خصائص سيد العالمين وما له من المناقب العجائب
السرمري، جمال الدين
مقدمة التحقيق
مقدمة التحقيق وفيها ثلاثة مباحث: المبحث الأول: التعريف بالكتاب , وفيه سبعة مطالب: المطلب الأول: اسم الكتاب. المطلب الثاني: توثيق نسبة الكتاب إلى المؤلف. المطلب الثالث: موضوع الكتاب , ومجمل مباحثه. المطلب الرابع: أهمية الكتاب , وقيمته العلمية. المطلب الخامس: منهج المؤلف فيه. المطلب السادس: مصادره في كتابه. المطلب السابع: تقويم الكتاب. المبحث الثاني: التعريف بالخصائص والمناقب والمعجزات. المبحث الثالث: وصف النسخ الخطية.
المبحث الأول التعريف بالكتاب
المبحث الأول التعريف بالكتاب المطلب الأول: اسم الكتاب: اختلفت النسختين والمراجع التي ذكرت الكتاب في اسم الكتاب على ثلاثة أسماء: ففي نسخة المكتبة الظاهرية , والتي رمزت لها بحرف "أ" وهي النسخة التي اعتمدتها أصلاً , ذكر الاسم هكذا: "خصائص سيد العالمين وما له من المناقب العجائب على جميع الأنبياء عليهم السلام" وقد ذَكر هذا الاسم مختصراً بذكر أوله "خصائص سيد العالمين": صلاح الدين المنجد في (معجم ما أُلف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) (¬1) , وذُكر أيضاً في (الفهرس الشامل للتراث العربي المخطوط -السيرة والمدائح النبوية-) (¬2) , وكلاهما يحكون عن نسخة الظاهرية. وفي نسخة مكتبة آستان قدس رضوي المركزية بمشهد الإيرانية , والتي رمزت لها بحرف "ب" , كتب العنوان هكذا: "الخصائص والمفاخر" وفي نسخة مكتبة برلين ذكر من وقف عليها مثل: بروكلمان في (تاريخ الأدب العربي) (¬3) , والفهرس المخطوط الموجود في مكتبة برلين والخاص بها (¬4) , أن عنوانها كتب هكذا: "الخصائص والمفاخر لمعرفة الأوائل والأواخر" وقد ذكر هذا الاسم أيضاً: الزركلي في (الأعلام) (¬5) عند ترجمته لجمال الدين السرمري , ¬
ورمز له بأنه مخطوط ولم يشر إلى مكانه. ومن خلال النظر في الأسماء الثلاثة نجد ما يلي: أما الاسم الأول "خصائص سيد العالمين وما له من المناقب العجائب على جميع الأنبياء عليهم السلام": ففيه عدة مرجحات: 1 - كتب في نسخة خطية أصلية , فقد قوبلت على نسخة المؤلف , وقُرئت عليه , وعليها قيد السماع والإجازة من الإمام جمال الدين السرمري بخط يده. 2 - أنه قد وضع في النسخة خطاً تحت قول المؤلف: "ونحن نذكر إن شاء الله ما نُقل عن كلّ نبي من المعجزات , وما ثبت لنبينا - صلى الله عليه وسلم - من الخصائص , وماله من الفضائل الفواضل , وما أُوتي من المناقب العجائب على جميع الأنبياء عليهم السلام" (¬1) , وكُتب في هامشها: "سبب تسمية الكتاب" , وإذا نظرنا في الاسم المكتوب على النسخة وما جاء في النص السابق من قول المؤلف نجد المقاربة الواضحة بينهما , وتبرز أهمية هذا الهامش عند معرفة أن النسخة مكتوبة بخط تلميذ السرمري , ومقروءة على السرمري كاملة. 3 - أنه جاء في صفحة العنوان ما يلي: خصائص سيد العالمين وما له من المناقب العجائب على جميع الأنبياء عليهم السلام , تأليف الشيخ الإمام العالم العامل الزاهد المفيد جمال الدين يوسف السرمري رضي الله عنه , آمين" , ووصف جمال الدين السرمري بـ (الإمام العالم العامل الزاهد المفيد) هو نفس الوصف الذي جاء في آخر المخطوطة بعد ختم الكتاب , فقد كتب تلميذ السرمري: "يسّر الله تعالى كَتْب هذا الكتاب الشريف من أصل المصنّف الشيخ الإمام العالم العامل الزاهد المفيد جمع الله تعالى له ولأولاده وأهل بيته سعادات الدور الثلاثة دار الدنيا ودار البرزخ ودار القرار ورضي عنه وعن والديه. آمين , بيد العبد المستعيذ بعفو الله الكريم من عقابه محمد بن عبدالله بن محمد بن عبدالله أعاذهم الله تعالى من عذاب القبر وعذاب النار. آمين , في شهر جمادى الأولى من سنة سبعين وسبعمائة ¬
المطلب الثاني: توثيق نسبة الكتاب إلى المؤلف
بدمشق المحروسة" (¬1) , كما أن الدعاء بـ (رضي الله عنه) مشعرٌ في الغالب بأنه مكتوب في حياة المؤلف , وهذا المرجح غير قطعي وإنما هو مما يستأنس به. أما الاسم الثاني "الخصائص والمفاخر": فقد كتب في نسخة خطية فرعية , نُسخت سنة 891 , أي بعد وفاة المؤلف , وهي مقابلة على منتسخ أصل المؤلف. أما الاسم الثالث "الخصائص والمفاخر لمعرفة الأوائل والأواخر": فهو مسجوع , والإمام جمال الدين السرمري كثيراً ما يجنح عند تسمية مؤلفاته إلى تلك الأسماء المشتملة على سجع , فهو الذي سمى تلك الكتب بهذه الأسماء: (إحكام الذريعة إلى أحكام الشريعة) , (الأربعون الصحيحة فيما دون أجر المنيحة) , (الأرجوزة الجلية في الفرائض الحنبلية) , (الإفادات المنظومة في العبادات المختومة) , (الحمية الإسلامية في الانتصار لمذهب ابن تيمية) , (رفع الباس في حياة الخضر وإلياس) , (شفاء الآلام في طب أهل الإسلام) ... وهكذا. وعند الترجيح بين الأسماء الثلاثة نجد أن أقواها في النظر هو الاسم الأول "خصائص سيد العالمين وما له من المناقب العجائب على جميع الأنبياء عليهم السلام" لأن نسخته أصلية , وأما الثاني: فنسخته فرعية , وأما الثالث: فهو وإن كان الذوق يميل إليه إلا أن جهالة نسخته يضعفه , {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ} [يوسف: من الآية 81]. المطلب الثاني: توثيق نسبة الكتاب إلى المؤلف: لا أشك أن كتاب "خصائص سيد العالمين وماله من المناقب العجائب على جميع الأنبياء عليهم السلام" من مؤلفات جمال الدين السرمري رحمه الله , وذلك للأسباب التالية: 1 - قيد السماعات على الإمام جمال الدين السرمري وإجازته في نهاية النسخة الأصلية , والتي صُرِّح فيها بنسبة الكتاب للسرمري رحمه الله. ¬
المطلب الثالث: موضوع الكتاب , ومجمل مباحثه
2 - كتب جمال الدين السرمري في ختم النسخة الأصلية بخط يده بعد تصحيحه للسماع والإجازة: "وكتب يوسف السرمري المصنف عفا الله عنه". 3 - نقل عنه وعزا إليه ابن حجر الهيتمي في كتابه (المنح المكية) فقال: "وذكر الحافظ السرمري الحنبلي تلميذ ابن القيم ذلك -يقصد إلانة الحجارة لنبينا - صلى الله عليه وسلم - في (خصائصه) فقال: وأما إلانة الحديد لداود - عليه السلام - ... " (¬1). 4 - أشار المؤلف في [ق 2/أ] إلى شيخه ابن الخباز بقوله "كما أخبرنا الشيخ أبو عبدالله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم الأنصاري" , وابن الخباز ولد سنة 667 وتوفي سنة 756 (¬2) , والإمام جمال الدين السرمري ولد سنة 696 وتوفي سنة 676 , وقد تقدم في ترجمة إبراهيم بن جمال الدين السرمري أنه أُسمع على ابن الخباز وهو دون السادسة من عمره , وهذا يدل على أن الكتاب أُلِّف في عصر جمال الدين السرمري. المطلب الثالث: موضوع الكتاب , ومجمل مباحثه: قد أوضح جمال الدين السرمري موضوع الكتاب فقال: "وموضوع هذا الكتاب أنه لم يكن لنبي من الأنبياء معجزة أو فضيلة إلا ولمحمد - صلى الله عليه وسلم - من جنسها ما هو أكمل منها أو مثلها , وأنه اختص بأشياء لم يشركه فيها غيره كما قد ذكرناه في أماكنه والله يختص بفضله من يشاء والله ذو الفضل العظيم" (¬3) , وقال أيضاً في مقدمته: "ونحن نذكر إن شاء الله تعالى مانُقل عن كل نبيّ من المعجزات وماثبت لنبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - من الخصائص وماله من الفضائل الفواضل وما أُوتي من المناقب العجائب على جميع الأنبياء عليهم السلام" (¬4) , فموضوعها: معجزات الأنبياء ¬
عليهم السلام التي ثبت لنبينا - صلى الله عليه وسلم - أفضل منها , وما اختص به من المعجزات والمزايا الكريمة مما فاق به على غيره. أما مجمل مباحث الكتاب , فهي كالتالي: بدأه بمقدمة في فضل النبي - صلى الله عليه وسلم -. ثم كتب فصلاً: تحدث فيه عن موضوع الكتاب. ثم كتب فصلاً: فاضل فيه بين ما أوتي أول أولي العزم من الرسل وهو نوح - عليه السلام - وبين ما أوتي نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - , وبيَّن أوجه فضله - صلى الله عليه وسلم -. ثم كتب فصلاً: فاضل فيه بين ما أوتي ثاني أولي العزم وهو إبراهيم - عليه السلام - وبين ما أوتي نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - , وبين أوجه فضله - صلى الله عليه وسلم -. ثم عقد مبحثاً في المفاضلة بين إتمام إبراهيم - عليه السلام - لما ابتلاه الله به من كلمات وبين إتمام نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - لهن. ثم كتب فصلاً: فاضل فيه بين ما أوتي ثالث أولي العزم وهو موسى - عليه السلام - وبين ما أوتي نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - , وبين أوجه فضله - صلى الله عليه وسلم -. ثم كتب فصلاً: فاضل فيه بين ما أوتي رابع أولي العزم وهو عيسى - عليه السلام - وبين ما أوتي نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - , وبين أوجه فضله - صلى الله عليه وسلم -. ثم كتب فصلاً: فاضل فيه بين ما أوتي إدريس وهود عليهما السلام وبين ما أوتي نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - , وبين أوجه فضله - صلى الله عليه وسلم -. ثم كتب فصلاً: فاضل فيه بين ما أوتي صالح - عليه السلام - من معجزة إخراج الناقة وبين ما أوتي نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - من جنسها ما هو أعجب منها , وبين أوجه فضله - صلى الله عليه وسلم -. ثم كتب فصلاً: فاضل فيه بين ما أوتي يوشع بن نون - عليه السلام - من معجزة حبس الشمس وبين ما أوتي نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - من هذا الجنس ما هو أعظم , وبين أوجه فضله - صلى الله عليه وسلم -. ثم كتب فصلاً: فاضل فيه بين ما أوتي داود - عليه السلام - وبين ما أوتي نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - , وبين
أوجه فضله - صلى الله عليه وسلم -. ثم كتب فصلاً: فاضل فيه بين ما أوتي سليمان - عليه السلام - وبين ما أوتي نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - , وبين أوجه فضله - صلى الله عليه وسلم -. ثم كتب فصلاً: فاضل فيه بين ما أوتي يعقوب - عليه السلام - وبين ما أوتي نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - , وبين أوجه فضله - صلى الله عليه وسلم -. ثم كتب فصلاً: فاضل فيه بين ما أوتي يوسف - عليه السلام - وبين ما أوتي نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - , وبين أوجه فضله - صلى الله عليه وسلم -. ثم كتب فصلاً: فاضل فيه بين ما أوتي يحيى - عليه السلام - وبين ما أوتي نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - , وبين أوجه فضله - صلى الله عليه وسلم -. ثم كتب فصلاً: نبَّه فيه عن أن المقصود من هذا التفضيل ليس التنقص من المفضول , بل كل الأنبياء كان عند الله وجيهاً , وكان كل منهم نبيّاً نبيهاً صلى الله عليهم وبارك وسلم , وأجاب عن قوله - صلى الله عليه وسلم - «لا تفضّلوني على يونس بن متى» وقوله: «لا تفضّلوا بين أنبياء الله». ثم كتب فصلاً: أورد فيه فضله - صلى الله عليه وسلم - على سائر الأنبياء عموماً. ثم كتب فصلاً: ذكر فيه خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم - التي اختص بها دون غيره من واجبات ومحظورات ومباحات وتكرُّمات. ثم كتب فصلاً: ذكر فيه خصيصة النبي - صلى الله عليه وسلم - في فضل الصلاة عليه. ثم كتب فصلاً: سرد فيه جملة من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم -. ثم كتب فصلاً: ذكر فيه خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم - في ميلاده. ثم كتب فصلاً: سرد فيه جملة من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم -. ثم كتب فصلاً: ذكر فيه خصيصة النبي - صلى الله عليه وسلم - في طيب ريحه. ثم كتب فصلاً: سرد فيه جملة من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم -. ثم كتب فصلاً: ذكر خصيصة النبي - صلى الله عليه وسلم - في أسمائه.
المطلب الرابع: أهمية الكتاب , وقيمته العلمية
ثم كتب فصلاً: سرد جملة من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم -. ثم كتب فصلاً: ذكر فيه خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم - في صفاته الخَلقية والخُلقية. ثم كتب فصلاً: ذكر فيه خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم - في ليلة الإسراء به. ثم كتب فصلاً: ذكر فيه الحكمة من ابتداء الخبر بالإسراء قبل المعراج. ثم كتب فصلاً: ذكر فيه الفوائد في حديث الإسراء والمعراج. ثم كتب فصلاً: ذكر فيه الخلاف في مسألة رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة المعراج. ثم كتب فصلاً جامعاً لمقاصد الكتاب. ثم كتب فصلاً: ذكر فيه ما خص الله به النبي - صلى الله عليه وسلم - في وفاته. ثم كتب فصلاً: ذكر فيه ما خص الله به نبيه - صلى الله عليه وسلم - في الآخرة. ثم كتب فصلاً: ذكر فيه منهجه في هذا الكتاب في إيراد الأحاديث الضعيفة. ثم كتب فصلاً لطيفاً في ذكر الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وفضلها. ثم كتب فصلاً: ذكر فيه خصيصة النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذكر اسمه والصلاة عليه. ثم كتب فصلاً: ذكر فيه فضل النبي - صلى الله عليه وسلم - على غيره في الأجر. ثم ذكر فصلاً خاتماً لمباحث لكتاب. المطلب الرابع: أهمية الكتاب , وقيمته العلمية: مما يبين أهمية هذا الكتاب وقيمته العلمية ما يلي: - أن في الكتاب إضافة علمية فريدة , فلم أقف على من صنف في فضل النبي - صلى الله عليه وسلم - على الأنبياء عليهم السلام كتاباً مستقلاً على غيره , وإنما عامة الكتب في هذا الباب إما في الدلائل على نبوته - صلى الله عليه وسلم - وإما في الخصائص وإما في السيرة , أما هذا الكتاب فقد جمع السرمري فيه ما اشترك فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - مع غيره في المعجزات وبيَّن أوجه فضله - صلى الله عليه وسلم - , وبين ما اختص به من الفضائل دون غيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
- حسن التقسيم ودقيق الاستنباط من المؤلف -رحمه الله- , فقد جعل لكل نبي فصلاً يذكر فيه ما أوتي من المعجزات ثم يورد نظائر هذه المعجزات التي وقعت لنبينا - صلى الله عليه وسلم - أو الكرامات للصالحين من أمته ثم يوازن بينهما ويستنبط فضله - صلى الله عليه وسلم -. - إيراد المؤلف لجملة من المسائل المشكلة والجواب عنها , مثال ذلك قال رحمه الله: "فإن قيل: في قوله تعالى: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: من الآية 26] وأن الله سبحانه استجاب له فأغرق الأرض ومَن عليها دليل على أن نوحاً عليه الصلاة والسلام كان مُرسلاً إلى جميع أهل الأرض فكيف يقال: بأن محمداً - صلى الله عليه وسلم - وحده أُرسِل إلى الناس كافةً , فالجواب ... " (¬1) , والكتاب مملوء بـ (فإن قيل/الجواب). - لم يقتصر المؤلف -رحمه الله- في كتابه على سرد الأحاديث والآثار وإنما كان له شرح وبيان في كثير من المواضع , والكتاب فيه تحقيق كبير , فمن ذلك ما ذكره في الرواية التي جاء فيها أن إدريس - عليه السلام - قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - في ليلة الإسراء والمعراج «مرحباً بالأخ الصالح»: "وكذلك إدريس أنه قال: «مرحباً بالأخ الصالح» قد يكون غلطاً من الراوي لأنه أب بلا شك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذرّية نوح ونوح من ذرية إدريس قاله شيخ الإسلام ابن تيمية قال: ولا يتنبّه لمثل هذا إلا النحرير؛ قلت: وقد وقع لي في هذا محمل لا بأسَ به يُقرُّ الروايةَ الصحيحة على ماهي علَيه ويبين عذر إدريس إذ لم يقل: والابن الصالح , وذلك أن ما ظهر من عظم شأن محمد - صلى الله عليه وسلم - في هذا المقام أجل من منزلة الأبوة فكيف بمنزلة البنوة فلم يتهجّم لما رأى من علوّ الرتبة أن يجعل نفسه أباً له فيكون أرفع منه ولا سيما ولم يَذكرُ له جبريل ما ذكر لآدم ولإبراهيم من قوله: «هذا أبوك آدم فسلم عليه» , «هذا أبوك إبراهيم فسلّم عليه» , فإنه لما أنَّسَ آدم بأن قال لمحمد: «هذا أبوك آدم فسلم عليه» حَسُن أن يقول له آدم: «مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح» وكذلك لما قال له: «هذا أبوك إبراهيم فسلّم عليه» حَسُن أن يقول له إبراهيم: «مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح» فأما إدريس فقال له عنه: «هذا إدريس فسلم عليه» ولم ¬
يقل له: هذا أبوك إدريس , فلم يحسن التهجم عليه بمزيّة الأبوة مع ما هنالك من علوِّ الدَّرجة وعظيم المنزلة وما أكرم به من القرب , فلم يجد إدريس ما يُمِتُّ به مِمّا لا عَتبَ فيه إلا الأخوّة في النبوة التي رُفع بها مكاناً علياً فقال ما يناسِبُ حالَه: «مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح» , وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الأنبياء إخوة أولاد علّاتٍ دينهم واحد وأمهاتهم شتى» على أن الله تعالى قال: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران: 33 - 34] فبعض الأنبياء من نسل بعض وقد سماهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إخوةً , فيكون قول إدريس «الأخ الصالح» من هذا القبيل , ولا يَضُرّ قول إدريس بالأخ الصالح , فالأخوّة في الدين والنبوة صادقة عليهما , كما أن النبوة والأخوّة صادقة عليه وعلى إبراهيم عليهما الصلاة والسلام , وكما لم يَضُرّ سارة عليها السلام حين أوصاها إبراهيم - عليه السلام - أن تقول للجبّار الذي دَعاها أن تقول: «إنه أخي» , وهي زوجته فالأخوّة صادقة عليهما بالإيمان كما قال إبراهيم: فإني لا أعلم على وجه الأرض مؤمناً غيري وغيرك , لكن قصّة سارة كانت من باب المعاريض وقصّة إدريس من باب الأدب والله أعلم , إذ كان ذلك المقام لا يقتضي غيره لما رأى من عظم العناية الإلهيّة والوِلاية الربانية وهذا تأويل لا بأسَ به إن شاء الله تعالى , وإن جعلنا رَدّ السلام والترحيب بلفظ الأخوّة والخلافة من خزنة السموات لم يبق إشكال فإن في سياق حديث الثعلبي أن كل باب يُفتح لهم يقال له: «حياه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء» لكن الروايات الأخرى لا تساعد على هذا المعنى وكذلك يَردُ قولُ آدم وإبراهيم: «مرحباً بالابن الصالح» والله تعالى أعلم؛ وفي هذا السياق لطيفة أخرى: وهي قول خَزَنة أبواب السموات: «حياه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة» فإنه مشعر بالاعتذار عن قولهم حين قال الله: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: من الآية 30] ... " (¬1). ¬
المطلب الخامس: منهج المؤلف فيه
وإن القارئ للمخطوطة ليشعر من صفحاتها الأولى بعظيم قدرها , فقد جمع فيها بين الرواية والدراية , كيف لا يكون وهو من أهل الحديث؟ كما أن موضوعها مهم في زمن كثر المخالفون فيه من أهل الديانات الباطلة والمنسوخة الطاعنون في الرسالة وفي القرآن بل وفي كل الشريعة والدين , وإن معرفة فضائله - صلى الله عليه وسلم - وما أيده الله من الآيات وخوارق العادات من الأمور العظيمة التي تطمئن بها النفوس وتركن بها القلوب إلى تقبل ما جاء به وتطبيقه والسير على منهجه - صلى الله عليه وسلم -. المطلب الخامس: منهج المؤلف فيه: تقدم في القسم الأول من البحث الكلام على منهج السرمري عموماً في كتبه -ومنها كتابه خصائص سيد العالمين- , فلذلك سأذكر هنا نقاط المنهج الخاصة في هذا الكتاب بإيجاز. 1 - الاعتماد على كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وآثار الصحابة في الاستدلال: وهذا كثير في هذا الكتاب , وإذا كان هذا منهج كثير من علماء المسلمين , فإن جمال الدين السرمري قد تميز في ذلك. 2 - طول النفس: لقد اتسم منهج جمال الدين السرمري في هذا الكتاب بطول النفس , وحسبك أن تقرأ فصل خصائصه - صلى الله عليه وسلم - في ليلة الإسراء فقد سرد الروايات المطولة في ذلك. 3 - السعة والشمول: إن ظاهرة السعة والشمول في معالجته لكل قضية طرقها من قضايا الكتاب الأساسية معالجة شاملة بحيث لا يدع شاردة ولا واردة إلا ذكرها. 4 - المناقشة والتحليل: وهذا يظهر جلياً في موزانته بين ما أوتي الأنبياء وبين ما أوتي نبيه - صلى الله عليه وسلم - , وأوجه فضله - صلى الله عليه وسلم - , والكتاب مملوء بـ (فإن قيل/الجواب). 5 - الأمانة في النقل: كان جمال الدين السرمري أميناً في نقله , فهو كثيراً ما يذكر اسم الكتاب والمؤلف فيقول: قال فلان في كتابه كذا , وأحياناً يصرح باسم المؤلف فقط.
المطلب السادس: مصادره في الكتاب
6 - الأسلوب الأدبي: تميز أسلوب جمال الدين السرمري بالبيان , والجاذبية , وحسن الصياغة , والعرض , والإكثار من المحسنات الأدبية , كالاقتباس , والتضمين , والسجع .. وغيرها مع قوة المعنى وعمق الفكرة , كيف لا وهو إمام في اللغة؟ . المطلب السادس: مصادره في الكتاب: لقد نقل جمال الدين السرمري عن كثير من كتب الصحاح والسنن والمسانيد وغيرها من كتب السير وكتب العلم كما سيأتي ذكرها في فهرس المصادر والمراجع -إن شاء الله- , وسأورد هنا ما صرح فيه جمال الدين السرمري بذكر اسم الكتاب والمؤلف , أو باسم المؤلف فقط , أو باسم الكتاب فقط ونقل عنه , أو أحال على الكتاب ولم ينقل منه , وذلك عدا كتب الصحاح والمسانيد المشهورة. 1 - كان من أكثر الكتب التي رجع إليها جمال الدين السرمري في هذا الكتاب (دلائل النبوة) لأبي نعيم الأصبهاني. (انظر: ص 368 , ص 370 , ص 409 , ص 412 , ص 413 , ص 414 , ص 442 , ص 448 , ص 457). 2 - الكشف والبيان , لأبي إسحاق الثعلبي. (انظر: ص 541 - 559). 3 - الفوائد , لأبي القاسم تمام بن محمد. (انظر: ص 514). 4 - المقام المحمود , لأبي بكر المروذي. (انظر: ص 518). 5 - الوفا بأحوال المصطفى, لأبي الفرج ابن الجوزي. (انظر: ص 502 , ص 509 , ص 515). 6 - شفاء السول في أعلام نبوة الرسول وخصائصه , لابن سبع. (انظر: ص 580 , ص 586). 7 - عيون الحكايات لابن الجوزي. (انظر: ص 487). 8 - الاستيعاب في معرفة الأصحاب , لابن عبدالبر. (انظر: ص 449).
المطلب السابع: تقويم الكتاب
9 - كتاب الشريعة , للإمام أبي بكر الآجري. (انظر: ص 580). المطلب السابع: تقويم الكتاب: إذا كان كل إنسان يؤخذ من كلامه ويرد إلا محمد بن عبدالله - صلى الله عليه وسلم - , فإن المصنف مع إمامته وسعة علمه وطول باعه لم يخل كتابه هذا من بعض ما يخالف فيه الأولى مما قد يعرض لأي عالم أو باحث , فلذا لا يأخذني الإعجاب بالمصنف رحمه الله فأثبت له كل حسن وأنفي عنه كل ما يخالف ذلك رغم قصر باعي وقلة اطلاعي , وقديماً قيل: ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها ... كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه فمما خالف فيه الأولى ما يلي: 1 - ذكره لمسائل معتمدها أحاديث موضوعة: وهو وإن كان قد نبه في آخر الكتاب على منهجه في ذكر الأحاديث الضعيفة بقوله: "كلما في هذا الكتاب من حديث فيه ضعف أو وهن فالعمدة إنما هي على ما ثبت من جنسه من آيةٍ أو خبر , وإنما ذكرناه لما عساه يكون فيه من فائدة إما توضيح معنى أو زيادة بيان كما يذكره أهل الحديث من الشواهد والمُتابَعات , أو كما يقول الفقهاء في مثله: هذا سند الدليل" , إلا أن هذه الأغراض التي ذكرها لا تدخل في الأحاديث المكذوبة على النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ ومن أمثلة هذه المسائل: تولد النور من عرقه - صلى الله عليه وسلم - (¬1) , وكسوة نور وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - من نور العرش (¬2) , وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا ظل له (¬3)؛ وهي قليلة -والحمد لله- موازنة بين مجمل مسائل الكتاب؛ إضافة إلى أن ذكر الأحاديث الموضوعة لم تكن منهجاً للسرمري في الكتاب, يدل على ذلك تعليقه على حديث قتال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - للجنّ بقوله: "وإن صح حديث قتال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - للجنّ في بئر ذات العلم كان غاية في هذا ¬
الموضع, وقد رواه من الحفاظ أبو الفضل ابن ناصر شيخ ابن الجوزي ولكن ردّه غيره وقالوا الحديث فيه موضوع فالله أعلم" (¬1) , ويدل عليه أيضاً نقده لكتاب الخصائص لابن سبع بقوله: " وفي الحديث طُولٌ ذكَره أبو الربيع سليمان بن سبع السبتي في كتاب الخصائص له والله أعلم بحال هذا الحديث , وفي كتابه هذا أحاديث فيها ما فيها" (¬2). 2 - إكثاره من رواية الأحاديث بالمعنى: هذا وإن كان جائزاً من عالمٍ وعارف بما يحيل من المعاني كالسرمري رحمه الله , إلا أنه لا خلاف بين أهل العلم أن رواية الحديث بلفظه المسموع منه - صلى الله عليه وسلم - هو الأصل الذي ينبغي لكل راوٍ وناقل أن يلتزمه ما استطاع إلى ذلك سبيلاً. 3 - وقوع بعض الأوهام في الكتاب: وهي قليلة -والحمد لله- , فمن ذلك ما ذكره في قصة العلاء بن الحضرمي وأن الراوي لها (منجاب) , والصواب أن الراوي لها هو ابنه (سهم بن منجاب)؛ ومن ذلك أيضاً: ما ذكره في قصة فتح كسرى وأنه صاحب الأقباض هو (قيس بن سعد - رضي الله عنه -) , والصواب أنه (عامر بن عبدقيس -التابعي-). ولكن مع هذا ففي الكتاب إضافة علمية كبيرة , فهو فريد في بابه كما تقدم , كما قد جمع فيه فضائل للنبي - صلى الله عليه وسلم - كثيرة من معجزاته وما آتاه الله تعالى من الكرامات والمزايا الكريمة والعطايا العظيمة مالم تجمع في غيره؛ بل الكتاب فيه فوائد مستنبطة من السرمري نفسه لا توجد في غيره , وقد سبق بيانها في أهمية الكتاب وقيمته العليمة. ¬
المبحث الثاني التعريف بالخصائص والمناقب والمعجزات
المبحث الثاني التعريف بالخصائص والمناقب والمعجزات المطلب الأول: التعريف بالخصائص: الخصائص لغة: قال صاحب القاموس: خصه بالشيء خصاً وخصوصاً وخصوصية: فضَّله (¬1). وقال ابن منظور: خصّه بالشيء يخُصّه خَصّاً وخُصوصاً وخَصوصيّة وخُصوصيّة والفتح أفصح: أفرده به دون غيره (¬2). وفي المعجم الوسيط: "الخصيصة: الصفة التي تميز الشيء وتحدده , والجمع: خصائص" (¬3). فمن التعريفات اللغوية السابقة يُستنتج أن معنى الخَصِيْصة يدور على الآتي: 1 - الفضل ... 2 - الانفراد 3 - التميز. الخصائص اصطلاحاً: هي الفضائل والأمور التي انفرد بها النبي - صلى الله عليه وسلم - وامتاز بها إما عن إخوانه الأنبياء وإما عن سائر البشر (¬4). المطلب الثاني: التعريف بالمناقب: المناقب لغة: قال ابن فارس: "النون والقاف والباء أصل صحيح يدل على فتح في ¬
المطلب الثالث: التعريف بالمعجزات
شيء ... والمنقبة: الفعلة الكريمة , وقياسها صحيح , لأنها شيء حسن قد شُهر , كأنه نُقِّب عنه" (¬1). وقال الزبيدي: المنقبة: المفخرة , وهي ضد المثلبة , وفي اللسان: كرم الفعل , وجمعها المناقب , يقال: في فلان مناقب جميلة: أي أخلاق حسنة (¬2). أما تعريفها في الاصطلاح: هي المفاخر التي اشترك في جنسها النبي - صلى الله عليه وسلم - مع إخوانه من الأنبياء عليهم السلام. وقد أشار الإمام جمال الدين السرمري إلى هذا المعنى في مقدمته فقال: "اعلم أن التفضيل إنما يكون إذا ثبت للفاضل من الخصائص ما لايوجد للمفضول مثلُه , فإذا استويا في أسباب الفضل وانفرد أحدهما بخصائص لم يَشْرَكْه فيها الآخر كان أفضل منه , وأمَّا ماكان مشتركاً بين الرجل وغيره من المحاسن فتلك مناقب وفضائل ومآثر لكن لاتُوجب تفضيله على غيره إذا كانت مشتركة ليست من خصائصه , وإذا اتَّحَدت الفضيلتان فكانتا من جنسٍ واحد لكن كانت إحداهما أكمل من الأخرى وأعظم أو أعجب أو أبلغ فلا ريب أنَّ صاحب ذلك أفضل في ذلك" (¬3). المطلب الثالث: التعريف بالمعجزات: المعجزة لغة: أصلها من (عجز) , قال ابن فارس: "العين والجيم والزاء أصلان صحيحان , يدل أحدهما على الضعف , والآخر على مؤخر الشيء؛ فالأول عجز عن الشيء يعجز عجزاً فهو عاجز: أي ضعيف ... ويقال: أعجزني فلان , إذا عجزت عن طلبه وإدراكه" (¬4). ¬
وقال الفيروزآبادي: "العَجْز والمَعْجِز والمَعْجِزَة وتفتح جيمهما والعَجَزان محركة والعُجُوزُ بالضم: الضعف ... ومعجزة النبي: ما أعجز به الخصم عند التحدي والهاء للمبالغة" (¬1). أما تعريفها في الاصطلاح: قال الباحث: "آية الله الخارقة الدالة على النبوة الصادقة". وعلى هذا التعريف تدخل حتى خوارق الأولياء في المعجزة , لكونها تدل على نبوة من اتبعه الولي , وعلى هذا جرى الأئمة المتقدمين كالإمام أحمد وغيره (¬2) , وهو ما صرح به الإمام جمال الدين السرمري بقوله: "كل كرامة لوليّ من أمّة من الأمم هي مضافة إلى معجزاتِ مَتبوعِهِ من الأنبياء كما أشرنا إليه , فإن الكرامات لا تحصل إلا بمتابعة الرسل صلى الله عليهم وسلم , وتصديقهم , والتزام طريقتهم" (¬3). ¬
المبحث الثالث وصف النسخ الخطية
المبحث الثالث وصف النسخ الخطية يوجد للكتاب ثلاث نسخ خطية: النسخة الأولى: وهي نسخة أصلية توجد في المكتبة الظاهرية برقم [9452] وعنها نسخة مصورة في مركز الملك فيصل برقم [24284] وأخرى في مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث برقم [238892] وأخرى في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية برقم [1056] , وقد رمزت لها بالحرف "أ". - تحوي 92 لوحة , في كل لوحة 19 سطراً , متوسط مافي كل سطر 16 كلمة. - النسخة قديمة وقيمة. -فيها آثار رطوبة رممت أطراف أوراقها الأولى. -خرم أسفل الورقة 29. - مكتوبة بخط واضح. - تأريخ نسخها: في جمادى الأولى سنة 770 في حياة المؤلف. -منسوخة عن أصل المصنف. - جاء في نهاية الكتاب ما يلي: "يسّر الله تعالى كَتْب هذا الكتاب الشريف من أصل المصنّف الشيخ الإمام العالم العامل الزاهد المفيد جمع الله تعالى له ولأولاده وأهل بيته سعادات الدور الثلاثة دار الدنيا ودار البرزخ ودار القرار ورضي عنه وعن والديه. آمين , بيد العبد المستعيذ بعفو الله الكريم من عقابه محمد بن عبدالله بن محمد بن عبدالله أعاذهم الله تعالى من عذاب القبر وعذاب النار. آمين , في شهر جمادى الأولى من سنة سبعين وسبعمائة بدمشق المحروسة , والحمد لله المنعم المتفضّل الذي بنعمته تتم الصالحات وأفضل الصلوات والسلام
وأكمل الرحمة والبركات على محمّد المصطفى المبعوث بأعظم المعجزات المنعوت بأكرم صفات البريات الذي شهدت بصدق دعوته العجماوات والجمادات ربّ اجعل أهواءنا تابعة لما جاء به رسولك محمّد سيد ولد آدم أطهر أطهار العالم صلى الله عليه وبارك وسلم والحمد لله رب العالمين". -كتب جمال الدين السرمري بخطه في آخرها ما يلي: "السماع والإجازة صحيحان , وكتب يوسف السرمري المصنف عفا الله عنه". سماع النسخة "أ": "الحمد لله قرأت هذا الكتاب الشريف الذي هو بالحقيقة بحار فوائد على مؤلّفه شيخنا الإمام العالم العامل الزّاهد المفيد العلامة المحقق أحد دعاة السنة النقية البيضاء جامع أنواع من المعالي والفضائل والكمالات الفائقة ذي التصنيفات الشريفة النافعة باسط بساط الإفادة جمال الدين يوسف بن محمد بن مسعود بن محمد بن علي السرّمرّي جزاه الله تعالى خيراً ورضي عنه وعن والديه ولا حرمنا من بركات أنفاسه الشريفة آمين في مجالس آخرها يوم الخميس العاشر من جمادى الأولى سنة سبعين وسبعمائة الهلاليّة وسمع الشيخ عماد الدين على بن إبراهيم بن علي بن عثمان المشهدي الفستجاني بقراءتي من أول الكتاب إلى قوله: (فصل وأما دواد - عليه السلام -) ثم سمع من قوله: (فصل ومن خصائصه الكبار ما قدمنا الإشارة إليه في ليلة الإسراء ... ) إلى آخر الكتاب؛ وسمع الفاضل شمس الدين محمد بن نور النيرين أبي بكر بن محمد بن علي المهرجاني البيابانكي الهروي من قوله: (وأما يوسف الصديق الكريم - عليه السلام - الموصوف بالحسن والجمال والعلم والعقل والأفضال ... ) إلى آخر الكتاب , وأجاز المؤلف المذكور مد الله تعالى ظلال بركاته للقارئ المذكور والسامعين رواية ماله روايته بشرطه المعتبر عند أهل الحديث والحمد لله وحده وصلّى الله وسلم وبارك على محمد المصطفى الأعظم الرسول الأحلم الأكرم النبيّ الأعلم سيّد ولد آدم أطهر أطهار العالم؛ والقراءة المذكورة بمنزل المسمع بمدرسة شرف الإسلام بدمشق المحروسة وهذا خطّ المشّرف بقراءة الكتاب المستعيذ بعفو الله تعالى من عقابه محمد بن
النسخة الثانية
عبدالله بن محمد بن عبدالله الإيجي غفر الله تعالى لهم ولمن استغفر لهم مغفرة ظاهرة وباطنة لا تغادر ذنباً. آمين." ثم كتب جمالُ الدين السرمري بخطه بعد السماع: "السماع والإجازة صحيحان وكتبَ يوسُف السُرمري المصنف عفا الله عنه". النسخة الثانية: وهي نسخة توجد في مكتبة آستان قدس رضوي المركزية بمشهد الإيرانية برقم [2009] وعنها نسخة في مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث برقم [310433] , وقد رمزت لها بالحرف "ب". - تحوي 75 لوحة , في كل لوحة 27 سطراً , متوسط مافي كل سطر 13 كلمة. - تأريخ نسخها: في منتصف صفر سنة 891. -منسوخة عن منتسخ أصل المصنف. - جاء في نهاية الكتاب ما يلي: "يسّر الله تعالى كَتْب هذا الكتاب الشريف من منتسخ أصل المصنفِ الشيخِ الإمام العالم العامل الزاهد المفيد جمع الله تعالى له ولأولاده ولأهل بيته سعادات الدورِ الثلاثة دارِ الدنيا ودار البروج ودار القرار ورضي عنه وعن والديه آمين بيد الفقير المستعيذ بعفو الله الكريم العليّ موسى بن هارون بن موسى العمري الجيابي أعاذهم الله تعالى من عذاب القبر وعذاب النار. آمين , في منتصف شهر صفر من سنة إحدى وتسعين وثمانمائة الهجرية المصطفوية والحمد لله المنعم المتفضّل الذي بنعمته تتم الصالحات وأفضل الصلاة والسلام وأكمل الرحمة والبركات على محمد المصطفى المبعوث بأعظم المعجزات المنعوت بأكرم صفات البريات الذي شهدَتْ بصدق دعوته العجماوات والجمادات رب اجعل أهواءنا تابعة لما جاء به رسولك محمدٌ سيد ولد آدم أظهَرُ أطهار العالَم صلى الله عليه وبارك وسلّم والحمد لله رب العالمين. تمت".
النسخة الثالثة
النسخة الثالثة: وهي نسخة توجد في مكتبة برلين برقم [oct.1444] , وقد ذكرها بروكلمان في (تاريخ الأدب العربي) (¬1). وقد حاولت جاهداً الحصول على هذه النسخة , فراسلت ابتداءاً مكتبة برلين عن طريق مركز الملك فيصل فأجابوا بخطاب اعتذار عن التصوير , وعللوا اعتذارهم بأن (حالة المخطوطة الصحية لا يسمح بتصويرها) , ثم راسلتهم مرة ثانية أسألهم فيها: هل يمكنني رؤية المخطوطة فقط وليس تصويرها عند قدومي برلين؟ , لكن لم أجد إجابة , فكررت المراسلة مرات عدة ولم أجد إجابة , فلم أجد بدًا غير السفر إلى برلين علّي أن أجد إجابة سؤالي الملح: هل نسخة برلين صورة عن إحدى النسختين السابقتين أم نسخة ثالثة؟ فلما قدمت إلى المكتبة أوضح لي العاملون في قسم المخطوطات في مكتبة برلين أن حالة الكتاب لا يمكن معه التصوير , فأوراقه معتفسة جداً , فطلبت منهم الرؤية فقط , فأمهلوني ريثما يأت الموظف المختص بالمخطوطات العربية , فطلبت منهم وصف هذه النسخة الموجود في فهرس المكتبة , فأعطوني وصفها من الفهرس الموجود في حاسب المكتبة , ولم يكن فيه أي معلومة جديدة سوى أن عدد أوراقها (72) , ثم لما حضر بعد أيام الموظف المختص بالمخطوطات العربية وهو (Christoph Rauch) اعتذر عن السماح بالرؤية ولم يوضح لي سبب اعتذاره عن الرؤية , فطلبت منه وصف هذه النسخة , فدخل وأحضر لي فهرساً مخطوطاً خاصاً بالمكتبة وفيه وصف النسخة , قد كُتب فيه: اسمها (الخصائص والمفاخر لمعرفة الأوائل والأواخر) , واسم المؤلف (جمال الدين السرمري) , ووفاته (736) (¬2) , وأن النسخة (كُتبت في حياة المؤلف) , وأن عدد أوراقها (134) , وأن بروكلمان ترجم له في تاريخ الأدب العربي ص 204 (¬3). ¬
وقد مكثت في برلين ما يقارب الخمسة عشر يوماً (¬1) , أتردد فيها على المكتبة محاولاً الإذن برؤية المخطوطة , لكن كل محاولاتي قوبلت بالرفض القاطع من مدير المكتبة والموظف المختص بالمخطوطات العربية. ¬
خطاب الاعتذار من مكتبة برلين والمرسل إلى الباحث عن طريق مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، وفيه مكتوب: (حالة المخطوط الصحية لا يسمح بتصويرها).
بيانات النسخة من الفهرس الموجود في مكتبة برلين، وفيه: أن عدد صفحاتها (72).
بيانات النسخة من الفهرس المخطوط الخاص بمكتبة برلين، وفيه من اليسار: رقم المخطوط بالمكتبة (1444)، الخصائص والمفاخر لمعرفة الأوائل والأواخر، جمال الدين السرمري، (توفي سنة 736 هـ)، المخطوط مكتوب في حياة مؤلفه، عدد صفحاته 134، ذكره بروكلمان في كتابه ص 204.
نماذج من النسختين الخطية
نماذج من النسختين الخطية
صورة صفحة العنوان من النسخة "أ"
صورة الصفحة الأولى من النسخة "أ"
صورة الصفحة الأخيرة من النسخة "أ"
صورة صفحة العنوان من النسخة "ب"
صورة الصفحة الأولى من النسخة "ب"
صورة الصفحة الأخيرة من النسخة "ب"
تحقيق كتاب "خصائص سيد العالمين وما له من المناقب العجائب على جميع الأنبياء عليهم السلام"
بسم الله الرحمن الرحيم , رب يسر وأعن ووفق. الحمد لله الذي رفع بعض الكائنات فوق بعض درجات وفَضّل , وأتْحَف مَن شاء ما شاء ووهب ونحَل ونفَّل (¬1) , وخصّص من أحب بما أحب وأعطى وأجزل , وغاير بين المخلوقات وخالف وميَّز وفَضَّل , لتظهر آثار حكمته ومشيئته في خليقته ويتحصَّل (¬2) , أحمده على ماحكم فأغنى وأقنى وأفقر فأرمل (¬3) , وجاد وتطوَّل (¬4) , ومنح فأحسن وأجمل , وأشكره على ماخوَّل (¬5) ومَوَّل (¬6) ونوَّل (¬7) , وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له القديم الأوَّل , الآخر الظاهِر الباطِن القادر القائم (¬8) فلا يتحوَّل , الملك القدُّوس السلام (المؤمِن) (¬9) المهيمن المحيط علماً بالعالي والأسفل , العزيز الجبَّار المتكبر الذي كسَر الأكاسرة وقصر القياصرة ودوَّخ وذلَّل , الخالق البارئ المصوِّر الذي أحسن كلَّ شيء خلقه وأكمل , سبحانه وتعالى عما يقول من أشرك به وتمحَّل (¬10) , وأشهد أن محمداً عبده المرسل ونبيُّه المفضَّل , الذي جمع أحاسن المحاسِن وأفاخِر المفاخِر وذَيَّل , ورقى على أعلى قُلَلِ العلاء وأَشْرفِ شُرَف الشَّرَف وتوقَّل (¬11) , فهو خير من أكل وأكرم من توكَّل , وأنجح من توسل به (¬12) وأقرب من تَوسَّل , وأحسن من تُجمِّل به وأزين من ¬
تَجمَّل (¬1) , وأعظم الخلق عند الله تعالى منزلة وأفخم وأنبل , صلى الله عليه وسلم وكرَّم وعظم وبجَّل , وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وزاد وأفضل. أما بعد: فلله سبحانه في خلقه وأمره أسرار , وفي قدرته ومشيئته وتدبيره أمور كبار , لاتدركها الأبصار ولاتحيط بكُنهها الأفكار , قال [الله] (¬2) سبحانه وتعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص: من الآية 68]. لما خلق الله تعالى الخلق قسَمه قسمين: جماداً وذا حياة , فاختار ذا الحياة على الجماد وفضَّله عليه , ثم قسم [ق 1/ظ] ذا الحياة قسمين: حيواناً ونباتاً , فاختار الحيوان على النبات وفضَّله عليه , ثم قسم الحيوان [إلى] (¬3) قسمين: ناطقاً وصامتاً , فاختار النَّاطق على الصَّامت وفضَّله عليه , ثم قسم الناطق قسمين: آدميّاً وغيره , فاختار الآدميَّ على غيره وفضَّله عليه , ثم قسم الآدمي قسمين: عاقلاً وغير عاقل , ¬
فاختار العاقل على غيره وفضَّله عليه , ثم قسم العاقل قسمين: مؤمناً وغيره , فاختار المؤمن على غيره وفضَّله عليه , ثم قسم المؤمن قسمين: عالماً وغيره , فاختار العالم على غيره وفضَّله عليه , ثم قسم العالم قسمين: أنبياء وغيرهم , فاختار الأنبياء على غيرهم وفضَّلهم عليهم (¬1) , وهم مائة ألف نبي وأربعة وعشرون ألف نبي (¬2) , فهم خيرته من خلقه , ثم قسم الأنبياء قسمين: رسُلاً وغيرهم , فاختار الرسل على غيرهم وفضَّلهم عليهم , وهم ثلاثمائة وثلاثة (¬3) عشر رسولاً , فهم خيرته من الأنبياء , ثم قسم الرسل قسمين: أولي عزم وغيرهم , فاختار أولى العزم على غيرهم وفضَّلهم عليهم وهم خمسة: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليهم وسلم , فهم خيرته من رسله عليهم الصلاة والسلام , ثم اختار من أولي العزم [الخليلين] (¬4) إبراهيم ومحمّداً صلى الله عليهما وسلم , فهما خيرته من أولي العزم من الرسل , ثم اختار منهما [الحبيب] (¬5) محمداً - صلى الله عليه وسلم - (¬6) , فهو المختار المصطفى من جميع الخلق , كما أخبرنا الشيخ أبو عبدالله ¬
محمد بن إسماعيل بن إبراهيم الأنصاري (¬1) -بقراءتي عليه- قلت له: أخبرك جماعة من شيوخك؛ منهم: أبو العباس أحمد بن عبدالدائم بن نِعْمة المقدسي (¬2) وأبو محمد إسماعيل بن إبراهيم بن أبي اليُسْر التنُوخي (¬3) قراءةً عليهما وإلا فإذناً (¬4) , قالا: أخبرنا الإمام أبو الفرج عبدالرحمن بن علي بن محمد بن الجوزي إجازة, قال المقدسي وحده: ¬
إن لم يكن سماعاً قال: أخبرنا أحمد بن علي بن المُجْلِي (¬1) قال أخبرنا أبو الحسين بن المهتدي (¬2) قال أخبرنا عبيدالله بن أحمد الصَّيدلاني (¬3) (¬4) قال أخبرنا الحسين بن إسماعيل المحاملي (¬5) قال حدثنا يوسف بن موسى (¬6) قال حدثنا عبيدالله (¬7) بن موسى (¬8) ¬
عن إسماعيل بن أبي خالد (¬1) عن يزيد بن أبي زياد (¬2) عن عبدالله بن الحارث بن [ق 2/و] نوفل (¬3) عن العباس بن عبدالمطلب - رضي الله عنه - قال: قلت يا رسول الله إنّ قريشاً جلسوا فتذاكروا أحسابهم (فجعلوا) (¬4) مَثَلك مَثل نخلة نَبَتتْ في كَبْوة (¬5) من الأرض فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله - عز وجل - يوم خلق الخلق جعلني في خيرهم ثم حين فرَّقهم جعلني في خير الفريقين , ثم حين جعل القبائل جعلني في خير قبيلة , ثم حين جعل البيوت جعلني في خير بيوتهم , فأنا خيرهم نفساً وخيرهم بيتاً» (¬6) , وقد خلق الله تبارك وتعالى النفوس مختلفة , فمنها الغاية في الجَودة والجوهريَّة , ومنها المتوسط ومنها الكدر , وجعل في ¬
كل مرتبة درجات لتظهر أسرارُ حكمته في الخلق , فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام هم الغاية في الجودة , خُلقت أبدانهم سليمة من عيب فصلحت لحلول النفوس الكاملة , ثم هم يتفاوتون أيضاً في المراتب , ويتميَّز (¬1) بعضهم على بعض في المناقب وعلوِّ المناصب , وكان نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - أصحَّ الأنبياء مزاجاً , وأكملهم (¬2) بدناً , وأصفاهم رُوحاً , وبمعرفة ما نذكره من أحواله وأخلاقه وصفاته يتبين فضله , ولذلك قدَّمه الله تعالى على الكُل , فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام هم خلاصة الوجود , وواسطة العقود , وهم خيرة الخلائق , وصفوة الخالق , وهم في الفضل طبقات , وفي القدر درجات قال الله تعالى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء: من الآية 55] فكلٌ له رتبة (لايتعدَّاها) (¬3) , ومنزلة لايدرك غيره مَداها , وغاية إذا بلغ منتهاها تناهى , وجعل لمحمد - صلى الله عليه وسلم - من الرتب أعلاها , ومن المنازل أسماها , ومن المعجزات أعظمهما وأقواها , ومن المنقبات أجملها وأبهاها , ومن الفضائل أُولاها وأُخراها , ومن المحاسن أَوْلاها وأَحراها , ففي حديث الإسراء عنه - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله تعالى جمع الأنبياء والملائكة صفوفاً قال فقدَّمني وأمرني أن أصلِّي بهم فصليت بهم ركعتين , ثم إنّ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أثنوا على ربهم سبحانه , فقال إبراهيم - عليه السلام -[ق 2/ظ]: الحمد لله الذي اتخذني خليلاً وأعطاني مُلكاً عظيماً وجعلني أمَّة قانتاً يؤتم بي وأنقذني من النار وجعلها عليَّ برداً وسلاماً , ثم إن موسى - عليه السلام - أثنى على ربه تعالى فقال: الحمد لله رب العالمين الذي كَلَّمني تكليماً وجعل هلاك فرعون على يدي ونجَّا بني إسرائيل على يدي وجعل من أمتي قوماً يهدون بالحق وبه يعدلون , ثم إن داود - عليه السلام - أثنى على ربه تعالى فقال: الحمد لله الذي جعل لي مُلكاً عظيماً وعلَّمني الزَّبور وألان لي الحديد وسخَّر لي الجبال يسبّحن والطير وأعطاني الحكمة وفصل الخطاب , ثم إن سليمان - عليه السلام - أثنى على ربه فقال: ¬
الحمد لله الذي سخَّر لي الرياح وسخَّر لي جنود الشياطين يعملون لي ماشئت من محاريب وثماثيل وجفان (¬1) كالجوابي (¬2) (¬3) وقدور راسيات وعلَّمني منطق الطير وآتاني من كل شيء فضلاً وآتاني ملكاً عظيماً لاينبغي لأحد من بعدي وجعل ملكي ملكاً طيِّباً ليس عليَّ فيه حساب , ثم إن عيسى - عليه السلام - أثنى على ربِّه فقال: الحمد لله رب العالمين الذي جعلني كلمةً منه وجعل مَثَلي مَثل آدم خلقه من تراب ثم قال له: كن فيكون , وعلَّمني الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وجعلني أخلق من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله وجعلني أبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله ورفعني وطهّرني وأعاذني وأمّي من الشيطان الرجيم ولم يكن للشيطان علينا سبيل , ثم إن محمداً - صلى الله عليه وسلم - قال: كلُّكم قد أثنى على ربّه وإني مُثْنٍ على ربي فقال: الحمد لله الذي أرسلني رحمةً للعالمين وكافةً للناس بشيراً ونذيراً وأنزل عليّ الفرقان (¬4) فيه تبيان كل شيء وجعل أمَّتي خير أمَّة أخرجت للناس وجعل أمَّتي (أمَّة) (¬5) وَسَطاً وجعل أمَّتي هم الأولين والأخرين وشرح لي صدري ووضع عنِّي وِزْري ورفع لي ذكري وجعلني فاتِحاً وخاتِماً فقال إبراهيم - عليه السلام -: بهذا فَضَلَكم محمد - صلى الله عليه وسلم -» (¬6) , وفي حديث الإسراء أيضاً [ق 3/و] أنه قال: «قيل لي: سل , فقلتُ: ياربِّ اتخذتَ إبراهيم خليلاً وكلَّمتَ موسى تكليماً ورفعت ¬
إدريس مكاناً علياً وآتيت سليمان ملكاً عظيماً وآتيتَ داود زبوراً فما لي ياربّ , فقال لي ربي - عز وجل -: يا محمد اتخذتك حبيباً كما اتخذت إبراهيم خليلاً وكلَّمتك كما كلَّمتُ موسى تكليماً وأعطيتك فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة وكانا من كنوز عرشي ولم أعطها نبيّاً قبلك وأرسلتك إلى أهل الأرض جميعاً أبيضهم وأسودِهم إنسهم وجنِّهم ولم أرسل إلى جماعتهم نبيّاً قبلك وجعلت الأرض كلّها بَرَّها وبحرها طهوراً ومسجداً لك ولأُمَّتك وأطعمت أمَّتك الفيء ولم أُطعمه أمَّة قبلهم ونصرتك بالرعب على عدوّك مسيرة شهر وأنزلت عليك سيِّد الكتب كُلِّها ومهيمناً عليها قرآناً فرقناه ورفعت لك ذكرك حتى تُذكَر كلَّما ذُكرتُ من [أجلِّ] (¬1) شرائع ديني وأعطيتك مكان التوراة المثاني ومكان الإنجيل المئين (¬2) ومكان الزبور الحواميم وفضّلتك بالمُفصَّل وشرحتُ لك صدرك ووضعتُ عنك وزرك وجعلتُ أمَّتك خير أمَّة أخرجت للنَّاس وجعلتهم (¬3) أمَّة وسطاً وجعلتهم (¬4) الأولين وهم الآخرون (¬5) فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين ثم أفضى إليَّ بعدها أموراً لم يُؤذن لي أن أخبركم بها ... » وذكر باقي (¬6) الحديث (¬7)؛ و (في) (¬8) حديث ¬
أنس - رضي الله عنه -[أيضاً] (¬1) قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لواء الحمد بيدي ولا فخر , (آدم) (¬2) ومَن دونه من النبيين تحت لوائي يوم القيامة ولافخر» (¬3) وفي حديث أنس - رضي الله عنه - أيضاً قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يجيء النبي يوم القيامة ومعه الرجل ويجيء النبي ومعه الرجلان وأنا أكثر الناس تَبَعاً يوم القيامة» رواه البخاري (¬4)؛ وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إنَّ لكل نبي دعوة دعا بها في أمَّته , وخبأتُ دعوتي شفاعة لأمّتي يوم القيامة» أخرجاه في الصحيحين [ق 3/ظ] من حديث أنس مثلَه سواء (¬5)؛ وفي رواية: «اختبأت دعوتي شفاعةً لأمَّتي لأنَّها أعمُّ وأكفأ» (¬6) , وفي هذا الحديث الشريف ¬
فصل اعلم أن التفضيل إنما يكون إذا ثبت للفاضل من الخصائص ما لايوجد للمفضول مثله
دليل ظاهر على فضل نبيِّنا [محمد] (¬1) - صلى الله عليه وسلم - على جميع الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين , وإشارة بيِّنة إلى أن كل فضيلةٍ لنبي من الأنبياء قد شاركه فيها وزاد عليه فيما يشابهها ويُقاربُها مما تظاهرت به الأخبار وتواطئت عليه الآثار عن علماء الأمصار. فصل اعلم أن التفضيل إنما يكون إذا ثبت للفاضل من الخصائص ما لايوجد للمفضول مثلُه , فإذا استويا في أسباب الفضل وانفرد أحدهما بخصائص لم يَشْرَكْه فيها الآخر كان أفضل منه , وأمَّا ماكان مشتركاً بين الرجل وغيره من المحاسن فتلك مناقب وفضائل ومآثر لكن لاتُوجب تفضيله على غيره إذا كانت مشتركة ليست من خصائصه , وإذا اتَّحَدت الفضيلتان فكانتا من جنسٍ واحد لكن كانت إحداهما أكمل من الأخرى وأعظم أو أعجب أو أبلغ فلا ريب أنَّ صاحب ذلك أفضل في ذلك , ومحمد - صلى الله عليه وسلم - قد امتاز عن غيره بأمور لم يشركه (¬2) فيها غيرُه وشارك غيرَه في أمور كثيرة على الوجه الأكمل فظهرت مزيَّته على مزية غيره وفضيلتُه على مَن عداه كما سنذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى , ونحن نذكر إن شاء الله تعالى مانُقل عن كل نبيّ من المعجزات وماثبت لنبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - من الخصائص وماله من الفضائل الفواضل وما أُوتي من المناقب العجائب على جميع الأنبياء عليهم السلام , فإن محمداً - صلى الله عليه وسلم - من خصائصه أنه أُرسِل إلى جميع الخلق أسودهم وأحمرهم وجنِّهم وإنسهم وأن الله تعالى أخذ العهد على جميع النبيين لئن بُعث وهم أحياء ليؤمننَّ به ولينصرنَّه وخَتم به النَّبيِّين وجعل أمَّته خير أمة أُخرجت للناس وآتاه السبعَ المثاني والقرآن العظيم وأُسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ثم عُرج به إلى فوق سبع سموات وإلى سدرة المنتهى وإلى ماشاء الله تعالى مما فوق ذلك وأشياء ¬
غير ذلك نذكرها فيما [ق 4/و] بعد إن شاء الله تعالى في مواضعها يتبيَّن بها فضله على غيره من الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين , ونذكر من معجزاته وما آتاه الله تعالى من الكرامات والمزايا الكريمة والعطايا العظيمة ممَّا فاق به عليهم من الآيات البيِّنات والمفاخر الظاهرات , فمن ذلك: أولو العزم (¬1) من الرسل وهم خمسة: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى [ابن مريم] (¬2) ومحمد صلى الله عليهم وسلم , فمحمد - صلى الله عليه وسلم - آخرهم بعْثاً وأوّلهم في الذّكْر والفضيلة قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [الأحزاب: 7]. ¬
فصل فأما فضيلة نوح - عليه السلام - فظاهرة
فصل فأمّا فضيلة نوح - عليه السلام - فظاهرة , ومعجزته (¬1) باهرة , وهو أوَّل رسول أُرسِل إلى بني آدم في أحد قولي العلماء , وآيته التي أوتي نجاته في السفينة بمن آمن معه وإغراق عدوّه بدعوته وهي لعَمري فضيلة عظيمة ومعجزة كريمة , ولاشك أن الماشي على وجه الماء من غير سفينةٍ أعظم من الماشي عليه في السفينة , وقد أعطى الله تعالى نبيَّنا - صلى الله عليه وسلم - في أمَّته مَن مشى على وجه الماء بغير سفينة , فكثير من أولياء أمَّة نبينا - صلى الله عليه وسلم - مشى (¬2) على الماء , فمن ذلك ماروى مِنْجابٌ (¬3) قال: "غزونا مع العلاء بن الحَضْرمي (¬4) دَارِينَ (¬5) فدعا بثلاث دعوات فاستجيبت له , نزلنا منزلاً فطَلَب الماء فلم يجدْه فقام فصلى ركعتين وقال: اللهم إنَّا عبيدك وفي سبيلك نقاتل عدوَّك اللهم اسقنا غيثاً نتوضَّأ به ونشرب ولايكون لأحد فيه نصيب غيرنا , فسِرْنا قليلاً فإذا نحن بماءٍ حين أقلعت السماء عنه ¬
فتوضأنا منه وتزوّدنا وملأت إداوتي (¬1) وتركتها مكانها حتى أنظر هل يستجيب له أم لا فسرنا قليلاً ثم قلت: لأصحابي نسيت إداوتي فرجعت إلى ذلك المكان فكأنَّه لم يصبه ماء قط , ثم سرنا حتى أتينا دَارِينَ والبحر بيننا وبينهم فقال: يا عليم يا حليم يا عليّ يا عظيم إنَّا عبيدك وفي سبيلك نقاتل عدوّك اللهم فاجعل لنا إليهم سبيلاً فدخلنا البحر فلم يبلغ الماء لُبُودَنا (¬2) ومشينا على متن الماء ولم يَبْتلّ لنا شيء [ق 4/ظ] فلما رجع أخذه وجع البطن فمات فطلبنا ماء نغسله فلم نجده فلففناه في ثيابه ودفنَّاه فَسِرنا غير بعيدٍ فإذا نحن بماء كثير فقال بعضنا لبعضٍ: لو رجعنا فاستخرجناه ثم غسلناه فَرُحْنا (¬3) فطلبناه فلم نجده فقال رجل من القوم إني سمعته يقول: يا عظيم (¬4) يا حليم يا علي يا عظيم أخْفِ عليهم موتي - أو كلمة نحوها - ولا تُطلع على عيوبي أحداً فرحَلْنا وتركناه" (¬5) , وقال عمر بن ثابت: "دخلتْ في أذن رجل من أهل البصرة حصاة فعالجها الأطبَّاء فلم يقدروا عليها حتى وصلت إلى سِماخه (¬6) فأسهرت ليلَهُ ونغَّصت عيشَ نهاره فأتى رجلاً من أصحاب الحَسَن فشكا إليه فقال له: ويحك إن كان شيء ينفعُك الله به فدعوة العلاء بن الحَضْرمي التي دعا بها في البحر والمفازة , قال: وما هي رحمك الله , ¬
قال: يا علي يا عظيم يا حليم يا عليم فدعا بها فوالله ما برحنا حتى خرجت من أذنه ولها طنين حتى أصابت الحائط وبرأ" (¬1)؛ والمشي على الماء في السفينة أمر معلوم معهود والنجاة فيه غير مستبعدة , ومشيُ العلاء بن الحَضرمي وأصحابه بخيولهم ودوابِّهم وحمُولهم على متن الماء بلا سفينة أعظم بالنسبة إلى معجزة محمد - صلى الله عليه وسلم - مِن مشي نوح - عليه السلام - ومن معه في السفينة واستجيبت دعواته كما استجيبت دعوة نوح - عليه السلام - أيضاً , فكرامة الأمَّة (¬2) من معجزة نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - , وسيأتي قصة سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - وأصحابه في فتح أبيض كسرى (¬3) إن شاء الله تعالى. فإن قيل: إن الله تعالى أعطى نوحاً عليه الصلاة والسلام ما سأل من شِفَاء غيظه في إجابة دعوته على قومه بتعجيل النقمة عليهم حين كذَّبوه وكفروا بما أُرسل به فأهلك بدعوته مَن على بسيط الأرض مِن صامتٍ وناطقٍ إلا مَن آمن به ودخل معه السفينةَ وكانوا قليلاً كما قال تعالى: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود: من الآية 40] وكانوا فيما قيل: ثمانين نفساً أو نحوها , قلنا: هذه فضيلة عظيمة وآية جسيمة وافقَتْ سابِق القَدَر في هلاك مَن هلك لكن فضيلة نبيِّنا صلوات الله عليه وسلامه أكمل , ومعجزته أجمل , وعاقبتها أحسن , وصورة الواقع فيها أبين , وذلك أنه لمَّا كذَّبه قومُه [ق 5/و] وآذوه وبالغوا في أذاه جاءه الملك من ربِّه يُخيِّره في أن يُطبِق عليهم الأخشبَيْن: أخشبَي مكة يعني: الجبلين المكتنفين لها , فقال: «بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم مَن يعبد الله لايشركُ به شيئاً» (¬4) , فكان ما رَجَا من ذلك وزيادة , ولمَّا أسْرَف ¬
من أسْرَف في عداوته وبلغ الغاية في أذيَّته حين ألقى عُقبة بن أبي مُعَيْط على ظهره - صلى الله عليه وسلم - سَلَا (¬1) الجزور وهو ساجد والحديث فيه مشهور وهو ما رُوي عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي عند الكعبة وجَمْعٌ (¬2) من قريش ينظرون فقال قائل منهم: ألا ترون إلى هذا المُرائِي أيُّكم يقوم إلى جَزور آل فلان فيعمد إلى فرثها ودَمِها وسَلاها حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه , فانطلق أشقاهم فجاء به حتى إذا سجد - صلى الله عليه وسلم - وضعه بين كتفيه , وثبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ساجداً , وضحكوا حتى مال بعضهم على بعض من الضحك , فانطلق منطلق إلى فاطمة وهي جويرية (¬3) فأقبلت تسعى وثبت النبي - صلى الله عليه وسلم - ساجداً حتى نَحَّتْهُ عنه وأقبلت عليهم تسبُّهم , فلما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاته استقبل الكعبة فقال (¬4): «اللهم عليك الملأ من قريش» ثم سمّاهم فقال: اللهم عليك بعَمرو بن هشام وشيبة وعُتبة والوليد بن عتبة وأمية بن خلف وعقبة بن أبي مُعَيط وعُمَارة بن (¬5) الوليد» قال عبدالله: والذي توفّى نفْسَه لقد رأيتهم صرعى يُسحَبون إلى القليب قليب بدْر , قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم أتبع أهل القليب لعنةً» (¬6) فلم يَدْعُ عليهم بالبوار ¬
كلِّهم ولا باستئصال شأفتهم (¬1) (¬2) , وكذلك لما استعان عليهم بدعائه أن يعينه عليهم بسبع كسبع يوسف فأجْدبوا حتى أكلوا العظام من الجوع حتى جاء إليه - صلى الله عليه وسلم - أكابرهم يسألونه أن يدعو لهم بكشف ذلك عنهم , فلما دعا قال الله تعالى: {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} [الدخان: 15] , فلما عادوا انتقم الله منهم قال تعالى: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} [الدخان: 16] فانتقم منهم بالقتل يوم بدر (¬3)؛ والسِّرُّ في دعائه - صلى الله عليه وسلم - على هؤلاء النَّفر خاصَّةً أنهم اتّفقوا [ق 5/ظ] على هذا الفعل القبيح , وادَّعوا أنه مُراءٍ بصلاته , وانتهكوا حرمة الصلاة مع حرمته - صلى الله عليه وسلم - , فكان غضبه ودعاؤه لأجل انتهاك حرمة الصلاة لله تعالى في ذلك المكان فلم يَحسُن العفو حينئذ بل تعيَّن الانتصار والانتصاف فإنه كان (¬4) من عادته - صلى الله عليه وسلم - أن لاينتصر لنفسه كما لم يعاقب الذين سَمُّوه ولا الذين سَحروه ولا الذي أراد اغتياله في أشياء نحو ذلك وإنما غضب هنا (¬5) وانتصر لحقِّ الله تعالى فدعا عليهم فاستجاب الله تعالى له فيهم وأظهر تكذيبهم في اعتقادهم أنه مُراءٍ فاجتمع له - صلى الله عليه وسلم - في هذه القصة من الفضائل ما يضيق هذا المكان عن ذكره مما لم يحصل لنوح - عليه السلام - منه إلا البعض , فإنَّ نوحاً عليه الصلاة والسلام لمَّا اشتدَّ عليه الأذى من قومه دعا ربَّه أنِّي مغلوب فانتصر فقال الله تعالى: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} [القمر: 11 - 14] فكان دعاؤه - عليه السلام - دعاء منتقمٍ مستنصرٍ (¬6) ¬
فاستجاب الله تعالى له فشفى صدره منهم وأغرقهم ودعوة نبيّنا - صلى الله عليه وسلم - كانت رحمةً و (كانت) (¬1) أكثر نفعاً وأعظم أثراً في الخير والبركة كما روى أنس - رضي الله عنه - قال: أصاب أهلَ المدينة قحط على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقام إليه الناس يوم جمعة وهو على المنبر يخطب فقالوا: يا رسول الله غلَتِ الأسعار واحتَبَست الأمطار فادع الله أن يسقينا فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَده واستسقى قال: فمُطِرنا ولم نزل نُمطَرُ حتى كانت الجمعة المُقبلة فقام إليه الناس فقالوا: ادع الله يَحْبِسْها عنَّا فتبسَّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورفع يده فقال: «اللهم حوالينا ولا علينا» قال: فتخرَّقَتْ (¬2) فصارت المدينة كأنَّها إكْليل (¬3) وما حولها ممطور (¬4) , وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ربَّما ذكرتُ قول الشاعر وأنا أنظر إلى وجه النّبي - صلى الله عليه وسلم - يستسقى (فما ينزل حتى يجيش [ق 6/و] كل مِيزاب (¬5)) (¬6) وأبيض يُسْتسقى الغَمام بوجهه ... ثِمَالَ (¬7) اليتامى عصمةً للأرامل (¬8) ¬
وهو قول عمه أبي طالب (¬1) رواه البخاري (¬2) , فكانت دعوته نعمة في الأوَّل [و] (¬3) رحمة في الآخر (¬4) , ولم تكن دعوة نوح عليه الصلاة والسلام إلا مجرَّد عذابٍ شفى الله تعالى به قلبه؛ ولبث نوح - عليه السلام - في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم فبلغ جميع من آمن به من الرجال والنساء الذين ركبوا معه في السفينة وهم دون المائة نفْسٍ كما أشرنا إليه , ونبينا - صلى الله عليه وسلم - كانت مدَّة دعائه (¬5) الخلق إلى الحقِّ نحو عشرين سنة فآمن فيها من الخلق شرقاً وغرباً ما لايُحصى ودانت له جبابرة الأرض وملوكها وخافته على ملْكها ككسرى وقيصر وأسلم النَّجاشي والأقيال (¬6) رغبة في دين الله تعالى ممن رآه وممن سمع به ولم يره لِمَا ألقى الله في قلوب الخلق من هيبته , والتزم مَن لم يؤمن به من أقطار الأرض الجزية والأتاوة (¬7) عن صَغار كأهل نجران وهجر وأيلة وغيرهم فأذلَّهم الله بما ألقى في قلوبهم من الرعب الذي كان يسير أمامه مسيرة شهر حتى جاءه نصر الله والفتح ¬
ودخل الناس في دين الله أفواجاً فهذه منزلة لم تحصل لا (¬1) لنوح ولا لغيره من النبيين صلوات الله عليهم أجمعين , ولا بلغ مُلْك مَلك ما بلغ مُلكه ودينَه كما قال: «زُويت (¬2) لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وأن مُلك أمّتي سَيبلغ (¬3) ذلك» (¬4). وأما فضيلة نوح - عليه السلام - بأن الله تعالى سماه شكوراً باسم من أسماءه سبحانه , فنبيّنا - صلى الله عليه وسلم - قد خصَّه باسمين من أسماءه جمعهما له لم يشركه فيهما أحد فقال: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128] , ونوح - عليه السلام - لمَّا خاطبه الله تعالى قال له: {يَانُوحُ [اهْبِطْ بِسَلَامٍ] (¬5)} [هود: من الآية 48] , ولمَّا خاطب - صلى الله عليه وسلم - لم يقل له: يامحمد بل قال له: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ} [المائدة: 41 , 67] , {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ} [الأنفال: من الآية 64 , 65 , 70 / التوبة: من الآية 73 / الأحزاب: من الآية 1 , 28 , 45 , 50 , 59 / الممتحنة: من الآية 12 / الطلاق: من الآية 1 / التحريم: من الآية 1 , 9] , {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزَّمل: 1] , {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدَّثر: 1] , فخاطبه بصفات الشَّرف والرِّفعة التي تقوم مقام الكنية واللقب بل أعظم , والخطاب بالكنية واللقب أعظم من الخطاب بالاسم المجرَّد , وكذلك باقي الأنبياء خاطبهم [ق 6/ظ] بأسمائهم المجرَّدة فقال: {يَاإِبْرَاهِيمُ} [هود: من الآية 76 / مريم: من الآية 46 / الأنبياء: من الآية 62 / الصافات: من الآية 104] , {يَامُوسَى} [البقرة: من الآية 55 , 61 / المائدة: من الآية 22 , 24 / الأعراف: من الآية ¬
115 , 134 , 138 , 144 / الإسراء: من الآية 101 / طه: من الآية 11 , 17 , 19 , 36 , 40 , 49 , 57 , 65 , 83 / النمل: من الآية 9 , 10 / القصص: من الآية 19 , 20 , 30 , 31] , {يَايَحْيَى} [مريم: من الآية 12] , {يَادَاوُودُ} [ص: من الآية 26] , {يَاعِيسَى} [آل عمران: من الآية 55 / المائدة: من الآية 110 , 112 , 116] ولم يكنهم ولم يخاطبهم بما يقوم مقام الكنية واللقب , ولمَّا خاطبهم كلّهم وكان محمد صلى الله عليه وعليهم وسلم داخلاً (¬1) فيهم خاطبهم بالتعظيم فقال: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ ... } (الآية) (¬2) [المؤمنون: 51] , فظهر فضل محمد - صلى الله عليه وسلم - عليهم كلهم في هذه المسئلة وفي غيرها كما سنذكره إن شاء الله تعالى , وقريبٌ من هذا المعنى أن كل نبيّ لما آذاه قومُه وكذَّبوه وسبّوه تولى هو الذب عن نفسه بنفسه , ومحمد - صلى الله عليه وسلم - صفح عنهم وأعرض عن إجابتهم فتولى الله سبحانه الجواب عنه وانتصر له وكذَّبهم فيما نسبوه (¬3) - صلى الله عليه وسلم - إليه , وذلك نحو قول قوم نوح لنوح عليه الصلاة والسلام: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الأعراف: من الآية 60] فأجابهم: {يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: من الآية 61] , ونحو قول قوم هود لهود عليه الصلاة والسلام: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ} [الأعراف: من الآية 66] فقال مجيباً لهم: {يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: من الآية 67] , وقول فرعون لموسى عليه الصلاة والسلام: {إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَامُوسَى مَسْحُورًا} [الإسراء: من الآية 101] فرد عليه بقوله: {إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [الإسراء: من الآية 102] وأشباه هذا , ونبينا - صلى الله عليه وسلم - لمَّا قال له المشركون: شاعر أو مجنون صبر على أذاهم ووكل أمره إلى ربه سبحانه فتولى الجواب عنه ونصَره عليهم وكذّبهم بوحي يُتلى ¬
فقال: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ [وَمَا يَنْبَغِي لَهُ] (¬1)} [يس: من الآية 69] وقال: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم: 2] وزاد على الانتصار له بمدحه إيّاه فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] وهدَّد مَن نسب إليه خلاف الصحة (¬2) فقال: {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ} [القلم: 5 - 6] ولما قالت قريش: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل: من الآية 103] و {إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} [الفرقان: من الآية 4] دفع الله عنه ما قالوا وانتصر له وكذبهم وبكتهم وبكعهم (¬3) وأظهر حجَّته له عليهم وكسر حجتهم وأبطل دعواهم فقال سبحانه: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: من الآية 103] وقال تعالى: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الفرقان: من الآية 6] في أمثال (هذا) (¬4) , وكمال هذه الأمور [ق 7/و] لم تحصل لغير نبينا - صلى الله عليه وسلم -. فإن قيل: في قوله تعالى: {قَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: من الآية 26] وأن الله سبحانه استجاب له فأغرق الأرض ومَن عليها دليل على أن نوحاً عليه الصلاة والسلام كان مُرسلاً إلى جميع أهل الأرض فكيف يقال: بأن محمداً - صلى الله عليه وسلم - وحده أُرسِل إلى الناس كافةً , فالجواب: أن رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - عامَّة في جميع الأمكنة والأزمنة والأصناف , فإنه - صلى الله عليه وسلم - بُعث إلى جميع أهل الأرض إنسهم وجنِّهم ودعوته - صلى الله عليه وسلم - باقية إلى يوم القيامة لا يُبعث بعده نبي يَنسخ (¬5) شريعته , وهذه الخصيصة ليست لنوح عليه الصلاة والسلام ولا لغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام , وقوم نوح عليه الصلاة والسلام إذا كانوا هم الذين أُغْرِقُوا فدعوته مختصة بهم لم تتناول مَن بعدهم من القرون , ¬
ودعوة موسى عليه الصلاة والسلام وإن كانت متناولة لبني إسرائيل قرناً بعد قرن إلى المسيح عليه الصلاة والسلام فلم تكن متناولة لغيرهم ولهذا لم يكن مبعوثاً إلى الخضر وما جرى بينهما من المحاورة دليل على ذلك والله أعلم. فصل وأما إبراهيم عليه الصلاة والسلام فهو خليل الله وناهيك بها فضيلة قد جمع الله تعالى له بين النُّبوة والرِّسالة والخلَّة (والعزيمة) (¬1) , لكن قد أُعطي نبينا - صلى الله عليه وسلم - ذلك وزاد , فهو نبي رسول خليل حبيب , ففيه ما في إبراهيم والزيادة التي لم تتحصَّل لغيره من الرسل , فإبراهيم - صلى الله عليه وسلم - خليل الله ومحمد - صلى الله عليه وسلم - أيضاً خليل الله , ولكن محمد - صلى الله عليه وسلم - أعظم الخليلين , وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً» أو كما قال (¬2) , ففي الصحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن صاحبكم خليل الله» (¬3) , وقال - صلى الله عليه وسلم -: «اتخذ اللهُ إبراهيم خليلاً وموسى نجياً واتخذني حبيباً - ثم قال - وعزَّتي لأُوثرنَّ حبيبي على خليلي ونجيِّي» (¬4) , وهو - صلى الله عليه وسلم - في ¬
التوراة مكتوب محمد حبيب الرحمن (¬1). فإن قيل: إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام حُجب عن نُمروذ (¬2) بحُجب ثلاثة (¬3) , قيل: إنَّ محمَّداً صلوات الله وسلامه عليه حجبه الله تعالى بستة حجب قال [الله] (¬4) تعالى في حقّه: {إِنَّا جَعَلْنَا [ق 7/ظ] فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [يس: 8 - 9] فهذه أربعة حجب ثم قال تعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ ¬
وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا} [الإسراء: 45 - 46] وهذا حجابان فصارت ستَّة حجب , وزيادة أخرى وهي أنَّ الله تعالى جعل حجب محمد - صلى الله عليه وسلم - من أعداءه حجباً لأمَّته من أعدائهم من الجنِّ والإنس كما ذكرنا ذلك في موضعه. فإن قيل: إن إبراهيم - عليه السلام - كسر نمروذ (¬1) ببرهان نبوَّته فبهته كما قال تعالى: {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة: من الآية 258] , قلنا: فمحمد - صلى الله عليه وسلم - أتاه أُبيُّ بن خَلَف المكذِّب بالبعث بعظمٍ بالٍ ففركَه فانفتَّ في يده وقال: من يحي العظام وهي رميم إنكاراً لإحيائها بعدما رمَّت فأنزل الله تعالى البرهان الساطع والجواب القاطع: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 79] فانصرف مبهوتاً مكبوتاً (¬2). فإن قيل: إبراهيم - عليه السلام - كسَّر أصنام قومه غضباً لله تعالى , قلنا: فمحمد - صلى الله عليه وسلم - نكَّس (¬3) ثلاثمائة وستين صنماً كانت منصوبة حول الكعبة بإشارته إليها من غير أن يمسَّها بيده فتساقطت , وجعل يطعن بسية (¬4) قوسٍ كانت معه في عين الصنم منها ويقول: «{جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: من الآية 81] , {جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ: من الآية 49]» (¬5) , وأبلغ من هذا في الطرفين أن إبراهيم ¬
عليه الصلاة والسلام فعل ذلك مستخفياً من قومه وأحال به على كبيرهم وإن كان ذلك إلزاماً للحجة على قومه إذا لم ينطقوا حتى عدّد ذلك من كذباته , فنبينا - صلى الله عليه وسلم - دخل هو وعلي - رضي الله عنه - الكعبة فصعد - صلى الله عليه وسلم - على منكب عليٍّ - رضي الله عنه - فلم يقدر عليٌّ على حمله , فأصعد عليّاً على منكبه فقلع الصنم الذي كان من صُفرٍ على الكعبة فقذفه فوقع فتكسر كما تتكسَّر القوارير (¬1) [ق 8/و] , ولا ريب أنَّ هذا كان سراً من قريش والأول (¬2) جهراً يوم فتح مكة. فإن قيل: إبراهيم - عليه السلام - لمَّا أُلقي في نار نمروذ (¬3) خمدت وطفئت , قلنا: أبلغ من ذلك نار جهنم إذا مرَّ عليها المؤمن من أمَّة محمد - صلى الله عليه وسلم - قالت: جُزْ يامؤمن فقد أطفأ نورك لهبي (¬4). وليلة مولد نبينا - صلى الله عليه وسلم - خمدت نيران فارس التي كانت تُعبَد ولم تخمد قبل ذلك بألف ¬
عام (¬1) فإبراهيم - عليه السلام - طفئت عنه نار نمروذ (¬2) بقول الله تعالى لها: { ... كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: من الآية 69] وقرب (¬3) إبراهيم منها , ونيران فارس خمدت على مسافة أشهر من محمد - صلى الله عليه وسلم - حين ولد , وفي أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - مَن أُلقي في النَّار فلم توثِّر فيه ببركته: منهم أبو مسلم الخَولاني لمَّا دعاه الأسود العَنْسي المتنبِّئ إلى تصديقه فقال: ما أسمع -مراراً- , فأجَّج له ناراً وطرح فيها أبا مسلم , فلم تضرُّه , فلمَّا قدم المدينة رآه عمر - رضي الله عنه - فقبَّل بين عينيه , ثم جاء به حتى أجلسه بينه وبين أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - , وقال: الحمد لله الذي لم يُمتني حتى أراني في أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - من فُعل به كما فُعل بإبراهيم خليل الرحمن (¬4) - عليه السلام -. وأما إلقاء إبراهيم عليه الصلاة والسلام في المنجنيق ورميهم به فإن في أصحاب ¬
محمد - صلى الله عليه وسلم - ماهو شبيه بذلك , وهو أنَّ البراء بن مالك - رضي الله عنه - لمَّا كانت وقعة مسيلمة وتحصَّنوا وأغلقوا باب الحصن , قال البراء لأصحابه: ضعوني على تُرسٍ واحملوني على رؤوس الرِّماح ثم ألقوني من أعلاها إلى داخل الحصن ففعلوا فوقع وقام فقاتل المشركين وقتل عشرةً أو أكثر وفتح الباب للمسلمين وكان سبب الفتح وقَتْل عدوِّ الله مسيلمة (¬1)؛ ونظير ذلك ما فعَل طُلَيحة بن خويلد لما خرج في أصحابه لغزو الروم في البحر فلقيهم العدو في سفينة فقال طُلَيحة لأصحابه: اقذفوني في سفينتهم , ففعلوا فغشيهم بسيفه حتى تطايروا (¬2) فرقاً منه فغرق من غرق واستسلم [ق 8/ظ] من استسلم فبلغ ذلك عمر - رضي الله عنه - فأعجبه (¬3) وإبراهيم عليه الصلاة والسلام أُلقي في المنجنيق مُكرهاً , وهذان بذلا أنفسهما وطلبا ذلك واختاراه ففعلاه وهي فضيلة لنبينا - صلى الله عليه وسلم - إذ (¬4) كان في أمته مثل ذلك. وأما كرم إبراهيم عليه الصلاة والسلام وإقراؤه للضيف وأنه كان يخرج المسافة يبتغي من يأكل معه حتى قيل له: أبو الضِيفان , فقد كان نبينا - صلى الله عليه وسلم - من ذلك بالمنزلة التي لاتجهل فإنه كان يعطي عطاء من لا يخاف الفاقة فيهب المائة من الإبل , وأعطى رجلاً غنماً بين جبلين , وما سأله أحد شيئاً فقال: لا (¬5) , ولقد أتاه مرةً ضيف فأرسل إلى ¬
أزواجه واحدةً بعد واحدةٍ فيَقُلْن: والذي بعثك بالحق ماعندنا إلا ماء (¬1)؛ وذلك أنه كان لا يدَّخر شيئاً حتى يجوع ويربط على بطنه الحجر , وإبراهيم عليه الصلاة والسلام كان صاحب مال وماشية يُطعِم ويُضيف من جملة ماله ولم نسمع أنه أعطى كلَّ ماعنده , ونبينا - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ما يكن عندي من خير فلن ادّخره عنكم» (¬2) وقال: «لو أنَّ لي مثلَ هذه العِضاهِ نعماً لقسمته بينكم ثم لا تجدوني بخيلاً ولا جباناً» (¬3) وجوده وكرمه من أشهر (¬4) صفاته الحميدة صلوات الله عليه وسلامه. وأما فضيلة إبراهيم عليه الصلاة والسلام في صبره على ما ابتُلي به مِن ذبح ولده حتى أكرمه الله تعالى بالفِداء وهذه رُتبة عظيمة , قلنا: ليس هذا بأعظم من فضيلة نبينا - صلى الله عليه وسلم - إذ جاد بنفسه في جهاد أعداء الله تعالى فإنه صبَّر نفسه وغرَّر (¬5) بها في طاعة ربه تعالى حتى إنه يوم حنين لما تولى عنه أصحابه وبقي وحده ما يألو ما صادم العدو بنفسه ¬
وأخذ كفًّا من تراب فرمى به في وجوه القوم فهزمهم الله تعالى (¬1) , وجوده - صلى الله عليه وسلم - بنفسه وصبره في (مثل) (¬2) هذا المقام الذي لم يبق معه ناصر ولا معاضد والعدو حريص على قتله أعظم من صبر إبراهيم عليه الصلاة والسلام على ذبح ابنه. وأما قول الله تعالى في إبراهيم: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: من الآية 124] ففي الحديث أن نبينا - صلى الله عليه وسلم -[ق 9/و] قال: «أنا إمامهم إذا بُعثوا وخطيبهم إذا ورَدُوا ... » الحديث (¬3) , وقد صلى بإبراهيم وغيره من الأنبياء ليلة الإسراء وشريعته داخلة في شريعة محمد صلى الله عليهما وسلم وشريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - أتم وأكمل (¬4) من شريعة إبراهيم صلى ¬
الله عليه وسلم كما هو معروف؛ وقوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا} [النحل: من الآية 120] ومعنى الأمة أنه كان معلماً للخير وداعياً إليه , ولا ريب أنَّ علم نبينا - صلى الله عليه وسلم - وتعليمَه وما ظهر من الخير على يديه في زمانه وبعد موته بسببه أمر لا يكاد يرتاب فيه عاقل , فإنَّ علمَه وشريعته متداولة بين أمته إلى يوم القيامة , وسنَّة إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - من بعض ماهو من سنن محمد - صلى الله عليه وسلم - التي دعا إليها وأمر بالاستنان بها , وقنوت محمد - صلى الله عليه وسلم - كان أعظم فإنه - صلى الله عليه وسلم - لما نزل عليه: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: من الآية 2] قام (¬1) فصلى حتى تفطرت قدماه فقيل له: قد غُفر لك من ذنبك ماتقدم وما تأخر , فقال: «أفلا أكون عبداً شكوراً» (¬2) وصلّى حتى أنزل عليه - صلى الله عليه وسلم -: {طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [طه: 1 - 3] (¬3). فإن قيل: إن إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - بوَّأ الله تعالى له مكانَ البيت حتى عَمَره وأقام شعائر الله , قيل: ما فعله محمد - صلى الله عليه وسلم - في أمر البيت أعظم , فإن إبراهيم عليه الصلاة والسلام جاء إلى أرض داثرة (¬4) فبنى فيها بيتاً وأقام فيه أموراً شرعها الله تعالى له , وليس في ذلك كبير (¬5) مشقة وإن كان فيه من الفضل والإحسان مافيه , فإن فعل نبينا - صلى الله عليه وسلم - أعظم خطراً ¬
وأشدّ ابتلاء فإنَّه بُدِّلت تلك الشعائر (¬1) التي رسمها إبراهيم عليه الصلاة والسلام (بعده) (¬2) , وتناسخت الأحوال حتى صار ذلك البيت الذي بناه إبراهيم عليه الصلاة والسلام لإقامة شعائر الدين الحنيف بتبديل الجاهلية مَركزاً للشرك ومحلًّا للأوثان وصار يُعبَد فيه غير الله ويُدعى من سواه ويُقاتل على ذلك , فبعث الله محمداً - صلى الله عليه وسلم -[ق 9/ظ] فمحا تلك الآثار وكسر تلك الأصنام وأزال المنكرات وأعاد سنَّة إبراهيم عليه الصلاة والسلام التي كانت (¬3) قد دثرت , وعبد الله وحده وزال (¬4) الإشراك (¬5) وزاد على شريعة إبراهيم مما (¬6) شرعه الله تعالى له حتى كان عام حجَّة الوداع أنزل عليه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: من الآية 3] حتى قال بعض اليهود لعمر بن الخطاب: " (يا أمير المؤمنين) (¬7) آيةٌ في كتابكم تقرؤنها لو علينا معشر يهود أنزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً , فقال عمر: أيّ آية , قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ... } الآية [المائدة: من الآية 3] , فقال عمر - رضي الله عنه -: إني لأعلم الموضع الذي نزلت فيه واليوم الذي نزلت فيه يوم جمعة عشية عرفة" (¬8)؛ ففرقٌ بين من بنى بيتاً وسنَّ سُنَّة من غير منازع إلى من جاء إلى أمَّة جاهلية جهلاء , قد اجتمعت على بيتٍ جعلته دينها وأقامت فيه الأصنام يعبدونها من دون الله وشرعوا أموراً زيَّنها لهم الشيطان فرأوها حسنة واتخذوها ديناً وقاتلوا على ذلك وتوارثوه خلفاً عن سلف ووجدوا عليه آبائهم فأمرَهم بترك ما قد نشأوا عليه من ذلك الدين ومفارقة ما قد رسمه لهم أسلافهم ¬
ونبتت عليه (¬1) لحومهم ودماؤهم فصرفهم عنه طوعاً وكرهاً وردَّهم عنه إلى دين لم يعرفوه هم ولا آباؤهم بما أوضحه لهم من الحق حتى أطاعوه وقال أحبَّ إليهم من آبائهم وأولادهم وإخوانهم وعشيرتهم حتى ضَرَبَ الدينُ بحرانه واستقر على أركانه. وأما كفالة إبراهيم عليه الصلاة والسلام الأطفال (¬2) المؤمنين الذين يُتوفون وهم صغار فليس ذلك بأعظم من كفالة الأطفالِ في الدنيا , فإن في الدنيا يحتاجون إلى ما يمونهم من مأكول ومشروب وغير ذلك , بخلاف من هو في الآخرة في كفالة الله تعالى لا يحتاج إلى أكل وشرب وكسوة ومؤنة , فإن محمداً - صلى الله عليه وسلم - كان لليتيم كالأب الرحيم وللأرملة كالزوج الشفيق كما قال فيه عمه أبو طالب: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل (¬3) فكفالة الأحياء (بلا ريب أعظم من كفالة الأموات) (¬4). فإن قيل: إن الله تعالى أمر محمداً صلى الله عليه وسلم وبارك باتباع [ق 10/و] ملة إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - , قلنا: ذلك إحدى حسناته - صلى الله عليه وسلم - فإنَّ محمداً - صلى الله عليه وسلم - قد اتبع ملة إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - فحاز آخرها وزاد عليها ما أمر اللهُ به فكان له الفضل أولاً وأخيراً. فإن قيل: إن الله تعالى سمَّى إبراهيم حليماً ومنيباً وأوَّاهاً , قيل: هذه كلّها من بعض خصال محمد - صلى الله عليه وسلم - وله من الخصال الحميدة أضعافُ أضعاف هذه كما هو مبسوط في كتب مناقبه , فكان في الحلم آيةً [كما] (¬5) قال أنس - رضي الله عنه -: "خدَمتُه عشر سنين (¬6) ¬
وليس كلّ شأني كما يَرضى صاحبي , فما قال لي يوماً قط لشيء صنعته لم صنعت هذا هكذا , ولا لشيء لم أصنعه لِمَ لم تصنع هذا هكذا" (¬1) وكان - صلى الله عليه وسلم - من الإنابة إلى ربِّه سبحانه بالموضع الذي لايخفى فإنه كان من دعائه: «اللهم بك أُقاتِل وبك أصول وبك أحول» (¬2) إلى غير ذلك من الإنابة في جِلِّ الأمور ودِقِّها وكان من تأوهه وخوفه من ربه أنه يقول: «لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيراً ولضحكتم (¬3) قليلاً وما تلذذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم إلى الصّعدات تجأرون إلى ربكم» (¬4) إلى غير ذلك من أخباره عن حلمه وإنابته وتأوّهه. فإن قيل: إن إبراهيم - عليه السلام - أوحي إليه: "يا إبراهيم إنك لمَّا سَلَّمت مالك إلى الضِيفان , وابنك إلى القربان , ونفسك إلى النيران , وقلبك إلى الرحمن , اتخذناك خليلاً" (¬5) , قلنا: إن ذلك لفضل عظيم , وخير عميم , وفخر مقيم , وكل ذلك من ¬
بعض ما أُعطي نبينا - صلى الله عليه وسلم - وزاد عليه كما أشرنا إليه وكما يأتي فيما بعد إن شاء الله تعالى. فإن قيل: إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام أُعطي الصّحف وكانت عشر صحائف , قلنا: إن ما أوتي محمد - صلى الله عليه وسلم - من السبع المثاني والقرآن العظيم أعظم من ذلك بكثير فإن صحف إبراهيم - عليه السلام - كانت كلها مواعظ وأمثالاً كقوله فيها: "أيها الملِك المبتلى المُسَلّط المغرور إنِّي لم أبعثك لجمع الدنيا بعضها على بعض ولكن بعثتك لتَرُدَّ عنِّي دعوة المظلوم فإنِّي [ق 10/ظ] لا أردها وإن كانت من كافر" (¬1) وأمثال ذلك من الحِكَم (¬2) , وكان ما أوتيه محمد - صلى الله عليه وسلم - من القرآن فيه نبأ مَن مضى ونبأ مَن يأتي إلى يوم القيامة ومابين ذلك من الحِكَم والأحكام والمواعظ والزواجر والأمر والنهي والتحليل والتحريم إلى غير ذلك مما يطول ذكره ويشق حصره , فمحمد - صلى الله عليه وسلم - سيّد الرُّسل عليهم الصلاة والسلام وكتابه سيّد الكتب وأمَّته خَيْر الأمم صلوات الله عليه وسلامه. وأما قوله تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 37]: أي وفَّى بما ابتلاه به من قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: من الآية 124] اختلف العلماء في الكلمات التي ابتلى الله تعالى بها إبراهيم عليه الصلاة والسلام فقال عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: "هي ثلاثون سهماً , وهي شرائع الإسلام لم يُبْتلَ أحدٌ بهذا الدين فأقامه كلَّه إلا إبراهيم - عليه السلام - أتمهنَّ فكُتِب له البراءة فقال: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 37] وهي عشر في سورة براءة (¬3): {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ ... } إلى ¬
آخرها (¬1) [التوبة: 112] وعشر في الأحزاب: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ ... } إلى آخرها [الأحزاب: 35] وعشر في المؤمنين: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ... } [المؤمنون: 1] وقوله: {إِلَّا الْمُصَلِّينَ ... } [المعارج: 22] في سأل سائل" , وروى طاوس عن ابن عباس أيضاً قال: "ابتلاه الله تعالى بعشرة أشياء هي من الفطرة والطهارة , خمس في الرأس وخمس في الجسد فالتي في الرأس قصُّ الشارب والمضمضة والاستنشاق والسواك وفرق الرّأس (¬2) , والتي في الجسد تقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة والختان والاستنجاء بالماء" , وقال مجاهد: "هي الآيات التي بعدها في قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ... } [البقرة: من الآية 124] إلى آخر القصة" , وقال الربيع وقتادة: مناسك الحج , وقال الحسن: سبعة أشياء ابتلاه [الله] (¬3) بالكوكب والقمر والشمس وأحسن النظر في ذلك وعلم أن ربَّه دائم لايزول [أبداً] (¬4) وابتلاه بالنَّار فصبر على ذلك وابتلاه بالهجرة فصبر على ذلك وابتلاه بذبح ابنه فصَبر [على ذلك] (¬5) وبالختان فصبر على ذلك؛ وقال أبو رَوْقٍ (¬6): هي قوله: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) ... } [الشعراء: 78] إلى آخر الآيات؛ وقال بعضهم: هي [ق 11/و] أن الله تعالى ابتلاه في ماله وولده ونفسه وقلبه , فسَلَّم مالَه للضيفان , وولدَه إلى القربان , ونفسه إلى النيران , وقلبه إلى الرحمن , فاتخذه خليلاً؛ وقيل هي: سهام الإسلام وهي عشرة: شهادة أن لا إله إلا الله وهي الملة , والصلاة وهي الفطرة , والزكاة وهي الطُهْرة , والصوم وهو الجُنّة , والحج وهو ¬
الكلام على تفضيل هذه الأشياء وأن ما أوتي محمد - صلى الله عليه وسلم - منها مثلها أو ما يوازيها على أتم مما أوتيها إبراهيم عليه الصلاة والسلام وأكمل وأفضل
الشريعة , والغَزْو وهو النصرة , والطاعة وهي العصمة , والجماعة وهي الأُلفة , والأمر بالمعروف وهو الوفاء , والنهي عن المنكر وهو الحجة , فأتمهن , وقام بهن , ووفَّى بهن , فقال الله تعالى له: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: من الآية 124] (¬1). الكلام على تفضيل هذه الأشياء وأنَّ ما أوتي محمد - صلى الله عليه وسلم - منها مثلُها أو ما يوازيها على أتم مما أوتيها إبراهيم عليه الصلاة والسلام وأكمل وأفضل فأما العشر التي في سورة براءة فقوله: {التَّائِبُونَ} [التوبة: من الآية 112] فقد أوتيها محمد - صلى الله عليه وسلم - بل وكثير من أمَّته , فإنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «استغفروا الله وتوبوا إليه فإنِّي أتوب إلى الله في اليوم مائة مرّة» (¬2) , وفي أمّته من يفعل ذلك وقريباً منه كثير , وقوله: {الْعَابِدُونَ} [التوبة: من الآية 112] فبعبادته تضرب الأمثال وحالُهُ فيها لاتطاق , فقد كان يقوم حتى تتفطر قدماه (¬3) , ويصوم حتى يُقال لا يفطر , وكنت لاتشاء أن تراه من الليل قائماً إلا رأيته (¬4) , وكان يقوم من الليل ما شاء الله ثم ينام ثم يقوم ثم ينام ثم يقوم (¬5) وهذه حالةٌ لا يتمكن منها أحد غيره في الليلة الواحدة , وكثير من أمَّته كان يُحيي ¬
الليل ويصوم النهار , وأراد بعض أصحابه أنْ يتبتَّل (¬1) فنهاهم عن ذلك (¬2) , وعزموا على الوصال في رمضان كما كان يُواصِل فنهاهم خوفاً عليهم أن يُفرَض عليهم فيعجز منهم من يعجز منهم عنه (¬3) , وكان كثيراً ما يعمل العمل والأشياء من النوافل وقتاً دون وقتٍ خوفاً أن يتبعه أصحابُه فيُفرَض عليهم , وخلائق من لايُحصى من أمَّته كان يصلِّي الصبح بوضوء العشاء ويَسرُد الصَّومَ في ضمن ما يعملون من الجهاد وغيره مما يطول شرحه وهو واضح ظاهر , وقوله: {الْحَامِدُونَ} [التوبة: من الآية 112] فقد كان محمد - صلى الله عليه وسلم - أعظم النَّاس [ق 11/ظ] حمداً لربِّه سبحانه , وأنزل الله فاتحة الكتاب المفتتحة بالحمد لله التي لم تُنزل على أحد من الأنبياء قبله المتضمّنةِ لحقوق الله تعالى ومطالب العبد كما في الحديث «قسَمْتُ الصلاة بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل , يقول العبد: الحمد لله رب العالمين , يقول الله: حمدني عبدي ... » (الحديث) (¬4) (¬5) , فجعل الله ¬
هذه السورة مُكرَّرة في صلاته في كل ركعة من الصلوات الخمس فجعل صلاته كلّها حمداً لله تعالى , هذا غير ما يحمده في غيرها ضمن التسبيح والتحميد والتكبير الذي كان يفعله عقيب الصلوات وعند المنام وعند القيام وعند الطعام وعند غالب أحواله ولأمَّته من ذلك النصيب الوافر , ولهذا أنزل في التوراة على موسى في صفتهم أنهم "الحمَّادون رُعاة الشمس" (¬1) يعني المحافظين على الصلوات في أوقاتها بمراعاة (¬2) زوال الشمس وتحلّقها (¬3) وغروبها وغير ذلك , فمحمَّد - صلى الله عليه وسلم - وأمَّته الحمَّادون الله (¬4) على كل حال وفي كل نعمة , وفي التوراة أنهم الحمادون على كل نجد (¬5) (¬6)؛ وقوله: ¬
{السَّائِحُونَ} [التوبة: من الآية 112] يعني «الصّائمين» (¬1) رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2) , وقال سعيد بن جُبَيْر: هم الصائمون ألم تر أنّ الله تعالى إذاً ماذكر الصائمين (¬3) , وقال الحسن: {السَّائِحُونَ} [التوبة: من الآية 112] الصائمون عن الحلال الممسكون عن الحرام , وقال عطاء: {السَّائِحُونَ} [التوبة: من الآية 112] الغُزَاةُ والمجتهدون , وقال عُمَر بن نافع: سمعت عكرمة وسئل عن قول الله تعالى: {السَّائِحُونَ} [التوبة: من الآية 112] فقال: هم طلبة العلم (¬4) , وقد أوتي محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وأمَّته من هذا النصيب الأوفى فقد ذكرنا أنه كان يصوم حتى يُقال لايُفطر , وقال بعض أصحابه وأراد التّبتل للعبادة: أما أنا فأصوم لا أُفْطر وهو عبدالله بن عمرو بن العاص وفعل ذلك مدَّة حتى نهاه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك شفقةً عليه (¬5) , وأمّا كون السياحة الجهاد فقد باشر النبي - صلى الله عليه وسلم - الجهاد بنفْسه وكُسرت رباعيته ودُمِي وهُشمت البيضة على رأسه وكان يَحْمل على الكَتيبَةِ ويقول: «أنا النبي لا كذب أنا ابن عبدالمطلب» (¬6) فيُوَلّي الكفارُ الأدبارَ , وقد جاهد في الله تعالى حق جهاده , وفي الصحيح أنَّ البراء قال: كنا والله ¬
إذا احمرَّ البأس نتَّقي به وإن الشجاع منَّا للذي يُحاذي به يعني [ق 12/و] النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1) , وكان من أُمَّته من إذا لقي العدو كسَر جَفْن سيفه (¬2) (¬3) وحمل عليهم (¬4) , ومنهم من كان في يده تمرات فلمَّا التقى الجمعان قال: لئن عشتُ حتى آكل تمراتي هذه إنَّها لحياة طويلة فألقى التمرات وقاتل حتّى قُتل (¬5) ومن هذا الجنس في أمّة محمد - صلى الله عليه وسلم - قديماً وحديثاً كثيرٌ معروف مشهور , وأمَّا كون السِّياحة طلب العلم فإنَّ محمَّداً - صلى الله عليه وسلم - كان في بَدْء أمره يتزوَّد ويخرج إلى جبل حراء يتوقع نزولَ الوحي وتعلُّم العلم من الملَك , ولم يُنقَل عن أحد من الأمم في كثرة طلب العلم ما في أمَّة محمد - صلى الله عليه وسلم - حتى إنَّ أحدهم يرحل مسيرة الشهر في طلب الحديث الواحد , ومنهم من يتغرَّب السنين في طلب العلم ويترك وطنه وأهله وولده , وقوله: {الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ} [التوبة: من الآية 112]: يعني ¬
المصلين , وقد ذكرنا (¬1) أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - صلَّى حتى تفطَّرت قدماه , وأمَّتُه الموصوفون في التوراة بأنهم رُعاة الشمس يُوضِّؤون أطرافهم ويسجدون على جباههم وأن الأرض كلها لهم مسجد وترابها طَهُور , فليس في الأمم أعظم صلاة منهم كما هو وصفهم في التوراة أنهم يصفّون في صلاتهم صفوف الملائكة وأصواتهم في مساجدهم كَدوي النحل (¬2) , وأن موسى - عليه السلام - قد كان أراد بني إسرائيل على أقلّ من خمس صلوات فلم يقدروا ولم يفعلوا كما في حديث الإسراء , وفي أمّة محمد - صلى الله عليه وسلم - مَن يُصلي الخمس ثم يصلي من النوافل أضعافها , فصلاة محمد - صلى الله عليه وسلم - وأمّته على أتمّ الوجوه وأكمل الأحوال؛ وقوله: {الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة: من الآية 112] وكان لمحمد - صلى الله عليه وسلم - من ذلك النصيب الأوفى والحظ الأسنى كما أوحى الله تعالى إليه في شأن أهل الكتاب أنه - صلى الله عليه وسلم - {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: من الآية 157] فأخبر سبحانه وتعالى أنه مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل بهذه الصفات وكذلك صفة [ق 12/ظ] أمته في التوراة أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر (¬3) , وقوله: {وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} [التوبة: من الآية 112] قال ابن عباس رضي الله عنهما: القائمون على طاعة الله (¬4) , وهذا من خواص ما أوتي محمد - صلى الله عليه وسلم - أنّ دينه لا يزال قائماً حتى تقوم الساعة كما في الصحيح: «لا تزال ¬
طائفة من أمتي يدعون إلى الحقّ لايضرهم مَن خذلهم ولا مَن خالفهم حتى تقوم الساعة» (¬1) , وقال الحسن: الحافظون لحدود الله هم أهل الوفاء ببيعته (¬2) كما قال له بعض أصحابه حين ندبهم إلى الجهاد: والله لانقول لك كما قال أصحاب موسى لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون , بل نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنّا معكم مقاتلون , واللهِ لو أمرتنا أن نُخيضها البحر لأخضناها , ولو أمرتنا أن نضرب أكبادَها إلى بَرك الغِماد لفعلنا (¬3). ولما نودي في أصحابه يوم هوازن حين ولّوا لما رَمَوهم بالنّبل نادى العباس: يا أصحاب السَمُرة يا أصحاب سورة البقرة فذكّرهم عقد البيعة التي بايعوا بها محمّداً - صلى الله عليه وسلم - تحت الشجرة عَطَفوا عطفة (¬4) البقر على أولادها يقولون : يالبيّك يالبيّك , فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الآن حين حمي الوطيس» (¬5) وأنزل الله تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 172]؛ وأما تفصيل العشر التي في الأحزاب وأن محمّداً - صلى الله عليه وسلم - أوتيها على أكمل الأحوال وأتمّ الأفعال فقوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ ... } الآية ¬
[الأحزاب: 35] فقد روي أن مقاتل بن حَيَّان قال: بلَغني أنّ أسماء بنت عُمَيس رضي الله عنها رجعت من الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهما (¬1) فدخلت على نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت (¬2): هل نزل فينا شئ من القرآن , قلن: لا , فأتَتْ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله إن النساء لفي خَيبةٍ وخسارٍ , فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ومِمَّ ذاك» , قالت: لأنهنّ لا يُذكَرْن [ق 13/و] بخير كما يُذكَر الرجال فأنزل الله - سبحانه وتعالى -: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35] (¬3) ولا ريب أنّ هذه الأمور كانت من محمد - صلى الله عليه وسلم - على أكمل الأحوال وفي كثير من أمّته كانت وتكون على الأحوال الكاملة , وقد قال عطاء بن أبي رباح رحمة الله عليه: من فوَّض أمره إلى الله - عز وجل - فهو داخل في قوله: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} [الأحزاب: من الآية 35] , ومن أقرّ بأنَّ الله ربّه وأن محمداً - صلى الله عليه وسلم - رسوله ولم يخالف قلبُه لسانَه فهو داخل في قوله: {وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب: من الآية 35] , ومن أطاع الله تعالى والرسول - صلى الله عليه وسلم - في السنَّة فهو داخل في قوله: {وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ} [الأحزاب: من الآية 35] , ومن صان لسانه عن الكذب فهو داخل في قوله: {وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ} [الأحزاب: من الآية 35] , ومن صَلَّى فلم يَعرفْ مَن عن يمينه وعن يساره فهو داخل في قوله: {وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ} ¬
[الأحزاب: من الآية 35] , ومن صبر على الطاعة وعن المعصية وعلى الرَّزيئة (¬1) (¬2) فهو داخل في قوله: {وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ} [الأحزاب: من الآية 35] , ومن تصدَّق في كل أسبوع بدرهم فهو داخل في قوله تعالى: {وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ} [الأحزاب: من الآية 35] , ومن صام في كل شهر أيام البيض: ثالث عشر ورابع عشر وخامس عشر فهو داخل في قوله: {وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ} [الأحزاب: من الآية 35] , ومن حفظ فرجَه عمّا لا يحل له فهو داخل في قوله: {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ} [الأحزاب: من الآية 35] , ومن صلى الصلوات الخمس بحقوقها فهو داخل في قوله: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: من الآية 35] (¬3) , فمحمَّد - صلى الله عليه وسلم - في الإسلام جبل راسخ , وفي الإيمان عَلَم شامخ , وفي القنوت بحر طافح , وفي الصدق [ق 13/ظ] سحاب سافح (¬4) , وفي الخشوع إمام , وفي الصبر على الطاعة هُمام , وكان أبعد الناس عن المعصية , وأصبرهم على المَرْزِية , وكان أعظم الخلق بالصّدقة إيثاراً , وفي الهَواجر (¬5) على مواظبة الصوم اصطباراً , وكان - صلى الله عليه وسلم - أمْلَكَ الخلق لإربه في الحلال فكيف عن الحرام , وأشد الناس مُثابرة على الصلوات والناس نيام , وكم في أمّته من قُطْبٍ (¬6) استنَّ بسنّته , وكم فيهم من ¬
وليٍّ سار بسيرته , وليس ذلك لغير محمد - صلى الله عليه وسلم - (كما لَه , وليس لواحد من الأمم مثل ما) (¬1) ولأمّته (¬2) , ولا اجتمع في أهل ملل غير أهل ملّته. وأما العشر التي في المؤمنين فقوله: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)} [المؤمنون: 1 - 11] ... فقد مضى ذكر الإيمان والخشوع وهنا ذكر الخشوع في الصلاة فإنّه أوكَدُ منه في غير الصلاة واللغو القبيح من القول وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «إني لم أُبْعَثْ لعَّاناً ولا فحَّاشاً ولا سخَّاباً في الأسواق» (¬3) , وقوله: {لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} [المؤمنون: من الآية 4] ولم يكن - صلى الله عليه وسلم - صاحبَ مال , وعُرضت عليه - صلى الله عليه وسلم - كنوز الأرض فأباها (¬4) ولم يكن فقره كفقر غيره من الناس الذين يأكلون الصدقات فإن الصدقة محرّمة عليه وعلى ذريّته وبَني عمّه إلى يوم القيامة , [ففقره أعلى درجة من درجة الملوك] (¬5) , وهذه المرتبة أكمل من مرتبة صاحب مالٍ يُسأل من أين اكتسبه وفيما أنفقه (¬6) , وفي أمّة محمد ¬
- صلى الله عليه وسلم - من أولياء الله الصّالحين مَن سُئل عن قدر الزكاة ماهو فقال للسائل: عندنا أو عندكم , وكان السائل فقيهاً , فقال السائل: وهل عندكم غير ماعندنا , قال: نعم , أنتم عندكم في كلّ مائتي درهم خمسة دراهم حقّ الله , ونحن عندنا أنّ الكلّ حقّ الله (¬1) و [ق 14/و] لهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما يكن عندي من خير فلن ادّخره عنكم» (¬2) وكان - صلى الله عليه وسلم - لا (¬3) يدّخر شيئاً لغد , وكان يعطي عطاء من لايخشى الفاقة. وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] فقد تقدم شرف النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا المقام , وأنه كان أملك الخلق لإربه , وفي أمّته عجائب في حفظ الفروج ومجانبة الزّنا كما يروى عن مَن حُصِر في بيت وأُغلق عليه ودُعي إلى الفاحشة فمنهم من ألقى نفسه من أعالي البيت فسَلِم , ومنهم من دخل الخلاء وتلطَّخ بالعَذرة وخرج في زيّ مجنون , وأمثال هذه الأمور كما سيأتي في قصّة يوسف عليه الصلاة والسلام , كل ذلك حفظاً للفروج وخوفاً من الله تعالى عن تعدِّي حدوده (¬4) واللائمة يوم القيامة , وتقدّم الكلام في مراعاة العهود والوفاء بها والمحافظة على القيام بها. وأما المحافظة على الصلوات فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم - من المحافظة عليها في أوقاتها من الغاية , حتى إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبطأ ليلة فلم يخرج إليهم حتى ذهب ما شاء الله من الليل فقالوا: أبطأت عنّا يا رسول الله , فقال: «أبشروا فإنه ليس أحد ينتظر الصلاة غيركم» (¬5) ولم يكن يومئذ يُصلَّى بغير المدينة , ولهم اختصاص الانتظار للصلاة ¬
بعد الصلاة , والمراعاة للجماعات والمشي إليها في الظلمات , حتى إنّ في هذه الأمّة من ذُكِر أنه لم يفته صلاة في جماعة إلا مرّة فصلى سبعاً وعشرين صلاة لما بلغه أن صلاة الجماعة تضاعف على صلاة الواحد سبعاً وعشرين ضعفاً والحكاية معروفة (¬1) , وفي إسباغ الوضوء في المكروهات والمشي إلى الجماعات وانتظار الصلوات بعد الصلوات يَختصم الملأ الأعلى كما جاء في الحديث المشهور (¬2) , فأولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون , وهذا الميراث إنما هو أنّ هذه الصلوات عرضت على من كان قبلهم فأضاعوها , كما قال تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} [مريم: من الآية 59] فأوْرَثَ الله هذه الأمّة [ق 14/ظ] مكانهم الذي وعدهم على حفظ الصلوات لو حفظوها والله تعالى أعلم؛ واستثنى الله تعالى في ¬
سورة (سأل سائل) المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون ممّن ذمّهم بالهَلع والجزع , وجعل الدائمين عليها المحافظين في جنّات مكرمين (¬1). وأما العشرة التي ذكرها طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما من الفطرة التي أوتيها إبراهيم عليه الصلاة والسلام فقد أوتيها محمد - صلى الله عليه وسلم - وزيادة عليها ففعلها هو - صلى الله عليه وسلم - وأمَّته على الوجه الكامل والحال الفاضل. وأما قول مجاهد بأنها قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: من الآية 124] فقد كانت إمامة محمد - صلى الله عليه وسلم - أظهر وتبع الخلق له على دينه أشهر. وأما قول الحسن أنها سبعة أشياء الكوكب والقمر والشمس فقد ذكرنا (¬2) أنّ محمداً - صلى الله عليه وسلم - أوتي في صباه من الحفظ والإيقان والسلامة من أسباب الإشراك وإلهام التوفيق إلى الحق مافيه كفاية , وكذلك ذكرنا صبره - صلى الله عليه وسلم - على القتل بنفسه والتّغْرير بها في طاعة الله تعالى ماهو أعظم من الصبر على فقد الولد وألم الختان وصبره في هجرته - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى المدينة وبلواه كانت أعظم من صبر إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - في هجرته , فإنه خرج مختفياً وقد بيَّته القوم كما ذكر الله - عز وجل - في كتابه ليقتلوه , ولما علموا أنه قد خرج بعثوا في طلبه في جميع الطرق وبذلوا الأموال الكثيرة لمن يقتله أو يأتي به , وقصته مع سُراقة في ذلك معروفة حتى قدم المدينة. وأما قول أبي رَوْق أنها قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) ... } [الشعراء: 78] [الآيات] (¬3) فإنّ محمداً - صلى الله عليه وسلم - كان من هذه الأمور بالمنزلة التي لايصل إليها غيره وهي ظاهرة مِن سيرته - صلى الله عليه وسلم - , وقد ذكرنا الكلام على قول بعضهم أنها ابتلاؤه (¬4) في ماله وولده ونفسه وقلبه وأنّ الله اتخذه لذلك خليلاً , فمحمّد - صلى الله عليه وسلم - كان في هذه الأمور أكمل قدراً وأعظم أجْرًا فإن الله تعالى اتخذه خليلاً حبيباً. ¬
وأما قول من قال: هي سهام الإسلام وهي عشرة شهادة أن لا إله إلا الله وهي الملّة فقد كان محمّد - صلى الله عليه وسلم - يدعوا إليها على [ق 15/و] الوجه الأتمّ , والحال الأعمّ كما صعد - صلى الله عليه وسلم - على الصّفا ونادى «يا صباحاه» فاجتمعوا فقال: «أرأيتم لو أخبرتكم (¬1) أنّ عدوّاً يُصَبّحكم أو يُمَسّيكم أكنتم مصدِّقي» , قالوا: ما جرَّبنا عليك كذباً , قال: «فإني نذير لكم بين يدَي عذاب شديد» (¬2) يعني أن تقولوا لا إله إلا الله , وكان يدعو إلى سبيل ربِّه بالحكمة والموعظة الحسنة ويجادلهم بالتي هي أحسن كما أمره الله تعالى حتى أذن له في جهادهم فجاهدهم حتى أقام الدّين وظهر أمْرُ الله وهم كارهون وأقام الملّة العوجاء وقالوا: لا إله إلا الله , وأما الصلاة فقد تقدم الكلام فيها وقال - صلى الله عليه وسلم -: «أُمِرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وأنِّي رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ... » الحديث (¬3) , وكذلك الحج والجهاد والطاعة والجماعة والألفة (¬4) والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقد أشرنا إلى ذلك وأنَّ محمّداً - صلى الله عليه وسلم - فعل هذه الأمور مع غيرها من شريعته وسنّته على أتمّ النظام وأكمل الأقْسام , فمرتبة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام جليلة (¬5) , ومزيّته نبيلة , ودرجته أثيلة (¬6) , ولا كمحمّد - صلى الله عليه وسلم - صاحب الوسيلة والمنزلة الرفيعة العريضة الطويلة صلوات الله وسلامه عليهما , وبركاته وتحيّاته واصلة إليهما , فقد تبين بالبرهان الواضح , والدليل الرّاجح , أن ماوَفّى محمد - صلى الله عليه وسلم - أبلغ مما وفّى إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - فإنه بلغ ما أوحي إليه من ربِّه سبحانه البلاغ المبين ولم يألُ جهداً في توضيح أصول الدين , ولم يكتم شيئاً ممّا أوحي إليه , وسواءً كان ذلك له أو عليه كما قالت عائشة رضي الله ¬
عنها لمّا نزلت قصّة زيد - رضي الله عنه - من قوله تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب: من الآية 37]: "لو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - كاتماً شيئاً من الوحي كتم هذه الآية" (¬1) فلم يمنعه من تبيلغ الوحي مانعٌ , ولا دفعه عن قول الحق دافعٌ , كما قال بعض أصحابه: "لقد تَرَكَنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ومامن طائر يطير بين السماء والأرض إلا وقد ذكر لنا منه علماً" (¬2) واستنطق الناس في أعظم حَفْلٍ وأكثر جمعٍ [ق 15/ظ] يوم حجّة الوداع «ألا هل بلّغت» فيقولون: نعم , فيرفع يده إلى فوق وينكبها (¬3) إليهم ويقول: «اللهم اشهد» (¬4) , وأما قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ} [الأنبياء: من الآية 51] وقوله في الكوكب والقمر والشمس وإلهامُه أن قال: {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: من الآية 79] فإنَّ حال محمد - صلى الله عليه وسلم - أكمل وأتمّ وأقوى في التبليغ وأنجع في قلوب السامعين , وروى أبو نعيم بسنده عن النَّزَّال بن سَبْرَة عن علي - رضي الله عنه - قال: قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: هل عبدت وثناً قطّ قال: «لا» , قالوا: هل شربت خمراً قطّ قال: «لا وما زلت أعرف أن الذي هم عليه كفر وما كنت أدري ما الكتاب ولا الإيمان» (¬5) , وفي حديث آخر أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: ¬
«لمّا نشأتُ بُغضت إليّ أوثان قريش وبُغض إليَّ الشعر» (¬1) , وعن نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه جُبير - رضي الله عنه - قال: كانت قريش إنَّما تدفع (¬2) من المزدلفة وتقول: نحن الحُمْس (¬3) فلا نخرج من الحرم , وقد تركوا الموقف بعرفة , قال: فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الجاهلية يقف مع الناس بعرفة على جمل له ثم يصبح مع قومه بالمزدلفة ثم يدفع بدفعهم إذا دَفعُوا (¬4) , وأمثال هذا كثير من تجنُّبه لشركهم وضلالهم وكل ذلك بتوفيق من الله تعالى له. وقيل له: متى كنت نبيّاً , قال: «وآدم مُنْجدلٌ (¬5) في طينته» (¬6) فمن يكون هذا حاله كيف يتطرق إليه شرك أو (¬7) شكّ وقد جرى بينه وبين رجل من قريش كلامٌ فقال له ¬
القرشيّ: احلف باللات والعزى فقال: «والله ما أبغضتُ شيئاً ما أبغضتهما وإنّي لأمُرُّ بهما فأعرِض عنهما» , فقال له القرشي [ق 16/و]: أنت صادق فيما تقول (¬1)؛ وقد كان - صلى الله عليه وسلم - قبل الوحي يتألَّه ويتحنَّث ويتعبَّد لله تعالى كما قد ثبت في الصحاح وغيرها من سيرته - صلى الله عليه وسلم - وكل ذلك رُشد آتاه الله تعالى إيَّاه في صغره وتوفيق مَنَحه إيَّاه في طفوليته , وذلك (من) (¬2) فضل الله الذي يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم؛ وأما تبليغ دعوة إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - لمّا بنى البيت بالحج في الناس فبلغ صوته مَن قضى الله أن يحجّ , قلنا لمحمد - صلى الله عليه وسلم - أبلغ من ذلك فإنه زُويت (¬3) له الأرض فرأى مشارقها ومغاربها وقال: «سيبلغ مُلْك أمّتي مازوي لي منها» (¬4) ولو أراد أن يبلّغ الله صوته ما بلغ نظره لكان ذلك , وما أُعطي محمد - صلى الله عليه وسلم - أعظم مما أُعطي إبراهيم عليه الصلاة والسلام , وقد أعطى الله بعض أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - أن بلغ صوته حيث أراد وكشف عن بصيرته وبصره المسافة البعيدة مسيرة شهر وذلك ما رواه أبو نعيم بإسناده عن عمرو بن الحارث قال: "بينما عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يخطب يوم الجمعة إذ ترك الخطبة فقال: يا ساري (¬5) (¬6) الجبل مرتين أو ثلاثاً ثم أقبل على خطبته , فقال أولئك النظراءُ من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -: لقد جُنَّ إنه لمجنون , بينا (¬7) هو في خطبته قال: يا ساري الجبل , فدخل عليه عبدالرحمن بن عوف - رضي الله عنه - وكان يطمئنّ إليه فقال: لشدّ ما ألُومُهم عليه أنك لتجعل لهم على نفسك مقالاً بينا أنت تخطب إذ أنت ¬
تصيح: يا ساري الجبل أيّ شيء هذا؟ قال: إني والله ما ملكت ذلك أن رأيتهم يقاتلون عند جبل يُؤتَون من بين أيديهم ومن خلفهم فلم أملك أن قلت: يا ساري الجبل ليلحقوا بالجبل , فلبثوا إلى (¬1) أن جاء رسول سارية بكتابه أنّ القوم لقونا يوم الجمعة فقاتلناهم من حين صلينا الصّبح حتى إذا حضرت الجمعة وسمعنا منادياً ينادي: يا ساري الجبل مرتين فلحقنا بالجبل فلم نزل قاهرين لعدوِّنا حتى هزمهم الله تعالى وقتلهم , فقال أولئك الذين طعنوا عليه: دعوا (¬2) هذا الرجل فإنه مصنوع له (¬3) " (¬4). ¬
(فصل) فأما موسى عليه الصلاة والسلام فهو صفي الله تعالى
(فصل) (¬1) فأما موسى عليه الصلاة والسلام فهو صفي الله تعالى [ق 16/ظ] ونجيّه وكليمه ونبيّه ورسوله , ففضله ليس يخفى , ونور جلاله قدره لا يَطفا , عالج القبط وبني إسرائيل , وقاسى شدائد منهم شرحُها طويل , وجاهد أعداء الله تعالى (ونصر كلمته , وصابر وثابر لله تعالى) (¬2) وبلّغ رسالته , فصلوات الله عليه ما كان أصبره , وبمُداراة القوم ومُدارأتهم (¬3) ما أخبره , وقد أُعطي محمد - صلى الله عليه وسلم - من ذلك ما تُعقد عليه البنان الخمس , وسار في الآفاق مسير القمر والشّمس , فكل فضيلة أوتيها موسى , وكل قضيّة (¬4) لقيها نعمى وبؤسى , فلمحمّد - صلى الله عليه وسلم - نظيرتها وأكبر , وأوضح منها لمن تأمّلها وأظهر , وكلٌّ كان عند الله وجيهاً , وكل منهما قد كان نبيّاً نبيهاً , فمن ذلك معجز موسى عليه الصلاة والسلام في العصا واليد وانفجار الماء من الحجر في التّيه , فإن الله تعالى أعطى محمّداً - صلى الله عليه وسلم - مثل ذلك أو أعجب وأعظم فإن العصي (¬5) (لموسى) (¬6) عليه الصلاة والسلام كانت من خشب يجعلها الله تعالى له ثعباناً حيّاً يتلقف ما يأفك سحرة فرعون ثم تعود إلى خاصيتها وسيرتها الأولى , وكان لموسى عليه الصلاة والسلام فيها مآرب أخرى فما ذاك بأعجب من جذع يابس كان محمد - صلى الله عليه وسلم - يخطب عليه , فلما عمل المنبر وتحوّل إليه حنّ ذلك الجذع إليه كحنين العشار إلى أولادها , وجعل يَخُور كما يخور الثور حتى سمع أهل المسجد ذلك , فلم يزل كذلك يحنّ ويئنّ حتى جاءه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاحتضنه وضمّه إليه فسكن وقال: «والذي نفسي بيده لو (لم) (¬7) ألتزمه لما زال كذلك حتى تقوم الساعة جزعاً على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» (¬8) , وأعجب من ذلك أنه دعا شجرةً من أقصى الوادي فجاءت تَخُدّ الأرض (¬9) ¬
حتى وقفت بين يديه ثم أمرها فرجعت إلى منبتها فقامت كما كانت (¬1) , ونحو ذلك دعاؤه للعذق من رأس النخلة فانْحدَرَ وجاءه يَنقُزُ حتى صار بين يديه ثم أمره أن يعود حيث كان فصعد كذلك (¬2) , وأعجب من ذلك أنه كان بالحَجون (¬3) وهو كئيب حزين فقال ¬
- صلى الله عليه وسلم -: «اللهم أرني اليوم آيةً لا أبالي من كذّبني بعدها من قومي [ق 17/و] فأُمِر أن ينادي شجرةً من عقبة المدينة فناداها فجاءت تَشُق الأرض حتى انتهت إليه فسلّمت عليه ثم أمَرها فذهبت فقال: ما أبالي من كذّبني بعدها من قومي» (¬1) , وأعجب من هذا أو أبلغ أنه كان حين بُعث لا يمرّ بحجر ولا شجر إلا قال: السلام عليك يارسول الله , وقال: «كان حجر بمكة يسلّم عليّ قبل أن أُبعث إني لأعرفه الآن» (¬2) ونحوه تسبيح الحصى في يديه , وتسبيح الطعام وهو يؤكل عنده وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى وهذا بابٌ (واسع) (¬3). وأما ضرب موسى - عليه السلام - بالحجر بعصاه فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً وهم في التيه فليس بأعجب من أنّ محمداً - صلى الله عليه وسلم - كان في سفر فأعوز القوم من الماء فدعا بقدح فجعل أصابعه فيه فجعل الماء ينبع من بين أصابعه حتى روي القوم أجمعون (¬4) , وخروج الماء من الأحجار أمْرٌ معتاد قال الله تعالى: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ ¬
مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ (¬1)} [البقرة: من الآية 74] , وأما من بين الأصابع فلا يعهده أحد لغير (¬2) محمد - صلى الله عليه وسلم - فهو أعظم وأعجب , وذلك ماروى عبدالرحمن بن أبي عمرة الأنصاري قال: حدثني أبي قال: "كُنّا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة غزاها فأصاب الناس مخمصة فدعا بركوة فوضعت بين يديه ثم دعا بماء فصبّ فيها , (ثم مجّ فيها) (¬3) , وتكلم بما شاء الله أن يتكلم , ثم أدخل خنصره فيها , فَأُقسِمُ بالله لقد رأيت أصابع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تتفجَّر ينابيع الماء , ثم أمر الناس فسَقوا وشربوا وملأوا قِربهم وإداواتهم" (¬4) , والأحاديث في هذا المعنى كثيرة مشهورة معلومة في كتب الصّحاح (¬5) والسنن والسِّير وغير ذلك. فإن قيل: إن موسى عليه الصلاة والسلام انفلق له البحر لما ضربه بعصاه فجازه هو وأصحابه لما تبعهم فرعون وجنوده , قيل: لمحمد - صلى الله عليه وسلم - أعجب من ذلك (¬6) فإنه لم يحتج إلى عبور البحر بل بعض أصحابه قال: "والله لو أمرتنا أن نُخيضها البحر لأخضناها" (¬7) , ولم يشترطوا انفلاق البحر وهم صادقون فيما قالوا وقد حقّق هذا الفعل بعض أصحابه في حياته وبعد موته وهو العلاء بن الحضرميّ - رضي الله عنه - لما كان بالبحرين واضطر إلى عبور [ق 17/ظ] البحر فعبر هو وأصحابه ولم يبتل لهم ثوب , وذلك ما روى أبو هريرة - رضي الله عنه - قال: "لما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - العلاء بن الحضرميّ إلى البحرين تبعتُه ¬
فرأيت منه خصالاً ثلاثاً لا أدري أيتهن أعجب , انتهينا إلى شاطئ البحر فقال: سموا الله تعالى واقتحِمُوا , فسمّينا واقتحمنا فعَبرنا فما بلّ الماء إلا أسافل (¬1) أخفاف الإبل , فلما قفلنا جُزنا معه بفلاة من الأرض وليس معنا ماء فشكونا إليه فصلّى ركعتين ثم دعا فإذا سحابة مثل الترس ثم أرخت عَزالَيْها (¬2) فسَقينا واستقينا (¬3) ومات فدفنّاه , فلما سرنا غير بعيد قلنا: يجيء سبع فيأكله فرجعنا فلم نره" (¬4) وقد تقدمت (¬5) هذه القصّة بأتم من هذا السياق عند ذكر نوح عليه الصلاة والسلام , وكذلك قصة سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - فإنه لما فرغ من أمر القادسية ونزل بالمسلمين الكوفةَ ومدائن (¬6) كسرى بالأجناد والرجال فافتتحوها وهرب منها أردشير (¬7) فدخل المسلمون مدينة (¬8) نهرشير (¬9) وهي المدينة الدُنيا ¬
في جوف الليل , فلاح لهم القصر الأبيض قال المسلمون: الله أكبر هذا أبيض كسرى الذي وعدنا الله تعالى ورسولُهُ - صلى الله عليه وسلم - وتابعوا التكبير حتى أصبحوا وذلك في صفر سنة ست عشرة وكان هذا القصر الأبيض مدينة كسرى القصوى التي فيها منزله فوقف المسلمون على دجلة وطلب سعد السفن ليعبر بالناس إلى المدينة القصوى فلم يقدروا على شيء منها ووجدهم قد ضمّوا السفن فأقاموا بنهرشير أياماً يريدونه على العبور فيمنعه الإبقاء على المسلمين حتى أتاه أعلاجٌ (¬1) فَدلُّوهُ على مَخاضَةٍ فأبى وتردّد عن ذلك وفجئهم المَدُّ فرأى رؤيا أن خيول المسلمين اقتحمتها فعبرت وقد أقبلت يعني دجلة من المدّ بأمر عظيم فعزم لتأويل رؤياه على العبور فجمع سعدٌ الناسَ فحمد الله وأثنى عليه وقال: إن عدوّكم قد اعتصم منكم بهذا البحر فلا تخلصون إليهم وهم (¬2) يخلصون إليكم إذا شاءوا فَيُناوشونكم (¬3) (¬4) في سُفنهم وليس وراءكم [ق 18/و] شيء تخافون أن تُؤتَوا منه وإنّي قد عزمت على قطع هذا البحر إليهم , فقالوا جميعاً: عزم الله لنا ولك على الرّشد فافعل , فندَب سعدٌ (الناسَ) (¬5) للعبور فقال: من يبدأ ويَحمي لنا العِرَاصَ (¬6) حتى يَتلاحق به الناس لكي لايمنعوهم من الخروج فانتدب له عاصم بن عمرو (¬7) وانتدب (له) (¬8) ستمائة رجل من أهل النجدَات فاستعمل عليهم عاصماً فسار بهم حتى وقف على شاطئ دجلة ثم قال: من ينتدب معي يمنع العراص من عدوّكم فانتدب له ستون منهم فجعلهم نصفين على خيول إناث وذكور ليكون أسلس لعَوْم الخيل إذا اقتحموا دجلة فلما رأى سعد عاصماً على العراص قد منعها أذن للناس في الاقتحام وقال: قولوا نستعين بالله ونتوكّل عليه , ¬
حسبنا الله ونعم الوكيل , لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم , وتلاحق عظم الجند فركبوا اللجة وإنَّ دجلة لترمي بالزَّبد وإنّها لمسودّة وإن الناس ليتحدّثون في عومهم وقد اقترنوا كما يتحدّثون في مسيرهم على الأرض ففجئوا أهلَ فارس بأمرٍ لم يكن في حسابهم فَأجهَضُوهم وأعجلوهم عن جُمهور أموالهم (¬1) ودخلها المسلمون واستولوا على كل مابقي في بيوت كسرى من الثلاثة ألف ألف ألفٍ وما جمع شِيرِينُ ومَن بعده (¬2) , وروى أبو بكر بن حفص بن عمر قال: "الذي كان يُساير سعداً في الماء سلمان الفارسي رضي الله عنهما فعامَتْ بهم الخيل وسعد يقول: حسبنا الله ونعم الوكيل , والله لينصرن الله وليَّه وليظهرنّ دينه , وليهزمنّ عدوَّه , وإن يكن في الجيش بغي وذنوب تغلبُ الحسناتُ , فقال سلمان: إن الإسلام جديد ذلَّل لهم والله البحارَ كما ذلّل لهم البَرّ , أمَا والذي نفس سلمان بيده ليَخرُجُنّ أفواجاً كما دخلوه أفواجاً , وطبَّقُوا (¬3) الماء حتى ما يُرى الماءُ من الشاطئ , ولهم فيه أكثر حديثاً منهم في البَر , فخرجوا منه لم يفقدوا شيئاً ولم يغرق منهم أحد" (¬4) , وعن حبيب ابن صُهْبَان (¬5) قال: "شهدتُ القادسية -قال: - فانهزَمُوا حتى أتوا المدائن وتبعناهم -قال: - فانتهينا إلى دجلة وقد قطعوا الجسور وذهبوا بالسفن فانتهينا إليها وهي تَطْفَح فأقحم رجل (¬6) منّا فرسَه وقرأ {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [ق 18/ظ] كِتَابًا مُؤَجَّلًا} [آل عمران: من الآية 145] قال: فعبر ثم تبعه النّاس أجمعون فعبروا فما فقدوا عِقالاً ما عدا رجلاً منهم انقطع قَدحٌ له كان معلّقاً بسَرْجه فرأيته يدور في الماء , قال: فلما رأونا انهزموا من غير قتال فبلغ سهم ¬
الرجل منا ثلاث عشرة دابة وأصابوا من الجامات (¬1) الذهب والفضة فكان الرجل منا يَعرِض الصحفة (¬2) الذهبَ يبدلها بصحفة (¬3) من فضة يُعجبه بياضُها فيقول: من يأخذ صفراء ببيضاء (¬4) , وعن أبي عثمان النهدي (¬5) قال: سَلِمُوا من عند آخرهم إلا رَجل من بَارِق (¬6) يُدعى غَرْقَدة (¬7) زال عن ظهر فرس له أشقر كأني انظر إليها تَنفُضُ أعرافَها (¬8) (¬9) عُرْياً والغريق طافي فثنى القعقاعُ بن عمرو (¬10) عنان فرسه إليه وأخذه بيده فجرَّه حتى عبر قال: ¬
وما ذهب لهم في الماء شيء إلا قدح كانت علاقته رثَّةً (¬1) , فانقطعت , فذهب به الماء , فقال الرجل الذي يعاومه صاحبُ القدح: أصابه القدرُ -معزِّياً له- فقال: والله إنِّي لعلى طريقة ما كان (الله) (¬2) ليَسلُبَني قدحي من بين أهل العسكر , فلمّا عبروا إذا رجل ممن كان يحمي (¬3) العراصَ وإذا (بالقدح) (¬4) قد ضربته الرّياح والأمواج حتى وقع إلى الشاطئ فتناوله برمحه فجاء به إلى العسكر يعرّفه وأخذه صاحبه (¬5) , وعن عمير الصائدي (¬6) قال: "لما أقحم سعدٌ الناسَ في دجلة اقترنوا , فكان سلمانُ قرين سعدٍ إلى جانبه يسايره في الماء , فقال سعد: ذلك تقدير العزيز العليم , والماء يطمُو (¬7) بهم وما يَزال فرسٌ يستوي قائماً قد أعيا , تنشِزُ له تَلْعَةٌ (¬8) فيستريح عليها كأنه على الأرض , فلم يكن في المدائن أمر أعجب من ذلك , ولذلك كان يدعى يوم الجراثيم لا يعيي أحدٌ إلا نشزت (له) (¬9) جرثومة (¬10) يُريح عليها , وقال حبيب بن صُهبان (¬11): لمّا عبر المسلمون يوم المدائن دجلة فنظر الفُرسُ إليهم وهم يعبرون فجعلوا يقولون بالفارسية: ديوانان (¬12) يعنون أنّ هؤلاء مجانين , وقال بعضهم: والله إنكم لم تقاتلوا الإنس وما تقاتلون إلا الجنّ فانهزموا (¬13) , فهذا في الفضيلة لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - أعظم من الفضيلة لموسى - صلى الله عليه وسلم - في ¬
عبور [ق 19/و] البحر , فإنّ ذلك كان في صحبة موسى وأخيه هارون وهما اللذان تقدَّما القومَ , وهذا كان من أصحاب محمّد - صلى الله عليه وسلم - بعد موته بمدّة , وأيضاً فإن التغرير بالنفس في خوض دجلة مع شدّة جريانها وعظم طغيانها أعظم من اقتحام البحر مع سكونه وعدم (¬1) جنونه , وأيضاً فإن موسى وأصحابه إنما دخلوا البحر لما ضربه موسى - عليه السلام - بعصاه فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم وظهرت أرض البحر فمشوا عليها كما قال (الله) (¬2) تعالى: {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى} [طه: من الآية 77] فلما تبعهم فرعون بجنوده أطبقه الله عليهم وأغرقهم ونجى موسى وأصحابه , وأيضاً فإنّ أصحاب موسى عليه الصلاة والسلام عبروا البحر وهم مطلوبون خائفون كما قال تعالى عنهم قالوا: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: من الآية 61] , وأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - كانوا طالبين لعدوّهم , وفرق عظيم بين من يغرّر بنفسه في طلب عدوّه ليقتله وبين من يغرّر بنفسه فارًّا منه في طلب النجاة لئلّا يقتله , وأيضاً فمشي أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - على وجه الماء أعظم من مشي أصحاب موسى عليه الصلاة والسلام على أرض البحر اليابسة , فإن المشي على الأرض شيء معتاد معروف بخلاف المشي على وجه الماء. فأما توريث الله تعالى لموسى عليه الصلاة والسلام وأصحابه أموال فرعون وقومه كما قال تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا} [الأعراف: من الآية 137] فليس هذا بأعظم مما ورّث الله تعالى أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - إكراماً لمحمد - صلى الله عليه وسلم - , فإن الأرض التي أُورثها موسى وقومه هي أرض فرعون التي كان يحكم فيها لا جميع الأرض التي خلق الله تعالى بدليل قوله: {الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأعراف: من الآية 137] وليس كل الأرض بارك الله فيها , وقد أورث الله تعالى أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - من آل كسرى ما لا يعد ولا يحصى من الذهب والفضّة والجواهر والأمتعة والفرش والأواني والعُدد والسلاح والدوابّ إلى غير ذلك من سائر أنواع الجواهر ¬
والمزارع والأملاك وغير ذلك , وحُمل ذلك أو معظمه إلى عمر (¬1) - رضي الله عنه - فلما رآه قال: إنّ قوماً أدَّوا هذا لَذَوُو أمانة , فقال له علي - رضي الله عنه -: إنك عَففت [ق 19/ظ] فعفّت الرعيّة (¬2) , وقال جابر بن عبدالله رضي الله عنهما: "والله الذي لا إله إلا هو ما اطّلعنا على أحد من أهل القادسية وما بعدها من المدائن أنّه يريد الدنيا والآخرة ولقد إئتمنا ثلاثة نفر فما رأينا مثل أمانتهم وزهدهم وهم: طُليحة بن خويلد (¬3) , وعمرو بن معدي كرب (¬4) , وقيس بن المكشوح (¬5) (¬6) " (¬7) , وكان من جملة ما أصابوه أسفاط (¬8) فيها تاج كسرى وحلته ووشاحه ودرعه التي كان يلبس للمباهاة والثياب التي كان يلبس من الديباج المنسوج بالذهب ¬
المنظوم بالجوهر , وأصابوا أيضاً عَيُبَتَيْنِ (¬1) في غِلافين (¬2) , في الواحد منهما خمسة أسياف وفي الأخرى ستة أسياف وأدراع فيها درع كسرى ومغفره (¬3) وساقاه وساعده ودرع هرقل ودرع خاقان (ودرع دَاهِر (¬4)) (¬5) ودرع بهرام (¬6) ودرع سِيا خُرْس (¬7) ودرع النعمان (¬8) كانوا سَبَوْها أيام عزِّهم , فبعث بذلك إلى عمر ليراه المسلمون ويسمع بذلك العرب , ومما وُجد أيضاً سَفَطانِ في إحداهما فرس من ذهب مسرّج بسرج من فضة على ثفره (¬9) ولبته (¬10) الياقوت والزمرّذ (¬11) منظوماً ولجام كذلك وفارسُه من فضة مكلّل بالجوهر , وسَفط فيه ناقة من فضّة عليها شليلٌ (¬12) من ذهب زمامُها من ذهب وكل ذلك منظوم بالياقوت والجوهر وعليها رجل من ذهب مكلل بالجوهر كان (¬13) كسرى يضعهما إلى ¬
اسطوانتي التاج , وأقبل رجل بِحُقّ إلى صاحب الأقْباض, في ذلك الحُقّ صنوف من نفيس الجوهر , فقال له صاحب الأقباض ومن كان معه: ما رأينا مثل هذا قط ولا يَعدله ما عندنا ولا يقاربه , وقال للرجل: هل أخذتَ منه شيئاً فقال: أما والله لولا الله ما أتيتُكم به فعرفوا أن للرجل شأناً , فقالوا له: مَن أنت؟ قال: لا والله (لا) (¬1) أُخبركم , فأتبعوه رجلا حتّى انتهى إلى أصحابه فسأل عنه فإذا هو عامر بن عبدقيس (¬2) (¬3). وأيضاً (¬4) فإنّ قهر أصحاب موسى - عليه السلام - لفرعون وقومه كان بما أطبقه الله تعالى عليهم من البحر وإغراقهم وقهر أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - لكسرى وقومه كان بمباشرتهم وسيوفهم ورماحهم وقوّتهم وأسلم من أسلم واستسلم على الجزية والصَّغار [ق 20/و] مَن استسلم فكان أبلغ في النكاية على العدوّ وأعظم لظهور الإسلام وأدحر (¬5) لمعالم الكفر والطغيان , فأصحاب موسى - عليه السلام - كانوا فارّين من عدوّهم وأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - كانوا طالبين لعدوّهم وفرق بين هؤلاء وهؤلاء والله يؤيد بنصره من يشاء , وكان ذلك أبلغ مما لو أهلكهم جميعاً فإنه أبقى في أعقابهم الذّلّ والصَّغار ليُعتبر بهم , وجعل ما يؤخذ منهم قوّة للمسلمين وزيادة في أموالهم واستمراراً للذلّة (¬6) في عدوّهم , ثم إنّ ما علمنا أنّ المسلمين غنموه (¬7) من آل كسرى أعظم مما علمنا أن أصحاب موسى عليه الصلاة والسلام غنموه من آل فرعون وذلك أن سعداً - رضي الله عنه - لمّا قسم المغانم بين العسكر جمع ¬
كل شئ (أراد) (¬1) أن يتعجّب منه عمر من ثياب كسرى وحليه وسيفه وغير ذلك مما كانت العرب تعجب أن يقع إليهم (¬2) ويصير بأيديهم , فمن ذلك أنه أخرج بساطاً يعرف بالقطيف (¬3) مقدار سَعته جريبٌ أرضُهُ مُذهبَةٌ فيه صور (¬4) مختلفة ووشي وفصوص كالنُوار (¬5) في خلالها صُور النخل والشجر وفي حافاتها طُرْزٌ كالأرض المزروعة والأرض المُبقِلة بالنبات في الربيع معمولاً بالحرير وعليه قضبان من ذهب ونُواره معمول بالذهب والفضة وغرائب الألوان البديعة , كان كسرى يبسطه في الشتاء إذا ذهب النوار والرياحين ويَشرب عليه مع رجاله كأنهم في روضةٍ , فلم تَعتدل قسمته فقال سعد للمسلمين: هل لكم في أن تطَّيبوا نَفْساً على أربعة أخماسه ونبعثه إلى عمر ليضعه حيث يرى فإنا (¬6) لا نراه تتّفق قسمته علينا وهو قليل بيننا وسيقع من أهل المدينة موقعاً فقالوا: نعم (¬7) , وبعث به سعد إلى عمر رضي الله عنهما فلما قدم عليه بالمدينة جمع الناس فاستشارهم بالبساط وأخبرهم خبره فمن بين مُشير عليه بقبضه وآخر مُفوِّض إليه وآخر متوقف فقام علي - رضي الله عنه - فقال له: إنه ليس لك من الدنيا إلا ما أعطيت فأمضيت , أو لبست فأبليت , أو أكلت فأفنيت , فقال: صدقتني , فقطَّعه وقسمه بين الناس وقال: إن الأخماس يُنفِّل منها (¬8) من شهد ومن غاب من أهل البلاء فأصاب عليّاً (¬9) قطعةٌ من البساط فباعها بعشرين ألفاً وما هي بأجود تلك القطع (¬10) [ق 20/ظ] ولما أُتي (¬11) عمر - رضي الله عنه - بحلي كسرى ¬
وزيّه في المباهاة وزيّه في غير المباهاة وكان له عند كل حالة زيّ قال: عَلَيَّ بمُحَلِّمٍ (¬1) , وكان من أجسم عربي يومئذ بالمدينة , فأُلبس تاجَ كسرى على عمودين وخشب , ثم صبّ عليه أوشِحَتُه وقلائده وثيابه وأجلس للناس , فنظر إليه عمر والناس معه فرأوا أمراً عظيماً من أمر الدّنيا وفتنتها , ثم قام عن ذلك فألبس زيّاً آخر فنظروا إلى مثل ذلك في غير ما نوع , ثم ألبس سلاحه وقلّد سيفه فنظروا إليه في ذلك , ونفّل عمر - رضي الله عنه - مُحَلِّماً سيف كسرى وقال: أحمِق بامرئٍ من المسلمين غرّته الدنيا هل يبلغنّ مغرور منها إلا دون هذا ومثلَه (¬2)؛ فهذا الذي أوتي محمد عليه الصلاة والسلام أعظم مما أوتي موسى عليه الصلاة والسلام من فلق البحر وميراث آل فرعون , ثم إن أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - لما فرغوا من هذه الغزوة وبعثوا الأموال إلى عمر - رضي الله عنه - توجّهوا إلى غزوة أخرى وهي الوقعة المعروفة بجَلُولاء وغيرها لا يَشغلهم ما أصابوا من الأموال والأنفال عن غزو أعداء الله تعالى والجهاد في سبيل الله تعالى , وقوم موسى عليه الصلاة والسلام لمّا نجوا من البحر أتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم فقالوا: يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة , قال: إنكم قوم تجهلون , إنّ هؤلاء متبّر ماهم فيه وباطل ما كانوا يعملون , وأصحاب (محمد) (¬3) - صلى الله عليه وسلم - لما فرغوا من أمر الفرس وانتهى سعد - رضي الله عنه - إلى إيوان (¬4) كسرى ورأى المدائن وخُلُوَّها وما تركوا فيها فقرأ: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ} [الدخان: 25 - 28] فصلى سعد - رضي الله عنه - في الإيوان صلاة (¬5) الفتح ثمان ركعات لا يفصل بينهنّ (¬6) , وأتم الصلاة ¬
يوم دخل المدائن لأنه أراد المقام بها , وكانت أول جمعة جمعت بالمدائن , واتّخذ سعد - رضي الله عنه - الإيوان مصلّى للأعياد واتخذ فيه منبراً؛ فقد تبين فضل محمد - صلى الله عليه وسلم - على موسى - صلى الله عليه وسلم - وفضل أمّة محمد - صلى الله عليه وسلم - على أمة موسى - صلى الله عليه وسلم - , وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً. فإن قيل [ق 21/و]: إنّ موسى عليه الصلاة والسلام أتى فرعون وقومَه بالعذاب الأليم الجراد والقمل والضفادع والدّم على ما أخبر الله تعالى في كتابه , قلنا: نعم هو كذلك وكان لموسى عليه الصلاة والسلام من المنزلة أعظم من هذا , ولكن لمحمّد - صلى الله عليه وسلم - أعظم من ذلك , فإنّ قريشاً لمّا عتوا وتجبّروا ولم يجيبوا (¬1) إلى الإسلام دعا عليهم محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يعينه عليهم بسنين كسني يوسف فقال: «اللهم اشدد وطأتك على مُضَر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف» (¬2) , فتوالت عليهم السنون بالجَدْب حتى أكلوا العظام والجيف وكان أحدهم ينظر فيما بينه وبين السّماء فيرى كهيئة الدّخان قال الله تعالى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الدخان: من الآية 11] (فقالوا) (¬3): {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} [الدخان: 12] فقال الله تعالى: {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} [الدخان: 15 - 16] يعني: يوم بدر فإنه لما كشف عنهم العذاب في الأولى عادوا إلى كفرهم فسلّط الله تعالى عليهم رسوله - صلى الله عليه وسلم - فانتقم منهم بأن جعل هلاكهم بسيفه , فشفى صدره وصدور (¬4) المؤمنين منهم (¬5). ¬
فإن قيل: إن موسى - عليه السلام - أنزل الله عليه وعلى قومه المن والسلوى وظلّل عليهم الغمام , قلنا: لمحمّد - صلى الله عليه وسلم - أفضل من ذلك فإنّ المنّ والسلوى رزق رزقهم الله تعالى كُفُوا فيه السّعي والاكتساب على ماكانوا قد منعوا منه من الطيبات كما قال الله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: من الآية 160] وكانوا لما أنزل الله تعالى عليهم المن والسلوى محصورين في التّيه يتيهون , فهي (¬1) نعمة في طيّ نَقِمَةٍ تفضّلاً من الله تعالى عليهم , فإنه ذو مغفرة للناس على ظلمهم ولا يمنع عاصياً رزقَه المكتوب له لأجل معصيته , فإنه لابدّ له من القوت أيّام حياته مطيعاً وعاصياً. فأما محمّد - صلى الله عليه وسلم - (فإنه) (¬2) ما أملق (¬3) أصحابه أو عطشوا إلا دعا لهم (¬4) بالبركة في الطعام والشراب حتى يكتفوا ويفضل عنهم وكان في ذلك [ق 21/ظ] فضيلة أخرى وهي جعل البركة في القليل حتى يكفي النفر الجليل , فقد كان يصيب أصحابَه الفاقَةُ في غزواتهم ويَقلّ عليهم الطعام والماء فيدعو بما يكون قد بقي معهم من ذلك , فيوجَد الشيء اليسير فيدعو فيه فيبارَك فيه حتى يأكلوا ويشربوا ويكتفوا ويفضل منهم (¬5) كما هو مستفيض في المنقول , وأحلّ لهم الغنائم ولم يحلّ لأحد كان قبلهم رحمةً لهم ولطفاً بهم لأنّه رأى ضعفهم فأحلّها (¬6) لهم وقوّاهم بها على عدوّهم وعلى أمور دينهم ودنياهم , فأدّوا الأمانة فيما أمروا به من اجتناب الغلول (¬7) وحمل ما يحصل من الغنائم إلى الإمام ورضاهم بما يحصل لهم بالقسمة كما ذكرنا من خبر قيس بن سعد (¬8) حين وَجَدَ الحُقَّ ¬
الذي فيه من الأموال ما تستغني به عِدَةُ أهل أبياتٍ غِنَى الأبد فردَّهُ وقال لهم: لولا الله ما رأيتموه؛ وأما قوم موسى - عليه السلام - فإنه يكفل لهم بأن المنّ (¬1) والسلوى ينزل عليهم كل يوم قدر كفايتهم وأمرهم أن لا يدّخروا شيئاً فخانوا وخالفوا (¬2) وادخروا فأنتن ما ادخرُوا وَدَادَ (¬3) وفسد فقطعه الله تعالى عنهم كما جاء في الحديث: «لولا بنوا إسرائيل لم يخنز اللحم وَلولا حوّاء لم تخن أنثى زوجَها الدهرَ» (¬4) فأين هؤلاء من هؤلاء؟ ! وأبلغ من ذلك أنّ أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - كانوا يخرجون في غزواتهم فيحصل لهم الحاجة فيجدون ما يكفيهم ويفضل كالذين خرجوا إلى ساحل البحر وقلّت أزوادهم فوجدوا حوتاً قد قذفه البحر فأكلوا منه شهراً وادّهنوا حتى سمنوا (¬5)؛ وأما دعاؤه - صلى الله عليه وسلم - لأحاد من الناس بالبركة ونحو ذلك فيضيق الوقت عن حصْرِه كَعُكّة (¬6) أم سُلَيم التي أهدت له (فيها) (¬7) سمناً ¬
فردّها ولم يعصرها فكانت كلّما أرادت (¬1) سَمْناً أخذت منها حتى عصَرتها ففني فقال - صلى الله عليه وسلم -: «لو لم تَعصرها لأخذَتْ منها وقام لها أدم بيتها ... » الحديث (¬2) , وكجراب أبي هريرة - رضي الله عنه - الذي كان فيه دون عشرين تمرة فدعا فيه بالبركة فأكل وجهّز في سبيل الله كذا وكذا وسقا وبقي يأكل منه ويطعم إلى أن قتل عثمان [ق 22/و] بن عفّان - رضي الله عنه - ففقد الجراب في تلك الواقعة (¬3) , وكشعير عائشة رضي الله عنها الذي دعا فيه فكانت تأكل منه حتى كالته ففني (¬4) وهذا باب واسع؛ وأيضاً فإنّ بني إسرائيل لمّا رزقوا المنّ والسّلوى كانوا (¬5) محجوراً عليهم في التّيه , معاقَبين (¬6) على مخالفة الأمر بالدخول إلى الأرض المقدّسة لما احتجوا بأنّ فيها قوماً جبّارين , فقالوا: إنّا لن ندخلها أبداً ماداموا فيها , وقالوا لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون , فحرمها عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض , فجعلهم يتيهون في أرض التّيه تلك المدّة , فهذا كان حالهم لما أنزل الله تعالى عليهم المن والسلوى وأصحاب نبيّنا - صلى الله عليه وسلم - لمّا أمرهم بالقتال قالوا: اوْمُرْنا بما شئت فوالله لو ¬
أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها , ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا , إنّا لا نقول كما قال أصحاب موسى لموسى: اذهب أنت وربّك فقاتلا (إنّا هاهنا قاعدون , بل نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا) (¬1) إنا معكم مقاتلون (¬2) , وقد تقدم هذا المعنى؛ فكان ما أعطي أصحاب موسى - عليه السلام - في مقام الرحمة , وما أعطي أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - في مقام الكرامة والنعمة. فإن قيل: إن موسى - عليه السلام - أعطي العصا لما حضرت السّحرة وألقوا حبالهم وعصيّهم ألقى موسى - عليه السلام - عصاه فتلقفت ما صنعوا واستغاث فرعون بموسى (¬3) - عليه السلام - رهبة وفرقاً منها , قيل: فقد أُعطي (¬4) محمد - صلى الله عليه وسلم - أعظم من ذلك , وذلك أن أبا جهل بن هشام قال: يا معشر قريش إن محمّداً قد أبى إلا ماترون من عيب ديننا , وشتم آبائنا , وتسفيه أحلامنا , وسبّ آلهتنا , وإني أعاهد الله لأجلسنَّ له بحجر قدر ما أطيق حَمله , فإذا سجد في صلاته رضخت به رأسَه , فأسلموني (عند ذلك) (¬5) أو امنعوني , فليصنع بنو عبد مناف ما بدا لهم , قالوا: لا والله لا نُسْلِمُكَ لشيء أبداً فاصنع ما تريد , فلما أصبح أبو جهل أخذ حجراً كما وصف وجلس لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وغدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما كان يغدو , فقام يصلّي وقد قعدت قريش في أنديتهم [ق 22/ظ] ينتظرون ما أبو جهل صانع , فلما سجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - احتمل أبو جهل الحجر ثم أقبل نحوه حتى إذا دَنا منه رجع مَبْهوُتاً , مُنتقعاً لونه مَرْهُوباً , قد يبسَتْ يداه على حجره حتى قذف الحجر من يده , وقامت (¬6) إليه رِجَالاتُ قريش وقالوا: مالك يا أبا الحكم؟ قال: قمت إليه لأفعل به ما قلتُ لكم البارحة , فلما دنوت منه عَرض لي دونه فحل من الإبل , (لا) (¬7) والله ما ¬
رأيت مثل هامته ولا قَصَرته ولا أنيابه , فهمّ أن يأكلني , فيُذكر أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ذاك جبريل لو دنا منّي لأخَذَه» (¬1) , وفي رواية أخرى: فلمّا أتاه وهو ساجد رفع يده وفيها الفِهرُ ليَدْمغ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - (زعم) (¬2) , فيبست يده على الحجر (¬3) , فلم يستطع إرسال الحجر من يده , فرجع إلى أصحابه فقالوا: أجَبُنتَ عن الرجل؟ ! فقال: لم أفعل , ولكن هذا في يدي لا أستطيع إرسالَه , فعجبوا من ذلك فوجدوا أصابعه قد يبست على الحجر فعالَجوها حتى خلصوها وقالوا: هذا شيء يُراد (¬4) , وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال أبو جهل (¬5): هل يغفّر محمّدٌ وجهه بين أظهركم , فقيل: نعم , (فقال) (¬6): واللات والعزّى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأنّ على رقبته أو لأعفِّرنَّ وجهه في التراب -قال-: فأتى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي زعم لِيَطَأ على رقبته , فما فجئهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه ويتّقي بيديه (¬7) -قال-: فقيل له: مالك , قال: إنّ بيني وبينه لخندقاً من نار وهَولاً وأجنحةً , فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لو دَنا مني لاختطفته الملائكة عُضواً عضواً ... » الحديث (¬8)؛ فكيد سحرة فرعون وإن كان عظيماً فإنه كان لأجل فرعون إما رغبة وإمّا رهبة فلا يوازي كيد أبي جهل إذ كان يجهد لنفسه بنفسه في أذى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليَشفي غيظ قلبه منه , وليس من يسعى ويجهد لغيره في القوّة كمن يسعى لنفسه , ثم إن من نُصر به محمد - صلى الله عليه وسلم - كان جبريل والملائكة عليه وعليهم السلام كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لو دنا منّي لاختطفتهُ الملائكةُ [ق 23/و] عضواً عضواً» (¬9) , ¬
فهو أعظم مما نُصِر به موسى عليه الصلاة والسلام فإنه كان الثعبان المنقلب عن العصا وبينه وبين جبريل بَوْنٌ [بعيد] (¬1) عظيم. فإن قيل: انقلاب العصا الجماديّة ثعباناً حيّاً آية عظيمة وفضيلة جسيمة لموسى - عليه السلام - , قيل: لمحمد - صلى الله عليه وسلم - أمثالها وأعظم فإنه قد سبّح الحصى في يده وفي يد أصحابه (¬2) فهذه حياة في جمادٍ ونطق بتسبيح يسمعه من حَضر , وكذلك سبح الطعام وهو يؤكل بحضرته (¬3) , والأحجار قد سلمت عليه (¬4) , والأشجار قد دعاها فأقبلت إليه (¬5) , وكذلك العذق دعاه فنزل من رأس النخلة ينقز حتى وقف بين يديه فشهد برسالته ثلاثاً ¬
ثم عاد ينقز إلى مكانه (¬1) , وكذلك حنّ الجذع اليابس إليه حين فارقه فلمّا جاءه واحتضنه سكن (¬2). فإن قيل: إن موسى - عليه السلام - لما وفد بخيار قومه وهم سبعون نَفْساً إلى الله تعالى وكانوا من أفاضلهم فلمّا صاروا في البَرِّيَّةِ غلب رَوحُ القُرْبة على قلبه , وتحقق صدق الإجابة , وظاهَرَهُ قوة الوصول , أسرَعَ إلى ربّه ناسياً لقومه لما وجد من الوله قاصداً للمناجاة فقال الله تعالى (له) (¬3): {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَامُوسَى} [طه: 83] فقال: {هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه: من الآية 84] , وهذه حالة شريفة خصّ بها موسى عليه الصلاة والسلام دون سائر المرسلين عليهم السلام , عبّر عن نفسه ودلّ على قصده ومراده , قيل: إنّ الله عظّم شأن محمّد - صلى الله عليه وسلم - في آيتين أعلمه (فيهما) (¬4) رضاه عنه وأعطاه سؤله ومناه من غير سؤال منه ولا رغبة تقدمت منه فقال تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة: من الآية 144] , وقال في الآية الأخرى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضُّحى: 5] فمنحه رضاه وأعطاه مُناه في جميع مايهواه ويتمنّاه , وغيرُه من الأنبياء عليهم السلام سألوا وطلبوا رضى مولاهم , وفي حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "لما أنزلت هذه الآية: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} [الأحزاب: من الآية 51] قلتُ: ما أرى ربّك إلا يسارع في هواك" (¬5) , وخصه مع الرضى بالرحمة والرأفة [ق 23/ظ] فقال: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ... } الآية [آل عمران: 159] وكان رقيق القلب , وأمر الله تعالى ¬
موسى - عليه السلام - بالملاينة لفرعون لما كان فيه من الفظاظة والغلظة وقال له ولأخيه: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} [طه: من الآية 44] , وذكر عن محمّد - صلى الله عليه وسلم - الملاينة والرأفة وأمره بضدّها فقال: {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: من الآية 73] وإنّ لكلّ مقام مقالاً , والذي اشتهر من حال موسى عليه الصلاة والسلام الحدّة وقلة التماسك عند ورود الملمات عليه كما فعل في إلقاء الألواح وفي أخذه برأس أخيه ولحيته وجرّه إليه , وروى زيد بن (أسلم) (¬1) عن أبيه: "أن موسى - عليه السلام - كان إذا غضب اشتعلت قلنسوته ناراً" من شدّة غضبه ذكره الثعلبي (¬2) , ومحمد - صلى الله عليه وسلم - بُولغ في أذاه وفي خِلافه (¬3) وعداوته حتى ألقوا على ظهره السَّلا والفرث والدّم وهو ساجد , وضربوه حتّى أدموه إلى غير ذلك من أصناف الأذى فعلاً وقولاً , فقال: «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون» (¬4) , فكان عاقبة الصّبر النصر , وأثنى الله تعالى عليه - صلى الله عليه وسلم - في سَعَةِ خُلقه وحسن سيرته وجميل صبره فقال: {وَإِنَّكَ (¬5) لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]؛ وأما شوقهُ - صلى الله عليه وسلم - إلى ربّه تعالى ولقائه (فإنّه) (¬6) حين جاءه (¬7) نصر الله والفتح ودخل الناس في دين الله أفواجاً , وأكمل له الدّين وأتم عليه النعمة , وكان العيش عند ذلك مطلوباً وطول البقاء في الدنيا محبوباً مَرِض فَخُيّر بين الحياة وبين لقاء رَبّه , فاختار لقاء ربّه ولم يزل يقول: «الرفيق الأعلى» (حتى) (¬8) قُبض - صلى الله عليه وسلم - (¬9) , وموسى ¬
عليه الصلاة والسلام لمّا حضره ملك الموت ليقبض رُوحَه لطمه ففقأ عينه كما ثبت ذلك في الصحيح , فرجع ملك الموت (إلى ربّه) (¬1) فقال: "ياربّ إنّك أرسلتني إلى عبد لك لايحب الموت وقد فقأ عيني فردّ الله عليه عينه ... " الحديث (¬2)؛ ثم أين أصحاب موسى الذين اختارهم لميقات ربّه ثم تهجّموا على ربهم فقالوا لموسى: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة , فأخذتهم الصاعقة فماتوا جميعاً فقال [ق 24/و] موسى: رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإيّاي , أتهلكنا بما فعل السفهاء منا , رب كيف أرجع إلى بني إسرائيل (¬3) وقد أهلكت خيارهم , فلم يزل موسى يناشد ربَّه حتى أحياهم الله - عز وجل - (جميعاً) (¬4) رجلاً بعد رجل ينظر بعضهم إلى بعض (¬5) كيف يُحيَوْن فذلك قوله - عز وجل -: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 56] (¬6) فهؤلاء الذين اختارهم موسى من قومه , وقد روى أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا راح منّا إلى الجمعة سبعون رجلاً كانوا كالسبعين الذين وفدوا مع موسى - عليه السلام - وأفضل» (¬7) , وأما أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - فإن الإيمان كان أرسخ في (¬8) قلوبهم من الجبال الراسيات , منهم من يغرر بنفسه ومالِه في نصرة الدين , ومنهم من يهجر ولده , ومنهم من يطلق زوجته , ومنهم من يقتل قريبه ونسيبه , ومنهم مَن يُعْرَض على القتل فيختار القتل والموت على الإسلام ¬
ولا يكفر , ومنهم من يُعَذّب بأنواع العذاب كصهيب وبلال رضي الله عنهما وأرضاهما ونحوهما , ومنهم من يقول: ولست أبالي حين أُقتل مسلماً ... على أيّ جنب كان في الله مصرعي وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزّع (¬1) وهو خُبَيب - رضي الله عنه - إلى غير ذلك من أحوال كثير من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ومن بعدهم رضي الله عنهم أجمعين. فإن قيل: قد أكرم الله تعالى موسى عليه الصلاة والسلام بأن ألقى له المحبة في القلوب وكان بين عينيه نور لاينظر إليه أحد إلا أحبّه قال الله تعالى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} [طه: من الآية 39] وهذا أحد الأقوال في هذه المحبّة وهو الوارد في هذا المكان , قيل: إنما كان ذلك في صغره لشدّة الحاجة إلى ذلك , لأنه عليه الصلاة والسلام أُلقي في البحر وكان الأطفال في ذلك الوقت تذبح ولاتستبقى حتى (¬2) أُخرج من اليَمِّ والتقطه آل فرعون وجعلوا يطلبون (له) (¬3) المراضع ليُنْفذ الله تعالى حكمه ويمضي قدَره فقالت أخت موسى [ق 24/ظ]: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} [القصص: من الآية 12] , فكان أولَ ما أخرج من اليمّ أحبّه (¬4) فرعون وامرأته حتى ربَّوه في دار المملكة (مكرماً) (¬5) معززاً إلى أن نشأ وكان من شأنه ما كان , فظهر له منهم ومن بني إسرائيل من العداوة والشنآن ما الله به العليم حتى من أهله كقارون ونحوه فإنه لما قال لبني إسرائيل: {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ (¬6) لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: من الآية 128] , ¬
أجابوه بأبشع جواب وأشنعه فقالوا: {أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} [الأعراف: من الآية 129] فقال لهم: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: من الآية 129] فكان رَدُّه (¬1) عليهم بهذا اللطف عن ذاك (¬2) الجفاء والغِلظة , وأظهروا خلافه فيما أمرهم به من الدخول على الجبابرة في الأرض المقدّسة حتى قالوا (إنّا) (¬3) لن ندخلها أبداً ماداموا فيها كما تقدم , وكما نهاهم عن الصيد يوم السبت فاحتالوا في حبس الحيتان , وكما نهاهم عن الإدخار من المن والسلوى فادخروا , ولما (¬4) غاب عنهم زمن المناجاة عَبَد العجل منهم الجم الغفير , وقارون القريب النسيب (¬5) جرى في حقّه منه ما جرى وعاداه العداوة البليغة , والسامري الذي كان من عظماء بني إسرائيل (¬6) نافَق وعمل ما عمل وكل ذلك في كبره وفي زمان النبوّة , ولم يُسْلِمْ له ممن أحبّه طفلاً إلا امرأة فرعون ومؤمن آل فرعون , وقد قال لمحمد صلى الله عليه وعليه وسلم ليلةَ الإسراء: إنه عالج بني إسرائيل أشد المعالجة (¬7) , واقترحوا عليه من الأمور المنكرة والأمور الدينية ما عُرف به سوء أدبهم (معه) (¬8) وقلّة [معرفتهم و] (¬9) احترامهم إياه , كما أنه لما كان يعتزلهم في ¬
مغتسلهم وكانوا يغتسلون عراة ينظر بعضهم (سوءة) (¬1) بعض , وكان موسى عليه الصلاة والسلام ستيراً فكان يغتسل وحده فقالوا: ما يمنع أن يغتسل معنا إلا أنّ به أدرة (¬2) أو آفة فقال الله لهذه الأمّة: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا ... } الآية (¬3) [الأحزاب: 69] (¬4) , وكما ذكرنا من سؤال الذين اختارهم أن يروا ربّهم جهرة , والذين قالوا: ادع لنا ربّك يخرج لنا مما تنبت الأرض [ق 25/و] من بقلها وقثّائها وفومها وعدسها وبصلها , قال: أتستبدلون الذي (¬5) هو أدنى بالذي هو خير , وتعنّتهم في سؤالهم عن البقرة التي (¬6) أُمِرُوا بذبحها مرّةً بعد مرّةٍ (¬7) , ولو أنهم ذبحوا بقرةً (في) (¬8) أوّل مرّةٍ أيّ شيء كانت لأجزأت عنهم , لكنهم شدّدوا فشدّد الله عليهم , فأمّا محمد (¬9) - صلى الله عليه وسلم - فإن محبّته كانت مغروزة في قلوب الخلق في صغره وكبره حتى إن الكفار الذين كانوا يخالفونه وينابذونه كان في قلوبهم منه هيبة , وكان عندهم موقراً معزّزاً , وكان يسمى فيهم الأمين , وإذا قال قولاً لايشكّون في صدقه حتى عن الغائبات , كما قيل لبعضهم (¬10) إن محمداً يزعم أنه قاتلك فقال: والله مايكذب محمد إذا حدّث [به] (¬11) , ¬
وبقي (¬1) ذلك الرجل متحرزاً مدّة حتى أنفذ (¬2) الله فيه حكمه بما وَعَد به الرسول - صلى الله عليه وسلم - , وما أظهروا عداوته إلا لما سَبّ آلهتهم وضلّل آبائهم وسفّه أحلامهم على عبادة غير الله. فأمَّا محبّة المؤمنين له عليه الصلاة (والبركة) (¬3) والسلام فأمر ظاهر لايحتاج إلى برهان , فإنه لما دعى (¬4) خواصهم كأبي بكر وعمر رضي الله عنهما , وعوامَهم - رضي الله عنهم - , وآمنوا به , أمرهم بالهجرة من بلادهم وعن أولادهم وعن قومهم وآبائهم وأمهاتهم وعشائرهم ومساقط رؤوسهم وأوطانهم , هاجر أناس إلى الحبشة وأناس إلى غيرها , وهجروا الأهل والمساكن والعشائر , ولايخفى محبة العرب لعشائرهم وقومهم وشدّة خوفهم إذا بَعُدوا عنهم أو فارقوهم إلى غيرهم , فهاجر من هاجر من مكّة وهي مركز دينهم وموضع شرفهم وعبادتهم التي فخروا بها على جميع الأمم وحسدهم عليها جميع الطوائف فتركوا بها الأهل والأموال , وهاجروا إلى الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - رغبةً في الدين ومحبّة له حتى إنهم يوم بدر تكلموا في الأسارى فأشار كل قوم بما عندهم , فقال عمر - رضي الله عنه -: "ما أرى الذي رأوا ولكن تمكننا منهم فنضرب أعناقهم , فتمكن عليّاً من عَقيل فيضرب (¬5) عنقه , وتمكّنني من فلان [ق 25/ظ] نسيب لعمر فأضرب عنقه , فإنّ هؤلاء صناديد الكفر وأئمّته" (¬6) , وفي صلح الحديبية يقول قائل (¬7) الكفّار (¬8): والله ما رأيتُ أحداً يعظّم أحداً مايعظّم محمّداً أصحابُه , لقد دخلت على الملوك فما رأيت قومهم يعظّمونهم كما يعظم محمّداً أصحابُه , فإنهم إن تكلم أنصتوا ولا يرفعون أصواتهم عنده إجلالاً له , وما تنخّم نخامةً إلا وقعت في يد رجل منهم فدلك بها وجهه وجسده؛ ومثل ¬
هذا كثير في الصحابة - رضي الله عنهم -؛ فأما الأنصار من أهل المدينة (¬1) فبايعوه بالأنفس والأموال والأولاد مع ماقيل لهم عند ذلك: إنّ هذا الأمر إن فعلتموه رمَتْكم العرب عن قوس واحدة (¬2) , فحملهم حُبُّهم له على معاداة جميع العرب ومحاربة جميع الخلق وقالوا: والذي بعثك بالحق لنمنعنّك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا , فبايعوه وآووه (¬3) إلى بيوتهم ونصروه وعزّروه وواسوه له ولأصحابه , ولما أمرهم بالقتال قالوا: والله لو أمرتنا أن نُخيضها البحر لأخضناها كما تقدّم , ولما قال: «لن (¬4) يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من نفسه وأهله وماله» (¬5) , فقال عمر: والله إنك لأحبُّ إليّ مِن كلّ شيء إلا نفسي , فقال (له) (¬6): «لا حتى أكون أحبّ إليك من نفسك» , فقال: والله لأنتَ الآن أحبّ إليّ من نفسي , فقال: «الآن يا عمر» (¬7) , وهذا باب واسع في محبة أصحابه - رضي الله عنهم - (له) (¬8) - صلى الله عليه وسلم - , ومحبة المؤمنين بَعْدَهم كما أخبر - صلى الله عليه وسلم - عمن يأتي بعده حيث قال: «يأتي من بعدي قومٌ يَوَدّ أحدهم لو رآني بأهله وماله» (¬9) , فهو كذلك بأبي وأمّي هو - صلى الله عليه وسلم - , فمحمد وموسى صلى الله عليهما وسلم محبّتهما في قلب كل سعيد , وكلما عظمت محبة الله للعبد أعظم محبّته في قلوب عباده , ومحبّة الله تعالى لمحمد - صلى الله عليه وسلم - أعظم وأكبر , فمحبته في قلوب الخلق أعظم , وقد روى ثابت البُناني أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «موسى ¬
صفي الله وأنا حبيب الله» (¬1) , ولا يخفى مابين الكليم والحبيب من التفاضل , ولعظم منزلة محمّد - صلى الله عليه وسلم - عند الله في المحبّة لما قال من قال من الكفّار حين اشتكى فلم يقم ليلة أو ليلتين أنه قد وُدِّع فأنزل الله [ق 26/و]- عز وجل -: {وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضُّحى: 1 - 5] (¬2). وأما تكليم الله لموسى - عليه السلام - ففضيلة عظيمة ولمحمّد - صلى الله عليه وسلم - مثلها وأعظم منها , فإن موسى عليه الصلاة والسلام قد كلّمه الله تعالى وموسى في الأرض , ومحمد - صلى الله عليه وسلم - كلّمه الله تعالى وهو في مقام قاب قوسين أو أدنى من فوق سبع سموات بما الله به عليم من العلوّ , وموسى - عليه السلام - سأل رَبَّه الرّؤية فمُنِعها , ومحمد - صلى الله عليه وسلم - أُعطِيها من غير سؤال ليلةَ المعراج في أحد قولي العلماء (¬3) , قال الله تعالى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} [الإسراء: من الآية 55]. ¬
فإن قيل: قد قال الله تعالى: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 159] , قيل: لايخفى مافي أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - من أئمة الهُدى والعدل , وأئمة الهُدى والفقه كأبي بكر وعمر رضي الله عنهما وعثمان وعلي وغيرهم من أئمة الهدى والعدل , ففي صحيح مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبيّ وإنه لانبي بعدي وستكون خلفاء فتكثر» قالوا: فما تأمرنا , قال: «فُوا ببيعة الأوّل فالأوّل وأعطوهم حقّهم فإن الله سائلهم عمّا استرعاهم» (¬1) , وكأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل وغير هؤلاء ممن يهتدى به ويعدل في الأمة , وقد صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تزال طائفة من أمّتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى تقوم الساعة وهم ظاهرون» (¬2) وليس هذا في غير أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - , وهذه النعمة ببركة قولهم لنبيهم - صلى الله عليه وسلم -: سمعنا وأطعنا , فإن الله خفف عنهم وغفر لهم ورفع عنهم الأغلال والآصار؛ وقوم موسى لما قالوا: سمعنا وعصينا , ثقل عليهم وعاقبهم وجعل الآصار والأغلال عليهم والذل إلى يوم القيامة , وسلبهم بركةَ الطاعة فجعلها في غيرهم وسلطهم عليهم كما قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ... } الآية [النساء: 160] , وفي الجملة ففي [ق 26/ظ] ¬
مسائل موسى عليه الصلاة والسلام ربَّه تعالى أنّه رأى في التوراة أمّةً صفتها كذا وكذا: ياربّ فاجعلها أمّتي , فيقول ربّه: تلك أمّة محمّد - صلى الله عليه وسلم - , فقال: إني أجد في التوراة أمّة صفتهم كذا وكذا فاجلعهم أمتي , قال (¬1) له ربّه: تلك أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - , مراراً كثيرة يذكر أمّةً يجدهم في التوراة بصفات من الخير جليلة فيسأل ربّه أن يجعلهم أمّته وكل ذلك يقول له: تلك أمّة محمد - صلى الله عليه وسلم - (فلما رأى الخير كله في أمّة محمّد , قال: يارب فاجعلني من أمّة محمّد) (¬2) (¬3) , والحديث الصحيح الذي رواه جابر أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه على النبي - صلى الله عليه وسلم - فغضب وقال: «أمتهوّكون (¬4) فيها يا ابن الخطّاب , والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية , لا تسألوهم عن شيء فيخبرونكم بحق فتكذبونه أو بباطل فتصدقونه والذي نفسي بيده لو أن موسى - عليه السلام - كان حيّاً ما وسعه إلا أن يتبعني» (¬5) , وعنه أيضاً قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لو بدا لكم موسى فاتبعتموه ثم تركتموني لضلَلتم عن سواء السبيل , ولو كان موسى حيّاً ثم أدركني في نبوّتي لاتبعني» (¬6) , وهذه من خصائص محمد - صلى الله عليه وسلم - فإن الله تعالى يقول: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} [آل عمران: من الآية 81] , وهذا الميثاق أخذه الله تعالى على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في محمد - صلى الله عليه وسلم - لئن أدركوه ليؤمننّ به ¬
فصل وأما عيسى - صلى الله عليه وسلم - فروح الله , وكلمته
ولينصرنه فكيف بأمته الذين قال فيهم: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ ... } (الآية) (¬1) [الفتح: 29]. فصل وأما عيسى - صلى الله عليه وسلم - فَرُوح الله , وكلمته ألقاها إلى مريم , أعطاه (الله) (¬2) تعالى الآيات البينات , والمعجزات الباهرات , كلّم الناس في المهد وكهلاً , وأنطقه الله تعالى بالعبوديّة والنبوّة طفلاً , وآتاه الإنجيل , وجعله يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله , وجعله مباركاً أينما كان , وله معجزات كثيرة , ومنقبات منيرة , منها قوله تعالى في حقّه: {إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا [ق 27/و] وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [آل عمران: 45] (فقد أعطي محمد - صلى الله عليه وسلم - من الوَجاهة في الدنيا والآخرة) (¬3) حتى قبل أن يبعث - صلى الله عليه وسلم - كما أشرنا إليه ونبّهنا عليه من أن قريشاً كانت تسمّيه الأمين , ولمّا اختلفوا في وَضع الحجر الأسود مكانه عند عمارة الكعبة اجتمعوا على أن يضعه أوّل من يخرج عليهم , فخرج محمد - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: هذا الأمين (¬4) , فرَضُوا كلّهم به لِما جمع الله تعالى (فيه) (¬5) من الخصال المحمودة , والسيرة المرضية , والنسب الشريف , والحسب المنيف , (والبيت) (¬6) , والجاه , والمنصب , والعشيرة , فلم يكن بمكة في زمانه أَوْجَه منه في جميع أموره , فلما بُعث - صلى الله عليه وسلم - بالرسالة فلا يخفى ما ازداد من الوَجاهة , ولا يخفى ما أعطي من النّباهة , وأمّا في ¬
الآخرة فله الجاه الأعظم والمقام الأكرم في محل الشفاعة حين يُدعا إليها (¬1) آدمُ فمن دونه من الأنبياء وكُلٌّ يقول: لست (¬2) لها , فإذا أفضت إليْه قال: أنا لها , فيَسأل اللهَ ثم يسأله فيعطيه ما طلب ويُشَفِّعُه في أهل المحشر فيحاسَبون ويَستريحون من شدّة ما كانوا فيه فيُشَفَّعُ فيهم , ثم إذا صار العصاة من أمّته إلى النار يُشَفَّع فيهم مرّةً بعد مرّة حتى لا يبقى في النار من قال: لا إله إلا الله إلا أُخرج بشفاعته (¬3) , وذلك المقام المحمود الذي وُعِدَه - صلى الله عليه وسلم - بقوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: من الآية 79] فيَغبِطُهُ بهذا المقام الأوّلون والآخرون , فأيّ جاه في الدنيا والآخرة أعظم من هذا الجاه , وقد قال قوم من أهل العلم في قوله: {يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: من الآية 79] هو أن يُجلسه معه على العرش كما سيأتي (¬4) , وأما القرب فأيّ منزلة أقرب من منزلة الحبيب (¬5) , وهل نال أحد ما نال محمد - صلى الله عليه وسلم - من التقريب , أمَا هو الذي خُصّ بدرجة دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى حتى أوحى الله إليه ما أوحى. وأما قوله في عيسى - عليه السلام -: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ [ق 27/ظ] الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ ¬
اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [آل عمران: 48 - 51] قلنا: هذه معجزات عظيمة , وآيات كريمة , ومرتبة جسيمة , ولنبيّنا محمد - صلى الله عليه وسلم - مثلها وأعظم , وزاد عليها في الفضل وتمّم , فإن الله تعالى أنزل على محمّد - صلى الله عليه وسلم - كتاباً مصَدِّقاً لما جاء به موسى , ومقرِّراً لما أنزل على عيسى , وشاهداً للنبيّين بالصّدق والنّبوة , ولولا كتابه لما ظهرت (لنا) (¬1) لنبوتهم قوّة , فكتابه فيه ما في كتبهم وزيادة , ولِصدْقهم فيما ادعوه أكبر شهادة , ونسَخ الله تعالى به من شرائع مَن قبله ماشاء , وأحلّ ما شاء , وحرّم ما شاء , ورفع (فيه) (¬2) عن أمّته ما كان من الآصار والأغلال على من قبلهم , وجَمع فيه نَبَأ ما كان وما يكون , وجعله يُحفظ ويتلى بخلاف غيره من الكتب المنزلة فإنها كانت تكتب في الصحف ولا تحفظ في الصدور , وتكفّل الله تعالى بحفظ هذا الكتاب بنفسه فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحِجر: 9] , فكتاب محمد - صلى الله عليه وسلم - القرآن أعظم معجزاته , فليس لنبيّ معجزة مثله , وقد تحدّى الله - عز وجل - به الإنس والجن على أن يأتوا بمثله (¬3) (¬4) فلم يقدروا , وعلى سورة من مثله فلم يستطيعوا (¬5) , فهو كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد , لاتفنى عجائبه , ولا يَخلقُ على كثرة الرّدّ , فهو معجزة قائمة إلى يوم القيامة , كل نبيّ انقضت معجزته بموته ومعجزة محمّد - صلى الله عليه وسلم - قائمة إلى يوم الدين , شاهدة بمعجزة مَن قبله , ولولا ذلك لم يمكن أحداً من أهل الأديان إقامة دليل على نبوّةٍ ولا معجزة لتبديل الكتب وانقطاع السَّند الصحيح لمن قبل هذه الأمّة , فرسالة محمّد - صلى الله عليه وسلم - كما ذكرها الله تعالى رحمة للعالمين؛ وأما الحكمة فكان [ق 28/و] كلام محمّد - صلى الله عليه وسلم - كلّه حِكَم حتى ما يفاوض به الأطفال ¬
كقوله: «يا (أبا) (¬1) عُمَير ما فَعل النُّغَير (¬2)» (¬3) لنُغَرٍ كان يلعب به فمات فرآه حزيناً فقال له ذلك , فكُتب عنه ودُوّن وصُحّح , فاعترض بعض الزنادقة والملحدين وقال: وأيّ فائدة في هذا الكلام حتى نقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ ! فانتدب له بعضُ من نوّر الله قلبه بالإيمان وملأه من الحكمة فاستخرج (¬4) من هذا الحديث ما يزيد على مائة حُكم من أحكام الشريعة المحمّديّة (¬5) , و [قد] (¬6) قال الله تعالى لأزواج محمد - صلى الله عليه وسلم -: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب: من الآية 34] فالآيات: القرآن , والحكمة: كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - , وهذا باب واسع تكلّ الألسنة ¬
والخواطر عن إدراك ما اشتمل عليه كلامه من الحكم , فكان ما أوتي (عيسى) (¬1) - عليه السلام - بل وغيره من النبيين عليهم السلام من الحِكَم داخل فيما أوتي نبينا - صلى الله عليه وسلم - من الحكم , وكان أمره بالتبليغ للأمّة بالحكمة والموعظة الحسنة , هذا مع ما أوتي [رسول الله] (¬2) - صلى الله عليه وسلم - من الفصاحة , والبلاغة , وجوامع الكلم , وفواتحه , وخواتمه , وما اختُصر له من الحكمة , وما أوتي عيسى من تعليمه التوراة , والإنجيل , وإرساله إلى بني إسرائيل , فإن نبيّنا - صلى الله عليه وسلم - أوتي القرآن المجيد الذي استوعب مافي الكتب كلّها وزاد عليها كما تقدّم , وأرسل إلى الخلق (¬3) كافة , وكان الأنبياء قبله يبعث النبي إلى قومه خاصّةً , وقال الله تعالى لمحمّد - صلى الله عليه وسلم -: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ: من الآية 28]. وأما خَلق عيسى - عليه السلام - للطير بإذن الله ونفخه (¬4) فيه فيصير طيراً يطير , فليس ذلك بأعظم من حنين الجذع وهو خشبة يابسة (¬5) , وتسليم الأحجار والأشجار عليه وهي من الجمادات (¬6) , وقلب الأعيان وصَيُّورُهَا إلى حالة أخرى , كما ذكر أبو نعيم في كتابه (¬7) دلائل النبوة: أن عكاشة بن محصن انقطع سيفه يوم بدر فدفع إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جذلاً من حطبٍ وقال: «قاتلْ بهذا» فعاد في يده سيفاً شديد المتن , أبيض الحديدة , طويل القامة , فقاتل به حتى فتح الله على المسلمين [ق 28/ظ] ثم لم يزل يشهد به المشاهد إلى أيّام الردّة (¬8). وأمّا ما كان عيسى - عليه السلام - يخلق من الطين كهيئة الطير فإنه كان يطير حتى يغيب عن العيون ويعود إلى ما كان أوّلاً في ساعته , والجذع الذي حَنّ إلى محمّد ¬
- صلى الله عليه وسلم - حتى جاء فاحتضنه فسكن قال: «لو لم أحتضنه لَحَنّ إلى يوم القيامة» (¬1) فهذا أبلغ وأعظم في إحياء الميت , وكذلك التّسبيح والتقديس والتهليل من الحجر الأصمّ في يده (¬2) , وشهادة (¬3) الأحجار والأشجار له بالنبوّة كلّما مرّ بها وتسليمها عليه بالرسالة (¬4) , وطاعة الأشجار له في المجيء إليه لما دعاها ورجوعها إلى محلها حين أمرها بالرجوع (¬5) , ونزول العذق من النخلة عن أمره وصعوده إلى محلّه كما كان بقوله (¬6) أبلغ من إحياء ميتٍ قد كان عهد منه حياة , وأيضاً فإن الصُوَر أدخل في باب الحياة وما يترتب عليها من الحركة والكلام وغير ذلك من الأشجار والجمادات , ولهذا نهى عن التصوير لما فيه الروح خوفاً من الفتنة به كما عُبدت الصُّور التي صَورها قوم نوح ومن بعدهم لدخول الشياطين فيها , وعيسى - عليه السلام - إنما أذن له في ذلك لإظهار معجزته التي يدعو إلى الله تعالى وإلى توحيده وعبادته بها , فجريان الأرواح في الصُّوَر أمر معهود , فأمّا في الأحجار والأشجار فلا , وأما إحياء عيسى - عليه السلام - الموتى بإذن الله فإنه كان يمر بالميت أو بالقبر (¬7) فيصلي ويسأل الله أن [يحييه] (¬8) فيحييه ويكلّمه ما أراد ثم يعود ميتاً كما كان (¬9) , ففضيلة محمد - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب أعظم , فإن قتادة بن النعمان لما أصيبت [عينه يوم أحد فجاء وهي في يده] (¬10) إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[فقال: يارسول الله إني رجل ¬
مبتلى بحب النساء و] (¬1) أخاف [أن يقلن بأعور فلا يردنني فادع الله تعالى لي أن يردها علي , فقال: «إن شئت صبرت واحتسبت فلك الجنة , وإن دعوت الله تعالى فكانت كما كانت» فقال] (¬2): بل ادعُ لي بالجنّة وأن يردّها عليّ , فأخذها النبي - صلى الله عليه وسلم - فردّها إلى مكانها فعادت أحسن عينيه وأحدّهما -: يعني نظراً- (¬3) (¬4)؛ فإنّ إحياء العضو الواحد الذي بان عن الجسد وانفصل عنه زماناً وأُيس من عوده غير معهود ولا جرت عادة بذلك , بخلاف ما (إذا) (¬5) أصيب العضو وهو قائم بالجسد فإن تلافيَه بالمداواة معتاد معهود , والصرع الذي يعم البدن فيبقى صاحبه ميتاً أو كالميت يمكن تلافيه بالأدوية والرُّقا (¬6) ونحو ذلك , ولا يمكن إلصاق اليد إذا بانت وبردت ولا إلصاق الرِجل ولا الرأس ولا نحو ذلك من سائر الأطراف , فكان إعادة مالم تجر العادة بإعادة مثله أبلغ في المعجز؛ وكان نظير تكليم عيسى عليه الصلاة والسلام للموتى وأبلغ منه ذِراع الشاة التي أخبَرت النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنّها مسمومة وكانت مشويّةً قد قُدمت ليأكلها , فكلمته وقالت: إنّي مسمومة فلا تأكلني (¬7) , ولم تجر العادة من عضو حيوان (¬8) بهيم أن يتكلم , بل ولا ¬
يتكلم حيوانُه وهو حيّ , فكان تكليم عضو واحد منه بعد ذبحه وشيّه أبلغ من تكليم ميت قد وردت السُنّة الثّابتة بوقوعه (¬1) , وذلك «أن الميت [إذا] (¬2) وضع في قبره جاءه ملكان فيُقعدانِه ويسألانه: من ربك , ومن نبيك , وما دينك , [فأما المؤمن فيقول: ربي] (¬3) الله ونبيّي محمد وديني الإسلام , وأما الكافر أو (¬4) المنافق [فيقول: هاه هاه لا أدري , سمعت الناس يقولون] (¬5) شيئاً فقلته ... » (¬6) الحديث بطوله وهو صحيح [مشهور , ونحو ذلك ما روى أبو نعيم عن حبيب بن فويك (¬7) عن أبيه أنه] (¬8) خرج به إلى [النبي - صلى الله عليه وسلم - وعيناه مبيضتان لا يبصر بهما شيئاً فسأله: «ما أصابك» , قال: كنت أمرن جملي فوضعت رجلي على بيض حية فأصابت بصري , فنفث النبي - صلى الله عليه وسلم - على عينيه فأبصر قال: ¬
فرأيته يدخل الخيط في الإبرة وأنه ابن ثمانين سنة وأن عينيه لمبيضتان] (¬1) (¬2) وهذا إحياء لبعض عضو ميتٍ من جسَدٍ كلّه حَيّ , وهو غاية في عظم المعجز؛ فأما إحياء ميتٍ بجملته فقد روى أبو نعيم في كتابه "دلائل النبوة" بإسناده في إحياء شاة جابر - رضي الله عنه - , فإنه ذبح شاة له ودعا النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - والأنصارَ وقدم الطعام , فكان يدخل قوم ويخرج قوم ويأكلون والطعام على هيئته , وكان قال لهم: «كلوا ولاتكسروا عظماً» , ثم إنّ (¬3) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جمع العِظام في وسط الجفنة فوضع عليها يده وتكلم بكلام لم أفهمه إلا أنّي أرى شفتيه تتحرّك , فإذا الشاة قد قامت تنفُضُ ذَنَبها , فقال لي: «خذ شاتك يا جابر بارك الله لك فيها» , فأخذتها ومضيت , وإنها لتنازعني أذنها حتى أتيت بها البيتَ , فقالت لي المرأة: ما هذا يا جابر؟ قلت: هذه واللهِ شاتُنا التي ذبحناها لرسول - صلى الله عليه وسلم - (فأحْياها لنا , قالت: أنا) (¬4) أشهد أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , أشهد أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , (أشهد أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) (¬5) (¬6). وروى فيه أيضاً عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "دخلنا على رجل من الأنصار وهو مريض , فلم نبرح حتى قضى فبسطنا عليه ثوباً وأمّ له عجوز كبيرة عند رأسه فقلنا: يا هذه احتسبي مصيبتك على الله - عز وجل - , قالت: ومات ابني , قلنا: نعم , قالت: حقّاً تقولون , قلنا: نعم , قال: فمدّت يديها فقالت: اللهم إنك تعلم أنّي أسلمت لك , وهاجرت إلى رسولك , رجاء أن تغيثني عند كلّ شدّة ورخاءٍ , فلا تحمل عليّ هذه المصيبة اليوم , فكشف الثوب عن وجهه , ثم ما برحنا حتّى طعمنا معه" (¬7). ¬
وروى أيضاً عن ربعي بن حراش قال: "مات أخي فسجّيناه , فذهبت في التماس كفنه , فرجعت وقد كشف الثوب عن وجهه وهو يقول: ألا إنّي لقيت ربّي بعدكم فتلقاني بروح وريحان وربّ غير غضبان , وأنه كساني ثياباً خضراً من سندس وإستبرق , وأنّ الأمر أيسر مما في أنفسكم فلا تغتروا , وعدني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يَذهب حتى أُدركه , قال (¬1): فما شبّهت خروج نفسه إلا بحصاةٍ أُلقِيَتْ في ماءٍ فرسَبت , فذُكر ذلك لعائشة رضي الله عنها فصَدّقت بذلك وقالت: قد كنّا نتحدّث أنّ [ق 30/و] رجلاً من هذه الأُمّة يتكلّم بعد موته قال: وكان أقْوَمَنا في الليلة الباردة وأصْوَمَنا في اليوم الحارّ" (¬2) فهذه الثلاثة (¬3) أحاديث رواها بمعناها الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في كتابه دلائل النبوة في إحياء الموتى بدعائه وفي دعاء بعض أصحابه بإحيائها وفي حياة بعض أمّته الصالحين بعد موته من غير دعاء أحَدٍ حتى أخبر عن حاله مع ربّه سبحانه ثم مات؛ وروى أبو نعيم أيضاً بإسناده عن عُتبَة بن ضَمْرة (¬4) قال سمعت والدي (¬5) يقول: كان لرجل صِرْمَةٌ من غنم وكان له ابن يأتي النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بقدح من لبن إذا حَلَب ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - افتقده فجاء أبوه فأخبره أنّ ابنه هلك , فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أتريد أن أدعو الله أن يَنشره لك أو تَصبِرَ فَيدّخره لك إلى يوم القيامة فيأتيك ابنك فيأخذ بيدك فينطلق بك إلى باب الجنة فيدخلك من أيّ أبواب الجنة شئت» , فقال الرجل: ومَن لي بذلك يا نبيّ الله قال: «هو لك ولكلّ مؤمن» (¬6)؛ فلو لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - واثقاً من ربّه تعالى بإجابة دعوته في إحياء الموتى لما تهَجّم وضمن ذلك للرجل ولا يليق بعاقل أن يدخل تحت هذا الدّرك العظيم إلا بأوثق ضمان. ¬
وأما إبراء عيسى - عليه السلام - الأكمهَ والأبرصَ قيل المراد بالأكمه: الذي خلق لا نظر له (¬1) , والأبرص: الذي قد أُيس من بُرئه , ولا ريب في أن ذلك معجز عظيم وخطْب جسيم وليس ذلك بأعجب من إحياء الموتى وهو شئ قد أُعْطِيَهُ عيسى عليه الصلاة والسلام إكراماً له وإظهاراً لمعجزته وزيادة في إقامة برهانه ولكن لنبيّنا - صلى الله عليه وسلم - أعظم منه من إحياء الموتى كما ذكرنا وكما سيأتي , ومن إبراء الأدواء التي لا يمكن تلافيها بالأدوية المقدورة للبشر مما هو مُدَوَّن في كتب الحديث والسِّيَر وغيرها , فمن ذلك مسحه وتفلُه ولمسه على أدواء تبرأ في الحال كائنةً ما كانت , فإنه تَفَل في عين علي - رضي الله عنه - وهو أرمد فبرأ في الحال وما اشتكاهما بعد ذلك (¬2) , ولقد كان - صلى الله عليه وسلم - يُؤتى بالمَرْضى والمُصابين فيَدعو [الله] (¬3) لهم ويمسحهم فيردّون أصحّاء , وأتي بصبيّ يأخذه الشيطان فقال: «اخسأ (¬4) عدوّ الله أنا رسول الله» فثَعَّ ثَعَّةً (¬5) فخرج منه [ق 30/ظ] كالجرو الأسود (¬6)؛ وعاد مريضاً كان قد صار مثل الفرخ المنتوف فدعا له فكأنّما نُشِط من عقال (¬7)؛ وله - صلى الله عليه وسلم - في ¬
إبراء الأسقام وإزالة الأمراض والآلام ممن استشفى وشكى إليه وَصَبَهُ وألَمَهُ فدعا له فَعُوفي أمورٌ يطول ذكْرها ويشق حَصْرها ومن ذلك أنّ عائذ بن عمرو (¬1) قال: أصابتني رَمْية وأنا أقاتل بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين في وجنتي فأسَالت الدم على وجهي ولحيتي وصدري فتناول النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده فسَلت الدم عن وجهي وصدري إلى ثُنْدُؤتَيَّ (¬2) ثم دعا لي , فلمّا مات وغسلوه نظروا إلى ما كان يصف من أثرِ يَدِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا في صدره كغُرة الفرس سائلة (¬3)؛ وكان بوجه أبيض بن حمّال المأرِبي (¬4) حَزازة -يعني: القُوباء (¬5) - قد التمعَتْ أنفَه فدعاه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فمسح على وجهه فلم يُمْسِ من ذلك اليوم وفيه أثر (¬6)؛ ودخل رافع بن خديج (¬7) يوماً على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعندهم قِدْر تفور لحماً , قال: فأعجبتني شحمة فأخذتها فازدردتها فاشتكيت عليها سنةً ثم ذكرته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «إنه كان فيها نَفْسُ سَبْعَةِ أناسِي» ثم مسح بطني فألقيتها خَضْراء فوالذي بعثه بالحق ما اشتكيت بطني حتى السّاعة (¬8)؛ وعبدالله بن عَتيك لما ذهب ليقتل أبا رافع ¬
اليهوديَّ وقصته مشهورة في الصحاح وغيرها فوقع فانكسرت رجْله فعصّبها بعمامته وأتى النّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فأخبره فقال: «ابسُط رجلك» فبسطها فمسحها قال فكأنما لم اشتكها قط (¬1)؛ وقد أبرأ - صلى الله عليه وسلم - من الجنون كما في حديث المرأة التي رفعت إليه ولدها وذكرت أن الشيطان يُلم به منذ سبع سنين فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اخرُجْ عدوّ الله فأنا رسول الله» (¬2) فخرج ولم يعاوده وقد سبق ذلك (¬3)؛ وحديث المرأة التي كانت تصرع وتنكشف فقال لها: «إن شئتِ دعوتُ اللهَ لكِ وإن شئتِ صَبرتِ واحتسبتِ ولكِ الجنّة» فقالت: أصبرُ وأحتسِبُ ولكن ادع الله لي أن [ق 31/و] لا أنكشف , فدعا لها , فلم تنكشف (¬4)؛ وأبلغ من ذلك أنّ (في) (¬5) أمّة محمّد - صلى الله عليه وسلم - من كان به برص فدعا الله تعالى (¬6) (فبرأ وهو أويس القرني كان به برص فدعا الله) (¬7) فأذهبه الله عنه إلا موضع درهم ليذكر به نعمة الله تعالى عليه (¬8). ¬
وأما إخبار عيسى - عليه السلام - بالغيوب في قوله (¬1): {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} [آل عمران: 49] , فلمحمّد - صلى الله عليه وسلم - من هذا الجنس عجائب يحار فيها عقول الألبّاء فمن ذلك إخباره - صلى الله عليه وسلم - بموت النجاشي في اليوم الذي مات فيه بالحبشة ومحمد - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة (¬2) , وإخباره بمن استشهد بمؤتةَ من أرض الشام زيد وجعفر وابن رواحة - رضي الله عنهم - يوم استشهدوا قبل أن يأتي خبرهم (¬3) وكان السائل يأتيه ليسأله فيقول: «إن شئت أخبرتك عما جئت تسألني وإن شئت تسأل فأُخبرك» فيقول: لا بل أخبرني فيخبره بما كان في نفسه من سؤاله إياه (¬4) , وأخبر عُميْرَ بن وهب الجمحي بما تواطأ (¬5) عليه هو وصفوان بن أمية لما قعدا في الحجر من الفَتْك برسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد مصاب أهل بدر حتى أسلم عمير (¬6) , ومنها إخبارُه عمَّه العباسَ بن عبدالمطلب لمّا أُسِر ببدر وأراد (¬7) أن يفاديه ¬
فقال: ليس لي مال , قال: «فأين المال الذي أودعته لأمّ الفضل لما أردت الخروج وعهدت إليها فيه» فقال العباس: والذي بعثك بالحق ما علم به أحد غيري وغيرها (¬1) , ومنها قصّة المرأة التي حملت كتاب حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة فبَعث - صلى الله عليه وسلم - عليّاً والزّبير رضي الله عنهما فأدركاها بروضة خاخ فجحدت أنّ معها كتاباً , فقال عليّ - رضي الله عنه -: والله ما كذب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لتخرجِنَّ الكتابَ أو لأجرّدنّك فخافت فأخرجته من عقاصها كما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2) , ومنها لما ضلّت راحلته (¬3) منصرفة من تبوك فقال بعض المنافقين: ألا حدثه الله بمكانها , فأطلعه الله عليها وعلى مافي نفس المنافق فأسلم وفارق النفاق (¬4) , ومنها: إخباره لرسولَي فيروز لما قدما عليه المدينة من اليمن حين كتب إليه كسرى فقال لهما: «إنّ ربي قد قَتل ربّكما البارحة» فكتبا تلك الليلة [ق 31/ظ] فلما رجعا إلى اليمن أتى فيروزَ الخَبرُ أن شيرويه بن كسرى قتل أباه تلك الليلة (¬5) , فهذه أشياء وقعت وهو غائب عنها فأخبر بها كما وقعت وهذا باب واسع نبّهنا به على ما وراءه إذ حصر ما ورد في ذلك عزيز أو متعذّر؛ وأما الأشياء التي أخبر بها مما لم يكن أنه سيكون فهذا أيضاً باب واسع وطريق شاسع وفيه من العجائب ما يَدْهَشُ العقولَ فمن ¬
ذلك ما أخبره (¬1) الله تعالى به في القرآن كقوله: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ} [آل عمران: من الآية 12] فكان الغلب كما ذكر (¬2) وتقريراً للعذاب (¬3) إذا حشروا , فإنهم قاتلوا وغُلِبوا وسيحشرون إلى النار كما وُعِدُوا , ومن ذلك قوله تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ (¬4)} [الأنفال: من الآية 7] فهزم الله المشركين (¬5) , ومن ذلك قوله: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج: من الآية 40] فَنَصَر الله حزبه على حزب الشيطان وأظهر دينه على الأديان , ومن ذلك قوله ¬
تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور: من الآية 55] فكان الاستخلاف والتمكين في الأرض والأمن كما وعد , ومن ذلك قوله تعالى: {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم: 1 - 4] فَراهَنَ أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - على وقوعه ووقع كما وعد (¬1) , ومن ذلك قوله [سبحانه] (¬2) تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ] مُحَلِّقِينَ [(¬3)} [الفتح: من الآية 27] فدخلوه (¬4) كذلك , ومن ذلك قوله تعالى: {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا} [الفتح: من الآية 21] يعني العجم وفارس فملكها المسلمون كما أخبر , ومن ذلك إخباره - صلى الله عليه وسلم - بغزو فارس والروم والعجم وبني حَنيفة وأصحاب مسيلمة فقاتلهم أبو بكر ثم عمر رضي الله عنهما , ومن ذلك أنه وعَد المسلمين بأخْذِ أبيضِ كسْرى فأخذوه كما قدّمنا ذكره , ومن ذلك أنه وعَد أن تَخرُجَ الظّعينة من الحيرة حتى تطوف بالبيت بغير جوار أحَدٍ فوقع ذلك (¬5) , ومن ذلك قوله سبحانه: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً (¬6)} [الممتحنة: من ¬
الآية 7] فكان من ذلك أن تزوّج النبي - صلى الله عليه وسلم - أم حبيبة بنت أبي سفيان واستكتب أخاها معاوية وأسلم أبوه وصارت مودّة ومصاهرة , ومن [ق 32/و] ذلك إخباره بالفتن الكائنة بعده وردّةِ جماعة ممن شاهده وما يجري على عمر (¬1) وعثمان (¬2) وعلي (¬3) والحسين (¬4) ¬
وعمار بن ياسر (¬1) وما يُصلح الله بالحسن بين الأمّة (¬2) وافتتاح البلدان والأمصار الممصرة (¬3) (¬4) كالكوفة والبصرة وبغداد على أمّته إلى غير ذلك مما يطول ذكره ويَعَزّ (¬5) حصرُه وأمّا ما أكنّتْه الصدور وأضمرته القلوب فأطلع الله تعالى عليه محمداً - صلى الله عليه وسلم - وجعله من معجزاته الباهرة وشواهد رسالته الظاهرة فكثير واستيعابه خطب خطير [و] (¬6) من ذلك قوله تعالى: {وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} [المائدة: من الآية 13] وقوله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا ¬
أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [البقرة: من الآية 76] يعني من بعث محمد - صلى الله عليه وسلم - {لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ} [البقرة: من الآية 76] فأعلمه الله تعالى بذلك فقال: {أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} [البقرة: 77] ومن ذلك قوله: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} [الأحزاب: من الآية 18] وذلك أنّ اليهود قالوا للمنَافقين سراً يوم الخندق: على ما تقتلون أنفسكم , هلموا إلينا , ما ترجون من محمد , والله ما تجدون عنده خيراً؛ ومن ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ} [محمد: من الآية 25] إلى قوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} [محمد: من الآية 26] وذلك أنهم قالوا: أن قريظة والنضير ستُطيعكم في بعض الأمر فأظهر الله تعالى إسرارهم لرسوله - صلى الله عليه وسلم - , ونظائر ذلك في القرآن كثيرة نبهنا ببعضها على ما فيها؛ فأمّا إخبارهُ - صلى الله عليه وسلم - بالغائبات من غير القرآن فكثير أيضاً كإخباره بأمر الخلافة وأنها تكون كذلك ثلاثين سنة ثم تصير مُلْكاً (¬1) , وبأن عثمان سَيُقمص قميصاً ويُراد على خلعه وأوصاه أن لا يخلعه (¬2) , وأن أشقى الآخِرين سَيخضِب لحية عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - من رأسه (¬3) , وأن الحسين - رضي الله عنه - سَيُقتل (¬4) , وأن فاطمة رضي الله عنها أول أهله به لحُوقاً (¬5) , وأخبر بخروج الخوارج (¬6) , وبأنّ عمّاراً - رضي الله عنه - تقتله الفئة الباغية (¬7) , وأنه يخرج من ثقيفٍ ¬
كذّابٌ ومُبير فخرج المختار والحجّاج (¬1) , وأخبر أن أصحابه سَيَلقون بعده أثَرةً وأموراً عظاماً (¬2) , وأن أمته ستفترق [ق 32/ظ] , وأنّ بني أمّية سيملكون (¬3) , وأن بني العباس يملكون الملك (¬4) , وأنه يكون مَلك (¬5) يحثوا المال حَثْياً لا يعدّه عَدّاً (¬6) , وأنّ مُلك أمّته ¬
ينتهي إلى مشارق الأرض ومغاربها (¬1) , وأن أمّته تقاتل قوماً نعالهم الشعر صغار الأعين ذلف الأنوف (¬2) , وكل واحد من هذه الأمور فيه حديث صحيح أوحسن مشهور مُدَوّن في كتب الحديث والسِّيَرِ والتّاريخ وغير ذلك , قد استقرّ في القلوب تصديقه لِتَلَقِي الأمّة له بالقبول وتدوينهم إيّاه في دواوين الإسلام (¬3) نبّهنا بذكر كل نوع منه على ما وراءه , وهذه الأمور من أقوى الأدلة وأعدل الشهود على (¬4) صدق ما أخبر به من أمور الآخرة وشأن البرزخ كعذاب القبر والحشر والنّشر والحساب والشفاعة والميزان والجنّة والنّار والصّراط وغير ذلك مما هو من شأن اليوم (¬5) الآخر , والله تعالى الموفق. ¬
فإن قيل: قد أتيح لعيسى - عليه السلام - حواريون (¬1) كانوا أنصارَه وأعوانه , قد (¬2) ذكرهم الله تعالى ومدحهم بذلك في قوله سبحانه عن عيسى: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} [آل عمران: من الآية 52 , الصف: من الآية 14] قلنا قد أعطي محمد - صلى الله عليه وسلم - أنصاراً قد أشرنا إلى ذكرهم وأنهم قالوا له: واللهِ لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها (¬3) , وظهر من صدقهم ونصرهم إيّاه ومنعهم مَن أرادَهُ بسوء وإجلالهم له وتوقيرهم إياه وامتثال أمره أمورٌ يطول ذكرها ولا يمكن حصرها من خلوص الطاعة وصحّة النيّة وحسن المؤازرة وبذل النفوس في نصره ومجاهدتها في إقامة دينه , فإن الله امتحن قلوبهم للتقوى وكانوا لا يُحدّون النظر إليه إعظاماً له , ولا يرفعون أصواتهم عنده إجلالاً له وإكراماً , ولا يتنخم نخامة إلا ابتدروها يتمسّحون بها (¬4) ولا سقطت من شعره شعرة إلا تنافسوا فيها (¬5) حتى إن معاوية أوصى أن يدفن معه شعر من شعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬6) , وشرب عبدالله بن الزُّبير محجمةً مِن دَمِهِ كان أمره أن يهريقها فأودعها جوفه (¬7) وكان إذا حضره من لا يوقّره ولا يعظّمه من جفاة العرب استأذنوه في ضرب عنقه [ق 33/و] كما لقي عروةَ بن مسعود يوم الحديبية من ابن أخيه المغيرة بن شعبة لمّا قَرَع يدَه بنعل السيف وقال له: أكفف يدك قبل أن لا ترجع إليك فرجع عروة إلى قريش فأخبرهم بما ¬
أعجبهم من تعظيمهم له (¬1) , وواسَوه بأموالهم ووَقَوْه (¬2) بأنفسهم وقاتلوا عنه حتى أهلَهُم وعشيراتِهم وعادَوا فيه حتى قومَه الذين خالفوه وعصوه وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «إن لكل نبيّ حوارياً وحواري الزبير بن العوام» وكان أولَّ من سَلّ سيفاً في سبيل الله وكان في شِعْبِ المَطابخ فسمع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قتل فأخذ السّيف وخرج عرياناً في يده السيف صلتاً فلقيه النبي - صلى الله عليه وسلم - كِفَّةَ كِفَّةَ , فقال: «مالك؟ » , قال: سمعت أنك قُتلت , قال: «فما كنت صانعاً؟ » , قال: أردت أن أستعرض أهلَ مكّة , فدعا له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3). فإن قيل: إن عيسى - عليه السلام - طلب الحواريون منه أن يدْعو ربَّه أن ينزل عليهم (¬4) مائدة من السماء تكون لهم عيداً يأكلون منها لتطمئن قلوبهم ويعلموا أنه قد صَدَقهم ويشهدوا له بذلك، قيل: قد أعطى الله محمداً - صلى الله عليه وسلم - ماهو أفضل من ذلك من غير هذه الشروط وذلك ما روى سَمُرَة بن جندب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أُتي بقصعة من ثريد فَوُضِعَتْ بين يدي القوم فتعاقبوها من غدوة إلى الظهر يقوم قوم ويجلس آخرون , فقال رجل لسمرة: أما كانت تُمدّ؟ , قال: من أي شيء تَعجَبُ ما كانت تُمَدّ إلا من هاهنا وأشار بيده إلى السماء (¬5)؛ وأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - لمّا أسلموا كان منهم من عُذِّبَ كبلال وصهيب وعمّارٍ وأبويه , فعُذِّبوا أشد العذاب ولم يُزحزِحهم ذلك عن دينهم شيئاً , وفيهم من أُسِر وقُتِل كَخُبَيْب وغيره , ولم يتزلزل إيمانهم ولم يقترحوا على نبيّهم مثلَ هذه الاقتراحات وقصصهم معروفة وسيرهم مشهورة؛ وأما حواريّو عيسى - عليه السلام - فغايتهم أن قالوا له: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا [ق 33/ظ] مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ ... } الآية ¬
[المائدة: 112] , فإن قيل: كان (عيسى) (¬1) سياحاً جَوَّاباً جَوّالاً في البراري وسواحل البحار , قلنا: قد أشرنا قبلُ إلى سياحة نبينا - صلى الله عليه وسلم - وأمّته وأنّ منها الجهاد برّاً وبحراً وقد كان منهم ما أشرنا إليه وأضعاف ذلك , فكانت سياحة محمد صلى الله عليه وسلم وبارك أفضل وأكمل , ونفعها أعم وأحسن وأجمل , لأنه حصل في سياحته فتح البلاد وقتل الكفار الذين أظهروا في الأرض الفساد حتى استنفَد عشر سنين في إقامة الدين فتابَعه مالم يُتابِع نبياً قبله في أضعاف تلك المدّة ولا يقاربه , فإن نوحاً لبث في قومه يدعوهم ألف سنة إلا خمسين عاماً فما بلغ من كان معه من المؤمنين في السفينة مائة نفس (¬2) , فكان محمد - صلى الله عليه وسلم - في مدّة نبوّته إمّا مجاهداً وإمّا مجهّزاً جيشاً أو سريةً أو باعِثاً بَعْثاً في إقامة الدين وإعلاء الكلمة وإبلاغ الرسالة وإسماع الدعوة حتى طبّق الأرض دينُه وذكْرُه وعَمّ البسيطةَ ظُهوره وقهرُه. فإن قيل: إن عيسى عليه [الصلاة و] (¬3) السلام كان زاهداً في الدنيا يُقنِعه اليسيرُ منها ويجتزي بالطفيف من البلغة حتى خرج من الدنيا كفافاً فلا له ولا عليه , قلنا: كذلك كان محمد - صلى الله عليه وسلم - كان يطوي اليومين والثلاثة لايجد من الدقل (¬4) ما يملأ به بطنه (¬5) ¬
ويمكث الهلال إلى الهلال إلى الهلال ثلاثة أهلّه في شهرين ما تُوقَد في بيت من بيوته نار وإنما كان يتقوّتون بالأسودين التمر والماء (¬1) إذا حصل وهم مع ذلك تسعة أهل أبيات ومات ودرعه مرهونة على أوساق شعير إدَّانَها قُوتاً لأهله (¬2) ولم يترك إلا سلاحه وبغلته , وعيسى - عليه السلام - كان وحده لا ولد يجوع ولا بيت يخرب على أن الله تعالى قد كان عرض (على) (¬3) محمد - صلى الله عليه وسلم - مفاتيح كنوز الأرض فأبى أن يقبلها وقال: «أجوع يوماً فأذكرك وأشبع يوماً فأشكرك» (¬4) فمحمد - صلى الله عليه وسلم - أزهَدُ الأنبياء طُرّاً وأعظمهم فيه فضيلةً وفخْراً فإنه خرج من الدنيا ولم يشبع من خبز بُرٍّ ثلاثة أيّام تباعاً (¬5) وكان يربط الحجر على بطنه من الجوع (¬6) ويطوي اللّيالي ما يجد ما يقتات (¬7) وله ثلاث عشرة امرأة يَزِدن ¬
تارة ويَنقُصن [ق 34/و] أخرى سوى من يَطْرَأ عليه من خارج (¬1) , وكان يلبس الصوف وينتعل المخصوف (¬2) ويفترش إهاب شاة (¬3) وكانت وسادته من أدَم (¬4) حشوُها ليفٌ (¬5) وكان لا يدّخر شيئاً لغدٍ (¬6) و [كان] (¬7) زهده في الدنيا وفقره معروف مشهور , ولمّا فتح الله تعالى عليه خزائن الملوك ووطّأ له أعناق الجبابرة ومكّن له في البلاد وأعطي من غنائم العباد , كان يقسم في اليوم الواحد ثلاثمائة ألف ويعطي الرجل المائة من الإبل (¬8) ¬
والخمسين وما بين جبلين من الغنم (¬1) , ويُمسي فيأتي السائل فيقول: «والذي بعثني بالحق ما أمسى في بيت من بيوت آل محمد صاع من شعيرٍ ولا تمرٍ» (¬2) ولم يكن لعيسى - عليه السلام - من (¬3) يطالبه بشيء لا زوجة ولا ولد ولا يحتاج إلى ما كان يحتاج إلى مثله محمد - صلى الله عليه وسلم -. فإن قيل: إن عيسى - عليه السلام - قد كان في حياطة وحرز من ربّه تعالى (¬4) أن يعدوَ عليه ظالم وأن يُنال بسوء كما قال تعالى: {وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ ... } الآية [المائدة: من الآية 110] وأيّده بروح القدس فكان يمسي ويُصبح آمناً ساكن القلب ثابت الجأش لما كان الله يتولّاه , قيل: قد كان لمحمد - صلى الله عليه وسلم - أبلغ من ذلك , فإن العجم والعرب انتصبت لمعاداته والجن والإنس استعدّوا لمناصبته فأيده الله بروح منه ونصره عليهم وأنزل عليه: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: من الآية 67] وأنزل عليه المعوّذات والقرآن الذي كان يقرأه فيجعل الله بينه وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً , وقصدوه بالأذى (¬5) عوداً على بدْءٍ ويردّ الله كيدهم في نحورهم ويحفظه من شرورهم كما أشرنا إليه من قصة أبي جهل وما أراده سُراقة في سفر الهجرة وأشباه ذلك كثير (¬6) , والشياطين تدلّت عليه من رؤوس الجبال بالشعل من النار ¬
فعلّمه جبرئيل ما يتعوّذ منهم ففعل فكفِيَ شرهم وطَفِئت نيرانهم (¬1) , واعترض عليه شيطان في المحراب وهو يصلي فأمكنه الله تعالى منه فخنقه وأراد أن [ق 34/ظ] يربطه بسارية من سواري المسجد فذكر دعوة سليمان فأطلقه ولولا ذلك لأصبح مُوثَقاّ يلعب به الغلمان (¬2) , وهذا باب واسع لا يمكن استيفاء ما ورد فيه لكثرته على أن أعداء نبيّنا - صلى الله عليه وسلم - كانوا أشدّ شكيمة (¬3) وأعظم عداوة , وأكبر حقْداً , وأكثر عَدداً وعُدَداً , أهل جاهليّة ¬
جهلاء حتّى رمته العرب عن قوسٍ واحدة , حتى أهْلُه وبنو عمّه وعشيرته , وهو مع ذلك من قوّة القلب وثبوت الجأش بالمنزلة التي لا يَجهلها من وقف على سيرته , وتدبّر أحواله مع قومه , بما ألقى الله في قلوب أعدائه من الرهبة والجَزَع أن يهجموا عليه , ولقد (¬1) تَمالَأ عليه القبائل ليقتلوه كما قال (الله) (¬2) تعالى مخبراً عنهم: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)} [الأنفال: 30] فقد كان الله سبحانه يحفظه ويصونه ويصرف عنه من أراده بالسّوء من كفّار قريش حتى صرف عنه شتمهم وسبّهم (كما أخبر - صلى الله عليه وسلم - في قوله: «ألا تعجبون كيف يصرف الله عني شتم قريش وسبهم) (¬3) ولعنهم فإنهم يشتمون مذمماً ويلعنون مذمماً وأنا محمّد» (¬4) , وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن الملأ من قريش اجتمعوا في الحجر , فتعاقدوا باللات والعزى , ومناة الثالثة الأخرى وإسافَ ونائلة: لو رأينا محمّداً قمنا إليه قيام رجل واحد , فلم نفارقه حتى نقتله , فدخلت فاطمة عليها السلام (¬5) على (¬6) أبيها - صلى الله عليه وسلم - وهي تبكي فقالت له: إن الملأ من قومك اجتمعوا في الحجْر فتعاقدوا [على] (¬7) أن لو رأوك قاموا إليك فقتلوك , وقد عرف كل رجل منهم نصيبه من دمك , فقال: «يا بُنَيَّة أدْنِي وَضُوءاً» فتوضّأ ثم دخل عليهم المسجد فلمّا رأوه قالوا هاهو هذا , فَعَقِروا في مجالسهم , وخفضوا رؤسهم , ولم يقم إليه منهم رجل واحد , فأقبل رسول ¬
الله - صلى الله عليه وسلم - حتى قام على رؤسهم فأخذ قبضة من التراب فحصَبَهُ عليهم وقال: «شاهت الوجوه» فما أصابت رجلاً منهم حصاة إلا قتله الله يوم بدر كافراً (¬1)؛ وعن أنس - رضي الله عنه -[ق 35/و] قال: "إن إبليس ما بين قدميه إلى كعبيه كذا وكذا وأنّ عرشه لعلى البحر ولو ظهر للناس لعُبد , قال: فلما بعث الله محمداً - صلى الله عليه وسلم - أتاه وهو بجَمْعٍ يكيده فانقَضَّ عليه جبرئيل - عليه السلام - فدفعه بمنكبه فألقاه بوادِي الأُرْدُنّ" (¬2)؛ وعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: "لما نزلت {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد: من الآية 1] جاءت امرأة أبي لهب إلى أبي بكر - رضي الله عنه - , وأبو بكر جالس مع النبي - صلى الله عليه وسلم - , فلما رآها أبو بكر قال: يا رسول الله إنها امرأة بذيئة فلو قمت فإني أخاف عليك أن تؤذيك , فقال: «إنها لن تراني» , فجاءت فقالت: يا أبا بكر هجاني صاحبك , فقال لها أبو بكر: لا وما يقول الشعر , قالت: إنك عندي لمصدَّق (¬3) وانصرفت , فقال أبو بكر: يارسول الله وما رأتك , قال: «إنه نزل ملك فسترني منها بجناحه» (¬4)؛ وروى أبو مصعب المكي قال: أدركت أنس بن مالك وزيد بن أرقم والمغيرة بن شعبة فسمعتهم يحدثون: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أمر الله سبحانه شجرةً ليلة الغار فنبتت في وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - , وأمَر العنكبوت فنسجت في وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - فسترتْه , وأمر الله حمامتين وحشيّتين فوقعتا بفم الغار , وأقبل فتيان من قريش من كل بطن رجل بِعِصِيّهم وهراواتهم وسيوفهم حتى كانوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - قدر أربعين ذراعاً فجعل كذا بعضهم ينظر في الغار فرأى حمامتين بفم الغار فرجع إلى أصحابه فقالوا له: مالك لم (¬5) تنظر في الغار , فقال: رأيت حمامتين بفم الغار فعرفت أن ليس فيه أحد , فسمع ¬
النبي - صلى الله عليه وسلم - ما قال , فعرف أن الله قد [تعالى] (¬1) قد درأ (¬2) عنه بهما فدعا لهنّ وسَمَّتَ (¬3) عليهن وفرض جزاءهن وأُقرِرن في الحرم (¬4)؛ ولما ظهر الخوف من أبي بكر - رضي الله عنه - على (¬5) النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما ظنّك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما» (¬6) ولمّا لحقهم سراقة بن مالك قال أبو بكر: يا رسول الله أُدركنا , قال له النبي (¬7) - صلى الله عليه وسلم -: «لاتحزن إنّ الله معنا» (¬8)؛ ولما قدم المدينة قالت له اليهودُ: يا محمد إنّا ذَوُو عدّة وبأس شديد فاحذر أن نقتلك , فكان جماعة من المهاجرين والأنصار يحرسونه مُسْتلْئمين في السلاح يخافون عليه [ق 35/ظ] اليهودَ حتى أنزل (¬9) الله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: من الآية 67] يعني من اليهود , أي: أنا أمنعك منهم , فرَدّ الحرسَ إلى منازلهم وكان يبرز وحده في سواد الليل وبالأسحار إلى البقيع والأودية (¬10) ممنوعاً منهم لا يَصِلون إليه بسوء , وكانت هذه العصمة زيادة في عزيمته وتقوية لقلوب أصحابه وتخفيفاً عنهم وتطيباً لقلوبهم وتبييناً لصدق خبره لأنه أخبر بالعصمة في المستقبل من أيامه والمستأنف من زمانه وذلك غيب لا يعلمه إلا الله ولا يخبر به عنه محتجّاً به مستميتاً إليه إلا رسول مبين يعلم أنه على بينة من ربه وبصيرة من أمره. ¬
فإن قيل: إن عيسى - عليه السلام - رفع إلى السماء كما قال تعالى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: من الآية 55] , قلنا: قد أعطى محمداً - صلى الله عليه وسلم - ذلك على أكمل الوجوه فإن الله رفع محمداً - صلى الله عليه وسلم - إلى فوق سبع سموات , وإلى سدرة المنتهى , وخرق من الحجب ما شاء الله , ورأى من آيات (¬1) ربه الكبرى ولم يُتوفه , وسأله عما يختصم فيه الملأ الأعلى فأخبره وعلّمه مالم يعلّمه غيرَه وعاد ببشرى من الله تعالى وقد أعطاه مالم يعط أحداً من النبيين الأولين والآخرين مع أن بعض أصحابه قد رفع إلى السماء فإن جعفر بن أبي طالب لما قاتل يوم مُؤتَة وقُطِعت يداه وقُتل جعل الله له جناحين يطير بهما في الجنة (¬2) , وعن عامر بن الطُّفَيل (¬3) أنه رأى عامر بن فُهيرة (¬4) يوم بئر مَعُونة (¬5) حين قتل رفع إلى السماء حتى إني لأنظر السماء بينه وبين الأرض (¬6) , ومما يدخل في هذا الباب ¬
حديث حنظلة بن (أبي) (¬1) عامر الرّاهب (¬2) فإنه يوم تزوج بِجَميلَة بنت عبدالله بن أبيّ ابن سلول دخل بها بعد أن صلى الصبح وذلك يوم أُحُد , ثم خرج يريد النبي - صلى الله عليه وسلم - بأُحُد , فأرسلت إلى أربعة من قومها فأشهدتهم أنه قد دخل بها , فقيل لها في ذلك , فقالت: رأيت كأنّ السماء فُرجت له فدخل فيها ثم أطبقت فقلت: هذه [ق 36/و] الشهادة وعلقت بعبدالله بن حنظلة , فلمّا قتل حنظلة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إني رأيت الملائكة تغسل حنظلة بن أبي عامر بين السماء والأرض (بماء) (¬3) المزن في صحاف الفضّة» , قال أبو أسيد الساعديّ (¬4): فذهبنا فنظرنا فإذا رأسه يقطر ماء (¬5) فرجعت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته فأرسل إلى امرأته يسألها فأخبرته (¬6) أنه خرج وهو جنب (¬7) فولده يقال لهم بنو غسيل الملائكة (¬8)؛ وقد طهّر الله تعالى محمّداً - صلى الله عليه وسلم - من كل ¬
شين , وخصّه وجمّله بكل زين , وقد جعل الذين اتبعوه فوق جميع الخلق منزلةً وقدراً إلى يوم القيامة كما أشرنا إليه من حديثه - صلى الله عليه وسلم - (أنه قال) (¬1): «لا تزال طائفة من أمتي قائمة على الحق إلى يوم القيامة ... » الحديث (¬2). فإن قيل: عيسى - عليه السلام - دعا فنزلت المائدة وعليها أنواع من الطعام , قيل: دعاء محمد - صلى الله عليه وسلم - (كان) (¬3) أعظم نفعاً وأكثر بركة وأحسن عاقبة , فإن المائدة كان فيها طعام مخصوص لقوم مخصوصين لم يكن عامّاً لجميع المخلوقين مع أن عاقبة نزول المائدة كان شراً على من طلبها من عيسى - عليه السلام - , فإنهم عُوقبوا إذ لم يشكروا ومُسِخوا خنازير إذ عَصَوا وادخروا , فكانت المائدة عقوبة لهم إذ عذّبهم الله تعالى عذاباً لم يعذب به من كان قبلهم , ثم ارتفعت هذا إن صحّ أنّها نزلت (¬4) , فأما محمد - صلى الله عليه وسلم - فإن أمّته لما شكَوا إليه الجدب واستئخار المطر عن إبّانِ زمانه فقالوا له: ادع اللهَ يُغيثنا وكان يخطب على المنبر يوم الجمعة فرفع يديه ودعا فما نزل حتى جاء المطر وجاش كل ميزاب فلم يزالوا يُمطَرُون إلى الجمعة الأخرى , فقالوا: يا رسول الله تهدمت البيوت وانقطعت السبل فادع الله (تعالى) (¬5) يحبسها عنا فدعا فأقلعت وانجابت عن (¬6) المدينة انجياب الثوب وسالَ وادي قناةَ (¬7) شهراً ولم يجئ أحد من ناحيةٍ إلا أخبر بالجَوْد (¬8) , فدعوة ¬
محمد - صلى الله عليه وسلم - كانت نعمة ورحمة وبركة فإن المطر (¬1) خير الأرزاق لجميع المخلوقات بل هو أصل الأرزاق كلها وأساس النعم جميعها وقد أنزل الله تعالى [ق 36/ظ] على جماعة من أمّة محمّد - صلى الله عليه وسلم - من السّماء طعاماً وشراباً عند حاجتهم إليه , وبُورِك لآخرين في قليل الطعام والشراب حتى سَدّ مسدّ الكثير وهذا أمر معلوم معهود في أمّته , وقد روى أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لما فرغت مما أمرني الله تعالى به من أمر السموات والأرض يعني ليلة المعراج قلت: يا ربّ إنه لم يكن نبي قبلي إلا وقد كرّمته , (جعلت إبراهيم) (¬2) خليلاً , وموسى كليماً , وسخرت لداود الجبال يسبحن والطير , ولسليمان الريح والشياطين , وأحييت لعيسى الموتى , فما جعلت لي , قال: أوليس قد أعطيتك (¬3) أفضل من ذلك كله أن لا أُذكَر إلا ذُكِرتَ معي وجَعلت صدور أمّتك أناجيل يقرؤن القرآنَ ظاهراً ولم أُعطها أمّةً , وأنزلت عليك كلمة من كنوز عرشي لا حول ولا قوة إلا بالله» (¬4) وقد أشرنا إلى هذا وسيأتي حديث الإسراء فيما بعد إن شاء الله تعالى , فقد ¬
فصل قال الله تعالى: {واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا (56) ورفعناه مكانا عليا}
ظهر فضل محمد - صلى الله عليه وسلم - على أولى العزم من الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين بما تيسر من ذكر فضائلهم وفضائل محمّد - صلى الله عليه وسلم - (لما) (¬1) قابلنا بينهما , وأنه لم يؤتَ أحد منهم فضيلة إلا وقد أُعطي محمد - صلى الله عليه وسلم - مثلها وأعظم , و [قد] (¬2) خُصّ بما لم ينالوا من جنسه شيئاً كما أشرنا إليه وكما ندلّ فيما بعد إن شاء الله تعالى عليه , ونحن نذكر بمشيئة الله تعالى وعونه وحسن توفيقه مما ورد في فضل غيرهم من الأنبياء (وإن كان الفضل للمتقدم , فإن محاسن الأنبياء) (¬3) ومعجزاتهم تتوق الأنفس إلى سماعها ونبيّن فضل ما أوتي محمد صلى الله عليه وسلم وعليهم على نحو ما تقدم من شأن أولي العزم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. فصل قال الله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم: 57 - 58] ولا ريب أنّ منزلة محمد - صلى الله عليه وسلم - من الصّدّيقية والنبوة أعظم [ق 37/و] من منزلة إدريس - عليه السلام - , وأمّا رفعته إلى المكان العلي فغيره من الأنبياء رفع إلى أعلى مكانة (¬4) كما سيأتي في ذكر المعراج والإسراء , وأن محمّداً - صلى الله عليه وسلم - علا فوق منزلة إدريس - عليه السلام - وفوق منزلة من هو فوقه , فإنه رفع فوق سبع سموات وفوق سدرة المنتهى , وطيفَ به في جنة المأوى , بعد أن دنا من ربّه تعالى فتدلى , فكان قاب قوسين أو أدنى , ورأى من آيات ربّه الكبرى , والحديث في الصحاح والسنن والمساند وغيرها من السّير وكتب العلم مشهور معروف فقد حصل له في الرفع البَدَني مالم يحصل لملَك مقرّب ولا نبيّ مُرسَل , فأما رفع القدر والمنزلة فقد قال تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشَّرح: 4] روى أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشَّرح: 4] قال: ¬
«قال لي جبريل: قال الله تعالى: إذا ذُكِرتُ ذُكِرتَ معي» (¬1) فرفع الله تعالى له - صلى الله عليه وسلم - شأنه , وأقام برهانه في الدنيا والآخرة بأن قرن اسمه مع اسمه في الشهادة بربوبيّته وتوحيده في مشارق الأرض ومغاربها فليس خطيبٌ ولا مصَلٍ ولا داعٍ إلا ينادي بذكره مع ذكر الله (تبارك) (¬2) وتعالى. وأما هود - عليه السلام -: فقيل إن الله تعالى فضله بأن انتصر له من أعدائه بالريح العقيم ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرّميم , قلنا لمحمّد - صلى الله عليه وسلم - أفضل من ذلك فإن الله تعالى انتصر له من أعدائه يوم الخندق بالريح أيضاً وبالملائكة الكرام كما قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب: من الآية 9]؛ روى أبو نعيم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما كان يوم الأحزاب انطلقت الجَنُوبُ إلى الشَّمال فقالت: انطلقي بنا ننصر محمّداً - صلى الله عليه وسلم - , فقال الشمال: إن الحُرّة لا تسري إلا بليل , فأرسل الله عليهم الصَّبا , فذلك قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب: من الآية 9] (¬3)؛ وفي الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم -[ق 37/ظ] أنه قال: «نُصِرتُ بالصّبا وأُهلِكَت عادٌ بالدَّبُور» (¬4) فإنّ يوم الخندق لمّا تألّب الأحزاب على المسلمين واشتدّ (الأمر) (¬5) عليهم ¬
فصل وأما صالح - عليه السلام -
كما قال الله تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب: من الآية 10] أرسل الله على الأرض ريحاً شديدة في ليلة عظيمة البرد فجعلت تَكْفَأُ قدورَهم وتَطرَحُ أبنيَتهم فكان يُسمَع في تلك الليلة أصوات كالصواعق فألقى الله تعالى في قلوبهم الوهن والخوف والجزع قال حذيفة - رضي الله عنه -: وما أتت علينا ليلةٌ قط أشدّ ظلمةً (¬1) ولا أشدّ بَرداً ولا أشدّ (¬2) ريحاً منها (¬3) , أصوات ريحها أمثال الصّواعق وهي ظلمة , ما يرى أحدنا إصبعَه , واختلفت كلمة المشركين ووقع التخاذل بينهم , فقال أبو سفيان: يا معشر قريش والله ما أصبحتم بدار مقام , والله لقد هلك الكراع والخُفُ واخلفَتْنا بنو قريظة وبَلَغَنا عنهم الذي نَكْرَهُ ولقينا مِن شدّة الريح ما ترون ما تَطمئن لنا قِدْرٌ ولا تقوم لنا نارٌ ولا يستمسك لنا بناء فارتحِلوا إنّي مرتحِل , وكانت هذه الشدّة خاصّة على الكفار , فإن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - لمّا بَعثَه النبي - صلى الله عليه وسلم - لينظر له خبر القوم في الليل قال (¬4): فكنت كأنما أمشي في دِيماسٍ -يعني: حماماً- حتى رجَعْتُ (¬5). فصل وأما صالح - عليه السلام - فقيل إن فضيلته في أن أخرج الله (تعالى) (¬6) له ناقةً جعلها له على قومه حجّةً وآيةً , وجعل في لبَنها البركة فكانت تشرب يوماً ماء نهرهم ويشربون يوماً لبَنها كما قال الله تعالى: {لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء: 155] قلنا: ¬
لمحمد - صلى الله عليه وسلم - من الآيات الخوارق أعجب من هذا فإن اللبن معهود من النُّوق وإخراج الماء (من بين الأصابع أمر غير معروف فإن محمداً - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قلّ الماء عليهم دعا بالقدح ووضع أصابعه فيه فيتفجر الماء عيوناً) (¬1) من بين أصابعه حتى يرتوي القوم ودوابهم ويتزوّدوا وهم الجمّ الغفير والخلق الكثير حتى قيل لبعضهم: كم كنتم , قال: لو كنا مائة ألف لكفانا (¬2) , ولم يعرف هذا لنبيّ قبله وكذلك كان [ق 38/و] يطعمهم من الطعام اليسير فيشبعون ويتزودون ولو كانوا ألوفاً من طعام يكون قدر ما يكفي الواحد والاثنين ونحو ذلك , وقد كان محمد - صلى الله عليه وسلم - يمسح ضرع الشاة الحائل فيَدُرّ لبَنُها فيحلب منها ويبارَك فيه وأبلغ من ذلك أنه مسَح ضرع الشاة التي لم يَنْزُ عليها الفحل فدرّت لبناً كما في حديث ابن مسعود (¬3) وحديث أم مَعْبَد (¬4) وغير ذلك وفي حال طفوليته وهو عند ظئره حَليمة وما أظهر الله تعالى من البركة في درّها ودرّ شارفها وقوّتها وقوّة أتانها حتى حلبوا وشربوا ورَوُوا ورَوِيَ ولدها ونامُوا وما كانوا ينامون الليل من بكائه وصارت أتانها تسبق ¬
القومَ بعد ما كانت لا تلحقهم إلا مع شدة (شديدة) (¬1) (¬2) فكل ذلك محض بركةٍ أظهرها الله تعالى به وأجْراها على من أجراها بسببه ولم يكن حينئذ في معرض إظهار معجزة وإقامة حجة ودعاءٍ إلى نفسه وإن كانت مما يُستشهد بها في ثاني الحال على شرفه وعظم شأنه وعلوّ مكانه وصدقه في دعواه - صلى الله عليه وسلم -؛ وأما ناقة صالح - عليه السلام - وعظم خلقها وبديع شكلها وتذليل الله تعالى (لها) (¬3) في يده فهذا شئ خُلِقَ لإبْرام أمْرٍ أراده الله تعالى لا يتم إلا على هذا الوجه وإنّما خُلقت لتطيعه وتَذِلّ وهي كانت مُعجزته الشاهدة برسالته والمصدّقة بنبوته والمعجزة الخارقة في تذليل المستصْعَبِ من الإبل المعتادِ صيالُها المعهودِ نُفورُها فإن محمداً - صلى الله عليه وسلم - ذُللَّ له المُسْتَصْعَبُ من الإبل كما في حديث جابر - رضي الله عنه - قال: سرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا جمل نادٌّ من صاحبه حتى إذا كان بين السِماطين خرّ ساجداً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «مَن صاحبُ هذا الجمل» فإذا فِتْيَةٌ من الأنصار قالوا: هو لنا يا رسول الله , قال: «فما شأنه» , قالوا: سَنَيْنا (¬4) عليه مُنذ عشرين سَنة وكانت به شُحَيمة , فأردنا أن ننحره فنقسمه بين غلماننا فانفلتَ منّا , قال: «تبيعونه» , قالوا: لا بل هو لك يا رسول الله , قال: «أمّا لي فأحسنوا إليه حتى يأتي أجَلُه [ق 38/ظ]» (¬5)؛ وفي رواية عنه قال: أقبلنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من سفر , حتى دُفعنا إلى حائطٍ من ¬
حيطان بني النجّار , فإذا فيه جمل عظيم قَطِمٌ يعني هائجاً لا يدخل الحائط أحد إلا شدَّ عليه , فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أتى الحائط فدعا البعير فجاءه (¬1) واضعاً مَشْفِرَهُ في الأرض , حتّى بَركَ بين يديه , فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «هاتوا خِطاماً» , فخطمَه ودفعه إلى أصحابه , ثم التفت إلى الناس , فقال: «إنه ليس شيء بين السماء والأرض إلا يعلم أني رسول الله غيرَ عاصي الجنّ والإنس» (¬2)؛ وعن ثعلبة بن أبي مالك (¬3) قال: (اشترى) (¬4) إنسان من بني سَلِمَة جملاً ينضح عليه فأدخله مربداً فجرَّهُ كيما يعمل , فلم يقدر أحد أن يدخل عليه إلا تخبّطه فجاء رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له (¬5) , فقال: «افتحوا عنه» , فقالوا: نخشى عليك يا رسول الله , قال: «افتحوا (عنه) (¬6)» , ففتحوا فلمّا رآه الجمل خرّ ساجداً فسبّح القوم وقالوا: يا رسول الله نحن كنّا أحقّ بالسجود لك من هذه البهيمة , قال: «لو ينبغي لشيء من الخلق أن يسجد لشيء من دون الله لانبغى (¬7) للمرأة أن تسجد لزوجها» (¬8)؛ وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان لآل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحش , فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج قام فأقبل وأدبر , فإذا دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - رَبَض فلم يترمرم كراهية أن يُؤذِيَه (¬9). ¬
فصل وأما رد الشمس ليوشع بن نون - عليه السلام -
فصل وأما ردّ الشمس ليوشع بن نون - عليه السلام - فإنها لم تَرُدَّ بعد غروبها ولكنها وقفت بدعائه , وذلك أنه كان في غزوٍ وأشرف على الفتح وكادت الشمس أن تغيب فخاف إن غابت أن لا يتم له أمر الفتح فدعا الله تعالى فقال: اللهم إني مأمور وإنها مأمورة فاحبسها علي شيئاً حتى يفتح لي فحبسها الله تعالى له (¬1) ولا ريب في إجابة دعاء الأنبياء والصالحين لا سيما في أمور الدين , والمعجز الكبير الذي أوتيئه محمد - صلى الله عليه وسلم - من هذا الجنس أعظم وهو انشقاق القمر (نصْفَين لما سأله المشركون آية فأراهم القمر) (¬2) وقد انشقّ حتى رأوا الجبل بين الشّقتين [ق 39/و] فقال للنّاس (¬3): «اشهدوا» (¬4) وجاء من كان غائباً فأخبر أنه رآه منشقاً كذلك , فقال بعضهم: إن كان محمّد قد سَحَرنا فلم يكن سَحَر الناسَ كلهم (¬5) , وانشقاق القمر كذلك أعظم من وقوف الشمس على حالها وهيئتها. ¬
فصل وأما داود - عليه السلام -
فصل وأما داود - عليه السلام - فقد قال الله تعالى في حقه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سبأ: 10 - 11] فمحمّد - صلى الله عليه وسلم - قال الله تعالى (له) (¬1): {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113] فجعل الفضل الذي آتاه داود عليه الصلاة والسلام فضلاً مُرسَلاً , وجعل الفضل الذي آتاه محمداً - صلى الله عليه وسلم - فضلاً عظيماً , وأما قوله تعالى: {يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} [سبأ: من الآية 10] فالحَصى من جنس الجبال وكان يسبّح في يد محمّدٍ - صلى الله عليه وسلم - بل وفي أيدي أصحابه رفعةً لشأنه وبياناً لبرهانه , روى أبو نعيم وغيره عن سويد بن يزيد قال: كنت اتتبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في خلواته فدخلت ذات يوم المسجد فإذا هو فيه فجئت فجلست , فبينا أنا جالس إذ جاء أبو بكر - رضي الله عنه - , فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما جاء بك (يا أبا بكر) (¬2)» , فقال: إلى الله وإلى رسوله , فجلس (عن يمين) (¬3) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , ثم جاء عمر - رضي الله عنه - , فقال: «ما جاء بك يا عمر» , قال: إلى الله وإلى رسوله , قال: فجلس عن شمال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , قال: ثم جاء عثمان , فقال له: «ما جاء بك يا عثمان» , فقال: إلى الله وإلى رسوله , قال: فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبع حصياتٍ فسبّحن في يده حتى سمعت حنينهنّ كحنين الإبل ثم وضعهن فخَرِسْن , ثم أخذهن فدفعهن في يدا أبي بكر - رضي الله عنه - , قال: فسبّحن في يده حتى سَمِعتُ حنينَهن كحنين النّحل ثم وضعهن فخَرِسْن , ثم أخذهن فدفعهن في يد عمر - رضي الله عنه - فسبحن في يده ¬
حتى سمعت حنينهن كحنين النّحل ثم وضعهن فخَرِسن (¬1)؛ وعن علقمة [ق 39/ظ] عن عبدالله - رضي الله عنه - قال: كنّا نأكل عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فنسمع تسبيح الطّعام (¬2)؛ وأما تأويب الطير معه فإنه عليه الصلاة والسلام كان حسن الصّوت إذا قرأ الزبور جاوبته الجبال والطّير , فقد كان في أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - من أوتي مثل ذلك , فقد سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة قراءة أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - فقال (¬3): «لقد أوتي مزماراً من مزامير آل داود» (¬4) , وروى أبو عمر بن عبدالبَرّ في الاستيعاب عن أبي عثمان النهديّ أنه قال: أدركت الجاهلية فما سمعت صوت صنج ولا بربط ولا مزمار أحسن من صوت أبي موسى بالقرآن وإن كان ليصلي بنا صلاة الصبح فنَودّ لو قرأ بالبقرة من حسن صوته , قال أبو حفص فحدثت به يحيى بن سعيد فاستحسنه واستعادَنيه غير مرّة (¬5)؛ فأما هو - صلى الله عليه وسلم - فقد ثبت في صحيح البخاري عن البراء بن عزاب - رضي الله عنه - قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في العشاء: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1)} [التين: 1] فما سمعتُ أحداً أحسن صوتاً منه أو قراءة (¬6) , ولمّا سمعت الجنّ قراءته (قالوا: إنا سمعنا قرآناً) (¬7) عجباً يهدي إلى الرشد , وأعجب من ذلك نزول السّكينة لقراءة بعض أصحابه وهو أُسَيدُ بن حُضَير - رضي الله عنه - (¬8) فإنه كان يقرأ سورة الكهف وإلى جانبه ¬
فرس مربوط بشطنين فتغشته سحابة فجعلت تدنو وتدنو وجعل فرسه ينفر منها فلمّا أصبح ذَكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «تلك السكينة (¬1) نزلت للقرآن» (¬2) وفي رواية أخرى قال: «تلك الملائكة دنت لصوتك ولو قرأت لأصبح الناس ينظرون إليها لا تتوراى منها» (¬3) وكان حسن الصّوت , فدنوّ السكينة والملائكة لسماع قراءة ابن خضير أعظم من تسمّع الجبال والطير والوحش لصوت داود عليه الصلاة والسلام , وفي الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "سجد النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس" (¬4) , وقد سخّر الله تعالى لنبينا - صلى الله عليه وسلم - من الوحش والبهائم [ق 40/و] ماهو أعظم من الطير كالذئب الذي نطق بنبوته وشهد برسالته وكالجمل الشارد الذي سجد له وانقادَ إلى طاعته (¬5)؛ وروى أبو سعيد الخدريّ - رضي الله عنه - قال: بينا راعٍ بالحَرَّة إذِ انتَهَز الذِّئبُ شاةً فتبعه الراعي فحال بينه وبينها , فأقبل الذئب على الراعي فقال: يا راعي ألا تتقي اللهَ تحول بيني وبين رزق ساقه الله إليّ , فقال الرّاعي: العَجب من ذئب مقعياً على ذنبه يكلمني بكلام الإنس , فقال الذئبُ: ألا أخبرك بما هو أعجب من هذا؟ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الحَرَّتين يدعو الناس إلى أنباء ما قد سبق , فَساق الرّاعي شاءَهُ حتّى أتى المدينة فزواها إلى زاوية من زواياها ثم دخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره بما قال الذئب , فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال للراعي: «أخبرهم بما قال الذئب» فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «صدق الراعي , إنّ من أشراط الساعة كلامَ السّباع الإنسَ والذي نفسي بيده لا تقوم السّاعة حتى تكلّم السّباعُ الإنسَ» (¬6)؛ وعن حمزة بن أبي أسيد (¬7) قال: ¬
خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - في جنازة رجل من الأنصار إلى بقيع الغرقد , فإذا الذئب مفترش ذراعيه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «هذا أويس يستقضي فافرِضوا له» قالوا رأيَك يا رسول الله , قال: «لكل سائمة (¬1) شاة في كل عام» , فقالوا: كثير , «فأشار إليه أن خالِسْهم» (¬2)؛ وعن عبدالرحمن بن عبدالله بن مسعود عن عبدالله - رضي الله عنه - قال: كنّا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سَفرٍ فدخل رجل غَيْضةً (¬3) فأخرج منها بيض حُمَّرة , فجاءت الحُمَّرة تَرِفُّ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «أيّكم فَجَع هذه؟ » , قال رجل: أنا أخذت بَيْضها , فقال: «رُدَّه رحمةً لها» (¬4) ؛ وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد الحاجة أبعد المشي , فانطلق يوماً لحاجته , ثم توضأ ولَبِسَ أحدَ خُفيه , ثم جاء طائر أخضر فأخذ الخُفّ الآخر , فارتفع به ثم ألقاه فخرج منه أسود سالخ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «هذه كرامة أكرمني الله تعالى بها» ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[ق 40/ظ]: «اللهم إني أعوذ بك من شر من يمشي على رجلين , ومن شر من يمشي على بطنه , ومن شر من يمشي على ¬
أربع» (¬1) , وأعجب من هذا تسخير (¬2) السَبُع لغلامه سَفِينة (¬3) , لمّا ضلّ مرّ به الأسد فلمّا رآه قال: أنا سَفِينة مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهَمْهَمَ الأسَدُ به ودَلّه على الطريق (¬4)؛ وأما إلانة الحديد لداود - عليه السلام - فإنّ إلانَةَ الحديد معروفة بالنّار وقد ألان الله تعالى الحجارة لمحمد - صلى الله عليه وسلم - ولا يعرف لينُ الحجارة لا بالنار ولا بغيرها وهذا أبلغ , فإن الله تعالى ألان لمحمّد - صلى الله عليه وسلم - صخرة بيت المقدس حتى صارت كهيئة العجين فخرقها بيده وربَط فيها البراق (¬5) , وكذلك حجر كان في بعض شعاب مكة أصَمّ صَلدٌ استروح إليه (¬6) في صلاته فَلان له حتى أثّر فيه بذراعيه وساعديه (¬7) , ويوم أُحُد مال برأسه إلى الجبل ليُخفي شخصه عنهم فليّن الله تعالى له الجبل حتى أدخل (فيه) (¬8) رأسه (¬9) , وتحرّك الجبل (مرّةً) (¬10) تحته فقال: ¬
«اسكن فما عليك إلا نبيّ أو صديق أو شهيد (¬1)» وكان عليه هو (¬2) - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما (¬3) , وهذا (¬4) وأمثاله أعجب من إلانة الحديد لداود - عليه السلام - , وأعجب من هذا أنه كان إذا مشى على الصخر لان تحت أقدامه وإذا مشى على الرمل لايؤثر قدمه فيه (¬5) خرقاً للعادة الجارية على أنّ محمّداً - صلى الله عليه وسلم - أعطي من تسخير الجبال ما لو شاء لصارت جبال مكّة معه ذهَباً وقال له مَلَكُ الجبال: إن شئت أن أُطْبِقَ عليهم الأخْشَبَينِ يعني جَبلي (¬6) مكّة على الكفّار فقال - صلى الله عليه وسلم -: «بل أرجو أن يُخْرِجَ اللهُ من أصلابهم من يعبد الله تعالى لا يشرك به شيئاً» (¬7). ¬
فصل وأما ما أوتي سليمان عليه الصلاة والسلام
فصل وأما ما أوتي سليمان عليه الصلاة والسلام فإنه قال: رب اغفر لي وهب لي مُلكاً لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب , يقول الله تعالى: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [ص: 36 - 39] فقد أعطي محمد - صلى الله عليه وسلم - أعظم من ذلك فإنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «زُوِيَتْ لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإنّ ملك أمّتي سيبلغ ما زوي لي منها» (¬1) وقد أعطاه الله تعالى مفاتيح خزائن الأرض فأباها [وردها] (¬2) بحذافيرها وعرضَ له أن يجعل (له) (¬3) بطحاء مكّة ذهباً فقال: «لا يا رب - ثلاثاً-[ق 41/و] , فإذا جُعتُ تضرّعتُ إليك وذكرتُك , وإذا شبعتُ حمدتك وشكرتك» (¬4) واختار - صلى الله عليه وسلم - أن يجوع يوماً ويشبع يوماً فإذا جاع صَبر وتضرّع إلى الله , وإذا شبع حمد الله وشكره (¬5) , وهاتان الحالتان الصبر والشكر هما من أرفع مراتب العبادة التي يحصل بها المُلْك الكبير الذي لا ينقطع وهو - صلى الله عليه وسلم - مَلِك الآخرة من بني آدم , وفي حديث جابر - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «أُتيتُ بمقاليد الدنيا على فرس أبلق» كما سيأتي , وقد قال - صلى الله عليه وسلم - لعائشة رضي الله عنها: «يا عائشة لو شئتُ لسارت معي جبال الذّهب , جاءني ملك إنّ حُجزته (¬6) لَتُسَاوِي الكعبةَ , فقال: إنّ ربّك يقرأ عليك السّلام (¬7) ويقول لك: إن شئت نبيّاً عبداً وإن شئت نبيّاً مَلِكاً , فنظر إليّ جبريل فأشار إليّ أن ضَعْ نفْسك , فقلت: نبيّاً عبداً» (¬8) والأحاديث في ذلك مشهورة كثيرة. ¬
فإن قيل: إن سليمان - عليه السلام - سُخرت له الرّيح تسير به في بلاد الله تعالى , وكان غدوّها شهراً ورواحها شهراً , قلنا: الذي أعطي محمّد - صلى الله عليه وسلم - أعظم فإنه سار في ليلة واحدة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وهو مسيرة شهر , وعرج به في ملكوت السموات مسيرة خمسين ألف سنة في أقلّ من ثُلث ليلة فدخل السموات سماءً سماءً , ورأى عجائبها , وطيف به في الجنّة , وعرضت عليه النار , وعرضت عليه أعمال أمّته , وصلى بالأنبياء وبملائكة السموات , وخرق من الحُجُب ما لا يعلمه إلا الله , وأراه الله من آياته الكبرى , ثم دنا فتدلى , فكان قاب قوسين أو أدنى , فأوحى إلى عبده ما أوحى , وأعطاه الله تعالى خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش , وعهد إليه أن يظْهر دينه على الأديان كلّها حتى لا يبقى في شرق ولا غرب إلا دينه , أو يؤدّي إلى (¬1) أهل دينه الجزية عن يد وهم صاغرون , وفرض عليه الصلوات الخمس , ولقي موسى عليهما الصلاة والسلام , وسأله مراجعة ربه تعالى في التخفيف عن أمّته مراراً؛ هذا كله في بعض ليلةٍ فأيّما أعجب. فإن قيل: (إنّ) (¬2) سليمان سُخرت له الجن وأنها كانت تعتاص عليه حتى يصفّدها كما ذكر الله تعالى: {وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ} [ص: 38] , قيل: ما أعطي محمد - صلى الله عليه وسلم - أعظم وذلك أن النّفر التسْعة (¬3) الذين هم أشراف الجن وعظماؤهم (¬4) [ق 41/ظ] الذين وصفهم الله تعالى فقال: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ ... } الآية [الأحقاف: 29] ¬
فإنهم أتوه طائعين راغبين في دينه , معظّمين لشأنه , مصدّقين لرسالته ولما جاء به , مؤمنين بنبوّته , متّبعين لأمْره , مستمدّين منه , ومستمنحين له , سائلين لهم ولدوابّهم الزّاد والعلف , فجعل لهم كلّ عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديهم أوفر ما يكون لحماً , وكل روثة وبعرة علف لدوابهم , وعند ذلك نهى [النبي] (¬1) - صلى الله عليه وسلم - المسلمين أن يستنجوا بهما وقال: «إنهما طعام إخوانكم الجن» (¬2) , فجعل الجن إخوان المسلمين , ثم إن محمّداً - صلى الله عليه وسلم - كان يجتمع بهم ويعلمهم ويتلو عليهم القرآن , فلمّا سمعوه قالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) ... } الآيات [الجن: من الآية 1 - 7] وأقبلت إليه وفودهم ليلة الجنّ المعروفةَ ألوفاً (¬3) مؤلّفة متبايعين له على الصوم والصلاة (¬4) والنصح للمسلمين , واعتذروا إليه عن قولهم على الله سبحانه الشّطط , فإنهم كانوا يزعمون أن لله (¬5) سبحانه وتعالى ولداً , فسبحان من سخّرهم له وأذل أعناقهم بين يديه , ولقد تمرّد عليه في بعض الأوقات عفريت ليقطع عليه صلاته (قال) (¬6): «فأمكنني الله منه فذعَتُّه حتى سال لُعابُه على يدي فذكرت دعوة أخي سليمان فأطلَقتُه ولولا ذاك لأصبح مُوثَقاً يلعب به الوالدان» وقد تقدم ذلك , فهذا الغاية القصوى والدرجة العليا في التمكين والتمكن منهم والتحكّم فيهم حتى يصير العفريت الذي أُعطي من القوّة ما يحمل الجبل فَيَقلِبُه أعلاه أسفلَه , آل حاله معه في الذل إلى ¬
أن أراد أن يسلّمه إلى ولدان أهل المدينة يلعبون به فأيّ حكم أبلغ من هذا , وتسخيرهم لسليمان عليه الصلاة والسلام كان في الأعمال الدنيوية ومحمد - صلى الله عليه وسلم - كان معرضاً عنها وغاية ما كان يحتاج من العون في الجهاد وقتال المشركين فأعطاه الله تعالى أصحاباً كَفاه بهم ما أراد وزيادة وأمدّه عند الحاجة بالملائكة (فقاتَلوا معه ولو أراد أن يسخّر الجن لما امتنع عليه , فكان إمداده بالملائكة) (¬1) أعظم من عون الجنّ والإنس؛ وتحصنه من [ق 42/و] مردة الشياطين بالأذكار التي علّمه رَبُّه تعالى إيّاها وعلّمها (هو) (¬2) - صلى الله عليه وسلم - (أصحابَه) (¬3) معلوم يضيق هذا الموضع عن استقصائه , وروى أبو نعيم عن عبدالله بن كثير بن جعفر بن أبي كثير (¬4) قال حدثنا كثير بن عبدالله (¬5) عن أبيه عن جدّه عن بلال بن الحرث (¬6) قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره فخرج لحاجته , وكان إذا خرج لحاجته أبعدَ فأتيته بإدواة من ماء فانطلق , فسمعت عنده خصومةَ رِجال ولغطاً لم أسمع مثلها , فجاء فقال: «بلال» , فقلت: بلال , (قال) (¬7): «أمعك ماء» , قلت: نعم , قال: «أصبتَ» وأخَذه مني فتوضأ , فقلت: يا رسول الله سمعت عندك خصومةً ¬
ولغط رجالٍ ما سمعتُ (¬1) أحَدّ من ألسنتهم , قال: «اختصم عندي الجنّ المسلمون والجنّ المشركون , سألوني فأسكنتُ المسلمين الجَلْسَ وأسكنت المشركين الغورَ» قال عبدالله بن كثير: قلت لكثير [بن عبدالله] (¬2): ما الجَلْس , قال: القرى والجبال , والغور: ما بين الجبال والبحار , قال كثير: ما رأينا أحداً أصيب بالجلس إلا سلم ولا أصيب أحد بالغور إلا لم يكد يسلم (¬3)؛ وعن أبي أُسَيد الخزرجي (¬4) أنه قطع ثمر حائطه وجعله في غُرفة له فكانت الغُول تخالفه إلى مَشربته فتَسرق ثمره (¬5) وتُفْسِدُ عليه , فشكا ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «تلك الغُول يا أبا أسيد (¬6) , فاستمع لها فإذا سمعت اقتحامها - يعني: وجبتها - فقل: بسم الله أجيبي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» فأخذها , فقالت الغول: يا أبا أسيد اعفني أن تكلفني اذهب إلى نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وأعطيك موثقاً من الله أن لا أخالفك إلى بيتك ولا أسرق ثمرك وأدلّك على آية من كتاب الله تعالى لتقرأها على بيتك فلا يُخالَفُ إلى أهلك وتقرأ بها على إنائك فلا يُكشف غطاؤه (¬7) , فأعطَتْهُ الموثق الذي رضي به منها , فقال: والآية التي قلتِ أدلك عليها , (قالت) (¬8): هي آية الكرسي , ثم حَلَّت استها تضرط , فأتى النَّبي - صلى الله عليه وسلم - فقصّ عليه القصّة , قال: جئتُ ولها ولها , فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «صدقت وهي كذوب» (¬9)؛ وعن أبيّ بن كعب [ق 42/ظ]- رضي الله عنه - أنه كان له جُرن (¬10) فيه تمر , وكان يتعاهدها فوجده ينقص فحرسَه ذات ليلة فإذا بدابّةٍ شبه الغلام المحتلم , قال: فسلّمت فردّ السلام , فقال: من أنتَ , أجنّ أم إنس , قال: لا بل ¬
جنّ , قال: قلت: ناولني يدك , فناولني يده , فإذا يد كلب وشعر كلب , فقلت: أهكذا خَلْقُ الجنّ , قال: قد عَلِمَتِ الجنّ ما فيهم أشدُّ مني , قلت: وما حملك على ما صنعت , قال: بلغنا أنك رجل تحبّ الصدقة وأحببنا أن نصيب من طعامك , قال له أبيّ: فما الذي يجيرنا منكم , قال: آية الكرسي , فجاء النّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فأخبرَه بذلك , فقال: «صَدَق الخبيث» (¬1). وعن أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - أنه كان له سَهْوة (¬2) له فيها طعام , فكانت الغول تجيء فتأخذ منه , فشكاها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «إذا رأيتها فقل: بسم الله , أجيبي رسول الله» قال: فجاءت , فقال لها فأخذها , فقالت: إنّي لا أعود , فأرسلها , فجاء فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما فعل أسيرك» , فقال: أخذتها فقالت لا أعود فأرسلتها , فقال: «إنها عائدة» , فأخذتها مرتين أو ثلاثاً كل ذلك (تقول) (¬3): لا أعود , وَيجيء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فيقول: «ما فعل أسيرك» , فيقول (¬4): أخذتها فقالت لا أعود , فيقول: «إنها عائدة» , فأخذتها فقالت: أرسلني وأعلّمك شيئاً تقوله ولا يقربُك شيء آية الكرسي , فأتى النّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فأخبره فقال: «صَدَقَتْ وهي كذوب» (¬5) , وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: ¬
وكلني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحفظ زكاة رمضان فذكر نحوه (¬1)؛ وعن أبي الأسود الدّؤليّ قال: قلت لمعاذ بن جبل - رضي الله عنه - أخبرني عن قصّة الشيطان , قال: جعلني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على تمر الصّدقة , فكنت أدخل الغرفة فأجد في التمر نقصاً فذكرته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «إن الشيطان يأخذه» , قال: ودخلت الغرفة وأسْفَقْتُ الباب عليّ فجاء سوادٌ (¬2) عظيم , فغشي البابَ ثم دخل من شَقّ الباب ثم تحول في صورة فيل , وجعل يأكل , فشددتُ ثوبي على وسطي , فأخذته فالتفَّت [ق 43/و] يداي على وسطه قال: قلت: ياعدوّ الله ما أدخلك بيتي تأكل التمر؟ , قال: أنا شيخ كبير فقير ذو عيال وقد كانت لنا هذه الغُرفة قبل أن بُعث صاحبك فلمّا بعث خرجنا منها ونحن من جنّ نصيبين , خَلِّ عني فإني لن أعود إليك , وجاء جبريل - عليه السلام - فأخبر النَّبي - صلى الله عليه وسلم - بخبره , فلمّا صلّى الغداة نادى مناديه أين معاذ؟ , ما فعل أسيرُك؟ فأخبرته , فقال: «أما إنه سَيعود إليك» فجئت إلى الغرفة ليلاً وأغلقت الباب , فجاء فجعل يأكل التمر فقبضت يدي عليه فقلت: يا عدوّ الله , قال: إني لن أعود إليك بعد , قال: قد قلت: إنك لا تعود , قال: فإني أخبرك بشيء إذا قلتَه لم يَدخل الشيطان البيتَ {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ... } إلى آخر السورة [البقرة: 284 - 286] (¬3)؛ وروى الدّارميّ في جامعه عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: لقي رجل (¬4) من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - رجلاً من الجنّ , فصارعَه فصرعه الإنسيّ , فقال له الإنسيّ: إنّي لأراك ضَئيلاً شَحيباً (¬5) , كأنّ ذُرَيِّعَتَيْك ذُرَيِّعَتا كلب , فكذلك أنتم معشر الجن , أم أنت من بينهم كذلك؟ , قال: لا والله إنّي منهم لضليع , ولكن عاوِدني الثانية , ¬
فإن صرعتَني علّمتك شيئاً ينفعك , [فعاوده فصرعه , قال: هات علمني] (¬1) , قال: نعم , قال: تقرأ {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ... } [البقرة: 255] , قال: نعم , (قال) (¬2): فإنك لا تَقرأوها في بيت إلا خرج منه الشيطان له خَبَجٌ كخَبَج الحمار ثم لا يدخله حتى يصبح , قال الدارمي: الضئيل: الدقيق , والشحيب: المهزول , والضّليع: الجيّد الأضلاع , والخبج: الريح يعني الضراط (¬3)؛ وأبلغ من ذلك أن عماراً - رضي الله عنه - صارع جنيّاً فصرعه عمّار (¬4) - رضي الله عنه -؛ وإن صح حديث قتال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - للجنّ في بئر ذات العلم كان غاية في هذا الموضع , وقد رواه من الحفاظ أبو الفضل ابن ناصر (¬5) شيخ ابن الجوزي ولكن ردّه غيره وقالوا (¬6) الحديث فيه موضوع فالله أعلم (¬7) , والمقاتلة إنما مع العاصي , والجنّ ¬
قد جاءوه طائعين فما [ق 43/ظ] احتاج إلى قتالهم , وذلك أبلغ ممن كان يستعصي على سليمان عليه الصلاة والسلام حتى يُصَفدهم ويستعملهم. فإن قيل: إن سليمان عليه الصلاة والسّلام سخرت له الجنّ يستعملهم في أمور الدنيا فكانوا يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات وكان يستعملهم و (¬1) يستعين بهم في أموره ويكلفهم ما أحبّ (¬2) , قلنا: نعم وذلك فضيلة عظيمة ونعمة [جسيمة] (¬3) كبيرة مما أنعم به على آل داود - عليه السلام - و (لكن) (¬4) سليمان - عليه السلام - طلب ذلك فإنه سأل ربَّه سبحانه وتعالى من المُلْك الذي لا يؤتاه غيره , فكان من مقتضى ذلك الأعمال الصّعبة التي لا يقدر عليها بنو آدم فسخّر الله تعالى له الجنّ يعملونها له , ومحمّد - صلى الله عليه وسلم - لما عُرض عليه الملك وأن تجرى له بطحاء مكة وجبالها ذهباً اختار الفقر على الملك (¬5) لما أراد الله تعالى (له) (¬6) من عظم المنزلة في الآخرة , فلم يحتج إلى عمل يُكَلف فيه الجن , وإنما كان يحتاج إلى الجهاد , وكان في أصحابه - رضي الله عنهم - كفاية , ولمّا احتاج في بعض الأوقات إلى مزيد (¬7) مساعدة في الجهاد أنزل عليه الملائكة فقاتلت معه , فكان عون محمد صلوات الله وسلامه عليه بالملائكة أعظم من عون سليمان عليه الصلاة والسلام بالجن , وقد أشرنا إلى نحو ذلك فيما تقدم , وأما أمور محمد - صلى الله عليه وسلم - الدنيويَةُ التي احتاج فيها إلى مساعد ومعاضد فإنه لما تظاهر عليه بعض أزواجه في الغيرة أنزل الله تعالى يخوفهن من التظاهر والتواطؤ عليه فيما يسوؤه فقال تعالى: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: من الآية 4] فأيّ ظهير أعظم من هذا وأيّ ناصر أقوى من هذا , ¬
فكانت الملائكة المقرّبون أنصاره - صلى الله عليه وسلم - , وأعوانه , يقاتلون بين يديه في الحروب كفاحاً , ويمنعون عنه, ويدافعون دونه , ولمّا تواعدت قريش ليأخذوه فيقتلوه , وقد دخل المسجد يصلّي , فسمعوا صوتاً ما ظنّوا [ق 44/و] أنّه بقي بتهامة جبل إلا نتق فغشي عليهم فما عقلوا حتى قضى صلاته , ثم رجع إلى أهله سالماً , ثم تواعدوا عليه مرّة أخرى , فنهضوا عليه فجاء الصَّفا والمروة حتى [التقت] (¬1) إحداهما (¬2) بالأخرى , فحالتا بينه وبينهم (¬3) , ولمّا حلف أبو جهل ليطأنّ عنقه إن رآه مصلّياً فلما همّ بذلك لم يفجأهم إلا وهو ينكص على عقبيه وقال: رأيت بيني وبينه خندقاً من نار وأهوالاً وأجنحة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لو دنا منّي لاختطفته الملائكة عضواً عضواً وقد تقدم ذلك. فإن قيل: إن سليمان عليه الصلاة والسّلام كان عنده من عُلماء الكتاب مَن أتى بعرش بلقيس (قبل أن يرتدّ إليه طرفه) (¬4) , قيل: لنبيّنا - صلى الله عليه وسلم - أعظم منه ففي حديث الإسراء أن قريشاً لمّا كذّبته في حديثه عن بيت المقدس وكان فيهم من قد رأى المسجد قالوا: هل تستطيع أن تنعت لنا المسجد؟ , قال: «نعم» , قال: «فذهبت أنعت فما زلت أنعت حتى التبس علَيّ» وكان قد جاءه ليلاً , قال: «فجيء بالمسجد وأنا أنظر إليه حتى وُضع دون دار عَقيل فَنَعَتُّ المسجدَ وأنا أنظر إليه» , فقال القوم: أما النعت فوالله لقد أصاب (¬5)؛ فهذا قد حُمل له بيت المقدس (في لحظة حتى وُضع بإزائه ينظر إليه ويخبرهم عنه , وحمل بيت المقدس) (¬6) من مكانه إلى مكّة أعظم من حمل عرش بلقيس ¬
إلى سليمان عليه الصلاة والسلام , وفي حديث الإسراء أيضاً أنهم سألوه عن أشياء منها أنهم سألوه عن عيرهم قال: «مررت بها بالتّنعيم» , قالوا: فما عِدّتها وأحمالها وهيئَتُها , قال: «كنت في شغل عن ذلك» , قال: «ثم مُثِّلَتْ له بعدّتها وأحمالها وهيئتها ومن فيها» , فقال: «نعم هيئتها كذا وكذا , وفيها فلان وفلان يقدُمها جمل أورق (¬1) عليه غرارتان محيطتان تطلع عليكم عند طلوع الشمس» فأحصَوا جميع ذلك فوجَدوه كما أخبر (¬2)؛ وحَمل البعير بأحمالها وما فيها أعظم [ق 44/ظ] من حمل عرش بلقيس , ومن ذلك أن النّجاشي لما مات ضرب جبريل - عليه السلام - الجبال بجناحه فتوطأت حتى نظر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى نعشه فصلّى عليه فيما قيل (¬3) , وأعظم من ذلك كله ما في صحيح مسلم في حديثٍ ذكره عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إنّي صُوّرت لي الجنّة والنّار , فرأيتهما دون هذا الحائط» (¬4) , (وأعظم) (¬5) من ذلك حمله على البراق إلى (فوق) (¬6) سبع سموات وإلى فوق سدرة المنتهى وخرق الحجب حتى دنا من ربّه تعالى وتقدس فكان قاب قوسين أو أدنى , فكل ذلك أعظم من حمل عرش بلقيس من مسافة من الأرض قربت (¬7) أو بعدت , ¬
وعمل الملائكة مع محمد - صلى الله عليه وسلم - مع إيمانهم بالله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - واليوم الآخر أعظم وأكمل من عمل الشياطين مع كفرهم بالله سبحانه وتعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام وتمرّدهم , وما صبروا عليه من التسخير إلا تحكم سليمان عليه الصلاة والسلام فيهم , وخوفهم من عقوبته إيّاهم , فلما مات ولم يَعلموا بموته تَمُّوا في (العمل) (¬1) كما أخبر الله تعالى عنهم , وقد كانوا يوهمون الإنسَ أنّهم يَعلمون الغيب فلبثوا معبَّدين في العمل ما شاء الله أن يلبثوا , وسليمان عليه الصلاة والسلام مَيِّتٌ مُتَوكّئ على مِنسَأتِه , فلمّا أكلتها الأرضة وقع , فعلمت الإنس أن الجن كانت كاذبة في إدعائها علم الغيب , لأنهم لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين , وسليمان - عليه السلام - ميّت في تلك المدّة , فأين تسخير هؤلاء المعاندين الكفّار المجتهدين في أذى سليمان عليه الصلاة والسلام وغيره من الإنس وانتظار غِرَّتهم كما يُذكر عن صَخرٍ المارد من الكيد والغدر لو قدر على ذلك من إسعاد الملائكة وإعانتهم ونصرهم لمحمّد - صلى الله عليه وسلم - وجنده في غير موطن كيوم بدر والأحزاب وغيرهما قال الله تعالى: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ [ق 45/و] مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ (بِهِ) (¬2) وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران: 124 - 126] , وقال (تعالى) (¬3): {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ (بِهِ قُلُوبُكُمْ) (¬4) وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 9 - 10] وقال تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى ¬
الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال: 12] وقد قال بعض الصحابة - رضي الله عنهم -: "إنّي لأتْبَعُ رجلاً من المشركين لأضرِبه إذ وقع رأسُه قبل أن يَصل إليه سيفي فعرَفتُ أنّ غيري قتله" (¬1) , ولمّا أسَر أبو اليَسَر (¬2) العبّاسَ , قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كيف أسرتَه» وكان العباس أشدّ بطشاً منه قال: لقد أعانني عليه رجل ما رأيته قبل ذلك ولا بعده , هيئته كذا وكذا , فقال (له) (¬3) رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لقد أعانك عليه ملَك كريم» (¬4). فإن قيل: إن سليمان عليه [الصلاة و] (¬5) السلام كان يفهم كلام الطّير كما قال تعالى عنه: {عُلِّمْنَا (¬6) مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} [النمل: من الآية 16] وقصّة الهدهد , ورسالته به إلى بلقيس , وكلام النملة له ونحو هذا , قلنا: لا شك في أنّ هذا فضل مبين , وشرَف متين , والفضل (بيده) (¬7) تعالى يؤتيه من يشاء وهو ذو الفضل العظيم , فقد أخبر الله تعالى أن الفضل الذي آتاه سليمانَ - عليه السلام - مبين , ¬
وأخبر أنّ ما آتى محمّد - صلى الله عليه وسلم - من الفضل كان عظيماً (كما) (¬1) قال تعالى: {وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: من الآية 113] , فكان ما أوتي سليمان عليه (الصلاة و) (¬2) السلام فضلاً مبيناً , وما أوتي محمد - صلى الله عليه وسلم - فضلاً عظيماً , والعظيم أبلغ وأكمل وأفضل من المبين , وليس منطق الطير والنملة بأعظم من منطق الذئب والغَزال والضبّ والجمل والحمار وغير ذلك , بل ومنطق الجَماد كحنِين الجِذْع وتسليم الأحجار والأشجار [ق 45/ظ] وتسبيح الحصا والطعام في يده - صلى الله عليه وسلم - وفي أيدي أصحابه كما تقدم , وتكليم (¬3) ذراع الشاة المسمومة , وفَهْمُ هذه (الأشياء) (¬4) كلامه - صلى الله عليه وسلم - وفهمه كلامها كما أخبر عن الجمل أنه قال: أنّ صاحبه يُدْئِبُهُ ويجيعه, وأن الغزالة لها أولاد صغار, كما أشرنا إليه ونبّهنا عليه على أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - قد كان يفهم كلام الطير ويعرف مراده كما في الحديث أن بعض أصحابه أخذ فِراخَ حمّرة فجاءت الحمّرة فجعلت تُرَشِش على رؤوسهم فقال - صلى الله عليه وسلم -: «مَن فجع هذه بِفراخها» ثم أمره بردّها (¬5) , فقد روي عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قال: أتَى النّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وهو بخيبر حمارٌ أسودُ فوقف بين يديه فقال: «من أنت؟ » , قال: أنا (¬6) عمرو بن فلان ,كنّا سبعةَ إخوة وكلّنا رَكِبَنَا الأنبياء وأنا أصغرهم , وكنت لك فمَلكَنَي رجل من اليهود , فكنت إذا (¬7) ذَكَركَ يعني بسوء كبَوت به فيُوجِعُني ضَرْباً , وفي رواية: فكنت أعْثُرُ (به) (¬8) عمداً (¬9) , فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «فأنتَ يَعْفور (¬10)» (¬11) , وقد كلّمته ذِراعُ ¬
الشاة المسمومة وقالت: فيَّ سَمّ فلا تأكلْني (¬1) , فكلّ هذه الأمور وما يشابهها أعجب من كلام الطير والنملة , وكان في تكليم هذه الأشياء لنبيّنا - صلى الله عليه وسلم - معجزات كالتسليم عليه بالنبوة , والشهادة له بالرسالة , والتصديق لما (¬2) جاء به , والتوسّل إليه والتشفع (¬3) به في الشدائد , بخلاف كلام الطير والنملة , فإنّ ذلك لم يكن لإظهار المعجز لسليمان عليه الصلاة والسلام , وإنما كان شيئاً علّمه إيّاه فسمع ذلك فيفهمه (¬4) كما يسمع من يعرف لسان الفارسي فارسيّاً يتكلم أو يُكلّمه فيفهم ما يقول , فهي فضيلة واحدة: وهي فهم كلامِ ذلك المتكلم , وفهم محمّد - صلى الله عليه وسلم - لتلك الأشياء كان فيه هذه الفضيلة وفيه معجزة تخبر برسالته وأمور أخرى كما تقدّم , وإنما كان تبليغ الهدهد رسالةَ سليمان عليه الصلاة والسلام إعانة له على تبليغها , وقد كان يمكنه إرسالها مع غير الهدهد مما سخّر الله تعالى له [ق 46/و] من الريح والجنّ وغير ذلك , ومُبلّغوا رَسائل محمّد - صلى الله عليه وسلم - كانوا أصحابَه الذين يتكلّمون بما لا يمكن غيرهم من التبليغ ما يمكنهم كما هو معروف في سيرته , وأما النملة فإنما كان كلامُها لمصلحتها ومصلحة النمل , لا لمصلحة سليمان عليه الصلاة والسلام ولا إظهاراً لمعجزته , بل خوفاً من أن يحطمها سليمانُ وجنوده وهم لا يشعرون , ففهّم الله تعالى سليمان عليه الصلاة والسلام كلامَها , وهو فضيلة جليلة لكن فضيلة محمّد - صلى الله عليه وسلم - أعظمُ لما قدّمناه , وأبلغ من ذلك أن الحجر والشجر الجمادَين يكلّمان أمّةَ محمّد - صلى الله عليه وسلم - , وذلك ما روي في الصحاح وغيرها عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لاتقوم السّاعة حتى يُقاتل المسلمون اليهودَ , فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهوديّ من وراء الحجر والشّجر , فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم يا عبدالله هذا يهوديّ خلفي فتعال فاقتله , إلا (¬5) الغرقد فإنّه من شجر اليهود» (¬6). ¬
(فصل) فأما ما أوتي يعقوب - عليه السلام -
(فصل) (¬1) فأمّا ما أوتي يعقوب - عليه السلام - فلا شكّ في فضله , ولا مرية (¬2) في نبْله , فهو أحدُ الكرماء الذين شهد نبيّنا - صلى الله عليه وسلم - لهم بالكرم (¬3) , فإنّه الكريم ابن الكريم (ابن الكريم) (¬4) , وله القدم الصدق , والعقب المبارك عليه , فمن نسله الأسباط (¬5) , ومن ذريّته الهُداة , ومنهم مريم بنت عمران سيّدة نساء العالمين , وجعل فيهم الحُكم والنبوّة والكتاب؛ قلنا: نعم , وهو حقيق بذلك وبما هو أكبر منه , ولكن لنبينا - صلى الله عليه وسلم - أعظم نصيباً , وأرفع ذكْراً في العالمين , وأجلّ خطراً في الأولين والآخِرين , فإنه أفضل الخلق كما بينّا من شأنه , وقرّرنا من برهانه , ومن ذرّيته ابنتهُ فاطمة عليها السلام سيّدة نساء المسلمين الذين هم خير أمّة أخرجت للناس , والحسنُ والحسين اللذان هما سيّدا شباب (¬6) أهل الجنة وهم أغصان شجرته وثمرة جُرثومته (¬7) , والمهديّ الذي يكون في آخر الزمان يملأ الأرض عدلاً كما مُلئت جوراً من أهل بيته وعترته , فأما الأصل فإنّ [ق 46/ظ] محمّداً - صلى الله عليه وسلم - من ولد إسماعيل بن إبراهيم , ويعقوب بن إسحاق بن إبراهيم , ولا شكّ في فضل إسماعيل على إسحاق عليهما الصلاة والسلام (¬8) , ولا يضرّ محمّداً - صلى الله عليه وسلم - ما بينه وبين ¬
إسماعيل من بعد الآباء وكثرتهم وكفر من كان كافراً (¬1) , كما لايضرّ إبراهيم عليه الصلاة والسلام كفر أبيه ولا كفر من كان كافراً فيما بينه وبين نوح عليه الصلاة والسلام , على أن الفضل بالآباء والأبناء ليس بالخطب الجليل , مع أنّ لنبيّنا محمّد - صلى الله عليه وسلم - فيه من الفضل ماجاء في الحديث عنه - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال: «إنّ الله تعالى قسم الخلق قسمين فجعلني في خيرهم قسماً ثم جعل القسم أثلاثاً فجعلني في خيرهم» وقد تقدم الحديث في أول الكتاب , وعنه أيضاً - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في حديث آخر: «إنّ الله اختار بني آدم , واختار من بني آدم العرب , واختار من العرب مضر , واختار من مضر قريشاً , واختار من قريش بني هاشم , واختارني من بني هاشم فأنا خير من خيار ... » (¬2) الحديث. فأما تفضيل يعقوب عليه الصلاة والسلام لكون الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من أولاده كثير , فنبيّنا محمد - صلى الله عليه وسلم - على ماهو عليه من الفضيلة التي استقرّت قواعدها , وعلت أركانها , كان خاتم النبيين لانبيّ بعده , وكانت رسالته إلى جميع الخلق , ودعوته قائمة إلى يوم القيامة , فلم تحتج الأمّة بعده إلى نبيّ , فكتابه محفوظ بحفْظ الله تعالى , ودينه ظاهر بتأييد الله تعالى , ودعوته قائمة إلى يوم القيامة , وسلطانه حاكم إلى يوم الطّامّة , وقد قال بعض أصحابه: لو كان بعده نبيّ لعاش ابنه إبراهيم (¬3) , وقال: «لو كان بعدي نبيّ لكان عمر بن الخطاب» (¬4) , فنبوّته - صلى الله عليه وسلم - قائمة إلى يوم القيامة لم تنسخ , ¬
بل يعمل بها العباد إلى يوم الأشهاد , فالحاصل من هذا أن كل فضيلة في نبي من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين من وجه من الوجوه فقد جعل الله تعالى لمحمّد - صلى الله عليه وسلم - من جنسها ماهو أفضل منها , وأكثر , وأكبر , وسواء كانت في [ق 47/و] النفس , أو في الأصل , أو (في) (¬1) النسل , أو في المعجزة , أو في الكتاب , أو في الأمّة , أو في غير ذلك من الأمور التي تتفاضل فيها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام , وتتباين بها درجاتهم وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. فإن قيل: إن يعقوب عليه الصلاة والسلام فقد ولدَه يوسف عليه الصلاة والسلام وكان يحبّه حُبّاً شديداً فقال: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف: 18 - 83] , ولا يخفى ما للصابرين عند الله من المنزلة , قيل: إن يعقوب عليه الصلاة والسلام كان له أحد عشر ولداً ذُكْراناً غير يوسف - عليه السلام - , أكبرَ سنّاً منه , نَصْبَ عينه , يروحون ويَغدُون عليه , وبكى على يوسف حتّى عنّفه أولاده فقالوا له: {تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ} [يوسف: من الآية 85] , فقال: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [يوسف: من الآية 86] يعني: أنه حيّ وأن الله تعالى جامع به الشّمل , ولكن بكائي شوقاً إليه وحُزناً عليه؛ وأمّا محمد - صلى الله عليه وسلم - فلم يكن له حيّ غير ولد واحدٍ ذكرٍ وهو إبراهيم , فمات فصبر عليه , ولم يظهر منه جزع , وإنما كان بكاؤه عليه ساعةَ الموت رحمةً فجمع (- صلى الله عليه وسلم - بين حالتين هما من أشرف الأحوال الصّبر والرحمة , صبر بلا قسوة , ورحمة) (¬2) بلا جزع , هذا وكان واحدَه , وقرّة عينه , لم يكن له ولد ذكر غيره , فصبر على فراقه الذي لا طمع في رجوعه , ويعقوب عليه الصلاة والسلام كان له أحد عشر ابناً غيره نصب عينه , وكان ¬
(فصل) وأما يوسف الصديق الكريم - صلى الله عليه وسلم -
يرجو لقاء المفقود (¬1) , وقال: {يَاأَسَفَا عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف: من الآية 84] , ومحمد صبر واحتسب ولم يتأسّف بل قال: «تدمع العين ويحزن القلب ولانقول إلا ما يُرضي ربّنا» (¬2). (فصل) (¬3) وأمّا يوسف الصّدّيق الكريم - صلى الله عليه وسلم - الموصوف بالحسن والجمال , والعلم والعقل والأفضال , الذي قصّته في القرآن أحسن القصص , وسيرته أجمل السّير , المبتلى بأنواع من البلاء , وصبر فيها أحسن الصبر , وآل به صبره فيها إلى أحسن ما آل صبر على ما كان من إخوته في حقه فآل أمرهم إلى أن سجدوا [ق 47/ظ] له وقالوا: {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} [يوسف: من الآية 91] , وابتُلي بكيد النّساء فآل أمره بعد سجنه سبع سنين إلى أن قالت غريمته: {(الْآنَ) (¬4) حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف: من الآية 51] , وابتُلي بالسجن عند صاحب مصر فآل أمره إلى أن صار تدبير مُلْكه إليه؛ كتب بعضهم إلى صديق له وهو في شدّة: وراء مضيق الخوف متّسَع الأمن ... وأوّل مفرُوح به آخر الحزن فلا تَيْأسنْ فالله مَلّكَ يوسفاً ... خزائنَهُ بعد الخلاص من السجن (¬5) وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لو لبثتُ في السجن ما لبث يوسف ثم دُعِيتُ لأجَبْتُ الدّاعي ولأسرعت» (¬6) وذلك أنّ الملِك لما قال: {ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} [يوسف: من الآية ¬
54] , فجاءه الرسول بذلك فقال (له) (¬1): {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} [يوسف: من الآية 50] , وأراد بذلك أن يتحقق الملك حقيقةَ الحال , وبراءة ساحته , لئلا يكون بين يديه فيَذكر (¬2) من شأنه ماوقر في صدره من شيء الحقُّ خلافه , فيشوش قلبَه , فأراد أن يكون بين يديه على أحسن الأحوال وهذه حال حسنة جميلة , ومرتبة جليلة نبيلة , وقول نبينا - صلى الله عليه وسلم -: «لأسرَعت إلى الداعي» أيضاً من أحسن الأحوال , وأكمل الخلال , ولنبينا - صلى الله عليه وسلم - في هذه الأمور النصيب الأوفى , والكأس الأروى , فأمّا الكرم المذكور ليوسف عليه الصلاة والسلام , فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - سُئل من أكرم الناس فقال: «الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ... » (¬3) الحديثَ , وقد ثبت أن نبيّنا محمداً - صلى الله عليه وسلم - كان أكرم خلق الله على الله , فقد روى التّرمذي من حديث أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أنا أوّل الناس خروجاً إذا بعثوا وأنا خطيبهم إذا وفدوا وأنا مبشّرهم إذا يئسوا وأنا أكرم ولد آدم على ربّي ولا فخر» (¬4) , وفي رواية: «أنا أكرم الأوّلين والآخرين على الله عزّ وجل ولا فخر» (¬5) وسنذكر (من ذلك) (¬6) فيما بعد طرفاً صالحاً بعون الله , ومن كرامته عليه قرن اسمه مع اسمه فلا يُذكر إلا ذُكر معه [ق 48/و] , وجعل طاعته مقرونة بطاعته ¬
فقال تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} [آل عمران: من الآية 32] وقال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]. فأمّا الجمال والحسن فلمحمد - صلى الله عليه وسلم - فيه أمْرٌ قد علا , ومَورِدٌ قد عَذُبَ وحَلا (¬1) , ولا يخفى ابنُ جَلا (¬2) , ففي حديث هند بن أبي هالة (¬3) المشهور المعروف الطويلِ في صفته - صلى الله عليه وسلم - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخماً مفخماً , يتلألَأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر , أطول من المربوع , وأقصر من المشذب (¬4) , عظيم الهامة , رَجِل الشعر , إن (¬5) انفرقت عَقِيقَتُه (¬6) فرَق وإلا فلا , يُجاوز شعره شحمةَ أذنيه إذا هو وَفّره , أزهر اللون (¬7) , واسع الجبين , أزجّ الحواجب سوابغ في غير قرن , بينهما عِرقٌ يُدِرُّه الغضب , أقنى العِرنين (¬8) له نور يعلوه , يحسبه من لم يتأمّله أشمّ (¬9) , كثّ اللحية , سهل الخدّين , ضليع الفم , أشنب (¬10) (¬11) , مفلج الأسنان -أي: مفرق الأسنان- , دقيق المَسْرُبَة (¬12) ,كأن عنقه جيدُ ¬
دُمية في صفاء الفضّة , معتدل الخلق , بادن متماسك , سواء البطن والصدر , عريض الصدر , بعيد ما بين المنكبين , ضخم الكرادِيس (¬1) , أنورَ المتجرَّدِ (¬2) , موصول ما بين السُّرّة واللَّبَّةِ (¬3) بشعرٍ يَجْري كالخطّ , عارِي الثَّدْيَيْن والبَطْنِ مما سوى ذلك , أشعر (¬4) الذراعين والمنكبين وأعالي الصدر , طويل الزَنْدين , رحب الراحة , شثنَ الكفين والقدمين (¬5) , سائل الأطراف (¬6) , خمصان الأخمصين (¬7) , مسيح القدمين (¬8) يَنبُو عنهما الماء , إذا زال زال تقلعاً (¬9) , يَخْطُو تَكَفِئاً , ويَمشي هَوْناً , ذريع المشية إذا مشى كأنّما ينحط من صبَب , وإذا التفت التفت جميعاً , خافض الطرف , نظرُه إلى الأرض أطول من نظره إلى السّماء , جلّ (¬10) نظره الملاحظة , يسوق أصحابَهُ , يَبْدُرُ من لقي بالسّلام" (¬11)؛ وفي حديث عائشة رضي الله عنها الطويل في صفته - صلى الله عليه وسلم -: وكأنّ عَرَقه في ¬
وجهه مثل اللّؤلؤ أطيب من المسك الأذفر - وفيه - وكان إذا امتشط بالمُشْط كأنّه حُبُكُ الرمال وكأنّه المتون (¬1) التي في الغُدُر إذا سَفَقَتْها الرياح , وكان ربما جعله (¬2) غدَائر , يُخرِج الأذن اليمنى [ق 48/ظ] من بين غديرتين يتكنّفانها , ويُخرج الأذنَ اليسرى من بين غديرتين يتكنفانها , ينظر من يتأمّلها من بين تلك الغدائر كأنّهما (¬3) تَوَقُّدُ الكواكب الدُريّة بين سواد شعره , وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسنَ الناس وجهاً , وأنورَهم لوناً ,لم يصفه واصف قط إلا شبَّه وجهه بالقمر ليلة البدر ويقول: هو أحسن في أعيننا من القمر , أزهر يتلألأ وجهُه تلألؤ القمر كما وصفه صاحبه وصدّيقه وخليفته أبو بكر - رضي الله عنه -: أمينٌ مصطفى للخير يَدْعُو ... كضوء البدر زايَلَهُ الظَّلامُ وكما كان عمر - رضي الله عنه - يُنشد قول زهير بن أبي سُلْمى: لو كنتَ من شيء سوى بشر ... كنتَ المُنوَّرَ ليلةَ القدر" (¬4) وكان (كل) (¬5) من سُئل عنه - صلى الله عليه وسلم - ممن رآه فإمّا يشبّهه بالشمس أو بالقمر وأحسن من ذلك , ومنهم من يقول (¬6) ناعِتُه: لم أر قبله ولا بعده مثله؛ وقد روي عن [جابر بن سمرة - رضي الله عنه -] (¬7) قال: نظرت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليه حُلّة حمراء ونظرت إلى القمر ليلة ¬
البدر فلَهُوَ (¬1) أحسن في عيني من القمر (¬2)؛ وسُئلَتِ الرُّبَيّع بنت مُعوذ من صفته - صلى الله عليه وسلم - فقالت: لو رأيته رأيتَ الشمس طالعةً (¬3)؛ وقيل لجابر بن سمرة - رضي الله عنه - أكان وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل السيف قال: لا بل مثل الشمس والقمر (¬4) , فإن قيل: إن يوسف عليه الصلاة والسّلام كان إذا مرّ بأزِقَّةِ مصرَ يتلألأ نوره على الجدران تلألؤ الشمس والماء على الجُدران , قيل: محمّد - صلى الله عليه وسلم - كان إذا مشى في الشمس لا يوجَد له ظلّ من شدّة نوره على نور الشمس (¬5) , وهذا أعظم من تلألؤ نور يوسف - عليه السلام - على الجدران في الأزِقَة؛ وقد روى هاشم بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - (عندي) (¬6) جالساً وأنا [ق 49/و] أغزل فَبُهِتُّ انظر إليه وقد عَرِق صُدْغُه وقَذالُه , وجعلت لا أنظر إلى شيء منه إلا حُوّل في عيني منه نوراً , فسَكن مغزلي , فلمّا رآني قد سكن مغزلي ¬
نظر إليّ وقال: «مالكِ يا عائشة؟ » فقلت: واللهِ يا رسولَ اللهِ إنّكَ لأنتَ أحقُّ بقول أبي كبير , قال: «وما قال أبو كبير» قلت: قال أبو كبير (¬1): ومُبرّإٍ من كل غُبَّرِ (¬2) حيضةٍ ... وفسَاد مُرضعةٍ (¬3) وداءٍ مُغيل فإذا نظرتَ إلى أسِرَّة وجهِه ... بَرَقَتْ كَبَرْقِ العارض المتهلّل" (¬4). وفي الجملة فيوسف - عليه السلام - كان من أحسن الناس , فأما محمد - صلى الله عليه وسلم - فإنّه كان أحسنَ الناس وقد روي عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «هبط عليّ جبريل فقال يا محمّد إن الله عز وجل يقول: كسوت حسن يوسف من نور الكرسي , وكسوت نور وجهك من نور عرشي» (¬5)؛ ولاشك أن العرش أعظم من الكرسي ونوره أعظم من نوره , وفي حديث الإسراء من رواية مسلم في صحيحه: «فإذا يوسف وإذا هو قد أُعطي شطر الحسن» (¬6) فمحمّد - صلى الله عليه وسلم - قد أُعطي الحسن كلّه. ¬
فأما علم يوسف عليه الصلاة والسلام بالتعبير للرؤيا , فإنّ نبيّنا - صلى الله عليه وسلم - كان أعلم خلق الله بها وكان من شأنه أنه إذا صلى الصبح واستقبل الناس قال: «هل رأى أحد منكم رؤيا» فيقصّها ويخبره بالجواب (¬1) , وكان أوّل ما بدئ به من الوحي الرؤيا الصالحة فكان لايرى (¬2) رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصّبح (¬3) , ورأى منامات كثيرةً فعبّرها فوقعت كما عبّرها , كما عبَر في رؤياه السوارين من الذهب بكذّابين يخرجان بعدَه فكان كذلك خرج الأسوَدُ (¬4) العنسي ومسيلمة الكذّاب (¬5) , وكذلك رُؤياه البقر التي رآها تُنحَرُ فكان ما عَبره بأن نفراً من أصحابه يُقتلون فكان كذلك (¬6) , وهكذا رؤياه في السيف الذي هزّه في ¬
المنام فاندقّ صدره ثم هزّه فعاد كما كان عبره بهزيمة أصحابه ثم يُنصرون بعد ذلك فكان كذلك (¬1) , ومن الشواهد على علمه بالتعبير العلم التامّ الكامل [ق 49/ظ] ما قصّه عبدالله بن سلام - رضي الله عنه - (عليه) (¬2) , فقال له أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - بأبي أنت دعني فأعبُرَها , فقال: «اعبُرْها» فتكلم عليها أبو بكر - رضي الله عنه - ثم قال: والله لتُخبرنّي يا رسولَ الله أصبتُ أم أخطأتُ , فقال: «أصبتَ بعضاً وأخطأتَ بعضاً» , فقال: والله لتخبرنّي ما الذي أصبتُ وما الذي أخطأتُ , فقال: «لاتقسم» (¬3)؛ ولولا وفور علمه لما انتقَد على أبي بكر هذا الانتقاد , وقد كان في أمّة محمّد - صلى الله عليه وسلم - مَن يَعْبُرُ الرؤيا من السلف والخلف أمور عجيبة وأحوال غريبة ليس هذا مكان شرحها لكثرتها. فأما قوله لصاحبي (¬4) السجن: {لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا (¬5) ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} [يوسف: من الآية 37] , فهذا لمحمّد - صلى الله عليه وسلم - وأمثالُه بل لغيره من الأنبياء صلى الله عليه وعليهم وسلم , على أن محمّداً - صلى الله عليه وسلم - قد أُعطي من هذا الباب النّصيب الأوفى , فإنّه - صلى الله عليه وسلم - أخبر قريشاً بما فعلت الأرضة بكتابهم الذي كتبوا بينه وبينهم وأنّها قد لَحِسَتْ ما فيه من الجور وأبقت ما فيه من العدل والصلاح (¬6) , وأخبر عمَّه العبّاسَ - رضي الله عنه - بما كان دَفع إلى زوجته حين خرج من مكّة ولم يعلم به أحد إلا الله (¬7) , ¬
وأخبر ممّا (¬1) سيكون قبل كونه بأمور عظيمة منها: إخبارُه بغلب الروم وأنهم سيغلبون في بضع سنين , ومنها ظهور كذّاب ومبير (¬2) , وأمور يطول ذكرها وقع بعضها والباقي سيقع لا محالة , (كالدّجال) (¬3) , ويأجوج ومأجوج , ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام , وطلوع الشمس من مغربها وغير ذلك , وقد تقدّم من ذلك جملة , وسيأتي فيما بعد إن شاء الله تعالى أشياء أخر في أماكنها. وأمّا عقل يوسف عليه الصلاة والسلام , وحلْمه , وصبره على الأذى , وما لقي أوّلاً من إخوتِه , ثم آخراً لمّا وُجد الصّاع في رحل (¬4) أخيه قالوا: {إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ} [يوسف: من الآية 77] , ولمّا قدموا المرّة الأولى فعرفهم وهم له منكرون , وهو حينئذ على خزائن الملْك , فلم [ق 50/و] يَهِجْهُ ما فعلوا به , ولم تحرّكه القدرة عليهم على الانتقام منهم , بل قال: {ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} [يوسف: من الآية 59] , ثم لمّا عَرفوه حين قال: {أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} [يوسف: من الآية 90] , قالوا له: {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} [يوسف: 91] , فقال هو: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: من الآية 92]؛ وهذا غاية في الحِلْم , فإنه عفا عنهم من قبل أن يَسألوه العفو , وأبوهم يعقوب عليه الصلاة والسَّلامُ لمّا قالوا له: {اسْتَغْفِرْ لَنَا [ذُنُوبَنَا] (¬5)} [يوسف: من الآية 97] , قال: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} [يوسف: من الآية 98] , قلنا هذه صفات حسنة , وأخلاق جميلة , وطباع كريمة , ولمحمّد - صلى الله عليه وسلم - في ذلك عجائب لا يدرك مداها , ولا يبلغ منتهاها , من ذلك: أن اليهود ¬
سحروه وأخبره جبريل - عليه السلام - بالسّحر وبمن سحرَه ولم يعاقبه (¬1) مع ما كان مستحقّاً للعقوبة مع مخالفته لدينه وغدره وخيانته لله سبحانه وتعالى ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - , وكذلك اليهوديّة التي جعلت السُمّ في طعامه فإنه عفا عنهما ولم يعاقبهما (¬2) , وهذا أعظم من عفو يوسف عليه الصلاة والسلام (عن إخوته) (¬3) , فإنّ القرابة والرّحم قلّ أن تسمح النّفس بالعقوبة لهم , ولا سيما مع طول المُدَد وتقادُم العهد , فإن جمرة الغضب إذا طال الزمان تَطفئ , وبَوادرَ الانتقام تسكن حينئذ وتخفى، وأمّا حلم (¬4) محمد - صلى الله عليه وسلم - عن قومه وما بالغوا معه في الأذى قولاً وفعلاً ولمّا مكّنه (¬5) الله تعالى منهم يوم الفتح قال: «من دخل بيته فهو آمن ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن» ونحو ذلك (¬6) , مع شدّة ما أسلفوه من العداوة , ¬
وما أبدوه في حقّه من الأذى , قابلهم بهذا الحلم (¬1) الوافر , والإحسان العظيم , على تقارب العهد , والجرح طري ولم يندمل , حتى قالت الأنصار - رضي الله عنهم -: أما الرجل فأدركته الرأفَة بقومه والرغبة في قريته (¬2) , على أن له من العقل والحلم والأفضال مما أشرنا إليه , وما سنذكر منه ما (¬3) ييسّر اللهُ تعالى بعونه ومشيئته على من آذاه , وسبَّه , وقصد مضرّتَه , بل وقتله من الكفار والمنافقين واليهود وغيرهم فضلاً عن الذين آذوه من قومه وأهله وبني عمّه ما تضيق عن حصره مجلّدات (¬4) كثيرة , فعفوه عن الأجانب من المشركين واليهود وغيرهم [ق 50/ظ] أعظم من عفوه عن أهله , وإن كان أذاهم مُمِضّاً مُرْمِضاً كما قال طَرفَة (¬5): وظلم ذوي القربى أشدّ مضاضةً (¬6) ... على المرء من وقع الحسام المهنَّد وكما جرى في قصّة غَوْرَث (¬7) الذي جاء والنبي - صلى الله عليه وسلم - نائم فاخترَط سيفه فانتبَه النبي - صلى الله عليه وسلم - وغَورَث قائم على رأسه بالسيف صلتاً فقال له: مَن يمنعك منّي؟ , فقال: «الله» , فألقى السيف من يده فلم يؤاخذه ولم يعاقبه (¬8) , وكما ذكرنا من قصّة الساحر لبيد بن الأعصم اليهودي , واليهوديّة التي جعلت السمّ في طعامه ليأكله فيموت (¬9) , وكالأعرابي الذي جاءه من خلْفه فجبذه بردائه حتّى أثّرت حاشية الرّداء في عنقه وقال أعطني من ¬
مال الله الذي عندك , فالتفت إليه فضحك وأمر له بعطاء (¬1) , وأشباه هذا مما يطول عَدُّهُ وقد قدمنا قصّته (¬2) مع أبي جهل حين أراد كيده والذي وضع الفرث والسّلا على ظهره وهو ساجد وغير ذلك. وأما عصمة الله تعالى وتقدّس ليوسف عليه الصلاة والسلام من امرأة العزيز , فإن الله تعالى رزق محمّدًا - صلى الله عليه وسلم - العصمة الكاملة , والنعمة الشاملة , ولم يبتله بما ابتلى به يوسف عليه الصلاة والسلام حتى ضجّ إلى الله تعالى فقال: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف: من الآية 33] , {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [يوسف: 34] , فأما محمد - صلى الله عليه وسلم - فإن الله تعالى (مع) (¬3) ما أعطاه من القوّة على الجماع حتى إنه كان يدور على نسائه رضي الله عنهن في الساعة من الليل والنهار وهن إحدى عشرة , قيل لأنس: وهل كان يطيق ذلك , قال: كنا نتحدّث أنه أعطي قوة ثلاثين يعني ثلاثين امرأة , ويروي أنه تسّع لتسع نسوة (¬4) , وقد كان يقبّل النساء وهو صائم فقيل له في ذلك , فقال: «أنا أملككم لإرْبه (¬5)» (¬6) والمراد بالإرب العضو , ويروى لأرَبه والمعنى لحاجته إلى النكاح (¬7) , ومِلكُ الإرب والأربة التي ¬
[ق 51/و] أعطيها محمّد - صلى الله عليه وسلم - أعظم من (ملك) (¬1) حالة يوسف عليه الصلاة والسلام (لهما) (¬2) وأكمل , وأبلغ من ذلك أن الله تعالى عَصَم آباءَهُ من لدن عبدالله بن (عبد) (¬3) المطّلب إلى آدم عليه الصلاة والسلام مِن السّفاح , فما التقى لمحمد - صلى الله عليه وسلم - أبوان على سِفاح من سفاح الجاهلية (¬4) ولا عَهْرٍ من عَهْرها حتى ولد طيباً طاهراً منزّهاً من كل عيبٍ وريب فقد عصمه الله تعالى وهو في ظهر أبيه أن يشتمل عليه فرجان من حرام كما في حديث الخثعميّة والمُرِيَّة لمّا مرّ أبوه عليهما ونور النبوّة بين عينيه فكل منهما قد دَعته إلى نفسها وبذلت له مائة من الإبل على أن يقع عليها فصانه الله تعالى وحفظه من أن يُلم أبوه بحرام إكراماً له - صلى الله عليه وسلم - (¬5) , مع أنّ في أمّته من رُزق من الكرامة ماهي شبيهة بهذه ¬
وقد روي عن أبي بكر الزقاق (¬1) أنه قال: جاورت بمكة عشر سنين فكنت أشتهي اللبن , فغلبتني نفسي يوماً فخرجت إلى عُسْفان (¬2) , واستضفت حيّاً من أحياء العرب فنظرت بعيني اليمنى إلى جارية حسناء لم أر أحسن منها فأخذت بقلبي فقلت: يا جارية قد أخذ كلّك بكلي فما فيّ لغيرك مطمع , فقالت: تقبَح بك الدعاوى العالية وأنت في أسر شهوة لو كنت صادقاً قد ذهبت عنك شهوة اللبن , قال: فقلعت عيني اليمنى التي نظرت (بها) (¬3) إليها , فقالت لي مِثلُكَ من نظر لله , فرَجعت إلى مكّة فطفت أسبوعاً ثم نمت فرأيت في منامي يوسفَ الصّدّيق - عليه السلام - فقلت: يا نبي الله أقرّ الله عينك بسلامتك مِنْ إزليخا (¬4) فقال لي: يا مبارك وأنت أقرّ الله (عينك) (¬5) بسلامتك من العسفانيّة ثم تلى ¬
- عليه السلام -: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] فَصِحتُ من طيب تلاوته , ورخامة صوته , فانتبهت وإذا عيني المقلوعة صحيحة كما كانت (¬1)؛ على أنّ في بني إسرائيل من جرى له قريباً من هذا وليس هذا من خصائص يوسف - عليه السلام - وذلك ما ذكره ابن الجوزي في عيون حكاياته قال أخبرنا محمد بن أبي منصور قال أخبرنا المبارك بن عبدالجبار قال أخبرنا إبراهيم بن عمر البرمكي قال أخبرنا أبو الحسن عبدالله بن إبراهيم الزينبي قال حدثنا محمد بن خلف بن المرزبان قال أخبرني أحمد بن حرب قال حدثني عبدالله بن محمد قال حدثني أبو عبدالله البلخي: أن شابّاً كان [ق 51/ظ] في بني إسرائيل لم يُرَ شابّ قطّ أحسن منه , وكان يبيع القِفَافَ (¬2) , وبينا هو ذات يوم يطوف بقفافه خرجت امرأة من دار ملك من ملوك (¬3) بني إسرائيل فلمّا رأته رجعت مبادرة , فقالت لابنة الملك: يا فلانة , إني رأيت بالباب شاباً يبيع القفاف لم أر شاباً قطّ أحسن منه , فقالت: أدخليه فخرجت إليه , فقالت: يا فتى أدخل نشتري منك , فدخل , فأغلقت الباب دونه , ثم قامت فاستقبلته بنت الملك كاشفة عن وجهها ونحرها , فقال لها: استتري عافاك الله , فقالت: إنّا لم ندعك لهذا إنما دعوناك لكذا -تعني: المراودة عن نفسه- , فقال لها: اتّق الله , قالت: إنّك إن لم تطاوعني على ما أريد أخبرت الملك أنك إنما دخلت عليّ تكابِرني عن نفسي , فأبى , ووعظها , فأبت , فقال: ضعوا لي وَضوءاً , فقالت: أعليّ , تعال يا جارية ضعي له وَضوءاً فوق الجوسق (¬4) وهو مكان لا يستطيع أن يفرّ , ومن الجوسق إلى الأرض أربعون ذراعاً , فلمّا صار في أعلى الجوسق قال: اللهمّ ¬
إني دُعيتُ إلى معصيتك [وإني] (¬1) أختار أن أصبِر نفسي فألقِيها في هذا الجوسق ولا أركب المعصية ثم قال: بسم الله وألقى نفسه من (¬2) أعلى الجوسق , -قال: - فأهبط الله تعالى إليه ملكاً , فأخذ بضَبْعَيْه فوقع قائماً على رجليه فلمّا صار في الأرض قال: اللهم إن شئت رزقتني رزقاً تغنيني عن بيع هذه القفاف , فأرسل الله إليه جراداً من ذهبٍ فأخذ منه حتّى ملأ ثوبه ثم قال: (اللهم) (¬3) إن كان هذا رزقاً رزقتنيه في الدنيا فبارك لي فيه , وإن كان ينقصني مما لي عندك في الآخرة فلا حاجة لي به , قال: فنودي أن هذا الذي أعطيناك جزء من خمسة وعشرين جزءاً لِصبرك على إلقائك نفسك من هذا الجوسق , فقال: اللهم لا حاجة لي فيما ينقصني مما لي عندك في الآخرة , قال: فرفع (¬4)؛ وعفّة محمد - صلى الله عليه وسلم - أعظم من عفة يوسف عليه الصلاة والسلام , ومحمد - صلى الله عليه وسلم - أملك لأربه وإربه عن جميع الخلائق. وأما قول يوسف عليه الصلاة والسلام للملك: {اجْعَلْنِي (¬5) عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: من الآية 55] , وولاية الملك له ذلك , وحسن تصرفه في سني الجدب , وما أعده لها في سني الخِصب؛ قلنا: هذا ما لا ريب فيه ولا شك يعتريه وحال محمد - صلى الله عليه وسلم - في مثل ذلك أجمل , وفضله أكمل [ق 52/و] , فإن يوسف عليه الصلاة والسلام قال للمَلِك: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ} [يوسف: من الآية 55] يعني: أرض مصر , فإن ذلك المَلك لم يكن يملك غيرها , وإن كانت حالة يوسف - عليه السلام - من النبوّة وتبليغ الرسالة وإظهار الشريعة أكبر من تدبير مملكة مصر والتصرف في خزائنها , فإن محمداً - صلى الله عليه وسلم - عرضت عليه مفاتيح كنوز الأرض وأن تجرى له بطحاء مكة ذهباً فأباها ¬
وقد قدّمنا هذا المعنى؛ ثم إنّ تدبير محمد - صلى الله عليه وسلم - في الجدب كان أصلح وأنفع للخلق (¬1) , ومحمّد - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أجدب قومُه دعا اللهَ (¬2) تعالى فأنزل الغيث فعمّ البلدان [وأحياها] (¬3) , وأحيا أهلها (¬4) , وتصرّفوا هم في معائشهم على مقتضى (¬5) مصالحهم واختيارهم من غير حجْرٍ , ولا تقتير , ولا تضييق , وكانوا إذا أملقوا أو قلّت الأزواد سفراً وحضراً دعا بما بقي مَعَهم منها ثم دعا فيه بالبركة ثم أمرهم فأكلوا وتزوّدوا كما ذكرنا فيما مضى , وكذلك في الماء إذا أعوزهم كما سبق ذكْره , فهذا التدبير أكمل من تدبير يوسف عليه الصلاة والسلام , وهذا التصرّف أنفع من تصرّف يوسف عليه الصلاة والسلام , وهذا النفع أعمّ من نفع تدبير (¬6) يوسف عليه الصلاة والسلام , لكن كان ليوسف عليه الصلاة والسلام في ذلك مزيّة أخرى: وهو أنّ الله تعالى جَبَره (¬7) وطيّب قلبَه بعد أن كان (في) (¬8) قيد الاسترقاق , بأن أعطاه هذا التدبير الحسن , حتى ملّكه رقاب أهل مصر بأجمعهم , فإنه لما فوّض إليه تدبير الخزائن وأمور الناس فعل ما علّمه الله تعالى من جمع الطعام في سنبله في السّبْع السّنين المُخْصِبَة , وحفظه حتى دخلت السنون المُجدِبة فنفد ما عند الناس من الحبوب وسَلِم ماعنده , فباعهم أوّل سنة بالنقود حتى لم يبق بمصر دينار ولا درهم إلا قبضه , وباعهم في السنة الثانية بالحلي والجواهر حتى لم يبق في أيدي الناس منها شيء , وباعهم في السنة الثالثة بالمواشي والدواب حتى احتوى عليها أجمع , وباعهم في السَّنة الرابعة بالعبيد والإماء حتى [ق 52/ظ] لم يبق عبْد ولا أمة في يد أحد , وباعهم في السَّنة الخامسة بالضياع والعقار والدور حتى احتوى عليها , وباعهم في السنة السادسة بأولادهم حتى استرقّهم , وباعهم في السنة السابعة برقابهم حتى لم يبق ¬
بمصر حرّ ولا حرّة إلا صار قِنّاً (¬1) له , فتعجب الناس من ذلك (¬2) , فكان ذلك جبراً لقلبه الذي انكسر حال استرقاقه , وتطييباً لنفسه حين ملّكه رقاب جميع أهل مصر , وهي عطيّة سنيّة , ومنّة من الله تعالى عظيمة , والذي أُعطي محمد - صلى الله عليه وسلم - من هذا الجنس أعظم وهو ما تمالَأ (¬3) عليه المشركون من أن لا يبايعوا بني هاشم وبني المطلب , ولا يناكحوهم , حتى يُسلّموا إليهم رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - , ففعلوا ذلك , فلمّا فعلوهُ وكتبوا الكتاب وتعاقدوا فيه على ذلك وجعلوا الكتاب في جوف الكعبة توكيداً للأمر انحاز بنو هاشم وبنو (¬4) المطلب إلى أبي طالب , فدخلوا معه في شعبِه , وخرج منهم أبو لهَب وظاهرَ المشركين فأقاموا على ذلك (ثلاث) (¬5) سنين وقطعوا الميرَة والمادّة عنهم , فكانوا لا يخرجون إلا من موسم إلى موسم حتى بلغوا الجهد , ثم إنّ الله تعالى غضب لمحمّد - صلى الله عليه وسلم - وسلّط الأرضة على صحيفتهم التي كتبوا فأكلت ما كان فيها من جور وظلم وبقي ما كان فيها من ذكر الله تعالى واطّلع نبيّه - صلى الله عليه وسلم - على ما كان من ذلك فذكرَه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمّه أبي طالب فقال أبو طالب: أحَقٌ ما تخبرني به يا ابن أخي , قال: «نعم واللهِ» فذكر ذلك أبو طالب لإخوته وقال: والله ما كذَبني قط , قالوا: فما ترى , قال: أرى أن تلبسوا أحسن ثيابكم وتخرجوا إلى قريش فتذكروا ذلك لهم مِن قبل أن يبلغهم الخبر فخرجوا حتى دخلوا المسجد فقال أبو طالب: إنا قد جئنا في أمرٍ فأجيبوا (¬6) فيه , قالوا: مرحباً بكم وأهلاً , قال: إنّ ابن أخي قد أخبرني ولم يَكْذِبْني قطُّ أنّ الله تعالى سلّط على صحيفتكم الأرضة فَلَحِسَتْ كلّ ما كان فيها من جور أو ظلم أو قطيعة رحم وبقي فيها ما ذُكِرَ بهِ الله تعالى فإن كان ابن أخي [ق 53/و] صادقاً نزعتم عن سوء رأيكم وإن كان كاذباً دفعته إليكم فقتلتموه أو استحييتموه (¬7) إن شئتم , قالوا: قد أنصفتنا (¬8) فأرسلوا إلى ¬
الصحيفة فلمّا فتحوها إذا هي كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فسُقط في أيدي القوم ثم نكسوا على رؤوسهم , فقال أبو طالب هل تبيّن لكم أنكم أولى بالظّلم والقطيعة , فلم يراجعه أحد منهم , ثم انصرفوا (¬1) , وقد كان اجتماعهم على كتابة الصحيفة وتمالؤهُم بخَيْف (¬2) بني كنانة وهو المكان المعروف بالمُحَصّب (¬3) , فلمّا أظهر الله تعالى محمداً - صلى الله عليه وسلم - على قومه ونصره عليهم , بعد أن أخرج مِن مكّة وبذلوا الأجعال والأموال لمن أتاهم به , فسلّمه الله تعالى منهم فلما كان يوم الفتح -فتح مكة- سلّطه الله تعالى عليهم , فقتل من قتل , واستبقى من استبقى , وعفا عمّن (¬4) عفا , وملّكه الله تعالى أرضهم وديارهم , وأكسبه أموالهم وأولادهم , ثمّ لمّا حجّ قال لأصحابه يوم النحر وهو بمنى: «نحن نازلون غداً بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر» يعني بذلك: المحَصَّب (¬5) , فأراه الله تعالى نفسه والخلق طوع أمره (¬6) وتحت حكمه , وأزمّة أمور العالم بيده في المكان , وكذلك لمّا منعوه في عُمرة الحديبية أن يَدخل مكة ورجع هو وأصحابه سلّطه الله تعالى عليهم يوم الفتح , ومكّنهم من رقابهم , ودخلها عليهم عنوة , وطاف حول الكعبة وجعل يشير إلى الأصنام التي حولها فتتساقط (¬7) وهو يقول: «{جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: من الآية 81] , {جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ: من الآية 49]» (¬8) , فكان ما أعطاه أعظم مما أعطى يوسف عليه ¬
الصلاة والسلام من ملك مصر , وتسلّطه على المشركين أكمل من تسلط يوسف على أهل مصر , وقد كان محمد - صلى الله عليه وسلم - تأتيه الأموال العظيمة من الفتوح فيقسمها بين الناس فما يقوم وقد بقي عنده منها شيء , ولمّا غنم أموال هوازن وسَبى ذراريهم أمَتُّوا إليه بالرضاع فيهم فقال: «ما كان لي ولبني عبدالمطلب فهو لله ولكم» , فقالت الأنصار: ما (كان) (¬1) لنا فالله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - , فردّ عليهم جميع سبيهم (¬2) , فذُكر أنّ الذي أطلقه لهم قُوّم بخمس مائة ألف ألف درهم , وكان عطاؤه - صلى الله عليه وسلم - عطاء من لا يخاف الفقر [ق 53/ظ] ولا يخشى الفاقة (¬3) , كان يَقسم فيعطي الرجل المائةَ من الإبل والمائةَ من الغنم وأعطى مرّة غنماً بين جبلين (¬4) , حتى استغنى أصحابه , وتموّلوا حتّى صاروا أغنياء , ومنهم من صار ملكاً كمعاوية , وأمراء كغيره مما هو مشهور في كتب سيرهم وأخبارهم , فكان حال الخلق في أيام محمد - صلى الله عليه وسلم - أحسن وأطيب من حال الناس في زمان يوسف عليه الصلاة والسلام , وكان عتق محمد - صلى الله عليه وسلم - لهوازن ومنّه عليهم بذلك بعد تملّكهم أعظم من تملّك يوسف عليه الصلاة والسلام أهل مصر , ولا ريب أنّ المعتق بعد التملّك أعظم درجة من المتملّك بغير عتق. فإن قيل: إن يوسف عليه الصلاة والسّلام لمّا رادوته امرأة العزيز عن نفسه وغلّقت الأبواب وقالت: هيت لك , (قال) (¬5): معاذ الله , فاستعصم - عليه السلام - عن إجابتها إلى ما أرادت فهدّدتْه بالسجن دعا ربَّه سبحانه فقال: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ¬
وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [يوسف: من الآية 33 - 34] , ولا شكّ أنه لو دعا بالسلامة من السجن أيضاً لسلّمه الله تعالى منه , ولكن كان في ضمن سجْنه (¬1) حِكَمٌ أظهرها الله سبحانه من براءة ساحته حتى أقرّت المرأة بأنها (هي التي) (¬2) راودته عن نفسه وأنه من الصادقين , وغير ذلك من الحكم التي لبسطها مكان آخر؛ قلنا: قد استجاب الله تعالى دعاء من هو دون يوسف عليه الصلاة والسلام في النبوّة , بل قد استجاب لكثير (¬3) من صالحي عباده , وما أوتِيَهُ محمّد - صلى الله عليه وسلم - من ذلك مشهور معروف من إجابة (¬4) دعائه ونجاته من كيد مَن أراده بسوء , كما دعا على الملأ من قريش الذين قتلهم الله تعالى على يديه يوم بدر (¬5) وكثير من أمثال ذلك مما يطول الكتاب جدّاً بذكره. فإن قيل: إن يوسف عليه الصلاة والسلام قاسى مرارة الفرقة وامتُحِن بالغربة عن أبيه وأهله ووطنه , قيل: الذي قاسى محمد - صلى الله عليه وسلم - من فراق بلدهِ الحرام والمشاعر العظام ووطنه ومسقط رأسه أعظم من ذلك , فقد أُلجئ إلى مفارقة حَرَم الله الآمن , فخرج متلفتاً إلى البيت وقال [ق 54/و] وهو حزين مستعبر: «والله إنّي لأعلم أنك أحبّ البقاع إلى الله ولولا أني أخرجت منكِ ما خرجت» (¬6) , ولما ورد المدينة كانت وبيئةً فوُعك أصحابُه - رضي الله عنهم - فقال: «اللهم العن فلاناً (و) (¬7) فلاناً كما أخرجونا من مكة» (¬8) , وأراهُ الله ¬
(فصل) فإن قيل: إن يحيى بن زكريا عليهما الصلاة والسلام أوتي الحكم صبيا
تعالى رؤيا أزال بها حزنه تُوازي رؤيا يوسف في التأويل , حقق الله تعالى وقوعها كما قال الله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 27] , وكان قد لقي من قومه وعشيرته أشد مما لقي يوسف - عليه السلام - من إخوته كما ذكرنا من تمالُؤ قريش عليه وعلى بني عمّه , فكانت العاقبة والعافية في ذلك كلّه لمحمّد - صلى الله عليه وسلم - , وردّ كيد الكفار في نحورهم , ونصره عليهم , وأُديل عليهم , حتى دخلوا في دينه طوعاً وكرهاً , وشفا الله تعالى صدره منهم وأظهره عليهم. فإن قيل: إن يوسف - عليه السلام - دعا ربَّه بالموت شوقاً إلى لقائه , قيل: فمحمد - صلى الله عليه وسلم - لما حضر أجله خُيّر بين الحياة والموت فاختار لقاء ربّه تعالى (و) (¬1) جعل يقول: «الرفيق الأعلى , الرفيق الأعلى» حتى قبض ومالت يَدُه - صلى الله عليه وسلم - (¬2). (فصل) (¬3) فإن قيل: إن يحيى بن زكريا عليهما الصلاة والسّلام أوتي الحكم صبيّاً , وكان يبكي من غير ذنب , ويواصل الصّوم , قيل: ما أعطي محمّد - صلى الله عليه وسلم - أفضل , فإن يحيى - عليه السلام - وُلد في حجر الصالحين والأنبياء - عليه السلام -[و] (¬4) لم يعرف غير عبادة الله تعالى وتوحيده , ومحمد - صلى الله عليه وسلم - تَربّى في مكّة بين قوم جاهليّة أصحاب أصنام وأوثان لا يعرفون (¬5) عبادة الله تعالى فأُعطي الإيمان وعُصم من عبادة الأوثان ومداخلة أهل الشرك والضلال , فلم يعكف معهم على صنم , ولا دخل بينهم على وثن , وليس عجيباً نسك من رَبِيَ في حجر النبوة وتردد بين الصالحين ونشأ بين العباد المجتهدين وقد كان أبواه بالمنزلة الرفيعة من العبادة فاعتاد من صغره على الخير كما قيل: ¬
يَنشَأ الصغير على ما كان والده (¬1) إن العروق عَليها يَنبُت الشّجر وقال محمد - صلى الله عليه وسلم -[ق 54/ظ]: «المرء على دين خليله فانظر من يخالل» (¬2) ولكن العجب من محمد - صلى الله عليه وسلم - (الذي) (¬3) نشأ بين أهل (¬4) الكفر , وتربّى بين عبدة الأوثان , ونشأ عِندَ جاهلية جهلاء , لا يرون ديناً غير عبادة الأصنام , ولا يعرفون غير ذلك , فغلبت العناية الإلهيّة والتّربية الربانيّة على تأثير الجليس السّوء في المجالس , حتى غلبت رائحة مسك الجليس الصّالح على شرر نافح كير الكفر فأطفأه , وطفا نورُ الإيمان ورَسا , وطَفِئَ جَمْر الشرك ورسَب , فكان إذا مرّ بمكان فيه شيء من أوثانهم أعرض وعرج (¬5) عنه , وأُلهِمَ من صغره التوحيدَ وبُغضَ الأصنام وما كان عليه المشركون (¬6)؛ فهذا أعظم من حال يحيى عليه الصلاة والسلام , فإنه نشأ بين أبويه يتأدّب بأدبهما , ويأخذ عبادة ربّه عنهما , ولم يكن له جليس إلا أهلُ الزّهد والعبادة , (و) (¬7) فرق عظيم بين من أوتي الحكمة وهو في حجر النّبوّة وكنف أهل العلم والدّين وبين من أوتيها وهو بين أهلِ (¬8) الكفر والإشراك وعدم من يوحّدُ الله تعالى ويعبده. فإن قيل: فقد أثنى الله على يحيى - عليه السلام - بقوله: {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا} [آل عمران: من الآية 39] والحصور الذي لا يأتي النّساء , قيل: إنّ يحيى - عليه السلام - كان منفرداً بمراعاة شأنه , وكان محمد - صلى الله عليه وسلم - رسولاً إلى الخلق كافّة ليَقُودَهم وَيَحُوشَهُم إلى الله - عز وجل - قولاً وفعلاً , فأظهر الله تعالى به الأحوال المختلفة , والمقامات العالية المتفاوتة في متصرّفاته , ليقتدي كل الخلق بأفعاله ويتشبّه بأوصافه , فاقتدى به الصّدّيقون في حالاتهم , ¬
والشهداء في مراتبهم , والصالحون في أحوالهم , ليأخذ العالي والداني والمتوسط من سيرته قسطاً وحظّاً , والنكاح من أعظم حظوظ النفس وأبلغ الشهوات , فلهذا أمره الله تعالى بالنكاح وأوجبه عليه لما جبل عليه النفوس وطبعها عليه , ليتحصَّنُوا به من السِّفاح , ولما كان المقصود من النكاح التناسل قال - صلى الله عليه وسلم -: «تناكحوا تكثروا فإنّي مُكاثر بكم الأمم (¬1)» (¬2) واجتمع عنده في وقت تسع نسوة وكان يطوف عليهن في الليلة الواحدة (¬3) هذا مع توفّره على العبادة التي حَيّرت الخلق , فإنه كان يصلي حتى تورّم (¬4) قدماه ويقوم [ق 55/و] الليلَ كلّه بالآية يردّدها يناجي بها ربَّه سبحانه: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118] ويواصل في الصوم الأيام والليالي ويقول: «وأيّكم مثلي إني أبيت يطعمني ربّي ويسقيني» (¬5) على أنه قال: «من استطاع منكم الباءة فليتزوج فمن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» (¬6) فكان يبالغ في الصيام حتى يواصل فيه ومع ذلك فهذا شأنه في القوة على الجماع كما أشرنا (¬7) إليه , ولما ¬
(فصل) ولم نورد ما أوردناه غضا على أحد من أنبياء الله صلى الله عليهم وسلم
سئلت عائشة رضي الله عنها عن عمله في بيته فقالت: وأيّكم يطيق ما كان (¬1) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطيق , كان عمله ديمةً - صلى الله عليه وسلم - (¬2) , (والله أعلم) (¬3). (فصل) (¬4) ولم نورد ما أوردناه غضّاً على أحد من أنبياء الله صلى الله عليهم وسلم , ولا تنقصاً بأحد منهم , ونعوذ بالله تعالى من ذلك , ومن خطوره بالبال أيضاً , ولكن رأينا الله سبحانه قد فضّل بعض النّبيّين على بعض , ورفع بعضهم فوق بعض درجات , ووقع إلينا من أخبارهم وأحوالهم ما وقع , تبيّن لنا فضل نبيّنا محمد - صلى الله عليه وسلم - (عليهم) (¬5) , وعرفنا من فضل بعضهم على بعض ما أشرنا إليه في هذا الكتاب , مع أن كلّهم كان عند الله وجيهاً , وكان كل منهم (نبيّاً) (¬6) نبيهاً صلى الله عليهم وبارك وسلم؛ وأمّا ما جاء من قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تفضّلوني على يونس بن (¬7) متى» (¬8) ومن قوله: «لا تفضّلوا بين أنبياء الله» (¬9) فإن ذلك وقع منه - صلى الله عليه وسلم - في قضايا معيّنة كان مضمونها تفضيله والازراء على غيره فغضب لذلك ¬
(فصل) فأما فضله - صلى الله عليه وسلم - على سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
ونهى عن التفضيل على هذا الوجه وقد صحّ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر بيدي لواء الحمد يوم القيامة آدم فمن بعده تحت لوائي ولا فخر» (¬1). (فصل) (¬2) فأمّا (¬3) فضله - صلى الله عليه وسلم - على سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فمن ذلك ما روى البخاري من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أُعطيتُ خمساً لم يُعطَهُن أحد قبلي: نُصرت بالرعب مسيرة شهر [ق 55/ظ] , وجُعلَتْ لي الأرضُ مسجداً وطَهُوراً فأيّما رجلٍ من أُمّتي أدركَتْه الصَّلاة فليُصلّ , وأُحِلَّتْ لي الغنائم ولم تحلّ لأحد قبلي , وأُعطِيتُ الشّفاعةَ , وكان النّبيّ يُبعث إلى قومه خاصّةً وبُعِثتُ إلى النّاس عامّة» (¬4) , وروى أيضاً عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «بُعِثتُ بجوامع الكَلِم , ونُصِرتُ بالرعب , وبينا أنا نائمٌ رَأيتُني أُتيتُ بمفاتيح خزائن الأرض فَوُضِعَت في يدي» (¬5) والحديثان في الصحيحين وغيرهما؛ وفي مسند الإمام أحمد وغيره عن أبي ذرّ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أُعطيتُ خمساً لم يُعطَهنّ أحد قبلي: بُعثتُ إلى الأحمر والأسود , وجُعلَتْ لي الأرض طَهُوراً ومسجداً , وأحلّت لي الغنائم ولم تحلّ لأحد قبلي , ونُصِرتُ بالرّعب فيُرعَب العدوّ وهو منّي على مسيرة شهر , وقيل لي: سل تعطه فاختبأتُ دعوتي شفاعةً لأمّتي فهي نائلة منكم إن شاء الله من لم يشرك بالله شيئاً» (¬6) وروى أيضاً من حديث أبي موسى - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أُعطيتُ خمساً لم ¬
يُعطَهُنَّ نبيّ قبلي ... » وذكر نحوه (¬1) , وروي من حديث أبي أمامة - رضي الله عنه - عنه (¬2) - صلى الله عليه وسلم - قال: «فُضّلتُ بأربع ... » فذكر بمعناه غير أنه لم يذكر الشّفاعة (¬3) , وروى أيضاً من حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: «أُعْطِيتُ ما لم يُعطَ أحد من الأنبياء» فقلنا: يا رسول الله ما هو , قال: «نُصِرتُ بالرّعب وأُعطيتُ مفاتيح (¬4) الأرض وسُمّيت أحمد وجُعل التّرابُ لي طَهوراً وجُعلت أُمَّتي خيرَ الأمم» (¬5) , وروى أيضاً عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه فذكر قصّةً قال: وقال لهم يعني النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لقد أُعطِيتُ الليلة خمساً , ما أُعطيهن أحد قبلي: أمّا أنا فَأُرسِلتُ إلى الناس كلّهم عامّةً , وكان مَن قبلي إنّما يُرسَل إلى قومه , ونُصِرتُ على العدوّ بالرّعب , ولو كان بيني وبينهم مسيرة شهر لَمُلِئُوا (¬6) منّي رُعباً , وأُحِلَّت لي الغنائم آكُلُها , وكان من قبلي يُعَظمون أكْلَها , كانوا يُحرقونَها , وجُعِلَتْ لي الأرضُ مساجد وطَهُوراً (¬7) , أينما أدركَتْني الصلاة تَمسَّحت وصلّيتُ [ق 56/و] , وكان من قبلي يُعَظِّمون ذلك , إنما كانوا يصلّون في كنائسهم وبِيَعهم , والخامسة هي ما (هي) (¬8) , قيل لي: سل فإن كلّ نبيّ قد سأل , فأخّرت مسألتي إلى يوم القيامة , فهي لكم ولمن شهد أن لا إله إلا الله» (¬9) , وروى أيضاً أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أتى النّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بكتابٍ أصابه من بعض أهل الكتاب , فقرأه على النبي - صلى الله عليه وسلم - فغضب وقال: «أمُتَهَوِّكون (¬10) فيها يا ابن الخطّاب , والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء ¬
نقيّة , لا تسألوهم عن شيء فيُخبرون بحقّ فتكذّبونه , أو بباطل (¬1) فتصدّقونه , والذي نفسي بيده لو أن موسى - عليه السلام - كان حيّاً ما وسعه إلا أن يَتّبعني» (¬2) وروى مجالد عن الشعبي عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لو بَدا لكم موسى فاتبعتموه ثم تركتموني لضللتم عن سواء السبيل , ولو كان موسى حيّاً ثم أدركني في نبوّتي لاتّبعني» (¬3) وروى مسلم من حديث حذيفة - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «(فُضلنا) (¬4) على الناس بثلاث: جُعلت صفوفنا كصفوف الملائكة , وجُعلت لنا الأرض كلها مسجداً , وجعلت تربتها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء» (¬5) , وروى أيضاً من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (قال) (¬6): «فضّلت على الأنبياء بستّ: أُعطيتُ جوامع الكَلِم , ونُصِرتُ بالرّعب , وأحلّت لي الغنائم , وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً , وأُرسِلتُ إلى الخلق كافّةً , وخُتم بي النبيون» (¬7) , وعنه (¬8) أيضاً عنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «(و) (¬9) جُعلت لي الأرض طيّبة طهوراً فأيما رجل أدركته الصلاة صلّى حيث كان» (¬10) وفي حديث حذيفة - رضي الله عنه -: «وجعلت صفوفنا كصفوف الملائكة , وأوتيت هؤلاء الآيات من آخر سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يعط منه أحد قبلي ولا يعطى منه أحد بعدي» (¬11) , وروى ¬
أيضاً من حديث أبيّ بن كعب - رضي الله عنه - فذكر قصّة الذي دخل المسجد وقرأ القراءة (¬1) التي أنكرها , وحمله إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - , وذكر قوله: «أُرسِلَ إليّ أن اقرأ القرآن على حرف , فرددت [ق 56/ظ] إليه أن هوّن على أمّتي -فذكرت ثلاث مرّات- قال: فردّ إليّ الثالثةَ اقرأه على سبعة أحرف , ولك بكل ردّة رددتكها (¬2) مسألة تسألنيها , فقلت: اللهم اغفر لأمّتي , اللهم اغفر لأمّتي , وأخرّتُ الثالثةَ ليوم يَرغب إليّ الخلق كلّهم حتى إبراهيم صلوات الله عليه» (¬3) , وعن أبي أمامة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال: «إن الله فضّلني على الأنبياء , وفضّل أمّتي على الأمم , وأرسلني إلى الناس كافّة , ونُصِرتُ بالرُّعب يسير بين يديّ قذفَهُ في قلوب أعدائي , وجعل لي الأرض كلها مسجداً وطَهوراً فأيّما عبد أدركته الصلاة فعنده مسجده وطَهوره وأحلّت لي الغنائم» (¬4) , وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أُعطيتُ خمساً لم يُعطَهن أحد قبلي من الأنبياء: جُعِلت لي الأرض طهوراً ومسجداً , ولم يكن نبي من الأنبياء -يعني: - يصلي حتى يبلغ محرابه , ونُصرت بالرعب مسيرة شهر يكون بيني وبين المشركين مسيرةُ شهرٍ يقذف (¬5) الله الرّعب في قلوبهم , وكان النبي (¬6) يبعث خاصّة إلى قومه وبعثت إلى الجنّ والإنس , وكانت الأنبياء يعزلون الخمس فتجيء النار فتأكله , وأمرت أن أقسمه في فقراء أمّتي , ولم يبق ¬
نبيّ إلا قد أعطي سؤله وأخّرت أنا شفاعتي لأمّتي» (¬1) , فإن اعترض معترض بأن سليمان - عليه السلام - كان له سراري , والسراري والعبيد أثر الغنيمة , فكيف يقول محمد - صلى الله عليه وسلم -: «أحلت لي الغنائم ولم تُحَلّ لأحد قبلي» قال الإمام أبو الفرج ابن الجوزي: "إن الأنبياء كانوا إذا جاهَدُوا وقدّموا الغنيمة التي هي أمتعة وأطعمة وأموال نزلت نار فأكلتها كلّها: حصّة ذلك النبي وسهام الأمّة , كما في حديث أبي هريرة الذي في الصحيحين عنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «غزا نبيّ من الأنبياء فجمعوا الغنائم , فأقبلت النّار لتأكله فأبت أن تَطعمه فقال النّبيّ: فيكم غلول , فأخرجوا مثل رأس بقرة ذهباً فوضعوه في المال , فأقبلت النار فأكلَتْه , فلم تحل الغنائم لأحد قبلنا , ذلك بأن الله رأى ضعفنا وعجزنا فطيّبها [ق 57/و] لنا» فأما العبيد والإماء والحيوانات فإنها تكون ملكاً للغانمين دون الأنبياء عليهم الصلاة السلام , فلا يجوز للأنبياء عليهم السلام أخذ شيء منها بسبب الغنيمة بل بالابتياع و (¬2) الهدية ونحو ذلك , ومن هذا تسرّي سليمان عليه الصلاة والسلام , وكذلك تسري إبراهيم عليه الصلاة والسّلام بهاجر أم إسماعيل - عليه السلام - لم يكن ملكه لها من جهة الغنيمة وإنما وصلت إليه من الهبة , ومحمد - صلى الله عليه وسلم - كان (¬3) يجوز له ذلك فيأخذ (الخمس و) (¬4) الصفي (¬5) ويتصرف فيه , وذلك من خصائصه دون الأنبياء صلى الله عليه وعليهم وسلم؛ ¬
(قال) (¬1): فإن قيل: فالعبيد والإماء غنيمة أيضاً؟ قلنا: نعم , لكن ذلك حرّم على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام , وأحل لنبيّنا - صلى الله عليه وسلم - خاصّة من بينهم" (¬2). فحكم العبيد والإماء والحيوان غير حكم الصامت من الأموال فإن الأموال غير ذوات الأرواح كانت تحرق والحيوان لا يحق تحريقه فهذا شيء , وذاك شيء آخر. وقد أعطي هو - صلى الله عليه وسلم - وأمّته الجمعة ولم يعطها من قبله (¬3) , وخواصه وخواصّ أمته كثيرة كما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى , وروى البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أنا سيد الناس يوم القيامة , وهل تدرون لم ذلك؟ يجمع الله الأوّلين والآخرين في صعيد واحد , وتدنو الشمس , فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون , فيقول بعضهم لبعض: ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم - عز وجل -؟ فيقولون: آدم - فذكر حديث الشفاعة وتدافع الأنبياء عليهم السلام أمرها وكلٌ يقول: (لست) (¬4) لها - حتى يأتوني فأقول: أنا لها» (¬5) والحديث مشهور معروف في الصحاح وغيرها , ففي هذا الحديث احتياج الخلق كلّهم إليه يوم القيامة , وتقدمه على جميع الأنبياء - صلى الله عليه وسلم - , وأنه إذا قام يشفع فيقال (¬6) (له) (¬7): «سل تعط , واشفع تشفع» , وليست هذه الرتبة لغيره , وروى الترمذي من حديث أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أنا أوّل الناس خروجاً إذا بُعثوا وأنا خطيبهم إذا وفدوا وأنا مبشّرهم إذا يَئسوا وأنا أكرم ولد على آدم على ربّي ولا فخر [ق 57/ظ]» (¬8) وفي روايةٍ له أنه قال: «أنا أكرم الأوّلين والآخرين على الله - عز وجل - ولا فخر» وقد تقدم , وروى الدارمي عن أنس - رضي الله عنه - أيضاً قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أنا ¬
أوّلهم خروجاً , وأنا قائدهم إذا وفدوا , وأنا خطيبهم إذا أنصتوا , وأنا مستشفعهم إذا حبسوا , وأنا مبشّرهم إذا يئسُوا , والمفاتيح يومئذ بيدي , وأنا أكرم ولد آدم على ربّي , يطوف عليّ ألف خادم كأنهم بيض مكنون , أو لؤلؤ منثور» (¬1) , وروى أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "جلس ناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينتظرونه , فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون , فتسمّع حديثهم , [فإذا بعضهم] (¬2) يَقول: عجباً أن الله اتخذ من خلقه خليلاً فإبراهيم خليله , وقال آخر: ماذا بأعجب من أن كلم موسى تكليماً , وقال آخر فعيسى كلمة الله وروحهُ , وقال آخر: (وآدم) (¬3) اصطفاه الله , (فخرج) (¬4) عليهم فسَلّم وقال: «قد سمعت كلامكم وعجبَكم أنّ إبراهيم خليل الله وهو كذلك , وموسى نجيّه وهو كذلك , وعيسى روحه وهو كذلك , وآدم اصطفاه الله تعالى وهو كذلك , ألا وأنا حبيب الله ولا فخر , وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة , تحته آدم فمن دونه ولا فخر , وأنا أوّل شافع وأول مشفّع يوم القيامة ولا فخر , وأنا أوّل من يحرّك غلق الجنّة ولا فخر , فيفتح الله فيدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر , وأنا أكرم الأولين والآخرين على الله ولا فخر» (¬5) , وعن حذيفة - رضي الله عنه - قال: قال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إبراهيم خليل الله , وموسى كلّمه الله تكليماً , وعيسى كلمة الله وروحه , فما أُعطيتَ يا رسول الله؟ قال: «ولد آدم كلهم تحت رايتي , وأنا أوّل من يفتح له باب الجنّة» (¬6) , وروى أبو نعيم عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قلت: يا رب , ¬
إنه لم يكن نبيّ إلا وقد أكرمتَه , فجعلت إبراهيم خليلاً , وموسى كليماً , وسخّرت لداود الجبال , ولسليمان الريح والشياطين , وأحييت لعيسى الموتى , فما جعلتَ لي؟ قال: أوليس (قد) (¬1) أعطيتك (أفضل) (¬2) من ذلك كله , أن لا أُذكَر إلا ذُكِرتَ معي , وجعلت صدور أمّتك أناجيل يقرأون القرآن ظاهراً [ق 58/و] ولم أعطها أمّةً» (¬3) , وعن أبي سعيد - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لما أسري بي إلى السّماء قلت: يا رب اتخذت إبراهيم خليلاً , وكلمت موسى تكليماً , ورفعت إدريس مكاناً علياً , وأتيت داود زبوراً , وأعطيت سليمان ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده , فماذا لي يارب؟ , فقال: يا محمد اتخذتك خليلاً كما اتخذت إبراهيم خليلاً , وكلمتك كما كلمت موسى , وأعطيتك فاتحة الكتاب وخاتمة سورة البقرة ولم أعطها نبيّاً قبلك , وأرسلتك إلى أهل الأرض أولهم وآخرهم وإنسهم وجنّهم ولم أرسل إلى جماعتهم نبياً قبلك , وجَعلتُ الأرض لك ولأمّتك مساجد وطهوراً , وأطعمت أمّتك الفيءَ ولم أُحلّه لأمّة قبلها , ونصرتك بالرعب حتى إن عدوّك لَيُرعَب منك , وأنزلت عليك سيّد الكتب كلّها قرآناً عربيّاً , ورفعت لك ذكْرك حتّى لا أُذكَر إلا ذكرت معي» (¬4) , وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «(إن الله اختارني على جميع العالمين من النبيين والمرسلين» (¬5) , ¬
وعنه أيضاً قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) (¬1): «إن الله - عز وجل - أعطى موسى الكلام , وأعطاني الرؤية , وفضلني بالمقام المحمود والحوض المورود» (¬2) , وعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: "ما خلق الله تعالى خلقاً ولا برأه أحبّ إليه من محمّد - صلى الله عليه وسلم - " (¬3)؛ ومن أنعم النظر في معجزات الأنبياء , وتدبّر معجزات نبيّنا - صلى الله عليه وسلم - , (وجد معجزات نبيّنا - صلى الله عليه وسلم -) (¬4) أضعاف ذلك , مع مقابلة كل معجزة بما هو مثلها , أو فوقها , ووجد لنبينا - صلى الله عليه وسلم - غير ذلك مما تفرّد به , ووجد كرامات الأولياء من أمّته أعظم , وأكثر , وأبلغ من كرامات الأولياء من أمم الأنبياء قبله. فإن قيل: كيف قال محمد - صلى الله عليه وسلم -: «بُعِثتُ إلى الخلق كافة» (¬5) ومعلوم أن موسى عليه الصلاة والسلام لما بُعث إلى بني إسرائيل لو جاءه غيرهم (¬6) من الأمم يسألونه تبليغ ما جاء به عن الله تعالى لم يجز له كتمه , بل كان يجب عليه إظهار ذلك لهم؟ , ثم قد أهلك الله تعالى في زمن نوح - صلى الله عليه وسلم - الخلق وما كان ذلك إلا لعموم رسالته؟ , فقد أجاب عن هذا أبو الوفاء ابن عقيل (¬7) [ق 58/ظ] فقال: إن شريعة نبينا - صلى الله عليه وسلم - جاءت ناسخة لكل شريعة قبلها , وقد كان يجتمع في العصر الواحد نبيّان وثلاثة يدعو كل واحد إلى شريعة تخصّه , ولا يدعو غيره من الأنبياء إليها ولا ينسخها , بخلاف نبينا - صلى الله عليه وسلم - فإنه دعا الكل ¬
ونسخ الكل وقال: «لو كان موسى حَيّاً ما وسعه إلا اتباعي» (¬1) وما كان يمكن عيسى - صلى الله عليه وسلم - أن يقول هذا في حق موسى - صلى الله عليه وسلم - , وأما نوح عليه الصلاة والسلام فإنه لم يكن في زمنه نبي يدعو إلى شريعته (¬2) , وقد أشرنا إلى هذا فيما تقدم. قلت: ولو قيل: إن كل نبي من الأنبياء المبعوثين إلى أممهم خاصّة أن تخصيصهم هذا (هو) (¬3) أنهم لا يدعون غير من أرسلوا إليه , فإن طَرَى على أحد منهم طار من غير أمته واستفتاه فإنما يُفتيه بشريعته لا شريعة المستفتى فإن هذا لا مانع منه , وإذا عمل هذا المستفتي بما أفتاه هذا المفتي لم يكن ضالّاً ولا معاقباً بمتابعة هذا النبي الآخر , فإن أصل دين الأنبياء جميعهم شيء واحد , فالأميّ إذا قلّد العالم في شيء جاز فكيف بتقليد النبي المعصوم عند الحاجة؛ وقريب من هذا المعنى في هذه الأمّة المحمّديّة الجامعة لكل خير , المعصومة من الاجتماع على ضلالة , لو سأل حنبليُّها شافعيَّها أو مالكيُّها حنفيَّها ونحو ذلك عن أمرٍ فأفتاه ذلك العالم بما هو مذهبه فعمل السائل بقوله لم يأثم ولم يكن ضالّاً بسؤال من ليس على مذهبه مع اتفاق أصل الدين , ومع ذلك لا يجوز لهذا المفتي أن يَدعُوَ الناسَ إلى مذهبه ومفارقة مذاهبهم ونحو ذلك مثلاً إذا سكن رجل من بغداد في مصرَ أو غيرها واحتاج إلى شيء من الأمور الشرعيّة كالعقود والفسوخ وإقامة الحدود ونحو ذلك فإنه يكون تحت حكم قضاتها وولاتها يقضون فيما يوافق مذاهبهم و (إن) (¬4) كانت خلاف مذهبه ويلزمه قبول ذلك والتزامه , ولا يتوقف الحال على أن ينهى (¬5) ذلك إلى حكام (¬6) بلده لأن أصل الدين واحد والملّة واحدة والخلاف في ¬
فصل وأما الخصائص التي اختص بها محمد - صلى الله عليه وسلم - دون غيره
فروع الشريعة غير ضارّ , فهكذا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كما في الحديث: «الأنبياء إخوة أولاد علّات أمهاتهم شتّى ودينهم واحد» (¬1) , فأمّا [ق 59/و] وشريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - ناسخة لما قبلها من الشرائع فلا يمكن (هذا) (¬2) , والله أعلم. ومن خصائص محمّد - صلى الله عليه وسلم - أن كل معجزة لنبيّ فلَهُ من جنسِهَا مِثلُها وأعظم وأتم وأكمل , وكل كرامة لوليّ من الأمم السالفة فلأولياء أمّته مثلها (¬3) وأعظم وأتمّ وأكمل كما قد أشرنا إليه , على أن كل معجزة لنبي من الأنبياء فهي له , لأن الله تعالى أخذ عليهم الميثاق لئن جاءهم ليؤمننّ به ولينصرنّه , فكان (¬4) إيمانهم به ودعوتهم لأممهم إلى الإيمان به إن أدركوه معجزةً له خصيصةً به , فإنهم لما التزموا الميثاق بالإيمان به وبالإتباع له وأوصَوا بذلك اتباعهم صارت المعجزة والفضيلة له عليهم , فمهما أظهر الله تعالى على أيديهم من (¬5) الخوارق فهو بواسطة الإيمان (به) (¬6) واتباعِه , كما أن كل كرامة لوليّ من أمّة من الأمم هي مضافة إلى معجزاتِ مَتبوعِهِ من الأنبياء كما أشرنا إليه , فإن الكرامات (¬7) لا تحصل إلا بمتابعة الرسل صلى الله عليهم وسلم , وتصديقهم , والتزام طريقتهم. فصل وأمّا الخصائص التي اختصّ بها محمد - صلى الله عليه وسلم - دون غيره , فإنه خصّ بواجبات ومحظورات ومباحات وتكرُّمات , فالواجبات: السواك , والوتر , والأضحيّة , وركعتا ¬
الفجر , وفي قيام الّليل خلاف؛ وأما المحظورات: فالرَّمْزُ بالعين (¬1) , وأكل الصّدقة المفروضة , والتزوّج بالإماء , وخَلْعُ لَأمَة الحرب إذا لبسها حتى يلقى العدو , فأما قول الشعر والكهانة فقد يُعَدّ في المحظورات وإنّما مُنع من ذلك لا أنّه حُرّم عليه , وأما المباحات: فمنها الوصال في الصوم وقد مَنع منه غيرَه , وأخْذُ (الماء) (¬2) من العطشان , وجعله أولى بالمؤمنين من أنفسهم , وخُمسُ الخمس , والصفيّ من المغنم , والتزوّجُ بأيّ عددٍ شاء , والنكاح بغير مهر ولا وليّ وبلفظ الهبة , وأمّا التكرمات: فتحريم أزواجه على غيره في الدنيا , وجعلهنّ (¬3) أزواجه في الجنة , وبعث إلى الخلق كافّةً , ولا نبيَّ بعده , وخُلِدت شريعته فلم تنسخ , وجعل مَعجِزه باقياً يُتَصفّح إلى يوم القيامة ويُتحدّى [ق 59/ظ] به , ذكر هذا الفصل ابن الجوزي رحمه الله تعالى (¬4) , وروى بإسناده عن جابر - رضي الله عنه - قال: سمعت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «أُتِيت بمقاليد الدنيا على فرس أبلق (¬5) عليه قطيفة من سندس» (¬6) , ومن خصائصه - صلى الله عليه وسلم - التي أكرم بها أن صلاته قاعداً ليست كصلاة غيره قاعداً لما روى مسلم في صحيحه عن عبدالله بن عمرو - رضي الله عنه - قال: حُدِّثتُ يا رسولَ الله أنك قلت: صلاة الرجل يعني قاعداً على مثل نصف الصلاة وأنت تصلي قاعداً , قال: «أجل , ولكنِّي لستُ كأحدٍ منكم» (¬7). ¬
فصل ومن خصائص محمد - صلى الله عليه وسلم - أيضا تضاعف الصلاة على من صلى عليه
فصل ومن خصائص محمد - صلى الله عليه وسلم - أيضاً تضاعُف الصلاة على من صلى عليه - صلى الله عليه وسلم - روى الإمام أحمد ومسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من صلّى عليّ واحدة صلى الله عليه عشراً» (¬1) , وروى أحمد من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من صلى عليّ واحدة صلى الله عليه عشر صلوات وحطّ عنه عشر خطيئات» (¬2) , وروى أيضاً من حديث أبيّ بن كعب - رضي الله عنه - قال: قال رجل: يا رسول الله إن جعلت صلاتي كلها عليك , قال: «إذا يكفيك الله (تبارك و) (¬3) تعالى ما همك من دنياك وآخرتك» (¬4) , ورَوى أيضاً عن عبدالله بن [أبي] (¬5) طلحة (¬6) عن أبيه (¬7) أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاء ذات يوم والسّرور في وجهه فقال: «إنه أتاني الملك فقال: يا محمد , أما يُرضيك أن ربّك - عز وجل - يقول: إنه لا يصلي عليك أحد من أمّتك إلا صليت عليه عشراً , ولا يسلم عليك أحد من أمّتك (¬8) إلا سلّمت عليه عشراً , قال: بلى» (¬9) , ورَوى ¬
أيضاً عن عبدالله بن عامر بن ربيعة (¬1) عن أبيه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من صلى عليّ صلاةً لم تزل الملائكة تصلي عليه ما صلى عليّ , فليُقل عبدٌ من ذلك (¬2) أو ليكثر» (¬3) , وروى أيضاً عن عبدالرحمن بن عوف - رضي الله عنه - قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فتوجّه نحو صَدَقته فدخل , فاستقبل القبلة فخرّ ساجداً , فأطال السجود حتّى ظننت [ق 60/و] أنّ الله - عز وجل - قد قبض نفسه , فدنوت منه , ثم جلست فرفع رأسه , فقال: «من هذا؟ » قلت: عبدالرحمن , فقال: «ما شأنك» , قلت: يا رسول الله سجدت سجدةً خَشيتُ أن يكون الله - عز وجل - قد قبض نفسك فيها , فقال: «إن جبريل أتاني فبشّرني فقال: إن الله - عز وجل - يقول لك: من صلى عليك (¬4) صليت عليه ومن سلم عليك سلمت عليه فسجدت لله شكراً» (¬5)؛ وروى أيضاً عن أبي طلحة الأنصاري - رضي الله عنه - قال: أصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً طيّب النّفس يُرى في وجهه البشر , فقالوا: يا رسول الله أصبحت اليوم طيب النفس , يُرى في وجهك البشر , فقال: «أجل أتاني آت من ربّي - عز وجل - فقال (¬6): من صلّى عليك صلاة كتب الله له بها عشر حسنات , ومحا عنه عشر سيئات , ورفع له عشر درجات , وردَّ عليه مثلها» (¬7) , وفي رواية أخرى نحوه وقال فيها: ¬
«أنه ليس أحد من أمّتك يصلي عليك صلاة إلا صلّى الله وملائكته عليه (¬1) عشراً» (¬2) , وفي رواية عنه أخرى قال: دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم فلم أره قطّ أشدّ فرحاً ولا أطيب نفساً منه يومئذ فقلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمّي , إنّي لم أرك قطّ أشدّ فرحاً و (لا) (¬3) أطيب (¬4) نفساً منك اليوم , قال: «يا أبا طلحة وما يمنعني أن لا أكون (¬5) كذلك وإنما فارقني جبريل آنفاً فقال: لي يا محمّد إنّ ربك بعثني إليك وهو يقول: إنه ليس أحد من أمتك يصلي عليك صلاة إلا رد الله - عز وجل - مثل (¬6) صلاته عليك , وإلا كتب له بها عشر حسنات وحط عنه (¬7) عشر سيئات ورفعت له عشر درجات , ولا يكون لصلاته منتهى دون العرش لا تمرّ بملك إلا قال: صلّوا على قائلها كما صلّى على محمد - صلى الله عليه وسلم -» (¬8) , وفي رواية أخرى قال: دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأساريرُ وجهه تبرق فقلت: يا رسول الله ما رأيت أطيب نفساً ولا أظهر بشراً منك يومنا هذا فقال (¬9): «ومالي لا تطيب نفسي ويَظهر بشري وإنما فارقني جبريل الساعة فقال: يا محمد من صلّى عليك من أمتك صلاة كتب الله (له) (¬10) بها عشر حسنات ومحا عنه عشر سيئات ورفعه عشر درجات وقال له الملك: مثل ما قال [ق 60/ظ] , قلت (¬11): يا جبريل وما ذاك الملك؟ قال: إن الله - عز وجل - وكل بك ملكاً من لَدُن خلقك إلى أن يبعثك لا يصلي عليك أحد إلا ¬
قال وأنت صلى الله عليك» (¬1) , وعن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - قال: "الصّلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - أمْحَقُ للخطايا من الماء للنّار , والسلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - أفضل من عتق الرقاب , وحبّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفضل من ضرب السيف في سبيل الله" (¬2) أو كما قال , وعن عليّ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من صلّى عليّ صلاة صلى الله (عليه) (¬3) بها عشر صلوات , واستَبَق ملكاه أيّهما يُبلِغ رُوحي منه السَّلامَ» (¬4) , وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن لله تعالى ملائكةً سيّاحين في الأرض يبلّغوني عن أمّتي السّلام» (¬5) , وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من صلى عليّ عند قبري وكّل الله بها ملكاً يبلغني , وكُفي أمر دنياه وآخرته , وكنت له يوم القيامة شهيداً أو شفيعاً» (¬6) , وعن عمار بن ياسر - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الله أعطى ملكاً من الملائكة أسماع الخلائق فهو قائم على قبري إلى يوم القيامة لا يصلي عليّ أحد إلا سمّاه باسمه واسم أبيه وقال: يا أحمد صلّى عليك فلان بن فلان وتكفّل لي الربّ - عز وجل - أن أردّ عليه بكل ¬
صلاة عليه عشراً» (¬1) - صلى الله عليه وسلم - , وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «مامن أحد يسلّم عليَّ (¬2) إلا ردّ الله إليّ روحي حتى أردّ عليه السلام» (¬3) , وعن علي بن الحسين رضي الله عنهما عن (أبيه - رضي الله عنه - أن) (¬4) النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «البخيل من ذُكرتُ عنده فلم يصل عليّ» (¬5) - صلى الله عليه وسلم - , وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (قال) (¬6): «ما جلس قوم مجلساً لم يذكروا الله فيه ولم يصلوا على نبيهم إلا كان عليهم ترة (¬7) , فإن شاء عذّبهم وإن شاء غفر لهم» (¬8) , وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[ق 61/و]: «رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصلّ عليّ» (¬9) , وروى تمام (¬10) في فوائده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا كان يوم الخميس بعث الله - عز وجل - ملائكة معهم صحف من فضة وأقلام من ¬
ذهب يكتبون يوم الخميس وليلة الجمعة أكثرَ الناس صلاة على محمّد - صلى الله عليه وسلم -» (¬1)؛ والأحاديث في ذكر الصلاة عليه كثيرة جدّاً , وفيها مصنفات , وفوقِ ذلك صلاة الله تعالى عليه وملائكته وأمرُه للمؤمنين أن يصلوا عليه ويسلموا تسليماً كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56] , وسنذكر فصلاً آخر إن (¬2) شاء الله تعالى في كيفية الصلاة عليه وغير ذلك. فصل ومن خصائصه - صلى الله عليه وسلم - رُقيُّهُ إلى فوق سبع سموات , ثم إلى سدرة المنتهى , وفوق ذلك كما سيأتي إن شاء الله تعالى , ومنها أنّ الله تعالى قرّبه إليه حتى كان بينه وبينه كقاب قوسين أو أدنى «قال: يا حبيبي محمّد , قلت: لبيك يا ربّ , قال: هل غَمُّك أن جعلتك آخر النّبيّين , قلت: يا ربّ لا , قال: حبيبي هل غَم أمتك أن جعلتهم آخر الأمم , قلت: لا يا رب , قال: أبلغ أمتك عني السلام وأخبرهم أني جعلتهم آخر الأمم لأفضح الأمم عندهم ولا أفضَحهم عند الأمم» رواه ابن الجوزي في الوفا عن هشيم عن حميد عن أنس - رضي الله عنه - (¬3) , ومنها أنه تعرض عليه أعمال أمّته فيحمد الله تعالى على صالحها (¬4) ويشفع في سيّئها (¬5) , ومنها أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يرى مِن خلفه كما يَرى قدّامَه (¬6) , ¬
ومنها أنه كان يرى في الظلمة كما يرى في الضّوء (¬1) , ومنها أنه كان إذا مشى في الشمس لم يكن له ظلّ لشدّة نوره وقد سبق ذلك , ومنها تسليم الحجر والشجر عليه (¬2) , ومنها نبع الماء من بين أصابعه (¬3) , ومنها حِنّة الجذع اليابس إليه (¬4) , ومنها أنه أوتي جوامع الكلم (¬5) وفواتحه (¬6) وخواتمه (¬7) واختُصرت له الحكمة اختصاراً (¬8) , فكان أفصح الخلق , ¬
وأبلغهم , وأعظمهم بياناً , وقيل له: ما بالك أفصحَنا ولم تخرج من بين أظهرنا؟ فقال (¬1): «إنّ لغة إسماعيل كانت قدْ نُسيت فأتاني جبريل فعَلّمنيها [ق 61/ظ]» (¬2) , ومنها أنّ أمّته أكثر الأمم يوم القيامة (¬3) , ومنها أنهم يكونون نصف (¬4) أهل الجنة (¬5) , ومنها أنه أكثر الناس تبعاً يوم القيامة (¬6) , ومنها أنه أول الناس خروجاً إذا بُعثوا , وأنه خطيبهم إذا وَفَدُوا , وأنه مبشّرهم إذا يئسوا , لواء الحمد بيده , وهو أكرم الخلق على ربّه - صلى الله عليه وسلم - وقد تقدم الحديث في ذلك وهو حديث حسن رواه الترمذيّ؛ ومنها أنه قد وعده رَبُّه أنه سَيُرضِيه من أمّته ولا يَسُوؤه , ومنها شفاعاته في الآخرة فإن له - صلى الله عليه وسلم - عدّة شفاعات: الأولى الشفاعة في عموم الخلق ليحاسَبُوا ويُراحُوا من الموقف كما سبق , وشفاعَةٌ في أهل الكبائر من أمّته , وشفاعة لمن في قلبه مثقال ذرّة من إيمان إلى ما دون ذلك من الشفاعات الخاصّة والمشتركة هو وغيره فيها (¬7) كما أشرنا إليه وكما يأتي إن شاء الله تعالى , ومنها أن الجنّة محرمة على الخلق حتى يدخلها هو - صلى الله عليه وسلم - , وعلى الأمم حتى ¬
تدخلها أمّته (¬1) , ومنها المقام المحمود (الّذي يغبطه به الأوّلون والآخرون يوم القيامة وجاء في تفسير المقام المحمود) (¬2): أنه الشفاعة , وجاء أنه يجلسه ربّه سبحانه معه على العرش وصنف فيه الإمام أبو بكر المروذي (¬3) كتاباً وساق ماعنده (في ذلك) (¬4) من الأخبار والآثار (¬5) , ومنها الوسيلة وهي درجة (¬6) في الجنة لا ينبغي أن (تكون) (¬7) إلا لعبد من عباد الله وكان - صلى الله عليه وسلم - يرجوها (¬8) وإذا كانت لا ينبغي إلا لرجل واحد من عباد الله فمن عساه يصلح لها غيره - صلى الله عليه وسلم - , ومنها أن الله تعالى جعل سبَّه - صلى الله عليه وسلم - ولعْنه لمن ليس لذلك أهلاً زكاةً وأجراً وعافية ومغفرة وقربة إليه يوم القيامة (¬9) , ومنها أن الكذب عليه صلى الله ¬
ومن خصائصه - صلى الله عليه وسلم - أنه لما ولد فخرج من بطن أمه [ق 62/و] وقع - صلى الله عليه وسلم - على الأرض ساجدا
[عليه وسلم] (¬1) ليس كالكذب على غيره وأنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «من كذَب عليّ متعمّداً فليتبوأ مقعده من النّار» (¬2) ولم نعلم حديثاً عنه - صلى الله عليه وسلم - رواه أكثر مما روي [هذا الحديث] (¬3) فإنه رواه عنه - صلى الله عليه وسلم - من الصحابة - رضي الله عنهم - ما [يزيد على] (¬4) ثمانين نفساً منهم العشرة المشهود لهم (¬5) بالجنّة ولا يُعلم حديث رواه عنه العشرة المذكورة غيره. فصل ومن خصائصه - صلى الله عليه وسلم - أنّه لما ولد فخرج من بطن أمّه [ق 62/و] وقع - صلى الله عليه وسلم - على الأرض ساجداً ورفع يده إلى السّماء كالمتضرّع المبتهل (¬6) , ومنها عجائب كانتْ ليلة ميلاده رأتها أمّه رأت ثلاثة أعلام مضروبات منها علم بالمشرق , وعلم بالمغرب , وعلم على ظهر الكعبة قالت: بينا أنا أتعجب من ذلك إذا بثلاثة نفر ظننت أن الشمس تطلع (¬7) من خلال وجوههم في يد الواحد منهم إبريق من فضة وفي الإبريق ريح كريح المسك , وفي يد الثاني طست من زمرذ خضراء لها أربع نواحي وعلى كل ناحية من نواحيها لؤلؤة بيضاء , وإذا قائل يَقول: هذه الدنيا شرقها وغربها وبرّها وبحرها فاقبض يا حبيب الله على أيّ ناحية شئت منها قالت: فنظرت فإذا هو قابض على وسطها فسمعت قائلاً يقول: قبض على الكعبة ورب الكعبة أما إن الله تعالى قد جعلها لك قبلة ومسكناً , ¬
ورأيت على (يد) (¬1) الثالث حريرة بيضاء قد طُويت طيّاً شديداً فنشرها فأخرج منها خاتماً تحارُ أبصار الناظرين دونه فأخذه صاحبُ الطست وأنا أنظر إليه فغسله بماء الإبريق سبع مرّات ثم ختم بالخاتم بين كتفيه ختماً واحداً ولفه في الحريرة واستدار عليه بخيط من المسك الأذفر ثم حمله فأدخله بين أجنحته ساعة قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان ذلك رضوان خازن الجنان قالت وقرأ في أذنه كلاماً كثيراً لم (¬2) أفهمه وقبّل بين عينيه وقال له أبشر: يا محمّد فما بقي لنبيّ عِلم إلا وقد أُعطِيتَهُ وأنت أكثرهم علماً وأشجعهم قلباً معك مفاتيح النّصر وقد أُعطِيتَ الأمن من الخوف والرّعب ولا يسمع أحد بذكْرك إلا وَجِلَ قلبُه وخفق ولو لم يَرَك يا حبيب الله (¬3)؛ ومنها: ما ذكر عبدالمطّلب أنّه كان عند الكعبة ليلة ولادة النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لما انتصف الليل إذا أنَا بالبيت الحرام قد مال بجوانِبه الأربعة فخر ساجداً في مَقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام كالرّجل الساجد , ثم استوى قائماً وأنا أسمع له تكبيراً عجيباً ينادي: الله أكبر ربّ محمّد المصطفى الآن قد طهّرني (ربّي) (¬4) من أنجاس المشركين وحميّة الجاهلية , ونظرت إلى الأصنام كلّها تنتفض كما ينتفض الثّوبُ [ق 62/ظ] , ونظرت إلى الصنم الأعظم هُبَل قد أكبّ على وجهه , وسمعتُ منادياً ينادي: ألا إنّ آمنة ولدتْ محمّداً - صلى الله عليه وسلم - وقد سَكبت عليه سحائبُ الرحمة هذا طست من الفردوس قد أنزل ليُغسل فيه (¬5)؛ ومنها أنّ مهده - صلى الله عليه وسلم - كان يُحرك بتحريك الملائكة (¬6) , (كانت الملائكة) (¬7) تحرّكه وتطوف به تبرُّكاً به - صلى الله عليه وسلم - , وقال له العباس عمّه: دعاني إلى الدخول في دينك أمارات نبوّتك رأيتك في المهد تناغي القمرَ وتشير إليه بأصابعك فحَيثُ أشرتَ إليه مال فقال - صلى الله عليه وسلم -: «كنت أحدّثه ويحدّثني ويُلهيني عن البكاء ¬
وأسمع وَجْبتَهُ (¬1) حين يسجد تحت العرش» (¬2) , وكان أوّل كلام تكلّم به أن قال: الله أكبر الله أكبر الحمد لله رب العالمين (¬3) , ومنها أنّ حليمة التي أرضعته قالت: أرضعته تحت شجرة يابسة فتعلَّق ببعض الشجرة فاخضرّت لمسّه إيّاها (¬4) , ومنها: أنّ (¬5) ليلة ولد أصبحت أصنام الدّنيا منكوسةً , وأصبح عرش إبليس عَدوِّ الله منكوساً والملك المأمور به قد جعله في بطن البحار أربعين يوماً فانفلت منها أسوَدَ محترقاً هارباً ولم يبق كاهن في قريش ولا قبيلة من قبائل العرب إلا احتجب عن صاحبه , وانتزع عِلم الكهنة ولم يبق سريرٌ لملك من ملوك الدنيا إلا أصبح منكوساً والملك مخرساً لا ينطق يومه ذلك ومرّت وحوش المشرق إلى وحوش المغرب بالبشارات , وكذلك أهل البحار بشّر بعضهم بعضاً به وكان في كل شهر من شهوره نداء في الأرض ونداء في السّماء: أنْ أبْشروا فقد آن لأبي القاسم - صلى الله عليه وسلم - (¬6) أن يخرج إلى الأرض المباركة مبارَكاً (¬7) , ومنها أنه لما وُلد ارتجس إيوان كسرى وسقط منه أربع عشرة شرافة وغاضت بُحَيرة ساوة وانقطع تلك الليلةَ الماءُ ¬
فصل ومن خصائصه - صلى الله عليه وسلم - التي اختص بها دون الأمة أنه لم يكن يحتلم قط
فلم يجر في بُحَيرة طبريّة وخمَدت النيران المعبودة في الأرض ولم تخمد قبل ذلك بألف عام (¬1). فصل ومن خصائصه - صلى الله عليه وسلم - التي اختصّ بها دون الأمّة أنه لم يكن يحتلم قط لأن (¬2) الاحتلام من تلعب الشيطان وكان - صلى الله عليه وسلم - محفوظاً من الشيطان [ق 63/و] بل كان الشيطان يهرب منه (¬3) , ومنها أن شيطانه كان كافراً فأعانه الله تعالى عليه حتى أسلم فلا يأمره إلا بخير (¬4) , ومنها أنه كان لاتعلوه ذُبابة قطّ (¬5) وأن القمل لم يكن يُؤذيه (¬6) , ومنها أنه (كان) (¬7) إذا ¬
جلس بين الجلوس كان كتفه أعلى من جميعهم (¬1) وإذا مشى بين الطوال طالَهُم فإذا فارقهم نُسبوا إلى الطول ونُسِب هو - صلى الله عليه وسلم - إلى الربعة (¬2) , ومنها أنّ الأرض كانت تبتلع بولَه وغائطه وتفوح منه رائحة طيّبة كالمسك وتبقى تلك الرائحة بعد ارتحاله (¬3) , ومنه حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله إنك تدخل الخلاء فإذا خرجتَ دخلتُ في أثرك فلا أرى شيئاً إلا أنّي أجد رائحة المسك فقال: «إنا معشر الأنبياء بنيَتْ أجسادنا على أرواح الجنّة فما خرج منّا من شيء ابتلعته الأرض» , ومنها ما روى بعض الصحابة أنه صحبه في سَفر قال فلما أراد قضاء حاجته تأمَّلتُهُ وقد أبعد فدخل مكاناً فقضى حاجته فدخلت الموضع الذي خرج منه فلم أجد شيئاً ولا أثر غائطٍ ولا بول ورأيت في ذلك الموضع ثلاثة أحجار كان استنجى بها فأخذتها فإذا بها يفوح منها ريح المسك وكنت إذا جئت يوم الجمعة المسجدَ أخذتهن في كمّي فتَغلب رائحتهن روائح من تطيّب وتعطّر (¬4) , ومنها ما روت أمّ أيمن رضي الله عنها قالت: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى فخّارَةٍ في البيت فبال فيها ثم قمت من اللّيل وأنا عطشى فأتيت الفخارة فشربت ما فيها فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فضحك وقال: «أما إنّكِ لن يَشتكي بطنكِ بعد يومك هذا» (¬5) , وروى عبدالرزاق عن ابن جريج قال أُخبرت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يبول في قدح من عَيْدان ثم يوضع تحت سريره قال: فبال فَوُضِع تحت سريره فجاء فأراده فإذا القدح ليس فيه شيء فقال لامرأةٍ يقال لها بركة كانت تخدمه: «أين البول الذي كان في القدح» قالت (¬6): شربته فقال: «صحّة يا أم يوسف» (¬7) وكانت تكنى أمّ يوسف فما ¬
مرضت قط حتى كان مرضها الذي (¬1) ماتت فيه (¬2) , قيل: إنّ بركة هذه كانت لأم حبيبة جاءت معها [ق 63/ظ] من أرض الحبشة و [كانت] (¬3) أمّ أيمن تسمّى بركة أيضاً ورثها عن أبيه (¬4) والله أعلم , ومنها أنّ (¬5) مالك بن سنان (¬6) شرب دمَه يوم أحُد ومصّه إياه فقال: «لن تصيبه النار» (¬7) , وكذلك شرب عبدالله بن الزبير رضي الله عنهما دم حجامته فقال له: «ويل لك من الناس وويل لهم منك» (¬8) وفي رواية أخرى أنه قال: «أما إنه لا تصيبه النار - أو (¬9) - لا تمسّه النار» (¬10) قال الشعبي فقيل لابن الزبير رضي الله عنهما: كيف وجدت طعم الدّم فقال: أمّا الطعم فطعم (¬11) العسل وأما الرائحة فرائحة المسك (¬12) , وتسويغه ذلك لهم وأنه لم يأمرهم بغسل أفواههم منه دليل على طهارة هذه الأشياء منه (¬13) - صلى الله عليه وسلم - , وشاهدٌ أنه لم يكن منه (شيء) (¬14) يُكره , ولا شيءَ غيرَ طيّبٍ - صلى الله عليه وسلم - , ويجاب ¬
فصل في طيب ريحه - صلى الله عليه وسلم -
عن قول من احتج بأنه كان يستجمر ويستنجي من ذلك بأن المنيّ كان يُغسَل من ثوبه وليس ينجس والله أعلم. فصل في طيب ريحه - صلى الله عليه وسلم - كان - صلى الله عليه وسلم - يمجّ في القدح أو الكوز أو الدَّلو أو البئر فيجدون لذلك ريحاً أطيب من المسك , وقال أنس بن مالك - رضي الله عنه -: ماشَمِمْتُ عنبراً قط , ولا مسكاً , ولا شيئاً أطيب من ريح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1) , وعن جابر بن سمرة - رضي الله عنه - أنه - صلى الله عليه وسلم - مسح خدَّه قال: فوجدت ليده برداً وريحاً (¬2) كأنما أخرجها من جُؤنة (¬3) عَطّار (¬4) , وقال غيره: مسها بطيب أولم يمسّها يصافح المصافح فيظل يومه يجد ريحها , ويضع يده على رأس الصبي فيُعرَف من بين الصبيان بريحها (¬5) , ومنها أنه - صلى الله عليه وسلم - نام في دار أنس بن مالك - رضي الله عنه - فعرق فجاءت أُمُّه بقارورة تجمع فيها عَرقَه فسألها (عن) (¬6) ذلك فقالت: نجعله في طيبنا وهو من أطيب الطّيب (¬7) , وكانت تلتقط عرقه فتخلط به مسكاً لها في قارورة ثم (¬8) تجعله للشفاء وقال جابر - رضي الله عنه -: لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يمرّ في طريق فيتبعه أحدٌ إلا عرف أنه سلكه من طيبه (¬9). ¬
فصل ومن خصائصه أنه لم يكن أحد يغلبه بالقوة
فصل ومن خصائصه أنه لم يكن أحَدٌ يَغلِبه بالقوّة , ومنها أنه (كان) (¬1) إذا لم يجد الماء مَدّ أصابعه فيتَفَجّر الماء من بينها حتى يقضي [ق 64/و] طُهُوره وقد أشرنا إلى ذلك , ومنها أن السحاب كانت تظله وكان في بعض المغازي مع أصحابه فكان إذا وقعت عليه الشمس جاءت سحابة فأظلّته (¬2) تدور معه كيف دار إلى آخر النهار ثم تزول فتعود اليوم الثاني , ومنها أن الأرض كانت تطوى له فيُسرِع أصحابه خلفْه حتى تتقطع نعالهم وتسقط أرديتهم وهو - صلى الله عليه وسلم - غير مُكترث (¬3) , ومنها أنه كان إذا مسَّ شيئاً لم تضرّ النارُ ذلك الشيء كما روى عَبّادُ بن عبدالصمد (¬4) قال: أتينا أنس بن مالك نسلّم عليه فدعا لنا بالمائدة فتغدّينا عنده ثم قال يا جارية هاتي المنديل فأُتي بمنديل فقال: يا جاريةُ اسجُرِي التَنّور قالت: وما اسجُرِيه؟ قال: أوقدِيه فأوقدَته ثم أُتي بالمنديل فطُرح فيه فخرج أبيض كأنه اللبن الحليب قلت: ما هذا يا أبا حمزة قال: هذا منديل كان يمسح النبي - صلى الله عليه وسلم - به وجهه فإذا اتّسَخ به صنعنا به هكذا لأن النار لا تأكل شيئاً مرّ على وجه الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه (¬5) , قال: فمسحنا به وجوهنا فله من هذه الفضيلة الشركة والنصيب الوافر , ومنها أن السّماء لم تكن تُحرَس ولا يُرمى منها بالشّهب قبل محمد - صلى الله عليه وسلم - وكانت الشياطين تقعد منها مقاعد للسمع (¬6) فلما بُعث - صلى الله عليه وسلم - حُرِست ورميت بالشّهب قال الله تعالى مخبراً عنهم: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ ¬
فصل ومن خصائصه - صلى الله عليه وسلم - في أسمائه
يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} [الجن: 9] ومنها أن الدجال والطاعون لا يدخلان المدينة ببركته - صلى الله عليه وسلم - كما في الصّحاح (¬1) وغيرها. فصل ومن خصائصه - صلى الله عليه وسلم - في أسمائه فمنها ما في حديث حذيفة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أنا محمَّدٌ وأنا أحمد وأنا نبيّ الرحمة (¬2) وأنا نبيّ التّوبة وأنا نبيّ الملحمة (¬3) وأنا المُقَفِّي وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي» (¬4) وفي حديث جبير بن مُطعِم - رضي الله عنه -: «وأنا الماحي (¬5) الذي يُمحى (¬6) بي الكفر وأنا العاقب (¬7): الذي ليس بعدي نبيٌّ [ق 64/ظ]» (¬8) , وفي حديث أبي الطُفيل: «وأنا الفاتح والخاتم» (¬9) , وفي حديث عليّ: ¬
فصل ومن خصائصه - صلى الله عليه وسلم - الإسراء
أنّه بشير ونذير وأنّه أمين وأنه مأمون وأنه رسول وأنه سراج وأنه منير , وهذه الأسماء في القرآن. فصل ومن خصائصه - صلى الله عليه وسلم - الإسراء , والرؤية في أحد قولي العلماء , والدنوُّ , والصلاة بالأنبياء والملائكة , والشهادة بين الأنبياء والأمم , ومنها أن الله يعطيه حتى يَرضى , ومنها أنه رحمة للعالمين , ومنها ما خصّه به في الآخرة من الشفاعة والحوض (و) (¬1) الكوثر وسماع القول وإتمام النعمة كما سيأتي , ومنها العفو عما تقدّم وتأخّر , ومنها شرح الصدر ووضع الوزر ورفع الذّكر وعزّة النصر ونزول السكينة والتأييد بالملائكة وإيتاء الكتاب والحكمة والسبع (¬2) المثاني والقرآن العظيم وتزكية الأمّة وصلاة الله تعالى والملائكةِ عليه والحكم (بين الناس) (¬3) بما أراه الله تعالى والقَسَم باسمه (¬4) وإجابة دعوته وتكليم الجمادات وانشقاق القمر وردّ الشمس إن صحّ (¬5) , والنّصر بالرعب وتسبيح ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الحصى في يده وتسبيح الطعام وهو يؤكل بحضرته كما تقدم ذكره , وفيما خصّ به دون أمّته التخيير لنسائه وصلاة الليل كما ذكرنا , ولم يكن له إذا سمع منكراً ترْكه حتى يغيّر وليس له أن يكتب ولا يقول الشّعر وأنه كان عليه دَينُ مَن يموت من أمته إذا لم يكن ترك وفاء ولم يكن لأحد تغيير ما حماه من حمىً وأحل له القتال بمكة (¬1) ولم يحل (¬2) لأحد قبله ولا يحل لأحد بعده , ومما خص - صلى الله عليه وسلم - به أنّ حدّ من سبّه أو هجاه القتل وأن من سبّه هو أو لعَنَهُ ممن ليس أهلاً لذلك أن يكون سَبُّه له ولعْنُه إياه رحمةً وقربةً (¬3) وأن ¬
فصل واختص بأن جمع فيه معاني وصفات لم تجتمع في غيره
الأنساب كلها منقطعةٌ إلا نسبه وأُوجِبَ على المصلي أن يجيبه إذا دعاه وأبيح له الحكم لنفسه وقبول الشهادة ممن شهد له بقوله لقضيّة خزيمة (¬1). فصل واختص بأن جمع فيه معاني وصفات لم تجتمع في غيره من جمال صورته , وتناسب أعضائه في حسنها وصحّتها واعتدال أشكالها , ونظافة جسمه , ونزاهته [ق 65/و] عن الأدناس والأقذار , ووفور عقله , وذكائه , ودقّة فطنته , وقوّة حواسّه , وفصاحة لسانه , واعتدال حركاته , وحسن شمائله , ومعاملته للخليقة على اختلاف طبقاتهم (¬2) وتباين غَرَائزهم بما يلائم أحوالهم , وتدبير بواطنهم وظواهرهم بما يُصلح شؤونهم , وسياسة الخاصة والعامّة بما فيه انتظام حال دينهم ودنياهم , يُعاملهم في كل ذلك ببدائع سيرته , وسعة حلمه , وكثرة تواضعه , وجودة شمائله , وهذه أمور مبسوطة في أمهات الكتب المصنّفة في شمائله وبيان فضله وفضائله. فصل ومن خصائصه الكبار ما قدّمنا الإشارة إليه في ليلة الإسراء به - صلى الله عليه وسلم - قولُه سبحانه وتعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: من الآية 1] فمن مقدمات الإسراء ما أخرجه البخاري ¬
ومسلم في صحيحيهما (¬1) من حديث مالك بن صعصعة قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (بينا) (¬2) أنا عند البيت - أو قال: في الحطيم (¬3) (¬4) - بين النائم (¬5) واليقظان (¬6) جاءني ثلاثة نفر وذلك قبل أن يوحى إليّ فقال أوّلهم: أيّهم هو , قال أوسطهم: هو خيرهم , فقال آخرهم: خذوا خيرهم , فكان تلك الليلة , فلم يَرَهم حتى أتوه ليلةً أخرى فيما يرى قلبُه وتنام عينُه ولا ينام قلبه , وكذلك الأنبياء عليهم السلام تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم , فلم يكلّموه حتى احتملوه , فوضَعوه عند زمزم , فتولّاه منهم جبريل , فشقّ من نحره إلى اللبّة , وقال قتادة: فشق من النحر إلى مراق (¬7) البطن (¬8) فاستخرج قلبي (¬9) , زاد مسلم: فشق عن قلبي فاستخرج القلب فاستخرج منه علقه فقال هذا حظ الشيطان منك ثم غسله (¬10) , قال البخاري: بماء زمزم بيده حتى أنقى جوفه , ثم أتى بطست من ذهب ممتلئ إيماناً وحكمة , فحشى به صدْرَه ولغاديده -يعني: عروق حلقه- ثم أطبقه (¬11) ثم اُتِيتُ بدابة فوق الحمار ودون البغل أبيض يضع حافرة عند منتهى طرفه فحملت عليه (¬12) , ¬
زاد مسلم قال: «فركبته حتى أتيت باب المقدس قال فربطته بالحلقة التي يربط بها الأنبياء - قال: - ثم دخلت المسجد وصليت فيه ركعتين ثم خرجت فجاءني جبريل [ق 65/ظ] بإناء من خمرٍ وإناء من لبن فأخذت اللبن فقال جبريل: أخذت الفطرة (¬1) , قال البخاري: فانطلق بي جبريل حتى أتى السّماء الدنيا فاستفتح , فقيل: من هذا؟ قال: جبريل , قيل: ومن معك؟ قال: محمد , قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم , قيل: مرحباً به ونعم المجيء جاء ففتح (¬2) , فلما علونا السّماء إذا (¬3) رجل عن يمينه أسودة , وعن شماله أسودة , فإذا نظر قبل يمينه ضحك , وإذا نظر قبل شماله بكى , فقال: مرحباً بالنبي الصالح والابن الصالح , فقلت: من هذا يا جبريل؟ قال: هذا أبوك آدم فسلّم عليه , فسلّمت عليه فردّ علي السّلام وهذه الأسودة عن يمينه وعن شماله نسم بنيه , فأهل اليمين منهم أهل الجنة , وأهل الشمال منهم أهل النار , فإذا نظر قبل يمينه ضحك وإذا نظر قبل شماله بكى -قال: - ثم عَرج بي (جبريل) (¬4) حتى أتى (¬5) السّماء الثانية فاستفتح , قيل: من هذا , قال: جبريل , قيل: ومن معك , قال: محمد , قيل: وقد أرسل (إليه) (¬6) , قال: نعم , قيل: مرحباً به فنعم المجيء جاء ففُتح لنا (¬7) , فلما خلصت إذا يحيى وعيسى ابنا الخالة , قال: هذا يحيى وعيسى فسلم عليهما , فسلمت عليهما ثم قالا مرحباً بالأخ الصّالح والنبي الصالح (¬8) , زاد مسلم: ¬
فَنعتَ عيسى فإذا هو ربعة أحمَرُ كأنه خرج من ديماس - يعني: حماماً - (¬1) , فإذا أقربُ من رأيت به شبهاً عروة بن مسعود (¬2) , قال البخاري: ثم صعد بي إلى السّماء الثالثة فاستفتح فقيل: من هذا , قال: جبريل , قيل: ومن معك , قال: محمد , قيل: وقد أرسل إليه , قال: نعم , قال: مرحباً به ولنعم المجيء جاء ففتح لنا , فلمّا خلصت فإذا يوسف (¬3) , زاد مسلم: وإذا هو قد أعطي شطرَ الحسن (¬4) , قال البخاري: «هذا يوسف فسلم عليه , فسلمت عليه , فردّ السلام ثم قال: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح , ثم صعد حتى أتى السماء الرابعة فاستفتح قيل (¬5): من هذا , قال: جبريل , قيل: ومن معك؟ قال: محمد , قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم , قيل: مرحباً به , ولنعم المجيء جاء , فلما خلصت فإذا أنا بإدريس , قال: هذا إدريس فسلم عليه , فسلمت عليه , فردّ ثم قال (¬6): مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح , ثم صعد بي حتى أتى السماء الخامسة فاستفتح , قيل (¬7): من هذا؟ قال: جبريل , قيل: ومن معك؟ قال: محمد , قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم , قيل: مرحباً به , فنعم المجيء جاء , فلما خلصلت فإذا هارون , قال: هذا هارون فسلم عليه , فسلمت عليه , فرد السلام , فقال مرحباً بالأخ الصالح والنّبيّ [ق 66/و] الصّالح , ثم صعد حتى أتى السّماء السادسة فاستفتح , فقيل: من هذا؟ قال: جبريل , قيل: ومن معك؟ قال: محمّد , قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم , قيل: مرحباً به , فنعم المجيء جاء , فلمّا خلصت فإذا موسى (¬8) , زاد مسلم: رجل ضرب جعد رجل الرّأس كأنّه من رجال ¬
شنوءة (¬1) (¬2) , قال البخاري: فسلّم عليه , فسلّمت عليه , فرَدّ السلام ثم قال: مرحباً بالأخ الصالح والنّبيّ الصالح , فلمّا (¬3) جاوزت بكى , قيل: ما يبكيك؟ قال: أبكي أنّ غلاماً بعث بعدي يدخل الجنة من أمّته أكثر ممن يدخلها من أمّتي , ثم صَعد بي إلى السّماء السابعة فاستفتح جبريل , قيل: من هذا؟ قال: جبريل , قيل: ومن معك؟ قال: محمّد , قيل: وقد بعث إليه؟ قال: نعم , قيل: مرحباً به , فنعم المجيء جاء , فلما خلصت فإذا إبراهيم (¬4) , زاد مسلم: أقربُ من رأيتُ به شبهاً صاحبكم -يعني: نفسه- (¬5) , قال البخاري: قال: هذا أبوك إبراهيم فسلّم عليه , فسلمت عليه فردّ عليّ السلام , ثم قال: مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح (¬6) , وفي حديث أنسٍ: إبراهيمُ في السماء السادسة وموسى في (السماء) (¬7) السابعة بفضل كلام الله ثم عَلا فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله تعالى , فقال موسى: لم أظُنّ أن يُرفَع عليّ أحدٌ , قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ثم رُفِعَتْ لي سدرة المنتهى (¬8) , زاد مسلم: فلمّا غشيها من أمر الله ما غشى تغيّرتْ حتى لا يستطيع أحدٌ أن ينعتها من حسنها (¬9) , قال البخاري: «فإذا نبقها مثل قلال هجر , وَإذا ورقها مثْل آذان الفِيَلة , قال: هذه سدرة المنتهى , وإذا في أصلها أربعة أنهار: نهران باطنان ونهران ظاهران , فقلت: ماهذا يا جبريل؟ قال: أما الباطنان: ¬
فنهران في الجنة , وأما الظاهران: فالنيل والفرات (¬1) , ثم رُفع لي البيت المعمور , فسألت جبريل - عليه السلام - فقال: هذا البيت المعمور يُصَلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك , إذا خرجوا لم يَعُودوا إليه آخر ما عليهم (¬2) , ثم أُتِيت بإناء من خمْرٍ , وإناء من لَبَنٍ , وإناء من عَسَلٍ , فأخذت اللّبن , فقال: هذه الفطرة أنت عليها وأُمَّتُكَ ولو أخذْتَ الخمْر لغوَتْ أُمَّتُك (¬3) , زاد البخاري: إناء العَسَل (¬4) وأنه - صلى الله عليه وسلم - أُعطي هذه الأواني الثلاثة بعد أن صَعد إلى سدرة المنتهى , وقد تقدم لمسلم: أنه أُعطي الخمر واللبن [ق 66/ظ] وهو في بيت المقدس قبل أن يُعرَج به إلى السّماء (¬5) , فالله أعلم أيّ ذلك كان ولعلّه من قول الراوي قَدّم وأخّر , قلت: ولو قيل: إن الواقعة ثنتان وأنه أُعطي ذلك في بيت المقدس مرّة وعند البيت المعمور أخرى لا سيّما ورواية البخاريّ فيها زيادة: «إناء العسل» والله أعلم , قال البخاريّ: ودَنا الجبّار فقربني حتّى كان قابَ قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أحوى (¬6) , قال ابن عباس: ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسْمَعُ فيه صريف الأقلام (¬7) , زاد غيره: وانقطع عنّي زَجَلُ المسبِّحِين وخُيّل إليّ أنّه مات مَن تحت العرش ورأيتُني كالقنديل المعلّق في الهواء (¬8)؛ ثمّ فُرضتْ عليّ الصلاة خمسين صلاةً كلّ يوم وليلة , فرجَعتُ فمررت على موسى , فقال: بم أُمِرتَ؟ فقلت: بخمسين صلاةً كلّ يوم وليلة , قال: فإن أمّتك لا تستطيع خمسين صلاةً كلّ يوم وليلةٍ , وإنّي ¬
والله قد جرَّبتُ الناسَ قبلك , وعالجتُ بني إسرائيل أشدَّ المعالجة , (فارجع إلى ربّك فسله التخفيف لأمّتك) (¬1) فرجَعتُ فوضع عني عشراً , فرَجعت إلى موسى فقال مثلَه , فرجَعْتُ فوَضع عنّي عشراً , فرجعت إلى موسى فقال مثله , فرجعت فوضع عني عشراً , فرجعت إلى موسى فقال مثله , فأُمرت بعشر صلوات كلّ يوم وليلة , فرجعت إلى موسى فقال: بما أُمِرتَ , فقلت: بعشر صلوات فقال مثله , فرجعت فأُمِرتُ بخمس صلواتٍ , فرجعتُ إلى موسى فقال: بما أُمِرتَ؟ قلت: بخمس صلوات كل يوم وليلة , قال: إن أمّتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم وليلة , وإنّي قد جرّبت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشدّ المعالجة (¬2) على أدنى منها فضيّعوها وترَكوا وأمّتك أضعف أجساداً وقلوباً وأبداناً وأسماعاً وأبصاراً فارجع فليخفّف عنك ربّك , كل ذلك يلتفت النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - إلى جبريل ليشير (¬3) عليه فلا يَكره ذلك جبريل , فرفعه جبريل عند الخامسة فقال: يا ربّ إن أمّتي ضعفاء أجسادهم وقلوبهم وأسماعهم وأبدانهم فخفّف عنهم , فقال الجبّار: يا محمّد , قال: لبيك وسعديك , قال: لا يبدّل القول لديّ , كما فرضته عليك في أُمِّ [ق 67/و] الكتاب , فكل حسنة بعشر أمثالها , فهي خمسون في أم الكتاب , وهي خمس عليك (¬4) , زاد مسلم: قال: يا محمّد إنها خمس صلوات كل يوم وليلة , لكل صلاة عشر , فذلك خمسون صلاة , ومن هَمَّ بحسنة فلم (¬5) يعملها كتبت له حسنة , وإن عملها كتبت له عشراً , ومن همّ بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه , فإن عملها كُتِبَت سيّئةً واحدةً (¬6) , قال البخاري: فرجع إلى موسى فقال: كيف فَعلت؟ قال: خَفَّف عنّا , أعطانا بكُلّ حسنة عشْرَ أمْثالها , فقال: موسى - عليه السلام -: قد والله راودتُ ¬
بني إسرائيل على أدنى من ذلك فتركوه , ارجع إلى ربّك فليخفّف عنك (¬1) , قال: قد سألت ربّي حتّى استحييت , ولكنّي أرضى وأسلّم , فلمّا جاوزت ناداني منادٍ: أمضيتُ فريضتي , وخفّفت عن عبادي فاهبط بسم الله (¬2) , قال مسلم: وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء فإذا موسى قائم يصلي وإذا عيسى قائم يصلي وإذا إبراهيم قائم يصلي فحانت الصلاة فأممتهم فلما فرغت من الصلاة قال قائل: (يا) (¬3) محمّد هذا مالك خَازن النار فسلم عليه فالتَفَتُّ إليه فبدأني بالسلام (¬4) , وفي رواية: ثم أخذ جبريل بيدي فأهبطني إلى الأرض فأراني عجائب الأرضين ومكامنها وما خلق الله تعالى فيها ثم ردّني (إلى مكة) (¬5) قبل طلوع الفجر , فلما أصبحت حدّثتُ قريشاً بما رأيتُ بعيني فكذّبوا ثم قال بعضهم اتركوه حتى نسأله عن آية فإنّ لنا رُكباناً بالشام فتسأله عنها فقالوا: أخبرنا يا محمّد عن عِيرنا فهي أهمّ إلينا هل لقيتَ منها من شيء , قال: نعم مررت على عير بني فلان وهي في الرّوحاء (¬6) وقد أضَلُّوا بَعِيراً لهم وهم في طلبه وفي رحلهم قدح من ماء فأخذته وقد عطشت فشربته ثم وضعْته كما كان فسلوهم هل وجدوا الماء في القدح حين رجعوا , فقال: هذه آية , قال: (و) (¬7) مررت بعِيرِ بني فلانٍ وفلانٌ وفلانٌ راكبان على قَعُودٍ لهما بذي مَرٍّ فنفَر بكرهما منّي فرَمى بفلان فانكسرت يده فسَلوه عن ذلك , فقال: هذه آية , فقالوا: أخبرنا عن عِيرِنا متى تجيء؟ , فقال: مررت بها في التنعيم , قالوا: فما عدتها وأحمالها وهيئتها؟ فمُثّلتْ له بمكانها بعدتها وأحمالها وهيئتها ومن ¬
فيها [ق 67/ظ] , فقالوا له: صفها لنا , فقال لهم: صفتها كذا وعدتها كذا وفيها فلان يقود جملاً أورق عليه غرارتان محيطتان يَطْلُعُ عليكم عند طلوع الشمس , قالوا: هذه آية وتبادروا الخروج نحو الثنيّة وهم يقولون: والله لقد قصّ محمّد شيئاً وبَيَّنَه حتى أتوا كَداء (¬1) (¬2) فجلسوا عليه ينظرون (¬3) إلى الشمس إذ (¬4) قال قائل منهم: هذه واللهِ الشمسُ قد طلعت وقال قائل منهم: هذه واللهِ الإبلُ قد طلعت يَقدمُها بَعِيرٌ أورق عليه غرارتان محيطتان فيها فلان وفلان كما قال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (ثم) (¬5) امتحنوا بعد ذلك ما قيل لهم عن عير بني فلان فوجدوا ذلك كما أخبرهم فما آمنوا ولا أفلحوا (¬6) , وقد كان أبو بكر الصّدّيق - رضي الله عنه - قد سافر إلى بيت المقدس وعرف ما فيه مع من (¬7) عرف ذلك فذهبوا إليه وقالوا له: إن صاحبك يقول: إنه ذهب إلى بيت المقدس في ليلة ورجع (¬8) , قال: أو قال ذلك , قالوا: نعم , قال: فأشهد إن قال ذلك فقد صدق , قالوا: أتصدّقه في أنه ذهَب إلى بيت المقدس في ليلة ثم رجع , قال: نعم أُصدّقه فيما هو أبعد من ذلك في خبر السماء غدواً وعشياً فسمّي بذلك الصديق (¬9) , ثم ذهب أبو بكر معهم إليه , فقالوا له: أخبرنا ما كان عن يمينك حين دخلته وما كان عن يسارك وما استقبلك فأخبرهم بذلك , فقال أبو بكر الصّدّيق: صَدَقْتَ؛ وفي صحيح مسلم قال: «لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن مسراي , فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم ¬
أُثبتها , فكربت كربةً ما كُرِبتُ مثلها (¬1) قط - قال: - فرفعه الله تعالى إليّ انظر إليه ما يسألوني عن شيء إلا أنبأتهم به» (¬2) , وحديثُ الإسراء مخرَّج في الصحاح وغيرها بطرق وعبارات متنوعة , وفيه من المعجزات والأمور التي اختصّ بها محمد - صلى الله عليه وسلم - دون الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ما تكلّ الألسنة عن وصفه وشرحه , وقد رواه الإمام أبو إسحاق الثّعلبي في تفسيره وساق طرقه ولخّص المتن تلخيصاً حسناً أدخل حديث بعض الرواة في بعض قال: "قالوا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[ق 68/و]: لما كانت ليلة أسري بي وأنا بمكة بين النائم واليقظان , جاءني جبريل - عليه السلام - فقال: يا محمد قم فقمت , فإذا جبريل ومعه ميكائيل عليهما السلام , فقال جبريل لميكائيل: ائتني بطست من ماء زمزم لكيما أطهرَ قلبَه وأشرَح صدره - قال: - فشق بطني فغسله ثلاث مرات , واختلف إليه ميكائيل بثلاث طساس من ماء زمزم , فشرح صدري ونزع ما كان (فيه) (¬3) من غلّ وملأه علماً وحلماً وإيماناً وختم بين كتفيَّ بخاتم النبوة , ثم أخذ جبريل بيدي حتى انتهى بي إلى سقاية زمزم , فقال لملك: ائتني بتور (¬4) من ماء زمزم ومن ماء الكوثر , فقال: توضّأ , فتوضّأت , ثم قال لي: انطلق يا محمد , قلت: إلى أين؟ قال: إلى ربك وإلى رب كل شيء , فأخذ بيدي وأخرجني من المسجد فإذا أنا بالبراق دابّة فوق الحمار ودون البغل خدّه كخدّ الإنسان وذَنَبُه كَذنب البعير وعُرفه (¬5) كعرف الفرس وقوائمُه كقوائم الإبل وأظلافه كأظلاف البقر صدره كأنه ياقوتة (¬6) حمراء وظهره كأنّه درّة بيضاء عليه رحل من رحائل الجنة , وله جناحان في فخذيه يَمرُّ مثل البرق خطوه منتهى طَرْفه فقال لي: اركب , وهي دابّة إبراهيم عليه الصلاة والسلام التي كان يزور عليها البيت الحرام - قال: - فلما وضعت يدي عليه تشامسَ واستصعَب علي , فقال جبريل: مَه يا براق , فقال البراق: يا جبريل مسّ صُفراً , فقال جبريل: يا محمد هل مسست صفراً , قال: لا ¬
والله إلا (¬1) أني مررت يوماً على يساف ونائلة فمسحت يدي على رؤوسهما وقلت: إن قوماً يعبدونكما من دون الله لفي ضلال [مبين] (¬2) , فقال جبريل: يا براق أما تستحيي فوالله ما ركبك منذ كنت قط نبيّ أكرم على الله - عز وجل - من محمد - قال: - فارتعش البراق وانصبّ عرقاً حياء مني , ثم خفض لي حتى لزق بالأرض , فركبته واستويت عليه فامرّ بي جبريل - عليه السلام - نحو المسجد الأقصى يخطُو البراقُ مدَّ البصر وجبريل - عليه السلام - إلى جنبي لا يفوتني ولا أفوته , فبينا أنا في مسيري إذ أتاني نداء عن يميني فقال: يا محمد على رسلك اسألك يقولها ثلاثاً فلم أثْوِ عليه فجازوته [ق 68/ظ] , ثم أتاني نداء عَنْ يساري فقال: يا محمد على رسلك أسألك يقولها ثلاثاً فلم أثو عليه ثم مضيت حتى جاوزته , فإذا أنا بامرأة عجوز رفعتْ لي عليها من كل زينة وبهجة تقول (¬3): يا محمد إليّ , فلم التفت إليها , فلما جاوزتها قلت: يا جبريل من هذا الذي ناداني عن يميني؟ قال: داعية اليهود والذي نفسي بيده لو أجبته لتهودت أمتك من بعدك , والذي ناداك عن يسارك داعية النصارى , والذي نفسي بيده لو أجبته لتنصرت أمّتك من بعدك , وأما التي رفعت لك بهجتها وزينتها فهي الدنيا لو لوَيتَ عليها لاختارت أمتك الدنيا على الآخرة , ثم أُتِيتُ بإناءين: أحدهما لبن والآخر خمر , فقيل لي: اشرب أيّهما شئت , فأخذت اللبن فشربته , فقال جبريل: أصبت الفطرة أنت وأمّتك , أما إنك لو أخذت الخمر لغوت أمتك من بعدك - قال: - ثم سار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسار جبريل معه فأتى على قوم يزرَعُون ويحصدون في يوم واحد , كلّما حصدوا عاد كما كان , فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لجبريل: من هؤلاء؟ فقال: هؤلاء المجاهدون في سبيل الله تُضاعَف لهم الحسنة بسبعمائة ضعف , وما أنفقوا من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين , (قال) (¬4): ثم أتى على قوم تُرضَخُ رؤوسُهم بالصخر كلّما رضخت عادت كما كانت لا يُفتر عنهم من ذلك شيئاً , قال: ما هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين تثاقل رؤوسُهم عن الصّلاة المكتوبة , ثم ¬
أتى على قوم أقْبَالهم رقاع وعلى أدبارهم رقاع يسرحون كما يسرح الأنعامُ إلى الضريع والزقوم ورضف جهنم وحجارتها , فقال: ما هؤلاء يا جبريل؟ فقال (¬1): هؤلاء الذين لا يؤدّون صدقات أموالهم وما ظلمهم الله وما الله بظلاّم للعبيد , ثم أتى على قوم بين أيديهم لحم في قِدرٍ نضيجٌ طيبٌ ولحم آخر خبيثٌ , فجعلوا يأكلون الخبيث ويَدَعون النّضيج الطيب , قال: ما هؤلاء يا جبريل؟ قال: هذا الرجل من أمتك تكون عنده المرأة حلالاً طيباً فيأتي امرأةً خبيثةً ويبيت معها حتى يصبح , والمرأة تقوم من [ق 69/و] عند زوجها حلالاً طيّباً فتأتي الرجلَ الخبيث فتبيت معه حتى تصبح , ثم أتى على خشبة في الطريق لا يمُرُّ بها ثوب إلا شقته ولا شيء آخر إلا فتّته , فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا مَثَلُ أُمّتك (¬2) يقعدون على الطريق فيقطعونه ثم تلا: {وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ ... } الآية [الأعراف: 86] ثم أتى على رجل قد جَمَع حُزمةً عظيمةً لا يستطيع حملها وهو يزيد عليها , قال (¬3): ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الرجل من أمتك عليه أماناتُ الناس لا يقدر على أدائها وهو يَزيدُ عليها , ثم أتى على قوم تُقرَضُ ألسِنَتُهم وشفاههم بمقاريض من حديد , كلّما قُرِضَتْ عادَتْ كما كانت , قال: ما هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء خطباء الفتنة , ثم أتى على جُحْرٍ صغير يخرج منه ثور عظيم فجعَل الثور يريد أن يرجع من حَيثُ خرج فلا (¬4) يستطيع , قال: ما هذا؟ قال: هذا الرجل من أمّتك يتكلم بالكلمة العظيمة ثم يندم عليها فلا يستطيع أن يردّها , قال: ثم أتى على وادٍ فوجدَ ريحاً باردةً طيّبةً وصوتاً , قال: ما هذه الريح الطّيّبة وما هذا الصوت؟ قال (¬5): هذا صوت الجنة , تقول: ربّ ائتني بما وعدتني فقد كثر غُرَفي واستبرقي وحريري وسندسي وعبقري (¬6) ولؤلؤي ومرجاني وفضّتي وأكوابي وصحافي وأباريقي ¬
وفواكهي وعسلي ولَبَني وخمري ومائي , فآتني بما وعدتني , فقال: لكِ كلّ مؤمن ومؤمنةٍ من آمن بي وبرسلي وعمل صالحاً ولم يشرك بي ولم يتخذ من دوني أنداداً ومن خشيَني فهو آمن , ومن سألني أعطيته , ومن أقرضني جزيته , ومن توكّل عليّ كفيته , إنّي أنا الله لا إله إلا أنا لا أخلف الميعاد , قد أفلح المؤمنون تبارك الله أحسن الخالقين , قالت: قد رضيتُ - قال: - ثم أتى على وادٍ فسمع صوتاً منكراً ووجد ريحاً منتنه , فقال: ماهذا يا جبريل؟ قال: هذا صوت جهنم تقول: ربّ ائتِني بما وعدتني فقد كَثرَتْ سلاسلي وأغلالي وسعيري وضريعي وحَمِيني وغساقي وعذابي , وقد بَعُد قعري واشتدّ حرّي [ق 69/ظ] فآتني ما وعدتني , قال: لكَ كل مشرك ومشركة وكافر وكافرة وكلّ خبيث وخبيثةٍ وكل جبّار لايؤمن بيوم الحساب , قالت: قد رضيت؛ ثم سار ومعه جبريل , فقال له جبريل: انزل فصَلِّ , قال: فنزلت وصلّيت , فقال: أتدري أين صليتَ؟ , صليت (¬1) بطيبة وإليه المُهَاجَرُ إن شاء الله , ثم قال: انزل فصل , (قال: فنزلت فصليت) (¬2) , قال: أتدري أين صليتَ؟ صلّيتَ بطور سيناء حيث كلّم الله موسى , ثم قال: انزل فصل , فنزلت فصليت , قال: أتدري أين صليت؟ صليتَ ببيت لحم حيث وُلد عيسى , قال: ثم مضينا حتى أتينا بيت المقدس فلما انتهينا إليه إذا أنا بملائكة قد نزلوا من السماء يتلقونني بالبشارة والكرامة من عند رب العزة يقولون لي: السلام عليك يا أول (و) (¬3) يا آخر (و) (¬4) يا حاشر , قلت: يا جبريل ما تحيّتهم إياي؟ قال: إنك أول من تنشَقُ عنه الأرض وعن أمتك , وأول شافع وأول مشفع , وأنك آخر الأنبياء , وأن الحشر بك وبأمتك -يعني: حشر القيامة- , ثم جاوزناهم حتى انتهينا إلى باب المسجد , فأنزلني جبريل وربط البراق بالحلقة التي كانت يربط بها الأنبياء عليهم السلام بخطام من حرير الجنة , فلما دخلت الباب إذا أنا بالأنبياء والمرسلين. وفي حديث أبي العالية: أرواح الأنبياء الذين بعثهم الله قبلي من لَدُن إدريس ونوح إلى ¬
عيسى قد جمعهم الله - عز وجل - , فسلموا عليّ وحيّوني بمثل تحيّة الملائكة , قلت: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: إخوتك الأنبياءُ [و] (¬1) زَعمت قريش أنّ لله شريكاً , واليهود والنصارى أن لله تعالى ولداً , سل هؤلاء المرسلين هل كان لله شريك؟ فذلك قوله (¬2) - عز وجل - {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزُّخرُف: 45] فأقرّوا بالربوبية لله - عز وجل - , ثم جمعهم والملائكة صُفوفاً فقدّمني وأمرني أن أصلي بهم , فصليت بهم ركعتين , ثم إن الأنبياء أثنَوا على ربّهم , فقال إبراهيم: الحمد لله الذي اتخذني خليلاً وأعطاني ملكاً عظيماً وجعلني [ق 70/و] أُمة قانتاً يؤتم بي وأنقذني من النار وجعلها عليّ برداً وسلاماً , ثم إن موسى عليه الصلاة والسلام أثنى على ربّه فقال: الحمد لله رب العالمين الذي كلمني تكليماً وجعل هلاك فرعون على يدي ونجّى بني إسرائيل على يدي , وجعل من أمّتي قوماً يهدون بالحق وبه يعدلون؛ ثم إنّ داود - عليه السلام - أثنى على ربه فقال: الحمد لله الذي جعل لي ملكاً عظيماً وعلّمني الزبور وألَانَ (لي) (¬3) الحديد وسخّر لي الجبال يسبّحن والطير وأعطاني الحكمة وفصل الخطاب , ثم إن سليمان أثنى على ربه فقال: الحمد لله الذي سخّر لي الرياح وسخر لي جنود الشياطين يعملون لي ما شئت من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات , وعلمني منطق الطير وآتاني من كل شيء فضلاً وآتاني ملكاً عظيماً لا ينبغي لأحد من بعدي وجعل ملكي مُلكاً طيباً ليس عليّ فيه حساب؛ ثم إن عيسى - عليه السلام - أثنى على ربه سبحانه فقال: الحمد لله رب العالمين الذي جعلني كلمة منه وجعل مثلي مثل آدم خلقه من تراب ثم قال له: كن فيكون وعلمني الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وجعلني أخلق من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله وجعلني أبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله ورفعني وطهرني وأعاذني وأمّي من الشيطان ولم يكن للشيطان علينا سبيل؛ ثم إن محمّداً - صلى الله عليه وسلم - قال: كلكم قد أثنى على ربّه وإنّي مُثن على ربّي فقال: ¬
الحمد لله الذي أرسلني رحمة للعالمين وكافةً للناس (¬1) بشيراً ونذيراً وأنزل عليّ الفرقان فيه تبيان كلّ شيء وجعل أمّتي خير أمّة أخرجت للناس وجعل أمّتي أمّة وسطاً وجعل أمّتي هم الأولون والآخرون وشرح لي صدري ووضع عنّي وزري ورفع لي ذكْري وجعلني فاتحاً وخاتماً , فقال إبراهيم - عليه السلام -: بهذا فَضَلَكُم محمّد؛ ثم أتى بآنيةٍ ثلاثة مغطاة أفواهها: إناء فيه ماء , فقال له: اشرب فشرب منه يسيراً , ثم دفع إليه إناء آخر فيه لبن , فقيل له: اشرب فشرب منه حتى روي , ثم دُفع إليه إناء آخر [ق 70/ظ] فيه (خمر) (¬2) , فقيل له: اشرب , فقال: لا أُريده قد رَويتُ , فقال له جبريل: قد أصبتَ أما إنها سَتُحرَّمُ على أمّتك , ولو شربت منها لم يتبعك من أمّتك إلا قليل (¬3) , ولو رويت من الماء لَغَرِقتَ وغَرِقت أمّتك , ثم أخذ جبريل بيدي فانطلق بي إلى الصخرة فصعد عليها فإذا معراج إلى السّماء لم أرَ مثله حسناً وجمالاً لم ينظر الناظرون إلى شيء قط أحسن منه , ومنه تعرج الملائكة , أصله على صخرة بيت المقدس ورأسه ملتصق بالسّماء إحدى عارضتيه ياقوتة حمراء والأخرى زبرجدة خضراء درجة من ذهب ودرجة من زمرد مكلّل بالدرّ والياقوت وهو المعراج الذي يَبدُو منه ملك الموت لقبض الأرواح إذا رأيتم ميّتكم شخص بصره فتنقطع عنه المعرفة إذا عاينه لِحُسنه (¬4) , فاحتملني جبريل حتى وضعني على جناحه ثم ارتفع بي إلى السّماء الدنيا من ذلك المعراج , فقرع الباب , فقيل: مَن (ذا) (¬5)؟ قال: أنا جبريل , قيل: ومن معك؟ قال: محمد , قال: (أقد) (¬6) بعث محمّد؟ قال: نعم , قالوا: مرحباً به حيَّاه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء ففتح الباب فدخلنا (¬7) , قال: ثم مررت بملك نصف جسده مما يلي رأسَه نار والنصف الآخر ثلج وما بينهما رَتْقٌ فلا النار تذيب الثلج ولا الثلج ¬
يطفئ النّار وهو قائم ينادي بصوت له حسن رفيع يقول: اللهمّ مُؤلِّفَ بَيْن الثلج والنار ألّف بين قلوب عبادك المؤمنين , فقلت: يا جبريل من هذا؟ قال: ملك من الملائكة يقال له حَبِيب وكله الله - عز وجل - بأكناف السموات وأطراف الأرضين ما أنصَحَه لأهل الأرض (هذا) (¬1) قوله منذ خلق , قال: ثم مررت بملك آخر جالس على كرسي قد جُمِعَ له الدنيا بين ركبتيه وفي يديه لوح مكتوب من نور ينظر فيه لا يلتفت يميناً وشمالاً ينظر فيه كهيئة الحزين , فقلت: من هذا يا جبريل؟ وما مررت بملك أنا أشدّ خوفاً منه منى من هذا , قال: وما يمنعك كلنا بمنزلتك هذا ملك الموت دائبٌ في قبض الأرواح وهو من أشد الملائكة [ق 71/و] عملاً وأدأبهِم , قلت: يا جبريل كل من مات ينظر [فيه] (¬2) إلى هذا؟ قال: نعم , قلت: كفى بالموت طامةً , فقال: يا محمّد ما بعد الموت أطمّ وأعظم , قلت: يا جبريل ادنني من ملك الموت أُسَلِّم عليه وأسأله , فأدناني منه فسلمت عليه فأومئ إلي , فقال له جبريل: هذا محمد نبيّ الرحمة ورسول العرب فرحّب بي وحيّاني وأحسن بشارتي وإكرامي , وقال: أبشر يا محمد فإني أرى الخير كله في أمتك , فقلت: الحمد لله المنّان بالنعم , ما هذا اللوح الذي بين يديك؟ (قال) (¬3): مكتوب فيه آجال الخلائق , قلت: فأين أسماء من قبضت أرواحهم في الدهور الخالية؟ قال: تلك الأرواح في لوح آخر قد أعلمت عليها , وكذلك أصنع بكل ذي روح إذا قبضتُ روحَه حَلَّقتُ [عليها] (¬4) , فقلت: يا ملك الموت سبحان الله كيف تقدر على قبض أرواح جميع أهل الأرض وأنت في مكانك هذا لا تبرح؟ قال: ألا ترى أن الدنيا كلها بين ركبتيَّ وجميع الخلائق بين عينيّ ويداي تبلغان المشرق والمغرب وخلفهما , فإذا نفدَ أجل عبد من عباد الله نظرت إليه وإلى أعواني فإذا نظر (¬5) أعواني من الملائكة أني نظرت إليه عرفوا أنه مقبوض فعمدوا إليه يعالجون نزع روحه فإذا بلغ الروحُ الحلقومَ علمتُ ذلك ولا يخفى عليَّ شيء من أمري , (مَددت يدي إليه فقبضتُه فلا يَلِي ¬
قبضَه غيري , فذلك أمري) (¬1) وأمر ذوي الأرواح من عباد الله , قال: فأبكاني حديثُه وأنا عنده , ثم جاوزنا فمررنا بملك آخر ما رأيت من الملائكة خلقاً مثله عابس كالح الوجه كريه المنظر شديد البطش ظاهر الغضب , فلما نظرت إليه رُعبت منه (¬2) جدّاً , فقلت (¬3): يا جبريل من هذا؟ فإنّي (¬4) رُعبت [منه رعباً] (¬5) شديداً قال: فلا تعجب أن تُرعَب منه كلُّنا بمنزلتك في الرُّعب منه , هذا مالك خازن جهنم لم يتبسَّم قط ولم يزل منذ ولّاه الله جهنَّم يزداد كلَّ يوم غضباً وغيظاً على أعداء الله تعالى وأهل معصيته [لينتقم منهم] (¬6) , (قلت) (¬7): ادنني منه , فأدناني منه فسلم عليه جبريل فلم يرفع رأسه فقال جبريل: يا ملك هذا محمّد رسول [العرب] (¬8) [ق 71/ظ] فنظر إليَّ وحيّاني وبشّرني بالخير , فقلت: مُذ كَم أنت وَاقِدٌ على جهنم؟ فقال: منذ خُلقتُ حتى الآن وكذلك حتى تقوم الساعة , قلت: يا جبريل مُره فليُرني طريقاً من النار فأمره ففعَل فخرج منه لهبٌ ساطع أسوَد معه دخان كدر مُظلم امتلأ منه الآفاق فرأيت هولاً عظيماً وأمراً فظيعاً أعجز عن صفته لكم فغشي عليَّ وكاد يذهب نفسي , فضمّني جبريل إليه وأمره أن يَرُدّ النارَ فردّها , فجاوزناها فمررنا بملائكة كثيرة لا يحصِي عدتَهم إلا اللهُ - عز وجل - الملك الواحد منهم له وجوه بين كتفيه ووجوه في صدره في كل وَجهٍ أفواهٌ وَألسن , فهو يحمد الله ويسبّحه بتلك الألسن , ورأيت من أجسامهم وخِلَقهم وعبادتهم أمراً عظيماً , ثم جاوزنا فإذا برجل تام الخلق لم ينقص من خلقه شيء كما ينقص من خليقة (¬9) الناس عن يمينه باب تخرج منه ريح طيّبة وعن شماله باب تخرج منه ريح خبيثة إذا نظر إلى الباب الذي عن ¬
يمينه ضحك واستبشر وإذا نظر إلى الباب (الذي) (¬1) عن شماله بكى وحزن , فقلت: يا جبريل من هذا وما هذان البابان؟ قال: هذا أبوك آدم وهذا الباب عن يمينه باب الجنة إذا نظر إلى من يدخل من ذريّته الجنة ضحك واستبشر , والباب الذي عن شماله باب جهنم إذا نظر إلى من يدخل من ذريّته جهنم بكى وحزن , قال: ثم صعدنا إلى السماء الثانية فاستفتح جبريل , فقيل: من هذا؟ قال: جبريل , قيل: ومن معك؟ قال: محمد , قالوا: وقد أرسل إليه , قال: نعم , قالوا: حيّاه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء فدخلنا فإذا بشابين , فقلت: يا جبريل من هذان [الشابّان؟ قال: ] (¬2) عيسى بن مريم ويحيى بن زكريا ابنا الخالة , قال: ثم صعد بي إلى السماء الثالثة فاستفتح فقالوا: من هذا؟ قال: هذا جبريل , قيل (¬3): ومن معك؟ قال: محمد , قالوا: وقد أرسل إلى محمد (¬4) , قال: نعم , قالوا: حيّاه الله من أخٍ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء , فدخلنا فإذا برجل قد فُضّل على الناس بالحسن كما فضل القمر ليلة البدر على سائر [ق 72/و] الكواكب , قلت: مَن هذا يا جبريل , قال: هذا أخوك يوسف , قال: ثم صعد بي إلى السماء الرابعة فاستفتح , قالوا: مَن هذا؟ قال: جبريل , قالوا: ومن معك؟ قال: محمد , قالوا: وقد أرسل محمد؟ قال: نعم , قالوا: حيّاه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء , فدخلنا فإذا برجل فقلت: من هذا يا جبريل , قال: هذا إدريس رفعه الله مكاناً عليّاً وهو مسند ظهره (¬5) إلى دواوين الخلائق التي فيها أمورهم , قال: ثم صعد بي إلى السّماء الخامسة فاستفتح قالوا: من هذا؟ قال: هذا جبريل , قالوا: ومن معك؟ قال: محمد , قالوا: وقد أرسل محمّد , قال: نعم , قالوا: حيّاه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء , قال: ثم دخلنا فإذا برجل جالس وحوله قوم يَقُصُّ عليهم , قلت: يا جبريل من هذا؟ ومن هؤلاء الذين حوله؟ قال: ¬
هذا هارون المُحَبّبُ في قومه وهؤلاء الذين حوله بنو إسرائيل , قال: ثم صعدنا إلى السماء السادسة فاستفتح , فقالوا: مَن هذا؟ قال: جبريل (¬1) , قالوا: ومن معك؟ قال: محمد , قالوا: وقد أرسل محمد؟ قال: نعم , قالوا: حيّاه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء , ثم دخلنا فإذا برجل جالس فجاوزناه فبكى الرجل فقلت: يا جبريل من هذا؟ قال: هذا موسى , قلت: فما له يبكي؟ قال: قال: يزعم بنو إسرائيل أني أكرم بني آدم على الله , وهذا برجل من بني آدم [و] (¬2) قد خَلَفني في دنياه وأنا في آخرتي فلو أنه بنفسه لم أبال ولكن مع كلّ نبيّ أمّته , قال: ثم صعد بي إلى السّماء السابعة فاستفتح فقيل: من هذا؟ قال: جبريل , فقيل (¬3): ومن معك؟ قال: محمد , قالوا (¬4): وقد أرسل محمد؟ قال: نعم , قالوا: حيّاه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء , ثم دخلنا فإذا برجل أشمط جالس على كرسي عند باب الجنّة وعنده قوم جلوس بيض الوجوه أمثال القراطيس , وقوم في ألوانهم شيء فقام الذين في ألوانهم شيء فدخلوا نهراً فاغتسلوا فيه فخرجوا وقد خلص ألوانهم [ق 72/ظ] وصارت مثل ألوان أصحابهم فجاءوا فجلسوا إلى أصحابهم , فقلت: يا جبريل من هذا الأشمط ومن هؤلاء وما هذه الأنهار؟ قال: هذا أبوك إبراهيم أول من شمط (¬5) على (الأرض) (¬6) , وأما هؤلاء البيض الوجوه فقوم لم يلبسوا إيمانهم بظلم , وأما هؤلاء الذين في ألوانهم شيء فقوم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيّئاً فتابوا فتاب الله عليهم , وأمّا الأنهار الثلاثة: فأدناها رحمة الله والثاني نعمة الله والثالث سقاهم ربّهم شراباً طهوراً , قال: وإذا إبراهيم مستندٌ إلى بيت فسألت جبريل , فقال: هذا البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك إذا خرجوا منه لم يعودوا فيه آخر ما عليهم , قال: فأتى بي جبريل حتى انتهينا إلى سدرة المنتهى فإذا أنا بشجرة لها ¬
أوراق الواحدة منها مغطيَة للدنيا بما فيها وإذا نبقها مثل قلال هجر يخرج من أصلها أربعة أنهار: نهران ظاهران ونهران باطنان , فسألت عنها جبريل فقال: أما الباطنان: ففي الجنة , وأما الظاهران: فالنّيل والفرات , ويخرج أيضاً من أصلها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من خمر لذّة للشاربين وأنهار من عسل مصفّى وهي (¬1) على حد السماء السابعة مما يلي الجنة وعروقها (¬2) وأغصانها تحت الكرسيّ , قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: انتهيت إلى سدرة المنتهى وأنا أعرف أنّها سدرة [المنتهى] (¬3) أعرف ورقها وثمرها فغشيها من نور الله تعالى ما غشيها (¬4) , [وغيشتها] (¬5) الملائكة كأنّهم جراد من ذهب من خشية الله , فلمّا غشيها ما غشيها (¬6) تحولت حتى ما يستطيع أحد ينعَتُها , قال: وفيها ملائكة لا يعلم عدتهم إلا الله - عز وجل - , ومقام جبريل في وسطها فلما انتهيت إليها قال لي جبريل: تقدم , فقلت: يا جبريل تقدم , قال: بل تقدم يا محمد فإنك أكرم على الله منّي , فتقدمت وجبريل على أثري حتى انتهى بي إلى حجاب (¬7) فراش الذهب فحرك [الحجاب] (¬8) , فقيل: من ذا؟ قال: أنا جبريل ومعي محمد , قال الملك: الله أكبر فأخرج يدَه من تحت الحجاب فاحتملني وتخلف جبريل , فقلت له: إلى أين؟ قال: يا محمد وما منّا إلا له مقام معلوم , إن هذا منتهى الخلائق وإنما أّذن لي في الدنو من الحجاب لاحترامك و [ق 73/و] إجلالك , قال: فانطلق بي الملك في أسرع من طرفة عين إلى حجاب اللؤلؤ فحرك الحجاب , فقال الملك من وراء الحجاب: مَن هذا؟ قال: أنا صاحب فراش الذهب وهذا محمد رسول العرب معي , فقال الملك: الله أكبر فأخرج يده من تحت الحجاب فاحتملني حتى وضعني بين يديه فلم أزل (¬9) كذلك (¬10) من ¬
حجاب إلى حجاب حتى جاوزوا بي سبعين حجاباً غلظ كل حجاب مسيرة خمسمائة عام وما بين الحجاب إلى الحجاب مسيرة خمسمائة عام , ثم دلّى لي رَفرَفٌ أخضر يغلب ضوءه ضوءَ الشمس فالتمع بصري ووُضِعتُ على ذلك الرفرف (ثم) (¬1) احتملني حتى وَصَل بي إلى العرش , فلما رأيت العرشَ اتضع أمْرُ كل شيء عند العرش , فقرّبني الله - عز وجل - إلى سَنَدِ العرش وتدلّى قطرة من العرش فوقعت على لساني , فما ذاق الذائقون شيئاً أحلى منها , فأنبأني الله - عز وجل - بها نبأ الأولين والآخرين وأطلق الله لساني بعد ما كَلَّ (من) (¬2) هيبة الرحمن , فقلت: التحيات لله والصلوات [و] (¬3) الطيبات , فقال الله جل ثناؤه: سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته , فقلت: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين , فقال الله - عز وجل -: يا محمد هل تعلم فيم اختصم (¬4) الملأ الأعلى؟ فقلت: أنت أعلم يا رب بذلك وبكل شيء وأنت علام الغيوب , قال: اختلفوا في الدرجات والحسنات , فهل تدري يا محمد ما الدرجات وما الحسنات؟ قلت: أنت أعلم يا رب , قال: الدرجات إسباغ الوضوء في المكروهات والمشي على الأقدام إلى الجماعات وانتظار الصلوات بعد الصلوات والحسنات إفشام السلام وإطعام الطعام والتهجد بالليل والناس نيام ثم قال لي: يا محمد آمن الرسول , قلت: نعم أي ربّ , قال: ومَن , قلت: والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لانفرق بين أحد من رسله كما فرّقَتِ اليهود والنصارى , فقال: ماذا قالوا , قلت: قالوا: سمعنا قولك وأطعنا أمرَك , قال: صدقت فسَل تُعط , قال: فقلت: غفرانك ربنا وإليك المصير , قال: قد غفرت لك ولأمتك , سل تعط , قلت: ربنا لا تؤخذنا إن نسينا أو أخطأنا , قال: قد رفعت [ق 73/ظ] الخطأَ والنسيان عنك وعن أمّتك وما استكرهوا عليه , قلت: ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملتَه على الذين من قبلنا -يعني: اليهود- قال: لك ذلك ولأمّتك , ¬
قلت: ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به , قال: قد فعلت ذلك بك وبأمّتك , [ثم] (¬1) قلت: ربّنا اعف عنّا من الخسف واغفر لنا من القذف وارحمنا من المسخ أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين , قال: قد فعلت ذلك بك وبأمّتك , ثم قيل لي: سل , فقلت: يا ربّ اتّخذت إبراهيم خليلاً , وكلّمت موسى تكليماً , ورفعت إدريس مكاناً عليّاً , وآتيتَ سليمان مُلكاً عظيماً , وآتيت داود زبوراً , فما لي يا ربّ؟ فقال لي ربّي - عز وجل -: (يا محمد) (¬2) اتخذتك حبيباً كما اتخذت إبراهيم خليلاً , وكلّمتك كما كلّمت موسى (تكليماً) (¬3) , وأعطيتك فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة وكانا من كنوز عرشي ولم أعطها نبيّاً قبلك , وأرسلتك إلى أهل الأرض جميعاً أبيضهم وأسودهم (¬4) (و) (¬5) إنسهم وجنّهم ولم أرسل إلى جماعتهم نبيّاً قبلك , وجعلت الأرض كلّها برّها وبحرها طهوراً (¬6) (وَ) (¬7) مسجداً لك ولِأُمّتك , وأطعمتُ أمّتك الفيءَ ولم أطعمه أُمّة قبلهم , ونصرتك بالرعب على عدوّك مسيرة شهر , وأنزلت عليك سيّد الكتب كلها ومهيمناً عليها قرآناً قرقناه , ورفعت لك ذكْرك حتى تُذكَر كلّما ذُكِرْتُ من شرائع ديني , وأعطيتك مكان التوراة المثاني ومكان الإنجيل المئين ومكان الزبور الخواتيم وفضلتك بالمفصّل , وشرحت لك صدرك ووضعت عنك وزرك , وجعلت أمّتك خير أُمّةٍ أُخرجت للناس وجعلتهم أمّة وسطاً وجعلتهم الأوّلين وهم الآخرون فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين , ثم أفضى (إليّ) (¬8) بعدها أموراً لم يؤذن لي أن أخبركم بها , ثم فُرِضت عليّ وعلى أمّتي في كل يوم وليلة خمسون صلاةً فلما عهد إليّ بعهده وتركني عنده ما شاء ¬
قال (لي) (¬1): ارجع إلى قومك (¬2) فبلّغهم عنّي , فحَمَلني الرفرفُ (الأخضرُ) (¬3) الذي كنت (عليه) (¬4) يخفضني ويرفعني حتّى أهوى بي إلى السدرة المنتهى فإذا أنا بجبريل أُبصره خلفي بقلبي كما أبصره (بعيني) (¬5) أمامي , فقال لي جبريل: أبشِر يا محمّد فإنّك خير خلق الله وصفوته من النّبيّين [ق 74/و] حيّاك الله بما لم يُحَيّ به أحداً من خلقه لا ملكاً مقرّباً ولا نبيّاً مرسَلاً ولقد بلّغك مكاناً لم يَصِل إليه أحد من أهل السموات والأرض فهنّأك (¬6) الله كرامته وما حَباك (به) (¬7) من المنزلة الأثيرة والكرامة الفائقة فخذ ذلك بشكْر (¬8) فإن الله (منعم) (¬9) يحبّ الشاكرين , فحمدتُ الله تعالى على ذلك , ثم قال لي جبريل: انطلق يا محمد إلى الجنة حتى أُريك ما لك فيها فتزداد بذلك في الدنيا زهادة إلى زهادتك وفي الآخرة رغبة إلى رغبتك فسرنا نهوي منفضّين أسرع من السّهم والرّيح حتى وصلنا (¬10) بإذن الله تعالى إلى الجنة فهدَأت نفسي وثاب إليّ فؤادي وأنشأتُ اسأل جبريل عما كنتُ رأيت في عليّين (¬11) من البحور والنار والنور وغيرها , فقال: سبحان الله تلك سرادقات عرش (¬12) رب العزة التي أحاطت بعرشه فهي سترة للخلائق من نور الحجب ونور العرش , لولا ذلك لأحرق نورُ العرش ونور الحجب مَن تحت العرش من خلق الله وما لم تره أكثر وأعجب , قلت: سبحان الله العظيم ما أكثر عجائب خلقه , قلت: ومَن الملائكة الذين رأيتهم في تلك البحور الصفوف بعد الصفوف كأنهم بنيان ¬
مرصوص؟ قال: يا رسول الله هم الروحانيون الذين يقول الله - عز وجل -: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا} [النبأ: من الآية 38] (و) (¬1) منهم الروح الأعظم ثم إسرافيل بعد ذلك , قلت: يا جبريل فمن الصف الواحد الذين في البحر الأعلى فوق الصفوف كلها قد أحاطوا بالعرش؟ قال: هم الكروبيون أشراف الملائكة وعظماؤهم وما يجترئ أحد من الملائكة أن ينظر إلى ملك من الكروبيين وهم أعظم شأناً من أن أطيق (¬2) صفتهم لك (¬3) وكفى بما رأيت منهم , ثم طاف بي جبريل في الجنة بإذن الله تعالى فما تَرَكَ فيها مكاناً إلا رأيته وأخبرني عنه فرأيت القصور من الدرّ والياقوت والزبرجد ورأيت الأشجار من الذهب الأحمر , قضبانهن اللؤلؤ , عروقهن الفضة راسخة في المسك , فَلَأنا أعرف بكل درجة وقصر وبيت وغرفة وخيمة وثمر في الجنة مِني بما في مسجدي هذا , ورأيت نهراً يخرج من أصله (ماء) (¬4) [ق 74/ظ] أشد بياضاً من اللبن وأحلى (¬5) من العسل (¬6) على رضراض (¬7) دُرٍّ وياقوت ومسك أذفر , فقال جبريلُ: هذا الكوثر الذي أعطاك الله - عز وجل - وهُوَ التسنيم يخرج من تحت العرش إلى دُورهم وقصُورهم (¬8) وبيُوتهم وغُرَفهم يَمزُجُون بها أشربتهم من العَسَل واللّبن والخمر وذلك قوله: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان: 6] ثم انطلقَ بي يطوف في الجنة حتى انتهينا إلى شجرة لم أر في الجنة مثلها فلما وقفتُ تحتها رفعتُ رأسي فإذا أنا لا أرى شيئاً من خلق ربي - عز وجل - غيرها لعظمها وتفرق أغْصَانها ووجدتُ فيها ريحاً طيبةً لم أشمّ في الجنة ريحاً أطيبَ منها فقلّبتُ بَصري فيها فإذا ورقها حُلَلٌ طرائف من ثياب الجنة من بين أبيض وأحمر وأصفر وأخضر ¬
وثمار أمثال القلال العظام من كل ثمرة خلق الله سبحانه [- عز وجل -] (¬1) في السموات والأرضين من ألوان شتى وطُعُم شتى وريح شتى , فعجبت من تلك الشجرة وما رأيت من حسنها , قلت: يا جبريل ما هذه الشجرة؟ قال: هذه التي ذكر الله - عز وجل - {طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} [الرعد: من الآية 29] ولكثير من أمتكَ ورهطك في ظلها حسن مقيل ونعيم طويل , ورأيت في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سَمعت ولا خطر على قلب بشرٍ كل ذلك مفروغٌ عنه مُعَدّ وإنما تُنتَظَر (¬2) به صاحبه من أولياء الله - عز وجل - فتعاظمني الذي رأيتُ وقلت: لمثل هذا فليعمل العاملون , ثم عرض عليَّ النارَ حتى نظرت إلى أغلالها وسلاسلها (¬3) وحياتها وعقاربها وغساقها ويحمومها , فنظرتُ فإذا أنا بقوم لهم مشافر كمشافر الإبل وقد وكل من يأخذ بمشافرهم , ثم يجعل في أفواههم صخراً من نار يخرج من أسافلهم , قلت: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً , ثم انطلقت فإذا أنا بنفرٍ لهم بُطُونٌ كأنها البيوت [ق 75/و] وهم على سابلة آل فرعون فإذا مرَّ بهم آل فرعونَ ثارُوا فيسيل بأحدهم بطنه فيقع فيتوطأهم آل فرعون بأرجلهم وهم يُعرَضون على النار غُدواً وعشياً , قلت: مَن هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء أكَلَةُ الربا فمثلهم كمثل الذي يتخبطه الشّيطان من المسّ , ثم انطلقت فإذا أنا بنساء معلقاتٍ بِثُدِيّهن مُنَكِّسَاتٍ أرجُلهُن قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هُن اللاتي يزنينَ ويَقتُلن أوْلادهنّ , ثم أخرجني من الجنة فمررنا بالسموات منحدرين من سماء إلى سماء حتى أتيت على موسى فقال لي: ماذا فرض الله عليك وعلى أمتك؟ قلت: خمسين صلاة , فقال موسى: أنا أعلم بالناس منك وإني بَلَوت بني إسرائيل وعاجلتهم أشدَّ المعاجلة وإن أمّتك أضعفُ الأمم فارجع إلى ربك فسله (¬4) التخفيف لأمتك فإن أمتك لن (¬5) تُطيق ذلك , قال: فرجَعتُ إلى ربي , وفي بعض الأخبار: فرجعت فأتيت ¬
[إلى] (¬1) سدرة المنتهى فَخَررتُ ساجداً , قلت: يا رب فرضتَ عليَّ وعلى أمتي خمسين صَلاة ولن أستطيع أن أقوم بها أنا ولا أمتي فَخفَّفَ عني عشرًا , فرجعتُ إلى موسى فسألني , فقلت: خفف عني عشرًا , قال: ارجع إلى ربك فسله (¬2) التخفيف فإن أمتك أضعف الأمم (وإني) (¬3) قد لقيت من بني إسرائيل شدةً , قال: فرجعت فرده إلى ثلاثين , قال: فما زلت بين ربّي وبين موسى حتى جعلها خمس صلوات , فأتيت موسى فقال: ارجع إلى ربك فسله التخفيف , فقلت: إني قد رجعتُ إلى ربي حتى استحييت وما أنا براجع إليه , قال: فنوديتُ: إني يوم خلقتُ السمواتِ والأرض فرضت عليك وعلى أمتك خمسين صلاة ولا يُبدّل القول لديَّ , فخمْسَةٌ بخمسين فقم بها أنت وأمتك , إني قد أمضيتُ فريضتي وخففتُ عن عبادي وأجزي بالحسنة (¬4) عشر أمثالها لكل صلاة عشر صَلوات , قال: فرضي محمد كل الرضى فكان موسى من أشدهم عليه حين [ق 75/ظ] مرَّ به وخَيْرِهم لَهُ حين رَجَع إليه؛ ثم انصرفتُ مع صاحبي وأخي جبريل لا يفوتني ولا أفوتُه حتى انصرفَ بي إلى مضجعي وكانَ كل ذلك في ليلة واحدة من لياليكم هذه فأنا سيد ولد آدم ولا فخر , وبيَدي لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر , وإليَّ مفاتيح الجنة يوم القيامة ولا فخر , وأنا مقبوض عن قريب بعد الذي رأيت من آيات ربي الكبرى ما رأيت وقد أحببت اللحوقَ بربي - عز وجل - ولقاء من رأيت من إخواني وما رأيت من ثواب الله - عز وجل - لأوليائه وما عند الله خير وأبقى , قالوا: فلما رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة أسري به فكان بذي طوى قال: يا جبريل إن قومي لا يصدّقونني (¬5) , قال: يُصَدّقك أبو بكر وهو الصديق؛ قال ابن عباس وعائشة رضي الله عنهما: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لما كانت ليلة أسري بي وأصبحت بمكة فُظِعْتُ بأمري وعرفت أنّ الناس مُكَذِّبِيَّ» قال: فقعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُعتزلاً حزيناً فمرَّ به أبو جهل عَدُوّ اللهِ فأتاهُ فجلس إليه كالمستهزِئ: ¬
هل استفدتَ من شيء؟ قال: نعم , إني أسري بي [الليلة , قال لي: أين؟ ] (¬1) , قال: إلى [بيت المقدس قال] (¬2): ثم أصبحت [بين ظهرانينا , قال: نعم] (¬3) , قال: أتُحَدِّثُ قومَكَ ما حدثتني , قال: نعم , قال أبو جهل: يا معشر بني كعب بن لؤي هلموا , قال: فانتفَضت المجالس فجاءوا حتى جلسُوا إليهما , قال: حدث قومك ما حدثتني (¬4) , قال: نعم , إني أسري بي الليلة , قالوا: إلى أين؟ قال: إلى بيت المقدس , قالوا: ثم أصبحت بين ظهرانينا , قال: نعم , قال: فمن بين مُصَفق ومن بين واضع يده على رأسه متعجباً للكذب وارتد ناس (¬5) ممن كان كان آمن به وصَدّقه , وسعى رجال من المشركين إلى أبي بكر , فقالوا: هل لك في صاحبك يزعم أنه (¬6) أسري به الليلة إلى بيت المقدس , قال: أو قد قال (ذلك) (¬7)؟ قالوا: نعم , قال: لئن كان قال ذلك لقد (¬8) صَدَق , قالوا: وتصدقه أنه ذهب إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح؟ ! [ق 76/و] قال: نعم إنّي لأصدقه بما هو أبعد من ذلك , أصدقه بخبر السماء في غَدْوة أو رَوْحة , فلذلك سُمّي أبو بكر الصديق؛ قال: وفي القوم من قد سافر هناك ومن قد أتى المسجد , فقالوا: هل تستطيع أن تنعت لنا المسجد؟ قال: نعم , قال: فذهبت أنعت , فما زلت أنعتُ حتى التبسَ عليَّ , قال: فجيء بالمسجد وأنا أنظر إليه حتى وُضع دُون دار عَقِيل فنَعتُّ المسجد وأنا أنظر إليه , فقال (¬9) القوم: أما النَّعتُ (فواللهِ) (¬10) لقد أصاب , ثم قالوا: يا محمد فأخبرنا (¬11) عن عيرنا فهي أهم إلينا من قولك , هل ¬
لقيتَ منها شيئاً؟ قال: نعم مررت على عير بني فلان وهم بالروحاء وقد أضلوا بعيراً لهم وهم في طلبه وفي رحالهم قدح من ماء فعطشت فأخذته فشربته (¬1) ثم وضعته كما كان فسَلوهم (¬2) هل وجدوا الماء في القدح حين رجعُوا إليه , قالوا: هذه آية , قال: ومَرَرت بعير بَنِي فلانٍ وفلانٌ وفلانٌ راكبان قَعُوداً لهما بذي مَرّ , فَنفَر بكرُهما مِنّي فرمى بفلان فانكسرت يدُه فسلوهما عن ذلك , قالوا: وهذه آية , قالوا: [و] (¬3) أخبرنا عن عيرنا نحن؟ قال: مررتُ بها بالتنعيم , قالوا: فما عدتها وأحمالها وهيئتها؟ قال: كنت في شغل عن ذلك , قال: ثم مُثِّلَتْ له مكانه بالجزوّرة بِعدّتها وأحمالها وهيئتها ومَن فيها , فقال: نعم هيئتُها كذا وكذا وفيها فلان وفلان يقدمُها جمل أورق عليه غرارتان مُحيطتان تَطْلع (¬4) عليكم عند طلوع الشمس , قالوا: وهذه آية , ثم خرجوا (¬5) يشدّون نحو الثنيّة وهم يقولون: والله لقد قَصَّ محمد شيئاً وبيّنه حتى أتوا كَداء (¬6) فجلسوا عليه فجعلوا ينتظرون متى تطلع الشمس فيكذّبُونه , إذ قال قائل منهم: والله هذه الشمس قد طلعت , وقال الآخر: وهذه والله الإبل قد طلعت يقدمها بعير أورق فيها فلان وفلان كما قال لهم , فلم يؤمنوا ولم يُفلحوا وقالوا: ما سمعنا بمثل هذا قط إن هذا إلا سِحرٌ مبين" (¬7). ¬
فصل {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا}
فصل فإن قيل: إنما قال الله تعالى [ق 76/ظ]: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء: من الآية 1] فلم قلتم أنه [تعالى] (¬1) أسرى به إلى السماء , فالجواب أن يقال: إنه إنما قال: {أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء: من الآية 1] لأن ابتداءَ أمر المعراج كان المسرى , والإعراج كان بعد الإسراء وقد أخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - عنهما وهو الصادق المصدوق , والحكمة فيه -والله أعلم- أنه لو أخبر ابتداءاً بعروجه إلى السماء لاشتد إنكارهم وعظم ذلك في قلوبهم ولم يصدقوه في إخباره عن بيت المقدس أيضاً , فلما أخبرهم ببيت المقدس بدءاً (¬2) وأقام البراهين على صدقه , وأخبرهم من شأنه بما لا يتمكن كثير ممن قد رآه مراراً كثيرةً أن يخبر به , وأخبرهم عن عِيرهم وعِير غيرهم , وأقام البراهين على ذلك , والتزم لهم أنّ عيرهم تخرج (¬3) عليهم مع طلوع الشمس لم يَبق لتكذيبه وجه , فلما تمكن ذلك في قلوبهم , وبان لهم صدقه , وقامت الحجة عليهم فيه فأخبر بعروجه إلى السماء العليا وسدرة المنتهى حتى دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى وأنه رأى من آيات ربه الكبرى , فلزمهم تصديقه فيما أخبر في ضمن ذلك مما ليس لهم به إلمام ولا تدركه الظنون ولا تحيط به الأوهام؛ وجواب آخر: وهو أنه لو أخبرهم أولاً عن السماءِ لم يكن لهم بشيء من أمرها علم فيخبرهم به استندوا إلى علم ما قد علموه , فأخبرهم أولاً ببيت المقدس الذي قد أحاطوا (من علمه بما أحاطوا) (¬4) به فوجدوا ما أخبرهم على وفق ما عندهم من ذلك (¬5) فثبت في قلوبهم , ثم أخبرهم بما لم يحيطوا بعلمه لا نفياً ولا إثباتاً فلم يعظم عليهم (¬6) تصديقُه فصدقوه؛ وجواب آخر: وهو ¬
فصل وفي حديث الإسراء والمعراج فوائد جليلة
أنه لم يذكر السماء لأن الكفار كانوا ينكرون الجميع فأخبرهم بما يمكنه إقامة الدلالة والبرهان في الحال على صدقه وصحة رؤيته , وقد أخبر الله بأمر السماء في آية النجم وأقسم على صدقه بأنه {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 2 - 3]؛ وجواب آخر [ق 77/و]: وهو أن الأمور يتوصل إلى علمها بالأسهل فالأسهل شيئاً فشيئاً , فلما كان الإسراء إلى بيت المقدس أسهل من الإسراء إلى السماء أخبرهم به , فلما استقر عندهم أخبرهم بالمعراج فكان أسهل للقبول (¬1) والتصديق , والله أعلم. فصل وفي حديث الإسراء والمعراج فوائد جليلة , وإشارات نبيلة , منها: أن الله تعالى سيّره في الأرض ليستأنس ثم دَرّجَهُ إلى الصعود إلى السماء فهو نظير قوله: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَامُوسَى} [طه: 17] فلما أنِسَ بالخطاب حمّله الرسالة , ومنها: أن الأنبياء جُمِعُوا له هنالك فصلى (¬2) بهم فبان فضله بالتقدم عليهم في دار التكليف وكان ائتمامهم به مشيراً إلى نسخ شرائعهم بشريعته , ولهذا إذا نزل عيسى - عليه السلام - صلى خلف المهدي من أمة محمد , وقال: إمامكم منكم (¬3) , ومنها: أنه مرّ بالنواحي التي كلم الله - عز وجل - عندها موسى ثم صعد فكُلّم في السماء ليظهر التفاوت بينهما في الفضل؛ ومنها: أن ترتيب الأنبياء في السموات مناسب لأحوالهم فآدم في السماء الدنيا لأنه يُعرض عليه المؤمنون والكفار من ذريته أعني الأرواح ولا يمكن صعود أرواح الكفار إلى السماء قال الله تعالى: {لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} [الأعراف: من الآية 40] , وعيسى - عليه السلام - في السماء الثانية لأنه لم يكن مستقراً بل جلوسُه هناك ينتظر النزول فكان أقربَ إلى الأرض , وإبراهيم فهو مناسب لحاله لأنه في السماء السابعة وهو أعظم الأنبياء وأفضلهم بعد ¬
محمّد , وموسى في السماء السادسة لأنه أفضلهم بعد إبراهيم , و (في) (¬1) روايَة أنه كان في السماء السابعة وهي غلط (والله أعلم) (¬2) , وكذلك قوله عن إدريس أنه قال: «مرحباً بالأخ الصالح» (¬3) قد يكون غلطاً من الراوي لأنه أب بلا شك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذرّية نوح ونوح من ذرية إدريس قاله شيخ الإسلام ابن تيمية قال: ولا يتنبّه لمثل هذا إلا النحرير؛ قلت: وقد وقع لي في هذا محمل لا بأسَ به يُقرُّ (¬4) الروايةَ الصحيحة على ماهي علَيه ويبين عذر إدريس إذ لم يقل: والابن الصالح , وذلك أن ما ظهر من عظم شأن محمد [ق 77/ظ]- صلى الله عليه وسلم - في هذا المقام أجل من منزلة الأبوة فكيف بمنزلة البنوة فلم يتهجّم لما رأى من علوّ الرتبة أن يجعل نفسه أباً له فيكون أرفع منه ولا سيما (و) (¬5) لم يَذكرُ له جبريل ما ذكر لآدم ولإبراهيم (¬6) من قوله: «هذا أبوك آدم فسلم عليه» (¬7) , «هذا أبوك إبراهيم فسلّم عليه» (¬8) , فإنه لما أنَّسَ آدم بأن قال لمحمد: «هذا أبوك آدم فسلم عليه» حَسُن أن يقول له آدم: «مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح» وكذلك لما قال له: «هذا أبوك إبراهيم فسلّم عليه» حَسُن أن يقول له إبراهيم: «مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح» فأما إدريس فقال له عنه: «هذا إدريس فسلم عليه» ولم يقل له: هذا أبوك إدريس , فلم يحسن التهجم عليه بمزيّة الأبوة مع ما هنالك من علوِّ الدَّرجة وعظيم المنزلة وما أكرم به من القرب , فلم يجد إدريس ما يُمِتُّ به مِمّا لا عَتبَ فيه إلا الأخوّة في النبوة التي رُفع بها مكاناً علياً فقال ما يناسِبُ حالَه: «مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح» , وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الأنبياء إخوة أولاد علّاتٍ دينهم واحد وأمهاتهم ¬
شتى» (¬1) على أن الله تعالى قال: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ [وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] (¬2)} [آل عمران: 33 - 34] (فبعض الأنبياء من نسل بعض) (¬3) وقد سماهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إخوةً , فيكون قول إدريس «الأخ الصالح» من هذا القبيل , ولا يَضُرّ قول إدريس بالأخ الصالح , فالأخوّة في الدين والنبوة صادقة عليهما , كما أن النبوة والأخوّة صادقة عليه وعلى إبراهيم عليهما [الصلاة و] (¬4) السلام , وكما لم يَضُرّ سارة عليها (¬5) السلام حين أوصاها إبراهيم - عليه السلام - أن تقول للجبّار الذي دَعاها أن تقول (¬6): «إنه أخي» (¬7) , وهي زوجته فالأخوّة صادقة عليهما بالإيمان كما قال إبراهيم: فإني لا أعلم على وجه الأرض مؤمناً غيري وغيرك , لكن قصّة سارة كانت من باب المعاريض وقصّة إدريس من باب الأدب والله أعلم , إذ كان ذلك المقام لا يقتضي غيره لما رأى من عظم العناية (¬8) الإلهيّة والوِلاية الربانية وهذا تأويل لا بأسَ به إن شاء الله تعالى , وإن جعلنا رَدّ السلام والترحيب بلفظ الأخوّة [ق 78/و] والخلافة من خزنة السموات لم يبق إشكال فإن في سياق حديث الثعلبي أن كل باب يُفتح لهم يقال له: «حياه (الله) (¬9) من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة ¬
ونعم المجيء جاء» (¬1) لكن الروايات الأخرى لا تساعد على هذا المعنى وكذلك يَردُ قولُ (¬2) آدم وإبراهيم: «مرحباً بالابن الصالح» والله تعالى أعلم؛ وفي هذا السياق لطيفة أخرى: وهي قول خَزَنة أبواب السموات: «حياه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة» فإنه مشعر بالاعتذار (¬3) عن قولهم (¬4) حين قال الله: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: من الآية 30] فلمّا رأوا سيّدَ الخُلفاء على تلك المنزلة وشاهَدُوا ماشاهدوا له من الكرامات قالوا: «حياه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاءَ» فكان ذلك تَنَصُّلاً منهم مما سَبَق من شهادتهم على ما (لم) (¬5) يعلموا عاقبته , وشهادةً محققة عن عيان وعلمٍ لِما شاهدوا (من) (¬6) حاله - صلى الله عليه وسلم - , ومِن فَوائد حديث الإسراء: أنه كان يقظة لا مناماً كما قاله من قاله , وأنه كان بروحه وبجسده جميعاً , لأنه لو كان مناماً لم ينكره المشركون ولا (¬7) ارتدّ أحد من العرب الذين كانوا أسلموا , فإن الإنسان يرى في منامه أشياء ويحدث بها تكون غايةً في البُعد عن شأن اليقظة فلا ينكرها عليه منكر , ولو كان عند وصوله إلى المسجد الأقصى قد نام لأخبر بذلك كما أخبر عن ما (¬8) رأى من العجائب , وقد زيّف الحفاظ وغلطوا الرواية التي وقعت عند البخاري التي ذكر في آخرها «فاستيقظ فإذا هو في مسجد الحرام» (¬9) وبينوا وجه الغلط وهذه (¬10) الرواية هي من كلام أنَسٍ نفسه لا من روايته ¬
عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن غيره , والروايات التي في حديث الإسراء عن أنس نفسه عند البخاريّ وعند مسلم في بعض ألفاظها مَقالٌ قد تكلموا على الغلط فيها , وتكلف (¬1) بعض الناس لأصل هذه الرواية أن الإسراء كان مراراً وذلك أيضاً غلط , وكذا (¬2) من ادّعى أن المعراج كان قبل النبوة [ق 78/ظ] وإنما كان بعد الرسالة بمكة , ومن فوائده في عرض الخمر واللّبن عليه ليلتئذ , واختياره اللبن , وقول جبريل له أصبت الفطرة , فالفطرة فطرة الإسلام وهي التي فطر الله عليها الناس كما قال تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ (¬3) ... النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: من الآية 30] , وتسمية اللبن بالفطرة لمناسَبة وقعت فيه وهي: أنه أول ما يقع في جوف المولود وأول ما يتغذى به فكان بفطوره عليه أولاً مناسباً لتسميته بفطرة الإسلام , وأما الخمر فإنها لما كانت تفسدُ العقل وتغيّر الفطرة تركَها لأنّها تُغوي كما قال في الحديث: «لو أخذت الخمر لغوت (¬4) أمتك» , ومنها: فرض الصلاة خمسين أولاً ثم ردت إلى خمسٍ فيه حُجَّة لمن يُجوّز النسخ قبل التمكين من الفعل , فإن الله تعالى فرضها خمسين ثم نسخها إلى خمس قبل أن يُمكنهم من العمل , ومنها: مراجعة موسى دون إبراهيم لأنه كان له شريعة بأحكام التوراة كما قال: {وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران: من الآية 65] ورأى موسى من بني إسرائيل ما أخبر به حيث خبَرهم وجَرَّبهم وعالجهم أشد المعالجة وقد كان إبراهيم عليه الصلاة والسلام إمام الملة وموسى إمام الشريعة , ومنها: أن في قوله عليه الصلاة والسلام: «فرجعتُ إلى ربي» , وقول موسى: «فارجع إلى ربك» , وقوله: «فلم أزل أتردد بين موسى وبين ربي» حجة قاطعة على إثبات علوّ الربّ سبحانه [وتعالى] (¬5) على خلقه وأنه يصعد إليه الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه وأن الملائكة تعرج إليه وتنزل ¬
من عنده , ومنها: [أنه] (¬1) في تردّده بين ربه وبين موسى فيقول: «فحَطّ عني عشراً ... ثم عشراً ... ثم عشراً» (¬2) وكذلك هو في الصحيحين من حديث أنس بن مالك من رواية شريك عنه , وفي رواية حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس أنه قال: «فحَطّ عني خَمساً» (¬3) وهو في أفراد مسلم والأوّل أصح لأنه المتفق عليه عن أنس عن مالك بن صعصعة ومن حديث أنس نفسِه أيضاً «عشراً عشراً» فرواية الحط خمساً غلط من الراوي والله أعلم , وقد يُقالُ لفظ حديث أنسٍ لا يقتضي أن التردد كان كله بخمس خمس وإنما فيه أنه [ق 79/و] قال بعد حط الخمس أنه قال: «فلم أزل ارجع بين ربي وبين موسى (¬4) حتى قال يا محمد إنهن خمس صلوات ... » الحديث , وليس في هذا ما يدل على أن [هذا] (¬5) التردد كان بخمس خمس (¬6) , ولا يمنع أن التردد كان قبل الخمس بعشر عشر ثم بالخمس والله أعلم , ومنها: الخبر عن شرح صدره في بعض أحاديث الإسراء , وقد قيل في قوله: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشَّرح: 1] هو هذا الشرح في هذه الأحاديث وقيل: بل هو الشرح المعنوي كقوله تعالى عن موسى: {اشْرَحْ لِي صَدْرِي} [طه: من الآية 25] وكقوله: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} [الأنعام: من الآية 125] وشرح صدره - صلى الله عليه وسلم - كان مرتين وقيل: ثلاثاً: مرّة هذه أعني المعنوي , ومرة هو مع الغلمان كما ذكره مسلم في حديثه وبيّن فيه أنه أخرَج منه علقة فألقاها وقال: «هذا حظ الشيطان منك» (¬7) , والعلقة قطعةُ دم تكون في تجويف القلب وتسمّى السُويداء , والشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم , ومن القلب تَجري الحياةُ في البدن وهي التي يقول لها (¬8) الأطباء: الروح والقوة والشهوة , والحياة تنبعث من ¬
القلب , ولهذا كان القلب ملك البدن وكان إذا صلح صلح الجسد كله (وإذا فسد فسد الجسد كله) (¬1) , والقلب ما دامت فيه تلك العَلقَة يدخل الشيطان فيه فهي بَيْتُه منها يتصرف بالوسوسة , فأُخرِجت من النبي - صلى الله عليه وسلم - وغُسل مكانها فلم يبق للشيطان عليه سبيل أصلاً , ولا بقي له بيت يدخل فيه ولا مسكن وكان يقول - صلى الله عليه وسلم -: «ما من أحد إلا وقد وكل به قرينه , قالوا: وأنتَ يا رسول الله , قال: وأنا لكن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير» وليس المراد أسلمُ أنا بل أسلمَ هو من الاستسلام لا من إيمان لأنه قال: «فلا يأمرني إلا بخير» (¬2) لأنه (¬3) انقاد وانطاعَ فبقي لا يأمره إلا بما يناسبُ حاله [ق 79/ظ] من الخير - صلى الله عليه وسلم - , ومنها قوله عليه الصلاة والسلام: «ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام» (¬4) المستوى: المكان العالي , وصريف الأقلام: صوتها على اللوح المحفوظ , وقوله: «سِدرة المنتهى» سميت سدرة (¬5) المنتهى لأن (¬6) إليها ينتهي ما ينزل من فوقها وإليها ينتهي ما يصعد من تحتها؛ تنبيهٌ لطيف في حديث المعراج أيضاً: وهو قوله عن عيسى ويحيى «وهما ابنا خالةٍ» قال ابن السكيت (¬7): يقال: هما ابنا خالة ولا يقال: هما ابنا خال , ويقال: هما ابنا عم ولا يقال: هما (¬8) ابنا عمّة (¬9) , قلت: وعليه في هذا الكلام شيء , وقد اغترّ بأن غالب ما يقع أن ابني العمة وابني الخال غير متفق ¬
وأن ابني (¬1) العم وابني الخالة لازم الوقوع لكن وقوع الأوّل غير ممتنع , بل وقوعه ممكن (واقع) (¬2) كثيراً وصورتُه: أن يتزوّج رجلان كل (¬3) منهما بأخت الآخر فيولد لكل منهما ولدٌ , فلا ريب أن ولد كل منهما ابن عَمّةِ الآخر وابن خالة أيضاً , (ثم) (¬4) هُما ابنا خال وابنا عمةٍ كما ترى. فصل واختلف السلف والخلف - رضي الله عنهم - في رؤية محمد - صلى الله عليه وسلم - ربَّه تعالى ليلة المعراج فممن أثبتها (¬5) ابن عباس رضي الله عنهما , وممن نفاها (¬6) عائشة رضي الله عنها , وقال قوم: رآه بقلبه , وكل منهم احتج لما قال بحجة , فابن عباس روى فيها حديثاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «رأيت ربي» (¬7) , وعائشة قالت: ثلاثٌ م (¬8) تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله الفِرية -فذكرت منها: - من زَعم أن محمداً رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية (¬9) , وقال بعض (¬10) [من] (¬11) نفاةُ الرؤية: أن الله تعالى امتنّ على محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - ¬
بأن أراهُ (¬1) من آياته الكبرى ليلة المعراج ولا يُمتنّ بالأدنى مع وجود الأعلى فإن رؤية الله تعالى أعلى النعم وأكبر المنح وأعظم المطالب (¬2) كما في صحيح مسلم عن صهيب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا دخل أهل الجنة الجنة , نودوا: يا أهل الجنة إنّ لكم عند الله موعداً لم تروه - (قال: ) (¬3) - فيقولون [ق 80/و] ماهو؟ ألم يبيض وجوهنا؟ ويزحزحنا عن النار؟ ويدخلنا الجنّة -قال: - فيكشف الحجاب (¬4) فينظرون إليه فوالله ما أعطاهم الله شيئاً هو أحبّ إليهم مما هم فيه - يعني: النظر إليه- ثم قرأ: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: من الآية 26]» (¬5) وأخرج مسلم أيضاً من حديث صهيب قال: «قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: من الآية 26] قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى منادٍ يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه فيقولون: ماهو؟ ألم يثقل موازيننا ويبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار؟ فيكشف الحجاب فينظرون إلى الله [تعالى] (¬6) فما شيء أُعطُوه أحبَّ إليهم من النظر إليه وهي الزيادة» (¬7) , فإذا كانت الرؤية أعظم المطالب و (¬8) قد أُعطِيَهَا محمَّد - صلى الله عليه وسلم - فكيف يمتنّ عليه برُؤية جبريل وغيره من الملائكة والجنة والنار وما في ملكوت السموات والأرض الذي جميعه في جانب (¬9) النظر إلى الله [تعالى] (¬10) العظيم أدنى من الخردلة الملقاة في أرضٍ فلاة , بل وذلك كلّه عند الكرسي كخردلة ملقاة ¬
فصل جامع لمقاصد الكتاب
بأرضِ فلاة , بل ذلك كله والكرسي [كله] (¬1) كخردلة ملقاة بأرضِ فلاة عند عرش الرحمن سبحانه , فكيف برؤية ربّ العرش العظيم الذي لا نسبة للعرش والكرسي وسائر خلقه إليه سبحانه وتعالى , قال: فلو كان رآه وهذا شأن رؤيته لم يمتن عليه برؤية ما سواه وكل ما سواه ليس له نسبة إلى عظمته ولكان قال: لقد رأى ربَّهُ الأعظَمُ والله تعالى أعلم. فأما في الآخرة فلا شك أن له من الرؤية النصيب الأوفر , والحظ الأعظم , كما له من الدرجات في الجنة أعلاها , ومن مناصب الآخرة أجلها وأسماها , ومن كراماتها غاية منتاها , وفوائد حديث المعراج عظيمة يضيق [ق 80/ظ] الوقت عن استيفائها , ويتعذر أو يتعسر الوصل إلى استقصائها , وقد رَوى حديث الإسراء والمعراج عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جماعَةٌ من الصحابة منهم علي وابن مسعود وأبيّ وحذيفة وأبو سعيد وجابر وأبو هريرة وابن عباس وأم هانئ - رضي الله عنهم - , وهو مخرج في الصحيحين , رواه البخاري في أربعة مواضع من صحيحه (ورواه مسلم) (¬2) بعدة طرق في صحيحه , وغيرهما , وهو من أعظم معجزاته - صلى الله عليه وسلم -. فصل جامع لمقاصد الكتاب كل معجزة وفضيلة ومنقبة حصلت للأنبياء فبكمال نبوّتهم , وكمال نبوتهم كان بالإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - , والإقرار برسالته , والعزم على نصره لو (¬3) خرج وهم أحياء , وبذلك أخَذ الله عليهم [الميثاق و] (¬4) العهد في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ ¬
فيما خصه الله به (في) وفاته - صلى الله عليه وسلم - م
بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ (وَأَخَذْتُمْ) (¬1) عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 81] , وكذلك كل كرامة وفضيلة (ومنقبة) (¬2) حصلت لأحد من الأمة إنما حصلت له بالإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - , ومتابعته (¬3) , والأخذ بهديه , فلولا الإيمان بمحمد وبرسالته لم تتم (¬4) معجزة لنبي ولا (كرامة) (¬5) لأحد من الأمة , فعلى هذا معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء كلها معجزات له وكرامات مُضافة إليه , زائدة في مناقبه وفضائله - صلى الله عليه وسلم -. فصل فيما خصه الله به (في) (¬6) وفاته - صلى الله عليه وسلم - من ذلك أن الله جعل له علامةً يَعرف بها قرب أجله وهو قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] [و] (¬7) رَوى ابن عباسٍ قال: لما نزلت {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاطمة رضي الله عنها فقال: «إني قد نُعِيَتْ إليّ نَفْسي ... » الحديث (¬8) , يعني قوله: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] أي فتح مكة {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر: 2] يعني فذلك علامة قرب أجلك {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر: 3] فكان - صلى الله عليه وسلم - يُكثر التسبيح ¬
والاستغفار [ق 81/و] ويقول: «أمرت إذا نُصرت وفتح الله علي أن أسبّح (¬1) بحمد ربي واستغفره» (¬2) فكان يكثر أن يقول: «سبحانك اللهم وبحمدك , استغفرك اللهم وأتوب إليك» يتأول القرآن (¬3) , ومن ذلك: أن جبريل كان يعارضه القرآن كل عام مرة فلما كان (¬4) العام الذي توفي فيه عارضه مرتين فقال: «ما أُراه إلا قد حضر أجلي» وأسرّ ذلك إلى فاطمة رضي الله عنها (¬5) , فكان يعتكف في كل عام عشراً فاعتكف عشرين في العام الذي قُبض فيه (¬6) , ومن ذلك: ما رَوَى أبو سَعيد قال: خطبَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس فقال: «إن الله تعالى خيّر عبداً بين الدنيا وبين ما عنده , فاختار ذلك العبدُ ما عند الله - عز وجل -» , فبكى أبو بكر - رضي الله عنه - , فعجبنا من بكائه أن خَبَّر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن عبد خير , فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المخيّر وكان (¬7) أبو بكر أعلمنا به (¬8)؛ ومن ذلك أن ملك الموت استأذن عليه فيما روى جعفر بن محمد عن أبيه في حديث قال فيه: «لما بقي من أجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث نزل عليه جبريل فقال: يا أحمد إن الله أرسلني إليك إكراماً لك , وتفضيلاً لك , وخاصةً لك يسألك عما هو أعلم به منك يقول: كيف تجدك؟ قال: أجدني يا جبريل مغموماً وأجدني يا جبريل مكروباً , فلما كان اليوم الثاني هبط إليه جبريل , فقال: يا أحمد إن الله أرسلني إليك إكراماً لك , وتفضيلاً لك , وخاصةً لك , يسألك عما هو أعلم به منك يقول كيف تجدك؟ فقال (¬9): أجدني يا جبريل مغموماً وأجدني مكروباً , فلما كان اليوم الثالث نزل جبريل وهبط معَهُ ملك يقال له: إسماعيل , يسكن الهواء , ¬
لم يصعد إلى السماء قط ولم يهبط إلى الأرض منذ كانت الأرض , فهو على سبعين ألف ملك ليس منهم ملك إلا على سبعين ألف ملك , فسبقهم جبريل فقال: يا أحمد إن الله تعالى أرسلني إليك إكرماً لك وتفضيلاً لك وخاصة لك يسألك عما هو أعلم به (منك) (¬1) يقول لك: كيف تجدك؟ قال: أجدني يا جبريل مغموماً وأجدني يا جبريل مكروباً , ثم استأذن ملك الموت فقال جبريل: هذا ملك الموت [ق 81/ظ] يستأذن عليك ولم يستأذن على آدمي كان قبلك ولا يستأذن على آدمي (¬2) بعدك , قال: ائذن له , فدخل ملك الموت فوقف بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فقال: يا رسول الله يا أحمد إن الله أرسلني إليك وأمرني أن أطيعك في كل ما (¬3) تأمرني إن أمرتني أن أقبض نفسك قبضتُها وإن أمرتني أن أتركها تركتها قال: وتفعل يا ملك الموت؟ قال: بذلك أُمِرتُ أن أطيعك في (كل) (¬4) ما أمرتني , فقال جبريل: يا أحمد إن الله تعالى قد اشتاق إليك , قال: فامضِ يا ملك الموت لما (¬5) أمرت به , فقال جبريل - عليه السلام -: يا رسول الله هذا آخر مَوَاطِئي الأرضَ إنما كنتَ حاجتي من الدنيا , فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» (¬6) ومن ذلك حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعوّذ بهذه الكلمات: «أذهب البأس , رب الناس , اشف وأنت الشافي , لا شفاء إلا شفاؤك , شفاءً لا يغادر سقماً» قالت: فلما ثَقُل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي مات فيه أخذت بيده , فجعلت امسحه بها وأقولها , فنزع يده مني ثم قال: «رب اغفر لي وألحقني بالرفيق الأعلى» فكان هذا آخر ما سمعت من كلامه أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما (¬7)؛ وعنها أيضاً قالت: ¬
قُبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورأسُه بين سحري ونحري , فلما خرجت نفسُه - صلى الله عليه وسلم - لم أجد ريحاً قط أطيب منها (¬1)؛ ومنها: أنه لما مات اختلفوا فيه فقالوا: والله ما ندري كيف نصنع أنُجرِّد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما نجرّد موتانا؟ أم نغسله وعليه ثيابُه؟ فلما اختلفوا أرسل الله عليهم السِّنَةَ (¬2) حتى والله ما من القوم رجل إلا ذَقَنُه في صدره نائماً , ثم كلمهم من ناحية البيت لا يدرون ماهو , فقال: اغسلوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وعليه ثيابه , فثَارُوا إليه فغسَلوه وهو في قميصه , يُفاض عليه الماء والسدر ويَدْلُكُه الرجال بالقميص (¬3)؛ ومنها: ما روى الدارمي من حديث [أبي] (¬4) الجوزاء (¬5) أوس بن عبدالله قال: [قد] (¬6) قَحِطَ أهل المدينة قحطاً شديداً فشكوا إلى عائشة رضي الله عنها فقالت: انظروا قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فاجعلوا [ق 82/و] منه كُوًى إلى السماء حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف , ففعلوا فمطروا حتى نبت العُشبُ وسَمِنت الإبل حتى تفتَّقَتْ من الشَّحْم فسُمي عامَ الفتق (¬7). ¬
فصل فيما خصه الله تعالى به في الآخرة
فصل فيما خصه الله تعالى به في الآخرة من ذلك ما صح وثبت عنه أنه قال: «أنا سيّد ولد آدم ولا فخر» (¬1) وأنه قال: «أنا أول شافعٍ وأول مشفع» (¬2) , وأنه أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة (¬3) , وأنه أول من يأتي المحشر , وأنه قال: «آدم ومن دونه تحت ¬
لوائي يوم القيامة» (¬1) , وأنه أكرم بني آدم على ربه (¬2) , وأنه صاحب المقام المحمُود (¬3) , وأن لواء الحمد بيده يوم القيامة يقوم على يمين العرش ليس أحد من الخلائق يقوم ذلك المقام غيره (¬4) , ومن ذلك: أن اسمه مكتوب على العرش مع اسمِ ربّه تبارك وتعالى لا إله إلا الله محمد رسول الله (¬5) [- صلى الله عليه وسلم -] (¬6) , ومن ذلك: الشفاعة العامة العُظمى التي يتخلف عنها إبراهيم الخليل وموسى الكليم فمن دونهما من الأنبياء ويُحْجِمُونَ عنها وكلٌ يقول: نفسي نفسي , وذلك ما روى الإمام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وغيرهم من حديث أبي هريرة قال: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى بلحم فرُفعَ إليه الذِراع وكانت تعجبه فنهسَ منها نهسة , ثم قال: «أنا سيد الناس يوم القيامة , وهل تدرونَ لِمَ ذاك؟ يجمع الله - عز وجل - الأولين والآخرين في صعيد واحد , فيسمعهم الداعي , وينفذهم البصر , وتدنو الشمسُ , فيبلغ الناسَ من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون , فيقول بعض الناس لبعضٍ: ألا ترون ما أنتم فيه؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم - عز وجل -؟ فيقول بعضُ الناس لبعض: أبوكم آدم , فيأتون آدم , فيقولون: يا آدمُ أنت أبو البشر , خلقك الله تعالى بيده , ونفخ فيك من روحه , وأمر الملائكة فسجدوا لك , فاشفع لنا إلى ربك - عز وجل - , ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله , وإنه نهاني عن الشجرة فعصيته , نفسي نفسي , نفسي نفسي , اذهبوا إلى غيري , اذهبوا إلى نوح , فيأتون نوحاً - عليه السلام -[ق 82/ظ] فيقولون: يا نوح أنت أول الرسل إلى أهل الأرض , وسماك الله - عز وجل - عبداً شكوراً , فاشفع لنا إلى ربّك , ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا (¬7) ترى ما قد بلغنا؟ فيقول نوح: إن ¬
ربّي قد غضب اليوم غضباً [شديداً] (¬1) لم يغضب قبله مثله , ولن يغضب بعده مثله , وإنه كانت لي دعوة على قومي , نفسي نفسي , نفسي نفسي , اذهبوا إلى غيري , اذهبوا إلى إبراهيم , فيأتون إبراهيم - عليه السلام - , فيقولون: يا إبراهيم أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض , اشفع لنا إلى ربك , أما ترى ما نحن عليه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم إبراهيم - عليه السلام -: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله , فذكر كذباته , نفسي نفسي , نفسي نفسي , اذهبوا إلى غيري , اذهبوا إلى موسى , فيأتون موسى - عليه السلام - , فيقولون: يا موسى أنت رسول الله تعالى , اصطفاك الله برسالاته وبتكليمه على الناس , اشفع لنا إلى ربك ألا (¬2) ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم موسى: إن رَبّي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله , وإني قتلت نفساً لم أؤمر بقتلها , نفسي نفسي , نفسي نفسي , اذهبوا إلى غيري , اذهبوا إلى عيسى , فيأتون عيسى فيقولون: يا عيسى أنت رسول الله وكلمتُهُ ألقاها إلى مريم وروح منه وكلمت الناس في المهد , فاشفع لنا إلى ربك - عز وجل - , ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم عيسى: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله , ولم يذكر له ذنباً , اذهبوا إلى غيري , اذهبوا إلى محمّد - صلى الله عليه وسلم - , فيأتوني (¬3) , فيقولون: يا محمّد أنت رسول الله وخاتم الأنبياء , غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر , فاشفع لنا إلى [ق 83/و] ربك - عز وجل - , ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فأقوم فآتي تحت العرش , فأقع ساجداً لربي - عز وجل - , ثم يفتح الله تعالى علي ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه ما لم يفتحه على أحد قبل , فيقال: يا محمد ارفع رأسك , سَل تعطه , اشفع تشفع , فأقول: أمتي أمتي يا رب , أمتي أمتي يا رب , أمتي أمتي يا رب , أمتي أمتي يا رب , فيقال: يا محمد أدخل من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة وهم شركاء الناس فيما سواه من الأبواب , ¬
ثم قال: والذي نفسُ محمد بيده لما بين المصراعيْن (¬1) من مصاريع الجنة لكما بين مكة وهجر (¬2) أو كما بين مكة وبصرى (¬3)» (¬4) , وفي رواية أخرى: «حتى يأتوني فإذا جاءوني انطلقت حتى آتي الفحْصَ فأخِرّ قدام العرش لربي ساجداً ثم يفتح الله علي من محامده وحسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه على أحدٍ قبلي حتى يبعث الله إليّ ملكاً فيأخذ بعضدي فيرفعني» فقال أبو هريرة: قلت يا رسول الله وما الفحص , قال: «قدام العرش» (¬5) , «فيقول (لي) (¬6) إذا رفعني الملك: ما شأنك يا محمد وهو أعلم , فأقول: يا رب وعدتني الشفاعة فشفِّعني في خلقك فأقض بينهم , فيقول الله تعالى: قد شفعتك , أنا آتيكم فأقضي بينكم - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: - فأرجع فأقف مع الناس» (¬7) , وفي رواية أخرى: «فيقول عيسى بن مريم - صلى الله عليه وسلم -: عليكم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - فيأتوني ولي عند الله ثلاث شفاعات وعدنيهن , فأنطلق حتى آتي باب الجنة فآخذ بحلقة الباب فأستفتح فيفتح لي فأُحيَّا ويُرَحّبُ بي , فإذا دخلت ونظرت إلى ربي - عز وجل - على عرشه خررت له ساجداً فأسجد ما شاء الله أن أسجد ويأذن لي في محامده وتمجيده وحسن الثناء عليه ما لم يأذن به (¬8) لأحد من خلقه حتى يقول: ارفع رأسك (يا محمد) (¬9) اشفع تشفع وسل ¬
تعطه - قال: - فأرفع رأسي فإذا نظرت إلى ربّي خررت (¬1) له ساجداً قال: فأفعل مثل ما فعلت في السجدة الأولى ثم يقول: ارفع رأسك يا محمد اشفع تشفع وسل تعطه (¬2) [ق 83/ظ] , فأفعل ذلك ثلاث مرات , فيقول: ما شأنك يا محمد , وهو أعلم , فأقول: أي رب وعدتني الشفاعة فشفعني في أهل الجنة , فيقول: قد شفعتك قد أذنت لهم في دخول الجنة , فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: والذي بعثني بالحق ما أنتم في الدنيا بأعرف بمنازلكم وأزواجكم منكم في الجنة إذا دخلتموها ثم أشفع فأقول (¬3): أي رب فمن وقع في النار من أمتي , فيقول: اذهبوا فمن عرفتم صورته فأخرجوه من النار , فيخرج أولئك حتى لا يبقى أحد ثم يأذن في الشفاعة فلا يبقى نبي ولا شهيد ولا مؤمن إلا اللعّان فإنه لا يكتب شهيداً ولا يؤذن له في الشفاعة» (¬4) , فهؤلاء أكابر الأنبياء الذين هم أولو العزم من الرسل نَكَلُوا عن الشفاعة واعتَذَروا وكل يقول: نفسي , ومحمد - صلى الله عليه وسلم - انتدب لها وقام ذلك المقام وقال: أنا لها وشفع وشُفعَ. فإن قيل: عذر من لم يقم بها منهم ما ذكر من ذنبه ومحمد عرف أن أن الله تعالى قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر , قلنا (¬5): ليس العلة في تأخّرهم ذلك وإنما هو لأن محمداً - صلى الله عليه وسلم - كان مختصاً بها , ألا ترى أن عيسى - عليه السلام - لما نُدب إليها امتنع ولم يذكر لنفسه ذنباً , فدل ذلك على عظم منزلة محمد - صلى الله عليه وسلم - واختصاصه وحده بالشفاعة , ومن كبار خصائصه - صلى الله عليه وسلم - ما قاله عبدالله بن سلام قال: إذا كان يوم القيامة جاء نبيكم - صلى الله عليه وسلم - فيقعد بين يدي الله - عز وجل - على كرسيّه (¬6) , وعن مجاهد في قوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: من الآية 79] قال: يُقعده على العرش , قال أبو بكر ¬
محمد بن الحسين الآجريّ (¬1): حديث مجاهد في فضيلة النبي - صلى الله عليه وسلم - تفسيره لهذه الآية أنه يقعده على العرش تلقاها الشيوخ من أهل العلم والنقل بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقبلوها أحسن قبول ولم ينكروها (¬2) , وصنف في ذلك الإمام أبو بكر (أحمد) (¬3) بن محمد بن الحجاج المروذي (¬4) رحمه الله كتاباً (¬5) سمعناه [ق 84/و] ببغداد على بعض شيوخنا ذكر فيه ما وقع إليه من الأحاديث المتضمنة لذلك , ومنها ما رواه أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أنا أولهم خروجاً (من الأرض) (¬6) إذا بعثوا وأنا قائدهم إذا وَافدوا وأنا خطيبُهم إذا أنصَتوا وأنا مُستَشفَعُهم (¬7) , إذا حبسوا وأنا مبشرهم إذا يئسوا , الكرامَةُ والمنائحُ بيدي وأنا أكرم ولد آدم على ربي يطوف عليّ خدّام كأنهنّ بَيْضٌ مكنون أو (¬8) لؤلؤٌ منثور» (¬9) , ومنها في حديث ابن عباس قال فيه: ثم يقال (¬10): «يا محمد استَبِقْ إلى الجنة بأمّتك فأستفتح الباب فيقال: من أنت , فأقول: أنا محمد بن عبدالله , فيقول: بك أُمِرتُ لا أفتح لأحد قبلك فإن الجنة حرام على الأنبياء حتى تدخلها وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك» (¬11) وذكر أبو الربيع السِبُتِي سليمان بن سَبُعٍ (¬12) في كتابه ¬
خصائص محمد - صلى الله عليه وسلم - (¬1) قال: ورد حديثُ الشفاعة من طرق كثيرة , وفي كل طريق منها فائدة لم يتضمنها الطريق الأخرى , وهي مشتملة على أزيد من ثلاثين فضيلة , وذكر منها: المقام المحمود , ولواء الحمد بيده , تحته آدم فمن دونه , وأنه (¬2) أول من يؤذن له في الكلام فيتكلم - يعني: قوله: {لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} [النبأ: من الآية 38] وقوله: {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [طه: 109]- وهو أول شفيع فيَشفَع , وأول من تنشق عنه الأرض , وأول من يكسى من حُلل الجنة , وأول من يركب البراق , وأول من يقرع باب الجنة فيفتح له , و (¬3) أول من ينظر إلى رب العالمين , واختصاصه بالسجود لرب العزة أمام العرش وبديع ما يفتح الله عليه من تحميد ربه في سجوده والثناء عليه بما لم يفتحه على أحد قبله ولا بعده , وقد تقدم أشياء من ذلك , ومنها قول الله سبحانه: يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع وسل تعط واشفع تشفع مرة بعد مرة في تكرار الشفاعة , ومنها: أن الأنبياء يؤتون ¬
فيُسألون (¬1) أن يشفع لهم إلى ربهم ليريحهم من غمهم وعرقهم وطول وقوفهم في المحشر فيجاب إلى ذلك , وقد تبرَّأ منها كل نبي وأحال بها على غيره حتى تصل إليه [ق 84/ظ] فيقول: «أنا لها» (¬2) , ومنها: شفاعته فيمن لا حساب عليه كما في الحديث يقول له: «يا محمد أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن ثم هم شركاء الناس فيما سوى ذلك» (¬3) , ومنها: شفاعته فيمن أدخل النار مرة بعد مرة , ثم يشفع فيمن عرفت صورته , ثم فيمن كان في قلبه مثقال دينار من الإيمان , ومثقال ثلثي دينار , ومثقال نصف دينار , ومثقال (¬4) ثلث دينار , وقيراط (¬5) ودانق (¬6) وشعيرة وحبة وخردلة وبعوضة وذرة وأدنى أدنى (أدنى) (¬7) حبة خردل من الإيمان إلى غير ذلك , وكل ذلك يُجاب ويشفّع فيخرجهم من النار ويدخلهم الجنة , فجملة الشفاعة خمسة مقامات: المقام الأول: في أهل الموقف لفصل القضاء وهي الشفاعة العظمى وهي من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - , والمقام الثاني: في من يدخل الجنة بغير حساب وهي من خصائصه أيضاً - صلى الله عليه وسلم - , [و] (¬8) المقام الثالث: فيمن يخرج من النّار وابتداؤها له - صلى الله عليه وسلم - فإنه أول شافع وأول مشفع كما سَبَق , المقام الرابع: فيمن يدخل الجنة واختصاصه منها أنه لا يدخل ¬
فصل في صحة أحاديث الكتاب
الجنة أحد بالشفاعة أكثر ممن يدخلها بشفاعته , المقام الخامس: شفاعته في قوم لرفع درجاتهم من الجنة , ومن خصائصه - صلى الله عليه وسلم - أنه أعظم الخلق ثواباً , وذلك أنه أكثر الأنبياء تابعاً واهتدى به من الخلق أكثر ممن اهتدى بغيره من الأنبياء , فإن أمته ثلثا أهل الجنة كما في الحديث أن أهل الجنة مائة وعشرون صفاً منها هذه الأمة ثمانون صفاً (¬1) , فله أجره المختصّ به ويضاف إليه مثل أجر من تبعه كما في الحديث الصحيح: من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من تبعه (¬2) , فهو أعظم الأنبياء أجراً وأكثرهم تابعاً وأوفرهم ثواباً - صلى الله عليه وسلم - , وموضوع هذا الكتاب أنه لم يكن لنبي من الأنبياء معجزة أو فضيلة إلا ولمحمد [ق 85/و]- صلى الله عليه وسلم - من جنسها ما هو أكمل منها أو مثلها , وأنه اختص بأشياء لم يشركه فيها غيره كما قد ذكرناه (¬3) في أماكنه والله يختص بفضله من يشاء والله ذو الفضل العظيم. فصل كُلُما في هذا الكتاب من حديث فيه ضعف أو وهن فالعمدة إنما (¬4) (هي) (¬5) على ما ثبت من جنسه من آيةٍ أو خبر , وإنما ذكرناه (¬6) لما عساه يكون فيه من فائدة إما توضيح معنى أو زيادة بيان كما يذكره أهل الحديث من الشواهد والمُتابَعات , أو كما يقول الفقهاء في مثله: هذا سند الدليل , على أنّا لو أتينا بكل ما ورد في خصائصه وفضائله - صلى الله عليه وسلم - من ذلك لاجتمع عنه مجلدات لكن نبهنا بهذا القدر على ما وراءهُ , والله أعلم. ¬
فصل في ذكر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
فصل وقد قدّمنا فصلاً لطيفاً في ذكر الصلاة عليه وفضلها , ونذكر هاهنا طرفاً آخر (¬1) نختم به الكتاب ليكون مشحوناً بذكر الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - , فقد روي عنه أنه قال: «لا تجعلوني كقدح الراكب - يعني: آخر الكلام - ولكن في أوله وأوسطه وآخره» (¬2) أو (¬3) كما جاء , فمن ذلك ما رَوَى عامر بن ربيعة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من صلى علي صلاة لم تزل الملائكة تصلي عليه ما صلى علي فليقلّ عبد من ذلك أو ليكثر» (¬4). فأما صفة الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - ففيها عدة أحاديث بصفات متنوعة منها ما روى ابن أبي ليلى قال: لقيني كعبُ بن عجرة فقال: ألا أهدي لك هديةً , خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلنا: يا رسول الله قد علمنا كيف السلام عليك , فكيف الصلاة عليك؟ قال: «قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على (آل) (¬5) إبراهيم إنك حميد مجيد , اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على (آل) (¬6) إبراهيم إنك حميد مجيد» أخرجاه في الصحيحين على هذا اللفظ (¬7) , وعن كعب بن عجرة أيضاً قال: لما نزلت: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: من الآية 56] قلنا: «يا رسول الله قد علمنا كيف السلام عليك فكيف الصلاة [ق 85/ظ] عليك؟ قال: قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل ¬
إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد» (¬1) , وعن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من سَرّهُ أن يكتال بالمكيال الأوفى إذا صلى علينا أهلَ البيت فليقل: اللهم صَل على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين وذرّيته وأهل بيته كما صليتَ على إبراهيم إنك حميد مجيد» رواه أبو داود (¬2)؛ وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من قال: جزى الله محمداً نبينا ما هو أهله أتعبَ سبعين كاتباً ألف صباح , وما صَلى عليّ أحد إلا صلى عليه سبعون ألف ملك , ومن صلى عليّ في كل يوم مائة مرة قضيت له مائةُ حاجة منها ثلاثون للدنيا وسائرها للآخرة , وما من مسلم صلى علي إلا رَدّ الله علي روحي حتى أرُد عليه السلام , ومن صلى علي عشراً في أول النهار وعشراً في آخره نالته شفاعتي يوم القيامة» (¬3) , وعن علي - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: «أكثر من الصلاة عليّ إذا مت» قال علي: فقلت (¬4) يا رسول الله وهل تبلغك الصلاة منا عليك بعد أن صرت رميماً , قال: «إن الله حرم لحوم الأنبياء على الأرض أن تأكلها وأنا أكرم على الله أن يُسلطها علي , وإن الله - عز وجل - قد وكل بقبري ملكاً اسمه صَلْ صائل وهو في صورة الديك مَثْنِيٌ عُنقُه تحت العرش ومَخَالِيبُه في تخوم الأرض السابعة له ثلاثة أجنحة جناح بالمشرق وجناح بالمغرب وجناح يُرَفْرِفُ به على قبري فإذا صلى عليّ العبدُ حيث كان بلّغها إليّ» وفي لفظ آخر قال: «فإذا قال العبد: اللهم صل على محمد - إلى قوله: - حميد مجيد التَقَطَها مِن فيه كما يلتَقِطُ الطَيرُ الحَبَّ ثم يقول [ق 86/و]: يا محمد إن فلان بن فلان من موضع كذا وكذا صلى عليك ويقرئك السلام ثم يكتبها في رق من نور بالمسك الأذفر الأبيض ويضعها عند رأسي حتى أشفع له بها يوم القيامة ويرفع له ¬
عشرون ألف درجة ويكتب له عشرون ألف حسنة ويمحو عنه عشرون ألف سيئة ويغرس له عشرون ألف شجرة على شاطئ الكوثر» وفي الحديث طُولٌ ذكَره أبو الربيع سليمان بن سبع السبتي في كتاب الخصائص له والله أعلم بحال هذا الحديث , وفي كتابه هذا أحاديث فيها ما فيها , وفضيلة نبينا - صلى الله عليه وسلم - لا شك فيها وخصائصه لا مِرية يَعتَريها , وعن عمار بن ياسر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الله - عز وجل - أعطاني مَلَكاً يقوم على قبري إذا أنا مت فلا يصلي عليّ عبد إلا قال لي: يا محمد فلان بن فلان يصلي عليك باسمه واسم أبيه فيصلي الله عليه مكانها عشراً» (¬1) , وفي حديث آخر أنه قال: «إن لله تعالى ملكاً أعطاه سمع العباد فليس من عبد يصلي عليّ صلاة إلا صلّى الله عليه عشر أمثالها (¬2)» (¬3) , وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأكابر سمعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول مراراً: «من صلّى عليّ واحدة صلى الله عليه عشراً ومن صلى علي عشراً صلى الله عليه مائةً [مرة] (¬4) , ومن صلى علي مائة صلى الله عليه ألفاً , ومن صلى علي ألفاً زاحمت كتفه كتفي على باب الجنة» (¬5) , وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «صلوا عليّ فإن تلك زكاة لَكُم وسَلوا لي الوسيلة» قالوا: وما الوسيلة يا رسول الله , قال: «أعلى درجة في الجنة لا يدخلها إلا رجلٌ واحدٌ وأنا أرجو أن أكون ذلك الرجل» (¬6) , وعنه أيضاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من صلى [ق 86/ظ] علي في كتاب لم تزل الملائكة تستغفر له مادام اسمي في ذلك الكتاب» (¬7) , وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ¬
عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «أكثروا من الصلاة علي في الليلة الزهراء واليوم الأغر فإن صلاتكم تعرض علي فأدعو واستغفر لكم» (¬1) يعني: ليلة الجمعة ويوم الجمعة؛ وعنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «الصلاة عليّ نور يوم القيامة على الصراط , فمن صلى علي يوم جمعة ثمانين مرة غُفرت ذنوبه» (¬2) , وروى البزار عن [رويفع] (¬3) بن ثابت قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من صلى على محمدٍ وقال: اللهم أنزله المقعد المقرب عندك يوم القيامة , وجبت له شفاعتي» , وعنه أنه قال: «من الجفاء أن أُذكَر عند الرجل ولا يصلي عليّ» (¬4) , وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عنه قال: «من صلى علي عند قبري سمعته , ومن صلى علي نائياً بُلِّغتُه» (¬5) , وعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما من دعاء إلا بينه وبين الله حجاب حتى يصلي على محمد - صلى الله عليه وسلم - , فإذا صلّى على محمد - صلى الله عليه وسلم - انخرق الحجاب واستجيب له , وإذا لم يُصَل على محمد - صلى الله عليه وسلم - رَجَع الدعاء» (¬6) , وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - يعني عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن أنجاكم يوم القيامة من أهوالها ومواطنها أكثركم صلاةً عليّ في الدنيا» (¬7) , وعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «صلاتكم علي مُحرِزَةٌ لدعائكم ومرضاة لربكم وزكاة لأبدانكم» (¬8) , وعنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من نَسِي ¬
الصلاة عليّ نُسّي طريق الجنة» (¬1) , وقال: «إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة وما جلس قوم مجلساً لا يصلون فيه علي إلا كان عليهم ترة يوم القيامة إن شاء عفا عنهم وإن شاء أخذهم» (¬2) , وعنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما جلس قوم مجلساً [ق 87/و] فتفرقوا على غير الصلاة علي إلا تفرقوا عن أنتن من جيفة حمار» (¬3) , وعنه أنه قال: «أكثركم صلاة علي أقربكم مني غداً» (¬4) , وفي حديث آخر أنه قال: «لا يجلس قوم مجلساً لا يصلون فيه على النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا كان عليهم حسرة وإن دخلوا الجنة لما يرون من الثواب» (¬5) , وعن أبي بن كعب قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ذهب ربُع الليل قال: «أيها الناس اذكروا الله جاءت الراجفة تتبعها الرادفة جاء الموت بما فيه» قال أبي: يا رسول الله إني أكثر الصلاة عليك فكم أجعل لك من صلاتي , قال: «ما شئت» قال: الربع , قال: «ما شئت وإن زدتَ فهو خير» قال: النصف , قال: «ما شئت وإن زدت فهو خير» قال: الثلثين , قال: «ما شئت وإن زدتَ فهو خير» قال: يا رسول الله فأجعل صلاتي كلها لك , قال: «إذاً تُكْفَى هَمك ويغفر لك ذنبك» (¬6) , وفي حديث أبي بكر - رضي الله عنه - عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من صلى علي كنت شفيعه يوم القيامة» (¬7) , وروي أنه إذا كان يوم ¬
القيامة وضعت حسنات المؤمن وسيئاته فتنزل صُحفٌ من عند الله - عز وجل - بيضٌ على حسناته فتَرجُح حسناته على سيئاته فيقول الربّ: - عز وجل - هذه صلاتك على نبيّي ثقّلتُ بها ميزانك وجعلتها لك ذخيرة وقربة؛ وحكي عن الشبلي (¬1) أنه قال: مات رجل من جيراني فرأيته في المنام فسألته عن حاله , فقال: يا شبلي مرّت بي أهوال عظيمة وذلك أنه ارتج عليّ عندَ السُؤال فقلت في نفسي: من أين أُتي عليَّ , ألم أمُتْ على الإسلام , فنوديت هذه عثرةُ إهمالِك للسائل في الدنيا , فلما همّ بي الملكان حال بيني وبينهما رجل جميل الشخص طيب الرائحة فذكّرني (حجتي) (¬2) فذكرتها فقلتُ: من أنت يرحمك الله؟ قال: أنا شخص خلقت من كثرة صلاتك على محمد (¬3) - صلى الله عليه وسلم - وأُمرت أن أنصُرك في كل كرب (¬4)؛ وروي عن سفيان الثوري قال: خرجت حاجاً إلى بيت (الله) (¬5) الحرام فبينا أنا أطوف إذا (¬6) أنا بشاب متعلق بأستار الكعبة فقال: اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد , فأكثر في ذلك , قال (سفيان) (¬7): فما زلت أطوف حول البيت لا أسمع منه إلا الصلاة [ق 87/ظ] على محمد - صلى الله عليه وسلم - حتى قضيت أسبُوعاً من الطواف فقلت: أيها الشاب اعلم رحمك الله أن هذا بيت الله وحرمه وأمنُه وقد أمر الله تعالى بمناسكه (¬8) وأنا اليوم لم أفْتُرْ مِنَ الطواف ولم أسمع منك غير الصلاة على محمد - صلى الله عليه وسلم - فأخبرني بقصتك فرفع الشاب بصره إليّ وقال: من أنت أيها الشيخ؟ فقلت: أنا سفيان بن سعيد الثوري , ¬
فقال الشابُ: لولا أنك من عظماء علماء أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ما أخبرتك , وإنها لفضيلة (¬1) خصّني الله بها , أخبرك يا سفيان أني كنتُ مع أبي في حياته , فخرجنا إلى بيت الله الحرام فبينا نحن في بعض المنازل إذ (¬2) مرض أبي فمات وكان ذا بَهاء ونورٍ فلم يلبث أن اسوَدَّ وجهُه وأزرَقت (¬3) عيناه وصار رأسه رأس حمارٍ فبقيت باهتاً حيران متعجباً أُفكر في حالِه فأقول كيف أكفنه وأدفنه في هذه الحال؟ ! إذ غلبتني عيناي فنمت فبينا أنا في نومي إذا بشاب قد دَخَل عليَّ بابَ البيت لا بالطويل ولا بالقصير كث اللحية سَبط الشعر واضح الجبين رَقيق الغرتين أبيض الثياب طيب الرائحة فجلس عند رأس أبي وكشف الغطاء عن وجهه وأمدّ يده اليُمنى على رأسه ووجهه وعينيه , فأذهب الله السواد والزرقة وعاد كما كان ورجع إلى حاله , ثم قام الشابُ ليخرج فضربت بيدي عليه وقلت: من أنت؟ قد مَن الله عليّ وعلى أبي بك اليوم , فقال الشاب: أنا سيد ولد آدم ولا فخر أنا محمد بن عبدالله , يا شاب إن أباك كان بينه وبين الله سرٌ استحق تعجيل العقوبة في دار الدنيا والعذاب في الآخرة ولكن والدك كان لا يفتر في قيامه وقعوده وطعامه وشرابه في ليله ونهاره من الصلاة عليَّ فلما نزلت ملائكة العذاب وكان من أمره ما صار تسارعت إليَّ ملائكة الرحمة الموكلون بي وقالوا: يا محمد إن فلان بن فلان قد نزلت به ملائكة العذاب فعساك أن تشفع له إلى ربّك فاستشفعت فيه فشفعني فيه ربّي بفضله وكرمه , أفتلومني يا سفيان في إكثار الصلاة عليه وعلى أهل بيته في جميع المواطن؟ ! قال سفيان [ق 88/و]: لا والله لا ألُومُك وإنها لفضيلة خصّك الله بها وإنّي بعد هذا لفاعلٌ مثل ما فعلت؛ وحكي عن القواريري قال: كان لنا جار ورّاق فمات فرؤي في المنام فقيل له: ما فعل الله بك قال: قد غفر لي , فقيل: بماذا , قال: كنت إذا كتبت ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث كتبتُ: - صلى الله عليه وسلم - (¬4) , وحكي عن محمد بن أبي سليمان قال: رأيت أبي في النوم فقلت: يا أبت ما فعل الله بك , قال: غفر لي , فقلت: ¬
بماذا , قال: بكتابتي الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في كل حديثٍ (¬1)؛ ويحكى عن عبدالله بن عبدالحكم قال: رأيت الشافعي رحمه الله في النوم فقلتُ له: ما فعل الله بك؟ قال: رحمني وغفر لي وزُفَّتْ إليّ الجنة كما تُزَف العروس , فقلت: بما بلغتُ هذه الحال؟ فقال لي قائل: بقولك بما في كتاب الرسالة من الصلاة على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - , فقلت: وكيف ذلك؟ قال: قال لي: وصلى الله على محمد عدد ما ذكره الذاكرون وعدد ما غفل عنهُ الغافلون , فلما أصبحت نظرت إلى الرسالة فوجدت الأمر كذلك (¬2) , وحكى المروزي قال: كنتُ أنا وأبي نتقابل بالليل (¬3) ... الحديث فرؤي في الموضع الذي كنا نتقابل فيه عمودَ نور بلغ عنان السماء , فقيل: ما هذا النور؟ فقيل: صلاتهما (¬4) على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا تقابلا (¬5) , ويحكى أن خلفاً صاحب الخلقاني قال: كان لي صَديق يطلب الحديث فتوفي فرأيته في منامي عليه ثيابٌ خُضر يَرْفُل فيها , فقلت له: أليس كنتَ يا فلان صَدِيقاً لي وطلبَت (معي) (¬6) الحديث؟ قال: بلى , قلت: بم نلتَ هذا؟ قال: لم يكن يَمُرُّ بي حديثٌ فيه ذِكر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا قلت فيه: - صلى الله عليه وسلم - , فكافأني ربي بهذا (¬7)؛ والأحاديثُ والآثار والحكايات والأشعار في الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - كثيرة في كتب الحديث وكتب الفضائل والسير والرقائق والزهد وغيرها , مشحونةٌ من ذلك بما لا يكاد ينحصر , وحقوقه - صلى الله عليه وسلم -[ق 88/ظ] عظيمة , وخصائصه جسيمة , ومعجزاته كبيرة , وفضائله كثيرة. ¬
(فصل) ومن خصائصه - صلى الله عليه وسلم - في ذكر اسمه والصلاة عليه
(فصل) (¬1) ومن خصائصه - صلى الله عليه وسلم - في ذكر اسمه والصلاة عليه من ذلك أن الرِّجل إذا خَدِرت فذُكر اسمه زال خدَرها رَوى الهيثم بن حَنَشِ قال: كنا عند ابن عمر رضي الله عنهما فخدرت رجله , فقال له رَجُلٌ: اذكر أحبّ الناس إليك , فقال: يا محمد , فكأنما نُشِطَ مِن عقال (¬2) , وعن مجاهد قال: خدرت رِجْلُ رَجُل عند ابن عباس , فقال: اذكر أحب الناس إليك , فقال: محمد - صلى الله عليه وسلم - , فذهب خَدَرهُ (¬3) , وذكر (¬4) بعض شيوخنا أن من صلى على محمد - صلى الله عليه وسلم - عند أول عَضّةٍ يأكلُها من الفجل لم تخرج منه له في الجُشاء ريح كريهة وجرّبنا نحنُ ذلك مراراً فوجدناه كذلك. ¬
(فصل) محمد - صلى الله عليه وسلم - أعظم الخلق أجرا
(فصل) (¬1) محمد - صلى الله عليه وسلم - أعظم الخلق أجراً , وذلك أنه أكثر الأنبياء تبعاً فإن من الأنبياء من لا يتبَعه إلا الرجل و [إلا] (¬2) الرجلان كما في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «عُرِضَت علي الأمم فرأيتُ النبي ومعه الرهط والنبي ومعه الرجل والرجلان والنبي ليس معه أحد , إذ رفع لي سواد عظيم فقلت: هذه أمتي , فقيل: هذا موسى (- عليه السلام - وقومُه) (¬3) , ولكن انظر إلى الأفق فإذا سَواد عظيم , ثم قيل لي: انظر إلى (هذا) (¬4) الجانب الآخر فإذا سواد عظيم , فقيل: هذه أمتك ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب» ثم نهض النبي - صلى الله عليه وسلم - فدخل منزله فخاض القوم في ذلك فقالوا: مَن هؤلاء الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذابٍ , فقال بعضهم: لعلهم الذين صحبوا النبي - صلى الله عليه وسلم - , وقال بعضهم: لعلهم الذين وُلِدُوا في الإسلام ولم يُشركوا بالله شيئاً قط , وذكروا أشياء , فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «ماهذا الذي كنتم تخوضون فيه؟ » فأخبروه , فقال: «هم الذين لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون ... » الحديث (¬5) , وعن المختار بن فلفل عن أنس قال: قال رسول الله [ق 89/و]- صلى الله عليه وسلم -: «يجيء النبي يوم القيامة ومعه الرجل ويجيء النبي ومعه الرجلان , وأنا أكثر الناس تبعاً يوم القيامة» (¬6) , وبحَسَبِ ما يكون له من الأتباع يكون له من الأجر مضافاً إلى أجره المختص به لأنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «من دَعا إلى هُدًى فله أجره وأجر من تبعه من غير أن ينقص من أجر من تبعه شيء» (¬7) , وله مثل أجر الأنبياء قبله لأن الله تعالى ¬
أخذ عليهم العهد لأن بُعث وهم أحياء ليَتبِعُنَّه , فهو أعظم الأنبياء أجراً , وأكبرهم قدراً , وأحسنهم في الخلائق ذكراً , وأعلاهم في الدنيا والآخرة فخراً , وأمته أكثر الأمم يوم القيامة فإنهم ثُلثا أهل الجنة , وله مثل أجورهم مضافاً إلى أجره المختص به , وقد تقدم هذا المعنى غير مرة. (فصل) (¬1) قد ذكرنا من خصائصه في هذا المختصر ما اشتهر , ومن معجزاته الغُرَر ما أنافَ على الشمس والقمر , ومن كرامة منزلته عند ربه ما حيّر البشر , ومن جلالة قدره عند بارئه ما أذهل وبَهَر , على أنّ وَصْفَ ما فيه من المعجزات العجيبة , ورصف ما جمَع من المنقبات الغريبة , لا يمكن جمعه في الدفاتر , ويعجز حَصرُه أصحابَ المحابر , ثم لابد من سياق معجزاته لتَثبُت النبوة وتقوم الحجة (¬2) , ولا غنى عن ذكر شمائله وأخلاقه ¬
ليُقتدى به , ولابدّ من تبليغ أوامره ونواهيه ليطاع , ويتم به الانتفاع , فقد ظهرت آياته وثبتت معجزاته , وتجلّت أقمار أخلاقه في بروج سعود سماء سماته , وظهرت ظهورَ النيْرين أعلامُ أوامره ونواهيه في أرض الله وسماواته , ولم يبق إلا التصديق برسالته , والانقياد لإيالته (¬1) , والاقتفاء لآدابه وسيرته , والقيام بأعْبَاء شريعته , والدخول في طاعته؛ وأنشد لسان الحال بالحَقّ لا المحال: فالآن قد تمّ هلال العلى ... وصار في مطلعه بَدراً (¬2) هو النبي المصطفى , والصفي المرتضى [ق 89/ظ] , أصفى الخلائق سرّاً , وأعلاهم قدراً , وأنقاهم صدراً , وأنورهم وجهاً ولوناً , وأحسنهم عرنيناً (¬3) وعيناً , وجبيناً وجفناً , وأجملهم هامة وخدّاً , وأكملهم قامة وقدّاً (¬4) , وأرجحهم ميزاناً , وأوضحهم بياناً , وأفصحهم لساناً , وأنورهم برهاناً , وأوفرهم إحساناً , وأعظمهم إيماناً , له الأسماء المعروفة بالجمال , والأفعال الموصوفة بالكمال , والحركات المبنية على العدل , والسكنات الممالة عن الطيش الرَّذل , ماضي أمره كالمستقبل , ووجهه لمنادي نداه يتهلَّل , لا تنصرف فوارس نصره إلا بإضافة الأنفال , ولا ترفع أعلام رماحه وسيوفه إلا عن دم الأبطال , فهي من تأييد الله منصوبة على الحال , وله ابتداء غايَةِ الاختصاص في المعرفة بالتصريف (¬5) والإبدال , فالمعرفة شعاره , والنكرة انتهاره , والتعجُب من طيِّ بشره , والحكاية المستغربة رَدُّه السائل على فقره , لقد تميّز شأنه وقصّته عن الشؤون والقصص , وتأكّد نعته المختص بلزوم ما تمّ وإلغاءِ ما نقص , فهو على هذا (النحو) (¬6) ¬
سالم الأفعال , منزّه عن التصغير بالنسب الشريف العال (¬1) , فقد ثبت له الفضل واستقرّ واستمرّ , أليس اسمُه أحمد عند أهل المعرفة لا ينصرف ولا يُجَرّ , ألقابه أجمل الألقاب وأحلاها (¬2) , كما أنّ أسماءه أحسن أسماء المخلوقين (¬3) وأسماها , فهو مذكور في السموات والأرض بالتبجيل , معروف في التوارة والزبور والإنجيل , محمد وحامد ومحمود وفاتح وخاتم وهادي ومهتدي وصفي وخليل وكليم وحبيب ومختار وناصر وقائم وحافظ وعدل وحليم وحجة وبيان ومهيمن وبرهان ومطيع وواعظ وأمين ومكين وناطق وصادق أمّي عربيّ هاشميّ قرشي مضريّ أبطحيّ تهاميّ مكّيّ مدنيّ عائل غني جواد [ق 90/و] سخي طيب طاهر زكيّ خطيب أريب فصيح صبيح سيد إمام بَطَلٌ هُمَامٌ بارٌّ سابق مقتصد أول آخر شفيع مشفَّع محلّل محَرِّم آمِرٌ ناهٍ مبلّغ ناصح مؤدّي وليّ متوكّل , صاحب الّلواء والتّاج , والإسراء والمعراج , الكريم المنتجب , سيد العجم والعرب , المبعوث بالتوحيد والشهادة , والصلاة والزهد والعبادة , والدّين الحنيف والهداية , والدعوة العامة والرعاية , المنعوت بالقوّة والشجاعة , الموصوف بالنجدة والبراعة , صاحب الحوض المورود , والمقام المحمود , والكرم والجود , وهو خير والد وأشرف مولود , وأفضل موجود في الخلق وأعز مفقود , ذو الأصل اللُباب , والدعاء المستجاب , الناطق بالصواب , الخاشع الأوّاب , قامع الأباطيل , وموضح الدليل , الإسلام ملّته , والكعبة قبلته , والحنيفيّة السمحة شريعته , وخير أمّة أخرجت للناس أمّته , عند ذكره ترتاح الأرواح , وعند رؤيته تحدث الأفراح , وبمجالسته تنزل الرحمة , وبمحادثته تتمّ النّعمة , وبمتابعته تكمل العبادة , وبطاعته تحصل السّعادة , والأمن كُلُّه في جنابه (¬4) , ¬
واليمن جميعه في انتآبه (¬1) , والسلامة في التّمسّك بهديه , والهلاك في مخالفة أمره ونهيه , رسالته عامّة , وإيالته تامّة , ودعوته شاملة , ومرتبته كاملة , وأموره كلّها على النّظام , وشؤونه جميعها على التّمام , أحكامه قاطعة , وسيوف عدله لامعة , وآراؤه صائبة , وآلاؤه دائبة , وقضاياه مسدّدة , وسراياه مؤيّدة , وعساكره منصورة , ومعاقلة معمورة , أخرست فصاحتُه الألسنة , وملأت سماحته الأمكنة , فآياته باهرة , ومعجزاته ظاهرة , أكبر معجزاته القرآن , الذي عجر عن الإتيان [ق 90/ظ] بسورة من مثله الثَّقلان , ثم مسراه ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى , المتضمِّن من المفاخر ما لا يُعَدُّ ولا يُحصَى , يكفي من الإشارة فيه والذكرى {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 18] , سلّمت عليه الأحجار , ولبَّت دعوته الأشجار , وانشقّ له القمر المنير , ونبع من بين أصابعه الماء النمير (¬2) , وكلمته الشاة المسمومة ونطق البعير , وسلم عليه الضب والظّبي والذئب المغير , وحنَّ الجذع اليابس إليه , وسبَّح الحصى في كفَّيه , وأطعم الجيش الكثير من الطعام اليسير , وروَّى بالماء القليل الحقير الجمَّ العظيم الغفير , وبَركته في تمر جابر ظاهرة , ومعجزته في سمن أمّ سُليم باهرة , تحرّك الجبل لهيبته , وسَكن بإشارته عن حركته , شكى الجمل السانئ (¬3) إليه فشكَّاه , ورحم تضرَّعه بين يديه وبكاه , ضَرْعُ الشاة الحائلة بيمن (¬4) يمينه دَرَّ , والبعير الحاسر (¬5) ببركته سَرى ومَرَّ , ملأ بقبضةٍ من ترابٍ أعينَ الكفرة , وأشار إلى الأصنام فخرَّت منعفرة , أخبر بالغائبات فوقعت كما قال , وضَرب الحجر الصلد الجلمد فانهال , أراد الكفار قتله فما أطاقوا , وقَصَدوا أذَاهُ فاعتاقوا , وعمدوا إلى غرته فمُنعوا , وبَغى السَّاحرون مضرَّتَه فدُفِعوا , وُقي من شرِّ الإنس والجان , وكُفي معرَّة (¬6) الهوام والحيوان , رَدَّ عين قتادة ¬
بعدما قلعت , وعين عليٍّ بعدما رمدت ودمعت , لقد كان يرى في الظلام كما يرى في الضِّياء , وينظر مَن ورائه كما ينظر من تلقاء , وأمَّهات هذه المفاخر قد سبقت , وارتفعت أفنانها في مكانها وبسَقت , وجملة القول في أحواله , وفصل الخطاب في أقواله وأفعاله , أنّه خير من أقلَّت الغبراء , وأشرفُ مَن أظلَّت الخضراء ماذا يقول الواصفون له ... وصفاته جلّت عن الحَصْر الأنبياء كأنجم زُهُرٍ ... ومحمّد أبْهى من البدر [ق 91/و] سبحان من جَمع المحاسن في هذا النّبيِّ الكريم , سبحان من منحه بالخُلق العظيم , سبحان من نحله الجمال والجلال , سبحان من طبعه على أكمل الخلال وأجمل الأحوال , فلقد كان أكرمَ الناس وأجود الناس وأحلمَ الناس وأعلمَ الناس وأشرفَ الناس , وأطيبَهم نفساً وأحسنهم عشرة , وأعظمهم صفحاً وأكملهم فِطرة , وأحياهم طَرفاً , وأعطرهم عَرْفاً (¬1) , لم يُؤتَ أحد من الخلق خصلة جميلة إلا وهي فيه أجمل , ولا خُصَّ أحد بخصيصة جليلة إلا وهي عنده أجلُّ وأكمل , مولدُه بمكة , ومهاجَره بطَيْبة , أُرسِل ليُتمِّم مكارم الأخلاق , ويُبلِّغ الرسالةَ إلى الخلق في جميع الآفاق , فقام بأعْباء الرسالة , ونهض بأثقالها وما هالَه , وبَلَّغ ما أُرسل به كما أُمر , وأدَّى الأمانة إلى الخلق وما حُصِر , ونصح الأمَّة وكشف الغُمَّة , ودعا إلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة , وعَبَد ربَّه حتى أتاه اليقين , وقد أكمل الله تعالى له الدّين وأتَمّ عليه النّعمة , حتى استقرّ الإيمان في نِصابه , وحفظ الإسلام في إهابه (¬2) , وضَرَب الدِّين بِجِرَانِه (¬3) , وثبت على أركانه , ثم مضى لسبيله طيّباً طاهراً نقيّاً زكيّاً , وترك الخلق على بيضاء نقيّة ليلُها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك , ولا يحيد عنها إلا ملحد , فصلوات الله وسلامه عليه , وتحيّاته وبركاته واصلةً إليه , وإلى صاحبيه , وإلى من جاهد بين يديه , صلاةً دائمة إلى يوم الدين , والحمد لله رب العالمين. آخرُ الكتاب , وحسبنا الله ونعم الوكيل. ¬
الخاتمة الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات, وله الحمد أولاً وآخراً. وفي ختام هذا البحث, ومن خلال دراسة منهج جمال الدين السرمري في تقرير العقيدة, يمكن استخلاص النتائج التالية: 1 - نبغ جمال الدين السرمري في ظروف سياسية مضطربة من تسلط العدو والنزاعات الداخلية؛ فقد عاش في العراق ما يقارب الاثنين والأربعين سنة تحت حكم التتار, ثم عاش في دمشق في فترة تولي أولاد وأحفاد الناصر محمد, وهي الفترة التي كان الصراع على السلطة فيها على أشده. 2 - تعد الحالة الاجتماعية لعصر جمال الدين السرمري من الأحوال السيئة, فقد شهدت فوضى اجتماعية تأثراً بالحالة السياسية, ووقعت عدة مجاعات, وتفشت كثير من المنكرات بشكل علني. 3 - لم تتأثر الحالة الثقافية والعلمية في القطر العراقي رغم مافيه من زوابع وغوائل, وأما في مصر والشام فقد وجدت نهضة علمية مباركة متميزة. 4 - تبوأ الإمام جمال الدين السرمري مكانة رفيعة عند كثير ممن ترجم له, إذ نبغ في علوم شتى , وصنَّف في أنواع كثيرة نثراً ونظماً, وخرَّج وأفاد وأملى رواية وعلماً, فخلد الأئمة ذكرَه, وأثنوا عليه ثناء عاطراً. 5 - اعتمد جمال الدين السرمري في التلقي والاستدلال اعتماداً مباشراً على الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة, فهو يعتبر الصراط المستقيم ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - والسلف الصالح. 6 - حذر جمال الدين السرمري من علم الكلام وذم أهله وبيَّن أن مصدرهم آراء الرجال وزبالة أذهانهم, فتململ من موقفه المتهالكون من أهل البدع والأهواء, ورموه بالشناعات.
7 - منهج جمال الدين السرمري في التوحيد منهج من ذهب إلى القسمة الثلاثية (الربوبية, الألوهية, الأسماء والصفات). 8 - قرر جمال الدين السرمري أن الإيمان بوجود الله قد دلت عليه بعثة الأنبياء وآياتهم, ونفى أن يكون الدليل العقلي متقدم عليها كما يزعم أهل الكلام, وأبطل دلالة العقل من القياس في الرب على معرفة الله, وقرر أن لا يحصل للعقل من القياس في الرب إلا العلم بالسلب والعدم إذا كان القياس صحيحاً. 9 - قرر جمال الدين السرمري قول شيخ الإسلام ابن تيمية في مسألة تسلسل الحوادث, وقال بأن جنس الحوادث لا أول لها, وأن القول بأن جنس الحوادث لها أول يلزم منه أنه سبحانه كان معطلاً عن الصنع. 10 - أجمل القول في القسم الثاني من أقسام التوحيد (الألوهية) -فيما وقفت عليه من كتبه-. 11 - وافق جمال الدين السرمري مذهب السلف في توحيد الألوهية سوى ثلاثة نصوص له في الاستشفاء بتربة قبور الصالحين وبركة الأتربة المضافة إليهم قد ذكرها في سياق حديثه عن التداوي بالأتربة وهذا من التبرك الممنوع؛ وأما مسألة التوسل الممنوع فقد كان منهجه فيها مضطرب بين منع التوسل بذوات الأولياء وذم مسلك الصوفية في ذلك على منهج شيخ الإسلام ابن تيمية , وبين الاستعمال بأبيات في ظاهرها التوسل الممنوع بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وآله - رضي الله عنهم - والاستعانة بهم في حصول المنفعة ودفع المضرة. 12 - قرر جمال الدين السرمري أن خلاف السلف في أيّ شهر ولد النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيما مضى من الشهر يدل على أن السلف لم يكونوا يجعلون ذلك موسماً للاجتماع والولائم والاحتفال في صُنع الأطعمة والأشربة والسماعات, إذ السلف كانوا أعظم الناس توقيراً ومحبة وتعظيماً للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأحرص الخلق على نشر محاسنه.
13 - وافق جمال الدين السرمري مذهب شيخ الإسلام ابن تيمية في النهي عن شد الرحال بقصد زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - دون الصلاة في مسجده. 14 - توسع كثيراً في (توحيد الأسماء والصفات) وبسط القول في هذا النوع, بسبب أن أهل البدع في عصره قد استشرى شرهم وانتشر مذهبهم. 15 - نهج في تقرير الأسماء والصفات تفصيلاً منهج السلف. 16 - أجمل القول كثيراً في مسألة الإيمان بالملائكة والإيمان بالرسل -فيما وقفت عليه من كتبه-. 17 - قرر جمال الدين السرمري الإيمان باليوم الآخر جملة وتفصيلاً, فقرر الإيمان بكل ما ورد في الكتاب والسنة من التفصيلات المتعلقة باليوم الآخر, من حياة البرزخ, والنفخ في الصور, والبعث, والحشر, والميزان, والحوض, والصراط, والجنة والنار, والشفاعة, ورؤية المؤمنين لربهم. 18 - قرر الأصلين الذين بسبب عدم فهمهما نشأ الضلال في القدر: -الأول: التفريق بين صفة المشيئة وصفة المحبة, وأنهما ليسا واحداً, ولا هما متلازمان. - الثاني: التفريق بين فعل الله ومفعوله وخلقه ومخلوقه. 19 - قرر مذهب أهل السنة والجماعة في الجمع بين الإيمان بالأحكام الشرعية والأحكام القدرية والتسليم لهما. 20 - قرر تأثير الأسباب في المسبَّبات وأن الله هو خالقهما, وأنه لا يجوز نسبة الانفراد بالخلق في صفة الفعل لغير الله تعالى, كما أنه لا يجوز على الضد من ذلك نفي التأثير للأشياء التي جعلها الله تعالى أسباباً ووسائط على المسبّبات. 21 - قرر أن المقتول مات بأجله. 22 - منهجه في القدر التسليم والاستسلام لله تعالى في كل ما يقضيه ويقدره, وفي كل ما
يشرعه ويأمر به وينهى عنه, والتحذير من الاحتجاج بالقدر. 23 - حدد مفهوم الإيمان بأنه تصديق بالجنان, وقول باللسان, وعمل بالأركان, يزيد بكثرة العمل والطاعة, وينقص بترك العمل والمعصية. 24 - قرر أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة بمطلق المعصية, ولا يسلب الفاسق الملِّي الإيمان بالكلية , وأنه يُرجى للمحسن, ويُخاف على المسيء. 25 - قرر تولِّي جميع أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ومحبتهم, والترضي عنهم, وأنهم خير القرون, أما على وجه الخصوص فمعرفة لكل فضله ومنزلته بحسب ورود النص فيه على خصوصه , والشهادة له وفق ما جاء في هذا النص. 26 - قرر الإمساك عما شجر بين الصحابة - رضي الله عنهم - مع سلامة القلوب وكف الألسن عن الخوض في ذلك. 27 - قرر أن ترتيب الخلفاء الأربعة في الفضل كترتيبهم في الخلافة. 28 - قرر وجوب طاعة الأئمة في غير معصية الله, ووجوب إقامة الشعائر العامة معهم, وعدم جواز الخروج على ولاة الأمر حتى ولو جاروا وظلموا, مالم يُرَ كفراً بواحاً فيه من الله برهان. 29 - قرر وجوب لزوم الجماعة والنهي عن الفرقة. 30 - منهجه في التعامل مع أهل الأهواء والبدع يتلخص في ضابطين: - الأول: حراسة الدين وإبطال البدع والنفير الدائم في ذلك, وأن هذا الضابط داخل دخولاً أولياً في شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. -الثاني: مخاصمة أهل البدع وترك مجالستهم عموماً لما يترتب على ذلك من المفاسد العظيمة. وختاماً؛ فإن الإمام جمال الدين السرمري يعد من أئمة أهل السنة الذين كان لهم دور بارز في تقرير العقيدة الصحيحة وفق قواعد وأصول سلف الأمة, كما أنه بهذا
المنهج صار سداً منيعاً في وجه من أراد النيل من تلك العقيدة أو تكدير نقائها. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل ذلك في ميزان حسناته, وأن يجمعنا به في بحبوحة جنانه, إنه جواد كريم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
فهرس المصادر والمراجع
فهرس المصادر والمراجع 1 - إغاثة اللهفان، لابن القيم, تحقيق: محمد حامد الفقي، الطبعة الثانية 1395، دار المعرفة، بيروت. 2 - ابن تيمية السلفي، لمحمد خليل هراس، الطبعة الأولى 1404، دار الكتب العلمية، بيروت. 3 - اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية، لابن القيم, الطبعة الأولى 1404، دار الكتب العلمية، بيروت. 4 - أحاديث الشيوخ الثقات، لقاضي مارستان، تحقيق: الشريف حاتم بن عارف العوني، الطبعة الأولى 1422، دار عالم الفوائد. 5 - الأحاديث المختارة، للضياء المقدسي، تحقيق: عبدالملك بن دهيش، الطبعة الأولى 1410، مكتبة النهضة، مكة 6 - إحكام الذريعة إلى أحكام الشريعة، لجمال الدين السرمري, تحقيق: أبي عبدالله حسين بن عكاشة رمضان، الطبعة الأولى 1427، دار الكيان، الرياض. 7 - الأحكام السلطانية والولايات الدينية، لأبي الحسن الماوردي، تحقيق: د. أحمد مبارك البغدادي، الطبعة الأولى 1409، دار ابن قتيبة، الكويت. 8 - الإحكام في أصول الأحكام، للآمدي، تحقيق د. سيد الجميلي، الطبعة الأولى 1404، دار الكتاب العربي، بيروت. 9 - اختصار علوم الحديث، لابن كثير، تحقيق: أحمد شاكر، الطبعة الثانية، دار الكتب العلمية، بيروت.
10 - آداب الزفاف في السنة المطهرة، لمحمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى 1409، المكتب الإسلامي، بيروت. 11 - الآداب الشرعية، لابن مفلح، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وعمر القيام، الطبعة الثالثة 1419، مؤسسة الرسالة، بيروت. 12 - الأربعون الصحيحة، للسرمري, تحقيق: محمد خير رمضان يوسف، الطبعة الأولى 1421، المكتب الإسلامي، بيروت ودمشق وعَمان. 13 - إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري، للقسطلاني، الطبعة السابعة 1323، المطبعة الكبرى الأميرية ببولاق، مصر. 14 - إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، للشوكاني، تحقيق أحمد عزو عناية، الطبعة الأولى 1419، دار الكتاب العربي. 15 - إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، لمحمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الثانية 1405، المكتب الإسلامية، بيروت. 16 - الاستيعاب في معرفة الأصحاب، لابن عبدالبر، تحقيق: علي البجاوي، الطبعة الأولى 1412، دار الجيل، بيروت. 17 - أسد الغابة في معرفة الصحابة، لابن الأثير، تحقيق: علي معوض وعادل عبدالموجود، الطبعة الأولى 1415، دار الكتب العلمية. 18 - الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير، لمحمد أبو شهبة، الطبعة الرابعة، مكتبة السنة. 19 - أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، لعلي الصلابي، مكتبة الصحابة، الإمارات، 1425.
20 - أسمى المناقب في تهذيب أسنى المطالب، لابن الجزري, تحقيق: محمد باقر المحمودي، 1403، بيروت. 21 - الإصابة في تمييز الصحابة، لابن حجر, تحقيق: علي البجاوي، الطبعة الأولى 1412، دار الجيل، بيروت. 22 - إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد، لصالح الفوزان، الطبعة الثالثة 1423، مؤسسة الرسالة. 23 - الاعتصام، للإمام الشاطبي، تحقيق: د. هشام الصيني، الطبعة الأولى 1429، دار ابن الجوزي، الدمام. 24 - الاعتقاد إلى سبيل الرشاد على مذهب السلف وأصحاب الحديث، لأبي بكر البيهقي، تحقيق: أحمد عصام الكاتب، الطبعة الأولى 1401، دار الآفاق الجديدة، بيروت 25 - إعراب القرآن وبيانه، لمحي الدين درويش، الطبعة الرابعة 1415، دار الإرشاد، حمص. 26 - الأعلام، للإمام الزركلي، الطبعة الخامسة عشر، عام 2002 م، دار العلم للملايين. 27 - إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم, تحقيق: طه عبدالرؤوف سعد، دار الجيل، بيروت، 1973 م. 28 - الاقتصاد في الاعتقاد، لعبدالغني المقدسي، تحقيق: أحمد الغامدي، الطبعة الأولى 1414، مكتبة العلوم والحكم، المدينة. 29 - اقتضاء الصراط المستقيم، لابن تيمية, تحقيق: د. ناصر العقل، الطبعة السابعة 1419، دار عالم الكتب، بيروت.
30 - أقدم عالم مغربي وصلنا تراثه: أبو الربيع سليمان ابن سبع السبتي -1 - ، لسعيد أحمد عراب، مجلة دعوة الحق - العدد 200، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، المملكة المغربية. 31 - الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله والثلاثة الخلفاء، للكلاعي, تحقيق: د. محمد كمال الدين، الطبعة الأولى 1417، عالم الكتب، بيروت. 32 - الإكمال، للحافظ ابن ماكولا، الطبعة الثانية 1993 م، دار الكتاب الإسلامي، القاهرة. 33 - إكمال الأعلام بتثليث الكلام، لمحمد الطائي الجياني، تحقيق: سعد الغامدي، 1404، جامعة أم القرى، مكة. 34 - الأماكن أو ما اتفق لفظه وافترق مسماه من الأمكنة، لأبي بكر الحازمي، تحقيق: حمد الجاسر، 1415، دار اليمامة. 35 - أمالي المحاملي، تحقيق وتخريج: د. إبراهيم القيسي، الطبعة الأولى 1412، دار ابن القيم، الدمام. 36 - إمتاع الأسماع بما للنبي من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع، لتقي الدين المقريزي، تحقيق: محمد عبدالحميد النميسي، الطبعة الأولى 1420، دار الكتب العلمية، بيروت. 37 - الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع، لجلال الدين السيوطي، تحقيق: ذيب القحطاني، 1409، مطابع الرشيد. 38 - إنباء الغمر بأبناء العمر، لابن حجر, تحقيق: د. محمد عبدالمعيد خان، الطبعة الثانية 1406، دار الكتب العلمية، بيروت.
39 - إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة، للبوصيري، تحقيق: دار المشكاة، الطبعة الأولى 1420، دار الوطن. 40 - الأنساب، للإمام السمعاني، تعليق: عبدالله البارودي، الطبعة الأولى 1408، دار جنان. 41 - الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به، للباقلاني، تحقيق: محمد زاهد الكوثري، الطبعة الثانية 1421، المكتبة الأزهرية، مصر. 42 - إيضاح المكنون في الذيل على كشف الظنون، للباباني, تحقيق: رفعت بيلكه الكليسي، دار إحياء التراث العربي، بيروت. 43 - الإيمان والرد على أهل البدع، لعبدالرحمن بن حسن بن محمد بن عبدالوهاب، الطبعة الثالثة 1412، دار العاصمة، الرياض. 44 - الباعث على إنكار البدع والحوادث، لأبي شامة المقدسي، تحقيق: عثمان أحمد عنبر، الطبعة الأولى 1398، دار الهدى، القاهرة. 45 - البحر الرائق شرح كنز الدقائق، لابن نجيم الحنفي، الطبعة الأولى 1418، دار الكتب العلمية، بيروت. 46 - بحر العلوم، لأبي الليث السمرقندي، تحقيق: د. محمود مطرجي، دار الفكر، بيروت. 47 - بدائع الفوائد، لابن القيم، تحقيق: هشام عطا وعادل العدوي وأشرف أحمد، الطبعة الأولى 1416، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة. 48 - البداية والنهاية، لابن كثير, تحقيق: علي شيري، الطبعة الأولى 1408، دار إحياء التراث العربي. 49 - البدر الطالع، للشوكاني, الطبعة الأولى 1418، دار الكتب العلمية، بيروت.
50 - براءة أهل السنة من الوقيعة في علماء الأمة، لبكر أبو زيد، الطبعة الثانية 1408، إدارة المطبوعات بوزارة الإعلام، الرياض. 51 - بستان الواعظين ورياض السامعين، لابن الجوزي، تحقيق: أيمن البحيري، الطبعة الثانية 1419، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت. 52 - بلوغ المُنى والظفر في بيان لاعدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر، لجار الله محمد بن عبدالعزيز ابن فهد، تحقيق: أحمد المصلحي، الطبعة الأولى 1417، دار الأندلس الخضراء، جدة. 53 - بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية، لشيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق: محمد بن عبدالرحمن بن قاسم، الطبعة الأولى 1392، مطبعة الحكومة، مكة. 54 - تاج العروس من جواهر القاموس، للمرتضى الزبيدي، دار الهداية. 55 - تاريخ ابن قاضي شهبة، تحقيق: عدنان درويش، المعهد العلمي الفرنسي للدراسات العربية، دمشق، 1994 م. 56 - تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، لشمس الدين الذهبي، تحقيق: د. عمر عبدالسلام تدمري، الطبعة الأولى 1407، دار الكتاب العربي، بيروت. 57 - تاريخ الأمم والملوك، لأبي جعفر الطبري، الطبعة الأولى 1407، دار الكتب العلمية، بيروت. 58 - تاريخ الخلفاء، لعبدالرحمن السيوطي، تحقيق محمد محي الدين عبدالحميد، الطبعة الأولى 1371، مطبعة السعادة، مصر. 59 - تاريخ العراق بين احتلالين، لعباس العزاوي، مطبعة بغداد، 1353. 60 - التاريخ الكبير، لمحمد بن إسماعيل البخاري، طبع تحت مراقبة: محمد عبدالمعيد خان،
دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد. 61 - تاريخ بغداد، للخطيب البغدادي، تحقيق: د. بشار عواد معروف، الطبعة الأولى 1422، دار الغرب الإسلامي، بيروت. 62 - تاريخ دمشق، لابن عساكر، تحقيق: عمرو بن غرامة العمروي، 1415، دار الفكر. 63 - التبرك أنواعه وأحكامه، لناصر الجديع، الطبعة الخامسة 1421، مكتبة الرشد، الرياض. 64 - التبيان لبديعة البيان، لابن ناصر الدين الدمشقي, تحقيق حسين بن عكاشة، الطبعة الأولى 1429، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، قطر. 65 - تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد، لمحمد بن الطاهر بن عاشور، 1984 م، الدار التونسية، تونس. 66 - تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، لمحمد المباركفوري، دار الكتب العلمية، بيروت. 67 - التخويف من النار والتعريف بحال دار البوار، لابن رجب الحنبلي، 1399، مكتبة دار البيان، دمشق. 68 - التدمرية، لابن تيمية, تحقيق: د. محمد السعوي، الطبعة السادسة 1421، مكتبة العبيكان، الرياض. 69 - التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة، للإمام القرطبي، تحقيق: الصادق بن محمد بن إبراهيم، الطبعة الأولى 1425، دار المنهاج، الرياض. 70 - التراتيب الإدارية، لعبد الحي الكتاني، دار الكتاب العربي، بيروت. 71 - الترغيب والترهيب من الحديث الشريف، لأبي محمد المنذري، تحقيق: إبراهيم شمس الدين، الطبعة الأولى 1417، دار الكتب العلمية، بيروت.
72 - تسهيل السابلة لمريد معرفة الحنابلة، لصالح آل عثيمين، تحقيق: بكر أبو زيد، الطبعة الأولى 1421، مؤسسة الرسالة، بيروت. 73 - التعريفات، لعلي الجرجاني، تحقيق: إبراهيم الأبياري، الطبعة الأولى 1405، دار الكتاب العربي، بيروت. 74 - تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، تحقيق: سامي بن محمد سلامة، الطبعة الثانية 1420، دار طيبة. 75 - تفسير غريب ما في الصحيحين البخاري ومسلم، لمحمد بن أبي نصر فتوح الأزدي الحميدي، تحقيق: زبيدة محمد سعيد، الطبعة الأولى 1415، مكتبة السنة، القاهرة. 76 - تفسير مقاتل بن سليمان، تحقيق: أحمد فريد، الطبعة الأولى 1424، دار الكتب العلمية، بيروت. 77 - تقريب التهذيب، لابن حجر العسقلاني، تحقيق: محمد عوامة، 1406، دار الرشيد، سوريا. 78 - التقييد لمعرفة رواة السنن والمسانيد، لمحمد بن عبدالغني البغدادي، تحقيق: كمال يوسف الحوت، 1408، دار الكتب العلمية، بيروت. 79 - تلبيس إبليس، لابن الجوزي، الطبعة الأولى 1421، دار الفكر، بيروت. 80 - تلخيص أحكام الجنائز، لمحمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الثالثة 1410، مكتبة المعارف، الرياض. 81 - تلخيص كتاب الاستغاثة - الرد على البكري -، لشيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق: محمد على عجال، الطبعة الأولى 1417، مكتبة الغرباء، المدينة. 82 - التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، لابن عبدالبر، تحقيق: مصطفى
العلوي ومحمد البكري، مؤسسة قرطبة. 83 - التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع، لأبي الحسين الملطي، تحقيق: محمد زاهد الكوثري، الطبعة الثانية 1977 م، المكتبة الأزهرية للتراث، القاهرة. 84 - تهذيب الآثار وتفصيل الثابت عن رسول الله من الأخبار، لأبي جعفر الطبري, تحقيق: محمود شاكر، مطبعة المدني، القاهرة. 85 - تهذيب التهذيب، لابن حجر العسقلاني، الطبعة الأولى 1404، دار الفكر. 86 - تهذيب الكمال، للإمام المزي، تحقيق: د. بشار عواد معروف، الطبعة الأولى 1400، مؤسسة الرسالة، بيروت. 87 - تهذيب اللغة، لأبي منصور الأزهري، تحقيق: محمد عوض مرعب، الطبعة الأولى 2001 م، دار إحياء التراث العربي، بيروت. 88 - التوابين، لابن قدامة المقدسي, تحقيق: عبدالقادر الأرناؤوط، 1403، دار الكتب العلمية، بيروت. 89 - التوسل أنواعه وأحكامه، لمحمد ناصر الدين الألباني، تنسيق: محمد عيد عباسي، الطبعة الخامسة 1406، المكتب الإسلامي. 90 - توضيح المشتبه في ضبط أسماء الرواة وأنسابهم وألقابهم وكناهم، لابن ناصر الدين الدمشقي، تحقيق: محمد نعيم العرقسوسي، الطبعة الأولى 1993 م، مؤسسة الرسالة، بيروت. 91 - توضيح المقاصد في شرح قصيدة الإمام ابن القيم، لأحمد بن عيسى، الطبعة الثالثة 1406، المكتب الإسلامي، بيروت. 92 - التوضيح عن توحيد الخلاق في جواب أهل العراق وتذكرة أولي الألباب في
طريقة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، لسليمان بن عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب، الطبعة الأولى 1404، دار طيبة، الرياض. 93 - تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد، لسليمان بن عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب، تحقيق: أسامة العتيبي، الطبعة الأولى 1428، دار العصيمي، الرياض. 94 - تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، لعبدالرحمن السعدي، تحقيق: عبدالرحمن اللويحق، الطبعة الأولى 1420، مؤسسة الرسالة. 95 - التيسير بشرح الجامع الصغير، لزين الدين المناوي، الطبعة الثالثة 1408، مكتبة الإمام الشافعي، الرياض. 96 - الثقات، لابن حبان، تحقيق: شرف الدين أحمد، الطبعة الأولى 1395، دار الفكر 97 - تاريخ الأدب العربي، لبروكلمان, أشرف على الترجمة: محمود فهمي جازي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة. 98 - جامع البيان في تأويل القرآن، لابن جرير الطبري، تحقيق: أحمد شاكر، الطبعة الأولى 1420، مؤسسة الرسالة. 99 - جامع الرسائل لشيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق: محمد رشاد سالم، 1405، دار المدني، جدة. 100 - الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسننه وأيامه، للإمام البخاري، تحقيق: محمد الناصر، الطبعة الأولى 1422، دار طوق النجاة. 101 - جامع بيان العلم وفضله، لابن عبدالبر، تحقيق: فواز أحمد زمرلي، الطبعة الأولى 1424، مؤسسة الريان - دار ابن حزم. 102 - الجامع لأحكام القرآن، لشمس الدين القرطبي، تحقيق: هشام البخاري، 1423، دار
عالم الكتب، الرياض. 103 - الجدول في إعراب القرآن، لمحمود صافي، الطبعة الرابعة 1418، دار الرشيد، دمشق. 104 - جزء فيه فوائد حديث أبي عمير، لابن القاص، تحقيق: صابر البطاوي، الطبعة الأولى 1413، مكتبة السنة، القاهرة. 105 - جمهرة الأجزاء الحديثية، اعتناء وتخريج: محمد زياد عمر تكلة، الطبعة الأولى 1421، مكتبة العبيكان، الرياض. 106 - جمهرة اللغة، لابن دريد، تحقيق: رمزي بعلبكي، الطبعة الأولى 1987 م، دار العلم للملايين، بيروت. 107 - الجواب الباهر في زوار المقابر، لابن تيمية، تحقيق: سليمان الصنيع وعبدالرحمن المعلمي، 1404، الرئاسة العامة لإدارة البحوث العلمية والافتاء، الرياض. 108 - حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، لمحمد عرفه الدسوقي، تحقيق: محمد عليش، دار الفكر، بيروت. 109 - حاضر العالم الإسلامي وقضاياه المعاصرة، د. جميل عبد الله المصري، الطبعة الأولى، 1407، مطابع الجامعة الإسلامية، المدينة. 110 - الحاوي للفتاوي، لجلال الدين السيوطي، تحقيق: عبداللطيف حسن عبدالرحمن، الطبعة الأولى 1421، دار الكتب العلمية، بيروت. 111 - الحجة في بيان المحجة وشرح عقيدة أهل السنة، لأبي القاسم الأصبهاني، تحقيق: محمد بن ربيع المدخلي، 1419، دار الراية، الرياض. 112 - الحق الواضح المبين في شرح توحيد الأنبياء والمرسلين، لعبدالرحمن السعدي،
الطبعة الثانية 1407، دار ابن القيم، الدمام. 113 - حقيقة التوحيد بين أهل السنة والمتكلمين، لعبدالرحيم السلمي، الطبعة الأولى 1421، دار المعلمة، الرياض. 114 - حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، لأبي نعيم الأصبهاني، الطبعة الرابعة 1405، دار الكتاب العربي، بيروت. 115 - الحمية الإسلامية في الانتصار لمذهب ابن تيمية، للإمام السرمري, تحقيق: صلاح الدين مقبول أحمد، الطبعة الأولى 1412، مجمع البحوث الإسلامية، الهند. 116 - الخصائص الكبرى، للإمام السيوطي، 1405، دار الكتب العلمية، بيروت 117 - خصائص المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بين الغلو والجفاء، للصادق بن محمد بن إبراهيم، الطبعة الأولى 1426، دار المنهاج، الرياض. 118 - خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر، للمحبي، 1284، المطبعة الوهيبة. 119 - خلاصة تذهيب تهذيب الكمال في أسماء الرجال، للحافظ صفي الدين الخزرجي، تحقيق: عبدالفتاح أبو غدة، 1416، دار البشائر، بيروت. 120 - الدر المصون في علوم الكتاب المكنون، للسمين الحلبي، تحقيق د. أحمد الخراط، دار القلم، دمشق. 121 - الدر المنثور في التفسير بالمأثور، لجلال الدين السيوطي، تحقيق: عبدالله التركي، الطبعة الأولى 1424، مركز هجر للبحوث، القاهرة. 122 - الدر المنضد في ذكر أصحاب الإمام أحمد، للعليمي, تحقيق: عبدالرحمن العثيمين، الطبعة الأولى 1412، مكتبة الناشر، السعودية. 123 - درء تعارض العقل والنقل، لابن تيمية, تحقيق د. محمد رشاد سالم، إدارة الثقافة
والنشر بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، 1411. 124 - الدرة اليتيمة والمحجة المستقيمة، ليحيى الصرصري، تحقيق: جاسم الدوسري، الطبعة الأولى 1424، دار ابن حزم، بيروت. 125 - درر العقود الفريدة في تراجم الأعيان المفيدة، للمقريزي, تحقيق د. محمود الجليلي، الطبعة الأولى 1423، دار الغرب الإسلامي، بيروت. 126 - الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، لابن حجر, تحقيق: محمد عبدالمعيد ضان، مجلس دائرة المعارف الثمانية، 1392، الهند. 127 - دلائل النبوة، لأبي نعيم الأصبهاني، تحقيق: محمد رواس قلعه جي وعبدالبر عباس، الطبعة الثانية 1406، دار النفائس، بيروت. 128 - دلائل النبوة، للإمام البيهقي، تحقيق: د. عبدالمعطي قلعجي، الطبعة الأولى 1408، دار الكتب العلمية، بيروت. 129 - ذم الهوى، لابن جوزي، تحقيق: خالد عبداللطيف السبع العلمي، الطبعة الأولى 1418، دار الكتاب العربي، بيروت. 130 - ذيل التقييد في رواة السنن والمسانيد، لمحمد بن أحمد الفاسي المكي، تحقيق: كمال يوسف الحوت، الطبعة الأولى 1410، دار الكتب العلمية، بيروت. 131 - الذيل على طبقات الحنابلة، لابن رجب، تحقيق: عبدالرحمن العثيمين، الطبعة الأولى 1425، مكتبة العبيكان، الرياض. 132 - ذيل مرآة الزمان، لليونيني، الطبعة الأولى 1374، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، حيدر اباد. 133 - رد المحتار على الدر المختار، لابن عابدين، الطبعة الثانيظة 1412، دار الفكر،
بيروت. 134 - الرد الوافر على من زعم أن من سمى ابن تيمية شيخ الإسلام كافر، لابن ناصر الدين الدمشقي, تحقيق: زهير الشاويش، الطبعة الرابعة 1426، المكتب الإسلامي، بيروت، دمشق، عَمان. 135 - الرد على المنطقيين، لابن تيمية، دار المعرفة، بيروت. 136 - رسالة التوحيد، لمحمد عبده، دار الكتاب العربي 1966 م. 137 - رسالة إلى أهل الثغر، لأبي الحسن الأشعري، تحقيق: عبدالله شاكر الجنيدي، الطبعة الأولى 1988 م، مكتبة العلوم والحكم، دمشق. 138 - رفع النقاب عن تراجم الأصحاب، لابن ضويان, تحقيق: عمر بن غرامة العمروي، الطبعة الأولى 1418، دار الفكر، بيروت. 139 - رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز، للإمام الرسعني، تحقيق: أ. د. عبدالملك بن دهيش، الطبعة الأولى 1429، مكتبة الأسدي، مكة المكرمة. 140 - روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني، لمحمود الألوسي، دار إحياء التراث، بيروت. 141 - الروح في الكلام على أرواح الأموات والأحياء بالدلائل من الكتاب والسنة، لابن القيم، 1395، دار الكتب العلمية، بيروت. 142 - روضة المحبين ونزهة المشتاقين، لابن القيم، 1412، دار الكتب العلمية، بيروت. 143 - الرياض الندية على شرح العقيدة الطحاوية، تعليق: د. عبدالله عبدالرحمن الجبرين، الطبعة الأولى 1431، دار الصميعي، الرياض. 144 - زاد المسير في علم التفسير، لابن الجوزي، الطبعة الثالثة 1404، المكتب الإسلامية، بيروت.
145 - الزاهر في معاني كلمات الناس، لأبي بكر الأنباري، تحقيق: د. حاتم الضامن، الطبعة الأولى 1412، مؤسسة الرسالة، بيروت. 146 - السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة، لمحمد بن عبدالله بن حميد, تحقيق: بكر أبو زيد وعبدالرحمن العثيمين، الطبعة الأولى 1416، مؤسسة الرسالة، بيروت. 147 - سلسلة الأحاديث الصحيحة، لمحمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف، الرياض. 148 - سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيء في الأمة، للإمام الألباني، الطبعة الأولى 1412، دار المعارف، الرياض. 149 - السلوك لمعرفة دول الملوك، للمقريزي، تحقيق: محمد عبدالقادر عطا، الطبعة الأولى 1418، دار الكتب العلمية، بيروت. 150 - سمات العطاء الأدبي والفكري في القرن الثامن الهجري، للأستاذ هلال ناجي، مجلة مجمع اللغة العربية الأردني - العدد 63. 151 - السنة، لأبي بكر الخلال، تحقيق: د. عطية الزهراني، الطبعة الأولى 1410، دار الراية، الرياض. 152 - السنة قبل التدوين، لمحمد عجاج الخطيب، الطبعة الثانية 1408، مكتبة وهبة، مصر. 153 - السنة، لابن أبي عاصم لأبي بكر أحمد بن عمرو بن أبي عاصم، ومعه: ظلال الجنة في تخريج السنة, لمحمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى 1400، المكتب الإسلامي، بيروت. 154 - سنن أبي داود، تحقيق: محمد محيي الدين عبدالحميد، المكتبة العصرية، بيروت 155 - سنن الترمذي، لأبي عيسى الترمذي، تحقيق: إبراهيم عطوة، الطبعة الثانية 1395، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر.
156 - سنن الدارمي، للإمام الدارمي، تحقيق: حسن سليم، الطبعة الأولى 1412، دار المغني. 157 - السنن الصغرى، للنسائي، تحقيق: عبدالفتاح أبو غدة، الطبعة الثانية 1406، مكتبة المطبوعات الإسلامية، حلب. 158 - السنن الكبرى، لأبي بكر البيهقي، تحقيق: محمد عبدالقادر عطا، الطبعة الثالثة 1424، دار الكتب العلمية، بيروت 159 - السنن الكبرى، للبيهقي، الطبعة الأولى 1344، مجلس دائرة المعارف النظامية، حيدر آباد. 160 - السنن الكبرى، للإمام النسائي, تحقيق: حسن عبدالمنعم شلبي، الطبعة الأولى 1421، مؤسسة الرسالة، بيروت. 161 - سير أعلام النبلاء، للإمام الذهبي, تحقيق: شعيب الأرنؤوط، الطبعة التاسعة 1413، مؤسسة الرسالة، بيروت. 162 - الشامل في أصول الدين، للجويني، تحقيق: علي النشار وفيصل عون وسهير مختار، منشأة المعارف، الاسكندرية. 163 - شذرات الذهب في أخبار من ذهب، لابن عماد الحنبلي, تحقيق: عبدالقادر الأرنؤوط ومحمود الأرناؤوط، الطبعة الأولى 1412، دار ابن كثير، دمشق - بيروت. 164 - شرح أشعار الهذليين، لأبي سعيد السكري، تحقيق: عبدالستار أحمد فراج، مكتبة دار العروبة، القاهرة. 165 - شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، للإمام اللالكائي، تحقيق د. أحمد الغامدي، الطبعة الرابعة 1416، دار طيبة. الرياض.
166 - شرح الأصول الخمسة، للقاضي عبدالجبار بن أحمد، تحقيق: عبدالكريم عثمان، الطبعة الثالثة 1416، مكتبة وهبة، القاهرة. 167 - شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية، لمحمد بن عبدالباقي الزرقاني, الطبعة الأولى 1417، دار الكتب العليمة، بيروت. 168 - شرح السنة، لحسن البربهاري، تحقيق د. محمد القحطاني، الطبعة الأولى 1408، دار ابن القيم، الدمام. 169 - شرح الشفا، لعلي القاري، الطبعة الأولى 1421، دار الكتب العلمية، بيروت. 170 - شرح العقيدة التدمرية، لعبدالرحمن البراك، إعداد: سليمان الغصن، الطبعة الأولى 1425، دار كنوز إشبيليا، الرياض. 171 - شرح العقيدة الطحاوية، لابن أبي العز, تحقيق أحمد شاكر، 1418، وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، المملكة العربية السعودية. 172 - شرح العقيدة الطحاوية، لابن أبي العز الحنفي، تحقيق: جماعة من العلماء، تخريج: ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى 1426، دار السلام. 173 - شرح اللؤلؤ في النحو، للسرمري, تحقيق: إبراهيم حمد الدليمي، رسالة ماجستير في اللغة العربية وآدابها بكلية الدراسات العليا في الجامعة الأردنية، 1995 م. 174 - شرح المعلقات التسع، منسوب لأبي عمرو الشيباني، تحقيق: عبدالمجيد همو، الطبعة الأولى 1422، مؤسسة الأعلمي، بيروت. 175 - شرح المقاصد في علم الكلام، لسعد الدين التفتازاني، 1401، دار المعارف النعمانية، باكستان. 176 - شرح سنن أبي داود، لبدر الدين العيني، تحقيق: أبو المنذر خالد المصري، الطبعة
الأولى 1420، مكتبة الرشد، الرياض. 177 - شرح مشكل الآثار، لأبي جعفر الطحاوي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، الطبعة الأولى 1415، مؤسسة الرسالة. 178 - شعب الإيمان، لإمام البيهقي، تحقيق: د. عبدالعلي عبدالحميد، الطبعة الأولى 1423، مكتبة الرشد، الرياض. 179 - الشفا بتعريف حقوق المصطفى، للقاضي عياض، تحقيق: علي البجاوي، 1404، دار الكتب العلمية، بيروت. 180 - الشمائل الشريفة، لجلال الدين السيوطي، تحقيق: حسن بن عبيد باحبيشي، دار طائر العلم. 181 - الشمائل المحمدية والخصائل المصطفوية، لأبي عيسى الترمذي، تحقيق: سيد عباس الجليمي، الطبعة الأولى 1413، المكتبة التجارية، مكة. 182 - الصارم المسلول على شاتم الرسول، لابن تيمية، تحقيق: محمد عبدالله الحلواني ومحمد كبير أحمد شوردي، الطبعة الأولى 1417، دار ابن حزم، بيروت. 183 - الصارم المنكي في الرد على السبكي، لابن عبدالهادي، تحقيق عقيل بن محمد اليماني، الطبعة الأولى 1424، مؤسسة الريان، بيروت. 184 - الصحاح، لإسماعيل الجوهري، تحقيق: أحمد عطار، الطبعة الرابعة 1990 م، دار العلم للملايين، بيروت. 185 - صحيح الجامع الصغير وزيادته، لمحمد ناصر الدين الألباني، تحقيق: زهير الشاويش، الطبعة الثالثة 1408، المكتب الإسلامي، بيروت. 186 - صحيح ابن حبان، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، الطبعة الثانية 1414، مؤسسة الرسالة،
بيروت. 187 - صحيح أبي داود، للإمام الألباني، الطبعة الأولى 1423، مؤسسة غراس، الكويت 188 - صحيح الترغيب والترهيب، لمحمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى 1421، مكتبة المعارف، الرياض 189 - صحيح سنن ابن ماجه، لمحمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى 1417، مكتبة المعارف، الرياض. 190 - صحيح سنن الترمذي، للإمام الألباني، الطبعة الأولى 1420، مكتبة المعارف، الرياض. 191 - صحيح سنن النسائي، للإمام الألباني, الطبعة الأولى 1419، مكتبة المعارف، الرياض. 192 - صحيح موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان، لمحمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى 1422، دار الصميعي، الرياض. 193 - صفوة الصفوة، لابن الجوزي، تحقيق: محمود فاخوري ود. محمد رواس قلعه جي، الطبعة الثانية 1399، دار المعرفة، بيروت. 194 - الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، لابن القيم, د. علي الدخيل الله، الطبعة الثالثة 1418، دار العاصمة، الرياض. 195 - الضعفاء والمتروكون، لابن الجوزي، تحقيق: عبدالله القاضي، الطبعة الأولى 1406، دار الكتب العلمية، بيروت. 196 - ضعيف الترغيب والترهيب، للإمام الألباني، الطبعة الأولى 1421، مكتبة المعارف. 197 - ضعيف الجامع الصغير وزيادته، للإمام الألباني، الطبعة الثالثة 1408، المكتب
الإسلامي، بيروت. 198 - ضعيف سنن ابن ماجه، للإمام الألباني، الطبعة الأولى 1417، مكتبة المعارف، الرياض. 199 - ضعيف سنن أبي داود، لمحمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى 1419، مكتبة المعارف، الرياض. 200 - ضعيف سنن الترمذي، لمحمد ناصر الدين الألباني، ، الطبعة الأولى 1411، المكتب الإسلامي، بيروت. 201 - الضوء اللامع لأهل القرن التاسع، للإمام السخاوي, الطبعة الأولى 1412، دار الجيل، بيروت. 202 - طبقات الأولياء، لابن الملقن، تحقيق: نور الدين شريبه، الطبعة الثانية 1415، مكتبة الخانجي، القاهرة. 203 - طبقات الحنابلة، لأبي الحسين محمد بن أبي يعلى، تحقيق محمد حامد الفقي، دار المعرفة، بيروت. 204 - طبقات الشافعية الكبرى، لتقي الدين السبكي, تحقيق: د. محمودالطناحي ود. عبدالفتاح محمد الحلو، الطبعة الثانية 1413، دار هجر. 205 - الطبقات الكبرى، لابن سعد، تحقيق: إحسان عباس، الطبعة الأولى 1968 م، دار صادر، بيروت. 206 - الطبقات الكبير، لابن سعد، تحقيق: علي محمد عمر، الطبعة الأولى 2001 م، مكتبة الخانجي، القاهرة. 207 - الطبقات، لخليفة بن خياط، تحقيق: د. أكرم ضياء العمري، الطبعة الثانية 1402، دار طيبة، الرياض.
208 - طريق الهجرتين وباب السعادتين، لابن القيم، تحقيق: عمر بن محمود أبو عمر، الطبعة الثانية 1414، دار ابن القيم، الدمام. 209 - العجالة في الأحاديث المسلسلة، لأبي فيض محمد ياسين الفاداني المكي، الطبعة الثانية 1985 م، دار البصائر، دمشق. 210 - عصر سلاطين المماليك التاريخ السياسي والاجتماعي، د. قاسم عبده قاسم، الطبعة الأولى 1988، الناشر: عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية. 211 - عصر سلاطين المماليك ونتاجه العلمي والأدبي، لمحمد رزق سليم، الطبعة الثانية 1381، مكتبة الآداب. 212 - عقيدة السلف وأصحاب الحديث، لأبي عثمان الصابوني، تحقيق: ناصر الجديع، الطبعة الثانية 1419، دار العاصمة، الرياض. 213 - العقيدة الطحاوية شرح وتعليق، لمحمد ناصر الدين الألباني. 214 - العلل المتناهية في الأحاديث الواهية، لابن الجوزي، تحقيق: خليل الميس، الطبعة الأولى 1403، دار الكتب العلمية، بيروت. 215 - العلل، لابن أبي حاتم، تحقيق: فريق من الباحثين بإشراف: د. سعد الحميد ود. خالد الجريسي، الطبعة الأولى 1427، مطابع الحميضي. 216 - العلو للعلي الغفار، للإمام الذهبي، تحقيق: أشرف بن عبدالمقصود، الطبعة الأولى 1995 م، مكتبة أضواء السلف، الرياض. 217 - عمدة القاري شرح صحيح البخاري، لبدر الدين العيني، ضبط وتصحيح: عبدالله عمر، الطبعة الأولى 1421، دار الكتب العلمية، بيروت. 218 - عمدة الكتاب، لأبي جعفر النحاس، تحقيق: بسام الجابي، الطبعة الأولى 1425، دار
ابن حزم. 219 - العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم، لابن الوزير، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، الطبعة الثالثة 1415، مؤسسة الرسالة، بيروت. 220 - عيون الحكايات، لابن الجوزي، تحقيق: عبدالعزيز سيد هاشم الغزولي، الطبعة الثانية 1429، دار الكتب العلمية، بيروت. 221 - غذاء الألباب شرح منظومة الآداب، لمحمد بن أحمد السفاريني، تحقيق: محمد الخالدي، الطبعة الثانية 1423، دار الكتب العلمية، بيروت. 222 - غريب الحديث، لقاسم بن سلام، تحقيق: د. محمد عبدالمعيد خان، الطبعة الأولى 1396، دار الكتاب العربي، بيروت. 223 - غريب الحديث، لابن الجوزي، تحقيق: د. عبدالمعطي أمين قلعجي، الطبعة الأولى 1985، دار الكتب العلمية، بيروت. 224 - غياث الأمم والتياث الظلم، لأبي المعالي الجويني، تحقيق: د. فؤاد عبدالمنعم ود. مصطفى حلمي، 1979 م، دار الدعوة، الاسكندرية. 225 - الفائق في غريب الحديث، لمحمود الزمخشري، تحقيق: علي البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم، الطبعة الثانية، دار المعرفة، لبنان. 226 - فتاوى اللجنة الدائمة - المجموعة الثانية، جمع وترتيب: أحمد بن عبدالرزاق الدويش، الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء، المملكة العربية السعودية. 227 - فتح الباري شرح صحيح البخاري، لابن حجر، 1397، دار المعرفة، بيروت. 228 - فتح القدير، للإمام الشوكاني، الطبعة الأولى 1414، دار ابن كثير - دار الكلم الطيب، دمشق -بيروت.
229 - فتح المغيث شرح ألفية الحديث، لشمس الدين السخاوي، الطبعة الأولى 1403، دار الكتب العلمية، لبنان. 230 - فتوح الشام، لأبي عبدالله الواقدي، الطبعة الأولى 1417، دار الكتب العلمية، بيروت. 231 - الفتوى الحموية الكبرى، لشيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق د. حمد التويجري، الطبعة الثانية 1425، دار العصيمي، الرياض. 232 - الفردوس بمأثور الخطاب، لشيرويه الدليمي، تحقيق: السعيد بن بسيوني زغلول، 1406، دار الكتب العلمية، بيروت. 233 - الفرق بين الفرق وبيان الفرقة الناجية، لعبدالقاهر بن طاهر البغدادي، الطبعة الثانية 1977 م، دار الآفاق الجديدة، بيروت. 234 - فضائل الخلفاء الراشدين وغيرهم، لأبي نعيم الأصبهاني، تحقيق: صالح العقيل، الطبعة الأولى 1417، دار البخاري، المدينة. 235 - فضائل الصحابة، لأحمد بن حنبل، تحقيق: د. وصي الله محمد عباس، الطبعة الأولى 1403، مؤسسة الرسالة، بيروت. 236 - الفهرس الشامل للتراث العربي الإسلامي المخطوط، المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية (مؤسسة آل البيت). 237 - فهرس الفهارس والأثبات ومعجم المعاجم والمشيخات والمسلسلات، لعبدالحي الكتاني, باعتناء: إحسان عباس، الطبعة الثانية 1982، دار الغرب الإسلامي، بيروت. 238 - الفوائد، لأبي القاسم تمام بن محمد، تحقيق: حمدي عبدالمجيد السلفي، الطبعة الأولى
1412، مكتبة الرشد، الرياض. 239 - القاموس المحيط، للفيروز آبادي, تحقيق: مكتب تحقيق التراث في مؤسسة الرسالة، الطبعة الثامنة 1426، مؤسسة الرسالة، بيروت. 240 - القربة إلى رب العالمين بالصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - سيد المرسلين، لابن بشكوال، تحقيق: حسين محمد علي شكري، الطبعة الأولى 2010، دار الكتب العلمية 241 - القضاء والقدر في ضوء الكتاب والسنة ومذاهب الناس فيه، د. عبدالرحمن المحمود، الطبعة الثانية 1418، دار الوطن. 242 - القواعد الحسان لتفسير القرآن، لعبدالرحمن السعدي، الطبعة الأولى 1420، مكتبة الرشد، الرياض. 243 - القول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع، لشمس الدين السخاوي، دار الريان للتراث، الجيزة. 244 - القول السديد شرح كتاب التوحيد، لعبدالرحمن السعدي، تحقيق: صبري شاهين، الطبعة الأولى 1425، دار الثبات، الرياض. 245 - الكامل في التاريخ، لأبي الحسن الشيباني، تحقيق: عبدالله القاضي، الطبعة الثانية 1415، دار الكتب العلمية، بيروت. 246 - الكامل في ضعفاء الرجال، لابن عدي, تحقيق: يحيى غزاوي، 1409، دار الفكر، بيروت. 247 - الكامل في ضعفاء الرجال، لابن عدي، تحقيق: يحيى مختار غزاوي، 1408، دار الفكر، بيروت. 248 - كتاب التوحيد، لابن خزيمة، تحقيق: عبدالعزيز الشهوان، الطبعة الخامسة 1414،
مكتبة الرشد، الرياض. 249 - كتاب الشريعة، للإمام أبي بكر الآجري، تحقيق: عبدالله الدميجي، الطبعة الأولى 1418، دار الوطن، الرياض. 250 - كتاب المجموع شرح المهذب للشيرازي، لمحمد نجيب المطيعي، مكتبة الإرشاد، جدة. 251 - كتاب المواقف، لعضد الدين الإيجي، تحقيق د. عبدالرحمن عميرة، الطبعة الأولى 1977 م، دار الجيل، بيروت. 252 - كتاب الموضوعات، لابن الجوزي، تحقيق: عبدالرحمن محمد عثمان، الطبعة الأولى 1386، المكتبة السلفية، المدينة. 253 - كتاب عمل اليوم والليلة، لابن السني، تحقيق: بشير محمد عيون، الطبعة الأولى 1407، مكتبة المؤيد، الطائف. 254 - كتاب فيه ذكر الوباء والطاعون، ليوسف السرمري، تحقيق: شوكت بن رفقي شوكت، الطبعة الأولى 1424، دار الأثرية بعَمان، دار المحبة بدمشق. 255 - كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم، لمحمد التهانوي، تحقيق: د. علي دحروج، الطبعة الأولى 1996 م، مكتبة لبنان، بيروت. 256 - كشاف القناع عن متن الإقناع، لمنصور البهوتي، تحقيق: لجنة بإشراف: عبدالعزيز بن قاسم، 1430، وزارة العدل، الرياض. 257 - كشف الظنون، لحاجي خليفة, تحقيق: محمد شرف الدين يالتقيا ورفعت بيلكه الكليسي، دار إحياء التراث العربي، بيروت. 258 - كشف المشكل من حديث الصحيحين، لابن الجوزي، تحقيق: علي حسين النواب،
دار الوطن، الرياض. 259 - كشف زيف التصوف وبيان حقيقته وحال حملته، لربيع بن هادي المدخلي، الطبعة الأولى 1427، مجالس الهدى، الجزائر. 260 - كشف غياهب الظلام عن أوهام جلاء الأوهام، لسليمان بن سحمان, الطبعة الأولى 1426، أضواء السلف، الرياض. 261 - الكشف والبيان، لأبي إسحاق الثعلبي، تحقيق: ابن عاشور، الطبعة الأولى 1422، دار إحياء التراث، بيروت. 262 - الكفاية في علم الرواية، للخطيب البغدادي، تحقيق: أبو عبدالله السورقي وإبراهيم حمدي المدني، المكتبة العلمية، المدينة. 263 - الكلم الطيب، لابن تيمية، تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى 1422، مكتبة المعارف، الرياض. 264 - كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، للمتقي الهندي، تحقيق: بكري حياني، الطبعة الخامسة 1401، مؤسسة الرسالة. 265 - اللؤلؤة في علم العربية وشرحها، للسرمري, تحقيق د. أمين عبدالله سالم، الطبعة الأولى 1412، مطبعة الأمانة، مصر. 266 - لباب التأويل في معاني التنزيل، للخازن، 1399، دار الفكر، بيروت. 267 - لحظ الألحاظ بذيل طبقات الحفاظ، لابن فهد, دار إحياء التراث العربي. 268 - لسان العرب، لابن منظور, الطبعة الأولى، دار الصادر، بيروت. 269 - لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف، لابن رجب الحنبلي، تحقيق: ياسين السواس، الطبعة الخامسة 1420، دار ابن كثير، دمشق.
270 - لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية لشرح الدرة المضية في عقد الفرقة المرضية، لشمس الدين السفاريني، الطبعة الثانية 1402، مؤسسة الخافقين ومكتبتها، دمشق. 271 - المتفق والمفترق، للخطيب البغدادي، تحقيق: د. محمد صادق الحامدي، الطبعة الأولى 1417، دار القادري، دمشق. 272 - مجلة البحوث الإسلامية، الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء، المملكة العربية السعودية. 273 - مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، لنور الدين الهيثمي، 1408، دار الكتب العلمية، بيروت. 274 - مجموع الفتاوى، جمع وترتيب: عبدالرحمن بن قاسم وابنه محمد، 1416، مجمع الملك فهد، المدينة. 275 - مجموع فتاوى العلامة عبدالعزيز بن باز، جمع وترتيب: محمد الشويعر، موقع الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء. 276 - محض الصواب, لابن المبرد، تحقيق: عبدالعزيز الفريح، الطبعة الأولى 1420، عمادة البحث العلمي بالجامعة الإسلامية، المدينة. 277 - مختار الصحاح، لمحمد الرازي، تحقيق: محمود خاطر، 1415، مكتبة لبنان، بيروت. 278 - مختصر استدراك الحافظ الذهبي على مستدرك أبي عبدالله الحاكم، لابن الملقن، تحقيق: سعد آل حميد، الطبعة الأولى 1411، دار العاصمة، الرياض. 279 - مدارج السالكين بين منازل "إياك نعبد وإياك نستعين"، لابن القيم، الطبعة الأولى دار الكتب العلمية، بيروت.
280 - المدخل المفصل إلى فقه الإمام أحمد بن حنبل، لبكر أبو زيد، دار العاصمة. 281 - مراتب الإجماع في العبادات والمعاملات والاعتقادات، لابن حزم، دار الكتب العلمية، بيروت. 282 - المستدرك على الصحيحين، لأبي عبدالله الحاكم، تحقيق: مصطفى عبدالقدار عطا، الطبعة الأولى 1411، دار الكتب العلمية، بيروت. 283 - مسند أبي يعلى، لأبي يعلى الموصلي، تحقيق: حسين سليم أسد، الطبعة الأولى 1404، دار المأمون، دمشق. 284 - مسند إسحاق بن راهويه، تحقيق: د. عبدالغفور البلوشي، الطبعة الأولى 1412، مكتبة الإيمان، المدينة. 285 - مسند الإمام أحمد بن حنبل، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرون، الطبعة الثانية 1420، مؤسسة الرسالة. 286 - مسند الإمام زيد، جمعه: عبدالعزيز بن إسحاق البغدادي، دار الكتب العلمية، بيروت. 287 - مسند البزار، تحقيق: محفوظ الرحمن زين الله، الطبعة الأولى 1988 م، مكتبة العلوم والحكم، المدينة. 288 - مسند الشاميين، لأبي قاسم الطبراني، تحقيق: حمدي السلفي، الطبعة الأولى 1416، مؤسسة الرسالة، بيروت. 289 - المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لإمام مسلم، تحقيق: محمد فؤاد عبدالباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
290 - مسند أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وأقواله على أبواب العلم، لابن كثير، تحقيق: عبدالمعطي قلعجي، الطبعة الأولى 1411، دار الوفاء، المنصورة. 291 - المسند للإمام أحمد، شرح: أحمد شاكر، الطبعة الأولى 1416، دار الحديث، القاهرة. 292 - مشكاة المصابيح، لمحمد بن عبدالله الخطيب التبريزي، تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الثالثة 1405، المكتب الإسلامي، بيروت. 293 - مشيخة ابن الجوزي، لأبي الفرج ابن الجوزي، تحقيق: محمد محفوظ، الطبعة الثالثة 2006 م، دار الغرب الإسلامي، بيروت. 294 - المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي، لأحمد الفيومي، المكتبة العلمية، بيروت. 295 - مصنف بن أبي شيبة، تحقيق: محمد عوامة، الطبعة الأولى 1427، دار القبلة. 296 - مصنف عبدالرزاق، لأبي بكر عبدالرزاق بن همام الصنعاني، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، الطبعة الثانية 1403، المكتب الإسلامي، بيروت. 297 - المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية، لابن حجر، تنسيق: د. سعد الشثري، الطبعة الأولى 1419، دار العاصمة. 298 - معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول، لحافظ الحكمي، تحقيق: عمر بن محمود، الطبعة الأولى 1410، دار ابن القيم. 299 - المعالم الأثيرة في السنة والسيرة، لمحمد بن محمد حسن شراب، الطبعة الأولى 1411، دار القلم، دمشق. 300 - معالم التنزيل، للإمام البغوي، تحقيق: محمد النمر وعثمان ضميرية وسليمان الحرش،
الطبعة الرابعة 1417، دار طيبة. 301 - معاني القرآن، لأبي زكريا الفراء، تحقيق: أحمد نجاتي ومحمد نجار وعبدالفتاح شلبي، دار المصرية، مصر. 302 - معجم ابن الأعرابي، تحقيق وتخريج: عبدالمحسن الحسيني، الطبعة الأولى 1418، دار ابن الجوزي، الدمام. 303 - المعجم الأوسط، للإمام الطبراني، تحقيق: طارق بن عوض الله، 1415، دار الحرمين، القاهرة. 304 - معجم البلدان، لياقوت الحموي، الطبعة الثانية 1955 م، دار الصادر، بيروت. 305 - معجم الشيوخ، لابن عساكر، تحقيق: د. وفاء تقي الدين، الطبعة الأولى 1421، دار البشائر، دمشق. 306 - المعجم الصغير، للإمام الطبراني، تحقيق: محمد شكور، الطبعة الأولى 1405، المكتب الإسلامي، بيروت. 307 - المعجم الكبير، لأبي القاسم الطبراني، تحقيق: حمدي السلفي، الطبعة الثانية 1404، مكتبة العلوم والحكم، الموصل. 308 - معجم المؤلفين، لعمر كحالة، مكتبة المثنى ودار إحياء التراث، لبنان. 309 - معجم المعاجم والمشيخات، ليوسف المرعشلي، الطبعة الأولى 1423، مكتبة الرشد، الرياض. 310 - المعجم الوسيط، لإبراهيم مصطفى وأحمد الزيات وحامد عبدالقادر ومحمد النجار، تحقيق: مجمع اللغة العربية، دار الدعوة. 311 - المعجم الوسيط، الطبعة الرابعة 1425، مكتبة الشروق الدولية، مصر.
312 - معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع، لأبي عبيد البكري, تحقيق: مصطفى السقا، الطبعة الثالثة 1403، عالم الكتب، بيروت. 313 - معجم ما ألف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لصلاح الدين المنجد, الطبعة الأولى 1402، دار الكتاب الجديد، لبنان؛ وذكره باسم "شفاء الأنام في طب أهل الإسلام". 314 - معجم مشايخ أبي عبدالله محمد بن عبدالواحد بن محمد الدقاق، لأبي عبدالله الدقاق، تحقيق: الشريف حاتم العوني، الطبعة الأولى 1997 م، مكتبة الرشد، الرياض. 315 - معجم مصنفات الحنابلة، لعبدالله بن محمد الطريقي, الطبعة الأولى 1422. 316 - معجم معالم الحجاز، د. عاتق البلادي، الطبعة الثانية 1431، دار مكة، مكة. 317 - معجم مقاييس اللغة، لابن فارس, تحقيق: عبدالسلام هارون، 1399، دار الفكر. 318 - المغازي، لأبي عبدالله الواقدي، تحقيق: مارسدن جونس، الطبعة الثالثة 1409، دار الأعلمي، بيروت. 319 - المغني في أبواب التوحيد والعدل، لعبدالجبار الأسد آبادي، تحقيق: محمود قاسم. 320 - مفاتيح الغيب، للفخر الرازي، الطبعة الأولى 1421، دار الكتب العلمية، بيروت. 321 - مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة, للإمام السيوطي، الطبعة الثالثة 1399، الجامعة الإسلامية، المدينة. 322 - مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة، لابن القيم، دار الكتب العلمية، بيروت. 323 - المفردات في غريب القرآن، للراغب الأصفهاني، تحقيق: محمد سيد كيلاني، دار المعرفة، لبنان. 324 - مقالات الإسلاميين، لأبي الحسن الأشعري، تحقيق: هلموت ريتر، الطبعة الثالثة، دار
إحياء التراث، بيروت 325 - مقدمة ابن خلدون، لولي الدين عبدالرحمن بن خلدون، تحقيق: عبدالله الدرويش، الطبعة الأولى 1425، دار يعرب، دمشق. 326 - المقدمة اللؤلؤة في النحو، للسرمري, الطبعة الأولى 1410، مكتبة الخانجي، القاهرة. 327 - الملل والنحل، للشهرستاني، تحقيق: محمد كيلاني، 1404، دار المعرفة، بيروت. 328 - مناقب الأسد الغالب، لابن الجزري، تحقيق طارق الطنطاوي، مكتبة القرآن، مصر 329 - المناهل المسلسلة في الأحاديث المسلسلة، لمحمد الأيوبي، الطبعة الأولى 1403، دار الكتب العلمية، بيروت. 330 - المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، لابن الجوزي، الطبعة الأولى 1358، دار صادر، بيروت. 331 - المنتقى من معجم شيوخ شهاب الدين أبي العباس أحمد بن رجب الحنبلي، لعبدالرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي, تحقيق: عبدالله الكندري، الطبعة الأولى 1426، غراس، الكويت. 332 - منهاج السنة النبوية، لابن تيمية, تحقيق: د. محمد رشاد سالم، الطبعة الأولى، مؤسسة قرطبة. 333 - المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، لإمام النووي، إعداد: علي عبدالحميد أبو الخير، الطبعة الخامسة 1420، دار الخير، بيروت. 334 - المنهج الأحمد في تراجم أصحاب الإمام أحمد، للعليمي, تحقيق حسن إسماعيل مروة وعبدالقادر الأرناؤوط، الطبعة الأولى 1997 م، دار الصادر، بيروت. 335 - منهج الإمام ابن بطة في تقرير عقيدة السلف والرد على أهل الأهواء والبدع،
رسالة دكتوراه (مخطوط)، لحمد بن عبدالمحسن التويجري، كلية أصول الدين بالرياض، 1417. 336 - منهج النقد في علوم الحديث، لنور الدين عتر، الطبعة الثالثة 1418، دار الفكر، دمشق. 337 - منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله، لخالد بن عبداللطيف بن محمد نور، مكتبة الغرباء الأثرية، المدينة النبوية. 338 - المنهل الصافي والمستوفى بعد الوافي، ليوسف بن تغري بردي الأتابكي، تحقيق: د. محمد محمد أمين، 1984 م، الهيئة المصرية العامة للكتاب. 339 - موسوعة رسائل ابن أبي الدنيا، تحقيق: زياد حمدان، الطبعة الأولى 1414، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت. 340 - موقف ابن تيمية من الأشاعرة، د. عبدالرحمن المحمود، الطبعة الأولى 1415، مكتبة الرشد، الرياض. 341 - موقف خليل بن أيبك الصفدي من شيخ الإسلام أبي العباس أحمد بن عبدالحليم بن تيمية رحمة الله تعالى عليه، لمحمد بن عبدالله أحمد، الطبعة الأولى 1426، أضواء السلف، الرياض. 342 - شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق - صلى الله عليه وسلم -، للنبهاني, المطبعة الميمنية، مصر، 1323. 343 - النبوات، لابن تيمية, المطبعة السلفية، 1386، القاهرة. 344 - نزهة المجالس ومنتخب النفائس، لعبدالرحمن الصفوري، 1283، المطبعة الكاستلية، مصر.
345 - نظم المتناثر من الحديث المتواتر، لمحمد بن جعفر الكتاني، الطبعة الثانية، دار الكتب السلفية، مصر. 346 - نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، لأحمد بن محمد المقري التلمساني، تحقيق: د. إحسان عباس، 1388، دار صادر، بيروت. 347 - النكت الأثرية على الأحاديث الجزرية، لابن ناصر الدين الدمشقي, تحقيق: مشعل بن باني المطيري، الطبعة الأولى 1422، دار ابن حزم. 348 - نهاية الأرب في فنون الأدب، لشهاب الدين النويري، تحقيق: مفيد قميحة وجماعة، الطبعة الأولى 1424، دار الكتب العلمية، بيروت. 349 - النهاية في الفتن والملاحم، لابن كثير، تحقيق: محمد أحمد عبدالعزيز، الطبعة 1408، دار الجيل، بيروت. 350 - النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير, تحقيق طاهر الزاوي - محمود الطناحي، 1399، المكتبة العلمية، بيروت. 351 - نهج الرشاد في نظم الاعتقاد، للسرمري, تحقيق مطلق الجاسر، الطبعة الأولى 1430، دار التواصل، الكويت 352 - نيل الأوطار، لمحمد بن علي الشوكاني، تحقيق: عصام الدين الضابطي، الطبعة الأولى 1413، دار الحديث، مصر. 353 - هدية العارفين أسماء المؤلفين وآثار المصنفين، للباباني, طبع بعناية وكالة المعارف الجليلة في مطبعتها البهية، استانبول، سنة 1955. 354 - هذه هي الصوفية، لعبدالرحمن الوكيل، الطبعة الرابعة 1984 م، دار الكتب العلمية، بيروت.
355 - الوافي بالوافيات، لصلاح الدين الصفدي، تحقيق: أحمد الأرناؤوط وتركي مصطفى، 1420، دار إحياء التراث، بيروت. 356 - وجيز الكلام في الذيل على دول الإسلام، للإمام السخاوي, تحقيق: بشار عواد وعصام الحرستاني وأحمد الخطيمي، الطبعة الأولى 1416، مؤسسة الرسالة. 357 - الوفا بأحوال المصطفى، لأبي الفرج بن الجوزي، تحقيق: مصطقى عبدالواحد، الطبعة الأولى 1386، دار الكتب الحديثة، القاهرة.