ السوء بنفسه التي هي مادةُ كل سوء، ومنبَع كل شر؛ فهي أولَى بظنِّ السوء من أحكَم الحاكمين وأعدل العادلين وأرحم الراحمين الغني الحميد، الذي له الغِنى التام، والحمد التام، والحكمة التامة في ذاته وصفاته وأفعاله وأسمائه، هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الحشر: 24]. نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنة نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ، إنه هو الغفور الرحيم. الخطبة الثانية الحمد لله الذي خلق فسوَّى، والذي قدَّر فهدى، أحمده - سبحانه - حمدَ شاكرٍ ذاكرٍ مُخبِتٍ لربه الأعلى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثَّرى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله وحبيبُه المُجتبى ونبيُّه المُصطفى، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أئمة الهُدى ونُجوم الدُّجَى. أما بعد، فيا عباد الله: قال الله تعالى - حكايةً عن قول إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - لقومه: أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الصافات: 86، 87]؛ أي: ما ظنُّكم أن يفعل بكم إذا لقِيتموه وقد عبدتم غيرَه؟! ومن تأمَّل هذا الموضع - كما قال أهل العلم - علِمَ أن حُسن الظن بالله هو نفس حُسن العمل؛ فإن العبدَ إنما يحمِلُه على حُسن العمل ظنُّه بربِّه أنه يُجازيه على أعماله، ويُثيبُه عليها، ويتقبَّلُها منه، فالذي حمَله على حُسن العمل حُسن الظن؛ فكلما حسُن ظنُّه حسُن عملُه، وإلا فحُسن الظنِّ مع اتباعِ الهوى عجزٌ. وبالجُملة؛ فحُسن الظن إنما يكون مع انعقاد أسباب النجاة، وأما مع انعقاد أسباب الهلاك فلا يتأتَّى إحسانُ الظن. فاتقوا الله - عباد الله -، وأحسِنوا الظنَّ بربكم، وأحسِنوا له العمل؛ تفوزوا بالرضا والرضوان من الرب الرحيم الرحمن، ونزول رفيع الجِنان. وصلُّ

2 ذو القعدة 1432 - مفهوم الحرية في الإسلام - الشيخ سعود الشريم

خطبة المسجد الحرام - 2 ذو القعدة 1432 - مفهوم الحرية في الإسلام - الشيخ سعود الشريم الخطبة الأولى الحمد لله الواحد الأحد الصمد الذي لم يلِد ولم يُولَد، ولم يكن له كُفوًا أحد، شرعَ لنا من الدين ما وصَّى به نوحًا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدًا - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين -، فأقيموا الدين ولا تتفرَّقوا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله وصفيُّه وخليلُه، وخيرتُه من خلقه، بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصحَ الأمة، وجاهدَ في الله حقَّ جهاده، فصلواتُ الله وسلامُه عليه وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه الغُرِّ الميامين، وعلى التابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا. أما بعد: فاتقوا الله - عباد الله -، وراقِبوه في السرِّ والعلَن، والخَلوة والجَلوة؛ فإن الله يعلمُ خائنةَ الأعيُن وما تُخفِي الصدور. واعلموا أن ما بكم من نعمةٍ فمن الله، وأنه لا نعمةَ أعظم ولا أبلغ في النفوس من نعمة الإسلام والدين والانقياد لأمر الله وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم -، والتماسِ مظانِّ رضا الله، واجتناب مظانِّ سخَطه - جل وعلا -. عباد الله: كل إنسانٍ على هذه البسيطة له أمنيةٌ لا تُفارقُ خيالَه، ولا تنفكُّ عن أن تكون في مُقدِّمة تطلُّعاته في هذه الحياة، وهي: أن يعيش حرًّا كريمًا عزيزًا، يُتاحُ له مساحةً واسعةً من الحرية والاستقلال؛ ليُشارِك ويُحاوِر ويأخذ ويُعطي. وإلى هذا الحدِّ نجِدُ أن شريعتَنا الغرَّاء قد كفَلَت لكل مسلمٍ هذه الأمنية ورعَتها حق رعايتها، فجعلَته حرًّا عزيزًا كريمًا لا سلطان لأحدٍ عليه غير سلطان الشريعة؛ فهو حرٌّ صبيًّا وشابًّا وكهلاً وشيخًا، في حريةٍ مُطلقة ما لم يُخِلَّ بواجباته تجاه ربِّه ودينه وبني ملَّته، وما لم ينتهِك من الموانع والمحاذير ما يُوقِفُ عنه هذه الخِصِّيصة التي يتطلَّعُ إليها. فالنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا تَحاسَدوا، ولا تَناجَشوا، ولا تَباغَضوا، ولا تَدابَروا، ولا يبِعْ بعضُكم على بيع بعضٍ، وكونوا عبادَ الله إخوانًا، المسلمُ أخو المسلم، لا يظلِمُه، ولا يخذُلُه، ولا يحقِرُه، التقوى ها هنا - ويُشير إلى صدره، ثلاث مرات -، بحسب امرئٍ من الشرِّ أن يحقِرَ أخاه المسلم، كل المسلمِ على المسلمِ حرام؛ دمُه ومالُه وعِرضُه»؛ رواه مسلم. إن الشريعة - عباد الله - هي سرُّ الأمان لضمان الصالح العام، وهي مبنيةٌ على الرحمة والعدل والخير الذي يأمر اللهُ به عبادَه، تعودُ غايتُه لإسعاد الناس في آجِلهم وعاجلِهم، وأن الشر الذي نهاهُم عنه ليس إلا وقاية لهم من أذًى قريبٍ أو بعيد. ولذا فقد سما الإسلام بالمسلم روحًا وجسدًا، عقلاً وقلبًا؛ فلم يضَع في عُنقه غُلاًّ، ولا في رِجله قيدًا، ولم يُحرِّم عليه طيبَة، وفي الوقت نفسِه لم يدَعه كالكرة تتخطَّفُها مضارِبُ اللاعبين، فتهوِي به في كل اتجاه حتى تُقنِعَه بأن الإنسان إنما يعيشُ لنفسه ومتاع الدنيا، فإذا كان الأحمقُ منهم يعيشُ ليأكل؛ فإن العاقل منهم - بهذا التصوُّر الرخيص - إنما يأكل ليعيش. وأما المؤمنُ الصادق الموصول بربِّه وحبِّه وخشيتِه فإنه يستحضِرُ قولَه تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ [المؤمنون: 115]. يقول الشاطبي - رحمه الله -: "اتفقَت الأمةُ على أن الشريعةَ وُضِعَت للمحافظةِ على الضرورات الخمس، وهي: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال، وعلمُها عند الأمة كالضروري". أيها الناس: لقد تواطأَ الناسُ على البحث عن الحرية والكرامة وأعياهُم طِلابُها، غيرَ أن كثيرًا منهم سارَ في غير مسارِها، والتمسُوها في غير مظانِّها؛ فحسِبَها بعضُهم في اللَّهَث وراء الدنيا بزينتِها وزُخرُفها والعبِّ منها كما الهِيْم، بل ذهبَ بعضُهم إلى أبعدَ من ذلكم؛ ليصرَ مفهوم الحرية عنده: إن لم تكن ذِئبًا أكلَتْك الذئاب، وإن لم تَجهَل يُجهَل عليك، وإن لم تتغدَّ بزيدٍ تعشَّى بك! وأن الحريةَ عندهم: أن تقول ما تشاء، وتفعل ما تشاء، وتكتبَ ما تشاء، وتتكلَّم فيمن تشاء، دون زمامٍ ولا خِطام، حتى ولو كان في أمور الدين والعقيدة وحقِّ الله وحقِّ رسوله - صلى الله عليه وسلم -. ولكن الحريةَ الحقَّة - عباد الله - دينٌ يتبَعُهُ عملٌ ويصحَبُه حملُ النفس على المكارِه، وجَبلُها على تحمُّلِ المشاقِّ، وتوطينُها لمُلاقاة البلاء بالصبر والشدائد بالجلَد، وحفظ الحُدود، والتسليم للشريعة والتمسُّك بها؛ فالحرُّ من آثَر الباقي على الفاني، والحريةُ رضًا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم - رسولاً، وقناعةٌ بالمقسوم، وثقةٌ بالخالق، واستمدادُ العَون منه، ومن ذاقَ طعمَ الإيمان ذاقَ طعمَ الحرية. فمن حقَّق العبوديةَ لله - سبحانه - فلن يكون عبدًا لهواه، ولا أسيرًا لأحدٍ من الناس؛ حيث لا تحكمُه الشهوةُ ولا المُصانَعة، ولا يُوجِّهُه مبدأُ: كم تملِك؟ وما مركزُك ومنصبُك؟ لأنه يحمِلُ في نفسه معنى الناس لا معنى ذاته؛ ليُصبِحَ حرًّا بهذا التصوُّر الإيجابي. فإن من أساسات الحريةِ - عباد الله -: أن يُؤدِّي المرءَ حقَّ الله على ما أراد - سبحانه -، وأن يُؤدِّي حقَّ العباد وفقَ ما شرعَه الله له، فلا حريةَ في التحليل والتحريم؛ لأن الله - جل وعلا - يقول: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا [المائدة: 3]، ويقول - جل وعلا -: وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ [النحل: 116]. وليس لمخلوقٍ الحرية فيما يخُصُّ أعراضَ الناس؛ فقد يترتَّبُ على ذلك جَلْدٌ في القذف، أو رجمٌ في الزِّنا، ولا فيما يخُصُّ العقل؛ فقد يترتَّبُ على ذلك جلدٌ في المُسكِر، أو قتلٌ في المُخدِّرات، أو تعزيرٌ في إفساد الفِكر، ولا حرية مُطلقة في المال؛ فقد تُقطَع اليدُ في سرقة، أو يُعزَّرُ امرؤٌ في غصبِ مال، ولا حرية مُطلقة في النفس؛ فقد يُقتَلُ قِصاصًا، أو يُصلَبُ حِرابةً، ولا حرية مُطلقة في الدين؛ فإن الله - جل وعلا - يقول: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران: 85]. ويقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «لا يحلُّ دمُ امرئٍ مسلمٍ إلا بإحدى ثلاثٍ: الثيِّبُ الزاني، والنفسُ بالنفسِ، والتاركُ لدينه المُفارِقُ للجماعة»؛ رواه مسلم. فمن أراد الحريةَ الحقَّة - عباد الله - فلينظُر مدى توافُقها مع شِرعَة الله وصِبغَته، ومن أراد أن يُحسِن سِياجَ الحرية فليستمِع إلى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله تعالى فرضَ فرائِضَ فلا تُضيِّعوها، وحدَّ حدودًا فلا تعتدُوها، وحرَّم أشياءَ فلا تنتهِكوها، وسكتَ عن أشياء رحمةً غيرَ نسيان فلا تبحَثوا عنها»؛ حديثٌ حسنٌ، رواه الدارقطني وغيرُه. وحاصلُ الأمر - عباد الله -: أن الحريةَ ترابُطٌ وثيقٌ بين أفراد المجتمع وأُسَرِه وبُيُوتاتِه، يشترِكون في الواجبات والحقوق، لا يعتدي بعضُهم على بعضٍ، ولا يظلمُ بعضُهم بعضًا، ولا يبغِي بعضُهم على بعض، أمامَهم فُسحةٌ واسعةٌ من المُباحات هي عفوٌ قد سكتَ عنها الشارِعُ الحكيم. فإن أصحابَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكونوا مُنحرفين ولا مُتماوتين، وكانوا يُنشِدون الأشعارَ في مجالسهم، ويذكرُون أمرَ جاهليَّتهم، فإذا أُريدَ أحدُهم على شيءٍ من دينه دارَت حماليقُ عينيه؛ رواه البخاري في "الأدب المفرد". بمثلِ هذا كلِّه - عباد الله - يتَّصِلُ ما بين العظيمِ والسُّوقَة، والشريفِ والوَضيع، والغنيِّ والفقير، بعيدًا عن معاني الدينار والدرهَم وحِمامِهما؛ ليُرفَع بذلك الشيءُ النفيس ويُخفَضَ الشيءُ الخَسيس، لا أن يطفُوَ الخَشاشُ والحَشاش ويسفُلَ الدرُّ والجوهَر. وليتَّقِ الجميعُ حدودَ الله؛ فإن الله - جل وعلا - يقول: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا [البقرة: 229]، ويقول - سبحانه -: وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [الطلاق: 1]، وقال - جل وعلا -: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ [النساء: 13، 14]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلتُ ما قلتُ، إن كان صوابًا فمن الله، وإن كان خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفَّارًا. الخطبة الثانية الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. وبعد: فاتقوا الله - عباد الله -، واعلموا أن حفظَ بُنيان المسلم من أعظم المصالِح التي دلَّ عليها الشارِعُ الحكيم، وأن انتهاكَه من أعظم المفاسِد التي حذَّرَ منها، وقتلُ النفس المُحرَّمة جزءٌ من ذلكم، وفي هذا من الظلمِ والنِّكايةِ ما لا يخفَى على بشر. وقد قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: "وإعدامُ البِنيةِ الإنسانية غايةٌ في ذلك". وقتلُ النفس المعصومة كبيرةٌ من كبائر الذنوب؛ فقد قال - جل وعلا -: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء: 93]، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لَزوالُ الدنيا أهونُ على الله من قتلِ رجلٍ مسلمٍ»؛ رواه الترمذي. وقال - صلوات الله وسلامه عليه -: «لو أن أهلَ السماء وأهلَ الأرض اشترَكوا في دمِ مؤمنٍ لأكبَّهم الله في النار». وقد قال - صلوات الله وسلامُه عليه -: «يجِيءُ المقتولُ يوم القيامة آخِذا رأسَه بيمينِه تشخُبُ أوداجُه في قِبَلِ عرش الرحمن يقول: سَلْ هذا: فيمَ قتلَني؟!»؛ رواه أحمد. ألا فليتَّقِ اللهَ أولئك الظالمون المُتهوِّرون الذين يُصوِّبون فُوَّهات بنادقهم وأسلحتِهم إلى صُدور إخوانهم وبني مجتمعهم؛ فيقتُلون ويُسرِفون في القتل، ويرتكِبون أبشعَ الجرائِم والمجازِر، فلا يرعَون حُرمةَ دمٍ ولا مالٍ ولا ولد، كل ذلك لأجلِ عَرَضٍ من الدنيا زائِل، قدَّموا مصالِحَهم على حُرمات العباد، حتى لقد صارَ إهراقُ الدمِ عندهم أهونَ من قتل البَعوضة. وتاللهِ وباللهِ؛ فإن هذا لهُو البَوارُ والخُسران، وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ [العنكبوت: 13]. إن القاتل مسجونٌ ولو كان طليقًا، مهمومٌ ولو بدَتْ نواجِذُه؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لن يَزالَ المؤمنُ في فُسحةٍ من دينه ما لم يُصِب دمًا حرامًا»؛ رواه البخاري. وقد قال ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما -: "إن من وَرطات الأمور التي لا مخرجَ لمن أوقعَ نفسَه فيها سفكَ الدم الحرام بغير حِلِّه". وعند الله تجتمعُ الخُصوم. ألا فليتَّقِ الله الذين يقتُلون إخوانَهم في بُلدانهم، ألا فليتَّقوا الله، ألا فليتَّقوا

9 ذو القعدة 1432 - اقتضاء القول العمل - الشيخ عبد الرحمن السديس

خطبة المسجد الحرام - 9 ذو القعدة 1432 - اقتضاء القول العمل - الشيخ عبد الرحمن السديس الخطبة الأولى إن الحمد لله، نحمده ونستعينُه ونستغفرُه ونتوبُ إليه سبحانه وبحمده لم يزَلْ للثناءِ والحمدِ مُستحِقًّا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خصَّنا بشريعةٍ غرَّاء هي المَعينُ السَّلسالُ الأبقَى، من اعتصمَ بها ظاهرًا وباطنًا توقَّى وفازَ وترقَّى، وأشهد أن نبيَّنا وحبيبَنا محمدًا عبدُ الله ورسوله أزكى البريَّةِ سرًّا وعلانيةً وأتقى، صلَّى الله وبارَكَ عليه، وعلى آله الحائزين المكارِمَ أصلاً وسبقًا، وصحبِه البالغين من ذُرَى الدين المقامَ الأرقى، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ يرجو في الجِنانِ أهنَا ملقَى، وسلَّم تسليمًا كثيرًا ما أعقَبَ ودقٌ برقًا. أما بعد، فيا عباد الله: اتقوا الله حقَّ التقوى، اتقوه - جلَّ جلاله - مخبرًا ومظهرًا تُحقِّقوا عزًّا ترى ما أبرهًا، وتحُوزوا مجدًا أظهرًا، وتستعيدوا سُؤددًا غابرًا أزهرًا، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا [الطلاق: 5]. فما أروعَ الأيام إن زانَها التُّقَى وأضحَت مساعِي الجمعِ محمودةَ العُقبَى ففي تقوى الإلهِ السنيَّةِ حلَّقَت نفوسٌ إلى عليَائِها تنشُدُ القُربَى أيها المسلمون: في عصر الماديات واعتسافِها، وذُبُولِ الروحِ وجفافِها، واجتِثاثِ كثيرٍ من القِيَم وانتِسافِها، وشُرُودِ النفوس دون صحيحِ التديُّنِ وانصِرافِها؛ تغلغَلَت في الأمةِ آفةٌ قَحِلَة، جَرذَاءُ محِلَة، برَّحَت بالأمةِ وأوهَتها، وطوَّحَت بها وأضنَتها، كيف وإنها لتبُكُّ الفيالِقَ المُجنَّدَة والقواضِبَ المُهنَّدة؛ لذلك حذَّر منها الباري وندَّد، أكبَرَ في أمرها المقتَ وشدَّد، تلكم هي - حماكم الله -: الانفِصامُ بين العمل والقول، وما أشنَعه من هَوْل، وتبايُنُ الخُبُر عن الخَبَر في انحرافٍ عن سَوِيِّ الفِطَر، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصف: 2، 3]. الله أكبر! فكم هم الذين يجمَعون في ذواتِهم الصفات المُتناقِضات دون تأثُّمٍ وحرجٍ، سائرين إلى ربِّهم في ضلَعٍ وعِوَج، فكان ذلكم الانفِصامُ الوَبِيء بين العقيدةِ والقِيَم، والعبادات والأخلاق، والشعائرِ والمشاعِر سببًا في تقهقُرِ أمتنا وعجزِها عن بلاغِ رسالتِها في العالمين. إخوة الإيمان: ولتحقيق معالمِ الكمال الربانية للشخصيةِ المُسلِمة السويَّة جاء الإسلامُ بجمهرةٍ من الضوابطِ الخُلُقية والفكرية والآداب النفسية والاجتماعية لاستبقاءِ التديُّن حقًّا شفيفًا مُزهِرًا في الجَنان، حقيقةً مُثمِرةً في الأركان، حقيقةً مُؤتلِقَةً في العِيان، يقول - سبحانه - عن نبيِّه شُعيب - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام -: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ [هود: 88]، وهؤلاء رُسُل الملك العلاَّم هم قُدوةُ الأنام فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90]. في الأثر عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: "إن الناسَ قد أحسَنوا القولَ؛ فمن وافقَ قولُه فعلَه فذاكَ الذي أصابَ حظَّه، ومنن خالَفَ قولُه فعلَه فذاكَ إنما يُوبِّخُ نفسَه". إذا نصَبوا للقول قالوا فأحسَنوا ولكنَّ حُسنَ القولِ خالَفَهُ الفعلُ نعم - يا رعاكم الله -؛ كم تستبيكَ الأقوالُ المُخرفَةُ المُبهرَجة، وما هي في الحقيقةِ - إذا عجَنتَ صاحبَها - إلا الهباءُ تذرُوهُ الرياح، وتأسِرُكَ النظرياتُ المُطرَّزة، وما هي - إذا بلوتَ تالِيَها - إلا النُّكرُ والجُناح، فالقائلُ بليغٌ مُفوَّه، والحديثٌ آسِرٌ مُموَّه، والفعلُ - من أسفٍ - خِداجٌ مُشوَّه، يُظهِرُ باللسان الأُخُوَّةَ المَديحة، ويُبطِنُ بالفِعال العداوةَ الصريحَة، وقد كشفَهم الحقُّ في قوله - جلَّ جلاله -: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ [البقرة: 204]. أما دَرَى هؤلاء أن امتثالَ الأحكام بالأركان أجلُّ من الحديثِ عنها بصَوغِ اللسان؟! شتَّان بينهما شتَّان! والقولُ ما لم يكن بالفعلِ مُقترِنًا فإنه عَرَضٌ في حيِّزِ العَدَمِ وفي مأثورِ الحِكَم: "القولُ خُلَّب، والفعلُ قُلَّب، وأصدقُ المقال ما نطَقَت به صورُ الفِعال". أمة الإسلام: الحديثُ عن آفةِ الانفِصالِ في الأقوال والأفعال والتبايُنِ بينهما دون استِحكام مُرُّ المذاق، مُجرٍ لعَبَراتِ الأحداق، فكم هم الذين ظاهِرُهم الديانة انحرَفوا في مسائل الاعتقاد، فاستغاثُوا بالرُّفاتِ يرجُونَهم قضاء الحاجات وتفريجَ الكُرُبات، وهذا الاعتقادُ الفاسِدُ خالَفَ الظاهِرَ الكاسِد. وآخرُون يُعدُّون في الأفاضِلِ الأخيار، إذا لاحَ لهم عَرَضٌ من الدنيا مشبُوه أجلَبوا عليه بخيلِ التأويل، واستحَلُّوه بكل دليلٍ وتعليل، ونبَذُوا اتِّقاءَ الشُّبُهات ظِهرِيًّا، وغَدَا ما يدعُون إليه من الورَع نسيًّا منسيًّا، وعلى سَنَنهم: من يتأوَّلُ النصوصَ مُترخِّصًا، ويفتَئِتُ على الله مُتخرِّصًا. وآخرُون ظاهرُهم الخيرُ والصلاح، والرَّصانةُ والسماح، إذا انفَتَلَ أحدُهم إلى بيتِه أمسَى شرُّه مُستطيرًا، ومُحيَّاه عَبوسًا قمطريرًا، واستغلَّ قِوامَته في حقٍّ غير مشروع؛ فأرهَقَ أهلَه واستولَى على حقوقِهم غيرَ عابِئٍ بنَصَبِهم وكَلالِهم. وذلك هو اللُّؤمُ المرذُول، والتديُّنُ الآثِمُ المدخُول، وقد يُبادَلُ بالنُّشوزِ والإهمال، وتضييعِ الواجباتِ والإغفال، في انفِصامٍ زَمِل بين العبادات والقِيَم، وما يكون في المسجد وكما يحدُثُ في البيوت والأسواق وصور التعامُل وغير ذلك من مظاهر تخفَى وراءها غُرَرٌ تقشعِرُّ لها الأبدان، وعِلَلٌ تثلِمُ الأديان. ربَّاه ربَّاه؛ أيُّ أقوالٍ مُتعاكِسة وأفعالٍ مُتشاكِسة طوَّحَت بفِئامٍ في دَيجُورِ الهَوالِك الحَوالِكِ. إذا فعل الفتَى ما عنه يُنهَى فمن جهتَين لا جهةٍ أساءَا وفي أمثال هؤلاء يقول الإمام العلامة ابن القيم - رحمه الله -: "ومن العجب أن ترى الرجلَ يُشارُ إليه بالدين والزُّهدِ والعبادة وهو يتكلَّمُ بالكلمات من سخَطِ الله لا يُلقِي لها بالاً، يذِلُّ بالواحِدة منها أبعدَ ما بين المشرقِ والمغربِ". اهـ كلامُه - رحمه الله -. فهل يعِي ذلك الزاعِمون التحقُّق بالدين وهم طعَّانون في فُضلاءِ الأمةِ وأخيارِها، مُتنقِّصون لسلَفِها ورُمُوزها، مُتنحِّلين لهم المَثالِب مع إشهارِها، يُذكُونَ الفتنَ دونهم، والعامةُ بالتبجِيلِ والحُبِّ يرمُقُونَهم؛ بل حازُوا الفضلَ برُمَّته، والنُّبلَ بأزِمَّته. أليس المؤمنُ الصدُوقُ مظهرًا ومَخبرًا يُبصِرُ الحقَّ فيرتَقِيه، ويلحَظُ الباطلَ فيتَّقيه؟! بلى وربَّي. والغريبُ: ظنُّهم أن أعمالَهم على سَنَنِ السَّدادِ والصواب، وقَبُولُها أدنَى من القَاب، وهي - لفَرَطاتِهم وانفِصامهم - أنأَى عن الحقِّ من العُقاب، في خلطٍ عجيبٍ ازدَوَجت فيه المعايير بين الأُصولِ والفروع، والقطعيَّات والظَّنِّيات، والمُسلَّماتِ المُحكَمات والمُتشابِهات، والكُلِّيات والجُزئيَّات، والعبادات والعادات، والثوابِت والمُتغيِّرات. معاشِرَ الأحِبَّة: ومما ينسلِكُ في ازدِواجِ الأقوالِ مع الفِعال: المُزايَدةُ على قضايا المرأة، وإثارةُ النَّقْع حولها من قِبَلِ فضائيَّاتٍ مأجورة، وأقلامٍ مسعُورة، تُظهِرُ القولَ النفيس، وتُبطِنُ الزَّيفَ والتدليس. وهيهَاتَ هيهَات! فشريعتُنا الغرَّاءُ - بحمد الله - كفَلَت للمرأةِ مكانتَها الاجتماعية المُؤثِّرةَ الأثِيلَة، الفاعِلَةَ الجليلة عُنصرًا في الأمة نهَّاضًا بالعِبئِ بما يُلائِمُ طبيعتَها وأُنوثَتَها على هديِ المقاصِد الكُليَّة والضوابطِ الشرعيَّة، ولكن لله دَرُّ القائل: وعُذرُهم حَتمٌ عليَّ، فالزَّمَن فيه السليمُ، والمُلِيمُ، والزَّمِن فعلى رِسْلِكم أيها المُزايِدون على رسالة المرأة، المُتبَاكُون على قضاياها، ويا مَن يرسُفُون في رِبقَةِ الازدِواجيَّةِ أكْتَع: ليكُن مِلئَ عيونكم وهتْفَ أرواحِكم قولُ المولى - عزَّ وجل -، لتُحقِّقوا من زَكاءِ النفس أعظمَ أمل، يقول - سبحانه -: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ [البقرة: 235]. أمة الإسلام: ومما أجرى شَآبيبَ المَدمَع وأغمَّ وزَعزَع: تديُّنٌ مغشوشٌ من بُغاةٍ وطُغاةٍ أحالُوا شُعوبَهم إلى البَوَار، واعتَسَفوهم بالحديد والنار دون وَجَلٍ من المُنتقِمِ الجبَّار، أو خَفقَةٍ إنسانيَّة تُخفِّفُ ذيَّاكم التسلُّطَ الكُبَّار، مُتشدِّقين بحفظِ النظام وبَسطِ الاستقرار. فسبحان الله - عباد الله -؛ أما لهذا الطغيان من حدٍّ، أم لهذا الظلم لإخوانكم من ردٍّ؟! أيُّ عدوانٍ صلِفٍ مَهول، بل أيُّ عُتاةٍ أشبَهوا بَأْوَ التتار والمَغول؟! فإلى الله المُشتَكى، إلى الله المُشتكى، ولا حول ولا قوةَ إلا بالله تفجُّعًا واستفظَاعًا، وارتِياعًا واستِرجاعًا. هذا؛ وإن العالمَ ليَحدُوه الأملُ في استئنافِ وتفعيلِ تنفيذِ مُبادَرة قيادةِ هذه البلاد المُبارَكة الكريمة الحكيمة في حقنِ دماءِ المُسلمين، ونَزعِ فتيلِ القمعِ والتقتيل للأبرياء المُضطهَدين والعُزَّلِ المقهورِين، لِما لهَا - بفضل الله - من الثِّقَلِ السياسيِّ والتقديرِ العالمِيِّ الدوليّ، وكذا في الأقطار التي امتَطَت للتفاوُض البارُودَ والنار. دُمتُم للأمة رُوَّاد تراحُمٍ وسلام، وقادةَ عِزٍّ للمؤمنين ووِئام. أما دُعاة الفِتنة، ومُثيرُو الشَّغَب ومن يقِفُ وراءَهم، والمُخِلُّون بالأمنِ والاستِقرار، والسَّاعُون بالفسادِ والفوضَى المُشهِرون للسلاح، المُقوِّضون لوحدَة البلاد الشرعية والوطنية، المُفتَاتون على ولاةِ الأمر، المُفارِقون للجماعة، فلا مكان لهم في بلاد الحرمين - حرسَها الله -، بلاد التوحيد والوَحدة، ومهدِ السنةِ والجماعة، ولن يُؤثِّروا - بفضل الله ومَنِّه - على منظُومةِ لُحمَةِ بلادنا المُتألِّقة ونسيجِها الأمنِيِّ المُتميِّز، وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال: 30]. وبعدُ، أحبَّتنا الأكارم: فهُنا استِصراخٌ للأفراد والجماعات، والأُمَم والمُجتمعات، أن لا بُدَّ من الأَوبَةِ إلى الشفافيَةِ والسَّدادِ، وامتِثالِ طرائقِ الواقعيَّةِ والرَّشاد، فلطالَما غرِقَ أقوامٌ في لُجَجِ المُداجاةِ والخِداع، ولشَدَّ ما استحكَمَت فيهم آفةُ الاستئذابِ في الطَّباعِ، فتردَّوا في بئيسِ الضياع. وأن لا بُدَّ أيضًا أن يكون منكم بحُسبان كونُ عظمةِ المُسلمِ في إشراقِ رُوحه، ونقاوَةِ جوهره، ومِصداقيَّةِ قولِه، ونَصاعَة مظهَرِه، وتألُّقِ وسطيَّتِه واعتِدالِه، قد تأرَّجَت بالصَّفاءِ جَداوِلُ وُرودِه، وتفتَّحَت على التُّقَى أكمامُ وُرودِه. فتبارَك ربُّنا الذي يمُدُّ عبادَه المُخلصين بالهُدى والتوفيق، والاستقامة الهاديةِ إلى أبلَجِ طريق، بذلك

16 ذو القعدة 1432 - فضائل وأعمال البلد الحرام - الشيخ صالح آل طالب

خطبة المسجد الحرام - 16 ذو القعدة 1432 - فضائل وأعمال البلد الحرام - الشيخ صالح آل طالب الخطبة الأولى الحمد لله جعل بيتَه الحرامَ مثابةً للناس وأمنًا، هدانا لأقوم السُّبُل وشرعَ لنا أفضلَ الشرائِعَ فضلاً منه ومنًّا، أحمده تعالى وأشكرُه، وأُثنِي عليه وأستغفرُه حرَّم الحُرُمات أنفسًا وأشهرًا وبقاعًا، وتابعَ مواسمَ الخيرات علينا تِباعًا، وجعلَ خيرَ الناسِ أخلَصَهم لله وأشدَّهم لنبيِّه تأسيًّا واتباعًا، وجعل أبعدَهم عنه أجفاهم لهديِه وأكثرُهم ابتداعًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الحمدُ كل الحمدِ ربٌّ علا ذاتًا وقهرًا وقدرًا، وله الشكرُ إعلانًا وإسرارًا وجهرًا، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسولُه علَّم أمَّتَه العبادات وأوضحَ لهم المناسِك، ودلَّهم على طُرق الخير وأبانَ لهم المسالِك، له حُجَّةٌ لا يزيغُ عنها إلا هالِك، بشَّر به الأنبياءُ قبلَه، وهداه ربُّه لخير قِبلة، فقال - سبحانه -: {قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره}، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغُرِّ الميامين، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله تعالى حقَّ تقواه، وسارِعوا إلى مرضاته واستعِدُّوا ليوم لِقاه؛ فإن اليومَ عملٌ ومُهلة، وغدًا حسابٌ وجزاء، وسيلقَى كلُ عاملٍ ما عمِلَ، {يا أيها الناس اتقوا .. ولا يغرنكم بالله الغرور}. أيها المؤمنون: تستقبِلُ الأمةُ موسمًا عظيمًا من أيام الله تعالى، وركنًا من أركان الإسلام العِظام، موسمٌ تُغفَرُ فيه الذنوبُ والخطايا، وتُقالُ فيه العثَرات وتُقبَلُ الدعوات، موسمُ الحجِّ إلى بيت الله العتيق، شِعارُ الوحدة والتوحيد، وموسمُ إعلان العهود والمواثيق وحفظِ الحقوق والكرامات، وحقنِ الدماء وعصمةِ النفوسِ والأموال، وما فاضَت به الوصايا في خُطبة الوداع. وها هي طلائعُ الحُجَّاج تُضيءُ مُحيَّاهم أباريقُ الحرم، وينتظِمُ عِقدُهم في رِحابِه الطاهرة، آمِّين البيتَ الحرام يبتغون فضلاً من ربهم ورِضوانًا، يحطُّون رِحالَهم عند بيت الله العتيق، {إن أول بيت .. آمنا}. مُلبِّين النداءَ القديمَ المُتجدِّد: {وأذن في .. منافع لهم}، ويُؤدُّون ركنَ الإسلام الخامسَ، {ولله على الناس .. سبيلا}، ويُلبُّون بالتوحيد: لبَّيكَ اللهم لبَّيك، لبَّيك لا شريك لك لبَّيك، إن الحمدَ والنعمةَ لك والمُلك، لا شريكَ لك، يأمَلون من الله القَبول، ويرجُون رحمتَه ويخافُون عذابَه. يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (العُمرة إلى العمرة كفَّارةٌ لما بينهما، والحجُّ المبرورُ ليس له جزاءٌ إلا الجنة)؛ متفق عليه. وفي "الصحيحين" أيضًا يقول الصادقُ المصدوق - صلى الله عليه وسلم -: (من حجَّ هذا البيتَ فلم يرفُث ولم يفسُق جعَ كيوم ولدَتْ أمُّه) - أي: نقيًّا من الذنوب والخطايا -. وأخرج ابن حبان في "صحيحه" عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (الغازي في سبيل الله، والحاجُّ إلى بيت الله، والمُعتمِر وفدُ الله، دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم). وفي رحلة الإيمان الخالدة مُضاعفةُ الصلوات، وتكثير الحسنات، وإجابةُ الدعوات، ومواقفُ الرحامات في مِنَى ومُزدلِفة وعرفات. وإذا ذكرتَ تلك الصعُودات فاذكُر حين يُباهِي اللهُ بحُجَاج بيته ملائكةَ السماوات، ويقول - سبحانه -: (هؤلاء عبادي جاءوني شُعثًا غُبرا، أُشهِدكم أني قد غفرتُ لهم) فيُعتِقُهم من النار، ويكتبُ لهم السعادةَ الأبديَّة. أيها المسلمون: الحديثُ عن الحجِّ وفضله يحدُو الأرواحَ، ويبعثُ الأشواقَ لإجابة نداء الرحمن لحجِّ بيت الله الحرام، فيا خسارةَ من قعدَت به همَّتُه واستولَى عليه كسلُه، فلم يلحَق بركبِ الإيمان، قال - عليه الصلاة والسلام -: (تعجَّلوا إلى الحجِّ؛ فإن أحدَكم لا يدري ما يعرِضُ له)؛ أخرجه الإمام أحمد. وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: "لقد هممتُ أن أبعثَ إلى الأنصار فينظرُوا من كانت له جِدَةٌ فلم يحُجَّ فليضرِبوا عليهم الجِزية، ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين"؛ قال المُنذري: إسناده حسن. فبادِروا بالحجِّ - أيها المسلمون -، واغتنِموا أعمارَكم قبل أن يُحالَ بينكم وبين ما تشتَهون فتعجَزون أو تموتون. عباد الله: وفي الحجِّ شرفُ الزمان والمكان؛ فالمكان: بلدُ الله الحرام، والزمان: عشرٌ مُعظَّمةٌ في أشهرٍ مُحرَّمة: {الحج أشهر .. الحج}، وهذه البُقعة عظَّم الله حُمرتها غايةَ التعظيم، وجعل إجلالَها من التقوى وسببًا للتقوى: {ذلك ومن يعظم .. القلوب}، وحرَّم تنفيرَ صيدِها وعضدَ شوكِها فضلاً عن قطع شجرها وقتل صيدِها؛ فكيف بحُمرة المُسلم فيها؟ حتى إن مجر رادة الشر في الحرَم مُوجِبٌ للعذاب؛ قال الله - عز وجل -: {ومن يرد .. أليم}. وفي وصف أشهُركم هذه يقول الله - عز وجل -: {إن عدة الشهور .. أنفسكم}. قال ابن كثيرٍ - رحمه الله -: "كان الرجلُ يلقَى قاتلَ أبيه في الأشهُر الحرم فلا يمُدُّ إليه يدَه". وقال أيضًا: "إن الظلمَ في الأشهُر الحُرم أعظمُ خطيئةً ووِزرًا من الظلم فيما سواها". إذا كان الأمرُ كذلك؛ فإنه لا ذنبَ بعد الشرك أعظمُ من قتل النفس المؤمنة، وسفك الدم الحرام في الشهر الحرام ظلمًا وعُدوانًا. لقد سبقَ الإسلامُ كل المُحاولات البشرة لإيجاد منطقةٍ آمنةٍ وزمنٍ آمِن، وإن شئتَ فقل: زمانًا ومكانًا مُحرَّمًا منزوعَ السلاح يأمَنُ الناسُ فيه وينعَمون بالسلام، وهذا من أعظم مقاصِد الإسلام الذي قصدَ إلى إشاعة الأمن والسلام، فالواجبُ على المسلمين أن يستشعِروا هذه الحُرمة، ويُعظِّموا الأشهُر الحُرم، خصوصًا بعد عامٍ عصَفَت فيه الفتنُ واضطرَبَت الأحوالُ، وأُزهِقَت أنفسٌ واختلطَت أمور. ومن الناس من تشابَهت عليهم الأزمِنة، واختلفَت في أفهامهم الأمكِنة؛ فكأنما الأشهُر الحُرُم حِلٌّ لأشدِّ المُحرَّمات - وهي الدماء -، وكأنما البلادُ في بعث الفتنةِ بها سواء، وكأننا نعيشُ زمنَ الخبر النبوي المُتحقِّق في آخر الزمان -: (يكثُر الهَرج - وهو القتل -، ولا يدري القاتلُ فيمَ قتَل، ولا المقتولُ فيمَ قُتِل، وهي فتنٌ الراقِدُ فيها خيرٌ من القاعِد، والقاعِدُ خيرٌ من الماشي). وغفلَ المخذولُ عن قول الله - عز وجل -: {ومن يقتل مؤمنًا .. عظيما}. أيها الناس: لقد حانَ الوقتُ لإلقاء السلاح، وحقنِ الدماء، والاستجابةِ لأصول الحقوق التي وصَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - بها في حجَّة الوداع، وأرسَى قواعدَها بقوله: (إن دماءَكم وأموالكم وأعراضَكم عليكم حرامٌ كحُرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهرِكم هذا). آنَ الأوان لأَن يُراجِعَ المعنيُّون واقِعَهم، وأن يحترِموا الأشهُر الحُرم، وأن تتغلَّب المصالحُ على المفاسِد، ومكاسِبُ الأمة على مصالح الأفراد؛ صيانةً للنفوس والحقوق، وحال العباد والبلاد، والله لا يحبُّ الفساد. الواجبُ على القادة والعلماء القيامُ بما يستطيعون لوقفِ النزيفِ الهادِر من دماء المسلمين وأرواحهم؛ فهي من أولَى مُقتَضَيات الأُخوَّة والمُوالاة، والتناصُر واجبٌ بين المسلمين: {وإن استنصروكم .. النصر}. وفي الحديث المتفق عليه: (انصر أخاكَ ظالمًا أو مظلومًا). فقال رجلٌ: أنصرُه مظلومًا، أفرأيتَ إذا كان ظالمًا كيف أنصرُه؟ قال: (تحجُزُه أو تمنعُه عن الظلم؛ فإن ذلك نصره). إن النزاعات قطَعَت أوصالَ المسلمين، وجعلَت الأمةَ الواحدَة أممًا مُتناكِرة، ولن نستعيدَ مكانتنا ونصونَ رسالتَنا إلا إذا صحَّحنا انتماءَنا، وأصغَينا إلى قول الله تعالى: {إن هذه .. فاعبدون}. واليوم نرى في أنحاء بلادنا الإسلامية لعبة العدو القديمة المُتجدِّدة: فرِّق تسُد، وأشغِلهم بأنفسهم كي لا يشغَلوك، وليس هناك وتَرٌ أكثر حساسيةً لبدءِ العزفِ عليه من وتَرِ الطائفية؛ كوتَر الطائفية والمذهبيَّة والحِزبيَّة، وما أكثر المُتسارِعين فيها، والمُتساقطين. ولو سألتَ أشدَّ الخائضين فيها: كيف بدأَت تلك الفتنة؟ ولمصلحة من؟ لم تجِد جوابًا، وقديمًا قيل: إن أنجحَ المؤامرات هي التي لا يعلمُ الساعُونَ فيها أنها مُؤامرَة. لقد تعايَشَت الطوائِفُ قرونًا في ظلِّ الإسلام، يُولَد أحدُهم في بلاد المسلمين على ملَّته ويموتُ عليها، لم يُجبِره أحدٌ أن يُغيِّر دينَه ومُعتقَدَه؛ فلماذا ثارَت هذه النَّعَراتُ في هذا التوقيت بالذات؟ ولماذا يخدِمُ دهماءُ الناس وبُسطاؤُهم تجَّار الفتنِ من حيث لا يشعُرون؟ اللهم جنِّبنا والمسلمين شرَّ الفتن ما ظهرَ منها وما بطَن. اللهم بارِك لنا في الكتاب والسنة، وانفَعنا بما فيهما من الآيات والحِكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم. الخطبة الثانية الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وأبانَ طريقَ الإيمان، وأشهد أن إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وصحبه ومن تبِعَهم بإحسانٍ. أما بعد، أيها المسلمون: الاعتزازُ بالوطن وحِفظُ أمنه والحرصُ على تماسُكه ومكاسِبِه هو أمرٌ تنساقُ له الفِطَرُ السليمة، وتُوجِبُه العقولُ الراشِدة؛ فضلاً عما هو مُتقرِّرٌ في أحكام الشريعةِ وأول الدين، خصوصًا في أوقات الفتن والأزمات، ويشتدُّ العَتَبُ ويستوجِبُ العقوبةَ من أخلَّ بأمن الوطن إذا كان باعِثُه على ذلك نُشدانُ الصلحةِ الذاتية وطلبُ الكسب الشخصي. أما إذا كان الباعِثُ مصحةً مُصدَّرةً من الخارج، ورغبةً من الرغبات العابِرة للحدود؛ فإنه يجتمعُ في المُنساقِ لها - إضافةً لما سبق - خيانةٌ للوطن، ونُكرانٌ للأهل، فهو بمثابةِ من يقطَعُ الشجرةَ التي أظلَّته، ويُعكِّرُ الماءَ الذي سقاه. فكيف إذا عُلم أن المحرِّك لتلك الفتنة قومٌ تميَّز تاريخُهم في الفتن بأن وقودَ فتنتهم رجالٌ من أرضٍ غير أرضِهم، ومن جنسٍ سوى جِنسِهم، وعِرقٍ لا ينتمِي لعِرقِهم، ثم سُرعان ما يتخلَّون عمَّن غرَّروا بهم، ليُواجِهوا مصيرَهم بمُفردِهم، وربما واسَوهم باللسان، وليس وراء اللسان شيءٌ. فيا أيها الإخوة، ويا مُواطنينا في المملكة وفي بلاد العرب والمسلمين: أسوقُ إليكم نداءً تغلِبُ الشفقةُ فيه العَتَب، وتُغالِبُ الرحمةُ فيه الغضَب، إنه لم يعُد من الخافِي أن مُوقِدي تلك الفتن هم قومٌ يُؤمِنون بعُنصرهم أكثر من إيمانهم بالدين، وأن نُصرتَهم وجهادَهم هو لجِنسهم وشعبِهم وتاريخهم الذاهِب، لا لله ولا لفلسطين. وتاريخُهم في السنوات الأخيرة شاهدٌ على مواقفِهم المشِينة في إيقاد الفتن في بلاد العرب وشقِّ الصفوف، وما أمرُ العراقِ عنا ببعيد. فيا مُواطنينا: إن كان من ثورةٍ فلتكُن على المُعتقَدات التي تُصنَع وتُعلَّبُ خارجَ الحُدود ليتشرَّبَ بها أناسٌ تُسلَبَ بها أيانُهم وأموالُهم وولاؤهم، ليكونوا أدواتٍ في أيدي أعدائهم، إن كان من انتفاضَة فلتكُن للعقل ليتحرَّر من رِقِّ التبَعيَّة وإسَار الشعوبية، ويرى نورَ الله الذي يملأ الكونَ، نورُ الله الذي انبَثَقَ من الحجاز، وأشرقَ به محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -، وحملَ مشاعِلَه الصحابةُ الأخيارُ، والتابعون لهم بإحسان. وأنعمَ الله على المملكة العرب

23 ذو القعدة 1432 - الإسلام دين الأخلاق - الشيخ صالح بن حميد

خطبة المسجد الحرام - 23 ذو القعدة 1432 - الإسلام دين الأخلاق - الشيخ صالح بن حميد الخطبة الأولى الحمد لله، الحمد لله مُنشِئ الأُمم ومُبيدها، وباعِث الرِّمَم ومُعيدها، أحمده - سبحانه - شاكرًا طائعًا، وأستعينُه وأستغفِرُه عابدًا خاضِعًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مُوحِّدًا مُخلِصًا، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُ الله ورسوله بعثَه ربُّه بدينِ الحقِّ داعيًا وهاديًا، صلَّى الله وسلَم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابه صلاةً وسلامًا كثيرًا دائمًا مُتوالِيًا. أما بعد: فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله - عز وجل -، فاتقوا الله - رحمكم الله -، وَاتَّقُواْ اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ [البقرة: 282]، بالعلم يصحُّ العمل، وبالعمل تُنالُ الحكمة، وبالحكمةِ يقومُ الزُّهد، وبالزُّهد تُعرفُ الدنيا، ومن عرفَ الدنيا رغِبَ في الآخرة، ومن رغِبَ في الآخرة نالَ المنزلة، والتوفيقُ خيرُ قائدٍ، ومن رضِيَ بقضاء الله لم يُسخِطه أحد، ومن قنِع بعطاء مولاه لم يدخُله حسَد، ومن فُتِح له بابُ خيرٍ فليُسرِع إليه؛ فإنه لا يدري متى يُغلَقُ دونَه. واعلموا أن الموتَ يعمُّنا، والقبورَ تضمُّنا، والقيامةُ تجمَعُنا، والله يحكمُ بيننا وهو خيرُ الحاكمين، فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُون [المائدة:48]. أيها المسلمون، حُجَّاج بيت الله: يقول الله - عز وجل -: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَاب [البقرة:197]. قواعدُ السلوك ومعايير الأخلاق وآداب التعامُل مقياسُ جلِيٌّ من مقاييس الالتزام بدين الإسلام، وعنوانٌ من عناوين الرُّقِيِّ الحضاريِّ، ومَعلَمٌ من معالمِ السموِّ الإنساني، إنها: القواعد والآداب التي تحكُم العلاقات بين الناس من كل فئاتهم وطبقاتهم، قواعدُ وآدابُ تبعَثُ على الشعور بالأمان والمحبَّة وحُسن المعاشَرة وسعادة المُجتمع. والحُجَّاج في جُموعهم، والمسلمون في تجمُّعاتهم تتجلَّى فيهم هذه المظاهر السلوكية، والتخلُّق بأخلاق دينهم، والالتزام بتعاليم شرعِهم، ومن تحبَّبَ إلى الناس أحَبُّوه، ومن أحسنَ مُعاملَتَهم قبِلُوه. الدمَاثَة وحُسن الخُلُق هي اللغةُ الإنسانيةُ المُشتركة التي يفهَمُها كلُّ أحد، وينجذِبُ إليها الكريم، ويُحسِنُ الإنصاتَ إليها الحكيم. الوجهُ الصبوح خيرُ وسيلةٍ لكَسب الناس، وحُسن البُشر يُذهِبُ السَّخِيمة، وذو المُروءةِ الحكيم من يُخاطِبُ الناسَ بأفعاله قبل أن يُخاطِبَهم بأقواله. أيها المسلمون، معاشر الحَجيج: وفي ديننا من التوجيهات والتعليمات ما يبني شبكةً واسعةً من العلاقات المَتينة مع الدائرة الأُسريَّة والمُجتمعية، والدائرة الإسلامية الأوسع، ثم الدائرة الإنسانية الأشمَل. وفي ديننا كذلك: «أكملُ المؤمنين إيمانًا أحسنُهم خُلُقًا»؛ أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي. وفي الحديث: «إنكم لن تسَعُوا الناسَ بأموالكم، وليسَعْهُ منكم بسطُ الوجهِ وحُسن الخُلُق»؛ رواه الترمذي، والحاكم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - بإسنادٍ صحيح. وفي الحديث عند مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أحبَّ أن يُزحزَحَ عن النار ويدخُل الجنة فلتأتِهِ منيَّتُه وهو يُؤمنُ بالله واليوم الآخر، وليأتِ إلى الناس الذي يُحبُّ أن يُؤتَى إليه». والناسُ معادن وطبقات ومنازل، ومُعاملتُهم معاملةً واحدةً أمرٌ في الحياة لا يستقيم؛ فما يُلائِمُ هذا لا يُلائِمُ ذاك، وما يُناسِبُ هذه الفِئَة لا يُناسِبُ تلك، ويحسُن مع هذا ما لا يجمُلُ مع الآخر. والناس يُخاطَبون بما يعرِفون؛ فالعقولُ مُتفاوِتة، والفُهومُ مُتبايِنة، والطِّباعُ مُتغايِرة، ولله في خلقِهِ شُؤون؛ من والدٍ وولدٍ، وزوجٍ وأخ، ورئيسٍ ومرؤوسٍ، وسريع الفَهم وبطيئه، وحادِّ الطبع وباردِه، وقريبِ الصلةِ وغريبها، في أشخاصٍ وصفاتٍ وأحوال؛ من شدَّةٍ ورخاءٍ، وحُزنٍ وسُرورٍ، والأرواحُ جنودٌ مُجنَّدة. وقد قالت الحُكماء: "إذا أردتَ اصطيادَ السم فضع في سنَّارتك ما يُلائِمُ من طعامٍ، وقد تُلائِمُ الديدان لا فاخرُ اللحوم". أيها المسلمون، حُجَّاج بيت الله: وهذا عرضٌ لبعض ما حفَلَت به السيرةُ المُصطفوية والهديُ المُحمَّديُّ والسنةُ النبوية من أنواع المُعاملات والتوجيهات لمُختلَف الطبقات والشحصيات؛ كيف وهو المُصطفى الهادي البشيرُ، واصطفاه ربُّه بقوله - عزَّ شأنُه -: لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيم [التوبة:128]، وقال - جل وعلا -: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِين [آل عمران:159]. وأولُ ما يُواجِهُ المُتأمِّلُ في هذه السيرةِ النبوية الكريمة والهدي المُحمَّدي: مُعاملتُه مع أهله، وسلُوكه في بيته - عليه الصلاة والسلام -. لقد كان حبيبُنا ونبيُّنا محمد - صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم - بشرًا من البشر؛ يفلِي ثوبَه، ويحلِبُ شاتَه، ويخدِمُ نفسَه، وكان في مهنةِ أهله، فإذا حضرَت الصلاةُ خرجَ إلى الصلاة؛ أخرجه البخاري، والترمذي. وكان يقول - عليه الصلاة والسلام -: «خيرُكم خيرُكم لأهله، وأنا خيرُكم لأهلِي»؛ أخرجه الترمذي، وابن ماجه. ويظنُّ بعضُ الناس أن الرجُولةَ والشخصيةَ في عُبوسِ الوجه، وتقطيبِ الجبين، وإصدار الأوامر والنواهي، وتجنُّب المُباسَطة في الحديث مع الأهل، ومُبادلَة المسرَّات وحُسن الإصغاء. وحديثُ أم زرعٍ الطويل كان مُسامرةً بين عائشة - رضي الله عنها - وزوجِها محمد رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم - مُؤانسةً ومُباسطَة. ومن حُسن المعاملة: المُشاوَرة في الشؤون الأُسريَّة وغيرها، فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا [البقرة: 233]، وشاورَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - زوجَهُ أمَّ سلَمَة في شأنٍ كبيرٍ، وهو: شأنُ صُلح الحُديبية، وأخذ بمشُورتها. وشاوَرَ بريرَة في قصة الإفك - وهو حدثٌ عظيمٌ مُزلزِل -. بل تأمَّلوا وتفقَّهوا كيف كان تعامُلُه - عليه الصلاة والسلام - مع أخطاء الناس وغيرة النساء؛ فحين كسرَت إحدى زوجاته صحفةَ صاحبتها المملوءة طعامًا، ما كان من النبي الكريم ذي الخُلُق العظيم - عليه أفضل الصلاة وأزكَى التسليم - إلا أن تعاملَ برفقٍ، مُقدِّرًا طبائع النساء قائلاً: «غارَت أمُّكم»، فجمعَ الطعامَ المُتناثِر، وقال: «طعامٌ بطعامٍ، وإناءٌ بإناءٍ»؛ أخرجه البخاري، والترمذي. يقول الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: "وفيه: عدمُ مُؤاخَذة الغيراء بما يصدُرُ منها؛ لأنها في تلك الحالة يكونُ عقلُها محجوبًا لشدَّة الغضب بسبب الغَيرة". يا هذا! القوةُ والعنفُ والضربُ والشدَّة يقدِرُ عليها كلُّ أحدٍ، أما الحِلمُ والرِّفقُ والصفحُ والعفوُ والتسامُح فليس إلا لذوي الإرادات القوية والمُروءات العالية والأخلاق الرفيعة، "وما ضربَ نبيُّكم محمد - صلى الله عليه وسلم - امرأةً ولا خادمًا إلا أن يُجاهِدَ في سبيل الله"؛ أخرجه أحمد، وأبو داود. أما الأطفالُ والصِّبيانُ؛ فحدِّث عن هديِ نبيِّنا محمد - صلى الله عليه وسلم - في ذلك ولا حرَج: ومن دقيق المُلاحَظة في التعامُل مع الصغار: أنهم لا يُفرِّقون بين أوقات الجِدِّ وأوقات اللعب؛ فالطفلُ يظنُّ أن الوقتَ كلَّه له، وقد قدَّر الإسلامُ هذه المشاعِر؛ فها هو رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يحملُ بنتَ بنته في الصلاة، فإذا ركعَ وضعَها، وإذا قام رفعَها؛ متفق عليه. والحسنُ أو الحُسين - رضي الله عنهما - يرتحِلُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ويركبُ على ظهره وهو في الصلاة، فيُطيلُ السجود حتى يقضِيَ الطفلُ نُهمَتَه؛ أخرجه أحمد، والنسائي. بل وهو يخطبُ على المنبر جاء الحسنُ - رضي الله عنه -، فصعِد المنبَر، فضمَّه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ومسحَ رأسَه وقال: «ابنِي هذا سيدٌ، ولعلَّ اللهَ أن يُصلِحَ على يديه بين فئتين عظيمتين من المسلمين»؛ أخرجه أبو داود. أيها المسلمون: والطريقُ الأيسر والأقصرُ والأمتَعُ إذا قُوبِلَ الأطفال والصغار هو مُلاطفتُهم ومُمازحتُهم وحُسن رعايتهم ومنحُهم الحنان والاهتمام، وما كان أحدٌ أرحمَ بالعيال من محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -. وزحمةُ الواجبات وكثرةُ المسؤوليات لا يجوزُ أن تشغَلَ عن مثل هذا، فهذا من جُملةِ المسؤوليات والواجبات. يقول أنسٌ - رضي الله عنه -: "كان إبراهيمُ ابن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مُسترضَعًا في عوالي المدينة، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينطلقُ ونحن معه، فيدخلُ البيت ويأخذه ويُقبِّلُه ثم يرجع"؛ رواه مسلم. مُفردات التعامُل مع الصغار: قبلةٌ حانية، وحِضنٌ دافِئ، ولعبٌ بريء، وهي لغةٌ سهلةٌ يسيرةٌ في تكاليفها، عظيمةٌ في تأثيرها. مسكينٌ هذا الغليظُ القاسي حين يُصوِّرُه ذلك الرجل الذي رأى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يُقبِّلُ سِبطَه الحسن - رضي الله عنه -، فقال: أوَتُقبِّلون أطفالَكم؟ إن لي عشرةً من الولد ما قبَّلتُ أحدًا منهم، فكان الجوابُ النبوي: «من لا يرحَمُ لا يُرحَم»، وفي الصورة الأخرى: «أوَأملِك أن نزعَ اللهُ الرحمةَ من قلوبكم». بل إنه - عليه الصلاة والسلام - إذا سمِعَ بكاءَ الصبيِّ وهو في الصلاة خفَّفَ مُراعاةً لأمِّه أن تفتِتن. معاشر الأحِبَّة، حُجَّاج بيت الله: أما التعامُل مع الخَدَم والأُجَراء والعُمَّال فيُجسِّدُه تمام التجسيد مقولةُ أنس - رضي الله عنه - مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خدمتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عشرَ سنين، فما قال لي لشيءٍ فعلتُه لِمَ فعلتَه، ولا لشيءٍ لم أفعله لم لم تفعله". وتأمَّلوا هذه الحادثة مع أنسٍ نفسه - رضي الله عنه -: خرج أنسٌ في حاجةٍ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فرأى الصبيانَ يلعبون في السوق فانشغلَ معهم؛ لأنه كان صغيرًا في سنِّهم، فاستبطأَهُ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فخرج يبحثُ عنه فوجدَهُ يلعبُ مع الصبيان. يقول أنس: فإذا رسولُ الله - صلى الله عليه وآله وسلَّم - قد قبضَ بقفايَ من ورائي، فنظرتُ إليه وهو يضحَك، فقال: «يا أُنيس! أذهَبتَ حيثُ أمرتُك؟». فقلتُ: نعم، أذهبُ يا رسول الله! هذا هو الدرس؛ إنسانية، وتلطُّف، ورقَّةٌ في النداء: «يا أُنيس» من غير نَهْرٍ، ولا نفضِ يدين، فضلاً عن الصُّراخ والضرب والتعنيف. وحين شكا رجلٌ خادِمَه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائلاً: إنه يُسيءُ ويظلِم، أفأضرِبُه؟ فقال: «تعفُو عنه كلَّ يومٍ سبعين مرَّة»؛ أخرجه أحمد، وأبو داود، و

1 ذو الحجة 1432 - الصبر وثمراته - الشيخ أسامة خياط

خطبة المسجد الحرام - 1 ذو الحجة 1432 - الصبر وثمراته - الشيخ أسامة خياط الخطبة الأولى الحمد لله يحبُّ الصابرين، ويُبشِّرهم بصلواتٍ منه ورحمةٍ ويُثنِي عليهم فيصِفُهم بالمُهتدين، أحمده - سبحانه - حمدَ عباده الصابرين الشاكرين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً نرجو بها الفوزَ والنجاةَ يوم الدين، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله خاتمُ النبيين وإمامُ الصابرين وقائدُ الغُرِّ المُحجَّلين، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وعلى آله وصحابته أجمعين، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله - عباد الله -، وراقِبوه، واعلَموا أنكم مُلاقوه يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُون [النحل:111]. أيها المسلمون: نزولُ البلايا وحُلول المصائِب في ساحةِ العبد على تنوُّعها وتعدُّد ضُرُوبها، وما تُعقِبُه من آثار وما تُحدِثُه من آلامٍ يتنغَّصُ بها العيشُ ويتكدَّرُ صفوُ الحياة؛ حقيقةٌ لا يُمكِنُ تغييبُها، ولا مناصَ من الإقرار بها؛ لأنها سُنَّةٌ من سُنن الله في خلقه، لا يملِكُ أحدٌ لها تبديلاً ولا تحويلاً، غيرَ أن الناسَ تتبايَنُ مواقفُهم أمامَها: فأما أهل الجَزَع ومن ضعُف إيمانُه واضطربَ يقينُه فيحمِلُه كل أولئك على مُقابلة مُرِّ القضاء ومواجهة القدَر بجزَعٍ وتبرُّمٍ وتسخُّطٍ تعظُمُ به مُصيبتُه، ويشتدُّ عليه وقعُها فيربُو ويتعاظَم، فينوءُ بثِقَلها ويعجِزُ عن احتمالها، وقد يُسرِفُ على نفسه فيأتي من الأقوال والأعمال ما يزدادُ به رصيدُه من الإثم عند ربِّه، ويُضاعِفُ نصيبَه من سخَطِه، دون أن يكون لهذه الأقوال والأعمال أدنى تأثيرٍ في تغيير المقدور أو دفع المكروه. وأما أولو الألباب؛ فيقِفُون أمامَها موقفَ الصبر على البلاء والرضا ودمع العين، لا يأتون من الأقوال والأعمال إلا ما يُرضِي الربَّ ويُعظِمُ الأجرَ ويُسكِّنُ النفسَ ويطمئنُّ به القلبُ، يدعوهم إلى ذلك ويحُثُّهم عليه ما يجِدونه في كتاب الله من ذكر الصبر وبيان حُلو ثِماره وعظيمِ آثاره؛ فمن ذلك: ما فيه من ثناءٍ على أهله، ومدحٍ لهم بأنهم هم الصادقون المُتَّقون حقًّا؛ كقوله - عزَّ اسمه -: وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُون [البقرة:177]، وكقوله - سبحانه -: الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَار [آل عمران:17]. وما فيه من إيجاب محبَّة الله لهم ومعيَّته - سبحانه - لهم المعيَّة الخاصة التي تتضمَّن حفظَهم ونصرَهم وتأييدَهم؛ كقوله: وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِين [آل عمران:146]، وكقوله: وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِين [الأنفال:46]. ومن إخبارٍ بأن الصبرَ خيرٌ لأصحابه: وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرين [النحل:126]. ومن إيجابِ الجزاءِ لهم بغير حسابٍ: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَاب [الزُّمَر:10]. ومن إيجاب الجزاء لهم بأحسن أعمالهم: وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُون [النحل:96]. ومن إطلاق البُشرَى لأهل الصبر: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِين [البقرة:155]. ومن ضمان النصر الربَّاني والمدَد الإلهي: بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِين [آل عمران:125]. ومن ذلك: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" بإسنادٍ صحيحٍ عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في وصيَّته المشهورة له: «واعلم أن النصرَ مع الصبرِ». ومن إخبارٍ بأن أهل الصبر هم أهل العزائم الذين لا تلِينُ لهم قناةٌ في بُلوغ كلِّ خيرٍ في الدنيا والآخرة: وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُور [الشورى:43]. ومن إخبارٍ بأنه ما يُلقَّى الأعمالَ الصالحةَ وجزاءَها والحُظوظَ إلا أهل الصبر؛ كقوله: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلاَ يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُون [القصص:80]، وقوله أيضًا: وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيم (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيم [فُصِّلَت:34، 35]. ومن إخبارٍ أنه إنما ينتفعُ بالآيات والعِبَر أهلُ الصبر؛ كقوله: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُور [إبراهيم:5]، وكقوله في شأن أهل سبأ: فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُور [سبأ:19]. ومن إخبارٍ بأن الفوزَ بالمطلوب والظَّفَر بالمحبوب والنجاة من المكروب والسلامة من المرهوب ونزولَ الجنة إنما نالَه أهلُ الصبر: وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَاب (23) سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّار [الرعد:23، 24]. وبأنه يُعقِبُ المُستمسِك به منزلةَ الإمامة في الدين؛ قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: "سمعتُ شيخَ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - يقول: بالصبر واليقين تُنالُ الإمامةُ في الدين، ثم تلا - رحمه الله - قولَه تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُون [السجدة:24] ". فلا عجبَ إذًا أن يكون للصبر تلك المنزلةُ العظيمةُ التي عبَّر عنها أميرُ المؤمنين عليُّ بن أبي طالب - رضيب الله عنه - بقوله: "إن الصبرَ من الإيمان بمنزلة الرأس من الجَسَد، ألا لا إيمان لمن لا صبرَ له". وأن يُدرِك المرءُ بالصبر خيرَ عيشٍ في حياته، كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "خيرَ عيشٍ أدركناه في الصبر". وأن يكون الصبرُ ضياءً كما وصفَه رسول الهدى - صلوات الله وسلامه عليه -، وذلك في الحديث الذي أخرجه مسلم في "صحيحه"، والإمام أحمد في "مسنده". وأن يكون الصبرُ خيرَ وأوسَعَ عطاءٍ يُعطاهُ العبد، كما جاء في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في "مسنده"، والبخاري ومسلم في "صحيحيهما" - واللفظ للبخاري - عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للأنصار الذين سألوه فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم حتى نفِدَ ما عنده، قال: «ما يكونُ عندي من خيرٍ فلن أدَّخِرَه عنكم، ومن يستعفِف يُعِفّه الله، ومن يستغنِ يُغنِه الله، ومن يتصبَّر يُصبِّره الله، وما أُعطِيَ أحدٌ عطاءً خيرًا وأوسعَ من الصبر». وأن يكون أمرُ المؤمن كلُّه خيرًا له؛ لأنه دائرٌ بين مقامَي الصبر والشُّكر، كما جاء في الحديث الذي أخرجه الإمام مسلمٌ في "صحيحه"، والإمامُ أحمد في "مسنده" عن صُهيب بن سِنان - رضي الله عنه - أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «عجبًا لأمر المؤمن إن أمرَه كلَّه له خيرٌ، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن؛ إن أصابَته سرَّاء شكَرَ فكان خيرًا له، وإن أصابَته ضرَّاءُ صبَرَ فكان خيرًا له». ألا وإن من أشدِّ البلاء وقعًا على النفس: موتَ الأحِبَّة، لا سيَّما أعلامُ النُّبلاء منهم من ذوي التأثير البارِزِ في حياةِ الناس ومن لهم يدُ فضلٍ وبِرٍّ جازَت بهما الحُدود، وعمَّت القاصيَ الداني، وكان للإسلام منهم مواقفُ عظيمةٌ مشهودة، وكان للمسلمين وقفاتٌ مُباركةٌ داعمةٌ غيرُ محدودةٍ بحُدود الزمان أو المكان؛ من مثل من فقدَته الديارُ السعودية والمسلمون قاطبةً هذه الأيام، ألا وهو: سموُّ الأمير سُلطان بن عبد العزيز وليُّ العهد - رحمه الله رحمةً واسعة، وغفرَ له في المهديين، ورفع درجاته في عليِّين، وألحقَه بصالحِ سلفِ المؤمنين -، آمين، آمين، والحمدُ لله رب العالمين على قضائه. وإن العينَ لتدمَع، وإن القلبَ ليحزَن، ولا نقولُ إلا ما يُرضِي الربَّ: إنا لله وإنا إليه راجِعون، إنا لله وإنا إليه راجِعون، إنا لله وإنا إليه راجِعون. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ، إنه هو الغفور الرحيم. الخطبة الثانية الحمد لله وليِّ الصابرين، أحمده - سبحانه - حمدَ الشاكرين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً نُرضِي بها ديَّان يوم الدين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُ الله ورسوله إمامُ المُتقين وقُدوة العابدين، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. أما بعد، فيا عباد الله: قال الإمام ابن كثير - رحمه الله - في بسطِ مدلول قوله تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِين [البقرة:155]. قال: "أخبرَ تعالى أنه يبتلِي عبادَه؛ أي: يختبرهم ويمتحِنهم، كما قال تعالى: ولنبلونكم .. أخباركم}، فتارةً بالسرَّاء، وتارةً بالضرَّاء. مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ؛ أي: بقليلٍ من ذلك. وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ أي: بذهابِ بعضها وَالأنفُسِ كموت الأصحاب والأقارب والأحباب وَالثَّمَرَاتِ أي: لا تُظِلُّ الحدائق والمزارِعُ كعادتها، وكلُّ هذا وأمثالُه مما يختبِرُ الله به عبادَه؛ فمن صبرَ أثابَه، ومن قنطَ أحلَّ به عقابَه، ولهذا قال تعالى: وَبَشِّرِ الصَّابِرِين. ثم بيَّن تعالى مَن الصابرون الذين شكَرَهم فقال: الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعون [البقرة:156] أي: تسلَّوا بقولهم هذا عمَّا أصابَهم، وعلِموا أنهم مُلكٌ لله يتصرَّفُ في عبيده بما يشاء، وعلِموا أنه لا يضيعُ لديه مِثقالُ ذرَّةٍ يوم القيامة، فأحدثَ لهم ذلك اعترافًا بأنهم عبيدُه وأنهم إليه راجِعون في الدار الآخرة، ولهذا أخبرَ تعالى عما أعطاهم على ذلك فقال: أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ أي: ثناءٌ من الله تعالى عليهم". وقال سعيدُ بن جُبيرٍ - رحمه الله -: "الصلواتُ أمَنةٌ من العذاب". وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُون قال أميرُ المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "نِعمَ العِدلان ونِعمَت العِلاوة، أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ فهذان العِدل

4 ذو الحجة 1432 - صلاة الاستسقاء - الذنوب سبب منع المطر - الشيخ سعود الشريم

خطبة المسجد الحرام - 4 ذو الحجة 1432 - صلاة الاستسقاء - الذنوب سبب منع المطر - الشيخ سعود الشريم الخطبة الأولى الحمد لله، الحمد لله الذي جعل الحمدَ مفتاحًا لذكره، وجعل الشكرَ سببًا للمزيد من فضله، ودليلاً على آلائه وعظَمَته، قضاؤه وحُكمه عدلٌ وحكمة، ورِضاه أمانٌ ورحمة، يقضي بعلمه، ويعفُو بحِلمه، خيرُه علينا نازِل، وتقصيرُنا إليه صاعِد، لا نقدِر أن نأخُذَ إلا ما أعطانا، ولا أن نتقِيَ إلا ما وقانا، نحمدُه على إعطائه ومنعه وبسطِه وقدرِه، البرِّ الرحيم لا يُضيرُه الإعطاءُ والجُود، ليس بما سُئِل بأجودَ منه بما لم يُسأل، مُسدِي النِّعَم وكاشِفِ النِّقَم، أصبحنا عبيدًا مملوكين له، له الحُجَّة علينا ولا حُجَّة لنا عليه، نستغفره ونتوبُ إليه مما أحاط به علمُه وأحصاه في كتابه، علمٌ غيرُ قاصِر وكتابٌ غيرُ مُغادِر. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله سيدُ البشر أجمعين ورسولُ ربِّ العالمين، فصلواتُ الله وسلامه عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى أصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله - معاشر المسلمين -؛ فإنها الزادُ في المعاد، والحبلُ المتين بين الرحيم والعِباد، يدفعُهم إلى تقديم مرضات ربِّهم على إرضاء خلقِه وعبيدِه، ويحمِلُهم إيمانٌ صادقٌ بكفاية الله لعباده المؤمنين الصادقين، فلا يُرضُون الناسَ بسخط الله، ولا يُجامِلونهم في معصية الله. قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: "إن الرجل ليخرُج من بيته ومعه دينُه، فيلقَى الرجلَ وله إليه حاجة، فيقول له: أنت كيتَ وكيتَ - يُثني عليه - لعله يقضي من حاجته شيئًا، فيُسخِط اللهَ عليه، فيرجعُ وما معه من دينه شيءٌ". نستغفر الله، نستغفر الله، نستغفر الله، اللهم إنا نستغفرُك إنك كنتَ غفَّارًا، فأرسِل السماءَ علينا مِدرارًا. عباد الله: إن ما نُعانيه اليوم من قحطٍ وتأخُّرٍ للمطر عن إبَّان زمانه لهُو حصادُ خللٍ في علاقتنا مع خالقنا، ثم علاقتنا مع الناس. ولقد كان السلفُ - رحمهم الله - يرون آثار معصيتهم لله في أزواجهم وأولادهم ودوابِّهم، وإن المعاصي قد انتشرت بين الناس انتشار النار في الهَشيم؛ فلقد ضعُف الخوفُ من الله، وكثُر الرُّكون إلى غيره، حتى لقد أصبح الواحدُ من الناس يبذُلُ مُهجتَه للناس في قضاء حاجته أكثر مما يبذُلُها لخالقه - سبحانه -. يسألُ الشَّحِيح وينسَى الكريمَ - سبحانه -، يستلطِفُ الدنِيءَ وينسى اللطيفَ - سبحانه -، ويسترحِمُ الغضَّ الغليظَ وينسى الحليم الرحيمَ - سبحانه -، أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الملك: 22]، يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ [النساء: 108]. نستغفر الله، نستغفر الله، اللهم إنا نستغفرُك إنك كنتَ غفَّارًا، فأرسِل السماءَ علينا مِدرارًا. لقد كثُر بين العباد: التحاسُد والتدابُر والتنازُع وعظُمَت بينهم الفُرقة، واتَّسعَت في ساحتهم النُّفرة، واستفحلَت الوَحشة بين العبد وخالقه إلا من رحِمَ الله. لقد كثُرت معاصينا لله في الرخاء، فصِرنا لا نلجأُ إليه إلا في الشدَّة والضرَّاء، قصَّرنا في جنب الله، وفرَّطنا في طاعته، حتى كثُر الخلَلُ في أداء العبادات، وغابَ الصدقُ والأمانة والتسامُح في المُعاملات، فكثُر الغِشُّ، وتفنَّنَ الناسُ في الحِيَل، فاقشعرَّت الأرض، وقلَّت البركات، وتكدَّرَت الحياة، فكثُر الذين يأكلون ولا يشبَعون، ويكتسِبون ولا يجمعون، ويجمَعون ولا يُبارَك لهم. وهذا داءٌ عُضال، وبلاءٌ نازلٌ لا يرفعُه إلا الاستقامةُ والإيمان والتقوى؛ لأن الله قال عن الاستقامة: وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا [الجن: 16]- وذلك على أحد التفسيرين -. وقال عن الإيمان والتقوى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [الأعراف: 96]. نستغفر الله، نستغفر الله، نستغفر الله، اللهم إنا نستغفرُك إنك كنتَ غفَّارًا، فأرسِل السماءَ علينا مِدرارًا. عباد الله: ليس العيب كل العيب في أن يعصِي العبدُ؛ لأن الكمالَ لله وحده، والعصمةَ لرسوله - صلى الله عليه وسلم -، ومن ذا الذي لا يعصِي ربَّه أبدًا، ولا يقعُ في الخطأ طرفَة عينٍ؟! كيف والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «والذي نفسي بيده؛ لو لم تُذنِبوا لذهبَ الله بكم ولجاء بقومٍ يُذنِبون فيستغفِرون الله فيغفِرَ لهم»؛ رواه مسلم. ولكن العيب كل العيب فيمن يُخطِئُ ويعصِي ويُصِرُّ على الخطأ والمعصية ثم هو لا يستغفر الله ولا يتوبُ إليه، والله - جل وعلا - يقول: أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة: 74]. عباد الله: الابتلاءُ سنةٌ ربَّانية لا يسلَمُ منها بنو آدم ولا يكادُون، ولقد قال - سبحانه -: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء: 35]، وإن الابتلاء ليتنوَّعُ في شؤون العباد ومعاشِهم؛ فتارةً في النفس، وتارةً في المال، وتارةً في القحط وشُحِّ الأمطار. وإن من حكمةِ الله تعالى في منع المطر عن إبَّانه: أن يستيقظَ الناسُ عن غفلتهم، ويُحاسِبوا أنفسَهم، ويُجدِّدوا العهدَ مع خالقِهم، فيُنيبُوا إلى الله ويُسلِموا له، ويفعلوا الخيرَ لعلهم يُفلِحون، وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ [الشورى: 27]. وإن الله - جل وعلا - لطيفٌ بعباده يحبُّ التوابين ويحبُّ المُتطهِّرين، وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ [الشورى: 28]. نستغفر الله، نستغفر الله، نستغفر الله، اللهم إنا نستغفرُك إنك كنتَ غفَّارًا، فأرسِل السماءَ علينا مِدرارًا. الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين. أما بعد، عباد الله: فإنكم قد خرجتُم من بيوتكم تشكُون جدبَ دياركم واستئخارَ المطر عن إبَّان زمانه عنكم، وإن الله وعدَ الداعين بالإجابة؛ فقال - سبحانه -: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة: 186]، وقال - سبحانه -: وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: 60]، وقال - سبحانه -: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ [النمل: 62]. فاللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنزِل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين. اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أنزِل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين. اللهم لا تُهلِكنا بالسنين، وارحَمنا يا أرحمَ الراحمين، اللهم لا تحرِمنا خيرَ ما عندك بشرِّ ما عندنا. اللهم إنا خلقٌ من خلقك، فلا تمنَع عنا بذنوبنا فضلَك. اللهم اسقِنا غيثًا مُغيثًا مرئيًا غَدقًا مُجلِّلاً سحًّا طبقًا نافعًا غير ضارٍّ عاجلاً غير آجِل. اللهم اسقِ عبادك وبهائمك، وانشر رحمتك، وأحيِي بلدك الميت. اللهم إن بالبلاد من القَحط ما لا نشكُوه إلا لك، اللهم أنبِت لنا الزرعَ، وأدِرَّ لنا الضرعَ، وأسقِنا من بركات السماء، اللهم لتُحيِيَ ب البلاد، وتُسقِيَ به العباد، ولتجعلَه بلاغًا للحاضر والباد، واجعل ما أنزلتَه علينا متاعًا لنا وبلاغًا إلى حين. آمين، آمين، آمين. واعلموا - رحمكم الله - أن من سنة نبيكم - صلى الله عليه وسلم - في هذا الموضع قلبَ الرداء تفاءلاً بتغيُّر الحال. نستغفر الله، نستغفر الله، نستغفر الله، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفَّارًا، فأرسِل السماء علينا مِدرارًا. سبحان ربنا رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين.

8 ذو الحجة 1432 - وصية الله لحجاج بيته الحرام - الشيخ صالح آل طالب

خطبة المسجد الحرام - 8 ذو الحجة 1432 - وصية الله لحجاج بيته الحرام - الشيخ صالح آل طالب الخطبة الأولى الحمد لله، الحمد لله فالق الإصباح، والحمد لله بُكرةً وعشيًّا وفي الغُدُوِّ وفي الرَّوَاح، الحمد لله الذي وفدَ له الحَجيجُ من كل ناحيةٍ وساحٍ، وجعل الحجَّ والمشاعِرَ مزادةً للتقوى، ومهوًى للنفوس، ومنهلاً للأرواح، وجعل بيتَه المُعظَّم حرمًا لا يُستباح، وحِمًى لا يُعضَدُ شوكُه، ولا يُنفَّرُ صيدُه، ولا يُشهَرُ به سلاح، أشهد أن لا إله إلا الله وحده الأحدُ الحميد لا شريك له ولا شَبيه ولا نَديد، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله سيدُ من حجَّ البيتَ وطافَ، صلَّى الله عليه وعلى آله وعلى صحابته الأسلاف، ومن اتَّبَعهم واستنَّ بهديِهم من التابعين والأخلاف، وسلِّم يا رب تسليمًا كثيرًا. أما بعد، أيها المسلمون: وصيةُ الله للأولين والآخرين تقوى الله: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء: 131]، ووصيةُ الله لحُجَّاج بيته تقوى الله: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ [البقرة: 197]. أيها المسلمون: حُجَّاج بيت الله الحرام! شكرَ اللهُ سعيَكم، وبارَكَ خطوَكم، وأدامَ سعدَكم، قد وطِئتُم أرضَ الحرَم، وتلبَّستُم بالنُّسُك الأعظم، واكتحلَت عيونُكم بمرأى الكعبةِ المُشرَّفة، وبلغتُم هذا البيتَ العتيق، وشرعتُم في مناسِكِ الحجِّ، فلكم تُزفُّ التهاني ببُلوغِ هذه الأماني، والله المسؤول أن يُتِمَّ حجَّم ويُيسِّر أمرَكم وأن يتقبَّل منكم. فلله ما أهناكم! والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من حجَّ هذا البيتَ فلم يرفُث ولم يفسُق رجعَ كيوم ولدَته أمُّه» - أي: نقيًّا من الذنوب والخطايا -؛ رواه البخاري ومسلم. وفي "الصحيحين" أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «العُمرةُ إلى العُمرة كفَّارةٌ لما بينهما، والحجُّ المبرورُ ليس له جزاءٌ إلا الجنة». فيا لها من منحةٍ تطرَبُ لها النفوسُ المؤمنةُ، وتهُونُ في سبيلها كلُّ المتاعِب والصِّعاب. أيها المسلمون في كل مكان: حُجَّاج بيت الله الحرام! أيامُكم هذه أيامٌ عظَّم اللهُ أمرَها، وشرَّفَ قدرَها، وأقسمَ بها في كتابه العزيز، فقال - جلَّ شأنُه -: وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ [الفجر: 1، 2]. وقال عنها النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما من أيامٍ العملُ الصالحُ فيها أحبُّ إلى الله من هذه الأيام». قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: «ولا الجهادُ في سبيل الله، إلا رجلٌ خرج بنفسه وماله ثم لم يرجِع من ذلك بشيءٍ»؛ أخرجه البخاري. وعند الإمام أحمد: «فأكثِروا فيهنَّ من التهليل والتكبير والتحمِيد». الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد. كبِّروا ليبلُغ تكبيرُكم عَنانَ السماء، كبِّروا فإن اللهَ عظيمٌ يستحقُّ الثناء، أكثِروا من الأعمال الصالحة، وتزوَّدوا من ساعات هذه الأيام ولياليها، فهي التجارة الرابحة، واعلموا أن لله تعالى نفَحَات فاستكثِروا من الصالحات، وتطهَّروا من دَنَس المعاصي والسيئات، إن العُمر لا يعُود، والمَوسِمَ لا يدُوم، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ. عباد الله، حُجَّاج بيت الله الحرام: هذا هو اليومُ الثامنُ من ذي الحجَّة، وفي ضُحاهُ يُحرِمُ من يُريدُ الحجَّ ويذهبُ إلى مِنَى فيُصلِّي بها الظهرَ في وقتها قصرًا والعصرَ في وقتها قصرًا والمغربَ في وقتها والعشاء في وقتها قصرًا، ويبيتُ بمِنَى هذه الليلة، فإذا صلَّى بها الفجرَ وطلَعَت شمسُ اليوم التاسع توجَّه إلى عرفات وصلَّى بها الظهر جمعًا وقصرًا، ثم يقِفُ على صعيد عرفات مُكثِرًا من ذكر الله تعالى، مُتذلِّلاً بين يديه يسألُه خيرَي الدنيا والآخرة، ويُلِحُّ في الدعاء والرجاء في ذلك الموقف العظيم؛ فإن الحجَّ عرفة، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال أيضًا: «خيرُ الدعاءِ دعاءُ يوم عرفة، وخيرُ ما قلتُ أنا والنبيُّون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملكُ وله الحمدُ وهو على كل شيءٍ قديرٌ»؛ رواه الترمذي. وفي ساحةِ الغُفرانِ في عرفات تخشَعُ القلوبُ، وتَذرِفُ العيون، تُسكَبُ العَبَرات، تُقالُ العَثَرات، وتُرفَعُ الدرجات، ويُباهِي اللهُ بحُجَّاجه ملائكةَ السماوات، ويقول - سبحانه -: «انظروا إلى عبادي أتَوني شُعثًا غُبرًا ضاحِين من كلِّ فجٍّ عميقٍ، أُشهِدُكم أني غفرتُ لهم». عباد الله: ومن لم يكن حاجًّا فيُستحبُّ له صيامُ يوم عرفة مُحتسِبًا أن يُكفِّرَ اللهُ عنه السنةَ الماضيةَ والباقيةَ، كما قال ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه مسلم. وعن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما من يومٍ أكثر من أن يُعتِقَ اللهُ فيه عبدًا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنُو ثم يُباهِي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء؟»؛ رواه مسلم. فإذا غربَت الشمسُ، انصرَفَ إلى مُزدلِفَة بسكينةٍ ووقارٍ، وصلَّى بها المغربَ والعشاء جمعًا، ويقصُرُ العشاء، ويبيتُ بمُزدلِفةَ تلك الليلة، ويُصلِّي بها الفجرَ، ويُكثِرُ من ذكر الله ومن الدعاء حتى يُسفِرَ جدًّا، ثم ينصرِفُ إلى مِنَى قُبيلَ طُلوع الشمس، ويجوزُ للضَّعَفة من النساء والصبيان ونحوِهم الانصرافُ من مُزدلِفة بعد نصف الليل، ويتحقَّقُ ذلك بغروب القمر. فإذا وصل الحاجُّ إلى مِنَى رمى جمرة العقبة بسبع حصَيَاتٍ مُتعاقباتٍ يُكبِّرُ مع كل حَصاة، ثم ينحَرُ الهديَ إن كان عليه هَدي، ثم يحلِقُ رأسَه أو يُقصِّرُه، والحلقُ أفضل، ثم يتوجَّه للبيت الحرام إن تيسَّر له يوم العيد وإلا بعده، فيطوفُ طوافَ الإفاضة، ثم يسعَى بين الصفا والمروة، فإن كان قارِنًا أو مُفرِدًا وقد سعى قبل الحجِّ بعد طوافِ القُدُوم فيكفيه سعيُه ذلك، ومن قدَّمَ شيئًا أو أخَّر شيئًا من أعمال يوم النحر، فلا حرج عليه. ثم يعودُ إلى مِنَى، ويبيتُ بها ليالي أيام التشريق، ويرمِي الجِمارَ الثلاث في كل يومٍ بعد زوال الشمس، ثم إن شاءَ تعجَّل في يومين، وإن شاء تأخَّر لليوم الثالث عشر - والتأخُّر أفضل -، ثم لا يبقَى عليه إلا طوافُ الوداعِ عندما يُريدُ السفرَ من مكة. أيها المسلمون: ولقد كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - مواطنُ يُكثِرُ فيها من الدعاء حريٌّ بالمُسلمِ أن يتحرَّاها، وأن يحرِصَ عليها؛ منها: يوم عرفة - وبالأخصِّ آخر النهار -، وبعد صلاة الفجر بمُزدلِفة حتى يُسفِر جدًّا، وبعد رمي الجمرة الأولى، وبعد رمي الجمرة الثانية من أيام التشريق، وكذا الدعاء فوق الصفا والمروة. فاجتهِدوا في تمام حجِّكم، واتقوا الله فيما تأتون وتذَرُون، وأخلِصوا لله في عملكم وقصدِكم، واتَّبِعوا الهُدى والسنَّة، واجتنِبوا ما يخرِمُ حجَّكم أو يُنقِصُه، وعليكم بالرِّفقِ والسكينةِ والطُّمأنينة والشَّفَقَة والرحمة بإخوانكم المُسلمين - سيَّما في مواطن الازدحام، وأثناء الطواف، ورميِ الجِمار، وعند أبوابِ المسجد الحرام -. واستشعِروا عِظَمَ العبادة وجلالة الموقف، جعل الله حجَّكم مبرورًا، وسعيَكم مشكورًا، وذنبَكم مغفورًا. أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم. الخطبة الثانية الحمد لله، الحمد لله الذي جعل مواسِمَ الخيرات مربحًا ومغنَمًا، وأيام البركات إلى جناته طريقًا وسُلَّمًا، وأشهد أن إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد، أيها المسلمون: لقد بُنِي هذا البيتُ العتيقُ مُؤسَّسًا على التوحيد ولأجل التوحيد: وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا [الحج: 26]. ومنذ أن دخلتَ النُّسُك وأنت مُعلِنٌ للتوحيد: "لبَّيك اللهم لبَّيك، لبَّيك لا شريك لك لبَّيك، إن الحمدَ والنعمةَ لك والملك، لا شريك لك". وفي ثنايا آيات الحج يقول الله تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج: 30، 31]. وفي حديث جابرٍ - رضي الله عنه - في صفة حجِّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثم أهلَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتوحيد: لبَّيك اللهم لبَّيك، لبَّيك لا شريك لك لبَّيك"؛ رواه أبو داود. فأخلِصوا دينَكم لله، وتفقَّدوا أعمالَكم ومقاصِدَكم. عباد الله: وفي مناسِك الحجِّ تربيةٌ على إفراد الله بالدعاء والسؤال والطلب، مع التوكُّل عليه واللجُوءِ إليه، والاستغناء عن الخلق والاعتماد على الخالق: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن: 18]، لا نبيًّا ولا وليًّا، ولا مكانًا ولا رسمًا. كما لا يجوزُ أن يُحوَّلَ الحجُّ إلى ما يُنافِي مقاصِدَه، فلا دعوةَ إلا إلى الله وحده، ولا شِعارَ إلا شِعارُ التوحيد والسنة. أيها المسلمون: والحجُّ عبادةٌ فريدةٌ تجمعُ ملايين البشر المُتدفِّقين لأداء النُسُك شوقًا، التاركين لدنياهُم طوعًا؛ فأيُّ مشهدٍ أبهى من هذا التجمُّع الإيماني العظيم، فيه اجتماعُ الأمة وائتلافُها، وتظهَرُ قِيَمُها وأخلاقُها، فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة: 197]. قِيَم التسامُح والإخاء والبُعد عن الخلاف والمِراء، قِيَمُ المُساواة والعدل والأُخُوَّة والمحبة، قِيَمُ القناعة والبَساطة في تجرُّد الحاجِّ من متاع الدنيا في لِباسِه ومسكنه ومنامه، يتربَّى على ترك الترفُّه، ويتحمَّلُ المشقَّة والتضحية. من الحجِّ نستلهِمُ المُراجعات السُّلُوكية لكثيرٍ من القِيَم والأخلاق. حُجَّاج بيت الله العتيق: الحجُّ جهادٌ، ولا بدَّ في الجهاد من مشقَّة، وتركُ الترفُّه مقصودٌ، وعلى الحاجِّ أن يصبِرَ ويحتسِبَ في إتمام حجِّه كما أمر الله آخِذًا نُسُكَه من رسول الله. ومن الخُذلان أن يتتَبَّعَ الإنسانُ الرُّخَص ويزهَدَ في السنن، ويرجِعَ بحجٍّ مُشوَّه، ويتنازَل عن كمال النُّسُك، ولا يتنازَلُ عن نقص الخدمات في الطعام والشراب والسَكَن، والله تعالى يقول: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة: 196]، اجعلوا هذه الآيةَ شِعارَكم. حُجَّاج بيت الله الحرام: تعلَّموا أحكامَ مناسِكِكم، واسألوا عن عباداتكم، وتحرَّوا صحةَ أعمالكم قبل إتيانِها، تفرَّغوا لما جِئتُم لأجله، واشتغِلوا بالعبادة والطاعات؛ فإن ما عند الله لا يُنالُ بالتفريط. أكثِروا من الدعاء والتضرُّع، والهَجوا بذكر الله في كل أحوالكم؛ فنبيُّكم - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إنما جُعِل الطوافُ بالبيت وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله»؛ رواه أبو داود، والترمذي. وربُّكم تعالى يقول: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ

10 ذو الحجة 1432 - خطبة عيد الأضحى - المحدثات طوفان مغرق - الشيخ سعود الشريم

خطبة المسجد الحرام - 10 ذو الحجة 1432 - خطبة عيد الأضحى - المحدثات طوفان مغرق - الشيخ سعود الشريم الخطبة الأولى الحمد لله، الحمد لله الذي لا يبلغُ مِدحَتَه القائلون، ولا يُحصِي نعماءَه العادُّون، ولا يُؤدِّي حقَّه المُجتهِدون، المعلومِ من غير رؤية، والخالقِ بلا حاجة، والمُميت بلا مخافة، والباعثِ بلا مشقَّة، خلقَ الخلائقَ بقدرته وحكمته، ونشرَ الرياحَ بُشرًا بين يدي رحمته، مُبدئِ الخلق ووارثِه، وباسطٍ فيهم بالجُودِ يدَه، كتبَ على نفسه لعباده المؤمنين الرحمة، وسبقَ عفوُه عقابَه وحلمُه غضبَه، لا يخفى عليه مثقالُ ذرَّةٍ في الأرض ولا في السماء، لا تُدرِكُه الأبصار وهو يُدرِكُ الأبصار وهو اللطيفُ الخبير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله البشيرُ النذير، والسراجُ المُنير، خيرُ من صلَّى لله وقام وحجَّ البيت الحرام وصام عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة: 128]، ما تركَ خيرًا إلا دلَّنا عليه، ولا شرًّا إلا حذَّرَنا منه، فصلواتُ الله وسلامُه عليه وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى الصحابة والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا. الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد. الله أكبر، الله أكبر كبيرًا، والحمدُ لله كثيرًا. الله أكبر غافرُ الزلاَّتِ…داعِي الحَجيج إلى ثَرى عرفاتِ الله أكبر ملءَ ما بين السما…والأرضِ عدَّ الرملِ والذرَّاتِ والحمدُ لله العليِّ فنورُه…في الذكرِ كالمِصباحِ في المِشكاةِ الله أكبر بُكرةً وعشيَّةً…الله أكبرُ سامعُ الأصواتِ الله أكبر عالمًا ومُهيمِنًا…مُحصِي الحَجيج وجامعِ الأشتاتِ ما كان يخفاهُ الضميرُ وهمسةً…مهما تكن عند اختلافِ لغاتِ الله أكبر مُبصِرُ النملِ الذي…في ليلةٍ سوداء فوق صفاةِ قد أبصرَ الجمعَ الغفيرَ وإنه…ليَرَى نِياطَ القلبِ والنَّبَضاتِ الله أكبر لن تُوارِيَ دمعةٌ…عنه الدموعَ وخافِيَ العَبَراتِ علِمَ الغيوبَ وكلَّ حبَّةِ خردلٍ…ما قد مضَى منها وما هو آتِ الله أكبر فاستجِبْ يا ربَّنا…ولتَمْحُ عنا سالفَ العَثَراتِ واغفر لحُجَّاجٍ أتَوا شُعثًا فقد…ناجَوكَ يا رحمنُ بالزَّفَراتِ الله أكبر أنت أرحمُ راحمٍ…فاقبَلْ كريمًا صالحَ الدعواتِ واجعله حجًّا صالحًا مُتقبَّلاً…والطُفْ بنا في الحشرِ والعَرَصاتِ الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد. أما بعد: فأوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله - سبحانه -؛ فإنها مفتاحُ سَداد، وذخيرةُ معاد، وعِتقٌ من كل ملَكَة، ونجاةٌ من كل هلَكَة، بها ينجحُ الطالب، وينجُو الهارِب، فاعملُوا فإن العمل يُرفَع، والتوبةَ تنفع، والدعاءَ يُسمَع. ألا وإن عليكم رُصَّدًا يحفَظون أعمالَكم وعددَ أنفاسِكم، لا تستُركم عنهم ظُلمةُ ليلٍ داجٍ، ولا يُكِنُّكم بابٌ ذو رِتاج، وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار: 10 - 12]. الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد. حُجَّاج بيت الله الحرام: لقد أصبحتم في هذا اليوم في عيدٍ مبارك؛ عيد الأضحى، يوم القَرابين، يوم الحج الأكبر، يوم قضاء التَّفَث والوفاء بالنُّذور والطواف بالبيت العتيق، إنه يومُ الفرح بالاستجابة لدعوة الخليل - عليه السلام -: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج: 27 - 29]. الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد. أيها المسلمون: لقد شرعَ الله لنا في هذا اليوم المُبارَك ذبحَ الأضاحِي تقرُّبًا لله؛ إذ من أفضل أعمال ابن آدم يوم النحر إراقة دم الهَدي والأضاحي تقرُّبًا وزُلفَى للخالق - سبحانه -: قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام: 162، 163]. إنها سُنَّةُ أبينا إبراهيم المُؤكَّدة، ويُكرَهُ تركُها لمن قدِرَ عليها، كما أن ذبحَها أفضلُ من التصدُّق بثمنها، وتُجزِئُ الشاةُ عن واحدٍ، ولا بأس أن يُشرِكَ معه أهلَ بيته، وتُجزئُ البدَنة والبقرة عن سبعة. ثم إنه يجبُ على المُضحِّي أن يُراعِي شروطَ الأُضحية الثلاثة: فأولها: أن تبلغَ الأضحيةُ السنَّ المُعتبَرُ شرعًا، وهو: خمس سنين في الإبل، وسنتان في البقر، وسنةٌ كاملةٌ في المعز، وستةُ أشهرٍ في الضأن. والشرطُ الثاني: أن تكون الأُضحية سالمةً من العيوب التي نهي عنها الشارع، وهي أربعة عيوب: العرجاء التي لا تُعانقُ الصحيحةَ في المشي، والمريضةُ البيِّنُ مرضُها، والعوراءُ البيِّنُ عورُها، والعَجفاءُ وهي الهَزيلةُ التي لا مُخَّ فيها، وكلما كانت الأُضحيةُ أكمل في ذاتها وصفاتها فهي أفضل. والشرطُ الثالثُ: أن تقعَ الأُضحية في الوقت المُحدَّد، وهو الفراغُ من صلاة العيد، وينتهي بغروبِ اليوم الثالث بعد العيد، فصارت الأيامُ أربعةً. ثم ليرفِق الجميعُ بالبَهيمة: «وليُرِح أحدُكم ذبيحَته، وليُحِدَّ شفرَتَه؛ فإن الله كتبَ الإحسانَ على كل شيءٍ» حتى في ذبح البهيمة، ثم ليُسمِّي أحدُكم عند ذبحها؛ لأن الله يقول: وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ [الأنعام: 121]. ويُستحبُّ للمُضحِّي أن يأكل منها، ويُهدِي ويتصدَّق، ولا يُعطِي الجزَّارَ أُجرتَه منها. فضحُّوا واهدُوا، تقبَّل الله ضحاياكم وهداياكم. ضحُّوا فإن لحُومَها ودماءَها…سينالُها التقوى بلا نُقصانِ العيدُ أَضحى فالدماءُ رخيصةٌ…مُهراقةً للواحد الديَّانِ هي سنةٌ بعد الذبيحِ وإنها…من خير ما يُهدَى من القُربانِ الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد. حُجَّاج بيت الله الحرام: إن هذا البيت العتيق الذي رفعَ قواعدَه إبراهيمُ وابنُه إسماعيل - عليهما السلام - لم يُبنَ إلا بالتوحيد ولأجل التوحيد ولأهل التوحيد، تتعاقبُ الأجيالُ على حجِّه، ويتنافسُ المسلمون في بُلوغ رِحابِه، وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [الحج: 26]. ولقد بعثَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - سنة تسعٍ من الهجرة مع أبي بكر - رضي الله عنه - من يُنادِي بالناس: ألا يطوفَ بالبيت عُريان، وألا يحُجَّ بعد العام مُشرِكٌ؛ رواه البخاري ومسلم. فالحجُّ - عباد الله - أمارةٌ تدعو إلى التوحيد؛ فاجتماعُ الناس على اختلاف ألوانهم وأجناسِهم ليُوحِي إليهم أنه ينبغي للمسلم ألا يعبُدَ إلا الله ولا يلجأ إلا إلى الله في خوفه ورجائه وذبحِه ونذرِه ورغبته ورهبَته، حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج: 31، 32]. إن المؤمن المُوحِّد ليشعُر من أعماق قلبه أن ما دون الله هَباء، ويستحيلُ عنده أن يُغلَبَ اللهُ على أمره أو أن يُقطَع شيءٌ دونه؛ إذ التعلُّق بغير الله عجزٌ، والتطلُّع إلى سواه ضلالٌ وحُمقٌ. وإن مما يُؤسِف أشدَّ الأسف: ما يقع فيه بعضُ أهل الغفلة ممن لم يُلامِس التوحيدُ شِغافَ قلوبهم، فادَّعوا علمَ ما لم يعلَموا، ولجئوا إلى غير الله، وخاضُوا في أمور الغيب، فاستحكمَت لديهم الشعوذةُ والكِهانة وما يُسمَّى: تحضيرَ الأرواح وقراءة الكفِّ والفنجان، أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ [الطور: 41]، قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النمل: 65]. الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد. حُجَّاج بيت الله الحرام: في الحجِّ تتجلَّى صورةٌ عُظمى وسمةٌ جُلَّى هي نبراسٌ للأمة إن أرادت الهداية وصحةَ العمل بعد الإخلاص لله تعالى، ألا وهي: متابعةُ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذلكم من خلال قوله - صلوات الله وسلامه عليه - في حجَّة الوداع: «خُذوا عنِّي مناسِكَكم»، ليُؤكِّد لنا - صلوات الله وسلامه عليه - أن خيرَ الهدي هديُه - صلى الله عليه وسلم -؛ إذ لا هديَ أحسنُ من هديِه، ولا طريقَ أقومُ من طريقه، وهيهات هيهات أن يأتي الخلَفُ في أعقاب الزمن بخيرٍ مما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - والسلف الصالح في عصور النور. فإن من غُربة الدين: أن تلتصِقَ به المُحدَثات التي هي تشويهٌ لجمال الدين، وطمسٌ لمعالم السُّنَن، ومكانةٌ السنة بين هذه المُحدَثات أنها دعوةُ كمال، فكلما تردَّد الإنسان بين طريقين دعَتْه السنةُ إلى خيرهما، وإن تردَّد العقلُ بين حقٍّ وباطلٍ دعَته السنةُ إلى الحق. وبهذا يُعلَم أن دعوةَ السنةِ إنما هي لأصعبِ الطريقين وأشقِّ الأمرَين بالنسبة لأهواء البشر، وسببُ ذلك - عباد الله - هو: أن الانحدارَ مع الهوى سهلٌ يسيرٌ، ولكن الصعودَ إلى العلو صعبٌ وشاقٌّ، وإن الماء ليَنزِلُ وحدَه حتى يستقرَّ في قَرَارة الوادي، ولكنه لا يصعَد بالعلو إلا بالجُهد والمضخَّات. وما فائدةُ العقل بلا سُنَّةٍ ولا هديٍ من الله؟! فها هو - صلوات الله وسلامه عليه - أكملُ الناس عقلاً بلا نزاع، ومع ذلك قال عنه ربُّه: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ [الشورى: 52، 53]. ثم إن المُحدَثات سريعةُ الانتشار، تستلفِتُ أنظارَ الدَّهماء فيعمَدونها الذين لا يُبصِرون، ويصمُّوا عنها الذين هم عن السمعِ معزولون؛ فالمُحدَثات طوفانٌ مُغرِق، والسُّنَّةُ الصحيحةُ سفينةُ نوح؛ من ركِبَها نجا، ومن تركها غرِق ولَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ [هود: 43]. وإننا حينما نتحدَّث عن البِدَع فإننا نعنيها

15 ذو الحجة 1432 - ما بعد الحج - الشيخ عبد الرحمن السديس

خطبة المسجد الحرام - 15 ذو الحجة 1432 - ما بعد الحج - الشيخ عبد الرحمن السديس الخطبة الأولى إن الحمد لله، نحمده ونستعينُه ونستغفرُه ونتوبُ إليه، أحمده - سبحانه - أكمل لنا المناسك وأتمَّ، وأسبغَ على الحَجيج فضلَه المِدارارَ الأعمَّ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً نسمُو بها إلى أعلى القِمَم، وأشهد أن نبيَّنا وسيِّدنا محمدًا عبدُ الله ورسوله أزكى من أدَّى المناسِكَ وطافَ بالبيت العتيق وأمَّ، وأبانَ معالمَ الدين ورسَم بأبلغِ عبارةٍ وأوجزِ الكلِم، صلَّى الله عليه وعلى آله الأطهارِ صفوةِ الأُمَم، السالكين النهجَ القويمَ الأَمَم، وأصحابِه الأخيارِ أُسدِ العَرين ولُيُوثِ الأَجَم، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ ما قصدَ المسجدَ الحرام حاجٌّ والتزَم، وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين. أما بعد، فيا عباد الله! حُجَّاج بيت الله الحرام: اتقوا الله - تبارك وتعالى - حقَّ التقوى؛ فإنها أنفسُ الذخائِر، والأثرُ الجليلُ لما أدَّيتُم من أعظم الشعائر، فتقوى الله - سبحانه - ضياءُ الضمائر، ونورُ البصائر، وترياقُ السرائر، وخيرُ عاصمٍ من الجرائر، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة: 197]. يريدُ المرءُ أن يُؤتَى مُناهُ ويأبَى اللهُ إلا ما أرادا يقول المرءُ: فائدتي ومالي وتقوى اللهِ أعظمُ ما استفادا وفودَ الرحمن! أيها الحُجَّاج الكرام: منذ أيامٍ قلائل نعِمتم بإكمال مناسكِ الركنِ الخامسِ من أركان الإسلام، وأحدِ مبانيه العِظام، في أجواءٍ إيمانية سعيدةٍ، وأوضاعٍ أمنيَّةٍ فريدة، فاقدُرُوا هذه النعمةَ الكبرى التي يغبِطُكم عليها سائرُ الأمم، واشكروا المولى - سبحانه -؛ حيث أفاضَ عليكم أزكَى المِنَن والنعَم، وغمَرَكم فضلُ الباري بالحجِّ إلى البيت الذي جعله مثابةً وأمنًا للناس، وفي ذلك الأجرُ الجزيلُ بغير قياس، وعلى إثر ذلك ودَّعَت أمتُنا الإسلامية مناسبةَ عيد الأضحى الغرَّاء، وأيامَه العبِقَة الزهراء؛ إذ المقامُ بعدئذٍ مقامُ شكرِ المُنعِم - سبحانه -: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم: 7]. فاشكروه تعالى حقَّ شكره، واذكروه - جل وعلا - حقَّ ذكره؛ فقد وقفتُم بأزكى البِطاح ترجُون غفرانَ الذنوب والجُناح، وتأمُلون الفوزَ بالأجر والفلاح، وقد نقعتُم أنفسَكم وأرواحَكم في مُغتسَل المغفرة ونفحاتها، وسحجتُم الآثامَ بشآبيب الرحماتِ وهبَّاتها، تدعون ربَّكم بألسنةٍ طاهرة وقلوبٍ خاشعة ونفوسٍ مُنكسِرةٍ ضارِعة وأعيُنٍ بالعَبَرات سكَّابةٍ دامِعة. عيونٌ إلى الرحمنِ ترنُو ضراعةً فينهَلُّ فيضٌ من مدامِعِها سكبًا حجيجٌ كموجِ البحر في زحمةِ التُّقَى يُلبِّيه ربُّ العالمين إذا لبَّى فعلى صعيدِ عرفاتٍ لهَجتُم إلى الله بالتجاوُز عما كان من السيئات وفات، ووقفتُم - أحبَّتنا الحُجَّاج - موقفَ المُفتقِر المُحتاج، فأحرزتُم غايةَ الحُبور والابتِهاج، ونحرتُم الأضاحِيَ والهدايا بمِنَى، ورميتُم الجمرات للمُنى، وحلَّقَت أرواحُكم في أنداء الصفا بالسعي بين المروة والصفا، وعند الركن والمقام انهلَّت منكم العبَراتُ السِّجام. وعند الرُّكنِ تنحسِرُ الخطايا مُلملِمَةً جوانِحَها انهِزامًا فتنشرِحُ الصدورُ بطِيبِ ذكرٍ أماطَ الكربَ عنها والقَتَاما ومن كان بهذه المثابة؛ فأحرِ به أن يُكرِمَه المولى بعظيمِ الأجر والإنابة، وحقيقٌ به أن يعمُرَ بالبُرُور والقُرُبات أوقاتَه وأزمانَه، وأن يُطلِقَ دومًا للحسنات عِنانَه. فهنيئًا لكم، ويا بُشراكم بقول المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: «والحجُّ المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة»؛ خرَّجه الشيخان من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. الله أكبر؛ لكأنها كلماتٌ من لؤلؤ على بِساطٍ من سُندُس. معاشر الحَجيج الأكارِم: وها قد انعطفتُم في حياتِكم إلى عهدٍ جديدٍ، وميلادٍ مباركٍ سعيد، مُشرِقةٍ صفحاتُه، نقيَّةٍ أوقاتُه، سنيَّةٍ ساعاتُه، وها قد انقَضَت المناسِك؛ فماذا بعدُ أيها الناسِك؟! ألا فالزَموا المُداومَةَ على الأعمال الصالحة والثبات، والاستقامةَ عليها حتى الممات، وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر: 99]. وتزوَّدوا - يا رعاكم الله - من مناهلِ حجِّكم بالتوبة النَّصوح واليقين المتين، والنفسِ الزكيَّة، والسجايا السنيَّة لخوضِ غِمار الحياة بصالح الأعمال وخالصِ النيَّة، وحُسن استثمار هذه الدنيا الدنيَّة. قيل للحسن البصري - رحمه الله -: ما الحجُّ المبرور؟ قال: "أن تعودَ زاهدًا في الدنيا راغبًا في الآخرة". أمةَ الإسلام، حُجَّاج بيت الله الحرام: ومُقتضى الحجِّ المبرور: التغييرُ إلى مرافِئِ الرُّقِيِّ والحُبُور، وذلك بالاعتصام بحبل الله المتين، والتوادُدِ والاتفاق ونبذِ التنازُع والافتراق، والتواصِي بالصلاحِ ومكارمِ الأخلاق، واجتِنابِ المُوبِقات والمُنكراتِ ودواعِي النفاق. فطهِّروا ألسنتَكم من الكذبِ والغِيبَة والآثام، ومنكرِ القولِ والشِّتام، وزكُّوا قلوبَكم فإنها محلُّ نظرِ ذي الجلال والإكرام. فيا حُجَّاج بيت الله كونوا على المنهاجِ روَّادًا عِظامًا وتلك العُروةُ الوُثقى شِعارٌ فلا ترضَوا لعُروتها انفِصامًا معاشر المسلمين، والحُجَّاج الميامين: ولا بُدَّ لهذه المناسبة الكريمة ومناسِكِها العظيمة أن نستلهِمَ منها الآيات والعِبَر، والتذكُّر في صُروفِ الدَّهر وما له من غِيَر؛ فإن هذه الفريضةَ العظيمةَ منبعٌ ثرٌّ للتسامُح والتحاوُر، والتضامُن والتشاوُر، تتجلَّى فيها أسمَى صور الأمة الواحدة التي اجتمعَت على هدفٍ واحد، فلا ينبغي أن يمرَّ موسمٌ إلا وتعلَّمَت الأمةُ من هذا التجمُّع الكبير دروسًا بليغة، وخرجَت بطاقاتٍ فريدة، تُستَمَدُّ من هذه الجُموع المُبارَكة. وأرضُ الحرمين - حرسَها الله - منحَت العالمَ - بفضل الله - صُور المُسامَحة والتعاوُن، وقِيَم الأمن والأمان، وكم في هذه الفريضة من المشاهد الإسلامية والإنسانية، والصُور الحضارية التي لا تظهر إلا في هذه البِقاع الطاهرة، لتُدرِكَ الأمة أنها بغير الإيمان والعقيدة وبدون الاعتصام بالكتاب والسنة لن ولا ولم تكن شيئًا مذكورًا، وأن عواملَ الخلافِ والفُرقة لن تحمِلَ غيرَ الشتاتِ والضياع. وإننا باسم الأمة الإسلامية قاطبةً لنُناشِدُ من مهبِطِ الوحي ومنبَعِ الرسالة قادةَ الأمة وشُعوبَها القيامَ بدورهم التأريخي في العمل على بثِّ الأمن والاستقرار في مُجتمعاتهم، ونبذِ العُنفِ والقمعِ والقتلِ والعُدوان، ورفعِ الظلمِ والبغيِ والطغيان، مُدرِكين أن الوعيَ الحَصيفَ هو السبيلُ - بعد الله - لاختيار طريق التوحيد والوَحدة لا التخبُّط والاضطرابِ والفَوضَى. فالتحدِّيات المُتسارعة، والمُتغيِّراتُ المُتلاحِقة لهذه الأمة تستدعِي منها أن تعِيَ مخاطرَ المُستقبَل فتستشرِفَه بكل ثقةٍ واقتِدار، وها هو الزمانُ يسيرُ بنا سيرًا حثيثًا ولسانُ العِبَر والعِظات يتلُو علينا كلَّ يومٍ حديثًا، عروشٌ زالَت، ودولٌ دالَت، وأخرى انتصَرَت وقامَت، وكذا ذو المَنون تعثامُ الخِيَرة الأعلام والأعِزَّةَ الكرام والأقارِبَ والأرحام، أسكنَهم الله فسيحَ الجِنان، وجزاهم عنا وعن المسلمين أعظمَ الأجر والإحسان. وهكذا الدنيا راحلٌ بعد راحِل، وعِبَرٌ لكل مُتدبِّرٍ عاقل. فكونوا - يا عباد الله الكرام، ويا حُجَّاج بيته الحرام - من المُشمِّرين للدار الآخرة، الساعين للمنازل العالية الفاخِرة. أيها الإخوة المؤمنون: ومن شُكر المُنعِم المُتفضِّل - جل جلاله -: التحدُّث بما حبَى الله بلاد الحرمين الشريفين - حرسَها الله - من شرفِ خدمةِ الحُجَّاج مُحتسِبَةٍ الأجرَ والمثوبةَ من الله - جلَّ في عُلاه -، ومُضيِّها في خدمةِ ضُيوف الرحمن مُستمِدَّةٍ العونَ من المولى - تبارك وتعالى -، فخدمةُ الحُجَّاج والمُعتمِرين، ورعايةُ أمنِهم وطمأنينتهم تقعُ في أعلى مسؤولياتها وقمة اهتماماتها، مُستشعِرةً في ذلك عِظَمَ الأمانة المُلقاةِ على عاتقها. ومن فضل الله وتوفيقه تحقيقُها النجاحات المُتميِّزة في تقديم منظومةِ الخدماتِ المُتألِّقة في الجوانب كافَّتها، وهنا لا بُدَّ من إزجاء تحيةِ اعتزازٍ وتقدير، ودعاءٍ وتوقير للقائمين على شؤون وفود الرحمن بكل حِذقٍ وتفانٍ أن يجزِيَهم الله - سبحانه - خيرَ الجزاء وأوفاه، وأعظمَه ومُنتهاه. والدعاءُ موصولٌ للجُنود المجهولين الساهرين على خدمةِ الحَجيجِ وراحتهم على تنوُّع اختصاصاتهم، لا سيَّما في لجنة الحجِّ العُليا والمركزية والأمنية والعلمية والدعوية والصحية، لا حرمَهم الله ثوابَ ما قدَّموا، وأجرَ ما أحسَنوا، كِفاءَ ما أجدَعوا واجتَهدوا لإنجاحِ هذا الموسمِ العظيم باقتِدار، على الرغمِ من المحدودية المكانية والزمانية والظروفِ الإقليمية والمُتغيِّرات الدولية. وإننا باسم جُموع حُجَّاج بيت الله العتيق لنرفَعُ التهانِيَ مُضمَّخةً مُعطَّرة، والدعواتِ صادقةً مُؤرَّجَة لمقام خادم الحرمين الشريفين ووليّ عهده الأمين - حفظهما الله -، وللأمة الإسلامية جمعاء على ما منَّ به - سبحانه - من نجاحِ موسم حجِّ هذا العام بامتياز، فلله الحمدُ والفضلُ والشُكر على ما أنعمَ وجادَ، ووفَّق للسداد والرشاد، والأمن والاستقرار والإسعاد. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [البقرة: 200 - 202]. بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة، ونفعنا وإياكم بما فيهما من الآيات والحِكمة، أقول قولي هذا، وأستغفرُ الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولكافةِ المسلمين من كل خطيئةٍ وإثمٍ، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه كان للأوَّابين غفورًا. الخطبة الثانية الحمد لله وليِّ التوفيق والإصابة، أحمده - سبحانه - خصَّ من شاء من عباده بالحجِّ المبرورِ والمغفرة والإنابة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً نرجُو بها من الرحمن دعوةً مُجابة، وأشهدُ أن نبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله ذو القدرِ العليِّ والذاتِ المُهابَة، خيرُ من درَجَ على ثرَى أمِّ القُرى والمدينةِ طابَة، صلَّى الله عليه وعلى آلهِ الأطهارِ ذوِي المكارِمِ والنجابَة، وصحبِه الأخيار أُولِي النفوس الأبِيَّةِ المُستطابة، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا. أما بعد، فيا عباد الله: اتقوا الله - تبارك وتعالى - حقَّ التقوى، واعتصِموا لذلك بالعُروة الوُثقى، واعلًَموا - رحمكم الله - أن المولى - سبحانه - بعثَ فيكم رسولَه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - لتُعزِّرُوه وتوقِّروه، فيا بُشرَى من أجابَ دعوتَه ومُنادِيَه، وأفلحَ من امتثلَ أوامِرَه واجتنبَ نواهِيَه. أيها الح

22 ذو الحجة 1432 - ثبات الإسلام واستقراره - الشيخ صالح آل طالب

خطبة المسجد الحرام - 22 ذو الحجة 1432 - ثبات الإسلام واستقراره - الشيخ صالح آل طالب الخطبة الأولى الحمد لله، الحمد لله الذي أتمَّ على عباده حجَّ بيته الحرام، ويسَّر لهم السعيَ في ربوعٍ درَجَ فيها الأنبياءُ - عليهم السلام -، فتلك عرفاتُ ومِنَى وهذا زمزمُ وذاك المقام، معالمُ للإسلام، ورُسومٌ لأنبياءٍ وأديان غبَرَت بها السنُونُ والأيام، وبقِيَت معالمُ تُذكِّرُ اللاحِقَ بالسابقِ من الأنام، استحضارٌ للأزمِنة، واستِنطاقٌ للأمكِنة بما مرَّ على ثَرَاها من أنبياء، وبما أُنزِلَت على جبالها من سُوَر، وأُرسِيَت عقائد، وشُرِع على سُفُوحها من شرائع، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله ختمَ الله به النبوَّات فنِعمَ الخِتام، صلَّى الله وسلَّم وباركَ عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فاتقوا الله تعالى حقَّ التقوى، واستمسِكوا من الإسلام بالعُروة الوُثقى، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102]. أما بعد، أيها المسلمون: حجَّاج بيت الله الحرام! في هذه الحياة نُظُمٌ ومناهجُ وأفكار، وبناياتٌ سامِقةٌ تراها كأعالي الأشجار، وحين تهبُّ الرياحُ العواصِف وتثورُ الزلازلُ القواصِف تنهارُ الصورُ الزائفة، وتسقُطُ البناياتُ المُشيَّدة وينكشِفُ عيبُها وخلَلُها. والمُتأمِّلُ اليوم يرى تسارُعًا في انهياراتٍ مُتعدِّدة؛ في المال والاقتصاد، والحكم والسياسة، والأفكار والمناهج، ويرى حيرةً كُبرى لأرباب المال، ودهاقِنة السياسات، ثم يلتفِت فيرى بناءَ الإسلام ثابتًا مُستقرًّا، أصلُه ثابتٌ وفرعُه في السماء. حين تتأمَّل مبادئ الإسلام في كل الجوانب ترى قِيَمًا راسِخَة البُنيان، عصيَّةً على الذوَبان؛ في العقيدة والفِكر، والعبادة والتشريع، والأخلاقِ والسلوك، صالحةً لكل زمانٍ ومكان، وهو تأمُّلٌ يجبُ على المسلم أن يتذكَّر فيه فضلَ الله عليه، ويستشعِرَ قيمةَ دينه وإنعامَ الله به عليه. أيها المسلم: لم يُنعِم اللهُ عليه نعمةً هي أوفَى ولا أمنَّ ولا أسبغَ من كونك مُسلمًا لله مع المسلمين، لا تسجُد لشجرٍ أو حجر، ولا تذِلُّ لحيوانٍ أو جمادٍ أو بشر، ولا تعبدُ غيرَ الله، فاهنأ بإسلامك، وانعَم بإيمانك؛ فقد هداك الله يوم ضلَّ غيرُك، وأرشدَك حين تاهَ سِواك، وأعِد التأمُّل والمراجَعة مُستمسِكًا بأساس دينك وقاعدة إيمانك، عارِفًا فضلَ إسلامك وعاقبةَ توحيدك، مُستبشِرًا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لمُعاذٍ - رضي الله عنه -: «ما من أحدٍ يشهدُ أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله صِدقًا من قلبه إلا حرَّمَه الله على النار»؛ رواه البخاري. وعنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من لقِيَ اللهَ لا يُشرِكُ به شيئًا دخل الجنة»؛ رواه البخاري ومسلم. أيها المسلمون: ولهذا التوحيد معالمُ رسمَها النبي - صلى الله عليه وسلم - وأوضحَ أعلامَها، ولهذه البُشرى شواهِدُ بيَّنها وأرسَى أركانَها، حريٌّ بالمُسلم أن يستمسِكَ بغَرزِها، وأن يحذَرَ التفريق حتى لا يحبَطَ عملُه، أو يضِلَّ سعيُه؛ فكم من تائهٍ وهو لا يدري، وكم من ضالٍّ يظنُّ أنه مُهتدِي؟! عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن معاذًا - رضي الله عنه - قال: بعَثَني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن، فقال: «إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب فادعُهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلِمهم أن الله افترضَ عليهم خمسَ صلواتٍ في كل يومٍ وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلِمهم أن اللهَ افترضَ عليهم صدقةً تُؤخَذُ من أغنيائهم فتُردُّ في فُقرائهم، فإن هم أطاعوا لذلك فإياكَ وكرائم أموالهم، واتقِ دعوةَ المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حِجابٌ»؛ أخرجه البخاري ومسلم. لقد جعلَ أصولَ الإيمان: التوحيدَ، ثم الصلاةَ، ثم الزكاةَ، ثم حِفظَ الحقوق ومبدأ العدل المُطلق. أيها المسلمون: لقد كرَّم الله الإنسان، وشرعَ له ما يربَأُ به عن الخُرافات أو التعلُّق بالأوهام، وجعله حُرًّا لا يتعلَّقُ إلا بالله خالِقِه، وجعل التعلُّق بغير الله يُنافِي التوحيدَ اعتقادًا وعملاً؛ فعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لعنَ الله من ذبحَ لغير الله، ولعنَ الله من آوَى مُحدِثًا، ولعنَ الله من لعنَ والديْه، ولعنَ الله من غيَّر منارَ الأرض»؛ رواه مسلم. كما حذَّرَ من النذر لغير الله، وجعله من عمل المُشرِكين؛ قال الله تعالى في كتابه المُبين: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الأنعام: 136]. ومن معالم هذا التوحيد: الاستعاذةُ والاستجارةُ بالله وحده دون سِواه؛ قال - سبحانه -: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا [الجن: 6]. ومن محاسن الدين القَويم: أن المسلمَ لا يدعو ولا يرجُو إلا الله، فليس بين المسلم وبين ربِّه وسائط؛ قال الله تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً [الأعراف: 55]، وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر: 60]. فسمَّى الدعاءَ عبادة، وأمرَ رسولَه بإخلاصه له، فقال: قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي [الزمر: 14]، وقال: وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [يونس: 106، 107]، وقال - سبحانه - لمن دعا غيرَه: إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [العنكبوت: 17]، وقال - سبحانه -: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف: 5]. بل سمَّى اللهُ دعاءَ غيره شِركًا؛ قال - سبحانه -: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر: 13، 14]. عباد الله: إن مما أفسدَ الدين وحرفَ التديُّن: الغلوُّ والتنطُّع، والمُبالغةُ بغير علم، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إياكم والغلوَّ في الدين؛ فإنما أهلكَ من كان قبلَكم الغلوُّ في الدين»؛ أخرجه الإمام أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة بإسنادٍ صحيحٍ. ولمُسلمٍ: «هلكَ المُتنطِّعون». قالها ثلاثًا. والله تعالى يقول: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ [النساء: 171]. ومن الغلوِّ: الغلوُّ في تعظيم الأولياء والصالحين أو تعظيم آثارهم، وقد حذَّرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من ذلك، فقال: «لا تُطرُوني كما أطرَت النصارَى ابنَ مريم؛ فإنما أنا عبدُه، فقولوا: عبدُ الله ورسولُه»؛ رواه البخاري. وعن شقيقٍ عن عبد الله - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن من شِرارِ الناسِ: من تُدرِكُه الساعةُ وهم أحياء، ومن يتَّخِذُ القبورَ مساجد»؛ رواه الإمامُ أحمد. عباد الله: دينُ الإسلام كلُّه حسنٌ، وما نهى اللهُ عن شيءٍ إلا لضرره على الأفراد والمُجتمعات مما يُبطِلُ الإيمانَ ويُوبِقُ الإنسان؛ كالسحر وإتيان الكُهَّان؛ قال الله تعالى: وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى [طه: 69]، وقال: وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ [البقرة: 102]، وقال - سبحانه -: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ [البقرة: 102]. وكم تعلَّق بهذه الأوهام أُناسٌ أضاعوا دينَهم ودُنياهم، وانحدَرَت عقولُهم إلى درَكٍ من الخُرافات جعلوها دينًا ومنهجًا. فالحمدُ لله الذي كرَّمَنا بالإسلام. عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اجتنِبوا السبعَ المُوبِقات». قالوا: يا رسولَ الله! وما هنَّ؟ قال: «الشركُ بالله، والسحرُ، وقتلُ النفس التي حرَّم الله إلا بالحق، وأكلُ الربا، وأكلُ مال اليتيم، والتولِّي يوم الزحف، وقذفُ المُحصنات الغافلات»؛ رواه البخاري ومسلم. وعند مسلمٍ: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أتى عرَّافًا فسألَه عن شيءٍ لم تُقبَل له صلاةٌ أربعين ليلة». وعند أبي داود: «من أتى كاهِنًا فصدَّقَه بما يقول فقد برِئَ مما أُنزِل على محمد». أيها المسلمون: ومن معالم الدين الحِسان: الارتقاءُ بالمحبة والعواطِف والولاء والتناصُر في وقتٍ سفُلَت بأهل الدنيا مبادئهُم، فأصبحَت المحبَّةُ والمُوالاةُ لأجل الدنيا ومصالحها؛ عن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ثلاثٌ من كُنَّ فيه وجدَ حلاوةَ الإيمان: أن يكون الله ورسولُه أحبَّ إليه مما سِواهُما، وأن يُحبَّ المرءَ لا يُحبُّه إلا لله، وأن يكرَه أن يعودَ في الكفر كما يكرَهُ أن يُقذَفَ في النار»؛ رواه البخاري ومسلم. أيها المسلمون: الدينُ دينُ الله والشرعُ شرعُه، والواجبُ على من بلغَه كلامُ الله وسنةُ رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يتبَعَ الحقَّ ويطرَحَ ما سِواه، ولا يتركَ القرآنَ والسنةَ لقول أحدٍ مهما كان، واللهُ تعالى يقول: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور: 63]. وقد ذمَّ الله الذين أطاعوا أشياخَهم في مُخالفة أمر الله ورسوله، فقال الله تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة: 31]. قال عديُّ بن حاتم - رضي الله عنه -: لما سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ هذه الآية، قلتُ: يا رسولَ الله! إنا لسنا نعبُدهم. قال: «أليس يُحرِّمون ما أحلَّ الله فتُحرِّمونه، ويُحِلُّون ما حرَّم الله فتُحِلُّونه؟». فقلتُ: بلى. قال: «فتلك عبادتُهم»؛ أخرجه الإمام أحمد، والترمذي. اللهم بارِك لنا في الكتاب والسنة، وانفعنا بما فيهما من الآيات والحِكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم. الخطبة الثانية الحمد لله الذي بنعمته ت

29 ذو الحجة 1432 - قصر الأمل وحسن العمل - الشيخ صالح بن حميد

خطبة المسجد الحرام - 29 ذو الحجة 1432 - قصر الأمل وحسن العمل - الشيخ صالح بن حميد الخطبة الأولى الحمد لله خلقَ الليلَ والنهارَ، وقدَّرَهما مواقيتَ للأعمال ومقادير للأعمار، لا إله إلا هو جعلَ في مرورِ الأيامِ والليالي عِبَرًا لأهل هذه الدار، أحمده - سبحانه - وأشكره على عظيم آلائه والشكرُ سبيلٌ للمزيد والاستِكثار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً خالصةً مُخلِصة بصدق المُعتقَد وصحةِ الإقرار، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله النبيُّ الأُمِّي العربيُّ الهاشميُّ المُصطفى المُختار، صلَّى الله وسلَم وبارَك عليه وعلى آله السادة الأطهار، وأصحابه البَرَرَة الأخيار، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ ما تعاقبَ الليلُ والنهار، وسلَّم تسليمًا كثيرًا. أما بعد: فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله - عزَّ وجل -، فاتقوا الله - رحمكم الله -، فمن عرفَ الله أعطاه حقَّه، ومن أحبَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لزِمَ سنَّته، ومن قرأَ كتابَ الله عمِلَ به، ومن أرادَ الجنةَ عمِلَ لها، ومن خافَ النارَ هربَ منها، ومن أيقنَ بالموت استعدَّ له. يقول عليُّ - رضي الله عنه -: "اشتدَّ خوفي من اثنين: طولِ الأمل، واتِّباعِ الهوى؛ أما طولُ الأمل فيُنسِي، وأما اتِّباعُ الهوى فيصدُّ عن الحق". أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ [الجاثية: 23]. أيها المسلمون، حُجَّاج بيت الله: ها أنت تُودِّعون عامًا، وتدلِفون لاستِقبال عامٍ آخر، وذلك كلُّه من أعمالكم وأيامكم، عامًا مضى بما أودَعتُموه من عملٍ، فمن أحسنَ فليهنَأ وليحمَد الله وليزدَد، وخيرُ الزاد التقوى، ومن كان غيرَ ذلك فلا يزالُ في الأجل فُسْحة، فليستعتِب، وربُّكم يتوبُ على من تابَ. اللهم اجعل عامَنا عامَ خيرٍ وبرَكة، وأيامَنا أيامَ أمنٍ وأمان، وسلامةٍ وإسلام، اللهم وفِّقنا فيه لصالحِ العمل، وجنّبنا الفتنَ ما ظهر منها وما بطَن، واجمع اللهم كلمةَ المسلمين على الحق والهُدى والصلاح، وأعِزَّ الإسلام وأهلَه، وأذِلَّ الطغاةَ وأعداء المِلَّة. أيها الإخوة: في تقلُّب الأيام وتصرُّم الأعوام فرصةٌ وفُرَص للمُراجَعة والمُحاسَبة، فطُوبَى لمن أخذَ العِبرَة، وفاضَت منه العَبْرة، والحسرةُ لأرباب الغفلة، فلينظُر العاملُ عملَه، وأين المُؤمِّلُ وما أمَّله؟! يا معشر العباد: أين الآباء والأجداد؟! وأين المرضى والأصِحَّاء والعُوَّاد؟! أفضَوا إلى ما قدَّموا، الموعدُ يومُ المعاد، والمُلتَقى يومُ التَّنَاد، يوم يُنفَخُ في الصور، ويُنقَر في الناقُور. يا عبد الله: السعيدُ من وُعِظَ بغيره، وإذا ذُكِرَ الموتى فعُدَّ نفسكَ منهم، فخُذ من حياتك لموتك، ومن فراغك لشغلك، ومن صحَّتك لمرضك، ومن غِناك لفقرك، وإذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباحَ، وإذا أصبحتَ فلا تنتظر المساء، وكلما قصُر الأمل جادَ العمل. كم من مُستقبِلٍ يومًا لا يستكمِلُه، وكم من مُؤمِّلٍ لغدٍ لا يُدرِكه، ومن رأى أجلَه ومسيرَه أدرك حقيقةَ الأمل وغرورَه، ومن أنفع أيام المؤمن ما ظنَّ أنه لا يُدرِكُ آخِره. يا وحيدًا بعد قليلٍ في قبره، يا مُستوحِشًا بعد أُنسٍ حين انقِضاء عُمره، تجمعُ الدنيا على الدنيا لغيرك، وينساكَ من أخذَ كلَّ خيرِك، هلاَّ تزوَّدتَ لمقرِّك. فبادِروا - رحمكم الله - بالصحةِ سقمَكم، واحفَظوا أمانةَ التكليف لمن ائتَمَنكم، لا شيء أقلُّ من الدنيا، ولا شيء أعزُّ من النفس، فاقنَع بالكَفاف، وصُن نفسَكَ بالعفاف، وقِف مُتدبِّرًا في حالك؛ فالمؤمنُ وقَّاف. يا عبد الله: أفضلُ الأعمال: أداءُ ما افترضَ الله، والورعُ عمَّا حرَّم الله، وصدقُ النيَّة فيما عند الله. واعلَم أن الرضا في طاعة الله؛ فلا تحقِرنَّ من الطاعة شيئًا، والسخَط في معصية الله؛ فلا تستصغِرنَّ من المعاصي شيئًا، وأشرفُ الأوقات ما صُرِف في طاعة الله، ولا تنظُر إلى صِغَر المعصية ولكن انظُر عِظَم من عصيتَ. والنفسُ إن لم تشغَلها بطاعة الله شغَلَتك بما لا ينفعُ، والقلوبُ كالقُدور تغلي بما فيها، والألسِنةُ مغارِفُها، والذنوبُ مفسَدةُ القلوب، والقويُّ من داومَ على الطاعة، والضعيفُ من غلَبَته محارِم الله. والعملُ بضاعةُ الأقوياء، والأماني بضاعةُ الضعفاء، والتُّؤدَةُ مُستحسَنةٌ في كل شيء إلا ما كان من أمر الآخرة: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [طه: 84]. والبركةُ في أكل الحلال، والعملِ الحلال؛ فاللهُ طيبٌ لا يقبَلُ إلا طيبًا، وخزائنُه لا تنفَد فهو الرزاق ذو القوة المتين، والصدقةُ تدفعُ البلاء، وما نقصَ مالٌ من صدقة، وهل تُنصَرون وتُرزَقون إلا بضُعفائكم. والقناعةُ كنزٌ لا يفنَى، وراحةُ الجسم في قلَّة الطعام، وراحةُ النفس في قلَّة الآثام، وراحةُ القلب في قلَّة الاهتمام، وراحةُ اللسان في قلَّة الكلام، وأهلُ المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة. والمهزومُ من هزمَته نفسُه، ومن لم يرضَ بالقضاء فليس لحبِّه دواء، والعيشُ مضمون، والرزقُ مقسوم، والهموم لا تدوم. ومن أرادَ أن تدومَ له السلامةُ والعافيةُ من غير بلاءٍ فما عرفَ التكليف، ولا أدركَ التسليم، والخيرُ كلُّه في الرضا. فإن استطعتَ - يا عبد الله - أن ترضى وإلا فاصبِر، والرضا يكون بسُكون القلب تحت مجارِي الأحكام. يقول حاتم الأصمُّ: "نظرتُ في أحوال الخلق؛ فإذا الذي أحببتُ من الناس لم يُعطِني، والذي أبغضتُه لم يأخُذ مني، فقلتُ في نفسي: من أين أُتيتُ؟ فرأيتُ أني أُوتيتُ من قِبَل الحسَد، فطرحتُ الحسدَ، فأحببتُ الناسَ كلَّهم، فكلُّ شيءٍ لم أرضَه لنفسي لم أرضَه لهم". ومن عرفَ شأنَه حفِظَ لسانَه، وأعرضَ عما لا يعنيه، وكفَّ عن عِرضِ أخيه، ودامَت له سلامتُه، وقلَّت ندامتُه. والمسلمُ من سلِمَ المسلمون من لسانه ويدِه، والمؤمنُ من أمِنَه الناس، والمهاجِرُ من هجرَ ما حرَّم الله، والمُسلمُ أخو المسلم لا يظلِمُه ولا يُسلِمه ولا يخذِله ولا يحقِرُه. وأقربُ الناس من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يوم القيامة أحاسِنهم أخلاقًا، وما كان الرِّفقُ في شيءٍ إلا زانَه، وما نُزِع من شيءٍ إلا شانَه، وإن اللهَ ليُعطِي على الرِّفق ما لا يُعطي على العُنف، وصانِعُ المعروف لا يقع، وإن وقعَ وجدَ مُتَّكئًا. يا عبد الله: علِّق قلبكَ بربِّك، وخُذ بالأسباب، وليكن زادُك القناعة والصبر والشُكر والأمل مع إحسان العمل، وإحسان الظن، وإحسان النظر. وليكن زادُك الوقوف عند الحق، وعدمَ تجاوُز الحدِّ، والحرصَ على الورَع؛ طاعةً لله، ونفعًا للنفس، وقيامًا بالمسؤولية، ومن سلكَ ذلك حسُن إيمانُه، واجتمعَ عليه أمرُه، فلم يكن لوقتِه مُضيِّعًا، ولا في غير النافعِ والمُفيد مُشتغِلاً. ألا فاتقوا الله جميعًا - عباد الله -، ولا تكونوا كأصحاب نفوسٍ قسَت قلوبُها، وغلُظَت أكبادُها، وعظُم عن آيات الله حِجابُها فلا تعتبِر ولا تدَّكِر؛ فإن أقوامًا جاءَتهم آياتُ ربِّهم فكانوا منها يضحَكون، وأراهم ربُّهم آياتٍ كلُّ آيةٍ أكبرُ من أختها فكانوا عنها مُعرضين. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [لقمان: 33، 34]. نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم. الخطبة الثانية الحمد لله، الحمد لله مُوقِظ القلوبِ بالوعظ والتذكير، أحمده - سبحانه - وأشكره على خيره العَميم وفضلِه الوَفير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً مُبرَّأةً من الشرك كبيرِه والصغير، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُ الله ورسولُه البشيرُ النذير، والسراجُ المُنير، صلّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله الطيبين، وأصحابه الغُرِّ الميامين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ ومن على نهجِهم يسير، وسلَّم التسليم الكثير. أما بعد: فالإنسانُ بغير دينٍ ورقةٌ تُقلِّبُها الرياحُ، لا يستقرُّ له حال، ولا تُعرَف له وِجهة، ولا يسكُنُ له قرار: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج: 31]. الإنسانُ بغير دينٍ لا قيمةَ له ولا مكانة، قلِقٌ مُتبرِّم، مُتقلِّبٌ تائِه، لا يعرِفُ حقيقةَ نفسه، ولا حِكمةَ وجوده: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ [الأنعام: 125]. الإنسانُ بغير دينٍ حيوانٌ بهيم، وسبُعٌ ضارٍ، لا تُعلِّمُه ثقافة، ولا يردَعُه وازِع، يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ [محمد: 12]، لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف: 179]. والمُجتمع بغير دينٍ مُجتمعُ غابة، وإن بدَرَت فيه بوادِرُ حضارة، أو بدَت فيه أثَارةٌ من علمٍ، الحياةُ فيهم هي من نصيب الأشدِّ الأقوى وليس للأصلحِ والأتقى. العلومُ المُجرَّدة تدلُّ على الوسائل، ولا تقودُ إلى الغايات، وتُعطِي الأدوات ولا تُعطِي قيمًا وأهدافًا، علمٌ بظاهر الحياة الدنيا وأسبابِها، كما ذكر الله في أقوامٍ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم: 7]. إن في ظاهر الدنيا من يزدادُ ثراؤهم بازدياد عِصيانهم ومُخالفاتهم، ولقد جاء في التنزيل العزيز: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام: 44، 45]. إن من الخطَّائين من يُؤدَّبُ فيتأدَّب، ويُؤخَذ فيتراجَع، فالحِرمانُ له فِطامٌ عن الذنب، وطريقٌ إلى المثَاب. ومنهم من تتكاثرُ حولَه الدنيا كما تتكاثَرُ الأمواجُ على الغريق، فلا يزالُ يكرَعُ منها حتى يهلَك. إن أنواعَ الابتلاء وأنواع الجزاء أوسعُ

§1/1