خزانة الأدب وغاية الأرب لابن حجة الحموي

الحموي، ابن حجة

المقدمات

المجلد الأول المقدمات: تمهيد وتقديم: بسم الله الرحمن الرحيم، رب اليراع والرقيم، والحمد لله رب العالمين الذي لا ننفك نستهدي به ونستعين، حمدًا يبلغ غاية رضاه، ويعجز الكل عن إدراك كنهه ومداه. والصلاة والسلام على هادي الأدباء ومعلم الفصحاء والبلغاء، محمد -صلى الله عليه وسلم- رسول الله وخاتم الأنبياء، وعلى آله المطهرين النجباء، كلما سال مداد على طرس، وأشرقت على بني الغبراء شمس، وبعد. اعلم، هداك الله، أن أهم العلوم على مدار الزمان، باعتراف العلماء أهل الملل والأديان، هو ذلك العلم الذي يسعى إلى اكتشاف هذا الكون وفهمه وتفسيره، ومن ثم تسخيره في سبيل سعادة الإنسانية وخيرها، والسير بها في مدارج الكمال، وأن كل ما عدا ذلك وانحرف عن هذا الهدف من العلوم، إنما هو سفسطة ومضيعة للوقت، ومجلبة للزهو والعجب، بل هو حجر عثرة في طريق تقدم بني البشر وسعادتهم ورقيهم. ورأس العلوم ما يوصل إلى معرفة خالق هذا الكون، عن طريق تعلم القرآن وفهمه، لأنه كتاب الله المعجز الذي يدل على مبدعه، ويوقف المرء على نواهيه وأوامره، إذ هو الخبير بما يصلح مخلقواته ويسعدهم في رحلتهم الدنيوية، وينجيهم من العذابات الأخروية. واعلم أن هذا العلم هو علم البلاغة التي تبدأ بمعرفة الفصاحة، أو معرفة اللغة والتبحر فيها، إذ هي لغة القرآن ووعاء الفكر، ومن ثم معرفة الأساليب التي يعبر بها أصحاب هذه اللغة عن أفكارهم وما تنطوي عليه صدورهم. والفصاحة والبلاغة، في نظرنا وفي نظر الكثيرين، هي أولى العلوم بالتعلم، وأحقها

بالتحفظ، إذ لا يجوز الإخلال بها مادام الهدف الذي تسعى إليه هو غاية الغايات، فليس بعد معرفة الله سبحانه وتعالى حكمة. كما أن للفصاحة والبلاغة فضائل أخرى مشهورة، ومناقب لا تخفى معروفة، ومنها كما يذكر أبو هلال العسكري1: أن من لا يتقنها لا يمكنه التفريق بين جيد الكلام ورديئه، أو بين حسن اللفظ وقبيحه، ولا بين نادر الشعر وبارده، فيظهر بذلك جهله ونقصه. "فإذا أراد أن يصنع قصيدة أو ينشئ رسالة -وقد فاته هذا العلم- مزج الصفو بالكدر، وخلط الغرر بالعرر2، واستعمل الوحشي العكر، فجعل نفسه مهزأة للجاهل". "وإذا أراد أيضا تصنيفث كلام منثور، أو تأليف شعر منظوم، وتخطى هذا العلم، ساء اختياره له، وقبحت آثاره فيه، فأخذ الرديء المرذول، وترك الجيد المقبول.... وقد قبل: اختيار الرجل وافد عقله3. تطور علم البديع حتى عصر ابن حجة: كان علم البديع في بداياته، سليقة لدى الكتاب والأدباء العرب، ولم يكونوا يعرفونه بهذا الاسم، وإنما كانوا يطبقونه في ما ينشئونه أيام جاهليتهم. أيام كانوا يجتمعون في الأسواق والأندية الأدبية، أمثال المربد وعكاظ وغيرها، يتناشدون الأشعار أمام زهير والنابغة الذبياني ليحكما على جودتها أو رداءتها، حسب رؤيتهما لها بمنظار هذا العلم، وإن لم يكونوا قد عرفاه بعد، كعلم مستقل له حدوده ومصطلحاته الخاصة به. وظل علم البديع، كغيره من العلوم يتطور ويتوضح، حتى صار علما قائما بذاته، يعرف اليوم بعلم البلاغة التي تشمل ما نعرفه اليوم من علم المعاني وعلمي البديع والبيان. ولا يفوتنا أن نذكر أن علوم البلاغة هذه، مرت قبل أن تتوضح حدودها وتقر مصطلحاتها، بمرحلة كانت فيها تعرف بما سمي "علم البديع"، الذي هو أحدها، وأن أصولها تضرب -كما قلنا- إلى العصر الجاهلي، وأن أول من حاول وضع مصطلحات

_ 1 أبو هلال العسكري، من كتاب الصناعتين، نقلا عن الدكتور عبد العزيز عتيق: علم البديع، ط1 بيروت، دار النهضة 1974م. 2 الغرر: أول الكلام وأحسنه. والعرر: سقط الكلام ورديئه. 3 وافد عقله: دليل على عقله.

بديعية هو الشاعر العباسي مسلم بن الوليد، المعروف بصريع الغواني، الذي "وضع مصطلحات لبعض الصور البيانية والمحسنات اللفظية، من مثل الجناس والطباق". ونذكر أن أبا عثمان عمرو بن بحر الجاحظ توسع قليلًا في ذكر البديع، دون أن يصضع، في كتابه "البيان والتبيين" تعريفات أو مصطلحات، بل بقي البديع عنده يعني الصور والمحسنات اللفظية والمعنوية معًا. وتبدأ علوم البلاغة بالاستقلال، بعضه عن البعض الآخر، أيام الخليفة ابن المعتز الذي ألف "كتاب البديع" فكان، بحق، مؤسسا لما يعرف اليوم بهذا الاسم. وجاء بعده قدامة بن جعفر، في كتابه "نقد الشعر" ليزيد علم البديع توضيحًا، وليضيف إلى مصطلحاته وفنونه جديدًا، فليقتي مع ابن المعتز في خمسة محسنات بديعية، كان هذا الأخير قد عرفها، مع اختلاف في التسمية، ويزيد قدامة إليها تسعة محسنات جديدة لم يذكرها ابن المعتز. وبعد قدامة، نلتقي بأبي هلال العسكري، في كتابه "الصناعتين" "الشعر والنثر" الذي عقد فيه بابًا خاصًّا "لشرح البديع والإبانة عن وجوهه وحصر أبوابه وفنونه". وإذا كان ابن المعتز قد توصل إلى معرفة ثمانية عشر نوعًا من أنواع البديع، زاد عليها قدامة تسعة أنواع، فإن أبا هلال العسكري قد بلغ بها واحدًا وأربعين نوعًا، أي بزيادة أربعة عشر نوعا على ما كان عرف قبله. وفي القرن الخامس الهجري، تزداد علوم البلاغة استقلالًا وتحديدًا، إذ يبدو، من خلال بعض المؤلفات في هذا القرن، أنه بدأ يستقر في الأذهان أن البيان شيء، والبديع شيء آخر. فقد أورد ابن رشيق القيرواني، في كتابه الشهير "العمدة" أبوابا خاصة لمباحث علم البيان، وأخرى تهتم بدراسة علم البديع. وقد ذكر فيه تسعة وعشرين نوعا من أنواع البديع، منها تسعة أبواب لم يسبقه إليها غيره ممن تقدموه في هذا المضمار. وبذلك يصبح عدد الأنواع البديعية المعروفة إلى أيامه، خمسين نوعًا. ويعتبر عبد القاهر الجرجاني، في هذا القرن "الخامس الهجري" واضع علم المعاني، في كتابه دلائل الإعجاز. كما أنه يعد منظر علم البيان، في كتاب أسرار البلاغة دون أن يحاول وضع نظرية لعلم البديع؛ وإن كان قد تكلم عن أنواع منه، بقدر اتصالها بعلم البيان فقط.

أما في القرن السادس الهجري، فنلتقي بالزمخشري والوطواط وبأسامة بن منقذ. فقد أكمل الزمخشري، في تفسيره "الكشاف" ما بدأه الجرجاني، بإضافات جديدة بثها في ثنايا كتابه. أما الوطواط فقد حاول تطبيق قواعد البلاغة العربية على الأدب الفارسي، في حين ألف ابن منقذ كتاب "البديع في نقد الشعر". ويحمل الراية، بعد هؤلاء، نفر من علماء القرن السابع الهجري الأفذاذ، منهم: الرازي والسكاكي وضياء الدين ابن الأثير والتيفاشي المغربي وزكي الدين بن أبي الأصبع المصري وعلي بن عثمان الأربلي وبدر الدين بن مالك. وقد أولى هؤلاء علم البديع عناية خاصة، في ما ألَّفوه من كتب وتصانيف. وإذا ما انتقلنا إلى القرنين الثامن والتاسع الهجريين، نجد أنهما قد امتازا بإيلاء العلماء والشعراء والأدباء علم البديع عناية ما بعدها عناية، إن لم نقل إنهم تفرغوا له، وجفت قرائحهم إلا منه. وتميز بعض الشعراء والأدباء، في هذين القرنين، بنظم "البديعيات" التي تعتبر، بحق، دراسات في هذا المجال تكاد لا تعدوه. ومن هؤلاء: يحيى بن حمزة العلوي، صاحب كتاب "الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز والتنوخي"، محمد بن عمرو، صاحب كتاب "الأقصى القريب في علم البيان"، وابن قيم الجوزية صاحب كتاب "الفوائد المشوقة إلى علوم القرآن وعلوم البيان"، وصفي الدين الحلي الشاعر المشهور، صاحب البديعية الشهيرة التي تبلغ ماية وخمسة وأربعين بيتًا من الشعر، قالها الحلي في مدح النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- ومطلعها: إن جئت سُلعًا فسل عن جيرة العلم ... وأقر السلام على عُرب بذي سلم ثم ابن جابر الأندلسي الضرير، صاحب البديعية المسماة "الحلة السيرا في محد خير الورى"، وهي في ماية وسبعة وعشرين بيتًا بدأها بقوله: بطيبة أنزل ويمم سيد الأمم ... وانثر له المدح وانثر طيب الكلم وقد سرد فيها ابن جابر المحسنات البديعية حسب ما أورده الخطيب القزويني. ونلتقي قبل أن نصل إلى القرن التاسع الهجري، بعز الدين، علي بن الحسين الموصلي، صاحب البديعية التي عارضها فيها بديعية الصفي الحلي، وزاد عليه فيها، بأن ذكر في كل بيت منها لفظة تدل على اسم النوع البديعي الذي استخدمه فيه.

وقد نظم الموصلي بديعيته في مدح النبي محمد صلى الله عليه وسلم في ماية وأربعين بيتا استهلها بقوله: براعة تستهل الدمع في العلم ... عبارة عن نداء المفرد العلم وإذا ما وصلنا إلى القرن التاسع الهجري، يطالعنا أديبنا البارع ابن حِجة، صاحب هذا الكتاب الذي بين أيدينا، والذي نظم بيديعية في مدح الرسول الكريم، وعد فيها من أنواع البديع ماية واثنين وأربعين نوعًا، استهلها ببراعة الاستهلال قائلًا: لي في ابتدا مدحكم يا عُربَ ذي سلم ... براعة تستهل الدمع في العلم التعريف بخزانة الأدب وعملنا فيه: "خزانة الأدب" في الأصل، وكما يذكر صاحبه في مقدمته له، هو شرح لبديعيته الآنفة الذكر، والتي أنشأها كما يذكر هو "برسم من محمد بن البارزي الجهني الشافعي" صاحب ديوان الإنشاء بالممالك الإسلامية، وقد حذا فيها حذو "طرز البردة" بعد أن وقف محمد بن البارزي على بديعية الشيخ عز الدين الموصلي التي التزم فيها تسمية النوع البديعي، وورى فيها من جنس الغزل، ليتميز بذلك على الشيخ صفي الدين الحلي، الذي لم يلتزم ذلك في بديعيته. وقد سمى ابن حِجة بديعيته تلك "تقديم أبي بكر" وحاول فيها أن ينسج على منوال عز الدين الموصلي، في تضمين الأبيات ألفاظًا يشير بها إلى الأنواع البديعية التي بلغ بها ماية واثنين وأربعين نوعًا، دون تمييز بين البديع وغيره من علوم البلاغة، محاولًا أيضًا أن يجاري صفي الدين الحلي في رقة الشعر وجمال النظم والسلاسة. ثم إنه، أعني ابن حجة، وضع هذا الشرح المطول لبديعيته، وأسماه "خزانة الأدب وغاية الأرب" فكان أكثر أهمية وفائدة من البديعية ذاتها، إذ جاء كما يدل عليه اسمه، خزانة للأدب مليئة بدرر علومه وجواهر معارفه، وغاية ما يحتاجه المتأدب. و"خزانة الأدب" أشبه بالموسوعات الأدبية التي تجمع فنون الأدب المختلفة: من اللغة والبلاغة والنقد والتاريخ والتراجم، ومنثور الكلام ومنظومه، حتى المواليا1 والأزجال لكثرة ما يورده صاحبه فيه من الشواهد، والأمثلة والاستطرادات، وأحيانا النكت

_ 1 المواليا: نوع من النظم العامي من البحر البسيط اشتهر في العصر العباسي.

والمساجلات الأدبية. ولا نبالغ إذا قلنا إنه مرجع أدبي خاص، للعصرين: المملوكي والأيوبي، بل هو مرجع أدبي عام. لذلك رأينا أن نوليه ما يستحقه من الاهتمام، تسهيلا للاستفادة منه، فقمنا بشرحه والتعليق عليه، وتخريج الآيات القرآنية الواردة فيه، وتحريره بضبطه، وتعيين بداية الفقرات ووضع النقاط والفواصل، وترجمنا لصاحبه، ومن ثم أشرفنا على طباعته، وقمنا بتصحيحه، حتى خرج بهذه الحلة، والله ولي التوفيق. ملاحظات حول الكتاب: من شروط البديعيات التي كان متعارفا عليها، أن يلتزم ناظموها بأن يكون كل بيت منها شاهدا على نوعه بمجرده، ليس له تعلق بما قبله ولا بما بعده. ومن هذه الزاوية وبناء لهذا الشرط، ولغيره من الشروط البديعية والبيانية، يقارن ابن حجة بين بديعيته وبديعية صفي الدين الحلي، وبديعية عز الدين الموصلي، وبديعية العميان فيقول: "أما براعة بديعيتي ... فإني جمعت فيها بين براعة الاستهلال وحسن الابتداء، بالشرط المقرر لكل منهما، وأبرزت تسمية نوعها البديعي في أحسن قوالب التورية، وشنفت1 بأقراط غزلها الأسماع، مع حشمة الألفاظ وعذوبتها، وعدم تجافي جنوبها عن مضاجع الرقة. وبديعية صفي الدين الحلي، غزلها لا ينكر، غير أنه لم يلتزم فيها بتسمية النوع البديعي ... ولو التزمه لتجافت عليه تلك الرقة. وأما الشيخ عز الدين الموصلي، فإنه لما التزم ذلك نحت من الجبال بيوتا". وإذا نحن نظرنا إلى الكتاب من هذه الزاوية، فإننا نلاحظ فعلا، شدة مراعاة ابن حجة لهذا الشرط، وعدِّه عدم الأخذ به عيبا وقع فيه البعض ممن نظموا البديعيات غيره. وأول ما يمكن أن نلاحظه على ابن حجة في "خزانة الأدب" أنه لم يتورع عن ذكر الأشعار التي فيها الكثير من الفحش، الذي يجدر بأرباب الأدب أن يربأوا بأنفسهم عن ذكره أو التلفظ به. خاصة وأنه كان باستطاعة ابن حِجة الابتعاد عن مثل هذا الشعر الفاحش، لأنه إنما أورده في مجال التمثيل على الأنواع البديعية، وكان يمكن أن يوجد له عذر في إيراده، لولا أن بعض أمثلته، وهو قصيدة لابن الفارض، بلغ أربعة وستين بيتا، مما لا يعقل معه أن يسمى مثلًا؛ أما وقد ظهر تعمده في إيراد فاحش الشعر، فلا عذر له عندنا.

_ 1 شنّف: حلّى وزيّن.

ومما يلفت النظر في الخزانة أيضا ما نراه من الإطالة في الشرح. والتي قد تصل إلى حد الملل أحيانا، وإن كان ابن حجة أيضا يتحاشى الوقوع فيها فيقول: "ولولا الإطالة لأفعمت الأذواق من هذا السكر النباتي". وإن كان يبرر تطويله بمثل قوله: "فإن الشرح قد طال، ولم أطله إلا ليزداد الطالب إيضاحا، ويداوي علل فهمه بحكم المتقدمين، ويتنزه في رياض الأدب على النبات الغض من نظم المتأخرين". فإذا عرفنا أن الكتاب يحتوي ماية واثنين وأربعين نوعًا من أنواع البديع، وأن شرحه لنوع واحد، هو التورية، استغرق أكثر من ربع الكتاب، عرفنا مدى ما وصلت إليه الإطالة والاستطراد عند ابن حجة في "خزانته". بعد الإطالة والاستطراد، يطالعنا ابن حجة في كتابه بالتكرار، فنراه يكرر البيت أو الأبيات أكثر من مرة، ربما حسب ما يقتضيه الاستشهاد على النوع البديعي بأبيات يمكن الاستشهاد بها على أنواع أخرى، وأكثر ما يبرز هذا التكرار في إيراده لما أخذه جمال الدين بن نباتة عن علاء الدين الوداعي. ورغم أن ابن حجة يبدو من خلال "خزانة الأدب" واسع الاطلاع، مع ما تقتضيه هذه الصفة من صقل ملكة النقد الأدبي عنده، فإنه يبدو ناقدًا تعوزه الدقة ووضوح المقياس النقدي. فقد نراه، في أحيان كثيرة، يطلق أحكامًا تنقصها الدقة والصوابية، أو دون تعليل في كثير من الأحايين، وإن كانت له في أحيان أخرى، أحكام نقدية معللة لا تجانب الصواب؛ فإن له أيضا أحكاما خاطئة، وأخرى يتابع فيها غيره، دون روية أو إعمال فكر. فهو في معرض تعليقه على استهلال محي الدين بن عبد الظاهر، كاتب الملك الظاهر إلى الأمير سنقر الفراقاني، يقول: "الله أكبر! إن من البلاغة لسحرًا، والله ما أظن هذا الاتفاق الغريب اتفق لناثر". دون أن يذكر ابن حجة سبب إعجابه وهيامه بهذا الاستهلال. وكذلك نراه يفعل عندما يستحسن قول آخر. إذ يقول: "سبحان المانح! هذا الأديب الذي لم ينسج الأوائل على منواله. ولا تتعلق الأفاضل من المتأخرين بغبار أذياله". أو نراه يقول: "سبحان المانح! والله من لا يتعلم الأدب من هنا فهو من المحجوبين عن إدراكه". لماذا؟ وما هو المقياس؟ فإن ابن حجة لا يفصح عن شيء من ذلك.

ولكن ابن حجة في معرض انتقاده لابن رشيق القيرواني، والحاتمي في كلامهما على الجناس الملفق، نراه بعلل نقده ذاك فيقول: "ولعمري لو سموا الملفق مركبا، والمركب ملفقا، لكان أقرب إلى المطابقة في التسمية؛ لأن الملفق مركب في الركنين، والمركب ركن واحد، كلمة مقررة، والثاني مركب من كلمتين، وهذا هو التلفيق". كما أننا نراه، في معرض نقده لبيتين أخذهما الشيخ صلاح الدين الصفدي عن ابن نباتة، يقول معللًا: "وما أظن الشيخ صلاح الدين، غفر الله له، لما سمع ما قاله الشيخ جمال الدين، ونظم بعده هذين البيتين، كان في حيز الاعتدال. وأين انجذاب القوس إلى الحاجب، من انجذاب الدم إلى الخد"؟ وقد يستلطف ابن حجة في خزانته ما لا سبيل إلى استلطافه، فيذكر أن "من لطائف" مجون ابن تميم قوله: غطت محاسن وجهها عن ناظري ... هيفاء لم أر في البرية شبهها وغدت تمانعني فقمت مبادرًا ... وكشفت من بعد التمنع وجهها ترى! أي لطافة في هذين البيتين؟ إذا كانت اللطافة الأدبية تعني نكتة بديعية تعشقها الآذان، أو صورة بيانية تهيم بها النفوس؛ اللهم إلا أن يكون المجون مدعاة للاستلطاف! أو يكون أحد استلطف هذا المجون لانحراف في ذوقه الأدبي، فتابعه ابن حجة مستلطفًا على عادته، دون تدبر ولا روية أو إعمال فكر، كما فعل غير مرة حيث يبدو ذلك من قوله: "وعدوا من البديع قول فلان.... وعدوا من الحسن قول فلان.... وعدوا من اللطيف قول فلان" إلى آخر هذه المعزوفة، دون إبداء رأيه الشخصي. ليس هذا فحسب، بل إن ابن حجة يخطئ حين يذكر أنه "تقرر وتكرر أن تشبيه المحسوس بالمحسوس هو المقدم في باب التشبيه" إذا عرفنا أن المقرر: أن أبلغ التشبيه هو تشبيه المعقول بالمحسوس، أو إخراج ما لا يحس إلى ما يدرك بالحواس. وأخيرًا وليس آخرًا. فإننا نأخذ على الشيخ ابن حجة انحيازه في الحكم أثناء تحكيمه بين الشيخين، صفي الدين الحلي وجمال الدين ابن نباتة، إذ يقول: تصفحت ديوان الصفي فلم أجد ... لديه من السحر الحلال مرامي فقلت لقلبي دونك ابن نباتة ... ولا تتبع الحلي فهو حرامي وكذلك نأخذ عليه تحامله على المتنبي الشاعر، وجوره عليه وغمطه حقه، خاصة وأنه هو نفسه، أعني ابن حجة، أخذ على الشيخ صلاح الدين الصفدي وعجب منه

"كيف أخل، في كتابه المسمى بفض الختام عن التورية والاستخدام، بذكر علاء الدين ابن المظفر الكندي الشهير بالوادعي، وهو أشهر من "قفا نبك" في نظم التورية، بل هو امرؤ قيسها وكنديها". ولو كان ابن حجة، قد أخل بذكر المتنبي في كتابه هذا، لما كان لنا عليه مأخذ، وإنما نأخذ عليه ذكره له والتجني عليه، مع محاولته الخبيثة في إيهام القارئ بأنه هو، أي ابن حجة، من أنصاره ومريديه، بينما يبدو لنا أنه يغمطه حقه ويجور عليه في الحكم، حين نراه يتجاهل سبقه إذ يقول في معرض حديثه عنه وعن الطغرائي: "انظر إلى محاسن هذين الفحلين إلى الغاية التي تمثلا بها ... وتأخر سوابق الأفهام عن معرفة السابق منهما إلى الغاية". كما أننا نرى أن ابن حجة يحاول، في مكان آخر، التغطية والتعمية على القارئ، بإخفاء بغضه، وربما حسده، للمتنبي، مع الغمز الخفي من قناته فيقول: "وقد عن لي أن أجمع هنا ما حلا بذوقي من أمثال أبي الطيب المتنبي، وإن كان فيها ما ولّده من شعر أبي تمام". فإن في هذا الكلام ما يفهم منه أن المتنبي كان عيالًا على غيره من الشعراء، وفي هذا ما فيه من غمز من قناة هذا الشاعر الفحل، مع أن هذا لم يقل به غير ابن حجة، إذ المعروف بين الباحثين والنقاد أن الكثيرين من الشعراء هم عيال على المتنبي، ويقصر الكثيرون منهم عن التحليق في سمائه. ومهما يكن من أمر صاحب "الخزانة" فإننا لا يمكن أن نغمطه حقه وجهده في كتابه الموسوعي "خزانة الأدب" إذ إنه يبقى خزانة حقيقية للأدب. لا غنى عنها للباحث الأديب والمتأدب، بل تكاد تكون فريدة في عصرها، وفي غزارة مادتها وتنوعها. بيروت في 8/ 6/ 1986م. عصام شعيتو

التعريف بالكاتب

التعريف بالكاتب: 1 حياته وعلمه: هو الشيخ تقي الدين أبو بكر علي بن عبد الله الحموي الأزراري، المعروف بابن حِجة، وضبطه بكسر المهملة. وقد غلط الدكتور عبد العزيز عتيق، حين ضبطه بفتحها2. ولد في حماة سنة سبع وستين وسبعماية للهجرة، وقيل: سنة سبع وسبعين وسبعماية للهجرة3. والمرجح لدينا أن تكون ولادته سنة ثمانية وستين وسبعماية، لقوله، عام ثمانية عشر وثمانماية للهجرة. إن جاء نظمي قاصرًا عن وصفه ... عذرًا فهذي نشطة الخمسين كان من أعلام القرن التاسع الهجري، وذكر أنه كان رئيس الأدباء وإمام أهل الأدب في عصره. فقد سئل الحافظ ابن حجر: من شاعر العصر فقال: الشيخ تقي الدين ابن حجة. وهو زجّال، وشاعر جيد الإنشاء، طويل النفس في النظم والنثر، حسن الأخلاق والمروءة، فيه شيء من الزهو والإعجاب. عانى، في صباه، عمل الحرير وعقد الأزرار صناعة له، فنسب إليها. تتلمذ في صباه، على العلامة شمس الدين الهيتي الحسني النحوي، وعلى قاضي القضاة في حماة، تقي الدين بن الحسني الحنفي، كما تتلمذ على قاضي القضاة، علاء الدين بن القضاعي. عاش في العصر المملوكي، وعاصر الناصري محمد بن البارزي الجهني الشافعي،

_ 1 انظر ترجمته في: كشف الظنون لملا جلبي، والضوء اللامع للصخاوي، وشذرات الذهب لابن عماد الحنبلي، وإعجام الأعلام لمحمود مصطفى، والأعلام للزركلي، وفي النجوم الزاهرة. 2 د. عبد العزيز عتيق، علم البيان، بيروت، دار النهضة، ط1 1974، ص56. 3 شذرات الذهب، ولم يذكر هذا التاريخ غيره ممن أرخ للمؤلف.

واتصل بخدمة المحمودي، أمير دمشق، ثم قدم بصحبته هاربا من طرابلس الشام، إلى القاهرة، بعد أن عضته حرب الثغور بأنيابها، ووصل إليها سنة اثنتين وثمانماية للهجرة، وبقي فيها حتى توفي الملك المؤيد، حيث تسلط عليه، بعده، جماعة من شعراء عصره، لأنه كان ظنينا بنفسه وبشعره، مزريًا بغيره من الشعراء، فراحوا يقذعون في هجائه، حتى أن أحدهم قال فيه: زاد ابن حجة بالإسهال من فمه ... وصار يسلح منثورًا ومنظومًا وظن أن قد تنبا في ترسله ... لو صح ذلك قطعًا كان معصومًا وما زالوا به يضايقونه، حتى خرج من مصر، عائدًا إلى مسقط رأسه حماة، حيث مات فيها سنة سبع وثلاثين وثمانماية للهجرة، ودفن في تربة باب الجسر. مؤلفاته: لابن حجة مجموعة لا بأس بها من المؤلفات، إن دلت على شيء فإنما تدل على سعة اطلاعه وغزارة إنتاجه، وعلى طول باعه في النظم والتأليف. وقد عد له صاحب الأعلام الكثير من المؤلفات، منها ما هو مطبوع ومنها ما هو مخطوط، نذكر منها: - خزانة الأدب وغاية الأرب، وهو هذا الكتاب الذي بين أيدينا، وهو عبارة عن شرح المؤلف للبديعية التي كان أنشأها في مدح الرسول الكريم، معارضًا فيها كلًّا من الشيخ صفي الدين الحلي والشيخ عز الدين الموصلي، ملتزمًا فيها بذكر النوع البديعي، وقد طبع طبعة أولى وهذه هي طبعته الثانية. - ثمرات الأوراق، وهو عبارة عن مجموعة محاضرات، "مطبوع". - كشاف اللثام عن التورية والاستخدام. - حديقة زهري "مطبوع". - قهوة الإنشاء، في مجلدين ضخمين "مخطوط". - بروق الغيث أو شرح لامية العجم. - بلوغ المرام من سيرة ابن هشام "مخطوط". - بلوغ المراد من الحيوان والنبات والجماد. - الثمرات الشهية من الفواكه الحموية، وهو من النظم "مخطوط". - تأهيل الغريب "مطبوع". - أمان الخائفين من أمة سيد المرسلين. - وله ديوان شعر بديع.

مقدمة الكاتب

مقدمة الكاتب: بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله البديع الرفيع، الذي أحسن ابتداء خلقنا بصنعته، وأولانا جميل الصنيع فاستهلت الأصوات ببراعة توحيده وهو البصير السميع، أدّب نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم فأحسن تأديبه حتى أرشدنا، جزاه الله عنا خيرًا إلى سلوك الأدب وأوضح لنا بديعه وغريبه. نحمده حمدًا يحصن به التخلص من غزل الشهوة إلى حسن الختام، ونشكره شكر من شعر ببديع صفاته فأحسن النظم، وأعوذ بالله من قوم لا يشعرون بهذا النظام، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة شاعر بأنه الواحد، وأن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، المبعوث من بيت عربي، فصاحته على الأعراب والإعراب أعظم شاهد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، الذين هم نظام هذا البيت الشريف، ودوائر بحره وأنواع بديعه وديباج صدره، وسلم تسليمًا كثيرًا. وبعد: فهذه البديعية التي نسجتها بمدحه صلى الله عليه وسلم، على منوال طرز البردة، [و] كان مولانا المقر الأشرف العالي المولوي القاضوي المخدومي الناصري، سيدي محمد بن البارزي الجهني الشافعي، صاحب ديوان الإنشاء، الشريف بالممالك الإسلامية المحروسة، جمل الله الوجود بوجوده، هو الذي ثقف لي هذه الصعدة وحلب لي ضرعها الحافل، لحصول هذه الزبدة، وما ذاك إلا أنه وقف بدمشق المحروسة على قصيدة بديعية للشيخ عز الدين الموصلي رحمه الله تعالى، التزم فيها بتسمية النوع البديعي، وورى بها من جنس الغزل، ليتميز بذلك على الشيخ صفي الدين الحلي تغمده الله تعالى برحمته، لأنه ما التزم في بديعيته بحمل هذا العبء الثقيل غير أن الشيخ عز الدين ما أعرب عن بناء بيوت أذن الله أن ترفع، ولا طالت يده لإبهام العقادة إلى شيء من إشارات ابن أبي

الأصبع، وربما رضي، في الغالب، بتسمية النوع ولم يعرب عن المسمى، ونثر شمل الألفاظ والمعاني، لشدة ما عقده نظمًا. فيا دارها بالخيف إن مزارها ... قريب ولكن دون ذلك أهوال فاستخار الله مولانا الناصري، المشار إليه، ورسم لي بنظم قصيدة أطرز حلتها ببديع هذا الالتزام، وأجازي الحلي برق السحر الحلال، الذي ينفث في عقد الأقلام، فصرت أشيد البيت فيرسم لي بهدمه. وخراب البيوت، في هذا البناء صعب على الناس، ويقول: بيت الصفي أصفى موردًا، وأنور اقتباسًا. فأسن كل ما حده الفكر؛ وأراجعه ببيت له على المناظرة طاقة، فيحكم لي بالسبق وينقلني إلى غيره، وقد صار لي فكرة إلى الغايات سباقة. فجاءت بديعية هدمت بها ما نخته الموصلي، في بيوته من الجبال، وجاريت الصفي1 مقيدًا بتسمية النوع، وهو من ذلك محلول العقال، وسميتها: تقديم أبي بكر، عالمًا أن لا يسمع من الحلي والموصلي في هذا التقديم مقال. وكان المشار إليه، عظم الله شأنه، هو الذي مشى أمامي وأشار إلى هذا السلوك وأرشد، فاقتديت برأيه، وهل يقتدي أبو بكر بغير محمد؟

_ 1 يقصد صفي الدين الحلي.

في حسن الابتداء وبراعة الاستهلال: حسن الابتداء عند المتقدمين: لي في ابتداء مدحكم يا عُرب ذي سلم ... براعة تستهل الدمع في العلم اعلم أنه اتفق علماء البديع، على أن براعة المطلع عبارة عن طلوع أهلة1 المعاني واضحة في استهلالها، وأن لا يتجافى بجنوب الألفاظ عن مضاجع الرقة، وأن يكون التشبيب بنسبها مرقصا عند السماع، وطرق السهولة متكفلة لها بالسلامة من تجشم الحزن2 ومطلعها، مع اجتناب الحشو، ليس له تعلق بما بعده. وشرطوا أن يجتهد الناظم في تناسب قسميه، بحيث لا يكون شطره الأول أجنبيا من شطره الثاني. وقد سمى ابن المعتز براعة الاستهلال، حسن الابتداء، وفي هذه التسمة تنبيه على تحسين المطالع، وإن أخل الناظم بهذه الشروط لم يأت بشيء من حسن الابتداء، وأورد في هذا الباب قول النابغة: كليني لهمٍ يا أميمة ناصب ... وليل أقاسيه بطيء الكواكب3 قال زكي الدين بن أبي الأصبع: لعمري لقد أحسن ابن المعتز الاختيار، فإني أظنه نظر بين هذا الابتداء وبين ابتداء امرئ القيس، حيث قال: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل4

_ 1 أهلة المعاني: بداياتها 2 الحزن: من الأرض الوعر، ومن الكلام الغريب المعقد. 3 ناصب: متعب. 4 سقط اللوى الدخول وحومل: أسماء أماكن في الصحراء.

فرأى ابتداء امرئ القس، على تقدمه وكثرة معانيه، متفاوت القسمين جدًّا لأن صدر البيت جمع بين عذوبة اللفظ وسهولة السبك وكثرة المعاني، وليس في الشطر الثاني شيء من ذلك. وعلى هذا التقدير مطلع النابغة أفضل، من جهة ملايمة ألفاظه وتناسب النفوس، إلا الاقتصار على سماع صدر البيت؛ فإنه وقف واستوقف وبكى واستبكى وذكر الحبيب والمنزل في شطر بيت، وإذا تأمل الناقد البيت بكماله، ظهر له تفاوت القسمين. وقال، أعني ابن أبي الأصبع: إذا وصلت إلى قول البحتري، من هذا الباب، وصلت إلى غاية لا تدرك، وهو قوله: بودّي لو يهوى العذول ويعشقُ ... ليعلم أسباب الهوى كيف تعلق انتهى كلام زكي الدين بن أبي الأصبع. ولقد أحسن أبو الطيب المتنبي حيث قال: أتراها لكثرة العشاق ... تحسب الدمع خلقة في المآقي ومثله قوله، "أي قول حبيب": حشاشة نفس ودّعت يوم ودعوا ... فلم أدر أي الظاعنين أشيع1 وما ألطف قول أبي تمام في هذا الباب: لا أنت أنت ولا الديار ديار ... خف الهوى وتقضت الأوطار2 ومثله قول أبي العلاء المعري: يا ساهر البرق أيقظ راقد السمر ... لعل بالجزع أعوانا على السهر وقد خلب القلوب ابن المعتز في تناسب القسمين بقوله: أخذت من شبابي الأيام ... وتولى الصبا عليه السلام

_ 1 حشاشة النفس: بقيتها - الظاعنين الراحلين. 2 الأوطار: مفردها وطر وهي الحاجة.

وما أحلى ما ناسب ابن هانئ، قسمي مطلعه بالاستعارات الفائقة، حيث قال: بسم الصباح لأعين الندماء ... وانشق جيب غلالة الظلماء1 وقال الشريف أبو جعفر البياضي، يشير إلى الرفق بالإبل عند السرى2، وتلطف ما شاء في تناسب القسمين، حيث قال: رفقًا بهن فما خلقن حديدا ... أو ما تراها أعظمًا وجلودا وهذه القصيدة، طريقها الغريب، لم يسلكها غيره، فإن نسجها جميعها على هذا المنوال ومنها: يفلين ناصية الفلا بمناسم ... وسم الوجا بدمائهن البيدا3 فكأنهن نثرن درًّا بالخطا ... ونظمن منه بسيرهن عقودا ومما يعذب في الذوق من هذا الباب قول ابن قاضي ميلة: يزيد الهوى دمعي وقلبي المعنف ... ويحيي جفوني الوجد وهو المكلف وقد نبه مشايخ البديع على يقظة الناظم في حسن الابتداء، فإنه أول شيء يقرع الأسماع ويتعين على ناظمه النظر في أحوال المخاطبين والممدوحين، وتفقد ما يكرهون سماعه ويتطيرون منه، ليتجنب ذكره، ويختار لأوقات المدح ما يناسبها. وخطاب الملوك في حسن الابتداء هو العمدة في حسن الأدب فقد حكي أن أبا النجم الشاعر، دخل على هشام بن عبد الملك في مجلسه، فأنشده من نظمه: صفراء قد كادت ولما تفعل ... كأنها في الأفق عين الأحول4 وهشام بن عبد الملك أحول، فأخرجه وأمر بحبسه. وكذلك اتفق لجرير مع أبيه عبد الملك، فإنه دخل عليه وقد مدحه بقصيدة حائية أولها: "أتصحو أم فؤادك غير صاح". فقال له عبد الملك: بل فؤادك يا بن الفاعلة.

_ 1 الجيب: من الثوب مكان إدخال الرأس منه - الغلالة: الثوب والستر. 2 السرى: السير ليلًا. 3 يفلين: يثلمن - الناصية: غرة الشيء وأوله وناصية الأرض وجهها - الفلا: الفلاة: وهي الأرض الواسعة - المناسم: مفردها منسم وهو للإبل بمثابة القدم للإنسان - وسم: علّم - الوجا: نوع من السير الذي يشقق المناسم. 4 هذا البيت في مدح هشام بن عبد الملك الأحول وهو في صفة الشمس قبيل الغروب.

ومن هذه الجهة بعينها عابوا على أبي الطيب المتنبي خطابه لممدوحه، في مطلع قصيدة حيث قال: كفى بك داء أن ترى الموت شافيا ... وحسب المنايا أن يكنَّ أمانيا ومن مستقبحات الابتداء، قول البحتري وقد أنشد يوسف بن محمد قصيدته التي أولها: "لك الويل من ليل تقاصر آخره" فقال: بل لك الويل والخزي، وأما قصة إسحاق بن إبراهيم الموصلي، في هذا الباب، فإني أنفعل وأخجل عند سماعها، وما ذاك إلا أنه دخل على المعتصم وقد فرغ من بناء قصره بالميدان، فشرع في إنشاء قصيدة نزل بمطلعها إلى الحضيض، وكان هو وحكاية الحال في طرفي نقيض، وهو: يا دار غيرك البلا ومحاك ... يا ليت شعري ما الذي أبلاك فتطير المعتصم من قبح هذا المطلع، وأمر بهدم القصر على الفور، فتعوذ بالله من آفة الغفلة، هذا مع يقظة إسحاق وسير الركبان بحسن محاضرته ومنادمته للخلفاء، ولكنه قد يخبو الزناد وقد يكبو الجواد، مع أنه قيل: إن أحسن ابتداء ابتدأ به مولد، قول إسحاق الموصلي حيث قال: هل إلى أن تنام عيني سبيل ... إن عهدي بالنوم عهد طويل فانظر إلى هذا الأديب الحاذق المتيقظ، كيف استطردت به خيول السهو إلى أن خاطب المعتصم، في قصر رياحين تشييده غضة1 بخطاب الأطلال البالية، وانظر إلى حشمة أبي نواس كيف خاطب الدمن بخطاب تود القصور العالية أن تتحلى بشعاره، مع بلوغه في تناسب الطرف الأقصى، حيث قال: لمن دمن تزداد حسن رسوم ... على طول ما أقوت وطيب نسيم2 وقصة ذي الرمة مع عبد الملك تقارب قصة إسحاق مع المعتصم، فإنه دخل عليه يومًا فأمره بإنشاد شيء من شعره فأنشد قوله: "ما بال عينك منها الماء ينسكب" وكان يعبين عبد الملك رمش فهي تدمع أبدًا، فتوهم أنه خاطبه وعرض به، فقال له: ما سؤالك عن هذا يابن الفاعلة. فمقته وأمر بإخراجه.

_ 1 حديث البناء. 2 دمن جمع مفرده دمنه، وهي آثار الناس وما سودوا - رسوم: جمع مفرده رسم وهو الأثر - أقوت: خربت.

حسن الابتداء عند المحدثين: انتهى ما أوردته من حسن الابتداء للعرب والمولدين وفحول الشعراء، ونبهت على حسنه وقبيحه، ولكن جذبتني يا أخا العرب نسبة المتأخرين إلى أن أثبت، في هذا المحل، تشبيهًا ونسيبها وأظهر، في شرح هذه البديعة الآهلة، بديعها وغريبها ليعلم من تنزه في هذه الحدائق الزاهرة، أن ما ربيع الآخر من ربيع الأول ببعيد، وأن لكل زمان بديعًا تمتع بلذة الجديد، وهنا بحث لطيف وهو أن الاستشهاد بكلام المولدين وغيرهم من المتأخرين ليس فيه نقص، لأن البديع أحد علوم الأدب الستة، وذلك أنك إذا نظرت في الكلام العربي، إما أن تبحث عن المعنى الذي وضع له اللفظ، وهو علم اللغة، وإما أن تبحث عن ذات اللفظ بحسب ما يعتريه، وهو علم التصريف، وإما أن تبحث عن المعنى الذي يفهم من الكلام المركب بحسب اختلاف أواخر الكلم، وهو علم العربية، وإما أن تبحث عن مطابقة الكلام لمقتضى الحال بحسب الوضع اللغوي، وهو علم المعاني، وإما أن تبحث عن طرق دلالة الكلام إيضاحًا وخفاء بحسب الدلالة العقلية، وهو علم البيان، وإما أن تبحث عن وجوه تحسين الكلام، وهو علم البديع. فالعلوم الثلاثة الأول، يستشهد عليها بكلام العرب نظمًا ونثرًا، لأن المعتبر فيها ضبط ألفاظهم والعلوم الثلاثة الأخيرة يستشهد عليها بكلام العرب وغيرهم، لأنها راجعة إلى المعاني، ولا فرق في ذلك بين العرب وغيرهم، إذا كان الرجوع إلى العقل. وقال أبو الفتح عثمان بن جني: المولودون يستشهد بهم في المعاني، كما يستشهد بالقدماء في الألفاظ. قال ابن رشيق في العمدة: الذي ذكره أبو الفتح صحيح بين لأن المعاني اتسعت باتساع الناس في الدنيا وانتشار العرب بالإسلام في أقطار الأرض، فإنهم حضروا الحواضر، وتفننوا في المطاعم والملابس، وعرفوا بالعيان ما دلتهم عليه بداهة عقولهم، من فضل التشبيه ونحوه، ومن هنا يحكى عن ابن الرومي أن لائمًا لامه وقال له: لم لا تشبه تشبيه ابن المعتز، وأنت أشعر منه؟ فقال له: أنشدني شيئًا من قوله أعجز عن مثله، فأنشده في صفة الهلال: فانظر إليه كزورق من فضة ... قد أثقلته حمولة من عنبر فقال له ابن الرومي: زدني، فأنشده: كأن آذريونها ... والشمس فيه كاليه1 مداهن من ذهب ... فيها بقايا غاليه

_ 1 الآذريون: نبات زهره أصفر أو أحمر ذهبي في وسطه خمل أسود - كاليه: مصفرّة؟

فقال: واغوثاه لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، ذاك إنما يصف ماعون1 بيته لأنه ابن الخلفاء، وأنا مشغول بالتصرف في الشعر وطلب الرزق به، أمدح هذا مرة وأهجو هذا كرة، وأعاتب هذا تارة، وأستعطف هذا طورا. انتهى كلام ابن رشيق. ورأيت الشيخ شمس الدين بن الصائغ، رحمه الله تعالى، قد استشهد في شرح البردة، الذي سماه بالرقم، بغالب أهل عصره، في ما عرض له من أنواع البديع، حتى أورد لهم شيئًا من محاسن الزجل. رجع إلى ما كنا فيه، من حسن الابتداء وتناسب القسمين، وإيراد ما وعدنا به من كلام المتأخرين. قال قاضي هذه الصناعة وفاضلها والمتأخر الذي لم يتقدم عليه بغير الزمان أوائلها: زار الصباح فكيف حالك يا دجى ... قم فاستذمَّ بفرعه أو فالنجا انظر إلى حسن هذا الابتداء، كيف جمع، مع اجتناب الحشو، بين رقة النسيب وطرق التشبيب وتناسب القسمين وغرابة المعنى. ومثله قوله يخاطب العاذل: أخرج حديثك من سمعي فما دخلا ... لا ترم بالقول سهمًا ربما قتلا وما أطلف ما قال بعده: وما يخف على قلبي حديثك لي ... لا والذي خلق الإنسان والجبلا ومثله قوله: سمعتك والقلب لم يسمع ... فكم ذا تقول وكم لا أعي وما ألطف ما قال بعده: يقول وما عنده أنني ... بغير فؤاد ولا أضلع أما مع هذا الفتى قلبه ... فقلت نعم يا فتى ما معي وأما مطلع قصيدة ابن النبيه، فإن الأذواق السليمة تنتبه به إلى فتح هذا الباب، وهو: يا ساكني السفح كم عين بكم سفحت ... نزحتم فهي بعد الباب ما نزحت

_ 1 ماعون: اسم جامع لمنافع البيت مما جرت العادة بإعارته.

والقصيدة كلها تحف وطرف، وعارضها ابن نباتة، فما حلا معها مكرر نباته، وأجرى الصفي معها ينابيع فكره، فما صفا له معها مورد، وجاراها الصفدي فتصفدت1 سوابق قافية عن لحاقها، ومنها: وروضة وجنات الورد قد خجلت ... فيها ضحى وعيون النرجس انفتحت2 تشاجر الطير في أفنانها سحرًا ... ومالت القضب للتعنيق فاصطلحت3 والقطر قد رش نوب الدوح حين رأى ... مجامر الزهر في أذياله نفحت4 ومما يحسن نظامه في هذا السلك قوله: رنا وانثنى كالسيف والصعدة السمرا ... فما أكثر القتلى وما أرخص الأسرى5 ومما اختاره الشيخ جمال الدين بن نباتة، رحمه الله، من ديوان أبي الفتوح نصر الله بن قلاقس، وهو حسن في هذا الباب، قوله: كم مقلة للشقيق الغض رمداء ... إنسانها سابح في بحر أنداء6 وقوله: قفا واسألا مني زفيرا وأدمعا ... أكانا لهم إلا مصيفًا ومربعا وهو من الغايات التي اختارها الشيخ جمال الدين بن نباتة، من شعر ابن قلاقس، فإنه قال: طالعت ديوان الأديب البارع، أبي الفتوح نصر الله بن قلاقس، فطالعت الفن الغريب وفتح علي بتأمل ألفاظه فتلوت: {نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} . بيد أني وجدت له حسنات تبهر العقول فضلًا وسيئات يكاد بذكرها ابن قلاقس يقلي7. انتهى كلام الشيخ جمال الدين بن نباتة. ومما وقع في تناسب القسمين إلى الغاية، قول الشيخ ظهير الدين بن البارزي رحمه الله، وهو:

_ 1 تصفدت: كُبلت بالأصفاد والقيود. 2 وجنات: جمع مفرده وجنة وهي كرسي الخد. 3 أفنان: جمع مفرده فنن وهو الغصن - سحرًا: أي وقت السحر قبيل الفجر. 4 مجامر: جمع مفرده مجمرة وهي وعاء يوضع فيه البخور. 5 رنا: نظر - انثنى: عاد ورجع - الصعدة: القناة المستوية التي لا تحتاج إلى تثقيف. 6 الشقيق: الأزهار المعروفة بشقائق النعمان، لونها أحمر قان. والغصن: الطري - رمداء: أصابها الرمد وهو مرض يصيب العيون. إنسانها: إنسان العين: البؤبؤ. 7 يقلي: يبغض ويُهجَر.

يذكرني وجدي الحمام إذا غنى ... لأنا كلانا في الهوى يعشق الغصنا1 ذكر الصلاح الكتبي، في كتابه فوات الوفيات، أن الشيخ أثير الدين أبا حيان قال: رأيت الشيخ المذكور صوفيا بحماة المحروسة، وأنشدني لنفسه هذه القصيدة وعدة مقاطيع منها: أراك فأستحيي فأُطرِقُ هيبة ... وأُخفي الذي بي من هواك وأكتُم وهيهات أن يخفى وأنت جعلتني ... جميعي لسانا في الهوى يتكلم وتوفي بعد الثمانين والستمائة، وأما مطلع الشيخ شمس الدين بن العفيف في هذا الباب، فظرافته لا تنكر، لأنه كان ينعت بالشاب الظريف، قال في شطره الأول: أعز الله أنصار العيون وفي الثاني "وخلد ملك هاتيك الجفون" وما أظرف ما قاله بعده: وضاعف بالفتور لها اقتدارًا ... وجدد نعمة الحسن المصون وما أحسن ابتداءات الشيخ عبد العزيز الأنصاري، شيخ شيوخ حماة، فجميعها نسجت على هذا المنوال، منها قوله: حروف غرامي كلها حرف إغراء ... على أن سقمي بعض أفعال أسماء وقوله: ويلاه من نومي المشرد ... أواه من شملي المبدد وقوله: أهلا بطيفكم وسهلا ... لو كنت للإغفاء أهلا وما أحلى ما قاله بعده: لكنه وافى وقد ... حلف السهاد علي أن لا وقد توارد هو وابن عنين في هذا المعنى، ولك كساه ديباجة تأخذ بمجامع القلوب، ومطلع ابن عنين قوله: ماذا على طيف الأحبة لو سرى ... وعليهم لو سامحوني بالكرى2

_ 1 وجدي: شدة شوقي 2 الكرى: الإغفاء دون النوم.

وقول مهيار الديلمي، في هذا الباب، مشهور والذي أقوله: إن الشيخ جمال الدين بن نباتة، نبات هذا البستان وقلادة هذا العقيان، ومن مطالعه التي هي أبهج من مطالع الشمس قوله في هذا الباب: في الريق سكر وفي الأصداغ تجعيدُ ... هذا المدام وهاتيك العناقيد وقوله: بدا ورنت لواحظه دَلالا ... فما أبهى الغزالة والغزالا وقوله: سلبت عقلي بأحداث وأقداح ... يا ساجيَ الطرف بل يا ساقي الراح1 وما ألطف ما قال بعده: سكران من مقلة الساقي وقهوته ... فاترك ملامك في السكرين يا صاح وقوله: إنسان عيني بتعجيل السهاد بلي ... عمري لقد خلق الإنسان من عجلِ وقوله: قام يرنو بمقلة كحلاء ... علمتني الجنون بالسوداء وقوله: نفس عن الحب ما حادت وما غفلت ... بأي ذنب وقاك الله قد قتلت وقد تقدم شروط، لابد من اجتنابها في حسن الابتداء، منها الحشو، ولكن وقاك الله حشو اللوزينج2. وقوله: لام العذار أطالت فيك تسهيدي ... كأنها لغرامي لام توكيد ولولا الإطالة لأفعمت الأذواق من هذا السكر النباتي. ورأيت للشيخ صفي الدين الحلي في "الأرتقيات" قصيدة قافية مطلعها في هذا الباب فيه، وهو قوله: قفي ودعينا قبل وشك التفرق ... فلما أنا من يحيا إلى حين نلتقي وأنشدني من لفظه، الشيخ عز الدين الموصلي قصيدة نونية، نظمها بحماة، ومطلعها في حسن الابتداء حسن: سمعنا حمام الدوح في روحة غنا ... فأذكرنا ربع الحبائب والمغنى ولقد سهوت عن مطلع الشيخ علاء الدين علي بن المظفر الكندي، الشهير بالوادعي، فإنه ليس له في تناسب القسمين قسيم وهو: بدر إذا ما بدا محياه ... أقول ربي وربك الله

_ 1 أحداق: مفرده حدقة وهو السواد المستدير في العين - ساجي: فاتر وساكن، والطرف: العين. 2 اللوزينج: من الحلوى، شبيه القطايف يؤدم بدهن اللوز.

وعارضة الشيخ جمال الدين بن نباتة، في هذه القصيدة بعينها، وترقى إلى مطلع بدره وزاحمه في حسنه فمطلع الشيخ جمال الدين: له إذا غازلتك عيناه ... سهام لحظ أجارك الله من مطالعي، التي حصل لي فيها الفتوح في هذا الباب، قولي: طلعتم بدورًا في أعزل المطالع ... فبشرني قلبي بسعد طوالعي1 وقولي: إغراء لحظك ما لي منه تحذير ... ولا لتعريف وجدي فيك تنكير وقولي: في عروض الجفا بحور دموعي ... ما أفادت قلبي سوى التقطيع وقولي: لله قوم لنظم الوصل قد نثروا ... شعرت في حبهم يا ليتهم شعروا وقولي: جردت سيف اللحظ عند تهددي ... يا قاتلي فسلبتني بمنجرد2 وقولي: هواي بسفح القاسمية والجسر ... ذا هبَّ ذاك الريح فهو الهوى العذري وكأني بمنتقد تأمل قلبه على المتقدمين، بكثرة النقد، ومالت نفسه، إلي مع المتأخرين ليستوفي الشروط الأدبية في مباشرة هذا العقد. وقولي: قال مال غصن النقا عن صبه هيفًا ... يا ليته بنسيم العتب لو عطا3 فأقول وبالله المستعان إن جماعة من المخاديم بدمشق رسموا أن أعارض شيئًا من نظم الشيخ جمال الدين بن نباتة وتخيروا لي خمس قصائد منها قصيدته الكافية التي مطلعها: تصرمت الأيام دون وصالك ... فمن شافعي في الحب يا ابنة مالك4 فلما انتهت إلى معارضتها وجدت، بين الشطر الثاني من المطلع وبين الشطر الأول، مباينة، كما تقدم في مطلع امرئ القيس من الكلام على أن في شطره الأول ما ليس في الثاني. وقد اتفق علماء البديع على أن عدم تناسب القسمين نقص في حسن الابتداء، وقد تقدم قول زكي الدين بن أبي الصبع: إن مطلع النابغة أفضل من مطلع امرئ القيس، لتناسب القسمين، وإن كان مطلع امرئ القيس أكثر معاني. انتهى ولو قال الشيخ جمال الدين في مطلعه:

_ 1 طوالعي: مفردها طالع وهو الحظ. 2 جرد السيف: أعده للمعركة - المنجرد: الذي تعرى من ثوبه. 3 هيفا: طولا واستقامة. النقا: الكثيب من الرمل. 4 تصرمت: انقضت - الوصال: اللقاء.

تمذهبت في هجري بطول مطالِكِ ... فمن شافعي في الحب يا ابنة مالك1 لجمع بين تناسب القسمين. ومطلعي الذي عارضت به الشيخ جمال الدين: رضيع الهوى يشكو فطام وصالك ... فداوي بني الحب يا ابنة مالك وكذلك من مطلع الشيخ صفي الدين الحلي، في قصيدته الجيمية التي هي من جملة القصائد الأرتقيات التي امتدح بها الملك المنصور صاحب ماردين: جاءت لتنظر ما أبقت من المهج ... فعطرت سائر الأرجاء بالأرج2 فالشطر الثاني ليس من جنس الشطر الأول، فإن الشطر الأول في الطريق الغرامية ليس له مثيل ومن أنكر هذا النقد، ينتظر في مطلع الشيخ شرف الدين عمر بن الفارض قدس الله سره، فإنه في هذا الباب طرفة، وهو: ما بين معترك الأحداق والمهج ... أنا القتيل بلا إثم ولا حرج وهنا نكتة لطيفة تؤيد هذا النقد. اتفق أن الشيخ نور الدين علي بن سعيد الأندلسي الأديب المشهور الذي من نظمه قوله: وا طُول شوقي إلى ثغور ... ملأي من الشهد الرحيق عنها أخذت الذي تراه ... يعذب من شعري الرقيق لما ورد إلى هذه البلاد، اجتمع بالصاحب بهاء الدين زهير، وتطفل على موائد طريقته الغرامية، وسأله الإرشاد إلى سلوكها، فقال له: طالع ديوان الحاجري والتلعرفي وأكثر المطالعة فيهما وراجعني بعد ذلك، فغاب عنه مدة وأكثر من مطالعة الديوانين، إل أن حفظ غالبهما، ثم اجتمع به بعد ذلك وتذاكرا في الغراميات فأنشده الصاحب بهاء الدين زهير، في غصون المحاضرة: "يا بان وادي الأجرع"، وقال: أشتهي أن يكمل لي هذا المطلع فافْتَكَر قليلًا وقال: "سقيت غيث الأدمع" فقال: والله حسن لكن الأقر إلى الطريق الغرامي أن تقول: "هل ملت من طرب معي"، وما ألطف مطلع الحجاري في هذا الطريق:

_ 1 مطالك: إخلافك الوعد. 2 الأرج: الرائحة الطيبة.

لك أن تشوقني الأوطان ... وعلي أن أبكي بدمع قان والآراء على هذا النوع، تستحسن هنا مطلع ناصر الدين بن النقيب، فإنه أعدل شاهد مقبول، والتشبيب بنفسه الطيب يغني، في هذه الحضرة، عن الموصول، وهو: قلدت يوم البيت جيد مودعي ... دررًا نظمت عقودها من أدمعي وبالنسبة إلى حسن الابتداءات، مطلع اليخ برهان الدين القيراطي مع حسنه وبهجته، فيه نقص وهو: قسما بروضة خدها ونباتها ... وبآسها المخضل في جنباتها1 فإنه لم يأت بجوانب القسم، ولا ما يحسن السكوت على مطلعه، ولا تتم الفائدة إلا به. ومشايخ البديع قرروا أن لا يكون المطلع متعلقًا بما بعده، في حسن الابتداء. وقد آن أن أحبس عنان القلم، فإن الشرح قد طال، ولم أطله إلا ليزداد الطالب إيضاحًا ويداوي علل فهمه بحكم المتقدمين، ويتنزه في رياض الأدب على النبات الغض من نظم المتأخرين. براعة الاستهلال في النظم: انتهى من أوردته في حسن الابتداء وقد فرع المتأخرون منه براعة الاستهلال، وفي النظم والنثر، وفيها زيادة على حسن الابتداء، فإنهم شرطوا في براعة الاستهلال، أن يكون مطلع القصيدة دالًا على ما بنيت عليه، مشعرًا بغرض الناظم، من غير تصريح بل بإشارة لطيفة تعذب حلاوتها في الذوق السليم، ويستدل بها على قصده، من عتب أو عذر أو تنصل أو تهنئة أو مدح أو هجو، وكذلك في النثر، فإذا جمع الناظم بين حسن الابتداء وبراعة الاستهلال كان من فرسان هذا الميدان، وإن لم يحصل له براعة الاستهلال فليجتهد في سلوك ما يقوله في حسن الابتداء. وما سمي هذا النوع براعة الاستهلال إلا لأن المتكلم يفهم غرضه من كلامه، عند ابتداء رفع صوته به، ورفع الصوت في اللغة هو الاستهلال، يقال: استهل المولود صارخًا، إذا رفع صوته عند الولادة. وأهل الحجيج، إذا رفعوا أصواتهم بالتلبية، وسمي الهلال هلالًا، لأن الناس يرفعون أصواتهم عند رؤيته. ومما وقع من براعات الاستهلال التي

_ 1 الآس: شجر دائم الخضرة، بيضي الوريق أبيض الزهر عطريه - المخضل: الندى.

تشعر بغرض الناظم وقصده في قصيدة، براعة قصيدة الفقيه نجم الدين عمارة اليمني حيث قال: إذا لم يسالمك الزمان فحارب ... وباعد إذا لم تنتفع بالأقارب فإشارات العتب والشكوى لا تخفى على أهل الذوق في هذه البراعة، ويفهم منها أن بقية القصيدة تعرب عن ذلك، فإن زكي الدين بن أبي الإصبع قال: براعة الاستهلال هي ابتداء المتكلم بمعنى ما يريد تكميله، وهذه القصيدة، في حكمها وتحشمها وتسيير أمثالها، نهاية، والموجب لنظمها على هذا النمط، أنه كان بينه وبين الكامل بين شارر صحبة أكيدة، قبل وزارة أبيه، فلما وزر استحال عليه فكتب إليه هذه القصيدة التي من جملتها: ولا تحتقر كيدًا صغيرًا فربما ... تموت الأفاعي من سموم العقارب ومنها: إذا كان رأس المال عمرك فاحترز ... عليه من الإنفاق في غير واجب فبين اختلاف الليل والصبح معرك ... يكر علينا جيشه بالعجائب ومنها: وما راعني غدر الشباب لأنني ... ألفت لهذا الخلق من كل صاحب ومنها: إذا كان هذا الدر معدنه فمي ... فصونوه عن تقبيل راحة واهب1 رأيت رجالا حالهم في مآدب ... لديكم وحالي عندكم في نوادب2 تأخرت لما قدمتكم علاكم ... عليّ وتأبى الأسد سبق الثعالب ترى أين كانوا في مواطني التي ... غدوت لكم فيهن أكرم خاطب3 ليالي أتلوا ذكركم في مجالس ... حديث الورى فيها بغمز الحواجب4 ومن ألطف البراعات وأحشمها، براعة مهيار الديلمي، فإنه بلغه أنه وشي به إلى ممدوحه فتنصل من ذلك، بألطف عذر وأبرزه في معرض التغزل والنسيب، فقال: أما وهواها حلفة وتنصلا ... لقد نقل الواشي إليك فامحلا5 وما أحلى ما قال بعده: سعى جهده لكن تجاوز حده ... وكثر فارتابت ولو شاء قللا

_ 1 الراحة: باطن الكف أو جمعه. الواهب: المعطي الهبات. 2 مآدب: في فرح - نوادب: أي في حزن. 3 خاطب: طالب القرب. 4 الورى: الناس. وغمز الحواجب: تحريكها. 5 التنصل: التخلص والإنكار. الواشي: ناقل الأخبار - أمحلا: أي لم ينقل الحقيقة، كذب.

وأذكرني مهيار، بحسن براعته، ما كتبت به إلى سيدنا ومولانا قاضي القضاة، صدر الدين ملك المتأدبين، أبي الحسن علي بن الآدمي الحنفي، الناظر في الحكم العزيز بالديار المصرية والممالك الإسلامية، جعل الله الوجود بوجوده، من حماة المحروسة إلى أبوابه العالية بدمشق المحروسة، ورياحين الشبيبة غضة، وكانت مطالعاتي قد تأخرت عن أبوابه العالية لعارض حجب الفكر عن هذا الفن، وهي رسالة مشتملة على نظم ونثر، فصدرت الجواب بقصيدة ترفل في حلل النسيب، على طريق مهيار، وكلها براعة استهلال أولها: وصلت ولكن بعد طول تشوقي ... ودنت وقد رقت لقلبي الشيق وما أحلى ما قلت بعده: فثملت من طرب يرجع حديثها ... فكأنما قد نادمت بمعتق1 وجميعها على هذا الطريق البديعي ومثله. إن المقر المخدومي الأميني الحمصي، لما انتقل من توقيع حمص المحروسة إلى حصابة ديوان الإنشاء بدمشق، قصد نقلتي من حماة المحروسة إلى أبوابه العالية، وحب حماة يفتر العزم عن ذلك، وهذا يفهم من قولي في بعض قصائدي فيها: يلذ عناق الفقر لي بفنائها ... وفي غيرها لم أرض بالملك والرهط2 ولكنه قطع أسئلته العالية، بعد أن كانت كئوس الإنشاء دائرة بيننا، فكتبت إليه بقصيدة تشعر بعتب لطيف، وبلابل الغزل تغرد في أفنانها، على طريقة مهيار الديلمي وطريق مولانا قاضي القضاة صدر الدين عظم الله تعالى شأنه، وبراعة استهلالها: من بأسياف هجرهم كلمونا ... ما عليهم لو أنهم كلمونا3 ولم أعرب في نحو هذه القصيدة عن غير هذه الإشارات اللطيفة. ومنها: غلقوا باب وصلهم فتح الله ... لهم بالهناء فتحا مبينًا وصلوا هجرنا وعيش هواهم ... لم نحل عنهم ولو قطعونا4 ملكوا رقنا فصرنا عبيدًا ... ليتهم بعد رقنا كاتبونا5

_ 1 معتق: من الخمرة أجودها 2 الرهط: الجماعة. والحاشية. 3 كلمونا: الأولى من الكَلْم وهو الجرح، والثانية من الكلام. 4 نحل: من حال عن الشيء إذا حاد عنه. 5 المكاتبة: ما يتم بين العبد وسيده من اتفاق على عتقه مقابل مبلغ معين من المال.

ولم أزل غازل عيون هذه المعاني إلى المخلص فقلت: حبكم فرضنا وسيف جفاكم ... قد غدا في بعادنا مسنونا والحشا لم يخن عهود وفاكم ... فاسألوا من غدا عليها أمينا ومما يشعر بالتهنئة والنصر على الأعداء، براعة العلامة لسان الدين بن الخطيب وهي: الحق يعلو والأباطل تسفل ... والحقل عن أحكامه لا يسأل فإنه قال: نظمت للسلطان أسعده الله، وأنا بمدينة سلا، لما انفصل طالبا حقه بالأندلس، قصيدة كان صنع الله مطابقًا لاستهلالها، ووجهت بها إلى رندة قبل الفتح، ثم لما قدمت أنشدتها بين يديه بعد الفتح وفاء بنذري، وسميتها الفتح الغريب في الفتح القريب، منها: فإذا استحالت حالة وتبدلت ... فالله عز وجل لا يتبدل واليسر بعد العسر موعود به ... والصبر بالفرج القريب موكل والمستعد بما يؤمل ظافر ... وكفاك شاهد قيدوا وتوكلوا1 ومنها: محمد والحمد منك سجية ... بحليّها بين الورى يتجمل2 أما سعودك فهو دون منازع ... عقد بأحكام القضاء يسجل3 ولك السجايا الغر والشيم التي ... بغريبها يتمثل المتمثل4 ولك الوقار إذا نزلت على الربا ... وهفت من الروع الهضاب المثل ومنها: عوذ كمالك ما استطعت فإنه ... قد تنقص الأشياء مما تكمل5 تاب الزمان إليك مما قد جنى ... والله يأمر بالمتاب ويقبل إن كان ماض من زمانك قد مضى ... بإساءة قد سرك المستقبل هذا بذاك فشفع الثاني الذي ... أضراك فيما قد جناه الأول والله قد ولاك أمر عباده ... لما ارتضاك ولاية لا تعزل

_ 1 يؤمل: ينتظر حصول الأمر - ظاهر: من ظفر بالشيء إذا ناله. شاهد قيدوا وتوكلوا: يقصد النبي محمد -صلى الله تعالى عليه وسلم- لقوله: "اعقل وتوكل". 2 سجية: عادة. 3 السعد: الحظ. مفردها سعد. 4 الشيم: مفردها شيمة، وهي الخصلة الحميدة. 5 عوّذ: حماه بالتعاويذ وهي الطلاسم أو بالمعوذتين من القرآن الكريم.

وإذا تغمدك الإله بنصره ... وقضى لك الحسنى فمن ذا يخذل ومنها: وظعنت عن أوطان ملكك راكبا ... متن العباب فأي صبر يجمل1 والبحر قد خفقت عليك ضلوعه ... والريح تبتلع الزفير وترسل ولك الجواري المنشآت قد اغتدت ... تختال في برد الشباب وترفل2 خرقاء يحملها ومن حملت به ... من يعلم الأنثى وماذا تحمل3 صبحتهم غرر الجياد كأنما ... سد الثنة عارض متهلل من كل منجرد أغر محجل ... يرمي الجياد به أغر محجل زجل الجناح إذا أجد لغاية ... وإذا تغنى للصهيل، فبلبل4 جيد كما التفت الظليم وفوقه ... أذن ممشقة وطرف أكحل5 ومنها: وخليج هند راق حسن صفائه ... حتى يكاد به يقوم الصيقل6 غرقت بصفحته النمال وأوشكت ... تبغى النجاة فأوثقتها الأرجل فالصرح منه ممرد والصفح منـ ... ـه مورد والشط منه مهدل وبكل أزرق إن شكت ألحاظه ... مره العيون فبالعجاجة يكحل7 متأود أعطافه في نشوة ... مما يعل من الدماء وينهل8 عجبًا له إن النجيع بطرفه ... رمد ولا يخفى عليه مقتل9 لله موقفك الذي وثباته ... وثباته مثل به يتمثل10 والخيل خط والمجال صحيفة ... والسمر تنقط والصوارم تشكل11 والبيض قد كسرت حروف جفونها ... وعوامل الأسل المثقف تعمل12

_ 1 العباب: عباب البحر أمواجه. ومعظم مياهه. 2 الجواري المنشآت: السفن العظيمة. 3 الخرقاء: الريح الشديدة الهبوب. 4 زجل الجناح: أي لجناحه صوت - أجد: قصد. 5 الظليم: ذكر النعام. 6 الصيقل: الصقال الذي يجلو السيوف. 7 مرِه العيون: أبيض العيون - العجاجة: الغبار الكثيف. 8 متأود: معوج - أعطافه: جنباته - يعل وينهل: العلل الشربة الأولى والنهل الشربة الثانية. 9 النجيع: دم الجوف. 10 وثباته: الأولى من الوثب وهو القفز والثانية من الثبات. 11 الخيل خط: أي صف - والمجال صحيفة: أي سهل واسع - السمر: القنا - الصوارم السيوف - تشكل: تشتبك. 12 البيض: ما يلبس على الرأس من عدة الحرب - الأسل: الرماح.

وهي طويلة وجميعها فرائد ولم أكثر منها إلا لعلمي أن نظم الوزير لسان الدين بن الخطيب رحمه الله تعالى، غريب في هذه البلاد. ومن البراعات التي يفهم من إشاراتها أنها تهنئة بمولود، قول أبي بكر بن الخازن رحمه الله تعالى: بشرى فقد أنجز الإقبال ما وعدا ... وكوكب المجد في أفق العلا صعدا ومما يشعر بقرينة الذوق، أن الناظم يريد الرثاء، قول التهامي: حكم المنية في البرية جاري ... ما هذه الدنيا بدار قرار وهذه القصيدة يرثي بها ولده، وهي نسيج وحدها وواسطة عقدها. ومها: ومكلف الأيام ضد طباعها ... متطلب في الماء جذوة نار1 جبلت على كدر وأنت تريدها ... صفوًا من الأقذاء والأقذار2 وإذا رجوت المستحيل فإنما ... تبنى الرجاء على شفير هار3 فالعيش نوم والمنية يقظة ... والمرء بينهما خيال سار وما أعلم أن أحدًا استهل للمراثي بأحسن من هذه البراعات، ومنها يشير إلى ولده وهو من المعانى المستغربة: جاورت أعدائي وجاور ربه ... شتان بين جواره وجواري وأما قصيدة الشيخ جمال الدين بن نباة، رحمه الله تعالى، في تهنئة السلطان للملك الأفضل بسلطنة حماة، وتعزيته بوفاة والده الملك المؤيد، سقى الله ثراه، فإنها من عجائب الدهر فإنه جمع فيها بين نقيضي4 المدح والرثاء في كل بيت، وبراعتها: هناء محاذاك العزاء المقدما ... فما عبس المحزون حتى تبسما ثغور ابتسام في ثغور مدامع ... شبيهان لا يمتاز ذو السبق منهما يرد مجاري الدمع والبشر واضح ... كوابل غيث في ضحى الشمس قد همى5

_ 1 جذوة نار: قبس من نار. 2 الأقذاء: جمع مفرده قذى وهو الضيم، ومن الناس: السفلة. 3 شفير هار: الحرف الموشك على السقوط. 4 نقيضي: هكذا وردت في الأصل، والأصح: نقيضين "الشارح". 5 الوابل: الغزير من المطر - همى: هطل.

سبحان المانح والله من لا يتعلم الأدب من هنا فهو من المحجوبين عن إدراكه. وكتب إليه الشيخ صلاح الدين الصفدي قصيدة ضمن فيها أعجاز معلقة امرئ القيس، وصرح في براعتها بغليظ العتب، ولم يأت في البراعة بإشارة لطيفة يفهم منها القصد، بل صرح وقال: أفي كل يوم منك عتب يسوءني ... كجلمود صخر حطه السيل من عل فأجابه الشيخ جمال الدين بقصيدة ضمن فيها الأعجاز المذكورة، وبراعة استهلالها: فطمت ولائي ثم أقبلت عاتبًا ... أفاطم مهلًا بعض هذا التدلل1 والإشارة بقوله: أفاطم مهلًا بعض هذا التدلل، لا يخفى على حذاق الأدب ما مراده منها، وفي هذا القدر كفاية، وما أحلى ما قال بعده، وهو مما قصده في تلك الإشارة. فدونك عتب اللفظ ليس بفاحش ... إذا هي نصته ولا بمعطل2 وهنا بحث وهو أني وقفت على بديعية الشيخ شمس الدين، أبي عبد الله محمد بن جابر الأندلسي، الشهيرة "ببديعية العميان" فوجدته قد صرح في براعتها بمدح النبي - صلى الله عليه وسلم-، وهي: بطيبة انزل ويمم سيد الأمم ... وانثر له المدح وانثر طيب الكلم3 فهذه البراعة ليس فيها إشارة تشعر بغرض الناظم وقصده، بل أطلق التصريح ونثر المدح ونثر طيب الكلم، فإن قال قائل: إنها براعة استهلال، قلت: إن البديعية لابد لها من براعة وحسن مخلص وحسن ختام، فإذا كان مطلع القصيدة مبنيًّا على تصريح المدح، ولم يبق لحسن التخلص محل ولا موضع، ونظم هذه القصيدة سافل، بالنسبة إلى طريق الجماعة، غير أن الشيخ الإمام العلامة شهاب الدين أبا جعفر الأندلسي، شرحها شرحًا مفيدًا. وهنا فائدة وهو أن الغزل، الذي يصدر به المديح النبوي، يتعين على الناظم أن يحتشم فيه ويتأدب ويتضاءل وتشبب، مطربًا بذكر سلع ورامة وسفح العقيق والعذيب

_ 1 فطمت: قطعت - فاطم: ترخيم: فاطمة. 2 نصته: أظهرته وأبرزته - معطل: خال من الحلي. 3 يمم: توجه صوب - سيد الأمم: النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- الكلم: من الكلام أطيبه وأبلغه.

والغوير ولعلع وأكناف حاجر1 ويطرح ذكر محاسن المرد2 والتغزل في ثقل الردف3 ودقة الخصر وبياض الساق وحمرة الخد وخضرة العذار4 وما أشبه ذلك، وقل من يسلك هذا الطريق من أهل الأدب وبراعة الشيخ صفي الدين الحلي، في هذا الباب، من أحسن البراعات وأحشمها، وهي: إن جئت سلعا فسل عن جيرة العلم ... وأقر السلام على عرب بذي سلم فقد شبب بذكر سلع، والسؤال عن جيرة العلم، والسلام على عرب بذي سلم. ولا يشكل5 على من عنده أدنى ذوق أن هذه البراعة صدرت لمديح نبوي، ومطلع البردة6 أيضًا في هذا الباب، من أحسن البراعات أيضًا وهو: أمن تذكر جيران بذي سلم ... مزجت دمعًا جرى من مقلة بدم فمزج دمعه بدمه، عند تذكر جيران بذي سلم، من ألطف الإشارات إلى أن القصيدة نبوية، وما أحلى ما قال بعده. أم هبت الريح من تلقاء كاظمة ... وأومض البرق في الظلماء من أضم7 وحشمة الشيخ جمال الدين بن نباتة في براعة قصيدته الرائية النبوية، يتعلم الأديب منها سلوك الأدب وهي: صحا القلب لولا نسمة تتخطر ... ولمعة برق بالفضا تتعسر8 وما أحشم قوله بعده: وذكر جبين المالكية إن بدا ... هلال الدجى والشيء بالشيء يذكر سقى الله أكناف الفضا سائل الحيا ... وإن كنت أسقي أدمعًا تتحدر9

_ 1 أسماء أماكن. 2 المرد: جمع مفرده أمرد وهو الفتى لم تنبت له لحية. 3 الردف: المؤخرة. 4 العذار: ما سال من الشعر على جانبي الوجه. 5 يشكل: يلتبس ويختلط. 6 البردة: قصيدة مشهورة في مدح النبي. ومعنى البردة الكساء المخطط. 7 تلقاء: ناحية - كاظمة اسم مكان - أومض: لمع، أضم: اسم جبل. 8 تتسعر: تلتهب وتزداد لمعانًا. 9 الفضا والحيا: ترخيم الفضاء والحياة.

وأما قصيدتي النبوية، الموسومة بأمانة الخائف، فإنها عزيب1 هذا البارق، وحلبة مجرى هذه السوابق، لأنني لم أخرج في تغزلها عن التباري والتشبيب بذكر المنازل المعهودة، وبراعتها: شدت بكم العشاق لما ترنموا ... فغنوا وقد طاب المقام وزمزم2 وقلت بعده: وضاع شذاكم بين سلع وحاجر ... فكان دليل الظاعنين إليكم3 وجزتم بواد الجزع فاخضر والتوى ... على خده بالنبت صدغ منمم4 ولما روى أخبار نشر ثغوركم ... أراك الحمى جاء الهوى يتنسم5 وما أليقه أن يكون صدرًا للمدائح النبوية، ومنها: فيا عرب الوادي المنيع حجابه ... وأعني به قلبي الذي فيه خيموا رفعتم قبابًا نصب عيني ونحوها ... تجر ذيول الشوق والقلب يجزم ويا من أماتونا اشتياقا وصيروا ... مدامعنا غسلا لنا وتيمموا منعتم تحيات السلام لموتنا ... غرامًا وقد متنا فصلوا وسلموا يقولون لي في الحي أين قبابهم ... ومن هم من السادات قلت هم هم عريب لهم طرفي خباء مطنب ... بدمعي وقلبي نارهم حين تضرم6 ومن ألطف الإشارات إلى أن هذا التغزل صدر قصيدة نبوية قولي منها: أوري بذكر البان والزند والنقا ... وسفح اللوى والجزع والقصد أنتم7 ولم أزل في براعة الاستهلال، أستهل أهلة هذه المعاني، إلى أن وصلت إلى حسن التخلص فقلت:

_ 1 عزيب: بعيد، أي أبعد ما يمكن أن يتوصل إليه في هذا الفن. 2 المقام: قبر النبي محمد -صلى الله تعالى عليه وسلم- وزمزم: بئر ماء أخرجها الله لهاجر زوجة إبراهيم الخليل في وادي مكة. 3 ضاع: انتشر من ضاع يضوع - والشذا: الرائحة العطرة. 4 صدغ متمم: أو منمنم، مجعد الشعر. 5 الأراك: شجر واحدته أراكة وهي نبتة شجيرة كثيرة الفروع، خوارة العود، متقابلة الأوراق. 6 مطنب: ذو طنب وهي الحبال التي تشد بها أعمدة الخيام. 7 أورى: من التورية وهي ذكر مسمى وقصد غيره.

تقنعت في حبي لهم فتعصبوا ... علي وهم سادات من قد تلثموا لهم حسب عان ببطحاء مكة ... لأن رسول الله في الأصل منهم1 ومن الأغزال التي لا تليق أن يكون غزلها لمديح قصيد نبوي، قصيد السري الرفاء، فإنه مدح بها الفاطميين وجدهم صلى الله عليه وسلم، وجرح القلوب بندبة الحسين عليه السلام، فإنه قال منها: مهلًا فما نقلوا آثار والده ... وإنما نقضوا في قتله الدينا وهذه القصيدة مشتملة على مدح النبي صلى الله عليه وسلم وآل بيته، وندبة الحسين بن علي عليهما السلام، فما ينبغي أن تكون براعتها: نطوي الليالي علمًا أن ستطوينا ... فشعشعيها بماء المزن واسقينا2 ما أحق هذه البراعة ليعدها من المديح بقول القائل: تمنيتهم بالرقمتين ودارهم ... بوادي الغضى يا بعد ما أتمناه وما كفاه حتى قال بعد ذلك: وتوجي بكئوس الراح راحتنا ... فإنماخلقت للراح أيدينا3 قامت تهز قوامًا ناعمًا سرقت ... شمائل البان من أعطافه اللينا تدير خمرًا تلقاها المزاج لها ... ألقيت فوق جنى الورد نسرينا4 فلست أدري أتسقينا وقد نفحت ... روائح المسك منها أم تحيينا وقد ملكنا زمان العيش صافية ... لو فاتنا الملك راحت عنه تسلينا أقول: غفر الله له هذا الغزل، فيه إساءة أدب على مماديحه، فإنه شبب بوصف القيان5 وبذكر الخمر، وبينه وبين المديح مباينة عظيمة. رجع إلى البراعات البارعة التي تشعر أنها صدر المديح النبوي، بالإشارات اللطيفة، منها براعة الشيخ برهان الدين القيراطي وهي قوله: ذكر الملتقى على الصفراء ... فبكاه بدمعة حمراء

_ 1 حسب عانٍ: حسب ظاهر ومعروف. 2 شعشعيها: من شعشع الخمرة بالماء إذا مزجها به ليزيد لونها صفاء. والمزن: مفردها، مزنة وهي الغيمة الممطرة. 3 الراح: من أسماء الخمرة. 4 النسرين: نوع من الأزهار يعرف بزهرة الرب. 5 القيان: جمع مفرده قينة وهي المغنية.

وأما براعة بديعتي فإنها، ببركة ممدوحها صلى الله عليه وسلم، نور هذه المطالع وقبلة هذا الكلام الجامع؛ فإني جمعت فيها بين براعة الاستهلال وحسن الابتداء، بالشرط المقرر لكل منهما، وأبرزت تسمية نوعها البديعي في أحسن قوالب التورية، وشنفت1 بأقراط غزلها الأسماع، مع حشمة الألفاظ وعذوبتها وعدم تجافي جنوبها عن مضاجع الرقة وبديعية صفي الدين غزلها لا ينكر، غير أنه لم يلتزم فيها تسمية النوع البديعي مورى به من جنس الغزل، ولو التزمه لتجافت عليه تلك الرقة. وأما الشيخ عز الدين الموصلي، فإنه لما التزم ذلك نحت من الجبال بيوتًا، وقد أشرت إلى ذلك في الخطبة بقولي: وهي البديعية التي هدمت بها ما نحته الموصلي في بيوته من الجبال، وجاريت الصفي مقيدًا بتسمية النوع وهو من ذلك محلول العقال، وسميتها تقديم أبي بكر عالمًا أنه لا يسمع من الحلي والموصلي في هذا التقديم مقال. ومن أحسن إشارات براعتي التي تشعر أنها صدر مديح نبوي تشبيبي، بعرب ذي سلم، وخطابي لهم بأن لي في مدائحهم براعة تستهل الدمع، وكأنني وعدتهم بشيء لابد من القيام به، وهذا حسبما أراده ابن أبي الأصبع بقوله: براعة الاستهلال هي ابتداء الناظم بمعنى ما يريد تكميله. براعة الاستهلال في النثر: انتهى ما أوردته هنا من البراعات البارعة نظمًا، وأما براعات النثر فإنها مثلها، إن لم تكن براعة الخطبة أو الرسالة أو صدر الكتاب المصنف دالة على غرض المنشئ وإلا فليست ببراعة استهلال. وقد رأيت غالب البديعيين قد اكتفوا عند استشهادهم على براعة الاستهلال في النثر، بقول الصاحب عمرو بن مسعدة، كاتب المأمون، فإنه امتحن أن يكتب للخليفة يخبره أن بقرة ولدت عجلًا وجهه كوجه الإنسان، فكتب: الحمد الله الذي خلق الأنام في بطون الأنعام. ورأيت الشيخ صفي الدين الحلي، في شرح بديعيته، قد ألقى عند الاستشهاد بها عصا التسيار، واحتجبت عنه في هذا الأفق الشموس والأقمار، أين هو من علو مقام القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر، وقد كتب عن السلطان الملك الظاهر، إلى الأمير سنقر الفارقاني، جوابًا عن مطالعته بفتح سوس من بلاد السودان، واستهل بقوله: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} 2 الله

_ 1 شنفت: أمتعت. 2 الإسراء: 12/ 17.

أكبر، إن من البلاغة لسحرًا، والله ما أظن هذا الاتفاق الغريب اتفق لناثر، ولإهلال كاتب المأمون في هذا الاستهلال بزاهر، وهذا المثال الشريف ليس له مثال، منه صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس السامي تثني على عزائمه التي دلت على كل أمر رشيد، وأتت على كل جبار عنيد، وحكمت بعدل السيف في كل عبد سوء {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيد} 1. وبراعة الشيخ جمال الدين بن عبد الرزاق الأصفهاني، في رسالة القوس تجاري براعة القاضي محي الدين بن عبد الظاهر في هذه الحلبة، وتساويها في علو هذه الرتبة، فإنه أتى بالعجائب، وأصاب غرض البلاغة بسهم صائب، واستهلها بعد البسملة بقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا، إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا، فَأَتْبَعَ سَبَبًا} 2 منها: شيطان تطلع شمس النصرة من بين قرنيه، مارد لا يصلح إلا بتعريك أذنيه، صورة مركبة ليس لها من تركيب النظم إلا ما حملت ظهورها أو الحوايا3 أو ما اختلط بعظم. وأما براعة الشيخ جمال الدين بن نباتة، في خطبة كتابه المسمى "بخبز الشعير" فإنها خاص الخاص ولا بد من مقدمة تكون هي النتيجة الموجبة لتسمية هذا الكتاب بخبز الشعير، فإنه مأكول مذموم، وما ذاك إلا إنه كان يخترع المعنى الذي لم يسبق إليه، ويسكنه بيتًا من أبياته العامرة بالمحاسن، فيأخذه الشيخ صلاح الدين الصفدي بلفظه، ولا يغير فيه غير البحر، وربما عام به في بحر طويل يفتقر إلى كثرة الحشو واستعمال ما لا يلائم، فلم يسع الشيخ جمال الدين إلا أنه جمعه من نظمه ونظم الشيخ صلاح الدين، واستهل خطبته بقوله تعالى: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِي مُؤْمِنًا} 4 ورتب كتابه المذكور على قوله: قلت أنا فأخذه الشيخ صلاح الدين وقال. فمن ذلك قول الشيخ جمال الدين: قلت: ومولع بفخاخ ... يمدها وشباك قالت لي العين ماذا ... يصيد قلت كراكي5

_ 1 فصلت 41/ 46. 2 الكهف 18/ 83-85 3 الحوايا: الأمعاء وهي جمع مفرده حاوية وحاوياء. 4 نوح 71/ 28. 5 الكراكي: جمع مفرده كركيّ وهو طائر كبير، أغبر اللون، طويل العنق والرجلين، أبتر الذنب.

فأخذه الشيخ صلاح الدين وقال: أغار على سرح الكرى عندما رمى ال ... كراكي غزال للبدور يحاكي1 فقلت ارجعي يا عين عن ورد حسنه ... ألم تنظريه كيف صاد كراكي ومن ذلك، قال الشيخ جمال الدين قلت: اسعد بها يا قمري برزة ... سعيدة الطالع والغارب صرعت طيرًا وسكنت الحشا ... فما تعديت عن الواجب فأخذه الشيخ صلاح الدين وقال من البحر نفسه: قلت له والطير من فوقه ... يصرعه بالبندق الصائب2 سكنت في قلبي فحركته ... فقال لم أخرج عن الواجب قال الشيخ جمال الدين: قلت: وبمهجتي رشأ يميس قوامه ... فكأنه نشوان من شفتيه3 شغف العذار بخلده ورآه قد ... نعست لواحظه فدب عليه فأخذه الصلاح وقال: وأهيف كالغصن الرطيب إذا انثنى ... تميل حمامات الأراك إليه لمه عارض لما رأى الطرف ناعسًا ... أتى خده سرا فدب عليه وأحسن ما وقع في هذا الباب للشيخ جمال الدين أنه قال: بروحي عاطر الأنفاس ألمى ... مليّ الحسن خالي الوجنتين4 له خالان في دينار خد ... تباع له القلوب بحبتين فأخذه الصلاح وقال: بروحي خده المحمر أضحت ... عليه شامة شرط المحبة كأن الحسن يعشقه قديمًا ... فنقطه بدينار وحبه

_ 1 يحاكي: يشبه 2 البندق: كرة في حجم البندقة يرمى بها في القتال 3 رشأ: غزال - يميس: يتمايل في مشيته - القوام: القد والقامة. نشوان: سكران. 4 ألمى: في شفتيه سُمرة.

فلما وقف الشيخ جمال الدين على هذين البيتين قال: لا إله إلا الله، الشيخ صلاح الدين سرق كما يقال من الحبتين حبة. قال الشيخ جمال الدين: قلت: يا غادرا بي ولم أغدر بصحبته ... وكان مني محل السمع والبصر قد كنت من قلبك القاسي أخال جفا ... فجاء ما خلته نقشًا على حجر فأخذه الشيخ صلاح الدين وقال: ما زلت أشكو حين وفر لي الضنا ... فسما وأسلمني إلى البلوى وفر حتى توفر من شكاية لوعتي ... لي قلبه فرأيت نقشا في حجر قال الشيخ جمال الدين: قلت: يا عاذلي شمس النهار جميلة ... وجمال قاتلتي ألذ وأزين1 فانظر إلى حسنيهما متأملًا ... وادفع ملامك بالتي هي أحسن فأخذه صلاح الدين مع البحر، بل أخذ الكل مع القافية وقال: بأبي فتاة من كمال صفاتها ... وجمال بهجتها تحار الأعين كم قد دفعت عواذلي عن وجهها ... لما تبدت بالتي هي أحسن ومن ذلك قال الشيخ جمال الدين وأجاد إلى الغاية: فديتك أيها الرامي بقوس ... ولحظ يا ضنى قلبي عليه لقوسك نحو حاجبك انجذاب ... وشبه الشيء منجذب إليه فأخذه الشيخ صلاح الدين وقال: تشرط من أحب فذت وجدًا ... فقال وقد رأى جزعي عليه2 عقيق دمي جرى فأصاب خدي ... وشبه الشيء منجذب إليه وما أظن الشيخ صلاح الدين، غفر الله له، لما سمع ما قاله الشيخ جمال الدين ونظم بعده هذين البيتين، كان في حيز الاعتدال، وأين انجذاب القوس إلى الحاجب من

_ 1 عاذلي: لائمي. 2 تشرط: وضع الشروط.

انجذاب الدم إلى الخد، وليته في براعة استهلاله بقول الله تعالى: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِي مُؤْمِنًا} 1 قال بعدها: اللهم ومن دخل بيتي كافرًا بفوائدي المنعمة وبيت شعري، سارقًا من ألفاظه ومعانيه المحكمة، فأخجله في سره وعلانيته، وعاقب على قوله ونيته. ومنها بلغني أن بعض أدباء عصرنا، ممن منحته ودي، وأنفقت على ذهنه الطالب ما عندي، وأقمته، وهو لا يدري الوزن، مقام من زكاه نقدي، وأودعته ذخائر فكري فأنفقتها، وأعرته أوراقي العتيقة فلا والله ما ردها ولا أعتقها، بل إنه غير الثناء بالهجاء والولاء بالجفاء، ونسبني إلى سرقة الأشعار مع الغناء عنها والغنى، فتغاضيت وقلت: هماز مشاء، بنميم2 وغصة صديق أتجرعها ولو كانت من حميم، وأخليت من حديثه باب فمي ومجلس صدري ذكره عن فكري. ولكن، وقفت له على تصانيف وضعها في علم الأدب، والعلم عند الله تعالى، ووشحها بشعره المغصوب المنهوب، يقول: يا صاحبي، ألا لا. وما يتوضح من جيد تلك الأشعار لمعة إلا ومن لفظي مشكاتها3 ولا تتضوع زهرة إلا ومني في الحقيقة نبتها، فضحكت والله من ذهنه الذاهل وذكرت على زعمه قول القائل: وفتى يقول الشعر إلا لأنه ... فيا علمنا يسرق المسروقا وعجبت له كيف رضي لنفسه هذا الأمر منكرا، وكيف حلا لذوقه اللطيف هذا الحرام مكررًا، وقد أوردت الآن، في هذا الكتاب، قدرًا كافيًا ووزنًا من الشعر وافيًا، وسميته، خبز الشعير المأكول المذموم، وعرضته على معدلة مولانا، ليعلم أينا مع خليله مظلوم. ولولا الإطالة لأوردت جميع أبيات الشيخ جمال الدين التي دخلها الشيخ صلاح الدين، بغير طريق، ليرتدع القاصر عن التطاول إلى معاني الغير. ومن البراعات التي يستهل بها في هذا الأفق الذي مرآة سمائه صقيلة، براعة المقر المخدومي القضائي الفخري عبد الرحمن بن مكانس، مالك أزمة البلاغة، وملك المتأخرين، نظمًا ونثرًا، في رسالة كتبها إلى المقر المرحومي القضائي الزيني أبا بكر

_ 1 نوح 71/ 28. 2 الهماز: الموسوس - مشاء: الذي يمشي في الفتنة بين الناس - نميم: النمام الذي ينقل الكلام بين الناس. 3 المشكاة: ما يحمل عليه أو يوضع فيه القنديل.

ابن العجمي، عين كتاب الإنشاء الشريف بالأبواب الشريفة، وبقية الفضلاء الذين فضلوا بالطريق الفاضلية، بسبب عبد الله القيرواني الضرير، فإني نقلت من خط المشار إليه ما صورته: ورد علينا شخص من القيروان ضرير، يتعاطى نظم الشعر المقفى الموزون الخالي من المعاني، فتردّد إليّ مجالس متفرقة، ثم بلغني بعد ذلك أنه وشى إلى صاحبي الشيخ زين الدين بن العجمي، بأني اهتضمت من جانبه وانتقصته وغضضت منه، بالنسبة إلى الأدب وأنه يستعين بكلام الغير كثيرًا، فتأذى بسبب ذلك وتأذيت من كذب الناقل، فكتبت إليه رقعة براعة استهلالها {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ} 1. أقول: إنه يستغني بهذه البراعة عن الرسالة. منها: وبلغ المملوك أنه رماه بعض الأصحاب برمية مثل هذه فأصمي2 وتردد إليه مرة أخرى فعبس وتولى أن جاءه الأعمى. ولقد خسرت صفقته، إذ المملوك ما برح مخلصًا لمولانا في ولائه، ومبايعًا له على سلطنة البلاغة وأجل من تشرف بحمل لوائه. ومولانا بحمد الله أولى من استفتى قلبه، واستدل على صفاء صدق محبته، بشواهد المحبة، ولمسئول من صدقاته أمران: أحدهما الجواب، فإنه يقوم عند المملوك مقام الفرج من هذه الشدة، والآخر رد كل فاسق عن هذا الباب العالي، فإن أبا بكر أولى من يصلب في الردة. انتهى كلام القاضي فخر الدين. ولقد كشف الشيخ جمال الدين بن نباتة عن هذا الوجع القناع، وأظهر من بهجته، في رسالة السيف والقلم، ما ليس لمطالع البدور عليه اطلاع، فإن الرسالة مبنية على المفاخر بينهما، ولما انتصب القلم لمفاخرة السيف كانت براعته {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ، مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} 3 واستهل بعدها بقوله: الحمد لله الذي علم بالقلم وشرفه بالقسم. وبراعة استهلال السيف قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} 4 واستهل بعده بقوله: الحمد الله الذي جعل الجنة تحت ظلال السيوف، وشرع حدها في ذوي العصيان فأغصتهم بماء الحتوف5، وما أظن أن أحدًا من المتقدمين نسج على هذا المنال، ولا نفث في عقد أقلامهم مثل هذا السحر الحلال.

_ 1 النور: 24/ 61. 2 أصمي: لم يسمع له. 3 القلم: 1/ 68، 2. 4 الحديث: 20/ 57. 5 الحتوف: المنايا مفردها حتف.

وممن طلع من العصريين في هذا الأفق الساطع فأبدر ورقي ببلاغته أعواد هذا المنبر، القاضي ناصر الدين بن البرازي، صاحب دواوين الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية، فإنه اتفق له بحماة محنة، كان لطف الله تعالى متكفلًا له بالسلامة منها، ولم يضرم نارها إلا من غذي بلبان نعمته، قديمًا وحديثًا، فالحمد لله الذي أسعف الإسلام والمسلمين بنجاته، وأمتع العلم الشريف والرياسة بطول حياته، ولما هاجر من حماة المحروسة إلى دمشق المحروسة، كان إذ ذاك مولانا السطلان الملك المؤيد كافلها، ففوض إليه خطاب الجامع الأموي، فلم يبق أحد من أعيان دمشق حتى حضر في تلك الجمعة، لأجل سماع الخطبة، فكانت براعة خطبته: الحمد الله الذي أيد محمدًا بهرجته، ونقله من أحب البقاع إليه لما اختاره من تأييده ورفعته، فعلت1 بالجامع الأموي أصوات ترنم حركت أعواد المنبر طربًا، وكاد النسر أن يصفق لها بجناحيه عجبًا. وما ألطف براعة الشيخ العلامة نور الدين أبي الثناء محمود الشافعي، الناظر في الحكم العزيز بحماة المحروسة، والشهير بخطيب الدهشة بحماة المحروسة، في كتاب أدعيته المسمى "بدواء المصاب في الدعاء المجاب"، وهي: الحمد لله سامع الدعاء، ودافع البلاء. وفيها البناء والتأسيس، فإنه أشار بسامع الدعاء إلى الدعاء المجاب، وبدافع البلاء إلى دواء المصاب. وأما براعة خطيب الخطباء أبي يحيى عبد الرحمن بن نباتة الفارقي، فإنها شغلت أفكاري مدة ولم يسعني غير السكوت والإحجام عنها، فإنه استهلها في خطبة وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: الحمد لله المنتقم ممن خالفه، المهلك من آسفه. ولقد اعتذر عنها جماعة من أكابر العلماء. وأورد الشيخ سري الدين بن هانئ، في شرحه الذي كتبه على ديوان الخطب، على هذه البراعة عذر لأبي البقاء، أرجو أن تهب عليه نسمات القبول. وما أحشم ما استهل الشيخ جمال الدين أبو الفرج بن الجوزي، في خطبة وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: الحمد لله الذي استأثر بالبقاء، وحق له أن يستأثر وحكم بالفناء على سكان هذا الفناء3، فأذعنوا لحكمه القاهر. وأما خطبة الشيخ صفي الدين، في صدر شرح بديعيته، فإن استهلالها نير، ولكن فيه نظر وبعض مباينة عما نحن فيه، فإنه قال: الحمد لله الذي حلل لنا سحر البيان.

_ 1 في الأصل فعلا والأصح ما أثبتناه "الشارح". 2 الفناء: الأولى بفتح الفاء: الموت، والثانية بكسرها: المكان الواسع "الدنيا".

وكتابه مبني على البديع. ولهذا استهليت خطبة شرح بديعيتي بقوله: الحمد لله البديع الرفيع. ولما جمعت ديواني استهليت خطبتي بقولي: الحمد لله الذي لا يحصر مجموع فضله ديوان. وكان قد رسم لي أن أنشئ صداقا للملك الناصر، وأنا إذ ذاك بدمشق، وقد حل ركابه الشريف بها على بنت المرحوم الشريف السيفي كشبغا الظاهر الحموي، فاستهليت بقولي: الحمد لله الذي أيد السنة الشريفة بقوة ناصر. وتمثلت، بعد هذا التاريخ بالمواقف الشريفة الإمامية الخليفية المستعينية العباسية، زاد الله شرفها تعظيمًا، فبرزت إلى أوامرها المطاعة، أن أنشئ عهدًا بكفالة السلطنة، بالبلاد الهندية للسلطان العادل مظفر شاه شمس الدنيا والدين صاحب دهلي1 والفتوحات الهندية، فاستهليت براعته بقولي: الحمد لله الذي وثق عهد النجاح للمستعين به. وقلت بعد الاستهلال: وثبت أوتاده ليفوز من تمسك، من غير فاصلة، بسببه، وزين السماء الدنيا بمصابيح وحفظًا، فأفرغ على أطراف الأرض حلل الخلافة الشريفة، وعلم أن في خلفها الزاهر زهرة الحياة الدنيا، فقال عز من قائل: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} 2 واختارها من بيت براعة استهلاله من أول بيت وضع للناس، وسبقت إرادته وله الحمد أن تكون هذه النهاية الشريفة، من سقاية بني العباس، وذلك في العشر الأواخر من رمضان، سنة ثلاث عشرة وثمانمائة. ومما أنشأته في الديار المصرية وقد استقريت منشئ ديوان الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية، تقليد مولانا المقر الأشرف القاضوي الناصري محمد بن البارزي الجهني الشافعي، عظم الله شأنه، بصحابة ديوان الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية، بتاريخ شوال سنة خمس عشرة وثمانمائة، واستهليته بقولي: الحمد الله الذي أودع محمدًا سره. وقلت بعد الاستهلال: وجعله ناصر دينه، فحل به عقد الشرك، وشدّ أزره، وأرسله لينشئ مصالح الأمة، فهذبنا برسالته، والله أعلم حيث يجعل رسالاته، وبين ديوان الإنشاء الشريف، بصاحب من بيت ظهر التمييز بكتابته، وأيد الإسلام والمسلمين بملك مؤيد تمسك بمحمد وصحابته. وأنشأت بعد هذا التاريخ توقيعًا لرئيس الطب بالديار المصرية، فكانت براعته: الحمد لله الحكيم اللطيف. وبراعة الشيخ صلاح الدين الصفدي، في شرح لامية العجم، في غاية الحسن،

_ 1 نظمها: دلهي، وقد أصابها التحريف "الشارح". 2 البقرة: 2/ 30.

فإنه استهلها بقوله: الحمد لله الذي شرح صدر من تأدب. والكتاب مبني على شيء من علم الأدب. وأما البراعات التي يحلو تقبيلها بوجنات الطروس، فمنها براعة الشيخ جمال الدين بن نباتة، من رسالة كتبها إلى القاضي علاء الدين الحسني، واستهلها بقوله: يقبل الأرض العلية على السحاب نسبًا. وقال بعد الاستهلال: الموفية على حصباء الأنجم حسبًا. هذا الأدب إن أطنبت في وصفه فهو فوق الوصف. وكتب إليه الشيخ برهان الدين القيراطي، من القاهرة المحروسة إلى دمشق المحروسة، رسالة بليغة واستهلها بقوله: يقبل الأرض التي سقت السماء نباتها. وقال بعد البراعة: وحرس الله ذاتها وعمر معاني الحسن أبياتها. ومن أظرف ما وقع من البراعات المتوشحة برداء التبكيت، براعة القاضي فخر الدين عبد الوهاب، كاتب الدرج، فإنه كان له صديق منهم يعبده، فكتب إليه رسالة يداعبه فيها، واستهلها بقوله: يقبل اليد الشهابية، كثر الله عبيدها. وقال بعد البراعة: وضاعف خدمها وأضعف حسودها. وقد خطر لي أن أوردها بكمالها لوجازتها1 وغرابة أسلوبها، فإنه قال بعد يقبل الأرض إلخ: وينهي بعد ولاء يمتد ودعاء يستد2 وثناء كأنه عنبر أو كافور راوند3، إن مولانا توجه، والأعضاء خلفه سائره، وكل عين لغيبته ساهره، ولا يخفى عليه شوق العليل إلى الشفاء، والظمآن إلى صيِّب الماء، والغريب إلى بلده، والمحصور إلى سعة مسلكه ومقعده، فمولانا يطوي هذه الشقة، ويقصر هذه المدة، ويدع أحد غلمانه يسد مسده4، فالمملوك قلق لسماع أخبار التشويش في البلاد، وتطرق أهل الجرائم والفساد، فمولانا يرسم لغلمانه أن يشمروا في خدمته ذيلًا، ويسهروا عليه بالنوبة5 لمن يطرق ليلًا، والله المسئول أن تكون هذه السفرة معجلة، ويخص فيها بالتبرك مخرجه ومدخله، ويبلغه من فضله مزيدًا، ويجعل يومه عليه مباركًا وليله عليه سعيدًا. وكتب المقر للمخدومي فضل الله بن مكانس، مجد الأدب الذي ظهر من بيته

_ 1 لوجازتها: من الإيجاز وهو الاستغناء من الكلام بما قل ودل. 2 يستد: يستجاب. 3 الراوند: نبات عشبي يطلق البطن. 4 يسد مسده: يقوم مكانه. 5 النوبة: الدور.

فجره، ورضيع لبانه الذي ما سقانا منه ذره إلا قلنا لله دره، إلى والد المقر المرحومي الفخري، من القاهرة إلى حلب، وهو صحبة الركاب الشريف الظاهري يشكو إليه رمدًا حصل له بعده، وكان مبدأ الرسالة قوله: ما الطرف بعدكم بالنوم مكحول ... هذا وكم بيننا من ربعكم ميل1 وقال بعد الاستهلال: لا استهلت لمولانا دموع، ولا جفا جفنه مدى الليالي هجوع2. منها: يطالع العلوم الكريمة بما قاساه طرف المملوك من الرمد، وما حصل عليه من الكمد3. إن عيني مذ غاب شخصك عنها ... يأمر السهد في كراها وينهى بدموع كأنهن الغوادي ... لا تسل ما جرى على الخد منها4 فلو رآه وقد أخذت عيناه من العناصر الثلاثة بنصيب، وعوضها الهاء عن التراب بمضاعفة الماء اللهيب، لرأى من نارها ما يفحم القلوب، ومن دمعها ما هو البلاء المصبوب، واستمر انهمالها حتى أنشدها المتوجع: قارنها الدمع فبئس القرين. وطالت مدّة رمده، حتى لقد أتى على الإنسان حين وتزايد خوف المملوك على مقلتيه، وشحه بكريمتيه، ففصد في الذراعين، وكاد أن يصير، لولا أن منََّ الله تعالى عليه، أثرًا بعد عين. وكتب إلى المقر المخدومي المشار إليه، سيدنا الإمام العلامة الذي وصلت جماعة أهل العصر خلف إمامته، وملك قياد البلاغة ببراعته وعبارته، بدر الدين، رحلة الطالبين، أبو عبد الله محمد بن الدماميني المخزومي المالكي، جوابًا عن حل لغز في ورد أرسله إليه، فاستهله بقوله: يقبل الأرض وينهي ورود الجواب الذي شفى الصدور وروده؛ وقال بعد الاستهلال: واللغز الذي نسي بوروده منه، بأن الحمى وزروده منه، فاستحلى المملوك منه بالتحريف ورده، وود لو اقتطف من أغصان حروفه ورده، فرده ذل التقصير عاريًا عن ملابس عزه، وأنشد قول ابن قلاقس وهو يقلي بنار عجزه. إذا منعتك أشجار المعالي ... جناها الغض فاقنع بالشميم5

_ 1 الربع: الديار وسكانها - والميل مقياس للطول بقدر بـ1609 أمتار. 2 هجوع: نوم. 3 الكمد: الحزن والغم. 4 الغوادي: السحاب الممطر غدوة. 5 الشميم: شم الرائحة.

فظهر من طريق سعده نصره، وعلم أن هذا الورد لا يحسن من غير تلك الحضرة، وأن هذه الفاكهة لا تخرجها إلا أغصان أقلام لها بيدي الراحة المخدومية بهجة ونضرة. ومنه: وتمشى بنظر المملوك من هذا اللغز في بساتين الوزير على الحديقة، فرأى كل وردة وأخت الوجنات الحمر فتحير أوردة هي أم شقيقة، وعلمت أن الفكر القاصر لا يجارى من بديهته من بحار الفضل رويه، وأن الخاطر الذي هو على ضعف من رعايا الأدب لا يقوى على سلطان هذا اللغز لأن شوكته قوية. منه: وتمتعت من ورده الوارد بالمشموم، ثم تذكرت البعد عن جناب المخدوم، فاستقطر البين ماء الورد من حدقي1. وكتبت إليه من القاهرة المحروسة، في منتصف ربيع الآخر سنة اثنتين وثمانمائة، عند دخولي إليها في البحر هاربًا من طرابلس الشام، وقد عضت عليَّ أنياب الحرب، بثغرها، رسالة مشتملة على حكاية الحال وربت في براعتها بمصنفين له: أحدهما الفواكه البدرية الذي جمعه من ثمار أدبه، والثاني نزول الغيث الذي نكت فيه على الغيث الذي انسجم2 في شرح لامية العجم، للشيخ صلاح الدين الصفدي، واستهليتها بقولي: يقبل الأرض التي سقى دوحها بنزول الغيث، وأثمر بالفواكه البدرية. وقلت بعد الاستهلال: وطلع بدر كمالها من الغرب، فسلمنا لمعجزاته المحمدية، وجرى لسان البلاغة في ثغرها فسما على العقد بنظمه المستجاد، وأنشد، لا فض الله فاه، وقد ابتسم عن محاسنه التي لم يخلق مثلها في البلاد: لقد حسنت بك الأيام حتى ... كأنك في فم الدنيا ابتسام فأكرم به من مورد فضل ما برح منهله العذب كثير الزحام، ومدينة علم تشرفت بالجناب المحمدي فعلى ساكنها السلام، ومجلس حكم ما ثبت لمدعي الباطل به حجة، وعرفات أدب إن وقفت بها وقفة صرت على الحقيقة ابن حجة، وأفق معان بالغ في سمو بدر فلم يقنع بما دون النجوم، وميدان عربية يجول فيه فرسان العربية من بني مخزوم، ومنها: أورى بدخوله إلى دمشق ومطارحته للجماعة، وتالله ما لفرسان الشقر أو البلق3 في هذا الميدان مجال، وإذا عرفوا ما حصل للفارس المخزومي عندهم من الفتح، كفى الله المؤمنين القتال، وينهي بعد أدعية ما برح المملوك منتصبًا لرفعها، وتعريدًا ثنية ما

_ 1 حدقي: عيني مفردها حدقة وهي السواد المستدير وسط العين. 2 انسجم الغيث: انسكب وانهمر 3 البُلق: مفردها أبلق وهو من الجياد الأسود الذي يتخلله بياض.

لسجع المطوق1 في الأوراق النباتية مثل سجعها، وأشواقًا برحت بالمملوك ولكن تمسك في مصر بالآثار: وأبرح ما يكون الشوق يومًا ... إذا دنت الديار من الديار وهذه الرسالة لكونها نظمت في طويل البحر ومديده، يفتقر إلى سرد غالبها لتعلقها بحكاية الحال وينهي وصول المملوك إلى مصر مخيمًا بكنانتها، وهو بسهم البين مصاب مذعور لما عاينه من المصارع عند مقاتل الفرسان في منازل الأحباب، مكلمًا2 من ثغر طرابلس الشام بألسنة الرماح، محمولا على جناح غراب، وقد حكم عليه البين أن لا يبرح سفره على جناح: وكان في البين ما كفاني ... فكيف بالبين والغراب3 منها: يا مولانا، وأبثك ما لاقيت من أهوال البحر، وأحدث عنه ولا حرج، فكم وقع المملوك من أعاريضه في زحاف تقطع منه القلب لما دخل إلى دوائر تلك اللجج، وشاهدت منه سلطانًا جائرًا يأخذ كل سفينة غصبًا، ونظرت إلى الجواري الحسان وقد رمت أزر قلوعها4 وهي بين يديه لقلة رجالها تسبى، فتحققت أن رأى من جاء يسعى في الفلك غير صائب، واستصوبت هنا رأي من جاء يمشي وهو راكب، وزاد الظمأ بالمملوك وقد اتخذ في البحر سبيله، وكم قلت، من شدة الظمأ، يا ترى قبل الحفرة أطوي من البحر هذه الشقة الطويلة: وهل أباكر بحر النيل منشرحًا ... وأشرب الحلو من أكواب ملاح بحر تلاطمت علينا أمواجه حتى متنا من الخوف، وحملنا على نعش الغراب، وقامت واوات دوائره مقام مع، فنصبنا للغرق لما استوت المياه والأخشاب، وقارن العبد فيه سوداء، استرقت مواليها وهي جارية، وغشيهم منها في اليم ما غشيهم، فهل أتاك حديث الغاشية، واقعها الريح فحملت بنا، ودخلها الماء فجاءها المخاص، وانشق قلبها لفقد رجالها وجرى ما جرى على ذلك القلب ففاض، وتوشحت بالسواد في هذا المأتم، وسارت على البحر وهي مثل وكم، سمع فيها للمغاربة على ذلك التوشيح زجل برج

_ 1 المطوق: مفردها المطوقة وهي الحمامة. 2 مكلمًا: مجرحًا. 3 البين: الاغتراب والسفر. 4 قلوعها: أشرعتها.

مائي، ولكن تعرب في رفعها وخفضها عن النسر والحوت، وتتشامخ كالجبال وهي خشب مسندة، من تبطنها عد من المصبرين في التابوت، تأتي بالطباق ولكن بالمقلوب، لأن بياضها سواد، وتمشي مع الماء، وتطير مع الهواء، وصلاحها عين الفساد، إن نقر الموج على دفوقها لعبت أنامل قلوعها بالعود، وترقصنا على آلتها الحدباء، فتقوم قيامتنا من هذا الرقص الخارج ونحن قعود، وتتشامم1 وهي كما قيل أنف من السماء وإست2 في الماء، وكم تطيل الشكوى إلى قامة صاريها3 عند الميل، وهي الصعدة الصماء، فيها الهدى وليس لها عقل ولا دين، وتتصابى إذا هبت الصبا، وهي ابنة مائة وثمانين، وتوقف أحوال القوم وهي تجري بهم في موج كالجبال، وتدعي براءة الذمة وكم أغرقت لهم من أموال، هذا وكم ضعف نحيل خصرها عن تثاقل أرداف الأمواج، وكم وجلت القلوب لما صار لأهداب مجاذيفها على مقلة البحر اختلاج4 وكم أسبلت على وجنة البحر طرة قلعها، فبالغ الريح في تشويشها، وكم مر على قريتها العامرة فتركها وهي خاوية على عروشها5، تتعاظم فتهزل إلى أن ترى ضلوعها من السقم تعد، ولقد رأيتها بعد ذلك التعاظم وقد تبت وهي حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد6. وأما البراعة التي لخطبة كتابي المسمى "بمجرى السوابق في وصف الخيول المسومة" فإنها أحرزت قصبات السبق، وهي: الحمد الله الذي يقف عند سابق فضله كل جواد ويقصر في حلبة هذا الكرم الذي ليس له غاية في بديع الاستطراد، فمن ألهمه الحزم وأرشده إلى حد المعرفة، حاز قصبات السبق ولا نقول كاد، نحمده على أن جعل لنا الخير معقودًا بنواصي الخيل، ونشكره شكرًا نعلو به على أشهب الصبح ونمتطي أدهم7 الليل، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة نرجو أن نكون منها في ميادين الرحمة من السابقين، ونشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله قائد الغر المحجلين. وقد آن أن نقطع طول هذا البحث برسالة السكين، فإن استهلالها يسن ما كل8

_ 1 تتشامم: تتشامخ وتعلو. 2 الإست: ما يلامس الأرض من المؤخرة عند الجلوس. 3 صارية: تجمع على صواري وهي أشرعة السفينة. 4 اختلاج: تحرك. 5 خاوية على عروشها: خربة. 6 مسد: نار. 7 أدهم الليل: ظلامه الشديد. 8 كل: فسد.

من الذوق: ويبرزه من قراب الشك إلى القطع باليقين، وما ذاك إلا أنه لما انفرد كمال الدين عبد الرزاق الأصفهاني برسالة القوس، واستوفى جميع المحاسن، وجاء الشيخ جمال الدين بن نباتة برسالة السيف والقلم، وأظهر فيها معجزات الأدب، أردت أن أعززهما من اختراع رسالة السكين بثالث، واستهليتها بقولي: يقبل الأرض التي قامت حدود مكارمها، وقطعت عنا مكروه الفاقة بمسنون عزائمها. منها: وينهى وصول السكين التي قطع المملوك بها أوصال الجفا، وأضافها إلى الأدوية، فحصل بها البرء والشفا، وتالله ما غابت إلا وبلغ الأقلام من تقشيرها إلى الحفى1. منها: ما شاهدها موسى إلا سجد في محراب النصاب، وذل بعدما خضعت له الرءوس والرقاب، كم أيقظت طرف القلم بعد ما خط، وعلى الحقيقة ما رؤي مثلها قط، وكم وجد الصاحب بها في المضايق نفعًا، وحكم بحسن صحبتهما قطعًا، من أجل أنها تدخل في مضايق ليس للسيف قط فيها مدخل، وكلما تفعله توجزه والرمح في تعقيده مطول، تطرف بأشعتها الباهرة عين الشمس، وبإقامتها الحد حافظت الأقلام على مواظبة الخمس، وكم لها من عجائب تركت السيف في بحر غمده كالغريق، ولو سمع بها من قبل ضربه ما حمل التطريق. انتهى ما أوردته من براعة الاستهلال نثرًا ونظمًا ومن لم ير بهجة ما أبرزته للمتأخرين فهو في هذه أعمى.

_ 1 الحفى: التعرية.

الجناس

الجناس: ذكر الجناس المركب والمطلق: بالله سر بي فسربي طلقوا وطني ... وركبوا في ضلوعي مطلق السقم أما الجناس، فإنه غير مذهبي ومذهب من نسجت على منواله من أهل الأدب، كذلك كثرة اشتقاق الألفاظ، فإن كلًا منهما يؤدي إلى العقادة والتقييد عن إطلاق عنان البلاغة في مضمار المعاني المبتكرة، كقول القائل، وأستحيي أن أقول إنه أبو الطيب: فقلقت بالهم الذي قلقل الحشا ... قلاقل عيش كلهن قلاقل1 ولقد تصفحت ديوانه فلم أجد لوافد هذا النوع نزولًا، إلا ما قبل في أبياته وهو نادر جدًّا، ولا العرب من قبل خيمت بأبياتها عليه، غير أن هذا البيت حكمت على أبي الطيب به المقادير، ومثله قول القائل: وقبر حرب بمكان قفر ... وليس قرب قبر حرب قبر فقرب وقبر، لأجل الجناس المقلوب هو الذي قلب عليه القلوب، اللهم إلا أن يقع الجناس في حشو بيت من البحور التي تحمل ثقله من غير اعتناء بأمره، كقول القائل: لله لبنى كلما لبنا على ... تعنيقها ونهودها تتقاعد2 وبنار أسما وهي أسمى زينة ... لقد احترقت وريقها يتبارد

_ 1 قلاقل: بضم القاف الأولى: العيش السريع التقلقل. والقلاقل بفتحها الفتن. 2 لبنا: من لاب، يلوب، لا يستطيع القعود عن الأمر، أو الصبر عليه.

ففي طلعة شمس التورية هنا ما يغني عن النظر إلى زحل الجناس ولقد أحسن من قال: انظر إلى صور الألفاظ واحدة ... وإنما بالمعاني تعشق الصور والجناس من صور الألفاظ، وممن وافق على ذلك علامة عصره الشهاب محمود، وقال: إنما يحسن الجناس إذا قل، وأنى في الكلام عفوًا، من غير كد ولا استكراه ولا بعد ولا ميل إلى جانب الركة1، ولا يكون كقول الأعشى. وقد غدوت إلى الحانوت يتبعني ... شاو مشل شلول شلشل شول2 ولا كقول مسلم بن الوليد: شلت وشلت ثم شل شليلها ... فإني شليل شليلها مشلولا3 ولا بأس به في مطالع القصائد، إن تعذر على الناظم أن يركبه تورية، فإنه نوع متوسط، بالنسبة إلى ما فوقه من أنواع البديع، كما قرره مشايخه، كالتورية والاستخدام والاستعارة والتشبيه، وما قارب ذلك من أنواع البديع. وحكي عن ابن جني: أن الأصمعي كان يدفع قول العامة إذا قالوا هذا يجانس هذا إذا كان من شكله، ويقول ليس بعربي خالص. وقال ابن رشيق صاحب العمدة: هو من أنواع الفراغ. وقلة الفائدة، ومما لا يشك في تكلله. وقد كثر منه هؤلاء الساقة المتعقبون في نظمهم ونثرهم حتى برد ورك "انتهى كلامه". ولم يحتج إليه، بكثرة استعماله، إلا من قصرت همته عن اختراع المعاني التي هي كالنجوم الزاهرة في أفق الألفاظ، وإذا خلت بيوت الألفاظ من سكان المعاني تنزلت منزلة الأطلال البالية، وما أحلى قول الفاضل هنا: إنما الدار قبل بالسكان ... ثم بعد السكان بالجيران فإذا ما الأرواح شردها الحتـ ... ـف فماذا يراد بالأبدان وكان الشيخ صلاح الدين الصفدي يستسمن ورمه ويظنه شحمًا، فيشبع أفكاره منه ويملأ بطون دفاتره، ويأتي فيه بتراكيب تخف عندها جلاميد الصخور، كقوله غفر الله له:

_ 1 الركة: الركاكة: وهي ضعف البناء اللغوي. 2 شاو: الذي يشوي اللحم. مشل شلول شلشل شول: كلها ألفاظ ذات معنى واحد وهو الخفيف السريع في عمله. 3 شلت: الأولى بمعنى نسجت. والثانية بمعنى: رميت ولم تستعمل، شل: أرسل. شليلها: الذي نسجها: شليل شليلها: بمعنى أنني مغرم بالذي نسجها، مشلولا: لا حركة له.

ونم في أمان بالحبيب ولا تخف ... لقائط واش في لقاء طواشي1 وقوله: وكم ساق في الظلماء والليل شاهد ... رواحل واط في رواح لواط2 وقوله: وإني إذا كان الفراق معاندي ... مطالع ناء في مطال عناء3 وقوله في الراح: وكم ألبست نفسي الفتى بعد نورها ... مدارع قار في مدار عقار4 وقوله: إذا جرح العشاق قالوا أقمت في ... مدار جراح في مدارج راح وقوله: وكم شمت لما قست مقدار ودكم ... بوارق ياس في بوار قياس وقوله: ولا تفتحن باب الهدايا وعدها ... مطار فراش لا مطارف راش5 وقوله: ثنت نحوه الأغصان قامة لينها ... طواعن شاط في طواع نشاط وقوله: ومر على غيري سقام وصحة ... ولم يبر قان مثل ذي برقان7 ورأيت بخط الشيخ بدر الدين البشتكي، تحت هذا البيت والذي قبله وهو الضعيف بالريقان، وأن من ذلك مبلغه من النظم لجدير أن يقعد مع صغار المتأدبين، "انتهى" ومنه قوله: فجار وأجرى حين جاورت واجترى ... فما فاتته مما يروم جناس8 وقوله: زاروا وزانوا وزادوا ... هذا الجناس المليح في ذلك من الركة ما لا يخفى على أهل الذوق السليم، ولولا الخشية من سأم الأسماع لأوردت له كثيرًا من هذا النمط، وما أظرف ما وقع له مع الشيخ جمال الدين بن نباتة، وذلك أنه لما وقف على كتابه المسمى "بجنان الجناس" وقد اشتمل على كثير من هذا النوع، قرأه: جنان الخناس، وجرى بينهما بسبب ذلك ما يطول شرحه، وهذا

_ 1 لقائط: ما يلتقطه الواشي من أقوال لينقلها ويشي بصاحبها - طواشي: الخصي. 2 رواحل: مفردها: راحلة وهي الدابة، واطٍ: السوقة من الناس. 3 ناء: بعيد - مطال: إخلاف الوعد والمماطلة في تفنيذه. 4 مدارع: مفردها مدرعة: ثوب من صوف، والقار: المقيم. 5 مطارف: مفردها مطرف وهو الثوب الفضفاض - راش: مولود وهو من رشأت الظبية إذا ولدت. 6 طواعن: جمع مفرده طاعن وهو ما يطعن به، شاط: مخطئ في رميه. 7 سقام: مرض، لم يبر قان: أي لم يضعف الدم - ذي برقان: المريض بالكبد 8 جار وأجرى: ظلم وجعل غيره يظلم - اجرتى: اجترأ - يروم: يبغي.

مما يؤيد قولي أنه غير مذهبي ومذهب من نسجت على منواله، ويعجبني هنا قول الشيخ زين الدين عمر بن الوردي رحمه الله تعالى: إذا أحببت نظم الشعر فاختر ... لنظمك كل سهل ذي امتناع ولا تقصد مجانسة ومكن ... قوافيه وكله إلى الطباع وكان الأسعد بن مماتى أيضًا، ممن لم يجعل الجناس له مذهبًا في نظمه، وما أحلى ما قال: طبع المجنس فيه نوع قيادة ... أو ما ترى تأليفه للأحرف ومن غريب ما يحكى: أن الشيخ صلاح الدين الصفدي، مع تهافته على الجناس والتزامه بما صنفه في جنسه وأنواعه، زاحم ابن مماتى في لفظ بيته ومعناه فقال: ألا إن من عانى القريض بطبعه ... يقود فأرسله لمن صد واحتشم ألم تره إن قال شعرًا مجانسًا ... يؤلف ما بين الحروف إذا نظم فانظر كيف أخذ المعنى وغالب الألفاظ، ولم يتمكن من نظم ذلك إلا في بيتين، أتى فيهما بكثرة الحشو مع قلة الأدب على أهله، فإن الأسعد أثبت القيادة لطبع المجنس، والشيخ صلاح الدين أثبت الحكم المذكور لمن يعاني نظم الشعر، وقد طال الشرح وتعين الكلام على الجناس، لأن الشروع فيه يلزم لأجل المعارضة لمن تقدمني من ناظمي البديعيات. أما هذا النوع فإنه ما سمي جناسًا إل لمجيء حروف ألفاظه من جنس واحد، ومادة واحدة، ولا يشترط فيه تماثل جميع الحروف، بل يكفي في التماثل ما تعرف به المجانسة. وأما اشتقاق الجنس فمنهم من يقول: التجنيس، هو تفعيل من الجنس، ومنهم من يقول: المجانسة، المفاعلة من الجنس أيضًا، إلا أن إحدى الكلمتين، إذا تشابهت بالأخرى، وقعت1 بينهما مفاعلة الجنسية. والجناس مصدر جانس، ومنهم من يقول: التجانس، التفاعل من الجنس لأنه مصدر تجانس الشيئان، إذا دخلا في جنس واحد، ولما انقسم أقساما كثيرة وتنوع أنواعًا عديدة، تنزل منزلة الجنس الذي يصدق على كل واحد من أنواعه، فهو حينئذ جنس، وأنواع: التام والمحرف والمصحف والملفق، وهلم جرا. كما أن البديع جنس وأنواعه: الجناس واللف والنشر والاستعارة والتورية والاستخدام وغير ذلك من أنواع البديع، وأما حدود أنواع الجناس، فقد اختلفت

_ 1 في الأصل وقع وما أثبتناه أصح "الشارح".

فيها عبارات البديعيين، ولكن نأتي بحد كل واحد من الأنواع في موضعه ونذكر ما وقع الاتفاق عليه. وقد صدرت بديعيتي هذه بالجناس المركب والمطلق، حسب ما رتبه الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته، ولكن فاته شنب التسمية وإبرازها في شعار التورية، من جنس التغزل، فحد المركب أن يكون أحد الركنين كلمة مفردة، والأخرى مركبة من كلمتين، وهو ضربين: فالأول ما تشابه لفظًا وخطًّا، كقول الشاعر: عضنا الدهر بنابه ... ليت ما حل بنا به ومثله قول القائل: ناظراه فيما جنى ناظراه ... أو دعاني أمت بما أودعاني1 وحفظت من شيخي العلامة الشيخ شمس الدين الهيتي الحسني النحوي، وأنا في مبادي العمر والاشتغال من الجناس المركب المتشابه قول القائل من دوبيت2: في مصر من القضاة قاض وله ... في أكل مواريث اليتامى وله3 إن رمت عدالة فقل مجتهدًا ... من عد له دراهمًا عدله وكان يقول لا أعرف لهما ناظمًا، وما ألطف قول القائل: يا سيدا حاز رقى ... بما حباني وأولى أحسنت برًّا فقل لي ... أحسنت في الشكر أولا وقال العلامة شهاب الدين محمود: أنشدني الشيخ شمس الدين محمد بن عبد الوهاب لنفسه، من المتشابه لفظًا وخطًّا: حار في سقمي من بعدهم ... كل من في الحي داوى أورقا4 بعدهم لا طل وادي المنحنى ... وكذا بأن الحمى لا أورقا5

_ 1 ناظراه: الأولى بمعنى، ناقشاه والثانية بمعنى عيناه - دعاني: أتركاني. 2 دوبيت: دو فارسية بمعنى اثنين فيكون: بيتين. 3 وله: عشق شديد. 4 رقا: استعمل الرقى في التداوي. 5 ظل: ندى - البان: نوع من الشجر يضرب المثل بأغصانه في الليونة والملاسة.

وأورد الشيخ صلاح الدين الصفدي، لنفسه، في كتابه المسمى "بجناس الجناس" من هذا النوع، قوله: يا من إذا ما أتاه ... أهل المودة أولم1 أنا محبك حقًّا ... إن كنت في القوم أو لم2 وهذا النوع لم يذكره الشيخ صفي الدين في بديعيته. انتهى الكلام على المتشابه من المركب لفظًا وخطًّا والثاني ما هو متشابه لفظًا لا خطًّا، ويسمى المفروق: وهو الذي نظمه صفي الدين في بديعيته، كقول الشاعر: لا تعرضن على الرواة قصيدة ... ما لم تكن بالغت في تهذيبها وإذا عرضت الشعر غير مهذب ... عدوه منك وساوسًا تهذي بها ومثله قول القائل: يا من تدل بمقلة ... وأنامل من عندم3 كفى جعلت لك الفدا ... أسياف لحظك عن دمي ومثله قول ابن أسد الفارقي: غدونا بآمال ورحنا بخيبة ... أماتت لنا أفهامنا والقرائحا فلا تلق منا غاديًا نحو حاجة ... لتسأله عن حاجة والق رائحًا ويحسن هنا قول أبي الفتح البستي فيه: وإن أقر على رق أنامله ... أقر بالرق كتاب الأنام له4 وما ألطف قول العلامة شهاب الدين محمود من هذا النوع: ولم أر مثل نشر الروض لما ... تلاقينا ببنت العامري جرى دمعي وأومض برق فيها ... فقال الروض في ذا العام ريي5

_ 1 أولم: أقام وليمة 2 أولم: أي أو لم تكن. 3 عندم: نبات يصبغ به يقال له: دم الأخوين. 4 الرق: العبودية. 5 فيها: فمها - ريي: ارتوائي.

ومن لطائف الشيخ جمال الدين بن نباتة: قمرًا نراه أم مليحًا أمردا ... ولحاظه بين الجوانح أم ردى1 ومثله قول شمس الدين محمد بن العفيف: أسرع وسر طالب المعالي ... بكل واد وكل مهمه2 وإن لحا عاذل جهول ... فقل له يا عذول مه مه ومثله قوله: إن الذي منزله ... من سحب دمي أم رعى6 لم أدر من بعدي هل ... ضيع عهدي أم رعى ومثله قولي للقاضي بهاء الدين السبكي، رحمه الله تعالى: كن كيف شئت عن الهوى لا أنتهي ... حتى تعود لِيَ الحياة وأنت هي وأنشدني قاضي القضاة، تقي الدين بن الحسني الحنفي، بحماة في مبادئ العمر، وقد ذكرت بين يديه الجناس المركب قلت للعهاذ الملح على الدمع ... وإجرائه على الخد نيلا سل سبيلا إلى النجاة ودع دمع ... عيوني تجري لهم سلسبيلا ومن أنواع الجناس المركب نوع يسمى المرفوّ: وهو أن يكون أحد الركنين جزءًا مستقلًا والآخر مجزأ من كلمة أخرى، كقول الحريري: والمكر مهما استطعت لا تأته ... لتقتني السؤدد والمكرمه ولا تله عن تذكار ذنبك وابكه ... بدمع يحاكي المزن حال مصابه ومثل لعينيك الحمام ووقعه ... وروعة ملقه ومطعم صابه4 وهذا النوع لا يخلو من تعسف وعقاده5 في التركيب انتهى الكلام على الجناس المركب وأقسامه، غير أن هنا بحثًا لطيفًا وهو أنه قد

_ 1 الردى: الموت. 52 المهمه: المفازة. 3 أمر رعى: أخصب 4 الجمام: الموت - الصبب: المر المذاق. 5 عقادة: تعقيد.

تقرر: إن ركني الجناس يتفقان في اللفظ ويختلفان في المعنى؛ لأنه نوع لفظي لا معنوي، وهو نوع متوسط بالنسبة إلى ما فوقه من أنواع البديع، والتورية من أعز أنواعه وأعلاها رتبة، فإذا جعلت الجناس تورية، انحصر المعينان في ركن واحد وخلصت من عقادة الجناس، وحركة الأذواق وأبهجت خاطر السامع، بما أتحفته من بديع تركيبها وتأهيله بغريبها، وأنا أذكر المثالين هنا ليتضح في الأذهان الصحيحة، أن النهار لم يحتج إلى إقامة دليل. قال صاحب الجناس المركب: أعن العقيق سألت برقًا أومضا ... أأقام حاد بالركائب أو مضى1 قال صاحب التورية: وإذا تبسم ضاحكًا لم ألتفت ... إن عاد برقا في الدياجي أو مضا وهنا يحسن أن يتمثل بقول القائل: ومن يقل للمسك أين الشذا ... كذبه في الحال من شما ومثله قول الشاعر: نديمي لا تسقني ... سوى الصرف فهو الهني ودع كأسها أطلسا ... ولا تسقني مع دني2 ومن التورية المركبة ما أنشدني، من لفظه، علامة عصرنا القاضي بدر الدين بن الدماميني، بما كتب به إلى مولانا الحافظ الشيخ شهاب الدين ملك المتأدبين، وعمدة المحققين، أبي العباس أحمد بن حجر الشافعي: حمى ابن علي حوزة المجد والعلا ... ومن رام المعالي وحازها وكم مشكلات في البيان بفهمه ... تبينها من غير عجب ومازها3 فأجابه شيخنا المشار إليه: بروحي بدرًا في الندا ما أطاع من ... نهاه وقد حاز المعالي فزانها يسائل أن ينهي عن الجود نفسه ... وها هو قد بر العفاة ومانها4

_ 1 العقيق: واد بظاهر المدينة المنورة. 2 أطلسا: في لونه طُلْسَة وهي الغُبْرة إلى السواد. أو شفافًا. 3 ومازها: ميزها، ولفظها يوهم أنه: ما افتخر. 4 التورية في قوله: ومانها: فاقها، ولفظها يوهم أنه ما طلب ترك الأمر.

وما أحلى ما قال متغزلا: سألت من لحظه وحاجبه ... كالسهم والقوس موعدا حسنا ففوق السهم من لواحظه ... وانقوس الحاجبان وقت رنا1 ومن نثر الشيخ بدر الدين المشار إليه في التورية المركبة، يشير إلى تقريظ2 كتبه لبعض أهل الأدب، على مصنف سافل، لم تمكن تسميته، والتزم في التقريظ نوع الإيهام من الأول إلى الآخر، وكتب الشيخ بدر الدين على ذلك المصنف قوله: ولقد كنت أرتجي بابًا أدخل منه إلى التقريظ، ففتحي لي المقر التقوي بابا مرتجًّا، ونهج الطريق إلى المدح، فاقتفيت آثاره واهتديت حين رأيت منهجًا. ومثله قوله في التقريظ الذي كتبه على بديعيتي هذه: كتبت وأسياف الخطوب ليس لها إلا الجوائح أغماد، والزمن قد كادني بسهام أوتاره المصيبة ورماني بعد أن كاد ومثله ما أنشدني من لفظه لنفسه الكريمة أحد أعيان العصر، القاضي مجد الدين بن مكانس، حيث قال: أقول لحيي قم ومس يا معذبي ... كميسة خود حرك السكر راسها3 ولا تسه عن شيء إذا ما حكيتها ... فقام كغصن البان لينا وما سها4 وأحجية الشيخ شهاب الدين بن حجر، في هذا الباب، من طرف الأدب، فإنها تورية خفية مركبة في الأصل: يا فاضلات هو في الأحا ... جي ليس يخلو من ولع5 ما مثل قولك للذي ... يشكو الحبيب أسكت رجع فصه، مرادف أسكت، وباء مرادف رجع، فحصلت التورية في صهباء، وصه باء، ومن النظم في هذا النوع الغريب قول المعمار: وخادم يعلو على عشاقه ... برتبة من الجمال نالها واسمه وهو العجيب محسن ... وكم دموع في الهوى أسا لها

_ 1 التورية في قوله: وقت رنا: عندما نظر، ومعناها يوهم الاقتران والالتصاق. 2 تقريظ: مديح. 3 مِس: أمر من ماس: تمايل خود: حسناء. 4 حكيتها: شابهتها. 5 الأحاجي: الألغاز.

ومثله قول الشيخ شمس الدين المزين في غلام مليح وله لألاء مليح: ومليح لالاه يحكيه حسنًا ... فهو كالبدر في الدجا يتلالا قلت قصدي من الأنام مليح ... هكذا هكذا وإلا فلا لا ومن نظمي الغريب في هذا النوع: تصديتم لقتل ضعيف جسم ... لغير الوجد فيكم ما تصدى وعد ضلوعه بالسقم لما ... تعديتم عليه وما تعدى وقلت فيه: بعد عند وبعد سلمى تعط ... ـشت إلى رشف كل العس المى1 وفؤادي يقول لا تطلب الري ... من الريق بعد هند وسلمى وقلت من قصيدة مطولة: حين قابلت خده بدموعي ... أثرت خلت ثوب خز منمم2 وانظر اليوم خده من دموعي ... واحك ما شئت عن عقيق وعن دم3 والبيت الأول من المعاني المخترعة التي لم يسبق إليها. انتهى ما أوردته من الكلام على الجناس المركب، واستجلاء عرائس التورية، وأما الجناس المطلق فإن للناس، في الفرق بينه وبين المشتق معارك، وسماه السكاكي وغيره المتشابه والمتقارب، لشدة مشابهته وقربه من المشتق، وكل منهما يختلف في الحروف والحركات ولكن الفرق بينهما دقيق، قل من أتى بصحته ظاهرًا، فإن المشتق غلط فيه جماعة من المؤلفين وعدوه تجنيسًا، وليس الأمر كذلك، فإن معنى المشتق يرجع إلى أصل واحد. والمراد من الجناس اختلاف المعنى في ركنيه، والمطلق كل ركن منه يباين الآخر في المعنى، وأنا أذكر لكل واحد منهما شاهدًا يزول به الالتباس، فالمشتق كقوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ} 14 وقيل: إن ما مصدرية أي: لا أعبد عبادتكم ولا تعبدون عبادتي، فعلى كل تقدير، الجميع راجع إلى العبادة، والمعنى في الاشتقاق راجع إلى أصل واحد، ومنه قوله

_ 1 العس: القدح الكبير - ألمى: بارد. 2 منمم: مزخرف، مزركش. 3 عقيق: نوع من الأحجار الكريمة لونه أحمر يميل إلى السواد. 4 الكافرون 109/ 1-4.

تعالى: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} 1 وقوله تعالى: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} 2 وقوله تعالى: {أَزِفَتِ الآزِفَةُ} 3 ومن النظم قول عمرو بن كلثوم في معلقته: ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا وما ألطف قول كشاجم، في خادم أسود مشهور بالظلم: يا مشبهًا في فعله لونه ... لم تحظ ما أوجبت القسمه فعلك من لونك مستخرج ... والظلم مشتق من الظلمه فإن النبي -صلى الله عليه وسلم قال: "الظلم ظلمات يوم القيامة" ومن السحر الحلال قول بعض المتأخرين في هذا الباب. عاتبت طيف الذي أهوى وقلت له ... كيف اهتديت وجنح الليل مسدول4 فقال آنست نارًا من جوانحكم ... يضيء منها لدى السارين قنديل فقلت نار الجوى معنى وليس لها ... نور يضيء وهذا القول مقبول5 فقال نسبتنا في الحال واحدة ... أنا الخيال ونار الشوق تخييل وقد نبه على الاشتقاق في قوله نسبتنا في الحال واحدة. ورأيت الشيخ شمس الدين بن الصائغ، في شرحه على البردة، لما انتهى إلى قول المصنف: ظلمت سنة من أحيا الظلام إلى ... أن اشتكت قدماه الضر من ورم قال: ظلمت وظلام جناس اشتقاق، وهو كقوله تعالى: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ} 6 قلت: أما ظلمت وظلام فاشتقاق بلا خلاف، وأسلمت مع سليمان جناس مطلق لأنه لم يرجع في المعنى إلى أصل واحد، وهو أعظم شواهد البديعيين على الجناس المطلق. انتهى الكلام على المشتق وأما الجناس المطلق، فلشدة تشابهه بالمشتق، يوهم

_ 1 الفلق: 113/ 5. 2 الواقعة: 56/ 1. 3 النجم: 53/ 57. 4 مسدول: مرخى. 5 الجوى: شدة الشوق. 6 النمل: 27/ 44.

أحد ركنيه أن أصلهما واحد وليس كذلك، كقوله تعالى: {وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} 1 وكقوله تعالى: {لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ} 2 ومنه ما كتب به إلى المأمون في حق عامل له وهو: فلان ما ترك فضة إلا فضها، ولا ذهبًا إلا أذهبه، ولا مالا إلا مال عليه، ولا فرسًا إلا افترسه، ولا دارا إلا أدارها ملكا، ولا غلة إلا غلها، ولا ضيعة إلا ضيعها، ولا عقارًا إلا عقره، ولا حالا إلا أحاله، ولا جليلًا إلا أجلاه، ولا دقيقًا إلا دقه، فهذه الأركان، هنا شواهد على الجنس المطلق، ليس فيها ركنان يرجعان إلى أصل واحد كالمشتق، بل جميع ما ذكرنا أسماء أجناس، وهي محمولة على دم الاشتقاق، ومثل ذلك من النظم قول الشاعر: عرب تراهم أعجمين من القرى ... متنزلين على الضيوف النزل3 فأقمت بين الأزد غير مزود ... ورحلت عن خولان غير مخول4 ومثله قول الآخر: بجانب الكرخ من بغداد عنَّ لنا ... ظبيٌ ينفره عن وصلنا نفر5 ضفيرتاه على قتلي تظافرتا ... يا من رأى شاعرًا أودى به الشعر6 وما أحلى قول القائل: سلم على الربع من سلمى بذي سلم فالثلاثة عنان7 جنسها، مطلق في المطلق، وقال الآخر وأجاد: إذا أعطشتك أكف اللئام ... كفتك القناعة شبعا وريا فكن رجلا رجله في الثرى ... وهامة همته في الثريا وما أحلى قول أبي فراس في هذا النوع: فما السلاف ازدهتني بل سوالفه ... ولا الشمول دهتني بل شمائله8

_ 1 يونس: 10/ 107. 2 المائدة: 5/ 31 3 القِرى: بكسر القاف: إطعام الضيف. 4 الأزد وخولان: قبيلتان من قبائل العرب. 5 عن: ظهر من بعيد. 6 ضفيرتاه: جديلتا شعره - تضافرتا: تعاونتا - أودى به: ذهب به وأماته. 7 عنان جنسها: أرفع أنواعها. 8 السلاف: الخمرة - ازدهتني: جعلتني آتيه - سوالفه: جمع مفرده سالفة وهي الأحدوثة - الشمول: الريح الشمالية، والجارية التفت بثيابها حتى بانت تقاسيم جمسها - شمائل: خصال ومزايا.

ومثله قوله الصاحب بهاء الدين زهير: با من لعبت به شمول ... ما ألطف هذه الشمائل وللبحتري: وإذا ما رياح جودك هبت ... صار قول العذول فيها هباء1 ويحسن هنا قول الشاب الظريف محمد بن العفيف: أراك فيمتلي قلبي سرورًا ... وأخشى أن تشط بك الديار2 فجر واهجر وصد ولا تصلني ... رضيت بأن تجور وأنت جار3 وما أحسن ما قال الشيخ شرف الدين عبد العزيز الأنصاري، شيخ شيوخ حماة، رحمه الله بمنه وكرمه: تولى شبابي فولى الغرام ... ولازم شيبي لزوم الغريم ولو لم يصدني بازيه ... لما صارمتني مهاة الصريم4 انتهى الكلام على الملطق وعلى الفرق بينه وبين المشتق منه نظمًا ونثرًا، وقد رسم لي أن أثبت في بديعيتي هذه أبيات من تقدّمني في النظم كالشيخ صفي الدين الحلي والشيخ عز الدين الموصلي، وما ورد في بديعية العميان من القدر الذي استعملوه، ليشاهد المتأمل في هذا الميدان مجرى السوابق، فإن الشيخ صفي الدين جمع بين الجناس المركب والمطلق، في بيت واحد وهو المطلع فقال: إن جئت سلعًا فسل عن جيرة العلم ... وأقر السلام على عرب بذي سلم والعميان لم يأتوا في البيت إلا بنوع واحد، فقالوا في المركب: دع عنك سلمى وسل ما بالعقيق جرى ... وأم سلعًا وسل عن أهله القدم5

_ 1 هباء: لا أثر له ولا معنى. 2 تشط: تبعد. 3 فجر: من الجور وهو الظلم - وصدّ: أي قابلني بالصدود وعدم النظر إلي - لا تصلني: لا تمنحني الوصال. 4 صارمتني: قاطعتني، الصريم، اسم موضع. 5 أمّ: أقصد - القدم: القدماء.

وقالوا في الجناس المطلق: جار الزمان فكفوا جوره وكفوا ... وهل أضام لدى عرب على أضم1 فالمطلق في أضام وأضم، وأما جار وجور فمشتق، ولكن لم يخف ما في البيتين من الثقل، مع خفة الالتزام، وبيت الشيخ عز الدين الموصلي: فحي سلمى وسل ما ركبت بشذا ... قد أطلقته أمام الحي عن أَمَم2 فالشيخ أتى بالنوعين في بيت واحد، وورى بالاسمين من جنس الغزل، ومع ذلك تلطف وتضاءل عليهم واحتشم، وبيتي، تقدّم ذكره، ولكن دعت الضرورة إلى ذكره هنا حسب المرسوم وهو: بالله سر بي فسربي طلقوا وطني ... وركبوا في ضلوعي مطلق السقم وفي تسمية النوع، هنا ما يغني عن التنبيه عليهما. وقد تقدم الشرح على كل واحد منهما، والشيخ صفي الدين والعميان لم يثقل التقييد بتسمية النوع لهم كاهلًا مع أن يكون مورى به من جنس الغزل، وشتان بين عالم الإطلاق والتقييد بضيق هذا الخناق، لأن الرقيق لم يقم له سوق، بل يصدق إذا ما ادعى عتقه، والله المسئول أن يقيم لنا سوق القبول، في متاجر الرقة، فإن الشيخ صفي الدين قال في خطبته، مع إطلاق قياده، فانظر أيها العالم الأديب إلى غزارة الجمع، وهي ضمن الرياقة3 في السمع، ثم قال بعد ذلك: ودع كل صوت غير صوتي فإنني ... أنا الصائح المحكي والآخر الصدى

_ 1 كفوا: من وكف الدمْعُ إذا غزر - أضام: أضر - أضم: اسم جبل. 2 عن أَمَمِ: عن كثب، عن قرب. 3 الرياقة: ما يروق السمع.

ذكر الجناس الملفق

ذكر الجناس الملفق: ورمت تلفيق صبري كي أرى قدمي ... يسعى معي فسعى لكن أراق دمي حد الملفق أن يكون كل من الركنين مركبًا من كلمتين، وهذا هو الفرق بينه وبين المركب وقل من أفراده عنه، وغالب المؤلفين ما فرقوا بينهما، بل عدوا كل واحد منهما مركبًا إلا الحاتمي وابن رشيق وأمثالهما، ولعمري لو سموا الملفق مركبًا والمركب ملفقًا،

لكان أقرب إلى المطابقة في التسمية، لأن الملفق مركب في الركنين، والمركب ركن واحد كلمة مفردة، والثاني مركب من كلمتين، وهذا هو التلفيق وما ألم بالملفق أحد من أصحاب البديعيات غير الشيخ صفي الدين الحلي، وما ذاك إلا أنه قال، في خطبة بديعيته، أنها نتيجة سبعين كتابًا في هذا الفن، وهذا دليل على أنه لما عارضه الشيخ عز الدين، والتزم تسمية الأنواع التي ذكرها الشيخ صفي الدين، لم يجد بدًّا من نظمه لأجل المعارضة، ولكن نحت فيه بيتًا من الجبال، وسيأتي. وأما العميان فإنهم عدوه في بديعيتهم من المركب، فاختصرته هنا، وكذلك بقية أبياتهم في أنواع الجناس تعين اختصارها، فإنهم لم يأتوا في البيت إلا بالنوع الواحد. ومن الملفق في النظم قول الشاعر: وكم لجباه الراغبين إليه من ... مجال سجود في مجالس جود وما ألطف ما قال القاضي أبو علي عبد الباقي بن أبي حصين في هذا النوع، وقد ولي القضاء بالمعرة وهو ابن خمس وعشرين سنة، واقام في الحكم خمس سنين وهو: وليت الحكم خمسًا وهي خمس ... لعمري والصبا في العنفوان فلم تضع الأعادي قدر شاني ... ولا قالوا فلان قد رشاني وأما أحلى قول الشيخ شرف الدين بن عنين في هذا الباب: خبروها بأنه ما تصدى ... لسلو عنها ولو مات صدا1 ويعجبني قوله بعد المطلع: وسلوها في زروة من خيال ... إن تكن لم تجد من الهجر بدا2 وبيت الحلي في الملفق: فقد ضمنت وجود الدمع من عدم ... لهم ولم أستطع من ذاك منع دمي ولم يمكن الشيخ صفي الدين أن يحصر مع الملفق غيره من أنواع الجناس في بيت واحد، لما تقدم من صعوبة مسلكه، وهو عزيز الوقوع، ولكن له رونق وموقع في الذوق لطلاوة3 تركيبه، وغرابة أسلوبه، وبيت الشيخ صفي الدين في غاية الرقة والانسجام،

_ 1 سلو: نسيان. 2 زروة: أي زراة. 3 الطلاوة: الحسن والرونق.

غير أن التحريف حكم عليه فصار مشوشًا، والمشوش كل جنس تجاذبه طرفان من الصنعة، فلا يمكن إطلاق أحدهما على الآخر، وبيت صفي الدين تجاذبه المحرف والملفق انتهى. وبيت الشيخ عز الدين: ملفق ظاهر سرى وشان دمي ... لما جرى من عيوني إذ وشى ندمي1 هذا البيت فيه الجناس الملفق على الصنعة، وتسميته على الشروط المذكورة، ولكن عجزت لعقاده تركيبه، عن الطيران بأجنحة الفهم لا أحوم له على معنى، ونظرت بعد ذلك في شرحه فوجدته قد قال: إن لفظه ملفق صفة للجار والمجرور في قوله فحيي سلمى وسل ما ركبت بشذا، يعني إن الشذا الذي أطلقته سلمى أمام الحي كان ملفقًا، وبيتي المسئول له من الله السلامة: ورمت تلفيق صبري كي أرى قدمي ... يسعى معي فسعى لكن أراق دمي والكلام في رقة قولي: ورمت تلفيق صبري إلخ البيت، إنما وقع من أصحاب الغراميات، لا من أصحاب البديعيات، وقد تقدم قولي: إن الفرقة الناجية من التعسف والتكلف، فيب النظم، لم ترض بالجناس إذا أمكنت التورية، وقال المقر المرحومي الفخري، في التورية التي سماها جناسًا ملفقًا: إن الهواءين يا معشوق قد عبثا ... بالروح والجسم في سري وفي علني فالرروح تفديك بالممدود قد تلفت ... والجسم حوشيت بالمقصور فيك فني2 وأنشدني، من لفظه لنفسه، علامة عصره الشيخ بدر الدين الدماميني: تدري لماذا أتاك قلبي ... في عسكر الوحد وهو ذائب أذنب ثم اختشى فوافى ... من ذلك الذنب فيك تائب وأنشدني، من لظفه لنفسه الكريمة، أحد أعيان العصر ابن مكانس: كمال أوصافي يا منيتي ... في الحب أن أصبحت مثل الخلال وملت من سكر الهوى نشوة ... فارحم معنىً مغرمًا فيك مال3

_ 1 سرى: سار متخفيًّا - شان: عاب - وشى: دل. 2 الممدود: الجسم - تلفت: خربت - المقصور: أو المقصورة وهي مكان الإقامة أو الصلاة والتورية في قوله: فيك فني التي يوهم لفظها بقوله في كفني. 3 معنى: أسير الحب. أو الذي يعاني من الحب.

ومن نظمي في هذا النوع الغريب: رأت حياة شبابي قد قضت أجلا ... والسقم قد زاد لما قل مصطبري قالت سرقت نحول الخصر قلت لها ... ما يحمل الشيخ هذا وهو في كبري1 انتهى والله عز وجل أعلم.

_ 1 نحول الخصر: ضموره ودقته.

الجناس المذيل واللاحق

الجناس المذيل واللاحق: وذيل الهمم همل الدمع لي فجرى ... كلاحق الغيث حيث الأرض في ضرم1 المذيل اختلف جماعة المؤلفين في اسمه، ولم يتقرر له أحسن من هذه التسمية، فإن فيها مطابقة للمسمى، وما ذاك إلا أن المذيل: هو ما زاد أحد ركنيه على الآخر حرفًا في آخره فصار له كالذيل، وهو الفرق بينه وبين المطرف، ويأتي الكلام على المطرف في موضعه، فالمذيل كقول كعب بن زهير: ولقد علمت وأنت خير عليمة ... أن لا يقرّ بني الهوى لهوان2 وما ألطف من قال: وسألتها بإشارة عن حالها ... وعلي فيها للوشاة عيون فتنفست صعدًا وقالت ما الهوى ... إلا الهوان فزال عنه النون ومنه قول أبي تمام: يمدون من أيد عواصٍ عواصم ... تصول بأسيف قواضٍ قواضب3 وقال آخر: عذيري من دهر موار موارب ... له حسنات كلهن ذنوب4

_ 1 همل الدمع: دائم الدمع - ضرم: أي اضطرام اشتعال ولهيب. 2 الهوان: الذل. 3 عواص: مخفية، عواصم: بيض، وهي صفة الأيدي، تصول: تحارب - قواض: تقوض العدو - قواضب: قاطعة. والمعنى: تمد أيد بيضاء من التستر تحارب بأسياف تقوض الأعداء وتقطعهم. 4 عذيري: أي من عذيري، والعذير هو المخلص - موارٍ: مدبر - موارب: يأتي بعكس ما يشتهي الإنسان.

ومن النثر فلان حام حامل لأعباء الأمور، كاف كافل لمصالح الجمهور. ومثله فلان سال عن إخوانه سالم من زمانه، ومن غراميات البها زهير في الجناس المذيل قوله من قصيدة: أشكو وأشكر فعله ... فاعجب لشاك منه شاكر طرفي وطرف النجم فيك ... كلاهما ساه وساهر ولم يخرج عما نحن فيه قوله منها: يا ليل بدرك حاضر ... يا ليت بدري كان حاضر حتى يبان لناظري ... من منهما زاه وزاهر وما أحلى ما ختم القصيدة بقوله: بدري أرق محاسنًا ... والفرق مثل الصبح ظاهر وقد تأتي الزيادة في آخر المذيل بحرفين، كقول حسان بن ثابت: وكنا متى يغزو النبي قبيلة ... نصل جانبيه بالقنا والقنابا1 ومنه قول النابغة: لها نار جن بعد أنس تحولوا ... وزال بهم صرف النوى والنوائب2 ومنه في رثاء قوله: فيا لك من حزم وعزم طواهما ... جديد الردى تحت الصفا والصفائح3 وأرق ما سمعته في هذا الباب قول القائل: إن البكاء هو الشفا ... ء من الجوى بين الجوانح انتهى الكلام على الجناس المذيل وأما اللاحق، فقل من فرق بينه وبين المضارع، والمراد بالمضارع هنا المشابه، والفرق بينهما دقيق، فإن اللاحق هنا ما أبدل من أحد ركنيه حرف من غير مخرجه، ومتى كان الحرف المبدل من مخرج المبدل منه

_ 1 القناب: المخالب. 2 صرف النوى: تصريف النوى وتشتيته والنوى البعد - النوائب المصائب مفدرها نائبة وهي ما ينوب الإنسان. 3 الردى: الموت - الصفا: الحجارة العريضة، والصفائح: الحجارة العريضة الملساء.

سمي مضارعًا، وإن كان قريبًا منه كان مضارعًا أيضًا، وأنا أذكر شاهد كل منهما، فإن الفرق بينهما يدق عن كثير من الأفهام، ولم يساعده على ظلمة شكه غير ضياء الحسن. والمضارع هو المتشابه في المخرج، كقوله تعالى، وهو إلى الغاية التي لا تدرك: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} 1 ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة". ومثله قول بعضهم: البرايا أهداف البلايا. ومن النظم قول الشريف الرضي رحمه الله: لا يذكر الرمل إلا حسن مغترب ... له إلى الرمل أوطار وأوطان2 فاللام والراء والنون من مخرج واحد، عند قطرب والجرمي وابن دريد والفراء. قال بعض أهل الأدب في كتاب: راش سهامه بالعقوق، ولوى ماله عن الحقوق. فالعين والحاء من مخرج واحد. ويعجبني قول الشيخ جمال الدين بن نباتة في هذا الباب: رق النسيم كرقني من بعدكم ... فكأننا في حيكم نتغاير ووعدت بالسلوان واش عابكم ... فكأننا في كذبنا نتخاير3 فالغين والخاء من مخرج واحد. انتهى الكلام على المضارع ومقاربه في مخارج حروفه على الأبدال، واللاحق قد تقدم أنه ما أبدل من أحد ركنيه حرف منغير مخرجه، كقوله تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ، وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} 4 وكتب بعضهم في جواب رسالة: وصل كتابك فتناولته باليمين، ووضعته مكان العقد الثمين. ومن النظم، قول البحتري، وأجاد إلى الغاية: عجب الناس لاعتزالي وفي الأطراف ... تلفى منازل الأشراف وقعودي عن التقلب والأر ... ض لمثلي رحيبة الأكناف5 ليس عن ثروة بلغت مداها ... غير أن امرؤ كفاني كفافي6

_ 1 الأنعام: 26/ 6 2 أوطار: مفردها وطر وهي الحاجة. 3 تتخاير: يخير بعضنا الآخر. 4 الضحى: 93/ 9، 10. 5 أكناف: نواحي، مفردها كنف. 6 كفافي: ما يقيم أودي، وأحافظ به على حياتي.

فكفاني وكفافي هو اللاحق الذي لا يلحق. وهنا نكتة لطيفة تؤيد قول البحتري في بيته الأول وهو: عجب الناس لاعتزالي وفي الأطـ ... راف تلفى منازل الأشراف قيل لبعضهم: في أي موضع في القرآن الأطراف منازل الأشراف؟ فقال: في قوله تعالى: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} 1 فهذا أشرفهم، وكان صلى الله عليه وسلم ينزل من أقصى المدينة والأطراف والأشراف مما نحن فيه. وما أحرى قول أبي هلال العسكري في اللاحق: أراعي تحت حاشية الدياجي ... شقائق وجنة سقيت مداما2 وإذن ذكرت لواحظ مقلتيه ... حسبت قلوبنا مطرت سهاما وإن مالت بعطفيه شمول ... سقانا من شمائله سقاما3 انتهى الكلام على الجناس اللاحق، والفرق بينه وبين المضارع، ومن الناس من يسمي كل ما اختلف بحرف، تجنيس التصريف، سواء كان من المخرج أو من غيره، ولكن رأيت استجلاء الفرق أنور، ولا يشترط أن يكون الإبدال في الأول ولا في الوسط ولا في الآخر، فإن جل القصد الإبدال كيفما اتفق، وبيت الشيخ صفي الدين يشتمل على المذيل واللاحق وهو: أبيت والدمع هام هامل سرب ... الجسم في أضم لحم على وضم4 وبيت الشيخ عز الدين الموصلي: يذيل الدمع جار جارح بأذى ... كلاحق ما حق الآثار في الأكم5 قال شيخنا الشيخ شمس الدين الهيتي، وقد تقدمت ترجمته لما أنشدته هذا البيت والذي قبله، بعد حفظي لهما من المصنف بحماة: لو عزا أحد هذين البيتين إلى الجان ما شككت في قوله. وبيت بديعيتي:

_ 1 يس: 36/ 20. 2 مدامًا: خمرًا أديمت في دنانها وعتقت وهي أجود الخمرة. 3 عطفيه: جانبيه - شمول: رياح شمالية. 4 هام: منصب انصبابًا - هامل: منسكب بغزارة وديمومة. سرب: يتبع بعضه بعضا - الأضم: الأذى - وضم: كل ما يوضع عليه اللحم من خشب أو حصير أو مائدة الطعام. 5 الأكم: جمع مفرده أكمه وهي التلة الملتفة الأشجار.

وذيل الهم همل الدمع لي فجرى ... كلاحق الغيث حيث الأرض في ضرم فالمذيل في هم وهمل واللاحق في غيث وحيث.

الجناس التام والمطرف

الجناس التام والمطرف: يا سعد ما تم لي سعد يطرفني ... بقربهم وقليل الحظ لم يلم1 أما الجناس التام: فهو ما تماثل ركناه واتفقا لفظًا واختلفا معنى، من غير تفاوت في تصحيح تركيبهما، واختلاف حركتهما، سواء كانا من اسمين، أو من فعلين، أو من اسم وفعل، فإنهم قالوا: إذا انتظم ركناه، من نوع واحد، كاسمين أو فعلين، سمي مماثلًا، وإن انتظما من نوعين، كاسم وفعل، سمي مستوفى، وجل القصد تماثل الركنين في اللفظ والخط والحركة واختلافهما في المعنى، سواء كانا من اسمين أو من غير ذلك، فإن المراد أن يكون الجناس تاما، على الصفة المذكورة، من حيث هو أكمل الأنواع إبداعا وأسماها رتبة وأولها في الترتيب، فمنه قول الإمام أمير المؤمنين، علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه: صولة الباطل ساعة، وصولة الحق إلى الساعة. وقيل: ما وقع في القرآن العظيم غير هذين الركنين، وهو قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} 2 ولكن استخرج ابن حجر من القرآن جناسا آخر تاما عظيما، وهو قوله تعالى: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ، يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ} 3 ومن الشعر قول بعضهم وأجاد: وسميته يحيى ليحيى فلم يكن ... إلى رد أمر الله فيه سبيل ومن ملح هذا النوع قول ابن الرومي: للسود في السود آثار تركن بها ... وقعا من البيض يثني أعين البيض4 ومنه قول أبي الفتح البستي: سما وحمى بني سام وحام ... فليس كمثله سام وحام

_ 1 يا سعد: ترخيم يا سعدى، وسعد الثانية: الخط الجيد - يطرفني: يمتعني. 2 الروم: 33/ 55. 3 النور: 24/ 43، 44. 4 السود الأولى: الفرسان السود - والسود الثانية: لمعنى الليالي السود - الوقع: الضرب - البيض: ما يلبسه الفارس اتقاء للسيوف - يثني: يرد - البيض: النساء البيض.

أما أبو الفتح، فإنه ثابر على استعمال الجناس كثيرا، ولكن ما أعلم أنه نظم أحسن من هذا البيت، وقد تجمل به نوع الجناس وكاد أن يكون تورية، وما أحسن قول المعري فيه وأحشمه: لم نلق غيرك إنسانًا يلاذ به ... فلا برحت لعين الدهر إنسانًا1 ومطلع الشيخ صفي الدين، في قصيدته البائية التي عارض بها المتنبي، وامتدح بها السلطان الملك الناصر، سقى الله عهده، حسن في هذا الباب وهو: أسبلن من فوق النهود ذوائبًا ... فتركن حبات القلوب ذوائبا2 ومن محاسنها: عاتبته فتضرجت وجناته ... وازور ألحاظا وقطب حاجبا3 فأذابني الخد الكليم وطرفه ... ذو النون إذ ذهب الغداة مغاضبا4 ومطلع قصدية ابن نباتة التي امتدح بها الملك الأفضل، صاحب حماة، غاية في هذا النوع، وقد عارض أبا الطيب المتنبي، ولكن أتى فيها بما لو سمعه أبو العلاء لرجع عن ديوان أحمد، وأقر بمعجمات محمد. فمطلع المتنبي: أرق على أرق ومثلي يأرق ... وجوى يزيد وعبرة تترقرق5 ومطلع ابن نباتة: ما بت فيك بدمع عيني أشرق ... إلا وأنت من الغزالة أشرق6 ولأجل إطنابي في هذه القصيدة تعين إيراد شيء من محاسنها هنا. فمنها: أنفقت عيني في البكاء وحبذا ... عين على مرأى جمالك تنفق وتكاثرت في الجفن أنجم أدمعي ... فكأن غرب الجفن مني مشرق

_ 1 يلاذ به: يحتمي به - إنسان العين: بؤبؤها. 2 أسبلن: أرخين - النهود: جمع مفرده نهد وهو الثدي - الذوائب: خصل الشعر. 3 تضرجت: احمرت من جراء تدفق الدم إليها من الخجل - والوجنات مفردها وجنة: وهي كرسي الخدم ويقصد بها معظمه - ازور ألحاظا: أدار نظره عني. 4 الكليم: الجريح - ذو النون: هو الذي ورد ذكره في القرآن في قوله تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا ... } الأنبياء: 21/ 87. 5 الأرق: عدم استطاعة النوم - عبرة: دمعة. 6 أشرق: أغص: الغزالة: من أسماء الشمس - أشرق: أكثر إشراقًا.

وأخافني فيك العذول وما درى ... أني لجورك في الهوى أتشوق قسما بمن جعل الأسى بك لذة ... والدمع راحة من يحب ويعشق إن العذول هو الغبي وإن من ... يفني عليك حياته لموفق لي من نصيب هواك سهم وافر ... وسهام سحر من جفونك ترشق يمتار من دمعي عليك ذووا البكا ... فاعجب له من سائل يتصدق ولقد سقيت بكأس فيك مدامة ... في غيظ عذالي عليك فلا سقوا1 وضممت من عطفيك غصن ملاحة ... بالحلى يزهر والغلائل يورق وقرأت من خديك بعد تأمل ... خطابه حب القلوب معلق ورزقت من جفنيك ما حسد الورى ... حظي عليه وهو رزق ضيق ونعمت باللذات وهي جديدة ... ولبست ثوب الراح وهو معتق في ليل أراح كأن هلاله ... للشرب ما بين الندامى زورق حتى استطال الفجر يطعن في الدجى ... فهو السنان أو العدو الأزرق يا حبذا ليل تبيع به الكرى ... لكننا لا عن رضا نتفرق حيث الشباب إلى المسرة راكض ... لا يستقر وطالب لا يرفق2 ما سرني أن الكميت يحثها ... نحوي السقاة وأن فودي أبلق3 زار الضنا ونأى الحبيب وعادني ... أرق على أرق ومثلي يأرق والعذر عن طول ما أوردته واضح لغرابة أسلوبها غزلًا ومدحا. منها في المدح: قوم لذكراهم على صحف العلا ... أصل الفخار وكل ذكر ملحق الملك بعض ديارهم فلينزلوا ... والنجم بعض جدودهم فليرتقوا4 إن يسجع الدين الحنيف بمدحهم ... فلأنه بأبي الفتوح مطوق أو يبق ماضيهم على سنن الوفا ... فلأنهم ببقاء أفضلهم بقوا ملأت مواهبه القلوب مهابة ... فالقلب قبل الطرف فيها مطرق

_ 1 لا سقوا: دعاء عليهم بمعنى لا سقاهم الله، إذ يقال في معرض الدعاء لهم سقاهم الله أو سقى الله قبره إلخ ... 2 لا يرفق: لا تأخذه بنفسه شفقة أو رحمة. 3 الكميت: الخمرة التي لونها أحمر يشوبه السواد - والفود: جانب الرأس مما يلي الأذن - أبلق: خالط سواده بياض أي شابَ. 4 هذا البيت كناية عن فضلهم وعلى حسبهم.

وكأنما أقلامه بسوادها ... غربان بين في الخزائن تنعق1 لا عيب فيه سوى العزائم قصرت ... عنها الكواكب وهي بعد تحلق منها: يا أيها الملك المكمل فضله ... وقيت من حدق إليكم تحدق وبقيت للمداح تجلب عيسهم ... جلبا بغير بلادكم لا ينفق2 أذكرتنا زمن المؤيد لا عدت ... مثواه باكية الغمامة تشهق3 حتى تجر به ذيول حديقة ... أكمامها بيد النسيم تفتق4 منها: وبديعة كالروض إلا أنها ... تجلى بجارحة السماع وتنشق نظمتها عقدا بدون مثاله ... في النظم شاب من الوليد المفرق لا فضل لي فيها وبحرك قاذف ... درر الصفاء يقول للناس انفقوا من عش بيتك قد درجت فطار لي ... في الخافقين جناح ذكرك يخفق ولكم علقت من القريض صناعة ... ما كنت لولاكم بها أتعلق لكم الولا مني لأن نداكم ... في كل حادثة لفقري يعتق5 ومن مطالعي في الجناس التام قولي: يا طيب الأخبار يا ريح الصبا ... يا من إليه كل قلب قد صبا وهذه القصيدة كتبت بها من القاهرة المحروسة سنة اثنتين وثمانمائة إلى القاضي تاج الدين بن البارزي، صاحب دواوين الإنشاء الشريف، تشوقًا إليه وإلى حماة المحروسة، وقلت بعد المطلع أخاطب النسيم بما هو أرق منه. يا صادق الأنفاس يا أهل الذكا ... يا طاهر الأذيال كم لك من نبا6

_ 1 البين: الفراق - تنعق: تصوت والنعيق: صوت الغراب. 2 عيس: جمع مفرده أعيس وهو من الجمال التي يخالط بياضه شقره. 3 المثوى: القبر - باكية الغمامة: من الغيوم الممطرة - تشقق: ترتفع. 4 أكمامها: مفردها كِمّ وهو برعوم الثمرة - تفتق: تتفتق تتفتح. 5 نداكم: عطاؤكم - يعتق: يحل عقده ويحرره. 6 الذكا: طيب الرائحة - نبا: نبأ، خبر.

يا من نراه عبارة عن حاجر ... يا روح نجد مرحبا بك مرحبا يا نسمة الخير الذي من طيبه ... نتنشق الأخبار عن تلك الربا بالله إن رنحت ذيلك بالحمى ... ووردت شعبًا من دموعي معشبا1 وهززت فيه كل عود أراكة ... أضحى بهاتيك الثغور مطيبا ولثمت من ثغر الأقاحي مبسما ... أبدى بدر الطل ثغرا أشنبا2 ودخلت كل خباء زهر قد غدا ... بدموع أجفان الغمم مطنبا وطرقت حي العامرية ظامئا ... فنعمت في الوادي بريا زينبا3 وحملت من نشر الخزامي نقحة ... مشمولة بالطيب من ذاك الخبا4 عج بالعذيب فإن محجر عينه ... أضحى لما حملته مترقبا واصحب عبير المسك منه فإنه ... لشوارد الغزلان أضحى مشربا وإذا تنسمت الشذا وتعطرت ... منك الذيول وطبت يا ريح الصبا عرج على وادي حماة بسحرة ... متيمما منه صعيدا طيبا واحمل لنا في طي بردك نشره ... فبغير ذاك الطيب لن نتطيبا واسرع إليّ وداو في مصر به ... قلبا على نار البعاد مقلبا لله ذاك السفح والوادي الذي ... مازال روض الأنس فيه مخصبا5 وانعم بمصر نسبة لكن أرى ... وادي حماة ولطفه لي أنسبا أرض وضعت بها ثدي شبيبتي ... ومزجت لذاتي بكاسات الصبا يا ساكني مغنى حماة وحقكم ... من بعدكم ما ذقت عيشًا طيبا ومهالك الحرمان تمنع عبدكم ... من أن ينال من التلاقي مطلبا وإذا اشتهيت السير نحو دياركم ... قرأ النوى لي في الأواخر من سبا وقد التفت إليك يا دهر يطو ... ل تعتبي ويحق لي أن أعتبا قررت لي طول الشتات وظيفة ... وجعلت دمعي في الخدود مرتبا6 وأسرتني لكن بحق محمد ... يا دهر كن في مخلصي متسببا

_ 1 رنحت: حركت - شعبا: حيًّا. 2 أشنبا: رقيق الأسنان أبيضها. 3 طرقت: من طرق المكان إذا مر به. 4 النقحة: السحابة الصيفية البيضاء. 5 مخصبا: كثير الخصوبة. 6 الشتات: الفراق والابتعاد عن الأهل والأقارب.

فمحمد ومدينة قد حلها ... لم ألق غيرهما لقلبي مطلبا مولى إذا قصد الزمان بلحنه ... خفضي غدا عن رفع قدري معربا ذو رتبة نصب السعود بيوتها ... من فوق هام الفرقدين وطنبا1 وفضائل أمست على حلل العلو ... م برقمها الزاهي طرازًا مذهبا وكتابة منسوبة لكن إلى ... عين الكمال وحقها أن تنسبا وإذا تسنم ذروة من منبر ... لخطابة فابن الخطيب هنا هبا2 من بيت فضل قد علت طبقاته ... وأراه للعلم الشريف مبوبا وإذا وقفت لحاجة في بابه ... تلقاه بابا للنجاح مجربا يا كاتب الأسرار يا من فضله ... قد جمل الدنيا وزان المنصبا أقلامك السمر الرشاق إذا انثنت ... أغنت نهار الخطب عن بيض الظبا3 سود العيون كأنما ألحاظها ... قد كحلت بسواد أحداق الظبا4 لكن إلى وجه الطروس إذا رنت ... أبدت لنا سحرا حلالًا طيبًا5 وسرى نسيم الذوق في صباتها ... فغدا بها بين الأنام مشيبا6 فلأجل ذا إن رجعت أقوالها ... لم نلق إلا مرقصًا أو مطربا رجع إلى ما كنا فيه من الجناس التام، ومن نظمي فيه أيضًا مع زيادة التورية: طلبت تقبيل من أحب وقد ... أنكرت في الخد نقطة حسنه فرق لي قلبه وقال إذا ... لثمت خدي لا تنكر الحسنه انتهى الكلام على الجناس التام، وقد تقدم قولي إن جميع من نهلت من شرابهم الصافي لم يرضوا بالجناس التام، إذا أمكن استدراك التورية من ركنيه، لعلمهم بعلو رتبتها عنه والتفات الأذواق الصحيحة السليمة إلى حسن موقعها، وإذا راجعت النظر في كلامهم وجدت غالب ما نظموه من التورية جناسًا تامًا، فمن ذلك قول الشيخ صدر الدين بن الوكيل من دو بيت:

_ 1 السعود: الحظ والبخت - الفرقدين: نجمان في السماء ثابتان قرب القطن الشمالي يهتدي بهما. 2 ابن الخطيب: هو الوزير لسان الدين الأديب والشاعر والخطيب المعروف - هبا: انحط قدره. 3 الرشاق: مفردها رشيق وهو السريع الخفيف - الخطب: المصيبة - بيض الظبا السيوق والظبا: حد السيف وشفرته. 4 الظبا: الظباء مفردها ظبي وهو الغزال الأعفر. 5 الطروس: مفردها الطرس وهو الكتاب الذي محي ثم كتب. 6 قصباتها: قصبات الأقلام ما يكتب به منها وهي رءوسها.

كم قال معاطفي حكتها الأسل ... والبيض سرقن ما حوته المقل1 والآن أوامري عليهم حكمت ... البيض تحد والقنا تعتقل2 ففي تحد وتعتقل جناسان تامان، إذا أبطلت الاشتراك وأبرزت كلا من الركنين في موضعه، على طريق من له رغبة في الجناس، ومثله قول محي الدين بن عبد الظاهر في كوز3. وذي أذن بلا سمع ... له قلب بلا قلب إذا استوى على حب ... فقل ما شئت في الصب ومثله قول بدر الدين يوسف بن لؤلؤ الذهبي: تعشقته لدن القوام مهفهفًا ... شهي اللمى أحوى المراشف أشنبا4 وقالوا بدا حب الشباب بوجهه ... فيا حسنه وجهًا إلي محببا ومثله قول الشيخ شرف الدين الأنصاري شيخ شيوخ حماة: لنا من ربة الخالين جاره ... تواصل تارة وتصد تاره 5 املني بما يحلو وتلوي ... ولكن ليس في جوفي مراره ومثله قول الشيخ ظهر الدين البارزي، سقى الله ثراه: يا لحية الحب التي ... طال لها تلفتي هل أنت مسك الترك أو ... هل أنت مسك نبتي ومثله قول الشيخ علاء الدين الوداعي: أثخنت عينها الجراح ولا إث ... ـم عليها لأنها نعساء6 زاد في عشقها جنوني فقالوا ... ما بهذا فقلت بي سوداء7

_ 1 الأسل: نبات كثير الأغصان شائكها تصنع منه الحصر والحبال. 2 تُحَد: تعاقب بإنزال الحد بها والحد مفرد حدود وهي في الفقه والشرع: حد الزنى حد شرب الخمر، حد السرقة.... إلخ. ومعناه قصاص معين ينزل بالشخص مقابل عمله الشائن. 3 الكوز: الإبريق الصغير. 4 لدن: لين ورشيق - مهفهفا: ضامر البطن دقيق الخصر: اللمى السمرة - أحوى المراشف: لون شفتيه فيه كمنة وهي الاحمرار المشوب بالسواد والأشنب: رقيق الأسنان أبيضها. 5 الخالين: مفردها الخال وهو شامة سوداء تظهر عادة في الخد. 6 أثخنت كثرت فيها وأثقلتها - نعساء: ناعسة. 7 سوداء: سوداوية المزاج.

ومثله قول لسان الدين بن الخطيب: جلس المولى لتسليم الورى ... ولفصل البرد في الجو احتكام فإذا ما سألوا عن يومنا ... قلت هذا اليوم برد وسلام ومثله قول الشيخ سراج الدين الوراق، فيمن بخل بالراح، والتورية ثلاثة وهو: لا تطمعن براحة من معشر ... سادوا بغير مآثر السادات قطعت عن المعروف أيديهم وقد ... سرقوا العلا فخلت من الراحات ومثله قول نصير الدين الحمامي: لي منزل معروفه ... ينهل غيثا كالسحب أقبل ذا العذر به ... وأقبل الجار الجنب1 ومثله قول شهاب الدين الحاجي: له عين لها غزل وغزو ... مكحلة ولي عين تباكت وحاكت في فعائلها المواضي ... فيا لك مقلة غزلة وحاكت ومثله قول ابن الوردي: قالت إذا كنت ترجو ... وصلي وتخشى نفوري صف ورد خدي وإلا ... أجور ناديت جوري ومثله قول ابن الصائغ: هجرت فأحشائي لذاك توقدت ... جمرًا وليست في المحبة فاتره هذا وتحرمني الثقيل الهوى ... من ذا الذي يرضى بنار الهاجره2 ومثله قول ابن نباتة في الملك المؤيد صاحب حماة: لنا ملك قد قاسمتنا هباته ... فنثر العطا منه ونظم الثنا منا3 يذكرنا أخبار معن بجوده ... وننشي له لفظا فينشي لنا معنى4

_ 1 الجار الجنب: الجار بالجنب. 2 في الشطر الأول خلل في الوزن ونظنه: هذا وتحرمني الثقيل من الهوى. 3 هباته: مفردها هبة وهي الأعطية - العطا: الغطاء - والثنا: الثناء. 4 معن: هو معن بن زائدة من أجواد الجاهلية وفرسانها.

ومثله قوله، وهو أعدل شاهد في هذا الباب: دمعي عليك مجانس قلبي ... فانظر على الحالين في الصب فذكر التجانس هنا أحد لازمي التورية، والدمع هو اللازم الآخر، وقد نبهنا الشيخ جمال الدين على أنه لم يرض بالجناس، ويؤيد ذلك قوله على الحالين، ومنه قول القيراطي: أبح لي نرجس ألحاظه ... في مجلس ما فيه ما نكره فقلت ورد الخد جد لي به ... أيضًا فقال الكل في الحضره1 ومثله قول بدر الدين بن الصاحب: فتنت بنبت من عوارض خده ... فها أنا في قيد الغرام أسير وما كان لي بالعشق قط تعلق ... ولا بالهوى قبل العذار شعور2 ومثله قول صلاح الدين الصفدي: إن لم تصدقني تصدق بالكرى ... ليزورني فيه الخيال الزائل وانظر إلى فقري لوصلك واغتنم ... أجري وقل للدمع قف يا سائل ومثله قول ابن أبي حجلة: يا صاح قد حضر الشراب ومنيتي ... وحظيت بعد الهجر بالإيناس وكسا العذار الخد حسنا فاسقني ... واجعل حديثك كله في الكاس وما أظرف قول يحيى الخباز الحموي: أصبحت في العالم أعجوبة ... عند ذوي المعقول والفهم جدي حموي فاسمعوا واعجبوا ... وما كفى حتى أبي أمي ومثله قول المعمار: قد بت من كربي لفقد النسا ... أفور كالتنور من ناريه3 وقد طغى الماء فمن لي بأن ... أحمل بالجود على جاريه

_ 1 الحضره: الحضور والمكانة. 2 العذار: الشعر على جانب الخد. 3 التنور: الفرن يخبز فيه.

ومثله قول الشيخ شرف الدين حسن المشهور بالزغاري: قيل لي إذا رأيت أقمار تم ... عن بدور السماء للطرف تلهي1 أي وجه أضناك قلت دعوني ... فسقامي قد صح من كل وجه ومثله قول عز الدين الموصلي: حديث عذار الحب باد وساقه ... له أوجه تبدي لقلبي اشتياقه درى أننا نصغي إلى الحسن دائمًا ... فأبدى لنا ذاك الحديث وساقه ومثله قول ابن مكانس: يقول معذبي إذا همت فيه ... بخد خلت فيه الشعر نملا2 أتعرف خده للعش أهلا ... فقلت له نعم أهلا وسهلا وأنشدني، من لفظه نفسه، بقية السلف ومن كان للفروع النباتية نعم الخلف، الشيخ زيد الدين أبو بكر بن العجمي، عين كتاب الإنشاء الشريف بالديار المصرية، وقد تمثلت بين يديه بالقاهرة المحروسة، سنة إحدى وثمانمائة، وطالبته بشيء من لفظه في المواليا، فإنه كان إمام فنونه المتشعبة فقال: للحب قالوا معناك الذي أذبلتو ... جدلو بقبلة فقلبوا فيك خبلتو3 فقال أقسم لو أن البوس سبلتو ... ومات للشرق مادرتو وقبلتو4 ومنه قول ابن خطيب داريا: تقول وقد أتتني ذات يوم ... مخبرة عن الظبي الجموح5 يسرك أن أروح إليه أجري ... فقلت لها خذي مالي وروحي ومنه قول بدر الدين الدماميني: قم بنا نركب طرف ال ... لهو سبقا للمدام واثن يا صاح عناني ... لكميت ولجام6

_ 1 أقمار تم: بدور كاملة تامة لأربع عشرة ليلة. 2 خلت: ظننت. 3 جدلو: جُدله - خبلتو: خبلته: جرحته. 4 البوس: التقبيل. 5 الجموح: الشارد. 6 الكميت: الخمرة.

ومثله قول ابن حجر: سألوا عن عاشق في ... قمر باد سناه أسقمته مقلتاه ... قلت لا بل شفتاه ومثله قولي: عاتبته ودموعي غير جارية ... لأن دمعي من طول البكا نشفا فقال لم أر وكف الدمع قلت له ... حسيبك الله يا بدر الدجى وكفى1 ولم أستطرد إلى هذا إلا لتأييد قولي: إن جميع من نسجت على منوالهم لم يرضوا بالجناس التام إذا أمكنت التورية التامة، وصبح الفرق بينهما بحمد الله ظاهر، وبدر مثاله في ليالي السطور سافر. انتهى ما أوردت من محاسن التورية التامة، ووجوب تقديمها على الجناس التام إذا كان عند الناظم يقظة، وكان ممن يميل إلى هذا المذهب، وأما الجناس المطرف، فهو ما زاد أحد ركنيه على الآخر حرفا في طرفه الأول، وهذا هو الفرق بينه وبين المذيل، فإن الزيادة في المذيل تكون في آخره، وأما المطرف لتكون زيادته في أوله لتصير له كالطرف، ويسمى: الناقص والمردف، وفي تسميته اختلاف كثير، ولكن مطابقة الطرف في التسمة طرفة، كقوله تعالى: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ، إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} 2 والزيادة تارة تكون في أول الركن الثاني كما تقدم، وتارة في أول الركن الأول، كقول أبي الفتح البستي: أبا العباس لا تحسب بأني ... بشيء من حلى الأشعار عاري فلي طبع كسلسال معين ... زلال من ذرى الإحجار جاري3 إذا ما كبت الأدوار زندًا ... فلي زند على الأدوار وارى4 ومثله: وكم سبقت منه إليّ عوارف ... ثنائي على تلك العوارف وارف5 وكم غرر من بره ولطائف ... فشكري على تلك اللطائف طائف

_ 1 وكف الدمع: انهماله وانصبابه. 2 القيامة: 75/ 29. 3 السلسال: الماء العذب الصافي - معين: جابر - زلال: شديد الصفاء. 4 في البيت كسر ونظنه: إذا ما أكبت الأدوار: أي إذا جعلته يكبو بمعنى يخبو وينطفئ. 5 عوارف: مفردها عارفة وهي الصنيعة واليد - وارف: واسع الظل.

ومثله قول القائل: قام يسعى ما بين شرب أعزه ... من بني الترك أغيد فيه عزه وقصيدة هذا المطلع رأيتها في بعض التذاكر، بخط الشهاب محمود، ولم أعرف لها ناظمًا وأعجبني فيها أبيات منها: يقظ ما يشير طرف إليه ... بمرام إلا ويعرف رمزه كلما تفعل الصوارم تغني ... عنه ألحاظه المراض بغمزه ومن نظم ابن نباتة الذي جعله نفثا: عطفت كأمثال القسي حواجبا ... فرمت غداة البيت قلبا واجبا1 ومثله قولي: والله ما هب النسيم بحاجر ... إلا ترقرق مدمعي بمحاجري انتهى الكلام على الجناس التام والمطرف، وهما في بيت البديعية ظاهران، وبيت صفي الدين الحلي قوله: من شأنه حمل أعباء الهوى كمدا ... إذا هم شأنه بالدمع لم يلم وبيت عز الدين الموصلي: مذ نم للعين أنس حين طرفها ... مرأى الحبيب ببذل العين لم يلم وبيتي: يسعد ما تم لي سعد يطرفني ... بقربهم وقليل الحظ لم يلم وللمتأمل أن يستحلي ويستجلي ما يظهر في مرآة ذوقه، ولا يميل عن جادة الإنصاف.

_ 1 القسي: جمع مفرد - قوس.

الجناس المصحف والمحرف

الجناس المصحف والمحرف 1: هل من يفي إن صحفوا عذلي ... وحرفوا وأتو بالكلم في الكلم

_ 1 من التصحيف وهو زيادة نقاط أو حذف نقاط من الكلمة أثناء الكتابة مثل يسقين والتحريف وهو زيادة حرف أو إنقاصه أو تغيير موضعه.

يفي ويقي فيهما جناس التصحيف، ومنهم من يسميه جناس الخط، وهو ما تماثل ركناه خطًّا واختلفا لفظًا، والمقدم في هذا قوله تعالى: {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ، وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} 1 ومنه قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه: "قصر ثوبك فإنه أنقى وأتقى وأبقى" وقول النبي -صلى الله عليه وسلم- حين سمع رجلًا ينشد على سبيل الافتخار، وقيل: سأله عن نسبه فقال: إني امرؤ حميري حين تنسبني ... لا من ربيعة آبائي ولا مضر فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم: "ذلك والله ألأم لجدك وأقل لحدك" ومنه قول عمر بن الخطاب -رضي الله عنه: لو كنت تاجرًا ما اخترت غير العطر، إن فاتني ربحه لم تفتني ريحه ومنه قول القاضي الفاضل، في بعض رسالاته: فأنتم يا بني أيوب أيديكم آفة أنفس الأموال، كما أن سيوفكم آفة أنفس الأبطال، فلو ملكتم الدهر لامتطيتم لياليه أداهم وقلدتم بيض أيامه صوارم، ووهبتم شموسه وأقماره دنانير ودراهم، وأوقاتكم أعراس ومآتم إلا على الأموال فهي مآثم، والجود خاتم في أيديكم، ونفس حاتم2 نقش في ذلك الخاتم. وقال أهل الأدب: خلف الوعد خلق الوعد3 والأربعة أركان بغير حشو، وهو غاية في هذا الباب ومن النظم قول الشاعر: فإن حلو فليس لهم مقر ... وإن رحلوا فليس لهم مفر ومثله قول أبي فراس: من بحر جودك أغترف ... وبفضل علمك أعترف ولم أذكر هنا من جناس التصحيف إلا النوع السالم من اختلاف الحركة بالتحريف، فإنه إذا اجتمع فيه النوعان صار مشوشًا، كقول الحريري: "زينت زينب بقد يقد" فهذا في التحريف والتصحيف. وقد تقدم أن الركنين، إذا تجاذبهما نوعان من التجنيس ولم يخلصا لواحد، كان الجناس مشوشًا، ومثله قول أبي تمام: "في حده الحد بين الجد واللعب". ومن المصحف السالم، ما كتبت به إلى المقر المخدومي، فخر الدين بن مكانس، في رسالتي التي ذكرت فيها حريق دمشق وهو: وأضحت أوقات الربوة، بعد ذلك العيش

_ 1 الشعراء: 26/ 79، 80. 2 حاتم الطائي ويضرب به المثل في الكرم العربي القديم. 3 أي عدم الوفاء بالوعد اللئيم الخسيس من الناس.

الخضل واليسر، عسيره، ولقد كان أهلها في ظل ممدود وماء مسكوب وفاكهة كثيرة، فعبس بعد ذلك ثغر روضها الباسم، وضاع من غير تورية عطره الناسم. ومن غراميات البهاء زهير ولطائفه في الجناس المصحف قوله: وليس مشيبًا ما ترون بعارضي ... فلا تمنعوني أن أهيم وأطربا1 وما هو إلا نور ثغر لثمته ... تعلق في أطراف شعري فألهبا وأعجبني التجنيس بيني وبينه ... فلما تبدى أشنبا رحت أشيبا2 وما أظرف قول شمس الدين بن العفيف، وقد كنى بأحد الركنين عن الآخر، وهو: يا ذا الذي صد عن محب ... فيه أذاب الغرام قلبه مالك في الهجر من دليل ... لكن هذي علوّ قلبه ولم يطالب فيه التشويش لظرافته ولطافته. انتهى الكلام على الجناس المصحف. وأما قولي وحرفوا وأتوا بالكلم في الكلم، فهذا جناس التحريف، وهو ما اتفق ركناه في عدد الحروف وترتيبها واختلفا في الحركات، سواء كانا من اسمين أو فعلين أو من اسم وفعل أو من غير ذلك، فإن القصد اختلاف الحركات كما تقرر، والمقدّم فيه, وهو الغاية التي لا تدرك، قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنذِرِينَ، فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ} 3. ولا يقال: إن اللفظين متحدان في المعنى، لأنهما من الإنذار، فلا يكون بينهما تجنيس، فاختلاف المعنى ظاهر، إذ المراد بالأول الفاعلون وهم الرسل، وبالثاني المفعولون وهم الذين وقع عليهم الإنذار، وقول النبي -صلى الله عليه وسلم: "اللهم كما حسنت خلقي فحسن خلقي". ومثله قوله: جبة البرد جنة البرد، ومثله قولهم: رطب الرطب ضرب من الضرب، ومنه قول القاضي الفاضل: لا زالت الملوك ببابه وقوفًا، والقدار له سيوفًا، والخلق له في دار الدنيا ضيوفًا، ودين دين الحق إذا جردوا لتقاضيه سيوفا سيوفي. ومن النظم قولي أبي تمام: هن الحمام فإن كسرت عيافة ... من حائهن فإنهن حِمام4

_ 1 عارضي: جانب وجهي، وهما عارضان. 2 أشنبا: أبيض الأسنان رقيقها. 3 الصافات: 37/ 72، 73. 4 عيافة: ظنًّا وحدسًا، والعيافة: زجر الطير والتفاؤل بأسمائها - الحِمام: الموت.

وما أحلى قول أبي العلاء المعري: لغيري زكاة من جمال فإن تكن ... زكاة جمال فاذكري ابن سبيل ومثله قول ابن الفارض رحمه الله تعالى: هلا نهاك نهاك عن لوم امرئ ... لم يلف غير منعم بشقاء1 ومثله قول الشيخ عبد العزيز شيخ شيوخ حماة: لعيني كل يوم فيه عبرة ... تصيرني لأهل العشق عبره2 وغاص، هو القاضي الفاضل، في هذا البحر وأظهرا من هذا الروي جواهر العقود، فمن قصيد شيخ الشيوخ بحماة: إذا غفل الوشاة بعثت دمعي ... فيغدو مرسلًا من غير فتره3 علامة شقوتي في الحب أني ... ثقلت عليك لا من طول عشره سألزم باب خمار الثنايا ... ليطلق لي ولو في العمر سكره وظريف هنا قول الشاب الظريف، شمس الدين محمد بن العفيف، من قصيدة: لا أجازي حبيب قلبي بظلمه ... أنا أحني عليهمن قلب أمه جوره مثل عدله عند من ... يهواه مثلي وظلمه مثل ظلمه وما أظرف قول الصاحب بهاء الدين زهير من غرامياته في هذا النوع: زهاد ورد خديك لكنه ... بغير النواظر لم يقطف وقد زعموا أنه مضعف ... وما علموا أنه مضعفي وأورد الشيخ كمال الدين الدميري، في كتابه المسمى بحياة الحيوان عندما انتهى إلى ذكر المها4 أبياتًا تعجني في هذا الباب أولها تام وآخرها مطرف، وباقي الأبيات تحريفها، تمتزج بالأذواق حلاوته المعتدلة والأبيات لجميل بثينة: خليليّ إن قالت بثينة ما له ... أتانا بلا وعد فقولا لها لها5

_ 1 نُهاك: عقلك - يلف: يوجد. 2 عبرة: بفتح العين، دمعة وبكسرها: عظة وما يعتبر به. 3 فترة: فتور وانقطاع. 4 المها: الغزال. 5 لها: نسي وسلا.

أني وهو مشغول لعظم الذي به ... ومن بات طول الليل يرعى السُّها سها1 بثينة تزري بالغزالة في الضحى ... إذا برزت لم تبق يوما بها بها2 لها مقلة كحلاء نجلاء خلقة ... كأن أباها الظبي أو أمها مها دهتني بود قاتل وهو متلفي ... وكم قتلت بالود من ودها دها3 ويعجبني قول من قال: إن الصديق الصدوق أول العقد وواسطة العقد: ومثله قولهم: البدعة شرك الشرك. وما أحلى قول ابن نباتة: قوامك تحت شعرك يا أمامه ... غدا لك حاملا علم الإمامه ولي مع زيادة التورية: ولما أراني الشعر وهو مذيل ... وجانب ذاك الصدغ وهو مطرف بدا بخمار من خمار بريقه ... فقلت لهم هذا الجناس المحرف انتهى الكلام على الجناس المصحف والمحرف "ومنه" بيت الشيخ صفي الدين الحلي: من لي بكل غرير من ظبائهم ... غزير حسن يداوي الكلم بالكلم4 وبيت الشيخ عز الدين الموصلي الحنبلي: هل من تقي نقي حين صحف لي ... محرف القول زان الحكم بالحكم أما التصحيف والتحريف في هذا البيت فظاهران، وأما المعنى فالسريرة عند الله. وبيتي: هل من يقي ويفي إن صحفوا عذلي ... وحرفوا وأتوا بالكلم في الكلم

_ 1 السُّها: كوكب صغير خفي الضوء، وهو في بنات نعش الكبرى أو الصغرى. وسها: غفل. 2 تزري: تعيب - الغزالة: الشمس - بها: بهاء أي رونقا وجمالا. 3 الود: الحب الشديد - دها: دهاء وهو حسن الحيلة والمكر. 4 الغرير: الطائش الذي لا يقدر عواقب الأمور، والمغرور. الكلم: الأولى بمعنى الجرح والثانية بمعنى الكلام.

الجناس اللفظي والمقلوب

الجناس اللفظي والمقلوب: قد فاض دمعي وفاظ القلب إذ سمعا ... لفظي عذول ملا الأسماع بالألم أما اللفظي فهو النوع الذي إذا تماثل ركناه وتجانسا خطًّا خالف أحدهما الآخر، بإبدال حرف منه فيه مناسبة لفظية، كما يكتب بالضاد والظاء، وشاهده قولي في البيت فاض وفاظ فإن الأول من فيض الماء والثانيمن التلف، وجاء في هذا النوع من القرآن العظيم: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 1 فالأول من النضارة، والثاني من النظر، وألحقوا به ما يكتب بالهاء والتاء، كقولهم: جبلت القلوب على معاداة المعادات، وقيل هو حديث أو بالنون والتنوين، كقول الأرجاني: وبيض الهند من وجدي هواز ... بإحدى البيض من عليا هوازن2 أو بالألف والنون، كقول الشاعر ابن العفيف: أحسن خلق الله وجهًا وفما ... إن لم يكن أحق بالحسن فمن ولم ينظم هذا النوع غير الصفي وهو قليل جدًّا، وأصعب مسالكه تركيبه بالضاد والظاء، لأجل إبدال الحرف الذي فيه المناسبة اللفظية، وقد تقدم قول الشيخ شمس الدين بن الصائغ أنه أورد في شرحه الذي سماه رقم البردة، شيئًا من محاسن الزجل على هذا النوع البديعي الذي أطلق عنان القلم في الكلام عليه. والزجل فن يتمكن الناظم فيه من المعاني لجولانه في ميادين الأغصان والخرجات3، وهو لا يحسن رسمه في الكتابة إلا من عرف اصطلاحه. وكان الشيخ علاء الدين بن مقاتل، إذا ذكر الزجل، كان ابن بجدته وأبا عذرته، وممن سلمت إليه مقاليد هذا الفن. وأورد الشيخ صلاح الدين الصفدي له نبذة من غرر أزجاله، في تذكرته وتاريخه، تغني عن الإكثار في ترجمته، وله في الجناس اللفظي زجل جانسه بالظاء والضاد لم يسبق إليه ومطلعه قوله: إن مع معشوقي جفون ولحاظ ... لو رآهم عابد لهام وحاض ومع أنوار من سحر عينيه إذا ... حفظوه باب أنساه صلا تودا إن ماعو عيون فواتر حور ... في بحور ولدانها بواتر جفون كيف لا يفتن عشاقوا ذاك الفتور ... وعلى خده شامه بنقطة فنون من نظرهم نظره بقى مسحور ... وكيف أنو ما ينسحر من عيون

_ 1 القيامة: 75/ 22، 23. 2 هواز: هز السيف انقض. فهو هاز وهم هواز. 3 الخرجات: جمع مفرده خرجة وهي في الشعر اللازمة، التي تتكرر في نهاية كل مقطع.

يعتقدهم رقود وهم إيقاظ ... وجفون كل جفن بسيف أي قاض1 يقضي فيمن بسر ورباح وهذي ... حكمه ممن أضل ناس وهدى حضرني لما أن يغيب عني ... في غيابو ياما بتحفظ فصول حتى نوا يصير قريب مني ... ولو أنو يكون في ميدان يجول أيش تضيق الدنيا على ذهني ... ولا يدري أيش كان يريد لو يقول وأنسى ما قد حفظتو من الألفاظ ... ويضيق بي رحب المكان الفاض2 ولا أطلب يومي شراب وغدا ... فأبقى سكران طول ليلتي وغدا يا نسيم السحر على حبي ... بث مني طيب السلام كلو لله وأوصيه بالعاشق المسبي ... وبقلبي ذاك الذي استلو3 وأن تيسر لك أن ترى قلبي ... وأن يسل عن جسمي الضعيف لو أنو نخيل من بعدك إلى أن فاظ ... واغتسل مما من عيونو فاض وعلى حذو الدارجين قد حذا ... وفي نايو حادي المنايا حدا أذكراني في عتبو وخد البهار ... عصتو حتى وقف على ما حرا وبقي هو يحمرونا بصفار ... ونوادر مني ومنوا ترا فلا تعجب من خد وكيف يحمار ... فوق ورد الخدود وتحتو جرا ماء الحيا في وجناتو لما انغاظ ... ونشف ماء لوني إلى أن غاض4 وما ينكر حالي وحالوا فذا ... سر فيه ممن أنا لو فدا ونظت في هذا النوع الغريب، تورية فجاءت في غاية الحسن، ولم أسبق إليها إلا من الشاب الظريف، محمد بن العفيف، كقوله: عبتم من المحبوب حمرة شعره ... وأظنكم بدليله لم تشعروا لا تنكوا ما احمر منه فإنه ... بدماء أرباب الغرام مضفر5 وقولي: خاطرت في عشقي له يا مهجتي ... لا تشغلي قلبي الحزين وخاطري فالطرف شاهد منه ناضر قده ... فغدا يهيم بكل غصن ناضر

_ 1 قاض السيف: صوت. 2 القاض: الواسع. 3 استبوا: استله - سحبه من مكانه. 4 انغاظ: أغيظ أي أغصب - غاض الماء غار ولم يعد يرى. 5 مضفر: جعل شعره ضفائر مفردها ضفيرة وهي الجديلة.

وقولي: مرج حماة بنوا غيره ... زاد على المقياس في روضته واغتاظ نمروذ دمشق له ... فقلت لا أفكر في غيضته وقولي: حضيت عزمي إليك شوقًا ... فلم أطق مكثة بأرض1 وحيث لم أحظ بالتلاقي ... فغايتي أن ألوم حضي انتهى الكلام على الجناس اللفظي، وأما الجناس المقلوب، وسماه قوم جناس العكس، وهو الذي يشتمل كل واحد من ركنيه على حروف الآخر من غير زيادة ولا نقص، ويخالف أحدهما الآخر في الترتيب، كقوله تعالى حكاية عن هارون: {خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} 2 ومنه قول النبي -صلى الله عليه وسلم: "يقال لصاحب القرآن يوم القيامة اقرأ وارق" وما ألطف ما أشار الصاحب بن عباد إلى الجناس المقلوب، بقوله لأبي العباس بن الحرث في يوم قيظ، وقد طلب مروحة الخيش: ما يقول الشيخ في قلبه، يعني الخيش، ومروحة الخيش أحدثها بنو العباس، وذكرها الحريري في المقامات، وقال اسمعوا وقيتم الطيش، وأنشد لغزًا في مروحة الخيش: وجارية في سيرها مشمعلة ... ولكن على أثر السير قفولها3 لها سائق من جنسها يستحثها ... على أنه في الاحتثاث رسيلها ترى في أوان القيظ تنطف بالندى ... ويبدو إذا ولى المصيف فحولها4 وكان السبب في حدوث هذه المروحة أن هارون الرشيد دخل يومًا على أخته علية بنت المهدي، في يوم قيظ، فألقاها وقد صبغت ثيابها من زعفران وصندل5 ونشرتها على الحبال لتجف، فجلس هارون قريبًا من الثياب المنشورة، فصارت الريح تمر على الثياب فتحمل منها ريحًا بليلة عطرة، فوجد لذلك راحة من الحر واستطابه، وأمر أن يصنع له مثل ذلك، وقال ابن الشريشي، في شرح المقامات: وهذه المروحة شبه الشراع للسفينة، تعلق بالسقف ويشد بها حبل وتبل بالماء وترش بالماورد، فإذا أراد الرجل في القائلة6

_ 1 حضب: أضرم وهيج وحض. 2 طه: 94/ 20. 3 مشمعلة: مشرفة - فقولها: رجوعها. 4 القيظ: الحر الشديد وأيام الصيف. 5 الصندل: شجر طيب الرائحة. 6 القائلة: وقت القيلولة.

أن ينام جذبها بحبلها فتذهب بطول البيت وتجيء، فيهب على النائم منها نسيم بارد رطب. اهـ. رجع إلى الجناس المقلوب، فمنه قول بعضهم: حكاني بهار الروض حين ألفته ... وكل مشوق للبهار مصاحب1 فقلت له ما بال لونك شاحبا ... فقال لأني حين أقلب راهب وما أحلى قول ابن العفيف مع زيادة التورية: أسكرني باللفظ والمقلة الـ ... ـكحلاء والوجنة والكاس ساق يريني قلبه قسوة ... وكل ساق قلبه قاس وبديع هنا قول الشيخ جمال الدين بن نباتة، في الأمير شجاع الدين بهرام: قيل كل القلوب من ... رهب الحرب تضطرب قلت هذا تخرص ... قلب بهرام ما رهب2 وبيت عبد الله بن رواحة غاية في هذا النوع، وقيل "هو" أمدح بيت قالته العرب، فإنه من جملة مديح النبي -صلى الله عليه وسلم وهو قوله: تحمله الناقة الأدماء معتجرًا ... بالبرد كالبدر جلى نوره الظلما3 وما أحلى قول القائل: وألفيتهم يستعرضون حوائجا ... إليهم ولو كانت عليهم جوائجا4 ومثله: إن بين الضلوع مني نارا ... تتلظى فكيف لي أن أطيقا فبحقي عليك يا من سقاني ... أرحيقا سقيتني أم حريقا ومن الغايات في هذا الباب قول القائل: لبق أقبل فيه هيف ... كلما أملك إن غنى هبه

_ 1 البهار: الخطاف ويدعى عصفور الجنة. 2 تخرص: ظن. 3 معتجرًا: متعممًا. 4 جوانحًا: نوادبًا.

فهذا البيت كل كلمة منه، بانضمامها إلى أ×تها، تجانسها في القلب، وأعلى منه رتبة قول سيف الدين ابن المشد: ليل أضاء هلاله ... أنى يضيء بكوكب وهذا البيت كل كلمة منه تقرأن مستوية ومقلوبة، وهو مما لا يستحيل بالانعكاس، كقول الحريري: ساكب كاس، وهذا النوع يأتي الكلام عليه في موضعه لأن المراد هنا جناس القلب، وللشيخ علاء الدين بن مقاتل الحموي أيضا زجل في هذا النوع، سارت به الركبان أنشده المصنف في حماة، بحضرة الملك المؤيد، والشيخ صفي الدين، والشيخ جمال الدين بن نباتة، فوقع في المجلس شيء إذا استوعبت الزجل كتابة علمته: قلبى بحب تياه ... ليس يعشق إلا إياه فاز من وقف وحياه ... يرصد على محياه بدر السما لو يطبع ... من رام وصالوا يعطب1 صغير بحير في أمرو ... غزال قهر بسمرو ليث الهوى ونمرو ... فاعجب لصغر عمرو ريم ابن عشر وأربع ... أردى الأسود وأرعب اذكر نهار تبعتو ... وروحي كنت بعتو وخيب ما فيه طمعتو ... فقال وقد سمعتو ارجع ولا لي تتبع ... أخشى عليك لا تتعب كم قدامو وخلفوا ... مشيت مطيع لحلفو ورمت لثم كفو ... قال دع مناك وكفو فإن لثم أصبع ... من الثريا أصعب ما زلت لو نداري ... حتى حصل في داري ناديت ودمعي جاري ... ايش كان يصيب يا جاري لو كنت من فيك أشبع ... قال ايش يكن لك أشعب من حاز حسن خدو ... لحظو لقتلي حدو وورد خد وندو2 ... ما في الرياض شيء روض الحيا مبرقع ... عليه ساج معقرب من في الجمال فريدو ... للصب من وريدو يذبح ولو يزيدو ... وكم ذا شيخ مريدو خلاه دموعو يبلع ... وهو بعقلو يلعب كم خصم في المقاتل ... صابوا ابن مقاتل وكم ذا في المحافل ... قد أنشالوا جحافل من كل بيت مربع ... ملحون بألف معرب والشيء اللطيف الذي وقع في المجلس المشار إليه، ووعدت بذكره: ذكروا أن الشيخ علاء الدين بن مقاتل، لما وصل إلى قوله ملحون بألف معرب، صار الشيخ جمال

_ 1 يعطب: يصاب بالعطب وهو الهلاك. 2 ندو: نده: والند هو المشابه المماثل.

الدين بن نباتة ينظر إلى الشيخ علاء الدين بن مقاتل، ويشير إلى الشيخ صفي الدين الحلي، ويقول: ملحون بألف معرب. والملك المؤيد يتبسم لذلك. اهـ. وإذا نظر المتأمل إلى بعض هذه الأحرف في رسم كتابة الزجل لا ينتقد، فإن شرط رسمه أن يوضع كذا لأجل تحرير وزنه. انتهى الكلام على الجناس اللفظي والمقلوب، وبيت الشيخ صفي الدين الحلي فيهما: بكل قد نضير لا نظير له ... لا ينقضي أملي منه ولا ألمي1 وبيت الشيخ عز الدين: لفظي حض على حظ يمانعه ... مقلوب معنى ملا الأحشاء من ألم وبيتي: قد فاض دمعي وفاظ القلب إذ سمعا ... لفظي عذول ملا الأسماع بالألم انتهى والله أعلم.

_ 1 نضير: ذو رونق وبهجة - نظير: شبيه.

ذكر الجناس المعنوي

ذكر الجناس المعنوي: أبا معاذ أخا الخنساء كنت لهم ... يا معنوي فهدّوني بجورهم1 أما الجناس المعنوي فإنه ضربان: تجنيس إضمار، وتجنيس إشارة. ومنهم من سمى تجنيس الإشارة، تجنيس الكناية، وكل منهما مطابق التسمية. ولم ينظرم الشيخ صفي الدين الحلي، في بديعيته، غير نوع الإضمار، وهو أصعب مسلكًا من جناس الإشارة، ولا بد أن أنوع هذا الشرح بمحاسن النوعين: فإن المعنوي طرفة من طرف الأدب عزيز الوجود جدًّا، ولم يذكره الشيخ جلال الدين القزويني، في التلخيص، ولا في الإيضاح، ولا ذكره ابن رشيق في العمدة، ولا زكي الدين بن أبي الأصبع في التحرير، ولا ابن منقذ في كتابه، والعميان ذكروه في شرح بديعيتهم، ولكن ما تيسر لهم نظمه، وذكر الشهاب محمود، في كتابه المسمى بحسن التوسل في صناعة الترسل، منه نوع

_ 1 أبو معاذ: هو جبل والد معاذ بن جبل الصحابي الجليل - أخو الخنساء: هو صخر بن عمرو الشريد. ويقصد: جبل صخر كنت لهم..

الإشارة لا نوع الإضمار، ولكن ما نظمه، ولم يذكر نوع الإضمار في بديعيته غير الشيخ صفي الدين الحلي، وقد تقدم القول أنه قال عن بديعيته: إنها نتيجة سبعين كتابًا في هذا الفن. وأن شيخنا قاضي القضاة علاء الدين بن القضامي رحمه الله يقول: وهو إمام هذا العلم: ما أعلم لبيت أبي بكر بن عبدو، في إضمار الركنين ثانيًا، غير بيت الشيخ صفي الدين الحلي ولو لم يفتح ابن عبدون هذا الباب في بيته، ما حصل للشيخ صفي الدين دخول إلى نظم هذا النوع. انتهى. والكلام على البيتين يأتي بعد تعريف النوع، فالمعنوي المضمر: هو أن يضمر الناظم ركني التجنيس، ويأتي في الظاهر بما يرادف المضمر للدلالة عليه، فإن تعذر المرادف أتى بلفظ فيه كناية لطيفة تدل على المضمر بالمعنى، كقول أبي بكر بن عبدون المشار إليه، وقد اصطبح بخمرة ترك بعضها إلى الليل فصارحت خلا: ألا في سبيل اللهو كأس مدامة ... أتتنا بطعم عهده غير ثابت1 حكت بنت بسطام بن قيس صبيحة ... وأمست كجسم الشنفرى بعد ثابت فبنت يسطام بن قيس كان اسمها الصهباء، والشنفرى قال: اسقنيها يا سواد بن عمرو ... إن جسمي من بعد حالي لخل والخل هو الرقيق المهزول، فظهر من كناية اللفظ الظاهر جناسان مضمران في صهباء وصهباء، وخل وخل، وهما في صدر البيت وعجزه، ومن هنا أخذ الشيخ صفي الدين الحلي وقال: وكل لحظ أتى باسم ابن ذي يزن ... في فتكه بالمعنى أو أبي هرم2 فابن ذي يزن اسمه سيف، وأبو هرم اسمه سنان، فظهر له جناسان مضمران من كنايات الألفاظ الظاهرة، فظهر قول شيخنا، فاقضي القضاة علاء الدين: إن هذا الباب ما فتحه، للشيخ صفي الدين، غير ابن عبدون، وكنت أود أن يكون شيخنا رحمه الله حيًّا ويراني قد عززتهما بثالث وهو: أبا معاذ أخا الخنساء كنت لهم ... يا معنويّ فهدّوني بجورهم أبو معاذ اسمه جبل، وأخو الخنساء اسمه صخر، فظهر له من كنايات الألفاظ

_ 1 عهده: وعده والمعنى لا يثبت على طعم معهود، معروف. 2 فتكه بالمعنى: شدة ضروره بالمغرم.

الظاهرة أيضًا جناسان مضمران في صدر البيت، وهما جبل وجبل، وصخر وصخر، وبالنسبة إلى الجبل في الركن الواحد يحسن قولي: فهدوني بجورهم، وقد أظهرت محاسن هذا الجناس المضمر، وكشفت عن جماله الباهر سطور الأشكال، ليتمتع به صاحب الذوق السليم، فإن فحول المتأخرين وقفوا عن المجاراة في حلبته، ولم يتعلق أحد منهم إلا بأذيال الضرب الثاني، وهو جناس الإشارة، ويأتي الكلام عليه. ومن غريب ما يحكى: أن الشيخ صلاح الدين الصفدي قال في شرح لامية العجم، وفي كتابه السمى بجنان الجناس، لما اعترضه الجناس المعنوي، قال: هذا النوع عندي باطل، ولم يتيسر له منه نظم بيت واحد، مع كثرة تهافته على الجناس وأنواعه. والذي يظهر لي أنه عجز عن نظمه، فإنه قال في غضون ذلك: وقد استخرجت من شعر أبي الطيب المتنبي من الجناس المعنوي، قوله: حاولن تقريبي وخفن مراقبا ... فوضعن أيديهن فوق ترائبا1 وهذا دليل على أنه لم يفهمه: انتهى الكلام على الجناس المعنوي الذي يضمر فيه الركنان وما أخرت بيت الشيخ عز الدين الموصلي، ونثرت نظم الترتيب الذي تقدم إلا لتنحيه عن نظم الجناس المعنوي المضمر الركنين، وميله إلى جناس الإشارة، لسهولة مأخذه، فلم يبق لبيته طاقة على المناظرة، لتحوله عن النوع الذي عارض فيه الشيخ صفي الدين، والظاهر أنه قنع بقول القائل: إذا منعتك أشجار المعالي ... جناها الغض فاقنع بالشميم2 والضرب الثاني من المعنوي، وهو جناس الإشارة والكناية هو غير الأول، وسبب ورود هذا النوع في النظم أن الشاعر يقصد المجانسة في بيته، بين الركنين من الجناس، فلا يوافقه الوزن على إبرازهما فيضمر الواحد، ويعدل بقوته إلى مرادف فيه كناية تدل عى الركن المضمر، فإن لم يتفق له مرادف الركن المضمر يأتي بلفظة فيها كناية لطيفة تدل عليه، وهذا لا يتفق في الكلام المنثور، والذي يدل عليه المرادف قول امرأة من عقيل، وقد أراد قومها الرحيل عن بني ثهلان وتوجه منهم جماعة يحضرون الإبل، وهو: فما مكثنا دام الجمال عليكما ... بثهلان إلا أن تشد الأباعر3

_ 1 ترائبا: جمع مفرده تربية وهي موضع القلادة أي عظام الصدر. 2 جناها: ما يجنى منها من الثمار - الشميم: شم الروائح. 3 الأباعر: جمع مفردها بعير وهو الجمل.

وأرادت أن تجانس، بين الجمال والجمال، فلم يساعدها الوزن ولا القافية، فعدلت إلى مرادفة الجمال بالأباعر، والذي يدل على مضمره اللفظة الظاهرة بالكناية اللطيفة، قول دعبل في امرأته سلمى: إني أحبك حبًّا لو تضمنه ... سملى سميك ذاك الشاهق الراسي1 فالكناية اللطيفة في سميك، لأنها أشعرت أن الركن المضمر في سلمى يظهر منه جناس الإشارة بين الركن الظاهر والمضمر، في سلمى وسلمى الذي هو الجبل، ومثله قول الآخر: وتحت البراقع مقلوبها ... تدب على ورد تلك الخدود2 فكنى عن العقارب بمقلوب البراقع، ولا شك أن بين اللفظ المصرح به والمكنى عنه تجانسًا، ومثله قول الآخر، يهجو مغنيًا ثقيلًا: قال غنيت ثقيلا ... قلت قد غنيت نفسك ومن الكنايات بالمرادف، قول شرف الدين بن الحلاوي، وهو غاية في هذا النوع: وبدت نظائر ثغره في قرطه ... فتشابها متخالفين فأشكلا3 فرأيت تحت البدر سالفة الطلا ... ورأيت فوق الدر مسكرة الطلا4 أراد أن يجانس بين سالفة الطلا وسلافة الطلا، فلم يساعده الوزن، فعدل بقوته إلى المسكرة وهي مرادفة السلافة، وقد تقدم أن الشيخ عز الدين الموصلي لم ينظم من المعنوي إلا هذا الضرب، وهو الذي أوجب تأخير بيته عن المناظرة، وقد تقرر أن الشاعر يريد في هذا النوع إظهار الركنين، فلا يساعده الوزن، فيعدل بحسن تصرفه إلى مرادفه، وأراد الشيخ عز الدين أن يمشي على هذا الطريق فحصل له في الطريق عقلة، فإنه قال: وكافر يضمر الإحسان في عذل ... كظلمة الليل عن ذا المعنوي عمي فالليل يسمى كافرًا وهو الذي يستر الأشياء، وكافر هنا بمعنى ساتر، وهذا هو الركن الذي أضمره عز الدين ورادفه بالظلمة، وكنى بها عنه، فظهر منها جناس الإشارة كافر

_ 1 سلمى: جبل سلمى 2 مقولبها: أي مقلوب البراقع وهو العقارب. 3 القرط: ما تعلقه الفتاة في شحمة الأذن من در أو ذهب أو غيره - أشكلا: التبسا. 4 سالفة الطلا: جانب العنق - مسكرة الطلا: الخمرة.

وكافر، غير أن الوزن ما عصى على عز الدين حتى عدل إلى المرادف، فلو أراد أن يبرز الركنين لكان الوزن داخلًا تحت طاعته إذا قال: وكافر يضمر الإحسان في عذل ... ككافر الليل عن ذا المعنوي عمى ولما وقف مولانا الشيخ شهاب الدين بن حجر على هذا النوع قال: هذا عزيز الوجود: وأنشدني، بعد أيام مولانا السلطان الملك المؤيد هذين البيتين وهما في نوع المضمر المقدم، ذكره غاية، وهما: جمع الصفات الصالحات مليكنا ... فغدا بنصر الحق منه مؤيدا كأبي الأمين برأيه وكجده ... أنى توجه وابن يحيى في الندى1 ومن نظمي، في نوع الإشارة الغريبة، قولي، من جملة قصيد في سكر حماة: وجناس ذاك السكر يحلو للورى ... تحريفه ويروق في تشرين ففي صريح الجناس وتورية التحريف كنايتان لطيفتان، يظهر منهما جناس الإشارة محرفا بين السكر والسكر، والمراد بقولي يروق في تشرين: أن عاصي حماة يروق في هذا الفصل، إلى أن يرى قراره من أعالي شطوطه، وهذه القصيدة كتبت بها من القاهرة المحروسة، في عام ثماني عشرة وثمانمائة، إلى مولانا المقر الأشرف القاضوي الناصري محمد بن البارزي، كاتب دواوين الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية، وقد حل ركابه الكريم بحماة المحروسة، وقالت شطوطها أهلا بعيش أخضر يتجدد، وروي عاصيها بعد نار شوقه الكامل عن المبرد، وعادت إلى عصر الشبيبة وقد شاهدت الملك المؤيد ومطلع القصيدة: خلى التعلل في حمى يبرين ... فهوى حماة هو الذي يبريني2 وأطع ولا تذكر مع العاصي حمى ... ما في وراء النهر ما يرضيني3 أنا سائل والنهر فيها لذلي ... ومع افتقاري نظرة تغنيني والنبت يضطبها بشكل معرب ... لما يزيد الطير في التلحين والغصن يحكي النون في ميلانه ... وخياله في الماء كالتنوين والله ما أنا آيس من قربها ... بالله صدقني وخذ بيميني4

_ 1 الندى: العطاء والكرم. 2 يبرين: اسم بلدة - ويبريني: يضعفني. 3 العاصي: نهر العاصي الذي ينبع من لبنان ويصب في سوريا. 4 آيس: يائس.

فالطرف قد أبقى بقايا أدمع ... وهناك أجبرها برجع أنيني فاحذر ملامي عند فيض مدامعي ... فالدمع دمعي والعيون عيوني قالوا تسلى عن ثمار شطوطها ... فأجبت لا والتين والزيتون يا لائمين على شريعتها لكم ... في ذاك دينكم ولي أنا ديني فلنا على الأعراف من ريحانها ... قصص أتت بتناسخ البشنين1 ويشط شرعا يا لنا كم شرعت ... أعوادها وتثقفت باللين لكن إذا اشتبكت رأيت الظل قد ... ألفته مضطربًا شبيه طعين وخيال ضوء الشمس في تدويره ... يحكي فم الطعنات في التكوين وعيونها كما قال هدب نباتها ... ما للبناني مثل شرح عيوني تلك المعالم والمعاهد بغيتي ... بحماة لا الجيران من جيرون2 كما قال دمع الصب ليتهم على ... تلك الرسوم بفضلهم يجروني يا نازلين حمى حماة نعمتم ... فيها صباحا نوره يهديني قد كنت أنساها برؤيتكم وقد ... صرتم بها فالصبر غير معيني غبتم وهذا محضري لي شاهد ... بالعسر من صبري وبالمضمون وحللتم دار السعادة بالحمى ... فبحقكم بالبعد لا تشقوني ذنبي عظيم لانقطاعي عنكم ... فلأجله في مصر لا تبقوني وتكونت نار اشتياقي في الحشا ... لفساد تكويني فدع تكويني وعجزت ضعفا عن وفا دين اللقا ... فترفقوا بؤادي المرهون فعسى يزول ظلام بعدي عنكم ... وأرى ضياء القرب من شمسين ولرقة فيكم أظن بأنكم ... حنيتم طربا لرجع حنيني هذي غراميات صب ماله ... أرب بتورية ولا تضمين3 لكن إذا ذكروا بديع مدائح ... في البارزي فكل فوق دوني ما القصد فخري إنما أنا عبده ... فالشك أدفعه بحسن يقيني الغصن نسقيه وغصن يراعه ... يسقي الورى لكن أنا ينشيني4

_ 1 البشنين: نبات مائي ينبت عادة في الأنهار والمناقع، وقد وردت في الأصل اليشنين، والأصح ما أوردنا لأننا لم نعثر على لفظة يشنين في ما بين يدينا "الشارح". أعراف: أمواج مفردها عرف وهو أعلاج الموج. 2 جيرون: اسم بلدة. 3 الصب: العاشق المغرم المولع بالشيء - الأرب: الحاجة. 4 اليراع: القلم - ينشبني: يطربني.

فالطرس وهو مطوق بيمنيه ... ينسي السواجع معرب التلحين1 هو كامل في فضله وعلومه ... والله أعطاه كمال الدين حسنت لياليه وأيام له ... فهدى الزمان بطرق وجبين2 يا صاحب البيت الذي عن وصفه ... قد أحجمت شعراء هذا الحين إن جاء نظمي قاصرًا عن وصفه ... عذرًا فهذي نشطة الخمسين ونعم كبرت وبان عجزي إنما ... كانت مسراة اللقاء تصبيني3 وحجبتموني عن حماة وغبتموا ... عني فهذا من فنون جنوني وقعدت عن ديوان شيخ شيوخنا ... في مصر جار عويس والمتيني برهان شوقي قد أقمت دليله ... بسنا نجوت مع ضياء الدين لا زلتم بكمالكم في نعمة ... مقرونة بالنصر والتمكين

_ 1 الطرس: ما يكتب عليه. 2 الطرة: أول الشعر، الغرة. 3 تصيبني: تجعلني أتصرف تصرف الصب.

ذكر الاستطراد

ذكر الاستطراد: واستطردوا خيل صبري عنهم فكبت ... وقصرت كليالينا بوصلهم1 الاستطراد في اللغة، مصدر استطرد الفارس من قرنه في الحرب، وذلك أن يفر من بين يديه يوهمه الانهزام، ثم يعطف عليه على غرة منه، وهو ضرب من المكيدة، وفي الاصطلاح، أن تكون في غرض من أغراض الشعر توهم أنك مستمر فيه، ثم تخرج منه إلى غيره، لمناسبة ينهما، ولابد من التصريح باسم المستطرد به، بشرط أن لا يكون قد تقدم له ذكر، ثم ترجع إلى الأول وتقطع الكلام، فيكون المستطرد به آخر كلامك، وهذا هو الفرق بينه وبين المخلص، فإن الاستطراد يشترط فيه الرجوع إلى الكلام الأول، وقطع الكلام بعد المستطرد به، والأمران معدومان في المخلص، فإنه لا يرجع إلى الأول ولا يقطع الكلام، بل يستمر إلى ما يخلص إليه. وحد صاحب الإيضاح الاستطراد بحد أتى فيه بالغرض، بعد ما بالغ في الإيجاز فإنه قال: الاستطراد هو الانتقال من معنى إلى معنى متصل به، ثم يقصد بذكر الأول التوصل إلى الثاني، ففي قوله متصل به، جل القصد وعدم الاحتياج إلى الكلام الكثير. وذكر الخاتمي في حلية المحاضرة أنه نقل هذه التسمية عن البحتري. وذكر غيره أن البحتري نقلها عن أبي تمام، وقال ابن المعتز: الاستطراد هو الخروج من معنى إلى معنى، وفسره بأن قال: هو أن يكون المتكلم في معنى فيخرج منه بطريق التشبيه، أو الشرط، أو الإخبار، أو غير ذلك، إلى معنى آخر يتضمن مدحًا أو هجوًا، أو وصفًا، وغالب وقوعه في الهجاء، فمنه قوله تعالى في كتابه العزيز: {أَلا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ

_ 1 كبت: عثرت

ثَمُودُ} 1 فذكر ثمود استطراد. وقيل: إن أول شاهد ورد في هذا النوع، وسار مسير الأمثال، قول السموأل: وإنا لقوم لا نرى القتل سبة ... إذا ما رأته عامر وسلول2 فانظر إلى خروجه الداخل في الافتخار إلى الهجو، وحسن عوده إلى ما كان عليه الافتخار بقوله: يقرب حبّ الموت آجالنا لنا ... وتكرهه آجالهم فتطول ومنه قول حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه: إن كنت كاذبة الذي حدثتني ... فنجوت منجى الحرث بن هشام ترك الأحبة أن يقاتل دونهم ... فنجا برأس طِمِرِّهِ ولجام3 فانظر كيف خرج من الغزل إلى هجو الحرث بن هشام، والحرث هو أخو أبي جهل، أسلم يوم الفتح وحسن إسلامه، ومات يوم اليرموك بالشام، ومنه قول البحتري، من قصيدة في وصف فرس: كالهيكل المبني إلا أنه ... في الحسن جاء كصورة في هيكل ملك العيون فإن بدا أعطيته ... نظر المحب إلى الحبيب المقبل ما إن يعاف قذى ولو أوردته ... يومًا خلائق حمدويه الأحول4 ومنه قول أحمد بن يحيى البلاذري يرثي أبا تمام: أمسى حبيب رهن قبر موحش ... لم يدفع الأقدار عنه بكيد لم ينجه لما تناهى عمره ... أدب ولم يسلم بقوة أيد5 قد كنت أرجو أن تنالك رحمة ... لكن أخاف قرابة ابن حميد

_ 1 هود: 11/ 95. 2 سبة: عارًا. 3 الطّمر: هو الفرس الجواد السريع. 4 يعاف: يترك الشيء اشمئزازًا - والقذى: ما يتكون في العين المريضة من رمض وغمص وغيره. 5 الأيّد: المساعد القوي.

ما أحسن ما خرج من الرثاء إلى الهجو، في حميد بن قحطبة، والقرابة التي بينه1 وبين ابن حميد أنهما كانا طائيين، ومنه قول الحسين بن علي القمي: جاورت أجيالًا كأن صخورها ... وجنات نجم ذي الحياء البارد والشوك يفعل في ثيابي مثل ما ... فعل الهجاء بعرض عبد الواحد ومنه قول أبي محمد بن مكدم، وهو غاية في هذا الباب: وليل كوجه البرقعيدي ظلمة ... وبرد أغانيه وطول قرونه2 قطعت فنومي عن جفوني مشرد ... كعقل سليمان بن فهد ودينه بذي أونق فيه اعوجاج كأنه ... أبو جابر في خبطه وجنونه3 إلى أن بدا ضوء الصباح كأنه ... سنا وجه قرواش ونور جبينه فانظر إلى قوة الاستطراد من وصف حاله مع الليل، إلى هجاء الثلاثة ومدح قرواش. ومنه: إذا ما اتقى الله الفتى وأطاعه ... فليس به باس وإن كان من جرم انظر ما أبلغ ما خرج من الوعظ إلى الهجو المؤلم، في قبيلة جرم. ومثله: وشادن بالدلال عاتبني ... وا ميتتي من تدلل العاتب4 فكان ردي عليه من خجل ... أبرد من شعر خالد الكاتب ومنه قول ابن المعتز: ولقد شربت مدامة كرخية ... مع ماجد طلق اليدين حميد5 عليت بماء براد فكأنما ... عليت ببرد قصيدة ابن سعيد ومثله قول بعضهم، يصف خمرًا طبخت حتى راقت وصفت: لم يبق منها وقود الطابخين لها ... إلا كما أبقت الأنواء من داري6

_ 1 التي بين أبي تمام وابن حميد بن قحطبة. 2 البرقعيدي: أحد المغنين. 3 أولُق: جمع مفردها ولق وهو الإسراع في الشيء. 4 الشادن: الغزال. 5 كرخية: نسبة إلى الكرخ المدينة العراقية المشهورة بخمرتها الجيدة - طلق اليدين: كريم. 6 الأنواء: الرياح العاتية.

انظر ما أحلى استطراده، من وصف الخمر إلى وصف داره بالخراب، بألطف كناية. والغريب في هذا الباب الاستطراد من الهجو إلى الهجو، وهو كقول جرير يهجو أم الفرزدق: لها برص بأسفل اسكتيها ... كعنفقة الفرزقد حين شابا1 ومثله قوله: وكأني أقرأ بحرف أبي عمرو ... على القوم سورة الأنعام محنة تصفع ابن عمرو بن يحيى ... في دماغ الأعشى ينعل القطامي ولقد أردت أن أستطرد هنا، إلى ذكر ما وقع لي وللمتأخرين من الاستطرادات الغريبة، فلم أجد أبدع من بيت البديعية، فاكتفين عند قضاة الأدب بحسن آدابه، فإنه أعدل شاهد في هذا الباب، وحبست عنان القلم عن الاستطراد في وصفه، علما أن في إنصاف علماء الأدب، إذا وقفوا عليه، ما يغني عن ذلك. وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته: كأن آناء ليلي في تطاولها ... تسويف كاذب آمالي بقربهم2 الذي يظهر لي أن الشيخ صفي الدين، عبر على الاستطراد، بتقديم أداة التشبيه في أول البيت، وقد تقدم قول صاحب الإيضاح: أن يقصد بذكر الأول التوصل إلى الثاني، وما خرج أحد من الاستطراد، بطريق التشبيه، إلا جعل أداة التشبيه مع المستطرد به، في آخر الكلام، كقول السري الرفاء: لنا روضة بالدار صيغ لزهرها ... قلائد من حلي الندى وشنوف3 يمر بنا فيها إذا ما تبسمت ... نيسم كعقل الخالدي ضعيف

_ 1 البرص: بياض يصيب الجلد لعلة - الأسكتين: لم أعثر على هذه اللفظة فيما بين يدي، والذي أراه أنها: الشفتان لأنها مأخوذة من السكوت والله أعلم. وقد شرحها بعضهم بأنها: شفرا الفرج، وهذا بعيد، العنفقة: ما ينبت من الشعر تحت الشفة السفلى - فيكون المعنى أن أم الفرزدق بها برص تحت شفتيها شبيه بالشعر الذي ينبت تحت الشفة السفلى للفرزدق أثناء مشيبه. 2 آناء: أطراف. 3 شنوف: ما يتشنف به أي يتزين ويتحلى وهي الأقراط.

فأداة التشبيه جاءت هنا في الآخر، مع المستطرد به كما تقرر، ولم يقدم الناظم في أول البيت، ما يتوصل به إلى آخره. اهـ. ومثل هذا الإيراد قول ابن جلنك الحلبي، وهو أظرف ما رأيت في هذا الباب، حكي أنه كتب رقعة إلى بعض الحكام، وقيل: إلى قاضي القضاة، كمال الدين بن الزملكاني، يسأله فيها شيئًا فوقع له بخبز، وأستحيي أن أقول إنه رطلان، فتوجه ابن جلنك يومًا إلى بستان يرتاض فيه، فقيل: إنه لقاضي القضاة المشار إليه، فكتب على حائط البستان: لله بستان حللنا دوحه ... في جنة قد فتحت أبوابها والبان تحسبها سنانيرًا رأت ... قاضي القضاة فنفشت أذنابها1 فاستطراده من وصف البستان، وتشبيه البان التشبيه المخترع، إلى هجو قاضي القضاة، مرقص عند سماعه. وما شك أحد من أهل الأدب أن التشبيه غريب في اختراعه وقيل: إن الشيد بدر الدين بن مالك أملى عليهم كراسة في البديع، وأنا بالأشواق إلى رؤيتها. ومن استطرادات أبي عبد الله محمد بن حجاج البغدادي، في طريقه التي لم ينسج على منوالها غيره، فإن الشيخ جمال الدين بن نباتة قال فيها في خطبة كتابه المسمى بـ"تلطيف المزاج في شعر ابن حجاج": "فإني رأيت نتائج أفكار الشعراء، ذرية بعضها من بعض، وأمم أشعارهم تبعث جميعها في صعيد واحد من الأرض، إلا أشعار الأريب الفريد أبي عبد الله الحسين بن حجاج، فإنها أمة غريبة تبعث وحدها، وذرية عجيبة تبلغ بإتقان اللهو واللعب رشدها، لم يحط خاطر أحد بمثلها خبرًا، ولا استطاع على معارضة شهدها صبرًا"، انتهى قول الشيخ جمال الدين. واستطرده الموعود بذكره "هو" قوله: تفديك أمي وأبي ... وابني وإن كان صبي يا من إليه حينما ... وجدته منقلبي2

_ 1 سنانير: جمع مفرده سنور، وهو حيوان من الفصيلة السنورية، أكبر من الهر وأصغر من الكلب يُصطاد لفروه. 3 منقلبي: رجوعي وعودتي.

يا من مديح غيره ... عندي عزيز المطلب لحية من يشناك في ... حال رضا أو غضب1 من عين من يطلبها ... بالليل في استي تختبي2 وأمه أم الشكو ... ك في استها والريب ذات حر أوسع من ... شارع باب اللعب3 وشعرة غليظة ... ذات نبات أشيب قد شاب منها بعضها ... وبعضها لم يشب نتفت منها طاقة ... بشدة أو تعب فما شككت أنها ... لحية ابن الحلبي ومنها في الاستطرادات الغريبة، لما بلغه أن المهذب يعشق ابن أخيه، وينكر ذلك ويعقد الأيمان عليه بسببه، قوله: جارية مثل شرا ... ع المضرب المطنب4 صعدت من عليها ... بالليل فوق مرقب5 حتى رأيت ابن أخي ... بحضرة المهذب ومثله قوله من قصيدة: حتى متى أفديك يا ستي ... يندف قطن استك دق إستي متى أرى سرمك منهدما ... وخصيتي تنهز من تحتي قالت بهذا الأير واستحقرت ... وكان قد نام على بختي قلت نعم هذا على ما به ... قد ضرط البخت فما أنت هذا إذا قام استوى طوله ... بطوله ساقيك إذا نمت فلو رأيتيه على بيضه ... مثل أبي منصور في الدستِ خريت بالطول على عارضي ... صاحب ديوان أبو بلتِ

_ 1 اللحية: شعر الذقن - بشناك: يشنأك أي يبغضك ومنه قوله تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا} المائدة 5/ 8 أي بغض قوم وكراهيتهم. 2 الإست: موضع خروج الفضلات من جسم الإنسان. 3 الحِر: فرج المرأة. 4 المضرب: الخيمة - المطنب: المشدود بالطنب وهي حبال تشد بها الخيم. 5 مرقب: مكان شددت عليه المراقبة.

يا أيها الأستاذ يا من به ... يمسي كما أملته وقتي خذ بيدي إني في محنة ... زلقت فيها في خرا تحتي وأما قول القاضي الفاضل في هذا الباب، على طريقته الفاضلية، فإنه عجيب وهو: لي عندكم دين ولكن هل له ... من طالب فؤادي المرهون فكأنني ألف ولام في الهوى ... وكأن موعد وصلكم تنوين ومثله قول مسلم بن الوليد: سريت بها حتى تجلت بغرّة ... كغرة يحيى حين يذكر خالد وغاية الغايات في هذا الباب، قول عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم: لنا نفوس لنيل المجد عاشقة ... ولو تسلت أسلناها على الأسل1 لا ينزل المجد إلا في منازلنا ... كالنوم ليس له مأوى سوى المقل انظر إلى البلاغة الهاشمية، كيف جمعت بين حمشة الافتخار وتفخم الحماسة2 وبديع الافتنان وغريب الاستطراد ورقة الانسجام. انتهى الكلام على بيت الشيخ صفي الدين الحلي. وبيت العميان، هو: قد أفصح الضب تصديقًا لبعثته ... إفصاح قس وسمع القوم لم يهم3 وهذا البيت على طريق الشيخ صفي الدين الحلي فإن ناظمه قصد بذكر الأول التوصل إلى الثاني، وبيت الشيخ عز الدين الموصلي هو: يستطرد الشوق خيل الدمع سابقة ... فيفضل السحب فضل العرب للعجم الذي أقوله إن الشيخ عز الدين رحمه الله أحرز قصبات السبق، بما استطرده هنا، على الشيخ صفي الدين وعلى العميان، مع التزامه بتسمية النوع المورى به من أنس الغزل، ومراعاة جانب الرقة نظام الاستطراد على الشرط المذكور، وبيت بديعيتي هو: واستطردوا خيل شوقي عنهم فكبت ... وقصرت كليالينا بوصلهم وهذا البيت غريب، ولا بد لأهل الأدب من تأهيل غريبه. انتهى.

_ 1 الأسل: الرماح. 2 في الأصل: الحاسة وما أثبتناه أصح. 3 يهم: يتوهم.

ذكر الاستعارة

ذكر الاستعارة: وكان غرس التمني يانعا فذوى ... بالاستعارة من نيران هجرهم الاستعارة عندهم أقصى من المجاز، وهي أخص منه، إذ قصد المبالغة شرط في الاستعارة دون المجاز، وموقعها في الأذواق السليمة أبلغ، وليس في أنواع البديع أعجب منها، إذا وقعت في مواقعها، وللناس فيها اختلاف كثير. وأما أصحاب المعاني والبيان فإنهم أطلقوا فيها أعنة أقلامهم، وجالوا بها في ميادين البحوث. وليس الغرض هنا إلا نفس الاستطراد إلى مواقع فيها من المحاسن، نظمًا ونثرًا، بعد تقريبها إلى الأذهان بحدود يزول بها الالتباس. حد الرماني الاستعارة فقال: هي تعليق العبارة على غير ما وضعت له في أصل اللغة، على سبيل النقل. وذكر الخفاجي كلام الرماني وقال: تفسير هذه الجملة قوله عز وجل: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} 1 استعارة، لأن الاشتعال للنار، ولم يوضع في أصل اللغة للشيب، وقلما نقل إليه بأن المعنى، لما اكتسبه من التشبيه، لأن الشيب لما كان يأخذ من الرأس شيئًا فشيئًا، حتى يحيله إلى غير لونه الأول، كان بمنزلة النار التي تسري في الخشب، حتى تحيله إلى غير حالة المتقدمة، فهذا هو نقل العبارة عن الحقيقة في الوضع للبيان. ولا بد أن تكون الاستعارة أبلغ من الحقيقة، لأجل التشبيه العارض فيها، لأن الحقيقة لو قامت مقامها، لكانت ولى بها، ولا يخفى على أهل الذوق أن قوله تعالى.

_ 1 مريم: 4/ 19.

{وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} أبلغ من كثر شيب الرأس، وهو حقيقة، ولا بد للاستعارة من مستعار منه ومستعار ومستعار له، فالنار مستعار منها، والاشتعال مستعار، والشيب مستعار له. انتهى. ومنهم من قال: هي ادعاء معنى الحقيقة في الشيء للمبالغة في التشبيه، وهذا يؤيد قول ابن جني: إن لم تكن الاستعارة للمبالغة، وإلا فهي حقيقة. وكلام ابن جني حسن في موضعه، فإن الشيء إذا أعطي وصف نفسه لم تكن استعارة. وقال ابن المعتز: هي استعارة الكلمة لشيء لم يعرف بها من شيء عرف بها، كقول النبي -صلى الله عليه وسلم: "ضموا مواشيكم حتى تذهب فحمة العشاء"، فاستعار -صلى الله عليه وسلم- للعشاء، لقصد حسن البيان. ومنهم من قال: هي استعارة الشيء المحسوس للشيء المعقول. قال فخر الدين الرازي: هي جعلك الشيء للشيء للمبالغة في التشبيه. وقال ابن أبي الأصبع في "تحرير التحبير" هي نقل اسم الراجح إلى المرجوح، لطلب المبالغة في التشبيه وحسن البيان، فإنك إذا قلت: زيد أسد، فقد نقلت اسم الأسد لزيد، لكن الأسد راجح في الجراءة، وزيد مرجوح، وقد بالغت في تشبيه زيد بالأسد، وأحسنت البيان، انتهى. ولا تحسن الاستعارة إلا إذا كان التشبيه مقررًا، وكلما زاد التشبيه خفاء زادت الاستعارة حسنًا، وما أحسن قول ذي الرمة هنا: أقامت بها حتى ذوي العود في الثرى ... وكف الثريا في ملاءته الفجر1 فاستعار للفجر ملاءة، وأخرج لفظه مخرج التشبيه، وكان أبو عمرو بن العلاء لا يرى أن لأحد مثل هذه الاستعارة، وأحسن الاستعارات ما قرب منها دون ما بعد، وأعظمها، في هذا الباب، قوله تعالى: {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} 2 فإن ظهور الأنوار من المشرق من أشعة الشمس قليلًا قليلًا، بينه وبين إخراج النفس مشابهة شديدة القرب، ومن هذا النور استضاء الحريري، في مقاماته، بقوله: إلى أن عطس أنف الصباح، وقد تقدم أن بُعْدَ الاستعارة يبعد من القلوب، عند أهل الذوق، كقول أبي نواس مع يقظته: بح صوت المال مما ... منك يشكو ويصيح

_ 1 الثريا: مجموعة من النجوم على صورة الثور، واسم النجم علم لها. 2 التكوير 18/ 81.

فأي شيء أبعد استعارة من صوت المال، وكيف يصيح ويبح من الشكوى، ومثله قول بشار: وجدّت رقاب الوصل أسياف هجرنا ... وقدّت لرجل البين نعلين من خدي قال ابن رشيق في العمدة، ما أقبح رجل البين، وأهجن استعارتها، وكذلك رقاب الوصل. ومثله قول ابن المعتز: وهو من أنقد النقاد: كل يو1 يبوب زب السحاب. وأين هذا البعد من قرب استعارة ابن نباتة القديم في قوله: حتى إذا نهر الأباطح والثرى ... نظرت إليه بأعين النوار2 فنظر أعين النوار من أشبه الاستعارات وأليقها وأقربها، لأن النوار يشبه العيون إذا كان مقابلا لمن يمر به، كأنه ناظر إليه، ويعجبني هنا قول القائل، ولم يلحق فيما قاله: مجرة جدول وسماء آس ... وأنجم نرجس وشموس ورد3 ورعد مثالث وسحاب كاس ... وبرق مدامة وضباب ند4 ومن الغايات في هذا الباب قول مجير الدين بن تميم: وليلة بت أسقي في غياهبها ... راحًا تسل شبابي من يد الهرم5 ما زلت أشربها حتى نظرت إلى ... غزالة الصبح ترعى نرجس الظلم6 والذي اتفق عليه علماء البديع، أن الاستعارة المرشحة هي المقدمة في هذا الباب، وليس فوق رتبتها في البديع رتبة، وأعلاها وأغلاها قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} 7 فإن الاستعارة الأولى، وهي لفظ الشراء، رشحت الثانية، وهي لفظ الربح والتجارة، ومن الاستعارات المرشحة قول الإمام

_ 1 هكذا في الأصل، ونظنها: يوم. 2 نَهَرَ: جعل فيها أنهارًا، الأباطح: مفرده أبطح وهو السهل من الأرض، النوار: نوع من الأزهار. 3 مجرة جدول: جدول كأنه المجرة، والمجرة مجموعة كبيرة من النجوم. وسماء آس: أي سماء كأن نجومها أزهار الآس وهو شجر زهره أبيض. 4 رعد مثالث: أي مكرر ثلاث مرات حتى صار مما يعتاد، ند: أي يترك الندى. 5 غياهب: ظلمات مفردها غيهب. 6 غزالة: الصبح: الشمس. 7 البقرة 20/ 16.

علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه-: الدنيا من أمسى فيها على جناح أمن، أصبح فيها على قوادم خوف، فإن الاستعارة الأولى التي هي لفظ الجناح رشحت الثانية وهو لفظ القوادم، مع زيادة المطابقة بين الأمن والخوف، والصباح والمساء، وناهيك بالبلاغة الهاشمية، وباب المدينة1، وما أحلى قول بعض العرب فيها: جعلنا رماحنا أرشية الموت2، فاستقينا بها أرواح العدا ومثله قول الشاعر: سلامة بن نجاح ... يجد حث الراح إذا تغنى زمرنا ... عليه بالأقداح ومثله لابن سكرة، وشتان بين قوله هنا وبين قوله في الكافات: قيل ما أعددت للبر ... د فقد جاء بشده قلت دراعة عري ... تحتها جبة رعده3 والذي ينشأ هنا قول القائل: والشمس لا تشرب خير الندى ... في الروض إلا بكئوس الشقيق ومثله قول ابن رشيق رحمه الله: باكر إلى اللذات واركب لها ... سوابق اللهو ذوات المزاح من قبل أن ترشف شمس الضحى ... ريق الغوادي من ثغور الأقاح وما ألطف قول أبي زكريا المغربي، وقد ترجمه ذو الوزارتين لسان الدين بن الخطيب في تاريخه المسمى بـ"الإحاطة في تاريخ غرناطة"، وهو: نام طفل النبت في حجر النعامى ... لاهتزاز الطل في مهد الخزامى كحل الفجر لهم جفن الدجى ... وغدا في وجنة الصبح لثاما تحسب البدر محيا ثملًا ... قد سقته راحة الصبح مدامًا ويعجبني هنا قول ابن قلاقس: وفي طمي أبراد النسيم خميلة ... بأعطافها نور المنى يتفتح4

_ 1 باب المدينة: هنا إشارة إلى قول النبي محمد -صلى الله عليه وسلم: "أنا مدينة العلم وعلي بابها". 2 أرشية: مفردها رشاء وهو الحبل يعلق به الدلو للاستقاء. 3 دراعة: أو مدرعة وهي ثوب من صوف - الجبة: العباءة. 4 طمي: ما تحمله السيول من الأتربة وغيرها ليستقر في مكان ما.

تضاحك في سر المعاطف عارضًا ... مدامعه في وجنة الروض تسفح وتوري به كف الصبا زند بارق ... شرارته في فحمة الليل تقدح وقال أبو الحسن علي بن ظافر العسقلاني، في كتابه المسمى بـ"بدائع البداية". اجتمعت أنا والقاضي الأعز يومًا في روضة، فقلت له أجز: طار نسيم الروض من وكر الزهر. فقال: وجاء مبلول الجناح بالمطر. وما أبدع قول ابن خفاجة في هذا الباب: وقد نظرت شمس الأصيل إلى الربا ... بأضعف من طرف المريب وافترا وصفرة مسواك الأصيل تروقني ... على لعس من مسقط الشمس أسمرا1 وممن تلطف في استعمال الاستعارة المرشحة إلى الغاية، مجد الدين الأربلي، بقوله: أصغى إلى قول العذور بجملتي ... مستفهمًا عنكم بغير ملال لتلقطي زهرات ورد حديثكم ... من بين شوك ملامة العذال وممن جاراه في هذه الحلبة أبو الوليد بن حيان الشاطبي، بقوله: فوق خد الورد دمع ... من عيون السحب يذرف برداء الشمس أضحى ... بعد ما سال يجفف وظريف قول مجير الدين بن تميم منها: كيف السبيل لأن أقبل خد من ... أهوى وقد نامت عيون الحرس وأصابع المنثور تومي نحونا ... حسدًا وتغمزنا عيون النرجس2 ومثله قوله: لما ادعى المنثور أن الورد لا ... يؤتى وأن يصلى بنار سعير3 ودت ثغور الأقحوان لو أنها ... كانت تعض أصابع المنثور ومثله قوله: كف السبيل للثم من أحببته ... في روضة الزهر فيها معرك ما بين منثور أقام ونرجس ... مع أقحوان فضله لا يدرك هذا يشير بأصبع وعيون ذا ... ترنوا إليّ وثغر هذا يضحك

_ 1 المسواك: ما يستك به، وهو عود يتخذ من شجر الأراك، اللعس: سواد مستحسن في باطن الشفة. 2 المنثور: نبات زهره متعدد الألوان وذو رائحة فواحة وأغصان طويلة نوعًا ما. 3 يُصلى: يحرق - سعير: من أسماء جهنم.

وما أحلى قول محيي الدين بن قرناس الحموي: قد أتينا الرياض حين تجلت ... وتحلت من الندى بجمان ورأينا خواتم الدهر لما ... سقطت من أنام الأغصان. وقال البدري الذهبي وأجاد: هلم يا صاح إلى روضة ... يجلو بها العاني صدا همه1 نسيمها يعثر في ذيله ... وزهرها يضحك في كمه2 ومثله قول ابن عمار: يا ليلة بتنا بها ... في ظل أكناف النعيم من فوق أكمام الرياض ... وتحت أذيال النسيم وأما مطلع قصيدة ابن النبيه، في هذا الباب، فإنه أبهى من مطالع الأقمار، و"ديباجة الاستعارة من حلية تستعار" وهو: تبسم ثغر الزهر عن شنب القطر ... ودب عذاب الظل في وجنة النهر3 وهذا المعنى مولد من قول ابن خفاجة الأندلسي: "وطرة ظل فوق وجه غدير" ولكن ابتسام ثغر الزهر عن شنب القطر، في قول ابن النبيه غاية: وتلطف الشريف العقيلي في هذا الباب بقوله: وروضة الجام فيها ... من زهرة الراح ورد فأشرب على وجه روض ... له من السماء خد وما أحلى قول القاضي، السعيد بن سناء الملك هنا: ولبعدهم طالت ذوائب ليلهم ... فيها تغطي ضوء وجه نهارهم4

_ 1 العاني: المتعب والمهموم. 2 كم الزهر: زره أو الزهر قبل أن يتفتح تجمع على أكمام 3 الشنب: رقة الأسنان وبياضها، العذار: الشعر المتدلي عند جانب الأذن. 4 ذوائب: جمع مفرده ذؤابة وهي خصلة الشعر في مقدم الرأس.

وأحلى منه قوله: سرى طيفه لا بل سرى لي سرابه ... وقد طار من وكر الظلام غرابه أتت مع نفس الليل صفحة خده ... فقلت حبيب قد أتاني كتابه1 وقال من غيرها: بشوك القنا يحمون شهد رضابها2 وما أحلى تكميله بقوله: "ولا بد دون الشهد من إبر النعل". ومثله قوله: ألقى حبائل صيد من ذوائبه ... فصاد قلبي بأشراك من الشعر3 وأحلى منه قوله: خصر أدير عليه معصم قبلة ... فكأن تقبيلي له تعنيق وغاية الغايات قوله: بعثت لي علم فم الطيف قبلة ... فأتاني بعض المسرة جملة ومن الاستعارات الحسنة في هذا الباب، قول شمس الدين بن العفيف، في مديح النبي -صلى الله عليه وسلم- حياك يا تربة الهادي الرسول حيا ... بمنطق الرعد باد من فم السحب وظريف هنا قول ابن قلاقس: هدتنا للسرور نجوم راح ... بها قذفت شياطين الهموم وكف الصبح تلقط ما تبدى ... يجيد الليل من درر النجوم ومن اللطائف، في هذا الباب، قول أبي الحسن العقيلي: لنا أخ يحسن أن يحسنا ... رضاه للجانين عذب الجنى قد عرفت روضة معروفه ... بأنها تنبت زهر الغنى إذا تبدى وجه إحسانه ... تنزهت فيه عيون المنى

_ 1 النقس: المداد. 2 الرضاب: الريق. 3 أشراك: جمع مفرده شرك، وهو ما ينصب للاصطياد من شباك وفخاخ وكمائن إلخ ...

ويعجبني، في الاستعارة المرشحة، قول ابن سعيد الموصلي، من قصيدة يتشوق فيها إلى دمشق المحروسة، فإنه أتى فيها، في بيت واحد، باستعارات كثيرة مع اجتناب الحشو، ومطلق القصيدة قوله: سقى دمشق وأيامًا مضت فيها ... مواطر السحب ساريها وغاديها وبيت الاستعارة بعده: ولا يزال جنين النبت ترضعه ... حوامل المزن في أحشا أراضيها1 ومن أغرب الاستعارات وأبدعها وأحشمها، قول ابن زيدون من قصيدته النونية المشهورة: سران في خاطر الظلماء يكتمنا ... حتى يكاد لسان الصبح يفشينا2 وقد عنَّ لي أن أنثر، في حدائق الاستعارة، نبذة من زهر المنثور، وأورد منه ما يزهو بوروده على روضات الزهور، كقول القائل: وطفقنا نتعاطى شموسًا من أكف بدور، وجسوم نار في غلائل نور، إلى أن ذاب ذهب الأصيل على لجين الماء، وضبت نار الشفق في فحمة الظلماء، ومثله قول علي بن ظافر الحداد، في دوح: انعطفت قدود أشجاره، وابتسمت ثغور أزهاره، وذر كافور مائه على عنبر طينته وامتدت بكاسات الجلنار3 أنامل غصونه. وقال آخر وأجاد: وقد عرق بالندا جبين النسيم، وابتل جناح الهواء، وضربت خيمة الغمام، وأغرورقة مقلة السماء، وقام خطيب الرعد فنبض عرق البرق. ولقد حاز القاضي الفاضل قصبات السبق، في هذا الميدان، بقوله: كتبها المملوك وقد عمشت مقلة السراج، وشابت لمة4 الدواة، وخرس لسان القلم، وكل خاطر السكين، وضاق صدر الورق. وما أحلى قول القاضي محي الدين بن عبد الظاهر: والأغصان قد اخضر نبات عارضها5 ودنانير الأزهار ودراهمها قد تهيأت لتسليم قابضها. وقال جمال الدين بن نباتة: كتبها المملوك ودمع الغيث قد رقا6 ووجه الأرض قد راق،

_ 1 الجنين: المولود في بطن أمه - حوامل: جمع مفرده حامل وهي من النساء الحبلى ومن الغيوم الممطرة - المزن: واحدتها مزنة وهي الغيمة - أحشا: ترخيم أحشاء وهي الجوف. 2 يفشينا: يكشفنا ويظهرنا. 3 الجلنار: زهر الرمان. 4 اللمة: شعر الرأس المجاوز شحمة الأذن. 5 العارض: جانب الوجه. 6 رقا: سكن وجف.

وقدود الأغصان قد راسلت أهواء القلوب بالأوراق، وقيان1 حمائمها قد ترنمنت وجذبت القلوب بالأطواق، والورد قد احمر خده الوسيم، وفكت أزراره من أجياد القضيب أنامل النسيم، وخرجت أكفه من أكمامه لأخذ البيعة على الأزهار بالتقديم. ومما كتبته، في البشارة الصادرة على الملك المؤيد، عند عوده من البلاد الرومية وحلول ركابه الشريف بحلب المحروسة، المتضمنة ما من الله به من الفتح الذي صار له في الروم قصص، سنة عشرين وثمانمائة، فمن ذلك قولي عند حصار قلعة طرسوس وفتحها: ورأوا ألسن السهام في أفواه تلك المرامي، فقالوا رأينا المصائب ناطقة، وما رموا على سماء برج غيوم ستائر إلا لمعت فيها من بوارق نقوطها بارقة، وحكم عليها القضاء بالاعتقال، ولم يأتوا عند ذلك الحكم بدافع، هذا بعدما صفق مقبلهم جماد وجهه فبصقت فيه أفواه المدافع. وقولي في الاستعارة المرشحة أيضًا، عند حصار قلعة دريدة وفتحها: وقررنا صدع سورها باختلاف الآلات، فجاء ما قررناه نقشا على حجر، وادعت أن صخرها أصم، فأسمعناه من آذان المرامي تنقير المدافع وتحريك الوتر، وقرعنا سن جبلها بنابات المداقع2 وكسرنا منه السنية وأمست حلق مراميها كالخواتم في أصابع، سهامنا المستوية. ومثله قولي، عند حصار قلعة كختار وفتحها، على لسان حال القلعة في سموطها وإفراط علوها: فأنا الهيكل الذي ذاب قلب الأصيل على تذهبيه، وود دينار الشمس أن يكون من تعاويذه، والشجرة التي لولا سمو فرعها تفكهت به حبات الثريا وانتظمت في سلك عناقيده، وتشامخ هذا الحصن ورفع أنف جبله وتشامم، فأرمدنا عيون مراميه بدم القوم، وأميال سهامنا على تكحيلها تتزاحم، وغاية الغايات في هذا الباب، قولي عند حصار قلعة كركر: وتنكرت أكراد كركر بسور القلعة فعرفناهم بلامات القسي وألفات السهام، وعطست أنوف مراميها بأصوات مدافعنا وكان بها زكام. ومن حسن ختامها، ولم نخرج عما نحن فيه من بديع الاستعارة، وغريبها، قولي: فلا بكر قلعة إلا افتضينا بكارتها3 بالفتح، وابتذلنا من سترها الحجاب، ولا كأس برج أترعوه بالتحصين، إلا توجنا رأسه من حبات مدافعنا بالحباب. انتهى. ولم أحبس عنان القلم عن الاستطراد إلى ما وقع لي من محاسن الاستعارة نظمًا، إلا للتخفيف عن بيت البديعية، وقلت: تكفيه المزاحة في مناظرة الشيخ صفي الدين

_ 1 جمع مفرده قينة وهي المغنية الحسناء. 2 المدافع: المذلات. 3 البكارة: عذرة الفتاة.

الحلي، ومبارزة الشيخ عز الدين الموصلي رحمه الله، وحمل ثقل العميان، فبيت الشيخ صفي الدين رحمه الله في بديعيته، وهو الشاهد على نوع الاستعارة: إن لم أحث مطايا العزم مثقلة ... من القوافي تؤم المجد عن أمم1 وبيت العميان: يقول صحبي وسفن العيس خائضة ... بحر السراب وعين القيظ لم تنم بيت الشيخ صفي الدين وبيت العميان، لم يحسن السكوت عليهما ولا تتم الفائدة بهما، فإن بيت الشيخ صفي الدين، متعلق بما قبله، وبيت العميان متعلق بما بعده، وبيت الشيخ عز الدين صالح للتجريد وهو: دع المعاصي فشيب الرأس مشتعل ... بالاستعارة من أزواجها العقم2 أقول: ولو بلغت ما عسى أن يكون، أن في قوله: من أزواجها العقم، ما يرعب السامع، وبيت بديعيتي: وكان غرس التمني يانعًا فذوى ... بالاستعارة من نيران هجرهم وقد تقدم أن المقدم، عند علماء البديع، الاستعارة المرشحة، فلفظة غرس رشحت بيانع، وأما قولي: بالاستعارة من نيران هجرهم، بعد ذوي، فما أعده إلا من المنح الإلهامية، فإن اسم النوع الذي هو الاستعارة جمع بين التورية والاستعارة والترشيح، مع عدم الحشو وصحة التركيب والمشي على جادة الرقة والالتزام بتسمية النوع مورى به من جنس الغزل. انتهى.

_ 1 تؤم: تقصد - عن أمم: عن قرب. 2 العقم: عدم الإنجاب.

ذكر الاستخدام

ذكر الاستخدام: واستخدموا العين مني وهي جارية ... وقد سمحت بها أيام عسرهم الاستخدام هو استفعال من الخدمة، وأما في الاصطلاح فقد اختلفت العبارات في ذلك على طريقين: الأولى طريقة صاحب الإيضاح ومن تبعه، ومشى عليها كثير من الناس، وهي أن الاستخدام إطلاق لفظ مشترك بين معنيين، فتريد بذلك اللفظ أحد المعنيين، ثم تعيد عليه ضميرًا تريد به المعنى الآخر، أو تعيد عليه، إن شئت، ضميرين تريد بأحدهما أحد المعنيين وبالآخر المعنى الآخر، وعلى هذه الطريقة مشى أصحاب البديعيات والشيخ صفي الدين الحلي والعميان والشيخ عز الدين، وهلم جرا. الثانية: طريقة الشيخ بدر الدين بن مالك رحمه الله تعالى، في المصباح، وهي أن الاستخدام إطلاق لفظ مشترك بين معنيين، ثم يأتي لفظ يفهم من أحدهما أحد المعنيين، ومن الآخر المعنى الآخر، ثم إن اللفظين قد يكونان متأخرين عن اللفظ المشترك، وقد يكونان متقدمين، وقد يكون اللفظ المشترك متوسطا بينهما، والطريقتان راجعتان إلى مقصود واحد وهو استعمال المعنيين، وهذا هو الفرق بين التورية والاستخدام، فإن المراد من التورية هو أحد المعنيين، وفي الاستخدام كل من المعنيين مراد. ونقل الشيخ صلاح الدين الصفدي، في كتابه المسمى "بفض الختام عن التورية والاستخدام"، ما يؤكد هذا، فإنه قال: المشترك، إذا لزم استعماله في مفهوميه معًا، فهو الاستخدام، وإن لزم في أحد مفهوميه في الظاهر، مع لمح الآخر في الباطن، فهو التورية. ومنهم من قال: الاستخدام عبارة عن أن يأتي المتكلم بلفظة مشتركة بين معنيين اشتراكًا أصليًّا، متوسطة بين قرينتين تستخدم كل قرينة منهما معنى من معنيي تلك اللفظة.

المشتركة، وهذا مذهب ابن ماكل. وعلى كل تقدير، فالطريقتان راجعتان إلى مقصود واحد، وهو استعمال المعنيين، بضمير وغير ضمير، وأعظم الشواهد على طريقة ابن مالك ومن تبعه قوله تعالى: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ، يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} 1 فإن لفظة كتاب يحتمل أن يراد بها الأجل المحتوم والكتاب المكتوب، وقد توسطت بين لفظتي أجل ويمحو فاستخدمت أحد مفهوميها وهو الأمد، بقرينة ذكر الأجل، واستخدمت المفهوم الآخر وهو الكتاب المكتوب، بقرينة يمحو، ومنه قوله2، من القصيدة النباتية: حويت ريقًا نباتيًّا حلا فغدا ... ينظم الدر عقدًا من ثناياك فإن لفظة نباتي تحتمل الاشتراك بالنسبة إلى السكر وإلى ابن نباتة الشاعر، وقد توسطت بين الريق وحلاوته، وبين الدر والنظم والعقد، فاستخدمت أحد مفهوميها وهو السكر النباتي، بذكر الريق والحلاوة، واستخدم المفهوم الآخر، وهو قول الشاعر النباتي يذكر النظم والدر والعقد وليس في جانب من المفهومين إشكال. وأما شاهد الضمائر، على طريق صاحب الإيضاح، فجميع كتب المؤلفين لم يستشهدوا فيها على عود الضمير الواحد إلا بقول القائل: إذا نزل السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا فلفظة السماء يراد بها المطر، وهو أحد المعنيين، والضمير في رعيناه يراد به المعنى الآخر، وهو النبات. وأما شاهد الضميرين، فإنهم لم يخرجوا به عن قول البحتري وهو: فسقى الغضى والساكنيه وإن هم ... شبوه بين جوانحي وضلوعي3 فإن لفظة الغضى محتملة الموضع والشجر، والسقيا صالحة لكل منهما، فلما قال: والساكنيه استعمل أحد معنيي اللفظة، وهو الموضع بدلالة القرينة عليه، ولما قال شبوه استعمل المعنى الآخر وهو الشجر بدلالة القرينة عليه. انتهى. والشيخ صفي الدين رحمه الله لم يستطرد، في شرح بديعيته، إلى غاية ذلك ولكن رأيته، في شرحه، قد أورد على بيت البحتري نقدًا حسنًا ليس فيه تحمل4 ولا إشكال،

_ 1 الرعد: 38/ 13 و39. 2 قوله: قول ابن مالك. 3 الغضى: شجر من الأثل خشبه صلب، وجمره يبقى طويلًا لا ينطفئ وهو علم على نجد لكثرته هناك، شبوه: أشعلوه وأضرموه. 4 تحمل: تحامل وهو الجور في الحكم.

فإنه قال: شرط علماء البديع أن يكون اشتراك لفظة الاستخدام اشتراكًا أصليًّا والنظر هنا في اشتراك لفظة الغضى، فإنه ليس بأصلي، لأن أحد المعنيين منقول من الآخر، والغضى في الحقيقة الشجر وسموا الوادي غضى، لكثرة نبتة فيه، وقالوا جمر الغضى لقوة ناره، فكل منقول من أصل واحد، ولم يرد في كتب المؤلفين غير هذين البيتين، وقول أبي العلاء: قصد الدهر من أبي حمزة الأواب ... مولى حجى وخدن اقتصاد1 وفقيهًا أفكاره شدن للنعمـ ... ـمان ما لم يشده شعر زياد2 فالنعمان يحتمل هنا أبا حنيفة رضي الله عنه، ويحتمل النعمان بن المنذر ملك الحيرة، فإن الزمخشري صنف كتابًا في مناقب أبي حنيفة سماه "شقائق النعمان في حقائق النعمان" وأما أبو العلاء، فإنه أراد بلفظ النعمان أبا حنيفة، وأراد بالضمير المحذوف ابن المنذر ملك الحيرة وزياد هنا هو النابغة، وكان معروفًا بمدح النعمان بن المنذر، وهذا يصح على طريقة ابن مالك، فإن فقيها يخدم أبا حنيفة، وشعر زياد يخدم النعمان بن المنذر، ولا يصح على مذهب صاحب الإيضاح؛ فإن ضمير يشده لم يعد على واحد منهما، لأن شرط الضمير في الاستخدام أن يكون عائدًا على اللفظة المشتركة، ليستخدم بها معناها الآخر، كما قال البحتري في شبوه، فهذا الضمير عائدًا إلى الغضى، وهذا جعل الضمير في يشده غير عائد على اللفظة المشتركة التي هي النعمان، فصار طيب الذكر الذي يشيده زياد لا يعمل لمن هو، لأن المضير لا يعود على النعمان، اللهم إلا أن يكون التقدير، ما لم يشده له، فيعود الضمير على النعمان بهذا التقدير. انتهى. وما أحلى قول بعض المتأخرين، مع عدم التعسف، والسلامة، من النقد، وصحة الاشتراك الأصلي، وهو: وللغزالة شيء من تلفته ... ونورها من ضيا خديه مكتسب وأنا بالأشواق إلى معرفة الناظم، وهذا النوع، أعني الاستخدام، قل من البلغاء من تكلفه وصح معه بشروطه، لصعوبة مسلكه وشدة التباسه بالتورية، وقد تقدم ما أوردنا فيه من النقد على بيتي البحتري وأبي العلاء، وهو أعلى رتبة عند علماء البديع من التورية،

_ 1 الأواب: الذي يرجع عن ذنبه ويتوب سريعًا - الحجى: الذي يوثق به - خدن: خدين تجمع على أخدان: وهم الأصحاب. 2 شذن: من شاد يشيد: يبني.

وأحلى موقعًا في الأذواق السليمة، ولكن قل من ظفر منه بسلامة التخلص من علق النقد، وصعد من غور التعسف إلى نجد السهولة، قال الشيخ صلاح الدين الصفدي في كتابه المسمى بـ"فض الختام عن التورية والاستخدام": ومن أنواع البديع ما هو نادر الوقوع، ملحق بالمستحيل الممنوع، وهو نوع التورية والاستخدام الذي تقف الأفهام حسرى1 دون غايته عند مرامي المرام: نوع يشق على الغبي وجوده ... من أي باب جاء يغدو مقفلا لا يقرع هضبته فارع2، ولا يقرع بابه قارع، إلا من تنحو البلاغة نحوه في الخطاب، ويجري ريحها بأمره رخاء حيث أصاب، على أن المتقدمين ما قصدوه جملة كافية، ولا شعروا به لما شعروا أنه دخل معهم في بيت تحت قفل قافيه، وأما المولدون من الشعراء، كالفرزدق وجرير ومن عاصرهما وخاض معهما لجة بحر البلاغة، فلم يرد أحد منهم ورد هذا الغدير، وأما الذين تفقهوا من بعدهم في الأدب، وتنبهوا لتخلل طرقه بالطلب، فربما قصدوا بعض أنواع البديع، فجادت إذ جاءت، وفاتت مرة أخرى وأخرى فاءت3، وقد قصد أبو تمام كثيرًا من الجناس، وفتح أبوابه، وشرع طرقه للناس. وأما التورية والاستخدام فما تنبه لمحاسنهما، وتيقظ وتحرى وتحرر وتحفد4 وتحفظ إلا من تأخر من الشعراء والكتاب، وتضلع من العلوم وتطلع من كل باب، وأظن أن القاضي الفاضل رحمه الله تعالى هو الذي ذلل منهما الصعاب، وأنزل الناس بهذه الساحات والرحاب، حتى ارتشف هذه السلافة أهل عصره وأصحابه الذين نزلوا ربوع مصره، وخفقت رياحهم بالإخلاص في نصره، كالقاضي السعيد هبة الله بن سناء الملك، ومن انخرط معه في هذا السلك، ولم يزل هو ومن عاصره على هذا المنهج، في ذلك الأوان، ومن جاء بعدهم من التابعين بإحسان، إلى أن جاء بعدهم حلبة أخرى، وزمرة تترى5، فكلهم يرمون في هذا الإحسان عن قوس واحدة، وينفقون من مادة هي في الجود معن بن زائدة، ويصلون المقطوع بالمقطوع فلا تخلو فيه كلمة فائتة من فائدة، وغالب شعرهم على هذا النمط، وأكثره درر أسماع متى تلتق تلتقط، كأبي الحسين

_ 1 حسرى: أصابها العياء والتعب. 2 فارع: مصعد. 3 فاءت: رجعت إلى الصواب. 4 تحقد: أسرع. 5 تترى: تالية.

الجزار والسراج الورّاق والنصير الحمامي والحكيم شمس الدين بن دانيا والقاضي محي الدين بن عبد الظاهر، فهؤلاء هم الفحول الذين جدوا، بعد القاضي الفاضل، إلى هذه الغاية ورفعوا راية هذا النوع، وكان كل منهم عرابة تلك الراية، تسابقوا جيادًا، والديار المصرية لهم حلبة، وتلاحقوا أفرادًا، وهم في شرف هذا الفن من هذه النسبة. وجاء من شعراء الشام جماعة، تأخر عصرهم وتأزر نصرهم ولأن في هذا النوع هصرهم وبعد حصرهم، فيما أرادوه، كما زاد حصرهم كل ناظم تود الشعرى1 لو كانت له شعرًا، ويود الصبح لو كان له طرسًا والغسق مدادًا، والنثرة2 نثرًا، منهم شرف الدين عبد العزيز الأنصاري، شيخ شيوخ حماة، والأمير مجير الدين بن تميم، وبدر الدين يوسف بن لؤلؤ الذهبي، ومحي الدين بن قرناص، وشس الدين بن محمد العفيف، وسيف الدين بن المشد. ثم إن الشيخ صلاح الدين قال في آخر هذا الفصل: وهؤلاء معهم جماعة يحضرني ذكرهم عند شعرهم، ويعز علي أن لم أرهم على تكاثرهم لفوات عصرهم، وكأني بقائل يقول: لقد أفرطت في التعصب، لأهل مصر والشام على من دونهم من الأنام، وهذا باطن باطل، وعدوان وحمية لأنطانك وما جاورها من البلدان، فالجواب: إن الكلام في التورية والاستخدام لا غير، ومن هنا تنطقع المادة في السير، ومن ادعى أنه يأتي بدليل وبرهان، فالمقياس بيننا والشقراء والميدان. وقد رجح صاحب يتيمة الدهر شعراء الشام على شعراء العراق، وقال: إنهم حازوا قصبات السبق عليهم في حلبة السباق، فإنهم قوم جبلت طباعهم على اللطافة، وطبعت جبلتهم على الكيس3 والظرافة. انتهى كلام الشيخ صلاح الدين الصفدي. قلت: واتصل هذا الحديث القديم، بالشيخ جمال الدين بن نباتة، فأينع فرعه النباتي بغصنه ووريقه، واستعبد التورية والاستخدام في سوق رقيه، فمن استخداماته ما أرانا من استخدام البحتري عيب الوليد، وقلنا بعده في استخدام أبي العلاء ليس على الأعمى حرج، فإنه مشى على الحس في ظلمة التعقيد، واستخدام الشيخ جمال الدين الموعود به، قوله فمن قصيدة رائية امتدح بها النبي -صلى الله عليه وسلم: إذا لم تفض عيني العقيق فلا رأت ... منازله بالقرب تبهى وتبهر وإن لم تواصل عادات السفح مقلتي ... فلا عادها عيش بمغناه أخضر4

_ 1 الشعرى: كوكب نير يطلع عند شدة الحر. 2 النثرة: مجموعة من النجوم في صورة السرطان. 3 الكيس: اللباقة في التصرف. 4 السفح: انهمار الدمع.

انظر أيها المتأمل، إلى صحة الاشتراك بين الاستخدامين، وانسجام البيت الأول مع البيت الثاني، وسيلان الرقة لذا القطر النباتي، والتشبيب المرقص بالمنازل الحجازية، والغزل الذي يليق أن تصدر به المدائح النبوية، ولعمري إنه مشى على طريق صاحب الإيضاح فزاده إيضاحًا، ولو دعي إلى عروس الأفراح زاده أفراحا، وهذه القصيدة، التي ظفرت منها بهذين الاستخدامين، محاسنها غرر في جباه القصائد، ولأنواع البديع بها صلة ومن أبياتها عائد، منها: سقى الله أكتف الغضى سائل الحيا ... وإن كنت أسقى أدمعًا تتحدر وعيشًا نضى عنه الزمان بياضه ... وخلفه في الرأس يزهو ويزهر1 تغير ذاك اللون مع من أحبه ... ومن ذا الذي يا عز لا يتغير وكان الصبا ليلا وكنت كحالم ... فوا أسفي والشيب كالصبح يسفر2 يعللني تحت العمامة كتمه ... فيعتاد قلبي حرة حين أحسر3 وينكرني ليلي وما خلت أنه ... إذا وضع المرء العمامة ينكر ومنها: وغيداء أما جفنها فمؤنث ... كليل وأما لحظها فمذكر4 يروقك جمع الحسن في لحظاتها ... على أنه بالجفن جمع مكسر يشف وراء المشرفية خدها ... كماشف من دون الزجاجة مسكر5 خليلي كم روض نزلت فناءه ... وفيه ربيع للنزيل وجعفر6 وفارقتها والطير صافرة بها ... وكم مثلها فارقتها وهي تصفر7 ومنها في وصف الناقة: ورب طموح العزم أدماء جسرة ... يظل بها عزمي على البيد يجسر8 طوت بذراعي وخدها شقة الفلا ... وكف الثريا في دجى الليل يشبر9

_ 1 نضن: خلع ونزع. 2 يسفر: يبدو ويظهر. 3 أحسر: أكشف. 4 كليل: مريض، ومرض الجفون من صفات الجمال عند الحسان. 5 شف: رق حتى بدت الأشياء من خلاله. 6 الجعفر: النهر، وتجمع على جعافر. 7 صافرة: مغردة أو أصابها الصُّفار وهو الجوع - وتصفر: أي خالية من صَفِرَ. 8 الأدماء: السمراء وهي من صفات الناقة - الجسور: القوية - يجسر: يجرؤ. 9 الوجد: نوع من السير، يشير: يقيس بشبره والشبر ما بين طرفي الإبهام والخنصر.

ومدّ جناحي طلها ألف الضحى ... فشدّت كما شد النعام المنفر1 بصم الحصى ترمي الحداة كأنما ... تغار على محبوها حين يذكر2 إذا ما حروف العيس خطت بقفرة ... غدت موضع العنوان والعيس أسطر فلله حرف لا ترام كأنها ... لوشك السرى حرف لدى الشد مضمر وعارض الشيخ جمال الدين بن نباتة جماعة نسجوا على منواله في عصره، لكن الذوق السليم يشهد أنهم كانوا خلاسة قطره3 وهذا الشرح هو جامعهم الكبير، وإذا ذكرت فيه نظائرهم، فاعلم أنه ليس له فيهم نظير. نرجع إلى الاستخدام وشواهده وإيراد أبيات البديعيات فيه، فبيت صفي الدين قوله: من كل أبلج واري الزندي يوم قرى ... مشمر عنه يوم الحرب مصطلم4 وبيت العميان: إن الغضى لست أنسى أهله فهم ... شلوه بين ضلوعي يوم بينهم5 أقول لو عاش البحتري ما صبر للعميان على هذه السرقة الفاحشة، فإنهم أخذوا لفظه ومعناه، وضميره وما اختشوا من الحرب، ولا سلموا من النقد. وبيت عز الدين: والعين قرت بهم لما بها سمحوا ... واستخدموها من الأعدا فلم تنم قوله: والعين قرت بهم لما بها سمحوا، في غاية الحسن، فإنه أتى بالاستخدام وعود الضمير في شطر البيت، مع الانسجام والرقة واستخدامه في العين الناظرة وعين المال، وأما قوله في الشطر الثاني: واستخدموها من الأعدا فلم تنم، ما أعلم ما المراد به، فإنه الاستخدام في العين، التي هي الجارحة، قد تقدم، والذي يظهر لي أن اضطراره إلى تسمية النوع ألجأه إلى ذلك، وبيت بديعيتي: واستخدموا العين مني فهي جارية ... وكم سمحت بها أيام عسرهم فالتورية في جارية بعدما استخدموها، لم يوجد في سوق الرقيق مثلها، والعود بالضمير مع تمكن القافية وعدم التكلف والحشو، لا يخفى على أهل الذوق السليم، فإن قافية مصطلم، في بيت صفي الدين تمجه الأذواق. انتهى الكلام على الاستخدام

_ 1 مد جناحي ظلها ألف الضحى: أي أصابها الحر. 2 الحداة: جمع مفرده الحادي وهو الذي يحدو الإبل في سيرها يحثها على الإسراع. 3 خلاسة قطره: أي أخذوا منه من خلص وهي أخذ خِلسة وخفية. 4 الأبلج: الذي بَعُدَ ما بين حاجبيه، دلالة على عزيمته، وارى الزندي: هكذا في الأصل. والذي نراه واري الزند: معلم الزند - القِرى: الإطعام وقت الحاجة، مصطلم: أي مقطع الأذنين. 5 شلوه: أرسلوه، وقد وردت هذه في بيت البحتري السابق: شبوه بمعنى: أشعلوه وأضرموه.

ذكر الهزل الذي يراد به الجد

ذكر الهزل الذي يراد به الجد: والبين هازلني بالجد حين رأى ... دمعي وقال تبرد أنت بالديم قال صاحب التلخيص: ومنه، يعني فن البديع، الهزل الذي يراد به الجد: كقوله: إذاما تميمي أتاك مفاخرًا ... فقل عد عن ذا كيف أكلك للضب1 ولم يزد على ذلك شيئًا. والهزل الذي يراد به الجد هو أن يقصد المتكلم مدح إنسان أو ذمه، فيخرج من ذلك المقصد مخرج الهزل والمجون اللائق بالحال، كما فعل أصحاب النوادر، ومثل أشعب وأبي دلامة وأبي العيناء ومزيد، ومن سلك مسلكهم، كما حكي عن أشعب أنه حضر وليمة بعض ولاة المدينة، وكان رجلًا بخيلًا، فدعى الناس ثلاثة أيام وهو يجمعهم على مائدة فيها جدي مشوي، فيحوم الناس حوله ولا يمسه أحد منهم، لعلمهم ببخله، وأشعب كان يحضر مع الناس ويرى الجدي، فقال في اليوم الثالث: زوجته طالق إن لم يكن عمر هذا الجدي، بعد أن ذبح وشوى، أطول من عمره قبل ذلك. ومن شواهد الهزل الذي يراد به الجد ما أنشده ابن المعتز، من قول أبي العتاهية: أرقيك أرقيك بسم الله أرقيكا ... من بخل نفسك على الله يشفيكا2 ما سلم كفك إلا من يناولها ... ولا عدوك إلى من يرجيكا

_ 1 عد: كف - الضب: حيوان شبيه بالحرذون. 2 على: هكذا وردت في الأصل ونظنها من تحريف النساخ والأصح: علّ: أي لعلّ.

والفاتح لهذا الباب، امرؤ القيس، وقوله أبلغ ما سمع فيه وألطف، وهو: وقد علمت سلمى وإن كان بعلها ... بأن الفتى يهذي وليس بفعال1 قال زكي الدين بن أبي الأصبع: ما رأيت أحسن من قوله، ملتفتًا: وإن كان بعلها. انتهى. وهذا النوع، أعني الهزل الذي يراد به الجد، ما سبكه في قوالبه إلا من لطفت ذاته، وكان له ملكة في هذا الفن وحسن تصرف. ومن أظرف ما وقع في هذا الباب، أنه حصل لي، بالديار المصرية، جَرَبٌ2 أشرفت منه على التلف، فوصف لي الحيكم بطيخًا، وهو عزيز الوجود في تلك الأيام، فبلغني أنه أُهدى إلى مولانا، المقر الأشرف القاضوي الناصري محمد بن البارزي، صاحب دواوين الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية، عظم الله تعالى شأنه، بطيخ، فكتبت إليه: مولاي عاقبني الزمان بجربة ... وقد انقطعت بجسمي المسلوخ3 وعميت من حزني على ما تم لي ... لكن شممت روائح البطيخ فالكناية على طلب البطيخ، سبكت في أحسن قوالب الهزل، مع حسن التضمين، ومثله قولي: جاء الشتاء فرأسي ... والجسم صارا شماته بطيلسان ابن حرب ... وفروة ابن نباتة4 ففي طيلسان ابن حرب وفروة ابن نباتة، مع ما فيهما من الهزل الظاهر، كنايتان عن الفقر الذي تزايد حده، وطيلسان ابن حرب معروف لشهرته، وأما فروة ابن نباتة ففيها إشارة إلى قوله: زرقة جسمي وبياض ثلجها ... سنجابي الأبلق في فصل الشتا5

_ 1 البعل: الزوج - يهذي: يتكلم دون أن يقصد بكلامه شيئًا. 2 الجرب: دواء معروف يصيب الجلد. 3 جربة: واحدة الجرب. 4 الطيلسان: نوع من اللباس الفارسي المزركش الأخضر وهو لباس العلماء. 5 سنجابي: ثوبي ذي اللون السنجابي، والسنجاب: حيوان لونه أزرق تشوبه، غبره، أكبر من الجرذ وأصغر من الهر - الأبلق: المختلف الألوان.

ومثله قولي: وصاحب تسمح لي نفسه ... بغدوة لكن إذا ما انتشا يضحك سنّي للغدا عنده ... لكنني أقلع ضرسي للعشا فيه على الهزل الذي يراد به الجد، زيادة تلطف الاستدراك ومراعاة النظير، وكان هذا الصاحب، تغمده الله برحمته ورضوانه، من أعز الأصحاب عليّ، ولكن التصريح باسمه غير ممكن هنا، وبين الهزل الذي يراد به الجد وبين التهكم فرق لطيف، وهو أن التهكم ظاهره جد وباطنه هزل، وهذا النوع بالعكس. وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بدعيته: أشبعت نفسك من ذمي فهاضك ما ... تلقى وأكثر موت الناس بالتخم1 فقوله: وأكثر موت الناس بالتخم، كناية يهزلون بها على من يفرط في أكل شيء ويخص به نفسه. وبيت العميان: قل للصباح إذا ما لاح نورهم ... إن كان عندك هذا النور فابتسم لم أر في بيت العميان "هذا" هزلًا يراد به الجد، والله أعلم. وبيت الشيخ عز الدين الموصلي: هزل أريد به جد عتابك لي ... كما كتمت بياض الشيب بالكتم2 الشيخ عز لدين، غفر الله له، حكى هنا حكاية لم يسعني الكلام عليها، لئلا يطول الشرح. وبيت بديعيتي: والبين هازلني بالجد حين رأى ... دمعي وقال تبرد أنت بالديم انظر أيها المتأمل هنا، بنور الله تعالى، فإن الهزل الذي يراه به الجد أنا ملتزم تسميته، وقد استوعب شطر البيت، وانظر كيف أفرغت هذا النوع الغريب في أحسن القوالب وأغرب المعاني، فن الدمع تزايد انهماله، إلى أن صار كالديم الهاطلة، والبين يغبطني بذلك مهازلا، ويقول لي: تبرد أنت بهذا الديم.

_ 1 هاضك: احمقك من هاضاه إذا استحمقه 2 الكتم: شجر قريب من الآس له ثمر يشبه الفلفل الأسود، كان يستعمل في الخضاب أي صباغ الشعر.

ذكر المقابلة

ذكر المقابلة: قابلتهم بالرضا والسلم منشرحا ... ولوا غضابًا فيا حربي لغيظهم المقابلة أدخلها جماعة في المطابقة، وهو غير صحيح، فإن المقابلة أعم من المطابقة، وهي التنظير1 بين شيئين فأكثر، وبين ما يخالف وما يوافق، فبقولنا: وما يوافق، صارت المقابلة أعم من المطابقة، فإن التنظير بين ما يوافق ليس بمطابقة، وهذا مذهب زكي الدين بن أبي الأصبع، فإنه قال: صحة المقابلات عبارة عن توخي المتكلم بين الكلام على ما ينبغي، فإذا أتى بأشياء في صدر كلامه أتى بأضدادها في عجزه، على الترتيب، بحيث يقابل الأول بالأول، والثاني بالثاني لا يحرم من ذلك شيئًا، في المخالف والموافق، ومتى أخل بالترتيب كانت المقابلة فاسدة، وقد تكون المقابلة بغير الأضداد، والفرق بين المطابقة والمقابلة من وجهين: أحدهما، أن المطابقة لا تكون إلا بالجمع بين ضدين، والمقابلة تكون غالبا بجمع بين أربعة أضداد: ضدان في صدر الكلام، وضدان في عجزه، وتبلغ إلى الجمع بين عشرة أضداد: خمسة في الصدر وخمسة في العجز. والثاني أن المطابقة لا تكون إلا بالأضداد، والمقابلة بالأضداد وغير الأضداد، ولكن بالأضداد أعلا رتبة وأعظم موقعا. ومن معجزات هذا الباب قوله عز وجل: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} 2 فانظر إلى مجيء الليل والنهار في صدر الكلام، وهما ضدان، ثم قابلهما، في عجز الكلام، بضدين وهما السكون والحركة، على التريب، ثم عبر عن الحركة بلفظ الأرداف، فالتزم الكلام ضربًا من

_ 1 التنظير: التشبيه. 2 القصص: 73/ 28.

المحاسن زائدًا على المقابلة، فإنه عدل عن لفظ الحركة إلى لفظ ابتغاء الفضل، لكون الحركة تكون لمصلحة ولمفسدة، وابتغاء الفضل حركة المصلحة دون المفسدة، وهي تشير إلى الإعانة بالقوة، وحسن الاختيار الدال على رجاحة العقل وسلامة الحس، وإضافة الطرف إلى تلك الحركة المخصوصة واقعة فيه، ليهتدي المتحرك إلى بلوغ المآرب، ويتقي أسباب المهالك، والآية الشريفة سيقت للاعتداد بالنعم، فوجب العدول عن لفظ الحركة إلى لفظ هو ردفه، ليتم حسن البيان، فتضمنت هذه الكلمات التي هي بعض آية عدة من المنافع والمصالح، التي لو عددت بألفاظها الموضوعة لها لاحتاجت في العبارة عنها إلى ألفاظ كثيرة فحصل في هذا الكلام، بهذا السبب، عدة ضروب من المحاسن. ألا تراه سبحانه وتعالى كيف جعل العلة في وجود الليل والنهار، حصول منافع الإنسان، حيث قال: {لِتَسْكُنُوا} و {لِتَبْتَغُوا} ، بلام التعليل، فجمعت هذه الكلمات من أنواع البديع: المقابلة، والتعليل، والإشارة والإرداف، وائتلاف اللفظ مع المعنى، وحسن البيان، وحسن النسق، فلذلك جاء الكلام متلائمًا آخذًا بعضه بأعناق بعض، ثم أخبرنا بالخبر الصادق: إن جميع ماعدده من النعم باللفظ الخاص، وما تضمنته العبارة من النعم التي تلزم من لفظ الأرداف، بعض رحمته، حيث قال بحرف التبعيض: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ} . وهذا كله في بعض آية عدتها عشر كلمات، فالحظ هذه البلاغة الباهرة والفصاحة الظاهرة. انتهى. ومن أمثلة صحة المقابلة في السنة الشريفة، قول النبي -صلى الله عليه وسلم: "ما كان الرفق في شيء لا زانه، ولا كان الخرق1 في شيء إلا شانه" فانظر كيف قابل الرفق بالخرق والزين بالشين بأحسن ترتيب وأتم مناسبة. وهذا الباب في مقابلة اثنين باثنين، ومنه قوله تعالى: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا} 2 ومنه قول النبي -صلى الله عليه وسلم: "إن لله عبادًا جعلهم مفاتيح الخير، مغاليق الشر" ومنه وهو ظريف في مقابلة اثنين باثنين، أن المنصور قال لمحمد بن عمران: إنك لبخيل. فقال: يا أمير المؤمنين، لا أحمد في حق، ولا أذم في باطل. ومنه في النظم قول النابغة: فتى كان فيه ما يسر صديقه ... على أن فيه ما يسوء الأعاديا وقول الحلي: ورنح الرقص منه عطفا ... خف به اللطف والدخول فعطفه داخل خفيف ... وردفه خارج ثقيل

_ 1 الخرق: الحمق والتسرّع. 2 التوبة: 82/ 9.

وأخبرني مولانا، قاضي القضاة الشافعي نور الدين، الحاكم بحماة المحروسة، المشهور بخطيب الدهشة: أنه كان بحماة يهودي يطوف بالحناء والصابون على رأسه، ويقول: معي حناء أخضر جديد، وصابون يابس عتيق. وأما مقابلة ثلاثة بثلاثة فقيل: إن المنصور سأل أبا دلامة، عن أشعر بيت في المقابلة فأنشده: ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا ... وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل فالشاعر قابل بين أحسن وأقبح، وبين الدين والكفر، والدنيا والإفلاس. قال ابن أبي الأصبع: إنه لم يقل قبله مثله. ومن قابلة أربعة بأربع، قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى، وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} 1 المقابلة بين قوله واستغنى وقوله واتقى، لأن معناه زهد فيما عنده واستغنى بشهوات الدنيا عن نعيم الآخرة، وذلك يتضمن عدم التقوى، ومن مقابلة أربعة بأربعة قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه، في وصيته عند الموت: هذا ما أوصى به أبو بكر، عند آخر عهده بالدنيا خارجًا منها، وأول عده بالآخرة داخلًا فيها، فقابل أولا بآخر، والدنيا بالآخرة، وخارجًا بداخل، ومنها بفيها، فانظر إلى ضيق هذا المقام كيف صدر عنه مثل هذا الكلام. قال علماء البديع: كلما كثر عددها كانت أبلغ، فمن مقابلة خمسة بخمسة قول أمير المؤمنين علي، كرم الله وجهه، لعثمان بن عفان رضي الله عنهما: إن الحق ثقيل مري2 والباطل خفيف وبيّ3 وأنت رجل إذا صدقت سخطت، وإن كذبت رضيت. وأوردوا لأبي الطيب، في مقابلة خمسة بخمسة: أزورهم وسواد الليل يشفع لي ... وأنثني وبياض الصبح يغري بي قال صاحب الإيضاح ضد الليل المحض هو النهار لا الصبح، والمقابلة الخامسة، بين بي ولي، فيها نظر، لأن الباء واللام صلتا الفعلين، ورجح بيت أبي دلامة

_ 1 الليل: 92/ 5-10. 2 مري: يسهل بلعه. 3 وبي: من الوباء وهو المرض.

المتقدم1، على بيت أبي الطيب، بجودة المقابلة، ولكن القافية مستدعاة، فإن الذي ذكره مختص بالرجل وبغيره، والمعنى قد تم بدون الرجل، قال زكي الدين بن أبي الأصبع: لو كان، لما اضطر إلى القافية، أفاد بها معنى زائدًا، بحيث يقول: بالبشر، لكان البيت نادرًا. وعلى كل تقدير، بيت أبي دلامة أفضل من بيت المتنبي، لصحة المقابلة، لأنه قابل الأضداد، والمتنبي بغير الأضداد، والمقابلة بالأضداد أفضل، وهو مذهب السكاكي، فإنه قال: المقابلة أن تجمع بين شيئين متوافقين فأكثر، ثم إذا شرطت هناك شيئًا شرطت هناك2 ضده. انتهى. وبيت المتنبي أفضل، بالكثرة، عند غير السكاكي، وإن المقابلة عنده لا تصح إلا بالأضداد، وأسلم من بيت أبي الطيب، في التركيب، ما أورده الصاحب شرف الدين مستوفي أربل: على رأس عبد تاج عز يزينه ... وفي رجل حر قيد ذل يشينه وبيت صفي الدين الحلي: كان الرضا بدنوي من خواطرهم ... فصار سخطي لبعدي عن جوارهم فقابل الرضا بالسخط، والدنو بالبعد، ولفظة من بِعن، فإذا قلنا: إن من ضد عن، سلم له أربعة بأربعة، وخواطرهم بجوارهم، على مذهب من يرى أن المقابلة تجوز بالأضداد وبغيرها، وبيت العميان: بواطئ فوق خد الصبح مشتهر ... وطائر تحت ذل الليل مكتتم بيت العميان أمكن من بيت صفي الدين في المقابلة، لأنهم قابلوا واطئًا بطائر، لأن الواطئ هو الماشي على الأرض والطائر السائر في الهواء، وفوق بتحت، وخد بذيل، لما بينهما من معنى العلو والسفل، والصبح بالليل، ومشتهر بمكتتم، وانظر لفظة مشتهر مع مكتتم، وهي القافية التي أمكن منها، ولفظة خواطرهم ومقابلتها بجوارهم، في بيت صفي الدين وما بينهما من المباينة، غير أن ثقل قولهم: بواطئ، يشق حمله على لطيف الذوق وبيت الشيخ عز الدين: ليل الشباب وحسن الوصل قابله ... صبح المشيب وقبح الهجر وا ندمي

_ 1 هو قوله: ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل 2 هناك: هكذا وردت في الأصل والأصح هنا ويقصد: إذا شرط هناك أي في المتوافقين فأكثر، شرطت هنا أي في الأضداد، ضده.

قابل بين ليل وصبح، وشباب ومشيب، وحسن وقبح، والوصل والهجر، وهي مقابلة صحيحة بين الأضداد، وأتى بلفظة قابله اضطرارًا لتسمية النوع، وأما قوله: وا ندمي، فقافية مستدعاة أجنبية من المقابلة، فإنه لم يؤهلها لمقابلة ضد ولا لغيره، بل تركها بمنزلة الأجانب وبيت بديعيتي: قابلتهم بالرضا والسلم منشرحًا ... ولّو غضابًا فيا حَرْبي لغيظهم قد تقرر أن الشيخ عز الدين لم يأت بلفظة قابلة، في بيته إلا اضطرارا لتسمية النوع، فإنه لم يقابلها بشيء، فانظر كيف أتيت بلفظ قابلتهم في أول البيت، وقابلتها، في الشطر الآخر، بلفظة ولوا، ومقابلة بقية الأضداد من الرضا والغضب والسلم والحرب ظاهرة. وتميكن القافية بغيظهم ومقابلتها بالانشراح أظهر، فإن القافية إذا كانت ممكنة، وهي جارية في عداد1 المقابلات، كانت من أعلى رتب هذا النوع، كما تقدم في بيت المتنبي وبيت أبي دلامة. وقافية العميان منتظمة في هذا العقد، بخلاف بيت صفي الدين وبيت عز الدين. انتهى.

_ 1 في الأصل في عدد وما أثبتناه أصح وأدق تعبيرًا.

ذكر الالتفات

ذكر الالتفات: وما أروني التفاتًا عند نفرتهم ... وأنت يا ظبي أدرى بالتفاتهم فسر قدامة الالتفات بأن قال: هو أن يكون المتكلم آخذًا في معنى، فيعترضه إما شك فيه، أو ظن أن رادًا يرده عليه، أو سائلًا يسأله عن سببه، فيلتفت إليه بعد فراغه منه، فإما أن يجلي الشك، أو يؤكده، أو يذكر سببه، كقول الرماح بن ميادة: فلا صرمه يبدو وفي اليأس راحة ... ولا وصله يصفو لنا فنكارمه1 فكأن الشاعر توهم أن قائلًا يقول له: وما تصنع بصرمه؟ فقال: لأن في اليأس راحلة. وأما ابن المعتز فقال: الالتفات انصراف المتكلم عن الإخبار إلى المخاطبة ومثاله في الكتاب، قوله تعالى: بعد الإخبار بأن الحمد لله رب العالمين: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 2 وكقوله تعالى: {إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} 3 وكقوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ} 4 ومثال ذلك من الشعر قول جرير: متى كان الخيا بذي طلوح ... سقيت الغيث أيتها الخيام

_ 1 صرمه: هجره. 2 الفاتحة: 1/ 5. 3 الأحزاب: 33/ 50. 4 الأنعام: 6/ 6.

وانصراف المتكلم عن الخطاب إلى الأخبار، وهو عكس الأول، كقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} 1 ومثاله أيضًا قول عنترة: ولقد نزلت فلا تظني غيره ... مني بمنزلة المحب المكرم ثم قال يخبر عن هذه المخاطبة: كيف المزار وقد تربع أهلنا ... بعنيزتين وأهلها بالغيلم2 أو انصراف المتكلم عن الإخبار إلى التكلم، كقوله تعالى: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ} 3 أو انصراف المتكلم عن التكلم إلى الإخبار، وهو كقوله تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ، وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} 4 والقراءة في الكلمات الثلاث بالنون شاذة، نقلها صاحب "البحر الزاخر" وفي هذا الكتاب سبعة آلاف رواية. وقد جمع امرؤ القيس الالتفاتات الثلاث في ثلاثة أبيات متواليات وهي قوله: تطاول ليلك بالأثمد ... ونام الخليُّ ولم ترقد وبات وباتت له ليلة ... كليلة ذي العائر الأرمد5 وذلك من نبإ جاءني ... وخبرته عن أبي الأسود فخاطب في بيته الأول، وانصرف عن الخطاب إلى الإخبار في البيت الثاني، وانصرف عن الإخبار إلى التكلم في البيت الثالث على الترتيب. وما أحلى قول مهيار بن مرزويه، في قصيدته التي سارت بمحاسنها الركبان، وامتدح بها الوزير زعيم الدين في يوم نوروز سنة ثمان وعشرين وأربعمائة، والمطلع هو: بكر العارض تحدوه النعامى ... فسقاك الراي يا دار أماما6

_ 1 يونس: 22/ 10 2 بعنيزتين والغيلم: موضعين بعيدين عن بعضهما كثيرًا. 3 فاطر: 9/ 35 4 هذه الآية غير موجودة في القرآن الكريم، لأنها كما ذكر الكاتب من القراءات الشاذة. وهي مثبتة بالياء في: إبراهيم 19/ 14 و20 وفي؛ فاطر: 16/ 35 و17. 5 العائر الأرمد: الذي في عينه عوار ورمد. 6 العارض: المطر - النُّعامى: ريح الجنوب وهي في الجزيرة من أندى الرياح وأرطبها.

فانصرف عن الإخبار إلى المخاطبة في بيت واحد، ومثله في اللطف قول القاضي الأرجاني: وهل هي إلا مهجة يطلبونها ... فإن أرضت الأحباب فهي لهم فدى إذا رمتمُ قتلي وأنتم أحبتي ... فماذا الذي أخشى إذا كنتم عدى ومثله قول أبي الطيب: لولا مفارقة الأحباب ما وجدت ... لها المنايا إلى أرواحنا سبلا بما بجفنيك من سحر صلى دنفا ... يهوى الحياة وأما إن صددت فلا1 ومثله قول أبي العلاء: يود أن ظلام الليل دام له ... وزيد فيه سواد القلب والبصر لو اختصرتم من الإحسان زرتكم ... والعذب يهجر للإفراط في الخصر2 ومن لطائف الالتفات: بالانصراف من الخطاب إلى الإخبار، قول ابن نبيه: من سحر عينيك الأمان الأمان ... قتلت رب السيف والطيلسان أسمر كالرمح له مقلة ... لو لم تكن كحلاء كانت سنان فقوله عن المقلة، بعد تشبيه القوام بالرمح، أنها لو لم تكن كحلاء كانت سنان، بديع وغريب. ومن أغرب ما وقع لي، في هذا النوع اللطيف، أنني صرحت باسم الالتفات عند وقوعه بقولي، من قصيدة قلت فيها: والله إن لم ألقهم من بعد ذا ... فعلى زماني لم أزل متعتبا وقد التفت إليك يا دهري بطو ... ل تعتبي ويحق لي أن أعتبا قررت لي طول الشتات وظيفة ... وجعلت دمعي في الخدود مرتبا واتفق لي أيضا نظير ذلك، في رسالة كتبت بها إلى العلامة بدر الدين بن قاضي أذرعات رحمه الله، منها: سكن القلب. وغير بدع إذا كان القلب للبدر منزلًا، ورام هلال الأفق أن يباهي سموه بمطلعه، فقلنا: ما أنت من براعة هذا الاستهلال، ولا تطاول الرامح إلى الطعن في محله الذي يجل قدرًا عن مناظر ومباهي، فقلنا له أقصر مكتفيًا وإلا

_ 1 الدنف: المرض الشديد. 2 الخصر: البرودة المؤلمة.

فعند التناهي، ولقد شوقتني ظباء المعالي، في هذا المسرح، إلى الالتفات، فقلت ملتفتا إلى تلك الليالي المقمرة بنوره، وقطوف الفواكه البدرية دانيات: أيا بدر سما أفق المعالي ... وأوقع طائرًا من كل نسر ذكرت لياليًا بك قد نقضت ... فيا شوقي إلى ليلات بدر وأما بيت القصيدة، أعني البديعية، فإنه البيت الذي حظيت من بابه بالفتح، وناداه الغير من وراء حجراته، وتغاير ظباء الصريم وهو في سرب بديعه على حسن التفاته، وودت ربوع البديعيات أن يسكن منها في بيت، ولكن {رَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ} 1 ولقد أنصف الحريري، في المقامة الحلوانية عند إيراد البيت الجامع لمشبهات الثغر بقوله: يا رواة القريض وأساة القول المريض، إن خلاصة الجور تظهر بالسبك، ويد الحق تصدع رداء الشك، وها أنا قد عرضت خبيئتي للاختبار، وعرضت حقيبتي على الاعتبار، وقلت وأنا ماش في عرض بيت بديعيتي على هذا السنن، وأرجو أن يكون بحسن التفاته في مرآة الذوق، مثل الغزال نظرة ولفتة: وسأبرزه بين أقرانه، وإذا انسدلت غدائر الأشكال ظهر الفرق من نور بيانه، فبيت الشيخ صفي الدين: وعاذل رام بالتعنيف يرشدني ... عدمت رشدك هل أسمعت ذا صمم ولم ينظم العميان في بديعيتهم، هذا النوع وأما بيت عز الدين: وما التفت لساع حج في شغف ... ما أنت للركل من وجدي بملتزم2 وبيت بديعيتي: وما أروني التفاتًا عند نفرتهم ... وأنت يا ظبي أدرى بالتفاتهم فهذا البيت فيه التورية بتسمية النوع، وقد برزت في أحسن قوالبها ومراعاة النظير، في الملائمة بين الالتفات والظبي، والنفرة والانسجام الذي أخذ بمجامع القلوب رقة، والتمكين الذي ما تمكنت قافية باستقراراها في بيت، كتمكين قافيته والسهولة التي عدها التيفاشي، في باب الظرافة، وناهيك بظرافة هذا البيت، والتوشيح وهو الذي يكون معنى أول الكلام دالا على آخره، ورد العجز على الصدر والالتفات، الذي هو المقصود دون غيره من الأنواع، فقد اشتمل هذا البيت على ثمانية أنواع من البديع، مع عدم التكلف، والله تعالى أعلم.

_ 1 يوسف: 23/ 12 2 الساعي: في الحج الذي يهرول بين الصفا والمروة - والركن: هو ركن مسجد النبي في الحجاز.

ذكر الافتنان

ذكر الافتنان: تغزلي وافتناني في شمائلهم ... أضحى رثا لاصطباري بعد بعدهم1 الافتنان هو أن يفتن الشاعر فيأتي بفنين متضادين من فنون الشعر، في بيت واحد فأكثر، مثل النسيب والحماسة، والمديح والهجاء، والهناء والعزاء، فأما ما افتن به الشاعر من النسيب والحماسة، كقول عنترة: إن تغدقي دوني القناع فإنني ... طب بأخذ الفارس المستلئم2 فأول البيت نسيب، وآخره حماسة، وكقول أبي دلف، ويروى لعبد الله بن ظاهر: أحبك يا ظلوم وأنت مني ... مكان الروح من جسد الجبان ولو أني أقول مكان روحي ... خشيت عليك بادرة الطعان3 ومما جمع فيه بين التهنئة والتعزية، قوله تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} 4 ومما جمع فيه بين التعزية والفخر، قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} 5 ومن إنشاء العلامة الشهاب محمود ما كتب به، من رسالة تهنئة وتعزية، لمن رزقه الله تعالى ولدًا ذكرًا في يوم، وماتت له بنت قوله:

_ 1 رثا: ترخيم رثاء. 2 تغدقي: تسدلي وترخي - طب: عالم - المستلئم: الذي لبس لأمة الحرب وهي عدتها. 3 الطعان: الضرب بالرماح في الحروب. 4 مريم: 72/ 19. 5 الرحمن 27/ 55.

ولا عتب على الدهر فيما اقترف إن كان قد ساء فيما مضى فقد أحسن الخلف. واعتذر بما وهب عما سلب، فعفا الله عما سلف. ومما جمع فيه من النظم بين التهنئة والتعزية، قول بعض الشعراء ليزيد بن معاوية لما دفن أباه وجلس للتعزية: اصبر يزيد فقد فارقت ذا ثقة ... واشكر حباء الذي بالملك أصفاكا1 لا رزء أصبح في الإسلام نعلمه ... كما رزئت ولا عقبى كعقباكا2 وقال زكي الدين بن أبي الأصبع: أحسن شعر افتن فيه صاحبه، بالجمع بين التعزية والتهنئة، قول أبي نواس للعباس بن الفضل بن الربيع، يعزيه بالرشيد ويهنيه بالأمين، حيث قال: تعز أبا العباس عن خير هالك ... بأكرم حي كان أو هو كائن حوادث أيام تدور صروفها ... لهن مساو مرة ومحاسن وفي الحي بالميت الذي غيب الثرى ... فلا أنت مغبون ولا الموت غابن3 ولعمري، إن جمال الدين بن نباتة رحمه الله قال، في تعزية الملك المؤيد صاحب حماة وتهنئة ولده الأفضل بالسلطة بعد أبيه، ما هو أحسن من قول أبي نواس الذي استحسنه ابن أبي الأصبع، وقول من تقدمه. وإن تأخر ابن تباتة فقد تقدم بنباتة، فإنه استطرب في قصيدة مطولة بالجمع بين التهنئة والتعزية إلى آخرها وأتى بمعان منها سلامة الاختراع، والذي يؤدي إليه اجتهاد ذوقي، إن هذه القصيدة من العجائب في هذا النوع، وأوردت مطلعها في براعة الاستهلال، لكن تعين إيراده هنا لندخل منه إلى بيوت القصيدة المشتملة على هذا النوع، ليتأيد ما أشرت إليه من غرابة أسلوبها، وهو قوله رحمه الله تعالى: هناء محا ذاك العزاء المقدما ... فما عبس المحزون حتى تبسما ثغور ابتسام في ثغور مدامع ... شبيهان لا يمتاز ذو السبق منهما نردّ مجاري الدمع والبشر واضح ... كوابل غيث في ضحى الشم قد همى4 سقى الغيث عنا تربة الملك الذي ... عهدنا سجاياه أعزّ وأكرما

_ 1 حباء: تفضيل في العطاء. 2 رزء: مصيبة. 3 المغبون: الذي لا يعطى حقه. 4 همى: هطل.

ودامت يد النعمى على الملك الذي ... تدانت به الدنيا وعز به الحمى مليكان هذا قد هوى لضريحه ... برغمي وهذا للأسرة قد سما وروضة أصل شاذويّ تكافأت ... فغصن ذوي منها وآخر قد نما1 فقدنا لأعناق البرية مالكًا ... وسمنا لأنواع الجميل متمما2 كأن ديار الملك غاب إذا انقضى ... به ضيغم أنشأ به الدهر ضيغما3 كأن عماد الدين غير مقوض ... وقد قمت يا أزكى الأنام وأحزما فإن يك من أيوب نجم قد انقضى ... فقد أطلعت أوصافك الغر أنجما وإن تك أيام المؤيد قد مضت ... فقد جددت علياك وقتا وموسما هو الغيث ولى بالثناء مشيعا ... وأبقاك بحرًا بالمواهب منعما وكانت وفاة الملك المؤيد في شهر المحرم، فقال ولم يخرج عما نحن فيه: بك انبسطت فينا التهاني وأنشأت ... ربيع الهنا حتى نسينا المحرما والجمع بين التهنئة والتعزية، في نوع الافتتان، أصعب مسلكًا من الجمع بين النسب والحماسة، لشدة التناقض بينهما. ومن أظرف ما رأيت في هذا النوع: أن ابن حجاج جمع في الافتتان بين التعزية والمدح المؤدي إلى التهكم، بقوله في تعزية بعض الرؤساء بأبيه، في بيت واحد وهو: أبوك قد جمل أهل الثرى ... فجمل الله به المقبره وأما الغزل المخمس فكثير في نظم الفحول وغيرهم، وما أحلى قول مهيار الديلمي، في بيت واحد: وأتعب من حاولت يا قلب وصله ... حبيب سنان السمهري رقيبه4 وممن أتحف الأذواق بحلاوة هذا النوع، وجمع فيه بين النسيب والحماسة القاضي الأرجاني رحمه الله تعالى، في قوله: نزل الأحبة ساحة الأعداء ... فغدا لقاء منهم بلقاء

_ 1 شاذوي: نسبة إلى الشذاء، وهو الطيب، ذوي: ذبل ويبس. 2 مالك ومتمم: ابنا نويرة وكانا من سادات العرب ومتمم شاعر. 3 الضيغم: السد الواسع الشدق. 4 السمهري: رجل تنسب إليه صناعة الرماح.

وما أحلى ما قال بعده: كم طعنة نجلاء تعرض بالحمى ... من دون نظرة مقلة نجلاء1 فتحدثا سرًّا فحول قبابها ... سمر الرماح يلمن للإصغاء من كل باكية دمًا من دونها ... يوم الطعان بمقلة زرقاء يا دمية من دون رفع سجوفها ... خوض القنا بالخيل بحر دماء2 لو ساعد الأحباب قلت تجلدًا ... أهون علي بملتقى الأعداء ومثله قول أبي الطيب، في بيت، وكل من النصفين كامل في معناه: عدوية بدوية من دنها ... سلب النفوس ونار حرب توقد3 وممن تفنن في هذا النوع وجمع بين رقة النسيب وفخامة الحماسة إبراهيم بن محمد الأنصاري الساحلي المنبوز بطويحن، جرى ذكره في التاج بما نصه: جواب الآفاق ومحالف الرفاق، رفع له ببلده راية للأدب لا تحجم، وأصبح نسيج وحده فيما سدى وألحم، فإن نسب صار للنسيب شرف ونسب، وإن مدح قدح من أنوار فطنته ما قدح، كما حرك الجامد، ونظم الجمان في سلوك المحامد، فمن قوله في الافتتان الذي جمع فيه بين الحماسة والتشبب: خطرت كمياد القنا المتأطر ... ورنت بألحاظ الغزال الأعفر4 وأتتك بين تطاعن وتداعب ... في فتك قسورة وعطفة جؤذر5 وما أبدع قوله منها: وبملعب الصدغين مطرود جنة ... زحفت عليه كتائب ابن المنذر6 وله ولم يخرج عما نحن فيه: زارت وفي كل مرمى لحظ محترس ... وحول كل كناس كف مفترس7

_ 1 نجلاء: واسعة. 2 سجوف: مفردها سجف وهو الستر. 3 عدوية: نسبة إلى قبيلة عدية. 4 المياد: المتمايل. 5 قسورة: لبوة أنثى الأسد - جؤذر: البقرة الوحشية المطفل وهي مشهورة بنظرتها العطوفة وعينيها الواسعتين. 6 في الأصل: مطرد وجنة: وما أثبتناه أصح ومعناه: الشيطان. 7 الكناس: بيت الظبي.

وما أحلى ما قال بعده: مهما تلا خدها الزاهي نطقت ... سيوف آماقها عن آية الحرس ويعجبني قول أبي الفتوح بن قلاقس: عقدوا الشعور معقاد التيجان ... وتقلدوا بصوارم الأجفان ومشوا وقد هزوا رماح قدودهم ... هزة الكماة عوالي المران1 وتدرعوا زردًا فخلت أراقما ... خلعت ملابسها على الغزلان2 وممن افتن في قصيدة كاملة وتفنن، وخلص من تفخيم الحماسة والفخر إلى رقة الغزل وأحسن، القاضي السعيد هبة الله بن سناء الملك رحمه الله، فإنه قسم القصدة شطرين، وتلاعب في ميدان البلاغة بالفنين، وهذه القصيدة تقف دونها فرسان الحماسة، ويكبو الجواد من فحولها، وينثني من لطائف غزلها من لعبت بلطف شمائله خمر لطف شمولها، وهي: سواي يخاف الدهر أو يرهب الردى ... وغيري يهوى أن يكون مخلدا ولكنني لا أرهب الدهر إن سطا ... ولا أحذر الموت الزؤام إذا عدا3 ولو مد نحوي حادث الدهر طرفه ... لحدثن نفسي أن أمد له يدا توقد عزم يترك الماء جمرة ... وحلية حلم تترك السيف مبردا وفرط احتقار للأنام فإنني ... أرى كل عار من حلا سؤددي سدى4 وأظمأ أن أبدي إلى الماء منة ... ولو كان لي نهر المجرة موردا ولو كان إدراك الهدى بتذلل ... رأيت الهدى أن لا أميل إلى الهدى وقدمًا بغيري أصبح الدهر أشيبا ... وبي بل بفضلي أصبح الدهر أمردا5 وإنك عبدي يا زمان وإنني ... على الكره مني أن أرى لك سيدا وما أنا راض أنني واطئ الثرى ... ولي همة لا ترتضي الأفق مقعدا ولو علمت زهر النجوم مكانتي ... لخرت جميعًا نحو وجهي سجدا وبذل نوالي زاد حتى لقد غدا ... من الغيظ منه ساكن البحر مزبدا

_ 1 المرّان: الرماح اللدنة في صلاة، واحدتها مرّانة. 2 الأراقم: مفردها أرقم وهي الحية التي فيها سواد وبياض وهي أخبث الحيات. 3 الزؤام: الكريه السريع. 4 سدى: لا معنى ولا قيمة له. 5 الأمرد: من لا لحية له.

ولي قلم في أنملي إن هززته ... فما ضرني أن لا أهز المهندا1 إذا جال فوق الطرس وقع صريره ... فإن صليل المشرفي له صدا والمخلص من الحماسة والفخر إلى الغزل قوله: ومن كل شيء قد صحوت سوى هوىً ... أقام عذولي بالملام وأقعدا إذا وصلُ مَنْ أهواه لم يك مسعدي ... فليت عذولي كان بالصمت مسعدا بحب حبيب من يكون مفندًا ... فيا ليتني كنت العذول المفندا2 وقال لقد آنست نارًا بخده ... فقلت وإني ما وجدت بها هدى وكم لي إلى دار الحبيب التفاتة ... تذكرني عهدًا قديمًا ومعهدا ولم أُدم ذاك الخد باللحظ إنما ... عملت خلوقًا حين أبصرت مسجدا يراقب طرفي أن يلوح هلالها ... فقد طالما قد قام حين تعبدا عبرت عليها واعتبرت تجلدي ... فيا حسرتي لما اعتبرت التجلدا كأن بطرفي ما بقلبي صبابة ... فلم ير تلك الدار إلا تقيدا وكم لجوادي وقفة في عراصها ... تعوّد منها جيده ما تعوّدا3 تعود ذاك الجيد مني أنني ... أصيره من در عيني ملقدا ويا رب ليل بت فيه وبيننا ... عناق أعاد العقد عقدًا مبددا ولم أجعل الكف الشمال وسادة ... فبات على كفي اليمين موسدا وجردته من ثوبه وأعدته ... بثوب عفافي كاسيًا متجردا وقربني حتى طربت إلى النوى ... وأوردني حتى صديت إلى الصدا4 شهدت بأن الشهد والمسك ريقه ... وما كنت لو لم أختبره لأشهدا5 وأن السلاف البابلية لحظة ... وإلا سلوا إنسانه كيف عربدا وممن حذا هذا الحذو، ونسج على هذا المنوال، ومشى فيه على طريق ما سلكها أحد قبله، الصاحب بهاء الدين زهير، فإنه كتب إلى كمال الدين بن العديم أبياتًا معناها،

_ 1 أنملي: مفردها أنملة وهي طرف الأصبع، المهند: السيف. 2 مفندًا: كاذبًا. 3 عِراصها: جمع مفرده عرصة. وعرصة الدار ساحته وفناؤه. 4 صديت: عطشت وتشوقت، الصدا والصدى: رجع الصدى. 5 الشهد: جني النحل.

أنه انتخبه لقضاء حاجة له ولم يؤهل غيره لها، وتخلص منها إلى الغزل بما تستجلي منه عرائس البيان، ويظهر به الافتنان وهي: دعوتك لما أن بدت لي حاجة ... وقلت رئيس مثله قد تفضلا لعلك للفضل الذي أنت ربه ... تغار فلا ترضى بأن تتبدلا1 إذا لم يكن إلا تحمل مِنَّة ... فمنك وأما من سواك فلا ولا2 حملت زمانًا عنكم كل كلفة ... وخففت حتى آن لي أن أثقلا ومن مذهبي المشهور مذ كنت أنني ... لغير حبيب قط لن أتذللا وقد عشت دهرًا ما شكوت لحادث ... بلى كنت أشكو الأغيد المتدللا3 وما هِمت إلا للصبابة والهوى ... ولا خفت إلا سطوة الهجر والقلا4 أروح وأخلاقي تذوب حلاوة ... وأغدو وأعطافي تسيل تغرلا5 وقد طال الشرح، ولكن رأيت الافتنان نوعًا غريبًا، فطلبت بالكثرة زيادة إيضاحه، ليستضيء المتأمل في ظلمات الأشكار بنور مصباحه. وبيت الشيخ صفي الدين: ما كنت قبل ظبا الألحاظ قط أرى ... سيفًا أراق دمي إلا على قدم كان المطلوب من الشيخ صفي الدين، في هذا النوع، غير هذا النظم مع عدم تكلفه بتسمية النوع، وأما العميان فإنهم لم ينظموا هذا أيضًا في بديعيتهم، وبيت الشيخ عز الدين: كان افتناني بثغر راق مبسمه ... صار افتناني بثغر فيه سفك دمي وبيت بديعيتي: تغزلي وافتناني في شمائلهم ... أضحى رثا لاصطباري بعد بعدهم والجمع في افتنان هذا البيت، بين النسيب الخالص والتعزية، وكل من الشطرين مستقل بمعناه، هو جمع غريب، والكناية عن موت الصبر بأن التغزل أضحى رثاء له من ألطف الكنايات، ويؤيد ذلك قولي: بعد بعدهم.

_ 1 ربه: صاحبه - تغار: من الغيرة. 2 منة: جميل. 3 الأغيد: الذي يتمايل في مشيته ويتلوى. 4 القلا: الكره والبغض مع الهجر. 5 الأعطاف: مفردها عطف وهو من كل شيء جانبه، تغرُّلا: استرخاء وليونة.

ذكر ابن أبي الأصبع، في كتابه المسمى "بتحرير التحبير" نوعًا يسمى التمريج لم ينظمه أصحاب البديعيات، وهو قريب من الافتنان ولكن بينهما فرق دقيق، لأن الافتنان لا يكون إلا بالجمع بين فنين من أغراض المتكلم، كما تقدم، والتمريج يخالف ذلك وهو الجمع بين الفنون والمعاني، والله تعالى أعلم.

ذكر الاستدراك

ذكر الاستدراك: قالوا نرى لك لحمًا بعد فرقتنا ... فقلت مستدركًا لكن على وضم1 الاستدراك على قسمين: قسم يتقدم الاستدراك فيه تقرير لما أخبر به المتكلم وتوكيد، وقسم لا يتقدمه ذلك، فمن أمثلة الأول قول القائل: وإخوان تخذتهم دروعًا ... فكانوها ولكن وخلتهم سهامًا صائبات ... فكانوها ولكن في وقالوا قد صفت منا قلوب ... لقد صدقوا ولكن من ودِادي2 وقال ابن أبي الصبع: لم أسمع، في هذا الباب، أحسن من قول ابن دويدة المغربي يخاطب رجلًا أودع بعض القضاة مالًا، فادعى القاضي ضياعه، وهو: إن قال قد ضاعت فيصدق أنها ... ضاعت ولكن منك يعني لو تعي أو قال قد وقعت فيصدق أنها ... وقعت ولكن منه أحسن موقع وممن تلطف في هذا الباب وأجاد للغاية القاضي الأرجاني، بقوله: غالطتني إذ كست جسمي ضنا ... كسوة أعرت من اللحم العظاما ثم قالت أنت عندي في الهوى ... مثل عيني صدقت لكن سقاما3

_ 1 لحمًا: وصلًا، واللحم المعروف، الوضم: خشبة اللحام التي يقطع عليها اللحم. أي لحمًا مقطعًا. 2 الوداد: الحب الصادق. 3 السقام: المرض والضعف.

ولقد أحسن القائل في شكوى الزمان، بقوله: ولي فرس من نسل أعوج سابق ... ولكن على قدر الشعير يحمحم1 وأقسم ما قصرت فيم يزيدني ... علوًّا ولكن عند من أتقدم وهذه كلها شواهد القسم الأول من الاستدراك. وأما شواهد القسم الثاني، وهو الذي لا يتقدم الاستدراك فيه تقرير ولا توكيد، مثل قول زهير: أخو ثقة لا يهلك الخمر ماله ... ولكنه قد يهلك المال نائله2 ومتى لم يكن في الاستدراك نكتة زائدة عن معنى الاستدراك، لتدخله في أنواع البديع، وإلا فلا يعد بديعًا، ولا يخفى على الذوق السليم ما في بيت زهير من الزيادة على معنى الاستدراك، بقوله: ولكنه قد يهلك المال نائله. فإنه لو اقتصر على صدر البيت دل على أن ماله موفور، وتلك صفة ذم3، فاستدرك ما يزيل هذا الاحتمال ويخلص الكلام للمدح المحض. وإذا تأمل الذائق بيت الأرجاني، متع ذوقه بحلاوة الأدب من قوله: ثم قالت أنت عندي في الهوى ... مثل عيني صدقت لكن سقاما فالنكتة الزائدة على معنى الاستدراك لا تخفى إلا على من حجب عن ذوق هذا العلم، وهو من شواهد القسم الأول فإنه قرر ما أخبرت به من قولها أنت عندي في الهوى مثل عيني، ثم أكد بقوله: صدقت، ثم نكت بالزيادة على معنى الاستدراك، التنكيت الذي يتطفل على النسيم على رقته، ولولاه ما سكن هذا النوع بيتًا بديعيًّا، ولا تأهل بعد غربته. وأصحاب البديعيات على هذا المنوال نسجوا، وأداروا كئوس السلافة على أهل الأذواق، ومازجوها بلطف مزاجهم فامتزجوا. والذي أقوله: إن الشيخ صفي الدين حلا في هذا المنهل الصافي مورده، وعلا في هذا السلك البديعي منظمه ومنضده وبيته: رجوت أن يرجعوا يومًا وقد رجعوا ... عند العتاب ولكن عن وفا ذممي فإنه قرر ما أخبر به قبل الاستدراك، وأكده بقوله: وقد رجعوا، وفي قوله: عند العتاب، تكميل بديعي.

_ 1 الحمحمة: ما يصدر عن الخيل من أصوات وقت المعارك. 2 نائله: عطائه، وكرمه. 3 وتلك صفة ذم: يقصد أنه يحتمل أن تكون صفة ذم لما قد تعني من البخل.

وأما العميان فإنهم ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت عز الدين. فكم حميت بالاستدراك ذا أسف ... لكن عن المشتهى والبرء من سقمي أما هذا البيت، فإنه عامر بقلق البناء مع عقادة التركيب وبيت بديعيتي: قالوا نرى لك لحما بعد فرقتنا ... فقلت مستدركا لكن على وضم وفي إنصاف أهل العلم والذوق السليم ما يغني عن التطويل، في محاسن هذا البيت.

ذكر الطي والنشر

ذكر الطي والنشر: والطي والنشر والتغيير مع قصر ... للظهر والعظم والأحوال والهمم الطي والنشر هو أن تذكر شيئين فصاعدًا، إما تفصيلًا فتنص على كل واحد منهما، وإما إجمالًا فتأتي بلفظ واحد يشتمل على متعدد، وتفوض إلى العقل ردّ كل واحد إلى ما يليق به، لا أنك تحتاج أن تنصل على ذلك ثم إن المذكور على التفصيل قسمان: قسم يرجع إلى المذكور، بعده على التريب من غير الأضداد، لتخرج المقابلة، فيكون الأول للأول، والثاني للثاني، وهذا هو الأكثر في اللفظ والنشر والأشهر، وقسم على العكس، وهو الذي لا يشترط فيه الترتيب، ثقة بأن السامع يرد كل شيء إلى موضعه، تقدم أو تأخر. أما المذكور على الإجمال فهو قسم واحد، لا يتبين في ترتيب، ولا يمكن عكسه، ومثله أن يقول: لي منه ثلاثة: بدر وغصين وظبي. فحصل من هذا أن اللف والنشر على ثلاثة أقسام، وإذا كان المفصل المرتب في اللف والنشر هو المقدم، نبدأ بشواهده. فمنه بين شيئين قوله تعالى: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} 1 فالسكون راجع إلى الليل، والابتغاء راجع إلى النهار. ومنه قول الشاعر: ألست أنت الذي من ورد نعمته ... وورد راحته أجني وأغترف

_ 1 القصص: 28/ 73.

وقد جمع هذا البيت، مع حشمة الألفاظ، بين جناس التحريف والاستعارة واللف والنشر. وما ألطف قول شمس الدين محمد بن دانيال الحكيم: ما عاينت عيناي في عطلتي ... أقل من حظي ومن بختي قد بعت عبدي وحماري وقد ... أصبحت لا فوقي ولا تحتي1 ومن غراميات البهاء زهير: ولي فيك قلب بالغرام مقيد ... له خبر يرويه طرفي مطلقًا ومن فرط وجدي في لماه وثغره ... أعلل قلبي بالعذيب وبالنقا2 ومثله قوله: يا ردفه يا خصره ... من لي بنجد أو تهامه3 ومثله قول ابن نباتة: له قلب ولي دمع عليه ... فهذا قاسيون وذا يزيد4 ومثله قوله مع زيادة التورية: لا تخف عيلة ولا تخش فقرًا ... يا كثير المحاسن المختاله لك عين وقامة في البرايا ... تلك غزالة وذِي فتاله5 ومثله قوله مع زيادة التورية: سألته عن قومه فانثى ... يعجب من إسراف دمعيَ السخي وأبصر المسك وبدر الدجى ... فقال ذا خالي وهذا أخي لابن حيوس بين ثلاثة وثلاثة: ومقرطق يغني النديم بوجهه ... عن كاسه الملأى وعن إبريقه6 فعل المدام ولونها ومذاقها ... من مقلتيه ووجنتيه وريقه

_ 1 لا فوقي ولا تحتي: مثل يضرب من شدة الفقر. 2 العذيب: والنقاء: مكانين في الصحراء، وقصد أهل العذيب والنقا. 3 الردف: المؤخرة والعجز. 4 قاسيون: جبل بالقرب من دمشق. 5 غزالة: شمس، فتالة: ثمرة العرفط وهو شجر طيب الرائحة. 6 المقرطق: لابس القرطق هو لباس إيراني.

ومثله قول ابن الرومي: آراؤكم ووجوهكم وسيوفكم ... في الحادثات إذا دجون نجوم1 منها معالم للهدى ومصابح ... تجلو الدجى والأخريات رجوم2 ومثله قول حميدة الأندلسية وهو: ولما أبى الواشون إلا فراقنا ... وما لهم عندي وعندك من ثار غزوناهم من ناظريك وأدمعي ... وأنفاسنا بالسيف والسيل والنار قال الشيخ شهاب الدين أبو جعفر الأندلسي، نزيل حلب، وقد أورد هذين البيتين في شرحه على بديعية صاحبه، أبي عبد الله محمد بن جابر الأندلسي: إن حميدة كانت من ذوي الألباب، وفحول أهل الآداب، حتى إن بعض المنتحلين تعلق بهذه الأهداب، وادعى نظم هذين البيتين، لما فيهما من المعاني والألفاظ العذاب، وما غيره في ذلك إلا بعد ديارها، وخلو هذه البلاد من أخبارها، وقد تلبس بعضهم بشعارها وادعى هذا من أشعارها وهو قولها: وقانا لفحة الرمضاء روض ... وقاه مضاعف الطل العميم3 تظل غصونه تحنو علينا ... حنو الوالدات على الفطيم وأسقانا على ظمإ زلالًا ... ألذ من المدامة للنديم تروع حصاه حالية الغواني ... فتلمس جانب العقد النظيم فهذه الأبيات نسبوها إلى المنازي من شعرائهم، وركبوا التعصب من جادة ادعائهم، وهي أبيات لم يحكها غير لسانها، ولا رقم بردها4 غير حسانها، وقد رأيت بعض المؤرخين من أهل بلادنا أثبتوها لها، قبل أن يخرج المنازي من العدم إلى الوجود، ويتصف بلفظه الموجود. انتهى كلام الشيخ شهاب الدين المذكور. ومنه، بين ثلاثة وثلاثة، قول الشيخ جمال الدين بن نباتة، رحمه الله تعالى وعفا عنه آمين. عرج على حرم المحبوب منتصبًا ... لقبلة الحسن وأعذرني على سهري

_ 1 دجى: اشتدت ظلمته 2 رجوم: ما يرى من الشهب التي يقال إن الله يرجم بها الشياطين عند محاولتهم التنصت إلى ما يدور في العرش. 3 الرمضاء: شدة الحر. 4 رقم بردها: وشى وزخرف ثوبها.

وانظر إلى الخال فوق الخد تحت لمى ... تجد بلالًا يراعي الصبح في السحر1 ومنه بين أربعة وأربعة: ثغر وخد ونهد واحمرار يد ... كالطلع والورد والرمان والبلح2 ومثله قول شمس الدين بن العفيف، رحمه الله تعالى: رأى جسدي، والدمع والقلب والحشا ... فأضنى وأفنى واستمال وتيما ومثه قولي في قصيدة: من محياه والدلال ومسك الـ ... خال والثغر يا شيوخ البديع انظر في التكميل واللف والنشـ ... ـر وحسن الختام والترصيع وللشيخ شهاب الدين، أبي جعفر الشارح، المذكور بين خمسة وخمسة، ولكن لم يخل من التعسف، وهو: ملك يجيء بخمسة من خمسة ... كفى الحسود بها فمات لما به من وجهه ووقاره وجواره ... وحسامه بيديه يوم ضرابه3 قمر على رضوى تسير ب الصبا ... والبرق يلمع من خلال سحابه4 ولابن جابر ناظم البديعية، بين ستة وستة: إن شئت ظبيًا أو هلالًا أو دجى ... أو زهر غصن في الكثيب الأملد5 فللحظها ولوجهها ولشعرها ... ولخدها والقد والردف أقصد صبرنا على الأملد صفة الكثيب، ولكن لم نصبر على دخول القصد، فغنها زيادة أجنبية. وقد جمع قاضي القضاة نجم الدين عبد الرحيم بن البارزي، بين سبعة وسبعة: يقطع بالسكين بطيخة ضحى ... على طبق في مجلس لأصاحبه كبدر ببرق صد شمسًا أهلة ... لدى هالة في الأفق بين كواكبه

_ 1 السحر: أضفناها وقد كانت مطموسة غير معروفة ونظنها هي. 2 قوله: والبلح في بعض النسخ والوهج، والبلح تناسب المعنى والروي أيضًا. 3 الحسام: السيف. 4 رضوى: جبل في الحجاز، الصبا: ريح الشمال. 5 الكثيب الأملد: التل الرملي الناعم الأملس.

قال شهاب الدين المذكور، في شرح بديعية صاحبه ابن جابر: إن اللف والنشر، في هذين البيتين، غير كامل التفصيل. لأنه نص في اللف على ستة، ونص في النشر على سبعة، وكل منهما راجع إلى منصوص عليه في اللف، إلا الأهلة فإنه راجع إلى الأشطار، وهي غير مذكورة في اللف. قلت: هذا يفهم من قوله: يقطع. قال الشيخ شهاب الدين: قوله: ضحى، في بيت اللف، مطرح لا نظير له في النشر. قلت: ضحى، ليس لها في الحسن نظير، فإنه جعل البطيخة شمسًا، وهي أنور من قول صاحبه في بيته: أملد، وأقصد، فإنه لم ينص عليهما في اللف وهم أجنبيان مما نحن فيه. ووصلوا في الجمع بين اللف والنشر المفصل المرتب، إلى اثني عشر. لكن تكلفوا وتعسوا وأتوا به في بيتين، ولم تسفر لهم وجوه المعاني المسفرة عن بهجة. ولابن بلدتنا الشيخ علاء الدين بن مقاتل، مالك أزمة الزجل، وقد تقدم ذكره في أوردته له من أزجاله على الجناس المقلوب واللفظي، الجمع في اللف والنشر، بين ثمانية وثمانية، مع عدم الحشو والفرار من التعسف وصحة الانسجام. خدود وأصداغ وقد ومقلة ... وثغر وأرياق ولحن ومعرب1 فورد وسوسان وبان ونرجس ... وكاس وجريال وجنك ومطرب2 ومما سمعت، في هذا النوع، وفيه الجمع بين عشرة وعشرة، قول بعضهم: شعر جنين محيًّا معطف كفل ... صدغ فم وجنات ناظر ثغر ليل صباح هلال بانة ونقا ... آس أقاح شقيق نرجس در وجل القصد، هنا أن يكون اللف والنشر في بيت واحد خاليًا من الحشو وعقادة التركيب، جامعًا بين سهولة اللفظ والمعاني المخترعة، انتهى الكلام على اللف والنشر المفصل المرتب. وأما القسم الذي هو العكس، أعني غير المرتب، فكقول الشاعر: كيف أسلو وأنت حقف وغصن ... وغزال لحظًا وقد وردفا فعدم الترتيب ظاهر في البيت، وأما القسم المذكور على الإجمال، فهو قسم واحد

_ 1 اللحن: عدم مراعاة الإعراب في الكلام، والمعنى الفصيح الخالي من اللحن. 2 الجريال: شرحه صاحب المعجم الوسيط بالصبغ الأحمر. والذي نعتقده أنه شراب ذو لون أحمر يدل على ذلك ذكر الشاعر للكأس قرينة - الجُنْك؛ الطنبور، آلة من آلات الطرب.

لا يتبين فيه ترتيب ولا عكس، كما تقدم، ومثله قول ابن سكرة في بيت الكافات الشتائية: جاء الشتاء وعندي من حوائجه ... سبع إذا القطر عن حاجاتنا حبسا كن وكيس وكانون وكاس طلا ... مع الكباب وكس نعام وكسا1 وظريف هنا قول من قال: جاء الصفاع وعندي ما حوائجه ... سبع إذا الصفع في ميدانه وقفا2 نطع وطرق وزريوك وغاشية ... وركوة وجراب ناعم وقفا3 ففي قوله، بعد ما ذكره من آلات الصفع: وقفا. غاية في اللطف وقوة في تمكين القافية. انتهى الكلام على اللف والنشر المفصل المرتب وعلى غيره. وأما أصحاب البديعيات فإنهم ما نظموا إلا المفصل المرتب، لأنه المقدم عند علماء البديع في هذا الباب، ولم يأتوا به إلا في بيت واحد، بحيث يكون مثالًا شاهدًا على هذا النوع، وماشيًا على سنن الأبيات المفردة المشتملة على أنواع البديع، وبيت صفي الدين غاية في هذا الباب، لما اشتمل عليه من السهولة والرقة وعدم الحشو، وهو قوله: وجدي حنيني أنيني فكرتي ولهي ... منهم إليهم عليهم فيهم بهم والعميان لم يأتوا بهذا النوع إلا في بتين، مع عقادة التركيب. ولقد حبست عنان القلم عن الكلام عليهما، لكونهما من جملة مديح النبي -صلى الله عليه وسلم وهما: حيث الذي إن بدا في قومه وحبي ... عفاته ورمى الأعداء بالنقم4 فالبدر في شبهه والغيث جاد لذي ... محل وليث الشرى قد جال في الغنم

_ 1 الكُن: الملجأ - الكيس: المال - الكانون: ما تشعل فيه النار - الكباب: اللحم المفروم "كفته" - الكسُّ: الكسيس: وهو لحم يجفف ثم يدق كالسويق - وكسا: كساء. 2 الصفاع: القتال. 3 النطع: بساط من الجلد كان يوضع عليه المحكوم بالإعدام ويقتل بالسيف - الطرق: الترس - الزريوك: ما يلبس على الرأس في المعارك، الركوة: إناء صغير من جلد يشرب به الماء ويستعمله الفارس في المعركة والصياد في تجواله - الجراب: قراب السيف - القفا: الهرم، دليل الحنكة. 4 حبى: حياء أعطى - عفاته: أصحابه وقاصدوه.

وبيت عز الدين الموصلي: نشرٌ ويسر وبشر من شذا وندى ... وأوجه فتعرف طي نشرهم قوله: فتعرف طي نشرهم، وليس له نص في اللف لأنه نص فيه على ثلاثة، وعجز عن ترتيب اللف والنشر في نص اللف، وعلى كل تقدير، فلا بد له من تسمية النوع فسماه، ولكن أتى به فضلة، ولو التزم الشيخ صفي الدين أن يسمي هذا النوع البديعي في بيته، لتجافت عليه تلك الرقة. فالطيّ والنشر والتغيير مع قصر ... للظهر والعظم والأحوال والهمم فالطي والنشر، في نصف اللف، قبالة الظهر والعظم، والتغيير مع القصر قبالة الأحوال والهمم، هذا مع زيادة العدة على الشيخ عز الدين، وعدم التكلف ولولا الالتزام بتسمة النوع ومراعاة السهولة والانسجام، وصلت إلى أكثر من هذه العدة.

ذكر الطباق

ذكر الطباق: بوحشةٍ بدلوا أنسي وقد خفضوا ... قدري وزادوا علوّا في طباقهم المطابقة: يقال لها: التطبيق والطباق، والمطابقة في اللغة أن يضع البعير رجله في موضع يده، فإذا فعل ذلك قيل طابق البعير. وقال الأصمعي: المطابقة أصلها وضع الرجل موضع اليد، في مشي ذوات الأربع. وقال الخليل بن أحمد: يقال طابقت بين الشيئين، إذا جمعت بينهما على حد واحد. انتهى. وليس بين تسمية اللغة وتسمية الاصطلاح مناسبة، لأن المطابقة في الاصطلاح: الجمع بين الضدين، في كلام أو بيت شعر كالإيراد والإصدار، والليل والنهار، والبياض والسواد. وليس في الألوان ما تحصل به المطابقة غيرهما، أعني البياض والسواد، فقد قال الرماني وغيره: البياض والسواد ضدان بخلاف بقية الألوان، لأن كلًّا منهما إذا قوي زاد بعدًا من صاحبه. انتهى. وإذا ألحقوا بالمطابقة فالتدبيج أحق منها بذلك، فإنهم أوردوا، في المطابقة من التدبيج، قول ابن حيوس على جهة الكناية: فافخر بعم عَمَّ جود يمينه ... وأب لأفعال الدنية آبي1 ببياض عرض واحمرار صوارم ... وسواد نقع واخضرار رحاب2

_ 1 آبي: رافض. 2 النقع: ما يثار من الغبار وقت احتدام المعارك.

وقد تقرر أن المطابقة: الجمع بين الضدين عند غالب الناس، سواء كانت من سمين أو من فعلين أو غير ذلك. قال الأخفش، وقد سئل عنها: أجد قومًا يختلفون فيها فطائفة، وهم الأكثر يرون: أنها الشيء وضده، وطائفة يزعمون أنها اشتراك المعنيين في لفظ واحد، منهم قدامة بن جعفر الكاتب، وأورودوا في ذلك قول زياد الأعجم: ونبئتهم يستنصرون بكاهل ... وللؤم فيهم كاهل وسنام فكاهل الأول اسم رجل، والثاني العضو المعروف، فاللفظ واحد والمعنيان مختلفان، وهذا هو الجناس التام بعينه، وقال الأخفش: من قال إن المطابقة اشتراك المعنيين في لفظ واحد، فقد خالف الخليل والأصمعي، فقيل: أوكانا يعرفان ذلك فقال: سبحان الله من أعلم منهما بطيبه وخبيثه؟ وما أحسن ما أتى الأخفش في الجواب بالمطابقة. ومنهم من أدخل المقابلة فيها، وليس بمليح، إذ لم يبق للفرق بينهما محل. فإن السكاكي قال: المقابلة أن تجمع بين شيئين فأكثر وتقابل بالأضداد، ثم إذا شرطت هنا شيئا شرطت هناك ضده، والمطابقة هي الإتيان بلفظتين، والواحدة ضد الأخرى، وكأن المتكلم طابق الضد بالضد. ولقد شفى زكي الدين بن أبي الأصبع القلوب، في ما قرره، فإنه قال: المطابقة ضربان: ضرب يأتي بألفاظ الحقيقة، وضرب يأتي بألفاظ المجاز، فما كان بلفظ الحقيقة سمي طباقًا، وما كان بلفظ المجاز سمي تكافؤًا. فمثال التكافؤ، وهومن إنشادات قدامة: حلو الشمائل وهو مر باسل ... يحمي الذمار صبيحة الإرهاق1 فقوله: حلو ومر، يجري مجرى الاستعارة، إذ ليس في الإنسان، ولا في شمائله، ما يذاق بحاسة الذوق، ومن أمثلة التكافؤ قول ابن رشيق، وهو حسن: وقد أطفؤا شمس النهار وأوقدوا ... نجوم العوالي في سماء عجاج2

_ 1 باسل: عابس. 2 العجاج: الغبار الكثيف الناتج عن المعارك، العوالي: الرماح.

ومثله: إن هذا الربيع شيء عجيب ... تضحك الأرض من بكاء السماء ذهب حينما ذهبنا ودر ... حيث درنا وفضة في الفضاء وما أحلى قول القائل، في هذا الباب: إذا نحن سرنا بين شرق ومغرب ... تحرك يقظان التراب ونائمه فالمطابقة بين اليقظان، والنائم ونسبتهما إلى التراب على سبيل المجاز، وهذا هو التكافؤ عند ابن أبي الأصبع. وأما المطابقة الحقيقية التي لم تأت بغير ألفاظ الحقيقة، فأعظم الشواهد عليها قوله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى، وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا} 1 وكقول النبي -صلى الله عليه وسلم، للأنصار رضي الله تعالى عنهم: "إنكم لتكثرون عند الفزع، وتقلون عند الطمع"، فانظر إلى هذه البلاغة النبوية، والمناسبة التامة ضمن المطابقة. ومن الشواهد الشعرية، قول الحماسي: تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد ... لنفسي حياة مثل أن أتقدما ولآخر: لئن ساءني أن نلتني بإساءة ... لقد سرني أني خطرت ببالك ولآخر في وصف فرس، وأجاد: وأرى الوحش في يميني إذا ما ... كان يومًا عنانه بشمالي2 والمعجز الذي لا تصل إليه قدرة مخلوق، قوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ، وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ، وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ، وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ} 3 فانظر إلى عظم هذه المطابقة وما فيها من الوجازة. ومن ذلك في الحديث، قول النبي -صلى الله عليه وسلم: "فليأخذ العبد من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته ومن الشبيبة للكبر، ومن الحياة للمات، فوالذي نفسي بيده ما بعد الحياة مستعتب، ولا بعد الدنيا دار إلا الجنة والنار"، انتهى ما قررته في المطابقة، لغة واصطلاحًا، وما أوردته من الفرق بينهما وبين التكافؤ على رأي ابن أبي الأصبع.

_ 1 النجم: 53/ 43. 2 العنان: المقود والرمس. 3 فاطر: 35/ 19، 22.

ولهم مطابقة السلب بعد الإيجاب، وهي المطابقة التي لم يصرح فيها بإظهار الضدين، كقوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} 1 فالمطابقة حاصلة بين إيجاب العلم ونفيه، لأنهما ضدان ومثله قول البحتري: يقيض لي، من حيث لا أعلم، النوى ... ويسري إلى الشوق من حيث أعلم فالمطابقة باطنة ومعناها ظاهر، فإن قوله لا أعلم، كقوله جاهل، والسابق إلى هذا امرؤ القيس بقوله: جزعت ولم أجمع من البين مجزعًا ... وعزيت قلبا بالكواعب مولعا2 فالمطابقة حاصلة بين إيجاب الجزع ونفيه، ومن المستحسن في ذلك قول بعضهم: خلقوا وما خلقوا لمكرمة ... فكأنهم خلقوا وما خلقوا رزقوا وما رزقوا سماح يد ... فكأنهم رزقوا وما رزقوا ومثله قول بشر بن هارون، وقد ظهر منه الفرح عند الموت، فقيل له: أتفرح بالموت؟ فقال: ليس قدومي على خالق أرجوه، كمقامي عند مخلوق لا أرجوه، فالمطابقة حاصلة بين إيجاب الرجاء ونفيه. انتهى الكلام على مطابقة السلب بعد الإيجاب. ولهم إيهام المطابقة، كما لهم إيهام التورية، والشاهد على إيهام المطابقة قول الشاعر: يبدي وشاحًا أبيضًا من سيبه ... والجو قد لبس الوشاح الأغبرا3 فإن الأغبر ليس بضد الأبيض، وإنما يوهم بلفظه أنه ضده ومثله قول دعبل: لا تعجبني يا سلم من رجل ... ضحك المشيب برأسه فبكى فالضحك هنا من جهة المعنى ليس بضد البكاء، لأنه كناية عن كثرة الشيب، ولكنه من جهة اللفظ يوهم المطابقة. ولهم الملحق بالطباق، وهو راجع إلى الضدين كقوله تعالى: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} 4 طابق الأشداء بالرحماء، لأن الرحمة فيها معنى اللين، ومثله قوله

_ 1 الزمر: 39/ 9. 2 الكواعب مفردها كاعب: الفتاة إذا نهد ثدياها. 3 سيبه: انصبابه وغزارته وسرعته وعطاؤه. 4 الفتح: 48/ 29.

تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا} 1 فالمطابقة بين الغرق ودخول النار، فإن من دخل النار احترق والاحتراق ضد الغرق، ومنه قول الحماسي. لهم جلّ مالي إن تتابع لي غنى ... وإن قل مالي لا أكلفهم رفدا2 ففي قوله تتابع لي غنى معنى الكثرة، وأما قول أبي الطيب: لمن تطلب الدنيا إذا لم ترد بها ... سرور محب أو إساءة مجرم فمتفق عليه أنه من الطباق الفاسد، فإن المجرم ليس بضد للمحب بوجه ما، وليس للمحب ضد غير المبغض. انتهى. وذكوا في آخر الباب: طباق الترديد، وهو أن تردّ آخر الكلام المطابق على أوله، فإن لم يكن الكلام مطابقًا فهو من رد الأعجاز على الصدور، ومنه قول الأعشى: لا يرقع الناس ما أوهوا وإن جهدوا ... طول الحياة ولا يوهون ما رقعوا3 وجل القصد في هذا الباب المطابقة في الحقيقة، التي قررها ابن أبي الصبع، وتقدم في ذلك في أول الباب مع الشواهد عليه، ومثله قول بشار: إذا أيقظتك حروب العدا ... فنبه لها عمرا ثم نم ومن لطيف هذا الطباق ما أورده القاضي جلال الدين القزويني، في إيضاحه على تلخيصه، وهو قول القاضي الأرجاني: ولقد نزلت من الملوم بماجد ... فقر الرجال إليه مفتاح الغنى والذي أقوله إن المطابقة التي يأتي بهها الناظم مجردة ليس تحتها كبير أمل، ونهاية ذلك أن يطابق الضد بالضد، هو شيء سهل، اللَّهمَّ إلا أن تترشح بنوع من أنواع البديع يُشاركه في البهجة والرونق، كقوله تعالى: {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} 4 ففي العطف، بقوله تعالى: {وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} دلالة على أن من قدر على تلك

_ 1 نوح: 71/ 25. 2 الرفد: العون والمساعدة. 3 يوهون: يضعفون ويبلون. يرقع الأولى: بمعنى يجمع، ورقعوا: بمعنى أسرعوا. 4 آل عمران: 3/ 27.

الأفعال العظيمة قدر على أن يرزق بغير حساب من شاء من عباده، وهذه مبالغة التكميل المشحونة بقدرة الرب سبحانه وتعالى، فانظر إلى عظم كلام الخالق هنا، فقد اجتمع فيه المطابق الحقيقية والعكس الذي لا يدرك، لوجازته وبلاغته ومبالغة التكميل التي لا تليق بغير قدرته، ومثل ذلك قول امرئ القيس: مكرّ مفرّ مقبل مدبر معًا ... كجلمود صخر حطه السيل من عل فالمطابقة في الإقبال الإدبار، ولكنه لما قال: معًا، زادها تكميلًا في غاية الكمال، فإن المراد بها قرب الحركة في حالتي الإقبال والإدبار وحالتي الكر والفر، فلو ترك المطابقة مجردة من هذا التكميل ما حصل لها هذه البهجة ولا هذا الموقع، ثم إنه استطرد، بعد تمام المطابقة وكمال التكميل، إلى التشبيه على سبيل الاستطراد البديعي، ولم يكن قد ضرب لأنواع البديع في بيوت العرب وتد، ولا امتد له سبب. وقد اشتمل بيت امرئ القيس على المطابقة والتكميل والاستطراد على طريقة1، فإن ابن المعتز قال: هو أن يكون المتكلم في معنى فيخرج منه، بطريق التشبيه، إلى معنى آخر، وممن كسا المطابقة ديباجة التورية أبو الطيب المتنبي، حيث قال: برغم شبيب فارق السيف كفه ... وكانا على العلات يصطحبان كأن رقاب الناس قالت لسيفه ... رفيقك قيسي وأنت يماني لعمري لقد رفع أبو الطيب قدر المطابقة، وأزال حقارتها، بمجاورة هذا النوع البديعي الذي عظم عند أهل الأدب قدرًا، ومثله قول الصاحب بن عباد في رثاء الوزير كثير بن أحمد: يقولون قد أودى كثير بن أحمد ... وذلك رزء في الأنام جليل2 فقلت دعوني والعلا نبكه معًا ... فمثل كثير في الأنام قليل وأبو تمام كساها ديباجة المجانسة بقوله: بيض الصفائح لا سود الصحائف في ... متونهن جلاء الشك والريب وما أحلى قول الأرجاني من قصيدة: تعلق بين الهجر والوصل مهجتي ... فلا أربي في الحب أقضي ولا نحبي3

_ 1 على طريقة التشبيه. 2 أودى: ذهب إلى غير رجعة - رزء: مصيبة - الأنام: الناس، جليل: عظيم. 3 أربي: حاجتي، نحبي: قضى نحبه، مات.

فشدّ أزر المطابقة ببديع اللف والنشر، وأهلها بغريب هذا المعنى، بعدما سال رقة، وعلق بخاطري من هذه القصيدة: فلا تتعجب أنني عشت بعدهم ... فإنهم روحي وقد سكنوا قلبي ومنها: وحرف تجوب القاع والوهد والربا ... كحرف مديم الجر والرفع والنصب1 نجائب يقدحن الحصى كل ليلة ... كأن بأيديها مصابيح للركب2 ومن المطابقة باللف والنشر أيضًا، قول شيخ شيوخ حماة المحروسة: إن قومًا يلحون في حب ليلى ... لا يكادون يفقهون حديثا سمعوا وصفها ولاموا عليها ... أخذوا طيبًا وردوا خبيثًا ومثله قوله: يخاطب العاذل: أراك بخيلًا بعوني فهبني ... سكوتك عني إذا لم تعني ذممت الهوى ورجوت السلو ... فأبكيت عيني وأضحكت سني ومثله قوله: يا وجوهًا زانت سناها فروع ... حالكات أغنتكم عن حلاكم لي من حسنكم نهار وليل ... أنعم الله صبحكم ومساكم ومثله قوله من قصيدة: توغل حرقتي أجرى دموعي ... فقل ما شئت في دخل وخرج ومنه قول أبي حفص المطوعي، في الباب: أو ما ترى نور الخلاف كأنه ... لما بدا للعين نور وفاق فالمطابقة هنا بزيادة التورية من الاستعارة البديعة، ويعجبني قوله بعد هذا البيت: كأكف سنور ولكن نشره ... يسعى بفأر المسك في الآفاق3 وأما سحر البلاغة هنا فقول القاضي الفاضل: دام صاحي وداده عمر الدهـ ... ـر جنينًا لسكري النشوان

_ 1 الحرف: الناقة الهزيلة، القاع: الوادي، الوهد السفوح الربا: التلال. 2 نجائب: جمع مفرده نجيبة، وهي من النوق الكريمة. 3 فأر المسك: أو فأرة المسك وعاؤه.

انظر أيها المتأمل ما أبدع ما أبرز المطابقة في حلل هاتين الاستعارتين الغريبتين، وما ألطف ما أريد معنى المطابقة بقوله بعدها: وبنات الصدور أوقع فيما ... زعم المجد من بنات الدنان1 فالفاضل أبرز هذه المطابقة في حلل الاستعارة، ولكن من أين للمستعير صحو الوداد، ونشوة السكر، سبحان المانح! ما هذه إلا مواهب ربانية. وأما الذين تقدم القول بالاقتداء برأيهم في هذا الفن، فإنهم ما أبرزوها إلا في أشعار التورية، فمن ذلك قول القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر، في موصول: وناطقة بالنفخ عن روح ربها ... تعبر عما عندنا وتترجم سكتنا وقالت للقلوب فأطربت ... فنحن سكوت والهوى يتكلم فإنه جمع بين التورية والتضمين والمطابقة. وما أحلى قول الشيخ شرف الدين بن الفارض، في المطابقة بالتورية في قوله: أرج النسيم سرى من الزوراء ... سحرًا فأحيا ميت الأحياء ومثله قول الوادعي في قصيدة وهو في غاية الحسن: يفتن بالفاتر من طرفه ... وريقه البارد يا حار2 ما ألطف قول الشيخ شمس الدين الواسطي في دو بيت: إن ضر مني بجذوة التذكار ... حبي وبرى عظمي شكرت الباري3 فالعاذل في هواي لا عقل له ... ما أبلد عاذلي وأذكى ناري ومثله قول سراج الدين الوراق: وبي من البدو كحلاء الجفون بدت ... في قومها كمهاة بين آساد4 فلو بدت لحسان الحضر فمن لها ... على الرءوس وقلن الفضل للبادي

_ 1 بنات الصدور: الأفكار. 2 يا حار: ترخيم يا حارث. 3 جذوة التذكار: التهابه: والجذوة: الجمرة الملتهبة. 4 المهاة: الغزالة.

ومثله قول أبي الحسين الجزار: أمولاي ما من طباعي الخروج ... ولكن تعلمته من خمولي أتيت لبابك أرجو الغنى ... فأخرجني الضرب عند الدخول ومثله قول الوداعي، في مطلع قصيد: ما كنت أول مغرم محروم ... من باخل بادي النفار كريم1 ومثله قول مجير الدين بن تميم: لما لبست لبعده ثوب الضنا ... وغدوت من ثوب اصطباري عاريا أجريت واقف مدمعي من بعده ... وجعلته وقفًا عليه جاريا وكتبت، من هذا النوع، إلى القاضي كمال الدين بن النجار وكيل بيت المال بدمشق المحروسة: كمال الدين يا مولاي يا من ... يغير البحر من بذل النوال أيجمل أن يقول الناس إني ... أتيت لحاجة لم تقضها لي وأصبح بينهم مثلا لأني ... أتاني النقص من جهة الكمال ومثله قول الشيخ جمال الدين بن نباتة رحمه الله تعالى: إني إذا آنست همًا طارقًا ... عجلت باللذات قطع طريقه ودعوت ألفاظ الحبيب وكأسه ... فنعمت بين حديثه وعتيقه ومثله قوله: قصدت معاليك أرجو الندى ... وأشكو من العسر داء دفينا فما كان بيني وبين اليسار ... سوى أني مددت إليك اليمينا2 ومثله قوله: حزني من مهفهف القدر أم ... أسهم اللحظ ما أسد وأرشق كلما قلت يفتح الله بالوصل ... رماني من سحر عينيه يغلق

_ 1 النفار: الحران والغضب. 2 اليسار: الغنى.

ومثله قوله: إن أساء الحبيب قامت بعذر ... وجنة منه فوقها شامات يا لها وجنة أقابل منها ... حسنات تمحى بها سيئان ومثله قوله: قام غلام الأمير يحسب في ... يوم ظهورك البنين طاووسا1 فأنزل الحاضرون من شبق ... وعاد ذاك الطهور تنجيسا2 وما ألطف قوله من هذا النوع: يا غائبين تعللنا لغيبتكم ... بطيب لهو ولا الله لم يطب ذكرت والكاس في كفي لياليكم ... فالكاس في راحة القلب في تعب3 ومثله قوله في براعة قصيد: يوم صحوٍ فاجعله لي يوم سكر. وما أحلى ما قال بعده في الشطر الثاني: فأدر كأسي رضاب وخمر. منها، ولم يخرج عما نحن فيه: جفن عينيه فاتر مستحيي ... إنما خده المشعشع جمري ومثله قوله من قصيدة: فريد وهو فتان التثني ... فيا لله من فرد تثنى وله في روضة قصيدة: مطابقة الأوصاف أما نسيمها ... فصح وأما ماؤها فتكسرا انظر ما أحسن تصريحه بالنوع هنا، في قوله مطابقة الأوصاف. ومثله قول الشيخ برهان الدين إبراهيم القيراطي من قصيدة: بأبي غنى ملاحة أشكو له ... فقري فيصبح بالغنى يتطرب ومنها في هذا النوع: غدا ينادمني وكأس حديثه ... أشهى إليّ من العتيق وأطيب

_ 1 الطهور: الختان. 2 أنزل: قذف المني - الشبق: هيجان الشهوة وإلحاحها. 3 الراحة: باطن الكف والاستراحة.

ومثله قوله: في جفنه سيف مضاربه ... ياصاح أسبق لي من العذل وبخده والردف لي خبر ... قد سار بين السهل والجبل ومثله قول الشيخ زين الدين بن الوردي: تجادلنا أماء الزهر أزكى ... أم الخلاف أم ورد القطاف وعقبى ذلك الجدل اصطلحنا ... وقد حصل الوفاق على الخلاف ومثله قول الشيخ بدر الدين بن الصاحب، وهو في غاية الظرف: كما جار صرف الدهر في حكمه ... وضرّ بي من حيث بي يعتني ألبسني من شيبتي حلة ... قلت له والله عريتني ومنه قول الشيخ صلاح الدين الصفدي، وقد أهدى إلى الشيخ جمال الدين بن نباتة تخفيفة: أيا فاضلًا تدنو الأفاضل نحوه ... وتشكر في جميع المناقب تصريفه1 إذا كنت بالإحسان ثقلت كاهلي ... فلا عجب إن كنت تقبل تخفيفه2 ومنه قول الشيخ صفي الدين الحلي من قصيدة: والريح تجري رخاء فوق بحرتها ... وماؤها مطلق في زي مأسور قد جمعت جمع تصحيح جوانبها ... والماء يجمع فيها جمع تكثير ومنه قول المعمار: أصاب قلبي خطائي ... بلحظه لشفائي فرحت من فرط وجدي ... أشكو إلى الحكماء قالوا أصبت بعين ... فقلت من عظم دائي إن كان هذا صوابًا ... فتلك عين الخطاء وحسن هنا قول البدر يوسف بن لؤلؤ الذهبي: وحديقة مطلولة باكرتها ... والشمس ترشف ريق أزهار الربا3 يتكسر الماء الزلال على الحصى ... فإذا عدا بين الرياض تشعبا

_ 1 تصريفه: تدبيره للأمور. 2 التخفيفة: قطعة من القماش رقيقة من النسيج تلبس على الرأس ونظنها: "الحطة". 3 مطلولة: أصابها الطل وهو الندى.

ومنه قول الشيخ شمس الدين بن الصائغ الحنفي: بروحي أفدي خاله فوق خده ... ومن أنا في الدنيا فأفديه بالمال تبارك من أخلى من الشعر خده ... وأسكن كل الحسن في ذلك الخال ومثله قول الشيخ عز الدين الموصلي: سموا مني مهجتي سعيدًا ... ولي شقاء به يزيد إذا اجتمعنا يقول ضدي ... هذا شقي وذا سعيد وظريف قول جمال الدين عبد الله السوسي: ورب أقطع يشدو ... ساروا وما دعوني1 ما أنصفوا أهل ودي ... واصلتهم قاطعوني وألطف منه قول الشيخ جلال الدين بن خطيب داريا: يا معشر الأصحاب قد عن لي ... رأي يزيل الحمق فاستظرفوه2 لا تحضروا إلا بأخفافكم ... ومن تثاقل منكم خففوه ومثله قوله: تصفحت ديوان الصفي فلم أجد ... لديه من السحر الحلال مُرامي3 فقلت لقلبي دونك ابن نباتة ... ولا تتبع الحلي فهو حرامي4 وظريف هنا قول الشيخ بدر الدين البشتكي، وإن لم يكن فيه تورية، فقد صرح باسم النوع من جنس الغزل: وقالوا يا قبيح الوجه تهوى ... مليحًا دونه السمر الرشاق5 فقلت وهل أنا إلا أديب ... فكيف يفوتني هذا الطباق

_ 1 الأقطع: مقطوع اليد. 2 عن: ظهر وبان. 3 مُرامي: قصدي وضالتي. 4 حرامي: لص وسارق. 5 الرشاق: من الرشاقة، الممشوق القد.

ومن المطابقة بالتورية، قول القاضي بدر الدين بن الدماميني رحمه الله: بدر إذا شمت فوق الخد عارضه ... يومًا أرى الصبح بالظلماء مختلطا وظن أن صوابًا هجر عاشقه ... لما رأى منه شيبًا باديًا وخطا1 ومن العجيب في هذا النوع، قول شيخنا العلامة شهاب الدين بن حجر، فسح الله في أجله: خليلي ولى العمر منا ولم نتب ... وننوي فعال الصالحين ولكنا فحتى متى نبني بيوتا مشيدة ... وأعمارنا منا تهد وما تبنا وما أحلى قوله فيه: أتى من أحبائي رسول فقال لي ... ترفق وهن واخضع تفز برضانا2 فكم عاشق قاصي الهوان بحبنا ... فصار عزيزًا حين ذاق هوانًا ومثله قوله: نأى رقيبي وحبيبي دنا ... وحسنه للطرف قد أدهشا3 آنسني المحبوب يوم اللقا ... لكن رقيبي فيه ما أوشحا وما أظرف قوله فيه: أشكو إلى الله ما بي ... وما حوته ضلوعي قد طابق السقم جسمي ... بنزلة وطلوع انظر كيف جمع بين قصر الوزن، وعدم الحشو، وصحة التركيب، والمطابقة بالتورية، وتسمية النوع من جنس الغزل، ومثله قوله: قال حبي أكتم الهوى ... خوف لاح وواشيه كي أستطيع كتمه ... وسقامي علانيه وأنشدني من لفظه لنفس، ابن مكانس وقد أوقفته في الشرح على هذا النوع، فقال: يا سادتي والعشق لم يبق لي ... من بعدكم روحًا ولا حسا صبحني الهم لهجرانكم ... والضر لما بنتم مسا

_ 1 وخطا: من وخطه الشيب إذاخالط سواد شعره. 2 هُن: أمر من هان: ذل. 3 نأى: بعُد.

وله: لثغرك طعم ونشر يلذ ... ونسقى به يا أخا البدر عشقا فدعنا نمت ونعش في الهوى ... غرامًا وننعم ذوقًا ونشقا1 ومثله قوله: رب خُذ بالعدل قوما ... أهل ظلم متوالي كلفوني بيع خيلي ... برخيص وبغال ونقلت من ديوان والده المقر الفخري: زارت معطرة الشذا ملفوفة ... كي تختفي فأبى شذا العطر يا معشر الأدباء هذا وقتكم ... فتناظموا في اللف والنشر ونقلت أيضًا من ديوانه: لم أنس معشوقه زارت بجنح دجى ... فبت في مسك أنفاس وطيب سمر حتى الصباح وعيناها تظن بأن ... هاروت حل عشاء فيهما وسحر2 ونقلت منه ما امتدح به أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: يا ابن عم النبي إن أناسا ... قد توالوك فازوا أنت للعلم في الحقيقة باب ... يا إمامًا وما سواك مجاز3 وقوله: علقتها معشوقة خالها ... إن عمها بالحسن قد خصصا يا وصلها الغالي ويا هجرها ... لله ما أغلى وما أرخصا وقلت في هذا المعنى من قصيدة: وكيف أكتم حبا في هواه ولي ... من أحمر الدفع فوق الخد تشهير4 ونار خديه قلبي أرخصت وغلت ... لما غدت ولها في القلب تسعير وقال أغمدت سيف اللحظ عنك فكيـ ... ـف الحال قلت له، والله مشهور

_ 1 نشقا: شما. 2 هاروت: أحد الملكين اللذين كانا يعلمان السحر ببابل، كما ورد في قوله تعالى: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} البقرة 22/ 102. 3 في هذا البيت إشارة إلى قول النبي: "أنا مدينة العلم وعلي بابها". 4 تشهير: فضيحة.

وقلت من قصيدة وصرحت باسم النوع: طابقت رقة حالي بالجفا عبثًا ... فما طباقك إلا رقة وجفا وقلت من قصيدة: شرّقونا بمدمع العين عجبا ... ليتهم عند موتنا قبّلونا1 وقلت بعده: حبكم فرضنا وسيف جفاكم ... قد غدا في بعادنا مسنونا حتى تخلصت إلى مدح أمين الدين، من غزل هذه القصيدة، ولم أخرج عما نحن فيه من المطابقة. ومن غريب ما وقع لي في هذا النوع قولي من قصيدة: بدر منير قسا برؤيته ... لكن يرى عند خده شفقه2 وقلت من قصيدة: لي في حماكم أهيف من عامر ... وخراب بيت تصبر بالعامري سلطان حسن ظاهر لما بدا ... جال الهوى في باطني بالظاهرِ "ي" وضفرت شعرك إذ ظفرت بمهجتي ... يفديك محلول العرا من ظافر3 وحميت برد الثغر إذ طابقته ... في ضمن تورية بجفن فاتر انظر ما أحلى قولي: في ضمن تورية، والمراد المطابقة بالتورية. وقلت مطابقًا، والتورية ثلاثية: بمر هجرك عجبًا قد قضية لنا ... وشاهد الحسن بالإحسان حلاك وكتبت إلى بعض المخاديم بحماة المحروسة حرسها الله تعالى، أطلب منثورًا أبيض فماطلني مدة والمنثور الأبيض عزيز بحماة: زهر الوعود ذوى من طول مطلكم ... لأنه من نداكم غير ممطور4 والعبد قد جهز المنظوم ممتدحًا ... فطابقوه إذا وافى بمنثور

_ 1 شَرِق: غص 2 شفقة: واحدة الشفق وهو ما يرى من الحمرة فوق الأفق عند مغيب الشمس. 3 العرا: مفردها عروه، وهي فتحة الزر. 4 المطل: إخلاف الوعد والتسويف.

وقلت: هويت غصنا لأطيار القلوب على ... قوامه في رياض الوجد تغريد قالت لواحظه أنا نسود على ... بيض الظبا قلت أنتم سود "وا" وقد طال الشرح، ولكن هذا الطول تنشرح له الصدور، وتعلو به همة الطالب، ولم يرض بعدها بالرخيص من هذا الفن، ويتأيد1 قولي: إن الذين اقتديت برأيهم ومشيت على سننهم لم يرضوا بالمطابقة المجردة، ولم ينظموها إلا في سلك التورية، وقد أوردت لهم هنا من ذلك ما شنف الأسماع ورقص عند السماع، والكمال لله فإن الشيخ صفي الدين لم يأت بالمطابقة إلا مجردة وبيته: قد طال ليلي وأجفاني به قصرت ... عن الرقاد فلم أصبح ولم أنم وبيت العميان مثله، لكنه عامر بالركة والعقادة وهو: واسهر إذا نام سار وامضٍ حيث ونى ... واسمح إذا شح نفسًا وأسِرْ إن يقم وبيت عز الدين: أبكي فيضحك عن در مطابقة ... حتى تشابه منثور بمنتظم لعمري إن بيت صفي الدين وبيت العميان، يتنزلان عند هذا البيت العامر بالمحاسن منزلة الأطلال البالية، فإن الشيخ عز الدين جمع فيه بين تسمية النوع من جنس الغزل، وبين غرابة المعنى، وحسن الانسجام ورقة النسيب وبديع اللف والنشر، ولم يأت كل منهما إلا بمجرد المطابقة. وأما قول العميان في آخر بيتهم: وأسر إن يقم، فهذا اللفظ من بقية ما سقط من حجارة البيت. وبيت بديعتي هو: بوحشة بدلوا أنسي وقد خفضوا ... قدري وزادوا علوا في طبقاهم فالمطابقة والتورية وتسمية النوع البديعي اجتمعت، هنا في قافية هذا البيت الذي علا بطباقه، وتفيأ أهل البديع بظل رواقه.

_ 1 يتأيد: يتقوى ويتأكد.

ذكر النزاهة

ذكر النزاهة: نزهت لفظي عن فحش وقلت هم ... عرب وفي حبهم يا غربة الذمم1 النزاهة ما نظمها أحد في بديعيته إلا صفي الدين الحلي، وقد تقدم القول أنه ذكر عن بديعيته، أنها نتيجة سبعين كتابًا في هذا الفن. وهو نوع غريب تجول سوابق الذوق السليم في حلبة ميدانه، وتغرد سواجع الحشمة على بديع أفنانه، لأنه هجو في الأصل، ولكنه عبارة عن "الإتيان بألفاظ فيها معنى الهجو الذي إذا سمعته العذراء في خدرها لا تنفر منه" وهذه عبارة عمرو بن العلاء لما سئل عن أحسن الهجو. وقد وقع من النزاهة في الكتاب العزيز عجائب، منها قوله تعالى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ، وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ، أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} 2 فإن ألفاظ الذم المخبر عنها، في كلام الآية، أتت منزهة عما يقع في غير هذا القسم من الفحش في الهجاء والمرض. هنا عبارة عن إبطان الكفر. ومن النزاهة البديعية في النظم، قول أبي تمام: بني فعيلة ما بالي وبالكم ... وفي البلاد مناديح ومضطرب3 لحاجة لي فيكم ليس يشبهها ... إلا لجاجكم في أنكم عرب4

_ 1 نزه: رفع وربأ به. 2 النور: 24/ 48-50. 3 مناديح: متسع. 4 اللجاجة: الإلحاح.

ومن غريب هذا النوع، قول معبد بن الحسين بن جبارة لرجل كان يدعو قومًا إلى سماع قينة له، ثم انكشف له بعد هذا أنهم كانوا ينالون منها القبيح: ألم أقل لك إن القوم بغيتهم ... في ربة العود لا في رنة العود لا تأسفن على الشاة التي عقرت ... فأنت غادرتها في مسرح السيد1 فانظر إلى مصاحبة هذه المعاني ونزاهة ألفاظها عن الفحش. ومن ذلك قول جرير: فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعبًا بلغت ولا كلابا2 وقالوا أحسن ما وقع في هذا الباب قوله أيضًا: لو أن تغلب جمعت أنسابها ... يوم التفاخر لم تزن مثقالا3 فانظر إلى هذا الهجو المنكي4، كيف بالغ في تنزيه ألفاظه عن الفحش، وفيه معنى الهزل الذي يراد به الجد، وهو غاية في هذا النوع. وبيت الشيخ صفي الدين الحلي: حسبي بذكرك لي ذمًّا ومنقصة ... فيما نطقت فلا تنقص ولا تذم وقال إنها بالذال المعجمة، فإن جل قصده الذم هنا، والذي أقوله: إن هذا البيت شموس إيضاحه آفلة في غيوم العقادة، وليته استضاء بما قاله جرير ومشى على سنته. والعميان لم ينظموا هذا النوع، وبيت الشيخ عز الدين نظمه في بديعيته لأجل معارضة الصفي، وقال في بيته يخاطب العاذل: لقد تفيهقت بالتشديق في عذلي ... كيف النزاهة عن ذا الأشدق الخصم5 قد تقرر أن النزاهة هجو، ولكن شرطوا أن لا ينظم هجوهًا إلا بألفاظ لا تنفر منها العذراء في درها، والذي أقوله، وأنا أستغفر الله: إن ألفاظ عز الدين في بيته ينفر منها

_ 1 عقرت: ذبحت - السيد: الذئاب. 2 نمير وكعب وكلاب: من قبائل العرب. 3 المثقال: وزن يساوي عرفًا درهمًا ونصف درهم. 4 المنكي: القاهر. 5 تفيهق: في الكلام: توسع وتنطع به، التشديق: مد الكلام.

الجان فكيف حال العذراء! وحاصل القضية، أنه نزه ألفاظه عن النزاهة، ولم يتفيهق ولم يتشدق غيره، وما أحقه بقول القائل: وما مثله إلا كفارغ حمص ... خلي من المعنى ولكن يفرقع بيت بديعيتي: نزهت لفظي عن فحش وقلت لهم ... عرب وفي حيهم يا غربة الذمم وحشمة النزاهة لا تخفى على أهل الذوق السليم والعلم، مع ما فيها من عدم التكليف في الميل عن التعسف. والذي أقوله إن بيتي في هذا الباب جر أذيال البلاغة مع جرير وشاركه في العذوبة والتباري، ولكن له نبأ في التسمية صدر عن خبير.

ذكر التخيير

ذكر التخيير: تخيروا لي سماع العذل وانتزعوا ... قلبي وزادوا نحولي مت من سقمي التخيير هو أن يأتي الشاعر ببيت يسوغ فيه أن يقفي بقواف شتى، فيتخير منها قافية يرجحها على سائرها، يستدل بتخييرها على حسن اختياره، كقول الشاعر: إن الغريب الطويل الذيل ممتهن ... فكيف حال غريب ما له قوت1 فإنه يسوغ أن يقال: ما له مال، ما له سبب، ما له أحد، ما له قوت، فإذا تأملت ما له قوت، وجدتها أبلغ من الجميع، وأدل على القافية، وأمس بذكر الحاجة، وأبين للضرورة، وأشجى للقلوب، وأدعى للاستعطاف، فلذلك رجحت على ما ذكرناه. ومن هذا النوع في الكتاب العزيز، قوله تعالى: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ، وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 2 فالبلاغة تقتضي أن تكون فاصلة الآية الأولى، للمؤمنين، لأنه سبحانه وتعالى ذكر العالم بجملته، حيث قال: {السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ومعرفة ما في العالم من الآيات الدالة على أن المخترع قادر عليم حكم، ولا بد من التصديق أولا بالصانع، حتى صح أن يكون ما في المصنوع من الآيات دليلًا على أنه موصوف بتلك الصفات، والتصديق هو الإيمان، وكذلك قوله تعالى في الآية الثانية {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} فإن خلق الإنسان، وتدبير

_ 1 طويل الذيل: كناية عن الغني. 2 الجاثية: 45/ 3-5.

خلق الحيوان، والتفكر في ذلك، مما يزيده يقينًا في معتقده الأول، وكذلك معرفة جزئيات العالم، من اختلاف الليل والنهار، وإنزال الرزق من السماء، وإحياء الأرض بعد موتها، وتصريف الرياح يقتضي رجاحة العقل، ليعلم أن من صنع هذه الجزئيات هو الذي صنع العالم الكلي، بعد قيام البرهان على أن للعالم الكلي صانعًا مختارًا، فلذلك اقتضت البلاغة أن تكون فاصلة الآية الثالثة: {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} وإن احتيج للعقل في الجميع، إلا أن ذكره هنا أمتن بالمعنى من الأول، ويروى أن أعرابيًّا سمع شخصًا يقرأ {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ} 1 غفور رحيم فقال: ما ينبغي أن يكون الكلام هكذا. فقال: إن القارئ غلط، والقراءة {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} 3 فقال: نعم، هكذا تكون فاصلة هذا الكلام: فإنه لما عز حكم. وإذا تأملت فواصل القرآن وجدتها كلها لم تخرج عن المناسبة، كقوله تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ، وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} 3 لا يجوز التبديل بينهما. إذ لا يجوز النهي عن انتهار اليتيم، لمكان تهذيبه وتأديبيه، وإنما ينهى عن قهره وغلبته، كما لا يجوز أن ينهر السائل، إذا حرم، بل يرده ردًا جميلًا. ويعجني قول ديك الجن: قولي لطيفك ينثني ... عن مضجعي عند المنام عند الرقاد، عند الهجوع، عند الهجود، عند الوسن. فعسى أنام فتنطفي ... نار تأجج في العظام في الفؤاد، في الضلوع، في الكبود، في البدن. جسد تقلبه الأكف ... على فراش من سقام من قتاد، من دموع، من وقود، من حزن. أما أنا فكما علمت فهل لوصلك من دوام ... من معاد، من رجوع، من وجود، من ثمن فهذه القوافي المثبتة، يقابل كل بيت بما يليق به منها، والأولى أولى وأرجح.

_ 1 المائدة: 5/ 38. 2 المائدة: 5/ 38. 3 الضحى: 93/ 10.

وبيت صفي الدين الحلي رحمه الله تعالى: عدمت صحة جسمي إذ وثقت بهم ... فما حصلت على شيء سوى الندم فلذكر عدمت، في صدر البيت، يليق أن تكون القافية العدم، ولذكر الصحة يليق أن تكون القافية السقم، ولذكر الوثوق يليق أن تكون القافية الندم، والبيت في غاية الرقة والانسجام. وبيت عز الدين: تخيير قلبي هوى السادات صح به ... عهدي وإني لحزني ثابت الألم أما تخير هذا البيت فإني تركته لأهل الذوق السليم، بل تخير البيت بكماله. ولم ينظم العميان في بديعيتهم هذا النوع. وبيتي [هو] : تخيروا لي سماع العذل وانتزعوا ... قلبي وزادوا نحولي مت من سقمي فسماع العذل يليق به السأم، وانتزاع القلب يليق به الألم، وزيادة النحول يليق بها السقم، وتقديم السقم هنا لقربه من النحول، ولم يدخل إلى هذا البيت، من الأجانب، قافية.

ذكر الابهام

ذكر الإبهام: زاد إبهام عذلي عاذلي ودجا ... ليلي فهل من بهيم يشتفي ألمي1 الإبهام، بباء موحدة وهو أن يقول المتكلم كلامًا مبهمًا يحتمل معنيين متضادين، لا يتميز أحدهما عن الآخر، ولا يأتي في كلامه بما يحصل به التمييز فيما بعد، بل يقصد إبهام الأمر فيهما. والإبهام مختص بالفنون، كالمديح والهجاء وغيرهما، ولكن لا يفم من ألفاظه مدح ولا هجاء، بل يكون لفظه صالحًا للأمرين، ومثاله ما يحكى أن بعض الشعراء هنأ الحسن بن سهل باتصال ابنته بالمأمون، مع من هنأه، فأثاب الناس كلهم وحرمه، فكتب إليه. إن أنت تماديت على حرماني، عملت فيك بيتًا لا تعلم مدحتك فيه أو هجوتك. فاستحضره وسأله عن قوله، فاعترف وقال: لا أعطيك أو تفعل. فقال: بارك الله للحسن ... ولبوران في الختن2 يا إمام الهدى ظفر ... ت ولكن ببنت من فلم يعلم ما أراد بقوله: ببنت من، في الرفعة أو في الصغر؟ واستحسن منه الحسن ذلك وناشده: أسمعت هذا المعنى أم ابتكرته؟ فقال: لا والله بل نقلته من شعر شاعر مطبوع، كثير العبث بهذا النوع اتفق أنه فضل قباء3 عند خياط أعور اسمه زيد، فقال له

_ 1 البهيم: الشديد الظلمة. 2 الختن: من يكون من قبل المرأة، أثناء زواجها، مثل الأب والأخ - وزوج الإبنة. 3 القباء: ثوب يلبس فوق الثياب: العباءة.

الخياط على طريق العبث به: سآتيك به لا تدري أقباء هو أم دواج1. فقال له الشاعر: إن فعلت ذلك لأعملن فيك بيتًا، لا يعلم أحد ممن سمعه، أدعوت لك أم دعوت عليك ففعل الخياط، فقال الشاعر: خاط لي زيد قباء ... ليت عينيه سواء فما علم أحد، أن الصحيحة تساوي السقيمة أو بالعكس، فاستحسن الحسن صدقه أضعاف استحسانه حذقه، وغالب الناس يسمون الخياط عمرًا ويقولون: خاط لي عمرو قباء ... ليت عينيه سواء ولكن نقل زكي الدين بن أبي الأصبع، في كتابه المسمى "بتحرير التحبير" أن الخياط كان اسمه زيدًا، وأورد البيت مصرعًا، مرفوع العروض والضرب، ووجه الرفع ظاهر فيهما. ولم يتفق للمتأخرين ولا للسلف من قبل، في هذا الإبهام، غير البيت المتعلق بالخياط زيد، والبيت المتعلق بالحسن بن سهل، وقد تقدم ذكرهما، وقد عززتهما بثالث لما وقفت على تاريخ زين الدين بن قرناص الحلبي ووجدته قريبًا من قباء زيد الخياط، فقلت: تاريخ زين الدين فيه عجائب ... وبدائع وغرائب وفنون فإذا أتاه مناظر في جمعه ... خبره عني إنه مجنون وكذلك الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته، وتبعه الشيخ عز الدين الموصلي، لأجل المناظرة، ويأتي الكلام على بيتيهما. وقد كشف عنه قناع الأشكال، وأبرزت بدوره المتحجبة في أفق الكمال، فإني كتبت فيه تقريضًا لم أرض بقراضة الذهب أن تكون له رملًا، ولا سبقني إليه أديب، ولا ولد منه على هذا الطريق شكلًا، وما ذاك إلا أنه ورد إلى الديار المصرية، وأنا منشئ دواوين الإنشاء المؤيدي خلد الله ملكه، الشيخ شمس الدين محمد بن نهاض الفقاعي في شهر شوال سنة ثمانية عشر وثمانمائة، وقد صنف سيرة مشتملة على نظم ونثر للسلطان الملك المؤيد، ولم يكن للمشار إليه إلمام بتعاطي الأدب في مبادي عمره، فسألني أن أكتب له عليها تقريظًا، قبل تقديمها فامتنعت من ذلك مدة، فدخل علي بمن

_ 1 الدواج: المعطف الغليظ.

لا تمكن مخالفته، فحسنت له كتابة شيخنا القاضي بدر الدين بن الدماميني أولًا، فتوجه إليه فالتزم بالأيمان المغلظة، أنه لا يكتب له إلا إذا كتبت له، فلزمتني الكتابة من وجوه، فكتبت له هذا التقريظ الذي صلّت البلغاء خلفه، فإنه للمحاسن جامع، وأوضحت طريقه، فضاع2 الذي كان من غير تورية ضائع، وهو: وقفت على قواعد الأدب من هذه السيرة الناهضة، فوجدت مطرب لحنها قد أعرب عن التنكيت لأهل النكت الأدبية، ونويت معها سلوك الأدب لاحتشامها بالصفات المؤيدية، فإنها ما قوبلت بأدب إلا تقوت بسلطانها، ولا جارتها سيرة مطولة إلا كانت قاصرة عن الجري في ميدانها، ولا ذكرت التواريخ المقدمة معها إلا تأخرت وكبت خلفها، ولا ناظرها ذو قصص إلا ثقل عليه أمرها ونظر إلى قصصه فاستخفها، ولا بالغ أهل التقاريض في تقاريضهم إلا وكانت دونها، واستحق له هذا الوصف في ذمة أهل الأدب فاستوفت منه ديونها، فلو نظر الصفدي إلى هذا التاريخ، وراجع النظر لسلخ جلده، أو تصفحه الكتبي لعدد على تاريخه وما عده، أو كاثره ابن كثير لرأي نقضه متزايدًا عنده، أو عاصره ابن خلكان لقال لم أمازج شراب الفقاعي، بخلي فإن عنده حمضة وبرده، أو لمحه الذهبي وموه بتاريخه لقيل له هذا، وما ينطلي معه، وعلم أن خلاصة الذهب تظهر بالسبك، فهضم من جانبه ووضعه، ولو أدركه البديع لرمى بديعه وعلم أنه بدعة، أو لحقه الوهراني، لرآه في المنام إن حصل له بعد مطالعته هجعة، نسب هذا التأليف إلى الدولة المؤيدية فصار له على كل أهل الأرض صوله، فلو ناظره مؤلف بمجلد لقلنا: هذا جراب الدولة تحمس في شعره، وتغالى فألقى لنا في سوق الكلام رخصه، ولو زايده أبو تمام لتحقق عجزه وأرانا بنفسه وقصه، نعم هذه الأشعار التي ما زاحمها شاعر بديوانه إلا تلت عليه بعد الزلزلة الواقعه، وتقوم القيامة وهي إلى الحشر مرمية على القارعة، ولقد أقام أوزانها بالقسط، ولكن رجحها على القيراطي بفضله، ونقص عنها الراجح الحلي، لأن فيها زيادة على مثله، فيا له من شعر قصر عن بحره الطويل كل معارض، وكيف لا وناظمه ذو همة علية وناهض وابن ناهض، وقد وقف ابن حجة وقوف معترف أن عنده في نظمه وقفه، وسيكتب المقر البدري على اعترافه أنه قاضي الأدب وإمامه الذي صلت البلغاء خلفه، وفتحت لعلماء الأدب هذا الباب، وأرجو أن يكون فتحًا مبينًا، فإن رضوني براعة بحسن الختام، وإذا حصل العلل من هذا النهر روينا، نعم وقفت وغير خاف عن علومهم الكريمة أن شرط الواقف مايهمل، وامتثلت

_ 1 ضاع: قاح وانتشر. 2 نشره: رائحته الطيبة، عطره.

مراسيم المصنف مع سلوك الأدب الذي يذوقه من له فيه أعذب منهل، والله يجمعنا على هذا الشرب لتحلو موارده بالموارده, ولا يحجبنا عن الكلام الذي يحسن السكوت عليه وتتم به الفائدة. وكتب، بعد ذلك، سيدنا القاضي بدر الدين المشار إليه: وقفت أنا ولا أكاد أثبت نظري لشدة الخجل، وسألت المهلة في وصف هذه الألفاظ، فإذا هي قد جاءت على عجل، قلت: أما المقام الشريف الممدوح عز نصره، ولا زالت تفخر بدولته القاهرة مصره، فملك مد على الرعية جناح العدل، وحمى بيضة الإسلام، وتواردت على تجريح عدالته وتعديل صفاته السنة السيوف والأقلام، وسار على أقوم طريق، فأذكرنا السيرة العمرية، وطلع في سماء الكواكب كالبدر، فقل ما شئت في الطلعة القمرية، ودعا إلى نسك طاعته فلبته في ذلك الموقف النفوس، ونادى على أعدائه منادي الحتف فأرانا كيف يكون الترخيم بحفذ الرءوس، ناهيك بها مناقب سرّت القلوب، وسارت ونافست النجوم جواهر الألفاظ في مدحها فغارت، وشملت البرايا بالمن والمنح، وقابلت المسيء بالعفو والصفح، حماها الله تعالى من الغير، وجعل صفاتها الشريفة جمال الكتب والسير. وأما منشئ السيرة، فماذا أقول وقد رأيت الخطب جليلًا، وماذا أصف وقد حملني العجز عبئًا ثقيلًا، هو كبير أناس، مزمل1 من البلاغة بأنواع وأجناس، يأتم به الهداة كأنه علم، وتروم الأدباء المقايسة به فيقاسون ولكن من شدة الألم، له في الأدب صريمه وشهامه، وفراهة تجريه إلى المقامات الرائقة فلا تستريه سآمه2، ما هم بتركيب معنى إلا وشرح الصدور بذلك الهم3، ولا شن فارس فكره غارة إلا وتم منها على بيوت الشعراء ما تم. طالما أظهر برغم أنوف الحسدة في المجالس فضله، وصعبت الآداب على غيره لكنها أصبحت عليه سهله، وعقل غرائب نكته عما سواه فلله ما أبدع عقله، كدّر عيش الحلي بما ابتدعه من العجائب، ولا ينكر لمثله تكدير الصفي، واكتفى في ميدان البراعة بجواده فكره الذي جال وهو مكر مفر، وهكذا يكون المكتفي أتى في تاريخه بألفاظ ولو رآها ابن الأثير لتأثر، وابن سعيد لتعثر، وابن بسام لأصيب منها بالقارعة فعبس وتولى، أو الحجازي لرمي منها بالداهية التي هدمت ما بناه، وثقلت عليه حملًا، وكتب خطًّا لو لمحه ابن مقلة لأصيب منه بنظره، أو ابن البواب لهتك ستره، وجاء بأدب لو وازن أحد به الراجح الحلي، لما أقام له وزنًا ولا رجحه، ولو تأمل المليحي ملاحة لفظه الذي ما مر

_ 1 مزمل: ملتف 2 سآمه: ملل. 3 الهم: البدأ: من هم بالشيء إذا بدأ به.

مثله بالذوق إلا قال لسان التعجب ما أملحه، ولو قيس به ابن الرومي المتعاظم لأنشد الناظم: ولو أني بليت بهاشمي ... خؤولته بنو عبد المدان لهان عليَّ ما ألقى ولكن ... تعالوا وانظرو بمن ابتلاني ولو تشبه به مادح كافور1 لعاد من برده بكبد حرا، ولو كلف مجاراته صاحب القطر النباتي لقال: ربنا أفرغ علينا صبرًا، ولو تعرض ديك الجن لعزائمه في الأدب لما زادته إلا خبالا2، ولرأى سطورًا تتوالد منها المعاني العجيبة والليالي كما علمت حبالى، ولو أصبح ابن قادوس فخارًا بمثل أدبه لقلنا له حسبه أن يدور في الدولاب، ولو تسرح الزغاري إلى تصيد معانيه الشاردة لقطعت عليه أذناب الكلاب، ولو تسلق المعمار عليها لعلم أنه ينحت من الجبال بيوتًا، ولو رآه أبو نواس لقال هذا الذي نقل الأدب خبرًا وعلم من أين يؤتى، ولو عورض به ابن مماتي لطال على قريحته الميتة النحيب، أو ذكر الصابي لقال الذوق السليم ليس لعصرنا من صاب سوى هذا الأديب، ولو أدرك آدابه الحكيم ابن دانيال لعلم أنه ما تخيل نظيرها في الوهم، ولا تصور مثلها في الخيال، وإذا كان الأمر كما قال حسان بن ثابت الأنصاري: وإنما الشعر عقل المرء يعرضه ... على البرية إن كَيَسًا وإن حمقًا فما أوفر عقل هذا الشاعر وأوفاه، وما أقدره على تخيل المعاني الغريبة وأقواه، وما أحمق من قاسه على قرنائه من هذه الصناعة التي تعاطاها بسواه، كم تصور معنى في الذهن فأبرزه في الخارج أغرب الأشياء أسلوبًا، وكم ركب جناسًا إذا ذكر البستي عنده قال الأدب دعنا من تركيبه للجناس مقلوبًا. ولقد كنت أرتجي بابًا أدخل منه للتقريض، ففتح لي المقر التقوي بابًا مرتجا، ونهج الطريق إلى المدح فاقتفيت آثاره واهتديت حيث رأيت منهجًا، أبقاه الله لإبهام يوضحه، وفساد عاجز يصلحه، والله تعالى يحفظ على منشئ هذه السيرة قريحته التي هل لعجائب الأدب حائزه، ويجعله ممن يسرح في رياض الصدقات الشريفة بما يسوقه إليه من وفور الجائزه.

_ 1 مادح كافور: هو المتنبي وقصيدته في مدح كافور الإخشيدي مشهورة مطلعها: عيد بأية حال عدت يا عيد ... بما مضى أم لأمر فيك تجديد 2 الخبال: اختلاط العقل.

وألح المصنف بعد ذلك على المقر المجدي فضل الله بن مكانس، فكتب: يا لطيف نظرت هذه السيرة التي يعرضه عنها المعارض، وينزو مؤلفها في رياض الأدب على بكر من سوام المعاني وفارض1. فوجدته قد نهض بعبء ثقيل من الكلام وقام، وأوقف البلغاء في مقام العجز، ويعذر العاجز، إذ شرفها بذكر مولانا السلطان في هذا المقام، خلد الله ملكه الشريف، وعم بعدله المبسوط مدائن فضل ذات ظل وريف، وجعل أيامه الزاهرة تواريخ السعود، ومغانم الوفود، ومواسم الكرم والجود، وثبت قواعد سلطانه على التخوم، ورفع جنابه المعظم على الأفلاك حتى تسير لخدمته ممنطقات بمناطق3 النجوم، وأعز دولته عزًا يذل له الدبر والأملس2، وتلبس أثوابه في الأرض، ويخص محله الرفيع من تلك الأفلاك بالأطلس4، هنالك ينحني الهلال لتقبيل أقدامه، ويمتد كف الثريا لاستجداء صوب5 غمامه، ويتضاءل كل منهما فيصير هذا نعل فرسه وهذا حلية لجامه، وملكه رقاب العباد، وأمضى أحكام سيوفه في رقاب أهل العناد، حتى يشهد الدين أنه قام بحقوقه نافلة6 وفرضًا، وسعى في مراضي الله فزلزل ديار الكفار سماء وأرضًا، ضاعف الله ثواب عمله المقبول، وأنشد بشكره لسان العالم حتى ينطق ويقول: السيد الممالك الملك المؤيد سيـ ... ـف الدين شيخ حوى العليا وأرضاها وشيد الدين والدنيا ببيض ظبا ... إن لم تضاه به في الحرب أمضاها7 ثم كررت النظر فيها، واستنهضت القلم للكتابة عليها حسب سؤال منشيها، فنكس القلم من الخجل رأسه، وصعد من صريره8 أنفاسه، وقال: لست ممن يجيد في هذا التقريض عباره، ولا ينهض في وصل ما جاء به هذا الرجل من متين كلمه الذي أفحم الفحول فكأنما ألقمهم حجاره، فلقد ترفع قلمه في أرض قرطاسه وسما، وأتى من الرقيق بشيء يحسبه الظمآن ماء9، وقذف الرعب في القلوب بذكر الوقائع فورمت خوفًا، وشكت

_ 1 القارض: من النوق التي كبرت، ومن الكلام القديمة. 2 مناطق: واحدتها منطقة، وهي ما يشد حول الخصر من قماش وغيره. 3 الدبر والأملس: الوضيع والشريف. 4 الأطلس: نسيج من الحرير. 5 صوب غمامه: مطره. 6 النافلة: الصلاة الزائدة على الواجب، تجمع على نوافل. 7 الظبا: مفردها طبة السيف وهي وحده. 8 صرير القلم: صوته عند الكتابة. 9 ما: ترخيم ماء.

مما قذف بها ورمًا، فلو وازنه القيراطي لثقل في الحقيقة عليه، أو حام على حمى ابن أبي حجلة لفرّ طائرًا من بين يديه، أو جلا على ابن نباتة سلاف نظمه، لم يقل إليَّ، بكأسك الأشهى إليَّ، أو أورى زنده مع الشواء لأحرق قلبه، ولم يستحسن منه شيئًا أو عاصر ابن الساعاتي لم يلتذ بطيب المنام، أو جارى النصير الحمامي لألقى شعره في سرب الحمام، أو تقدم لزمان أبي تمام وناظره، لعلم الناس أنه غير لبيب، وقال له علماء البديع: هذا ضدك يا حبيب1، أو ابن حجاج لأظهر فساد عقله السخيف، ورمى بجميع ما قاله في الكنيف2، فهو أولى منهم بما جره الفضل وجذب، وأحق وإن اشتهرت فضائلهم أن يشتهر بالأدب، فإنه لو كلف الغريب من القول لأتى به على كنهه، أو أقام الاعتذار عن قبيح لقام العذر عما جاء به وذهب على وجهه، ولو تصدى لتهجين3 حسن، لزان بما يملأ الطروس من ذلك وشحن، أو حاجج بالباطل من يعرب عن الحق لنهض بحجته واستمر يلحن، فسبحان من أقدره على ما تقصر عن إدراكه الأفهام، وتعجز عن تصوره عقول الأنام. ولقد استعفاه القلم عن الكتابة خشية من عرض فضائحه، وسأله طيّ هذه الصحيفة خوفًا من نشر قيائحه4، فأبى إلا إظهار المكتوم وفض المختوم، فيا خجلتاه لما كتب، ويا فضيحتاه إذا لام الفاضل على ما جاء به وعتب، ولكنه جرى خلف الجادين بالسابقين، واقتدى بإمامتهما التي اعترف الآفاق أنها ملأت الخافقين5 أبقاهما الله مدى الزمان، وأسبغ عليهما غطاء الفضل، وبلغهما غاية الأماني يوم الخوف والأمان، وأمتع بجناب منشئها الأحباب، وأقر به أعين الإخوان، وبسط به أنفس الأصحاب، وألهمنا أجمعين تجنب ما خفي علينا من عوراتنا، وكشف حجب قلوبنا، بمنه وكرمه. وبيت الشيخ صفي الدين الحلي: ليت المنية حالت دون نصحك لي ... فيستريح كلانا من أذى التهم هذا البيت ليس له نظير في هذا الباب، فإنه اشتمل على الرقة والسهولة والانسجام وما زاده حسنا إلا تقويته بليت، التي استعان بها الشاعر في إبهام بيته على زيد الخياط

_ 1 حبيب: هو اسم أبي تمام. 2 الكنيف: لغة في المرحاض: مكان الخلاء. 3 تهجين: تقبيح. 4 قيائحه: جمع مفرده قيح وهو الوسخ الذي يتجمع في الجرح عند النهاية. 5 الخافقين: المشرق والمغرب.

فإن الشيخ صفي الدين لما قال لعاذله: ليت المنية حالت دون نصحك لي، حسن إبهامه بقوله: فيستريح كلانا من أذى التهم، وصار الأمر مبهمًا بينه وبين العاذل. وبيت الشيخ عز الدين، في بديعيته، يخاطب فيها العاذل: أبهمت نصحي مشيرًا بالأصابع لي ... ليت الوجود رمى الإبهام بالعدم وهذا الإبهام هنا يشار إليه بالأصابع، وتعقد عليه الخناصر، فإن الشيخ عز الدين رحمه الله تعالى أجاد فيه إلى الغاية، ولم يتفق له في نظم بديعيته بيت نظيره، ولا اتفق لغيره ممن نظم بديعية، فإنه جمع بين السهولة والانسجام والتصوير والتورية البارزة في أحسن القوالب، بتسمية نوع الإبهام الذي هو المقصود، ولعمري إنه بالغ في عطف القلوب بهذا السحر الحلال. ولم ينظم العميان في بديعيتهم هذا النوع، وبيت بديعيتي: وزاد إبهام عذلي عاذلي ودجا ... ليلي فهل من بهيم يشتفي ألمي فإن الإبهام هنا بين بهيم الليل وبين العاذل، فإن اشتراك البهيم صالح لهما، ولكن لم يحصل التمييز لأحدهما عن الآخر، كما وقع الشرط بين الأمر بينهما مبهمًا، ولا يعلم من هو المقصود منهما، وهذا هو الفرق بين الإبهام والتورية، إذ المراد من التورية المعنى البعيد المورى عنه بالقريب.

ذكر إرسال المثل

ذكر إرسال المثل: كم تمثلت إذ أرخوا شعورهم ... وقلت بالله خلوا الرقص في الظلم إرسال المثل نوع لطيف في البديع، ولم ينظمه في بديعيته غير الشيخ صفي الدين، وهو عبارة عن أن يأتي الشاعر، في بعض بيت، بما يجري مجرى المثل، من حكمة أو نعت أو غير ذلك مما يحسن التمثل به، كقوله تعالى: {لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} 1 وقوله تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} 2 وقوله تعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} وقوله تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} 4. ومما جاء من ذلك في السنة الشريفة، قوله -صلى الله عليه وسلم: "لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين" وقوله -صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار" وقوله -صلى الله عليه وسلم: "خير الأمور أوساطها" وقوله -صلى الله عليه وسلم: "المرء مع من أحب" وقوله -صلى الله عليه وسلم: "المستشار مؤتمن وهو بالخيار ما لم يتكلم" وقوله -صلى الله عليه وسلم: "ذو الوجهين لا يكون عند الله وجيهًا يوم القيامة" وقوله -صلى الله عليه وسلم: "البلاء موكل بالمنطق". وقد احتوى كتاب أبي أحمد العسكري على كثير من هذا الباب، ومن أمثلته في الشعر قول زهير: وهل ينبت الخطمي إلا وشيجة ... وتغرس إلا في منابتها النخل5

_ 1 النجم: 53/ 58. 2 النمل: 27/ 88. 3 البقرة: 12/ 138. 4 الإسراء: 17/ 7. 5 الخطمي: نبات ليفي يتداوى به - والوشيجة: الألياف.

ومثله قول النابغة: ولست بمتسبق أخا لا تلمه ... على شعث أي الرجال المهذب ومثله قول بشار: فعش واحدًا أو صل أخاك فإنه ... مقارف ذنب مرة ومجانبه1 وما أحلى ما قال بعده: إذا أنت لم تشرب مرارًا على القذى ... ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه2 قول أبي تمام: فلو صورت نفسك لم تزدها ... على ما فيك من كرم الطباع وكقوله: نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما الحب إلا للحبيب الأوّل وذكر ابن أبي الأصبع، في كتابه المسمى "بتحرير التحبير" إنه استخرج أمثال أبي تمام من شعره، فوجدها تسعين نصفًا وثلثمائة بيت وأربعة وخمسين بيتًا، واستوعب أمثال أبي الطيب المتنبي، فوجدها مائة نصف وثلاثة وسبعين نصفًا وأربعمائة بيت، ولكنه أخرج من أمثال أبي الطيب ما ولده من أمثال أبي تمام، وصدر الجميع بما وقع في الكتاب العزيز من الأمثال، بزيادات على ذلك، وهي أمثال الأشعار السنية والحماسة وأمثال أبي نواس، بعد أن ألحق أمثال القرآن بأمثال دواوين الإسلام السنية، وختم الجميع بأمثال العامة في كتاب الأمثال له. ومما سار من أمثال الطغرائي، في لامية العجم، قوله: حب السلامة يثني عزم صاحبه ... عن المعالي ويغري المرء بالكسل لو أن في شرف المأوى منى ... لم تبرح الشمس يومًا دارة الحمل3 أعلل النفس بالآمال أرقبها ... ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل وعادة النصل أن يزهى بجوهره ... وليس يعمل إلا في يدي بطل ما كنت أوثر أن يمتد بي زمني ... حتى أرى دولة الأوغاد والسفل4

_ 1 مقارف الذنب: مرتكبه. 2 القذى: الكدر. 3 دارة الحمل: من منازل الشمس. 4 الأوغاد: السوقة من الناس، واللئام الأخساء.

هذا جزاء امرئ أقرانه درجوا ... من قبله فتمنى فسحة الأجل وإن علاني من دوني فلا عجب ... لي أسوة بانحطاط الشمس عن زحل فاصبر لها غير محتال ولا ضجر ... في حادث الدهر ما يغني عن الحيل1 أعدى عدوك أدنى من وثقت به ... فحاذر الناس واصحبهم على دخل2 وإنما رجل الدنيا وواحدها ... من لا يعول في الدنيا على رجل3 يا واردا سؤر عيش كله كدر ... أنفقت صفوك في أيامك الأول4 فيم اقتحامك لج البحر تركبه ... وأنت تكفيك منه مصة الوشل5 ملك القناعة لا يخشى عليه ولا ... يحتاج فيه إلى الأنصار والخول6 ترجو البقاء بدار لا بقاء لها ... فهل سمعت بظل غير منتقل ويا أمينا على الأسرار مطلعا ... اصمت ففي الصمت منجاة من الزلل7 وممن سار في مجرى هذه القصيدة ووزنها، أبو الطيب المتنبي في قصيدته التي أولها: أجاب دمعي وما الداعي سوى طلل ... دعا فلباه قبل الركب والإبل8 وما صبابة مشتاق على أمل ... من اللقاء كمشتاق بلا أمل والهجر أقتل لي مما أراقبه ... أنا الغريق فما خوفي من البلل قد ذقت شدة أيامي ولذتها ... فما حصلت على صاب ولا عسل9 خذ ما تراه ودع شيئًا سمعت به ... في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل انظر إلى محاسن هذين الفحلين إلى الغاية التي تمثلا بها في الشمس وزحل، وتأخر سوابق الأفهام عن معرفة السابق منهما إلى الغاية، ومنها قوله: وقد وجدت مكان القول ذا سعة ... وإن وجدت لسانًا قائلًا فقل لعل عتبك محمود عواقبه ... فربما صحت الأجسام بالعلل

_ 1 حادث: جديد 2 الدخل: الحذر. ومداخلة الشك. 3 يعول: يتكل. 4 السؤر: البقية الباقية من الشيء. 5 الوشل: الماء القليل. 6 الخول: الإماء والعبيد. 7 الزلل: الخطأ. 8 الطلل: الأثر. 9 الصاب: شراب مرٌّ.

لأن حلمك حلم لا تكلفه ... ليس التكحل في العينين كالكحل1 وما ثناك كلام الناس عن كرم ... ومن يسد طريق العارض الهطل وقد عن لي أن أجمع هنا ما حلا بذوقي من أمثال أبي الطيب المتنبي، وإن كان فيها ما ولده من شعر أبي تمام، كما ذكره ابن أبي الأصبع، فإن القصد أن نصيرها عمدة لأهل الإنشاء إذا أوردوها في الوقائع التي تليق بها على اختلاف أنواعها، فمن ذلك قوله: إذا صديق نكرت جانبه ... لم تعيني في فراقه الحيل في سعة الخافقين مضطرب ... وفي بلاد من أختها بدل وقوله من قصيدة: أشد الغم عندي في سرور ... تيقن عنه صاحبه انتقالا ومن يك ذا فم مر مريض ... يجد مرًّا به الماء الزلالا2 وقوله من قصيدة: ذل من يغبط الذليل بعيش ... رب عيش أخف منه الحمام3 كل حلم أتى بغير اقتدار ... حجة لاجئ إليها اللئام من يهن يسهل الهوان عليه ... ما لجرح بميت إيلام خير أعضائنا الرءوس ولكن ... فضلتها بقصدك الأقدام وقوله: ما كل من طلب المعالي نافذًا ... فيها ولا كل الرجال فحولا تلف الذي اتخذ الجراءة خلة ... وعظ الذي اتخذ الفرار خليلا4 وقوله: ومكايد السفهاء واقعة بهم ... وعداوة الشعراء بئس المقتنى ويعجبني قوله في الهجو، وهو مما نحن فيه: فلو كنت أمرأ تهجى هجونا ... ولكن ضاق قطر عن مسير5

_ 1 الكحل: سواد في محجر العين إذ تبدو وكأنها مكحلة بالكحل. 2 الزلالا: الصافي من كل كدر. 3 يغبط: يحسد، الحمام: الموت. 4 تلف: هلك، خلة: خصلة وهي واحدة الخصال. كما أن خلة واحدة الخلال. 5 القطر: البلد.

وقوله: فقر الجهول بلا لب إلى أدب ... فقر الحمار بلا رأس إلى رسن قد هوّن الصبر عندي كل نازلة ... ولين العزم خد المركب الخشن1 لا يعجبن مضيمًا حسن بزته ... وهل تروق دفينا جودة الكفن2 وقال من أبيات قوله: عرفت الليالي قبل ما صنعت بنا ... فلما دهتني لم تزدني بها علما وكنت قبيل الموت أستعظم النوى ... فقد صارت الصغرى التي كانت العظمى فلا عبرت بي ساعة لا تعزني ... ولا صحبتني مهجة تقبل الظلما وقوله أيضا: وأنا الذي أجتلب المنية طرفه ... فمن المطالب والقتيل القاتل أنعم ولذ فللأمور أواخر ... أبدًا كما كانت لهن أوائل للهو آونة تمر كأنها ... قبل تزودها حبيب راحل جمح الزمان فما لذيذ خالص ... مما يشوب ولا سرور كامل3 وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني فاضل4 وقال في قصيدة، وهي أبلغ ما يكون في المدح: أعيا زوالك عن محل نلته ... لا تخرج الأقمار من هالاتها5 وقال في قصيدة: وأشجع مني كل يوم سلامتي ... وما ثبتت إلا وفي نفسها أمر ذر النفس تأخذ وسعها قبل بينها ... فمفترق جاران دارهما عمر6 ومن ينفق الساعات في جمع ماله ... مخافة فقر فالذي فعل الفقر وأستكبر الأخبار قبل لقائه ... فلما التقينا صغر الخَبَرُ الخُبْرُ وإني رأيت الضر أحسن منظرًا ... وأهون من مرأى صغير به كِبر7

_ 1 النازلة: المصيبة تنزل بالإنسان. 2 مضيمًا: مقيمًا على الضيم وهو الغم والحزن. 3 جمح: جار وحاد عن جادة الصواب، خالص: لا يشوبه كدر. 4 ناقص: إنسان ناقص، وكل إنسان ناقص. 5 هالاتها: واحدتها هالة، وهي ما يحيط بالقمر كالدائرة من النور. 6 ذر: اترك - البين: الموت والفراق. 7 الكبر: الكبرياء والتكبر.

ويعجبني من المديح منها "شعر": وما أنا وحدي قلت ذا الشعر كله ... ولكن لشعري فيك من نفسه وقال من قصيدة: وما ليل بأطول من نهار ... يظل بلحظ حسادي مشوبا ولا موت بأنقص من حياة ... أرى لهم معي فيها نصيبا عرفت نوائب الحدثان حتى ... لو انتسبت لكنت لها نقيبا1 وما أظرف ما قال منها: وشيخ في الشباب وليس شيخًا ... يسمى كل من بلغ المشيبا قسا فالأسد تفزع من يديه ... ورق فنحن نفزع أن يذوبا وقال من قصيدة، وهي التي ذكروا أنه ادعى فيها النبوة: ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى ... عدوا له ما من صداقته بد2 وقال من قصيدة: قد كنت أشفق من دمعي على بصري ... فاليوم كل عزيز بعدكم هانا3 إذا قدمت على الأهوال شيعني ... قلب إذا شئت أن يسلاكم خانا أبدو فيسجد من بالسوء يذكرني ... ولا أعاتبه صفحًا وأهوانًا وهكذا كنت في أهلي وفي وطني ... إن النفيس عزيز حيثما كانا4 لا أشرئب إلى ما لم يفت طمعًا ... ولا أبيت على ما فات حسرانا5 ولا أسر بما غير الحميد به ... ولو حملت إليَّ الدهر ملآنا وقوله من قصيدة: فما لي وللدنيا طلابي نجومها ... ومسعاي منها في شدوق الأراقم6

_ 1 النقيب: السيد. 2 نكد: تنغيص العيش. 3 أُشفِقُ: أخاف. 4 النفيس: العزيز والغالي والثمين. 5 أشرئب: أمد عنقي لأتطلع حسرانًا: تحسرًا. 6 طلابي: أي ما أطلب - شدوق: جمع مفرده شدق وهو الفم أو شطره - الأراقم: من الحيات، أخبثها: مفردها أرقم.

من الحلم أن يستعمل الجهل دونه ... إذا اتسعت في الحلم طرق المظالم1 ومن عرف الأيام معرفتي بها ... وبالناس روى سيفه غير راحم ولولا احتقاري الأسد شبهتها بهم ... ولكنها معدودة في البهايم2 وكاد سروري لا يفي بندامتي ... على تركه في عمري المتقادم وقال من قصيدة: وأحسب أني لو هويت فراقكم ... لفارقكتم والدهر أخبث صاحب فيا ليت ما بيني وبين أحبتي ... من البعد ما بيني وبين المصائب3 يهون على مثلي إذا رام حاجة ... وقوع العوالي دونها والقواضب4 كثير حياة المرء مثل قليلها ... يزول وباقي عيشه مثل ذاهب بأي بلاد لم أجر ذوائبي ... وأي مكان لم تطأه ركائبي5 وتخلص إلى مديح طاهر، ولكنه أتى في تخلصه بالعجائب، فقال: كأن رحيلي كان من كف طاهر ... فأثبت كوري في ظهور المواهب6 ما يقول: أثبت كوري في ظهور المواهب، إلا المتنبي. ومن أبياته التي سارت أمثالا قوله: إذا غامرت في شرف مروم ... فلا تقنع بما دون النجوم7 فطعم الموت في أمر حقير ... كطعم الموت في أمر عظيم وكل شجاعة في المرء تغني ... ولا مثل الشجاعة في الحليم وكم من عائب قولا صحيحا ... وآفته من الفهم السقيم8 ولكن تأخذ الأسماع منه ... على قدر القرائح والفهوم

_ 1 الحلم: العقل. 2 البهايم: والبهائم: الدواب. 3 إشارة إلى انعدام البعد بينه وبين المصائب، فهو يتمنى انعدام هذا البعد بينه وبين الأحبة. 4 رام: أراد وقصد - العوالي والقواضب: الرماح والسيوف. 5 ذوائبي: مفردها ذؤابة، وهي من الرحل، الجلدة المعلقة على آخره. ومن النعل، ما يلامس الأرض، ومن الشعر: الناصية وهي مقدم شعر الرأس، ركائبي: مفردها ركاب وهو ما يركب. 6 الكور: الرحل بأداته. 7 مروم: مقصود لعلوه. 8 الآفة: المرض.

وقال من قصيدة: والهم يحترم الجسيم مخافة ... ويشيب ناصية الصبي ويهرم1 ذو العقل يشقى في النعيم بعلقه ... وأخو الجهالة في الشقاء منعم2 لا تخدعنك ما عدو دمعة ... وارحم شبابك من عدوك تُرحم وما أعظم ما قال بعده: لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ... حتى يراق على جوانبه الدم والظلم من شيم النفوس فإن تجد ... ذا عفة فلعلة لا يظلم ومن البلية عذل من لا يرعوي ... عن جهله وخطاب من لا يفهم3 والذل يظهر في الذليل مودة ... وأودّ منه لمن يود الأرقم ومن العداوة ما ينالك نفعه ... ومن الصداقة ما يضر ويؤلم أفعالُ من تلد الكرام كريمة ... وفعال من تلد الأعاجم أعجم وقوله: كريشة بمهب الريح ساقطة ... لا تستقر على حال من القلق ويعجبني قوله من أبيات، يتمثل بها في كثيرة الإحسان المفرط: ولم تملل تفقدك الموالي ... ولم تذمم أياديك الجساما ولكن الغيوث إذا توالت ... بأرض مسافر كره المقاما وصار أحب ما يهدي إليه ... لغير قلى وداعك والسلاما4 وقال: والغنى في يد اللئيم قبيح ... قدر قبح الكريم في الإملاق5 وقال من قصيدة: وقد يتزيا بالهوى غير أهله ... ويستصحب الإنسان من لا يلائمه

_ 1 يُهرِم: يصيب بالكِبَر. 2 وقد روي هذا البيت كما يلي: ذو العقل يشقى في النعيم بعقله ... وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم 3 ارعوى: عاد إلى رشده وتاب: وارتد عن غوايته. 4 القلى: الكره والهجر. 5 الإملاق: الفقر الشديد المدقع.

بليت بلى الأطلال إن لم أقف بها ... وقوف شحيح ضاع في التراب خاتمه1 وما استغربت عيني فرقًا رأيته ... ولا علمتني غير ما أنا عالمه وقوله: وإذا كانت النفوس كبارًا ... تعبت في مرادها الأجسام وقال من قصيدة: إذا اعتاد الفتى خوض المنايا ... فأهون ما تمر به الوحول وقوله: رماني الدهر بالأرزاء حتى ... فؤادي في غشاء من نبال2 فصرت إذا أصابتني سهام ... تكسرت النصال على النصال وقوله: يراد من القلب نسيانكم ... وتأبى الطباع على الناقل ولو زلتم ثم لم أبككم ... بكيت على حبي الزائل وقوله: هل الولد المحبوب إلا تعلة ... وهل جلوة الحسناء إلا أذى البعل3 وقد ذقت حلواء البنين على الصبا ... وفلا تحسبني قلت ما قلت عن جهل وما الدهر أهل أن تؤمل عنده ... حياة وإن يشتاق فيه إلى النسل وقال: إذا ما الناس جربهم لبيب ... فإني قد أكلتهم وذاقا وقوله: فما ترجّي النفوس من زمن ... أحمد حاليه غير محمود وقوله: ووجه البحر يعرف من بعيد ... إذا يسجو فكيف إذا يموج4 وقال: ليس الجمال لأنف صاح مارنه ... أنف العزيز بقطع العز يجتدع5 من كان فوق محل الشمس موضعه ... فليس يرفعه شيء ولا يضع6 إن السلاح جميع الناس تحمله ... وليس كل ذوات المخلب السبع وقوله مفتخرًا: وإنا إذا ما الموت صرح في الوغى ... لبسنا إلى حاجاتنا الضرب والطعنا وقوله: أهم بشيء والليالي كأنها ... تطاردني عن كونه وأطارد وحيد من الخلان في كل بلدة ... إذا عظم المطلوب قل المساعد

_ 1 بلا: في الأصل وردت: بلا، وما أثبتناه أصح، لأنها مصدر بلى، الشحيح: البخيل. 2 الغشاء: العطاء وهذه أليق بالمعنى لأن الغشاء ينم عن الشفافية وهذه لا تكون في النبال. 3 الجلوة: ما يكون ليلة العرس من دوران العروس مادة يديها وعلى العريس أن يضع في كفها مبلغًا من المال في كل دورة، بينما إحداهن تغني أغنية خاصة، البعل: الزوج. 4 يسجو: يسكن ويهدأ. 5 المارن: عظم الأنف - جدع الأنف: قطعه. 6 يضع: يحط من قدره ومكانته.

ولكن إذا لم يحمل القلب كفه ... على حالة لم يحمل الكف ساعد منها: بذا قضت الأيام ما بين أهلها ... مصائب قوم عند قوم فوائد وكل يرى طرق الشجاعة والندى ... ولكن طبع النفس للنفس قائد فإن قليل الحب بالعقل صالح ... وإن كثير الحب بالجهل فاسد وقوله: وما كل وجه أبيض بمبارك ... ولا كل جفن ضيق بنجيب1 كأن الردى عاد على كل ماجد ... إذا لم يعوذ مجده بعيوب2 ولولا أيادي الدهر في الجمع بيننا ... غفلنا فلم نشعر له بذنوب فرب كئيب ليس تندى جفونه ... ورب كثير الدمع غير كئيب وفي تعب من يجحد الشمس ضوءها ... ويجهد أن يأتي لها بضريب3 وقوله: ومن صحب الدنيا طويلا تقلبت ... على عينه حتى يرى صدقها كذبا ومن تكن الأسد الضواري جدوده ... يكن ليله صبحا ومطعمه غصبا4 ولست أبالي بعد إدراكي بالعلا ... أكان تراثًا ما تناولت أم كسبا ويعجبني، من هذه القصيدة، قوله في مديح سيف الدولة وقد كسر الدمستق5 على مرعش: أتى مرعشًا يستقرب البعد مقبلًا ... وأدبر إذ أقبلت تستبعد القربا كذا يترك الأعداء من يكره القنا ... ويقفل من كانت غنيمته رعبا مضى بعدما التف الرماحان ساعة ... كما يلتقي الهدب في الرقدة الهدبا ولكنه ولى وللطعن سورة ... إذا ذكرتها نفسه لمس الجنبا6 فحب الجبان النفس أوردها البقا ... وحب الشجاع الحرب أوردها الخربا7 وما أحلى ما قال بعده: ويختلف الرزقان والفعل واحد ... إلى أن ترى إحسان هذا لذا ذنبا

_ 1 نجُب: نجابة حمُد في نظره، أو في قوله وفعله. 2 عوّذ: حمى. 3 ضريب: شبيه. 4 الضواري: مفردها ضاري وهو المفترس. 5 الدمسق: لقب كان لقائد جيوش الروم - ومرعش: حصن. 6 سورة: هيجان وغضب. 7 الخربا: الهلاك.

ومن أنصاف مطالعه التي يتمثل بها الناس: واحر قلباه ممن قلبه شبم1 ونصفه الثاني لأجل تمام شخص المطلع: ومن بجسمي وحالي عنده سقم ويعجبني من هذه القصيدة قوله، يخاطب سيف الدولة ويشير إليه أنه سمع فيه كلام الأعداء، وقد أحضرهم لمواجهته ولم يخرج عن إرسال المثل: يا أعدل الناس إلا في معاملتي ... فيك الخصام وأنتم الخصم والحكم أعيذها نظرات منك صادقة ... أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم2 وما انتفاع أخي الدنيا بناظره ... إذا استوت عنده الأنوار والظلم ومما سار من أمثالها قوله: إذا رأيت نيوب الليث بارزة ... فلا تظننن أن الليث مبتسم3 يا من يعز علينا أن نفارقهم ... وجداننا كل شيء بعدكم عدم إن كان سركم ما قال حاسدنا ... فما لجرح إذا أرضاكم ألم وبيننا لو رعبتم ذاك معرفة ... إن المعارف في أهل النهى ذمم4 كم تطلبون لنا عيبًا فيعجزكم ... ويكره الله ما تأتون والكرم ومنها وليس لمثله مثيل إذا ترحلت عن قوم وقد قرروا ... أن لا نفارقهم فالراحلون هم وما أحلى ما قال بعده: شر البلاد مكان لا صديق به ... وشر ما يكسب الإنسان ما يصم5 وقال من أبيات: وإن كان ذنبي كل ذنب فإنه ... محال الذنب كل المحو من جاء تائبا وقال من قصيدة: وما كمد الحساد شيئًا قصدته ... ولكنه من يزحم البحر يغرق6 وإطراق طرف العين ليس بنافع ... إذا كان طرف القلب ليس بمطرق

_ 1 شيم: باردٌ قليل الحس. 2 أُعيذها: تعبير يفيد الرقية، وهو بمعنى أحميها بالتعاويذ. 3 روي بالفعل: يبتسم. 4 النُهى: العقول، الذمم: العهود، كناية عن حفظها وعدم نسيانها. 5 يصم: يبقى وصمة وعلامة إلى آخر الدهر. 6 الكمد: الغيض - أو الغم والحزن.

وقوله: لولا مفارقة الأحباب ما وجدت ... لها المنايا إلى أروحانا سبلا وقوله: لا بقومي شرفت بل شرفوا بي ... وبنفسي فخرت لا بجدودي وما أحلى ما قال في غزلها: أي يوم سررتني بوصال ... لم ترُعني ثلاثة بصدود منها: أين فضلي إذا قنعت من الدهـ ... ـر بعيش معجل التنكيد1 عش عزيزًا أو مت وأنت كريم ... بين طعن القنا وخفق البنود2 وقال من قصيدة: وعذلت أهل العشق حتى ذقته ... فعجبت كيف يموت من لا يعشق وقوله من قصيدة: تحقر عندي همتي كل مطلب ... ويقصر في عيني المدى المتطاول وما أحلى ما قال بعده: وما زلت طودا لا تزول مناكبي ... إلى أن بدت للضيم في زلازل3 وله من قصيدة: ليس التعلل بالآمال من أربي ... ولا القناعة بالإقلال من شيمي4 ولا أظن بنات الدهر تتركني ... حتى تسد عليها طرقها هممي وما ألطف ما قال منها: أرى أناسًا ومحصولي على غنم ... وذكر جود ومحصولي على الكلم لقد تصيرت حتى لات مصطبر ... فالآن أقحم حتى لات مقتحم5

_ 1 النكيد: التكدير والتنغيص. 2 البنود: الرايات والأعلام الكبيرة. 3 الطود: الشامخ المتعالي، والمناكب: جمع مفرده منكب وهو الموضع. 4 الأرب: الحاجة والمطلب، الشيمة: الخصلة والعادة. 5 لات مصطرب، ولات مقتحم. أي لات وقت اصطبار ولات مكان الاقتحام ولات بمعنى، عزّ وندر وقل.

وقال: وكاتم الحب يوم البين منهتك ... وصاحب الدمع لا تخفى سرائره1 وقوله: إذا قيل رفقًا قال للحلم موضع ... وحلم الفتا في غير موضعه جهل وقال من قصيدة: فموتي في الوغى عيشي لأني ... رأيت العيش من أرب النفوس وقال من أخرى: إن ترمني بنكبات الدهر عن كثب ... ترمي أمرأ غير رعديد ولا نكس2 وقال: خير الطيور على القوص وشرها ... يأوي الخراب ويسكن الناووسا3 وقال أيضا: يخفي العداوة وهي خفية ... نظر العدو بما أسر يبوح وقال أيضًا: وهبني قلت هذا الصبح ليل ... أيعمى العالمون عن الضياء وقال أيضًا: وشغل النفس عن طلب المعالي ... يبيع الشعر في سوق الكساد ومنها: وما ماضي الشباب بمسترد ... ولا يوم يمر بمستعاد متى لحظت بياض الشيب عيني ... فقد وجدته منها في السواد وما العضب الطريف وإن تقوى ... بمنتصف من الكرم التلاد4 فإن الجرح يدمي بعد حين ... غذا كان البناء على فساد وكيف يبيت مضطجعًا جبانٌ ... فرشت لجنبه شوك القتاد5 وما أحلى قوله من قصيدة: إني وإن لمت حاسدي فما ... أنكر أني عقوبة لهم كفاني الذم أنني رجل ... أكرم مال ملكته الكرم وما أحلى ما قال بعده: يجني الغنى للئام لو عقلوا ... ما ليس يجني عليهم العدم وقال أيضًا: خليلك أنت لا من قلت خلي ... وإن كثر التجمل والكلام ولو لم يعل إلا ذو محل ... تعالى الجيش وانحط القتام6

_ 1 سرائر: مفردها سريره وهي دخيلة النفس. 2 رعديد: الذي يرتجف في المعركة، الجبان، والنكس: الذليل، أي الذي ينكس رأسه ويطأطئه. 3 الناووس: مقبرة النصارى، وهي معربة. 4 العضب الطريف: السيف القاطع الحديث الصنع، التلاد جمع مفردها تليد وهو القديم الموروث ضد الطريف. 5 القتاب: شجر صلب له شوك كالإبر. 6 القتام: الغبار المتصاعد أثناء المعركة.

وما أحلى قوله منها: تلذ له المروءة وهي تؤذي ... ومن يعشق يلذ له الغرام ومما سار من أمثالها: لقد حسنت بك الأيام حتى ... كأنك في فم الدنيا ابتسام تروع ركانة وتذوب ظرفا ... فما ندري أشيخ أم غلام1 وقال من قصيدة: أظمتني الدنيا فلما جئتها ... مستمطرًا أمطرت عليّ مصائبا وقال منها: خذ من ثنائي عليك ما أستطيعه ... لا تلزمني في الثناء الواجبا2 وقال من غيرها: ولمن لبه مع غيره كيف حاله ... ومن سره في جفنه كيف يكتم3 وقوله: أنا صخرة الوادي إذا ما زوحمت ... وإذا نطقت فإنني الجوزاء4 وإذا خفيت على الغبي فعاذر ... أن لا تراني مقلة عمياء5 إن الكريم إذا أقام ببلدة ... سال النضار بها وقام الماء وقال من قصيدة: لا تعذل المشتاق في أشواقه ... حتى يكون حشاك في أحشائه وما أحلى ما قال بعده: إن القتيل مضرجًا بدموعه ... مثل القتيل مضرجًا بدمائه6 وما أحلى ما قال من قصيدة: إذا ما قدرت على نطفة ... فإني على تركها أقدر أصرّف نفسي كما أشتهي ... وأمكلها والقنا أحمر

_ 1 ركانة: شدة ورزانة. 2 أسطيعه: لغة في أستطيعهُ. 3 اللب: العقل. 4 الجوزاء: أحد الأبراج الفلكية. 5 عاذر: لا ألوم ولا أعنف. أجد العذر. 6 مضرجًا: ملطخًا.

ويطربني من مديحها قوله منها أيضًا: كفتك المروءة ما تتقي ... وآمنك الود ما تحذر وقال: فلا تطمعن من حاسد في مودة ... وإن كنت تبديها له وتنيل1 يهون علينا أن تصاب جسومنا ... وتسلم أعراض لنا وعقول وقوله: وما أخصك في برء بتهنئة ... إذا سلمت فكل الناس قد سلموا وقال: ومن يجعل الضرغام للصيد بازه ... تصيده الضرغام فيما تصيدا2 وما قتل الأحرار كالعفو عنهم ... ومن لك بالحر يحفظ اليدا وما أحلى ما قال بعده: إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ... وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا ووضع الندى في موضع السيف بالعلا ... مضر كوضع السيف في موضع الندى ويعجبني منها في افتخاره: وما الدهر إلا من رواة قصائدي ... إذا قلت شعرًا أصبح الدهر منشدا فسار به من لا يسير مشمرًا ... وغنى به من لا يغني مغردا ومن أمثالها: فدع كل صوت بعدي صوتي فإنني ... أنا الصائح المحكي والآخر الصدى3 وقيدت نفسي في ذراك محبة ... ومن وجد الإحسان قيد تقيدا ولقد أجاد في مديحها بقوله: إذا سأل الإنسان أيامه الغنى ... وكنت على بعد جعلتك موعدا ومن الأمثال السائرة مطلع هذه القصيدة: لكل امرئ من دهره ما تعودا. وقال من قصيدة: وما التيه ظني فيهم غير أنني ... بغيض إلى الجاهل المتغافل4

_ 1 أنال: بذل وأعطي. 2 الضرغام: الأسد الغضنفر، الباز: طائر معروف يستعمل في الصيد: الباشق. 3 روي: أنا الصادح المحكي: والصادح هو البلبل المغرد، والمحكي: الذي قلد ويقلد. ويتشبه به. والصدى: رجع الصوت. 4 التيه: الضياع.

وقوله: وكيف يتم بأسك في أناس ... تصيبهم فيؤلمك المصاب وما ألطف ما قال بعده: ترفق أيها المولى عليهم ... فإن الرفق بالجاني عتاب1 وما تركوك معصية ولكن ... يعاف الورد والموت الشراب2 وما جهلت أياديك البوادي ... ولكن ربما خفي الصواب وكم ذنب يولده دلال ... وكم بعد يولده اقتراب وجرم جره سفهاء قوم ... وحل بغير جارمه العذاب ومن مطالعه التي سارت أمثالًا: على قدر أهل العزم تأتي العزائم ... وتأتي على قدر الكرام الكرائم3 ويعجبني من مديحها: إذا كان ما تنويه فعلًا مضارعًا ... مضى قبل أن تلقي عليه الجوازم وقفت وما في الموت شك لواقف ... كأنك في جفن الردى وهو نائم4 وقال من قصيدة: وما تنفع الخيل الكرام ولا القنا ... إذا لم يكن فوق الكرام كرائم وقال من غيرها: وما الحسن في وجه الفتى شرف له ... إذا لم يكن في فعله والخلائق5 وقال من قصيدة: وما في سطوة الأرباب عيب ... ولا في زلة العبدان عار6

_ 1 ترفق: تمهل - الجاني: المذنب. 2 يعاف: ينفر من الشيء ويمقته. 3 وقد روي: المكارم وهي أصح: فالكرائم: مفردها كريمة، وهي الابن والمكارم، مفردها مكرمة: وهي العمل الجيد الكريم. 4 الردى: الموت. 5 الخلائق: جمع خليقة وهي السجية والخلق الحسن. 6 السطوة: السيطرة - الأرباب: الملوك والصحاب - العبدان: جمع عبد.

وقال من قصيدة: وإذا لم تجد من الناس كفؤًا ... ذاتُ خدر أرادت الموت بعلا وإذا الشيخ قال أف فما مل ... حياة وإنما الضعف ملا آلة العيش صحة وشباب ... فإذا وليا عن المرء ولى وما أحلى ما قال بعده: أ بدًا تسترد ما تهب الدنيـ ... ـيا فيا ليت جودها كان بخلًا وقال من قصيد: رب أمر أتاك لا تحمد الفعا ... ل فيه وتحمد الأفعالا وإذا ما خلا الجبان بأرض ... طلب الطعن وحده والنزالا ومن أنصافها: هكذا هكذا وإلا فلا لا. وقال من قصيدة مطلعها: الرأي قبل شجاعة الشجعان ... هو أول وهي المحل الثاني ولربما طعن الفتى أقرانه ... بالرأي قبل تطاعن الأقران1 لولا العقول لكان أدنى ضيغم ... أدنى إلى شرف من الإنسان ولما تفاضلت النفوس ودبرت ... أيدي الكماة عوالي المران2 وإذا الرماح شغلن مهجة ثائر ... شغلته مهجته عن الإخوان وقال أيضًا: وإذا خامر الهوى قلب صب ... فعليه لكل عين دليل3 وكثير من السؤال اشتياق ... وكثيرمن رده تعليل ما الذي عنده تدار المنايا ... كالذي عنده تدار الشمول4 وقال من قصيدة: ومن تفكر في الدنيا ومهجته ... أقامه الفكر بين العجز والتعب

_ 1 الأقران: الأصحاب والأنداد. 2 الكماة: الفرسان مفردها كميّ، المران: الرماح اللدنة في صلابة. 3 خامر القلب: داخله، الصب: المغرم المراهق. 4 الشمول: الخمرة إذا بُردت.

ومن مطالعه التي سارت أمثالًا: كفى بك داء أن ترى الموت شافيًا ... وحسب المنايا أن يكن أمانيا وقوله منها: إذا كنت ترضى أن تعيش بذلة ... فلا تستعدن الحسام اليمانيا وللنفس أخلاق تدل على الفتى ... أكان سخاء ما أتى أم تساخيا إذا الجود لم يرزق خلاصًا من الأذى ... فلا الحمد مكسوبًا ولا المال باقيا خلقت ألوفًا لو رددت إلى الصبا ... لفارقت شيبي موجع القلب باكيا ومن أنصافها السائرة: ومن قصد البحر استقلَّ السواقيا1 وقال أيضًا: فارم بي ما أردت مني فإني ... أسد القلب آدمي الرواء2 وفؤادي من الملوك وإن كا ... ن لساني يرى من الشعراء وقال من قصيدة: فما الحداثة عن حلم بمانعة ... قد يوجد الحلم في الشبان والشيب3 ويعجبني من مديحها: كأن كل سؤال في مسامعه ... قميص يوسف في أجفان يعقوب إذا اعترته أعاديه بمسألة ... فقد عرته بجيش غير مغلوب4 وقال أيضًا: وأتعب خلق الله من زاد همه ... وقصر عما تشتهي النفس وجده فلا مجد في الدنيا لمن قل ماله ... ولا مال في الدنيا لمن قل مجده وما أحلى ما قال بعده: وفي الناس من يرضى بميسور عيشه ... ومركوبه رجلاه والثوب جلده ولكن قلبًا بين جنبي ما له ... مدى ينتهي بي في مراد أجده وقال: إذا حللت مكانا بعد صاحبه ... جعلت فيه على ما قبله تيها5

_ 1 استقل: وجدها قليلة. والسواقي: مفردها ساقية، وهي النهير الصغير. 2 أسد القلب: لي قلب أسد، آدمي الرواء: لي جسم إنسان. 3 الحداثة: صغر السن. 4 اعترته: غشيته. 5 التيه: الفخر.

وقوله: وما منزل اللذات عندي بمنزل ... إذا لم أبجل عنده وأكرّم1 منها: إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه ... وصدق ما يعتاده من توهم وعادى محبيه بقول عداته ... وأصبح في ليل من الشك مظلم أصادق نفس المرء من قبل جسمه ... وأعرفها من فعله والتكلم وأحلم عن خلي وأعلم أنه ... متى أجزه حلمًا من الجهل يندم وما كل ناو للجميل بفاعل ... ولا كل فعال له بمتمم لمن تطلب الدنيا إذا لم ترد بها ... سرور محب أو إساءة مجرم منها: رضيت بما ترضى به لي محبة ... وقدت إليك النفس قود المسلم وقوله: وإذا الحلم لم يكن في طباع ... لم يحلّم تقدم الميلاد2 وإذا كان في الأنابيب خلف ... وقع الطيش في صدور الصعاد وقوله: وما الخيل إلا كالصديق قليلة ... وإن كثرت في عين من لا يجرب وكل امرئ يولي الجميل محبب ... وكل مكان ينبت العز طيب منها وأجاد إلى الغاية: وأظلم أهل الظلم من بات حاسدًا ... لمن بات في نعمائه يتقلب وقال من قصيدة: لا تلق دهرك إلا غير مكترث ... ما دام يصحب فيه روحك البدن فما يديم سرورًا ما سررت به ... ولا يرد عليك الفائت الحزن ما كل يتمنى المرء يدركه ... تجري الرياح بما لا تشتهي السفن رأيتكم لا يصون العرض جاركم ... ولا يدر على مرعاكم اللبن جزاء كل قريب منكم ملل ... وحظ كل محب منكم ضغن3 وتغضبون على من نال رفدكم ... حتى يعاقبه التنغيص والمنن4 وقال من قصيدة: ومراد النفوس أهو من أن ... تتعادى فيه وأن تتعانى

_ 1 أبجل: أعظم. 2 لم يحلّم تقدم الميلاد: لا يعقل الكبر في السن. 3 الضغن: والضغينة: الحقد والبغضاء. 4 الرفد: العون والعطاء، التنغيص: تكدير العيش، المنن: جمع مِنَّة: وهي الحديث عن العطاء من قبل المعطي.

غير أن الفتى يلاقي المنايا ... كالحات ولا يلاقي الهوانا1 ولو أن الحياة تبقى لحي ... لعددنا أضلنا الشجاعانا وإذا لم يكن من الموت بد ... فمن العجز أن تكون جبانا2 وله من قصيدة: ولله سر في علاك وإنما ... كلام العدا ضرب من الهذيان3 وقال: لولا المشقة ساد الناس كلهم ... الجود يفقر والإقدام قتال وقال: ومن يجد الطريق إلى المعالي ... فلا يذر المطي بلا سنام4 وما أحلى ما قال بعده: ولم أر في عيوب الناس نقصًا ... كنقص القادرين على التمام وملني الفراش وكان جنبي ... يمل لقاءه في كل عام ومن اختراعاته المختزنة قوله منها، ويشير إلى حمى أصابته وكانت تغشاه إذا أتى الليل وزائرتي كأن بها حياء ... فليس تزور إلا في الظلام بذلت لها المطارف والحشايا ... فعافتها وباتت في عظامي يضيق الجلد عن نفسي وعنها ... فتوسعه بأنواع السقام إذا ما فارقتني غسلتني ... كأنا عاكفان على حرام5 كأن الصبح يطردها فتجري ... مدامعها بأربعة سجام6 أراقب وقتها من غير شوق ... مراقبة المشوق المستهام وتصدق وعدها والصدق شر ... إذا ألقاك في الكرب العظام7 فإن أمرض فما مرض اصطباري ... وإن أحمم فما حم اعتزامي وإن أسلم فما أبقى ولكن ... سلمت من الحُمام إلى الحمام 8

_ 1 كالحات: مظلمات مدلهمات، عابسات، اله وان: الذل. 2 روي: أن تموت جبانا. والمثبت أصح. 3 الهذيان: التكلم بكلام غير معقول لمرض. 4 يذر: يترك، المطي: ما يركب، السنام: الحدبة التي تعلو ظهر البعير وقصد: بلا ركوب السنام. 5 عكف: ألزم نفسه بالأمر وداوم عليه. 6 سجام: شديدة الإنصباب. 7 الكرب العظام: الضائقات الكبيرة. 8 الحمام: الحمى. الحمام: الموت.

وقوله: وللسر مني موضع لا يناله ... نديم ولا يفضي إليه شراب وما العشق إلا غرة وطماعة ... يمرض قلب نفسه فيُصاب1 أعز مكان في الدنا ظهر سابح ... وخير جليس في الزمان كتاب2 منها في المديح قوله في كافور: تجاوز قدر المدح حتى كأنه ... بأحسن ما يثني عليه يعاب إذا نلت منك الود فالكل هين ... وكل الذي فوق التراب تراب وما أحلى ما قال بعده: وما كنت لولا أنت إلا مهاجرا ... له كل يوم بلدة وصحاب من اقتضى بسوى الهندي حاجته ... أجاب كل سؤال عن هل بلم3 منها: ولم تزل قلة الإنصاف قاطعة ... بين الرجال ولو كانوا ذوي رحم لا تشتكون إلى خلق فتشمتهم ... شكوى الجريح إلى العقبان والرخم4 وكن على حذر للناس تستره ... ولا يغرك منهم ثغر مبتسم منها: أتى الزمان بنوه في شبيبته ... فسرهم وأتيناه على الهرم سبحان خالق نفسي كيف لذتها ... فيما النفوس تراه غاية الألم ومن أمثاله التي سارت في هجو كافور، قوله: العبد ليس لحر صالح بأخٍ ... لو أنه في ثياب الخز مولود5 لا تشتر العبد إلا والعصى معه ... إن العبيد لأنجاس مناكيد6

_ 1 غرة: اغترار. 2 ظهر سابح: ظهر حصان، وروي: سرج سابح. 3 الهندي: السيف. 4 العقبان: جمع عقاب وهو طائر من الجوارح، الرخم: جمع رخمة وهو طائر من الجوارح الكبيرة. 5 الخز: الحرير الخالص. 6 أنجاس: مفردها نجس وهو القذر، مناكيد: مفردها نكد وهو قليل الخيل.

ما كنت أحسبني أبقى إلى زمن ... يسيء بي فيه كلب وهو محمود من علم الأسود المخصي مكرمة ... أقومه البيض أم آباؤه السود1 ومن أمثاله: ومن جهلت نفسه قدره ... رأى غيره منه ما لا يرى ومن أنصافه التي سارت أمثالًا: ولا بد دون الشهد من إبر النحل. وقال من قصيدة: قد كنت أحذر بينهم من مثل ذا ... لو كان ينفع خائفًا أن يحذرا أعطي الزمان فما قبلت عطاءه ... وأراد بي فأردت أن أتخيرا وقال من قصيدة: وقد يتقارب الوصفان جدًّا ... وموصوفاهما متباعدان وقوله: نحن بنو الموتى فما بالنا ... نعاف ما لا بد من شربه تبخل أيدينا بأرواحنا ... على زمان هي من كسبه لو فكر العاشق في منتهى ... حسن الذي يسبيه لم يسبه يموت راعي الضأن في جهله ... موتة جالينوس في طبه وغاية المفرط في سلمه ... كغاية المفرط في حربه فلا قضى حاجته طالب ... فؤاده يخفق من رعبه وقال من قصيد: إذا اشتبكت دموع في خدود ... تبين من بكى ممن تباكى ولقد رأيت، هنا في هذا القدر الذي أوردته من شعر أبي الطيب، من إرسال المثل ما تطيب به الأذواق، وتجول به فرسان الإنشاء بالحمر من جياد الأقلام في ميادين الأوراق، وعلى كل تقدير فما لأبي الطيب في حكمه وأمثاله نظير. وهنا نكتة لطيفة وهي أن صلاح الدين الصفدي كان مذهبه تقديم أبي الطيب المتنبي على أبي تمام، وهو مذهب أبي العلاء المعري، فإنه سمى ديوانه بعدما شرحه معجز أحمد فاتفق أن صلاح الدين اجتمع بابن نباتة، بالديار المصرية وذاكره في أبي

_ 1 الأسود المخصي: كافور وكان عبدًا مخصيًّا إذ كان العبيد يخصون لأنهم كانوا يخدمون النساء.

الطيب وأبي تمام فوجده على مذهبه، واجتمعا بعد ذلك بالشيخ أثير الدين أبي حيان، وذاكراه في ذلك فقدَّم أبا تمام، فلاماه على ذلك، فقال أنا لا أسمع لومًا في حبيب. انتهى. ومذهبي في ذلك مذهب الشيخ صلاح الدين ومذهب الشيخ جمال الدين، وإن كان الشيخ أثير الدين ما سمع في حبيبه لومًا، وخالف من لامه فيه، وفند1 فمن المستحيل رجوع أبي بكر عن حب أحمد، وقد عن لي أن أورد هنا ما سارت في الخافقين حكمه وأمثاله، وانقاد أهل الذوق السليم لطاعته لما ورد عليهم مثاله، وهو تأليفي الذي وسمته "بتغريد الصادح" وما ذاك إلا أن سيدنا ومولانا قاضي القضاة صدر الدين بن الآدمي، نور الله ضريحه وجعل من الحريق المختوم غبوقه وصبوحه، كان يقول: أورد أن أنتزع من الصادق والباغم2 أرجوزة مشتملة على أمثلة مرقصة وحكم بديعة، بشرط أن يكون البيت مسنجمًا مع الذي قبله والذي بعده، ولم يتيسر لي ذلك لصعوبة المسلك، انتهى. ولما قدر الله تعالى ما قدره من الاختفاء بدمشق، سنة ثلاث عشرة وثمانمائة عند حلول الملك الناصر بها، وأنا في خدمة المقر الأشرف القاضوي محمد بن البارزي الجهني الشافعي، صاحب دواوين الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية، كان الصادح والباغم بين كتبه فنظر فيه يومًا، وذكر قول قاضي القضاة صدر الدين، ورسم لي بذلك، فانتزعت له هذه الأرجوزة التي سارت غرر أمثالها، ولم يسمح الزمان لمؤلف بمثالها، ومن سافر فيها نظره وكان الذوق سليم رفيقه، علم أنها تضرب بها الأمثال على الحقيقة، وسميتها بتغريد الصادح، وصدرتها من نظمي بأبيات تقوم مقام الديباجة والخطبة هي: الحمد لله الذي هذبنا ... واختارنا للعلم إذ أدبنا فإن للآداب فضلًا يذكر ... فلا تخطاب كل من لا يشعر يا مدَّعي الحكمة في كلامه ... ومن يروم السحر في نظامه3 خد حكمًا وكلها أمثال ... ليس لها في عصرنا مثال ألفها ابن حجة للنُجَبا ... لأن فيها رأس مال الأدبا4 واختارها من مفردات الصادح ... فكان ذا من أكبر المصالح من كل بيت إن تمثلت به ... سكنت من سامعه في قلبه

_ 1 فند: بين الأسباب. 2 الباغم: صاحب الصوت الرخيم. 3 يروم: يقصد. 4 النُجبا: ترخيم نجباء مفردها النجيب وهو الذكي.

وقد تهجمت على الشريف ... لكنني خاطبت بالمعروف وجئت من كلامه بنبذة ... تجلب للسامع كل لذة وترفع الأديب إن تمثلا ... بها إذا خاطب أرباب العلا من حكم تتبعها وصايا ... مقبولة من أحسن السجايا من أول وأوسط وآخر ... جمعتها جمع أديب شاعر حتى دنا البعيد للقريب ... وانتظم البديع بالغريب وانسجمت في جمعها أرجوزه ... بديعة غريبة وجيزه وكل من أنكر ما أحكمت في ... ترتيبها يكون غير منصف فلينظر الأصل ليعرف السبب ... ويعترف إن كان من أهل الأدب أول ما يرغب في استهلاله ... من نظمه المحكم في مقاله وهذا أوّل الصادح والباغم: العيش بالرزق وبالتقدير ... وليس بالرأي ولا التدبير في الناس من تسعده الأقدار ... وفعله جميعه إدبار ومن هنا يأتي هذا التأليف جميعه على هذا النمط، وما أردت بهذا التنبيه إلا يقظة المتأمل: من عرف الله أزال التهمة ... وقال كل فعله للحكمة من أنكر القضاء فهو مشرك ... إن القضاء بالعباد أملك ونحن لا نشرك بالله ولا ... نقنط من رحمته إذ نبتلى1 عار علينا وقبيح ذكر ... أن نجعل الكفر مكان الشكر وليس في العالم ظلم جاري ... إذ كان ما يجري بأمر الباري وأسعد العالم عند الله ... من ساعد الناس بفضل الجاه2 ومن أغاث البائس الملهوفا ... أغاثه الله إذا أخيفا إن العظيم يدفع العظيما ... كما الجسيم يحمل الجسيما فإن من خلائق الكرام ... رحمة ذي البلاء والأسقام3 وإن من شرائط العلو ... العطف في البؤس على العدو

_ 1 نبتلي: نصاب بالمصائب امتحانًا وتجريبًا. 2 الجاه: كثرة المال والغنى. 3 الأسقام: الأمراض.

وقد علمت واللبيب يعلم ... بالطبع لا يرحم من لا يرحم1 فالمرء لا يدري متى يمتحن ... فإنه في دهره مرتهن وإن نجا اليوم فما ينجو غدا ... لا يأمن الآفات إلا ذو الردى لا تغترر بالحفظ والسلامه ... فإنما الحياة كالمدامه والعمر مثل الكاس والدهر القذر ... والصفو لا بدّ له من الكدر انظر أيها المتأمل كيف اتبعت قوله: فإنما الحياة كالمدامه، بقوله: فالعمر مثل الكاس. وإذا نظرت إلى آخر البيت رأيت الاتفاق العجيب، منها: وكل إنسان فلا بد له ... من صاحب يحمل ما أثقله جهد البلاء صحبة الأضداد ... فإنها كي على الفؤاد2 أعظم ما يلقى الفتى من جهد ... أن يبتلى في جنسه بالضد فإنما الرجال بالإخوان ... واليد بالساعد والبنان لا يحقر الصحبة إلا جاهل ... أو مارق عن الرشاد غافل3 صحبة يوم نسب قريب ... وذمة يحفظه اللبيب وموجب الصداقة المساعده ... ومقتضى المودة المعاضده لاسيما في النوب الشدائد ... والمحن العظيمة الأوابد4 فالمرء يحيى أبدا أخاه ... وهو إذا ما عد من أعداه وإن من عاشر قوما يوما ... ينصرهم ولا يخاف لوما وإن من حارب من لا يقوى ... لحربه جر إليه البلوى فحارب الأكفاء والأقرانا ... فالمرء لا يحارب السلطانا واقنع إذا حاربت بالسلامه ... واحذر فعالا توجب الندامة فالتاجر الكيس في التجاره ... من خاف في متجره الخساره5 يجهد في تحصيل رأس ماله ... ثم يروم الربح باحتياله وإن رأيت النصر قد لاح لكا ... فلا تقصر واحترز أن تهلكا واسبق إلى الأجود سبق الناقد ... فسبقك الخصم من المكايد6

_ 1 اللبيب: الذكي الماهر. 2 كي: لذع. 3 المارق: الخارج، الرشاد: الهدى. 4 الأوابد: العظيمة. النوب: المصائب. 5 الكيس: اللبق الماهر. 6 الناقد: الذي يحسن التميز بين الجيد والرديء، المكايد: مفردها مكيدة وهي الحيلة.

وانتهز الفرصة إن الفرصة ... تصير إن لم تنتهزها غصة كم نظر الغالب يفترك ... عنه التوقي واستهان فهلك1 ومن أضاع جنده في السلم ... لم يحفظوه في لقاء الخصم وإن من لا يحفظ القلوبا ... يخذل حين يشهد الحروبا والجند لا يرعون من أضاعهم ... كلا ولا يحمون من أجاعهم وأضعف الملوك طرًّا عقدا ... من غره السلم فأقصى الجندا والحزم والتدبير روح العزم ... لا خير في عزم بغير حزم والحزم كل الحزم في المطاولة ... والصبر لا في السرعة المزاوله2 وفي الخطوب تظهر الجواهر ... ما غلب الأيام إلا الصابر لا تيأسن من فرج ولطف ... وقوة تظهر بعد ضعف فربما جاء بعد الياس ... روح بلا كد ولا التماس3 في لمحة الطرف بكاء وضحك ... وناجذ باد ودمع ينسفك4 تنال بالرفق وبالتأني ... ما لم تنل بالحرص والتعني ما أحسن الثبات والتجلدا ... والحيرة والتبلدا ليس الفتى إلا الذي إن طرقه ... خطب تلقاه بصبر وثقه إذا الرزايا أقبلت ولم تقف ... فثم أحوال الرجال تختلف وكم لقيت لذة في زمني ... فاصبر الآن لهذي المحن فالموت لا يكون إلا مرة ... والموت أحلى من حياة مره إني من الموت على يقين ... فاجهد الآن لما يقيني5 صبرًا على أهوالها ولا ضجر ... وربما فاز الفتى إذا صبر لا يجزع الحر من المصائب ... كلا ولا يخضع للنوائب فالحر للعبء الثقيل يحمل ... والصبر عند النائبات يجمل لكل شيء مدة وتنقضي ... ما غلب الأيام من رضي قد صدق القائل في الكلام ... ليس النهى بعظم العظام لا خير في جسامة الأجسام ... بل هو في العقول والأفهام فالخيل للحرب وللجمال ... والإبل للحمل والترحال

_ 1 التوقي: الاحتراس. 2 المزاولة: الممارسة. 3 الكد: التعب، الالتماس: طلب الشيء ممن هو فوقك رتبة. 4 الناجذ: الناب والسن. 5 يقيني: من وقى؛ حمى.

لا تحتقر شيئا صغيرا محتقر ... فربما أسالت الدم الإبر لا تحرج الخصم ففي إحراجه ... جميع ما تكره من لجاجه1 لا تطلب الفائت باللجاج ... وكن إذا كويت ذا إنضاج2 فعاجز من ترك الموجودا ... طماعة وطلب المفقودا وفتش الأمور عن أسرارها ... كم نكتة جاءتك مع إظهارها لزمت للجهل قبيح الظاهر ... وما نظرت حسن السرائر ليس يضر البدر في سناه ... إن الضرير قض لا يراه كم حكمة أضحت بها المحافل ... نافقة وأنت عنها غافل ويغفلون عن خفي الحكمه ... ولو رأوها لأزالوا التهمه كم حسن ظاهره قبح ... وسمج عنوانه مليح3 والحق قد تعلمه ثقيل ... يأباه إلا نفر قليل فالعاقل الكامل في الرجال ... لا ينثني لزخرف المقال إن العدو قوله مردود ... وقلما يصدق الحسود لا تقبل الدعوى بغير شاهد ... لا سيما إن كان من معاند أيؤخذ البريء بالسقيم ... والرجل المحسن باللئيم كذاك من يستنصح الأعادي ... يردونه بالغش والفساد4 إنَّ أكلَّ من ترى أذهانا ... من حسب الإساءة الإحسانا5 فادفع إساءة العدا بالحسنى ... ولا تخل يسراك مثل اليمنى وللرجال فاعلمن مكايد ... وخدع منكرة شدائد فالندب لا يخضع للشدائد ... قط ولا يغتاظ بالمكايد6 فرقع الخرق بلطف واجتهد ... وامكر إذا لم ينفع الصدق وكد فهكذا الحازم إذ يكيد ... يبلغ في الأعداء ما يريد وهو بريء منهم في الظاهر ... وغيره مختصب الأظافر7

_ 1 اللجاجة: التمادي في العناد. 2 اللجاج: الإلحاح. 3 السمج: القبيح الذي لا يطاق. 4 يردونه: يهلكونه من أردى: أهلك. 5 أكل: من الكلال وهو الفساد. 6 الندب: الذي ينتدب لقضاء الحاجة والنجدة، يغتاظ: يغضب ويثور. 7 متخضب: مدهون، مصبوغ.

والشهم من يصلح أمر نفسه ... ولو بقتل ولده وعرسه فإن من يقصد قلع ضرسه ... لم يعتمد إلا صلاح نفسه وإن من خص اللئيم بالندا ... وجدته كمن يربي أسدا1 وليس في طبع اللئيم شكر ... وليس في أصل الدنيء نصر وإن من ألزمه وكلفه ... ضد الذي في طبعه ما أنصفه كذاك من يصطنع الجهالا ... ويؤثر الأرذال والأنذال2 لو أنكم أفاضل أحرار ... ما ظهرت بينكم الأسرار إن الأصول تجذب الفروعا ... والعرق دساس إذا أطيعا3 ما طاب فرع أصله خبيث ... ولا زكا من مجده حديث قد يدركون رتبا في الدنيا ... ويبلغون وطرا من بغيا لكنهم لا يبلغون في الكرم ... مبلغ من كاب له فيها قدم وكل من تمايلت أطرافه ... في طيها وكرمت أسلافه كان خليقًا بالعلا وبالكرم ... وبرعت في أصله حسن الشيم4 لولا بنو آدم بين العالم ... ما بان للعقول فضل العالم فواحد يعطيك فضلا وكرم ... فذاك من يكفره فقد ظلم وواحد يعطيك للمصانعة ... أو حاجة له إليك واقعه5 لا تشرهن إلى حطام عاجل ... كم أكلة أودت بنفس الآكل واحذر أخي يا فتى من الشره ... وقس بما رأيته ما لم تره6 فليس من قبل الفتى أو كرمه ... إفساد شخص كامل لقرمه7 فالبغي داء ماله دواء ... ليس لملك معه بقاء والبغي فاحذره وخيم المرتع ... والعجب فاتركه شديد المصرع والغدر بالعهد قبيح جدًّا ... شر الورى من ليس يرعى العهدا

_ 1 الندا: العطاء والهبة والكرم. 2 يصطنع: يستعملهم على أعماله. 3 دساس: مؤثر. وهو من قول النبي محمد صلى الله عليه وسلم في علم الوراثة: "تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس". 4 خليقًا: جديرًا. 5 المصانعة: التزلف، والمداهنة والمداراة. 6 الشره: النهمفي الأكل وشدة الجشع والطمع. 7 قرمه: شهوته ورغبته.

عند تمام الأمر يبدو نقصه ... وربما ضر الحريص حرصه وربما ضرك بعض مالكا ... وساءك المحسن من رجالكا فالمرء يفدي نفسه بوفره ... عساه أن ينجو به من أسره تمت، وختمها شيخنا رحمه الله بقوله: لا تعطين شيئًا بغير فائده ... فإنها من السجايا الفاسده هذا الذي ألفته واخترته ... من رجز الشريف وانتخبته وحرمة الآداب يا أهل الأدب ... إن الشريف قد أتانا بالعجب قلنا جميعًا إذ سمعنا رجزه ... كم قد أتى محمد بمعجزه من كل بيت شطره قصيد ... وكلنا لبيته عبيد فرحمة الله له في الآخرة ... خاتمة مع الهبات الوافرة ثم الصلاة والسلام دائمًا ... على الذي للرسل جاء خاتمًا انتهى ما أوردته من أمثال أبي الطيب المتنبي، وأمثال الصادح والباغم، ولم أقصد بذلك إلا أخذ ما يحتاج المتأدب إليه، في إرسال المثل على أنواعه، خصوصًا أهل الإنشاء فإنه حلبة جولاتهم، وعمدة فرسانهم، وبيت الشيخ صفي الدين في بديعيته: رجوتكم نصحاء في الشدائد لي ... لضعف رشدي واستسمنت ذا ورم فقوله: استسمنت ذا ورم من الأمثال السائرة، ولم ينظم العميان في بديعيتهم هذا النوع، وبيت الشيخ عز الدين في بديعيته: أنوار بهجة إرسالها مثلًا ... يلوح أشهر من نار على علم فقوله: أشهر من نار على علم، من الأمثال السائرة، وبيتي: وكم تمثلت إذ أرخوا شعورهم ... وقلت: بالله خلوا الرقص في الظلم فالرقص في الظلم من الأمثال السائرة، ولكن قولي لهم بعد إرخاء الشعور: خلوا الرقص في الظلم، لا يخفى على الحذاق من أهل الأدب.

ذكر التهكم

ذكر التهكم: ذل العذول بهم وجد فقلت له ... تهكما أنت ذو عز وذو شمم التهكم نوع عزيز في أنواع البديع، لعلو مناره، وصعوبة مسلكه، وكثرة التباسه بالهجاء في معرض المدح، وبالهزل الذي يراد به الجد، ويأتي الفرق بينهما بعد إيضاح حد. والتهكم، في الأصل، التهدم. يقال: تهكمت البئر، إذا تهدمت وتهكم عليه إذا اشتد غضبه، والمتهكم المحتقر. قال أبو زيد: تهكمت غضبت وتهكمت تحقرت، وعلى هذا يكون المتهكم لشدة الغضب قد أوعد بالبشارة، أو لشدة الكبر أو لتهاونه بالمخاطب قد فعل ذلك، فهذا أصله في الاستعمال. وفي المصطلح هو عبارة عن الإتيان بلفظ البشارة في موضع الإنذار، والوعد في مكان الوعيد، والمدح في معرض الاستهزاء، فشاهد البشارة في موضع الإنذار قوله تعالى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} 1 وشاهد المدح في معرض الاستهزاء بلفظ المدح، قوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} قال الزمخشري: إن في تأويل قوله تعالى له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله تهكمًا، فإن المعقبات هم الحرس من حول السلطان يحفظونه، على زعمه، من أمر الله على سبيل التهكم، فإنهم لا يحفظونه من أمره في الحقيقة إذا جاء، والله أعلم. ومنه قوله تعالى: {قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 3 فقوله: إيمانكم تهكم.

_ 1 النساء: 4/ 138. 2 الدخان: 44/ 49. 3 البقرة: 2/ 93.

ومن التهكم في السنة الشريفة، قوله -صلى الله عليه وسلم: "بشر مال البخير بحادث أو وارث". وشاهد المدح في موضع الاستهزاء، من النظم، قول ابن الذروي في ابن أبي حصينة من أبيات: لا تظنن حدبة الظهر عيبًا ... فهي في الحسن من صفات الهلال وكذاك القسي محدودبات ... وهي أنكى من الظبا والعوالي1 وإذا ما علا السنام ففيه ... لقروم الجمال أي جمال2 وأرى الانحناء في مخلب البا ... زي ولم يعد مخلب الريبال3 كوّن الله حدبة فيك إن شئت ... من الفضل أو من الأفضال فأتت ربوة على طود علم ... وأتت موجة ببحر نوال ما رأتها النساء إلا تمنت ... أن غدت حلية لكل الرجال وما أحلى ما ضمنها بقوله: وإذا لم يكن من الهجر بد ... فعسى أن تزوروني في الخيال وقول ابن الرومي: فيا له من عمل صالح ... يرفعه الله إلى أسفل وقيل إن أظرف ما نظم في التهكم قول حماد عجرد: فيا ابن طرح يا أخا ... الحلس ويا ابن القتب4 ومن نشا والده ... بين الربا والكثب يا عربي يا عربي ... يا عربي يا عربي وهذا النوع، أعني التهكم، ذكر ابن أبي الأصبع في كتابه "تحرير التحبير" أنه من مخترعاته، ولم يره في كتب من تقدمه من أئمة البديع، والعميان لم ينظموه في بديعيتهم.

_ 1 أنكى: أشد فتكًا وأعمق جرحًا، الظبا: مفردها ظبة وهي حد السيف وشفرته، العوالي: الرماح. 2 علا السنام: ارتفع السنام وهو الحدبة الموجودة في ظهر البعير، قروم: مفردها قرم وهي العظيم الكبير. 3 الريبال: الرئبال، الأسد، الذئب. 4 الطرح: المولود قبل أوانه، الحلس: الجوهر الثمين الذي يبقى مكنونًا لا يخرج، القتب: الرحل، أي المولود على رحل البعير.

وقنع الشهاب محمود، في كتابه المسمى بـ"حسن التوسل" من أشجار معاليه بالشميم فإنه ذكر بعض شواهده، ولم يأت له بحد تمشي الأفهام فيه على صراط مستقيم، ولكن ابن أبي الأصبع أزال بكارة أشكاله، وكان أبا عذرته وأرضع الأذواق لبان فهمه، وكان فارس حلبته، وقال: الفرق بينه وبين الهزل الذي يراد به الجد: أن التهكم ظاهره جد وباطنه هزل، وهو ضد الأول، لأن الهزل الذي يراد به الجد يكون ظاهره هزلًا وباطنه جدا. وذكر بعضهم الفرق بين التهكم والهجاء في معرض المدح، فقال: الفرق بينهما التصريح بلفظة في الآخر يخالف معناها معنى الالتزام في الكلام الأول، وهو في هذا دون الأول. والشيخ صفي الدين نظم التهكم في بديعيته، ولكن ما أسكن بيته قرينة صالحة لبيانه، ولا غردت حمائم الإيضاح على أفنانه، وبيته: محضتني النصح إحسانا عليَّ بلا ... غش وقلدتني الإنعام فاحتكم ولم يظهر لي من هذا البيت غير صريح المدح والشكر، ولم أجد فيه لفظة تدل على الحقارة والاستهزاء، ولا على البشارة في موضع الإنذار، ولا على الموعد في موضع الوعيد، ولم يشر في بيته إلى نوع من هذه الأنواع، وقد تقدم أن العميان لم ينظموه في بديعيتهم، وبيت الشيخ عز الدين: لقد تهكمت فيما قد منحتك من ... قولي بأنك ذو عز وذو كرم فالشيخ عز الدين ذكر في بيته أنه تهكم على العذول، لما خاطبته بلفظ العز والكرم، ولكنه لم يأت بصيغة التهكم وبيتي: ذل العذول بهم وجدًا فقلت له ... تهكما أنت ذو عز وذو شمم فخطاب العذول هنا بلفظ العز والشمم بعد وقوف العاذل في موقف الذل هو التهكم بعينه.

ذكر المراجعة

ذكر المراجعة: قال اصطبر قلت صبري ما يراجعني ... قال احتمل قلت من يقوى لصدهم المراجعة ليس نحتها كبير أمر، ولو فوض إليَّ حكم في البديع ما نظمتها في أسلاك أنواعه، وذكر ابن أبي الأصبع أنها من اختراعاته، وعجبت من مثله كيف قربها إلى الذي استنبطه من الأنواع البديعية الغريبة، كالتهكم والافتنان والتدبيج والهجاء في معرض المدح والاشتراك والألغاز والنزاهة، ومنهم من سمى هذاالنوع، أعني المراجعة، السؤال والجواب، وهو أن يحكي المتكلم مراجعة في القول، ومحاورة في الحديث بينه وبين غيره، بأوجز عبارة وأرشق سبك، وألطف معنى، وأهس لفظ، إما في بيت واحد أو في أبيات، كقول عمر بن أبي ربيعة: بينما ينعتنني أبصرنني ... مثل قيد الرمح يعدو بين الأغر1 قالت الكبرى ترى من ذا الفتى ... قالت الوسطى لها هذا عمر2 قالت الصغرى وقد تيمتها ... قد عرفناه وهل يخفى القمر3

_ 1 ينعتنني: يصفني، يعدو: يركش، الأغر: الحصان الأبيض الذي في جبهته غرة وقد روي هذا البيت كما يلي: بينما يذكرنني أبصرنني ... دون قيد الميل يعدو بي الأغر 2 وهذا البيت روي: قالت الكبرى أتعرفن الفتى. وهذا البيت للإجابة في البيت الثالث قد عرفناه 3 تيمتها: جعلتها تحبني وتتعلق بي.

قال ابن أبي الأصبع، لما أورد هذه الأبيات، واستشهد بها على النوع، في كتابه المسمى بـ "تحرير التحبير": إن هذا الشاعر عالم بمعرفة وضع الكلام في مواضعه، وما ذاك إلا أن قوافي الأبيات لو أطلقت لكانت مرفوعة، وأما بلاغته في الأبيات فإنه جعل التي عرفته وعرَّفت به وشبهته تشبيها يدل على شغلها به، هي الصغرى، ليظهر بدليل الالتزام أنه فتى السن إذ الفتية من النساء لا تميل إلا إلى الفتى من الرجال غالبًا، وختم قوله بما أخرجه مخرج المثل السائر موزونا، ولا يقال إنما مالت الصغرى إليه دون أختيها لضعف عقلها وقلة تجريبها، فإني أقول: إنه تخلص من هذا المدخل بكونه أخبر أن الكبرى التي هي أعقلهن، ما كانت رأته قبل ذلك، وإنما كانت تهواه على السماع، فلما رأته وعلمت أنه ذلك الموصوف لها، أظهرت من وجدها به على مقدار عقلها، ما أظهرت من سؤالها عنه، ولم تتجاوز ذلك وقنعت بالسؤال عنه، وقد علمته بلذة السؤال وبسماع اسمه، وأظهرت تجاهل العارف الذي موجبه شدة الوله، والعقل يمنعها من التصريح، وأما الوسطى فسارعت إلى تعريفه باسمه العلم فكانت دون الكبرى في الثبات، وأما الصغرى فمنزلتها في الثبات دون الأختين، لأنها أظهرت في معرفة وصفة ما دل على شدة شغفها به، فكل ذلك وإن لم يكن كذلك فألفاظ الشاعر تدل عليه. انتهى كلام ابن أبي الأصبع. ومن جيد أمثلة هذا النوع قول أبي نواس: قال لي يومًا سليما ... ن وبعض القول أشنع1 قال صفني وعليا ... أينا أبقى وأنفع قلت إني إن أقل ما ... فيكما بالحق تجزع قال كلا قلت مهلا ... قال قل لي قلت فاسمع قال صفه قلت يعطي ... قال صفني قلت تمنع ومثله قول البحتري: بت أسقيه صفوة الراح حتى ... وضع الرأس مائلا يتكفا2 قلت عبد العزيز تفديك نفسي ... قال لبيك قلت لبيك ألفا هاكها قال هاتها قلت خذها ... قال لا أستطيعها ثم أغفى3

_ 1 أشنع: ثقيل. 2 يتكفا: يتكأ: يتمايل. 3 هاكها: انظرها.

وعلماء البديع أجمعوا على استحسان قول وضاح اليمن، من أبيات: قالت ألا لا تلحن دارنا ... إن أبانا رجل غائر1 قلت فإني طالب غرة ... منه وسيفي صارم باتر قلت فإن البحر ما بيننا ... قلت فإني سابح ماهر قالت فإن القصر عالي البنا ... قلت فإني فوقه طائر قالت أليس الله من فوقنا ... قلت بلى وهو لنا غافر قالت فقد أعييتنا حيلة ... فأت إذا ما هجع السامر2 واسقط علينا كسقوط الندى ... ليلة لا ناه ولا آمر وظريف هنا قول بعضهم: قلت لقدأشمت بي حُسّدي ... مذ بحت بالسر لهم معلنا قلت أنا قالت وإلا فمن ... قلت أنا قالت وإلا أنا وهي أبيات طويلة جميعها على هذا المنوال منسوج، ولكن اكتفيت بالتمثيل منها على هذا القدر. وبيت الشيخ صفي الدين الحلي: قالوا اصطبر قلت صبري غير متبع ... قالوا اسلهم قلت وذي غير منصرم3 ولم ينظم العميان في بديعيتهم هذا النوع، وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته: راجعت في القول إذ أطلقت سلوتهم ... قال اسلهم قلت سمعي عنك في صمم والمراجعة إن لم تتكرر، لم يبق لها في القلوب حلاوة، ولا يطبق اسمها مسماه، وقد تقدم قول الشاعر وتكراره في قوله: قلت أنا قالت وإلا فمن ... قلت أنا قالت وإلا أنا وعز الدين لم يكرر مراجعته، ولم يأت بها إلا في مكان واحد، والذي أقوله إنه ما

_ 1 ولج: دخل سرًّا - الغائر: النائم في وسط النهار. 2 هجع: رقد ونام. 3 أسلهم: أمر من سلا: نسي.

صده عن ذلك إلا اشتغاله بتسمية النوع، ولكن ليته لو دخل إلى سوق الرقيق، وبيت بديعيتي: قال اصطبر قلت صبري ما يراجعني ... قال احتمل قلت من يقوى لصدهم وهذا البيت متعلق ببيت التهكم الذي قبله، وهو البيت المبني على خطاب العاذل وهو: ذا العذول بهم وجدا فقلت له ... تهكما: أنت ذو عز وذو شمم

ذكر التوشيح

ذكر التوشيح: توشيحهم بملا تلك الشعور إذا ... لفوه طيا يعرفنا بنشرهم اتفق علماء البديع على أن التوشيح: أن يكون معنى أول الكلام دالًا على لفظ آخره، ولهذا سموه التوشيح فإنه ينزل فيه المعنى منزلة الوشاح، وينزل أول الكلام وآخره منزلة محل الوشاح من العاتق والكشح اللذين يجول عليهما الوشاح، وهذا النوع فرَّعه1 قدامة من ائتلاف القافية، مع ما يدل عليه سائر البيت، وقال فيه: التوشيح هو أن يكون في أول البيت معنى، إذا فهم فهمت منه قافية البيت، بشرط أن يكون المعنى المقدم بلفظه، من جنس معنى القافية بلفظه. وأورد ابن أبي الأصبع في "تحرير التحبير" من أعظم الشواهد على هذا قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} 2 فإن في معنى اصطفاء المذكورين، ما يعلم منه الفاصلة، لأن المذكورين نوع من جنس العالمين. ومن الأمثلة الشعرية، قول الراعي النميري: فإن وزن الحصى ووزنت قومي ... وجدت حصى ضريبتهم رزينا3 فإن السامع إذا فهم أن الشاعر أراد المفاخرة برزانة الحصى، وتحقق أن القافية

_ 1 فرعه: جعله فرعًا. 2 آل عمران: 33/ 3 3 الضريبة: السجية، رزينا: للمذكر والمؤنث: ثقيلًا.

مجردة مطلقة رويها النون، وحرف إطلاقها الألف، ورأى في صدر البيت ذكر الزنة، تحقق أن تكون القافية رزينًا ليس إلا. ومن عجائب أمثلة هذا النوع ما حكي عن عمر بن أبي ربيعة أنه أنشد عبد الله بن العباس رضي الله عنهما: تشط1 غدًا دار جيراننا. فقال له عبد الله: وللدار بعد غد أبعد فقال عمر: هكذا والله قلت: فقال عبد الله بن العباس: وهكذا يكون. ويقرب من هذه القصة قصة عديّ بن الرقاع، حين أنشد الوليد بن عبد الملك، بحضرة جرير والفرزدق، قصيدته التي مطلعها: "عرف الديار توهمًا فاعتادها" حتى انتهى إلى قوله: "تزجي أغن كأن إبرة روقه2". ثم شغل الوليد عن الاستماع، فقطع عدي الإنشاد، فقال الفرزدق لجرير: ما تراه يقول! فقال جرير: أراه يستلب بها مثلًا. فقال الفرزدق: إنه سيقول: قلم أصاب من الدواة مدادها. فلما عاد الوليد إلى الاستماع، وعاد عدي إلى الإنشاء، قال البيت: فقال الفرزدق: والله لما سمعت صدر بيته رحمته، فلما أنشد عجزه انقلبت الرحمة حسدًا. قال زكي الدين بن أبي الأصبع: الذي أقوله إن بين ابن العباس وبين الفرزدق، في استخراجهما العجزين، كما بينهما في مطلق الفضل، وفضل ابن عباس رضي الله عنهما معلوم، وأنا أذكر الفرق: فإن بيت عدي بن الرقاع من جملة قصيدة تقدم مطلعها مع معظمها، وعلم أنها دالية مردفة بألف، وهي من وزن قد عرف، ثم تقدم في صدر البيت ذكر ظبية تسوق خشفًا لها، قد أخذ الشاعر في تشبيه طرف قرنه بالقلم في سواده، وهذه القرائن لا تخفى على أهل الذوق الصحيح أن فيها ما يدل على عجز البيت، بحيث يسبق إليه من هو دون الفرزدق من حذاق الشعراء، وبيت عمر بيت مفرد لم تعلم قافيته من أي ضرب هي من القوافي، ولا رويه من أي الحروف، ولا حركة رويه من أي الحركات، فاستخراج عجزه ارتجالًا في غاية العسر ونهاية الصعوبة، لولا ما أمد الله تعالى به هؤلاء الأقوام من المواد التي فضلوا بها عن غيرهم، انتهى كلام ابن أبي الأصبع. وبين التوشيح والتصدير فرق ظاهرمثل الصبح، ولم يحصل الالتباس إلا لكون كل منهما يدل صدره على عجزه، والفرق أن دلالة التصدير لفظية، ودلالة التوشيح معنوية،

_ 1 تشط: تبعد. 2 تزجى تسوق، الأغن: الخشف وهو ولد الظبية ذي الصوت الذي به غنة، الإبرة: الطرف، روقه: قرنه.

والفرق بين التوشيح والتمكين أيضًا أن الوشيح قد تقدم أنه لا بد أن يتقدم قافيته معنى يدل عليها، والتمكين بخلاف ذلك. والعميان لم ينظموا أنواع التوشيح في بديعيتهم، وبيت صفي الدين: هم أرضعوني ثدي الوصل حالفة ... فكيف يحصل منها حال منفطمي1 فقصيدة صفي الدين قد علم أنها ميمية، وقد مر على السامع منها عدة أبيات، وقد صدر بيت التوشيح بذكر الرضاع والثدي، فما يخفى أن تكون القافية منفطمًا إلا على كل أجنبي من هذا العلم. ولقد برز في حسن هذا التركيب باستجلاب الرقة على من تقدمه. وبيت الشيخ عز الدين: نومي وعقلي بتوشيح الهوى سلبا ... فبت صبًّا بلا حُلم ولا حِلم قال في شرحه: الهوى وشحني برداه غطاني، فسلب نومي وعقلي فصرت بلا حلم ولا حلم. وهذه عبارته بنصها. وبيتي: توشيحهم بملا تلك الشعور إذا ... لفوه طيا يعرفنا بنشرهم هذ النوع أعني التوشيح يفتقر الناظم إلى قدح زناد الفكر في سبك معانيه، مع الملكة والبسطة في علم الأدب وحسن التصرف، لا سيما إذا التزم بتسمية النوع، وأبرز التسمية منتظمة في سلك التورية من جنس الغزل، فتسمية النوع هنا قد عرفت والإتيان في هذا البيت بلفظة الملا، هو الذي رشح جانب التوشيح الجائل على العاتق والكشف، وأما توشيح الهوى في بيت الشيخ عز الدين، فلم ينسج على منوال مقبول، لأن استعارة الوشاح للهوى المقصور الذي هو الغرام، لم يفهم منها شيء يقرب من التشبيه، فإن علماء البديع قالوا: الاستعارة هي ذكر الشيء باسم غيره، وإثبات ما لغيره له لأجل المبالغة في التشبيه. وعلى هذا التقدير تكون استعارة الملا للشعور، في حالة توشيح الأحباب بها، هي الاستعارة التي يستعار منها المحاسن الأدبية، فإن حسن التشبيه قد غازل بعيون كماله غزلها، والتصريح في البيت، بلفظ اللف والنشر والطي، يعرفه من له أدنى ذوق، مع أني ما اكتفيت بذلك حتى قلت بعد اللف والطي: تعرفنا، وتعرفنا فيها الاشتراك بين المعرفة والعرف، فإذا تقرر أن القافية ميمية، ما يتصور في ذوق أن تكون القافية غير نشرهم، وقد اجتمع في هذا البيت من أنواع البديع: التورية، وحسن الاستعارة، والترشيح، والمطابقة، والبسط، والانسجام، والتمكين، والسهولة، والتوشيح الذي هو العمدة. والله أعلم بالصواب.

_ 1 حافلة: ملأى.

ذكر تشابه الأطراف

ذكر تشابه الأطراف: شابهت أطراف أقوالي فإن أهم ... أهم إلى كل واد في صفاتهم1 هذا النوع الذي سموه تشابه الأطراف، هو أيضًا مثل المراجعة التي تقدمت، ليس في كل منهما كبير أمر. وتالله ما خطر لي يومًا، ولا حسن في الفكر أن ألحق طرفًا من تشابه الأطراف بذيل من أبيات شعري ولكن شروع المعارضة ملتزم، وتشابه الأطراف هو أن يعيد الناظم لفظة القافية في أول البيت الذي يليها، وهذا النوع كان اسمه التسبيغ، بسين مهملة وغين معجمة، وإنما ابن أبي الأصبع قال: هذه التسمية غير لائقة بهذا المسمى، فسماه تشابه الأطراف، فإن الأبيات فيه تتشابه أطرافها. وأحسن ما وقع في هذا النوع، قول أبي نواس: خزيمة خير بني خازم ... وخازم خير بني دارم ودارم خير تميم وما ... مثل تميم في بني آدم ولما كان هذا النوع لا يأتي إلا في بيتين، والشيخ عز الدين لما التزم أن يأتي به، لأجل التورية بالتسمية، في بيت واحد، شطر البيت شطرين، وجعل كل شطر بمنزلة بيت كامل، وأعاد لفظ القافية في الشطر الثاني، فجاء به في غاية اللطف. فإن الشيخ صفي الدين أورد قبله بيت الاكتفاء، ويأتي الكلام عليه في موضعه، وإنما المراد هنا معرفة تشابه الأطراف، وهو: قالوا ألم تدر أن الحب غايته ... سلب الخواطر والألباب قلت لم لم أدر قبل هواهم والهوى حرم ... أن الظباء تحل الصيد في الحرم

_ 1 أهم: من الهيام وهو الضياع من العشق والجنون.

تشابه الأطراف بين لم ولم، في آخر البيت الأول وأول الثاني. وبيت الشيخ عز الدين: أطرافك اشتبهت قولًا متى تلم ... تلم فتى زائد البلوى فلم يلم أما قوله أطرافك اشتبهت يضيق الكلام فيه. وبيت بديعيتي: شابهت أطراف أقوالي فإن أهم ... أهم إلى كل واد في صفاتهم والعميان لم ينظموا هذا النوع في بديعيتهم، ويا ليتني كنت معهم.

ذكر التغاير

ذكر التغاير: أغاير الناس في حب الرقيب فمذ ... أراه أبسط آمالي بقربهم التغاير: سماه قوم التطلف، وهو أن يتطلف الشاعر بتوصله إلى مدح ما كان قد ذمه، هو أو غيره. فأما مدح الإنسان ما ذمه غيره، فإن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أتى فيه بما يمتزج صافي مشربه بالأرواح، وينقلنا ببديع بلاغته من الإبهام إلى الإيضاح. فمن ذلك خطبته التي مدح فيها الدنيا، مغايرًا لأمثاله في ذمها، حيث قال: أيها الذام للدنيا، المغتر بغرورها، بم تذمها، أنت المتجرئ عليها أم هي المتجرئة عليك، متى استهوتك أم متى غرتك، أبمصارع آبائك من البلى، أم بمضاجع أمهاتك تحت الثرى، كم عللت ولديك، وكم مرضت والديك تبغي لهم الشفاء وتستوصف لهم الأطباء، لم ينفع أحدهم إشفاقك، ولم تشف لهم بطبك، ولم تدفع عنهم بقوتك، قد مثلت لك بهم الدنيا نفسك، وخيلت لك بمصرعهم مصرعك، إن الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار عافية لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزود منها، ودار موعظة لمن اتعظ بها، مسجد أحباب الله، ومصلى ملائكته، ومهبط وحي الله، ومتجر أوليائه، اكتسبوا منها الرحمة، وربحوا منها الجنة، فمن ذا يذمها وقد أدّبت بنيها ونادت بفراقها ونعت نفسها وأهليها، فمثلت لهم ببلائها البلى، وشوقتهم بسرورها إلى السرور، وراحت بعافية، وابتكرت بفجيعة، ترغيبًا وترهيبًا، فذمها رجال غداة الندامة، وحمدها آخرون ذكرتهم الدنيا فذكروا، وحدثتهم فصدقوا، ووعظتهم فاتعظوا: ونظم ابن أبي الأصبع معاني هذه الخطبة فقال:

من يذم الدنيا بظلم فإني ... بطريق الإنصاف أثني عليها وعظتنا بكل شيء وإنا ... حين جدت بالوعظ من مصطفيها نصحتنا فلم نر النصح نصحًا ... حين أبدت لأهلها ما لديها أعلمتنا أن المال يقينًا ... للبلى حين جددت عصريها1 كم أرتنا مصارع الأهل والأحباب ... لو نستفيق يومًا إليها يوم بؤس لهما ويوم رخاء ... فتزود ما شئت من يوميها وتيقن زوال ذاك وهذا ... تسل عما تراه من حادثيها دار زاد لمن تزود منها ... وغرور لمن يميل إليها مهبط الوحي والمصلى الذي كم ... عفرت صورة بها خديها2 متجر الأولياء قد ربحوا الجنة ... منها وأوردوا عينيها رغبت ثم رهبت ليرى ... كل لبيب عقباه في حالتيها وإذا انصفت تعين أن يثـ ... ـني عليها ذو البر من ولديها فأما من ذم ما مدحه الناس قاطبة، فابن الرومي، فإنه ذم الورد وهو مشهور، ووصف البحتري يوم الفراق بالقصر، وقد أجمع الناس على طوله، فقال: ولقد تأملت الفراق فلم أجد ... يوم الفراق على امرئ بطويل قصرت مسافته على متزود ... منه لوهن صبابة وغليل3 وهذا النوع، أعني المغايرة، أورده الحريري في المقامة الدينارية، وبالغ في مدح الدينار وذمه، فقال في مدحه: أكرم به أصفر راقت صفرته ... جواب آفاق ترامت سفرته4 مأثورة سمعته وشهرته ... قد أودعت سر الغنى أسرته وقارنت نجح المساعي خطرته ... وحببت إلى الأنام غرته كأنما من القلوب نقرته ... به يصول من حوته صرته5

_ 1 المآل: المصير. 2 الصورة: المرة. 3 الوهن: القلة والضعف. 4 الجوّاب: الكثير التجوال والسفر، سفرته: بفتح الراء واحدة السفر. 5 نقرته: نقشه.

وإن تفانت أو توانت عشرته ... يا حبذا نضاره ونضرته وحبذا مغناته ونصرته ... كم آمر به استتبت أمرته ومترف لولاه دام حسرته ... وجيش هم هزمته كرَّته وبدر تم أنزلته بدرته ... ومستشيط تتلظلى جمرته1 أسرَّ نجواه فلانت سرته ... وكم أسير أسلمته أسرته أنقذه حتى صفت مسرته ... وحق مولى أبدعته فطرته لولا التقى لقلت جلت قدرته وقال في ذمه: تبًا له من خادع مماذق ... أصفر ذي وجهين كالمنافق2 يبدو بوصفين لعين الرامق ... زينة معشوق ولون عاشق3 وحبه عند ذوي الحقائق ... يدعو إلى ارتكاب سخط الخالق لولاه لم تقطع يمين سارق ... ولا بدت مظلمة من فاسق ولا اشمأز باخل من طارق ... ولا شكا الممطول مطل العائق ولا استعيذ من حسود راشق ... وشر ما فيه من الخلائق أن ليس يغني عنك في المضائق ... إلا إذا فر فرار الآبق4 واهًا لمن يقذفه من حالق ... ومن إذا ناجاه نجوى الوامق5 قال له قول المحق الصادق ... لا رأي في وصلك لي ففارق ومن المغايرة، تفضيل القلم على السيف، إذ المعتاد عكس ذلك، كقول ابن الرومي: إن يخدم القلم السيف الذي خضعت ... له الرقاب ودانت خوفه الأمم6 فالموت والموت لا شيء يعادله ... ما زال يتبع ما يجري به القلم كذا قضى الله في الأقلام إذ بريت ... إن السيوف لها منذ أرهفت خدم 7

_ 1 البدرة: الصرّة فيها الدنانير، مستشيط: غاضب، تتلظى: تشتعل وتلتهب. 2 المماذق: الذي لا يخلص الود لأحد. 3 الرامق: الناظر إذا أحد النظر. 4 الآبق: الهارب. 5 الحالق: من الجبال والأمكنة: العالي المنيف. 6 دان: خضع وذل. 7 أرهف السيف: أجاد شحذه وسنه.

وغاير المتنبي ذلك وقال: حتى رجعت وأقلامي قوائل لي ... المجد للسيف ليس المجد للقلم والمغايرة هنا مليحة، لكن المعنى مأخوذ من قول أبي تمام: السيف أصدق إنباء من الكتب، والمعنى في قول أبي تمام أبلغ، فإن ابن أبي الأصبع قال: لم يرض أبو تمام أن يقول السيف أصدق إنباء من القلم، حتى قال من الكتب التي لا تكتب إلا بالأقلام والدواة والقرطاس، والكاتب المطلق اليد واللسان والجنان، فالحظ الفرق بينه وبين كلام المتنبي. انتهى كلام ابن أبي الأصبع. وقد عن لي هنا أن أرفع للمتأخرين في التقديم رأيه، ليعلم المنكر الفرق بين البداية والنهاية، فإن الشيخ جمال الدين أظهر في المغايرة بين السيف والقلم ما صدق به قول القائل1: وإني وإن كنت الأخير زمانه ... لآت بما لم تستطعه الأوائل من ذلك قوله، في رسالة المفاخرة بينهما والمغايرة في مدح كل واحد منهما وذمه: فبرز القلم بإفصاحه ونشط لارتياحه، ورقي من الأنامل على أعواده وقام خطيبًا بمحاسنة في حلة مداده، والتفت إلى السيف فقال: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، نْ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ، مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} 2 الحمد لله الذي علم بالقلم، وشرفه بالقسم، وخط به ما قدر وقسم، وصلى الله على سيدنا محمد الذي قال: "جف القلم بما هو كائن"، وعلى آله وصحبه ذوي المجد المبين وكل مجد بائن، صلاة واضحة السطور، فائحة من أدراج الصدور، ما نقلت صحف البحار غواديها، وكتبت أقلام النور على مهارق3 الدياجي حكمة باريها، أما بعد. فإن القلم منار الدين والدنيا، ونظام الشرف والعليا، ومجاديح 4 سحب الخير إذا احتاجت الهمم إلى السقيا، ومفتاح باب اليمن المجرب إذا أعيا، وسفير الملك المحجب وعذيق5 الملك المرجب6، وزمام أموره السائرة، وقادمة أجنحة الطائرة،

_ 1 هو بشار بن برد. 2 القلم، 68/ أو 2. 3 مهارق: صفحات "فارسية". 4 المجاديح الأنواء، مفردها مجدح. 5 عذيقها: تصغير عذق للتظرف والعذق هو أفضل من قام بالأمر. 6 المرجّب: المهيب المعظم.

ومطلق أرزاق عفاته1 المتواترة، وأنملة الهدى المشيرة إلى ذخائر الدنيا والآخرة، به رقم كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل، وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- التي تهذب الخواطر الخواطل2، فبينه وبين من يفاخره الكتاب والسنة، وحسبه ما جرى على يده الكريمة من منه، وفي مراضي الدول عونة للشائدين، ويعين الله في ليالي النفس تقلب وجهه في الساجدين. إن نظمت فرائد العلوم فإنما هو سلكها، وإن علت أسرة الكتب فإنما هو ملكها، وإن رقمت برود البيان فإنما هو جلالها، وإن تشعبت فنون الحكم فإنما هو أمانها ومآلها، وإذا انقسمت أمور الممالك فإنما هو عصمتها وثمالها، وإن اجتمعت رعايا الصنائع فإنما هو إمامها المتلفع بسواده، وإن زخرت بحار الأفكار فإنما هو المستخرج دررها من ظلمات مداده، وإن وعد أوفى بجنب النفع، وإن أوعد أخاف كأنما يستمد من النقع3. هذا وهو لسان الملوك المخاطب، ورسيلها لأبكار الفتوح والخاطب، والمنفق في تعمير دولها ومحصول أنفاسه، والمتحمل أمورها الشاقة على عينه وراسه، والمتيقظ لجهاد أعدائها والسيف في جفنه نائم، والمجهز لبأسها وكرمها جيشي الحروب والمكارم، والجاري بما أمر الله من العد والإحسان، والمسود الناصر فكأنما هو لعين الدهر إنسان، طالما ذب عن حرمها فشد الله أزره، ورفع ذكره، وقام في المحامات عن دينها أشعث أغبر، لو أقسم على الله لأبره، وقاتل على البعد والصوارم في القرب، وأوتي من معجزات النبوة نوعًا من النصر بالرعب، وبعث جحافل السطور فالقسي دالات، والرماح ألفات، واللامات لامات، والهمزات كواسر الطير التي تتبع الجحافل، والأتربة عجاجها المحمر من دم الكلى والمفاصل، فهو صاحب فضيلتي العلم والعلم، وساحب ذيلي الفخار في الحرب والسلم، لا يعاديه إلا من سفه نفسه، ولبس لبسه وطبع على قلبه، وفل الجدال من غربه4، وخرج في وزن المعارضة عن ضربه. وكيف يعادي من إذا كرع في نفسه5 قيل: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} 6، وإذا ذكر شانئه7 السيف قيل:

_ 1 العفات: العطايا. 2 الخواطل: الضالة. 3 النقع: المستنقع، أو السم الناقع وهو القاتل البالغ. والغبار الكثيف في الجو. 4 غرب الشيء: حدّه. 5 كرع: مد عنقه وشرب الماء بفمه دون واسطة، النفس: المداد الذي يكتب به وإناؤه. 6 الكوثر، 108/ 1 والكوثر: فسره بعضهم بنهر في الجنة، ورأى آخرون أن الكوثر كثرة الذرية وهذا هو الأصح على ما نرى للقرينة الدالة عليه وهو قوله تعالى: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} أي الذي لا عقب له ولا ذرية. 7 الشانئ: المبغض، الكاره.

{إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} 1 أقول قولي هذا وأستغفر الله من الشرف وخيلائه، والفخار وكبريائه، وأتوكل على الله فيما حكم، وأسأله التدبير فيما جرى به من القلم، ثم أكتفي بما ذكره من أدواته، وجلس على كرسي دواته، متمثلًا بقول القائل: قلم يفل الجيش وهو عرموم ... والبيض ما سلت من الأغماد2 وهبت له الآجام حين نشابها ... كرم السيول وضولة الآساد3 فعند ذلك نهض السيف قائمًا عجلًا، وتلمظ4 لسانه للقول مرتجلًا، وقال: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ... وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيز} 5 الحمد لله الذي جعل الجنة تحت ظلال السويف، وشرَّع حدها في ذوي العصيان فأغصَّتهم بماء الحتوف، وشيد مراتب الدين يقاتلون في سبيله صفًا كأنهم بنيان مرصوص6 وعقد مرصوف7، وأجناهم من ورق حديدها الأخضر ثمار نعيمها الدانية، وصلى الله على سيدنا محمد هازم الألوف، وعلى آله وصحبه الذين طالما محوا بريق بريق الصوارم سطور الصفوف، صلاة عاطرة في الأنوف، حالية بها الأسماع كالشنوف8، وسلم. أما بعد، فإن السيف زند الحق الوري وزنده القوي9 وحده الفارق بين الرشيد والغوي، والنجم الهادي إلى العز وسبيله، والثغر الباسم عن تباشير فلوله، به أظهر الله الإسلام وقد جنح خفاء، وجلى شخص الدين الحنيفي وقد جمح جفاء، وأجرى سيوفه بالأباطح، فأما الحق فمكث والباطل فذهب جفاء10، وحملته اليد الشريفة النبوية، وخصته على الأقلام بهذه المزية، وأوضحت به للحق منهاجًا، وأطلعته في ليالي النقع والشك سراجًا وهاجًا، وفتحت باب الدين بمصباحه حتى دخل فيه الناس أفواجًا، فهو ذو

_ 1 الكوثر، 108/ 3 والأبتر: هو من لا عقب له ولا ذرية من الذكور. 2 عرمرم: الجيش الكبير الجرار، البيض: السيوف، سلت: سحبت وهيئت للقتال. والأغماد: جمع مفرده غمد وهو موضع السيف. 3 الآجام: جمع مفرده أجمة وهو التلة إذا كثر فيها الشجر والتف، نشا: ترخيم نشأ، الصولة: السطوة. 4 تلمظ: اللسان، خرج من مكانه وتحرك. 5 الحديد، 57/ 25. 6 مرصوص: متماسك. 7 مرصوف: منظم. 8 الشنوف: الأقراط أو الحلق الذي تتزين به الفتاة. 9 الزند: القادح للنار وموصل الذراع بالكف، الوَريّ: الذي خرجت ناره. 10 الجفاء: ما يقذف به السيل من غثاء وزبد، أي لا فائدة فيه.

الرأي الصائب، وشهاب العزم الثاقب، وسماء العز التي زينت من آثاره بزينة الكواكب، والحد الذي كأنه ماء دافق يخرج، عند قطع الأجساد، من بين الصلب والترائب1، لا تجحد آثاره، ولا ينكر قراره، إذا اشتبت في الدجى والنقع ناره، يجمع بين الحالتين البأس والكرم، ويصاغ في طوق الحليتين، فهو إما طوق في نحور الأعداء وإما خلخال في عراقيب2 أهل النقم، ويحسم به أهواء الفتن المضلة، ويحذف بهمته الجازمة حروف العلة، وإذا انحنى في سماء القتام بالضرب، فقل يسألونك عن الأهلة، فهو القوي الاستطاعة، الطويل المغمر إذا قصف سواه في ساعة، فما أولاه بطول الإحسان، وما أجمل ذكره في أخبار المعمرين ومقاتل الفرسان، كأن الغيث في غمده للطالب المنتجع، وكأنه زناد يستضاء به، إلا أن دفع الدماء شرره الملتمع، كم قد مد فأدرك الطلاب، ودعا النصر بلسانه المحمر من أثر الدماء فأجاب، وتشعبت الدول لقائم نصره المنتظر، وحازت أبكار الفتوح بحده الذكر، وغدت أيامها به ذات حجول معلومة وغرر3، وشدت به الظهور، وحمدت علائقه في الأمور، واتخذته الملوك حرزًا لسلطانها، وحصنًا على أوطانها وقطانها4، وجردته على صروف الأقدار في شأنها، وندب فما أعيت عليه المصالح، وباشر اللمم، فهو على الحقيقة بين الهدى والضلال، فرق واضح، وأغاث في كل فصل فهو إما لغمده سعد الأخبية، وإما لحامله سعد السعود وإما لضده سعد الذابح، يجلس على رءوس الأعداء قهرًا، ويشرح أنباء الشجاعة قائلًا للقلم: {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} 5، وهل يفاخر من وقف الموت على بابه، وعضت الحرب الضروس بنابه، وقذفت شياطين القراع بشهبه، ومنح آيات شريفة منها طلوع الشمس من غربه، ومنها أن الله أنشأ برقه، فكان للمارد مصرعًا وللرائد مرتعًا {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا} 6 كم اتخذ من جسد طرسًا، وكتب عليه حرفًا لا ينسى فيه للألباب عبرة، وللأذهان السابحة غمرة بعد غمرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم من لفظ يجمح، ورأي إلى الخصام يجنح.

_ 1 الصلب: من الرجل مكان في ظهره يحفظ فيه نسله. ويقال: هو عظم ذو فقار يمتد من الكاهل إلى أسفل الظهر، الترائب: عظام الصدر مفردها تريبة. 2 الخلخال: حلية تلبس في الرجل فوق العرقوب، والعرقوب: هو ملتقى عظم الساق والقدم ويبدو بارزًا في جانبي القدم. تجمع على عراقيب. 3 حجول وغرر: علامات وبدايات. 4 قطانها: سكانها والمقيمين فيها. 5 الكهف، 18/ 82. 6 الروم، 30/ 24.

ولسانه يحوجه اللدد1 إلى أن يخرج فيجرح، وأتوكل عليه في صد الباطل وصرفه، وأسأله الإعانة على كل باحث عن حتفه بظلفه ثم اختفى في بعض الخمائل، وتمثل بقول القائل: سل السيف عن أصل الفخار وفرعه ... فإني رأيت السيف أفصح مقولا فلما وعى القلم خطبته الطويلة الطائلة2، ونشطته الجليلة الجائلة، وفهم كتابته وتلويحه وتعريضه بالذم وتصريحه، وتعديله في الحديث وتجريحه3، واستغاث باللفظ النصير، واحتد وما أدراك ما حدَّة حده القصير وقام في دواته وقعد، واضطرب على وجه القرطاس وارتعد، وعدل إلى السب4 الصراح، ورأى أنه إن سكت تكلم ولكن بأفواه الجراح، فانحرف إلى السيف وقال: أيها المعتز بطبعه، المغتر بلمعه، الناقض حبل الإنس بقطعه، الناسخ بهجيره من ظلال العيش فيأ السراب الذي {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} 5 الحبيس الذي طالما عادت عليه عوائد شره الكمين، الإبليس الذي لو أمر بالسجود لقال {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} 6 أتعرض بسبي، وتتعرض لمكايد حربي ألست ذا الخدع البالغة، والحرب خدعة، والمنن النافعة، ولا خير فيمن لا تبغي الأنام نفعه، ألست المسود7 الأحق بقول القائل: نفس عصام سودت عصاما ... وعلمته الجود والإقداما8 أتفاخرني وأنا للوصل وأنت للقطع، وأنا للعطاء وأنت للمنع، وأنا للصلح وأنت للضراب، وأنا للعمارة وأنت للخراب، وأنا المعمر وأنت المدمر، وأنت المقلد وأنا صاحب التقليد، وأنت العابث وأنا المجود ومن أولى من القلم بالتجويد، فما أقبح شبهك، وما أشنع يومًا ترى فيه العيون وجهك، أعلى مثلي يشق9 القول، ويرفع

_ 1 اللدد: الخصام. 2 الطائلةك القوية البليغة. 3 التعديل والتجريح: التصويب والتخطئة. 4 السب الصراح: الشتم الصريح الخالص. 5 النور، 24/ 39. 6 الأعراف، 7/ 12 وص، 38/ 76. 7 المسود: السيد. 8 الجود والإقداما: الكرم والشجاعة. وقد روي: الجد والإقداما. والجود أصح، لتلازم الصفتين، الكرم والشجاعة. 9 يشق: يصعب.

الصوت والصول1، وأنا ذو اللفظ المكين، وأنت ممن دخل تحت قوله تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} 2 فقد تعديت حدك، وطلبت ما لم تبلغ به جهدك، هيهات أنا المنتصب لمصالح الدول وأنت في الغمد طريح، والمتعب في تمهيدها وأنت غافل مستريح، والساهر وقد مهد لك في الغمد مضجع، والجالس عن يمين الملك وأنت عن يساره فأي الحالتين أرفع، والساعي في تدبير حال القوم، والمغني لنفعهم العمر إذا كان نفعك يومًا أو بعض يوم، فاقطع عنك أسباب المفاخرة، واستر أنيابك عند المكاشرة، فما يحسن بالصامت محاورة المفصح، والله يعلم المفسد من المصلح، على أنه لا ينكر لمثلك التصدي، ولا يستغرب منه على مثلي التعدي، ما أنا أول من أطاع الباري وتجرأت عليه، ومددت يد العدوان إليه، أولست الذي قيل فيه: شيخ يرى الصلوات الخمس نافلة ... ويستحل دم الحجاج في الحرم قد سلبت الرحمة وإنما يرحم الله من عباده الرحماء، وجلبت القوة فكم هيجت سبة حمراء3، وأثرت دهماء، وخمشت الوجوه، وكيف لا وأنت كالظفر كونًا، وقطعت اللذات، ولم لا وأنت كالصبح لونًا، أين بطشك من حلمي، وجهلك من علمي، وجسمك من جسمي: شتان ما بين جسم صيغ من ذهب ... وذاك جسمي وجسم صيغ من بهق4 أين عينك الزرقاء من عيني الكحيلة، ورؤيتك الشنعاء من رؤيتي الجميلة، أين لون الشيب من لون الشباب، وأين نذير الأعداء من رسول الأحباب، هذا وكم أكلت الأكباد غيظًا، وحميت الأضغان5 قيظًَا وشكوت الصدأ فسقيت ولكن بشواظ6 من نار، وأخنت عليك الأيام حتى انتعل بأبعاضك7 الحمار، ولولا تعرضك إلي لما وقعت في المقت، ولولا إساءتك لما كنت تصقل في كل وقت، فدع عنك هذا الفخر المديد،

_ 1 الصول: عصا الملك، وهي الصولجان. 2 الزخرف، 43/ 18. 3 سبة حمراء: شتمًا يوصل إلى الحرب. والدهماء: الحرب. 4 البهق: مرض جلدي يترك على الجلد بقعًا بيضاء. 5 الأضغان: مفردها ضغينة، وهي الأحقاد. 6 شواظ: قطع من الحديد حامية، شظايا. 7 أخنت عليك الأيام: أي جارت عليك وأتعبتك، انتعل: لبس في رجله أبعاضك: جمع مفرده بعض. أقسام منك.

وتأمل وصفي إذا {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} 1 وافهم قول ابن الرومي: إن يخدم القلم السيف الذي خضعت ... له الرقاب ودانت خوفه الأمم فالموت والموت لا شيء يعادله ... ما زال يتبع ما يجري به القلم بذا قضى الله في الأقلام إذ بريت ... إن السيوف لها مذ أرهفت خدم فعند ذلك وثب السيف على قده، وكاد الغضب يخرجه عن حده، وقال أيها المتطاول على قصره، والماشي على طريق غرره، والمتعرض مني إلى الدمار، والمتحرش بي فهو كما تقول العامة: ذنبه قش ويحترس بالنار، لقد شمرت عن ساقك حتى أغرقتك الغمرات، وأتعبت نفسك فيما لا تدرك إلى أن أذهبها التعب حسرات، أولست الذي طالما أرعش السيف للهيبة عطفك، ونكس للخدمة رأسك وطرفك، وأمر بعض رعيته وهو السكين فقطع قفاك وشق أنفك، ورفعك في مهمات خاملة وحطك وجذبك للاستعمال وقطك2، فليت شعري كيف جسرت، وعبست على مثلي وبسرت3، وأنت السوقة وأنا الملك، وأنا الصادق وأنت المؤتفك4، وأنت لصون الحطام وأنا لصون الممالك، وأنت لحفظ المزارع وأنا لحفظ المسالك، وأنت للفلاحة وأنا للفلاح، وأنت حاطب الليل من نفسه5 وأنا ساري الصباح، وأنا الباصر وأنت الأرمد، وأنا المخدوم. الأبيض. وأنت الخادم الأسود، وأقسم بمن صير في قبضتي أنواع اليمن المسخرة، وجعل شخصك وشخصي كقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} 6 إنك عن بلوغ قدري لأذل رتبة، وعن بري كفي لأخيب طلبة، فإني لا أنكر قول بعض أربابك، حيث قالوا: أف لرزق الكتبه ... أف له ما أصعبه يرتشف الرزق به ... من شق تلك القصبة يا قلمًا يرف في الطـ ... ـرس لوجهي ذنبه ما أعرف المسكين إلا ... كاتبًا ذا متربه7

_ 1 ق، 50/ 22. 2 قطك: بتشديد الطاء: براك. 3 المؤتفك: الكاذب. 4 بسر: قطب حاجبيه. 5 حاطب الليل: مدلهم الليل، والنفس: المداد وأداته. 6 الإسراء، 17/ 12. 7 المتربة: الحاجة والفقر.

إن عاينت الديوان وقعت في الحساب والعذاب، أو البلاغة سحرت وبالغت فأنت ساحر كذاب، أو فخرت بتقييد العلوم فما لك منها سوى لمحة الطرف، أو برقم المصاحف فإنك تعبد الله على حرف1، أو جمعت عملًا فإنما جمعك للتكسير، أو رفعت إلى طرفك رجع البصر خاسئًا وهو حسير، وهل أنت في الدول إلا خيال تكتفي الهمم بطيفه، أو أصبع يلعق بها الرزق إذا أكل الضارب بقائم سيفه، وساع على رأسه قل ما أجدى، وسار ربما أعطى قليلًا وأكدى2. ثم وقف وأكدى، أين أنت من حظي الأسنى وكفي الأغنى، وما خصصت به من الجوهر الفرد إذا عجزت أنت عن العرض الأدنى، كم برزت فما أغنيت في مهمه، وكم خرجت من دواتك لتسطير سيئة، فخرجت كما قيل من ظلمة إلى ظلمة، وهب أنك كما قلت مفتوق اللسان، جريء الجنان، مداخل بمخلبك بين ذوي الاقتناص، معدود من شياطين الدول وأنت في الطرس والنقس بين بناء وغواص، فلو جريت خلفي إلى أن تحفى، وصحت بصريرك إلى أن تخفت وتخفى، فما كنت مني إلا بمنزلة المِدرة3 من السماك الرامح، والبعرة على تيار الخضم الطافح، فلا تعد نفسك بمعجزي فإنك ممن يمين4، ولا تحلف لها أن تبلغ مداي فليس لمخضوب البنان يمين، ومن صلاح نجمك أن تعترف بفضلي الأكبر، وتؤمن بمعجزتي التي بعثت منك إلى الأسود والأحمر لتستوجب حقًّا، وتسلم من نار حر تلظى لا يصلاها5 إلا الأشقى إن لم يتضح لرأيك إلا الإصرار، وأبت حصائد لسانك إلا أن توقعك في النار، فلا رعى الله عزائمك القاصرة، ولا جمع عقارب ليل نفسك التي إن عادت فإن نعال السيوف لها حاضرة، ثم قطع الكلام وتمثل بقول أبي تمام: السيف أصدق إنباء من الكتب ... في حده الحد بين الجد واللعب بيض الصفائح لا سود الصحائف في ... متونهن جلاء الشك والريب فلما تحقق تحريف القلم حرجه، وفهم مقدار الغيظ الذي أخرجه، وسمع هذه المقالة التي يقطر من جوانبها الدم، ورأى أنه هو البادي بهذه المناقشة والبادي أظلم،

_ 1 تعبد الله على حرف: سريع الارتداد ضعيف الإيمان. 2 أكدى: عنّف ومنَّن. 3 السماك الرامح: نجم نير في الجهة الشمالية، ويقابله السماك الأعزل في الجنوب. وهو أيضًا نجم قطبي نير، المدرة: الطينة. 4 يمين: يكذب، ويمين الثانية: بمعنى القسم. 5 يصلاها: يحترق بها.

رجع إلى خداعه وتنحى عن طريق قِراعه1، وعلم أن الدهر دهره، والقدر على حكم الوقت قدره، وأنه أحق بقول القائل: لحنها معرب وأعجب من ذا ... أن إعراب غيرها ملحون2 فالتفت إليه وقال: أيها المتلهب في قدحه3، والخارج عما نسب إليه من صفحه، ما هذه الزيادة في السباب، والتطفيف في كيل الجواب، وأين علم الشيوخ عند جهل الشباب، أما كان الأحسن بك أن تترك هذا الرفث4، وتعلم5 أخاك على الشعث6 وتحلم كما زعمت أنك السيد، وتزكو على الغيظ كما يزكو على النار الجيد، أما تعلم أني معينك في تشييد الممالك، ورفيقك فيما تسلكه لنفعها من المسالك، أما أنا وأنت للملك كاليدين، وفي تشييده كالركنين الأشدين؛ وما أراك عبتني في الأكثر إلا بتحول جسدي الذي ليس خلقه علي، وضعفه الذي ليس أمره إلي، على أن أشهى الخصور أنحفها7، وأقوى الجفون أضعفها، وأزكى النسيمات أعلها وأدنفها8، وهذه سادات العرب تعد ذلك من فضلها الأظهر وحسنها الأشهر، ولو أنك تقول بالفصاحة وتقف في هذه الساحة، لأسمعتك في ذلك من أشعارهم وأتحفتك بما يفخرون به من آثارهم، وكذلك عيبك سواد خلقتي التي: أكسبها الحب حلية صبغت ... صبغة حب القلوب والحدق9 فيا لله ويا للحجر الأسود من هذه الحجة البائرة، والكرة الخاسرة، وعلى هذه النسبة ما عبتني به من فقر الأنبياء وذل الحكماء، على أن إطلاقات معروفي معروفة، وسطوات

_ 1 قراعه: قتاله، ومنها مقارعة الأبطال، قتالهم ومنازلتهم. 2 اللحن: الخطأ في النحو عند الكلام. 3 قدحه: ذمه. 4 الرفث: الفحش. 5 هكذا وردت ونظنها "وتلم" وهي من بيت للنابغة: ولست بمستبق أخًا لا تلمه على شعث أي الرجال المهذب 6 الشعث: التفرق. 7 أنحفها: أكثرها نحافة أي أدقها. 8 أَعَلُها وأدْنَفُها: أكثرها نعومة ومدعاة للسكون والهدوء والدنف: السكر. 9 حب القلوب: سويداؤها، والحدق: جمع مفرده حدقه وهي سواد العين.

أمري في وجوه الأعداء المكسوفة مكشوفة، فأستغفر الله مما فرط في مقالك، والتقويض من عوائد احتمالك، فلا تشمت بنا الأضداد ولا تسلط بفرقتنا المفسدين في الأرض إن الله لا يحب الفساد، واغضض الآن من خيلائك بعض هذا الغض، ولا تشك أني قسيمك ولو قيل لك: يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض، وإن أبيت إلا أن تهدد وتجرد الشغب وتحدد، فاذكر محلنا من اليد الشريفة السلطانية الملكية المؤيدية، أيد الله نعمها وجازى بالإحسان شيمها، وأيقظ في الآجال والآمال سيفها وقلمها، ولا عطل مشاهد المدح من أنسها، ولا أخلى قرائض الباس والكرم من قيام خمسها، فأقسم من بأسه بالليل وما وسق، ومن بشر طلعته بالقمر إذا اتسق1 لو تجاور الأسد والظباء بتلك اليد لوردا بالأمن في منهل، ورتعا في روض لا يجهل، ولو لجأ إليها النهار لما راعه بمشيئة الله الليل بزجر، أو الليل لما غلب على خيطه الأسود الخيط الأبيض من الفجر، وعلى ذلك فما ينبغي لنا بين تلك الأنامل غير سلوك الأدب، والمعاضدة على محو الأزمات والنوب، والاستقامة على الحق ولا عوج، والحديث من تلك الراحة عن البحر ولا حرج، هذه نصيحتي إليك والدين النصيحة، والله تعالى يطلعك على معاني الرشد الصريحة، ويجعل بينك وبين الغي2 حجابًا مستورًا، وينسيك ما تقدم من القول وكان ذلك في الكتاب مسطورًا. فعند ذلك. نكس السيف طرفه، وقبل خديعة القلم قائلًا لأمر ما جدع قصير أنفه، وأمسك عن المشاغبة خيفة الزلل، فإن السيوف معروفة بالخلل، ثم قال: أيها الضعيف الجبار، البازع في ليل المداد نجمًا وكم في النجوم غرار، لقد تظلمت من أمر أنت البادي بظلمه، وتسورت إلى فتح باب أنت السابق إلى فتح ختمه، وقد فهمت الآن ما ذكرت من أمر اليد الشريفة ونعم ما ذكرت، وأحسن بما أشرت، وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره، وقد تغفلت عن قولك الأحسن، ورددتك إلى أمك الدواة كي تقر عينها ولا تحزن، وسألت الله تعالى أن يزيد محاسن تلك اليد العالية تمامًا على الذي أحسن فإنها اليد التي: لو أثر التقبيل في يد منعم ... لمحا براجم كفها التقبيل3 والراحة التي: تسعى القلوب لغوثها ولغيثها ... فيجيبه التأمين والتأميل4

_ 1 اتسق: اعتدل وتم. 2 الغي: الغواية والاغترار والانحراف. 3 البراجم: مفاصل الأصابع واحده: بَرْجَم. 4 الغوث: النجدة، الغيث: العطاء، التأمين: الأمان، التأميل: الأمل.

والأنامل التي علمها الله بالسيف والقلم ومكنها من رتبتي العلم والعلم، ودارك بكرمها آمال العفاة بعد أن ولا ولم، ولولا أن هذا المضمار يضيق عن وصفه السابق إلى غاية الخصل، ومجده الذي إذا جر ذيله ودّ الفضل لو تمسك منه بالفضل، لأ طلت الآن في ذكر مجدها الأوضح، وأفصحت في مدحها ولا ينكر لمثلها إن أنطقت الصامت فأفصح، ثم إنك بعدما تقدم من القول المزيد، والمجادلة التي عز أمرها على الحديد، أقررت أنت أننا للملك كاليدين ولم تقر أينا اليمين، وفي آفاقه كالقمرين ولم تذكر أينا الواضحة الجبين، وما يشفي ضناي ويروي صداي إلا أن يحكم بيننا من لا يرد حكمه، ولا يتهم فهمه، فيظهر أينا المفضول من الفاضل، والمخذول من الخاذل، ويقصر عن القول المناظر ويستريح المناضل، وقد رأيت أن يحكم بيننا المقام الأعظم، الذي أشرت إلى يده الشريفة، وتوسلت بمحاسنها اللطيفة، فإنه مالك زمامنا ومنشئ غمامنا ومصرف كلامنا وحامل أعباءنا، الذي ما هوى للهوى، وصاحب أمرنا ونهينا، وتالله ما ضل صاحبكم وما غوى، ليفصل الأمر بحكمه، ويقدّمنا إلى مجلسه الشريف فيحكم بيننا بعلمه، فقدم خيره الله على ذلك الاشتراط، وقل بعد تقبيلنا الأرض له في ذلك البساط: خصمان بغي بعضنا على بعض، فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط، فنشط القلم فرحًا، ومشى في أرض الطرس مرحًا، وطرب لهذا الجواب وخر راكعًا وأناب، وقال: سمعًا وطاعة، وشكر الله على هذه الساعة: "يا برد ذاك الذي قالت على كبدي". الآن ظهر ما تبغيان، وقضي الأمر الذي فيه تستفتيان، وحكم بيننا الرأي المنير، ونبأنا بحقيقة الأمر ولا ينبئك مثل خبير، ثم تفاصلا على ذلك، وتراضيا على ما يحكم به المالك، وكانوا أحق بها وأهلها وانتبه المملوك من سنة فكره، وطالع بما اختلج سواد هذه الليلة في سره، والله تعالى يديم أيام مولانا السلطان التي هي نظام المفاخرة، ومقام المآثر، وغوث الشاكي وغيث الشاكر، ويمتع بظلال مقامه الذي لا تكسر الأيام مقدار ما هو جابر، ولا تجبر ما هو كاسر، إن شاء الله تعالى. تمت رسالة الشيخ جمال الدين التي كشف بها عن قناع المغايرة، وأتى فيها بكل مثال ليس له مثيل، ووسمها بصاحب حماة فأطاعه عاصي الأدب، ووهب الله له على الكبر إسماعيل. نرجع إلى أبيات البديعيات فبيت الشيخ صفي الدين: فالله يكلؤ عذالي ويلهمهم ... عذلي فقد فرجوا كربي بذكرهم1

_ 1 كلأ: حمى وحرس.

الشيخ صفي الدين غاير الناس في الدعاء لعذاله، وما ذاك إلا أن العذول ما برح ممتزجًا بذكر الأحباب، فكلما كرروا عذله وذكروا أحبابه فرجعوا كربه بذلك الذكر. والعميان لم ينظموا هذا النوع في بديعيتهم. وبيت الشيخ عز الدين في بديعيته: تغاير الحال حتى للنوى فئة ... أصبحت منتظرًا أيام وصلهم أما الشرح في نوع المغايرة فقد طال. والكلام في بيت عز الدين يضيق عنه المجال؛ فإنه نظم المغايرة ولكن غاير بها الأفهام، وما أرانا من عقادة بيته غير الإبهام. وبيت بديعيتي: أغاير الناس في حب الرقيب فمذ ... أراه أبسط آمالي بقربهم1 الناس قد أجمعوا على ذم الرقيب وغايرتهم في مدحه لمعنى، وما ذاك إلا أنني لما أراه أتحقق أنه ما تجرد للمراقبة إلا وقد علم بزيارة الحبيب، فانظر إلى حسن المغايرة وغرابة المعنى وحسن التركيب.

_ 1 الرقيب: المراقب الواشي.

ذكر التذييل

ذكر التذييل: والله ما طال تذييل اللقاء بهم ... يا عاذلي وكفى بالله في القسم التذييل، هو أن يذيل الناظم أو الناثر كلامًا، بعد تمامه وحسن السكوت عليه، بجملة تحقق ما قبلها من الكلام، وتزيده توكيدًا وتجري مجرى المثل، بزيادة التحقيق. والفرق بينه وبين التكميل، أن التكميل يرد على معنى يحتاج إلى الكمال. والتذييل لم يفد غير تحقيق الكلام الأول وتوكيده. ومن أعظم الشواهد عليه قوله تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} 1 فالجملة الأخيرة هي التذييل الذي خرج كلامه مخرج المثل السائر. ومثله قوله تعالى: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} 2 فالجملة الأخيرة، هي تذييل خرج في الكلام مخرج الأمثال التي ليس لها مثيل، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} 3 ففي هذه الآية الشريفة تذييلان: أحدهما قوله تعالى: {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا} ، فإن الكلام كان قد تم قبل ذلك وحسن السكوت عليه، والآخر قوله تعالى: {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} فخرج الكلام مخرج المثل السائر. ووقع ذلك في السنة الشريفة، وهو قول النبي -صلى الله عليه وسلم: "من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حنسة، وإن عملها كتبت له عشرًا، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه،

_ 1 الإسراء: 17/ 81. 2 سبأ: 34/ 17. 3 التوبة: 9/ 111.

وإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة، ولا يهلك على الله إلا هالك". فقوله -صلى الله عليه وسلم: "لا يهلك على الله إلا هالك"، هو التذيل الذي تتعلق البلاغة بأذياله، وخرج الكلام فيه مخرج الأمثال، وهذا التذييل انفرد بإخراجه مسلم ومن هذا الباب قول النابغة: ولست بمستبق أخًا لا تلمه ... على شعث أي الرجال المهذب اتفق أهل البديع على أن قوله: أي الرجال المهذب، من أحسن تذييل وقع في شعر، لأنه خرج مخرج المثل ومثله قول بعض العرب: ودعوا نزال فكنت أول نازل ... وعلام أركبه إذا لم أنزل1 فعجز هذا البيت كله تذييل، وهو في غاية الكمال، ولقد أحسن بعضهم في هذا الباب، حيث قال: صدقتك الود أبغي الوصال ... وليس المكاذب كالصادق فجازيتموني بطول البعاد ... وكم أخجل الحب من واثق فكل من عجزي البيتين تذييل، وخرج الكلام فيهما مخرج المثل، وأحسن منه قول الحطيئة: نزور فتى يعطي على الحمد ماله ... ومن يعط أثمان المحامد يحمد فإن عجز البيت كله تذييل خرج مخرج المثل، وصدر البيت استقل بالمعنى المراد على انفراده، وفيه أيضًا مع اتصاله بالعجز تعطف حسن في قوله: يعطي ويعط، وبالتعطف صار بين العجز والصدر ملاحمة وملاءمة شديدة ورابطة وثيقة، قال ابن أبي الأصبع: عجز هذا البيت، إذا انفرد، استقل مثلًا وتذييلًا، كما أن الصدر إذا انفرد استقل بالمعنى المقصود، من جملة البيت، والغرض المطلوب من التمثيل أيضًا، وقل أن يوجد بيت بين صدره وعجزه مثل هذا التلاحم، على استقلال كل قسم بنفسه وتمام معناه ولفظه، ومن التذييل الحسن قول أبي الشيص: وأهنتني فأهنت نفسي عامدًا ... ما من يهون عليك ممن يكرم فعجز البيت كله تذييل، وفي ضمنه مطابقة، لذكره الهوان والكرامة. ومن بديع التمثيل قول ابن نباتة السعدي: لم يبق جودك لي شيئًا أؤمله ... تركتني أصحب الدنيا بلا أمل

_ 1 نزال: اسم فعل أمر بمعنى إنزل للقتال.

فإنه استوفى ما أراده من المدح في الشطر الأول، ثم احتاج إلى تتميم البيت، وأراد إتمامه بتكرار المعنى المتقدم فيه استحسانًا وتوكيدًا، فأخرجه مخرج المثل السائر، حث قال: تركتني أصحب الدنيا بلا أمل، ليحصل ما أراده من التوكيد وزيادة المعنى، لأن المدح إذا خرج مخرج المثل كان أسير في الأرض. قال ابن أبي الأصبع: هذا البيت إن نظر فيه إلى قول أبي الطيب المتنبي: تمسي الأماني صرعى دون مبلغه ... فما يقول لشيء ليت ذلك لي1 فبيت ابن نباتة أفضل من بيت المتنبي، لأنه أحسن الأدب مع ممدوحه، إذ لم يجعله في حيز من يتمنى شيئًا وجعل في قدرته وجوده ما يبلغ مادحه كل أمنية، فلم يبق له أمل، وإن كان في بيت المتنبي زيادة من جهة المبالغة، في قوله: دون مبلغه، واستعارة في اللفظ، بقوله: تمسي الأماني صرعى، ففي بيت ابن نباتة أن كل ما جعله المتنبي لممدوحه، جعله ابن نباتة لمادحه، مع زيادة المبالغة في المدح، بكونه أخرجه مخرج المثل السائر كما بينا، فهو أشهر وأسير وأبقى. وإذا تأمل الناظر في البيتين وجد معنى بيت المتنبي بكماله في صدر بيت ابن نباتة، لأن حاصل بيت المتنبي أن الممدوح قدر على كل الأماني، وهذا قد استقل به صدر بيت ابن نباتة، والعجز ملزوم صدره، لأن من نال كل أمل صحب الدنيا بلا أمل، غير أن ابن نباتة لكونه أخرج العجز مخرج المثل، صار كأنه استأنف معنى آخر مستقلًا بجميع معنى بيت المتنبي، مع كونه زاد بأن جعل للمادح ما جعله المتنبي للمدوح، وهذا غاية في حسن الأدب. وقد ترجح بيت ابن نباتة على بيت المتنبي من وجوه. انتهى كلام ابن أبي الأصبع في النقد الحسن الذي قرره على بيت أبي الطيب المتنبي وبيت ابن نباتة. وقد يختلط على بعض الناس هذه الأبواب الأربعة، وهي: باب الإيغال، والتذييل، والتمكين، والتكميل، والفرق ظاهر، فإن الإيغال لا يكون إلا في الكلمة التي فيها الروي وما يتعلق به، وهو أيضًا مما يأتي بعد تمام المعنى، كالتكميل والتذييل. وأما التمكين فليس له مدخل في هذه الأبواب، لأنه عبارة عن استقرار القافية في مكانها، لأها لا تزيد معنى البيت، بل إذا حذفت نقص معنى البيت، لأنها ممكنة في قواعده، وأما التكميل، فإنه وإن أتى بعد تمام المعنى، فهو يفارق الإيغال والتذييل من وجهين: أحدهما، كونه يأتي في الحشو والمقطاع، والإيغال والتذييل لا يكونان إلا في المقطاع دون الحشو

_ 1 صرعى: قتلى، دون مبلغه: قبل الوصول إليه، ولا تصل إليه، لأنه لا يتمنى شيئًا فكل شيء عنده محقق له.

والإيغال والتذييل لا يخرجان عن معنى الكلام المتقدم، والتكميل لا بد أن يأتي بمعنى يكمل الغرض على التكملة المتقدمة إما تكميلًا بديعيًّا أو تكميلًا عروضيًّا. والتذييل يفارق الإيغال، لكونه يزيد على الكلمة التي تسمى إيغالًا ويستوعب غالبًا عجز البيت. وبيت صفي الدين في التذييل: لله لذة عيش بالحبيب مضت ... فلم تدم لي وغير الله لم يدم والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم. وبيت عز الدين الموصلي: تذييل عيشي ورزقي قسمة حصلت ... في أول الخلق والأرزاق بالقِسَم1 وبيت بديعيتي: والله ما طال تذييل اللقاء بهم ... يا عاذلي وكفى بالله في القَسَم2 فقولي: وكفى بالله في القسم، هي الجملة التي جاءت بعد تمام الكلام وحسن السكوت عليه، واشتملت على معناه وزادته في القسم تحقيقًا وتوكيدًا، وجرت مجرى المثل الذي ما يجارى في شرفه وكماله، وأما لفظة التذييل، التي هي تسمية لهذا النوع المقصود، ففات الشيخ عز الدين فيها لفظة طال، فإنني لو لم أذكر الطول ما ترشحت تورية التذييل، ولا وقع لها في القلوب مواقع، فإن الطول من لوازم الأذيال، وطويل ذيل اللقاء في البيت من ألطف الاستعارات، وقولي: يا عاذلي، هو التكميل الذي يأتي في الحشو، وقد تقدم الكلام عليه وتقرر.

_ 1 القِسم: التقسيم من قبل الله سبحانه وتعالى. 2 القسم: الحلف.

ذكر التفويف

ذكر التفويف: خشّن ألن أحزن افرح امنع أعط أنل ... فوف أجد وشِّ رقِّق شد حب لم1 التفويف، تأملته فوجدته نوعًا لم يفد غير إرشاد ناظمه إلى طرق العقادة. والشاعر، إذا كان معنويًّا وتجشم مشاقه، تقصر يده عن التطاول إلى اختراع معنى من المعاني الغريبة، وتجفوه حسان الألفاظ، ولم يعطف عليه برقة وتأنف2 كل قرينة صالحة أن تسكن له بيتًا، ولكن شروع المعارضة ملزم به، ولم يسعني غير تشريع الطباق في بيته. وهو في اللغة مشتق من الثوب المفوف الذي فيه خطوط بيض والمراد تلوينه ونقشه، ومن ظريف قول ابن قاضي ميلة: بعيشي ألم أخبركما أنه فتى ... على لفظه برد الكلام المفوّف3 والتفويف في الصناعة، عبارة عن إتيان المتكلم بمعان شتى، من المدح والغزل وغير ذلك من الفنون والأغراض، كل فن في جملة من الكلام منفصلة عن أختها، مع تساوي الجملة في الوزنية. ويكون بالجملة الطويلة أو المتوسطة أو القصيرة، وأحسنها وأبلغها وأصعبها مسلكًا القصار، مثال ما جاء منه بالجملة الطويلة قول النابغة: وأعظم أحلامًا وأكبر سيدًا ... وأفضل مشفوعًا وأكرم شافع

_ 1 البيت كله أفعال أمر للأفعال التالية: خَشُن، لان، حزن، منع، أعطى، نال، فوّف، أجاد، وشّى رقق، شد، أحب، لمّ. وفوّف: خطط واستعمل التفويف وهو من المحسنات البديعية. 2 أنف: ترفع أو رفض ضنًا بنفسه. 3 ألم: بالمكان وبالشخص، إذا مر به. بُرد: جمع مفرده بردة وهي الثوب المخطط والمزخرف.

وبالجملة المتوسطة قول أبي الوليد بن زيدون: تِهْ احتملْ واحتكِم اصبر وعِز أهن ... وذُلَ أخضعْ وقُل أَسمع ومُر أَطِع1 ومثال ما جاء بالجملة القصيرة، قول أبي الطيب المتنبي: أَقِل أنِل أقطِع إحمِل علِّ أسل أعِد ... زد هش بش تفضل ادن سَرِّ صِل أقل من الإقالة في العثرة، أنل من الإنالة والإعطاء، أقطع من الإقطاع، احمل من قولهم حملة على فرسه، عل من الاستعلاء والعلو، أسل من السلو أعد أي أعدني إلى موضعي من الجوائز، زد أي زدني مما كنت أعهده منك، هش من الهشاشة وهي التهلل، والبشر من بش البشاشة وهي الشر وطلاقة الوجه، تفضل من الأفضال، ادن أي قربني إليك، وقوله: سر من التسري وهو أن يعطيه جارية يتسراها، صل من الصلة، ولم أقصد بحل هذه الألفاظ إلا إيناسًا تزول به وحشة العقادة عن المتأمل، فإن هذه الجملة ما استولت عليها عقادة التركيب إلا لكون كل كلمة منها فعل أمر، ولم يأت في الجملة القصيرة على هذه الصفة شيء من فصيح الكلام، وعلى هذا المنوال نسج أصحاب البديعيات وبالله المستعان. وبيت الشيخ صفي الدين رحمه الله: أقصر أطل اعذل اعذر سل خل أعن ... خن هن عن ترفق كف لجّ لم2 وهذا النوع ما نظمه العميان، وبيت الشيخ عز الدين: فوف أزف انظم انثر خص عم أفد ... اعتب أدر أبرق ارعد اضحك ابك لم3 هذا البيت ما نحت من الجبال، ولكن الجبال نحتت منه، وبيت بديعيتي: خشن ألن احزن افرح امنع أعط أنل ... فوف اجد وش رقق شد حل لم قد تقدم4 قولي للعاذل: والله ما طال تذييل اللقاء بهم ... يا عاذلي وكفى بالله في القسم ولما قررت له ذلك، قلت له في بيت التفويف: إن شئت تخشن في عذلك، وإن

_ 1 ته: أمر من تاه يتيه: تكبر والبيت كما يلاحظ كله أضداد أو ما شابهها. 2, 3 البيتين كما هو واضح أفعال أمر وهي منظومة على صفة التفويف. 4 تقدم: أي تقدم هذا البيت وسبقه قولي للعاذل.

شئت تلين، وإن شئت تحزن، وإن شئت تفرح، وإن شئت تمنع، وإن شئت تعطي، وإن شئت تفوف العذل وتجيد نقشه وتوشيته، وترقق فيه أو تشد معناه أن الكل بالنسبة إلى صدق المحبة سهل، ولكن النكتة في قولي له، أعني للعاذل، حب لم يعني إذا حب لم يعد ذلك، كأني أقول له: من لم يبت والحب يقرع قلبه ... لم يدر كيف تفتت الأكباد وما أحلى قول الشيخ شرف الدين بن الفارض مخاطبًا لعاذله: دع عنك تعنيفي وذق طعم الهوى ... فإذا عشقت فبعد ذلك عنف

ذكر المواربة

ذكر المواربة: يا عاذلي أنت محبوب لدي فلا ... توارب العقل مني واستفد حكمي المواربة، براء مهملة، وباء موحدة، وهي مشتقة من الأرب وهي الحاجة، لكن ذكر ابن أبي الأصبع: أنها مشتقة من ورب العرق بفتح الواو والراء إذا فسد، فهو ورب بكسر الراء،. كأن المتكلم أفسد مفهوم ظاهر الكلام بما أبداه من تأويل باطنه. وحقيقة المواربة، أن يقول المتكلم قولا يتضمن ما ينكر عليه فيه بسببه، ويتوجه عليه المؤاخذة، فإذا حصل الإنكار عليه استحضر، بحذقه، وجهًا من الوجوه التي يمكن التخلص بها من تلك المؤاخذة، إما بتحريف كلمة أو تصحيفها، أو بزيادة أو نقص، أو غير ذلك. فأما شاهد ما وقع من المواربة بالتحريف، فقول عتبان الحروز: وإن يك منكم كان مروان وابنه ... وعمرو ومنكم هاشم وحبيب فمنا حصين والبطين وقعنب ... ومنا أمير المؤمنين شبيب فلما بلغ الشعر هشامًا وظفر به، قال: أنت القائل: ومنا أمير المؤمنين شبيب؟ فقال: يا أمير المؤمنين، ما قلت إلا: ومنا أمير المؤمنين شبيب، فتخلص بفتح الراء بعد ضمها1، وهذا ألطف مواربة وقعت في هذا الباب، وشاهد الحذف قول أبي نواس في خالصة جارية أمير المؤمنين الرشيد، هاجيًا لها: لقد ضاع شعري على بابكم ... كما ضاع حلي على خالصه2

_ 1 غيّر: حركة أمير من الضمة إلى الفتحة، بأن جعله منادى لحرف نداء مقدر فيكون تقدير الكلام يا أمير المؤمنين ما قلت إلا: ومنا يا أمير المؤمنين شبيب. 2 وروري: كما ضاع در على خالصة.

فلما بلغ الرشيد ذلك أنكر عليه وتهدده بسببه، فقال: لم أقل إلا: لقد ضاء شعري على بابكم ... كما ضاء حلي على خالصه فاستحسن الرشيد مواربته، وقال بعض من حضر: هذا بيت قلعت عيناه فأبصر. وشاهد التصحيف في المواربة يأتي في أبيات البديعيات، ويعجبني قول الشيخ عز الدين الموصلي، في المواربة من غير البديعية، لما بلغه وفاة القاضي فتح الدين بن الشهيد، وكان القاضي فتح الدين يرجح جانب الشيخ شمس الدين المزين على الشيخ عز الدين، لبغض كان في خاطره لا لاستحقاق: دمش قالت لنا مقالا ... معناه في ذا الزمان بين اندمل الجرح واستراحت ... ذاتي من الفتح والمزين وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته: لأنت عندي أخص الناس منزلة ... إذ كنت أقدرهم عندي على السلم المواربة في أخص يريد بها أخس بالسين المهملة، وأقدرهم يريد بها أقذرهم بالذال المعجمة، والمواربة في أقدرهم بالتصحيف. وهذا النوع لم ينظمه العميان في بديعيتهم، وبيت الشيخ عز الدين الموصلي: لأنت أفتح ذهنًا في مواربة ... وبالتعقل منسوب إلى النعم مراد الشيخ بأفتح أقبح وبالتعقل التغفل، وقال في شرحه: إنه أراد بالنعم النعم، وهو اسم جامع للإبل وغيرها وأراد بذلك المواربة بالتحريف أيضًا. سلمنا له ذلك، ولكن لم أر في بيته قبل المواربة معنى يستأنس به الذوق. وبيت بديعيتي أنا مستمر فيه على ما تقدم من خطاب العاذل: يا عاذلي أنت محبوب لديَّ فلا ... توارب العقلي مني واستفد حكمي قولي للعاذل أنت محبوب لدي، من له أدنى ذوق يفهم منه أن مرادي المواربة بمجنون، والمراد بلفظة توارب توازن، والمعنى قبل المواربة مستقيم وهو في غاية الكمال وإذ حصلت المواربة صار البيت: يا عاذلي أنت مجنون لديَّ فلا ... توازن العقل مني واستفد حكمي وانتقل من صيغة المدح المقبول إلى صيغة الهجو الصريح.

ذكر الكلام الجامع

ذكر الكلام الجامع: جمع الكلام إذا لم تغن حكمته ... وجوده عند أهل الذوق كالعدم الكلام الجامع، هو أن يأتي الشارع ببيت مشتمل على حكمة، أو وعظ، أو غير ذلك من الحقائق التي تجري مجرى الأمثال، ويتمثل الناظم بحكمها أو وعظها أو بحالة تقتضي إجراء المثل، كقول زهير بن أبي سلمى: ومن يك ذا فضل فيبخل بفضله ... على قومه يُستغنَ عنه ويذمم وقول أبي نواس: إذا كان غير الله في عدة الفتى ... أتته الرزايا من وجوه الفوائد1 وقول المتنبي: وإذا كانت النفوس كبارًا ... تعبت في مرادها الأجسام2 وبيت الشيخ صفي الدين في بديعيته: من كان يعلم أن الشهد مطلبه ... فلا يخاف للدغ النحل من ألم فإنه حصر فيه الكلام الجامع بشروطه، وأجراه مجرى المثل مع ما أودع فيه من الحكمة، وزاد على ذلك بما كساه من ديباجة الرقة ولطف السهولة وحسن الانسجام، وأما العميان فما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين الموصلي: كلامه جامع وصف الكمال كما ... يهيج الشوق أنواعًا من الريم3

_ 1 أي إذا توكل الإنسان على غير الله، أتته المصائب عن طريق ما يستفيد منه. 2 المراد: ما تريده وهو الطمُوح. 3 الريم: الجراح التي شارفت على البرء.

قد تقرر: إن الكلام الجامع هو أن يأتي الناظم ببيت جملته حكمة، أو موعظة، أو غير ذلك من الحقائق التي تجري مجرى الأمثال، وليس بين الشطر الأول من البيت وبين الشطر الثاني مناسبة ولا إيناس ملاءمة، ولم أر لجريان المثل دخولًا في باب هذا البيت: وبيت بديعيتي: جمع الكلام إذا لم تغن حكمته ... وجوده عند أهل الذوق كالعدم حكمة هذا البيت ما أجريت مثلها على هذا النمط إلا ليعلم المتيقظ أن فيه إشارة لطيفة إلى بيت عز الدين. فإني قررت أن ليس في كلامه الجامع ما يشعر بحكمة تجري مجرى الأمثال، فوجوده عند أهل الذوق كالعدم، والله الموفق.

ذكر المناقضة

ذكر المناقضة: إني أناقضهم إن أزمعوا ونأوا ... وجر نمل ثبيرا إثر عيسهم1 المناقضة تعليق الشرط على نقيضين: ممكن ومستحيل، ومراد المتكلم المستحيل دون الممكن، ليؤثر التعليق عدم وقوع المشروط، فكأن المتكلم ناقض نفسه في الظاهر إذ شرط وقوع أمر بوقوع نقيضين، ومثاله قول النابغة: وإنك سوف تحكم أو تباهي ... إذا ما شبت أو شاب الغراب فإن تعليقه وقوع حكم المخاطب على شيبه ممكن، وعلى شيب الغراب مستحيل، ومراده الثاني لا الأول، لأن مقصوده أن يقول: إنك لا تحكم أبدًا. والفرق بين المناقضة وبين نفي الشيء بإيجابه، أن هذا الباب ليس فيه نفي ولا إيجاب، ونفي الشيء بإيجابه ليس فيه شرط، وبيت الشيخ صفي الدين في المناقضة: وإنني سوف أسلوهم إذا عدمت ... روحي وأحيت بعد الموت والعدم فتعليق الشرط بين النقيضين: الممكن والمستحيل ظاهر، والبيت في غاية الحسن والعميان لم ينظموا هذا النوع في بديعيتهم. وبيت عز الدين: إني أناقض عهد النازحين إذا ... ما شاب عزمي وشبَّت شهوة الهرم الشيخ عز الدين قرر في بيته وشرحه: إن شيب العزم ممكن، وشباب شهوة الهرم مستحيل. فرأيت تصوير شيب العزم وإمكانه، وسبك استعارته في قالب التشبيه، كما تقرر

_ 1 أزمع: عزم، النأي: البعد والهجر، ثبير: جبل بالقرب من مكة، العيس: الجمال مفردها أعيس.

في باب الاستعارة فيه أشكال فإنهم قالوا: الاستعارة هي ادعاء معنى الحقيقة في الشيء للمبالغة في التشبيه. ولم أر في شيب العزم وجهًا للمبالغة في التشبيه، وعلى كل تقدير فالممكن والمستحيل في بيت عز الدين فيهما نظر. وبيت بديعيتي: إني أناقضهم إن أزمعوا ونأوا ... وجر نمل ثبيرًا إثر عيسهم تعليق الشرط على الممكن والمستحيل في هذا البيت أوضح من الكلام عليه، والله أعلم بالصواب.

ذكر التصدير أو رد العجز على الصدر

ذكر التصدير أو رد العجز على الصدر: ألم أصرح بتصدير المديح لهم ... ألم أهدد ألم أصبر ألم ألم هذا النوع الذي هو رد الأعجاز على الصدور، سماه المتأخرون التصدير. والتصير هو أخف على المستمع وأليق بالمقام، وقد قسه ابن المعتز على ثلاثة أقسام: الأول: ما وافق آخر كلمة في البيت آخر كلمة في صدره، أو كانت مجانسة لها، كقول الشاعر: يُلفى إذا ما كان يوم عرمرم ... في جيش رأي لا يفل عرمرم1 والثاني، ما وافق آخر كلمة في البيت أول كلمة منه، وهو الأحسن، كقول الآخر: سريع إلى ابن العم يلطم وجهه ... وليس إلى داعي الندى بسريع2 ومثله: تمنت سليمى أن أموت صبابة ... وأهون شيء عندنا ما تمنت ومثله: سُكران سكر هوى وسكر مدامة ... أنى يفيق فتى به سكران وشاهد الجناس في هذا الباب، للسري الرفاء: يسار من سجيتها المنايا ... ويمنى من عطيتها اليسار3

_ 1 العرمرم: اليوم: الشديد، الجيش: الكثير. 2 لَطم: ضرب بجمع كفه، الداعي: الذي يدعو، الندى: العطاء. 3 السجية: العادة، يسار: اليد اليسرى. اليسار: الغنى.

والأكثر أن تكون الكلمة التي في العجز عين الكلمة التي في الصدر لفظًا، وإن قبل اللفظ اشتراكًا زاد النوع حسنًا. مثاله: ذوائب سود كالعناقيد أرسلت ... فمن أجلها منا النفوس ذوائب1 والقسم الثالث: ما وافق آخر كلمة في البيت بعض كلام في أي موضع كان، كقول الشاعر: سقى الرمل صوب مستهل غمامه ... وما ذاك إلا حُب من حل بالرمل2 هكذا عرف ابن المعتز هذ القسم الثالث من التصدير. لكن قال ابن أبي الأصبع: إن هذا التعريف مدخول، وصدق فإن ابن المعتز قال في أي موضع كان، والكلمة إذا كانت في العجز لم تسم تصديرًا لأن اشتقاق التصدير من صدر البيت، فلا بد من زيادة قيد في التعريف يسلم به المدخل، بحيث يقول: بعض كلمات البيت في أي موضع كانت من صدره. قال ابن أبي الأصبع أيضًا: الذي يحسن أن يسمى به القسم الأول تصدير التفقيه والثاني تصدير الطرفين، والثالث تصدير الحشو، وقد وقع من القسم الأول، في الكتاب العزيز، قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} 3 ومن القسم الثاني، قوله تعالى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} 4 ومن القسم الثالث، قوله تعالى: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} 5 قال ابن أبي الأصبع: وفي التصدير قسم رابع ذهب عنه ابن المعتز، وهو أن يأتي، فيما الكلام فيه منفي واعتراض، فيه إضراب عن أوله، كقول الشاعر: فإن تك لم تبعد على متعهد ... بلى كل من تحت التراب بعيد6 وقد جاء قدامة من التصدير بنوع آخر، كما ذكرناه وسماه التبديل: وهو أن يصير المتكلم الأخير من كلامه أوَّلًا، أو بالعكس، كقولهم: أشكر لمن أنعم عليك وأنعم على من شكرك.

_ 1 ذوائب: الأولى بمعنى خصل الشعر مفردها ذؤابة، والثانية بمعنى الذوبان، ومفردها، ذائبة. 2 الصوب: المطر النافع غير المؤذي، الغمام المستهل: الشديد المطر. 3 البقرة: 16/ 2 4 البقرة: 195/ 2 5 الأنعام: 10/ 6 6 تعهد: حافظ على والتزم فعله أو رعايته. والمتعهد: الذي يحافظ على العهد.

قال ابن أبي الأصبع لم أقف لهذا النوع على شاهد شعري فقلت: اصبر على خلق من تصاحبه ... واصحب صبورًا على أذى خلقك أصحاب البديعيات نظموا القسم الثاني، الذي قرره ابن المعتز، وهو ما وافق آخر كلمة من البيت أول كلمة فيه، وهو الذي وقع الاتفاق على أنه الأحسن. وبيت الشيخ صفي الدين رحمه الله: فمي تحدث عن سري فما ظهرت ... سرائر القلب إلا من حديث فمي هذا النوع، أعني التصدير، ما برحت السهولة نازلة بأكناف أذياله، فإنه سهل المأخذ ويتعين على الأديب المعنوي أن لا يتركه ساذاجًا من نكتة أدبية يزداد بها بهجة، فإن الشيخ صفي الدين مع عدم تكلفه بتسمية النوع، وسبكه في قلب التورية من جنس الغزل، لم يأت به إلا ساذجًا. وبيت العميان في بديعيتهم: وحقهم ما نسينا عهد حبهم ... ولا طلبنا سواهم لا وحقهم1 لعمري إن بيت الشيخ عز الدين، في هذا النوع، أعمر من بيت الصفي ومن بيت العميان، فإنه مع التصريح بتورية التسمية، حلى نوع التصدير بمكررها في طرفي بيته وهو: فَهِم بصدر جمال عجز عاشقه ... عن وصله ظاهر عن باحث فهِمِ2 وبيت بديعيتي: ألم أصرح بتصدير المديح لهم ... ألم أهدد ألم أصبر ألم ألم ديباجة التورية في عجز هذا البيت وصدره لا تخفى على صاحب الذوق السليم، ولو استقل هذا البيت بنظم نوع التصدير مجردًا، لم يكن تحته كبير أمر كبيت الحلي وبيت العميان.

_ 1 وحقهم: الواو واو القسم. 2 فهم: الأولى أمر من هام، والثانية من الفهم.

ذكر القول بالموجب أو أسلوب الحكيم

ذكر القول بالموجب أو أسلوب الحكيم: قولي له موجب إذ قال أشفقهم ... تسل قلت بناري يوم فقدهم القول بالموجب، ويقال له أسلوب الحكيم، وللناس فيه عبارات مختلفة: منهم من قال هو أن يخصص الصفة بعد أن كان ظاهرها العموم، أو يقول بالصفة الموجبة للحكم، ولكن يثبتها لغير من أثبتها المتكلم. وقال ابن أبي الأصبع: هو أن يخاطب المتكلم مخاطبًا بكلام، فيعمد المخاطب إلى كلمة مفردة من كلام المتكلم فيبني عليها من لفظه ما يوجب عكس معنى المتكلم، وذلك عين القول بالموجب لأن حقيقته رد الخصم كلام خصمه من فحوى لفظه. قال صاحب التلخيص، في تلخيصه وإيضاحه: القول بالموجب ضربان: أحدهما، أن تقع صفة من كلام الغير كناية عن شيء أثبت له حكم، فتثبت في كلامك تلك الصفة لغير ذلك الشيء، من غير تعرض لثبوت ذلك الحكم وانتفائه، كقوله تعالى: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} 1 فإنهم كنوا بالأعز عن فريقهم، وبالأذل عن فريق المؤمنين، وأثبتوا للأعز الإخراج، فأثبت الله تعالى، في الرد عليهم، صفة العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، من غير تعرض لثبوت حكم الإخراج للموصوفين بصفة العزة ولا لنفيه عنهم. انتهى كلام صاحب التلخيص. ومنه قول القبعثري للحجاج لما توعده فقال: لأحملنك على الأدهم: والمراد به

_ 1 المنافقون: 8/ 36.

القيد فرأى القبعثري أن الأدهم يصلح للقيد والفرس، فحمل كلامه إلى الفرس، وقال: مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب فصرف الوعيد بالهوان إلى الوعد بالإحسان وفي هذا ما لا يخفى على المتأدب من حسن التطلف وشدة الباعث على فعل الخير، إذ لا يليق بمن له همة عالية أن يقال له: مثلك من يفعل الخير، فيقول: لا بل أفعل الشر. والقسم الثاني من كلام صاحب التلخيص: أن القول بالموجب، هو حمل لفظ وقع في كلام الغير على خلاف مراده، مما يحتمله بذكر متعلقه، وهذا القسم الذي تداوله الناس1، ونظمه أصحاب البديعيات، كقول ابن حجاج: قال ثقلت إذ أتيت مرارا ... قلت ثقلت كاهلي بالأيادي قال طولت قلت أوليت طولا ... قال أبرمت قلت حبل ودادي2 وحذاق البديع أخلوا هذا الباب من لفظة لكن، فإنهم خصصوا بها نوع الاستدراك، بحيث يفرق بينهما فرق دقيق، وهذا هو الفرق. ومن أحسن ما وقع في هذا النوع قول محاسن الشواء: ولما أتاني العاذلون عدمتهم ... وما فيهم إلا للحمى قارض3 وقد بهتوا لما رأوني شاحبًا ... وقالوا به عين فقلت وعارض4 وأورد الشهاب محمود، في كتابه المسمى "بحسن التوسل إلى صناعة الترسل" بيت الأرجاني في الاستدراك شاهدًا على هذا النوع، وهو: غالطتني إذ كست جسمي ضنى ... كسوة أعرت من اللحم العظاما ثم قالت أنت في الهوى ... مثل عيني صدقت لكن سقاما قد تقرر أن لفظة لكن خصص بها أهل البديع نوع الاستدراك، لأجل الفرق بينه وبين القول بالموجب، ولم يستشهدوا على نوع الاستدراك بغير بيتي الأرجاني. قال الشهاب محمود في البيتين: إنه أعجبه معناهما، ونظم فيه قوله، وهو شاهد على القول بالموجب:

_ 1 في الأصل وردت تداول بين الناس ولسلامة المعنى أثبتنا تداوله الناس إذ كان يجب أن يقول: تدوُوِل بين الناس فهو متداول، أي مفعول وليس فاعلًا. وتداول: جرى استعماله. 2 أبرم: قتل وأحكم الربط. 3 قارض: من قرض إذا قطع وأكل. 4 عارض: مصيبة ما يعرض للإنسان في حياته.

رأتني وقد نال مني النحول ... وفاضت دموعي على الخد فيضا1 فقالت بعيني هذا السقام ... فقلت صدقت وبالخصر أيضا وبيت الحلي: قالوا سلوت لبعد الإلف قلت لهم ... سلوت عن صحتي والبرء من سقمي2 فقوله: سلوت عن صحتي هو حمل لفظ وقع من كلام الغير على خلاف مراده. وبيت العميان أوردوه بحرف الاستدراك وهو: كانوا غيوثًا ولكن للعفاة كما ... كانوا ليوثًا ولكن في عداتهم3 رأيت ترك الكلام على هذا البيت أليق بالمقام. وبيت عز الدين الموصلي: قالوا مدام الهوى قول بموجبه ... تسل قلت شبابي من يد الهرم4 لما قال الشيخ عز الدين، بعد تسل: شبابي من يد الهرم، علمنا أنها الكلمة التي أشار إليها ابن أبي الأصبع، وقال: إن المخاطب يعكس بها معنى كلام المتكلم وهو عين القول بالموجب. وتسل هنا، أحسن من سلوت في بيت الحلي، فإن تسل يقبل الاشتراك ومراد المتكلم هنا داء السل، فعاكسه المخاطب بسل الشباب من يد الهرم، ونقله باشتراك التورية، إلى الوجه الذي أراده، ولم يخرج عن موضوعها في معنى السل الذي لم يخرج عن الوجهين، غير أن قول: الموصلي مدام الهوى قول بموجبه، لم يخل من شدة العقادة، وبيت بديعيتي: قولي له موجب إذ قال أشفقهم ... تسل قلت بناري يوم فقدهم فلفظة تسل هي الكلمة المعتمد عليها في عكس معنى كلام المتكلم من المخاطب، فإن المتكلم أراد السلو في لفظة تسل، وهي فعل أمر، فعاكسه المخاطب بالاشتراك، ونقلها بالتورية إلى صفة التسلي بالنيران، فإنه لما قال له: تسل، قال: بناري يوم فقدهم. ورقة البيت وانسجامه لا تخفى على أهل الذوق السليم، والله أعلم.

_ 1 النحول: الضعف والسقم. 2 الإلف: الحبيب الذي يألفه حبيبه. 3 العفاة: طالبو المعروف، العداة: مفردها العادي: وهو العدو. 4 تسل: تصيب بمرض السل، وتسحب وتخلص. وأمر من سلا أي نسي.

ذكر الهجو في معرض المدح

ذكر الهجو في معرض المدح: وكم بمعرض مدح قد هجوتهم ... وقلت سدتم بحمل الضيم والتهم1 هذا النوع من مستخرجات ابن أبي الأصبع، وهو أن يقصد المتكلم هجاء إنسان، فيأتي بألفاظ موجهة ظاهرها المدح وباطنها القدح2، فيوهم أنه يمدحه وهو يهجوه، كقول الحماسي: يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة ... ومن إساءة أهل السوء إحسانا كأن ربك لم يخلق لخشيته ... سواهم من جميع الناس إنسانا3 فظاهر هذا الكلام المدح بالحلم والعفة والخشية والتقوى، وباطنه المقصود أنهم في غاية الذل وعدم المنعة، وظريف قول بعضهم في الشريف ابن الشجري: يا سيد والذي يعيذك من ... نظم قريض يصدي به الفكر4 ما فيك من جدك النبي سوى ... أنك لا ينبغي لك الشعر ومن ملح هذا الباب، قول ابن سناء الملك في قواد5: لي صاحب أفديه من صاحب ... حلو التأني حسن الاحتيال لو شاء من رقة ألفاظه ... ألف ما بين الهدى والضلال6 يكفيك منه أنه ربما ... قاد إلى المهجو طيف الخيال

_ 1 سدتم: صرتم سادة. 2 القدح: الذم والهجاء. 3 لخشيته: أي لأجل أن ينفذوا خشيته أي ليخشوه. والخشية هي الإحساس بمراقبة الله في القول والعمل. 4 يصدى: يعطش ويجف، ويصدأ. 5 القواد: الذي يصلح بين القاتل وأهل المقتول ويأخذ لهم القود أي البدل. 6 ألّف: جمع.

قال الشيخ زكي الدين بن أبي الأصبع: لقد تشبثت بأذيال القاضي، السعيد بن سناء الملك، في هذا النوع بقولي، فيمن ادعى الفقه والكرم: إن فلانًا أكرم الناس لا ... يمنع ذا الحاجة من فلسه وهو فقيه ذو اجتهاد وقد ... نص على التقليد في درسه فيحسنُ البحث على وجهه ... ويوجب الدخل على نفسه1 والفرق بين الهجاء في معرض المدح وبين التهكم، أن التهكم لا تخلو ألفاظه من اللفظ الدال على نوع من أنواع الذم، أو لفظة توهم من فحواها الهجو. وألفاظ المدح في معرض الذم لا يقع فيها شيء من ذلك، ولا تزال تدل على ظاهر المدح، حتى يقرن بها ما يصرفها عنه. وبيت الشيخ صفي الدين الحلي: من معشر يرخص الأعراض جوهرهم ... ويحملون الأذى من كل مهتضم2 فقوله: ويحملون الأذى من كل مهتضم، ينظر إلى قول الحماسي: "يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة" والمراد بما أبطنه الذل وعدم المنعة. والعميان لم ينظموا هذا النوع. وبيت الشيخ عز الدين الموصلي: في معرض المدح تهجي من قبيلته ... أعراضهم بين معمور ومنهدم الذي أقوله: إن الشيخ عز الدين قفل مصراعي بيته، ومنع الأفهام من الدخول إليه، فإن لم أجد فيه ما يدل على مجرد المدح، ولا اقترن به ما يصرفه إلى صيغة الهجو، بل أقول وأنا أستغفر الله: إن هذا البيت أجساد ألفاظه ما دب فيها من المعاني روح، وليس له بهذا النوع إلمام. وبيت بديعيتي: وكم بمعرض مدح قد هجوتهم ... وقلت سدتم بحمل الضيم والتهم فحمل الضيم، ينظر إلى قول الحماسي، إذ ظاهره الحلم والحسن وباطنه الذل وعدم المنعة ولكن حمل التهم هو الغاية القصوى في ظاهره وباطنه، والله أعلم.

_ 1 الدَخْل: بفتح الدال وسكون الخاء: ما يدخل عليه من مال، وبفتح الخاء، ما يداخل عقل الإنسان من فساد، والالتباس والشبهة. 2 الإعراض: عدم النظر أو الالتفات إلى الشيء، والعرض في سبيل البيع، المهتضم: الظالم الذي يهتضم الحقوق.

ذكر الاستثناء

ذكر الاستثناء: عفت القدود فلم أستثن بعدهم ... إلا معاطف أغصان بذي سلم1 الاستثناء، استثناءان: لغوي، وصناعي. فاللغوي: إخراج القليل من الكثير، وقد فرع النحاة من ذلك في كتبهم فروعًا كثيرة. والصناعيّ: هو الذي يفيد بعد إخراج القليل من الكثير معنى يزيد على معنى الاستثناء، ويكسوه بهجة وطلاوة، ويميزه بما يستحق به الإثبات في أبواب البديع، كقوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ، إِلَّا إِبْلِيسَ} 2، فإن في هذا الكلام معنا زائدًا على مقدار الاستثناء، وذلك لعظم الكبيرة التي أتى بها إبليس، من كونه خرق إجماع الملائكة، وفارق جميع الملأ الأعلى، بخروجه مما دخلوا فيه من السجود لآدم، وذلك مثل قولك: أمر الملك بكذا وكذا فأطاع أمره جميع الناس، من أمير ووزير، إلا فلانًا، فإن الإخبار عن معصية هذا العاصي بهذه الصيغة مما يعظم أمر معصيته، ويفخم مقدار كبريائه، بخلاف قولك: أمر الملك بكذا فعصاه فلان. ومثاله قوله تعالى، إخبارًا عن نوح عليه السلام: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} 3 فإن في الإخبار عن هذه المدة، بهذه الصيغة تهويلًا على السامع، لتمهيد عذر نوح عليه السلام في الدعاء على قومه، وإن في حكمة الإخبار عن المدة بهذه الصيغة العظيمة تعظيمها، لكون أول ما يباشر السمع ذكر الألف، والإيجاز في اختصار هذا اللفظ، بهذه البلاغة العظيمة، ظاهر فإن لفظ القرآن أخصر وأوجز من قولنا: تسعمائة سنة وخمسين عامًا ولفظ القرآن بتقييد حصر العدد المذكور، ولا يحتمل الزيادة.

_ 1 عفت: كرهت وتركت. 2 ص38/ 73، 74. 3 العنكبوت: 14/ 29.

عليه ومثله قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ، خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيد، وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} 1 فالله تعالى لما علم أن وصف الشقاء يعم المؤمن العاصي والكافر، استثنى من خلودهم في النار بلفظ مطمع، حيث أثبت الاستثناء المطلق وأكده بقوله: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيد} ، أي أنه لا اعتراض عليه في إخراج أهل الشقاء من النار. ولما علم أن أهل السعادة لا خروج لهم من الجنة، استثنى من خلودهم ما ينفي الاستثناء، حيث قال: عطاء غير مجذوذ أي مقطوع، وهذه المعاني في هذه الآيات الشريفة زائدة على الاستثناء اللغوي. ومن أمثال الاستثناء اللغوي في الشعر قول النميري: فلو كنت بالعنقاء أو بأطومها ... لخلتك إلا أن تصد تراني2 هذا الاستثناء غاية الحسن، فإنه تضمن المبالغة في زيادة مدح الممدوح، وذلك أن هذا الشاعر يقول: إني لو كنت في حيز العدم، لأن العرب تضرب المثل بالعنقاء لكل شيء متعذر الوجود لخلتك متمكنًا من رؤيتي، ليس لك مانع يمنعك عني، فالزيادة هنا في غاية اللطف وهي قوله، إلا أن تصد، فأنت في القدرة علي غير ممنوع، وهذا غاية المبالغة في المدح. ومن الاستثناء نوع سماه ابن أبي الأصبع: استثناء الحصر، وهو غير الاستثناء الذي يخرج القليل من الكثير، ونظم فيه قوله: إليك وإلا ما تحث الركائب ... وعنك وإلا فالمحدث كاذب3 فإن خلاصة هذا البيت قول الناثر للمدوح: لا تحث الركائب إلا إليك، ولا يصدق المحدث إلا عنك، وهذا الحصر لا يحسن في الاستثناء الأول، فإنه لو قال سبحانه وتعالى: فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا وعامًا صح، لولا توخي الصدق في الخبر. وقوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ، إِلَّا إِبْلِيسَ} لا يمنع أن يقال ورهطه4، لولا مراعاة الصدق في الخبر.

_ 1 هود: 106/ 11-108. 2 العنقاء: طائر خرافي غير موجود يضرب به المثل لكل شيء متعذر الوجود. 3 الحث: الإسرع. 4 رهط الرجل: قومه وعشيرته وأتباعه.

وعلى منوال الاستثناء الأول، الذي هو العمدة في هذا الباب، نظم أصحاب البديعيات وهو إخراج القليل من الكثير، بزيادة معنى بديع، يزيد على معنى الاستثناء، فبيت الشيخ صفي الدين الحلي: فكل ما سر قلبي واستراح به ... إلا الدموع عصاني بعد بعدهم فلبيت صفي الدين هنا غير حال من العقادة، ومراده فيه أن كل شيء كان يسره، قبل الفراق، ويطيعه عصاه، إلا الدموع فإنها أطاعته. ومعنى هذه الزيادة اللطيفة لا يخفى على أهل الذوق. والعميان لم ينظموا هذا النوع في بديعيتهم، وبيت الشيخ عز الدين: الناس كل ولا استثناء لي عذروا ... إلا العذول عصاني في ولائهم مراد عز الدين في زيادة معناه على معنى الاستثناء أن عذوله خالف الإجماع. وبيت بديعيتي: عفت القدود فلم أستثن بعدهم ... إلا معاطف أغصاني بذي سلم قال الله تعالى: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} 1 هذا البيت ما أعلم أنني إذا أطنبت في وصفه، يكون الإطناب لشدة فرحي به، لكونه نظمي، أو لأن الأمر على حقيقته. فإن زيادة معناه على معنى الاستثناء، وغرابة أسلوبه، وشرف نسيبه، وحسن انسجامه، وسهولة ألفاظه، ومراعاة نظيره لا تخفى على المنصف من أهل الأدب. وأما ترشيح تورية الاستثناء، بذكر القدود والمعاطف، فإنه من النسمات التي حركت القدود والمعاطف، والتكميل بذي سلم، لكون القصيدة نبوية، في غاية الكمال. والذي أقوله: إنه ما يدخل نظر المتأمل إلى بيت أعمر منه في هذا الباب، والله أعلم بالصواب.

_ 1 الروم: 32/ 30.

ذكر التشريع

ذكر التشريع: طاب اللقا لذ تشريع الشعور لنا ... على النقا فنعمنا في ظلالهم1 هذا النوع، أعني التشريع، سماه ابن أبي الأصبع، التوأم. وأراد بذلك مطابقة التسمية للمسمى، فإن هذا النوع شرطه أن يبني الشاعر بيته على وزنين، من أوزان القريض، وقافيتين، فإذا أسقط، من أجزاء البيت، جزءًا أو جزأين صار ذلك البيت من وزن آخر غير الأول، كقول الحريري: يا خاطب الدنيا الدنية إنها ... شرك الردى وقرارة الأكدار2 دار متى ما أضحكت في يومها ... أبكت غدًا تبًّا لها من دار3 وهي قصيدة كاملة معروفة في مقاماته، من ثاني الكامل، وتنتقل بالإسقاط إلى ثامنه، فتصير: يا خاطب الدنيا الدنيـ ... ـة إنها شَرَكُ الردى4 دار متى مى أضحكت ... في يومها أبكت غدا وزيادة القافيتين ظاهرة ووقع، قبل كلام الحريري، من كلام العرب في هذا الباب:

_ 1 النقا: الرمل. 2 قرارة: مستقر، الأكدار: جمع كدر وهو الوسخ وكل ما يكدر الصفاء. 3 تبًّا لها: تعسًا لها وخسرانًا. 4 في الأصل شركة الردى، وفضلنا استبدالها بشرك لورودها أولًا، ولعدم تغير الوزن علمًا أن شركة يمكن أن تكون من خطأ النساخ، لأن البيت مروي بلفظة شرك.

وإذا الرياح مع العشي تناوحت ... هوج الرمال بكثبهن شمالا ألفيتنا نفري الغبيط لضيفنا ... قبل القتال ونقتل الأبطالا1 فإن هذا الشاعر لو اقتصر على الرمال والقتال، لكان الشعر من الضرب المجزوّ المرفل من الكامل وهو: وإذا الرياح مع العشـ ... ـي تناوحت هوج الرمال ألفيتنا نفري الغبيـ ... ـط لضيفنا قبل القتال فإذا أتممت البيتين صارا من الضرب التام المقطوع منه، وصار لكل بيت من هذين البيتين قافيتان، ولا شك أن هذا النوع لا يأتي إلا بتكلف زائد وتعسف، فإنه راجع إلى الصناعة لا إلى البلاغة والبراعة، إذ وقوع مثل هذا النوع في الشعر من غير قصد له نادر، ولا يحسن أن يكون في النثر فإنه ما يقع فيه إلا تصريعًا، ولا يظهر حسنه إلا في النظم، لأن فيه الانتقال من وزن إلى وزن آخر، فيحصل بذلك من الاستحسان ما لا يحسن في النثر لأن النثر، على كل حال، كلام مسجوع ليس فيه انتقال من وزن إلى وزن، وأوسع البحور في هذا النوع الرجز، فإنه قد وقع مستعملًا تامًّا ومجزوءا، ومشطورًا ومنهوكًا، فيمكن أن يعمل للبيت منه أربع قواف، فإذا أسقطت ما بعد القافية الأولى بقي البيت منهوكًا، فإذا أسقطت ما بعد الثانية بقي البيت مشطورًا، فإذا أسقطت ما بعد الثالثة بقي مجزوءا، وإذا لم تسقط شيئًا كان تامًّا. ولأبي عبد الله محمد بن جابر الضرير الأندلسي، ناظم البديعية، في غير بديعيته المذكورة هنا: يرنو بطرف فاتر مهما رنا ... فهو المنى لا أنتهي عن حبه يهفو بغصن ناضر حلو الجنى ... يشفي الضنا لا صبر لي عن قربه2 لو كان يومًا زائري زال العنا ... يحلو لنا في الحب أن نسمي به3 أنزلته في ناظري لما دنا ... قد سرنا إذ لم يحل عن صبه4 فهذه الأبيات من الرجز التام وهو الضرب الأول منه، فإذا تركتها على حالها فهي

_ 1 نفري: نفتح، الغبيط: الهودج والستار والخيمة. 2 الضنا والضنى: الأوجاع الناجمة عن الأمراض الشديدة. 3 العنا: العناء وهو التعب الشديد، الإعياء. 4 لم يحل: لم يتحول، صبه: حبيبه.

من التام، وإذا أسقط من البيت الأول: لا أنتهي عن حبه، ومن الثاني: لا صبر لي عن قربه، ومن الثالث: في الحب أن نسمي به، ومن الرابع: إذا لم يحل عن صبه، صارت من الرجز المجزوء، وإن أسقطت من البيت الأول قوله: فهو المنى إلى آخره، ومن الثاني: يشفي الضنا إلى آخره، ومن الثالث: يحلو لنا إلى آخره، ومن الرابع: قد سرنا إلى آخره، صارت من الرجز المشطور. وإن أسقطت من الأول. قوله: مهما رنا، ومن الثاني: حلو الجنى، ومن الثالث: زال العنا، ومن الرابع: لما دنا، صار من الرجز المنهوك. ولكن القوة في ذلك، والمكنة في ملكة الأديب أن يأتي بالتشريع، في بيت واحد، وهذا هو المطلوب من نظام البديعيات، لأجل الاستشهاد بأبياتهم على كل نوع، ولا سيما الملتزم بتسميته على الصيغة، فإنه لو جاء بالتسمية والنوع في بيتين بطل حكم التورية، وخرج عن شروط البديعيات. وبيت الشيخ صفي الدين: فلو رأيت مصابي عندما رحلوا ... رثيت لي من عذابي يوم بينهم1 يخرج له من هذا البيت: فلو رأيت مصابي ... رثيت لي من عذابي وهو مجزوء المجتث، وبيته عند الرعوضيين: البطن منها خميص ... والوجه مثل الهلال2 وقد تعين إيراد ما نظمه أبو عبد الله الضرير في البيتين، لأجل المعارضة، وهما: وافق كريم رحيم قد وفى ووقى ... فعم نفعًا فكم ضرًا شفى فقم فقم بنا فلكم فقرًا كفى كرمًا ... وجود تلك الأيادي قد صفا فقم أقول لو اختصر العميان هذين البيتين، وأضافوهما إلى ما اختصروه من البديع، لكان أجمل بهم، فإنهم أسقطوا من أنواع البديع نحو السبعين، وقصد الناظم فيهما، أعني البيتين، أنك إذا اسقطت من البيت الكلمة الموازنة لفعلن من آخر كل نصف، وهما قوله: ووقى، وقوله: فكم، صار الوزن من الضرب الأول من البسيط، وهو التام، إلى الضرب الثالث منه، وهو المجزوء، لأنه قد حذف منه جزءا من آخر كل نصف فصار: واف كريم رحيم قد وفى ... وعم نفعًا فكم ضرًا شفى فقم بنا فلكم فقرًا كفى ... وجود تلك الأيادي قد صفا

_ 1 رثى: أشفق عليه وحزن لأجله، البين: الفراق. 2 خميص: فارغة خاوية، جائعة.

وهذا مع ركته وثقالة نظمه، غير المشهور من البسيط، فإنه لم يشتهر منه سوى العروض الأولى المخبونة، ووزنها فعلن ولها ضربان، المشهور منها الأول وهو مخبون مثلها. وبيت الشيخ عز الدين: وفي الهوى ضل تشريع العذول لنا ... وكم هوى في مقال ذل من حكم أخبر أن تشريع العذول في حكم الهوى ضلال، حتى يرشح بتورية التشريع في تسمية النوع، ويخرج من بيت الشيخ عز الدين بيت من قافية أخرى، من منهوك الرجز، فنصفه في الشطر الأول، وفي الهوى، وفي الشطر الثاني: وكم هوى، وهذه عبارته في شرحه بنصفها، فصار باقي البيت بدون الجزأين الأولين: ضل تشريع العذول لنا ... في مقال ذل من حكم وهذا البيت من العروض الثالثة المحذوفة من المديد، ووزنها فعلن، وشاهدها: للفتى عقل يعيش به ... حيث تهدي ساقه قدمه ولقد برز الشيخ عز الدين في ذلك على متقدميه، فإن الشيخ صفي الدين لم يتحصل له بيتان من بيت، ولا للشيخ أبي عبد الله الضرير، ولكن قال الشيخ عز الدين في شرحه: إن هذا النمط ما وقع للمتقدمين، وهو معجز ليس لأديب عليه قدرة، وبسط العبارة في الدعوى بسببه، فأردت أن لا أنسج في الشرح على غير منواله، فقلت: طاب اللقا لذ تشريع الشعور لنا ... على النقا فنعمنا في ظلالهم فيخرج من بيتي: طاب اللقا على النقا وهو بيت بقافية أخرى من منهوك الرجز، كبيت الشيخ عز الدين، ولكن شتان بين قولي: طاب اللقا على النقا، وبين قوله: وفي الهوى. وكم هوى، فإن بيته لا تتم به فائدة ولا يحسن السكوت عليه، وصار باقي بيتي، بدون الجزأين الأولين: لذ تشريع الشعور لنا ... فنعمنا في ظلالهم وهو بيت من العروض الثالثة المحذوفة المخبونة من المديد، وهي التي رتب عز الدين عليها ما بقي من بيته: ضل تشريع العذول لنا ... في مقال ذل من حكم

ولكن الفرق في تشريع الشعور ظاهر، والتورية في قوله: فنعمنا في ظلالهم، عند ذكر الشعور، كلاهما سائغ عند أهل الأدب وهذا البيت، مع صعوبة مسلك هذا النوع، اجتمع فيه من أنواع البديع: السهولة والانسجام والتورية، في موضعين، والتمكين في القافية، والجناس المطلق بين تشريع وشعور والتذييل البديعي، فإني أتيت بجملة، بعد تمام الكلام الأول، زادت معناه تحقيقًا وتوكيدًا، وجرى مجرى المثل، وفيه نوع التشريع الذي هو المقصود هنا، والله أعلم.

ذكر التتميم

ذكر التتميم: بكل بدر بليل الشعر يحسده ... بدر السماء على التتميم في الظلم1 التتميم، كان اسمه التمام، وإنما سماه الحاتمي التتميم، وسماه ابن المعتز: اعتراض كلام في كلام لم يتم معناه. والتتميم عبارة عن الإتيان في النظم والنثر، بكلمة إذا طرحت من الكلام نقص حسنه ومعناه، وهو على ضربين: ضرب في المعاني، وضرب في الألفاظ، فالذي في المعاني، هو تتميمي المعنى، والذي في الألفاظ هو تتميمي الوزن، والمراد هنا تتميمي المعنى ويجيء للمبالغة والاحتياط كقول طرفة: فسقى ديارك غير مفسدها ... صوب الغمام وديمة تهمي2 فقوله: غير مفسدها احتراس واحتياط، ويجيء في المقاطع والحشو، وأكثر مجيئه في الحشو، ومثاله قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} 3 فقوله: {مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} ، تتميم، وقوله: {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} ، تتميم ثان في غاية البلاغة التي بذكرها تم معنى الكلام، وجرى على الصحة، ولو حذفت الجملتان نقص معناه واختل حسن البناء. ومن هذا القسم قول النبي -صلى الله عليه وسلم، مما انفرد به مسلم: "ما من عبد مسلم يصلي لله كل يوم اثنتي عشرة ركعة، من غير الفرائض، إلا بنى الله له بيتًا في الجنة".

_ 1 بليل الشعر: صيغة مبالغة من البلل. 2 الديمة: الغيمة إذا أمطرت، تهمي: تمطر بغزارة. 3 النحل: 97/ 16.

فوقع التتميم، في هذا الحديث، في أربعة مواضع، منها قوله: مسلم، ومنه قوله: لله، ومنها: كل يوم، ومنها قوله: من غير الفرائض. ومن أناشيد قدامة على هذا القسم: أناس إذا لم يقبل الحق منهم ... ويعطوه غاروا بالسيوف القواضب1 فقوله: ويعطوه، تتميم، فإنه في غاية الحسن، وهو2 شاهد على ما جاء منه للاحتياط. ومثال ما جاء منه للمبالغة، قول زهير: من يلق يومًا على علاته هَرِمًا ... يلق السماحة منه والندى خلقا3 فقوله: على علاته تتميم للمبالغة. وغاية الغايات في التتميم للمبالغة، قوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} 4. فقوله: على حبه، هو تتميم للمبالغة التي تعجز عنها قدرة المخلوقين. وأما التتميم الذي جاء في الألفاظ فهو الذي يؤتى به لإقامة الوزن، بحيث أنه لو طرحت الكلمة استقل معنى البيت بدونها، وهو على ضربين أيضًا: كلمة لا يفيد مجيئها إلا إقامة الوزن، وأخرى تفيد مع إقامة الوزن ضربًا من المحاسن. فالأولى من العيوب، والثانية من النعوت، والمراد هنا الثانية لا الأولى، ومثالها قول المتنبي: وخفوف قلب لو رأيت لهيبه ... يا جنتي لظننت فيه جهنما5 فإنه جاء بقوله: يا جنتي، لإقامة الوزن فأفاد تتميم المطابقة، وهو ضرب من المحاسن المشار إليها.

_ 1 غاروا: أي أغاروا، هجموا. القواضب: القواطع. 2 في الأصل: فإنه وقد استبدلناها بـ: هو المثبتة منعًا للتكرار. 3 هرم: هو هرم بن سنان الذي كان يدفع ديات القتلى من ماله الخاص، ليصلح بين المتقاتلين، الندى: الكرم، وقوله: على علاته، لا يثبت بالضرورة هجاء لهرم، وإنما جاء به الشاعر تتميمًا للمبالغة في المدح. 4 الإنسان، 76/ 8 وهذه الآية نزلت في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام إذ يروى أنه كان صائمًا وجاءه سائل فقال لفاطمة عليها السلام زوجته: ما عندك؟ قالت: بعض الأرغفة، فدفع بها إليه، وباتوا خماص البطون، حتى إذا جاء اليوم الثاني والثالث والحادثة تتكرر نزلت هذا الآية. 5 الخفوف: الإسراع في الخفقان، وربما كان البيت: "وخفوق قلب" وإنما أصابها التصحيف.

ولقد وهم جماعة من المؤلفين، وخلطوا التكميل بالتتميم، وساقوا في باب التتميم شواهد التكميل وبالعكس. وتأتي شواهد التكميل في مواضعها، والفرق بين التكميل والتتميم: أن التتميم يرد على الناقص فيتمه، والتكميل يرد على المعنى التام فيكمله، إذ الكمال أمر زائد على التتميم، وأيضًا، أن التمام يكون متممًا لمعاني النقص لا لأغراض الشعر ومقاصده، والتكميل يكملها. وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته: وكم بذلت طريفي والتليد لكم ... طوعًا وأرضيت عنكم كل مختصم1 فالتتميم في قوله: طوعًا، فإنه أراد به أنه لم يبذل ذلك كرهًا، فتم بهذا المعنى. والعميان لم ينظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين: والبدر مذ لاح في التتميم دان له ... والشمس مذعنة طوعًا لمحتكم2 قوله: في التتميم، هو التتميم بعينه مع زيادة التورية في التشبيه، وقوله: طوعًا، تتميم ثان، لكن تقدمه الشيخ صفي الدين، بقوله: طوعًا, وأرضيت عنكم كل مختصم. وبيت بديعيتي، متعلق ببيت التشريع الذي قبله، وهو: طاب اللقا لذ تشريع الشعور لنا ... على النقا فنعمنا في ظلالهم بكل بدر بليل الشعر يحسده ... بدر السماء على التتميم في الظلم فقولي: بليل الشعر، هو التتميم الذي تستعار من استعارته المحاسن، فإني لو قلت: بكل بدر يحسده بدر السماء، لصح المعنى، ولكن زدت البدر الأرضي، بقولي: بليل الشعر، تتميمًا وحسنًا. وقولي: على التتميم، تتميم ثان مع زيادة التورية التي فيها تسمية النوع الملتزم بها. وقولي: في الظلم، تتميم ثالث ليس له نظير، فإن به تم المعنى وتمت رتبة اللف والنشر.

_ 1 الطريف والتليد: ويقال الطارف والتالد، من المال: المكتسب والموروث. 2 دان: خضع، مذعنة: خاضعة.

ذكر تجاهل العارف

ذكر تجاهل العارف: وافتر عُجبًا تجاهَلْنا بمعرفة ... قلنا أبرق بدا أم ثغر مبتسم1 تجاهل العارف، تسميته لابن المعتز، وسماه السكاكي: بسوق المعلوم مساق غيره، لنكتة المبالغة في التشبيه. وهو عبارة عن سؤال المتكلم، عما يعلم، سؤال مَنْ لا يعلم، ليوهم أن شدة التشبيه الواقع بين المتناسبين أحدثت عنده التباس المشبه بالمشبه به، وفائدته المبالغة في المعنى، نحو قولك: أوجهك هذا أم بدر، فإن المتكلم يعلم أن الوجه غير البدر، إلا أنه لما أراد المبالغة في وصف الوجه بالحسن استفهم: أهذا وجه أم بدر؟ ففهم من ذلك شدة الشبه بين الوجه والبدر، فإن كان السؤال عن الشيء الذي يعرفه المتكلم خاليًا من الشبه بين الوجه والبدر، فإن كان السؤال عن الشيء الذي يعرفه المتكلم خاليًا من الشبه، لم يكن من هذا الباب، بل يكون من باب آخر كقوله تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} 2 فإن السؤال هنا، ما وقع لأجل المبالغة في التشبيه المشار إليه، في تجاهل العارف، بل هو لفائدة أخرى. إما الإيناس لموسى عليه السلام، لأن المقام مقام هيبة واحترام، وإما إظهار المعجز الذي لم يكن موسى يعلمه. ومنه قوله لعيسى عليه السلام: {أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} 3 فإن السؤال هنا لم يكن للتشبيه، وإنما هو توبيخ لمن ادعى فيه ذلك. ومن الناس من جعل تجاهل العارف مطلقًا، سواء كان على طريق التشبيه، أو على غيره، إذا تقرر هذا فاعلم أن تجاهل العارف من حيث هو، إنما يأتي لنكتة من نحو مبالغة

_ 1 افتر: تبسم حتى بدت أسنانه. 2 طه، 20/ 17. 3 المائدة، 5/ 116.

في مدح أو ذم أو تعظيم أو تحقير أو توبيخ أو تقرير أو من تدله في الحب، وأنا أذكر أمثلة الجميع هنا، فمنه للمبالغة في الغزل قول الشاعر: أجفون كحيلة أم صُفاح ... وقدود مهزوزة أم رماح1 ومنه للمبالغة في الشوق وطول الليل: وشوق ما أقاسي أم حريق ... وليل ما أكابد أم زمان2 وللمبالغة في النحول: وقفت وقد فقدت الصبر حتى ... تبين موقفي أني الفقيد وشكك فيَّ عذالي فقالوا ... لرسم الدار أيكما العميد ومنه للمبالغة في الغزل: في الخيف من ظبيانه سمراء ... أقِوَامُها أم صعدة سمراء3 ومثله: أثغرك يا هند أبدى ابتسامًا ... أم البرق سل عليه حسامًا ومثله قول شرف الدين راجح الحلي: من أطلع البدر في ديجور طرته ... وأودع السحر في تكسير مقلته4 ومن أدار يواقيت الشفاه على ... كأس من الدر يحمي خمر ريقته5 ويعجبني من هذا القصيد قوله وإن كان من غير ما نحن فيه: يحنو النسيم عليه من لطافته ... والدهر ألين منه عند قسوته ومثله، في اللفظ والمعنى، قول ابن نباتة: في مرشفيه سلاف الراح من عصره ... ومعطفيه قوام البان من هصره6 وفي ابتسام ثناياه ومنطقه ... من نظم الدر أسلاكًا ومن نثره

_ 1 الصُّفاح: السيوف، وهي في الأصل وجه السيف وعرضه مفردها صُفح. 2 أكابد: أعاني. 3 الصعدة: القناة المستوية التي لا تحتاج إلى تثقيف أو تقويم. 4 الديجور: الظلام الشديد السواد، الطُّره: أول الشعر من مقدم الرأس. 5 يواقيت: مفردها ياقوت وهو من الأحجار الكريمة الشفافة. 6 المرشف: الشفة، السلاف: الخمر المعتقة، الهصر: التمايل.

ومن تجاهل العارف، للمبالغة في تعظيم الممدوح، قول ابن هانئ المغربي: أبني العوالي السمهرية والموا ... ضي المشرفية والعديد الأكبر1 من منكم الملك المطاع كأنه ... تحت السوابغ تبع في حمير2 قيل: إنه لما تجاهل، في هذا البيت، عن معرفة الممدوح، ترجل الجيش بكماله تعظيمًا للممدوح إذ هو ملكهم، وهذه القصيدة سارت بها الركبان والحداة تشدو ببلاغتها، وهي أحب من: قفا نبك في الشهرة، لفصاحتها، ومطلعها: فُتِقَتْ لكم ريحُ الجِلادِ بعنبرِ ... وأمدَّكُمْ فَلَقُ الصّباحِ المسْفِرِ وما أحلى ما قال بعده: وجنَيْتُمُ ثَمَرَ الوقائِعِ يانِعًا ... بالنصر من وَرَق الحديدِ الأخضَر أقول إن هذه الاستعارات المرشحة يرشح ندى البلاغة من بين أوراقها، وتتعثر فحول الشعراء في حلبة سباقها، ومنها: في فِتيةٍ صَدَأُ الدروع عبيرُهْم ... وخَلوقُهم عَلَقُ النجيعِ الأحمر3 لا يأكُلُ السِّرحانُ شِلوَ طعينهم ... مما عليه من القنا المتكسِّر4 قوْمٌ يبِيتُ على الحَشايا غيرُهُمْ ... ومبيتهُم فوق الجياد الضُّمَّر وتظَلُّ تسبَحُ في الدماء قِبابُهُمْ ... فكأنّهُنَّ سفائنٌ في أبحر حيٌّ مِنَ الأعراب إلا أنهم ... يردون ماء الأمن غير مُكَدَّر لي منْهُمُ سيْفٌ إذا جَرَّدْتُهُ ... يومًا ضرَبْتُ به رِقابَ الأعصُر صَعْبٌ إذا نُوَبُ الزمان استصعبتْ ... مُتَنَمِّرٌ للحادثِ المُتَنَمِّر وإذا عَفَا لم تَلْقَ غيرَ مُمَلَّكٍ ... وإذا سطا لم تَلْقَ غيرَ مُعفَّر فغمامُهُ من رحمَةٍ وعِراصُهُ ... من جَنّةٍ ويمينُهُ من كوثر5

_ 1 العوالي السمهرية: الرماح المنسوبة إلى رجل يقال له سمهر كان يصنع الرماح وكذلك الردينة. فهي رماح منسوبة إلى زوجته ردينة، المواضي المشرفية: السيوف القاطعة. والمشرفية: المجلوبة من مشارف اليمن. 2 السوابغ: الدروع التي تغطي معظم الجسم وتُبَّع: ملك من ملوك قبيلة حِميَر. 3 خَلوقهم: ألبستهم. النجيع: الدم الناتج عن الطعن. 4 السرحان: الذئب. الشلو: البقية أو القطعة من الشيء ومن الإنسان الجثة. 5 العراص: مفردها عرصة: وهي ساحة الدار.

ولم أستطرد إلى هذا القدر من نظم ابن هانئ إلا لعلمي أنه عزيز الوجود، وغريب في هذه البلاد. ومن تجاهل العارف للمبالغة في المدح قول إمام هذه الصناعة، ومالك أزمة البلاغة والبراعة، القاضي الفاضل، من مديح العادل: أَهذي كَفُّهُ أَم غَوثُ غَيثٍ ... وَلا بَلَغَ السَحابُ وَلا كَرامَه وَهَذا بِشرُهُ أَم لَمعُ بَرقٍ ... وَمَن لِلبَرقِ فينا بِالإِقامَه وَهَذا الجَيشُ أَم صَرفُ اللَيالي ... وَلا سَبَقَت حَوادِثُها زَحامَه وَهَذا الدَهرُ أَم عَبدٌ لَدَيهِ ... يُصَرِّفُ عَن عَزيمَتِهِ زِمامَه وَهَذا نَصلُ غِمدٍ أَم هِلالٌ ... إِذا أَمسى كَنونٍ أَم قُلامَه1 وَهذا التُربُ أَم خَدٌّ لَثَمنا ... فَآثارُ الشِفاهِ عَلَيهِ شامَه سبحان المانح! هذا الأديب الذي لم ينسج الأوائل على منواله، ولا تتعلق الأفاضل من المتأخرين بغبار أذياله. ومنها ليس من تجاهل العارف، ولكنه من المرقص والمطرب: وهذا الدر المنثور ولكن ... أروني غير أقلامي نظامه وهذي روضة تندي وسطري ... بها غصن وقافيتي حمامه وهذا الكاس روق من بناني ... وذكرك كان من مسك ختامه2 وقوله أيضًا من تجاهل العارف للمبالغة في المديح: أهذه سير في المجد أم سور ... وهذه أنجم في السعد أم غرر وأنمل أم بحار والسيوف لها ... موج وإفرندها في لجها درر3 وأنت في الأرض أم فوق السماء وفي ... يمينك البحر أم في وجهك القمر ومما جاء في تجاهل العارف، للمبالغة في التعظيم، قول سيدنا القطب الفرد الجامع، عبد القادر الجيلاني قدس الله ضريحه، وأعاد علينا من بركاته في الدنيا والآخرة بمحمد وآله:

_ 1 القلامة: ما قص من الظفر، ويضرب بها المثل في الحقارة والخسة. 2 الروق: أي رائق. والرواق هو القرن. 3 الإفرند: والفرند لمعان السيف وتموجه، اللج: الوسط والعمق.

أأظما وأنت العذب في كل منهل ... وأظلم في الدنيا وأنت نصيري وعار على حامي الحمى وهو قادر ... إذا ضاع في البيدا عقال بعير1 ومثله: بدا فراع فؤادي حسن صورته ... فقلت هل ملك ذا الشخص أم ملك ومما جاء في تجاهل العارف للمبالغة في الذم قول زهير: وما أدري وسوف أخال أدري ... أقوم آل حصن أم نساء ومما جاء للتحقير قول الشاعر، وتظارف إلى الغاية: لما ادعى غصن الرياض بأنه ... في لينه مع قدها موصوف قلنا له هل أنت تشبه قدها ... ما أنت هذا القد يا مقصوف ومما جاء منه للتوبيخ قول ليلى بنت طريف الخارجية، في أخيها الوليد: أيا شجر الخابور مالك مورقًا ... كأنك لم تجزع على ابن طريف2 وهذا البيت من قصيدة غريبة أثبتها بكمالها ابن خلكان في تاريخه، والخابور نهر أصله من رأس عين بديار بكر يصب إلى الفرات. ومن أطرف ما وقع في تجاهل العارف على سبيل التوبيخ، قول سراج الدين الوراق، فإنه صرح بذكر التوبيخ في بيتيه وهما: واخجلتي وصحائفي مسودة ... وصحائف الأبرار في إشراق وموبخ في الحشر وهو يقول لي ... أكذا تكون صحائف الوراق3 ومما وقع للتقرير قول مهيار: سلا ظبية الوادي وما الظبي مثلها ... وإن كان مصقول الترائب أكحلا4 أأنت أمرت الصبح أن يصدع الدجا ... وعلمت غصن البان أن يتميلا

_ 1 البيدا: ترخيم بيداء وهي الصحراء، العقال: حبل يعقل به البعير ويضرب به المثل في القلة. 2 الخابور: نوع من الشجر من فصيلة الخمانيّات له زهر زاهي المنظر أصفر جيد الرائحة. 4 الوراق الذي يعمل في بيع الكتب. 5 الترائب: مفردها تربية وهي عظم الصدر.

ومما وقع منه قول العرجي للتدله في الحب: بالله يا ظبيات القاع قلن لنا ... ليلاي منكن أم ليلى من البشر قد قررت هنا اختلاف أقسام هذا النوع، أعني تجاهل العارف من مدح وذم وتعظيم وتحقير، وتوبيخ وتقرير وغير ذلك، إذا عرفت ذلك، فإني أوردت هنا ما استظرفته في هذا الباب، ولم أحتج فيه إلى التنبيه. وأظرف ما سمعته في هذا الباب قول عبد المحسن الصوري: بالذي ألهم تعذي ... بي ثناياك العذابا والذي صير حظي ... منك هجرًا واجتنابا والذي ألبس خدي ... ك من الورد نقابا ما الذي قالته عينا ... ك لقلبي فأجابا ومثله: دعوه ونجدًا إنها شأن نفسه ... ولو أن نجدًا تلعة ما تعداها1 وهبكم منعتم أن يراها بعينه ... فهل تمنعون القلب أن يتمناها وقول المتنبي: أتراها لكثرة العشاق ... تحسب الدمع خلقة في المآقي وقول الفاضل: فإذا قلت أين داري وقالوا ... هي هذي أقول أين زماني وقال ابن الفارض: أوميض برق بالأبيرق لاحا ... أم في ربا نجد أرى مصباحا أم تلك ليلى العامرية أسفرت ... ليلًا فصيرت المساء صباحا ويعجبني قول الشيخ علاء الدين الوداعي: ترى يا جيرة الرمل ... يعود بقربكم شملي2 وهل تقتص أيدينا ... من الهجران للوصل3 وهل ينسخ لقياكم ... حديث الكتب والرسل4

_ 1 التلعة: الأرض المرتفعة. 2 الشمل: المجتمع، والمتفرق من الأقرباء والأنبياء. 3 تقتص: تثأر. وتقاصص. 4 ينسخ: يلغي، أو يغير، ومنه قوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} البقرة، 2/ 106.

ومن لطائف هذه القصيدة ولم أبعد في الاستطراد عما نحن فيه قوله بروحي ليلة مرت ... لنا معكم بذي الأثل وساقينا وما يملا ... وشادينا وما يملي1 وظبي من بني الأترا ... ك حلو التيه والدل له قد كغصن البا ... ن ميال إلى العدل2 وطرف ضيق ويلا ... هـ من طعناته النجل3 أقول لعاذلي فيه ... رويدك يا أبا جهل فقلبي من بني تيم ... وعقلي من بني ذهل وما يبري هوى المشتا ... ق إلا ذلك المغلي لقد زاحمه الشيخ جمال الدين بن نباتة رحمه الله هنا بقوله حلفت بما يملا النديم وما يملي ... لقد صان ذاك الحسن سمعي عن العذل من المغل أشكو نحوه ألم الهوى ... وطب الهوى عندي كما قيل بالمغلي4 ومن الذي أعجبني في هذا النوع أعني تجاهل العارف قول بعضهم: أقول له علام تميل عجبًا ... على ضعفي وقدك مستقيم فقال تقول عني فيَّ ميل ... فقلت له كذا نقل النسيم ومليح هنا قول ابن نباتة السعدي: فوالله ما أدري أكانت مدامة ... من الكرم تجني أم من الشمس تعصر وأورد صاحب الصناعتين في هذا الباب ما كتبه إليه بعض أهل الأدب وهو: سمعت بورود كتابك فاستفزني الفرح قبل رؤيته وهز عطفي المرح أمام مشاهدته، فما أدري أسمعت بورود كتاب أم رجوع شباب، ولم أدر أرأيت خطًّا مسطورًا أم روضًا ممطورًا أو كلامًا منثورًا، أم وشيًا منشورًا

_ 1 يملي: إملاء، يسمع. 2 العدل: الاعتدال. 3 نجلت الطعنة: اتسع جرحها. 4 المغل: الوشاية والشكاية.

وبيت الشيخ صفي الدين غاية في هذا الباب يا ليت شعري أسحرًا كان حبكم ... أزال عقلي أم ضرب من اللمم1 وبيت العميان في بديعيتهم: إذا بدا البدر تحت الليل قلت له ... أأنت يا بدر أم مرأى وجوههم هذا البيت لم يعمر بشيء من محاسن الأدب، لما فيه من الركة. وبيت الشيخ عز الدين الموصلي وعارف مذ بدا بدري تجاهل لي ... وقال حبك أم ذا البدر في الظلم الشيخ عز الدين مع التزامه بالتورية في تسمية النوع الذي استوعب كلمتين من البيت بيته أرق من بيت العميان وأعمر بالمحاسن وبيت بديعيتي وافتر عجبا تجاهلنا بمعرفة ... قلنا أبرق بدا أم ثغر مبتسم هذا البيت شاهد في تجاهل العارف على المبالغة في التشبيه وهو القسم الذي تقرر في أول الكلام على النوع وقلنا إنه المقدم على بقية الأقسام من تجاهل العارف فإن فيه سوق المعلوم في مقام غيره لنكتة المبالغة في التشبيه، كما قرره السكاكي. وقولي: تجاهلنا بمعرفة لا يخفى ما فيه من الحسن على أهل الذوق السليم، والله أعلم.

_ 1 اللمم: الجنون يلم بصاحبه فترة بعد أخرى.

ذكر الاكتفاء

ذكر الاكتفاء: لما اكتفى خده القاني بحمرته ... قال العواذل بغضا إنه لدمي1 الاكتفاء هو أن يأتي الشاعر ببيت من الشعر وقافيته متعلقة بمحذوف فلم يفتقر إلى ذكر المحذوف لدلالة باقي لفظ البيت عليه ويكتفي بما هو معلوم في الذهن فيما يقتضي تمام المعنى. وهو نوع ظريف ينقسم إلى قسمين: قسم يكون بجميع الكلمة، وقسم يكون ببعضها. والاكتفاء بالبعض أصعب مسلكًا لكنه أحلى موقعًا ولم أره في كتب البديع ولا في شعر المتقدمين فشاهد الاكتفاء بجميع الكلمة كقول ابن مطروح: لا أنتهي لا أنثني لا أرعوي ... ما دمت في قيد الحياة ولا إذا فمن المعلوم أن باقي الكلام ولا إذا مت، لما تقدم من قوله الحياة ومتى ذكر تمامه في البيت الثاني كان عيبًا من عيوب الشعر مع ما يفوته من حلاوة الاكتفاء ولطفه وحسن موقعه في الأذهان ومنه قول شيخ شيوخ حماة: أهلا بطيفكم وسهلا ... لو كنت للاغفاء أهلا لكنه وافى وقد ... حلف السهاد عليَّ أن لا2 ومنها قوله فيما نحن فيه: راموا فطامي عن هوى ... غذيته طفلًا وكهلًا فوضعت في طوقي يدي ... وقلت خلوني وإلا3

_ 1 إنه لدمي: أي إنه لدميم أو من الدم فهو مدمي. 2 أن لا أغفو. 3 وإلا كسرته. أو: فأنا مطوق.

وما أظرف قول الصاحب بهاء الدين زهير: يا حسن بعض الناس مهلا ... صيرت كل الناس قتلى لم تبق غير حشاشة ... في مهجتي وأخاف أن لا1 وما أظرف ما قال بعده ولم يخرج عن المراد: وكشفت فضل قناعه ... بيدي عن قمر تجلى ولثمته في خده ... تسعين أو تسعين إلا2 وجمع الشيخ سراج الدين الوراق بين تضمينين واكتفاءين في بيت واحد وأجاد إلى الغاية: يا لائمي في هواها ... أفرطت في اللوم أهلا ما يعلم الشوق إلا ... ولا الصبابة إلا3 وجمع ابن نباتة بين الاكتفاء وتضمين المثل السائر: اسقني صرفا من الرا ... ح تَحُتُّ الهم حتًّا4 ودع العذال فيها ... يضربون الماء حتى5 ومن لطائف شيخ شيوخ حماة في هذا النوع: صِلي ودعي نفارك عن محب ... بذكرك آنس والليل ساكن ولا تستقبحي شيبا برأسي ... فما إن شبت من كبر ولكن6 وقول ابن سنا الملك من قصيدة: رأيت طرفك يوم البين حين همى ... والدمع ثغر وتكحيل الجفون لما7 فاكفف ملامك عني حين ألثمه ... فما شككت بأني قد لثمت فما لو كان يعلم مع علمي بقسوته ... تألم القلب من وخز الملام لما8

_ 1 أن لا تبقي شيئًا. الحشاشة: بقية الروح. 2 إلا قليلًا. 3 إلا من يكابدها. 4 الصرف: من الخمر التي لم تمزج بالماء. حتَّ: أزال. 5 أي حتى يخثرا: أي يأسن ويفسد، ويضربون هنا بمعنى يشربون. 6 ولكن من الحب. 7 لما أو لمى: أسود. 8 لما لامني.

وله من قصيدة: يا عاذلين جهلتم فضل الهوى ... فعذلتمو فيه ولكني أنا ويعجبني قول القائل هنا من قصيدة مطلعها: هزوا القدود فأخجلوا سمر القنا ... وتقلدوا عوض السيوف الأعينا وتقدموا للعاشقين فكلهم ... طلب الأمان لقلبه إلا أنا وتلطف ابن سنا الملك في مطلع قصيدة بقوله: دنوت وقد أبدى الكرى منه ما أبدى ... وقبلته في الثغر تسعين أو إحدى ومثله في اللطف قول الشيخ جمال الدين بن نباتة: ولقد كملت فما يقال لقد ... حزت الجمال جميعه إلا ولبعضهم وأجاد: فإن المنية من يخشها ... فسوف تصادمه أينما ومما يرشف الذوق حلاوته في هذا النوع قول الشيخ شرف الدين ابن الفارض من قصيدة: ما للنوى ذنب ومن أهوى معي ... إن غاب عن إنسان عيني فهو في ومثله في اللطف مع الترشيح باكتفاء ثان قول الشيخ جمال الدين بن نباتة: أفدي التي تاجها وقامتها ... كأنه همزة على ألف أذكر ثغرا لها فأسكر من ... ورد خد لها فأرتع في

_ 1 ولكني أنا الذي أهوى، أو أنا المعذول. 2 إلا أنا لم أطلب الأمان. 3 أو إحدى وتسعين. 4 إلا لك. 5 أينما تلاقيه. 6 فهو في قلبي. 7 فأرتع في بستانه.

ومثله قول الشيخ شمس الدين بن العفيف رأى رضابًا عن تسليه ... أولو العشق سلوًا ما ذاقه وشاقه ... هذا وما كيف ولو1 ومن لطائف الصاحب بهاء الدين زهير في هذا النوع قوله من أبيات: فما كان أحسن من مجلسي ... فحدث بما شئت عن ليلتي بشمس الضحى وببدر الدجى ... على يمنتي وعلى يسرتي وبت وعن خبري لا تسل ... بذاك الذي وبتلك التي2 ومن لطائفه أيضًا أنه كتب إلى بعض أصحابه وكان اسمه يحيى، وقد بلغه أنه شرب دواء أبياتًا أوَّلها سلمت من كل ألم ... ودمت موفور النعم في صحة لا ينتهي ... شبابها إلى الهرم يحيا بك الجود كما ... يموت يا يحيى العدم وبعد ذا قل لي ما ... كان من الأمر وكم وأظرف منه ولم يخرج عما نحن فيه من بديع الاكتفاء وزيادة التورية ما وقع لشهاب الدين التلعفري، مع شمس الدين الشيرجي بين يدي الملك الناصر، وما ذاك إلا أنهما حضرا بين يديه في ليلة أنس، فاتفق أن شمس الدين الشيرجي ذهب إلى ضرورة وعاد، فأشار إليه الملك الناصر أن يصفع التلعفري، وكان شمس الدين رجلًا ألحى4 فلما صفع التلعفري نهض على الفور وقبض على لحية الشيرجي وأنشد ارتجالًا ويده فيها: قد صفعنا في ذا المحل الشريف ... وهو إن كنت ترتضي تشريفي فارث للعبد من مصيف صفاع ... يا ربيع الندى وإلا خريفي وما أحلى قول الشيخ جمال الدين بن نباتة في هذا النوع مع زيادة اللف والنشر والاكتفاء في البيتين:

_ 1 هكذا ورد؟ والأصح على ما نرى: "هذا وما وكيف لو" أي بتقديم الواو. وتقدير الكلام: هذا وما ذاقه، وكيف لو ذاقه. 2 بذاك الذي على يمنتي وبتلك التي على يسرتي. 3 وكم كان. 4 ألحى: ملتحيًا، أي صاحب لحية.

قالت إذا غمضت جفونك فارتقب ... طيفي فقلت لها نعم ولكن إذا1 وسمعت عن سيف ورمح قبلها ... حتى انثنت ورنت فقلت هما اللذا2 ومنه قول الشيخ صدر الدين بن عبد الحق، ولم أكثر من هذا النوع إلا لأنه قليل في أيدي الناس: جهنم حمامكم نارها ... تقطع أكبادنا بالظما وفيها عصاة لهم ضجة ... وإن يستغيثوا يغاثوا بما3 ومنه قول المقر الفخري ابن مكانس مع زيادة التورية: من شرطنا إن أسكرتنا الطلا ... صرفًا تداوينا برشف اللمى نعاف مزج الماء من كأسها ... لا آخذ الله السكارى بما4 ومنه قول المقر المرحومي الأميني، صاحب ديوان الإنشاء الشريف بدمشق المحروسة رحمه الله، وهو مما أنشدنيه مرارًا، وكان عند عوده من أذربيجان بصحبة المقر المرحومي سيفي تنم كافل المملكة الشريفة، بتاريخ كذا وقد ضل غالب العسكر في بعض الليالي عن الماء، وفيه الزيادة على الاكتفاء بالاقتباس والتورية وهو: ضلوا عن الماء لما أن سروا سحرًا ... قومي فظلوا حيارى يلهثون ظما والله أكرمني بالماء دونهم ... فقلت يا ليت قومي يعلمون بما5 ومثله قولي، وفيه أيضًا زيادة الاقتباس والتورية على الاكتفاء قالوا وقد فرطت في تصبري ... وما شفى بقربه سقاما اصبر عسى تشفى بماء ريقه ... قلت لهم يا حسرتي على ما6 وأنشدني من لفظه لنفسه القاضي عماد الدين بن القضامي أخو شيخي قاضي القضاة علاء الدين الحنفي، سقى الله من غيث الرحمة ثراه موشحًا امتدح به المقر المرحومي الأوحدي صاحب ديوان الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية كان تغمده الله

_ 1 إذا لم تغمض جفوني أو إذا لم يأت طيفك. 2 هما اللذان، سمعت عنهما: أو اللذان انثنيا ونظرا. 3 يغاثوا بما يحرق الأمعاء. 4 بما ارتكبوا من آثام أو بما رشفوا. 5 بما أكرمني ربي. 6 على ما أصابني أو على ما فرطت.

برحمته ورضوانه. والموشح ما نسج ابن سنا الملك في دار الطراز على منواله منه في نوع الاكتفاء بالكل مع زيادة التضمين: أرخت ذوائبها لنا في الأربع ... لنضل فاستغنت بها عن برقع وغدوت أسهر في ليالي شعرها ... ويقول فجر الفرق هذا مطلعي وتبسمت فعلاها ... نور فزاد سناها فلثمت فاها آخذًا مستغنمًا ... ورشفته رشف النزيف لبرد ما1 ومنه وفيه حسن التخلص مع الاكتفاء: حكم الزمان بينهم وتشتُّتي ... وشماتة الأعداء أكبر محنتي ولسيد الرؤساء رمت تخلصًا ... من محنتي فشددت رحل مطيتي فغدت تمد خطاها ... وأقول عند عياها الأوحدي الأوحدي لتغنما ... يا ناقتي فزمامك بيدي وما وظريف هنا قول الشيخ زين الدين بن الوردي ماذا تقولون في محب ... عن غير أبوابكم تخلى وجاءكم زائرًا عفيفًا ... عن مالكم هل يجوز أم لا ومنه قوله مع زيادة التضمين: مولاي إنك محسن ... قسمًا وإنك ثم إنك2 فلأشكرنك ما حييت ... وإن أمت فلتشكرنك3 ويعجبني قول الشيخ برهان الدين القيراطي، هنا مع زيادة التورية والاقتباس: حسنات الخد منه ... قد أطالت حسراتي كلما ساء فعالًا ... قلت إن الحسنات4 ومرَّ سيدنا ومولانا قاضي القضاة صدر الدين بن الآدمي الحنفي، نَور الله ضريحه، وجعل من الرحيق المختوم غبوقه وصبوحه، على حماة المحروسة، سنة سبع وثمانمائة

_ 1 لبرد ما تلهفت عليه. أو لبرد ما يسيل منه من اللعاب. 2 إنك كريم، وإنك معطاء إلخ ... 3 فلتشكرنك ذريتي من بعدي. 4 إن الحسنات يذهبن السيئات.

وهو إذ ذاك صاحب ديوان الإنشاء الشريف بدمشق المحروسة ومولانا السلطان الملك المؤيد خلد الله ملكه كافلها في تلك الأيام، وركابه الشريف متوجه إلى حلب المحروسة، والأمير حكم في خدمته بحيث يوصله إلى محل كفالته بها، وكنت في تلك الأيام بحلب المحروسة أمام كافلها علان، تغمده الله برحمته ورضوانه، فهرب علان واختفيت بعده فلما حل ركاب قاضي القضاة صدر الدين المشار إليه بحلب المحروسة توصل بحنوه وصدق محبته وخبره إلى أن عرف أين كنت مختفيا فكتب إليَّ قصدنا حماة فلم نلق من ... أردنا فلم نر عهدًا وإلا1 وجئنا إلى حلب خلفه ... فإن كان فيها اجتمعنا وإلا2 فكتبت إليه الجواب: أمولاي والله حال الجريـ ... ـض دون القريض الذي قد تولى3 وأرجو وقد عفت هذي البلاد ... خلاصي بالصدر منها وإلا4 فقدر الله بالسلامة، وتوجهت في خدمته متنكرًا إلى دمشق المحروسة ومن نظمي، في هذا النوع مع زيادة إيهام التورية: تطلبت منه قبلة وهو نافر ... فقال وقتلى حبنا لن تقبلا فقلت له بالوصل عدني إلى غد ... فبعدك مات الصبر قال نعم إلى5 وقولي أيضًا مع زيادة التضمين: صهباء ريقته رشفت سلافها ... فتغلبت فعجزت أن أتكلما وإذا سئلت أقل لمن هو سائل ... إني لأعلم ما تقول وإنما6 القسم الثاني، الاكتفاء بالبعض، وقد تقدم أنه عزيز الوقوع جدًّا ولم يوجد في كتب البديع، فمن ذلك قول ابن سنا الملك، من قصيدة:

_ 1 الإ: الذمة. 2 وإلا رجعنا وافترقنا كما يحتمل معان أخرى تفيد التهويل. 3 الجريض: الغُصة، القريض: المديح الشعري: وقوله: حال الجريض دون القريض هو من الأمثال السائرة ويضرب لأمر يعوق دونه عائق. 4 وإلا فموتي - أو عدم عودتي - أو خضوعي لأمركم. 5 إلى آخر الدهر. 6 وإنما لا أستطيع البوح. أو التخلص أو ...

أهوى الغزالة والغزال وإنما ... نهنهت نفسي عفة وتدينا ولقد كففت عنان عيني جاهدًا ... حتى إذا أعييت أطلقت العنا1 ومنه قول شيخ شيوخ حماة: إليكم هجرتي وقصدي ... وأنتم الموت والحياة أمنت أن توحشوا فؤادي ... فآنسوا مقلتي ولاتو2 وقول ابن مكانس مع زيادة التورية: لله ظبي زارني في الدجى ... مستوطنًا ممتطيًا بالخفر3 فلم يقم إلا بمقدار أن ... قلت له أهلا وسهلا ومر ومنه قول العلامة بدر الدين بن الدماميني: الدمع قاض بافتضاحي في هوى ... ظبي يغار الغصن منه إذا مشى وغدا بوجدي شاهدًا ووشى بما ... أخفى فيا لله من قاض وشا4 ومثله قوله: يقول مصاحبي والروض زاه ... وقد بسط الريح بساط زهر هلم نباكر الروض المفدى ... وقم نسعى إلى ورد ونسر5 ومثله قوله: ورب نهار فيه نادمت أغيدا ... فما كان أحلاه حديثًا وأحسنا منادمتي فيها مناي فحبذا ... نهار تقضى بالحديث وبالمنا6 ومنه قول شهاب الدين ابن حجر: أطيل الملام لمن لامني ... وأملأ في الروض كأس الطلا وأهوى الملاهي وطيب الملاذ ... فها أنا منهمك في الملا7

_ 1 العنا: العنان لها. 2 أي ولا توحشوا. 3 الخفر: الحياء. 4 وشا: أي وشاهد. ومن الوشاية، فهو واشٍ. 5 ونسر: أي ونسرين. أو من الطيور. 6 وبالمنا: أي وبالمنادمة. أو بما يتمناه الإنسان. 7 في الملا: أي في الملاذ والملاهي. أو في الملأ: الناس.

وأنشدني المقرّ المجدي بن مكانس لنفسه نزل الطل بكرة ... وسروري تجددا والندامى تجمعوا ... فأجل كأسي على الندا1 ومنه قول ابن حجر: دع يا عذول رقى الملام فقد سرى ... عني الحبيب فتبت دام لك البقا والطرف من فقد الرقاد بكى بما ... يحكي الغمام فليس يهدي بالرقا2 وأنشدني من لفظه لنفسه قاضي القضاة صدر الدين بن الآدمي الحنفي، وأنا بين يديه بدمشق المحروسة، ورياحين الشبيبة غضة، بيتين فيهما الاكتفاء بالبعض والتورية في القافيتين، مع عدم الخروج عن الوزن في البيتين إذا قصد شق التورية الثاني، وهذا الباب عزيز الوقوع جدًّا وسبكه في هذا القالب من غير تمويه ينطلي على الحاذق في صناعة الكلام، هذا مع الاتفاق البديعي وحسن المطابقة، ولم أذكر الاتفاق إلا أن الذي كتب إليه القاضي صدر الدين البيتين مشهور بالحسن والأدب، وصحبته المشار إليه وهو غرس الدين خليل بن بشارة وهما: يا متهمي بالسقم كن منجدي ... ولا تطل رفضي فإني علي3 أنت خليلي فبحق الهوى ... كن لشجوني راحمًا يا خلي4 وتقاضاني، عند الإنشاد أن أنظم له شيئًا على هذا الطريق فأنشدته في المجلس قولي يقولون صف أنفاسه وجبينه ... عسى للقا يصبو فقلت لهم صبا وغالطت إذ قالوا أباح وصاله ... وإلا أبى قربًا فقلت لهم أبا ونظم الشيخ جمال الدين بن نباتة هذا النوع وكساه ديباج التورية، ولم يسلم له الوزن إذ جمع بين طرفي الاكتفاء كما فعلنا حيث قال: أقول وقد جاء الغلام بصحفة ... عقيب طعام الفطر يا غاية المنا بحقك قل لي جاء صحن قطايف ... وبح باسم من أهوى ودعني من الكنا

_ 1 على الندا: أي على الندامى. أو الندا بمعنى ما يتساقط من الرذاذ صباحًا. 2 بالرقا: أي بالرقاد أو بمعنى الرقية. 3 متهمي: أخذني نحو تهامة، أو متهمني من التهمة، ومنجدي: من نجد أو من نجدة وتطل: الطول أو من الطل، على أي عليل. أو من العلو. 4 يا خلي: أي يا خليلي أو من الخلو.

وكتب الشيخ برهان الدين القيراطي لنور الدين ابن حجر، والد قاضي القضاة شهاب الدين: مولاي نور الدين ضيفك لم يزل ... يروي مكارمك الصحيحة عن عطا1 صدقت قطايفك الكبار حلاوة ... بفمي وليس بمنكر صدق القطا2 انتهى ما أوردته من هذا النوع الغريب. وبيت صفي الدين: قالوا ألم تدر أن الحب غايته ... سلب الخواطر والألباب قلت لم3 بيت صفي الدين، هنا شاهد على الاكتفاء بجميع الكلمة، ولكن لم ترض التورية أن تكون له سكنًا لشدة برده. وعجبت للشيخ صفي الدين كيف استحسن هذا البيت، ونظمه في سلك أبيات بديعيته، مع ما فيه من الركة والنظم السافل، وقرر موضع الاكتفاء بلفظة لم، هذا مع أنه غير مكلف بتسمية النوع ولا ملتفت إلى تورية. والعميان لم ينظموا هذا النوع. وبيت الشيخ عز الدين شاهد على النوعين، مع التزامه بالتورية، في تسمية النوع البديعي، واستجلاب الرقة ولطف المعنى، وهو: وما اكتفى الحب كسف الشمس منه إذًا ... حتى انثنى يخجل الأغصان حين تمي4 فشاهد الكل قوله: إذا، المعروف أن بعده بدا، لما تقدم من ذكر كسف الشمس، وشاهد البعض قوله: حين تمي، فدل حرف الكلمة أنها تميل أو تميس. وبيت بديعيتي شاهد على الاكتفاء بالبعض، بزيادة التورية التي تتوارى من حسنها بهجة الشموس، مع سلامة الوزن في طرق الاكتفاء على مذهب الجماعة، كما تقدم. وأما التورية بتسمية النوع فهي محصول الحاصل، إذ لا بد منها، وبيتي: لما اكتفى خده القاني بحمرته ... قال العواذل بغضا إنه لدمي5

_ 1 عن عطا أي عطاء. أو عن عطائك منه. 2 القطا: أي القطايف أو الحمام. 3 قلت لم: أي قلت لم أدر. 4 حين تمي: أي حين تميل أو تميس، أو من الإيماء. 5 لدمي: أي لدميم.

المعنى هنا أن الخد، لما تزايدت حمرته، قال العواذل: بغضًا في الظاهر إنه لدمي، ووروا بالاكتفاء، وقصدوا في الباطن أنه دميم، حسدًا له، وهذا الاكتفاء ينظر إلى قول القائل: كضرائر الحسناء قلن لوجهها ... حسدًا وبغضًا إنه لدميم1 وهو بالدال المهملة للحقارة، ومن تأمل هذ البيت تأمل أهل الأدب المنصفين علم أن الحيلة في تركيب توريته حيلة دقيقة، مع ما فيه من المعنى وجزالة الأسلوب، وهذا النوع على هذا النمط الغريب لا يجري في مضماره، من فحول الأدب، إلا كل ضامر مهزول.

_ 1 هذا البيت فيه تورية دقيقة لا تظهر إلا بتأويله: والمقصود أن ضرائر الحسناء قلن لها عن فلان، لأنهن يردن أن يكون لهن، حسدًا وبغضًا، إنه لدميم. هذا الظاهر، أو المورى به، أما المورى فهو أن ضرائر الحسناء قلن لها لحسدهن وبغضهن إن وجهها دميم. والمعنى كما قيل، في قلب الشاعر ولا يعلم ما في القلوب إلا مقلبها.

ذكر مراعاة النظير

ذكر مراعاة النظير: ذكرت نظم اللآلي والحباب له ... راعى النظير بثغر منه منتظم هذا النوع، أعني مراعاة النظير، يسمى التناسب، والائتلاف، والتوفيق، والمواخاة، وهو في الاطصلاح أن يجمع الناظم أو الناثر أمرًا وما يناسبه، مع إلغاء ذكر التضاد، لتخرج المطابقة، وسواء كانت المناسبة لفظًا لمعنى أو لفظًا للفظ أو معنى لمعنى، إذ القصد جمع شيء إلى ما يناسبه من نوع أو ما يلائمه من أحد الوجوه، كقول البحتري في إبل أنحلها السير: كالقسي المعطفات بل الأسـ ... ـهم مبرية بل الأوتار فإنه لما شبه الإبل بالقسي، وأراد أن يكرر التشبيه كان يمكنه أن يشببها بالعراجين1، أو بنون الخط، لأن المعنى واحد في الانحناء والرقة، ولكنه قصد المناسبة بين الأسهم والأوتار، لما تقدم ذكر القسي. ولعمري لقد أصاب الغرض في هذا المرمى. وظريف هنا قول بعضهم في وصف فرس: من جلنار ناضر خده ... وأذنه من ورق الآس2 فالمناسبة هنا بين الجلنار والآس النضارة. ومثله قول بعضهم في آل النبي -صلى الله عليه وسلم: أنتم بنو طه ونون والضحى ... وبنو تبارك في الكتاب المحكم

_ 1 العراجين: مفردها عرجون وهو من النخل بمثابة العنقود من العنب أي القضبان التي تحمل حبات التمر. 2 الجلنار: زهر الرمان.

وبنو الأباطح والمشاعر والصفا ... والركن والبيت العتيق وزمزم1 هذا الناظم أحسن في مراعاة النظير، وأتى في البيت الأول بحسن المناسبة، بين أسماء السور، وفي الثاني بحسن المناسبة بين الجهات الحجازية. انتهى. ويعجبني قول السلامي في هذا الباب: والنقع ثوب بالسيوف مطرز ... والأرض فرش بالجياد محمل2 وسطور خيلك إنما ألفاتها ... سمر تنقط بالدماء وتشكل3 فإنه ناسب بين الثوب والتطريز وبين الفرش والحمل وبين السطور والألفات والنقط والشكل، ومثله قول أبي العلاء المعري: دع اليراع لقوم يفخرون بها ... وبالطول الردينيات فافتخر فهن أقلامك اللاتي إذا كتبت ... مجدًا أتت بمداد من دم هدر فأبو العلاء أيضًا ناسب بين الأقلام والكتابة والمداد. وغاية الغايات في هذا الباب، قول بديع الزمان الهمذاني، من قصيدة يصف فيها طول السرى: لك الله من ليل أجوب جيوبه ... كأني في عين الردى أبدًا كحل كأن السرى ساق كأن الكرى طلا ... كأنا له شرب كأن المنى نقل كأنا جياع والمطيّ لنا فم ... كأن الفلا زاد كأن السرى أكل كأن ينابيع الثرى ثدي مرضع ... وفي حجرها مني ومن ناقتي طفل كأنا على أرجوحة في مسيرنا ... لغور بنا تهوي ونجد بنا تعلو4

_ 1 الأباطح: أباطح مكة والمشاعر: المشعر الحرام، والصفا: مكان في مكة يقصده الحجيج ويهرولون بينه وبين المروة، وهو المكان الذي هرولت فيه سارة زوجة إبراهيم الخليل عليه السلام بحثًا عن الماء لولدها إسماعيل بعد أن تركها إبراهيم الخليل هناك. والركن: من المقدسات الإسلامية في مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم-. والبيت العتيق: هو الكعبة الشريفة، وزمزم: هو البئر التي أنبعها الله تحت قدمي إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما الصلاة والسلام. 2 النقع: الغبار. 3 السمر: القنا أو الرماح. تنقط: تضع النقاط، وتشكل: تضع الحركات على الحروف. 4 الغور: المنخفض من الأرض أو الوادي، النجد: المرتفع من الأرض.

ومنها في المديح، ولم يخرج عما نحن فيه من حسن المناسبة: كأني في قوس لساني له يدٌ ... مديحي له فرع به أملي نبل كأنّ دواتي مطفل حبشية ... بناني لها بعل ونقشي لها نسل1 كأن يدي في الطرس غواص لجة ... له كلمي در به قيمتي تغلو انظر أيها المتأمل إلى ملكه هذا الشاعر المفلق، الذي ما دخل إلى بيت إلا وأسكن فيه ما يلائمه من المناسبات البديعية. نعم هذه الغايات التي تقف عندها فحول الشعراء، وهذا الإمام المتقدم الذي صلى الحريري خلفه، وأشار إليه بقوله في مقاماته: فلو قبل مبكاها بكيت صبابة ... بسعدى شفيت النفس قبل التندم2 ولكن بكت قبلي فهيج لي البكا ... بكاها فقلت الفضل للمتقدم فإن البديع هو الذي سبق الحريري إلى نظم المقامات، وسبك العلوم في تلك القوالب الغريبة، وعلى منواله نسج الحريري، واستعمل بعض أسماء مقاماته، وقفى أثر عيسى بن هشام بالحرث بن همام، وعارض طرح الإسكندري بما نسجه أبو زيد السروجي، وعلى كل تقدير فالبديع عرابة هذه الراية، وعباس هذه السقاية. نرجع إلى ما كنا فيه من حسن المناسبة في مراعاة النظير، فمن المستحسن في هذا النوع قول بعضهم في مليح معه خادم يحرسه: ومن عجب أن يحرسوك بخادم ... وخدام هذا الحسن من ذاك أكثر عذارك ريحان وثغرك جوهر ... وخدك ياقوت وخالك عنبر هذا الأديب المتمكن ناسب بين العذار والثغر والخد والخال، إذ الوجه لمصابيح هذه المحاسن جامع، وبين ريحان وجوهر وياقوت وعنبر، للملاءمة في أسماء الخدام فلو ذكر شيئًا من غير تناسب كان نقصًا وعيبًا، وإن كان جائزًا، فإنهم عابوا على أبي نواس قوله: وقد حلفت يمينًا ... مبرورة لا تكذب برب زمزم والحو ... ض والصفا والمحصب3

_ 1 المطفل: ذات الولد والحبشية: لسوادها. 2 وردت في الأصل: التدم، وما أثبتناه أصح. 3 المحصب: مكان في وادي منى. وكل ما ذكر في هذا البيت أسماء لشعائر الحج، ما عدا الحوض فإنه في الجنة.

فالحوض هنا أجنبي من المناسبة، لأنه ما يلائم المحصب والصفا وزمزم، وإنما يناسب الصراط والميزان وما هو منوط بيوم القيامة. ومثله، في عدم المناسبة، قول الكميت: وقد رأينا بها حوراء منعمة ... بيضًا تكامل فيها الدل والشنب1 فإنهما قالوا الدلال لا يناسب الشنب وهو صحيح، فإن الشنب من لوازم الثغر فلو ذكر معه اللعس2 وما ناسب ذلك، مشى على سنن المناسبة وخلص من النقد. ويعبجني من ملاءمة التناسب في مراعاة النظير، قول العلامة أبي بكر بن اللبانة في موشح: بعض يخاصمني في بعض ... جسمي مقيم وقلبي يمضي وكيف أسلو وبدري الأرضي ... يدير في الأقحوان الغض وردية سرقت أنفاسه بالالتماس ... رقت فكانت مثل دمعة في جفن كاس انظر إلى ما ناسب بين الأقحوان والورد، وجذب القلوب، وأنشا الأذواق، في المناسبة بين الدمعة وجفن الكاس مع الاستعارة التي تستعار منها المحاسن. ومن أحلى ما يستحلى في الذوق، من هذا النوع، قول ابن مطروح: لبسنا ثياب العناق ... مزرة بالقبل ومن شدة إعجابي بهذا البيت ضمنته تضمينًا، لو سمعه ابن مطروح لاطرح نفسه خاضعًا، وسلم إليَّ مفاتيح بيته طائعًا، وهو: ولما خلنا العذار ... فككنا طويق الخجل3 لبسنا ثياب العناق ... مزررة بالقبل ولولا خوف الإطالة، لتكلمت على بيت ابن مطروح، وعلى التضمين، وما فيهما من حسن التناسب والاستعارات، بما يليق بمقامهما. وغاية الغايات قول القاضي الفاضل في هذا الباب: في خده فخ لعطفة صدغه ... والخال حبته وقلبي الطائر

_ 1 الشنب: رقة الأسنان وشدة بياضها. 2 اللعس: السواد المستحسن في الشفة. 3 طويق: الطوق.

ويعجبني في هذا الباب قول مجير الدين بن تميم: لو كنت تشهدني وقد حمي الوغى ... في موقف ما الموت فيه بمعزل لترى أنابيب القناة على يدي ... تجري دمًا من تحت ظل القسطل1 انظر أيها المتأمل إلى حسن ما ناسب، بين الأنابيب والقناة والجريان والقسطل، مع انقياد التورية إلى طاعته وحسن تصرفه، فإني أنا محقق أن الأمير مجير الدين بن تميم من فرسان هذا الميدان وممن أجاد في هذا الباب، وبالغ في الإحسان إلى غريب المناسبة. وراعى جانب مراعاة النظير حسن الزغاري، بقوله: كان السحاب الغر لما تجمعت ... وقد فرقت عنا الهموم بجمعها نياق ووجه الأرض قعب وثلجها ... حليب وكف الريح حالب ضرعها2 فإنه أتى بالمعنى الغريب، والتشبيه البديع، وحسن المناسبة في مراعاة النظير، مع حلاوة الانسجام ولطف الاستعارة. وأنشدني لنفسه الشيخ عز الدين، في هذا النوع، قوله: بخد الحب ريحان نضير ... لأحرفه سطور ليس تقرا فراعيت النظير وقلت بدري ... عذارك أخضر والنفس خضرا والذي يظهر لي، أن خضرة النفس هنا من إيهام المناسبة. ومما نظمته، في هذا النوع، قولي: أبرزت معصمًا نهار وداعي ... شف بلوره فزاد حريقي راح دمعي يرعى النظير ويبدي ... عند لثمي سلاسلًا من عقيق3 فحسن المناسبة هنا، بين المعصم والسلاسل، والعقيق والبلور، مع إبراز تسمية النوع البديعي والنسيب المطرب الغزلي في معنى توريته. وبيت الشيخ صفي الدين الحلي: تجار لفظ إلى سوق القبول بها ... من لجة الفكر تهدي جوهر الكلم

_ 1 القسطل: الغبار أثناء المعارك. والأنبوب الذي تجري فيه المياه. 2 نياق: جمع مفرده ناقة وهي أنثى الجمل، القعب: وعاء يستعمل لحلب الماشية فيه، الضرع: بالنسبة للحيوان كالثدي للإنسان. 3 العقيق: من الحجارة الكريمة لونه أحمر مظلم قليلًا.

المناسبة في بيت الشيخ صفي الدين، بين التجار والسوق واللجة والجوهر، وهو بيت عامر بمحاسن هذا النوع. وبيت العميان في بديعيتهم: يروى حديث الندى والبشر عن يده ... ووجهه بين منهل ومبتسم هذا البيت ما رأيت له وجهًا يظهر به مراعاة النظير، ولا بينه وبين المناسبة البديعية نسب ثابت، ولكن رأيت الشيخ أبا جعفر، شارح هذه البديعية، أعني بديعية العميان، قال إن العنعنة في البيت بعن تناسب الرواية في الحديث، والندا والبشر فيهما مناسبة للكرم. ولعمري إن الشيخ رحمه الله استسمن من وجه هذا البيت ذا ورم، ونفخ من نفسه في غير ضرم، وهذا لعمري جهد من لا جهد له. وبيت عز الدين الموصلي: وارع النظير من القوم الأولى سلفوا ... من الشباب ومن طفل ومن هرم المناسبة في بيت الشيخ عز الدين بين الشباب والطفل والهرم، أظن أنه قصد بها النسبة إلى آدم عليه السلام. وبيت بديعيتي: ذكرت نظم اللآلي والحباب له ... راعى النظير بثغر منه منتظم المناسبة هنا ما بين اللآلي ونظم الحباب ونظم الثغر بديعة عند أهل النظم، هذا مع حسن التشبيه بالمناسبة البديعية، وفي نور هذا الماثل ما يمحو ظلمة الإشكال عند مراعاة النظير، هذا مع رقة الانسجام ومغازلة عيون الغزل في تسمية النوع البديعي وحلاوة توريته، وقد حبست عنان القلم، وإن كانت المهجة في هذا المعرك الضيق قد ذابت، لئلا يقال كثر فارتابت.

ذكر التمثيل

ذكر التمثيل: وقلت ردفك موج كي أمثله ... بالموج قال قد استسمنت ذا ورم التمثيل، ما فرعه قدامة، من ائتلاف اللفظ مع المعنى، وقال: هو أن يريد المتكلم معنى فلا يدل عليه بلفظه الموضوع له، ولا بلفظ قريب من لفظه، وإنما يأتي بلفظ هو أبعد من لفظ الإرداف، يصلح أن يكونه مثالًا للفظ المعنى المذكور، كقوله تعالى: {وَقُضِيَ الْأَمْرُ} 1 وهذا التمثيل العظيم في غاية الإيجاز، والحقيقة، أي هلك من قضي هلاكه، ونجا من قدرت نجاته، وما عدل عن اللفظ الخاص، إلى لفظ التمثيل، إلا لأمرين: أحدهما الاختصار لبلاغة الإيجاز، والثاني كون الهلاك والنجاة كانا بأمر مطاع، ولا يحصل ذلك من اللفظ الخاص. ومن شواهد ذلك في السنة الشريفة، قول النبي -صلى الله عليه وسلم- حكاية عن بعض النسوة، في حديث أم زرع: "زوجي كليل تهامة، لا حر ولا برد ولا مخافة ولا سآمة" فإنها أرادت وصفه بحسن العشرة مع نسائه. فعدلت عن اللفظ الموضوع له إلى لفظ التمثيل لما فيه من الزيادة، وذلك تمثيلها الممدوح بليل تهامة المجمع على وصفه بأنه معتدل، فتضمن ذلك وصف الممدوح باعتدال المزاج المستلزم حسن العشرة، وكمال العقل الذين ينتجان لين الجانب وطيب المعاشرة، وخصت الليل بالذكر لما في الليل من راحة الحيوان، وخصوصًا الإنسان لأنه يستريح فيه من الكد والفكر، ولكون الليل جعل سكنًا والسكن محل الاجتماع بالحبيب، لا سيما وقد جعلته معتدلًا بين الحر والبرد، والطول والقصر، وهذه صفة ليل تهامة لأن الليل يبرد فيه الجو مطلقًا بالنسبة إلى النهار لغيبة الشمس

_ 1 البقرة: 210/ 2.

وخلوص الهواء من اكتساب الحر، فيكون في البلاد الباردة شديد البرد، وفي البلاد الحارة معتدل البرد مستطابًا، فلهذا قالت: زوجي كليل تهامة، وحذفت أداة التشبيه ليقرب المشبه من المشبه به، وهذا مما يبينه لفظ التمثيل لكونه لا يجيء إلا مقدرًا بمثل غالبًا. وقال ابن رشيق في العمدة: التمثيل والاستعارة ضرب من التشبيه، ولكنهما بغير أداة. والتمثيل هو المماثل عند بعضهم، وذلك أن تمثل شيئًا بشيء فيه إشارة منه، كقول امريء القيس: وما ذرفت عيناك إلا لتضربي ... بسهميك في أعشار قلب مقتل1 فمثل عينيها بالسهمين، ومثل قلبه بأعشار الجزور معناه: ما بكيت إلا لتقدحي في قلبي كما يقدح القادح في الأعشار، فتمت له جهات التمثيل والاستعارة. وقد تقدم أن التمثيل ضرب من الاستعارة والتشبيه، وهو قريب التذييل، ولكن بينهما فرق دقيق وهو خلو التذييل من التشبيه، وألحقوا بهذا الباب، أعني التمثيل، ما يخرجه المتكلم مخرج المثل السائر، وأبلغ ما سمعته من الشواهد البليغة المستوعبة لشروط هذا الباب، قول أبي تمام: أخرجتموه بكرة عن سجيته ... والنار قد تلتظي من ناضر السلم أوطأتموه على جمر العقوق ولو ... لم يحرج الليث لم يخرج من الأجم2 ففي عجز كل من البيتين تمثل حسن، فإنه مثل فيهما حالته عند إخراجه كرهًا عن سجيته، يخاطب أحبابه، وقد أثروا به تلك الحالة، والنار قد تلتظي من ناضر السلم. قد هنا للتقليل، ومراده أن وقوع هذا منكم، وأنتم أحباب، عجيب. ومثل الحال بقوله: والنار قد تلتظي من ناضر السلم، وقال في عجز البيت الثاني عندما أوطؤوه على جمر العقوق: إن الليث لو لم يخرج ما خرج من الأجم. وهذا التمثيل والذي قبله في البيت الأول، غايتان في هذا الباب. وقد أخرج كلًّا منهما مخرج المثل السائر، على مذهب من يرى ذلك. وبيت الشيخ صفي الدين: يا غائبين لقد أضنى الهوى جسدي ... والغصن يذوي لفقد الوابل الردم3

_ 1 أعشار القلب: أقسام القلب المقطع إلى عشرة أقسام. 2 العقوق: المعصية وعدم الطاعة، الأجم: مفرده أجمة وهي المكان الملتف الشجر. 3 الردم: الدائم السيلان.

الشيخ صفي الدين أجاد في نظم هذا النوع وأتى بشروطه كاملة، فإنه مثل حاله، لما أضنى الهوى جسده لغيبة أحبابه، بالغصن لما يذوي لفقد المطر، وأخرج كلامه مخرج المثل السائر، كما تقرر، ولكن لو حط موضع الهوى، الجفا، لكان أقرب إلى المراد ولو كانت القافية غير الردم، لكانت أخف على القلوب. والعميان لم ينظموا هذا النوع في بديعيتهم، وبيت الشيخ عز الدين: من التعاظم تمثيل الزمان به ... وقد يكون اتضاع القدر بالشمم1 هذا البيت غير صالح للتجريد، وقد كلَّ الفكر، وعجزت أن أتوصل فيه إلى حد يتوصل به إلى فهم معناه، أو إلى صورة التمثيل في تركيبه، فلم أجد بدًا من مطالعة الشرح، فلما نظرت في شرحه وجدته قد قال فيه: إن العذول يتعاظم في كلامه وأفعاله، فلذلك مثل الزمان به، من استهتار السامع به والتهكم وعدم الإصغاء إليه، وفي ذلك تهجين له وربما استجيب فيه الدعاء، ثم قال في آخر الشرح: وقد أرسلت النصف الثاني من البيت مثلا، فما ازدادت مرآة ذوقي بذلك إلا صدًّا، والله أعلم. وبيت بديعيتي: وقلت ردفك موج كي أمثله ... بالموج قال قد استسمنت ذا ورم انظر أيها المتأمل إلى التمثيل الذي مثلت فيه شيئًا بشيء فيه إشارة منه، كما قرره ابن رشيق في العمدة، وحذفت أداة التشبيه لتقريب المشبه من المشبه به، كما تقدم وتقرر أن لفظ التمثيل لا يكون إلا مقدرًا يمثل غالبًا، وأخرجت آخر كلامي مخرج المثل السائر، على مذهب من يرى ذلك، وأتيت بتسمية النوع البديعي مورى به مسبوكًا في أحسن القوالب، والله أعلم. بالصواب.

_ 1 اتضع: انحط قدره، والشمم: التعالي والتكبر.

ذكر التوجيه

ذكر التوجيه: وأسود الخال في نعمان وجنته ... لي منذر منه بالتوجيه للعدم التوجيه، مصدر توجه إلى ناحية كذا، إذا استقبلها وسعى نحوها، وفي الاصطلاح أن يحتمل الكلام وجهين من المعنى احتمالًا مطلقًا، من غير تقييد بمدح أو غيره، والتوجيه هو إبهام المتقدمين، لأن الاصطلاح فيهما واحد، غير أن الشواهد التي استشهدوا بها على التوجيه، الإبهام أحق بها لطلوع أهلتها زاهرة في أفقه، ولمطابقة التسمية، فإنهم يستشهدون على التوجيه، يقول الشاعر في الحسن ابن سهل، عندما زوج ابنته بوران بالخليفة: بارك الله للحسن ... ولبوران في الختن يا إمام الهدى ظفر ... ت ولكن ببنت من فلم يعلم ما أراد بقوله ببنت من، في الرفعة أو في الحقارة، وقد تقدم قولي في شرح نوع الإبهام، لما استشهدت بهذين البيتين، على ما نقل ابن أبي الأصبع: أن الحسن بن سهل قال له: أسمعت هذا المعنى أم ابتكرته، فقال: لا والله نقلته من شعر شاعر مطبوع، كان كثير الولوع بهذا النوع، واتفق أنه فصل قباء عند خياط أعور اسمه زيد، كذا نقله ابن أبي الأصبع، فقال له الخياط، على سبيل العبث سآتيك به لا تدري، أقباء هو أم دوّاج، فقال له الشاعر إن فعلت ذلك نظمت فيك بيتًا لا يعلم من سمعه، أدعوت لك أم دعوت عليك، ففعل الخياط فقال الشاعر: خاط لي زيد قباء ... ليت عينيه سواء فإن قيل قصد التساوي في عينيه بالعمى صح، وإن قيل إنه قصد التساوي في

الإبصار صح. فتسمية النوع هنا بالإبهام أليق من تسميته بالتوجيه، ومطابقة التسمية فيه لا تخفى على أهل الذوق الصحيح، وهذا مذهب ابن أبي الأصبع، فإنه هو الذي تخير الإبهام، ونزل عليه هذه الشواهد واختصر التوجيه من كتابه، وقال في ديباجته: وربما أبقيت اسم الباب وغيرت مسماه إذا رأيت اسمه لا يدل على معناه. وقد أجمع الناس على أن كتابه المسمى "بتحبير التحرير" أصح كتاب أُلِّف في هذا الفن، لأنه لم يتكل فيه على النقل دون النقد، وغالب الجماعة غيروا بعض القواعد، وبدلوا أكثر الأسماء والشواهد، ووضعها في غير محلها، وإذا وصلت إلى بديع ابن منقذ وصلت إلى الخبط والفساد، والجمع بين أسباب الخطاء وأنواعه، من التداخل والتبديل. والسكاكي ومن تبعه سموا هذ النوع: التوجيه، ونسج الناس على منوالهم، إلى أن تخير ابن أبي الأصبع نوع الإبهام، وقرر له الشواهد التي هي أليق به من التوجيه. ولم أسمع، من شواهد الإبهام، غير البيت المنظوم في الخياط والبيتين المنظومين في الحسن بن سهل، وهذا النوع صعب المسلك في نظمه، لأن المراد من الناظم أن يبهم المعنيين، بحيث لا يكاد أحدهما يترجح على الآخر. ومن أظرف ما وقع في هذا الباب، وقد أوردته في باب الإبهام، أن القاضي زيد الدين بن القرناص الحلبي، غفر الله له، ألف تاريخًا قريبًا من قباء الخياط، وهاجر إلى حماة المحروسة، بسبب الكتابة عليه، ورسم لي بعد وقوفي عليه بالكتابة عليه، فكتبت على التاريخ المذكور هذين البيتين: تاريخ زين الدين فيه عجائب ... وبدائع وغرائب وفنون فأذاب تاه مناظر في جمعه ... خبره عني إنه مجنون1 ومن أغرب ما نقل من شواهد الإبهام، التي ما تليق بغيره، أن أبا مسلم الخراساني قال يومًا لسليمان بن كثير: بلغني أنك كنت في مجلس وقد جرى ذكري، فقلت: اللهم سود وجهه واقطع رأسه واسقني من دمه. قال: نعم، قلت ذلك ونحن جلوس بكرم حصرم، فاستحسن أبو مسلم إبهامه وعفا عنه لسداد جوابه. رجع إلى ما كنا فيه من تقرير نوع التوجيه. قد تقدم أن المتقدمين نزلوه منزلة الإبهام، وسموه توجيهًا واستشهدوا عليه بالشواهد التي تقدم ذكرها. وأما التوجيه عند المتأخرين. فقد قرروا أن يوجه المتكلم بعض كلامه أو جملته إلى أسماء متلائمة اصطلاحًا، من أسماء الأعلام أو قواعد علوم وغير ذلك مما يتشعب له من الفنون،

_ 1 هذا البيت هكذا ورد في الأصل ولم أستطع له تفسيرًا، وإن كنت أرجح أن يكون: فإذا أتاه مناظر في جمعه. ويكون معناه ظاهرًا.

توجيهًا مطابقًا لمعنى اللفظ الثاني، من غير اشتراك حقيقي بخلاف التورية، وهذا هو مذهب الشيخ صفي الدين، وعلى هذا المنوال نسج بديعيته، وقد تقدم أن بديعيته نتيجة سبعين كتاب في هذا الفن، وعلى منواله نسجت بديعيتي، لأجل المعارضة. قد أدخل جماعة نوع التوجيه في التورية وليس منها. والفرق بينهما من وجهين: أحدهما أن التورية تكون باللفظة المشتركة والتوجيه باللفظ المصطلح عليه. والثاني أن التورية تكون باللفظة الواحدة، والتوجيه لا يصح إلا بعدة ألفاظ متلائمة، كقول علاء الدين الوداعي: من أم بابك لم تبرح جوارحه ... تروي أحاديث ما أوليت من منن فالعين عن قرة والكف عن صلة ... والقلب عن جابر والأذن عن حسن أقول: لو بلغت ما عسى أبلغه، لما وجدت للمتقدمين شاهدًا أحسن من هذين البيتين، على هذا النوع، ولذلك قدمتهما. سبحان المانح، لقد أظهر الشيخ علاء الدين الوادعي من محاسن الأدب في التوجيه وجوهًا تخجل الأقمار، ويتمسك الناس بعده بطيب هذه الآثار. أما قرَّة فهو قرَّة بن خالد السدودسي وهو ثقة يروي عن الحسن وابن سيرين وليس بتابعي. وأما صلة فهو صلة بن أشيم العدوي، كان من كبار التابعين، وهو زوج معاذة العدوية، وهي تروي عن عائشة. وأما جابر فهو جابر بن عبد الله، صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وليس بجابر الجعفي لأن جابر الجعفي ضعيف وهو تابعي، وإنما ضعفوه لأنه كان يؤمن بالرجعة. وأما الحسن فهو الحسن البصري، كان تابعيًّا كبيرًا، رأى أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، نحوًا من ثلثمائة رجل. فللَّه در الوداعي لقد أودع في بيته نفائس الذخائر، وقال فلم يترك مقالًا لشاعر، وكان من المتقدمين عصرًا وعلمًا في اقتناص شوارد النكت الأدبية، والأنواع البديعية، وإبراز التورية في القوالب التي لم يسبق إليها، وعلى موائد معانيه ونكته تطفل الشيخ جمال الدين بن نباتة في مواضع كثيرة. وقد عن لي، وإن طال الشرح، أن أذكر نبذة من ذلك ليتأيد قولي، ويعرف رتبة الشيخ علاء الدين من كان بها جاهلًا. قال الشيخ علاء الدين، من قصيدة مطولة: أثخنت عينها الجراح ولا ... إثم عليها لأنها نعساء1 زاد في عشقها جنوني فقالوا ... ما بهذا فقلت بي سوداء2

_ 1 أثخن. في الجراح، زاد فيها إيلامًا، نعساء: من النعاس. 2 السوداء: مرض يصيب الإنسان من جراء طغيان السوداء، أحد العناصر الأربعة المكونة للطبيعة الإنسانية وهي: الأخلاط الأربعة الصفراء: والدم، والبلغم، والسوداء.

وقال الشيخ جمال الدين بن نباتة: قام يرنو بمقلة كحلاء ... علمتني الجنون بالسوداء قال الشيخ علاء الدين الوداعي: إذا رأيت عارضًا مسلسلا ... في وجنة يا عاذلي فاعلم يقينًا أنني من أمة ... تقاد للجنة بالسلاسل قال الشيخ جمال الدين، ولم يخرج عن الوزن والقافية: أفدي الذي ساق إليها مهجتي ... فرع طويل تحت حسن طائل قلبي بصدغيها إلى طلعتها ... يقاد للجنة بالسلاسل قال الشيخ علاء الدين، وقد اجتمع جماعة من أصحابه لم يخرج اسم واحد منهم عن علي: لقد سمح الزمان لنا بيوم ... غدا فيه السمي مع السمي تجمعنا كأنا ضراب خيط ... عليٌّ في عليٍّ في عليّ قال الشيخ جمال الدين: علوت اسمًا ومدقارًا ومعنى ... فيا لله من حسن جليٍّ كأنكم الثلاثة ضرب خيط ... عليٌّ في علي في علي قال الشيخ علاء الدين: من آخذ من خده ... بدم الشهيد المغرم فالريح ريح المسك ... منه ولونه لون الدم قال الشيخ جمال الدين: لا ينكرن الكاس من جفنه ... دم الشهيد الصابر المغرم فالريح ريح المسك من خده ... كما يرى واللون لون الدم قال الشيخ علاء الدين من قصيدة: يفتن بالفاتر من طرفه ... وريقه البارد يا حار1

_ 1 يا حار: أي يا حارث، وتوهم بمعنى الحرارة لما سبقها من قوله: وريقه البارد.

قال الشيخ جمال الدين: لو ذقت برد رضاب من مقبله ... يا حار ما لمت أعضائي التي ثملت مع أن الشيخ جمال الدين فتر عن الفاتر، قال الشيخ علاء الدين: قيل إن شئت أن تكون غنيًّا ... فتزوج تكن من المحصنينا1 قلت ما يقطع الإله بحرٍّ ... لم يضع بين أظهر المسلمينا قال ابن نباتة: قل لي خلي تزوج تسترح ... من أذى الفقر وتستغني يقينا قلت دع نصحك واعلم أنني ... لم أضع بين ظهور المسلمينا قال الوادعي: يا عاذلي في النكاريش اطرح عذلي ... واعذر فعذري فيهم واضح حسن2 فالمرد إن حاولوا حربي بهجرهم ... إذًا لقام بنصري معشر خشن قال ابن نباتة: لو آذنتني عذالي بحربهم ... إذ بالنكاريش قد أصبحت حيرانا إذًا لقام بنصري معشر خشن ... عند الحفيظة إن ذو لوثة لانا3 قال الشيخ علاء الدين الوادعي من قصيدة: عذب مقبله وحلو لحظه ... أو ما تراه بالنعاس معسلا4 قال الشيخ جمال الدين: معسل بنعاس في لواحظه ... أما تراها إلى كل القلوب حلت قال الوادعي، من القصيدة المذكورة: ألحاظه وهي السيوف كليلة ... ويكون تعذيب الكليلة أطولا5

_ 1 المحصنين: المتزوجين والمتزوجات. 2 النكاريش: لم نعثر على هذه اللظفة في ما بين أيدينا ولعلها تعني: اللواطي الكبير السن. لما يتبعها من قوله: فالمرد: وهي جمع مفرده أمرد وهو الغلام لم تنبت لحيته بعد. 3 اللوثة: اختلاط العقل أو الجنون. 4 المعسل: الذي ينام نومًا خفيفًا. 5 الكليلة: من السوف التي لا تقطع.

قال ابن نباتة: بليت به ساجي اللحاظ كليلها ... وما زال تعذيب الكليلة أطولا1 قال الوداعي من قصيدة: والنهر كالمبرد يجلو الصدا ... ببرده عن قلب ظمآن قال ابن نباتة: والنهر فيه كمبرد ... فلأجل ذا يجلو الصدا لكن نقص نهره وكل مبرده عن نكتة برده في بيت الوداعي، فإن الشيخ جمال الدين حط مكانها في بيته: فلأجل ذا، وشتان. قال الوداعي: ما كنت أول مغرم محروم ... من باخل بادي النفار كريم قال ابن نباتة مبخل يشبه ريم الفلا ... يا طول شجوي من بخيل كريم قال الوداعي، في مليح أعمى: بروحي غزالًا راح في الحسن جنة ... تعشقته فهمت من الوجد إذا ما تبدى قائدًا بيمينه ... تيقنت حقًّا أنه جنة الخلد قال ابن نباتة: أفديه أعمى مغمد الخطة ... ليرتقي في خده الوردي تمكنت عيناي من وجهه ... فقلت هذي جنة الخلد قال الشيخ علاء الدين: بلخت عليَّ بدرِّ مبسمها ... فغدت مطوقة بما بخلت3 قال ابن نباتة: بخلت بلؤلؤ ثغرها عن لاثم ... فغدت مطوقة بما بخلت به قال الوداعي: وما يبري هوى المشتا ... ق إلا ذلك المغلي

_ 1 ساجي اللحاظ: ساكنها 2 في هذا البيت نظر إلى قوله تعالى: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران، 3/ 180] .

قال ابن نباتة: من المغل أشكو نحوه ألم لجلوى ... وطب الهوى عندي كما قيل في المغلي1 قال الوداعي: يا نديمي والذي عاهدني ... أنه عن شربها لن يقصرا اسقني صرفًا ودع عذالنا ... يضربون الماء حتى يخثرا2 قال ابن نباتة: اسقني صرفًا من الرا ... ح تحتُّ الهم حتا ودع العذال فيها ... يضربون الماء حتى قال الوداعي: باللوى صعدة عليها لواء ... كل طعنات نصلها نجلاء وقال بعد المطلع: لا نجد عندها سماعًا لشكوى ... فلهذا قالوا لها صماء قال ابن نباتة: وعدت بطيف خيالها أسماء ... إن كان يمكن ناظري إغفاء وقال بعد المطلع: يا من يطيل من الجوى لقوامها ... شكواه وهي الصعدة الصماء وقد آن أن أختصر، لئلا يطول الشرح، وأكف لسان القلم، فقد طال واستطال، على عرض الشيخ جمال الدين. ونعود إلى ما كنا فيه من الاستشهاد ببيتي الشيخ علاء الدين الوداعي، على نوع التوجيه، فقد فهمت رتبته في هذا الفن وتوجيه بيته يصدق على أسماء الأعلام من رواة الحديث، في هذا الفن حيث قال: فالعين عن قرة والكف عن صلة ... والقلب عن جابر والأذن عن حسن والمعنى الآخر في حسن، مناسبته بين القرَّة والعين، والصلة والكف، والجبر والقلب، والكسر والسمع، والحسن ظاهر. ومثله قول القاضي محي الدين بن عبد الظاهر الحلبي، يصف نهرًا صافيًا في روض نزيه:

_ 1 ألم لجلوى: هكذا وردت في الأصل ونعتقد أنها: ألم الجوى. 2 خثر الماء: أسن وفسد.

إذا فاخرته الريح ولت عليلة ... بأذيال كثبان الربا تتعثر1 به الفضل يبدو والربيع وكم غدا ... به الروض يحيى وهو لا شك جعفر2 ومثله قول ابن الوردي: هويت أعرابية ريقها ... عذب ولي فيها عذب مذاب رأسي بنو شيبان والطرف من ... نبهان والعذال فيها كلاب3 أما التوجيه في قواعد العلوم، كما تقرر فأحسن ما رأيت فيه، قول أمين الدين على السليماني، في بعض قواعد النحو: أضيف الدجى معنى إلى لون شعره ... فطال ولولا ذاك ما خص بالجر وحاجبه نون الوقاية ما وقت ... على شرطها فعل الجفون من الكسر4 ومنه قولي: إغراء لحظك مالي منه تحذير ... ولا لتعريف وجدي فيك تنكير يا نصب عيني غرامي كيف أجزمه ... والقد مرتفع والشعر مجرور5 ومن أظرف ما وقع في هذا الباب أنه كان بالعراق عاملان: أحدهما اسمه عمر، والآخر اسمه أحمد، فعزل عمر عن عمله واستقر أحمد بسبب مال وزنه، فقال بعض الشعراء في ذلك: أيا عمر استعد لغير هذا ... فأحمد بالولاية مطمئن فإنك فيك معرفة وعدل ... وأحمد فيه معرفة ووزن وقول ابن عنين، فيمن عزل وكانت سيرته غير مشكورة: فلا تغضبن إذا ما صرفت ... فلا عدل فيك ولا معرفة

_ 1 عليلة: ناعمة أو مريضة. 2 الفضل والربيع ويحيى وجعفر بالإضافة إلى معانيها فهي أسماء أعلام. 3 شيبان ونبهان وكلاب، بالإضافة إلى معانيها اللغوية، هي أسماء قبائل عربية. 4 الجر للطول. ونون الوقاية أي الحاجب يحمي الجفون ويقيها من الكسر، أو التكسر. 5 وهذين البيتين أظرف من سابقيهما لأنه توسع في استعمال القواعد النحوية وفيها طباق. التعريف والتنكير، جناس: والجزم والجر.

وقال ابن الساعاتي: وقيل لابن أبي الأصبع: أيا قمرًا من حسن وجنته لنا ... وظل عذاريه الضحى والأصائل1 جعلتك للتمييز نصبًا لناظري ... فهلا رفعت الهجر والهجر فاعل وظريف هنا قول بعضهم: عرج بنا تحت طلول الحمى ... فلم تزل آهلة الأربع2 حتى تظل اليوم وقفًا على السـ ... ـاكن أو عطفًا على الموضع وقول محمد بن العفيف: يا ساكنًا قلبي المعنى ... وليس فيه سواك ثاني لأي معنى كسرت قلبي ... وما التقى فيه ساكنان3 ومن لطائف البهاء زهير: يقولون لي أنت الذي سار ذكره ... فمن صادر يثني عليه ووارد4 هبوني كما قد تزعمون أنا الذي ... فأين صلاتي منكم وعوايدي5 ونظير هذا ما اتفق لشرف الدين محمد بن عنين، وذلك أنه مرض فكتب إلى الملك العظيم صاحب دمشق: انظر إلي بعين مولى لم يزل ... يولي الندى وتلاف قبل تلافي أنا كالذي أحتاج ما تحتاجه ... فاغنم دعائي والثنا الوافي فعاده الملك العظيم، ومعه خمسمائة دينار، وقال له: أنت الذي وأنا العائد وهذه الصلة. وظريف هنا قول بعض المواليا: رأيتها وهي داخل دارها في الصحن ... تنشد رمل صحنت قلبي المعنى صحن يا ليتها مع تغنيها وطيب اللحن ... ترف أجر ودع يدخل عليَّ اللحن

_ 1 الأصائل: مفردها أصيل وهو قبيل غروب الشمس. 2 الأربع: العدد المعروف وجمع مفرده ربع وهي الدار. 3 استعمل القاعدة النحوية التي تقول: إذا التقى ساكنان يكسر الأول منهما. 4 الصادر والوارد: تعبير ديواني وتعني الخارج والداخل أو الرائح والعائد. 5 صلاتي وعوايدي: صلة وعائده أي العطايا والعائدات أو صلة الموصول.

وقول بعضهم من التوجيه في قواعد الفقه: أحجج إلى الزهر لتحظى به ... وارم جمار مستنفرا من لم يطف بالزهر في وقفة ... من قبل أن يحلق قد قصرا1 وقول شمس الدين بن العفيف، من التوجيه في قواعد الجدل: وما بال برهان العذار مسلمًا ... ويلزمه دور وفيه تسلسل وقول شمس الدين بن جابر الأندلسي، ناظر البديعية من التوجيه في الحديث: قالت أعندك من أهل الهوى خبر ... فقلت إني بذاك العلم معروف مسلسل الدمع من عيني ومرسله ... على مديح ذاك الخد موقوف2 ومن التوجيه في علم العروض قول ابن نصر الله المصري: وبقلبي من الهموم مديد ... وبسيط ووافر وطويل3 لم أكن عالمًا بذاك إلى أن ... قطع القلب بالفراق الخليل4 ومثله قولي، وهو مطلع قصيدة: في عروض الجفا بحور دموعي ... ما أفادت قلبي سوى التقطيع5 ومن التوجيه في الكتابة قول ابن الساعاتي: لله يوم في دمشق قطعته ... حلف الزمان بمثله لا يغلط الطير تقرأ الغدير صحيفة ... والريح تكتب والسحا ينقط6

_ 1 في هذا البت إشارة إلى بعض مناسك الحج من الطواف والوقوف بعرفة وتقصير الشعر. 2 قوله موقوف: من مصطلحات علم الحديث، والموقوف من الحديث الذي لم يروه إلا راو واحد. 3 المديد والبسيط والوافر والطويل هي مصطلحات عروضية من أسماء بحور الشعر. 4 الخليل: هو الخليل بن أحمد الفراهيدي صاحب علم العروض. 5 العروض: مصطلح يفيد التفعيلة في الشعر، والتقطيع: مصطلح عروضي أيضًا يعني تقسيم البيت الشعري إلى عروض أو تفاعيل. 6 ينقط: يضع النقاط على الحروف وفيه تورية بنقط الماء التي تنزل من السحاب.

ولبعضهم، وأجاد، وهو ابن القيسراني: بوجه معذبي آيات حسن ... فقل ما شئت عنه ولا تحاشي6 فنسخة حسنه قرئت وصحت ... وها خط الكمال على الحواشي7 وقال ابن الوردي: رأيت فقيرًا في المرقعة التي ... على حسنه دلت وحسن طباعه بخديه ريحان الحواشي محقق ... إلى الثلث والفضاح تحت رقاعه3 ومثله قول القرشي الكاتب، وقد طلبه السلطان بسب خط نقل عنه أنه زور، فاختفى في بيته ثلث سنه، وكتب إلى ابن فضل الله يسأله النظر في جاله، في رقعة أولها: يقبل الأرض وينهى، إن له ثلث سنة محقق مختف في حواشي البيت، يخشى توقيعات الرقاع من صاحب الطومار، وسؤال المملوك نسخ هذا الأمر الفضاح، بحيث لا يبقى عليه غبار، فإن المملوك وحق المصحف ما يحمل عود ريحان. ومن التوجيه، في علم الرمل، قول الصاحب بهاء الدين زهير: تعلمت علم الرمل لما هرجتني ... لعلي أرى شكلا يدل على الوصل4 فقالوا طريق قلت يا رب للقا ... وقالوا اجتماع قلت يا رب للشمل ومن التوجيه في علم النجوم، قول بعضهم في كان وكان: لو سنبله خلف ظهره ... ناظر إليها المشتري5 ولو ذنب ما يقارن ... حتى يرى الميزان6 ومن التوجيه في علم الهندسة: محيط بأشكال الملاحة وجهه ... كأن بها إقليدسًا يتحدث7

_ 1 تحاشي: تداري. 2 الحواشي: جمع مفرده الحاشية وهي من كل شيء طرفه، والحاشية في الكتابة: الهامش. 3 الفضاح: صيغة مبالغة من فضح وهي المساوئ، والرقاع: جمع مفرده رقعة وهي ما يستعمل في الكتابة. 4 الرمل: نوع من التنبؤ: وهو عبارة عن كشف أمر مجهول بواسطة الرمل. 5 سنبلة والمتشري: من الكواكب. 6 ذنب: أي مذنب وهو من النجوم والميزان: من أبراج السماء. 7 إقليدس: صاحب نظريات في علم الهندسة.

فعارضه خط استواء وخاله ... به نقطة والشكل شكل مثلث وقول يوسف الذهبي بن لؤلؤ في توجيه علم الموسيقى: وبمهجتي المتحملون عشية ... والركب بين تلازم وعناق1 وحداتهم أخذت حجازًا بعدما ... غنت وراء الركب في عشاق ومثله قول شمس الدين بن جابر الأندلسي ناظم البديعية: يا أيها الحادي اسقني كأس السرى ... نحو الحبيب ومهجتي للساقي حي العراق على النوى واحمل إلى ... أهل الحجاز رسائل العشاق ومن التواجيه اللطيفة قول ابن نباتة، في أسماء متنزهات دمشق: يا حبذا يومًا بوادي حلق ... وتنزهي مع ذا الغزال الخالي من أول الجبهة قد قبلته ... مرتشفا لآخر الخلخال ومن التوجيه الغريب اللطيف قول ابن الوردي، ود كتب إلى بعض المخاديم بسب وظيفة القضاء، وأظنه لشيخ الإسلام شرف الدين بن البارزي: جنبتني وأخي تكاليف القضا ... وكفيتنا مرضين مختلفين يا حي عالم عصرنا أحييتنا ... فلك التصرف في دم الأخوين وقول بعض المواليا: لك خد يا حي عالم يا كميت الطرد ... عليه لو نفس صباره وحر وبرد2 ناداه والعارض النمام حولو فرد ... ما فاتك الحسن ساعة يا شقيق الورد وقد تقدم قولي: إن الشيخ شمس الدين بن الصايغ استشهد، في شرحه المسمى برقم البردة، بشيء من أزجال أهل عصره على بعض أنواع البديع. وتقدَّمت ترجمة الشيخ علاء الدين بن مقاتل الحموي، علأد ما أوردت له ما أوردت في أنواع الجناس، وقد ذكرت له هنا في باب التوجيه، زجلًا موجها في خياط أخبرني من أدرك الحاج علاء المذكور، من أعيان أهل حماة، أن هذا الرجل دخل إلى بلاد المغرب وعاد مخلقًا بالزعفران، ورتبة الشيخ علاء الدين بن مقاتل في هذا الفن مشهورة، شرقًا وغربًا، لم تحتج فيها إلى الإطناب فوضعه الزجل، ومطلعه:

_ 1 التلازم: من مصطلحات علم الموسيقى وهو ما يتكرر في آخر كل مقطع موسيقى "اللازمة". 2 صباره: شدة البرد والحر.

نهوى خياط سبحان تبارك من ... بالجمال جملوا بالمفصل وآية الكرسي ... نرقى شكلو الحلو1 خاط لي ثوب سقام قصر نسجو ... طال بحكم القدر حتى إن البدن لضعفي ضاع ... في عيون الإبر راح عذولي يشكلو شكلو ... ويقص الخبر وجا مذ بوح القلب متمزق ... ونسى أيش قلت لو ولا فرج لو كرب عن قلبو ... ولا عن مرسلو ذا الحسيني بلأيقة العشاق ... كم قد أخلا جيوب وبزرو من العيون كم لو ... تخرجه في القلوب قلت بصه ثملا لك الجيب زوَّر ... ولا فرج كروب خلا سري المكتوم مشهر فيه ... والذي يسألوا جيبو مقلوب وراب على غير ... الاستوا فصلو2 بعد طيب الوصال قطع وصلي ... وأوصل الانقطاع حتى خلى بيني وبين الموت ... أما باع أو ذراع3 وترى ظاهري صحيح لكن ... باطني في النزاع وإن هو طول شقة بعادي ... والانقطاع أوصلوا جهزوا القطن والكفن والما ... واغسلوا وفصلوا جا الفقيه ف حبيبي يعذلني ... ويرقع كلام قلت دعني فقيه في تمزيقي ... بس تلفيق ملام قال حبك لو ظلم سلاري ... تتري والسلام وسلب إسلامي لما حذرني ... عند باب منزلو وقطع عاتقي وضربني ... وايش معو يعملو ذا الخليع الجديد نهار قد قال لي ... لفظ وعقلي قمر صف جبيني وشعري من تفصيل ... نظمك المبتكر قلت خيط الصباح يستفتح ... ذيل الدجى في السحر قال لي قصرت بل هو ستر الله ... حين علي اسبلو حابك الزرقا فاتق الخضرا ... بالهلال كللو

_ 1 المفصل: من آيات القرآن الكريم، البين الواضح وضده المجمل. 2 راب: من أربى: زائد. 3 الباع: مقياس ما بين أطراف اليدين مفتوحتين مع الصدر.

قال فصفني في خدي والعارض ... فيها جمع الشتات وعليها دار الطراز تنبيت ... رقم ما أحلاه نبات قال ما هو إلا شرب والحمره ... دم من تقتلو فيه خلات خيوط زرق لاحت ... من جفون تغزلوا قلت كف العتاب في ذي الصفة ... ما أنا في ذا القياس وانظر في دايره تمنطقها ... بدر من غير قياس واكسني ثوب وقار ولبسني ... بالفتوة لباس وإن جا تخليصي غرض من يديك ... بالوصال طولوا وإن قصر باعي عن صفحات مدحك ... بالوفا ذيلوا1 جاز في بستان مشهر القمصان ... من بكر صابحو مثل كف المنثور في مكنونه ... حين وقف صافحو وقميص الشقيق من أكمامو ... بالخجل فاتحو وقضيب الخلاف وقف عراه ... فرق حين فصلوا وأوثق أزراره الورد في كمو ... وعليه فضلوا دي الكلام يتخلع ويتفرد ... ويفصل مليح ويفرج ويندرج أصلو ... ويفتح صحيح ويبطن من بعد تضريبو ... بالسجاف يستريح2 ويعري من حبكه التخريم ... ويزر رولو أنو يطوى والنشر فيه موزون ... آخرو في أوّلو ومنه يعرض بذكر أضداده بدمشق: ذا الزجل قاسيون على الأعدا ... جد ما فيه سخف3 وعلى أرباب المعرفة من ريش ... النعامات أخف للصغير والكبير فقل عني ... واحذر احذر تخف كم زيادة عن علي وإن كان ... يشتهوا يعملوا هذا الأبلق والشقرا والميدان ... اركبوا وادخلوا

_ 1 الباع: الهمة. 2 السجاف: نوع من القماش يركب على أطراف الثوب "التخريج". 3 قاسيون: جبل يشرف على دمشق. 4 الأبلق: من الخيل الذي اختلط سواد لونه بالبياض، والشقرا: من الخيول ما بين الأصفر والأحمر.

كأني بمتأمل نظر في رسم كتابة هذا الزجل، فأنكره لبعده عن رسم الألفاظ المعربة الخالية من اللحن، ويعذر في ذلك، لأنه ليس له إلمام بمصطلح رسمه؛ ومن رسمه على غير هذا الطريق لم ينفذ له مرسوم، فإنه يؤديه إلى خطأ وزنه، وعراف لحنه. ومصنفه، أبو بكر بن يحيى بن قرمان الوزير، قال في خطبته: وقد جردته من الإعراب، تجريد السيف من القراب. ولم يطلب من الزجل غير عذوبة ألفاظه وغرابة معانيه. انتهى. ومن التواجيه اللطيفة في الطب، ما اتفق أن بعض الملوك خرج لقتال أعدائه، فأيده الله بنصره، فطلب كاتب إنشائه ليكتب على الفور حكاية الحال، فتعذر وجوده في ذلك الوقت، فطلب طبيبيه وأمره بالكتابة بسرعة، وكان الطبيب حاذقًا فكتب موجهًا في صناعته: أما بعد فإنا كنا مع العدو في حلقة كدائرة البيمارستان3، حتى لو رميت مبضعًا لم يقع إلا على قيفال4، ولم يكن إلا كجس نبضة أو نبضتين، حتى لحق العدو بحران عظيم. فهلك بسعادتك يا معتدل المزاج. وكان أبو الحسين الجزار ونصير الدين الحمامي وسراج الدين الوراق لم يخرجوا عن هذا النوع في غالب نظمهم، ويأتي الكلام على ذلك في مواضعه من باب التورية، وأما توجيه أسماء أنواع البديع فهو نسيج وحده، وواسطه عقده وما ذاك إلا أنه رسم لي بإنشاء توقيع المقر الأخوي الزيني، عبد الرحمن بن الخراط الشافعي، أحد أعيان العصر في الأدب، بكتابة السر بثغر طرابلس، وأنا منشئ ديوان الإنشاء الشريف الميدي بالديار المصرية، فقصدت التوجيه بالأنواع المذكورة لتحصل الملاءمة ومراعاة النظير بذلك، فإن صاحب التوقيع من المتميزين على كلا الحالين بحسن الأدب، فمن ذلك قولي في فصل التعدية، وبعد فمنهل إنعامنا الشريف قد حلينا لأهل الأدب مورده، لتصير عقود إنشائنا بجواهر منثوره منضده، وتطلع كل براعة باستهلالها في أشرف الطالع، وتسكن النزاهة طباق البديع للمقابلة فيتنزه الناظر والسامع، ويقوم الاستخدام بما يجب عليه من واجب الخدمة، ويزيل الاقتباس بنوره عن أهلته كل ظلمة، وتجول خيول الاستطراد في رد العجز على صدره، ويحصل لأهل الأدب في زماننا تمكين فيظهر الافتتان في نظمه ونثره، ويصير لفقه المذهب الكلامي في أيامنا الشريفة ترشيح ومماثلة ومناسبة، ويبرز في توشيح التسليم من غير اعتراض مناقضة ومواربة، ويجنح العصيان إلى الدخول تحت الطاعة، ويسمع القول بموجبه من غير مراجعة في كل براعة، ويزول التجاهل بالعارف، ويصير التسجيع والمواربة عند إيجازه بالمواقف.

_ 1 البيمارستان: المستشفى "فارسية معربة". 2 القيفا: الوريد الذي في جانب العضد "معربة".

وكان المجلس العالي القضائي عبد الرحمن بن الخراط الشافعي ممن حسن بيانه إيضاح، وللسر عنده حسن إيداع، وللأدب إليه التفات، لأنه بجواهر ترصيعه يشنف الأسماع، وهو الفاضل الذي إذا نظم أزال، بسهولة نظمه، الإبهام والتوهيم، وإذا نثر عقود الإنشاء فلا فرق بين عبد الرحمن وعبد الرحيم، يحسن في المطالعة والأمثلة الشريفة طيه ونشره، وهو من الشعراء فيما يبعد من القصص إذا علا في تفسيرها أمره، فلذلك رسم بالأمر الشريف لا زالت براعة المطلب منظومة في بديع زمانه بإنعامه، ولا برحت أبوابه الشريفة في تصريع وتشريع لوفود أهل الأدب في أيامه، أن يستقر لأنه ممن يحسن في التحبير، ويحصل به الاكتفاء والتتميم، ويجمع من نظمه ونثره بين التحميس والترسل، فيحسن الجمع بهذا التقسيم، فليباشر ذلك ويجعل الاستعانة بالله، ليأمن من التنكيت والتعليل، ويصير لشقة الإنشاء بعد النقص تسهيم وتكميل، ويظهر لبرد الكلام بحسن تفصيله تفويف وتوشيع1. ولأصول التهذيب والتأديب مبالغة وتفريع، والوصايا كثيرة لا تخفى على الأديب الفاضل، الاحتراس والفرق بين المستوي والمقلوب، وبه يحصل النسق في جميع الفرائد، وتظهر براعة التخلص في عنوان كل مطلوب، لأنه الفاضل الذي إن سكن ثغرًا لم يفته شنب التورية بحسن نظامه، أو جاور بحرًا فهو أديب والبحور في تصريف أوامره في نقضه وإبرامه، والله تعالى يجعل نظم هذا الثغر بحسن أدبه في بلاغة وانسجام، وكما أحسن له الابتداء يعضده بديع السموات والأرض بحسن الختام. وقد طال الشرح في نوع التوجيه ولم يبق للإطالة وجه. وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في هذا النوع: خلت الفضائل بين الناس ترفعني ... بالابتداء فكانت أحرف القسم الشيخ صفي الدين قصد في توجيه بيته بعض قواعد النحو، وهو بيت عامر بالمحاسن. وقد تقدَّم ما أوردناه من هذا القسم. وبيت بديعيتي: وأسود الخال في نعمان وجنته ... لي منذر منه بالتوجيه للعدم التوجيه، في هذا البيت، من القسم المقدم على التوجيه في قواعد العلوم، وقد تقدم فيه أن يوجه المتكلم كلامه، إلى أسماء متلائمة اصطلاحًا من أسماء الأعلام،

_ 1 التوشيع: التوشيه وهو أحد مصطلحات علم البديع.

توجيهًا مطابقًا لمعنى اللفظ الثاني من غير اشتراك حقيقه، بخلاف التورية، وقد تقدم ذلك، وتقرر الكلام عليه وعلى التوجيه في قواعد العلوم وبقية الفنون، وعلى كل تقدير، فالكل راجع إلى طريق واحد، والاشتراك هنا في النعمان، والمنذر ظاهر، ولكن في النكتة اللطيفة في الأسود، فإن المتأمل ما يتخيل، في أول وهلة، غير سواد الخال وجل القصد في المعنى الآخر، هو الملك الأسود أخو النعمان بن المنذر، وهو أحد ملوك العرب، والتورية ههنا، في التوجيه الذي هو اسم النوع البديعي، لم يفتها من المحاسن وجه، وهذا هو الأفق الذي أقمر فيه الشيخ علاء الدين الوداعي، والقاضي محي الدين بن عبد الظاهر، وغيرهما، ممن أوردنا على هذا النوع نظمه، وأوصلنا الغرض لما أطلق فيه سهمه، وما أخرت بيت العميان وبيت الشيخ عز الدين، ونثرت نظم الترتيب هنا، إلا لأنهم نسجوا على غير هذا المنوال، وتعوضوا عن مسارح الماء الحلو بالآل1. وبيت العميان: ترى الغني لديهم والفقير وقد ... عادا سواء فلازم باب قصدهم هنا بحث لطيف، وهو أن العميان نظموا التوجيه بين التسمية التي تحتمل وجهين من المعنى، على مذهب المتقدمين وهو الإبهام، وقد تقرر أن المتكلم فيه يبهم المعنيين، بحيث لا يترشح أحدهما على الآخر بقرينة، واستشهدوا عليه بشاهد الإبهام الذي نزلوه على التوجيه، وهو قول الشاعر في الخياط، وقد تقدم: ليت عينيه سواء. فالشاعر أبهم المعنين، بحيث يتحير السامع والمتأمل ويعجز عن ترجيح أحدهما. ولم أر في بيت العميان غير التسوية، بين الغني والفقير، فإن هؤلاء الممدوحين يعطون الفقير إلى أن يصير مساويًا للغني، وهذا هو المنى الواحد، وهو أوضح من ضوء الشمس إذ توقدت جمرة المصيف، وأما المعنى الآخر، فما وجدت في بيتهم له قرينة صالحة تدلني عليه، وصاحب البيت أدرى بالذي فيه. وقد تقدم أن نوع التوجيه قسمه البديعيون قسمين، وذهب إلى كل منهما فريق. وبيت الشيخ عز الدين مذبذب. {بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ} 2 وهو: نزهت طرفي وسمعي في محاسنه ... وعنك إن تقصد التوجيه في الكلم

_ 1 الآل: السراب. 2 النساء: 4/ 143.

أصحاب الطريق الذي مشى عليها الشيخ عز الدين، في نظم هذا النوع، قالوا: التوجيه الاصطلاحي أن يحتمل الكلام وجهين من المعنى، وهذا هو الفرق بين التورية والتوجيه، فإن التورية باللفظة الواحدة والتوجيه لا يصح إلا بعدة ألفاظ، والشيخ عز الدين أتى بكلمة مفردة تحتمل معنيين، فما نظم غير التورية والتوجيه بخلاف ذلك، والكلمة التي اقتضت اشتراك المعنين قوله: نزهت، فإنه قال إنه نزه طرفه في محاسن محبوبه، وكأنه التفت إلى العذول وقال له وعنك وهو بيت العميان سافلان خاليان ليس فيهما من المحاسن ساكن، والله أعلم.

ذكر عتاب المرء نفسه

ذكر عتاب المرء نفسه: يا نفس ذوقي عتابي قد دنا أجلي ... مني ولم تقطعي آمال وصلهم هذا النوع أعني، عتاب المرء نفسه، لم أجد العتب مرتبًا إلا على من أدخله في البديع وعده من أنواعه وليس بينهما نسبة، والذوق السليم أعدل شاهد على ذلك، ولولا أن الشروع في المعارضة ملزم ما نظمت حصاه مع جواهر هذه العقود، ونهاية أمره أنه صفة لحال واقعة ليس تحتها كبير أمر، وهو من أفراد ابن المعتز، ولم يورد فيه غير بيتين ذكر أن الأسدي أنشدهما عن الجاحظ، وهما: عصاني قومي في الرشاد الذي به ... أمرت ومن يعص المجرب يندم فصبرًا بني بكر على الموت إنني ... أرى عارضًا ينهل بالموت والدم1 قال زكي الدين بن أبي الأصبع، وقوله صحيح: لم أر في هذين البيتن ما يدل على عتاب المرء نفسه، إلا أن هذا الشاعر لما أمر بالرشاد، وبذل النصح ولم يطع، ندم على بذل النصيحة لغير أهلها، ويلزم من عتابه لنفسه، فتكون دلالة البيتين على عتابه لنفسه دلالة التزامية، لا دلالة المطابقة، ولا يصلح أن يكون شاهدًا على هذا النوع، إلا قول شاعر الحماسة: أقول لنفسي في الخلاء ألومها ... لك الويل ما هذا التجلد والصبر انتهى كلام ابن أبي الأصبع، فانظر ما أحلى ما صرح هذا الشاعر بذكر النفس واللوم لها، وخاطبها بكاف الخطاب، ليتمكن عتبه وتقريعه المؤلم لها.

_ 1 العارض: السحاب الممطر، ينهل: ينهمر.

وبيت الشيخ صفي الدين الحلي فيه: أنا المفرط أطلعت العدوّ على ... سري وأودعت نفسي كف مجترم1 الشيخ صفي الدين حكى أنه فرَّط في اطلاع عدوه على سره، وإيداع نفسه كف مجترم لا غير، وأين هو من قول شاعر الحماسة، وقد قال لنفسه على سبيل العتب والتوبيخ: لك الويل ما هذا التجلد والصبر. والعميان لم ينظموا هذا النوع في بديعيتهم. وبيت الشيخ عز الدين الموصلي: عتبت نفسي إذ أتبعتها بهوى ... مجهول سبل بلادها دولا علم2 الشيخ عز الدين حكى أيضًا أنه عاتب نفسه، وذكر أنه هو الذي أتعبها وكلفها حمل الهوى، فالعتاب هنا من كل وجه لم يترتب على غيره، وما مقدار هذا النوع حتى إن الشاعر لم يأت به على صيغته، لا سيما ونظام البديعيات قد التزموا أن ياتوا به شاهدًا على نوعه. وبيت بديعيتي: يا نفس ذوقي عتابي قد دنا من أجلي ... مني ولم تقطعي آمال وصلهم أقول: إن هذ البيت ينظر إلى بيت شاعر الحماسة في علو طباقه، وإن كان من الفحول التي لها فضيلة السبق، فقد زاحمه في حلبة سباقه، مع أن عروس التسمية يضوع عطرها من أطواق الطروس، يقول مزكوم الذوق وقد عاد له الشم: لا عطر بعد عروس، وأين هذا النشر الواضح، والرقة التي ود النسيم لو انتظم معها وانسجم، من عقادة بيت الشيخ عز الدين، وقد أمسى بها مجهولًا بلا هاد ولا علم.

_ 1 المجترم: المجرم. 2 سُبل: جمع مفرده سبيل وهو الطريق، العلم: الراية أو ما يهتدى به.

ذكر القسم

ذكر القسم: برئت من أدبي والعز من شيمي ... إن لم أبر بنأي عنهم قسمي القسم أيضًا حكاية حال واقعة، وليس تحته كبير أمر، ولكن تقرر أن الشروع في المعارضة ملزم، وهو أن يقصد الشاعر الحلف على شيء، فيحلف بما يكون له مدحًا وما يكسبه فخرًا وما يكون هجاء لغيره، فمثال الأول، قول مالك بن الأشتر النخعي في معاوية بن هند: بقيت وفري وانحرفت عن العلا ... ولقيت أضيافي بوجه عبوس1 إن لم أشن على ابن هند غارة ... لم تخل يومًا من ذهاب نفوس فقول ابن الأشتر تضمن المدح لنفسه والفخر الزائد والوعيد للغير، ومثله قول أبي على البصير، يعرض بعلي بن الجهم: أكذبت أحسن ما يظن مؤملي ... وهدمت ما شادته لي أسلافي وعدت عاداتي التي عودتها ... قدمًا من الأسلاف والأخلاف وغضضت من ناري ليخفى ضوؤها ... وقريت عذرًا كاذبًا أضيافي2 إن لم أشن على عليّ خلة ... تمسي قذى في أعين الأشراف3 وقد يقسم الشاعر بما يريده الممدوح ويختاره، كقول الشاعر: إن كان لي أمل سواء أعدّه ... فكفرت نعمتك التي لا تكفر

_ 1 الوفر: الغنى. 2 غضضت: خففت، قريت: أطعمت. 3 الخلة: بضم الخاء الصداقة.

وأحسن ما سمع في القسم على المدح قول الشاعر: حفت بمن سوَّى السماء وشادها ... ومن مرج البحرين يلتقيان1 ومن قام في المعقول من غير رؤية ... فأثبت في إدراك كل عيان لما خلقت كفاك إلا لأربع ... عقائل لم تعقل لهن ثواني2 لتقبيل أفواه وإعطاء نائلٍ ... وتقليب هندي وحبس عنان والمقدم في هذا الباب، وهو الذي انتهت إليه نهاية البلاغة، قوله تعالى: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} 3 فإنه قسم يوجب الفخر، لتضمنه التمدح بأعظم قدرة وأكمل عظمة حاصلة من ربوبية السماء والأرض، وتحقيق الوعد بالرزق، وحيث أخبر سبحانه وتعالى أن الرزق في السماء وأنه رب السماء، يلزم من ذلك قدرته على الرزق الموعود به دون غيره. انتهى الكلام على القسم الذي يراد به الفخر والمدح والتعظيم. وأما ما جاء من القسم في النسيب فكقول الشاعر: جنى وتجنى والفؤاد يطيعه ... فلا ذاق من يجني عليه كما يجني فإن لم يكن عندي كعيني ومسمعي ... فلا نظرت عيني ولا سمعت أذني ومما جاء من القسم في الغزل قول ابن المعتز: لا والذي سل من جفنيه سيف ردى ... قدت له من عذاريه حمائله4 ما صارمت مقلتي دمعًا ولا وصلت ... غمضًا ولا سالمت قلبي بلابله5 الذي وقع عليه الاتفاق أن هذا أحسن ما وقع من القسم في الغزل، إذ القسم والمقسم عليه كل منهما داخل في باب الغزل، ولكن، قال الشيخ زكي الدين بن أبي الأصبع: إن الذي وقع لجميل بن معمر العذري في هذا الباب، ما تحسن العبارة تفصح عن لفظه ووصفه، وهو قوله على لسان محبوبته: قالت وعيش أبي وأكبر إخوتي ... لأنبهبن الحي إن لم تخرج فخرجت خيفة أهلها فتبسمت ... فعلمت أن يمينها لم تلجج6

_ 1 البيت عبارة عن آيتين من القرآن الكريم مع بعض التغيير، مَرَجَ: خلط. 2 عقائل: مفردها عقيلة وهي الفتاة الكريمة، تعقل: تربط ثواني: واحدة ثانية مثلها. 3 الذاريات: 51/ 23. 4 حمائل: السيف: مكان تعليقه في الرحل. أو في وسط الفارس. 5 صارمت: قاطعت، بلابل القلب: هواجسه والأفكار التي تحركه. 6 هذان البيتان يرويان لعمر بن أبي ربيعة وهما بشعره أشبه، والشطر الثاني من البيت الثاني منهما يروى كما يلى: فعلمت أن يمينها لم تحرج -والإحراج: المضايقة لم تلجج: لم تلح في الأمر أو لم تتردد من: تلجلج إذا تردد.

ثم قال، أعني ابن أبي الأصبع: رحم الله جميلًا لقد تظرف في هذين البيتين ما شاء، لأنه أتى بهما من باب الهزل الذي يراد به الجد، وأغرب في القسم فيهما، وأدمج في القسم حسن ائتلاف اللفظ مع المعنى، وأتى بما لا يوفيه واصف حقه. انتهى كلام ابن أبي الأصبع. قلت: وإذا وصلنا في القسم إلى باب الهزل الذي يراد به الجد، فهذب الدين بن منير الطرابلسي قائد هذا العنان، وفارس هذا الميدان، وما ذاك إلا أنه هاجر إلى مدينة السلام بغداد، والشريف الموسوي نقيب الأشراف بها، وبابه حرم الوافدين، وينابيع الفضل التي هي مناهل الواردين. وكان يقال إن الشريف المشار إليه من كبار الشيعة ببغداد، وعلى هذا أجمع غالب الناس، فجهز إليه ابن منير عند قدومه بغداد هدية مع مملوكه تتر، بل معشوقه الذي اشتهر به في الخافقين غرامه، وأبدع في أوصافه الجميلة نظامه، فقبل الشريف هديته، واستحسن المملوك فأدخله في الهدية، وقصد أن يعوضه على ذلك بأضعافه، فلما شعر ابن منير بذلك التهبت أحشاؤه على مملوكه بل معشوقه تتر، وكتب إلى الشريف على الفور قصيدة أولها: عذبت قلبي يا تتر ... وأطرت نومي بالفكر ومنها: بالمشعرين وبالصفا ... والبيت أقسم والحجر1 وبمن سعى فيها وطا ... ف به ولبى واعتمر إن الشريف الموسوي ... بن الشريف أبي مضر أبدى الجحود ولم يرد ... إليَّ مملوكي تتر واليت آل أمية ... الطهر الميامين الغرر وجحدت بيعة حيدر ... ورجعت عنه إلى عمر وإذا جرى ذكر الصحابة ... بين جمع واشتهر قلت المقدم شيخ ... تيم ثم صاحبه عمر2 ما سل قط ظبا على ... آل النبي ولا شهر

_ 1 الحجر: الحجر الأسود، وهو من المقدسات الإسلامية. 2 شيح تيم من ألقاب أبي بكر.

كلا ولا صد البتو ... ل عن التراث ولا زجر1 وأثابها الحسنى وما ... شق الكتاب ولا بقر2 وبكيت عثمان الشهـ ... ـيد بكاء نسوان الحضر وشرحت حسن صلاته ... جنح الظلام المعتكر ورثيت طلحة والزبـ ... ـير بكل شعر مبتكر وأزور قبرهما وأز ... جر من لحاني أو زجر3 وأقول أم المؤمنين ... عقوقها إحدى الكبر4 ركبت على جمل لتصـ ... ـبح من بنيها في زمر وأتت لتصلح بين جيـ ... ـش المسلمين على غرر فأتى أبو حسن وسل ... حسامه وسطًا وكر وأذاق إخوته الردى ... وبعير أمهم عقر ما ضره لو كان كف ... وعف عنهم إذ قدر وأقول إن إمامكم ... ولى بصفين وفر وأقول إن أخطا معا ... وية فما أخطا القدر هذا ولم يغدر معا ... وية ولا عمرو مكر5 بطل بسوأته يقا ... تل لا بصارمه الذكر وجنيت من ثمر النوا ... صب ما تتمر واختمر وأقول ذنب الخارجـ ... ـين على عليٍّ يغتفر لا ثائر لقتالهم ... في النهراون ولا أشر والأشعري بما يؤ ... ول إليه أمرهما شعر6 قال انصبوا لي منبرًا ... فأنا البريء من الخطر

_ 1 البتول: المنقطعة إلى عبادة الله وهو من ألقاب فاطمة الزهراء عليها السلام ابنة النبي. 2 أثابها: كافأها، يقر: العلم توسع فيه ومنه لقب محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، بالباقر: أي المتبحر في العلوم والمتوسع فيها. 3 أزجر: أطرد، لحاني: لامني. 4 الكبر: الكبائر من الذنوب والمعاصي. وهي التي تدخل النار ولا تغفر. 5 معاوية هو معاوية بن أبي سفيان. وعمرو هو عمرو بن العاص. أحد الحكمين في حرب صفين. 6 الأشعري: هو أبو موسى أحد الحكمين في حرب صفين.

فعلا وقال خلعت صا ... حبكم وأوجز واختصر وأقول إن يزيد ما ... شرب الخمور ولا فجر ولجيشه بالكف ... عن أبناء فاطمة أمر وحلقت في عشر المحرم ... ما استطال من الشعر ونويت صوم نهاره ... وصيام أيام أخر ولبست فيه أجل ثو ... ب للملابس يدخر وسهرت في طبخ الحبو ... ب من العشاء إلى السحر وغدوت مكتحلًا أصا ... فح من لقيت من البشر ووقفت في وسط الطريـ ... ـق أقص شارب من عبر وغسلت رجلي ضلة ... ومسحت خفي في السفر وأمين أجهر في الصلا ... ة كمن بها قبلي جهر1 وأسن تسنيم القبو ... ر لكل قبر محتفر وإذا جرى ذكر الغدير ... أقول ما صح الخبر2 ولبست فيه من الملا ... بس ما اضمحل وما دثر وسكنت جلق واقتديت بهم ... وإن كانوا بقر3 وأقول مثل مقالهم ... بالفاشر يا قد فشر4 مصطيحتي مكسورة ... وفطيرتي فيها قصر5 نفر يرى برئيسهم ... طيش الظليم إذا نفر6 وخفيفهم مستثقل ... وصواب قولهم هدر وطباعهم كجبالهم ... طبعت وقدَّت من حجر ما يدرك التشبيب تغـ ... ـريد البلابل في السحر

_ 1 أمين: هي آمين: اسم فعل أمر بمعنى استجب. 2 الغدير: إشارة إلى غدير خم وحديث النبي فيه حيث قال -صلى الله تعالى عليه وسلم: "من كنت مولاه فهذا على مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه كيف دار". 3 جلق: مكان في دمشق، وذلك إشارة إلى أنه سكن مع أهل الشام وصار مثلهم يؤيد معاوية. 4 فشر: لم نعثر على معنى لهذه اللفظة في ما بين أيدينا ونظنها عامية بمعنى: لا يمكن له أن يصل إلى هذا الأمر. 5 مصطيحتي وفطيرتي: نوعان من أنواع الخبز الأولى مستطيلة والثانية مثلثة، وتؤدمان بزبدة أو نحوها. 6 الظليم: ذكر النعام ويضرب به المثل في الطيش عند تنفيره.

وأقول في يوم تحا ... ر له البصيرة والبصر والصحف ينشر طيها ... والنار ترمي بالشرر هذا الشريف أضلني ... بعد الهداية والنظر فيقال خذ بيد الشريـ ... ـف فمستقر كما سقر1 لواحة تصطو فما ... تبقي علي ولا تذر والله يغفر للمسى ... ء إذا تنصل واعتذر فاخش الإله بسوء فعـ ... ـلك واحتذر كل الحذر وإليكها بدوية ... رقت لرقتها الحضر شامية لو شامها ... قس الفصاحة لافتخر ودرى وأيقن أنني ... بحر وألفاظي درر وبديعتي كبديعة ... عذراء ترفل في الحبر2 خبرتها فغدت كزهـ ... ـر الروض باكره المطر وإلى الشريف بعثتها ... لما قراها فانبهر رد الغلام وما استمر ... على الجحود ولا أصر وأثابني وجزيته ... شكرًا وقال لقد صبر أقول إنه يغتفر لي طول الشرح لغرابة أسلوب هذه القصيدة، فإني لم أرج بها عن القصد، لأنها مبنية على القسم وجوابه من البراعة إلى الختام، وأما هزلها الذي يراد به الجد فإنه غاية لا تدرك، وطريق ما رأينا لغيره فيها مسلك وبيت الشيخ صفي الدين في بديعيته على هذا النوع، أعني القسم، نسجه على المنوال الأول الذي هو مبني على المدح والفخر والتعاظم وعلو الهمة، وهو قوله: لا لقبتني المعالي بابن بجدتها ... يوم الفخار ولا بر التقى قسمي3 هذا البيت منسوج على المنوال المذكور، لكن فيه نقص لأنه غير صالح للتجريد، ولم يأت ناظمه بجواب القسم، إلا في بيت الاستعارة الذي ترتب بعده، وهو: إن لم أحث مطايا العزم مثقلة ... من القوافي تؤم المجد عن أمم4

_ 1 سقر: من أسماء جهنم. وهذا البيت والذي بعده والبيتان اللذان قبله عبارة عن آيات قرآنية تصرف فيها الشاعر. 2 الجبر: واحدتها حبرة وهي من الثياب الفضفاض الناصع البياض. 3 ابن بجدتها: أي عالمها. والبجدة: من الأمر حقيقته وباطنه. 4 أمم: قرب.

وأصحاب البديعيات شرطوا أن يكون كل بيت شاهدًا على نوعه بمجرده، وإذا كان البيت له تعلق بما بعده أو بما قبله لا يصلح أن يكون شاهدًا على ذلك النوع. ولقد عجبت للشيخ صفي الدين، كيف فتر عزمه وقصرت همته، عن هذا القدر الذي يتطاول إلى إدراكه كل قاصر، وأين هو من قول القائل في طريقته الغرامية التي حركت السواكن، حيث قال: حرمت الرضا إن كنت خنتك في الهوى ... وعوقبت بالهجران إن كنت كاذبا انظر ما أحلى ما أتى بالقسمين وجوابيهما في بيت واحد، مع عدم التعسف والرقة التي كادت أن تسيل. والعميان لم ينظموا هذا النوع في بديعيتهم. وبيت الشيخ عز الدين الموصلي: برئت من أدبي والعز من شيمي ... إن لم أبر بنأي عنهم قسمي2 وهذا البيت مبني على الفخر والتعاظم وعلو الهمة. وفي قولي: والعز من شيمي غاية الفخر، ولكن اللطف الزائد قول الأديب، في القسم: برئت من أدبي، مع التورية التي ترفل في حلل الحشمة، وتسمية النوع والتقفية به لا تخفى على أهل الذوق من أهل الأدب، والله أعلم.

_ 1 الشم: العالي، أدِن: اعتبر نفسي مدينًا. 2 النأي: البعد.

ذكر حسن التخلص

ذكر حسن التخلص: ومن غدا قسمه التشبيب في غزل ... حسن التخلص بالمختار من قسمي حسن التخلص: هو أن يستطرد الشاعر المتمكن، من معنى إلى معنى آخر يتعلق بممدوحه، بتخلص سهل يختلس اختلاسًا رشيقًا دقيق المعنى، بحيث لا يشعر السامع بالانتقال من المعنى الأول إلا وقد وقع في الثاني، لشدة الممازجة والالتئام والانسجام بينهما، حتى كأنهما أفرغا في قالب واحد. ولا يشترط أن يتعين المتخلص منه، بل يجري ذلك في أي معنى كان، فإن الشاعر قد يتخلص من نسيب أو غزل، أو فخر أو وصف روض أو وصف طلل بال أو ربع خال، أو معنى من المعاني يؤدي إلى مدح أو هجو أو وصف في حرب، أو غير ذلك، ولكن الأحسن أن يتخلص الشاعر من الغزل إلى المدح. والفرق بين التخلص والاستطراد، أن الاستطراد يشترط فيه الرجوع إلى الكلام الأول، أو قطع الكلام، فيكون المستطرد به آخر كلامه، والأمران معدومان في التخلص، فإنه لا يرجع إلى الأول ولا يقطع الكلام، بل يستمر على ما يتخلص إليه. وهذا النوع، أعني حسن التخلص، اعتنى به المتأخرون دون العرب ومن جرى مجراهم من المخضرمين، ولكنه لم يفتهم، فإنهم أوردوا لزهير في هذا الباب قوله: إن البخيل ملوم حيث كان ... ولكن الكريم على علاته هرم1 انظر إلى هذا العربي القديم، كيف أحسن التخلص من غير اعتناء، في بيت

_ 1 هرم: هرم بن سنان وقد سبقت الإشارة إلى هذا البيت.

واحد، وهذا هو الغاية القوى عند المتأخرين الذين اعتنوا به. وعلى كل تقدير فمن كلام العرب استنبط كل فن، فإنهم ولاة هذا الشأن، لكنهم كانوا يؤثرون عدم التكلف، ولا يرتبكون من فنون البديع إلا ما خلا من التعسف. فمن ذلك قول الفرزدق، وأجاد إلى الغاية: وركب كأن الريح تطلب عندهم ... لها ترة من جذبها بالعصائب1 سروا يخبطون الليل وهي تلفهم ... إلى شعب الأكوار من كل جانب2 إذا آنسوا نارًا يقولون ليتها ... وقد حضرت أيديهم نار غالب ومثله قول أبي نواس: تقول التي من بيتها خف محملي ... يعز علينا أن نراك تسير ما دون مصر للغنى متطلب ... بلى إن أسباب الغنى لكثير فقلت لها واستعجلتها بوادر ... جرت فجرى في إثرهن عبير3 دعيني أكثر حاسديك برحلة ... إلى بلد فيه الخصيب أمير ومثله في الحسن قوله: وإذا جلست إلى المدام وشربه ... فاجعل حديثك كله في الكاس4 وإذا نزعت عن الغواية فليكن ... لله ذاك النزع لا للناس وإذا أردت مديح قوم لم تمن ... في مدحهم فادمح بني العباس5 أقول: إن هذه الطريق التي مشى عليها أبو نواس ومن تقدمه من المتقدمين، ممن أوردت نظمه في هذا الباب، وهي حسن التخلص بيت واحد باستطراد رشيق، ينتقل الشاعر به من الشطر الأول إلى الشطر الثاني، فاتت فحولًا من الشعراء كالبحتري وأبي تمام في غالب القصائد، على أنهما المقدمان في هذا الشأن. وقد تقرر أن حسن التخلص ما كان في بيت واحد، يثب الشاعر من شطره الأول إلى الثاني وثبة تدل على رشاقته وقوته وتمكنه في هذا الفن. وإذا لم يكن التخلص

_ 1 التِرة: الثأر. 2 يخبطون: يسيرون على غير هدى، الأكوار: جمع مفرده الكورة وهي الناحية والمكان. 3 البوادر: أوائل الدموع. 4 الشَرْب: الذين يشربون الخمر. 5 مان: يَمْين والأمر مُنْ، والمصدر المين وهو الكذب والنفاق.

كذلك سمي اقتضابًا، وهو أن ينتقل الشاعر من معنى إلى معنى آخر من غير تعلق بينهما، كأنه استهل كلامًا آخر. وعلى هذه الطريقة مشى غالب العرب، وغالب المخضرمين وكثير من شعراء المولدين، فمن ذلك قول البحتري في قصيد، وقد جرى في ميادين غزلها إلى أن قال من غير ارتباط: وردنا إلى الفتح بين خاقان إنه ... أعم ندى فيكم وأيسر مطلبا وهذه النبذة التي أبرزتها هنا، من نظم المتقدمين في حسن التخلص، عزيزة الوجود، فإنها ما تيسرت إلا بعد الجهد في جمعها. وهذا النوع البديعي ما اعتنى به غير حذاق المتأخرين، وما نسجوه جميعه إلا على المنوال المذكور. ولعمري إنها طريقة بديعة، ونوع من السحر يدل على رسوخ القدم في البلاغة. وتمكن الذهن من البراعة، وإن لم يكن كذلك لم يعد من أنواع البديع. والقرائح تختلف فيه وتتفاوت، وقد عنَّ لي أن أنبه على قبح المخالص التي لا تعد من أنواع البديع، لينفتح ذهن المبتدئ في هذا الفن، فمن ذلك قول أبي الطيب المتنبي، وإن كانت له المخالص الفائقة: غدا بك كل خلو مستهاما ... وأصبح مستور خليعًا أحبك أو يقولوا جر نمل ... ثبيرًا وابن إبراهيم ريعا1 انظر ما أبرد هذا الخلص وأشد تعسفه، ومعناه أنه علق انقضاء حبها على غير ممكن، وهو أن يجر النمل الجبل المسمى ثبيرًا وأن يخاف ممدوحه، فجعل خوف الممدوح نظير جر النمل لثبير ليقرر أن كلًا منهما من المستحيلات، ومن تخاليصه القبيحة أيضًا قوله: عل الأمير يرى ذلي فيشفع لي ... إلى التي تركتني في الهوى مثلًا وسبب قبح هذ المخلص، كونه جعل ممدوحه ساعيًا بينه وبين محبوبته في الوصال، ولا خفاء في دنو هذه المرتبة، وقد سبقه أبو نواس إلى ذلك، ولكنه أقل شفاعة، مع أن الكل قبيح، حيث قال: سأشكو إلى الفضل بن يحيى بن خالد ... هواك لعل الفضل يجمع بيننا وقد سبقهما إلى ذلك قيس بن ذريح، حين طلق لبني وتزوَّجت غيره فندم على ذلك وشبب بها في كل معنى، فرحمه ابن أبي عتيق، فسعى في طلاقها من زوجها، وأعادها إلى قيس، فقال يمدحه:

_ 1 ريعا: من الروع وهو الخوف.

جزى الرحمن أفضل ما يجازي ... على الإحسان خيرًا من صديق فقد جربت إخواني جميعًا ... فما ألفيت كابن أبي عتيق سعى في جمع شملي بعد صدع ... ورأي حدت فيه عن الطريق وأطفأ لوعة كانت بقلبي ... أغصتني حرارتها بريقي فلما سمعها ابن أبي عتيق قال لقيس: يا حبيب أمسك عن هذا المدح فما يسمعه أحد إلا ظنني قواد. ومن المخالص التي استحسنوها للبحتري قوله: رباع تردت بالرياض مجودة ... بكل جديد الماء عذب الموارد إذا راوحتها مزنة بكرت لها ... شآبيب مجتاز عليها وقاصد1 كأن يد الفتح بن خاقان أقبلت ... عليها بتلك البارقات الرواعد ومن المخالص المستحسنة، لأبي تمام، قوله من قصيدة: ما زلت عن سنن الوداد ولا غدت ... نفسي على إلف سواك تحوم لا والذي هو عالم أن النوى ... مر وأن أبا الحسين كريم2 هذا المخلص مقدم على مخالص البحتري من وجوه: أحدها، التخلص من النسيب إلى المدح، والثاني حسن الانسجام، والثالث، وهو جل القصد، الوثبة في بيت التخلص من الشطر الأول إلى الشطر الثاني بأسرع اختلاس. وهذا الذي عقد المتأخرون الخناصر عليه. وصار لهم فيه اليد الطولى، ومثله قوله من قصيدة: فالأرض معروف السماء قرى لها ... وبنو الرجاء لهم بنو العباس ومن مخالص أبي الطيب الفائقة، قوله من قصيدة يمدح بها أبا أيوب، أحمد بن عمران بن ماهويه، مطلعها: سرب محاسنه حرمت ذواتها ... داني الصفات بعيد موصوفاتها معنى هذا المطلع في غاية الحسن والغرابة، فإنه يقول هذا سرب حيل بيني وبين كل حسناء منه، وهذه الحسناء صفاتها دانية عند ذكرها بالقول، ولكن ذاتها الموصوفة بعيدة، ولم يزل في غرابة هذا الأسلوب إلى أن قال متحمسًا:

_ 1 الشآبيب: حمع مفرده شؤبوب وهو الدفعة من المطر الشديد. 2 النوى: الغربة، والبعد.

ومطالب فيها الهلاك أتيتها ... ثبت الجنان كأنني لم آتها أقبلنها غرر الجياد كأنما ... أيدي بني عمران في جبهاتها أقول: سبحان المانح هذا هو السحر الحلال، والشرب الذي أمست المشارب لصافية عنده كالآل. ومثله في الغرابة التي هي من معجزات المتنبي، قوله من قصيدة مدح بها علي بن عامر، ويعرض بذكر أبيه عامر ومدحه بعد وفاته، مطلعها: أطاعن خيلا من فوارسها الدهر ... وحيدًا وما قولي كذا ومعي الصبر وما أحلى ما قال بعده: وأعجب من ذا كل يوم سلامتي ... وما ثبتت إلا وفي نفسها أمر ولم يزل ينفث بصدق عزائمه، في هذا السحر الذي سحر به العقول، وخلب القلوب، إلى أن قال: ويوم وصلناه بليل كأنما ... على أفقه برقه حلل حمر وليل وصلناه بيوم كأنما ... على متنه من دجنه حلل خضر1 وغيث ظننا تحته أن عامرًا ... علا لم يمت أو في السحاب له قبر ومثله قوله، من قصيدة دالية يمدح بها سيف الدولة بن حمدان مطلعها: عواذل ذات الخال فيَّ حواسد ... وإن ضجيع الخود مني لماجد2 وما ألطف ما قال بعده: يردّ يدًا عن ثوبها وهو قادر ... ويعصي الهوى في طيفها وهو راقد ولما انتظم له هذا الدر في هذه الأسلاك البديعية قال: خليليَّ إني لا أرى غير شاعر ... فكم منهم الدعوى ومني القصائد فلا تعجبا أن السيوف كثيرة ... ولكن سيف الدولة اليوم واحد ومن مخالص أبي العلاء أحمد بن سليمان، على طريق المديح، فإنه لم يكن من طلاب الفرد، قوله من قصيدة: ولو أن المطي لها عقول ... وحقك نشد لها عقالا

_ 1 دجنه: ظلمته الشديدة. 2 الخود: المرأة الشابة.

مواصلة بها رحلي كأني ... من الدنيا أريد بها انتقالا سألن فقلن مقصدنا سعيد ... فكان اسم الأمير لهن فالا1 هذا المخلص أيضًا من العجائب، فإن الشيخ أبا العلاء سبكه في قالب التورية والاتفاق البديع، وكان اسم الأمير في فالهم سعيدًا، والعرب ما برحوا يتفاءلون بالاسم الحسن ويتطيرون من ضده، ومما استحسن لابن حجاج من المخالص قوله: ألا يا ماء دجلة لست تدري ... بأني حاسد لك طول عمري ولو أني استطعت سَكَرْت سِكرًا ... عليك فلم تكن ماء تجري فقال الماء قل لي كل هذا ... بم استوجبته يا ليت شعري فقلت له لأنك كل يوم ... تمر على أبي الفضل بن بشر تراه ولا أراه وذاك شيء ... يضيق عن احتمالك فيه صبري قال صاحب المثل السائر، حين أورد هذه الأبيات: ما علمت معنى في هذا المقصد أبدع ولا أعذب ولا أرق ولا أحلى من معنى هذا اللفظ، ويكفي ابن حجاج من الفضيلة أن يكون له مثل هذه الأبيات. قلت: ولعمري إن المخلص والأبيات بكمالها، دون إطناب ابن الأثير في الوصف. ولكن قال زكي الدين بن أبي الأصبع، في كتابه المسمى بـ"تحرير التحبير" لما انتهى إلى هذا النوع، أعني حسن التخلص: إذا وصلت إلى ابن حجاج في هذا الباب فإنك تصل إلى ما لا تدركه الألباب، فمن ذلك قوله على طريقته المعهودة منه: وقد بادلتها فمبالها لي ... بمشورة استها ولها قذالي2 كما لابن لعميد جميع مدحي ... ودنيا ابن العميد جميعها لي ومن المخالص الفائقة قول الأستاذ أبي الحسن مهيار بن مرزويه الكاتب، من قصيدة بائية يمدح بها الأمير سيف الدولة ابن مزيد مطلعها: هب من زمانك بعض الجد للعب ... واهجر إلى راحة شيئًا من التعب ولم يزل ماشيًا على هذا السنن إلى أن قال: تسعى السقاة علينا بين منتظر ... بلوغ كأس ووثاب بمستلب كأنما قولنا للبابلي أدِر ... سلافة قولنا للمزيدي هب

_ 1 فالا: أي يتفاءلون به. 2 المبال: مكان خروج البول، الإست: مكان خروج فضلات الطعام من الجسم، والأديب الحق يربأ بنفسه وبكتبه، عن ذكر فاحش القول ...

ومثله قوله من قصيدة حائية، يمدح بها الأستاذ أبا طالب بن أيوب: يامن ثناياه التي ... غولطت عنها بالأقاحي غلط المقايس ابن أيـ ... ـوب السحابة في السماح ويعجبني من مخالصه قوله، من قصيدة رائية يمدح بها فخر الملك ولم يزل يرفل في حلل غزلها ونسيبها إلى أن قال: أرى كبدي وقد بردت قليلا ... أمات اللهم أم عاش السرور أم الأيام خالفتني لأني ... بفخر الملك منها أستجير ومما يعجبني، أيضًا إلى الغاية، قوله، من قصيدة عينية يمدح بها الوزير عميد الدولة مطلعها: لو كان يرفق ظاعن بمشيع ... ردُّوا فؤادي يوم كاظمة معي ولم يزل يطلق العنان في هذه الحلبة إلى أن سبق إلى غاية قال فيها: إن شاء بعدهم الحيا فلينسكب ... أو شاء ظل غمامه فليقع فمقيل جسمي في ذويل ربوعهم ... كاف وشربي من فواضل أدمعي كرمت جفوني في الديار فأخصبت ... فغنيت أن أرد المياه وارتعي فكأن دمعي مدّ من أيدي بني ... عبد الرحيم ومائها المستنبع وما أحلى ما قال بعده، وهو مخلص آخر: وكأن ليلي من تفاوت طوله ... أسيافهم موصولة بالأدرع ولم أكثر من محاسن مهيار هنا إلا لعلمي بغرابة شعره، وعزة وجود ديوانه. ومن المخالص التي تصلح أن تكون واسطة في هذا العقد، قول أفقه الشعراء، وأشعر الفقهاء، كما قال: وهو القاضي أبو بكر أحمد الأرجاني، من قصيدة يمدح بها ولي الدين الكاتب مطلعها: وعدت باستراقة للقاء ... وبإهداء زورة في خفاء1 وما أحلى ما قال بعده: ثم غارت من أن يماشيها الظـ ... ـل فسارت في ليلة ظلماء

_ 1 الزورة: الزيارة.

ثم خافت لما رأت أنجم الليـ ... ـل شبيهات أعين الرقباء فاستنابت طيفًا يلم ومن يمـ ... ـلك عينًا تهم بالإغفاء1 هكذا نيلها إذا نولتنا ... وعناء تسمح البخلاء يهدم الانتهاء باليأس منها ... ما بناه الرجاء الابتداء ولم يزل راتعًا في هذه الحدائق الغضة إلى أن قال: تركتني معنيًا لمغانٍ ... وأعادت أصدقائي رنقت مشربي وقد كان عين الشمـ ... ـس والماء دونه في الصفاء2 بعد عهدي بعيشتي وهي خضرا ... تتثنى كالبانة الغناء وأموري كأنها ألفات ... خطهن الولي في الاستواء ومن جواهر مخالصة المنتظمة في هذا المسلك قوله، من قصيدة رائية يمدح بها سديد الدولة محمد بن عبد الكريم الأنباري، مترسل الخلافة وكاتب إنشائها، مطلعها: سلا رسومًا أقامت بعدما ساروا ... أعندها من أهيل الحي أخبار3 وروِّحا عاتقي من حملها مننًا ... للسحب فيها وللأجفان أستار4 ولم يزل مبدرًا5 في هذا الأفق النير إلى أن قال: أقسمت ما كل هذا الضيم محتمل ... ولا فؤادي على ما شمت صبار إلا لأنك مني اليوم نازلة ... في القلب حيث سديد الدولة الجار ومن مخالصه الصافية التي مازجها بسلاف التورية قوله، من قصيدة بائية يمدح بها شهاب الدين أحمد بن أسعد الطغرائي مطلعها: إذا لم يخن صب ففيم عتاب ... وإن لم يكن ذنب فمم متاب وما ألطف ما قال بعده: أجل ما لنا إلا هواهم جناية ... فهل عندهم غير الصدود عقاب

_ 1 ألم الطيف: مر بسرعة. 2 رنقت مشربي: عكّرته وخلطت ماءه بالتراب. 3 الرسوم: الأطلال والبقايا، أُهيل: تصغير أهل للتحبب. 4 روح: أراح. 5 مبدرًا: أي مشرقًا كالبدر.

ولم يزل سائرًا في سهولة هذه الجادة إلى أن قال: فلا تكثرن شكوى الزمان فإنما ... لكل ملم جيشة وذهاب1 وقد كان ليل الفضل في الدهر داجيًا ... إلى أن بدا للناظرين شهاب والأرجاني أيضًا نظمه غريب في هذه البلاد، فلذلك أوردت منه هنا هذه النبذة اللطيفة، والله أعلم. وقد آن لي أن أقدم مقدم النتائج، من أشعار المتأخرين في هذا النوع، فإنهم رياحين حدائقه، وأقمار مشارقه، فالمقدم هنا قاضيهم الفاضل الذي ارتفع الخلاف بقضائه، ونفذ حكمه بالموجب على ملوك هذه الصناعة، وتقدم باستيفاء شرائط التقديم، فصلى خلف إمامته الجماعة. فمن مخالصه الفاضلية، قوله من قصيدة يمدح بها خليفة الفاطميين في ذلك العصر، مطلعها: ترى لحنيني وحنين الحمائم ... جرت فحكت دمعي دموع الغنائم وما أحلى ما قال بعده: وهل من ضلوع أو ربوع ترحلوا ... فكل أراها دارست المعالم2 دعوا نفس المقروح تحمله الصبا ... وإن كان يهفو بالغصون النواعم تأخرت في حمل السلام عليكم ... لديها لما قد حملت من سمائم3 فلا تسمعوا إلا حديثًا لناظري ... يعاد بألفاظ الدموع السواجم4 فإن فؤادي بعدكم قد فطمته ... عن الشعر إلا مدحه لابن فاطم ومثله قول العلامة الشيخ شرف الدين عبد العزيز الأنصاري، شيخ شيوخ حماة، من قصيدة دالية يمدح بها النبي صلى الله عليه وسلم، مطلعها: ويلاه من نومي المشرد ... وآه من شملي المبدَّد ولم يزل يدير على خصور هذه الألفاظ الرقيقة، وشاحات معانيه البديعية، إلى أن قال: أكسبني نشوة بطرف ... سكرت من خمره فعربد5

_ 1 ملم: مار 2 دارسات: المعالم: أي لا أثر فيها يعلم بإقامتهم. 3 السمائم: جمع مفرده سموم وهي الريح الحارة التي تهب عادة من جهة الجنوب. 4 السواجم: جمع مفرده ساجم وهو الدائم الانصباب. 5 النشوة: قمة اللذة، العربدة: السكر الشديد المصحوب بالتيه.

غصن نقا حل عقد صبري ... بلين خصر يكاد يعقد فمن رأى ذلك الوشاح الصا ... ئم صلى على محمد ومثله قوله من قصيدة يمدح بها المالك الناصر صلاح الدين يوسف مطلعها: لنا من ربة الخالين جاره ... تواصل تارة وتصد تاره تعاملني بما يحلى سلوى ... ولكن ليس في جوفي مراره ولم تزل أعين هذا الغزل الرقيق تغزله إلى أن قال: وقالوا قد خسرت الروح فيها ... فقلت الربح في تلك الخساره بأيسر نظرة أسرت فؤادي ... كما نشأ اللهيب من الشراره ويفتك طرفها فيقول قلبي ... أشن ترى صلاح الدين غاره ومثله قوله من قصيدة يمدح بها الملك الأمجد: ظبية حكم ظبا مقلتها ... عزة الظبي وذل الأسد1 كنت في ترك الهوى مجتهدا ... وهي كانت زلة المجتهد كملت حسنًا فلولا بخلها ... خلتها بعض خلال الأمجد ومن المخالص التي نقلتها من ناصح بن قلاقس قوله، من قصيدة يمدح بها أبا المنصور نور الدين محمود عين الأمراء بالديار المصرية: ماذا على العيس لو عادت بربتها ... بقدر ما نتقاضاها المواعيدا2 رد الركاب لأمر عنَّ في خلدي ... وسمه في بديع الحب ترديدا وقف أبثك ما لان الحديد له ... فإن صدقت فقل هل أبت داودا3 حلت عرا النوم عن أجفان ساهرة ... رد الهوى هديها بالنجم معقودا تفجرت وعصا الجوزاء تضربها ... فأذكرتني موسى والجلاميدا وما أحلى ما قال بعده كناية عن طول الليل: يا ثعلب الصبح يا سرحان أوله ... كل الثريا فقد صادقت عنقودا4

_ 1 الظبا: للسيف حده وشفرته مفردها ظبة. 2 العيس: الجمال مفردها أعيس. 3 آب: عاد ورجع. داود: هو النبي داود عليه السلام وإليه تنسب صناعة الدروع الداودية الحديدية. كما ورد في القرآن الكريم قوله جل وعلا: { ... وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ، أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} سبأ، 34/ 10 و11. 4 السرحان: الذئب.

ولم يزل ينثر هذه العقود الثمينة، مع تفخيم هذا النظم، إلى أن قال: ما لي وما للقوافي لا أسيرها ... إلا وأقعد محرومًا ومحسودا أسكرتهم بكئوس الراح مترعة ... ولم أنل منهم إلا العرابيدا1 سمعت بالجود مفقودًا فهل أحد ... يقول إني وجدت الجود موجودا الحمد لله لا والله ما نظرت ... عيناي بعد أبي المنصور محمودا هذا المخلص خلاه نصر الله بن قلاقس، مع زيادة حسنه، بشعار التورية. ومثله قوله من قصيدة يمدح بها الشيخ سديد الدين المعروف بالحصري مطلعها: أروه الجلنار من الخدود ... وأخفوا عنه رمان النهود2 وقال بعده: وحلوا مقلتيه بدرّ دمع ... تبسم في المخانق والبرود3 وما غرسوا نخيل العيس إلا ... وهم فيها من الطلع النضيد4 سقى مصرًا وساكنها ملث ... طليل البرق صخاب الرعود موارد بي لها ظمأ شديد ... ولكن لا سبيل إلى الورود هل الرأي السديد البعد عنها ... نعم إن كان للشيخ السديد ويعجبني من مخالص القاضي السعيد هبة الله بن سنا الملك قوله، من قصيدة يمدح بها القاضي الفاضل، أتى فيها بحسن لتخلص، ولم يخلص من إشراك عيون الغزل، لغرابة أسلوبها: ضنت بطرف ظل بعدي سقمه ... أرأيتم من ضن حتى بالضنى يا عاذلين جهلتم فضل الهوى ... وعذلتم فيه ولكني أنا إني رأيت الشمس ثم رأيتها ... ماذا علي إذا هويت الأحسنا وسألت من أي المعادن ثغرها ... فوجدت من عبد الرحيم المعدنا وما أحلى ما قال بعد المخلص: أبصرت جوهر ثغرها وكلامه ... فعلمت حقًّا أن هذا من هنا

_ 1 مترعة: مليئة، العرابيد: المجون والتهتك: مفردها عربدة. 2 الجلنار: زهر الرمان، النهود: جمع مفرده نهد وهو الثدي إذا نهد وارتفع في الصدر 3 المخانق: جمع مفرده المخنقة. وهي القلادة، والبرود: مفرده برد: وهو الثوب الفضفاض والموشى. 4 الطلع: من النخل شيء يطلع كأنه نعلان والحَمْلُ بينهما منضود، نضيد: منضود، مصفوف.

ومثله قوله من قصيدة يمدح به الملك المعظم مطلعها: تقنعت لكن بالحبيب المعمم ... وفارقت لكن كل عيش مذمم1 وما أحلى ما قال بعده: وباتت يدي في طاعة الحب والهوى ... وشاحًا لخصر أو وسادًا لمعصم ما أبدع ما قال منها: سعدت ببدر خده برج عقرب ... فكذب عندي قول كل منجم2 وأقسم ما وجه الصباح إذا بدا ... بأوضح مني حجة عند لومي ولا سيما لما مررت بمنزل ... كفضلة صبر في فؤادي متيم وما بان لي إلا بعود أراكة ... تعلق في أطرافه ضوء مبسم سبحان المانح! والله لقد أحرز القاضي السعيد قصبات السبق برقة هذه الألفاظ وغرابة هذه المعاني، ولقد خلب القلوب وجلا ظلمة الأفهام، بقوله: وما بان لي إلا بعود أراكة ... تعلق في أطرافه ضوء مبسم وأظنه من المخترعات، والله أعلم، وما أحلى ما قال بعده: وقفت به أعتاض عن لثم مبسم ... شهي لقلبي لثم آثار منسم3 ولم ير طرفي قط شملًا مبددا ... يقابله إلا بدمع منظم ولم يسل قلبي أو فمي عن غزالة ... وعن غزل إلا بمدح المعظم ومن المخالص البديعة قول الصاحب بهاء الدين زهير من قصيدة يمدح بها الأمير نصير الدين اللمطي، مطلعها: لها خفر يوم اللقاء خفيرها ... فما بالها ضنت بما لا يضيرها4 وما ألطف ما قال بعده: أعدتها أن لا يعاد مريضها ... وسيرتها أن لا يفك أسيرها5

_ 1 المعمم: السيد الذي يقلده القوم أمهرم ويلجأون إليه، مذمم: مذموم لشظفه وقساوته. 2 برج العقرب: من الكواكب. 3 المنسم: خف البعير. 4 الخفر: الحياء، الخفير: الحارس، ضنت: بخلت 5 عاد المريض: زاره.

ولم يزل هائمًا في طريقه الغرامية، إلى أن قال: وها أنا ذا كالطيف فيها صبابة ... لعلي إذا نامت بليل أزورها هذا المعنى قلبه الصاحب بهاء الدين زهير على من تقدمه فيه، وسبكه في أغرب القوالب البديعية، وأظنه من مخترعاته. ثم قال بعده: من الغيد لم توقد مع الليل نارها ... ولكنها بين الضلوع تثيرها تقاضى غريم الشوق مني حشاشة ... مروعة لم يبق إلا يسيرها وإن الذي أبقته منها يد الهوى ... فداء يشير يوم وافى نصيرها هذا المخلص استبعد الصاحب بهاء الدين زهيرًا رقيق ألفاظه، بحشمة توريتة. ومثله في الحسن قوله من قصيدة يمدح بها الملك الناصر صلاح الدين بن العزيز مطلعها: عرف الحبيب بمكانه فتدللا ... وقنعت منه بموعد فتعللا وما أظرف ما قال بعده: وأرى الرسول ولم أجد في وجهه ... بشرًا كما قد كنت أعهد أولا ولم يزل يدير كاسات صباباته الغرامية إلى أن قال: آها لقلب ما خلا من لوعة ... أبدًا يحن إلى زمان قد خلا ورسوم جسم كان يحرقه الهوى ... لو لم تبادره الدموع لأشعلا ولقد كتمت حديثه وحفظته ... فوجدت دمعي قد رواه مسلسلا1 أهوى التذلل في الغرام وإنما ... يأبى صلاح الدين أن أتذللا وما أحلى ما قال بعد المخلص: مهدت بالغزل الرقيق لمدحه ... وأردت قبل الفرض أن أتنفلا2 ويعجبني أيضًا من مخالص القاضي كمال الدين بن نبيه قوله من قصيدة يمدح بها الخليفة الناصر لدين الله مطلعها: باكر صبوحك أهنى العيش باكره ... فقد ترنم فوق الأيك طائره3

_ 1 رواه: حكاه. أو من الري والسقاية. 2 أتنفل: أصلي النوافل وهي من الصلاة غير الواجبة. 3 الأيك: واحدته أيكة وهي الشجر الكثيف الملتف.

ثم قال بعده: والليل تجري الدراري في مجرته ... كالروض تطفو على نهر أزاهره1 وكوكب الصبح نجاب على يده ... مخلق تملأ الدنيا بشائره2 ولم يزل يتلاعب بهذه المعاني المخترعة إلى أن قال: خذ من زمانك ما أعطاك مغتنمًا ... وأنت ناه لهذا الدهر آمره فالعمر كالكأس تستحلى أوائله ... لكنه ربما مجت أواخره3 واجسر على فرص اللذات محتقرًا ... عظيم ذنبك إن الله غافره فليس يخذل في يوم الحساب فتى ... والناصر ابن رسول الله ناصره ويعجبني من مخالصه الموسويات قوله، من قصيدة مطلعها: يا نار أشواقي لا تخمدي ... لعل ضيف الطيف أن يهتدي ولم يزل راتعًا في رياض غزلها إلى أن قال: غازلنا من نرجس ذابل ... وافتر عن نور أقاح ندي4 وقام يلوي صدغه قائلًا ... لا تغترر به فكذا موعدي فقلت يالله مات الوفا ... فقال موسى لم يمت خذ يدي وقوله من المخالص الأشرفيات الموسويات، في بيت المخلص الذي يستغني بتمكنه وقوته عن ذكر ما قبله: يا طالب الرزق إن سدت مذاهبه ... قل يا أبا الفتح يا موسى وقد فتحت ومن مخالصه الأشرفيات أيضًا قوله من قصيدة: بتنا وقد لف العناق جسومنا ... في بردتين تكرم وتعفف حتى بدا فلق الصباح كجحفل ... راياته رنك المليك الأشرفِ5

_ 1 المجرة: مجموعة كبيرة من النجوم تبدو كالوشاح في عرض السماء. 2 نجاب: صيغة مبالعة من نجب: وهو الذي يلد النجباء وهم الأخيار، المخلّق: المعروف المميز. 3 مج: عاف 4 افتر: كشف عن أسنانه عند التبسم، أقاح جمع مفرده أقحوانة، وهي أزهار مفلجة بيضًا ناصعة. 5 الجحفل: الجيش العظيم الكثير، الرنك: شعار الملوك والأمراء الأتراك والمماليك.

ويعجبني من مخالصه الأشرفيات، أيضًا، قوله من قصيدة: يذود شبا القنا عن وجنتيها ... كمنع الشوك للورد الجني إذا ما رمت أقطفه بعيني ... يقول حذار من مرعى وبي1 لسان السيف من أدنى وُشاتي ... ومن رقباي طرف السمهري2 كأن لجفنها في كل قلب ... فعال المشرفي الأشرفي3 ويعجبني من مخالص الشاب الظريف، شمس الدين محمد بن العفيف، قوله من قصيدة يمدح بها القاضي فتح الدين عبد الله الظاهر، تحمس في غزلها وتغزل في تحمسها إلى المخلص، مطلعها: أرح يمينك مما أنت معتقل ... أمضى الأسنة ما فولاذه الكحل وما أحلى ما قال بعده: يا من يريني المنايا واسمها نظر ... من السيوف المواضي واسمها مقل ما بال ألحاظك المرضى تحاربني ... كأنما كل لحظ فارس بطل من دونها كثب من دونها حرس ... من دونها قضب من دونها أسل4 ومعشر لم تزل في الحرب تبصرهم ... حمر الخدود وما من شأنها الخجل يثني حديث الوغى أعطافم طربًا ... كأن ذكر المنايا بينهم غزل5 من كل ذي طرة سوداء يلبسها ... وشيبها من غبار النقع منتصل6 ضاءت بحسنهم تلك الخيام كما ... ضاءت بوجه ابن عبد الظاهر الدول وطالعت تقطيف الجزار فأعبجني منه مخلص قصيدة يمدح بها الأمير جمال الدين، موسى بن يغمور، مطلعها: نقلت لقلبي ما بجفنيك من كسر ... وعلمت جسمي بالضنى رقة الخصر

_ 1 وبي: أي وبيل، ومرعى وبي أي سيء العاقبة. 2 وشاة: مفردها واشٍ، وهو الذي ينقل الأخبار، رقباي: أي رقبائي، مفردها رقيب وهو المراقب، السمهري: المرح المنسوب إلى سمهر وهو من أصلب الرماح. 3 المشرفي: السيف القاطع. 4 الأسل: الرماح. 5 الوغى: الحرب. 6 الطرة: الثوب المكفف، النقع: غبار المعارك، المنصل: المغطى.

ولم يزل الجزار يتقطف ما تشتهيه النفس، من هذا النوع، إلى أن قال: وهيفاء تحكي الظبي جيدًا ومقلة ... رنت وانثنت فارتعت بالبيض والسمر1 جسرت على لثم الشقيق بخدّها ... ورشف رضاب لم أزل منه في سكر2 ولست أخاف السحر من لحظاتها ... لأني بموسى قد أمنت من السحر وما أحلى ما قال بعد تخلصه بموسى: فتى إن سطا فرعون فقر وجدته ... يغرقه من جود كفيه في بحر له باليد البيضاء أعظم آية ... إذا اسودت الأيام من نوب الدهر ومن مخالص الشيخ جمال الدين بن نباتة، التي هي أوقع في القلوب من خالص الوداد، وتوريتها أنفس من خلاصة العقود في الأجياد، قوله من قصيدة يمدح بها قاضي القضاة تاج الدين السبكي، مطلعها: وا حيرتي بظلام الطرة الداجي ... وشقوتي بنعيم الملمس العاجي ولم يزل يكرر حلاوة هذا النبات إلى أن قال: قد أسرج الحسن خديه فدونك ذا ... سراج خد على الأكباد وهاج3 وألجم الغزل فاركض في محبته ... طرف الهوى بعد إلجام وإسراج4 وقسم الشعر فاجعل في محاسنه ... شذر القلائد واهد الدر للتاج ومثله قوله، من قصيدة يمدح بها القاضي جمال الدين بن الشهاب محمود، مطلعها: بأبي نافر كثير الدلال ... إن هذا النفار شأن الغزال5 م قال بعده: حبذا منه مقلة لست أدري ... أبهدب تصول أم بنبال6 صنفت شجونا بغزال جفن ... فقرأنا مصنف الغزالي

_ 1 الهيفاء: الدقيقة الخصر، تحكي: تشبه، الظبي؛ الغزال، رنت: نظرت، البيض والسمر: الأصل: السيوف والرماح، وربما قصد الشاعر هنا: الأسنان والشفاه. 2 جَسَر: تجرّأ، الشقيق: زهر أحمر قان، يعرف بشقائق النعمان، رشف: شرب، الرضاب: الريق. 3 أسرج: أشعل السراج، وألبس السرج للدابة. 4 ألجم: وضع اللجام في فم الدابة ليمنعها من الأكل أو ليحسن السيطرة عليها. 5 النافر: المقاطع، الهارب من النفور. 6 الهدب: الرمش تجمع على أهداف: رموش. وهي الشعر الذي ينبت على الجفن.

وهوينا حلو القوام فنادت ... لا عجيب حلاوة العسال1 من معيني على هوى زاد حتى ... أهملته نصائح العذال لو رأى عاذلي حقيقة أمري ... لرثاني ولا أقول رثى لي في جمال الحبيب مت شجونًا ... وبروحي أفدي تراب الجمال ومثله قول الشيخ برهان الدين القيراطي، من قصيدة يمدح بها الأمير سيف الدين الكريمي، مطلعها: غرامي فيك يا قمري غريمي ... وذكرك في دجى ليلي نديمي2 وقال بعده: وملّني الحميم وصد عني ... ومالي غير دمعي من حميم3 وكم سأل العواذل عن حديثي ... فقلت لهم على العهد القديم وعم تسألون ولي دموع ... تخبرهم عن النبأ العظيم4 ولم يزل القيراطي يحرّر إبريز5 هذه المعاني إلى أن قال: فمعوده وناظره وجسمي ... سقيم من سقيم في سقيم كريمٌ مال بخلًا عن ودادي ... فلمتُ لنحو مخدوم كريم المخالص بالتورية، على هذا النمط، طريقها مخوف وباب مسلكها مقفل، لا سيما على من كفه من هذا الفن صفر ورجله حافية وليس له محمل. ومن مخالصي التي ما برحت التورية في أبواب بيوتها خادمه، وكم سلكت هذا الطريق المخوف وعادت إلى بيوتها سالمه، قولي من قصيدة أمتدح بها شرف الدين صدقة ابن الشماع الشهير في دمشق بابن مسعود، وكان من أعز الأصحاب، وممن رشف معنا في ذلك العصر سلافة الآداب، مطلعها: سهام جفنيك في الحشا رشقة ... رفقًا لما مهجة الشيحي درقه6

_ 1 العسال: الذي يستخرج العسل. 2 الغريم: العدو اللدود. 3 حميم: صديق. 4 هذا البيت هو عبارة عن آية قرآنية غير فيها الشاعر حتى تتناسب والشعر: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ، عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ} النبأ: 78/ 1 و2 5 الإبريز: الذهب والفضة. 6 الدرقة: الترس من جلد خالص.

وبكر هذه القافية أنا أبو عذرتها، وأول من حصل له الفتح في تحريك نكتتها، وقلت بعد المطلع منها: أنفقت عمري وصحتي شغفا ... عليك والصبر آخر النفقة غصن خلاف يميس من خفر ... قلوبنا في هواه متفقه قوامه في اعتداله إلف ... سبحان من مده ومن مشقه1 عيناي بالثغر مع ذوائبه ... في أوَّل الاصطباح مغتبقه2 أمير حسن بقرطه ظهرت ... له جنود لكن من الحلقه عامر بيت الوصال خربه ... وقال ما أنت هذه الطبقه بدر منير قسا برؤيته ... لكن نرى عند خده شفقه قالوا لبدر التمام منه ضيا ... قلت وعيش الهوى لقد محقه3 وحمل الصبح من محاسنه ... أثقال نور لكنه فلقه وماس في الروض كل غصن نقا ... غدا إلى الله رافعًا ورقه وانظر إلى الظبي كيف يرمقه ... ويأخذ الغنج منه بالسرقه فقيل والظبي ما يقابل ... فقلت والله ما له حدقه4 قلت له إن جفن مقلته ... يشبه سهمًا بعجبه رشقه خفت من القتل رحت أملقه ... سابقني مدمعي جرى ملقه5 ولم أزل ناشرًا علم التورية إلى أن وصلت إلى المخلص بها فقلت: طرقت بب الحبيب والرقبا ... عليَّ من خيفة اللقا حنقه6 قالوا فما تبتغي فقلت لهم ... حتى تخلصت أبغي صدقه قولي: حتى تخلصت، لا يخفى ما في من زيادة الحسن على أهل النظر من أهل الأدب، ومثله قولي من قصيدة مصغرة مدحت بها قاضي القضاة شمس الدين النويري، مطلعها: طريفي من لييلات الهجير ... مقيريح الجفين من السهير9

_ 1 مشق: أطال. 2 الاغتباق: شرب الخمرة مساء. 3 محقه: أدخله في المحاق وهي من منازل القمر حيث لا تمكن رؤيته لعدم إضاءته. 4 الحدقة: سواد العين. 5 أملقه: أتقرب إليه، ملقه: جريان الدمع بسب ضرب العين. 6 حَنقَه: جمع مفرده حانق وهو الغاضب. 7 القصيدة كلها مصغرة: طُريفي تصغير: طريفي، لييلات تصغير ليلات، الهجير: تصغير الهجر مقيريح: تصغير مقروح: أي مجروح- الجفين: الجفن- السهير: السهر، وهكذا كل ألفاظ القصيدة.

وقلت بعد المطلع: بعيد غزيلي وجوير قلبي ... دميعي في وجيناتي جويري يديوي تريكي المحيا ... غويب عن عويشقه الحضير عبيسي اللحيظ له وجيه ... ضوي نويره لبني بديري حياء مقيلتيه سبا عقيلي ... ولكن الحديد غدا جميري رويض وجينتيه له عنيدي ... نسيب في النظيم إلى زهير مسيبل الشعير على كفيل ... يذكرنا مويجات البحير بدير في الظهير له نوير ... مثيل شكيله ما في العصير حويجبه القويس له سهيم ... مويض في القلب بلا وتير شفيفته قفيل من عقيق ... مقيفيل على درّ الثغير عذيره النويزل دار حتى ... تشوق للنزيل وللدوير لثمت خديده فجرى دميعي ... فما أحلى الزهير على النهير دنينير الوجيه له بقلبي ... نقيد ليس يصرف عن صديري أتاه سويئلًا يومًا دميعي ... فقال أنا جعيدي الشعير شهير وصيله عندي يويم ... ويوم هجيره مثل الشهير تبسم لي سحيرًا عن رويض ... فقلت ولي دميع كالمطير نثرت دميعتي بنظيم ثغر ... فما أحلى النظيم مع النثير لفيظك والمقيلة مع نظيمي ... سحير في سحير في سحير شعيرك مذ أضل عويشقيه ... هدينا في الظليمة بالنوير ولم أستطرد إلى غالب أبيات هذه القصيدة إلا لغرابة أسلوبها، فإنني لم أزل أجذب القلوب إلى تحبيب تصغيرها، ومغازلة عيون أغزالها، إلى أن أبدر بدر مخلصها في أفق توريته. ومثله قولي من قصيدة كتبت بها من حماة الحروسة إلى المقر المرحومي الأميني، صاحب ديوان الإنشاء الشريف، بدمشق المحروسة: يا نزلا لا حمى الفراديس بالشا ... م وأعلامهم على قاسيونا1

_ 1 الفراديس: جمع مفرده فرادس وهو الرجل الضخم العظام. أو جمع فردوس وهو البستان، قاسين: جبل يشرف على دمشق.

بالنسيم العليل منكم إذا ... هب على الغور والربا عللونا وارحموا سائل الدموع وبالله ... عليكم لا تنهروا السائلينا وإذا ما نهرتم الدمع نهرًا ... لا تخوضو فيه مع الخائضينا حبكم فرضنا وسيف جفاكم ... قد غدا في بعادنا مسنونا والحشا لم تخن عهود وفاكم ... وسلوا من غدا عليها أمينا ومثله قولي، من قصيدة كتبت بها من طرابلس المحروسة، إلى سيدنا قاضي القضاة تقي الدين بن الخيثمي الحنفي بحماة المحروسة، نور الله ضريحه وجعل من الرحيق المختوم غبوقه وصبوحه: فيا ساكني مغنى حماة نعمتم ... صباحًا ولو ألغيتم في الورى ذكري فودي ودّي مثل ما تعهدونه ... ولكن صبري عنكم عاد كالصبر وقد كنت أخشى هجركم قبل بعدكم ... فلما بعدتم قلت آها على الهجر وإن جلت في ميدان نظمي تشوقًا ... تسابقني حمر المدامع بالنثر وشيعيٌّ همي كلما رام بعدكم ... يحاربني ناديت يا لأبي بكر قد تقدم وتقرر أن مخالص التورية صعب مسلكها على كثير من الناس، ولم أبرز بدورها هنا كاملة إلا ليزول عن الطالب ظلمة الالتباس. وأنشدني، من لفظه لنفسه الكريمة، أحد أعيان العصر المقر المجدي فضل الله بن مكانس، فسح الله في أجله مخلصًا من غزل إلى مديح نبوي وهو: كم حمد السامعون وصفي ... لغادة قينة وأغيد فعدت عنه تقي وعودي ... لمدح خير الأنام أحمد هذا المخلص حلاه المقر المجدي بشعار التورية، وخفر المديح النبوي، ومخلص الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته: من كل معربة الألفاظ معجمة ... يزينها مدح خير العرب والعجم الشيخ صفي الدين تخلص في بيت واحد، ووثب من شطره الأول إلى شطره الثاني على الشرط المعروف، وهذا المنوال قد تقرر أنه عليه عقدت خناصر المتأخرين، ولكن الشيخ صفي الدين وثب وثبة ضعيفة دلت على ضعف تخلصه، فإن بيته بمفرده غير صالح للتجريد. وقد تقدم القول على بيت القسم من قصيدة أنه غير صالح للتجريد أيضًا، فإنه لم يأت بجواب قسمه إلا في بيت الاستعارة، وعلى كل تقدير، إن لم يؤت ببيت القسم

وبيت الاستعارة قبل بيت التخلص، لم يحصل به فائدة، ولا يصير على مخلصه طلاوة الأدب، ويصير بينه وبين الأذواق السليمة مباينة، وقد تعين أن أورد بيت القسم وبيت الاستعارة هنا ليصيرا لمخلصه الضعيف تكأتين وهما: لا لقبتني المعالي بابن بجدتها ... يوم الفخار ولا برّ التقى قسمي1 إن لم أحث مطايا العزم مثقلة ... من القوافي تؤم المجد عن أمم2 من كل معربة الألفاظ معجمة ... يزينها مدح خير العرب والعجم3 وابن الشيخ صفي الدين الحلي من قول كمال الدين بن نبيه وقد تقدم: يا طالب الرزق إن سدت مذاهبه ... قل يا أبا الفتح يا موسى وقد فتحت هذا المخلص لحسن تجريده يستغني به عن قصيدة. وقد تقرر أن نظام البديعيات التزموا أن يكون كل بيت منها شاهدًا على نوعه بمجرده، ليس له تعلق بما قبله ولا بما بعده. ومخلص العميان مثل مخلص الشيخ صفي الدين الحلي أيضًا، فإنه غير صالح للتجريد، وما تتم به الفائدة إن لم يأت ناظمه بما قبله، وعلى مذهب أصحاب البديعيات ما يصلح أن يكون شاهدًا، وهو: يمم بنا البحر إن الركب في ظمإ ... فقلت سيروا فهذا البحر عن أمم وقد تقدم قولي: إن العميان أتوا في براعة الاستهلال بصريح المدح، وهو قولهم فيها: بطيبة انزل ويمم سيد الأمم ... وانشر له المدح وانثر طيب الكلم فإذا حصل التصريح بالمدح في المطلع الذي هو براعة الاستهلال، لم يبق لحسن التخلص موقع، فإن حسن التخلص من شرطه أن يخلص الشاعر من الغزل، إلى المديح، لا من المديح إلى المديح، وأيضًا فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن له في المخلص ذكر، ولكنه استغنى بذكر البحر فإنه جعله كناية عن كرم النبي -صلى الله عليه وسلم-. ومخلص الشيخ عز الدين في بديعتيه: حسن التخلص من ذنبي العظيم غدا ... بمدح أكرم خلق الله كلهم

_ 1 ابن بجدتها: سيدها والعارف بها. 2 مثقلة: محملة حملًا ثقيلًا، تؤم: تقصد، أمم: قرب. 3 معجمة: منقطة من الإعجام وهو وضع النقاط على الحروف.

الشيخ عز الدين صرح بذكر حسن التخلص في أول البيت هنا، وجل القصد أن يكون التصريح به في الشطر الثاني، مع أنه لم يأت بحسن التخلص على الشروط المقررة، فإنه انتقل من معنى إلى معنى آخر من غير تعلق بينهما، كأنه استبدأ كلامًا آخر. وقد تقدم القول في أول الباب: إن هذا النوع إذا نسج على هذا المنوال سمي اقتضابًا، ولم يكن له حظ في حسن التخلص، فإن الشيخ عز الدين قال قبل مخلصه: وارع النظير من القوم الأولى سلفوا ... من الشباب ومن طفل ومن هرم ثم قال بعده: حسن التخلص من ذنبي العظيم غدا ... بمدح أكرم خلق الله كلهم الشيخ عز الدين استبدأ هنا كلامًا آخر، وليس بين بيت التخلص وبين ما قبله علاقة ولا أدنى مناسبة. وبيت بديعيتي: ومن غدا قسمه التشبيب في غزل ... حسن التخلص بالمختار من قسمي هذا البيت ما يشك متأدب أنه أعمر بيوت البديعيات، وهو في غنية عن الإطناب في وصفه.

ذكر الاطراد

ذكر الاطراد: محمد بن الذبيحين الأمين أبو البـ ... ـتول خير نبي في اطرادهم الاطراد، في اللغة: مصدر اطرد الماء وغيره إذا جرى من غير توقف، وفي الاصطلاح: أن يذكر الشاعر اسم الممدوح واسم من أمكنه من آبائه، في بيت واحد على الترتيب، ولا يخرج عن طرق السهولة، ومتى تكلف، أو تعسف في بناء بيته، لم يعد اطرادًا، فإن المقصود من هذا النوع أن يكون كلام الناظم، في سهولة جريانه واطراده، كجريان الماء في اطراده، فمتى جاء كذلك دل على قوة الشاعر وتمكنه وحسن تصرفه. وقد تقدم القول: إن الشيخ صفي الدين ما نظم بديعيته، حتى جمع عنده سبعين كتابًا في هذا الفن، يجتني من أوراقها كل ثمرة شهية، ورأيته في شرح بديعيته قد أورد لهذا المعنى حدًّا فيه زيادة على الجماعة، فإنهم لم يزيدوا على اسم الممدوح واسم من أمكن من آبائه شيئًا، والشيخ صفي الدين نقل في شرح بديعيته: أن الاطراد عبارة عن اسم الممدوح ولقبه وكنيته وصفته اللائقة به، واسم من أمكن من أبيه وجده وقبيلته، ليزداد الممدوح تعريفًا وشرط أن يكون ذلك في بيت واحد من غير تعسف ولا تكلف ولا انقطاع بألفاظ أجنبية، وأورد على ذلك قول بعضهم: مؤيد الدين أب جعفر ... محمد بن العلقمي الوزير هذ البيت جمع ناظمه فيه بين اللقب والكنية، واسم الممدوح واسم أبيه والصفة اللائمة به، وهو القدر الذي قرره الشيخ صفي الدين، في الحد الذي أورده في شرحه. وعلى هذ المنوال نسجت بيت بديعيتي، لأجل المعارضة. ومثله قول بعض المتأخرين، في زكي الدين بن أبي الأصبع: عبد العظيم الذكي ابن أبي ... الأصبع رب القريض والخطب

هذا البيت اشتمل أيضًا على اسم الممدوح واسم أبيه والصفة اللائقة به، وهو صالح لمجرد المدح، ولكن عقبه الناظم بأبيات مشتملة على صريح الهجو، كان الأوجب عدم إيرادها هنا، حفظًا لمقام الشيخ زكي الدين بن أبي الأصبع، ولكن جراءة ظرفها ركبت صهوة القلم وأطلقت عنانه، فإنه قال بعده: يزعم أني بالهجو أذكره ... تعصبًا منه ساعة الغضب لكنني والطلاق يلزمني ... ما ملت فيه يومًا إلى الكذب نكت ابنه وأخته وخالته ... ونكت قدمًا أخاه وهو صبي ولست فيما أتيت مبتدعًا ... قد كان هذا في سالف الحقب ناك أبي أمه وجدته ... وعمتيه لله در أبي ونحن في بيته على دعة ... النيك ما بيننا إلى الركب وأما شواهد هذا النوع، المشتمل على اسم الممدوح واسم أبيه وجده، من غير كنية ولقب وصفة، فمنها قول الشاعر: من يكن رام حاجة بعدت عنـ ... ـه وأعيت عليه كل العياء فلها أحمد المرجى بن يحية بـ ... ـن معاذ بن مسلم بن رجاء قال الشيخ زكي الدين بن أبي الأصبع: لقد أربى هذا الشاعر، في هذا النوع، على من تقدمه ولو سلم بيته من الفصل بلفظة المرجى لكان غاية لا تدرك وعقيلة لا تملك. انتهى كلام الشيخ زكي الدين بن أبي الأصبع. وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعتيه: محمد المصطفى الهادي النبي أجل ... المرسلين ابن عبد الله ذي الكرم الشيخ صفي الدين أتى في هذا البيت، باسم الممدوح صلى الله عليه وسلم وسلم والصفات اللائقة به واسم أبيه. وبيت العميان في بديعيتهم: قد أورث الجد عبد الله شيبة عن ... عمرو بن عبد مناف عن قُصيهم1 الذي أقوله: إن بيت العميان في غاية التكلف والتعسف، ولعمري إن ناظمه خالف أمر مشايخ البديع، في المشي على طريق السهولة والانسجام، وأيضًا فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- هو

_ 1 شيبة: هو لقب عبد المطلب جد النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وقصي: هو جد قريش.

الممدوح في هذه القصيدة بكمالها، وليس له ذكر في هذا البيت، فعلى هذا التقدير هو غير صالح للتجريد مع ما فيه من العقادة. وبيت الشيخ عز الدين في بديعيته: محمد بن عبد الله شيبة جده ... ابن عمرو كرام في اطرادهم أقول: إن بيت العميان، في غاية السهولة عند هذا البيت، وهذا القدر أليق من إطلاق لسان القلم في الكلام عليه. وبيت بديعيتي: محمد بن الذبيحين الأمين أبو البـ ... تول خير نبي في اطرادهم هذا البيت أيضًا فيه اسم الممدوح -صلى الله عليه وسلم-، وذكر أبيه، وهو أحد الذبيحين، لأن أباه عبد المطلب كان قد نذر ذبح أحد أولاده إذا صاروا عشرة، فلما كملت له العشرة أقرع2 بينهم فوقعت على عبد الله، فوداه1 بمائة من الإبل، وهو أول من ودي بذلك. وكانت الدية قبل ذلك عشرًا، وفي البيت إشارة إلى جده إسماعيل عليه السلام، وتفسير هذا الاسم مطيع الله الذبيح، وقال -صلى الله عليه وسلم: "أنا ابن الذبيحين"، وفيه الصفة المعدودة من أسمائه الشريفة، والصفة اللائقة بمقامه العالي واسم النوع البديعي في القافية مورى به من جنس المديح. والذي يظهر لي أنه أرق من بيت العميان وبيت الشيخ عز الدين، وأكثر معاني من بيت الشيخ صفي الدين، والله أعلم.

_ 1 أقرع: استعمل القرعة أي الاختيار. 2 ودى: أعطى ديته أو فداه.

ذكر العكس

ذكر العكس: عين الكمال كمال العين رؤيته ... يا عكس طرف من الكفار عنه عمي العكس، في اللغة: رد آخر الشيء على أوله، ويقال له التبديل. وفي الاصطلاح: تقديم لفظ من الكلام ثم تأخيره، ويقع على وجوه كثيرة ولكن المراد هنا ما استعمل منها وكثر استعماله، فالمقدم، في هذا الباب، قوله تعالى: {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} 1 العكس هنا مميز بعلو طباقه، وبشرف القدرة الإلهية التي لا تصدر إلا عن عظمة الخالق جلت قدرته، وبلاغة القرآن وإيجازه وفصاحته. وعلى كل تقدير، فالعكس نوع رخيص بالنسبة إلى ما فوقه من أنواع البديع الغالية، وإن لم يصوب البليغ عكسه بنكتة بديعية تنظمه في سلك أنواع البديع، فهو مستمر على عكسه، كقول القائل: زعموا أني خئون في الهوى ... في الهوى أني خئون زعموا هذا البيت ليس فيه نكتة تزيل عنه العكس وتحليه بشعار البديع، ولو أراد الشاعر أن يرتجل مثله ما شاء في مجلس واحد لكان ذلك قدرًا يسيرًا، وأين هذا الناظم من أبي تمام وقد قال له بعض حساده: لم لا تقول ما يفهم؟ فقال له على الفور: لم لا تفهم ما يقال؟ وأين هو من قول الحكيم الذي قيل له: لم تمنع من يسألك؟ فقال: لئلا أسأل من يمنعني، وأين هو من كلام الحكيم الذي قال: إذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون. وقيل: إنه ورد في الحديث: "جار الدار أحق بدار الجار" وما أبلغ قول الحسن بن سهل هنا،

_ 1 آل عمران: 3/ 27.

وقد قيل له: لا خير في السرف، فقال: لا سرف في الخير. ويروى، لأمير المؤمنين هارون الرشيد، من النظم في هذا الباب: لساني كتوم لأسرارهم ... ودمعي بسري نموم مذيع1 فلولا دموعي كتمت الهوى ... ولولا الهوى لم يكن لي دموع وبديع هنا قول الصاحب ابن عباد، وقد بالغ في وصف الزجاج والشراب، وهو: رق الزجاج وراقت الخمر ... فتشابها فتشاكل الأمر2 فكأنما خمر ولا قدح ... وكأنما قدح ولا خمر ومثله: ألست ترى أطباق ورد وحولها ... من النرجس الغض الطري قدود فتلك خدود ما عليهن أعين ... وتلك عيون ما لهن خدود ويعجبني إلى الغاية، في هذا الباب، قول الأضبط الشاعر: قد يجمع المال غير آكله ... ويأكل المال غير من جمعه ويقطع الثوب غير لابسه ... ويلبس الثوب غير من قطعه ومثله، في الحكمة، قول ابن نباتة السعدي: ألا فاخْش ما يرجى وجدك هابط ... ولا ترج ما يخشى وجدك رافع2 فلا نافع إلا مع النحس ضائر ... ولا ضائر إلا مع السعد نافع4 ومن حكم أبي الطيب المتنبي قوله في هذا الباب: فلا مجد في الدنيا لمن قل ماله ... ولا مال في الدنيا لمن قل مجده ومثله في الحسن والبلاغة، قوله: إن الليالي للأنام مناهل ... تطوي وتنشر دونها الأعمار فقصارهن مع الهموم طويلة ... وطوالهن مع السرور قصار

_ 1 نموم: صيغة مبالغة من النميمة، وهي نقل الكلام بين شخصين أو أشخاص بقصد الفتنة. 2 تشاكل الأمر: اختلط والتبس. 3 الجد: الحظ. 4 ضائر: مضر.

واستشهدوا على نوع الطباق بقول الشاعر: رمى الحدثان نسوة آل حرب ... بمقدار سمدن له سمودا1 فرد شعورهن السود بيضًا ... ورد وجوههن البيض سودا والعكس هنا أحق من المطابقة وأولى، فما فيه من عكس مطابقة عجزه لصدره، وتبديل الطباق في العجز والصدر، ومن الذي يستظرف هنا إلى الغاية قول الشيخ شرف الدين عبد العزيز الأنصاري، شيخ شيوخ حماة: أفنيت عمري في دهر مكاسبه ... نطيع أهواءنا فيها وتعصينا تسعًا وعشرين مدّ الهم شقتها ... حتى توهمتها عشرًا وتسعينا2 ونلطف الشيخ جمال الدين بن نباتة بقوله هنا: مسألة الدور غدت ... بيني وبين ما أحب لولا مشيبي ما جفت ... لولا جفاها لم أشب انظر ما أليق ما حصر الشيخ جمال الدين مسألة الدور في هذا النوع، مع قصر البحر. ويعجبني أيضًا قول الشيخ علاء الدين، علي بن مقاتل الحموي، في مطلع من مطالع أزجاله وهو: حبي عودني الوصال ... وعوايد وقطع وامتنع لما حلي ... ولاح لما امتنع وأنشدني، من لفظه لنفس الكريمة، قاضي القضاة عماد الدين أخو شيخي، قاضي القضاة علاء الدين بن القضامي، تغمدهما الله برحمته ورضوانه، مطلعًا يناظر مطلع ابن مقاتل بحسنه في هذا الباب، وهو: قلت يومًا لمن هويت ... فيه اعدل عملك قال بجوري ترتضي ... وإلا اعمل عدلك3

_ 1 الحدثان: المصائب والحوادث، والليل والنهار، سمد: بهت وتحير. 2 مد الهم شقتها: أي صرت مهموما لما انقضت شقتها أي مثلها. وصار عمري ثمانية وخمسين عاما. 3 عدلك: أي مثلك.

وزاد الشيخ زكي الدين بن أبي الأصبع هذا النوع، أعني عكس الألفاظ، صنفا معنويًّا، وهو أن يأتي الشاعر إلى معنى لنفسه، أو لغيره، فيعكسه، فمثال ما عكس الشاعر من المعاني لغيره. قال الأول: قد يدرك المتأني بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل1 قال الثاني الذي عكس الأول: وربما فات بعض الناس أمرهم ... مع التأني وكان الحزم لو عجلوا وقد تقدم قول الناس في المثل السائر: ما في السويدا رجال، فعكست هذا المعنى على أصحابه وقلت: في سويدا مقيلة الحب نادى ... جفنه وهو يقنص الأسد صيدا2 لا تقولوا ما في السويدا رجال ... فأنا اليوم من رجال السويدا ومن القسم الثاني، وهو عكس الشاعر معنى نفسه، قول بعضهم: وإذا الدر زان حسن وجوه ... كان للدر حسن وجهك زينا ومثله قول الشاعر، وتلطف ما شاء: هذا قد غدا من ثياب الشعر في كفن ... وقد تعفت معاني وجهه الحسن3 وكان يعرض عني حين أبصره ... فصرت أعرض عنه حين يبصرني وأظرف منه قول الشيخ جمال الدين بن نباتة: وصديق قوي يدي بنوال ... وأراه من بعد حاول وهني4 كان مثل البستان آخذ منه ... صار مثل الحمام يأخذ مني انتهى ما أوردته فى هذا الباب، من عكس الألفاظ والمعاني، وبيت الشيخ صفي الدين الحلي، فى بديعيته، شاهد فى هذا الباب على عكس الألفاظ، وهو قوله عن النبي -صلى الله عليه وسلم:

_ 1 التأني: التمهل، الزلل الخطأ. 2 يقنص: يصطاد بواسطة الكمين. 3 تعفت: امحت. 4 النوال: العطاء، الوهن: الضعف.

أبدى العجائب فالأعمى بنفثته ... غدا بصيرًا وفي الحرب البصير عمي1 الشيخ صفي الدين أتى في هذا الباب بالغرض، من نظم النوع المذكور، ولكن لم يخل بيته من بعض عقادة، هذا مع عدم تكلفه بتسمية النوع على الشرط المقرر. وبيت العميان: فاتبع رجال السرى في البيد واسر له ... سرى الرجال ذوي الألباب والهمم2 بيت العميان لم يخلص من العكس هنا، إذ ليس فيه نكتة تلم له مع البديع شملًا، وليس فيه غير رجال السرى وسرى الرجال. وبيت الشيخ عز الدين الموصلي، في بديعته: خير المقال مقال الخير فاصغ ودع ... عكس الصواب مع التبديل تستقم الشيخ عز الدين أتى، في هذا النوع، بالمقصود من نظم النوع البديعي وتسميته على الشرط المقرر، ولكنه أجنبي من مديح النبي صلى الله عليه وسلم وليس له أدنى تعلق ببيت المديح الذي قبله، وهو: تمت محاسنه والله كمله ... فقدره في الورى في غاية العظم أعجب من هذا أنه قال بعد هذا البيت، عن النبي صلى الله عليه وسلم: له الجميل من الرب الجميل على الـ ... ـوجه الجميل بترديد من النعم وغالب مديحه النبوي في هذه القصيدة على هذا النمط، فإنها ما انسجمت معه إلا في مواضع قليلة والظاهر أن ثقل تسمية النوع على الشرط المعلوم، كلما أثقل كاهله فرَّ إلى جهة يستند إلى ركنها، وبيت العميان كاد أن يكون أجنبيًّا من المديح، ولكن اتكلوا على عود الضمير على الممدوح وهو النبي -صلى الله عليه وسلم-. وبيت بديعيتي، وهو قولي عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. عين الكمال كمال العين رؤيته ... يا عكس طرف من الكفار عنه عمي أقول: إنه في سهولته واسنجامه وحسن تركيبه، وبديع تسميته وتمكين قافيته، بيت عامر بالمحاسن والله أعلم.

_ 1 النفث: المناجاة، وقراءة الطلاسم. 2 السرى: السير ليلًا، الألباب: العقول.

ذكر الترديد

ذكر الترديد: أبدى البديع له الوصف البديع وفي ... نظم البديع حلا ترديده بفمي الترديد، هو أن يعلق الشاعر لفظة فى بيت واحد، ثم يرددها فيه بعينها ويعلقها بمعنى آخر، كقوله تعالى: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} 1 واستشهدوا على هذا النوع من النظم، بقول أبي نواس: صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها ... لو مسها حجر مسته سراء2 والذي أقول: إن الترديد والتكرار ليس تحتهما كبير أمر، ولا بينهما وبين أنواع البديع قرب ولا نسبة، لانحطاط قدرهما عن ذلك، ولولا المعارضة ما تعرضت لما في بديعيتي، ولكن ذكر زكي الدين ابن أبي الأصبع بينهما فرقًا فيه بعض إشراق، وهو أن اللفظة التي تكرر في البيت، ولا تفيد معنى زائدًا، بل الثانية عين الأولى هي التكرار، واللفظة التي يرددها الناظم في بيته تفيد معنى غير معنى الأولى هي الترديد، وعلى هذا التقدير صار للترديد بعض مزية يتميز بها إلى التكرار، ويتحلى بشعارها، وعلى هذا الطريق نظم أصحاب البديعيات هذا النوع، أعني الترديد. فبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته: له السلام من الله السلام وفي ... دار السلام تراه شافع الأمم3

_ 1 الحشر: 59/ 20. 2 الراء: الحياة والحركة. 3 السلام: الأولى بمعنى التسليم والثانية من أسماء الله الحسنى، والثالثة بمعنى الجنة.

لفظة السلام متعلقة في كل موضع بغير الآخر، لاشتراكها. والعميان لم ينظموا هذا النوع، وبيت الشيخ عز الدين: له الجميل من الرب الجميل على الو ... جه الجميل بترديد من النعم وبيت بديعيتي: أبدى البديع له الوصف البديع وفي ... نظم البديع حلا ترديده بفمي قول: إن حلاوة الترديد بالفم، أحلى من قول الشيخ عز الدين: بترديد من النعم وأحسن موقعًا لكونها في القافية والله أعلم.

ذكر التكرار

ذكر التكرار: كررت مدحي حلا في الزائد الكرم ... ابن الزائد الكرم ابن الزائد الكرم المديح للكريم مليح هنا. وقد تقدم قولي: إن التكرار، هو أن يكرر المتكلم اللفظة الواحدة باللفظ والمعنى، والمراد بذلك تأكيد الوصف أو المدح أو الذم أو التهويل، أو الوعيد أو الإنكار أو التوبيخ أو الاستبعاد أو الغرض من الأغراض. فأما ما جاء منه للذم فكقول مهلهل بن ربيعة أخي كليب: يا لبكر أنشروا لي كليبًا ... يا لبكر أين أين الفرار1 وأما ما جاء منه للمدح فكقول كثير في عمر بن عبد العزيز: فأربح بها من صفقة لمبايع ... وأعظم بها وأعظم بها ثم أعظم وكقول أبي تمام: بالصريح الصريح والأروع الأر ... وع منهم باللباب اللباب وأما ما جاء منه للتهويل فكقوله تعالى: {الْقَارِعَة، مَا الْقَارِعَةُ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ} وكقول: {الْحَاقَّةُ، مَا الْحَاقَّة} 3.

_ 1 انشروا: من النشر وهو الإحياء بعد الموت. 2 القارعة: 101/ 1، 3 3 الحاقة: 69/ 1، 2

وأما ما جاء منه للإنكار والتوبيخ، فهو تكرار قوله تعالى في سورة الرحمن: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} 1 فإن الرحمن جل جلاله ما عدد آلاءه هنا إلا ليبكت2 بها من أنكرها، على سبيل التقريع والتوبيخ، كما يبكت منكر أيادي المنعم عليه من الناس بتعديدها له. وأما ما جاء منه للاستبعاد فكقوله تعالى: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} 3 وأما ما جاء منه في النسيب، وهو في غاية اللطف، فقول بعضهم: يقلن وقد قيل إني هجعت ... عسى أن يلم بروحي الخيال4 حقيق حقيق وجدت السلو ... فقلت لهن محال محال وألطف منه قول القاضي5: ماذا تقول اللواحي ضل سعيهم ... وما تقول الأعادي زاد معناه6 هل غير أني أهواه وقد صدقوا ... نعم نعم أنا أهواه وأهواه وما أحلى ما قال بعده: حسب البرية أجرًا فضل رؤيته ... فما رُئي قط إلا سُبِّح الله وبيت الشيخ صفي الدين الحلي، في بديعيته، يقول فيه عن النبي -صلى الله عليه وسلم: الطاهر الشيم ابن الطاهر الشيم ... ابن الطاهر الشيم ابن الطاهر الشيم7 والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم. وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته: تكرار مدحي هدى في الشامل النعم ابـ ... ـن الشامل النعم ابن الشامل النعم وبيت بديعيتي: كررت مدحي حلا في الزائد الكرم ... ابن الزائد الكرم ابن الزائد الكرم

_ 1 الرحمن: 55/ 36، والآلاء: النعم، واحدتها أليُ وهي النعمة. 2 بكَّت: عنف، أي قرع ووبح. 3 المؤمنون: 23/ 36. 4 هجع: رقد ونام. 5 هو القاضي الأرجاني. 6 اللواحي: جمع مفرده لاحية وهي اللائمة. 7 الشيم: صاحب الأخلاق العالية والخصال الحميدة.

كاد بيت صفي الدين، وبيت الشيخ عز الدين، وبيت بديعيتي أن يكونوا بيتًا واحدًا لمناسبة التركيب، وإن كان بيت الشيخ صفي الدين مميزًا بزيادة واحدة في التكرار، فقد جاء موضعها التورية في تسمية النوع كما قيل: وأين الثريا من يد المتناول. والذي يظهر أن مكرر بيتي حلاوته ظاهرة على بيت الشيخ عز الدين، إن مكرره ناقص الحلاوة، والله تعالى أعلم.

ذكر المذهب الكلامي

ذكر المذهب الكلامي: ومذهبي في كلامي أنَّ بعثته ... لو لم تكن ما تميزنا على الأمم المذهب الكلامي نوع كبير نسبت تسميته إلى الجاحظ وهو في الاصطلاح: أن يأتي البليغ على صحة دعواه، وإبطال دعوى خصمه، بحجة قاطعة عقلية تصح نسبتها إلى علم الكلام، إذ علم الكلام عبارة عن إثبات أصول الدين بالبراهين العقلية القاطعة. وقيل: إن ابن المعتز قال: لا أعلم ذلك في القرآن، أعني المذهب الكلامي، وليس عدم علمه مانعًا علم غيره، ولم يستشهد على المذهب الكلامي بأعظم من شواهد القرآن، وأوضح الأدلة في شواهد هذا النوع، وأبلغها قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} 1. هذا دليل قاطع على وحدانيته جل جلاله، وتمام الدليل أن تقول: لكنهما لم تفسدا فليس فيهما آلهة غير الله. ومنه قوله -صلى الله عليه وسلم: "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا ولبكتيم كثيرًا" وتمام الدليل أن يقال لكنكم ضحكتم كثيرًا وبكيتم قليلًا، فلم تلعموا ما أعلم، فهذان قياسان شرطيان من كلام الله وكلام نبيه عليه الصلاة والسلام، ومثله قول مالك بن المرجل الأندلسي: لو يكون الحب وصلًا كله ... لم تكن غايته إلا الملل أو يكون الحب هجرًا كله ... لم تكن غايته إلا الأجل إنما الوصل كمثل الماء لا ... يستطاب الماء إلا بالعلل2 فالبيتان الأولان قياس شرطي، والثالث قياس فقهي، فإنه قاس الوصل على الماء،

_ 1 الأنبياء: 22/ 21. 2 العلل: الشربة الأولى، والنهل: الشربة الثانية.

فكما أن الماء لا يستطاب إلا بعد العطش، فالوصل مثله لا يستطاب إلا بعد حرارة الهجر. وأما الأقيسة الحملية فقد استنبطوها على صور، مها ما يروى أن أبا دلف قصده شاعر تميمي، فقال له: ممن أنت؟ فقال: من تميم. فقال أبو دلف: تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا ... ولو سلكت سبل الهداية ضلت1 فقال له التميمي: نعم بتلك الهداية جئت إليك. فأفحمه بدليل حملي ألزمه فيه أن المجيء إليه ضلال. ولعمري، إن القياس الشرطي أوضح دلالة في هذا الباب من غيره، وأعذب في الذوق وأسل في التركيب، فإنه جملة واقعة بعد لو وجوابها، وهذه الجملة، على اصطلاحهم، مقدمة شرطية متصلة يستدل بها على ما تقدم من الحكم، وعلى هذه الطريقة نظمت بيت البديعية، وكذلك العميان، ويأتي ذلك في موضعه، فبيت بديعية الشريف صفي الدين الحلي: كم بين من أقسم الله العلي به ... وبين من جاء باسم الله في القسم بيت الشيخ صفي الدين الحلي ليس لنور المذهب الكلامي فيه إشراق، ولكنه ملحق بالأقيسة الحملية. وبيت العميان قد تقدم أنه من الأقيسة الشرطية، وهو قولهم في مديح النبي -صلى الله عليه وسلم: لو لم تحط كفه بالبحر ما شملت ... كل الأنام وأروت قلب كل ظمي جملة هذا البيت هي الجمل الواقعة بعد لو وجوابها، فإنهم استدلوا بها على ما تقدم من الحكم: وهو أن كفه -صلى الله عليه وسلم- محيط بالبحر، وبيان صحة ذلك أنها بلغت أن تشمل كل الأنام وتعمهم بالري، وهذا دليل واضح على أنها محيطة بالبحر. وقد تعين أن أقدم بيت بديعيتي، هنا على بيت الشيخ عز الدين، وأفرط سبحة الترتيب لوجهين: أحدهما، أن بيتي وبيت العميان أقرا ببهجة هذا النوع في مطلع واحد، وهو القياس الشرطي، والثاني، أن الشيخ عز الدين لم يتمسك في المذهب الكلامي إلا بالقول الضعيف، وبيت بديعيتي، أقول فيه عن النبي -صلى الله عليه وسلم: ومذهبي في كلامي أن بعثته ... لو لم تكن ما تميزنا على الأمم

_ 1 القطا: الحمام الزاجل وكان يستعمل لنقل الرسائل، ومن هنا يضرب به المثل في معرفة الطرق.

دليل هذا القياس الشرطي، في بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن هذه الأمة تميزت بها على سائر الأمة، أوضح من النهار الذي لم يحتج عند ظهوره، إلى إقامة دليل. وبيت الشيخ عز الدين، وفي بديعيته قوله: بمذهب من كلام الله ينسخ شر ... ع الأولين ببشرى من كلامهم1 كأن الشيخ عز الدين غفر الله له يقول عن النبي -صلى الله عليه وسلم- إنه بمذهب من كلام الله أي القرآن ينسخ شرع الأولين، وكأنه جعل حجته القاطعة في المذهب الكلامي، والله أعلم. قوله: ببشرى من كلامهم، أي من كلام الأولين. ولم أرَ في هذا البيت للمذهب كلامًا ولا للكلام مذهبًا غير ما ذكرته، وفوق كل ذي علم عليم.

_ 1 ينسخ: يبطل الحكم، ومنه قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} البقرة: 2/ 106.

ذكر المناسبة

ذكر المناسبة: فعلمه وافر والزهد ناسبه ... وحلمه ظاهر عن كل مجترم1 المناسبة، على ضربين: مناسبة في المعاني، ومناسبة في الألفاظ. فالمعنوية هي أن يبتدئ المتكلم بمعنى، ثم يتمم كلامه بما يناسب معنى دون لفظ. وهذا النوع، أعني المناسبة المعنوية، كثير في الكتاب العزيز فمنه قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ، أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ} 2. فانظر إلى قوله سبحانه وتعالى، في صدر الآية التي هي للموعظة: أولم يهد لهم، ولم يقل أولم يروا لأن الموعظة سمعية، وقد قال بعدها: أفلا يسمعون. وانظر كيف قال في صدر الآية التي موعظتها مرئية: أولم يروا، وقال بعد الموعظة البصرية أفلا يبصرون. ومن أظرف ما أنقله هنا، من النقد اللطيف في هذا الباب، أن قاضي القضاة عماد الدين ابن القضامي، أخا شيخنا قاضي القضاة علاء الدين الحنفي نور الله ضريحه، وجعل من الرحيق المختوم غبوقه وصبوحه، نظم قصيدة امتدح بها المقر المرحومي السيفي أرغون الأسعردي، كافل المملكة الشريفة الحموية، وعرضها قبل إنشادها للمدح على أخيه المشار إليه، فانتهى منها في المديح إلى بيت يقول فيه: خبير بتدبير الأمور فمن يرى ... سوى ما يراه فهو في هذه أعمى

_ 1 المجترم: الآثم. 2 السجدة: 6/ 32 و27.

فقال له شيخنا قاضي القضاة علاء الدين: يجب أن تقول لأجل المناسبة المعنوية، موضع خبير بصير. وقد عدوا من محاسن الأمثلة المعنوية قول أبي الطيب المتنبي: على سابح موج المنايا بنحره ... غداة كان النبل في صدره وبل1 فإن بين لفظة السباحة ولفظتي الموج والوبل تناسبًا معنويًّا صار البيت به متلاحمًا. والذي عقد الناس عليه الخناصر، في هذا الباب، قول ابن رشيق القيرواني: أصح وأقوى ما رويناه في الندا ... من الخبر المأثور منذ قديم أحاديث ترويها السيول عن الحيا ... عن البحر عن جود الأمير تميم2 قال زكي الدين بن أبي الأصبع: هذا أحسن شعر سمعته في المناسبة المعنوية، فإنه وفى المناسبة حقها، وناسب في البيت الأول بين الصحة والقوة والرواية والخبر المأثور، وناسب في البيت الثاني بين الأحاديث والرواية والعنعنة، هذا مع صحة ترتيب العنعنة، من حيث أنها جاءت صاغرًا عن كابر وآخرًا عن أول، كما يقع في سند الأحاديث، لأن السيول فرع الحيا أصله، وكذلك الحيا فرع البحر أصله، ثم نزل البحر منزلة الفرع، وجود الممدوح منزلة الأصل للمبالغة في المدح، وهذا غاية الغايات في هذا الباب. أقول: إنني زاحمت ابن رشيق القيرواني هنا بالمناكب، وأبطلت موانع التعقيد لما دخلت معه إلى هذه المطالب، وما ذاك إلا أنني امتدحت شيخي المشار إليه أولًا، مولانا قاضي القضاة ابن القضامي الحنفي بموشح بيت مخلصه تحفة في هذا الباب، لأن مناسباته المعنوية رفعت عن محاسنها الحجاب، وهو: رقم السوالف يروي لي بمسنده ... عن رقتي حيهم يا طيب مورده وثغرها قد روى لي قبل ما احتجبت ... عن برق ذاك النقا أيام معهده3 والريق أمسى عن المبرد ... يروي حديث العذيب مسند عن الصفا عن مذاب الشهد والعسل ... عن ذوق سيدنا قاضي القضاة علي

_ 1 الوبل: الوابل الغزير الانصباب. 2 الحيا: المطر والخصب. 3 النقا: ترخيم نقاء.

وقد حبست عنان القلم عن الاستطراد إلى وصف هذا البيت، ومناسباته المعنوية، فإن برهانه غير محتاج إلى إقامة دليل. وهذا الموشح نظمته بحماة المحروسة، في مبادي العمر ورياحين الشبيبة غضة. ولما طلبت إلى الأبواب الشريفة المؤيدية، سنة خمس عشرة وثمانمائة، ووصلت إلى الديار المصرية في التاريخ المذكور، وجدته ملحنًا وأهل مصر يلهجون به وبتلحينه كثيرًا، فتعين علي أن أثبت هنا منه شيئًا، ليحلو تكريره بمصر وتعرف رتبة قوافيه، لأجل بيت المخلص الذي أوردته مثالًا على نوع المناسبة المعنوية، فمن غزل الموشح المذكور: ماست بقامتها يومًا بذي سلم ... والشعر كالعلم المنشور للأمم فقلت يا قلب أعلام الهنا نصبت ... ها أنت تخطر بين البان والعلم وأسود الخال منذ تبدَّى ... في خدها همت فيه وجدا قالت وطلعتها كالشمس في الحمل ... في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل سألتها برد ما عندي من الكمد ... وقلت نار الجوى قد أضعفت جلدي1 قالت بريقي أطفئها إذا التهبت ... يا برد ذاك الذي قالت على كبدي وغرفتني بدمع طرفي ... وقالت اسمع كفيت خلفي2 ألم تخف بللا ناديت يا أملي ... أنا الغريق فما خوفي من البلل منه: بالله يا برق إن أومضت في الثغر ... وحارس اللحظ في شك من الخبر قف بالثنيات واذكرني إذا عذبت ... تلك النهيلات للورَّاد في السحر وارسل عليل النسيم خلفي ... فإنه قوة لضعفي عسى تصحح جسمًا بالفراق بلي ... وربما صحت الأجسام بالعلل منه: إنسان مقلتها لما رأى كلفي ... بسيفه قد أقام الحد في تلفي3 فمت بالسيف قهرًا والحشا نهبت ... لكنني عند موتي مذ قرى شغفي4 ناديته والدموع طوفان ... وقلت هذا فعال إنسان إلا تعجل في قتلي بلا زلل ... فقال لي خلق الإنسان من عجل

_ 1 الكمد: الحزن المكبوت، الخلد: الاطصبار. 2 خفي: ما ورائي أو إخلافي بالوعد. 3 إنسان المقلة: هو إنسان العين وهو النقطة في وسط سواد العين أو البؤبؤ، التلف: الموت. 4 قرى: إقراءً، أطعم الضيوف.

وقد طال الشرح وخرجنا عما كنا فيه، من المناسبة المعنوية وحسن ختامها، بما أوردناه من كلام ابن رشيق القيرواني، والبيت الذي أوردته من هذا الموشح. وأما المناسبة اللفظية، وهي دون رتبة المعنوية، فهي الإتيان بكلمات متزنات، وهي على ضربين: تامة، وغير تامة. فالتامة أن تكون الكلمات، مع الاتزان، مقفاة والناقصة موزونة غير مقفاة. فمن شواهد التامة قوله سبحانه وتعالى: {نْ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ، مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ، وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ} 1 ومن شواهده التامة في السنة الشريفة، قول النبي -صلى الله عليه وسلم-، مما كان يرقي به الحسنين2، عليهما السلام: "أعيذكما بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة"، ولم يقل عليه السلام: ملمة، وهي القياس لمكان المناسبة اللفظية. ومن أمثلة المناسبتين، الناقصة والتامة، قول أبي تمام حبيب بن أوس: مها الوحش إلا أن هاتا أونس ... قنا الخط إلا أن تلك ذوابل3 فناسب بين مها وقنا مناسبة تامة، وبين الوحش والخط، وأوانس وذوابل، مناسبة غير تامة. قال زكي الدين بن أبي الأصبع: هذا البيت من أفضل بيوت المناسبة، لما انضم إليه فيها من المحاسن، فإن فيه مع المناسبتين، التشبيه بغير أداة والمساواة والاستثناء، والطباق اللفظي وائتلاف اللفظ مع المعنى والتمكين، فأما المناسبة فيه فقد عرفت، وأما التشبيه ففي قوله: مها وقنا، فإن التقدير: كمها، وكقنا، وحذف الأداة ليدل على قرب المشبه من المشبه به، وأما الاستثناء البديعي ففي قوله: إلا أن هاتا أوانس، وقوله: إلا أن تلك ذوابل، ليثبت للموصوفات التأنيس، وينفي عنهن النفار والتوحش، وكذلك فعل في الاستثناء الثاني، فإنه أثبت لهن اللين ونفى عنهن اليبس والصلاة. وأما المطابقة، ففي قوله: الوحش وأوانس، وهاتا وتلك، فإن هاتا للقريب وتلك للبعيد، وأما المساواة فلفظ البيت لا يفضل عن معناه ولا يقصر عنه. وأما الائتلاف، فلكون ألفاظه من واد واحد، متوسطة بين الغرابة والاستعمال، وكل لفظة منها لا ئقة بمعناها لا يكاد يصلح موضعها غيرها. وأما التميكن فاستقررا قافية البيت في موضعها وعدم نفارها عن محلها انتهى الكلام على المناسبة اللفظية والمعنوية، وتقرير التامة والناقصة من اللفظية. فبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته، يقول فيه عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. مؤيد العزم والأبطال في قلق ... مؤمل الصفح والهيجاء في ضرم

_ 1 القلم: 68/ 1-3. 2 الحسنين: هما الحسن والحسين ابنا علي بن أبي طالب وفاطمة الزهراء عليهما السلام. 3 أوانس: جمع مفردها آنسة وهي الفتاة ما لم تتزوج، قنا الخط: الرماح الخطية.

الشيخ صفي الدين لم يحتج في بيته إلى المناسبة المعنوية، بل أتى باللفظية. وعجبت منه كيف رضي لنفسه بقول القائل: إذا كنت ما تدري سوى الوزن وحده ... فقل أنا وزان وما أنا شاعر وليته أتى بالمناسبة اللفظية تامة, فإنه في عالم الإطلاق غير مقيد بتسمية، ومناسبته اللفظية الناقصة ظاهرة، قوله: مؤيد العزم، في وزن مؤمل الصفح، وقوله: والأبطال في قلق موازن والهيجاء في ضرم. ولم ينظم العميان هذا النوع، وبيت الشيخ عز الدين الموصلي يقول فيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم. ألم تر الجود يجري في يديه ألم ... تسمع مناسبة في قوله نعم الشيخ عز الدين غفر الله له لم يثبت له مع المناسبة المعنوية اللفظية نسبة، ولكنه قال لمن يخاطبه: ألم تر الجود يجري من أيادي النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ ألم تسمع مناسبة من لفظ نعم؟ ولفظ الشيخ عز الدين الموضوع في بيته ليس فيه مناسبة لفظية أتى فيها بوزن وقافية، ولا مناسبة معنوية ابتدأ فيها بمعنى، وتمم كلامه بما يناسبه. وبيت بديعيتي، أقول فيه عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. فعلمه وافر والزهد ناسبه ... وحلمه ظاهر عن كل مجترم هذا البيت جمعت فيه، ببركة ممدوحه -صلى الله عليه وسلم-، بين المناسبة المعنوية واللفظية التامة المشتملة على الوزن والتقفية، فقولي: علمه يناسبه حلمه، وزنا وقافية، ووافر مثله ظاهر، وزنا وقافية، والمناسبة المعنوية ابتدأ بها، في أول الشطر الثاني من البيت بذكر الحلم، ثم تممت كلامي بقولي: عن كل مجترم، فحصلت المناسبة المعنوية بين الحلم، وذكر الاجترام الذي هو الذنب مع تمكين القافية، فإنه قيل عن المأمون إنه كان يقول: لو علم الناس محبتي للعفو لتقربوا إليَّ بالجرائم، وهذه هي المناسبة المعنوية بعينها، ولكن النبي -صلى الله عليه وسلم- أحق بهذال المدح وأولى بهذه الصفات.

ذكر التوشيع

ذكر التوشيع: ووشع العدل منه الأرض فاتشحت ... بحلة الأمجدين العهد والذمم التوشيع: مأخوذ من الوشيعة وهي الطريقة الواحدة في البرد المطلق، فكأن الشاعر أهمل البيت إلا آخره، فإنه أتى فيه بطريقة تعد من المحاسن، وهو عند أهل هذه الصناعة عبارة عن أن يتكلم المتكلم أو الشاعر باسم مثنى في حشو العجز، يأتي بعده باسمين مفردين هما عين ذلك المثنى، يكون الآخر منهما قافية بيته أو سجعة كلامه، كأنهما تفسير له. وقد جاء من ذلك في السنة الشريفة ما لا يلحق بلاغته، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: يشيب المرء وتشب معه خصلتان: الحرص وطول الأمل، ومن أمثلة هذا الباب في النظم قول الشاعر: أمسي وأصبح من تذكاركم وصبا ... يرثي لي المشفقان الأهل والولد1 قد خدد الدمع خدّي من تذكركم ... واعتادني المضنيان الوجد والكمد وغاب عن مقلتي نومي لغيبتكم ... وخانني المسعدان الصبر والجلد لا غرو للدمع أن تجري غواربه ... وتحته المظلمان القلب والكبد2 كأنما مهجتي شلو بمسبعة ... ينتابها الضاريان الذئب والأسد3 لم يبق غير خفي الروح في جسدي ... فدى لك الباقيان الروح والجسد هذه الأبيات عامرة بالمحاسن، في هذا الباب، غير أن أهل النقد الصحيح ما سكتوا عن تقصيره في البيت الأول، حيث قال فيه: يرثي لي المشفقان الأهل والولد. فإن

_ 1 الوصب: التعب والمرض. 2 غوارب الدمع: أوائله. 3 الشلو: بقية الجسد، المسبعة: مكان وجود السباع، الضاريان: المفترسان.

شفقة الأهل والولد معروفة، والمشفق إذا رثى لشكوى أهله، أو الولد إذا رثى لشكوى والده، كان ذلك تحصيل الحاصل، والمراد هنا رثى لي العدو، ورق لي الصخر وأشباه ذلك. قال ابن أبي الأصبع: وما بشعر قلته هنا من بأس: بي محنتان ملام في هوى بهما ... يرثي لي القاسيان الحب والحجر لولا الشفيقان من أمنية وأسى ... أودى بي المرديان الشوق والفكر1 رأيت في حاشية، على هذين البيتين بخط رفيع: رحم الله الشيخ، لو قال: الشوق والسهر، كان تم وأحسن. وبيت الشيخ صفي الدين في هذا الباب غاية، فإنه يقول في وصف النبي صلى الله عليه وسلم: أميُّ خط أبان الله معجزه ... بطاعة الماضيين السيف والقلم والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم، وبيت الشيخ عز الدين الموصلي رحمه الله: ومن عطاياه روض وشعته يد ... تغني عن الأجودين البحر والديم2 الشيخ عز الدين أتى بالتوشيع على الوضع، ولكنه شن الغارة على ابن الرومي، وفك قواعد بيته، وهو: أبو سليمان إن جادت لنا يده ... لم يحمد الأجودان البحر والمطر أخذ الأجودين والبحر، ورادف المطر بالديم. وهذا ما يليق بأهل الأدب. وبيت بديعتي أقول فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم. ووشع العدل منه الأرض فاتشحت ... بحلة الأمجدين العهد والذمم. وأنا على مذهب زكي الدين بن أبي الأصبع في قوله: وما بشعر قلته هنا من بأس. انتهى.

_ 1 الأسى: الحزن، المردي: المميت. 2 وشع: وشى وزخرف، الديم: الغيوم الممطرة.

ذكر التكميل

ذكر التكميل: آدابه تممت لا نقص يدخلها ... والوجه تكميله في غاية العظم التكميل: هو أن يأتي المتكلم، أو الشاعر، بمعنى تام، من مدح أو ذم أو وصف أو غيره من الأغراض الشعرية وفنونها، ثم يرى الاقتصار على الوصف بذلك المعنى فقط غير كامل، فيأتي بمعنى آخر يزيده تكميلًا، كمن أراد مدح إنسان بالشجاعة، ثم رأى الاقتصار عليها دون مدحه بالكرم غير كامل فيكمله بذكر الكرم، أو بالبأس دون الحلم وما أشبه ذلك من الأغراض. وقد جاء منه في الكتاب العزيز قوله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} 1 فانظر إلى هذه البلاغة، فإنه سبحانه وتعالى علم وهو أعلم أنه لو اقتصر على وصفهم بالذلة للمؤمنين، لكان مدحًا تامًا مشتملًا على الرياضة والانقياد لإخوانهم، ولكن زاده تكميلًا ووصفهم، بعد ذلتهم لإخوانهم المؤمنين، بالعزة على الكافرين، وهذا هو التكميل الذي يتطفل البدر على كماله. ومثاله، في الشعر، قول كعب بن سعيد الغنوي: حليم إذا ما الحلم زين أهله ... مع الحلم في عين العدو مهيب2 قوله: إذا ما الحلم زين أهله، احتراس لولاه لكان المعنى في المدح مدخولًا، إذ بعض التغاضي قد يكون عن عجز يوهم أنه حلم، فإن التجاوز لا يكون حلمًا محققًا إلا عن قدرة، وهو الذي قصده الشاعر بقوله: إذا ما الحلم زين أهله. فإن الحلم ما يزين

_ 1 المائدة 5/ 54 2 مهيب: مهاب أو ذو هيبة

أهله إلا إذا كان عن قدرة، وهذا القدر غاية في باب التكميل، ثم رأى أن مدحه بالحلم وحده غير كامل، فإنه إذا لم يعرف منه إلا الحلم طمع فيه عدوّه، فقال مع الحلم في عين العدو مهيب، قلت: ومما يؤيد هذا التقرير قول الشاعر: وحلم ذي العجز أنت عارفه ... والحلم عن قدرة ضرب من الكرم ومن التكميل الحسن قول كثير عزة: لو أن عزة خاصمت شمس الضحى ... في الحسن عند موفق لقضى لها1 فقوله: عند موفق تكميل حسن، فإنه لو قال عند محكم لتم المعنى، لكن في قوله: عند موفق زيادة تكميل بها حسن البيت والسامع يجد لهذه اللفظة من الموقع الحلو في النفس ما ليس للأولى، إذ ليس كل محكم موفقًا فإن الموفق من الحكام من قضى بالحق لأهله. وقد غلط غالب المؤلفين في هذا الباب، وخلطوا التكميل بالتتميم، وساقوا في باب التتميم شواهد التكميل، فمن ذلك قول عوف السعدي: إن الثمانين وبلغتها ... قد أحوجت سمعي إلى ترجمان هذا البيت ساقوه من شواهد التتميم، وهو أبلغ شواهد التكميل، فإن معنى البيت تام بدون لفظة وبلغتها، وإذا لم يكن المعنى ناقصًا فكيف يسمى هذا تتميمًا، وإنما هو تكميل حسن. قال ابن أبي الأصبع وما غلطهم إلا أنهم لم يفرقوا بين تتميم الألفاظ، وتتميم المعاني، فلو سمي مثل هذا تتميمًا للوزن، لكان قريبًا، ولما2 ساقوه على أنه من تتميم المعاني، وهذا غلط، والرفق بين التتميم والتكميل، أن التتميم يرد على المعنى الناقص فيتممه، والتكميل يرد على المعنى التام فيكمله، إذ الكمال أمر زائد على التمام وقد تقدم هذا الكلام على التتميم في موضعه, ولكن أردت هنا تفصيل التكميل عن التتميم، لتنجلي عن الطالب ظلمة الإشكال بصبح هذا الفرق الدقيق، ومن أحسن التكميل قول شاعر الحماسة: لو قيل للمجد خذ عنهم وخلهم ... بما احتكمت من الدنيا لما حادا

_ 1 الموفق: المصيب أو الموفق إلى الحق. 2 في الأصل: ولفا وما أثبتناه هو الصحيح.

فقوله: بما احتكمت من الدنيا، تكميل في غاية الكمال. ويعجبني، من هذا الباب، قول الشيخ جمال الدين بن نباتة في بعض مطالعه المقمرة: نفس عن الحب ما حادت ولا غفلت ... بأي ذنب وقاك الله قد قتلت معنى بيت الشيخ جمال الدين أيضًا تام، بدون قوله: وقاك الله، ولكن التكميل بوقاك الله قبل قتلت لا يصدر إلا من مثل الشيخ جمال الدين، وما أحقه هنا بقول القائل: قالوا فهل يسمح الدهر الكريم لنا ... بمثله قلت لا والله قد حلفا ومثله قولي في مطلع قصيدة: قد مال غصن النقا عن صبه هيفا ... يا ليته بنسيم العتب لو عطفا معنى البيت تام، بدون نسيم العتب، ولكن استعارة نسيم العتب هنا بعد ميل الغصن وذكر انعطافه غاية في باب التكميل، وفي مع التكميل المناسبة المعنوية والاستعارة اللطيفة، وناهيك بلطف نسيم العتب، وفيه التمكين والانسجام، ومثله قولي في مطلع قصيدة: جردت سيف اللحظ عند تهددي ... يا قاتلي فسلبتني بمجرد معنى البيت تام، بدون قولي يا قاتلي، وقولي يا قاتلي بعد تجريد سيف اللحظ أكمل من بدور الكمال، وقلت، بعد المطلع، ولم أخرج عن التكميل: وأردت أن تسقى بماء حشاشتي ... حاشاك ما يسقي الصقيل من الصدى1 معنى البيت أيضًا تام، بدون قولي حاشاك، ولكنها زادت البيت تكميلًا رفعت به قواعده، ومثله قولي من قصيدة: وأفردتموني للغرام لأنكم ... أخذتم كما شاء الهوى بمجامعي2 معنى البيت تام، بدون قولي كما شاء الهوى، ولكن التكميل بها تكملت به محاسن البيت، ومثله قولي من قصيدة: أذابت القلب في نار الهوى عبثًا ... ومذ سلبته وقالت إنه قالي3 قالت سلوت لحاك الله قلت لها ... الله أعلم يا أسما من السالي4

_ 1 الحشاشة: الروح، الصقيل: من صفات السيف وهو المسنون، الصدى: العطشان أو الذي يعلوه الصدأ. 2 أخذ بمجامعه: سيطر عليه تمامًا. 3 لحاك الله: دعاء عليه بمعنى غضب الله عليك، أسما: ترخيم أسماء، السالي: الناسي.

فلفظة عبثًا في البيت الأول، تكميلها ظاهر ولكن لحى الله من لا ينظر إلى محاسن لحاك الله في البيت الثاني. ومثله قولي من قصيدة: ورب غصن لأطيار القلوب على ... قوامه في رياض الوجد تغريد والمعنى أيضًا تام في هذا البيت، بدون قولي في رياض الوجد، ولكن مناسبة التكميل برياض الوجد بين الغصن والأطيار والتغريد، غاية في هذا الباب. وقد طال الشرح، ولكن مثل التكميل ما يقنص من قدره، ويختصر من أمثلته، وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته: نفس مؤيدة بالحق تعضدها ... عناية صدرت عن بارئ النسم1 بيت الشيخ صفي الدين لم يظهر لبدور التكميل في أفقه إشراق، ومعنى البيت تام ولكن لم يأت فيه الناظم بنكتة تزيده تكميلًا. والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم، وبيت الشيخ عز الدين في بديعيته: تمت محاسنه والله كمله ... فقدره في الورى في غاية العظم2 بيت الشيخ عز الدين أمثل من بيت الشيخ صفي الدين، وتكميله ظاهر فإن معنى بيته تام، بدون قوله والله كمله، ولكن قوله هنا والله كمله في غاية الكمال، فإنها اشتملت على تورية التسمية ونكتة النوع وبيت بديعيتي: آدابه تممت لا نقص يدخلها ... والوجه تكميله في غاية العظم معنى هذا البيت أيضًا تام، بدون قولي لا نقص يدخلها، ولكن هذا النقص هو عين التكميل، والله أعلم.

_ 1 أيد: قوّى، عضد: ساعد. 2 الورى: الناس.

ذكر التفريق

ذكر التفريق: قالوا هو البدر والتفريق يظهر لي ... في ذاك نقص وهذا كامل الشيم1 التفريق في اللغة ضد الاجتماع، وفي الاصطلاح أن يأتي المتكلم أو الناظم إلى شيئين من نوع واحد، فيوقع بينهما تباينًا وتفريقًا، بفرق يفيد زيادة وترجيحًا فيما هو بصدده من مدح أو ذم أو نسيب أو غيره من الأغراض الأدبية، كقول الشاعر في المديح: ما نوال الغمام وقت ربيع ... كنوال الأمير يوم سخاء فنوال الأمير بدرة مال ... ونوال الغمام قطرة ماء2 ومثله: من قاس جدواك بالغمام فما ... أنصف في الحكم بين شكلين أنت إذا جدت ضاحك أبدًا ... وهو إذا جاد دامع العين قال بدر الدين بن النحوية في غير المدح: حسبت جماله بدرًا منيرًا ... وأين البدر من ذاك الجمال قلت: وأحسن منه قول القائل: قاسوك بالغصن في التثني ... قياس جهل بلا انتصاف هذاك غصن الخلاف يدعى ... وأنت غصن بلا خلاف3

_ 1 الشيم: الخصال الحميدة. 2 البدرة: الصرة. 3 الخلاف: شجر الصفصاف، وخلاف: مخالفة.

فالتفريق في الجميع فرقه ظاهر مثل الصبح، ولكن هذا النوع ما هو غاية في البديع، فما يحتمل إطلاق عنان القلم في الكلام عليه أكثر من ذلك، وبيت الشيخ صفي الدين الحلي، في بديعيته، يقول فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم: فجود كفيه لم تقلع سحائبه ... عن العباد وجود السحب لم يدم بيت الشيخ صفي الدين الحلي حسن، في هذا الباب، والتفريق فيه جمع المحاسن في مدح النبي صلى الله عليه وسلم. وبيت العميان في بديعيتهم: لا يستوي الغيث مع كفيه نائل ذا ... ماء ونائله مال فلا تهم1 العميان، غفر الله لهم، مسخوا قول الشاعر: ما نوال الغمام وقت الربيع ... كنوال الأمير يوم سخاء فنوال الأمير بدرة مال ... ونوال الغمام قطرة ماء والظاهر، أن نوال الغمام وقت الربيع محجب عن العميان، ولكن أين هم من موقع التفريق وعظم المباينة، بين بدرة المال وقطرة الماء، هذا مع ما تجشموه من مشاق التعقيد وثقل التركيب والجميع يخف على النفس بالنسبة إلى قولهم في القافية: فلا تهم. نعم ما يحط هذه2 القافية هنا على هذه الصيغة من شم للأدب رائحة، وأين هم من تميكن قافية صفي الدين في قوله: فجود كفيه لم تقلع سحائبه ... عن العباد وجود السحب لم يدم وبيت الشيخ عز الدين الموصلي، في بديعيته، يقول فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم: قالوا هو البحر والتفريق بينهما ... إذ ذاك غم وهذا فارج الغمم بيت الشيخ عز الدين، في هذا الباب، عامر بالمحاسن وحشمة المديح النبوي مشرقة على أركانه، ونوع التفريق فيه أحلى من ليالي الوصال، فإنه مشتمل على تورية التسمية ونكتة النوع البديعي ولطف الانسجام والسهولة، وليس في بديعيته بيت يناظره في علو طباقه. وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم:

_ 1 تهم: تتوهم. 2 في الأصل "هذا".

قالوا هو البدر والتفريق يظهر لي ... في ذاك نقص وهذا كامل الشيم قد أطلقت لسان القلم في وصف بيت الشيخ عز الدين، ولعمري إنه يستحق فوق ذلك فإن التكلف بتسمية النوع، مورى به من جنس المديح، يقل كاهل كل فحل. وقد حبست عنان القلم عن الاستطراد إلى وصف هذا البيت، فإن في إنصاف أهل الذوق ما يغني عن الإطناب في وصفه. انتهى.

ذكر التشطير

ذكر التشطير: وانشق من أدب له بلا كذب ... شطرين في قسم تشطير ملتزم التشطير: هو أن يقسم الشاعر بيته شطرين، ثم يصرع كل شطر منهما، لكنه يأتي بكل شطر من بيته مخالفًا لقافية الآخر، كل شطر عن أخيه، فمن ذلك قول مسلم بن الوليد: موف على مَهَج في يوم ذي رهج ... كأنه أجل يسعى إلى أمل1 هذا اليت تصريعه صحيح، ولكن تصريع الشطر الثاني قافيته الأولى مرفوعة والثانية مجرورة، وهذا عيب في تصريع التشطير، وقول أبي تمام في هذا الباب خالص من ذلك، وهو: تدبير معتصم بالله منتقم ... لله مرتعب في الله مرتقب2 وعلى جادته الواضحة مشى الشيخ صفي الدين الحلي، في بديعيته، وبيته: بكل منتصر للفتح منتظر ... وكل معتزم بالحق ملتزم والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وأنا أقول: يا ليتني كنت معهم، فإنه نوع مبني على قعاقع3 ليس تحتها طائل، ولكن الشروع في معارضة البديعيات أوجب نظمه، وبيت الشيخ عز الدين في بديعيته:

_ 1 المَهَج: النضرة، رَهَج: سحاب رقيق. 2 مرتعب: خائف، مرتقب: يراقب الله في أفعاله وأقواله. 3 القعاقع: الجلبة وكثرة الصوت.

تشطير معتدل بالسيف مشتمل ... في جحفل لهم كالأسد في الأجم1 وبيت بديعيتي أشير فيه إلى انشقاق القمر، في مديح النبي صلى الله عليه وسلم وتقدم قولي في نوع التفريق: قالوا هو البدر والتفريق يظهر لي ... في ذاك نقص وهذا كامل الشيم وقلت بعده في التشطير: وانشق من أدب له بلا كذب ... شطرين في قسم تشطير ملتزم كان الشيخ صفي الدين الحلي يكثر من هذا النوع في غالب قصائده، ولعمري إنه استسمن ذا ورم، وما خطر لي يومًا أنني أدخله إلى بيت من بيوت قصائدي. انتهى.

_ 1 اشتمل بالسيف: تقلده، الجحفل: الجيش الكبير. الأجم: جمع مفرده أجمة: وهي مكان ملتف الأشجار.

ذكر التشبيه

ذكر التشبيه مدخل والبدر في التم كالعرجون صار له ... فقل لهم يتركوا تشبيه بدرهم1 التشبيه: ضروب متشعبة، وهو والاستعارة يُخرجان الأغمض إلى الأوضح، ويقربان البعيد، وقال الجرجاني: التشبيه والتكميل كل منهما بالصورة والصفة، وتارة بالحالة، وهذه صفة التمثيل. والتشبيه ركن من أركان البلاغة، وأركانه أربعة، كقولك: زيد في الحسن كالقرم، فالأول المشبه وهو زيد، والثاني المشبه به وهو القمر والثالث المشبه وهو المتكلم, والرابع التشبيه وهو الإلحاق المذكور في الشبه، وأدوات التشبيه خمسة: الكاف وكأن وشبه ومثل والمصدر بتقدير الأداة، كقوله تعالى: {وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ} 2 ومن الشعر كقول حسان: بزجاجة رقصت بما في قعرها ... رقص القلوص براكب مستعجل3 ومن الشروط اللازمة في التشبيه أن يشبه البليغ الأدون بالأعلى، إذا أراد المدح اللهم إلا إذا أراد الهجو، فالبلاغة أن يشبه الأعلى بالأدون، كقول ابن الرومي، سامحه الله، في هجو الورد: كأنه سرم بغل حين سكرجه ... عند البراز وباقي الروث في وسطه4

_ 1 العرجون: ما يحمل التمر، وهو من النخل كالعنقود من العنب ووجه الشبه اللون الذهبي. 2 النمل: 88/ 27. 3 القلوص: من الإبل: الفتية القوية. 4 السرم: طرف المعي الغليظ المستقيم أو فتحة إخراج الفضلات من الجسم. سَكْرَج: لم نعثر على معنى لهذه اللفظة في ما بين أيدينا ونظنها من السكرجة، وهي إناء صغير مستدير: فيكون سكرج: معنى لهذه اللفظة في ما بين أيدينا ونظنها من السكرجة، وهي إناء صغير مستدير: فيكون سكرج: جعله مستديرًا كالسكرجة. البراز: إخراج الفضلات. الروث: فضلات الحيوان.

الظاهر أنه كان جعليًا، وإلا مثله ما يخالف الإجماع ويبالغ في مثل هذه المغايرة، ولعمري إنه في بابه من التشابيه البليغة، مع نفور الطباع عن صيغته، ومثله قول أبي العلاء السروي، في هجو النرجس وتشبيه أعلاه بدونه: كراثة ركبت عليها ... صفرة بيض على رقاقه1 وأصحاب المعاني والبيان أطلقوا أعنة الكلام في ميادين حدود التشبيه وتقاريرها، وهو عندهم الدلالة على مشاركة أمر لأمر في معنى. وقال الرماني التشبيه: هو العقد على أن أحد الشيئين يسد مسد الآخر في حال، وهذا هو التشبيه العام الذي يدخل تحته التشبيه البليغ وغيره والتشبيه البليغ هو إخراج الأغمض إلى الأوضح، مع حسن التأليف. ومنهم من قال: التشبيه هو الدلالة على اشتراك شيئين في وصف هو من أوصاف الشيء الواحد. وقال ابن رشيق، في العمدة: التشبيه صفة الشيء بما قاربه وشاكله من جهة واحدة، لأنه لو ناسبه مناسبة كلية كان إياه، ألا ترى إلى قولهم: خد كالورد إنما مرادهم احمرار أوراقه وطراوتها لا ما سوى ذلك من صفرة وسطه وخضرة كمائمه. انتهى حد ابن رشيق. وقيل: التشبيه إلحاق أدنى الشيئين بأعلاهما في صفة اشتركا في أصلها، واختلفا في كيفيتها قوة وضعفًا. قلت: وهذا حد مفيد. وأورد ابن أبي الأصبع في كتابه تحرير التحبير، للرماني حدًّا زاد في حسنه على الحد، وهو أن التشبيه تشبيهان: الأول منهما، تشبيه شيئين متفقين بأنفسهما، كتشبيه الجوهر بالجوهر، مثل قولك: ماء النيل كماء الفرات، وتشبيه العرض بالعرض، كقولك: حمرة الخد كحمرة الورد، وتشبيه الجسم بالجسم، كقولك: الزبرجد مثل الزمرد. والثاني، تشبيه شيئين مختلفين بالذات لجمعهما معنى واحدًا مشتركًا، كقولك: حاتم كالغمام، وعنترة كالضرغام. وتشبيه الاتفاق، وهو الأول، تشبيه حقيقي، وتشبيه الاختلاف، وهو الثاني، تشبيه مجازي، والمراد المبالغة، انتهى. ووقوع حسن البيان والمبالغة في التشبيه على وجوه: منها، إخراج ما لا تقع عليه

_ 1 الكراثة: واحدة الكراث وهو نبات بري طعمه شبيه بطعم الثوم. والرقاقة: واحدة الرقاق وهو الخبز المنبسط الرقيق "خبز الصباح" أو الأرض اللينة المنبسطة.

الحاسة، إلى ما تقع عليه الحاسة، وقد عنَّ لي أن أوضح هنا للطالب، ما وقع من النظم البديع، من تشبيه المحسوس بالمحسوس، وتشبيه المعقول بالمعقول، وتشبيه المعقول بالمحسوس وتشبيه المحسوس بالمعقول. وهذا القسم الرابع، عند أصحاب المعاني والبيان، غير جائز، ويأتي الكلام عليه في موضعه. وقد تعين تقديم ما وعدت به أولا من تشبيه المحسوس بالمحسوس، فإن الذي تقع عليه الحاسة في التشبيه أوضح مما لا تقع عليه الحاسة، والشاهد أوضح من الغائب. وقال قدامة: أفضل التشبيه ما وقع بين شيئين اشتراكهما في الصفات أكثر من انفرادهما، حتى يدلي بهما إلى الاتحاد. انتهى. ولم يخطر لي أن أورد هنا من التشبيهات البديعية، التي اخترتها أمثلة لهذا النوع، إلا ما خف على السمع وعذب في الذوق وارتاحت الأنفس إلى حسن صفاته، فإن التشابيه التي تقادم عهدها للعرب، رغب المولدون عنها فإنها، مع عقادة التركيب، لم تسفر عن بديع معنى، إلا ما قل وندر، فمن ذلك قول امرئ القيس: وتعطو برخص غير شثنٍ كأنه ... أساريع ظبي أو مساويك أسحل1 فغاية امرئ القيس هنا، أنه شبه أنامل محبوبته بأساريع، وهي دواب تكون في الرمل ظهورها ملس، وبمساويك أسحل والأسحل شجر له أغصان ناعمة، أين هذا من قول الراضي بالله في هذا الباب: قالوا الرحيل فأنشبت أظفارها ... في خدها وقد اعتلقن خضابا2 فكأنها بأنامل من فضة ... غرست بأرض بنفسج عنابا3 ومثله قول القائل: قبلته فبكى وأعرض نافرًا ... يذري المدامع من كحيل أدعج4 فكأن سقط الدمع مع أجفانه ... لما بدا في خده المتضرج5 برد تساقط فوق ورد أحمر ... من نرجس فسقى رياض بنفسج

_ 1 تعطو: تتناول الشيء، برخص: أي بكف أو بنان. رخص أي طري ناعم، الشثن: السميك الغليظ، الأساريع: واحدها أسروع، أو يسروع وهو نوع من الدود الأبيض الأبدان الأحمر الرءوس تشبه به الأصابع، الظبي: الغزال، المساويك: واحدها مسواك: وهو عود ليفي تنظف به الأسنان. الإسحل: شجر يشبه الأثل ينبت في منابت الأراك تستعمل أغصانه للاستياك. 2 أنشب أظافره: غرزها. الخضاب: الحناء والصباغ ذي اللون البني الذي يميل إلى الأحمر. 3 العناب: نوع من الثمر شبيه بثمر الزيتون، حلو الطعام لونه كلون الخضاب عند النضج. 4 الأدعج: الذي في عينيه دعج، والدعج هو شدة سواد سواد العين وشدة بياض بيضاها مع اتساعها. 5 المتضرج: المشرب حمرة.

انظر أيها المتأمل، إلى هذه التشابيه التي يرشفها السمع مدامًا، وتهيم الأذواق السليمة في محاسنها غرامًا، ومن ذلك قول ابن حاجب النعمان: ثغر وخد ونهد واحمرار يد ... كالطلع والورد والرمان والبلح1 ومثله قول ابن رشيق: بفرع ووجه وقد وردف ... كليل وبدر وغصن وحقف2 المراد هنا من حسن التشبيه وبليغه غير كثرة العدد في الصفات، فإن قاضي القضاة نجم الدين بن البارزي، نور الله ضريحه، وصل فيه من العدد إلى سبعة، وأوردت ذلك في باب اللف والنشر، وأوصله الناس إلى أكثر من ذلك، ولكن جل القصد هنا غير كثرة العدد فإن المراد من التشبيه، غرابة أسلوبه وسلامة اختراعه، كقول القائل: وتحدث الماء الزلال مع الحصى ... فجرى النسيم عليه يسمع ما جرى فكأن فوق الماء وشيًا ظاهرًا ... وكأن تحت الماء درًا مضمرًا3 أقول: إن تشبيه هذا الدر المضمر هنا، أغلى قيمة من الدر الظاهر في عقود الأجياد، ومثله في الغرابة وسلامة الاختراع، قول ابن المعتز: كأنه وكأن الكأس في فمه ... هلال أول شهر غاب في الشفق ومن ذلك قوله: على عقار صفراء تحسبها ... شيبت بمسك في الدن مفتوت4 للماء فيها كتابة عجب ... كمثل نقش في فص ياقوت5 ومثله قول ابن حجاج، وهو بديع: هذي المجرة والنجوم كأنها ... نهر تدفق في حديقة نرجس ومن مخترعات ابن المعتز في تشبيه الهلال، قوله: انظر إلى حسن هلال بدا ... يهتك من أنواره الحندسا6 كمنجل قد صيغ من عسجد ... يحصد من زهر الدجى نرجسا

_ 1 النهد: الثدي. الطّلع: غلاف يشبه الكوز ينفتح عن حب منضود. 2 الردف: العجز. الحقف: الكثيب من الرمل. 3 الوشي: التطيرز. المضمر: المكنون. 4 الدن: وعاء الخمر. شيبت: خلطت ومزجت. 5 الفص: الحص، والياقوت: نوع من الأحجار الكريمة لونه أزرق رائق. 6 الحندس: الظلام.

ومن مخترعاته أيضًا في الهلال: قد انقضت دولة الصيام وقد ... بشر سقم الهلال بالعيد يتلو الثريا كفاغر شره ... يفتح فاه لأكل عنقود1 ومثله قوله فيه: وجاءني في قميص الليل مستترًا ... يستعجل الخطر من خوف ومن حذر ولاح ضوء هلال كاد يفضحنا ... مثل القلامة قد قدت من الظفر2 هذا التشبيه، ذكروا أنه من مخترعات ابن المعتز: ولكن زاده القاضي الفاضل بهجة، ونقله من الأعلى إلى الأدنى، فإنّ رتبة الهلال وعلوها في التشبيه على قلامة الظفر ما برحت مقررة في الخواطر، إلى أن نقلها القاضي الفاضل، بطريق بديعية اقتضتها الحال، وهي قوله مبالغًا في وصف قلعة نجم بالعلو: وأما قلعة نجم، فهي نجم في سحاب، وعقاب في عقاب، وهامة لها الغمامة عمامة، وأنملة إذا خضبها الأصيل، كان الهلال لها قلامة. فخضاب الأصيل لهذه الأنملة، حسن أن يكون الهلال لها قلامة، وهذي غاية فاضلية، لا تدرك، وقد وصلوا في تشبيه الهلال إلى السبعين، ولكن ما أوردت هنا إلا أبلغ ما وقع في تشبيهه. وبيعجبني من التشابيه البليغة، في هذا الباب، قول ابن طباطبا: أما والثريا والهلال جلتهما ... لي الشمس إذ ودعت كرهًا نهارها كأسماء إذ زارت عشاء وغادرت ... دلالًا لدينا قرطها وسوارها3 ومثله في الحسن والغرابة، قول أبي نواس: ويمين الجوزاء تبسيط باعًا ... لعناق الدجى بغير بنان وكأن النجوم أحداق روم ... ركبت في محاجر السودان ومثله قول القائل: كأن نجوم الليل مزهرة لنا ... ثغور بني حام بدت للتثاؤب

_ 1 الفاغر: الذي يفتح فاه وهو خال من الطعام. 2 القلامة: القطعة من الظفر بعد قصه. 3 القرط: ما يعلق في الأذن من الحلي "الحلق" والسوار: ما يحيط بالمعصم من الحلي.

ويعجبني، من التشابيه الغريبة، قول ابن نباتة السعدي، في جواد أدهم أغير محجل: تختال منه على أغر محجل ... ماء الدياجي قطرة من مائه وكأنما لطم الصباح جبينه ... فاقتص منه فخاض في أحشائه ومن التشابيه اللطيفة البديعية، قول القاضي التنوخي من قصيدة: وراح من الشمس مخلوقة ... بدت لك في قدح من نضار كأن المدير لها باليمين ... إذا مال للشرب أو باليسار تدرع ثوبًا من الياسمين ... له فرد كم من الجلنار1 ومثله في اللطف والغرابة قول القائل: كم وردة تحكي بسبق الورد ... طليعة تسرعت من جند قد ضمها في الغصن قرص البرد ... ضم فم لقبلة من بُعد ودخل مجير الدين بن تميم إلى حديقة هذه الوردة، فزاد بعدها تقريبًا بقوله: سبقت إليك من الحدائق وردة ... وأتتك قبل أونها تطفيلا2 طمعت بلثمك إذ رأتك فجمعت ... فمها إليك كطالب تقبيلا وظرف من قال في الوردة: كأنها وجنة الحبيب وقد ... نقطها عاشق بدينار ومثله، في الظرف قول أيدمر المحيوي في النرجس: وكأن نرجسه المضاعف خائض ... في الماء لف ثيابه في رأسه ويعجبني في تشبيه النرجس، قول شهاب الدين أحمد القماح، راجح رجاح الديار المصرية، في فن الزجل في بعض أزجاله وفي الأزاهير قم ترى شيء تذهب ... وشي تصببوا قد زها وتفضض النرجس أحداقوا الشهل نعسانه ... إلا أنها من الندى ليس تغمض وحين فتح عينو في وجهي ... شبهت اصفر ولما بدا في الأبيض

_ 1 تدرع: لبس المدرعة وهي الثوب الملاصق للبدن، الجلنار: زهر الرمان. 2 التطفيل: ما قبل النضوج. طفل النبات: لم يَطُل.

ما زعفران على نصافي مطبوع ... وإلا فصوص كهرب في بلار يوجد وإلا تخل شمسات لجين مبرودات ... قد سمروا فيها مسامير عسجد وتلطف ابن المعتز في تشبيه حباب الراح بقوله: يجول حباب الماء في جنباتها ... كما جال دمع فوق خد مورد1 ومثله في اللطف قول ديك الجن الحمصي: موردة في كف ظبي كأنما ... تناولها من خده فأدارها ومن المستغرب، في وصف البنفسج، ما نسب إلى ابن المعتز وهو: ولازوردية أوفت برزقتها ... بين الرياض على زرق اليواقيت2 كأنها فوق طاقات نهضن بها ... أوائل النار في أطراف كبريت أوردوا على هذا التشبيه نقدًا، ولكن ما يحمل البنفسج هنا نقله، ومن التشابيه الغريبة، قول بعضهم: في تشبيه النار: انظر إلى النار وهي مضرمة ... وجمرها بالرماد مستور شبه دم من فواخت ذبحت ... وفوقه ريشهن منشور3 ومثله، في الغرابة والحسن، قول ابن الخلال في تشبيه الشمعة: وصحيحة بيضاء تطلع في الدجى ... صبحًا وتشفي الناظرين بدائها شابت ذوائبها أوان شبابها ... واسود مفرقها أوان فنائها كالعين في طبقاتها ودموعها ... وسوادها وبياضها وضيائها أقول: إنها أنور من شمعة الأرجاني، وإن مشى غالب الناس على ضوئها، ومن التشابيه الغريبة المنسوبة إلى ابن المعتز، أو ابن الرومي، تشبيه أرباع الجوز الأخضر، وهو: جاءت بجوز أخضر مكسر مقشر ... كأنما أرباعه مضغة علك كندر4

_ 1 حباب الماء: الفقاقيع التي تعلو سطحه. 2 لازوردية: لونها لون اللازورد وهو معدن يتولد في جبال أرمينية وفارس وأجوده الصافي الشفاف الأزرق الضارب إلى حمرة وخضرة. 3 فواخت: مفردها، فاخته: نوع من الحمام المطوق. 4 الكندر: نوع من الصمغ يستخرج من شجر شائك ورقه كالآس.

ومن التشابيه العقم التي لم يسبق صاحبها إليها، قول القائل في أحدب: قصرت أخادعه وغاب قذاله ... فكأنه مترقب أن يصفعا وكأنه قد ذاق أول صفعة ... وأحس ثانية لها فتجمعا1 ومما ينسب إلى إمام هذه الصناعة، القاضي الفاضل، قوله في نفسه، وهو في غاية الظرف: ما كان يكمل حر ذا ... الإيوان حتى ازداد قبه2 فكأنني فيه خرو ... ف شوى ومن فوقي مكبه3 ويعجبني من التشابيه البليغة قول القائل: أأميم لو شاهدت يوم نزالنا ... والخيل تحت النقع كالأشباح4 تطفو وترسب في الدماء كأنها ... صور الفوارس في كئوس الراح ومثله في الحسن قول الناشئ: في كأسها صور تظن لحسنها ... عربًا برزن من الحجال وغيدا وإذا المزاج أثارها فتقسمت ... ذهبًا ودرًا توأمًا وفريدا فكأنهن لبسن ذاك مجاسدًا ... وجعلن ذا لنحورهن عقودا5 هذا المعنى ولده الناشئ، من قول أبي نواس في التصوير: بنينا على كسرى سماء مدامة ... مكللة حافاتها بنجوم فلو رد في كسرى بن ساسان روحه ... إذًا لاصطفاني دون كل نديم

_ 1 الأخادع: هما الأخدعان: عرقان في صفحتي العنق. القذال: ما بين الأذنين من مؤخر الرأس. ويروى البيت: بـ"غار قذاله" بدل "غاب قذاله" وغار أصح لأن غار يحتمل الوجود مع الخفاء بينما غاب لا يحتمل الوجود في مكانه ويروى الثاني: وكأنما صفعت قفاه مرة. وهذان البيتان لابن الرومي. 2 الإيوان: عرش الملك. ومنه إيوان كسرى. 3 المكبة: واحدة الكبة. وهي نوع من الطعام يصنع بواسطة اللحم المدقوق والبرغل. أو واحد الكباب، وهي عبارة عن كتلة اللحم المفروم "كفتة". 4 أميم: ترخيم أميمة. النزال: الحرب والمبارزة. النقع: الغبار الكثيف. 5 المجاسد: مفردها مجسد وهو من الثياب ما لامس الجسد.

وألم به ابن قلاقس، فيما بعد، وسبكه في قالب حسن بقوله: دارت زجاجتها وفي جنباتها ... كسرى أنو شروان في إيوانه فخلعت عن عطفيه حلة قهوة ... وشربتها فغدوة في سلطانه1 وألم به الشيخ صلاح الدين الصفدي وأجاد إلى الغاية، مع حسن التضمين، بقوله: ومشمولة قد هام كسرى بكأسها ... فأضحى ينادي وهو فيها مصور وقفت لشوقي من وراء زجاجة ... إلى الدار من فرط الصبابة أنظر2 وألم به بعده الصاحب فخر الدين بن مكانس، رحمه الله تعالى، بقوله: إذا ما أديرت في حشا عسجدية ... بها كل ذي تاج وقصر تصوّرا3 فحسبك نبلًا في السيادة أن ترى ... نديميك في الكاسات كسرى وقيصرا لم أورد هذه الأبيات التي ولدها المتأخرون في معنى التصوير، خالية من التشبيه وأداته إلا لفائدة عنَّ لي إيرادها هنا، وهي معرفة الموجب لنقش الصورة على ظاهر الكاسات. ذكر الفقيه أبو مروان الكاتب ابن بدرون، في شرحه لقصيدة الوزير عبد المجيد بن عبدون، أن سابور بن هرمز الملقب بذي الأكتاف، لما رجع من قتال بني تميم قصد الروم والدخول إلى القسطنطينية متنكرًا، واستشار قومه قبل ذلك فحذروه فلم يقبل قولهم وصار إليها فصادف وليمة لقيصر قد اجتمع فيها الخاص والعام فدخل في جمتلهم وجلس على بعض موائدهم، وكان قيصر قد أحكم تصوير سابور على آنية شرابه فانتهت الكأس في المجلس إلى يد بعض ندماء الملك وكان ذكيًّا حاذقًا، ومن الاتفاق العجيب جلوس سابور في مقابلته فصار النديم ينظر إلى الصورة وإلى سابور ويتعجب من تقارب الشبهين، فلم يسعه غير القيام إلى الملك والإسرار إليه بما شاهده، فقبض في الحال على سابور, ولما مثل بين يدي قيصر سأله عن خبره فقال: أنا من أساورة سابور هربت منه لأمر خفته. فلم يقبل ذلك منه وقدم إلى السيف فأقر بنفسه وجعل في جلد بقرة. وتمام أمره إلى أن خلص وعاد إلى مكله يطول شرحه هنا، ومن أراد أن ينظر من "سلوان المطاع" في السلوانة الثانية فإنها مشتملة على أنواع من الحكمة.

_ 1 القهوة: الخمر. 2 الصبابة: الوجد وشدة الشوق. 3 إذا ما أديرت الراح في كأس ذهبية.

رجع إلى فتح باب ما كنا فيه، من تشبيه المحسوس بالمحسوس، فمن التشابيه الملوكية التي لا يقع مثلها للسوقة، تشبيه سيف الدولة بن حمدان في قوس قزح وهو: وساق صبيح للصبوح دعوته ... فقام وفي أجفانه سنة الغمض يطوف بكاسات العقار كأنجم ... فمن بين منفض لدينا ومنقض وقد نشرت أيدي الجنوب مطارفًا ... على الجود كنا والحواشي على الأرض1 يطرزها قوس السحاب بأصفر ... على أحمر في أخضر أثر مبيض كأذيال خود أقبلت في غلائل ... مصبغة والبعض أقصر من بعض2 ومن تشابيه سيف الدولة الغريبة أيضًا قوله: أقبله على جزع ... كشرب الطائر الفزع ومن التشابيه اللطيفة ما نسب إلى إبليس، فإن القاضي شمس الدين بن خلكان ذكر في تاريخه، عند ترجمة ابن دريد، أنه قال: سهرت ذات ليلة، فلما كان آخر الليل، غمضت عيني فرأيت رجلًا طويلًا أصفر اللون كوسجًا3 دخل عليَّ وأخذ بعضادتي4 الباب، فقال: أنشدني أحسن ما قلت في الخمر. فقلت: ما ترك أبو نواس لأحد دخولًا في هذا الباب. فقال: أنا أشعر منه. فقلت: ومن أنت؟ قال: أنا أبو ناجية5 من أهل الشام، وأنشدني: وحمراء قبل المزج صفراء بعده ... أتت بين ثوبي نرجس وشقائق حكت وجنة المعشوق صرفًا فسلطوا ... عليها مزاجًا فاكتست لون عاشق ومن بليغ التشبيهات وبديعها، قول أبي محمد عبد الله بن قاضي ميلة، في قصيدته الفائية التي امتدح بها ثقة الدولة القضاعي، صاحب صقلية الروم، وسارت له به الركبان، وأثبتها القاضي شمس الدين بن خلكان بكمالها في تاريخه، وقد تقدم ذكر مطلعها في حسن الابتداء، والتشبيه الموعود بإيراده هنا قوله من القصيدة المذكورة:

_ 1 الجنوب: الريح الجنوبية. مطارف: جمع مطرف وهو الثوب من خز. الدكن: التي يميل لونها إلى الدُّكنة والعتمة في أولها. 2 الخود: الحسناء. الغلائل: واحدتها غلالة وهي الثوب. 3 الكوسج: الذي نبتت لحيته على ذقنه فقط ولم تنبت على العارضين. أو الناقص الأسنان. 4 عضادتي الباب: هما الخشبتان المثبتتان في الحائط على جانبيه. 5 أبو ناجية: من ألقاب إبليس.

وجؤجؤ مزن الرعد يستل ودقه ... ترى برقه كالحية الصل يطرف1 ذكرت بها ريا وما كنت ناسيًا ... فأذكر لكن لوعة تتضعف كأني إذا ما لاح والرعد معول ... وجفن السحاب الجون بالماء يذرف2 سليم وصوت الرعد راق وودقه ... كنفث الرقى من عظم ما أتلهف ومن لطائف التشبيهات البليغة قول القاضي الفاضل، من قصيدة: كأن ضلوعي والزفير وأدمعي ... طلول وريح عاصف وسيول3 ومثله في اللطف قوله: لو لم يعطل خاطري من سلوة ... وما كان خدي بالمدامع حالي4 أودعته قلبي فخان وديعتي ... فسواده في خده كالخال ومن التشابيه الغريبة البديعة، قوله أيضًا، من قصيدة أخرى: وقد تهادت سيوف الهند إذ خضبت ... كالشرب حين تهادى بالزجاجات5 ويعجبني، من لطائف التشبيه، قول محي الدين بن قرناص الحموي: من لقلبي من جور ظبي هواه ... لي شغل عن حاجر والقويق6 خصره تحت أحمر البند يحكي ... خنصرًا فيه خاتم من عقيق ومن التشابيه البديعة قول مجير الدين بن تميم: ونهر إذا ما الشمس حان غروبها ... ولاحت عليه في غلائلها الصفر رأينا الذي أبقت به من شعاعها ... كأنا أرقنا فيه كأسًا من الخمر ومثله قوله: وناعورة قد ألبست لحيائها ... من الشمس ثوبًا فوق أثوابها الخضر كطاووس بستان تدور وتنجلي ... وتنفض عن أرياشها بلل القطر

_ 1 الجؤجؤ؛ صدر السفينة، ومجتمع رءوس عظامه. وجؤجؤ المزن: مجتمعه. المزن: جمع مزنة وهي الغيمة الممطرة. الودق: المطر. الحية الصل: أخبث الحيات. ويطرف: يدمع أو ينزل. 2 السحاب الجون: السحاب الأسود، وهو من أكثر السحاب مطرًا. 3 الطلول: جمع مفرده طلل وهو الأثر المتبقي من الشيء بعد زواله. 4 حالي: أي مُحلى من الحلى. 5 تهادى: تمايل في مشيته، الشرب: جماعة الشاربين. 6 حاجر والقويق: اسمي مكان.

ومن التشابيه البليغة الرافلة في حلل التورية، قوله أيضًا: أبدى السنان جراحة في خده ... تحت العذار فعال قلب قاسي وتطلبوا الآسي فما ظفروا به ... معهم وعز وجوده في الناس شبهت سوسنة أبانت وردة ... تحت البنفسج ما لها من آس ومثله قوله: لو كنت حين علوت ظهر مطية ... لم يعتلقها للمطي عيون وتوسطت بحر السراب حسبتني ... من فوقها ألفًا وتحتي نون ومثله قوله: شبهت خدك يا حبيبي عندما ... أبدى الجمال به عذارًا أشقرا تفاحة حمراء قد كتبوا بها ... خطًّا رقيقًا بالنضار مشعرا1 ويعجبني قوله، مع التشبيه البليغ وحسن التضمين الذي ما تضمن مثله ديوان: غدير دار نرجسه عليه ... ورق نسيمه وصفا وراقا تراه إذا حللت به لورد ... كأن عليه من حدق نطاقا2 ويعجبني، من لطائف التشبيه، تخيل محي الدين بن قرناص الحموي بقوله: لقد عقد الربيع نطاق زهر ... يضم لغصنه خصرًا نحيلًا ودب مع العشي عذار طل ... على نهر حكى خدًّا أسيلا3 تشبيه النهر هنا بالخد الأسيل ليس له في الحسن مثيل. ومثله قوله: لما تبدى النهر عند عشية ... والروض يخضع للصبا والشمأل4 عاينته مثل الحسام وظله ... يحكي الصدا والريح مثل الصيقل5 ومن التشابيه البليغة، التي جمعت بحسن التورية بين الصورة والمعنى وشبب

_ 1 النضار: الذهب الخالص. مشعرا: مكتوبًا شعرًا. 2 النطاق: الحزام. 3 الأسيل: الأملس المستطيل، وهو أجمل الخدود. 4 الصبا والشمأل: رياح تهب على الصحراء، الأولى من الجنوب والثانية من الشمال. 5 الحسام: السيف. الصيقل: الذي يصقل السيوف أي يشحذها.

بمحاسنها الرواة في كل معنى، قول الشيخ جمال الدين بن نباتة، في وصف قوس البندق بعد تغزله في الرامي: قد حمد القوم به عقبى السفر ... عند اقتران القوس منه بالقمر لولا حذار القوس من يديه ... لغنت الورق على عطفيه1 في كفه محنية الأوصال ... قاطعة الأعمار كالهلال2 ثم قال منها، وهي الطردية الموسومة بنظم السلوك في مصائد الملوك، ولم يخرج عن تشبيه القوس مع اشتراك التورية: كأنها حول المياه نون ... أو حاجب بما نشا مقرون ويعجبني منها قوله، في وصف التم مع خمس التضمين: تخاله من تحت عنق قد سجا ... طرة صبح تحت أذيال الدجا3 ومنها يشبه الطيور الواقعة على قسي الرماة: كأنها وهي لدينا وقع ... لدى محاريب القسي ركع4 ومن التشابيه الغريبة التي لم يسبق الشيخ جمال الدين بن نباتة إليها قوله: أشكو السقام وتشكو مثله امرأتي ... فنحن في الفرش والأعضاء ترتج5 نفسان والعظم في نطع يجمعنا ... كأنما نحن في التمثيل شطرنج6 ومثله في الغرابة، قوله من قصيدته اللامية التي عارض بها كعب بن زهير، في مديح النبي صلى الله عليه وسلم مع التضمين الفائق: ما يمسك الهدب دمعي حين أذكركم ... إلا كما يمسك الماء الغرابيل ومن لطائف التشبيهات، قول بدر الدين بن حسن الزغاري، في وصف زهر الزنبق: وزهرة من زنبق ... أنوارها وهاجه صفراء في مبيضة ... كالراح في الزجاجة

_ 1 الورق: الحمائم. 2 محنية الأوصال: القوس. 3 سجا: سكن وهدأ. الطرة: الغرة وهي أول الشيء. 4 محاريب: جمع محراب: وهو مكان العبادة. 5 ترتج: تهتز وترتجف. 6 النطع: الجلد.

ويعجبني من التشبيه البديع، قول الشيخ عز الدين الموصلي مع حسن التضمين: وسامري أعار البدر منه سنا ... سموه نجمًا وهذا النجم عرار1 تهتز قامته من تحت عمته ... كأنه علم في رأسه نار وأما التشبيه الذي ولده الشيخ برهان الدين القيراطي، فإنه من غايات هذا الباب، وهو قوله من قصيدة: والبدر يستر بالغيوم وينجلي ... كتنفس الحسناء في مرآتها وقال أبو حفص برد: والبدر كالمرآة غير صقلها ... عبث الغواني فيه بالأنفاس والمضمن الربع الأخير من البيت، وهو من شعر أبي بكر محمد بن هاشم. ومن لطيف التشبيه قول علاء الدين، علي بن أيبك الدمشقي: منمنم العارض غنى لنا ... أشياء في السمع حلا ذوقها2 كأنما في فيه قمرية ... تشدو ومن عارضه طوقها3 ومن التشابيه البديعية التي لم تدرك في هذا الباب، تشابيه الصاحب فخر الدين بن مكانس، في قصيدته المشهورة المشتملة على وصف شجر السرح: مالت على النهر إذ جاش الخرير به ... كأنها أذن مالت لإصغاء كأن صمغتها الحمرا بقشرتها الدكـ ... ـناء قرص على أعكان سمراء4 ومنها في وصف سواد السفينة على بحر النيل: تسعى إليها على جرداء جارية ... من آلة كهلال الأفق حدباء سوداء تحكي على الماء المصندل شا ... مة على شفة كالشهد لعساء5 وتظرف الشيخ عز الدين الموصلي بقوله، في هذا النوع وإن لم يأت ببليغ التشبيه:

_ 1 سامري: نسبة إلى السامرة. العراب: نبات طيب الرائحة. 2 المنمنم: اللطيف الأعضاء. 3 قمرية: نوع من الحمام حسن الصوت. 4 أعكان: جمع عُكن وهو ما انطوى وتثنى من لحم البطن سِمَنًا. 5 المصندل: المطلي بماء الصندل وهو شجر هندي طيب الرائحة. لعساء: التي في شفتيها سواد.

قيل صف هذا الذي همت به ... قلت في وصفي مع حسن المسالك هو كالغصن وكالظبي وكالشمـ ... ـس وكالبدر وما أشبه ذلك لطف التشبيه في قوله: وما أشبه ذلك. ومن التشابيه التي لم أسبق إليها قولي من قصيدة: حين قابلت خده بدموع ... أثرت خلت ثوب خز مختم ومثله قولي من قصيدة: والغصن يحكي النون في ميلانه ... وخياله في الماء كالتنوين ومثله قولي من المدائح المؤيدية: يا حامي الحرمين والأقصى ومن ... لولاه لم يسمر بمكة سامر والله إن الله نحوك ناظر ... هذا وما في العالمين مناظر1 فرج على الملحون نظم عسكرا ... وأطاعه في النظم بحر وافر فأنبتّ منه زحافه في وقفه ... يا من بأحوال الوقائع شاعر2 وجميع هاتيك البغاة بأسرهم ... دارت عليهم من سطاك دوائر وعلى ظهور الخيل ماتوا خيفة ... فكأن هاتيك السروج مقابر تالله لقد وقع هذا التشبيه من مولانا السلطان، خلد الله ملكه بموقع، وأعجبه غاية الإعجاب، واستعاده منه مرارًا3. ومن التشابيه العقم قولي في وصف حمائم البطائق4، من الرسالة التي عارضت بها الفاضل: كم زاحمت النجوم بالمناكب حتى ظفرت بكف خضيب، وانحدرت كأنها دمعة سقطت على خد الشفيق لأمر مريب، وكم لمع في أصيل الشمس خصاب كفها الوضاح، فصارت بسموها وفرط البهجة كمشكاة فيها مصباح. انتهى ما أوردته، نظمًا ونثرًا، من بليغ التشبيه في باب المحسوس بالمحسوس.

_ 1 مناظر: مشابه. 2 انبتّ: انقطع. 3 قوله: واستعاده منه مرارًا أي في المنشد وفي ذلك إشارة إلى أن المنشد غير الكاتب، والكاتب في بداية الكلام لنفسه بقوله: ومثله قولي في المدائح المؤيدية، ترى أيكون ابن حجة قد أغار على شعر شاعر مغمور ونسب لنفسه ما ليس لها؟ أم يكون هذا الذي حصل نوعًا من التحريف؟ 4 حمام البطائق: الحمام الزاجل الذي كان يستعمل في نقل الرسائل.

وقد تعين أن أورد هنا ما وقع، في النظم، من التشبيه الذي هو غير بليغ، لينفتح هن الطالب وتصفو مرآة ذوقه، فقد عاب الأصمعي بين يدي الرشيد قول النابعة: نظرت إليك بحاجة لم تقضها ... نظر المريض إلى وجوه العوّد فقال: يكره تشبيه المحبوب بالمريض، ومثله قول أبي محجن الثقفي في وصف قينة: ترجع العود أحيانًا وتخفضه ... كما يطير ذباب الروضة الغرد قد تقدم القول، وتقرر أن المولدين ومن تبعهم رغبوا عن تشابيه العرب، لأنها مع عقادة التركيب لم تسفر عن كبير أمر. وقال ابن رشيق، في العمدة: إن طريق العرب خولفت في كثير من الشعر إلى ما هو أليق بالوقت وأمس بأهله، فإن القينة الجميلة لم ترض أن تشبه نفسها بالذباب، كما قال أبو محجن. ومثل ذلك قول ابن عون الكاتب: يلاعبها كف المزاج محبة ... لها وليجري الآن بينهما الأنس فتزبد من تيه عليه كأنها ... عزيزة خدر قد تخبطها المس1 بشاعة هذا التشبيه تمجها الأذواق الصحيحة، وتنفر منها الطباع السليمة، فإن أهل الذوق ما يطيب لهم أن يشربوا شيئًا يشبه زبد المصروع. ومن التشابيه الغريبة، التي جمعت بين عدم البلاغة وعقادة التركيب، قول الشاعر: فأصبحت بعد خط بهجتها ... كأن قفرًا رسومها قلما التقدير فأصبحت بعد بهجتها قفرًا كان قلما خط رسومها. وعدوا من التشابيه التي هي غير بليغة، قول الشاعر في وصف الروض: كأن شقائق النعمان فيه ... ثياب قد روين من الدماء فهذا وإن كان تشبيهًا مضيئًا فإن فيه بشاعة كثرة الدماء، التي تعاف الأنفس اللطيفة رؤيتها، وثبوت هذا النقد اتصل بالمتأخرين، ونقدوه على الحاجري في قوله: وما اخضر ذاك الخد نبتًا وإنما ... لكثرة ما شقت عليه المرائر2

_ 1 تزبد: تغضب حتى يخرج الزبد من فيها. التيه: الكبر والفخر. الخدر: خباء المرأة. المس: الجنون. 2 المرائر: جمع مرارة وهي غدة تفرز الصفراء لتساعد على هضم المواد الدهنية وتكون لاصقة بالكبد.

وقالوا ما زاد الحاجري على أن جعل خد محبوبه مسلخًا. فالتشبيه أيضًا، وإن كان مضيئًا، فإن فيه بشاعة شق المرائر على خد المحبوب. وبعضهم ما اكتفى بشق المرائر على خد محبوبه حتى سفك عليه الدماء بقوله: وما أحمر ذاك الخد واخضر فوقه ... عذارك إلا من دم ومرائر ومثل ذلك ما عابوه على ابن قلاقس في قوله: ما ترى الصبح يخفى في دجنته ... كأنما هو سقط بين أحشائي لا شك أن بهجة الصبح في أواخر الليل أبهج من السقط بين الأحشاء، والمشبه أعلى وأغلى من المشبه به، وعلى كل تقدير فالسقط بين الأحشاء، وسفك الدماء، وشق المرائر على خدود الأحباب تنفر منها الأمزجة اللطيفة، اللهم إلا أن يكون ذلك ليس له تعلق بشيء من أوصاف المحبوب، بل يكون تعلقه بحكاية حال واقعة، كقول الشاعر: نزلنا بنعمان الأراك وللندى ... سقيط به ابتلت علينا المطارف1 وقفت بها والدمع أكثره دم ... كأني من جفني بنعمان راعف2 هذه الحالة لا ينكر لها جريان الدمع دمًا فإنها حالة لائقة بجريانه على هذه الصفة، لأن هذا الشاعر لما أن نزل بنعمان التي هي منازل أحبابه ووجدها مقفرة منه، لاق بحاله أن يجري الدمع لشدة الأسف دمًا. ومثله قول ابن قاضي ميلة، من قصيدته التي تقدم ذكرها: ولما التقينا محرمين وسيرنا ... بلبيك ربًا والركائب تعسف3 نظرت إليها والمطي كأنما ... غواربها منها معاطس رعف4 هذا التشبيه غاية في هذا الباب، وجريان الدماء من غوارب المطي لائق بحكاية حاله، فإن هذه الحالة فيها لطف الكنايات عن التعسف في شدة السرى. قلت: وإن سبكت هذه الحالة في قوالب الهجو، ورضعها الشاعر في صفات من هجاه، كانت أحسن موقعًا وأبلغ موضعًا، كقول مولانا المقر الشرف القاضوي الناصري

_ 1 المطارف: جمع مطرف وهو الثوب الفضفاض الموشى. 2 الراعف: الذي ينزل الدم من أنفه. والرعف: نزول الدم. 3 تعسف: تسير على غير هدى. 4 معاطس: أنوف، الغوارب: جمع غارب وهو ما بين سام البعير وعنقه. أو هو الكاهل.

البارزي، صاحب دواوين الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية، عظم الله تعالى شأنه، في هجو من لا يمكن ذكره هنا من قصيدة: وقد علت أسنانه صفرة ... تكدر العيش المريء المريع1 ولحمها من ورم فاسد ... كالرئة المحبوس فيها نجيع2 هذا التشبيه لم أجد له شبيهًا في هذا الباب، إلا تشبيه ابن الرومي في هجو الورد، وقد تقدم ذكره فلو جمع المتأمل بين المشبه المهجو وبين المشبه به، وشاهد هذا التخييل الغريب عيانًا صدق صحة دعواي في ذلك. ومن التشابيه التي هي غير بليغة قول ابن وزير، في تشبيه الماء على الرخام: لله يوم بحمام نعمت به ... والماء من حوضه ما بيننا جاري كأنه فوق شقات الرخام ضحى ... ماء يسيل على أثواب قصار3 وتلطف ابن الدوري في هجاء هذا الشاعر حيث قال: وشاعر أوقد الطبع الذكاء له ... فكاد يحرقه من فرط إذكاء4 أقام يجهد أيامًا قريحته ... وشبه الماء بعد الجهد بالماء ذكرت هنا، من التشابيه التي هي غير بليغة، قول الشيخ صلاح الدين الصفدي في تشبيه القمر في خلال الأغصان لما انثنت: كأنما الأغصان لما انثنت ... أمام بدر التم في غيهبه5 بنت مليك خلف شباكها ... تفرجت منه على موكبه وقد أورد عليه علامة عصرنا القاضي بدر الدين الدماميني، فسح الله تعالى في أجله، في كتابه المسمى "بنزول الغيث" الذي انسجم في شرح لامية العجم، نقدًا كشف به القناع عن عدم بلاغة هذا التبشيه. فإن الشيخ بدر الدين المشار إليه قال وقوله صحيح: إن ظاهر عبارة الشيخ صلاح الدين، تشبيه الأغصان في حالة انثنائها أمام البدر

_ 1 المريء: السهل. المريع: الكثير الخيرات. 2 النجيع: دم الجوف وقوله: لحمها: الضمير يعود على الأسنان أي لثتها. 3 القصار: الذي يدق الثياب وبيضها. 4 إذكاء النار: إضرامها. 5 الغيهب: الظلمة الشديدة.

في الدجى، ببنت مليك تطل من شباكها للنظر في موكب أبيها. وذلك عن مظان التشبيه بمعزل. ومقصوده أن البدر في حالة ظهوره من خلال الأغصان المتثنية على الصفة المذكورة، يشبه بنت مليك على تلك الحالة، تمثيلًا للهيئة الاجتماعية، لكن اللفظ لا يساعده على ذلك المطلوب، فإنه جعل الأغصان مبتدأ وأخبر عنه بقوله بنت مليك فلم يتم له المراد. على أن مقطوع الشيخ صلاح الدين، مع ما فيه من عدم بلاغة التشبيه، مأخوذ من قول محي الدين بن قرناص الحموي: وحديقة غناء ينتظم الندى ... بفروعها كالدر في الأسلاك والبدر يشرق من خلال غصونها ... مثل المليح يطل من شباك قلت ليس لأهل النقد مدخل في هذا الشباك، انتهى ما أوردته هنا من التشبيه الذي هو غير بليغ في باب المحسوس بالمحسوس، وقد تقدم القول على موجب تقديمه في باب التشبيه، وتقرر أن مدركات السمع والبصر والذوق والشم واللمس التي هي الحواس الخمس، أوضح في الجملة مما لا تقع عليه الحواس. انتهى. القسم الثاني وهو تشبيه المعقول بالمعقول: أقول إن هذا النوع في هذا الباب ليس له مواقع المحسوسات، وقد تكرر قولي في ذلك. وأحسن ما وجدت فيه، أعني تشبيه المعقول بالمعقول، قول أبي الطيب المتنبي: كأن الهم مشغوف بقلبي ... فساعة هجرها يجد الوصالا وظريف هنا قول القائل، من أبيات، مع بديع الاستطراد: لقظ طويل تحت معنى قاصر ... كالعقل في عبد اللطيف الناظر القسم الثالث تشبيه المعقول بالمحسوس: وهو إخراج ما لا تقع عليه الحاسة إلى ما تقع عليه الحاسة، كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} 1 فتشبيه أعمال الكفار بالسراب، من أبلغ التشابيه وأبدعها. ومثله قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} 2. ومن النظم قول أبي علي ابن سينا: إنما النفس كالزجاجة والعلـ ... ـم سراج وحكمة الله زيت

_ 1 النور: 24/ 39. 2 إبراهيم 14/ 18.

ويعجبني في هذا الباب أعني تشبيه المعقول بالمحسوس، قول ابن منير الطرابلسي: زعم كمنبلج الصباح وراءه ... عزم كحد السيف صادق مقتلا القسم الرابع تشبيه المحسوس بالمعقول: قد تقدم أن هذا القسم عند أهل المعاني والبيان غير جائز، وما ذاك إلا أن العلوم العقلية مستفادة من الحواس ومنتهية إليها، ولذلك قيل من فقد حسًا فقد علمًا. ووجه الصواب في تشبيه المحسوس بالمعقول، أن يقدر البليع المعقول محسوسًا ويجعل أصل المحسوس على طريق المبالغة فرعًا، فيصبح التشبيه حينئذ، كقول الشاعر: وكأن النجوم بين دجاها ... سنن لاح بينهن ابتداع فإنه لما شاع وصف السنة بالبياض والإشراف، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أتيتكم بالحنيفية البيضاء، ليها كنهارها" واشتهرت البدعة، وكل ما ليس بحق بالظلمة والسواد، كقولهم: ليل الشرك، أقام هذا الشاعر السنن مقام الأجناس التي لها إشراق وبياض، والبدع مقام أجناس السواد والظلمة، فصار ذلك عنده كتشبيه محسوس بمحسوس، فجاز له التشبيه على هذا التقدير، كقول أبي طالب الرقي: ولقد ذكرتك والظلام كأنه ... يوم النوى وفؤاد من لم يعشق فإنه لما كانت الأوقات التي تحدث فيها المكاره توصف بالسواد، كقول من يغتاله مكروه: اسودت الدنيا في عيني، جعل هذا الشاعر يوم النوى أشهر بالسواد من الظلام، فشبهه وعرف به ثم عطف عليه بفؤاد من لم يشعق تظرفًا، لأن ظرف العشاق يدعي قسوة قلب من لم يعشق، والقلب القاسي يوصف بشدة السواد، فصار هذا القلب عنده أصلًا في السواد على هذا التقدير، فقس على ذلك. ومثله قول القائل: أسفر ضوء الصبح من وجهه ... فقام خال الخد فيه بلال1 كأنما الخال على خده ... ساعة هجر في ليالي الوصال سواد ساعة وبياض زمان الوصل قد فهم على ما تقرر وتكرر.

_ 1 بلال: هو الحبشي مؤذن النبي.

ومن ذلك قول الشاعر: كأن انتضاء البدر من تحت غيمه ... نجاة من البأساء بعد وقوع1 ومن البديع الغريب، في هذا الباب، قول القاضي التنوخي: أما ترى البرد قد وافت عساكره ... وعسكر الحر كيف انساب منطلقا فانهض بنار إلى فحم كأنهما ... في العين وإنصاف قد اتفقا جاءت ونحن كقلب الصب حين سلا ... بردًا فصرنا كقلب الصب إذ عشقا2 ويعجبني هنا قول الصاحب بن عباد، وقد أهدى إلى القاضي أبي الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني عطرًا: أديت عطرًا مثل طيب ثنائه ... فكأنما أهدى له أخلاقه ومن التشابيه البليغة، في هذا الباب، قول الشهاب محمود في تشبيه بعض الحصون، والمبالغة في علوه: كأنه وكأن الجو يكنفه ... وهم تكنفه في طيرها الفكر3 وغاية الغايات في هذا الباب، أعني تشبيه المحسوس بالمعقول، قول أبي نواس رحمه الله: معتقة صاغ المزاج رأسها ... أكاليل دار ما لناظمها سلك جرت حركات الدهر فوق سكونها ... فذابت كذوب التبر أخلصه السبك4 وأدرك منها الفائزون بقية ... من الروح في جسم أضر به النهك5 وقد خفيت من لطفها فكأنها ... بقايا يقين كاد يذهبه الشك ومثله قوله وأجاد فيه إلى الغاية: وندمان سقيت الراح صرفًا ... وستر الليل منسدل السجوف6 صفت وصفت زجاجتها عليها ... كمعنى دق في ذهن لطيف

_ 1 الانتضاء: الانسلال، أو الخروج السريع. 2 الصب: الرقيق القلب السريع الاشتياق. 3 يكنف: يحيط به كالكنيف وهو السرور العالي. 4 التبر: خلاصة الذهب. 5 النهك: الإعياء. 6 السجوف: جمع سجف وهو الستر.

والذي سارت له به الركبان في هذا الباب قوله: فتمشت في مفاصلهم ... كتمشي البرء في السقم انتهى ما أوردته من تشبيه المحسوس بالمعقول، وتقرير صوابه وإيراد بديعه وغريبه. وقد تقرر وتكرر أن تشبيه، وعلى أسّه شيد أصحاب البديعيات بيوتهم. ولكن بيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته، غير صالح للتجرد، فإنه متعلق بالبيت المشتمل على ائتلاف اللفظ مع المعنى، فتعين إيراد البيتين هنا لتظهر نتيجة التشبيه. فبيت ائتلاف اللفظ مع المعنى، في بديعيته، قوله: كأنما حلق السعدي منتثرًا ... على الثرى بين منقض ومنفصم وأتبعه بقوله في التشبيه: حروف خط على طرس مقطعة ... جاءت بها يد غمر غير مفتهم1 قلت، الكمال لله، كل من البيتين فيه نقص، لافتقاره إلى الآخر، ولو تجرد أحدهما عن أخيه ما حسن السكوت عليه، ولا تمت به فائدة، وكيف يصح التشبيه في بيت واحد، وجل القصد به أن يكون بمجرده مثالًا للنوع المذكور، والمشبه في البيت الأول والمشبه به في البيت الثاني والذي أقوله إنني لم أر في البيت الأول، المشتمل على ائتلاف اللفظ مع المعنى، معنى، ولا على بيت التشبيه، الذي بعده، للبلاغة بهجة، لافتقاره إلى الأول، والله أعلم. ومن غرائب ما ينقل هنا أن العميان ما نظموا نوع التشبيه في بديعيتهم، ونظموا رد العجز على الصدر، وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته، قوله في مديح النبي صلى الله عليه وسلم: وقيل للبدر تشبيه إليه نعم ... نجم الثريا له كالنعل في القدم بيت الشيخ عز الدين هنا صالح للتجريد، بخلاف بيت الشيخ صفي الدين، إذ المراد به أن يكون بمجرده شاهدًا على نوع التشبيه، ولكن معناه مأخوذ من بيت الفاضل، في قصيدته الطائية المشهورة، والبيت المأخوذ منه هذا المعنى قوله منها: أما الثريا فنعل تحت أخمصه ... وكل قافية قالت لذلك طا

_ 1 الغمر: الذي لا يفهم.

من أين لعقادة الشيخ عز الدين، أو لغيره، أن يقول في الشطر الأول من بيت قافيته طائية. أما الثريا فنعل تحت أخمصه. ويقول في الشطر الثاني: وكل قافية قالت لذلك طا. انتهى. وبيت بديعيتي جمعت فيه بين شرف المديح النبوي، وشرف تشبيه القرآن إذ هو المقدم في هذا الباب على كل تشبيه، فإنني قلت في البيت المشتمل على نوع التفريق البديعي: قالوا هو البدر والتفريق يظهر لي ... في ذاك نقص وهذا كامل الشيم ولم أزل أظهر في أفق البلاغة كماله، صلى الله عليه وسلم إلى أن قلت في التشبيه: والبدر في التم كالعرجون صار له ... فقل لهم يتركوا تشبيه بدرهم

التشبيه بالتلميح

التشبيه بالتلميح: ثم إني قلت بعده في التلميح، الذي ما يلمح في صفات النبي، صلى الله عليه وسلم، أحسن منه: ورد شمس الضحى للقوم خاضعة ... وما ليوشع تلميح بركبهم1 التلميح هو في الاصطلاح، أن يشير ناظم هذا النوع في بيت، أو قرينة سجع، إلى قصة معلومة، أو نكتة مشهورة، أو بيت شعر حفظ لتواتره، أو إلى مثل سائر يجريه في كلامه على جهة التمثيل. وأحسنه وأبلغه ما حصل به زيادة في المعنى المقصود. وسماه قوم: التمليح، بتقديم الميم، كأن الناظم أتى في بيته بنكتة زادته ملاحة، كقول ابن المعتز: أترى الجيرة الذين تداعوا ... عند سير الحبيب وقت الزوال2 علموا أنني مقيم وقلبي ... راحل فيهم أمام الجمال مثل صاع العزيز في أرحل القو ... م ولا يعلمون ما في الرحال3 هذا التلميح فيه إشارة إلى قصة يوسف عليه السلام، حين جعل الصاع في رحل أخيه، وإخوته لم يشعروا بذلك. ومن لطائف لتلميح قول أبي فراس:

_ 1 يوشع: أحد الأنبياء الذين ارتدت الشمس لهم بعد غيابها للصلاة. 2 الزوال: وقت الظهر. 3 الرحال: جمع رحل وهو ما يحمل على الدواب.

فلا خير في رد الأذى بمذلة ... كما ردَّه يومًا بسوأته عمرو1 هذا التلميح فيه إشارة إلى قصة عمرو بن العاص مع الإمام علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، في يوم صفين، حين حمل عليه الإمام ورأى عمرو أن لا مخلص له منه، فلم يسعه غير كشف العورة. ومن الحديث على جهة التورية، قول بعضهم في مليح اسمه بدر: يا بدر أهلك جاروا ... وعلموك التجري2 وقبحوا لك وصلي ... وحسنوا لك هجري فليفعلوا ما أرادوا ... فإنهم أهل بدر هذا التلميح فيه إشارة إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر حين سأل قتل حاطب: "لعل الله قد اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم". ومن ذلك قول الشاعر: لعمرو مع الرمضاء والنار تلتظي ... أرقُ وأحنى منك في ساعة الهجر3 هذا الشاعر أشار بتلميحه، في هذا البيت، إلى البيت المشهور الذي ما برح الناس يتمثلون به عند من هو موصوف بالقسوة، وهو: المستجير بعمرو عند كرمته ... كالمستجير من الرمضاء بالنار ومن ذلك قول بعضهم: يقولون كافات الشتاء كثيرة ... وماهي إلا واحد غير مقترى4 إذ كان كاف الكيس فالكل حاصل ... لديك وكل الصيد يوجد في الفرا5

_ 1 السوأة: العورة. 2 التجري: التجرؤ. 3 ارمضاء: شدة الحرّ، تلتظي: يزداد لظاها أي حرها. 4 كافات الشتاء: هي سبعة أشياء تبدأ أسماؤها بالكاف. وهي: كن، كيس، كانون، كأس، كَبَابُ، كس، كساء. 5 كاف الكيس: يعني الكيس وهو كيس النقود، الفرا: الفراء.

هذا الشاعر أشار في تلميح نيته إلى قول ابن سكرة جاء الشتاء وعندي من حوائجه ... سبع إذا القطر عن حاجاتنا حبسا كن وكيس وكانون وكاس طلا ... بعد الكباب وكس ناعم وكسا1 ومن أظرف ما وقع هنا أن امرأة من أهل الحذق والظرافة، قيل لها: من أنت؟ وكانت ملتفة في كساء، فقالت: أنا السادس في السابع، أشارت في تلميحها اللطيف إلى السادس والسابع، من قول ابن سكرة، فكأنها قالت: أنا الكس الناعم في الكساء. ونظم بعضهم هذا المعنى في بيتين فقال: رأيتها ملفوفة في كسا ... خوفا من الكاشح والطامع قلت لها من أنت يا هذه ... قالت أنا السادس في السابع وهذا غاية لا تدرك في باب التلميح. ومن هذا القبيل قول الحريري في المقامات: وإني والله لطالما تلقيت الشتاء بكافاته، وأعددت له أهبًا قبل موافاته، ومثله قوله في المقامات أيضًا: فبت بليلة نابغية. يشير إلى قول النابغة: فبت كأني ساورتني ضئيلة ... من الرقش في أنيابها السم ناقع2 والضئيلة هي الحية الدقيقة. ومن لطائف التلميح قصة الهذلي مع منصور بني العباس، فإنه حكي أن المنصور وعد الهذلي بجائزة ونسي، فحجا معًا ومرّا في المدينة النبوية ببيت عاتكة، فقال الهذلي: يا أمير المؤمنين هذا بيت عاتكة التي يقول فيها الأحوص. يا بيت عاتكة التي أتغزل ... حذر العدا وبه الفؤاد موكل فأنكر عليه أمير المؤمنين، لأنه تكلم من غير أن يُسأل. فلما رجع الخليفة نظر في القصيدة إلى آخرها، ليعلم ما أراد الهذلي بإنشاد ذلك البيت من غير استدعاء فإذا فيها: وأراك تفعل ما تقول وبعضهم ... مذق اللسان يقول ما لا يفعل3

_ 1 مضى شرح هذا البيت في ما سبق. 2 الضئيلة: الدقيقة، الطويلة، الرقش: جمع رقشاء وهي أخبث الحيات، السم الناقع: الذي يقتل لساعته. 3 مذق اللسان: متملق

فعلم أنه أشار إلى هذا البيت بتلميحه الغريب، فتذكر ما وعده به وأنجزه له واعتذر إليه من النسيان. ومثله ما حكي أن أبا العلاء المعري كان يتعصب للمتنبي، فحضر يومًا مجلس الشريف المرتضى، فجرى ذكر أبي الطيب فهضم المرتضى من جانبه، فقال أبو العلاء: لو لم يكن له من الشعر إلا قوله: لك يا منازل في القلوب منازل. لكفاه. فغضب المرتضى، وأمر به فسحب وأخرج، وبعد إخراجه قال المرتضى: هل تدرون ما عني بذكر البيت، فقالوا: لا والله! فقال: عنى به قول أبي الطيب في قصيدته: وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني كامل ومن هذا القبيل قصة السري الرفاء مع سيف الدولة، بسبب المتنبي أيضًا، فإن السري الرفاء كان من مدَّاح سيف الدولة، وجرى يومًا في مجلسه ذكر أبي الطيب، فبالغ سيف الدولة في الثناء عليه، فقال له السري: أشتهي أن الأمير ينتخب لي قصيدة من غرر قصائده، لأعارضها له، ويتحقق بذلك أنه أركب المتنبي في غير سرجه. فقال له سيف الدولة على الفور: عارض لنا قصيدته القافية التي مطلعها: لعينيك ما يلقى الفؤاد وما لقي ... وللحب ما لم يبق منه وما بقي قال السري: فكتبت القصيدة واعتبرتها في تلك الليلة، فلم أجدها من مختارات أبي الطيب، لكن رأيته يقول في آخرها عن ممدوحه: إذا شاء أن يلهو بلحية أحمق ... أراه غباري ثم قال له الحقِ فقلت: والله ما أشار سيف الدولة إلا إلى هذا البيت، وأحجمت عن معارضة القصيدة. وألفط من هذا ما حكاه ابن الجوزي، في كتاب الأذكياء، فإنه من غرائب التلميح. قال: قعد رجل على جسر بغداد، فأقبلت امرأة بارعة في الجمال، من جهة الرصافة إلى الجانب الغربي، فاستقبلها شاب، فقال لها: رحم الله علي بن الجهم فقالت له: رحم الله أبا العلاء المعري. وما وقفا بل سارا مغربًا ومشرقًا. قال الرجل: فتبعت المرأة، فقلت لها: والله إن لم تقولي لي ما أراد بابن الجهم فضحتك، قالت: أراد به: عيون المها بين الرصافة والجسر ... جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري

وأردت أنا بأبي العلاء قوله: فيا دارها بالخيف إن مزارها ... قريب ولكن دون ذلك أهوال ورسالة الوزير، أبي الوليد بن زيدون المخزومي الأندلسي، غالبها مبني على نوع التلميح، ولا بد أن أذكر الموجب لإنشائها، بحيث يتلمح المتأمل تلميحها. وسبب إنشاء هذه الرسالة البديعة، أنه كان بقرطبة امرأة ظريفة متأدبة، من بنات خلفاء العرب المنسوبين إلى عبد الرحمن بن الحكم المعروف بالداخل. في بني عبد الملك بن مروان، تسمى ولّادة بنت المستكفي بالله، ابتذل حجابها بعد نكبة أبيها وقتله، فصارت تجلس للشعراء والكتاب وتحاضرهم وتطارحهم. وكانت ذات جمال بارع وأدب غض ودماثة أخلاق، وكان لها ميل إلى ابن زيدون، بخلاف غيره من أهل العصر. فمما كتبت إليه، وهي راضية عنه: ترقب إذا جن الظلام زيارتي ... فإني رأيت الليل أكتم للسر وبي منك ما لو كان بالبدر لم ينر ... وبالليل لم يظلم وبالنجم لم يسر وكتبت إليه وهي غضبى: إن ابن زيدون على فضله ... يلهج بي شتما ولا ذنب لي1 يلحظني شزرًا إذا جئته ... كأنما جئت لأخصي علي2 تشير في تلميحها اللطيف إلى غلام متهمًا به. ومن غض شعرها قولها: أنا والله أصلح للمعالي ... وأمشي مشيتي وأتيه تيها3 وأمكن عاشقي من صحن خدي ... وأعطي قبلتي من يشتهيها ومما ينسب إليها: لحاظكم تجرحنا في الحشا ... ولحظنا يجرحكم في الخدود جرح بجرح فاجعلوا ذا بذا ... فما الذي أوجب جرح الصدود

_ 1 لهج بالشيء: أولع به ولزمه. 2 شزرًا: ينظر بطرف عينيه تدليلًا على غضبه. 3 أتيه: أفتخر.

وكان ابن زيدون كثير الشغف بها والميل إليها وأكثر غزل شعره فيها، وقد تقدم ذكر ميلها إليه، بخلاف أهل عصره من أهل الأدب، لحسن أدبه ولطائف شمائله وتقدمه على أهل زمانه. وكان الوزير أبو عامر بن عبدوس كثير الهيمان بها، واجتهد في التوصل إليها، والاجتماع بها، والاقتطاف من ثمار آدابها الغضة، والتمتع بجمالها البارع، فعجز عن ذلك لكثرة ميلها إلى ابن زيدون وتوصل إلى أن أرسل إليها امرأة من خواصه لتستميلها إليه، وتعرفها عظم مقامه وسمو رتبته على غيره، وتبالغ في التوصل إلى رغبتها فيه، فبلغ ذلك ابن زيدون فأنشأ هذه الرسالة على لسان ولّادة، تتضمن سب الوزير أبي عامر والتهكم به، وبنى غالبها على نوع التلميح، وجعلها جوابًا عنها، فاشتهر ذكر الرسالة في الآفاق، وأمسك الوزير ابن عبدوس عن التعرض إلى ولادة. فمن سجعات الرسالة المبنية على التلميح قوله منها، على لسان ولادة، يخطاب الوزير ابن عبدوس: حتى قالت إن باقلًا موصوف بالبلاغة إذا قرن بك. هذا التلميح فيه إشارة إلى عمرو بن ثعلبة الإيادي الذي يضرب به المثل في العيّ فيقال: فلان أعيى من باقل. قال أبو عبيدة: بلغ من عيه أنه اشترى ظبيًا بأحد عشر درهمًا، فلقيه شخص والظبي معه فقال له: بكم اشتريته؟ ففتح كفيه، وفرق أصابعه، وأخرج لسانه يشير إلى أحد عشر فهرب الظبي. ومنها: وهبنقة مستوجب لاسم العقل إذا أضيف إليك. هذا التلميح يشير فيه ابن زيدون إلى يزيد بن ثروان، أحد بني قيس بن ثعلبة الملقب بهبنقة المكنى بأبي الودعات، لأنه نظم ودعا1 في سلك وجعله في عنقه علامة لنفسه لئلا يضيع، وهو جاهلي يضرب به المثل في الحمق. قيل إنه كان إذا رعى غنمًا أو إبلًا جعل مختار المراعي للسمان، ونحى المهازيل عنها، وقال: لا أصلح ما أفسد الله. واختصم بنو راسم وبنو طفاوة في شخص يدَّعونه، وأطلعوا هبنقة على أمرهم، فقال: ألقوه في البحر فإن رسب فهو من بني راسب وإن طفا فهو من بني طفاوة. واشترى أخوه بقرة بأربعة أعنز فركبها، فأعجبه عدوها، فالتفت إلى أخيه وقال: زدهم عنزًا، فضرب بها المثل للمعطي بعد إمضاء البيع، ثم سار فرأى أرنبًا تحت شجرة، ففزع منها، وهمز البقرة، وقال: الله نجاني ونجا البقرة ... من جاحظ العيني تحت الشجره

_ 1 الودع: جمع ودعة وهي صدفة صغيرة تخرج من البحر في جوفها دويبة صغيرة.

ومنها: وطويسًا ما نور عنه يمن الطائر إذا قيس عليك. هذا التلميح يشير به إلى عيسى بن عبد الله، مولى بني مخزوم، وكنيته أبو النعيم، كان مخنثًا ماجنًا ظريفًا يسكن المدينة، وهو أول من غنى على الدف بالعربية، ولكن ضرب في شؤمه المثل. فإنه ولد يوم قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفطم يوم مات أبو بكر، وختن يوم قتل عمر، وزوج يوم قتل عثمان، وكانت أمه تمشي بالنميمة بين نساء الأنصار. ومن تلميح هذه الرسالة، التي هي غاية في هذا الباب، قوله منها يشير إلى ابن عبدوس: والله لو كساك محرق البردين، وحلتك مارية بالقرطين، وقلدك عمرو الصمصامة، وحملك الحرث على النعامة، ما شككت في إياك، ولا كنت إلا ذاك. السجعة الأولى تشير في تلميحها إلى عمرو بن المنذر بن ماء السماء، كان يسمى من شدة بأسه محرقًا، وقصة هذه التسمية استوفى أبو الفرج، صاحب الأغاني شرحها في كتابه، وأما قصة البردين فحكي أن الوفود اجتمعت عند محرق، فأخرج من لباسه بُردين، وقال: ليقم أعز العرب قبيلة فليأخذهما. فقام عامر بن أحيمر فأخذهما، فائتزر بواحدة وارتدى بالأخرى، فقال له محرق: أنت أعز العرب قبيلة؟ فقال: نعم، لأن العز كله في معدّ والعدد في معدّ، ثم في نزار، ثم في مضر، ثم في تميم، ثم في سعد، ثم في كعب، فمن أنكر ذلك فليناظرني. فسكت الناس. فقال: هذه عشيرتك كما تزعم، فكيف أنت في نفسك وأهل بيتك؟ فقال: أنا أبو عشرة، وأخو عشرة، وعم عشرة، وخال عشرة، وها أنا في نفسي وشاهد العز شاهدي، ثم وضع قدمه على الأرض، وقال: من أزالها من مكانه فله مائة من الإبل. فلم يقم إليه أحد فخرج بالبردين، وضرب المثل بعزه وببرديه. والسجعة الثانية تشير في تلميحها إلى مارية وقصته المشهورة بالقرطين. وهي مارية ابنة ظالم بن وهب الكندي، زوج الحرث الأكبر الغساني، ملك العرب بالشام، وهي أم الحرث الأصغر، وأمها هند الهنود، وكان في قرطيها درتان عجيبتان كبيضتي الحمام، ولم ير مثلهما، توارثتهما الملوك إلى أن وصلتا إلى عبد الملك بن مروان، فوهبهما لابنته فاطمة، لما زوجها بعمر بن عبد العزيز، فلما ولي عمر الخلافة قال لها: إن أحببت المقام عندي فضعي القرطين والحلي في بيت مال المسلمين، فأجابته إلى سؤاله، فلما مات وولي يزيد بن عبد الملك أرسل إليها يقول لها: خذي القرطين، فقالت: لا والله، ما أوافقه في حال حياته وأخالفه بعد وفاته. والسجعة الثالثة، تشير في تلميحها إلى عمرو بن معد يكرب الزبيدي، الفارس المشهور بكثرة الغارات والوقائع بين العرب في الجاهلية، قبل إسلامه، وكان يكنى أبا ثور، والصمصامة سيفه المشهور. قال عبد الملك بن عمر: أهدت بلقيس إلى سليمان

عليه السلام خمسة أسياف، وهم ذو الفقار، وذو النون، ومخذم، ورسوب، والصمصامة. فأما ذو الفقار فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أخذه من منبه بن الحجاج يوم بدر. ومخذم ورسوب كانا للحرث بن جبلة الغساني. وذو النون والصمصامة لعمرو بن معد يكرب. وانتقلت الصمصمة إلى سعيد بن العاص، ولم تزل إلى أن صعد المهدي البصرة، فلما كان بواسط أرسل إلى بني العاص يطلب الصمصامة منهم فقالوا: إنه قد صار محتسبًا في السبيل، فقال: خمسون سيفًا في السبيل أغنى من سيف واحد، وأعطاهم خمسين سيفًا وأخذه، ثم وصل إلى المتوكل فدفعه إلى بعض مماليكه الأتراك فقتله به. والسجعة الرابعة تشير في تلميحها إلى فرس الحرث بن عباد التغلبي، سيد بني وائل، سمتها العرب لخفتها وسرعة جريها بالنعامة، وضربت بها الأمثال. وكان الحرث يكرر قوله، في كل وقت، بإنشاده: قربا مربط النعامة مني. انتهى. ولولا خوف الإطالة لأوردت من هذه الرسالة غالب تلميحها، فإنها من نسيج وحدها على هذا المنوال، أعني التلميح. وبيت الشيخ صفي الدين الحلي على هذا النوع قوله: أن ألقها تتلقف كل ما صنعوا ... إذا أتيت بسحر من كلامهم1 بيت الشيخ صفي الدين هنا أيضًا متعلق بما قبله، والضمير في ألقها، عائد على العصا، فإنه قال في بيت الاقتباس: هذي عصاي التي فيها مآرب لي ... وقد أهش بها طورًا على غنمي2 وقال بعده في بيت التلميح: أن ألقها. البيت. ورأيته يسلك هذا المسلك في غالب بديعيته، وهو غير لائق به، إذ المراد من كل بيت أن يكون شاهدًا على ذلك النوع بمجرده، والتلميح في بيته هو الإشارة إلى قصة موسى عليه السلام مع السحرة لما ألقى العصا. وبيت العميان في بديعيتهم: ويقرع السمع عن حق زواجره ... قرع الرماح ببدر ظهر منهزم3

_ 1 تتلقف: تبتلع. 2 أهش: أهول. 3 الزواجر: جمع الزاجر وهو الرادع.

العميان أشاروا في تلميحهم إلى قصة يوم بدر، ولكن ليس على شمائل بيتهم من رونق التلميح لمحة. وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته قوله: وبان في كتب التاريخ من قدم ... تلميح قصة موسى مع معدهم لم ألمح، من خلال بيت الشيخ عز الدين غفر الله له، لمحة تدلني على نور التلميح، لكنه حكى حكاية مضمونها، أن كتب التاريخ القديمة بان فيها تلميح قصة موسى، عليه السلام، مع معد. والله أعلم. وبيت بديعيتي تقدمني في تلميح أبو تمام، بقوله متغزلًا، في بعض قصائده، وقد سفرت محبوبته من جانب الخدر ليلًا: فردت علينا الشمس والليل راغم ... بشمس لهم من جانب الخدر تطلع فوالله ما أدري أأحلام نائم ... ألمت بنا أم كان في الركب يوشع فلما انتهيت في نظم بديعيتي إلى هذا النوع، أعني التلميح، رأيت النبي صلى الله عليه وسلم أحق به، وأنا أحق به من أبي تمام، فإني نظمته في سلك المعجزات النبوية، فهامت عيون الأذواق إلى بهجة تلميحه، وقد تقدم قولي في بيت التشبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم: والبدر في التم كالعرجون صار له ... فقل لهم يتركوا تشبيه بدرهم ثم قلت بعده في التلميح: ورد شمس الضحى للقوم خاضعة ... ما ليوشع تلميح بركبهم انظر أيها المتأمل إلى انسجام هذا البيت مع الذي قبله، وإلى ظهور النقص في بيت أبي تمام، بانتقال نور التلميح إلى شرف هذا البيت النبوي. والله أعلم

ذكر تشبيه شيئين بشيئين

ذكر تشبيه شيئين بشيئين: شيآن قد أشبها شيئين فيه لنا ... تبسم وعطا كالبرق في الديم هذ النوع، أعني تشبيه شيئين بشيئين، من المحاسن العزيزة الوقوع، بخلاف كبيرة العدد في التشبيه، فإن ذلك نوع اللف والنشر أحق به، وهو في الاصطلاح، أن يقابل الشاعر بين الأربعة ويلتزم أن كل واحد من المشبه يسد مسد المشبه به. ومما حكى عن بشار بن برد أنه قال: ما زلت، منذ سمعت قول امرئ القيس في وصف العقاب: كأن قلوب الطير رطبًا ويابسًا ... لدى وكرها العناب والحشف البالي1 لا يأخذني الهجوع حسدًا له، إلى أن قلت في وصف الحرب: كأن مثار النقع فوق رءوسنا ... وأسيافنا ليل تهاوت كواكبه2 ومما يعجبني، في هذا الباب إلى الغاية، قول إبراهيم بن سهيل الإشبيلي: كأن القلب والسلوان ذهن ... يحوم عليه معنى مستحيل ومن الغايات التي لا تدرك في هذا الباب، وأنا أستغفر الله قولي من قصيدة: وحمرة الخد أبدت خيط عارضه ... فخلت كأس مدام وهو معشور3

_ 1 رطبًا ويابسًا: نيئًا ومشويًا: النيء العناب. والمشوي يشبه الحشف القديم والحشف هو أردأ التمر. 2 النقع: الغبار. وقد روي: "تهاوى" بدل تهاوت: و"تهاوى" أبلغ من التشبيه وتؤدي معنى تهاوت وزيادة الحركة التي تحسبها في حروف الكلمة: تتهاوى. 3 مشعور: مكسور كسرًا لم يؤد إل انفصال أجزائه.

وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته: تلاعبوا تحت ظل السر من مرح ... كما تلاعبت الأشبال في الأجم1 بيت الشيخ صفي الدين في هذا النوع عامر بالمحاسن، رافل في حلل الانسجام، والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم. بيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته قوله: شيئان تشبيه شيئين انتبه لهما ... حلم وجهل هما كالبرء والسقم نعوذ بالله من آفة الغفلة، ممدوح هذا البيت، هو النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تقدمه قوله في مديحه: هل من مقاربة في السير بعد نوى ... بأطيب التمر بين العرب والعجم2 وقال بعده هذا البيت الدائر. وقد سلمنا أنه قابل فيه حلم النبي صلى الله عليه وسلم بالبرء، وأما ذكر الجهل في هذا البيت فهو في غاية الجهل، وليس له ما يقابله غير التأديب على قلة أدبه، وقد قابل به السقم ولا أعلم ما مراده به. وطالعت شرحه فوجدته قد قرر حد النوع، وفر من الكلام على معنى البيت بخلاف أبيات القصيدة. وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم: شيئان قد اشبها شيئين فيه لنا ... تبسم وعطا كالبرق في الديم هذا البيت البديع في لفظه ومعناه، ما أشك أن أبا بكر3 مقدم فيه على الحلي والموصلي، فإنه وضعه في محله، والنبي صلى الله عليه وسلم أحق به من كل ممدوح، وقد جمع فيه بين حسن اللف والنشر وبليغ التشبيه. وأما مراعاة النظير في مديحه بين البرق والديم فليس لها نظير. والله أعلم.

_ 1 المر: الرماح. الأجم: التلال التفت أشجارها. 2 النوى: السفر. 3 أبو بكر: يعني المؤلف نفسه.

ذكر الانسجام

ذكر الانسجام الانسجام في النثر له انسجام دموعي في مدائحه ... بالله شنف بها يا طيب النغم1 المراد من الانسجام أن يأتي، لخلوّه من العقادة، كانسجام الماء في انحداره، ويكاد لسهولة تركيبه وعذوبة ألفاظه أن يسيل رقة. ولعمري، إن طيور القلب ما برحت على أفنان هذا النوع وارفة، وبمحاسنه الغضة بين الأوراق ساجعة، وأهل الطريق الغرامية هم بدور مطالعه، وسكان مرابعه، فإنهم ما أثقلوا كاهل سهولته بنوع من أنواع البديع، اللهم إلا أن يأتي عفوًا من غير قصد، وعلى هذا أجمع علماء البديع في حد هذا النوع، فإنهم قرروا أن يكون بعيدًا من التصنع، خاليًا من الأنواع البديعية، إلا أن يأتي في ضمن السهولة من قصد. وغالب شعر الشيخ شرف الدين عبد العزيز الأنصاري، شيخ شيوخ حماه، سقى الله من غيث الرحمة ثراه، ماش على هذا التقرير ويأتي التمثيل به في مكانه إن شاء الله تعالى. الانسجام في النثر: وإن كان الانسجام في النثر، يكون غالب فقراته موزونة، من غير قصد لقوة انسجامه، وأعظم الشواهد على هذا ما جاء في القرآن العظيم من الموزون بغير قصد، في بيوت وأشطار بيوت، فمن الطويل الذي جاء على أصل الدائرة في القرآن العظيم:

_ 1 شنف: زيّن.

{فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} 1 وتفعيله القياسي فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن. كقول الشاعر: ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد ... فقد زادني مسراك وجدًا على وجدي2 وجاء في بحر المديد من العروض الثانية المحذوفة، قوله تعالى: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} 3 كقول الشاعر: اعلمو أني لكم حافظ ... شاهدًا ما دمت أو غائبًا ومن مصرعه: زعم النعمان ملك العرب ... ليس ينجي من عصاه الهرب وجاء، في بحر البسيط من العروض الأولى المخبونة، قوله تعالى: {فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} 4 كقول الشاعر: ما بال عينيك منها الماء ينسكب. وجاء من الوافر من العروض الأولى المقطوفة والضرب المقطوف، قوله تعالى: {وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} 5 كقول الشاعر: ألا هبي بصحنك فاصبحينا ... ولا تبقي خمور الأندرينا6 وجاء في الكامل من العروض الصحيحة المجزوة، والضرب المجزو المذال قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 7 كقول الشاعر: أبني لا تظلم بمكـ ... ـة لا الصغير ولا الكبير وجاء في الهزج من عروضه المجزوة، وضربها المحذوف قوله تعالى: {فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا} 8 كقول الشاعر: وما ظهري لباغي الضيـ ... ـم بالظهر الذلول

_ 1 الكهف، 18/ 29. 2 الصبا: الريح الجنوبية. هاج: تحرك وثار. الوجد: شدة الشوق. 3 هود: 11/ 37. 4 الأحقاف: 46/ 25. 5 التوبة: 9/ 14. 6 الأندرينا، اسم مكان مشهور بصناعة الخمور الجيدة. 7 البقرة: 28/ 213. 8 يوسف: 12/ 93.

وجاء في الرجز، قوله تعالى: {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا} 1 كقول الشاعر: شالوا على جمالهم جمالهم ... وسر حادي عيسم يغني2 وجاء في الرمل من العروض الثانية المجزوة، والضرب الثاني المجزو، قوله تعالى: {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} 3، كقول الشاعر: مقفرات دارسات ... مثل آيات الزبور4 ومن مصرعه: أي شخص كأبان ... عند ضرب وطعان وجاء في السريع، من العروض الأولى المطوية المكسوفة، قوله تعالى: {قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ} 5 ومنه {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} 6 كقول الشاعر: يا هنديا أخت بني عامر ... لست على هجرك بالصابر وجاء من المنسرح، من العروض الأولى الوافية، قوله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ} 7، كقول الشاعر: زموا المطايا بالواد ما ودعوا. وجاء من الخفيف، من العروض التامة الصحيحة، قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ} 8 كذا أورده صاحب المفتاح، ومنه: {لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} 9. وهذا من مستخرجات المصنف فسح الله في أجله، كقول الشاعر: ليت ما فات من شبابي يعود ... كيف والشيب كل يوم يزيد وجاء من المضارع، وهو بحر قليل الاستعمال جدًّا، ومنهم من لم يعده بحرًا، ولا

_ 1 الإنسان: 76/ 14. 2 شال: حمل، حادي العيس: هو الذي يحدوها أي يستحثها للمسير، بواسطة الحداء. الذي هو نوع من الغناء. 3 سبأ: 34/ 13. 4 الزبور: هو الكتاب الذي أنزل على داود عليه السلام "الصحف". 5 طه: 20/ 95 6 البقرة: 2/ 259. 7 الإنسان: 76/ 2. 8 الماعون: 107/1. 9 النساء: 4/ 78.

جاء فيه شعر معروف. وقيل: إنه لم يسمع من العرب. وقال أبو العباس العتابي في كتابه المسمى بـ"نزهة الأبصار في أوزان الأشعار": إن الخليل جعله جنسًا وأحسبه قاسه وما أدري ما روي في كتب العروض، أمصنوع هو أم مسموع من العرب. انتهى كلام العتابي. وتفاعيله في الأصل: مفاعلين فاع لا تن مفاعلين، ومثلها ولكنه ما استعمل إلا مجزوًا فبقي مربعًا. فما وقع في مخرومه في الكتاب العزيز قوله تعالى: {يَوْمَ التَّنَادِ، يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ} 1 والخرم هنا حذف الأول من مفاعلين. فعاد فاعيلن. فنقل إلى مفعولن فتفاعيل هذه الآية الشريفة مفعول فاعلات، كقول الشاعر: قلنا لهم وقالوا ... وكل له مقال وجاء في المقتضب من العروض المجزوة المطوية، قوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} 2 وتفعيل ذلك فاعلات مستعلن. وجاء فيه من الشعر: أقبلت فلاح لها ... عارضان كالسبج3 ومن مصرعه: غننا على الدرج ... بالخفيف والهزج وهذا البحر في القلة كبحر المضارع، إلا أنه سمع منه أبيات على عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، منها: هل عليَّ ويحكما ... إن عشقت من حرج وجاء في المجتث من العروض الصحيحة المجزوة والضرب المجزو، قوله تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} 4 كقول الشاعر: البطن منها خميص ... والوجه مثل الهلال5 وجاء في المتقارب من العروض الأولى الوافية، قوله تعالى: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} 6 فعولن فعولن فعولن فعولن، كقول الشاعر:

_ 1 غافر: 40/ 32، 33. 2 البقرة: 2/ 10. 3 السبج: الخرز الأسود، ويبدو شديد الملاسة واللمعان. 4 الحجر: 15/ 49. 5 خميص: خاوي. فارغ. 6 الأعراف:7/ 183. والقلم: 68/ 45.

فأما تميم تميم بن مر ... فألفاهم القوم روبى نياما1 ولولا الإطالة لذكرت ما دخل فيما أوردته من الزحاف، وقد أوردت هنا خمسة عشر بحرًا، ولم أذكر المتدارك، إذ هو محدث اخترعه المتأخرون، ولم تعرفه العرب في الزمن المتقدم، وهو خارج عن الخمسة عشر بحرًا، وقال ابن الحجاب في عروضه: وخسمة عشر دون ما متدارك ... وما عده منها الخليل فعدلا

_ 1 روبى: جمع رائب وهو الذي يبدو كالدايخ.

الانسجام في الشعر

الانسجام في الشعر: انتهى ما أوردته من الانسجام المنثور، وأما الانسجام في النظم، قد تقدم وتقرر أن أصحاب المذهب الغرامي هم سكان بيوته العامرة، وكناس1 آرامه التي هي غير نافرة. ولكن العرب على كل تقدير ملوك هذا الشأن، وقلائد هذا العقيان. وقد عنَّ لي أن أذكر، هنا، ما فرّوا به من وعر التركيب وشروعه في أبياتهم على سهل الانسجام، وأركض في أثر هذه الأبيات بسوابق الفحول، فإنها أبيات لها حرمة وذمام، وأعرّج بعد ذلك على البيوت الغرامية، وأتنسم أخبار الهوى من بين تلك الخيام، فمن الانسجام الذي وقع للعرب، وكاد أن يسيل رقة لسهولته، قول امرئ القيس في معلقته: أغرَّك مني أن حبك قاتلي ... وأنك مهما تأمري القلب يفعل وقوله من غير المعلقة: أجارتنا إنا غريبان ههنا ... وكل غريب للغريب نسيب ومثله، في الانسجام والرقة، قول طرفة بن العبد في معلقته: فإن كنت لا تستطيع دفع منيتي ... فدعني أبادرها بما ملكت يدي2 ومثله قوله منها: وظلم ذوي القربى أشد مضاضة ... على الحر من وقع الحسام المهند3 ومثله قوله منها: فإن مت فانعيني بما أنا أهله ... وشقي عليَّ الجيب يا أم معبد4

_ 1الكناس: بيت الرئم. 2 دفع: ردّ، بادر: واجه. 3 مضاضة: إيلامًا. 4 اذكري موتي بما أستحقه. وشقي عليَّ الجيب: أي اندبيني، من الندبة، وشق الجيب علامة الحزن.

ومثله قوله منها: ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود ويأتيك بالأنباء من لم تبع له ... بتاتًا ولم تضرب له وقت موعد لعمرك ما الأيام إلا مفازة ... فما اسطعت من معروفها فتزود عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن يقتدي ومثله، في لطف الانسجام، قول زهير بن أبي سلمى في معلقته: ومن هاب أسبابا المنايا ينلنه ... ولو رام أسباب السماء بسلم ومن يك ذا فضل فيبخل بفضله ... على قومه يستغن عنه ويذمم ومن يغترر يحسب عدوًّا صديقه ... ومن لا يكرم نفسه لا يكرم ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه ... يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم ومن لا يصانع في أمور كثيرة ... يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم1 ومن يجعل المعروف من دون عرضه ... يفره ومن لا يتق الشتم يشتم سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ... ثمانين حولًا لا أبا لك يسأم وأحسن ختامها في الانسجام بقوله: وأعلم ما في اليوم والأمس قبله ... ولكنني عن علم ما في غد عمي ومثله قول لبيد بن ربيعة من معلقته: فاقنع بما قسم المليك فإنما ... قسم الخلائق بيننا علامها وإذا الأمانة قسمت في معشر ... أوفى بأعظم حظنا قسامها ومن الغايات، في باب الانسجام، قول عنترة في معلقته: فإذا شربت فإنني مستهلك ... مالي وعرضي وافر لم يكلم2 وإذا صحوت فما أقصر عن ندى ... وكما علمت شمايلي وتكرمي3 ومن ذلك قول عمرو بن كلثوم في معلقته: لنا الدنيا ومن أضحى عليها ... ونبطش حين نبطش قادرينا

_ 1 صانع: داري من المصانعة وهي المداراة والمداهنة. 2 وافر: لا يمسه سوء، لم يكلم: لم يخدش. 3 الندى: الكرم والجود.

إذا ما الملك سام الناس خسفًا ... أبينا أن يقر الخسف فينا1 إذا بلغ الفطام الطفل منا ... تخر له الجبابر ساجدينا2 ملأنا البر حتى ضاق عنا ... وظهر البحر نملؤه سفينا ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا ومثله قول الحارث بن حلزة في معلقته وهي المعلقة السابعة: لا يقيم العزيز في البلد السهـ ... ـل ولا ينفع الذليل النجاء3 ومن الانسجامات التي عدها صاحب المرقص والمطرب، من المطرب قول زهير: تراه إذا ما جئته متهلالًا ... كأنك معطيه الذي أنت سائله ومن الانسجامات المعدودة من المرقص، قول النابغة الذبياني: وإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع ومن الانسجام المعدود من المطرب، قول حسان بن ثابت رضي الله عنه: أصون عرضي بمالي لا أدنسه ... لا بارك الله بعد العرض في المال أحتال للمال إن أودى فأكسبه ... ولست للعرض إن أودى بمحتال4 وعدوا من الانسجام المرقص، قول كعب بن هير: ولا تمسَّكُ بالعهد الذي وعدت ... إلا كما يمسك الماء الغرابيل5 ومن المطرب قول الشماخ: إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عُرابة باليمين ويعجبني من لامية العرب قول الشنفرى بن مالك: وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى ... وفيها لمن خاف القلى متحول6

_ 1 سام: أولى. الخسف: الذل والظلم. 2 الجبابر: الجبابرة. ويروى هذا البيت: إذا بلغ الفطام "لنا صبي" بدل: "الطفل منا". 3 السهل: المهان. النجاء: النجاة هربًا. 4 أودى: ذهب ونفد. 5 الغرابيل: جمع غربال آلة يدوية بدائية لتنقية الحبوب وهو عبارة عن قطعة من الخشب مستديرة تلصق عليها قطعة من الجلد مخرمة. 6 منأى: مبعد. القلى: الهجر.

ومثله من لامية العجم، وإن تأخر عصرها: إن العلى حدثتني وهي صادقة ... فيما تحدث أن العز في النقل لو أن في شرف المأوى بلوغ منى ... لم تبرح الشمس يومًا دارة الحمل1 وعدوا من الانسجام المطرب قول مجنون ليلى في قصيدته المشهورة: وقد خبروني أن تيماء منزل ... لليلى إذا ما الصيف ألقى المراسيا فهذي شهور الصيف عنا ستنقضي ... فما للنوى ترمي بليلى المراميا أعد الليالي ليلة بعد ليلة ... وقد عشت دهرًا لا أعد اللياليا وأخرج من بين البيوت لعلني ... أحدث عنك النفس يا ليل خاليا ألا أيها الركب اليمانون عرجوا ... علينا فقد أمسى هوانًا يمانيا2 يمينًا إذا كانت يمينًا فإن تكن ... شمالًا ينازعني الهوى من شماليا أصلي فما أدري إذا ما ذكرتها ... اثنتين صليت الضحى أم ثمانيا خليلي لا والله لا أملك الذي ... قضى الله في ليلى ولا ما قضى ليا قضاها لغيري وابتلاني بحبها ... فهلا بشيء غير ليلى ابتلانيا ولو أن واش باليمامة داره ... وداري بأعلى حضرموت اهتدى ليا3 وماذا لهم لا أحسن الله حالهم ... من الحظ في تصريم ليلى حباليا4 وددت على حبي الحياة لو أنه ... يزاد لها في عمرها من حياتيا على أنني راضي بأن أحمل الهوى ... أخلص منه لا عليَّ ولا ليا إذا ما شكوت الحب قالت كذبتني ... فما لي أرى الأعضاء منك كواسيا5 فلا حب حتى يلصق الجلد بالحشا ... وتذهل حتى لا تجيب المناديا ومن المرقص، في باب الانسجام، قول كثير عزة: ولما قضينا من منى كل حاجة ... ومسح بالأركان من هو ماسح أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ... وسالت بأعناق المطي الأباطح

_ 1 دارة الحمل: من أبراج الشمس الفلكية. 2 عرّجوا: ميلوا ومروا. 3 الواشي: الذي يسعى للفرقة بين الأحباء. 4 الضمير في لهم وما لهم يعود على الوشاة، تصريم: تقطيع حبال الود. 5 كواسيا: جمع كاسي، وهو الممتلئ. أو المغطى لحمًا.

وعدوا من المطرب، في باب الانسجام، قول جرير: إن العيون التي في طرفها حور ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا1 يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به ... وهن أضعف خلق الله أركانا وعدوا من المطرب قول بشار بن برد: إذا جئته في حاجة سد بابه ... فلم تلقه إلا وأنت كمين2 ومن انسجامات نسيبه، التي ليس مناسب قوله: هل تعلمين وراء الحب منزلة ... تدني إليك فإن الحب أقصاني ومثله قوله: أنا والله أشتهي سحر عينيك ... وأخشى مصارع العشاق ومثله قوله: وإني امرؤ أحببتكم لمكارم ... سمعت بها والأذن كالعين تعشق ويعجبني من لطيف الانسجام، قول العباس بن الأحنف: أفدي الذين أذاقوني مودتهم ... حتى إذا أيقظوني للهوى رقدوا واستنهضوني فلما قمت منتصبًا ... بثقل ما حملوني منهم قعدوا ومثله قوله: لولا محبتكم لما عاتبتُكُمُ ... ولكنتم عندي كبعض الناس ومثله قوله: طاف الهوى في عباد الله كلهم ... حتى إذا مر بي من بينهم وقفا ومثله قوله: وسعى بنا واش فقالوا إنها ... لهي التي تشقى بها وتكابد فجحدتهم ليكون غيرك ظنهم ... إني ليعجبني المحب الجاحد تقدم لهذين البيتين نكتة لطيفة تؤيد تأكيد انسجامهما وعذوبة ألفاظهما، وهي أنه رفع للرشيد موت العباس، وإبراهيم الموصلي المعروف بالنديم، والكسائي، وهشيمة الخمارة، في يوم واحد، فأمر المأمون أن يصلى عليهم فخرج فصفوا بين يديه، فقال:

_ 1 الحور: شدة سواد سواد العين مع شدة بياض بياضها. 2 كمين: أي كامن حتى لا يراك.

من الأول. فقالوا: إبراهيم الموصلي. فقال: أخروه وقدموا العباس بن الأحنف. فقدم وصلى عليه. فلما فرغ وانصرف، دنا منه هاشم بن عبد الله الخزاعي فقال: يا سيدي، كيف آثرت العباس بالتقديم على من حضر! فقال: بقوله: وسعى بنا واش. البيتين، ثم قال: أتحفظهما؟ فقلت: نعم. فقال: أليس من قال هذا الشعر، أولى بالتقديم؟ فقلت: بلى والله يا سيدي. انتهى. وقد تقدم قولي وتكرر: أن أصحاب الطريق الغرامية هم موالي رقيق الانسجام وتجار سوقه، ولولا نسمات أنفاسهم ما تنسمنا أخبار الحمى وتغزلنا في سفحه وعقيقه. وقد ألجأتني ضرورة الجنسية إلى ضم المتقدمين مع المتأخرين، لئلا ينفرط لعقودها نظام: وإذا أخرت من تقدم وأوردت له غير الطريق الغرامي، كان جلّ القصد من ذلك معرفة أنواع الانسجام. فمن الانسجام الغرامي قول الشريف الرضي، وهو الذي قال في حقه الثعالبي في كتاب اليتيمة: هو أشعر الطالبيين، قديمًا وحديثًا، على كثرة شعرائهم المفلقين. ولو قلت: إنه أشعر قريش، لم أبعد عن الصدق والقول الموعود بإيراده قوله: نسرق الدمع في الجيوب حياءً ... وبنا ما بنا من الأشواق1 لا أذم السراء في طلب العـ ... ـز ولكن في فرقة العشاق يوم لا غير زفرة من فؤاد ... ذي قروح ورشقة من مآق والثرى منتش يعاقره السيـ ... ـر دمًا جاريًا بأيد النياق2 أمعيني على بلوغ الأماني ... وشفائي من علتي واشتياقي أينعت بيننا المودة حتى ... جللتنا والزهر بالأوراق3 كم مقام خضنا حشاه إلى اللهـ ... ـو جميعًا والليل ملقى الرواق4 ومزجنا خمر الرضابين في الرشـ ... ـف برغم المدام تحت العناق قم نبارد رمي الظلام ببين ... بسهام الخطوب في الاتفاق واغتنمها قبل الفراق فيما نعـ ... ـلم يومًا حتى يكون التلاقي نحن غصنان ضمنا عاطف الوجد ... جميعًا في الحب ضم النطاق5 في جبين الزمان منك ومني ... غرَّة كوكبية الائتلاق

_ 1 الجيوب: مفردها جيب وهو فتحة الثوب التي يدخل منها الرأس. 2 يعاقره، يساقيه. يشربا معًا. 3 أينعت: نضجت. جللتنا: غطتنا. 4 الرواق: الستار. ورواق الليل ظلامه. 5 النطاق: حزام يشد به الوسط.

كلما كرَّت الليالي علينا ... شق منا الوفا جيب الشقاق أيها الرائح المغذُّ تحمل ... حاجة للمتيم المشتاق1 أقر مني السلام أهل المصلى ... فبلاغ السلام بعض التلاقي وإذا ما مررت بالخيف فاشهد ... أن قلبي إليه بالأشواق وإذاما سئت عني فقل نضـ ... ـو هوى ما أظنه اليوم باقي2 وابك عني فطالما كنت من قبـ ... ـل أعير الدموع للعشاق ومثله قوله من أبيات: سهمك مدلول على مقتلي ... فمن يرى سهمك يا قاتل ليس لقتلي ثائر يتقي ... وليس في سفك دمعي طائل قد رضا المقتول كل الرضا ... وا عجبًا لم سخط القاتل ومثله قوله من أبيات: نكست لحظ العين حين خطا ... والبين يرمقني ويرمقه أذبت دمعي يوم ودعني ... في صحن خد ذاب رونقه واللثم يركض في سوالفه ... يكاد خيل الدمع يسبقه ومثله قوله: خذي نفسي يا ريح من جانب الحمى ... فلاقي به ليلًا نسيم ربى نجد فإن بذاك الحيّ حبًّا عهدته ... وبالرغم مني أن يطول به عهدي ولولا تداوي القلب من ألم الجوى ... بذكر تلاقينا قضيت من الوجد3 ومثله قوله من أبيات: عارضا بي ركب الحجاز أسائله ... متى عهده، بسكان سلع واستملا حديث من سكن الجز ... ع ولا تكتباه إلا بدمعي4 عزني أن أرى الديار بطرفي ... فلعلي أرى الديار بسمعي5

_ 1 المغذ: المسرع السير. 2 نضو: ضعيف مهزول. 3 الجوى: شدة الشوق. قضى: مات. الوجد: الاشتياق الشديد. 4 استملا: اطلبا إملاء، والإملاء هو أن يقرأ أحد شخصين ويكتب الثاني. 5 عزني: أي لم أستطع.

ومن الانسجامات، التي ينسجم الدمع لرقتها، قول تلميذه مهيار الديلمي: ظن غداة البين أن قد سلما ... لما رمى سهمًا وما أجرى دما فعاد يستقري حشاه فإذا ... فؤاده من بينهم قد عدما1 يا قاتل الله العيون خلقت ... لو أخطأ فكيف صارت أسهما أودعني السقيم وولى هازئا ... يقول قم واستشف ماء زمزما ولو أباح ما حمى من ريقه ... لكان أشفى لي من الماء اللما2 وا بأبي ومن يبيع بأبي ... على الظما ذاك الزلال الشبما3 كأنما الصهباء في كافورة ... قد مزجت وجلَّ عن كأنما ومثله قوله: استنجدُ الصبر فيكم وهو مغلوب ... وأسال النوم عنكم وهو مسلوب وأبتغي عندكم قلبًا سحت به ... وكيف يرجع شيء وهو موهوب ما كنت أعلم ما مقدار وصلكم ... حتى هجرت وبعض الهجر تأديب ومثله قوله وهو في غاية اللطف: بطرفك والمسحور يقسم بالسحر ... أعمدًا رماني أم أصاب ولا يدري رنا اللحظة الأولى فقلت مجرّب ... وكرَّرها أخرى فأحسست بالشرّ ومثله قوله في اللطف: من عذيري يوم شرفي الحمى ... من هوى جدّ بقلبي مرحا4 الصبا إن كان لا بد الصبا ... إنها كانت لقلبي أروحا يا نداماي بسلع هل أرى ... ذلك المغبق والمصطبحا5

_ 1 يستفري: يتفحص. 2 اللما: أخذه بأجمعه. وتقدير الكلام: لو أباح ما حمى من ريقه فإن أخذ هذا الريق بأجمعه كان أشفى لي من شرب الماء. 3 الشبم: من الماء: البارد. 4 العذير: الناصر والمساعد. 5 المغبق والمصطبحا: مكان الاغتباق أو مكان شرب الغبوق وهو شرب الخمر مساءً، ومكان الاصطباح وهو شرب الصبوح أي شرب الخمرة صباحًا.

اذكرونا مثل ذكرانا لكم ... رب ذكرى قربت من نزحا وارحموا صبًّا إذا غنى بكم ... شرب الدمع وعاف القدحا منها: وعرفت الهم مذ فارقتكم ... فكأني ما عرفت الفرحا ومثله قوله من قصيدة: بكر العارض يحدوه النعامى ... فسقاك الريّ يا دار أماما1 وتمشت فيك أرواح الصبا ... يتأرّجن بأنفاس الخزامى2 قد قضى حفظ الهوى أن تصبحي ... للمحبين مناخًا ومقاما3 وبجرعاء الحمى قلبي فعج ... بالحمى واقر على قلبي السلاما4 وترحل فتحدث عجبا ... إن قلبًا سار عن جسم أقاما قل لجيران الغضى آهًا على ... طيب عيش بالغضى لو كان داما حملوا ريح الصبا من نشركم ... قبل أن تحمل شيحًا أو ثماما5 وابعثوا أشباحكم لي في الكرى ... إن أذنتم لجفوني أن تناما ومن الغايات، في باب الانسجام، قول الوأواء الدمشقي: بالله ربكما عوجا على سكني ... وعاتباه لعل العتب يعطفه6 وحدثاه وقولا في حديثكما ... مابال عبدك بالهرجان تتلفه فإن تبسم قولا في ملاطفة ... ما ضر لو بوصال منكم تسعفه وإن بدا لكما في وجهه غضب ... فغالطاه وقولا فليس نعرفه

_ 1 العارض: المطر. يحدوه: يسوقه. النعامى: ريح الجنوب لأنها في الصحراء أندى الرياح وأرطبها. 2 أرواح: جمع ريح. الصبا: رياح تهب على الصحراء العربية من جهة الشرق، تقابلها الدبور وتحمل عادة الروائح الزكية. تأرج: صار ريحه ريح الأريج. 3 قضى: حكم. مناخًا: محط رحال. ماقما: مكان الإقامة. 4 عج: أمر من عاج: عرّج ومرّ.... 5 النشر: الرائحة الطيبة. الشيح: نبات سهلي طيب الرائحة. الثمام: عشب من الفصيلة النجيلية فروعه مزدحمه، مجتمعه. 6 السكن: الزوج ومنه قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} الروم 30/ 21. وقوله: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} الأعراف: 7/ 189.

ومثله، في اللطف ورقة الانسجام، قول الأرجاني: حيتك غادية الهوى من مربع ... رجعت عهودي فيك أم لم ترجع ما أسأروا في كأس دمعي فضلة ... عنهم فأجلعها نصيب المربع1 لم يبكني إلا حديث فراقهم ... لما أسر به إليَّ مودعي هو ذلك الدر الذي ألقيتم ... في مسمعي ألقيته من أدمعي ومثله قوله: عوجا عليها أيها الركب ... لا عار أن يتساعد الصحب قد كان لي قلب ولا ألم ... واليوم لي ألم ولا قلب ومثله قوله: أما الفؤاد فإنهم ذهبوا به ... يوم النوى فبقيت صفر الأضلع2 فكأننا لما عقدنا للنوى ... حلفًا بغير رهائن لم يقنع فرهينتي معهم فؤادي دائمًا ... والطيف من سلمى رهينتهم معي ومثله في اللطف قول الطغرائي: خبروها أني مرضت فقالت ... أضنى طارفًا شكا أم تليدا3 وأشاروا بأن تعود وسادي ... فأبت وهي تشتهي أن تعودا وأتتني في خفية وهي تشكو ... ألم البعد والمزار البعيدا ورأتني كذا فلم تتمالك ... أن أمالت عليَّ عطفًا وجيدًا وألطف منه، بل من النسيم، قوله: بالله يا ريح إن مكنت ثانية ... من صدغه فأقيمي فيه واستتري وراقبي غفلة منه لتنتهزي ... لي فرصة وتعودي منه بالظفر وباكري ورد عذب من مقبله ... مقابل الطعم بين الطيب والخصر ولا تمسي عذاريه فتفتضحي ... بنفحة المسك بين الورد والصدر4

_ 1 أسأروا: أبقوا، من السؤر وهو البقية من كل شيء. 2 صفر الأضلع: فارغ الأضلع، ويقال: صفر اليدين للذي لا يحمل شيئًا. 3 الضنى: المرض والألم، الطارف: الجديد، التليد. القديم. 4 الورد والصدور: الورود المجييء، والصدور: العودة والرجوع.

وإن قدرت على تشويش طرته ... فشوشيها ولا تبقي ولا تذري ثم اسلكي بين برديه على مهل ... واستبضعي وانثني منه على قدر1 ونبهيني دون القوم وانتفضي ... عليَّ والليل في شك من السحر لعل نفحة طيب منك نائبة ... تقضي لبانة قلب عاقر الوطر2 وممن برع في الطريق الغرامية، وأينع زهر نظمه في حدائق الانسجام بها، الشيخ تقي الدين السروجي رحمه الله تعالى. قال الشيخ أثير الدين أبو حيان، رحمه الله: كان الشيخ تقي الدين، مع زهده وعفته، مغرمًا بحب الجمال، وكان يغني بشعره الغرامي في عصره، لرقة انسجامه وعذوبة ألفاظه. وقال الشهاب محمود: كان الشيخ تقي الدين يكره مكانًا يكون فيه امرأة، ومن دعاه من أصحابه قال: شرطي معروف، وهو أن لا يحضر في المجلس امرأة. وكنا يومًا في دعوة، فأحضر صاحب الدعوة شواء وأمر بإدخاله إلى النساء يقطعنه ويجعلنه في الصحون، فلما حضر بعد ذلك تقرف منه، وقال: كيف يؤكل وقد لمسنه بأيديهن. وذكر أبو حيان: أنه لما توفي بالقاهرة، رابع رمضان المعظم سنة ثلاث وتسعين وستمائة، قال أبو محبوبه: والله ما أدفنه إلا في قبر ولدي، فإنه كان يهواه في الحياة، وما أفرق بينهما في الممات. هذا لما كان يعهده من دينه وعفافه، فمن اسنجاماته الغرامية: أنعم بوصلك لي فهذا وقته ... يكفي من الهجران ما قد ذقته أنفقت عمري في هواك وليتني ... أعطي وصولًا بالذي أنفقته3 يا من شغلت بحبه عن غيره ... وسلوت كل الناس حين عشقته كم جال في ميدان حبك فارس ... بالصدق فيك لي رضاك سبقته أنت الذي جمع المحاسن وجهه ... لكن عليه تصبري فرقته قال الوشاة قد ادعى بك نسبة ... فسررت لما قلت قد صدقته بالله إن سألوك عني قل لهم ... عبدي وملك يدي وما أعتقته أو قيل مشتاق إليك فقل لهم ... أدري بذا وأنا الذي شوقته وما ألطف ما قال منها: يا حسن طيف من خيالك زارني ... من عظم وجدي فيهما حققته فمضى وفي قلبي عليه حسرة ... لو كان يمكنني الرقاد لحقته

_ 1 استبضعي: أي مري على البُضع وهو فرج المرأة. 2 اللبانة: الحاجة. العاقر: التي لا تلد. الوطر: الحاجة. 3 وصول: جمع وصل: وهو عبارة عن ورقة تثبت الإنفاق "مستحدثه".

قلت: ما نفثات السحر، إذا صدقت عزائمها، بأوصل إلى القلوب من هذه النفثات، ولا لسلاف ظلم الحبائب مع حلاوة التقبيل عذوبة هذه الرشفات. وعدّوا من المرقص الغرامي في باب الانسجام، قول ابن الخياط الدمشقي: أغار إذا آنست في الحي أنه ... حذارًا وخوفًا أن تكون لحبه1 ومثله قول ظاهر الحداد، وقد عدوه من المرقص: ونفر صبح الشيب ليل شبيبتي ... كذا عادني في الصبح مع من أحبه ومثله قول خالد الكاتب، وعدوه له من المطرب: رقدت ولم ترث للساهر ... وليل المحب بلا آخر ومثله قول راجح الحلي، وعدّوه من المرقص: يا ليل طلت ولم ترق لمغرم ... لم يظلموا إذ لقبوك بكافر2 ومثله قول ابن تقي، وهو معدود من المرقص: باعدته عن أضلع تشتاقه ... كي لا ينام على فراش خافق ويعجبني في هذا الباب قول النجيب بن الدباغ، وهو معدود من المرقص: يا رب إن قدرته لمقبل ... غيري فللمسواك أو للأكؤس3 ولئن قضيت لنا بصحبة ثالث ... يا رب فَلْيَكُ شمعة في المجلس وإذا حكمت لنا بعين مراقب ... في الحب فلتك من عيون النرجس وعدّوا من مرقصات الطريق الغرامية قول القائل: أستغفر الله إلا من محبتكم ... فإنها حسناتي حين ألقاه فإن يقولوا بأن العشق معصية ... فالعشق أحسن ما يعصى به الله ومن مطرب الانسجام الغرامي، قول علية بنت المهدي: وأحسن أيام الهوى يومك الذي ... تروع الهجران فيه وبالعتب إذا لم يكن في الحب سخط ولا رضًا ... فأين حلاوات الرسائل والكتب

_ 1 أنة: واحدة الأنين وهو صوت الموجوع. 2 الكافر: من أسماء الليل. 3 المسواك: غصن شجر تنظف به الأسنان.

ومثله من المطرب، قول الحسين بن الضحاك: له عبثات عند كل تحية ... بعينيه تستدعي الحليم إلى الوجد1 رعى الله عصرًا لم نبت فيه ليلة ... خليًّا ولكن من حبيب على وعد2 ومن الغايات في هذا الباب، أعني الانسجام الغرامي، ما كان يكثر من الترنم به أبو القاسم القشيري وهو: لو كنت ساعة بيننا ما بيننا ... وشهدت حين نكرر التوديعا3 أيقنت أن من الدموع محدثًا ... وعلمت أن من الحديث دموعا ومثله قول خالد الكاتب: بكى عاذلي من رحمتي فرحمته ... وكم مثله من مسعد ومعين ورقت دموع العين حتى كأنها ... دموع دموعي لا دموع جفوني ويعجبني، من هذا الباب، قول إسحاق بن إبراهيم الموصلي: على عصر أيام الصبابة والصبا ... ووصل الغواني والتذاذي بالشرب سلام امرئ لم تبق منه بقية ... سوى نظر العينين أو شهوة القلب ومن غراميات القاضي الفاضل، في باب الانسجام قوله: ترى لحنيني أو حنين الحمائم ... جرت فحكت دمعي دموع الغمائم وهل من ضلوع أو ربوع ترحلوا ... فكل أرها دارسات المعالم4 لقد ضعفت ريح الصبا فوصلتها ... فمنِّي لا منها هبوب السمائم5 دعوا نفس المقروح يحمله الصبا ... وإن كان يهفو بالغصون النواعم6 تأخرت في حمل السلام عليكم ... لدينا لما قد حملت من سمائم فلا تسمعوا إلا حديثًا لناظري ... يعاد بألفاظ الدموع السواجم7

_ 1 عبثات: غمزات وهي من العبث وهو اللعب الذي لا طائل تحته. 2 خليًّا: وحيدًا، أو خاليًا من شيء ما. 3 بيننا: الأولى فراقنا. 4 دارسات المعالم: ممحوات الآثار. 5 السمائم: جمع سموم وهي رياح حارة. 6 الصبا: رياح تحمل روائح طيبة تهب على الجزيرة العربية من جهة الشرق. 7 السواجم: المنسكبة، سجم الدمع: انصب وانسكب.

ومثله قوله: يا طرف مالك ساهد في راقد ... يا قلب مالك راغب في زاهد من يشتري عمري الرخيص جميعه ... من وصلك الغالي بيوم واحد عاتبته فتوردت وجناته ... والقلب صخر لا يلين لقاصد فنظرت من ذي في حرير ناعم ... وضربت من ذا في حديد بارد ويعجبني من غراميات البهاء زهير قوله: عتبتكم عتب المحب حبيبه ... وقلت بإدلال فقولوا بإصغاء لعلكم قد صدكم عن زيارتي ... مخافة أمواه لدمعي وأنواء1 فلو صدق الحب الذي تدعونه ... وأخلصتم فيه مشيتم على الماء وإن تك أنفاسي خشيتم لهيبها ... وهالتكم نيران وجد بأحشائي فكونوا رفاعيين فى الحب مرة ... وخوضوا لظى نار لشوقي حمراء2 وألطف منه وأسجم قوله: تعيش أنت وتبقى ... أنا الذي مت عشقا حاشاك يا نور عيني ... تلقى الذي أنا ألقى ولم أجد بين موتي ... وبين هجرك فرقا يا أنعم الناس بالًا ... إلى متى فيك أشقى سمعت عنك حديثًا ... يا رب لا كان صدقا وما عهدتك إلا ... من أكرم الناس خلقا لك الحياة فإني ... أموت لا شك حقا يا ألف مولاي مهلا ... يا ألف مولاي رفقا قد كان ما كان مني ... والله خير وأبقى ومثله قوله: أنت الحبيب الأول ... ولك الهوى المستقبل عندي لك الود الذي ... هو ما عهدت وأكمل

_ 1 أمواه: جمع ماء. الأنواء: الأمواج. 2 رفاعيين: نسبة إلى رفاعة الطهطاوي. لشوقي: يتبادر إلى الذهن شوقي الشاعر وهي تورية المقصود بها الشوق.

القلب فيك مقيد ... الدمع منك مسلسل يا من يهد بالصدو ... د نعم تقول وتفعل قد صح عذرك في الهوى ... لكنني أتعلل1 نفدت معاذيري التي ... ألقى بها من يسأل حتام أكذب للورى ... وإلى متى أتحمل قل للعذول لقد أطلـ ... ـت لمن تقول وتعذل عاتبت من لا يرعوي ... وعذلت من لا يقبل غضب العذول أخف من ... غضب الحبيب وأسهل ومن انسجاماته التي تكاد أن لا تكون موزونة: إن شكا القلب هجركم ... مهد الحب عذركم لو رأيتم محلكم ... من فؤادي لسركم لو أمرتم بما عسى ... ما تعديت أمركم قصروا مدة الجفا ... طوّل الله عمركم شرفوني بزورة ... شرَّف الله قدركم كنت أرجو بأنكم ... شهركم لي ودهركم قد نسيتم وإنما ... أنا لم أنس ذكركم وصبرتم وليتني ... كنت أعطيت صبركم ورأيتم تجلدي ... في هواكم فسركم2 لو وصلتم محبكم ... ما الذي كان ضركم ومن انسجاماته التي هي في غاية الظرف: يا قلب بعض الناس هل ... للضيف عندك زاويه إني ببابك قد وقفـ ... ـت عسى ترد جوابيه يا ملبسي ثوب الضنا ... يهنأك ثوب العافيه لم يبق مني في القميـ ... ـص سوى رسوم باليه3 وحشاشة ما أبقت الأشـ ... ـواق منها باقية4

_ 1 التعلل: تسلية النفس وتمنيتها. 2 التجلد: شدة الصبر. 3 رسوم: بقايا. 4 الحشاشة: بقية الروح.

يا من إليه المشتكى ... أنت العليم بحاليه وإليك عني يا غرا ... م فقد عرفت مكانيه فكأنما لك قد قعد ... ت على طريق القافيه من لي بلقب اشتر ... يه من القلوب القاسيه مولاي يا قلبي العزيـ ... ـز ويا حياتي الغاليه إني لأطلب حاجة ... ليست عليك بخافيه أنعم علي بقبلة ... هبة وإلا عاريه1 وأعيدها لك لا عدمـ ... ـت بعينها وكما هيه وإذا أردت زيادة ... خذها ونفسي راضيه ومثله قوله في هذا الروي: قالوا كبرت عن الصبا ... وقطعت تلك الناحية فدع الصبا لرجاله ... واخلع ثياب العاريه ونعم كبرت وإنما ... تلك الشمائل باقيه وتفوح من عطفي أنـ ... ـفاس الشباب كما هيه ويميل بي نحو الصبا ... قلب رقيق الحاشيه فيه من الطرب القديـ ... ـم بقية في الزاويه ومن غراميات الحاجري، في هذا الباب: لك أن تشوّقي إلى الأوطان ... وعليَّ أن أبكي بدمع قانِ إن الذي رحلوا غداة المنحنى ... ملئوا القلوب لواعج الأشجان2 فلأبعثن من النسيم إليهم ... ما خل بالأغصان والغزلان نزلوا برامة قاطنين فلا تسل ... ما حل بالأغصان والغزلان وقد تقدم قولي: إن الشيخ شرف الدين عبد العزيز الأنصاري، شيخ شيوخ حماة، سقى الله من غيث الرحمة ثراه، هو غيث هذا الانسجام، وغريم هذا الغرام. فمن انسجاماته الغرامية الموعود بإيرادها، قوله: حديثي في المكبة ليس يشرح ... فدعني من حديث اللوم واسرح

_ 1 العارية: استعارة. 2 اللواعج: جمع لاعج وهو المحرق. والشجان: جمع شجن وهو الحزن.

فما لك مطمع ببراح قلبي ... عن الحب الذي أعيا وبرح1 فكم من لائم أنحى إلى أن ... تأمل من هويت فما نتنحنح فيا لله ما أشهى وأبهى ... ويا لله ما أحلى وأملح له طرف يقول الحرب أحرى ... ولي قلبي يقول الصلح أصلح سألت سواره المثري فنادى ... فقير وشاحه الله يفتح2 وماس من القوام بغصن بان ... إذا أنشدت أغزالي ترنح3 وحياني بألحاظ مراض ... صحيحات فأمرضني وصحح أعاتبه فلا يصغى لعتبي ... ولا أسلو فأتركه وأربح ومن غايات انسجامه قوله: كم شرحت من وجد ... كم سفحت من دمعه كم بعثت من رسل ... دفعة على دفعه بنتم وأعرضتم ... ما أمرها جرعه هل عليكم باس ... في المقال بالرجعة4 قد حججت مغناكم ... لا تحرموا المتعه5 تترك سني فيكم ... سادتي من البدعه6 هذه صباباتي ... والوصال في منعه7 كيف لو تعلمتم ... غير هذه الصنعه

_ 1 برح: اشتد بصاحبه فلم يتركه يبرح مكانه. 2 الله يفتح: تعبير يستمعله المسؤول إذا أرد المنع. 3 ماس: تمايل - أغزال: غزليات - ترنح: تمايل حتى بدا كالسكران يوشك على الوقوع. 4 القول بالرجعة: الاعتقاد بأن الأئمة يرجعون مع ظالميهم ليقتصوا منهم آخره هو الاعتقاد برجعة الإمام محمد بن الحسن العسكري بعد غيبتان: صغرى وكبرى، وأنه "سيملأ الأرض عدلا، كما ملئت ظلما وجورا" وهذا من اعتقادات الشيعة. أو هو مذهب من يؤمن بالرجوع إلى الدنيا بعد الموت. 5 حجبت مغناكم: زرت داركم - المتعة: التمتع بالنساء: والمتعة كانت سنة على زمن النبي محمد صلى الله عليه وسلم فجاء عمر بن الخطاب فحرمها وقال: "متعتان كانتا زمن النبي أنا أحرمهما وأعاقب عليهما". ولا يزال الشيعة يطبقون السنة في المتعة إلى يومنا هذا. 6 البدعة: إحداث شيء في الدين لم يكن فيه، هذا من الافتراء والكفر. 7 المنعة: حماية منيعة، أي لا يمكن الوصول إليه.

يا مليك قلبي خذ ... ما يليه بالشفعه1 واسِ بيننا أو لا ... ردنا إلى القرعه لا تحل عني قلبي ... ليس فيه من نجعه2 قد تركت أرداني ... من مدامعي نقعه3 ما لناظري كحل ... غير هذه الطلعه ومثله قوله: خبروه تفصيل حالي جمله ... فعساه يرق لي ولعله كم تنحنحت إذ تبدى حذارًا ... من رقيبي وكم تكلفت سعله4 ليس لي عن هدى هواه ضلال ... أكثر اللوم عاذلي أو أقله ركبت في جبلتي نشوة العشـ ... ـق وصعب تغيير ما في الجبله سادتي عادوا رضاكم وعودا ... عن جفاكم فما بقي فيَّ فضله ذبت شوقًا فعالجوني بقرب ... مت عشقًا فحنطوني بقبله5 وأشغلوني عن لائم ما أتاني ... برشاد أتته آفة غفله قلت بالله خلني فتمادى ... وقليل من يترك الشر لله ومثله قوله: صب أخذ الهوى زمامه ... قد صار جمالكم أمامه في حسنكم البديع شغل ... عن علوة لي وعن إمامه من لي بمحجب أراه ... بالفكر ولا أرى خيامه أشدو بتغزلي لديه ... فيه فيحدّ لي خصامه يزهو ويقول كان ماذا ... لو يترك جاهل كلامه شبهت بطلعتي هلالًا ... ما كنت رضيفته قلامه6 والغصن حسبته شبيهًا ... مني بتعطف وقامه

_ 1 الشفعة: حق الجار في تملك العقار جبرًا على مشتريه بشروطه التي رسمها الفقهاء. 2 النجعة: قصد ذي المعروف لمعروفه، وموضع الأمل. 3 أردان: جمع ردن وهو كُم الثوب. نقعة: كثير التبلل بالدموع. 4 سعلة: واحدة السعال وهو النفث الذي يصدر عن المصدور. 5 حنط: تحنيطًا: حفظ الجسم من التلف بمواد خاصة. 6 القلامة: القطعة من الظفر.

والظبي إذا رنت لحاظي ... لا كيد له ولا كرامه أفديه بمهجتي وإني ... لا حسرة لي ولا ندامه كم دعوة موعد لوصل ... قامت لحضورها القيامه أخبرت بها العذول لكن ... ما قلت له كم الغرامه1 ومثله قوله: لا تعاتبني فلا عتب عليّ ... خرج الأمر وعقلي من يدي ليس للنصح قبول يرتجى ... عند شيخ هام وجدا بصبي وأرى لومك يغريني به ... لا تزدني أو فزدني يا أخي أنا في الحب إمام فإذا ... صرت من أبنائه فاخضع لدي لا تسل غيريَ في شرع الهوى ... وخذ التنزيل فيه عن أبي خلقي أني شحيح بهم ... وبرحي لهم حاتم طي2 فاختصر في شرح أشواقي فإن ... رمت إسهابًا فوكل مقلتي سادتي فارقتكم فاستلبت ... بنوا كم راحتي من راحتي3 فاجبروا قلبي بشيء منكم ... فلقد أوتيتم من كل شيء4 صادني منكم غرير أغيد ... فيه ما يشغل عن هند ومي5 قلت قد أضنيت جسمي قال قد ... قلت كي تذهب روحي قال كي قلت أفديك بنفسي قال مه ... ما إليك الأمر فيها بل إلي6 ومثله قوله، من أبيات يخاطب العذول: أراك بخيلًا بعوني فهبني ... سكوتك عني إذا لم تعني ذممت الهوى ورجوت السلو ... فأبكيت عيني وأضحكت سني فإن عفت شربي من خمرتي ... فدعني ما بين كأسي ودني7 وإياك عربدتي فاخشها ... فإني قد أخذ السكر مني

_ 1 الغرامه: الجزية. 2 شحيح: بخيل. حاتم طي: يضرب به المثل في الكرم عند العرب. 3 النوى: السفر. راحتي: الأولى بمعنى الاستراحة والثانية اليد. 4 جَبَر: أصلح الخراب. 5 الغرير: المغرور الذي لا تجربه له. 6 مه: لغة في مه الاستفهامية. 7 الدن: وعاء الخمر.

ويعبجني من انسجامات ابن سنا الملك قوله: دنوت وقد أبدى الكرى منه ما أبدى ... فقبلته في الثغر تسعين أو إحدى1 وأبصرت في خديه ماء وخضرة ... فما أملح المرعى وما أعذب الوردا تلهب ماء الخد أو سال جمره ... فيا ماء ما أذكى ويا جمر ما أندى أقول لناه قد أشار بتركه ... لقد زدتني فيما أشرت به زهدا فلم لا نهيت الثغر أن يعذب اللمى ... ولم لا أمرت الصبر أن يكتم النهدا2 وأقسم ما عندي إليه صبابة ... وكيف وجور الشوق لم يبق لي عندا وفي القلب نيران الخليل توقدت ... وما ذقت منها لا سلامًا ولا بردا3 ومثله قوله، ويعجبني إلى الغاية: نعم المشوق وأنعم المعشوق ... فالعيش كالمخصر الرقيق رقيق خصر أدير عليه معصم قبلة ... فكأن تقبيلي له تعنيق ونعم لقد طرق الحبيب وماله ... إلا خدود العاشقين طريق فرشوا الخدود طريقه فكأنما ... زفراتهم لقدومه تطريق4 وافى وصبح جبينه متنفس ... وأتى وجيد رقيبه مخنوق5 قصنعته فيه صناعة شعرية ... فالصدر يرحب والعناق يضيق ومثله قوله، وهو في غاية الظرف: لا أجازي حبيب قلبي بجرمه ... أنا أحنى عليه من قلب أمه ضن عني بريقه فتحيلـ ... ـت إلى أن سرقته عند لثمه وإلى اليوم من ثلاثين يومًا ... لم تزل من فمي حلاوة طعمه إن قلبي لصدره ورقادي ... ملك أجفانه وروحي لجسمه يكسر الجفن بالفتور ومالي ... عمل وقت كسره غير ضمه

_ 1 أو إحدى وتسعين قبلة. 2 اللمى: سمرة في الشفاه. النهد: الثدي إذا نهد في الصدر. 3 نيران الخليل: تلميح إلى قصة سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام، وإلقائه في النار بعد تحطيم الأصنام. 4 التطريق: وقع الخطى. 5 مخنوق: مزنّر.

ومن غراميات الشاب الظريف، شمس الدين محمد بن العفيف، قوله في باب الانسجام: عفا الله عن قوم عفا الصبر منهم ... فلو رمت ذكري غيرهم خانني الفم1 تجنوا كأن لا ودّ بيني وبينهم ... قديمًا وحتى ما كأنهم هم وبالجزع أحباب إذا ما ذكرتهم ... شرقت بدمع في أواخره دم ومشبوب ناري وجنة وجناية ... تعلمه ألحاظه كيف يظلم ألم وما في الركب منا متيم ... وعاد وما في الركب إلا متيم وليس الهوى إلا التفاتة طامح ... يروق لعينيه الجمال المنعم خليلي ما للقلب هاجت شجونه ... وعاوده داء من الشوق مؤلم أظن ديار الحي منا قريبة ... وغلا فمنها نفحة تتنسم ومثله قوله: لا تخف ما فعلت بك الأشواق ... واشرح هواك فكلنا عشاق فعسى يعينك من شكوت له الهوى ... في حمله فالعاشقون رفاق لا تجزعن فلست أول مغرم ... فتكت به الوجنات والأحداق واصبر على هجر الحبيب فربما ... عاد الوصول وللهوى أخلاق كم ليلة أسهرت أحداقي بها ... وجدًا وللأفكار بي إحداق2 يا رب قد بعد الذين أحبهم ... عني وقد ألف الفراق فراق واسود حظي عندهم لما سرى ... فيه بنار صبابتي إحراق عرب رأيت أصح ميثاق لهم ... أن لا يصح لديهم ميثاق ومثله قوله: بتثني قوامك الممشوق ... وبأنوار وجهك المعشوق ومعنى للحسن مبتكر فيـ ... ـك وقلب كقلبي المحروق جُدْ بوصل أو زروة أو بوعد ... أو كلام أو وقفة في الطريق أو بإرسالك السلام مع الريـ ... ـح وإلا فبالخيال الطروق3

_ 1 عفا: زال. 2 إحداق: إحاطة. 3 الطروق: الملم بالمكان.

ويعجبني، في هذا المعنى على هذا الطريق، قول بعض المواليا: زر شهر في عام يا من قد غلا في السوم1 ... أو يوم في شهر أحلى من صدودك وإن عز هذا وهذا يا عزيز القوم ... في الدهر ساعة وإن لم ترتض في النوم ومن ألطف انسجامات ابن العفيف قوله أيضًا: لي من هواك بعيده وقريبه ... ولك الجمال بديعه وغريبه يا من أعيذ جماله بجلاله ... حذرًا عليه من العيوب تصيبه إن لم تكن عيني فإنك نورها ... أو لم تكن قلبي فأنت حبيبه هل حرمة أو رحمة لمتيم ... قد قل فيك نصيره ونصيبه ألف القصائد في هواك تغزلًا ... حتى كأن بك النسيب نسيبه2 لم يبق لي سر أقول تذيعه ... عني ولا قلب أقول تذيبه دع لي فؤادًا بالغرام تشبُّه ... واستبق فَوْدًا بالصدود تشيبه3 كم ليلة قضيتها متسهدًا ... والدمع يجرح مقلتي مسكوبه والنجم أقرب من لقاك مناله ... عندي وأبعد من رضاك مغيبه ومثله قوله: رشيق القامة النضره ... لقد أصميت بالنظره4 وقد سودت حظي منـ ... ـك يا أبهى الورى غره سواد الخال والمقله ... مع العار والطره قديم الهجر هل لفتى ... قديم في الهوى هجره وكم تلقاه بالإيعا ... د والإبعاد والنفره6 وكم يشكو ولا تطر ... ح في قفته كسره6 رأينا من جفا وجنى ... ولكن زدت في كره فهل تمنح أو تسمـ ... ـح بالوصل ولو مرَّه

_ 1 السوم: الثمن. 2 النسيب: التغزل والتشبيب. 3 تشبه: تشعله. الفود: الشعر الذي على جانب الرأس مما يلي الأذنين "السالف". 4 أصمى: رمى وقتل. 5 الإيعاد: التوعد. 6 القفه: الثوب.

فقد أصبحت لا أملـ ... ـك من صبري ولا ذره وقد صيرني هجر ... ك في كس أخت من أكره ومن انسجاماته الرقيقة قوله: حتام حظي لديك حرمان ... وكم كذا لوعة وهجران أين ليال مضت ونحن بها ... أحبة في الهوى وجيران وأين وُدٌ عهدت صحته ... وأين عهد وأين أيمان قد رضي الدهر والعواذل والـ ... حساد عنا وأنت غضبان فاسلم ولا تلتفت إلى مهج ... بها جوى قاتل وأشجان ونم خليًّا وقل كذا وكذا ... من كل من أطلعت تلمسان1 ومثله قوله: أعز الله أنصار العيون ... وخلد ملك هاتيك الجفون وضاعف بالفتور لها اقتدارًا ... وإن تك أضعفت عقلي وديني وأبقى دولة الأعطاف فينا ... وإن جارت على قلبي الطعين2 وأسبغ ظل ذاك الشعر منه ... على قدٍّ به هيف الغصون وصان حجاب هاتيك الثنايا ... وإن ثنت الفؤاد إلى الشجون حملت تسهدي والشيب هذا ... على رأسي وذاك على عيون ومن غراميات ابن النبيه، في باب الانسجام: تعالى الله ما أحسن ... شقيقًا حف بالسوسن3 خدود لثمها يبري ... من الأسقام لو أمكن فما تجني وحارسها ... بقفل الصدغ قد زرفن4 غزال ضيق العينيـ ... ـن ينسيني الرشا الأعين5

_ 1 تلمسان: اسم بلد. 2 الطعين: المطعون: المرجوح بالرمح أو بالسيف. 3 الشقيق: شقائق النعمان، أزهار معروفة. 4 الصدغ: الشعر ما بين العين والأذن من جانب الوجه. زرفن: لم نعثر على هذه اللفظة فيما بين أيدينا وربماكانت "زرجن" ومعناها صبغ بالزرجون وهو صباغ أحمر يستخرج من شجر واحدته زرجونة. 5 الأعين: الواسع العينين.

له قلب وأعطاف ... فما أقسى وما ألين ولم أر قبل مبسمه ... صغير الجوهر المثمن أبث هواه من خوف ... لنجم الليل لما جن1 وما ينفع كتماني ... ودمع العين قد أعلن وقد أسكنته قلبي ... فسار وأحرق المسكن ومما كتبه القاضي الفضل بخطه، وهو غاية في باب الانسجام الغرامي، وكان كثيرًا ما يترنم به، قصيدة القاضي المهذب ابن الزبير، ووجدت بخط الفاضل، غير تامة، وقد أثبت هنا منها ما وجد بخط الفاضل من غراميها، واختصرت المديح وهو: بالله يا ريح الشما ... ل إذا اشتملت الروح بردا وحملت من نشر الخزا ... مي ما اغتدى للندّ ندّا2 ونسجت ما بين الغصون ... إذا اعتنقن هوى وودّا وهززت عند الصبح من أعطافها ... قدًا فقُدّا3 ونثرت فوق الماء من ... أجيادها للزهر عقدا فملأت صفحة وجهه ... حتى اكتسى آسًا ووردا4 فكأنما ألفت فيـ ... ـه منهما صدغًا وخدًّا مرّي على برد عسا ... هـ يزيد في مسراك بردا نهر كنصل السيف تكسـ ... ـو متنه الأزهار غمدا5 صقلته أنفاس النسـ ... ـيم بمرّهن فليس يصدا أحبابنا ما بالكم ... فينا من الأعداء أعدى وحياة حبكم بتر ... بة وصلكم ما خنت عهدا وغاية الغايات، في باب الانسجام الغرامي، ما كتبه القاضي فتح الدين بن عبد الظاهر إلى والده القاضي محي الدين، وقد توجه صحبة الركاب الشريف الظاهري في مهم شريف فحصل له ضعف بدمشق المحروسة، وهو: إن شئت تبصرني وتبصر حالتي ... قابل إذا هب النسيم قبولا

_ 1 جن: ستر وجن الليل أظلم. 2 الخزامي: نبت طيب الرائحة. النّد: نوع من الأشجار أغصانه يتبخر بها لطيب رائحتها. 3 قدّ: شَقَّ. 4 الآس: نبات طيب الرائحة. 5 نصل السيف: شفرته. وغمد السيف: جفنه أو مكان وضعه.

تلقاه مثلي رقة ونحافة ... ولأجل قلبك لا أقول عليلا فهو الرسول إليك مني ليتني ... كنت اتخذت مع الرسول سبيلا خطاب مثل هذا الولد لمثل هذا الوالد، بقوله: ولأجل قلبك لا أقول عليلا، فيه ما يفتت الأكباد، ويحرك الجماد، سبحان المانح! إن من البيان لحسرا. ومن غراميات والده القاضي محي الدين، في باب الانسجام: لا آخذ الله بندك ... فكم وشى بي عندك وقال عني بأني ... شبهت بالغصن قدَّك وأنت تعظم عندي ... أن يمسي البدر عبدك وليست والله أرضى ... أن يحكيَ الورد خدَّك فقاتل الله طرفي ... فكم به نلت قصدك ولا ر عى الله قلبي ... فكم رعى لك عهدك فمن ترى أنا حتى ... جعلت صدري وكدك1 وما عشقتك وحدي ... بل عشقتك وحدك وكم أطعتك جهدي ... وكم تجنيت جهدك وبعد هذا وهذا ... وذاك لا ذقت فقدك ويعجبني في هذا الباب رشاقة ناصر الدين بن النقيب، بقوله: سلك الشوق بقلبي ... بعدكم صعب المسالك ورمى قلبي بنيرا ... ن ولا نيران مالك هذه بعض صفاتي ... طالع العبدَ بذلك وأظرف ما رأيت في باب الانسجام الغرامي المرتجل، ما أورده صاحب "روضة الجليس ونزهة الأنيس" ذكر أنه كان بأفريقية رجل نبيه شاعر مفلق، وكان يهوى غلامًا من غلمانها جميلًا، فاشتد كلفه به، وكان الغلام يتجنى عليه ويعرض عنه كثيرًا، فانفرد بنفسه ليلة جمع فيها من سلاف الراح وسلاف الذكر، فتزايد به الوجد وقام على الفور، وقد غلب عليه السكر، مشى إلى أن انتهى إلى باب محبوبه ومعه قبس نار، فوضعه عند باب الغلام، فلما دارت النار بالباب بادر الناس بإطفائها واعتقلوه، فلما أصبحوا نهضوا به إلى القاضي فأعلموه بفعله. فقال له القاضي: لأي شيء أحرقت باب هذا الغلام؟ فقال مرتجلًا:

_ 1 جعله وكده: أي جعله همه وقرر أن ينفذ شيئًا حياله.

لما تمادى على بعادي ... وأضرم النار في فؤادي ولم أجد من هواه بدًا ... ولا معينًا على السهاد حملت نفسي على وقوفي ... ببابه حمل الجواد1 فطار من بعض نار قلبي ... أقل في الوصف من زناد2 فأحرق الباب دون علمي ... ولم يكن ذاك من مرادي فرق القاضي لارتجاله الغرامي، وتحمل عنه جناية الباب. وقد انتهت الغاية بنا إلى غراميات العارفين، وابن الفارض هو قائد زمامها، وقتيل غرامها. فمن قوله، في هذا الباب الذي ليس لغيره فيه مدخل، ما ألفته من تائيته، وجعلته قصيدًا غراميًّا ينتظم بها شمل الانسجام، وإذا هب نسيمها العذري تنسمت العشاق منه أخبار الغرام، وهو قوله: نعم بالصبا قلبي صبا لأحبتي ... فيا حبذا ذاك الشذا حين هبت تذكرني العهد القديم لأنها ... حديثة عهد عن أهيل مودتي3 فلي بين هاتيك الخيام ضنينة ... عليَّ بجمعي سمحة بتشتتي4 محجبة بين الأسنة والظبا ... إليها انثنت ألبابنا إذ تثنت تتيح المنايا إذ تبيح لنا المنى ... وذاك رخيص منيتي بمنيتي متى أوعدت أولت وإن وعدت لوت ... وإن أقسمت لا تبرى السقم برت5 وإن عرضت أطرق حياء وهيبة ... وإن أعرضت اشفق فلم أتلفت وقد سخنت عيني عليها كأنها ... بها لم تكن يومًا من الدهر قرت6 فإنسانها ميت ودمعي غسله ... وأكفانه ما ابيض حزنًا لفرقتي7 خرجت بها عني إليها فلم أعد ... إليّ ومثلي لا يقول برجعة8 فوصلي قطعي واقترابي تباعدي ... وودّي صدّي وابتدائي نهايتي

_ 1 الجواد: الكريم. 2 الزناد: القبس من النار، ما تشعل به النار. 3 أهيل: تصغير أهل للتحبب. 4 ضنينة: بخيلة. ضدها سمحة: كريمة. 5 أولى: أقام على الوعد. لوت: أخلفت الوعد. بر القسم: وفى به. 6 سنحت العين: سفحت الدمع. 7 إنسان العين: ما ترى به "البؤبؤ". 8 القول بالرجعة من معتقدات الشيعة. وقد مر ذكره.

وفيه تلاف الجسم بالسقم صحة ... له وتلاف النفس عين الفتوة ولما تلاقينا عشاء وضمنا ... سوء سبيلَيْ ذي طوى والثنية1 وضنت وما منت عليَّ بوقفة ... تعادل عندي بالمعرّف وقفتي2 عتبتُ فلم تعتب كأن لم يكن لقا ... وما كان إلا أن أشرت وأومت وبانت فأما حسن صبري فخانني ... وأما جفوني بالبكاء فوفت أغار عليها أن أهيم بحبها ... وأعرف مقداري فأنكر غيرتي وكنت بها صبًّا فلما تركت ما ... أريد أرادتني لها وأحبت بها قيس لبنى هام بل كل عاشق ... كمجنون ليلى أو كثير عزة3 بدت فرأيت الحزم في نقض توبتي ... وقام بها عند النهى عذر محنتي فموتي بها وجدًا حياة هنيئة ... وإن لم أمت في الحب عشت بغصتي تجمعت الأهواء فيها فلا ترى ... بها غير صب لا يرى غير صبوتي وعندي عيدي كل يوم أرى به ... جمال محياها بعين قريرة وكل الليالي ليلة القدر إن دنت ... كما كل أيام اللقا يوم جمعة وأي بلاد الله حلت بها فما ... أراها وفي عينيَّ حلت غير مكة وما سكنته فهو بيت مقدس ... بقرة عيني فيه أحشاي قرت ومسجد الأقصى مساحب بردها ... وطيبي ثرى أرض عليها تمشت مواطن أفراحي ومربى مآربي ... وأطوار أوطاري ومأمن خيفتي4 مغان بها لم يدخل الدهر بيننا ... ولا كادنا صرف الزمان بفرقة5 ولا صحبتنا النائبات بنبوة ... ولا حدثتنا الحادثات بنكبة6 ولا اختص وقت دون وقت بطيبة ... بها كل أوقاتي مواسم لذتي فإن رضيت عني فعمري كله ... زمان الصبا طيبًا وعصر الشبيبة وإن قربت داري فعامي كله ... ربيع اعتدال في رياض أريضة7

_ 1 سبيلي: طريقي. وذي طوى والثنية: مكانين. 2 المعرف: هو عرفات، والوقفه على جبل عرفات من شعائر الحج في الإسلام. 3 قيس لبنى: هو قيس بن ذريح الشاعر ولبنى حبيبته. ومجنون ليلى. هو قيس بن الملوح، الشاعر وليلى حبيبته. وكثير عزة هو كثير بن عبد الرحمن الشاعر، وعزّة حبيبته. وقصص هؤلاء في العشق مشهورة. 4 المآرب: الحاجات وكذلك أوطار. 5 مغان: ربوع، ديار غنيت بساكنيها. 6 النبوة: الطيش. نبا: طاش وخاب. 7 رياض أريضة: نضرة غناء.

بها مثل ما أمسيت أصبحت مغرمًا ... وما أصبحت فيه من الحسن أمست فلو بسطت جسمي رأت كل جوهر ... به كل قلب فيه كل محبة وقد جمعت أحشاي كل صبابة ... بها وجوى ينبيك عن كل صبوة وكنت أرى أن التعشق منحة ... لقلبي فما إن كان إلا لمحنتي ألا في سبيل الحب حالي وما عسى ... بكم أنْ ألاقي لو دريتم أحبتي1 أخذتم فؤادي وهو بعضي عندكم ... فما ضركم لو كان بعضي جملتي هى جسدي مما وهى جلدي لدى ... تحمله يبلى وتبقى بليتي2 ومنذ عفار سمي وهمت وهمت في ... وجودي فلم تظفر بكوني فكرتي3 وبالي أبلى من ثياب تجلدي ... بل الذات في الإعدام نيطت بلذتي4 كأني هلال الشك لولا تأوهي ... خفيت فلم تُهدَ العيون لرؤيتي وقالوا جرت حمرًا دموعك قلت عن ... أمور جرت في كثرة الشوق قلت نحرت لضيف السهد في جفني الكرى ... قرى فجرى دمعي دمًا فوق وجنتي5 فطوفان نوح عند نوحي كأدمعي ... وإيقاد نيران الخيليل كلوعتي6 ولولا زفيري أغرقتني أدمعي ... ولولا دموعي أحرقتني زفرتي وحزني ما يعقوب بث أقله ... وكلُّ بلا أيوب بعض بليتي7 وكل أذى في الحب منك إذا بدا ... جعلت له شكري مكان شكيتي نعم وتباريح الصبابة إن عدت ... عليَّ من النعماء في الحب عدت وعنوان ما بي ما أبثك بعضه ... وما تحته إظهاره فوق قدرتي وأسكت عجزًا عن أمور كثيرة ... بنطقي إن تحصى ولو قلت قلّت

_ 1 درى: عرف. 2 وهى: وهن وضعف. 3 في الحقيقة أنني لم أستطع فهم معنى هذا البيت إلا أن يكون: العفار: الفطام. وسمي بمعنى عرف. فيكون المعنى: ومنذ فطام أو انقطاع عرف، غلطت وحاولت فكرتي أن تعرف وجودي فلم تظفر ولم تستطع ذلك. 4 نيط به الأمر: اقتصر عليه وصار هو مسئولًا عنه. 5 القرا: إطعام الضيف. 6 طوفان النبي نوح عليه السلام والنار التي ألقي فيها إبراهيم الخليل عليه السلام وقصتهما مشهورة في القرآن. 7 حزن يعقوب على ولده النبي يوسف عليه السلام إذ قال فيه تعالى: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} يوسف: 12/ 84. بلاء، وأيوب هو النبي أيوب عليه الصلاة والسلام ويضرب المثل بصبره.

وعن مذهبي في الحب ما لي مذهب ... وإن ملت يومًا عنه فارقت ملَّتي1 هو الحب إن لم تقض لم تقض مأربًا ... من الوصل فاختر ذاك أو خل خلتي2 ودع عنك دعوى الحب واختر لغيره ... فؤادك وادفع عنه غيك بالتي وجانب جناب الوصل هيهات لم يكن ... وها أنت حي إن تكن صادقًا مُت وقالوا تلاف ما بقي منك قلت لا ... أراني إلا للتلاف تلفتي غرامي أقِم صبري انصرم دمعي انسجم ... عدوي انتقم دهري احتكم حاسدي اشمت ويا نار أحشائي أقيمي من الجوى ... حنايا ضلوعي فهي غير قويمة ويا جسدي المضنى تسل عن الشقا ... ويا كبدي من لي بأني تتفتتي ويا كلما أبقى الضنى مني ارتحل ... فما لك مأوى في عظام رميمية وماذا عسى عني أناجي توهمًا ... بياء الندا أونست منك بوحشتي فنفسي لم تجزع بإتلافها أسى ... ولو جزعت كانت بغيري تأست3 فيا سقمي لا تبق لي رمقًا فقد ... أبيت لبقيا العز ذلَّ البقية ومن غرامياته التي خلبت القلوب، وعرف العارفون بها طريق التوصل إلى معرفة المحبوب، قوله من قصيدة: أفهو إلى كل قلب بالغرام له ... شغل وكل لسان بالهوا لهج وكل سمع عن اللاحي به صمم ... وكل جفن إلى الإغفاء لم يعج4 لا كان وجده به الآماق جامدة ... ولا غرام به الأشواق لم تهج5 عذب بما شئت غير البعد عنك تجد ... أوفى محب بما يرضيك مبتهج وخذ بقية ما أبقيت من رمق ... لا خير في الحب إن أبقى على المهج6 من لي بإتلاف روحي في هوى رشإ ... حلو الشمائل بالأرواح ممتزج من مات فيه غرامًا عاش مرتقيًا ... ما بين أهل الهوى في أرفع الدرج وما أحلى ما قال منها: قل للذي لامني فيه وعنفني ... دعني وشأني وعد عن نصحك السمج7

_ 1 الملة: المذهب الديني. 2 المأرب: الحاجة. خلّى: ترك. الخلة: المصادقة. 3 تأست: تعزّت. 4 اللاحي: اللائم. عاج: مر أو مال. 5 الآماق: المآقي وهي مجاري الدموع من العيون. 6 الرمق: بقية الحياة. 7 السمج: الذي لا يطاق. وعُدْ: كُفَّ.

فاللوم لؤم ولم يمدح به أحد ... فهل رأيت محبا بالغرام هجي منها: لم أدر ما غربة الأوطان وهو معي ... وخاطري أين كنا غير منزعج فالدار داري وحبي حاضري ومتى ... بدا فمنعرج الجرعاءب منعرجي1 منها: ليهن ركب سروا ليلا وأنت بهم ... فسيرهم في صباح منك منبلج2 فليصنع الركب ما شاؤوا لأنفسهم ... هم أهل بدر فلا يخشون من حرج وما ألطف ماقال منها: أهلا بما لم أكن أهلا لموقعه ... قول المبشر بعد اليأس بالفرج لك البشارة فاخلع ما عليك فقد ... ذكرت ثم علي ما فيك من عوج ومثله في الرقة والانسجام قوله من قصيدة: أبق لي مقلة لعلي يوما ... قبل موتي أرى بها من رآكا أين مني ما رمت هيهات بل ... أين لعيني باللحظ لثم ثراكا وبشيري لو جاء منك بعطف ... ووجودي في قبضتي قلت هاكا3 قد كفى ما جرى دما من جفون ... لي قرحي فهل جرى ما كفاكا4 فأجر من قلاك فيك معنى ... قبل أن يعرف الهوى يهواكا5 بانكساري بذلتي بخضوعي ... بافتقاري بفاقتي لغناكا لا تكلني إلى قوي جلد خا ... ن فإني أصبحت من ضعفاكا كنت تجفو وكان لي بعض صبر ... أحسن الله في اصطباري عزاكا كم صدود عساك ترحم شكوا ... ي ولو باستماع قولي عساكا شنع المرجفون عنك بهجري ... وأشاعوا أني سلوت هواكا6 ما بأحشائهم عشقت فأسلو ... عنك يوما دع يهجروا حاشاكا

_ 1 المنعرج: الطريق الملتوي - الجرعاء: الأرض ذات الحزونة. 2 انبلج: أشرف وأطل وانكشف بعد ستر. 3 هاك: اسم فعل أمر بمعنى خذ. 4 قرحى: مقرحة مشققة. 5 القلى: الكره والهجر. 6 شنع: سعوا بما يكره منه، بشعوا - المرجفون: الوشاة الكاذبون.

كيف أسلو ومقلتي كلما لا ... ح بريق تلتفت للقاكا كل من في حماك يهواك لكن ... أنا وحدي بكل من في حماكا ومن كاساته الغرامية التي سكر العشاق بقديمها وحديثها، قوله: أدِرْ ذِكْرَ مَنْ أهوى ولو بملام ... فإن أحادث اللحبيب مدامي فلي ذكرها يحلو على كل صيغة ... ولو مزجوه عذلي بخصام1 كأن عذولي بالوصال مبشري ... وإن كنت لم أطمع برد سلام وما أبدع وأرق ما قال منها: يشف عن الأسرار جسمي من الضنا ... فنوجي بها معنى نحول عظامي2 طريح جوى حب جريح جوارح ... قريح جفون بالدوام دوامي صحيح عليل فاطلبوني من الضنى ... ففيها كما شاء النحول مقامي منها: فلي كل عضو فيه كل حشا بها ... إذا نظرت أغراض كل سهام ولو بسطت جسمي رأت كل جوهر ... به كل قلب فيه كل غرام ومن غرامياته التي يتحرك الجماد لرقتها، قوله من قصيدة: ما لي سوى روحي وباذل نفسه ... في حب من يهواه ليس بمسرف3 فلئن رضيت بها لقد أسعفْتِني ... يا خيبة المسعى إذا لم تسعف وما أسجم4 ما قال منها: يا أهل ودي أنتم أملي ومن ... ناداكم يا أهل ودي قد كُفي5 عودوا لما كنتم عليه من الوفا ... كرمًا فإني ذلك الخلّ الوفي وحياتكم وحياتكم قسمًا وفي ... عمري بغير حياتكم لم أحلف لو أن روحي في يدي ووهبتها ... لمبشري بوصالكم لم أنصف

_ 1 العذل: اللوم. والبيت مختل الوزن كما نرى ونرجح بدل "مزجوه" "مزجوا". 2 نوجي: مجهول ناجى من المناجاة وهي المساررة. النحول: الدقة والضعف. 3 المسرف: الذي يتجاوز الاعتدال إجمالا، ومنها قوله: {وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ} يونس: 10/ 12. 4 أسجم: أدعى للبكاء والدموع. 5 في الأصل: يا أهلي، وما أثبتناه أقوم للوزن وأصح.

لا تحسبوني في الهوى متصنعًا ... كلفي بكم خلق بغير تكلف1 أخفيت حبكم فأخفاني أسى ... حتى لعمري كدت عني أختفي وكتمته عني فلو أبديته ... لوجدته أخفى من اللطف الخفي وما أحلى ما خاطب العذول منها بقوله: دع عنك تعنيفي وذق طعم الهوى ... فإذا عشقت فبعد ذلك عنِّف ما أعذب ما قال منها: يا ما أميلح كلما يرضي ... ورضابه يا ما أحيلاه بفي2 ولقد أحسن الله خاتمته فيها بقوله: ما للنوى ذنب ومن أهوى معي ... إن غاب عن إنسان عيني فهو في3 ولقد أقام القواعد الغرامية بقوله من قصيدة: تعرض قوم للغرام وأعرضوا ... بجانبهم عن صحة فيه واعتلوا رضوا بالأماني وابتلوا بحظوظهم ... وخاضوا بحار الحب دعوى فما ابتلّوا4 فهم في السرى لم يبرحوا من مكانهم ... وما ظعنوا في السير عنه وقد كلوا5 وعن مذهبي لما استحبوا العمى على ... الهدى حسدًا من عند أنفسهم ضلوا وما أحلى ما قال بعده: أحبة قلبي والمحبة شافعي ... لديكم إذا شئتم بها اتصل الحبل عسى عطفة منكم علي بنظرة ... فقد تعبت بيني وبينكم الرسل أحبّاي أنتم أحسن الدهر أم أسا ... فكونوا كما شئتم أنا ذلك الخلّ6 إذا كان حظي الهجر منكم ولم يكن ... بعاد فذاك الهجر عندي هو الوصل

_ 1 الكلف: شدة العشق. والتكلف: التصنع. 2 بفي: بفمي، وفي من الأسماء الخمسة: أب "أخ حم ذو فو". 3 أي فهو في قلبي. 4 الحظوظ: جمع حظ وهو النصيب. دعوى: أي ادعاء. 5 كلوا: تعبوا. 6 أسا: ترخيم أساء. الخل: الخليل وهو الصديق الملازم والمحب.

وما ألطف ما قال منها: وماذا عسى يقال سوى غدا ... بنُعم له شغل نعم لي بها شغل أخذتم فؤادي وهو بعض وما الذي ... يضرّكم لو كان عندكم الكل وما أظرف ما قال منها: تبًا له قومي إذا رأوني متيمًا ... وقالوا بمن هذا الفتى مسه الخبل1 وقال نساء الحي عنا بذكر من ... جفانا وبعد العز لذّ له الذلّ إذا أنعمت نعم عليَّ بنظرة ... فلا أسعدت سعدى ولا أجملت جمل2 وما أرق ما قال منها: خفيت ضني حتى لقد ضل عائدي ... وكيف يرى العواد من لا له ظل3 وما عثرت عيني على أثري ولم ... تدع لي رسمًا في الهوى الأعين النُجْل4 ولي همة تعلو إذا ما ذكرتها ... وروح بذكراها إذا رخصت تغلو فنافس ببذل النفس فيها أخا الهوى ... فإن قبلتها منك يا حبذا البذل فمن لم يجد في حب نعم بنفسه ... وإن جاد بالدنيا إليه انتهى البخل ومن الغراميات التي تهيج الأشواق ولواعج الغرام، وتنتظم بها عقود الانسجام، قول أحد المشايخ العارفين، الشيخ عفيف الدين التلمساني: لُذ بالغرام ولذة الأشواق ... واختر فناءك في الجمال الباقي واخلع سلوك فهو ثوب مخلق ... والبس جديد مكارم الأخلاق5 وتوق من نار الصدود بشربة ... من ماء دمعك فهو نعم الواقي وإذا دعاك إلى الصبا نفس الصبا ... فأجب رسول نسيمه الخفاق وإذا شربت الصرف6 من خمر الهوى ... إياك تغفل عن جمال الساقي والق الأحبة إن أردت وصالهم ... متلذذًا بالذل والإملاق7 أوليس من أحلى المطامع في الهوى ... عِز الحبيب وذلة العشاق

_ 1 مسه: أصابه المس وهو الجنون. الخبل: اختلاط العقل. 2 نُعم وسعدى وجمل: أسماء عشيقات. 3 العائد: زائر المريض يجمع على عُواد. 4 الرسم: الأثر. الأعين النجل: المتسعة الجميلة. 5 مخلق: معتق ممزق بالي. 6 الصرف: من الخمر الصافية التي لم تمزج بالماء. 7 الإملاق: الفقر.

ويطربني، من رقائق انسجاماته الغرامية، قوله: تعلم في مرافقه النديم ... مطاوعة الأراكة للنسيم1 وعاشره بأخلاق فإني ... وحقك عبد رق للنديم2 أعطايه أحاديث وكأسي ... فأسكر بالحديث وبالقديم3 ولي عند الأحبة قلب صب ... صحيح الود في جسد سقيم أقام وسافر السلوان عنه ... فلا اجتمع المسافر بالمقيم وقد أوردت هنا ما أمكن من جهد الطاقة، في باب الانسجام الغرامي وبديع بيوته، وقد تقدم قولي أني أخرت فيه المتقدم، وقدمت المتأخر عصرا، لئلا ينفرط سلكه وتذهب لذته، فإن الانسجام يدخل في الأبوب الغرامية وفي غيرها، ولكنه يوجد فيها أكثر، لعذوبتها وارتياح الخواطر إليها، لا سيما غراميات العافين، مثل الشيخ شرف الدين بن الفارض وغيره. ومما يستظرف في باب الانسجام، من الطرائق الغرامية الغريبة، قول عبد المحسن الصوري: وأخر مسه نزولي بقرح ... مثل ما مسني من الجوع قرح بت ضيفا له كماحكم الدهـ ... ـر وفي حكمه على الحر قبح فابتداني يقول وهو من السكـ ... ـرة بالهم طافح ليس يصحو لم تغربت قلت قال رسول الله ... والقول منه نصح ونجح سافروا تنغمو فقال وقد قا ... ل تمام الحديث صوموا تصحوا ومن الانسجام المطرب قول مروان بن أبي حفصة: مسحت ربيعة وجه معن سابقا ... لما جرى وجرى ذوو الأحساب من الانسجام المرقص قول أبي نواس: فتشمت في مفاصهلم ... كتمشي البرء في السقم4

_ 1 الأراكة: شجرة خوارة العود تؤخذ منها المساويك لتنظيف الأسنان، جمع أراك. 2 الرق: العبودية. 3 أعاطيه: أتعاطى معه به أبي اعطيه ويعطيني، وهناك تورية لي لفظة الحديث إذ المعنى الذي يتبادر إلى الذهن هو الكلام. بينما المراد هو الجديد. 4 هذا البيت في وصف دبيب الخمرة في الجسم.

ومثله قوله: دع عنك لومي فإن اللوم إغراء ... وداوني بالتي كانت هي الداء صفراء لا تزل الأحزان ساحتها ... لو مسها حجر مسته سراء1 من كف ذات حر في زي ذي ذكر ... لها محبان لوطي وزناء2 قامت بإبريقها والليل معتكر ... فلاح من وجهها في البيت لألاء3 وأرسلت من فم الإبريق صافية ... كأنما أخذها للعقل إغفاء رقت عن الماء حتى ما يلائمها ... لطافة وخفي عن شكلها الماء4 ومن الانسجام المطرب قول محمد بن صالح الحسني: وبدا له من بعد ما اندمل الهوى ... برق تألف موهنًا لمعانه5 يبدو كحاشية الرداء وصوته ... صعب الذرا متمنع أردانه6 فالنار ما اشتملت عليه ضلوعه ... والماء ما سحت به أجفانه وعدوا من الانسجام المطرب قول عبد الرحمن العطوي، في رثاء أحمد بن أبي دؤاد: وليس صرير النعش ما تسمعونه ... ولكنه أصلاب قوم تقصف7 وليس فتيق المسك ما تجدونه ... ولكنه ذاك الثناء المخلف

_ 1 السرا: الحياة والحركة. 2 الحر: فرج المرأة. اللوطي: هو الذي يأتي الرجال شهوة من دون النساء: الزناء: كثير الزنى وهو ممارسة الشهوة مع المحصنات من النساء. 3 اللألأ: البريق واللمعان. 4 هذا البيت يروى: جفت عن الماء حتى ما يلائمها لطافة وجفى عن شكلها الماء والذي نراه: رقت عن الماء حتى ما يلائمها لطافة وجفى عن شكلها الماء فلا يكون قد تغير فيه سوى لفظة "خفى" فهي على الأصح "جفى" لمناسبة المعنى، وقد أصابها التصحيف. والله أعلم. 5 الموهن: ما بعد منتصف الليل. 6 الأردان: جمع مفرده ردن وهو كم الثوب وأطرافه. 7 الصرير: صوت الأخشاب والجنادب و.... أصلاب: جمع مفرده صلب وهو هنا الهيكل العظمي أو الظهر منه فقط.

وعدوا من الانسجام المرقص قول العكوك في أبي دلف: إنما الدنيا أبو دلف ... بين باديه ومحتضره فإذا ولى أبو دلف ... ولت الدنيا على أثره ومن الانسجام المرقص، قول بكر بن النطاح: من كان مرعى عزمه وهمومه ... روض الأماني لم يزل مهزولا ومن الانسجام المطرب، قول أبي تمام: ولو لم يكن في كفه غير نفسه ... لجاد فيها فليتق الله شائله ومثله قوله: ظبي تقنصته لما نصبت له ... في آخر الليل أشراكًا من الحلم ومن الانسجام المرقص قول ديك الجن: بها غير معذول فداوي خمارها ... وصل بعشيات الغبوق ابتكارها1 موردة من كف ظبي كأنما ... تناولها من خده فأدارها ومن الانسجام المطرب قول دعبل: إن الكرام إذا ما أيسروا ذكروا ... من كان يألفهم في الموطن الخشن ومن الانسجام المرقص قول أبي علي البصير: لعمر أبيك ما نسب المعلى ... إلى كرم وفي الدنيا كريم وعدوا من الانسجام المطرب قول يزيد بن خالد المهلبي: ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها ... كفى المرء نبلًا أن تعد معايبه ومن الانسجام المرقص قول البحتري: تخفي الزجاجة لونها فكأنها ... في الكف قائمة بغير إناء ومثله قوله: متعتب في غير ما متعتب ... إن لم يجد جرمًا عليَّ تجرَّما

_ 1 الغبوق: أو الاغتباق: شرب الخمرة مساء.

ألف الصدود فلو يمرّ خياله ... بالصب في سِنة الكرى ما سلما1 ومن الانسجام المرقص قول ابن الرومي: فالموت إن نظرت وإن هي أعرضت ... وقع السهام ونزعهن أليم ومثله قوله يخاطب بني طاهر: علوتم علينا علو النجوم ... فجودوا علينا بأنوائها2 وعدوا من المطرب قول أبي العتاهية: أتته الخلافة منقادة ... إليه تجرر أذيالها فلم تك تصلح إلا له ... ولم يك يصلح إلا لها ومثله في المطرب قول سلم الخاسر: لا تسأل المرء عن خلائقه ... في وجهه شاهد من الخبر وعدوا من الانسجام المرقص قول عبد الله بن المعتز: أهلًا بفطر قد أنار هلاله ... فالآن فاغد إلى المدام وبكر3 فانظر إليه كزورق من فضة ... قد أثقلته حمولة من عنبر وعدوا من مرقصات المتنبي قوله: وأصبح شعري منهما في مكانة ... وفي عنق الحسناء قد يحسن العقد ومثله قوله: والهجر أقتل لي مما أراقبه ... أنا الغريق فما خوفي من البلل ومثله قوله: فإن تفق الأنام وأنت منهم ... فإن المسك بعض دم الغزال4

_ 1 السِّنَة: النعاس. والكرى: الإغفاء. 2 أنواء الجوم: ميلانها للغروب. والمقصود أنه يبقى لها القليل من الإضاءة فجودوا علينا بالقليل والله أعلم. 3 الفطر: عيد الفطر في نهاية شهر رمضان. 4 تفق: مضارع مجزوم من فاق: يفوق: يتفوق عليه.

ومن الانسجام المرقص قول أبي نصر بن نباتة: لم يبق جودك لي شيئًا أؤمله ... تركتني أصحب الدنيا بلا أمل ومن الانسجام قول الوأواء الدمشقي: وأمطرت لؤلؤا من نرجس فسقت ... وردًا وعضت على العناب بالبرد1 ومثله قوله: متى أرعى رياض الحسن منه ... وعيني قد تضمنها غدير ومن انسجام المرقص قول أبي العباس الضبي: زعم البنفسج أنه كعذاره ... حسنًا فسلوا من قفاه لسانه ومن الانسجام المرقص قول أبي الحسن اللحام: يا سائلي عن خالد عهدي به ... رطب العجان وكفه كالجلمد2 كالأقحوان غداة غب سمائه ... جفت أعاليه وأسفله ندي وعدوا من الانسجام المطرب قول أبي نصر العتبي: الله يعلم أني لست ذا بخل ... ولست ملتمسًا في البخل لي عللا لكن طاقة مثلي غير خافية ... والذرّ يعذر في القدر الذي حملا3 وعدوا من الانسجام المرقص المطرب قول أبي الفرج بن هند: عابوه لما التحى فقلنا ... عبتم وغبتم عن الجمال هذا غزال ولا عجيب ... تولد المسك في الغزال ومثله قول الأمير شمس المعالي قابوس: وفي السماء نجوم ما لها عدد ... وليس يكسف إلا الشمس والقمر وعدوا من الانسجام المرقص قول ابن الحجاج: كأن أيري شمع في رخاوته ... فكلما لمسته راحتي لان

_ 1 اللؤلؤ: الدمع. النرجس: العيون. الورد: الخدود. العناب: الشفاه. البرد: الأسنان. 2 العجان: لم نعثر على معنى هذه اللفظة في ما بين يدينا ولكن نرجح أن تكون: الأصابع. 3 الذر: صغار النمل.

ومثله قوله: فأصبح الدهر به هيضة ... فنحن غرقى في خرا الدهر1 وعدوا من المرقص قول أبي العلاء المعري: والخل كالماء يبدي لي ضمائره ... مع الصفاء ويخفيها مع الكدر وعدوا من الانسجام المرقص قول المنازي، الذي لا يوجد في معناه مثله: وقانا لفحة الرمضاء واد ... سقاه مضاعف الغيث العميم2 نزلنا دوحه فحنا علينا ... حنو المرضعات على الفطيم وأرشفنا على ظمأ زلالا ... ألذ من المدامة للنديم يصد الشمس أنى واجهتنا ... فيحجبها ويأذن للنسيم تروع حصاة حالية العذارى ... فتلمس جانب العقد النظيم وعدوا من الانسجام المرقص قول ابن الشحناء العسقلاني: ومهفهف علق السقام بطرفه ... وسرى فحيم في معاقد خصره3 مزقت أثواب الظلام بثغره ... ثم انثنيت أحوكها من شعره وعدوا من الانسجام المرقص قول ابن الخياط الدمشقي، وهو من شعراء المائة السادسة: ومحتجب بين السنة معرض ... وفي القلب من إعراضه مثل حجبه أغار إذا آنست في الحي أنة ... حذارًا وخوفًا أن تكون لحبه وهذا الانسجام غرامي وعدوا من الانسجام المرقص قول القاضي الأرجاني: وما ينزل الغيث إلا لأن ... يقبّل بين يديك الثرى ومثله قول ابن الهبارية: ولولا نداه خفت نار ذكائه ... عليه ولكن الندى مانع الوقد4

_ 1 الهيضة: مرض يصاب صاحبه بالإسهال والاستفراغ "الكوليرا". 2 الرمضاء: شدة الحر. الغيث العميم: المطر الذي يعم البلاد. 3 المهفهف: الممشوق القد، الضامر البطن. الدقيق الخصر. الفخيم: الفخم عظيم القدر. 4 الندى: الجود والكرم. الوَقْد: الاشتعال.

وعدوا من المرقص قول أبي عبد الله النقاش البغدادي: إذا وجد الشيخ من نفسه ... نشاطًا فذلك موت خفي ألست ترى أن ضوء السراج ... له لهب عندما ينطفي ومن الانسجام المرقص قول ابن المفضل البغدادي: خطرت فكاد الورق يسجع فوقها ... إن الحمام لمغرم بالبان1 من معشر نشروا على هام الربا ... للطارقين ذوائب النيران ومثله قول سبط التعاويذي: بين السيوف وعينيه مشاركة ... من أجلها قيل للأغماد أجفان ومن الانسجام المرقص قول القاضي الفاضل، في وكيله الشريف الكحال: رجل توكل لي وكحلني ... فأصبت في عيني وفي عيني2 ومثله قوله فيه: عادى بني العباس حتى أنه ... خلع السواد من العيون بكحله ومثله قول ابن الساعاتي: والطير يقرأ والغدير صحيفة ... والريح تكتب والغمام ينقط ومثله قوله في النهر: صدأ الظلام يزيد رونق حسنه ... أرأيت سيفًا قط يصقل بالصدا وعدوا من الانسجام المرقص قول عبد الملك بن مازة البخاري، وقد دخل عليه مملوك وفي يده قوس: نهاني لما بدا عقرب ... على خدّه أن أروم السفر3 فقلت وفي يده قوسه ... أسير ففي القوس حل القمر

_ 1 الورق: جمع مفرده ورقاء وهي الحمامة. 2 عيني الأولى عضو الإبصار. والثانية بمعنى صديقي الخدوم. 3 العقرب: ما تجعد من الشعر. أروم: أطلب.

ومثله قول ابن أردخل التكريتي: ألفيّ القوام عني أمالو ... هـ فقلبي مكسور تلك الإمالة وعدوا من الانسجام المرقص قول ابن عنين: دمشق فبي شوق إليها مبرِّح ... وإن لج واش أو ألح عذول بلاد بها الحصباء در وتربها ... عبير وأنفاس الشمال شمول تسلسل فيها ماؤها وهو مطلق ... وصح نسيم الروض وهو عليل ومن الانسجام المرقص قول الحاجري: إني لأعذر في الأراك حمامه الشا ... دي كذلك تفعل العشاق حكم الغرام الحاجري بأسرها ... فغدت وفي أعناقها الأطواق1 وعدّوا من الانسجام المرقص قول الصاحب بهاء الدين زهير: فيا ظبي هلا كان منك التفاتة ... ويا غصن هلا كان منك تعطف ويا حرم الحسن الذي هو آمن ... وألبابنا من حوله تتخطف2 عسى عطفة بالوصل يا واو صدغه ... علي فإني أعرف الواو تعطف وعدوا من المرقص قول محيي الدين بن زيلاق: ومن عجبي أن يحرسوك بخادم ... وخدام هذا الحسن من ذاك أكثر عذارك ريحان وثغرك جوهر ... وخدك كافور وخالك عنبر ومثله قول ابن عربي الموصلي في المرقص: أنا صب وماء عيني صب ... وأسير من الضنى في قيود وشودي على الهوى أدمع العـ ... ـين ولكنني قذفت شهودي3 ومثله قول ابن الحلاوي الموصلي: كتبت فلولا أن هذا محلل ... وذاك حرام قست لفظك بالسحر

_ 1 السر: الاحتجاز. 2 الألباب: جمع لب وهو العقل. 3 القذف: الادعاء الزور، الاتهام.

فوالله ما أدري أزهر خميلة ... بطرسك أم در يلوح على نحر1 فإن كان زهرًا فهو صنع سحابة ... وإن كان درًا فهو من لجة البحر ومثله قول ابن ظهير الأزبكي: طرفي وقلبي ذا يسيل دمًا وذا ... دون الورى أنت العليم بقرحه وهما بحبك شاهدان وإنما ... تعديل كل منهما في جرحه2 والقلب منزل القديم فإن تجد ... فيه سواك من الأنام فنحه انظر هذه القافية ما أحلاها وأمكنها. ومثله قوله: غارت مناطقه وأنجد ردفه ... يا بعد شقة غوره من نجده3 ومن الانسجام المرقص قول تاج الدين بن الحواري: فوالله ما أخرت عنك مدائحي ... لأمر سوى أني عجزت عن الشكر وقد رضت فكري مرَّة بعد مرة ... فما ساغ أن أهدي إلى مثلكم شعري فإن لم يكن درًا فتلك نقيصة ... وإن كان درًا كيف يهدي إلى البحر ويعجبني من الانسجام المرقص قول النجم القمراوي: وحاكمت النسيم على مرور ... بعطفيه فمال مع النسيم ومثله قول عبد الكردي: إذاما اشتقت يومًا أن أراكم ... وحال البعد بينكم وبيني بعثت لكم سوادًا في بياض ... لأبصركم بشيء مثل عيني وعدّوا من الانسجام المطرب قول المذهب بن الخيمي الحلي، وقد كتب إلى والده: جننت فعوذني بكتبك أن لي ... شياطين شوق لا يفارقن مضجعي إذا استرقت أسرار وجدي تمرّدًا ... بعثت إليها في الدجا شهب أدمعي

_ 1 الطرس: ما يكتب عليه. 2 التعديل والجرح: مصطلحان في علم الرجال من علوم الحديث. 3 غارت: من الغور أي دقت حتى كادت لا تُرى. المناطق: أمكنة وضع النطاق، وهي الخصر. أنجد: من النجد، ارتفع. الردف: الكفل والعجيزة والمؤخرة.

ومن الانسجام المرقص قول ابن عبد ربه: يا ذا الذي خط العذار بخده ... خطين هاجا لوعة وبلابلا1 ما كنت أقطع أن لحظك صارم ... حتى رأيت من العذار حمائلا ومن أغرب ما رأيت من الانسجام المرقص قول جعفر بن عثمان المصحفي: خفيت على شرابها فكأنما ... يجدون ريًّا في غناء فارغ ومن الانسجام المرقص قول إدريس بن السمان: ثقلت زجاجات أتتنا فُرَّغًا ... حتى إذاما ملئت بصرف الراح خفت فكادت أن تطير بما حوت ... وكذا الجسوم تخف بالأرواح ومثله قول المعتمد بن عباد: سميدع يهب الآلاف مبتدئًا ... وبعد ذلك يُلفى وهو معتذر2 له يد كل جبار يقبلها ... لولا نداها لقلنا إنها الحجر ويعجبني قول الفضل بن شرف في المرقص: لم يبق للجور في أيامكم أثر ... إلا الذي في عيون الغيد من حور3 ومثله قوله: تقلدتني الليالي وهي مدبرة ... كأنني صارم في كف منهزم وعدوا من الانسجام المرقص قول ابن رشيق صاحب العمدة، في المعز بن باديس سلطان أفريقية، وقد غاب يوم العيد وكان يومًا ماطرًا: تجهّم العيد وانهلت بوادره ... وكان يعهد منك البشر والضحكا كأنه جاء يطوي الأرض من بعدُ ... شوقًا إليك فلما لم يجدك بكى وعدوا من الانسجام المرقص قول عبد الله بن محمد العطار: وكأس ترينا آية الصبح والدجا ... فأوّلها شمس وآخرها بدر

_ 1 بلابل الشوق: وساوسه. 2 السميدع: السيد الكريم الجواد. 3 الغيد: جمع مفرده غيداء وهي الحسناء الناعمة التي تتمايل في مشيتها. 4 تجهم: عبس.

مقطبة ما لم يزرها مزاجها ... فإن زارها جاء التبسم والبشر فواعجبًا للدهر لم يخل مهجة ... من العشق حتى الماء يعشقه الخمر ومثله قول القاضي الجليس بن الجناب المصري: ومن عجب أن الصوارم في الوغى ... تحيض بأيد القوم وهي ذكور1 وأعجب من ذا أنها في أكفهم ... تأجج نارا والأكف بحور وظريف من الانسجام المرقص قول ابن مكنسة: والسكر في وجنته وطرفه ... يفتح وردًا ويغض نرجسا وعدوا من الانسجام المرقص قول ظافر الحداد: ونفر صبح الشيب ليل شبيبتي ... كذا عادتي في الصبح مع من أحبه ومثله قول أبي إسحاق بن خفاجة: ونمَّت بأسرر الرياض خميلة ... بها الزهر ثغر والنسيم لسان2 وعدوا من الانسجام المرقص قول ابن اللبانة: بروحي وأهلي جيرة ما استعنتهم ... على الدهر إلا وانثنيت معانا أراشوا جناحي ثم بلوه بالندى ... فلم أستطع من أرضهم طيرانا3 وعدوا أيضًا من الانسجام المرقص قول ابن الرقاق: وأغيد طاف بالكئوس ضحى ... وحثها والصباح قد وضحا والروض أهدى لنا شقائقه ... وآسه العنبري قد نفحا قلنا وأين الأقاح قال لنا ... أودعته ثغر من سقى القدحا فظل ساقي المدام يجحد ما ... قال فلما تبسم افتضحا4

_ 1 الصوارم: جمع مفرده الصارم وهو من السيوف القاطع. تحيض: تصبح حائضًا والحيض هو العادة الشهرية عند المرأة. شبه بها تقطر الدم من السيوف لشدة فتكها. 2 نمت: من النميمة، وشت ودلت عليه. 3 أراشوا: كسوه ريشًا وهنا بمعنى أغنوا لكثرة عطائهم وإعانتهم. 4 يجحد: ينكر.

وعدوا من الانسجام المرقص قول ابن سنا الملك. لا تخش مني فإني كالنسيم ضنى ... وما النسيم بمخشي على الغصن وعدوا من الانسجام المرقص قول ابن الدباغ، وقد تقدم: يا رب إن قدرته لمقبِّل ... غيري فللمسواك أو للأكؤس ولئن قضيت لنا بصحبة ثالث ... يا رب فلتك شمعة في المجلس وإذا قضيت لنا بعين مراقب ... يا رب فلتك من عيون النرجس ومثله قوله: وأشكو إلى ليل الغدائر غدرها ... وأملي عليه وهو في الأرض يكتب هذه الأبيات تقدمت في باب الانسجام الغرامي، ولكن لم يظهر من مكررها غير الحلاوة. وعدوا من الانسجام المرقص قول كمال الدين بن النبيه: وكوكب الصبح نجاب على يده ... مخلق تملأ الدنيا بشائره1 وعدوا من الانسجام المرقص قول الصاحب جمال الدين بن مطروح: إذا ما اشتهى المرقص قول الصاحب جمال الدين بن مطروح: إذا ما اشتهى الخلخال أخبار قرطها ... فيا طيب ما تملي عليه الضفائر2 وعدوا من الانسجام المرقص قول البرهان بن الفقيه نصر الله: أقتطف السوداء من لمتي ... أخذًا مع البيضاء إذ تسرف3 فتخلف البيضاء أمثالها ... وتغضب السوداء فما تخلف حماقة السودان من ههنا ... يعرفها من لم يكن يعرف وعدوا من الانسجام المرقص قول أمين الدين التلمساني: ساروا فيها وحشة الوادي لبعدهم ... منهم ولا سيما الأغصان والكثب

_ 1 نجاب: غطاء. المخلق: المطيب بالخلوق. 2 الخلخال: من الزينة ما يوضع فوق القدم. القرط: ما تتزين به المرأة في أذنيها الحلق. الضفائر: جدائل الشعر. 3 اللمة: أول الشعر من مقدم الرأس.

ومن الانسجامات المرجزة التي لو أدركها الشريف تطفل على نسيم أبياتها، واعترف أن ما للصادح والباغم تغريد صادحاتها، أرجوزة الشيخ جمال الدين بن نباتة، الموسومة بنظم السلوك في مصايد الملوك، التي امتدح بها الملك الأفضل بن الملك المؤيد صاحب حماة، وكان قد لقب قبل الأفضل بالمنصور، وهي: أثنى شذا الروض على فضل السحب ... واشتملت بالوشي أرداف الكتب1 ما بين نور مسفر اللثام ... وزهر يضحك في الأكمام2 إن كانت الأرض لها ذخائر ... فهي لعمري هذه الأزاهر3 قد بسطتها راحة الغمائم ... بسط الدنانير على الدراهم أحسن بوجه الزمن الوسيم ... تعرف فيه نضرة النعيم وحبذا وادي حماة الرحب ... حيث زها العيش به والعشب أرض الهناء والسناء والمرح ... والأمن واليمن ورايات الفرح ذات النواعير سقات الترب ... وأمهات عصفه والأب4 تعلمت نوح الحمام الهتف ... أيام كانت ذات فرع أهيف فكلها من الحنين قلب ... فكيف لا والما عليها صب لله ذاك السفح والوادي الغرد ... والماء معسول الرضاب مضطرد يصبو بها الرائي فكيف السامع ... ويحمد العاصي فكيف الطائع إذا نظرت للربا والنهر ... فارو عن الربيع أو عن جعفر محاسنًا تلهي العيون والفكر ... ربيع روضات وشحرور صفر أمام كل منزل بستان ... وبين كل قرية ميدان أما رأيت الورق في الأوراق ... جاذبة القلوب بالأطواق5 فبادر اللذة يا فلان ... واغنم متى أمكنك الزمان ولا تقل مشتي ولا مصيف ... فكل أوقات الهنا خريف كل زمان يتقضى بالجدل ... زمان عيش كلما دار اعتدل

_ 1 أرداف: أطراف وتوابع. 2 مسفر: منبلج، منكشف، أكمام الزهر: أزراراها وهي أوعيتها قبل تفتحها. 3 الذخائر: المدخرات الثمينة. 4 النواعير: مع مفرده ناعورة وهي دولاب ذي دلاء فوق بئر يخرج الماء بواسطتها. العصف: الزرع، أو ثمره، والأب: من الثمار. 5 الورق: الحمائم.

أحسن ما أذكر من أوقاته ... وخير ما أنعت من لذاته بروزنا للصيد فيه والقنص ... وحوزنا من مره أحلى الفرص وأخذنا الوحش من المسارب ... وفعلنا في الطير فوق الواجب لما دنا زمان رمي البندق ... سرنا على وجه السرور المشرق1 في عصبة عادلة في الحكم ... وغلمة مثل بدور التم2 من كل مبعثوث إلى الأطيار ... تظله غمامة الغبار قد حمد القوم به عقب السفر ... عند اقتران القوس منه بالقمر لولا حذار القوس من يديه ... لغنت الورق على عطفيه في كف محنية الأوصال ... قاطعة الأعمار كالهلال زهراء خضراء الإهاب معجبه ... مما ثوت بين الرياض المعشبة3 فاغرة الأفواه للأطيار ... طالبة لهن بالأوتار كأنها بين المياه نون ... أو حاجب بما تشا مقرون لها بنات بالمنى معذوقه ... من طينة واحدة مخلوقة4 سامعة لما تشير الأم ... مع أنها مثل الحجار صم كأنها والطير منها هارب ... خلف الشياطين شهاب ثاقب واهًا لها شبه كرات تخطف ... شاهدة بالعزم وهي تقذف حتى نزلنا بمكان مونق ... إخوان صدق أحدقوا بالملق5 فيا له في الحسن من محل ... مراد جد ومراد هزل للطير في مياهه مواقع ... كأنها من ولها فواقع6 فلم نزل في منزل كريم ... نروي حديث الرمي عن قديم حتى طوى الأفق رداء الورس ... والتهم المغرب قرص الشمس7 وابتدر القوم إلى المراصد ... من ساهر ليل التمام ساهد كالليث يسطو كفه بأرقم ... والبدر يرمي في الدجا بأسهم8

_ 1 البندق: واحدته بندقة وهي ما يرمى به بواسطة البندقية. 2 غلمة: غلمان جمع غلام وهو الخادم. 3 الإهاب: الغلاف الذي يحيط بالنباتات أو بعض الحيوان، الجلد. وثوت: أقامت وسكنت. 4 معذوقه، معلمة بعلامات. 5 مونق: يانع الثمار، مفتح الأزهار. الملّق: جمع مفرده: ملق وهو الكاذب. 6 الفواقع: الفقاقيع التي تعلو سطح الماء. 7 الورس: نبات يستعمل ثمره للصباغ باللون الأحمر المائل إلى الصفرة الشبيه بالحمرة المغربية. 8 الأرقم: الغزال إذا طوقت قوائمه باللون الأبيض.

بينا الطيور في مداها ساهره ... إذا هم من عينه بالساهره1 وأقبلت مواكب الطيور ... على طروس الجو كالسطور فحبذا السطور في المهارق ... منظومة الأحرف بالبنادق2 من كل تم حق أن نسمي ... ضياءه المشرق بدر التم تخاله من تحت عنق قد سجا ... طرة صبح تحت أذيال الدجا وكل ذي حسن من الوسامه ... تخاله في أفقه غمامه تتبعه أوزة دكناء ... من دونها لقلقة غراء3 تقدمها أنيسة ملوَّنه ... تابعة من كل وصف أحسنه يجني به الأكل خير ما جنى ... وأحسن المأكول ما تلوَّنا وربما مر لديها حبرج ... كأنه على نضار يدرج4 وانقض من بعض الجبال نسر ... له بأبراج النجوم وكر مغير الخلق شديد الأيدي ... يبني على الكسر حروف الصيد تحث مسراه عقاب كاسبه ... خافضة لحظ الطيور ناصبه5 إذا مضت جملتها المعترضه ... تواصلت خيوطها المنقرضه بكل كركي عجيب السير ... كأنه طيف خيال الطير6 يحث غرونقًا شهي المجتلى ... مقدمًا على الغرانيق العلا7 وأبيض كالغيم يسمى مرزما ... كم بات مثل نورة مبتسما8 يحثه سبيطر قوي ... معجزة في الطير موسويّ كم حاش ثعبانًا وكم حواه ... كأنه في يده عصاه هذا وكم ذي نظر ممتاز ... ينعت في الواجب بالعناز9

_ 1 ساهره: سارحة. الساهره: الرض الواسعة والفلاة، وأرض الحشر. 2 المهارق: جمع مفرده مهرق وهي الصحيفة البيضاء يكتب فيها. 3 اللقلقة: واحدة اللقالق وهي طيور كبيرة طويلة المنقار والقوائم. 4 الحبرج: الحُبَارَى، طائر طويل العنق رمادي اللون يشبه الأوزة. 5 الكاسبة: من العقاب: الجارحة. 6 الكركي: طائر كبير أغبر اللون طويل العنق والرجلين أبتر الذنب. 7 الغرانيق: جمع غرنوق وهو طائر مائي أبيض طويل الساقين جميل المنظر، له قنزعة ذهبية اللون وهو شبيه الكركي. 8 المرزم: مجموعة من النجوم. 9 العناز: الجاهل.

أسود إلا لمعة في الصدر ... كأنها نور الهدى في الكفر فلم تزل قسينا الضواري ... تصيبها بأعين الأوتار حتى غدت دامية النحور ... ساقطة منها على الخبير كأنها وهي لدينا وُقّع ... لدى محاريب القسي ركع واصبحت أطيارنا قد حصلت ... ولم تسل بأي ذنب قتلت مستتبعًا وجه العشا وجه السحر ... وكل وجه منهما وجه أغر يا لك من صيد مقر العين ... مرضي الصحاب وهو ذو الوجهين لم نرض وما وفى من الأماني ... حتى شفعناه بصيد ثاني صيد الملوك الصيد بالكواسر ... والخيل في وجه الصباح السافر1 ذاك الذي تصبو له الجوارح ... فهي إلى طلابه طوامح واثقة بالرزق حيث كانا ... تغدو خماصًا وتجي بطانا2 سرنا على اسم الله والمناجح ... نعوم في الأقطار بالسوابح3 خيل تحاذي الصيد حيث مالا ... كأنها أضحت له ظلالا تسعى بها قوائم لا تتبع ... وكيف لا وهي الرياح الأربع تحفنا من فوقها غلمان ... كأنهم لدوحنا أغصان ترك تريك في سماء الملبس ... كواكبًا طالعة في الأطلس4 منظومة الأوساط بالسلاح ... من كل سهم زجل الجناح5 وكل عضب ذرب المقاطع ... يحرّف الهام عن المواضع6 على يد السائر منهم زاده ... من كل باز قرم فؤاده7 قد كتبت في صدره حروف ... تقرا بما تقوى به الضيوف وكل شاهين شهي المرتمى ... كبارق طار وصوب قد همي8 بينا تراه ذاهبًا لصيده ... معتصمًا بأيده وكيده9

_ 1 السافر: الواضح المضيء. 2 تغدو خماصًا: تروح جوعى. وتجي بطانًا: تعود ممتلئة البطون. 3 المناجح: الذين ينجحون وهم الأنبياء. السوابح: الخيول. 4 الأطلس: نوع من القماش الأملس وهو من أسماء السماء الصافية. 5 زجل الجناح: مصوت الجناح. 6 العضب: السيف القاطع: والذرب: البليغ. الهام: الرءوس والجباه. 7 القرم: القوي. 8 الشاهين: الصقر، من الطيور الجارحة. الصوب: المطر. همي: هطل. 9 الأيد: القوة.

حتى تراه عائدًا من أفقه ... متلزمًا طائره في عنقه أفلح من كان على يسراه ... حتى غدت حاسدة يمناه تلك يد لا تعرف الإعسارا ... لأجل هذا سميت يسارا وكل صقر مسبل الجناح ... مواصل الغدو والرواح ذي مقلة لها ضرام واقد ... يكاد يشوي ما يصيد الصائد كأنما المخلب منه منجل ... لحصد أعمار الطيور مرسل يا حبذا طيور جد ولعب ... تهوي إلى الأرض وللأفق تشب من سنقر عالي المدى والشان ... معظم الأخبار والعيان1 يصعد خلف الرزق ليس يمهله ... كأنه من السما يستعجله ومن عقاب بأسها مروع ... كأنها للطير جن يصرع كم جلبت لطائر من وهن ... وكم وكم قد أهلكت من قرن2 وحبذا كواسر الكواهي ... عديمة الأنظار والأشباه3 مخصوصة بالطرد القويم ... حدباء كظهر الذنب الرقيم ذاك لعمري حدب للرائي ... يعدل ملك القلعة الحدباء هذا وقد تجهزت أعداد ... يجمعها الكلاب والفهاد من كل فهد عنتري الحمله ... إذا رأى شخص مهاة عبله4 مبارك الإقبال والإعراض ... مستقبل الحال بناب ماض كأنه من حسدة اكتسابه ... قد أحرق الأنجم في إهابه له على مسايل الجفون ... خط كخط الألفات الجون5 ما أبصر المبصر خطًّا مثله ... وكيف لا والخط لابن مقله وكل منسوب إلى سلوق ... أهرت وثاب الخطا ممشوق6 طاوي الفؤاد ناشر الأظافر ... يا عجبًا منه لطاوٍ ناشر

_ 1 سنقر: اسم الملك الأفضل، ابن الملك المؤيد صاحب حماة. العيان: الآثار. 2 القرن: الجيل من الناس أو الأمة ومنه قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} يونس 10/ 13: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ} الإسراء: 17/ 17. 3 الكواهي: الحديدة النظر. 4 العبلاء: الممتلئة الساعدين والفخذين. 5 الجون: السوداء. 6 المنسوب إلى سلوق: الكلب السلوقي، للصيد. أهرت: نباح.

يعض بالبيض ويخطو بالقنا ... ويسبق الوهم لإدراك المنى كالقوس إلا أنه كالسهم ... والغيم يجلو عن شهاب الرجم إذا تراءى بقر الوحش اندفع ... كأنه المريخ في الثور طلع1 قاصرة عن يده عيناه ... مشروطة برجله أذناه يشفعه كل عزيز عاري ... مغالب الصيد على الأوكار واهًا لها من أكلب طوارد ... معربة عن مضمر المصايد قد بالغت من طمع في كسبها ... ففتشت عن أنفس لم تخبها حتى إذا تمت بها الأمور ... حفت بنا لصيدها الطيور ما بين روضات مددنا نحوها ... وحول آفاق ملكنا جوها واستقبلت أطيارها البزاة ... معلمة كأنها الغزاة2 فلم تزل تسطو سطا الحجاج ... على الكراكي إلى الدراج3 حتى غدت تلك البزاة صرعى ... مجموعة على التراب جمعا على الربا من دمها خلوق ... كأن كل نبتها شقيق ثم عطفنا للوحوش السائحة ... واستبقت تلك الضواري الطامحة كلاب صيد بينها سناقر ... تفعل في الوحش بها الفواقر تخشى بها العقر على نفوسها ... فالطير لاشك على رءوسها وللكلاب حولها مغار ... يكاد أن تقدح منه النار من نمر لسانه يلوب ... تقول هذا كوسج مخضوب4 يعانق الظبي عناق الوامق ... ما كان أغنى الظبي عن معانق والفهد لايشتد على الآجال ... شد وصي السوء في الأموال لا يهمل القصد ولا يخون ... كأن كل جسمه عيون وللزعاريات خلف الأرنب ... حقائق تبطل كيد الثعلب5 كم برحت بالهارب المكدود ... وطوحت بصاحب الأخدود وربما مرت ظباء ومها ... للنبل في أكل حشاها مشتهى قد نسجت ملاءة من عنبر ... تخاط من قرونها بالإبر

_ 1 المريخ والثور: من البروج الكوكبية. 2 البزاة: جمع بازي وهو طائر معلم يصطاد بواسطته. 3 الدراج: نوع من الطيور شبيه بالسماني. 4 يلوب: يتحرك خارج فمه ولا يستقر. الكوسج: نوع من الأسماك المفترسة التي تكثر في المناطق الحارة. 5 الزعاريات: نوع من الكلاب البلدية التي تقصر أذنابها وآذانها لتصبح أقوى وأشرس.

فابتدرت أجنحة السهام ... صائبة الأغراض والمرامي تجرح كل سانح نفور ... كأنه بعض شهود الزور كأن أقطار الفلاة مجزره ... أو روضة من الدماء مزهره كأن صرعى وحشها كفار ... الموت عقبى أمرها والنار للمرء فيها منظر أحبه ... يملأ من لحم وشحم قلبه لله ذاك المنظر المهنا ... أي معاد عن ذراه عدنا قد ملئت من ظفر أيدينا ... وقد شكرنا فضل ما حبينا نسير حول الملك المنصور ... كالشهب حول القمر المنير محمد ناصر دين أحمد ... الملك ابن الملك المؤيد يا حبذا من والد ومن ولد ... وحبذا من شبل ملك وأسد1 فرع زها بأصله أيوب ... فأثمرت بحبه القلوب قال الأنام حظه جليّ ... قلت نعم وجده عليُّ ذاك الذي سام العلا صبيا ... وجاءها من مهده مهديا محكم السطوة سحاح الديم ... يأخذ بالسيف ويعطي بالقلم لو لمس الصخر لفاض نهرا ... أو صحب النجم لعاد بدرا لا ظلم يلفى في حماه العالي ... إلا على العداة والأموال أما ترى الدينار منه خائفًا ... أصفر من كف الهبات ناشفا كالبدر في سنائه وتمه ... والطود في وقاره وحلمه مرأى يشف عن فخار أصل ... ونسخة قد قوبلت بالأصل ما ضر من خيم في جنابه ... أن لا تكون الشهب من أطنابه جناب عزٍ جاره لا ينكب ... وباب نجح للغنى مجرب2 غنيت في ظلاله عن الورى ... غني نزيل المدن عن قصد القرى ورحت من نعماه بالتواتر ... أروي أحاديث عطا عن جابر يزداد لفظي بهجة ورونقا ... كأنه الخمر إذا تعتقا إن لم أرم ذاك الحمى العالي فمن ... ينصرني على تصاريف الزمن يا ناصر الدين دعاء مادح ... ما بين روضات السطور صادح حسبك مثلي في الأنام شاعرا ... وحسب شعري قوة وناصرا

_ 1 الشبل: ابن الأسد. 2 لا ينكب: لا يصاب بنكبة وهي الكارثة والمصيبة. النجح: النجاح، والغنى.

ومن الأراجيز المرتجلة، التي سارت الركبان ببلاغة ارتجالها ولطف انسجامها، أرجوزة الشيخ زين الدين عمر بن المظفر الوردي، سقى الله ثراه، التي ارتجلها بدمشق المحروسة عند الامتحان المفحم. فقد ذكر الشيخ الإمام العلامة إمام المحدثين، أبو الفداء إسماعيل بن كثير، أن الشيخ زين الدين المشار إليه قدم دمشق المحروسة، في أيام القاضي نجم الدين بن صصري تغمده الله برحمته ورضوانه، فأجلسه في الصفة المعروفة بالشباك في جملة الشهود، وكان يومئذ زري1 الحال، فاستخف به الشهود، فحضر يومًا كتابة مشتري ملك، فقال بعضهم: أعطو المعري يكتبه على سبيل الاستهزاء فقال الشيخ: ارسموا لي أكتبه، نظمًا ونثرًا. فزاد استهزاؤهم به فقالوا: بل نظمًا. فأخذ الطرس وكتب ارتجالًا ما صورته: باسم إله الخلق هذا ما اشترى ... محمد بن يونس بن سنقرا من مالك بن أحمد بن الأزرق ... كلاهما قد عرفا من جلق فباعه قطعة أرض واقعة ... بكورة الغوطة وهي جامعة2 لشجر مختلف الأجناس ... والرض في البيع مع الغِراس وذرع ذي الأرض بالذراع ... عشرون في الطول بلا نزاع وذرعها في العرض أيضًا عشره ... وهو ذراع باليد المعتبره وحدها من قبلة ملك التقى ... وحائز الرومي حد المشرق3 ومن شمال ملك أولاد علي ... والغرب ملك عامر بن جهبل وهذه تعرف من قديم ... بأنها قطعة بنت الرومي بيعت صحيحًا لازمًا شرعيًّا ... ثم شراء قاطعًا مرعيًا بثمن مبلغه من فضه ... وازنة جيدة مبيضه جارية للناس في المعامله ... ألفان منها النصف ألف كاملة قبضها البائع منه وافيه ... فعادت الذمة منها خاليه وسلم الأرض إلى من اشترى ... فقبض القطعة منه وجرى بينهما بالبدن التفرق ... طوعًا فما لأحد تعلق

_ 1 زري الحال: سيئ الحال، أزرى به الفقر وضايقه. 2 الكورة: الناحية. 3 قبلة: الجهة الجنوبية. وسميت القبلة لأنها الجهة التي فيها القبلة التي نوليها إليها وجوهنا في الصلاة.

ثم ضمان الدرك المشهور ... فيه على بائعه المذكور وأشهدا عليهما بذاك في ... رابع عشر رمضان الأشرف من عام سبعمائة وعشره ... من بعد خمسة تليها الهجره والحمد لله وصلى ربي ... على النبي وآله والصحب يشهد بالمضمون من هذا عمر ... ابن المظفر المعري إذ حضر فلما فرغ الشيخ من نظمه، وتأمل الجماعة ارتجاله وسرعة بديهته، اتفق أنه لم يكن فيهم من يحسن النظم: فقالوا، وقد اعترفوا بفضل الشيخ وعجزوا عن رسم الشهادة: لعل الشيخ يسد عن أحدٍ منا برسم شهادته. فكتب عن شخص منهم إلى جانبه يدعى ابن رسول: وقد حضر العقد الصحيح أحمد ... ابن رسول وبذاك يشهد ومما استعذب، من انسجامات الشيخ برهان الدين القيراطي، قوله، من قصيدة تائية: أخذت بابل عنه ... بعض تلك النفثات فهو غصن في انعطاف ... وغزال في التفات حسنات الخد منه ... قد أطالت حسراتي كلما ساء فعالا ... قلت إن الحسنات ولسوء الحظ صارت ... حسناتي سيئاتي أعشق الشامات منه ... وهي أسباب مماتي ويعجبني قوله منها: بأبي لحظ غزال ... قائل في الخلوات إن للموت بأقدا ... ح جفوني سكرات قلت قد مت غرامًا ... قال لي مت بحياتي ومنها: قلت إذ حرك عودا ... عازفًا بالنغمات أنت مفتاح سروري ... يا سعيد الحركات ومن انسجاماتي الغرامية المرجزة، التي تقدمني فيها الشيخ جمال الدين بن نباتة، والشيخ زين الدين بن الوردي، قصيدتي الدالية التي كتبت بها قديمًا من حماة المحروسة، إلى

_ 1 النفثات: واحدتها نفثه وهي المناجاة. أو السحر.

القاضي فخر الدين بن مكانس وولده القاضي مجد الدين، تغمدهما الله برحمته، وهي: ما لمعت بارقة من نجد ... إلا وهزتني وعود وجدي ولا سرت سحابة مغدقة ... إلا وكان مثلها في خدي1 فيا رعى الله زمانًا بالحمى ... فإن لي فيه بقايا عهد ويا رُبى مصر مراضع الحيا ... يرضعك الغيث بذاك المهد كم ليلة قضيتها وأنجم الـ ... ـجوزاء فوق صدرها كالعقد والرض قد حاكت برود وشيها ... يحار في صفاتها ابن برد وكوثر النير يروق منظرًا ... حتى كأني في جنان الخلد وهند ما تخطر في برودها ... إلا أمالت عذبات الرند2 مضرية لكن يماني لحظها ... منتسب في فتكه للهند آه له من سيف لحظ باتر ... زاد على عشاقه في الحد عبد مناف جدها وإنما ... قلبي لها قد صار عبد ود يا لأمير النحل قرص وجهها ... يشهد أن ريقها من شهد وثغرها يقول في نظامه ... يا يتم أبكار اللآلي بعدي وشعرها الطائل قد قلنا له ... أنت لنا نابغة يا جعدي وريقها قال النباتي أنا ... وخدها قال أنا ابن الوردي والغصن حاكى قدَّها قالت له ... ما أنت يا غصن الرياد قدي3 يا قدها وردفها لولاكما ... ما اشتقت بانات الكثيب الفرد سألتها لم صرفت عن ناظري ... وكلفت قلبي بطول النقد قالت تركت الفخر من بين الورى ... وقد قعدت عن طلاب المجد لعمري إن الشرح قد طال في نوع الانسجام، ولكن ما استطردت بخيوله إلا إلى كل مهيع4 بديغ وغريب. فبيت الشيخ صفي الدين الحلي، في بديعيته على نوع الانسجام، يقول فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم: فذكره قد أتى في هل أتى وسبا ... وفضله ظاهر في نون والقلم5

_ 1 مغدقة: مطرة. 2 الرند: نبات من شجر البادية طيب الرائحة يشبه الآس. 3 حاكى: شابه. الرياد: التمايل. 4 المهيع: من كل شيء البين الواضح. 5 هل أتى، وسبأ، ونون والقلم: بدايات سور من القرآن الكريم، وهي على التوالي: الإنسان سبأ، والقلم.

انسجام الشيخ صفي الدين في بيته ظاهر. والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم. وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته: بان انسجام كلام منزل عجب ... يهدي ويخبرنا عن سالف الأمم بيت الشيخ عز الدين لم يكن له تعلق بما قبله من المديح النبوي، والذي يظهر لي منه أنه أشار به إلى القرآن بأنه كلام منزل، وانسجامه عجب يهدي وبخبرنا عن سالف الأمم. وبيت بديعيتي أقول فيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: له انسجام دموعي في مدائحه ... بالله شنف بها يا طيب الكلم ولقد عجبت من الشيخ عز الدين، كيف عقد بين انسجامه مع سهولة هذا النوع وقرب مأخذه ولطف تسميته وقبولها للاشتراك. انتهى.

ذكر التفصيل

ذكر التفصيل: وإن ذكرت زمانًا ضاع من عمري ... في غير تفصيل مدح صحت يا ندمي التفصيل: بصاد مهملة، نوع رخيص بالنسبة إلى فن البديع، والمغالاة في نظمه، وقد نبهت قبله على عدة أنواع سالفة، ولكن المعارضة أوجبت الشروع في نظمه، كالتصدير وعتاب المرء نفسه، وتشابه الأطراف وما أشبه ذلك. والتفصيل هو أن يأتي الشاعر بشطر بيت له متقدم، صدرًا كان أو عجزًا، ليفصل به كلامه بعد حسن التصريف في التوطئة الملايمة. والعميان لم ينظموا هذا النوع في بديعيتهم، وغالب علماء البديع لم يذكروه في مصنفاتهم، غير أن الشيخ صفي الدين الحلي أورده في بديعيته، فدعت المعارضة إلى نظمه. وبيته في بديعيته: صلى عليه إله العرش ما طلعت ... شمس النهار ولاحت أنجم الظُلَم فصدر هذا البيت ذكر أنه تقدم له في قصيدة قافية، امتدح بها النبي صلى الله عليه وسلم، مطلعها: فيروزج الصبح أم ياقوتة الشفق ... بدت فهيجت الورقاء في الورق والبيت الذي أتى بصدره منها وأثبته في بديعيته على حاله لأجل نوع التفصيل هو: صلى عليه إله العرش ما طلعت ... شمس النهار ولاحت أنجم الغسق1 وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته: فصيل مدحك تجميل لذي أدب ... تأوصاله كفت البلوى من الرَّقِم فصدر بيت الشيخ عز الدين كان عجزًا في قصيدة تقدمت له بائية، مطلعها: لو أن وجه رضائي غير منتقب ... ما سر قلبي بلوغي غاية الأرب2

_ 1 الغسق: الليل. 2 منتقب: مغطى بالنقاب وهو الحجاب أو كل ما يستر الوجه. الأرب: الحاجة.

الذي جعل صدره عجزًا وأبقاه على حاله في بديعيته، لأجل نوع التفصيل: كسوتني حللًا بين الأنام بها ... تفصيل مدحك تجميل لذي أدب هذا البيت كان تفصيل حلله كاملًا في موضعه. ولما نقل الشيخ عز الدين عجزه، وجعله صدرًا في بديعيته، ظهر في تفصيله نقص بقوله مع العقادة في العجز، كفت البلوى من الرَّقم. فإن الرقم بفتح الراء وكسر القاف الداهية. والداهية إذا دخلت بيتًا تركته خرابًا. وبيت بديعيتي أقول فيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: وإن ذكرت زمانًا ضاع من عمري ... في غير تفصيل مدح صحت يا ندمي فصدر هذا البيت تقدم لي، في قصيدة فائية مطلعها: قد مال غصن النقا عن صبه هيفا ... يا ليته بنسيم العتب لو عطفا والبيت الذي نقلت صدره منها وأثبته في بديعيتي، وأبقيته على حاله لأجل نوع التفصيل هو: وإن ذكرت زمانًا ضاع من عمري ... ولم أهاجر إليه صحت يا أسفا وهذه القصيدة من غرر قصائدي، بل من غرر القصائد، منها: مزاج خمرة فيه جاء معتدلًا ... فراح منه مزاج الراح منحرفا ومذ غدا جسمه ماء برقته ... علمت والله أن القلب منه صفا منه الغزالة غارت عينها حسدًا ... والبدر قد لازم التسهيد والكلفا1 والظبي قال أنا أحكي لواحظه ... فصح عندي أن الظبي قد خرفا2 ومنها: مذ صار لي قبلة محراب حاجبه ... صيرت عابد طرفي فيه معتكفا3 ولام فيه عذول قلت من كلفي ... قلبي رأى منه قدًّا في الهوى ألفا ما ضربه لو عفا عني وأظهر لي ... عطفًا وعاين ربع الصبر كيف عفا أراد مني وكف الدمع قلت له ... حسيبك الله يا بدر الدجى وكفى4 لم أستطرد إلى ذكر هذه الأبيات هنا إلا لأن نوع التفصيل لم يحتمل إطلاق عنان القلم في الكلام عليه إلى أكثر من ذلك.

_ 1 الغزالة: الشمس. الكلف: الحمرة الكدرة التي تعلو وجه القمر أحيانًا. 2 الخرف: مرض يصيب العقل فيفسده. 3 المحراب: مقام الإمام من المسجد. والاعتكاف: الاقتصار على البيت أو المكان وعدم الخروج منه. 4 وَكْفَ الدمع: انصبابه وانهماره.

فهرس الموضوعات

فهرس الموضوعات: 5 تمهيد وتقديم 6 تطور علم البديع حتى عصر ابن حجة 9 التعريف بخزانة الأدب وعملنا فيه 10 ملاحظات حول الكتاب 15 التعريف بالكاتب - حياته وعمله 16 مؤلفاته 17 مقدمة الكاتب 19 في حسن الابتداء وبراعة الاستهلال 19 حسن الابتداء عند المتقدمين 23 حسن الابتداء عند المحدثين 30 براعة الاستهلال في النظم 40 براعة الاستهلال في النثر 54 الجناس 67 ذكر الجناس الملفق 70 الجناس المذيل واللاحق 74 الجناس التام والمطرف 85 الجناس المصحف والمحرف 89 الجناس اللفظي والمقلوب 95 ذكر الجناس المعنوي 102 ذكر الاستطراد 109 ذكر الاستعارة 119 ذكر الاستخدام 126 ذكر الهزل الذي يراد به الجد 129 ذكر المقابلة 134 ذكر الالتفات 138 ذكر الافتتان 149 ذكر الطي والنشر 156 ذكر الطباق 172 ذكر النزاهة 175 ذكر التخيير 178 ذكر الإبهام 186 ذكر إرسال المثل

215 ذكر التهكم 218 ذكر المراجعة 222 ذكر التوشيح 225 ذكر تشابه الأطراف 227 ذكر التغاير 242 ذكر التذييل 246 ذكر التغويف 249 ذكر المواربة 251 ذكر الكلام الجامع 253 ذكر المناقضة 255 ذكر التصدير أو رد العجز على الصدر 258 ذكر القول بالموجب أو أسلوب الحكيم 261 ذكر الهجو في معرض المدح 263 ذكر الاستثاء 266 ذكر التشريع 271 ذكر التتميم 274 ذكر تجاهل العارف 282 ذكر الاكتفاء 293 ذكر مراعاة النظير 299 ذكر التمثيل 302 ذكر التوجيه 320 ذكر عتاب المرء نفسه 322 ذكر القسم 329 ذكر حسن التخلص 351 ذكر الإطراد 354 ذكر العكس 359 ذكر الترديد 361 ذكر التكرار 364 ذكر المذهب الكلامي 367 ذكر المناسبة 372 ذكر التوشيع 374 ذكر التكميل 378 ذكر التفريق 381 ذكر التشطير 383 ذكر التشبيه 406 التشبيه بالتلميح 415 ذكر تشبيه شيئين بشيئين 417 ذكر الانسجام 421 الانسجام في الشعر 477 ذكر التفصيل

ذكر النوادر

المجلد الثاني ذكر النوادر نوادر المدح في أوصافه نشقت ... منه الصبا فأتتنا وهي في شمم هذا النوع، أعني النوادر، سماه قوم الإغراب والطرفة، وهو أن يأتي الشاعر بمعنى يستغرب، لقلة استعماله، لا لأنه لم يسمع بمثله. وهذا مما اختاره قدامة دون غيره، ولكن غالب علماء البديع اختاروا غير رأي قدامة في هذا النوع، فإنهم قالوا: لا يكون المعنى غريبًا إلا إذا لم يسمع بمثله. وأورد زكي الدين بن أبي الأصبع، في كتابه المسمّى: "بتحرير التحبير" لنوع النوادر حدًّا أقرب إليه من اختيار قدامة، وأبلغ وأوقع في النفوس، وهو أن يعمد الشاعر إلى معنى مشهور، ليس بغريب في بابه، فيغرب فيه بزيادة لم تقع لغيره، ليصير بها ذلك المعنى المشهور غريبًا، وينفرد به دون كل من نطق به. وبيان ذلك أن تشبيه الحسان بالشمس والبدر مبذول معروف، قد ذهبت طلاوته لكثرة ابتذاله، وكان سابق المتقدمين وقبلة المتأخرين، القاضي الفاضل، أنفت نفسه من المثابرة على هذا الابتذال، وكثرة تشبيه الحسان بالبدور، فقال: تراءى ومرآة السماء صقيلة ... فأثر فيها وجهه صورة البدر سبحان المانح حاصل كلامه تشبيه محسوبه بالبدر، ولكن زيادة هذه النادرة اللطيفة لا تخفى إلا على أكمه1 لا يعرف القمر، وعلى هذا المنوال نسجت بيت بديعيتي.

_ 1 الأكمه: الأعمى.

ويعجبني في باب النوادر، قول القائل: عرض المشيب بعارضنيه فأعرضوا ... وتقوضت خيم الشباب فقوّضوا1 ولقد سمعت وما سمعت بمثله ... بين غراب البين فيه أبيض وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته يقول فيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: كأنما قلب معن ملء فيه فلم ... يقل لسائله يومًا سوى نعم هذا البيت، ذكر الشيخ صفي الدين في شرحه أن النادرة فيه، قلب معن بنعم. قلت: قلب معن بنعم لم يعد من نوع النوادر، بل من أنواع الجناس المسمى بالقلب والعكس، وجناس القلب وغيره من أنواع الجناس ليس فيه غير خدمة الألفاظ، فإنه نوع لفظي والذي قرره قدامة وغيره، في هذا النوع، أن الغرابة تكون في المعنى، بحيث يعد ذلك المعنى من النوادر. والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته "هو": نوادر من جناني كالجنان زهت ... أم هل بدت واضحات الحسن من إرم قلت: إن بيت الشيخ صفي الدين الحلي، مع ما فيه من النقد والمؤاخذة، معدود من النوادر بالنسبة إلى هذا البيت. وما أشبهه بالبيت الذي أخبر عن الحريري في مقاماته، وقال إنه أخرج من التابوت، وأوهن من بيت العنكبوت. وما ذاك إلا أنني كررت النظر في أركان هذا البيت، فلم أجد فيه مقرًّا لنادرة من النوادر التي تقدم تقريرها، لم يسعني غير النظر في شرحه، فوجدته قال: إن جناني ظهر منه محاسن مدهشة، أم بدت محاسن إرم ذات العماد، التي لم يخلق مثلها في البلاد، ويحكى أنها جنة بناها عاد. قلت وما أحق اختراع الخراع بهذه العبارة، وهي، بشهادة الله، عبارته بنصها. والذي أعده من النوادر، إبراز الشيخ عز الدين مثل هذا البيت في بديعيته، ورضاه به، وتنزيل مثل هذه العبارة عليه. انتهى. وبيت بديعيتي أقول فيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: نوادر المدح في أوصافه نشقت ... منها الصبا فأتتنا وهي في شمم النادرة في معنى هذا البيت عرفها ضائع لمن شمه من أهل الأدب، وما ذاك إلا أن

_ 1 قوض: خرّب.

النسيم أكثر الشعراء من استعماله في تحمل الرسائل. وغاية ما أغربوا فيه أنه ينشق منه عرف الأحبة، إذا هب من نحوهم. والنادرة التي أغربت بها هذا المعنى: أن نسيم الصبا لما نشقت عرف مديح النبي -صلى الله عليه وسلم- وتعرفت به تزايد شممها. والشمم للنسيم نادرة، بل نكتة لم أسبق إليها. فإن النسيم أحق باشتراك هذه التورية من غيره، لأن الشمم لائق به وهذا الذي أشار إليه ابن أبي الأصبع، في أن الشاعر يعمد إلى معنى مبذول معروف ليس بغريب في بابه، فيغربه، بزيادة لم تقع لغيره، ويصير بها ذلك المعنى المعروف غريبًا ومثل ذلك، حتى يزداد نوع النوادر إيضاحًا، قول أبي نواس: هبت لنا ريح شمالية ... متت إلى القلب بأسباب أدت رسالات الهوى بيننا ... عرفتها من بين أصحابي قوله: عرفتها من بين أصحابي، نادرة لم يسبق إليها. وقد جاراه مجير الدين الخياط، في بديع هذا النوع. ونادرة هذا المعنى لولا الحياء لقلت إنه أحرز قصبات السبق عليه، بقوله: يا نسيم الصبا الولوع بوجدى ... حبذا أنت لو مررت بهند ولقد رابني شذاك فبالله ... متى عهده بأطلال نجد1 بين ولقد رابني شذاك، في بيت مجير الدين، وبين عرفتها من بين أصحابي معرك ذوقي، ما يدركه إلا من صفت مرآة ذوقه في علم الأدب. ولعمري إن النادرتين يتجمل بهما هذا النوع ومثله قول القائل، ويعجبني إلى الغاية: ويد الشمال عشية مذ أرعشت ... دلت على ضعف النسيم بخطها كتبت سقيمًا في صحيفة جدول ... فيد الغمامة صححته بنقطها2 النوادر في هذين البيتين، لم يحتج برهانها إلى إقامة دليل، وقد فهمت الزيادات في غرابة المعاني المبتذلة. ومثله، ولم يخرج عما نحن فيه من لطف النسيم ونوادر النوع، قول القائل: هبت صبا من قاسيون فسكنت ... بهبوبها وصب الفؤاد البالي3 خاضت مياه النيرين عشية ... وأتتك وهي بليلة الأذيال4

_ 1 رابني: حيرني، وجعلني أرتاب أي أشك. 2 النقط: وضع النقاط على الحروف. 3 قاسيون: جبل يشف على دمشق -الوصب: المرض والوجع. 4 النيرين: دجلة والفرات، وهما من أسماء الشمس والقمر. والله أعلم.

ويعجبني في هذا الباب قول ناصر الدين بن المشد: مسكية الأنفاس تملي الصبا ... عنها حديثًا قط لم يملل جننت لما أن سرى عرفها ... وما نرى من جن بالمندل1 وألطف منه وأكثر نوادر، قول بدر الدين حسن الغزي، الشهير بالزغاري: سرت من بعيد الدار لي نسمة الصبا ... وقد أصبحت حسرى من السير ضائعهْ ومن عرق مبلولة الجيب بالندى ... ومن تعب أنفاسها متتابعهْ ومن العجائب في هذا النوع: حبذا ليلة رأيت دجاها ... زاهيًا عطفه بحلة فجر بشرت باللقاء وهي غراب ... ونفي الفجر حسنها وهي قمري2 ومن النوادر اللطيفة، في هذا الباب، قول علاء الدين الجويني، صاحب الديوان ببغداد، من دو بيت: مذ صار مبيتنا بضوء القمر ... والحب نديمنا وصوت الوتر نادى بفراقنا نسيم سحرًا ... ما أبرد ما جاءت نسيم السحر ومن نادر ما اتفق لي قولي من قصيدة رائية: ومذ سرت نسمات الثغر باردة ... بدار بأعضاء ذاك الجفن تكسير قد تقدم تقرير حد ابن أبي الأصبع، في نوع النوادر وتكرر، وهو أن يعمد الشاعر إلى معنى مشهور كثير الاستعمال، فيغرب فيه بزيادة نكتة لم تقع لغيره، ليصير المعنى المستعمل بها غريبًا. وقد فهم ما أوردته هنا من تلاعب الشعراء بالنسيم، وما أظهروا فيه من النوادر التي تركت رخيصه غاليًا. وتكسير الجفن أيضًا ونسبة التكسير إليه أكثر أهل الأدب استعماله في تغزلهم ونسيبهم، ولكن استعارة النسمات الباردة للثغر، وهبوبها على أعضاء ذاك الجفن السقيم، حتى ظهر فيه التكسير، نادرة النوادر في هذا النوع. والله أعلم.

_ 1 العَرف: الرائحة الطيبة -المندل: العود الطيب الرائحة. 2 القمري: نوع من الحمام.

ذكر المبالغة

ذكر المبالغة: بالغ وقل كم جلا بالنور ليل وغى ... والشهب قد رمدت من عثير الدهم1 المبالغة نوع معدود من محاسن هذا الفن عند الجمهور، واستدلوا على ذلك بقول من قال: أحسن الشعر أكذبه، وبقول النابغة الذبياني: أشعر الناس من استجيد كذبه، وضحك من رديئه. واستدلوا أيضًا برد النابغة المذكور على مثل حسان بن ثابت، في قوله: لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما2 والرد الذي رده النابغة على هذا البيت في ثلاثة مواضع: الأول منها أنه قال له: قلت لنا الجفنات والجفنات تدل على قليل، فلا فخر لك ولا مبالغة إذا كان في ساحتك ثلاث جفان أو أربع. والثاني: أنك قلت: يلمعن، واللمعة بياض قليل ليس في كبير شانٍ. والثالث: أنك قلت في السيوف: يقطرن، والقطرة تكون للقليل فلا تدل على فرط نجدة، ولا مبالغة. وترشيح جانب المبالغة مذهب ابن رشيق، في العمدة، ومنهم من لم يَعُدَّ المبالغة من حسنات الكلام، ومشى في ذلك على مذهب حسان بن ثابت -رضي الله عنه- فإنه قال: وإنما الشعر عقل المرء يعرضه ... على الأنام فإن كيسا وإن حمقا3

_ 1 الوغى: الحرب -رمدت: صار لونها شبيهًا بلون الرماد -العثير: الغبار- الدهم: جمع أدهم وهو من الخيل الأسود. 2 الجفنات: واحدتها الجفنة وهي القصعة وعاء كبير يطبخ فيه. 3 الكيس: اللباقة والحذاقة.

وإن أشعر بيت أنت قائله ... بيت يقال إذا أنشدته صدقا وعند أهل هذا المذهب، أن المبالغة لم تسفر عن غير التهويل على السامع، ولم يفر الناظم إلى التخييم عليها إلا لعجزه، وقصور همته عن اختراع المعاني المبتكرة؛ لأنها في صناعة الشعر كالاستراحة من الشاعر، إذ أعياه إيراد المعاني الغريبة، فيشغل الأسماع بما هو محال وتهويل. وقالوا: ربما أنها أحالت المعاني فأخرجتها عن حد الكلام الممكن إلى حد الامتناع. والمبالغة تعاب في بابها إذا خرجت عن حد الإمكان إلى الاستحالة، ويأتي الكلام على حدها في موضعه. والذي أقوله: إن المبالغة من محاسن الاستحالة، ويأتي الكلام على حدها في موضعه. والذي أقوله: إن المبالغة من محاسن أنواع البديع، ولم يستطرد في حلبات سبقها إلا فحول هذه الصناعة، ولولا سَمّو رتبتها ما وردت في القرآن العظيم والسنة النبوية، ولو سلمنا إلى من يهضم جانبها ولم يعدها من حسنات الكلام، بطلت بلاغة الاستعارة، وانحطت رتبة التشبيه. وتسمية المبالغة منسوبة إلى قدامة، ومنهم من سمى هذا النوع التبليغ، وسماه ابن المعتز الإفراط في الصفة، وهذه التسمية طابقت المسمى ولكن أكثر الناس رغبوا في تسمية قدامة لخفتها. وهذا النوع، أعني المبالغة، شركة قوم مع الإغراق والغلو لعدم معرفة الفرق، وهو مثل الصبح ظاهر. والمبالغة في الاصطلاح هي إفراط وصف الشيء بالممكن القريب وقوعه عادة. والإغراق وصف الشيء الممكن البعيد وقوعه عادة. والغلو، وصفه بما يستحيل وقوعه. ويأتي الكلام على كل واحد من الثلاثة في موضعه. وقد تقرر أولًا أن المبالغة، نوعها مبني على وصف الشيء بالممكن القريب وقوعه. وحد قدامة المبالغة فقال: هي أن يذكر المتكلم حالًا من الأحوال لو وقف عندها لأجزأت، فلا يقف حتى يزيد في معنى ما ذكره ما يكون أبلغ من معنى قصده، كقول عمير بن كريم التغلبي: ونكرم جارنا ما دام فينا ... ونتبعه الكرامة حيث مالا وقال: إن هذا البيت من أحسن المبالغة عند الحذاق، فإن الشاعر بلغ فيه إلى أقصى ما يمكن من وصف الشيء، وتوصل إلى أكثر ما يقدر عليه، فتعاطاه. ولخص بعضهم عبارة الحد الذي حده قدامة، وقال: المعنى إذا زاد على التمام سُمّي مبالغة.

وقال ابن رشيق، في العمدة: المبالغة: بلوغ الشاعر أقصى ما يمكن في وصف الشيء. قلت: وعلى هذا التقرير، فجل القصد في المبالغة الإمكان والخروج عن المستحيل. والمذهب الصحيح فيها أنها ضرب من المحاسن، إذا بعدت عن الإغراق والغلو، وإن كان الإغراق والغلو ضربين من المحاسن ونوعين من أنواع البديع، فقد شرط علماؤه أن النوع لا يتجاوز حده بحيث يزول الإلتباس. ويعجبني من أمثلة المبالغة في المديح قول القائل. أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم ... دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه1 فالمعنى تم للناظم لما انتهى في بيته إلى قوله: دجى الليل. ولكن زاد بما هو أبلغ وأبدع وأغرب في قوله: حتى نظم الجزع ثاقبه. ومثله قول أبي الطيب المتنبي في وصف جواد وأصرع أي الوحش قفيته به ... وأنزل عنه مثله حين أركب قال زكي الدين بن أبي الأصبع، في كتابه المسمّى "بتحرير التحبير": أبلغ شعر سمعته في باب المبالغة، قول شاعر الحماسة، إذ بالغ في مدح ممدوحه بقوله: رهنت يدي بالعجز عن شكر بره ... وما فوق شكري للشكور مزيد ولو كان مما يستطاع استطعته ... ولكنَّ ما لا يستطاع شديد فانظر ما أحلى احتراسه عن ذلك بقوله: وما فوق شكري للشكور مزيد، وانظر كيف أظهر عذره في عجزه مع قدرته، بأن قال في البيت الثاني: ولو كان مما يستطاع استطعته. ثم أخرج بقية البيت للمبالغة، مخرج المثل السائر، حيث قال: ولكنّ ما لا يستطاع شديد. ومن هنا قال أبو نواس: لا تسدين إلِيّ عارفة ... حتى أقوم بشكر ما سلفنا2 ومن معجز المبالغة، في القرآن العظيم، قوله تعالى: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَار} 3، فجعل كل واحد منهم أشد

_ 1 الجزع: نوع من العقيق ذي الخطوط المتوازية المستديرة. 2 العارفة: المعروف. 3 الرعد: 13/ 10.

مبالغة في معناه وأتم صفه، وجاء من المبالغة، في السنة النبوية، قوله صلى الله عليه وسلم مخبرًا عن ربه: "كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به". وقوله في بقية هذا الحديث: "والذي نفس محمد بيده لخلوف1 فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك". ففي الحديث الشريف مبالغتان: إحداهما، كون الحق -سبحانه وتعالى- أضاف الصيام إلى نفسه دون سائر الأعمال، لقصد المبالغة في تعظيمه وشرفه، وأخبر أنه عز وجل يتولى مجازاة الصائم بنفسه، مبالغة في تعظيم الجزاء وشرفه، ونحن نعلم أن الأعمال كلها لله سبحانه وتعالى ولعبده باعتبارين: أمّا كونها للعبد، فلأنه يثاب عليها، وأما كونها لله، فلأنها عملت لوجهه الكريم، ومن أجله، فتخصيص الصائم، بالإضافة للرب سبحانه، وتخصيص ثوابه بما خصص به إنما كان للمبالغة في تعظيمه. والمبالغة الثانية، إخبار النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد تقديم القسم، لتأكيد الخبر، بأن خلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك، ففضل تغير فم الصائم، بالإمساك عن الطعام والشراب، على ريح المسك الذي هو أعطر الطيب، على مقتضى ما يفهم من ريح المسك، وأتى بصيغة أفعل للمبالغة، فجمع هذا الكلام بين قسمي المبالغة: المجازي والحقيقي ولذلك ورد أن دم الشهيد كريح المسك، للمبالغة. وهذا النوع، أعني المبالغة، ممكن الناظم منه في المدائح النبوية والصفات المحمدية، فإن المادح إذا بالغ في وصفه صلى الله عليه وسلم، كانت تلك المبالغة ممكنة قريبة من معجزاته وعظمه عند ربه، فمن ذلك، قولي من قصيدة نبوية أقول فيها عن النبي، صلى الله عليه وسلم: إذا ما سرى فردًا لفرط جلاله ... يقول الورى قد سار جيش عرمرم فالمبالغة تمت لما انتهيت إلى قولي: سار جيش، وزدت بعد ذلك بما هو أبلغ منه وأعظم، لقولي: عرمرم. وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته، يقول فيه عن النبي -صلى الله عليه وسلم: كم قد جلت جنح ليل النقع طلعته ... والشهب أحلك ألوانًا من الدهم2 المبالغة تمت للشيخ صفي الدين، في الشطر الأول. بقوله: كم قد جلت جنح ليل النقع طلعته. ولكن زاد بما هو أبلغ منها، حيث قال: والشهب أحلك ألونًا من الدهم.

_ 1 الخلوف: رائحة الفم إذا تغيرت وفسدت. 2 النقع: الغبار في أثناء المعارك -الدهم: الخيول السوداء.

وبيت العميان في بديعيتهم: يعم نبيًّا تباري الريح أنمله ... والمزن من كل هامي الودق مرتكم1 المجمع عليه أن المبالغة في الأوصاف المحمدية ممكنة عقلًا وعادة، ولكن الأبلغ في مبالغة العميان أن الريح والمزن كان يحب كل منهما أن يتطفل على أنامل النبي -صلى الله عليه وسلم- في المباراة، لعلو رتبته وعظم مقامه. وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته: امدح وجز كل حد في مبالغة ... حقًّا ولا تطر تقبل غير متهم2 هذا البيت لم ينتظم في سلك ما قبله من أبيات المديح النبوي، ولا بينه وبين المبالغة أدنى وصلة، ولم يظهر لي في بيته، غفر الله له، إلا وصيته للمادح أنه إذا مدح يتجاوزكل حد، وأنه لا يطري فيقبل، وما أحقه هنا بقول القائل: تمنيتهم بالرقمتين ودارهم ... بوادي الغضى يا بعد ما أتمناه وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي -صلى الله ليه وسلم: بالغ وقل كم جلا بالنور ليل وغى ... والشهب قد رمدت من عثير الدهم فالمبالغة تمت في شطر البيت الأول، بقولي: بالغ وقل كم جلا بالنور ليل وغى. والزيادة بما هو أبلغ منها قولي: والشهب قد رمدت من عثير الدهم. وتسمية النوع هنا هي ديباجة المبالغتين على هذه الصيغة، والله أعلم.

_ 1 يمم: توجه نحو، تباري: تسابق، الأنمل: جمع أنملة وهي طرف الأصبع، المزن: جمع مزنة وهي الغيمة الممطرة، هامي: سائل، الودق: المطر، مرتكم: بعضه فوق بعضه الآخر. 2 جُز: تجاوز، تطرِ: من الإطراء وهو المبالغة في المدح على غير الحقيقة.

ذكر الإغراق

ذكر الإغراق: لو شاء إغراق من ناواه مد له ... في البر بحرًا بموج فيه ملتطم قد تقرر في نوع المبالغة أنها إفراط وصف الشيء بالممكن القريب وقوعه عادة. وهذا النوع، أعني الإغراق، فوق المبالغة، ولكنه دون الغلو، وهو في الاصطلاح إفراط وصف الشيء بالممكن البعيد وقوعه عادة. وقل من فرق بينهما. وغالب الناس عندهم المبالغة والإغراق والغلو نوع واحد. وهنا لم يعمل بقول الحريري: سامح أخاك إذا خلط. وكل من الإغراق والغلو لا يعد من المحاسن إلا إذا اقترن بما يقربه إلى القبول، كقد، للاحتمال، ولولا، للامتناع، وكاد، للمقاربة، وما أشبه ذلك من أنواع التقريب. وما وقع شيء من الإغراق والغلو، في الكتاب العزيز، ولا في الكلام الفصيح، إلا مقرونًا بما يخرجه من باب الاستحالة، ويدخله في باب الإمكان، مثل: كاد ولو، وما يجري مجراهما، كقوله تعالى: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَار} 1 إذ لا يستحيل في العقل أن البرق يخطف الأبصار، لكنه يمتنع عادة ما زاد وجه الإغراق هنا جمالًا إلا تقريبه بكاد، واقتران هذه الجملة بها هو الذي صرفها إلى الحقيقة، فقلبت من الامتناع إلى الإمكان. ومن شواهد تقريب نوع الإغراق، بلو، قول زهير: لو كان يقعد فوق الشمس من كرم ... قوم بأولهم أو مجدهم قعدوا

_ النور، 24/ 43.

فاقتران هذه الجملة أيضًا بامتناع قعود القوم فوق الشمس، المستفاد بلو، هو الذي أظهر بهجة شمسها في باب الإغراق. ومما استشهدوا به على هذا النوع، بغير أداة التقريب، قول امرئ القيس: تنورتها من أذرعات وأهلها ... بيثرب أدنى دارها نظر عالي1 وبين المكانين بعد تام، فإن أذرعات من الشام، والنار التي تنورها من أذرعات كانت بيثرب مدينة النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد أثبتوا هذا الشاهد في باب الإغراق، لأنهم قالوا: لا يمتنع عقلًا أن ترى النار من بعد هذه المسافة، وأن لا يكون ثم حائل من جبل أو غيره، من عظم جرم النار، ولكن ذلك ممتنع عادة، هذا إن جعلنا تنورتها نظرت إلى نارها حقيقة، وأما إن جعلناه بمعنى توهمت نارها وتخيلتها في فكري، فلا يكون في البيت إغراق. ومثله قول أبي الطيب المتنبي في صباه: روح تردد في مثل الخلال إذا ... أطارت الريح عنه الثوب لم يبن2 كفى بجسمي نحولًا أنني رجل ... لولا مخاطبتي إياك لَم ترني وقالوا: هنا لا يمتنع عقلًا أن ينحل الشخص، حتى يصير مثل الخلال، ولا يستدل عليه إلا بالكلام، إذ الشيء الدقيق إذا كان بعيدًا لا يرى، بخلاف الصوت. ولكن صيرورة الشخص، في النحول، إلى مثل هذه الحال، ممتنع عادة. ولعمري، إن الشيخ شرف الدين بن الفارض ضم خصر هذا المعنى الرقيق، ورشحه بنفائس العقود، حيث قال: كأني هلال الشك لولا تأوّهي ... خفيف لم تُهد العيون لرؤيتي قلت: إذا قابلنا نحول المتنبي بهلال الشك الذي أبرزه ابن الفارض، لم تبعد المقارنة، لكن من قابل قول المتنبي: إنني رجل لولا مخاطبتي، بقول الشيخ شرف الدين بن الفارض، في بيته، كأني هلال الشك لولا تأوهي، لا بد أن يقابله الله على ذلك، وأين لطف: لولا تأوهي، من ثقل: لولا مخاطبتي. فالفرق بين خطاب الرجل وتأوه هلال الشك لا يخفى على حذاق أهل الأدب.

_ 1 تنوّرتها: بصرت بها أو توهمتها، أذرعات: اسم مكان في الشام يبعد مسيرة ثلاثة أشهر عن يثرب، مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم. 2 الخلال: الشبح.

ومنه قول بعضهم: قد سمعتم أنينه من بعيد ... فاطلبوا الشخص حيث كان الأنين قلت: ما برح طائر فكري يحوم على ورد هذا المعنى الذي حصلت فيه المواردة، على أن الشخص لا يرى لشدة نحوله إلا بأنين أو تأوه، وأريد أن أرشحه بنكتة، إلى أن قلت من قصيدتي التي عارضت بها كعب بن زهير، وامتدحت بها النبي صلى الله عليه وسلم: وفوق طرس مشيتي أرَّخو تلفي ... وذلك الطرس فوق الرأس محمول وقد تجاوز جسمي حد كل ضني ... وها أنا اليوم في الأوهام تخييل وقد تقدم وتقرر، أن أداة المقاربة ما استعملت في الإغراق إلا لتنقله من الامتناع إلى الإمكان، وهذا الذي أوردته بغير أداة المقاربة هنا، إن كان يبعد عادة، لا يبعد عقلًا. ومما استشهدوا به على نوع الإغراق، بلو، التي يمكن الإغراق بها عقلًا ويمتنع عادة، قول القائل: ولو أن ما بي من جوى وصبابة ... على جمل لم يبق في النار كافر يريد أنه لو كان ما به من الحب بجمل لنحل حتى يدخل في سم الخياط، وذلك لا يستحيل عقلًا، إذ القدرة قابلة لذلك لكنه ممتنع عادة. وهذا غاية في الإغراق. وأورد الشيخ شهاب الدين ابن جعفر المغربي الأندلسي، في شرحه الذي كتبه على بديعية صاحبه شمس الدين محمد بن جابر الأندلسي، على هذا البيت حكاية لطيفة، وهي أن إبليس تعرض لبعض الأولياء فلم ينل منه غرضًا. فقال له الولي: من أشد عليك: العابد الجاهل، أو العالم المسرف على نفسه؟ فقال: العالم المسرف، وأما العابد الجاهل فهو في قبضتي أدخل عليه في دينه من حيث شئت. وأنا أريك ذلك. فانطلق به إلى أعبد الجهال في ذلك الزمان، فطرق عليه الباب، فخرج إليهما. فقال له إبليس: جئت أستفتيك: هل الله قادر على أن يدخل الجمل في سم الخياط أو لا. فتوقف وتحير وغلق الباب. فقال إبليس للولي: ها هو قد كفر بالشك في قدرة الله تعالى، ثم انطلق به إلى عالم مسرف على نفسه، وطرق عليه الباب، وكان في القائلة1، فقال الرجل العالم: من هذا الشيطان الذي يضرب بابي في القائلة، وقد قال عليه الصلاة والسلام:

_ 1 القائلة: الاستراحة وقت الظهر.

"قيلوا فإن الشياطين لا تقيل؟ فقال إبليس: ها هو قد عرفني قبل رؤيتي، فلما خرج قال له إبليس: هل في قدرة الله تعالى أن يدخل الجمل في سم الخياط؟ فقال له: أتشك في قدرة الله تعالى أن يوسع سم الخياط حتى يدخل فيه الجمل، أو يرقق الجمل حتى يصير كالخيط فيدخل في سم الخياط! فانصرفا، وقال إبليس لرفيقه: معرفة هذا بالله تمحو ذنوبه، وحاله خير من حال العابد الجاهل بالله. انتهى. وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته، على نوع الإغراق: في معرك لا تثير الخيل عثيره ... مما تروي المواضي تربه بدم1 بيت الشيخ صفي الدين الحلي على هذا النوع أبرزه بغير أداة التقريب، وهو بيت عامر قريب من العقل بعيد من الوقوع عادة، على شرط الإغراق، لكنه غير صالح للتجريد وقد تقرر وتكرر: أن بيوت البديعيات شواهد على الأنواع، فلا ينبغي أن يكون البيت متعلقًا بما قبله، ولا بما بعده. وبيت بديعية العميان يقولون فيه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد أتوا فيه بأداة التقريب حيث قالوا: لو قابل الشهب ليلًا في مطالعها ... خرّت حياء وأبدت برّ محترم لو شاء إغراق وجه الأرض أجمعه ... ندى يديه لأحياها ولم يضم2 وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي -صلى الله عليه وسلم: لو شاء إغراق من ناواه مد له ... في البر بحرًا بموج فيه ملتطم3 على كل تقدير، مقام النبي -صلى الله عليه وسلم- صالح للمغالاة بالإغراق في مديحه، والله أعلم.

_ 1 المعرك: مكان العراك، العثير: الغبار، المواضي: جمع ماضي: السيف. 2 الندى: الجود والكرم والعطاء، يُضَم: يصاب بالضيم وهو الضعف والنقص والسوء. 3 ناواه: ناوأه مخففة ومعناها خاصمه وعانده.

ذكر الغلو

ذكر الغلو: بلا غلو إلى السبع الطباق سرى ... وعاد والليل لم يجفل بصبحهم1 قد تقدم القول على المبالغة، وتقرر أنها في الاصطلاح إفراط وصف الشيء بالممكن القريب وقوعه عادة. وتقرر أن الإغراق فوقها في الرتبة، وهو في الاصطلاح إفراط وصف الشيء بالممكن البعيد وقوعه عادة. والغلو، فوقهما فإنه الإفراط في وصف الشيء بالمستحيل وقوعه عقلًا وعادة وهو ينقسم إلى قسمين: مقبول، وغير مقبول. فالمقبول لا بد أن يقر به الناظم إلى القبول بأداة التقريب، اللهم إلا أن يكون الغلو في مديح النبي -صلى الله عليه وسلم- فلا غلو. ويجب على ناظم الغلو أن يسبكه في قوالب التخيلات الحسنة، التي يدعو العقل إلى قبولها في أول وهلة، كقوله تعالى: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَار} 2 فإن إضاءة الزيت من غير مس نار، مستحيلة عقلًا، ولكن لفظة يكاد، قربته فصار مقبولًا. ومنه قول أبي العلاء المعري: تكاد قسيه من غير رام ... تمكن في قلوبهم النبالا تكاد سيوفه من غير سل ... تجد إلى رقابهم انسلالا ويعجبني هنا قول ابن حمديس الصقلي، في وصف فرس: ويكاد يخرج سرعة من ظله ... لو كان يرغب في فراق رفيق

_ 1 السبع الطباق: السموات السبع. 2 النور: 24/ 35.

ومنه قول الفرزدق، في على بن الحسين بن على بن أبي طالب -رضي الله عنهم أجمعين: يكاد يمسكه عرفان راحته ... ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم1 ومن الغلو المقبول، بغير أداة التقريب، قول أبي الطيب المتنبي في ممدوحه: عقدت سنابكها عليه عثيرًا ... فلو ابتغى عنقًا عليه أمكنا معنى هذا البيت: أن سنابك الخيل، وهي أطراف الحوافر، عقدت على هذا الممدوح عثيرًا، وهو الغبار، حتى لو أراد أنه يمشي عليه عنقًا لأمكن، والعنق هو المشي السريع، وانعقاد الغبار في الهواء حتى يمكن المشي عليه، مستحيل عقلًا وعادة إلا أنه تخيل حسن مقبول. وقد وقع2 للقاضي الأرجاني، جمع فيه بين الشيئين الموجبين للقبول والتقريب، وهما ما جرى بهما مجرى كاد، والتخيل الحسن، وذلك قوله: يخيل لي أنْ سُمّر الشهب في الدجا ... وشدت بأهدابي إليهن أجفاني فقوله: يخيل لي، هو الجاري مجرى كاد، فإنه جعل الأمر توهمًا لا حقيقة، وأما التخيل الحسن، فهو ما ذكر من تسمير الشهب، وشد أجفانه إليها بأهدابه، وجعل الأهداب بمنزلة الحبال، ولا يخفى ما في هذا من التخييل الحسن. وأما الغلو الذي هو غير مقبول فكقول أبي نواس: فلما شربناها ودب دبيبها ... إلى موضع الأسرار قلت لها قفي مخافة أن يسطو عليَّ شعاعها ... فيطلع ندماني على سري الخفي قالوا: إن سطوة شعاع الخمر عليه، بحيث يصير جسمه شفّافًا يظهر لنديمه ما في باطنه لا يمكن عقلًا ولا عادة. ومنه قول بعضهم: أسكر بالأمس إن عزمت على ... الشرب غدًا إنَّ ذا من العجب

_ 1 الحطيم: بناء خارج الكعبة قبالة ميزاب الرحمة، الاستلام: أي استلام الحجر الأسود وهو من شعائر الحج. 2 وقع تخييل حسن.

فسكره بالأمس، بسبب عزمه على الشرب غدًا، مما لا يمكن عقلًا ولا عادة أيضًا. ومنه قول أبي نواس: وأخفت أهل الشرك حتى إنه ... لتخافك النطف التي لم تخلق وهذا الذي قاله أبو نواس أيضًا، أمر مستحيل، فإن قيام العرض الموجود، وهو الخوف بالمعدوم، وهي النطف التي لم تخلق، لا يمكن عقلًا ولا عادة. ومن ألطف ما يحكى هنا أن العتابي الشاعر لقي أبا نواس، فقال له: أما تستحي من الله بقولك: وأخفت أهل الشرك البيت؟ فقال له أبو نواس: وأنت أيضًا ما استحيت من الله بقولك: ما زلت في غمرات الموت مطرحًا ... يضيق عني وسيع الرأي من حيل لم تزل دائبًا تسعى بلطفك لي ... حتى اختلست حياتي من يدي أجلي1 فقال العتابي: قد علم الله، وعلمت أن هذا ليس مثل قولك، ولكنك أعددت لكل سؤال جوابًا. ومنه قول بعضهم: قد كان لي فيما مضى خاتم ... واليوم لو شئت تمنطقت به2 وذبت حتى صرت لو زج بي ... في مقلة النائم لم ينتبه3 ومثل هذا أيضًا لا يقبله العقل، ولا عليه رونق القبول. قلت: ومراتب الغلو تتفاوت إلى أن تئول بقائلها إلى الكفر. فمن ذلك قول ابن دريد: مارست من لو هوت الأفلاك من ... جوانب الجو عليه ما شكا قيل: إنه لأجل هذا البيت، والإدعاء العظيم الذي ادعى فيه ابتلي بمرض كان فيه يخاف من الذباب أن يقع عليه.

_ 1 معنى قول أبي نواس ظاهرة الشرك وباطنه المبالغة فهو يكاد يصل بممدوحه درجة الخالق جلّ وعلا إذ النطف التي لم تخلق لا تخاف إلا خالقها، عقلًا وقول العتابي: يعني: ما زلت أعاني من المصاعب المميتة ولا أستطيع لنفسي حيلة للنجاة. وأنت واضبت، تلطفًا منك وكرمًا، تفتش لي عن مخرج مما أنا فيه حتى كان ذلك على يديك فكأنك قد خلصتني من الموت بإذن الله. ولا يخفى الفرق بين المقصودين. 2 تمنطق: لبس المنطقه وهي قطعة من جلد أو من قماش تشد على الوسط. 3 زجّ: حشر ووضع في مكان يضيق عليه.

ومنه قوله: ولو حمى المقدار عنه مهجة ... لرامها أو تستبيح ما حمى تغدو المنايا طائعات أمره ... ترضى الذي يرضى وتأبى ما أبى ومثله قول أبي الطيب: كَأَنّي دَحَوتُ الأَرضَ مِن خِبرَتي بِها ... كَأَنّي بَنى الإِسكَندَرُ السَدَّ مِن عَزمي1 هذا أيضًا من الغلو الذي يؤدي إلى سخافة العقل، مع ما فيه من قبح التركيب، وبعده عن البلاغة. وأقبح من هذا كله قول عضد الدولة: ليس شرب الراح إلا في المطر ... وغناء من جوارٍ في السحر غانيات سالبات للنهى ... ناغمات من تضاعيف الوتر2 مبرزات الكأس من مطلعها ... ساقيات الراح من فاق البشر3 عضد الدولة بان ركنها ... ملك الأملاك غلاب القدر روي أنه لم يفلح بعد هذا القول، وكان لا ينطق إلا بقوله تعالى: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ، هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} 4. ولولا الإطالة، وهو نظم غير مقبول، لأوردت كثيرًا من نظم الذين كانوا يتساهلون في هذا النوع، كأبي نواس، وابن هانئ الأندلسي، والمتنبي، وأبي العلاء المعري، وغيرهم من المتأخرين، كابن نبيه ومن جرى مجراه. وكنت من المبادئ أستقبح قول الشيخ صفي الدين الحلي، وأستقل أدبه بقوله، في موشحه الذي أوله: دارت على الدوح سلاف القطر. وذلك قوله في ممدوحه: لو قابل الأعمى غدا بصيرا ... ولو رأى ميتًا غدًا منشورا5 ولو يشا كان الظلام نورا ... ولو أتاه الليل مستجيرا آمنه من سطوات الفجر

_ 1 دحوت الأرض: سطحتها فجعلتها مدحية مسطحه، أو بسطتها ووسعتها. 2 النهى: العقول والألباب. 3 فاق البشر: أعلى منزلة منهم. 4 الحاقة: 69/ 28، 29. 5 النشور: الحياة بعد الموت.

وبيته في بديعيته على هذا النوع، أعني الغلو، قوله: عزيز جار لو الليل استجار به ... من الصباح لعاش الناس في الظلم قلت هذا الغلو هنا مقبول، في مديح النبي -صلى الله عليه وسلم- غير لائق بممدوحه الذي أشار إليه في موشحه بقوله: ولو أتاه الليل مستجيرًا ... آمنه من سطوات الفجر فقد تقرر أن الناظم إذا قصد الغلو في مديح النبي -صلى الله عليه وسلم- فلا غلو. وبيت العميان في بديعيتهم يقولون فيه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم: تكاد تشهد أن الله أرسله ... إلى الورى نطف الأبناء في الرحم فنسبة الشهادة إلى النطف، وهي في الأرحام، لا تمكن عقلًا، وما استحال عقلًا استحال عادة، وهذا الغلو هنا مقبول في مديح النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد زاد الناظم تقريبه بكاد، ولكن ذكر الأرحام والنطف في المدائح النبوية ما يخلو من قلة أدب. وبيت الشيخ عز الدين في بديعيته، يقول فيه عن النبي -صلى الله عليه وسلم: في مدحه نفحات لا غلوّ بها ... يكاد يحيي شذاها بالي الرمم1 نفحات هذا البيت عطرت الوجود بالمديح النبوي، وغلوها فيه ملحوظ بعين القبول، وتقريبها بكاد أحرز قصبات السبق، ولا أقول كاد، وهذا البيت عندي مقدم على بيت الشيخ صفي الدين، وبيت العميان، لالتزامه بتسمية النوع البديعي مورى به من جنس المديح، مع انسجامه ورقته. وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي، صلى الله عليه وسلم: بلا غلو إلى السبع الطباق سرى ... وعاد والليل لم يجفل بصحبهم هذا الغلوّ يرخص عنده بانتظامه في سلك المدائح النبوية كل غلو، فإنه لو كان في غير النبي -صلى الله عليه وسلم- استحال عقلًا وعادة، ونعوذ بالله من نسبته إلى غيره، فإنها تؤدي إلى الكفر المحض، وحصره في النبي -صلى الله عليه وسلم- متفق عليه عقلًا ونقلًا. وقولي عند نظم هذا النوع بلا غلو، ويعلم طالب هذا العلم طريق سلوك الأدب، وهذا البيت من خلاصات المدائح النبوية، فنرجو الله أن تشملنا بركة ممدوحه، صلى الله عليه وسلم، والله أعلم.

_ 1 الرمم: جمع رمة وهي جثة الإنسان بعد موته.

ذكر ائتلاف المعنى مع المعنى

ذكر ائتلاف المعنى مع المعنى: سهل شديد له بالمعنيين بدا ... تألف في العطا والدين للعظم هذا النوع، وهو ائتلاف المعنى مع المعنى، ضربان: فالأول في الاصطلاح، هو أن يشتمل الكلام على معنى معه أمران: أحدهما ملائم، والآخر بخلافه، فيقرنه بالملائم. واستشهدوا عليه بقول أبي الطيب المتنبي: فالعرب منه مع الكدري طائرة ... والروم طائرة منه مع الحجل1 وقالوا: إن تقوية المعنى الأول، مناسبة القطا الكدري مع العرب، لأنه يلائمهم بنزوله في السهل من الأرض، وينفر من العمران ويستأنس بالمهمة، ولا يقرب العمران إلا إذا زاد به العطش وقل الماء في البر. ومناسبة الحجل مع الروم، أنها تسكن الجبال، وتنزل في المواضع المعروفة بالشجر. والضرب الثاني هو أن يشتمل الكلام على معنى وملائمين له، فيقرن بهما ما لاقترانه مزية. واستشهدوا على هذا الضرب الثاني، بقول أبي الطيب المتنبي أيضًا: وقفت وما في الموت شك لواقف ... كأنك في جفن الردى وهو نائم2 تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ... ووجهك وضاح وثغرك باسم3 وقالوا: إن عجز كل من البيتين يلائم كلا من الصدرين، وما اختار ذلك الترتيب إلا

_ 1 الكوريّ: نوع من القطا أغبر اللون، مرقش الظهر، أصفر الحلق. 2 الردى: الموت. 3 كلمى: مجرّحة.

لأمرين: أحدهما أن قوله: كأنك في جفن الردى وهو نائم، تمثيل السلامة في مقام العطب، ولهذا قرر له الوقوف والبقاء في موضع يقطع على صاحبه فيه بالهلاك، أنسب من جعله مقررًا لثباته في حال هزيمة الأبطال. والثاني، أن في تأخير التتميم بقوله: ووجهك وضاح وثغرك باسم، عن وصف الممدوح بوقوفه ذلك الموقف، وبمرور أبطاله كلمى بين يديه، ما يفوت بالتقديم. ولعمري إن الضرب الثاني من ائتلاف المعنى مع المعنى أبدع من الضرب الأول، وأوقع في القلوب، وأقرب إلى مواقع الذوق، وعيه نظمت بيت بديعيتي ويأتي الكلام عليه في موضعه، ولكن هنا نكتة تزيد بديع الضرب الثاني إيضاحًا، وترشح قصد المتنبي في ترتيبه الذي تقدم عليه الكلام. حكي أن سيف الدولة بن حمدان ممدوح المتنبي قال، عن إنشاده إياه هذين البيتين: يا أبا الطيب قد انتقدنا عليك، كما انتقد على امرئ القيس في قوله: كأني لم أركب جوادًا لغارة ... ولم أتبطن كاعبًا ذات خلخال1 ولم أسبأ الزق الروي ولم أقل ... لخيلي كرّي كرة بعد إجفال2 فقال المتنبي: أيها الأمير إن صح أن البزاز أعلم بالثوب من حائكه، فقد صح ما انتقد على امرئ القيس وعليّ، فإن امرأ القيس أحب أن يقرن الشجاعة باللذة في بيت واحد، وهو الأول، وقد وقع مثل هذا في الكتاب العزيز، وهو قوله تعالى: {إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى، وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى} 3 فإنه تعالى لم يراع فيه مناسبة الري بالشبع والاستظلال باللبس، في تحصيل نوع المنفعة، بل راعى مناسبة اللبس للشبع في حاجة الإنسان إليه وعدم استغنائه عنه، ومناسبة الاستظلال للري في كونهما تابعين اللبس والشبع. قلت وأما جواب المتنبي عن قول امرئ القيس: كأني لم أركب جوادًا لغارة ... ولم أتبطن كاعبًا ذات خلخال فهو الافتنان بعينه، وهو نوع من أنواع البديع العالية، وقد تقدم. وبيت الشيخ صفي الدين الحلي، في بديعيته على هذا النوع، قوله: من مفرد بغرار السيف منتشر ... ومروج بسنان الرمح منتظم4

_ 1 تبطّن: خبر وعرف الباطن، الكاعب: الفتاة إذا نهد ثدياها. 2 سبأ الزق الروي: اشترى وعاء الخمر المليء ليشربه. 3 طه:20/ 118، 119. 4 المروج: السريع، غرار السيف: حده.

قد كثر تكرار القول، بأن المراد من بيت البديعية أن يكون شاهدًا على نوعه، وإن لم يكن صالِحًا للتجريد لم يصح الاستشهاد به على ذلك النوع. وبيت الشيخ صفي الدين الحلي، هنا، غير صالح للتجريد، وعدم صلاحه للتجريد هو الذي عقده وحجب إيضاح معناه عن مواقع الذوق. والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم. وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته، يقول فيه عن النبي، صلى الله عليه وسلم: ذو معنيين بصحب والعدا ائتلفا ... للخلف ما أشهب البازي كالرخم1 قلت: إن هذين المعنيين، لشدة العقادة، أتعبت الفكر فيهما على أن يتضح لي منهما معنى فعجزت عن ذلك، والله أعلم. وبيت بديعيتي، أقول فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم: سهل شديد له بالمعنيين بدا ... تألف في العطا والدين للعظم وقد تقدم قولي: إن بيت بديعيتي منظوم في سلك الضرب الثاني، لكونه أبدع وأوقع في الذوق من الضرب الأول، وهو أن يشتمل الكلام على معنى وملائمين فيقرن بهما ما يلائم ويظهر باقترانه مزية فسهولة النبي -صلى الله عليه وسلم- قرنتها بالعطاء وناهيك بهذه الملاءمة وشدته، صلى الله عليه وسلم، قرنتها بالدين لعظمه، فأكرم بها ملاءمة وشرف قران. وقد ورد نص الكتاب بذلك في قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} 2 وقولي في القافية: للعظم، بعد ثبوت الشدّة للدين، في غاية التمكين. والله أعلم.

_ 1 أشهب: أصاب، البازي: طائر من الجوارح يستعمل ليصطاد به، الرخمة: طائر غزير الريش. 2 الفتح: 48/ 29.

ذكر نفي الشيء بإيجابه

ذكر نفي الشيء بإيجابه لا ينتفي الخير من إيجابه أبدا ... ولا يشين العطا بالمن والسأم1 نفي الشيء بإيجابه، هو أن يثبت المتكلم شيئًا في ظاهر كلامه، وينفي ما هو من سببه مجازًا، والمنفي في باطن الكلام حقيقة هو الذي أثبته، كقوله تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} 2 فإن ظاهر الكلام نفي الذي يطاع من الشفعاء، والمراد نفي الشفيع مطلقًا، وكقوله تعالى: {لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} 3 فإن ظاهر الكلام نفي الإلحاف في المسألة، والباطن نفي المسألة بتة، وعليه إجماع المفسرين. وذكر ابن أبي الأصبع، في كتابه المسمى: "بتحرير التحبير" أنه منقول عن ابن عباس، رضي الله عنهما. وهذا هو الحد الذي قرره ابن رشيق، في العمدة، فإنه قال: نفي الشيء بإيجابه إذا تأملته وجدت باطنه نفيًا وظاهره إيجابًا واستشهد عليه بقول زهير: بأرض خلاء لا يسد وصيدها ... عليَّ ومعروفي بها غير منكر4 قأثبت لها في الظاهر وصيدًا، ومراده في الباطن أن ليس لها وصيد فيسد. وألطف ما رأيت، من شواهد هذا النوع، أعنى نفي الشيء بإيجابه، قول مسلم بن الوليد:

_ 1 يشين: يعيب. 2 غافر: 40/ 18. 3 البقرة: 2/ 273. 4 الأرض الخلاء: الخالية من الناس، والوصيد: هو الباب ومنه قوله تعالى عن أهل الكهف: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} الكهف: 18/18.

لا يعبق الطيب خديه ومفرقه ... ولا يسمح عينيه من الكحل1 فإن ظاهر الكلام نفي عبق الطيب ومسح الكحل، والمراد نفي الطيب والكحل مطلقًا. ومثله قول أبي الطيب المتنبي: أفدى ظباء فلاة ما عرفن بها ... مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب ولا برزن من الحمام مائلة ... أوراكهن صقيلات العراقيب2 فظاهر الكلام عدم بروزهن من الحمام على تلك الهيئات، والمراد، في باطن الكلام، عدم الحمام مطلقًا، فإنهن عربيات كظباء الفلاة، ولهذا قال ذو الرمة: بالله يا ظبيات قلن لنا ... ليلاي منكن أم ليلى من البشر والقصد أن حسنهن لم يفتقر إلى تصنع ولا إلى تطرية بدخول الحمام. وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته على هذا النوع، أعني نفي الشيء بإيجابه، يقول فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم: لا يهدم المن منه عمر مكرمة ... ولا يسوء أذاه نفس متهم فظاهرة الكلام، في بيت الشيخ صفي الدين الحلي، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يتبع المكرمة بمن وحاشاه من ذلك، ولا يصدر منه لنفس متهم إساءة. والمراد، في الباطن، نفي المن والإساءة مطلقًا، فإن مقام النبي -صلى الله عليه وسلم- في الكرم والحلم، فوق ذلك. والعميان لم ينظموا هذا النوع في بديعيتهم. وبيت الشيخ عز الدين، غفر الله له، يقول فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم: لم ينف ذمًا بإيجاب المديح فتى ... إلا وعاقدت فيه الدهر بالسلم هذا البيت ليس له تعلق بهذا النوع، فإن مشايخ البديع تواردوا في حده على عبارة واحدة لم تختلف بحرف، بل الجميع قالوا: نفي الشيء بإيجابه، هو أن يثبت المتكلم شيئًا في ظاهر كلامه، وينفي ما هو سببه مجازًا، والمنفي في باطن الكلام حقيقة لو

_ 1 غَبِق: لامس ولاصق. 2 الأوراك: ملتقى الفخذ مع الجذع، مفردها: ورك، العراقيب: أوتار غليظة فوق الأعقاب، مفردها عرقوب.

الذي أثبته. وأوردوا على ذلك ما تقدم من شواهد القرآن العظيم، والشواهد الشعرية التي زادت النوع إيضاحًا. ولم يتضح لي في بيت الشيخ عز الدين -غفر الله له- لمعة استضيء بها في ظلمة هذه العقادة إلى تقرير هذا النوع في البيت المذكور، فلم يسعنى غير النظر في شرحه، فوجدته قد قال: ما نفي الذم بإيجاب المديح كريم، إلا وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد عاقد الدهر بالسلم على ذلك المعنى قبل الذي فعل هذا الفعل المحمود، فإنه هو الأصل في الأسباب الخيرية جميعها، فما علمت ما مراده في النظم، ولا في الشرح، ولا أين استقر نفى الشيء بإيجابه، والله أعلم. وبيت بديعيتي، أقول فيه عن النبي، صلى الله عليه وسلم: لا ينتفي الخير من إيجابه أبدا ... ولا يشين العطا بالمن والسأم الذي أقوله: إن محاسن هذا البيت، ببركة ممدوحه، صلى الله عليه وسلم، تغني عن التطويل في شرحه، وسهولة مأخذ النوع منه لم تفتقر إلى زيادة إيضاح، وما أحقه هنا بقول القائل: وقد ظهرت فلا تخفى على أحد ... إلا على أكمه لا يعرف القمرا

ذكر الإيغال

ذكر الإيغال: للجود في السير إيغال إليه وكم ... حبا الأنام بودٍ غير منصرم هذا النوع، مأخوذ من إيغال السير. فإنه يقال: أوغل في المسير، إذا بلغ غاية قصده بسرعة. ولهذا قلت: للجود في السير إيغال إليه، ومعنى ذلك: أن المتكلم، أو الشاعر، إذا انتهى إلى آخر القرينة، أو البيت، استخرج سجعة أو قافية يريد معنى زائدًا أو كلًّا منهما، فكأن المتكلم، أو الشاعر، قد تجاوز حد المعنى الذي هو آخذ فيه، وبلغ مراده فيه إلى زيادة عن الحد. وهذا النوع مما فرعه قدامة، وفسره بأن قال: هو أن يستكمل الشاعر معنى بيته بتمامه، قبل أن يأتي بقافيته، فإذا أراد الإتيان بها ليكون الكلام شعرًا، أفاد بها معنى زائدًا على معنى البيت، كقول ذي الرمة: قف العيس في آثار مية واسأل ... رسومًا كأخلاق الرداء المسلسل1 فتم كلامه قبل القافية، فلما احتاج إليها أفاد بها معنى زائدًا، وكذلك صنع في البيت الذي بعده، حيث قال: أظن التي يجدي عليك سؤالها ... دموعًا كتبديد الجمان المفصل2 فإنه تم كلامه بقوله: كتبديد الجمان، واحتاج إلى القافية فأتى بما يفيد معنى زائدًا، ولو لم يأت بها لم يحصل. انتهى.

_ 1 العيس: الإبل مفردها أعيس، ومية: هي حبيبة ذي الرمة، الرسوم: الآثار، أخلاق الرداء المسلسل: الرداء المقطع البالي. 2 تبديد: تفريق، الجمان: اللؤلؤ، المفصل: المنضود والمرتب.

والفرق بين الإيغال والتتميم، أن التتميم يأتي إلى المحتاج فيتممه، كقول الشاعر وقد تقدم: أناس إذا لم يقبل الحق منهم ... ويعطوه غاروا بالسيوف القواضب فإن المعنى بدون قوله: ويعطوه ناقص، والإيغال لا يرد إلا على المعنى التام، فيزيده كمالًا ويفيد فيه معنى زائدًا، غير أن بين الإيغال والتكميل تجاذبًا يكاد أن ينتظم كل منهما في سلك الآخر. ولكن رأيت الناس قد سلموا إلى قدامة ما اختاره وفرعه هنا، فمشيت مع الناس. واستشهدوا على الإيغال بقوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} 1 فإن الكلام تم بقوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا} ثم احتاج الكلام إلى فاصلة تناسب القرينة الأولى، فلما أتي بها أفاد معنى زائدًا. قلت: ولعمري لو طلب التكميل حقه من هذا الشاهد، لم يمنعه الذوق السليم. ومثله قوله تعالى: {وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} 2 فإن المعنى تم بقوله تعالى: {وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} ثم أراد، وهو أعلم، إتمام الكلام بالفاصلة، فقال: {إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} . وقد حكي عن الأصمعي أنه سئل من أشعر الناس؟ فقال: الذي يأتي إلى المعنى الخسيس فيجعله بلفظه كثيرًا، وينقضي كلامه قبل القافية، فإن احتاج إليها أفاد معنى زائدًا. فقيل له: نحو من؟ فقال: نحو الفاتح لأبواب المعاني، وهو امرؤ القيس، حيث قال: كأن عيون الوحش حول خبائنا ... وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب3 ومثله قول زهير: كأن فتات العهن في كل منزل ... نزلن به حب الفنا لم يحطم4 فكلام امرئ القيس انتهى إلى وله الجزع، وزيادة المعنى في قوله: الذي لم يثقب، ولا يخفى على حذاق الأدب ما فيها من المحاسن. ومعنى قول زهير انتهى في

_ 1 المائدة: 5/ 50. 2 النمل: 27/ 80، والروم: 30/ 52. 3 الجزع: العقيق. 4 العِهن: الصوف المصبوغ ألوانًا، ومنه قوله تعالى: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ} القارعة: 101/ 5، الفنا: شجر ثمره حب أحمر فيه نقط سود "عنب الثعلب".

كلامه إلى قوله: حب الفنا، وزيادة المعنى في قوله: لم يحطم، فيها نكتة بديعية غريبة، وأنا أذكرها هنا تنبيهًا على ما قرره الأصمعي، وما ذاك إلا أن زهيرًا شبه ما تفتت من العِهن بحب الفنا، والفنا شجر ثمره حب أحمر وفيه نقط سود، وقال الفراء: هو عنب الثعلب. فلما قال زهير، بعد تمام معنى بيته: لم يحطم، أراد أن يكون حب الفنا صحيحًا، لأنه إذا كسر ظهر له لون غير الحمرة. وقال ابن أبي الأصبع في كتابه المسمّى "بتحرير التحبير": ولقد أحسن ابن المعتز في إيغاله، بقوله لابن طباطبا العلوي: فأنتم بنو بنته دوننا ... ونحن بنو عمه المسلم فإنه تحيل على المساواة، بأن قال: ونحن بنو عمه المسلم، والكلام تم قبل الإتيان بالقافية، فلما أتى بها أفلت معنى، إذ لا طريق له إلى التفضيل بزيادة في حسن الجد. والذي وقع اتفاق البديعيين عليه: أن أعظم ما وقع في هذا الباب وأبلغ، قول الخنساء أخت صخر: وإن صخرًا لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار1 فإن معنى جملة البيت كامل دون القافية، فوجدوها زيادة لم تكن له قبلها. وهذه المرأة لم ترض لأخيها أن يأتم به جهال الناس، حتى جعلته يأتم به أئمة الناس، وهذا تتميم. ولم ترض تشبيهه بالعلم، وهو الجبل المرتفع المعروف بالهداية، حتى جعلت في رأسه نارًا. ويعجبني، من أمثلة هذا النوع في شعر المتأخرين، قول الباخرزي من قصيدة: أنا في فؤادك فارم طرفك نحوه ... ترني فقلت لها وأين فؤادي ومثله قول الآخر: تعجبت من ضنى جسمي فقلت لها ... على هواك فقالت عندي الخبر وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته، يقول عن النبي -صلى الله عليه وسلم: كأن مرآه بدر غير مستتر ... وطيب رياه مسك غير مكتتم

_ 1 تأتم: تجعله إمامًا وتقتدي به، الهداة: الأئمة، العلم: الجبل.

الإيغال مع الشيخ صفي الدين في غير مستتر وغير مكتتم. والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم. وبيت الشيخ عز الدين الموصلي، في بديعيته يقول فيه عن النبي، صلى الله عليه وسلم: أضحت أعاديه في الأقطار طائرة ... وأوغلت في الهوى خوفًا مع العصم1 قال الشيخ عز الدين غفر الله له في شرحه: إن الإيغال الذي أفاد في بيته معنى زائدًا بعد تمامه، قوله: خوفًا مع العصم. وذكر أن العصم هي الجوارح من الطيور التي تفرخ في العوالي، والله أعلم. وبيت بديعيتي أشير فيه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بقولي: للجود في السير إيغال إليه وكم ... حَبَا الأنام بود غير منصرم فمعنى بيتي انتهى إلى قولي عنه -صلى الله عليه وسلم: حبا الأنام بود. ولما قلت بعد ذلك: غير منصرم إشارة إلى ود النبي -صلى الله عليه وسلم- ظهر لي من زيادة المعنى ما أقام قواعد بيتي، وملأ الدنيا بهجة بمحاسن الصفات النبوية، والله أعلم.

_ 1 العصم: من الوحوش: التي في قوائمها بياض وسائر لونها أسود وأحمر.

ذكر التهذيب والتأديب

ذكر التهذيب والتأديب: تهذيب تأديبه قد زاده عظمًا ... في مهده وهو طفل غير منفطم نوع التهذيب والتأديب ما قرروا له شاهدًا يخصه؛ لأنه وصف يعم كل كلام منقح محرر، وهو عبارة عن ترداد النظر في الكلام بعد عمله، والشروع في تهذيبه وتنقيحه، نظمًا كان أو نثرًا، وتغيير ما يجب تغييره، وحذف ما ينبغي حذفه وإصلاح ما يتعين إصلاحه، وكشف ما يشكل من غريبه وإعرابه وتحرير ما يدق من معانيه، وإطراح ما يتجافى عن مضاجع الرقة من غليظ ألفاظه، لتشرق شموس التهذيب في سماء بلاغته، وترشف الأسماع على الطرب رقيق سلافته، فإن الكلام إذا كان موصوفًا بالمهذب، منعوتًا بالمنقح، علت رتبته وإن كانت معانيه غير مبتكرة. وكل كلام قيل فيه: لو كان موضع هذه الكلمة غيرها، أو لو تقدم هذا المتأخر وتأخر هذا المتقدم، أو لو تمم هذا النقص بكذا، أو لو تكمل هذا الوصف بكذا، أو لو حذفت هذه اللفظة، أو لو اتضح هذا المقصد، وسهل هذا المطلب لكان الكلام أحسن، والمعنى أبين، كان ذلك الكلام غير منتظم في سلك نوع التهذيب والتأديب. وكان زهير بن أبي سلمى معروفًا بالتنقيح والتهذيب، وله قصائد تعرف بالحوليات، قيل: إنه كان ينظم القصيدة في أربعة أشهر، ويهذبها وينقحها في أربعة أشهر، ويعرضها على علماء قبيلته في أربعة أشهر. ويروى، أنه كان يعمل القصيدة في شهر وينقحها ويهذبها في أحد عشر شهرًا. ولا جرم أنه قلما يسقط منه شيء، ولهذا كان الإمام عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- مع جلالته في العلم، وتقدمه في النقد، يقدمه على سائر الفحول من طبقته، وما أحسن ما أشار أبو تمام إلى التهذيب بقوله:

خذها ابنة الفكر المهذب في الدجى ... والليل أسود رقعة الجلباب1 فإنه خص تهذيب الفكر بالدجى، لكون الليل تهدأ فيه الأصوات وتسكن الحركات، فيكون الفكر فيه مجتمعًا ومرآة التهذيب فيه صقيلة، لخلو الخاطر وصفاء القريحة، لا سيما وسط الليل والنفس قد أخذت حظها من الراحة، بعد نيل قسطها من النوم، وخف عليها ثقل الغذاء، وصح ذهنها وصار صدرها منشرحًا، وقلبها بالتأليف منبسطًا، وما قدموا وسط الليل في التأليف على السحر، مع ما فيه من رقة الهواء وخفة الغذاء وأخذ النفس سهمها من الراحة، إلا لما يكون فيه من انتباه أكثر الحيوان الناطق وارتفاع معظم الأصوات، وجرس الحركات، وتقشع الظلماء بطلائع الأضواء، وبدون ذلك ينقسم الفكر، ويشتغل القلب، ووسط الليل خال مما ذكرناه. ولهذا خص أبو تمام تهذيب الفكر بالدجى عادلًا عن الطرفين، لما فيهما من الشواغل المذكورة. وحكت الثقات عن أبي عبادة البحتري الشاعر قال: كنت في حداثتي أروم الشعر، وكنت أرجع فيه إلى طبع سليم، ولم أكن وقفت له على تسهيل مأخذ ووجوه اقتضاب، حتى قصدت أبا تمام وانقطعت إليه واتكلت في تعريفه عليه، فكان أول ما قال لي: يا أبا عبادة تخير الأوقات، وأنت قليل الهموم صفر من الغموم، واعلم أن العادة في الأوقات، إذا قصد الإنسان تأليف شيء أو حفظه أن يختار وقت السحر، وذلك أن النفس تكون قد أخذت حظها من الراحة وقسطها من النوم، وخف عنها ثقل الغذاء، وصفًا من أكثر الأبخرة والأدخنة جسم الهواء، وسكنت الغماغم2، ورقت النسائم، وتغنت الحمائم. وإذا شرعت في التأليف تغن بالشعر، فإن الغناء مضماره الذي يجري فيه، واجتهد في إيضاح معانيه، فإن أردت التشبيب فاجعل اللفظ رقيقًا، والمعنى رشيقًا، وأكثر فيه من بيان الصبابة، وتوجع الكآبة، وقلق الأشواق، ولوعة الفراق، والتعلل باستنشاق النسائم، وغناء الحمائم، والبروق اللامعة، والنجوم الطالعة، والتبرم من العذال، والوقوف على الأطلال. وإذا أخذت في مدح سيد فأشهر مناقبه، وأظهر مناسبه، وأرهب من عزائمه ورغب في مكارمه. واحذر المجهول من المعاني، إياك أن تشين شعرك بالعبارة الردية والألفاظ الوحشية، وناسب بين الألفاظ والمعاني في تأليف الكلام، وكن كأنك خياط تقدر الثياب على مقادير الأجسام، وإذا عارضك الضجر فأرح نفسك، ولا تعمل إلا وأنت فارغ

_ 1 الجلباب: الثوب الواسع الفضفاض. 2 الغماغم: الأصوات.

القلب، ولا تنظم إلا بشهوة فإن الشهوة نعم المعين على حسن النظم، وجملة الحال أن تعتبر شعرك بما سلف من أشعار الماضين، فما استحسن العلماء فاقصده، وما استقبحوه فاجتنبه. انتهت وصية أبي تمام. وأورد العلامة زكي الدين بن أبي الأصبع، في كتابه المسمّى "بتحرير التحبير" وصية لنفسه أوردها أيضًا على نوع التهذيب والتأديب، فاخترت منها ما هو اللائق بالحال، وأولها: ينبغي لك أيها الراغب في العمل، السائل عن أوضح السبل، أن تحصل المعنى قبل الشروع في النظم، والقوافي قبل الأبيات. قلت: وهذا مذهبنا. ثم قال ابن أبي الأصبع: ولا تكره الخاطر على وزن مخصوص وروي مقصود، وتوخ الكلام الجزل دون الرذل، والسهل دون الصعب، والعذب دون المستكره، والمستحسن دون المستهجن. ولا تعمل نظمًا ولا نثرًا عند الملل، فإن الكثير معه قليل، والنفس معه خسيس، والخواطر ينابيع، إذا رفق بها جمت1، وإذا كثر استعمالها نزحت2. واكتب كل معنى يسنح، وقيد كل فائدة تعرض، فإن نتائج الأفكار كلمعة البرق ولمحة الطرف إن لم تقيدها شردت وندت3، وإن لم تستعطف بالتكرار عليها صدت. والترنم بالشعر مما يعين عليه، فقد قال الشاعر: تغن بالشعر إما كنت قائله ... إن الغناء لقول الشعر مضمار4 وقد يكل خاطر الشاعر ويعصى عليه الشاعر زمانًا، كما روي عن الفرزدق أنه قال: لقد يمر على زمان وقلع ضرس من أضراسي أهون عليَّ أن أقول بيتًا واحدًا. وإذا كان كذلك، فاتركه حتى يأتيك عفوًا، وينقاد إليك طوعًا، وإياك وتعقيد المعاني وتقصير الألفاظ، وتوخ حسن النسق عند التهذيب، ليكون كلامك بعضه آخذ بأعناق بعض، وكرر التنقيح، وعاود التهذيب، ولا يخرج عنك ما نظمته إلا بعد تدقيق النقد وإمعان النظر. انتهى. قلت وهذا لعمري هو المراد من النوع الذي نحن في شرحه، أعني نوع التهذيب والتأديب، لا كقول الفرزدق: وما مثله في الناس إلا مملكًا ... أبو أمه حي أبوه يقاربه

_ 1 جَمّت الينابيع: كثر ماؤها. 2 نزحت الينابيع: قل ماؤها أو جفت. 3 ندت: الفكرة، نفرت وغابت. 4 المضمار: في الأصل مكان تضمرّ فيه الخيل. وللشعر: مجال.

فإن الممدوح إبراهيم بن هشام المخزومي، خال هشام بن عبد الملك وأما التقديم والتأخير ففي قوله وما مثله، البيت، فإن تقديره: وما مثله في الناس حي يقاربه إلا مملكًا أبو أمه أبوه. وسلوك طريق التعقيد في قوله أبو أمه أبوه، وكان يجزيه قوله جده. وهذا لعمري هو التعقيد الذي بينه وبين التهذيب والتأديب الذي قررناه، بعد المشرقين. وقد تقدم قولي: إن البديعيين أجمعوا على أن هذا النوع ليس له شاهد يخصه؛ لأنه وصف يعم كل كلام منقح فاختصرت الشواهد، ليظهر للمتأمل من أحرز قصبات السبق من نظام البديعيات في هذا النوع، أعني التهذيب والتأديب. ولكن رأيت العلامة زكي الدين بن أبي الأصبع قد استحسن من الشواهد اللائقة بهذا النوع قول القاضي السعيد بن سنا الملك. تغنى عليها حليها طربًا بها ... وفاحت فقلنا هذه الروضة الغنا قال: وقوله صحيح، لو لم تقدم في صدر البيت لفظة مشتقة من الغناء، حصل بها في البيت من الرونق ما لا يحسن بدونها، وكان البيت خاليًا من التهذيب، فإن بوجودها حصل في بيته تصدير وتجنيس وائتلاف وتهذيب، وانتفى عنه من العيوب عدم الائتلاف وقلق القافية، وبذلك تقدم التهذيب فإنه لو قال: زهت بأزاهير الجمال وحسنها ... وفاحت فقلنا هذه الروضة الغنا وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته على هذا النوع، يقول فيه عن النبي، صلى الله عليه وسلم: هو النبي الذي آياته ظهرت ... من قبل مظهره للناس في القدم قد تكرر قولي أنني لم أكثر من شواهد هذا النوع، إلا ليظهر فيه من أحرز قصبات السبق من نظام البديعيات. والعميان لم ينظموا هذا النوع في بديعيتهم. وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته يقول فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم: والله هذبه طفلًا وأدبه ... فلم يحل هديه الزاكي ولم يرم1 وبيت بديعيتي، أقول فيه عن النبي، صلى الله عليه وسلم: تهذيب تأديبه قد زاده عظمًا ... في مهده وهو طفل غير منفطم

_ 1 لم يحل: لم يتغير.

هذا البيت يشتمل، ببركة من أدبه فأحسن تأديبه، وهو الممدوح صلى الله عليه وسلم، على عشرة أنواع من البديع: أولها النوع الذي هو شاهد عليه وهو التهذيب والتأديب، والانسجام والسهولة، والتورية بتسمية النوع، والتتميم، والتكميل، والتمكين، والإيغال، والائتلاف، والمبالغة. ولولا الخوف من الإطالة لذكرت كل نوع في موضعه، ولكن في نظر أصحاب الذوق السليم من علماء هذا الفن ما يغني عن ذلك. والله أعلم.

ذكر ما لا يستحيل بالانعكاس

ذكر ما لا يستحيل بالانعكاس: بحر وذو أدب بدا وذو رحب ... لم يستحل بانعكاس ثابت القدم هذا النوع سماه قوم المقلوب والمستوي، وسماه السكاكي مقلوب الكل، وعرفه الحريري في مقاماته بما لا يستحيل بالانعكاس، وهو أن يكون عكس البيت، أو عكس شطره، كطرده. وهذا النوع، أعني ما لا يستحيل بالانعكاس، غايته أن يكون رقيق الألفاظ سهل التركيب منسجمًا، في حالتي النثر والنظم. وجاء منه في الكتاب العزيز: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ} 1 و {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} 2 ومن الكلام الذي رق لفظه: "أرض خضرا". وأورد الحريري في مقاماته: "ساكب كاس" وزاد في العدة: "كبر رجاء أجر ربك". وزاد في العدة أيضًا فقال: "لذ بكل مؤمل إذا لم وملك بذل". قلت هذا الكلام الذي زاد الحريري في عدة كلماته صحيح التركيب، في طرده وعكسه، ولكن لم يخف على الحذاق وأصحاب السجايا الرقيقة أن التكلف طوق جيده بطوق العقادة. وذكروا أن العلامة القاضي فتح الدين بن الشهيد، صاحب ديوان الإنشاء الشريف بالشام المحروس، تغمده الله برحمته ورضوانه، وصل في تركيب هذا النوع إلى أكثر من هذه العدة، ولكن ما وقفت له على شيء من ذلك، وإنما مولانا، المقر الأشرف القاضوي الناصري محمد بن البارزي الجهني الشافعي، صاحب دواوين الإنشاء الشريف بالممالك المحروسة الإسلامية. عظم الله تعالى شأنه، أخبر المملوك أنه وقف على ما نثره القاضي.

_ 1 الأنبياء: 21/ 33. 2 المدثر: 74/ 3.

فتح الدين المشار إليه في هذا النوع، قبل تيمورلنك، وذكر أنه في غاية العقادة، وقد تقدم القول وتقرر: أن المراد من تركيب هذا النوع نثرًا كان أو نظمًا غير كثرة العدد، والمبرز فيه هو الذي يأتي به رقيق الألفاظ سهل التركيب، رافلًا في حلل الانسجام. وممن استوعب هذه الشروط في كلام منثور، مولانا قاضي القضاة شرف الدين شيخ الإسلام ابن البارزي الجهني الشافعي نور الله ضريحه بقوله: "سور حماه بربها محروس" ومن الغايات أيضًا، في هذا النوع، قول العماد الكاتب، وقد مر عليه القاضي الفاضل راكبًا: "سر فلا كبابك الفرس". فأجابه الفاضل على الفور، وقد علم القصد: "دام علا العماد". وقال الحريري في المقامات: إن أحببت أن تنظم ... فقل للذي تعظم آس أرملا إذا عرا ... وارع إذا المرء أسا1 قلت: وهذا النظم أيضًا، لا يخفى أنه يتجافى عن الرقة بغليظ لفظه. ومن الشواهد المقبولة على هذا النوع في النظم، قول الشاعر: عج تنم قربك دعد آمنًا ... إنما دعد كبرق منتجع2 ومنها: أراهنَّ نادَمْنه ليلَ لهوٍ ... وهل ليلهن مدان نهارًا والذي وقع عليه الإجماع، أن أبلغ الشواهد على هذا النوع، الذي استوعب ناظمه فيه الشروط التي تقدم ذكرها، قول القاضي الأرجاني: مودته تدوم لكل هول ... وهل كل مودته تدوم ومثال شطر البيت الذي نسجت أبيات البديعيات على منواله: "أرانا الإله هلالًا أنارا". وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته على هذا النوع: هل من ينم بحب من ينم له ... بما رموه كمن لم يدر كيف رمى قلت الشيخ صفي الدين الحلي، غفر الله له، غير مشكور في نظم هذا البيت فإن الطرد والعكس لم يأت به إلا في الشطر الأول، وهو غير ملتزم تسمية النوع، فإن تسمية

_ 1 آس: من المواساة وهي التعزية، الأرمل: الذي ماتت زوجته، عرا: ألم. أسا: أساء. والله أعلم. 2 عج: عاج بالمكان مر به ومال إليه، المنتجع: المقصود لفائدته.

هذا النوع بما لا يستحيل بالانعكاس، تستوعب جزءًا كبيرًا من البيت، ومع عدم التزامه بشيء من ذلك، جاء بيته في غاية العقادة، ولظلمة عقادته لم يلح لي فيه لمعة اهتدى بها إلى فهم معناه. وأعجب من ذلك أن البيت مبني على مديح النبي -صلى الله عليه وسلم- والبيت الذي قبله: من مثله وذراع الشاة كلمه ... عن سمه بلسان صادق الرنم والبيت الذي بعده: هو النبي الذي آياته ظهرت ... من قبل مظهره للناس في القدم فبيت ما لا يستحيل بالانعكاس بينهما أجنبي، ونسبه بعيد من شرف هذين البيتين المنتسبين إلى النبي، صلى الله عليه وسلم: لم يستحل بانعكاس في سجيته ... مدنٍ أخا طعم معط أخا ندم1 قلت الشيخ عز الدين -رحمه الله تعالى- يعذر هنا إذا احتجبت عنه مسالك الرقة، لالتزامه بتسمية النوع الذي استوعب جزءًا كبيرًا من بيته. وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي، صلى الله عليه وسلم: بحر وذو أدب بدا وذو رحب ... لم يستحل بانعكاس ثابت القدم وقد حبست عنان القلم هنا، عن الإطناب في انسجام هذا البيت ورقة ألفاظه وتمكين قافيته، علمًا أن في إنصاف الذوق السليم من أهل الأدب ما يغني عن ذلك، والله أعلم.

_ 1 مدنٍ: من أدنى، مقرب.

ذكر التورية

ذكر التورية: أوصافه الغر قد حلت بتورية ... جيدي وعقد لساني بعد ذا وفمي التورية، يقال لها: الإيهام والتوجيه والتخيير. والتورية أولى في التسمية لقربها من مطابقة المسمّى، لأنها مصدر وريت الخبر تورية إذا سترته وأظهرت غيره، كأن المتكلم يجعله وراءه بحيث لا يظهر. وهي في الاصطلاح، أن يذكر المتكلم لفظًا مفردًا له معنيان حقيقيان، أو حقيقة ومجازًا، أحدهما قريب ودلالة اللفظ عليه ظاهرة والآخر بعيد ودلالة اللفظ عليه خفية، فيريد المتكلم المعنى البعيد ويوري عنه بالمعنى القريب، فيتوهم السامع أول وهلة، أنه يريد القريب وليس كذلك، ولأجل هذا سُمّي هذا النوع إيهامًا، ومثل ذلك قول أبي العلاء المعري: وحرف كنون تحت راء ولم يكن ... بدال يؤم الرسم غيَّره النقط فمن سمع هذا البيت توهم أنه يريد براء ودال حرفي الهجاء؛ لأنه صدر بيته بذكر الحروف وأتبع ذلك بالرسم والنقط، وهذا هنا هو المعنى القريب المتبادر أولًا إلى ذهن السامع، والمراد غيره وهو المعنى البعيد المورى عنه بالقريب؛ لأن مراده بالحرف الناقة، وبحرف النون تشبيه الناقة به في تقويسها وضمورها، وبراء اسم الفاعل من رأى إذا ضرب الرئة، وبدال اسم الفاعل من دلا يدلو إذا رفق في السير، وبالرسم أثر الدار، وبالنقط المطر. ومعنى هذا البيت أن هذه الناقة لضعفها وانحنائها مثل نون تحت رجل يضرب رئتيها ولم يرفق بها في السير فهو غير دال، وقد تقدم أن الدالي هو الرفيق ويؤم بها دارًا غَيَّر المطر رسمها. واجتماع هذه الأوصاف دليل على ضعف الناقة؛ لأنها لو كانت قوية لما احتاجت إلى ضرب رئتيها، وإلى الرفق بها مع شدة شوقه إلى ديار أحبابه، وذلك باعث على شدة السير.

قال حذاق الأدب تراكيب التورية، في هذا البيت بالنسبة إلى ديباجة المتأخرين وطلاوة ألفاظهم، وزخارف بيوتهم تستحق قول القائل: وما مثله إلا كفارغ حمص ... خليّ من المعنى ولكن يفرقع لأن هذا النوع، أعني التورية، ما تنبه لمحاسنه إلا من تأخر من حذاق الشعراء وأعيان الكتاب، ولعمري إنهم بذلوا الطاقة في حسن سلوك الأدب إلى أن دخلوا إليه من باب، فإن التورية من أغلى فنون الأدب وأعلاها رتبة، وسحرها ينفث في القلوب، ويفتح بها أبواب عطف ومحبة، وما أبرز شمسها من غيوم النقد إلا كل ضامر مهزول، ولا أحرز قصبات سبقها من المتأخرين غير الفحول، ومما يؤيد قولي هذا، قول الشيخ صلاح الدين الصفدي -رحمه الله تعالى- في ديباجة كتابه المسمّى: "بفض الختام عن التورية والاستخدام". ومن البديع ما هو نادر الوقوع، ملحق بالمستحيل الممنوع، وهو نوع التورية والاستخدام، فإنه نوع تقف الأفهام حسرى دون غايته عن مرامي المرام. نوع يشق على الغبي وجوده ... من أي باب جاء يغدو مقفلا لا يفرَع هضبته فارع1، ولا يقرع بابه قارع، إلا من تنحو البلاغة نحوه في الخطاب، وتجري ريحها بأمره رخاء حيث أصاب. وقال الزمخشري، وهو حجة في هذا العلم: ولا نرى بابًا في البيان أدق ولا ألطف من هذا الباب، ولا أنفع ولا أعون على تعاطي تأويل المشتبهات من كلام الله، وكلام نبيه -صلى الله عليه وسلم- وكلام صحابته -رضي الله عنهم أجمعين- فمن ذلك قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 2 لأن الاستواء على معنيين، أحدهما، الاستقرار في المكان، وهو المعنى القريب المورى به، الذي هو غير مقصود؛ لأن الحق تعالى وتقدس منزه عن ذلك، والثاني الاستيلاء والملك وهو المعنى البعيد المقصود الذي وُرّي عنه بالقريب المذكور. انتهى. ومنه قول النبي -صلى الله عليه وسلم- حين سئل في مجيئه عند خروجه إلى بدر فقيل لهم: ممن أنتم؟ لم يرد أن يعلم السائل فقال: "من ماء". أراد أننا مخلوقون من ماء، فورى عنه بقبيلة يقال لها ماء. ومنه ما روي عن النبي، صلى الله عليه وسلم: أنه قال: "لا يزال المنام طائرًا حتى يقص فإذا قص وقع". ففي الكلام توريتان: لفظة طائر، ولفظة يقص، ويحتمل أيضًا أن يكون في لفظة وقع تورية ثالثة. ومنه قول أبي بكر -رضي الله عنه- في الهجرة، وقد

_ 1 فَرَع: الهضبة علاها. 2 طه: 20/ 5.

سئل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من هذا؟ فقال: هادٍ يهديني. أراد أبو بكر -رضي الله عنه- هاديًا يهديني إلى الإسلام، فورى عنه بهادي الطريق، وهو الدليل في السفر. وكانت خواطر المتقدمين عن نظم التورية بمعزل، وأفكارهم مع صحتها ما خيمت عليها بمنزل، لكنها ربما وقعت لهم عفوًا من غير قصد، لأنهم على كل حال ولاة هذا الشأن، وأدلة هذا الركب. وقيل إن أول من كشف غطاءها، وجلا ظلمة إشكالها، أبو الطيب المتنبي بقوله: برغم شبيب فارق السيف كفه ... وكانا على العلات مصطحبان كأن رقاب الناس قالت لسيفه ... رفيقك قيسي وأنت يماني يريد أن كف شبيب وسيفه متنافران فلا يجتمعان؛ لأن شبيبًا كان قيسيًّا والسيف يقال له يماني، فورى به عن الرجل المنسوب إلى يمن، ومعلوم ما بين قيس ويمن من التنافر. قلت: وكأن من قال: إن أبا الطيب أول من كشف غطاء التورية، ما لمح قول عمرو بن كلثوم في معلقته عن الخمرة: مشعشعة كأن الحص فيها ... إذا ما الماء خالطها سخينا1 الشاهد هنا في سخينا، فإن العرب كانوا يسخنون الماء في الشتاء لشدة برده، ثم يمزجونها به فسخينا على هذا التقدير نعت لموصوف محذوف والمعنى: فأضحى شرابًا سخينًا، وهذا هو المعنى القريب المورى به. ويحتمل السخاء الذي هو عبارة عن الكرم، وهذا هو المعنى البعيد المورى عنه. ومراد الناظم ومما يؤيد قولي أنه المراد، قول الجوهري في الصحاح: قول من قال سخينًا من السخونة، نصب على الحال ليس بشيء فإن المراد لما خالطها الماء ومزجت به طبنا وسخينا بأموالنا: كقول عنترة: وإذا سكرت فإنني مستهلك ... مالي وعرضي وافر لم يكلم2 والحص هو الزعفران على أحد الأقوال، وهو الذي شبه صفرتها به، فإن قيل: سخا

_ 1- الحص: الزعفران وهو ذو لون أصفر شبيه بلون بعض أنوع الخمرة، وسخينا: صيغة مبالغة من السخونة، وهي منصوبة على الحال وليس كما أورد الكاتب عن الجوهري إذ ليس ما يوجب التأويل الذي لجأ إليه الكاتب بقوله: فسخينا على هذا التقدير نعت لموصوف محذوف، والمعنى: فأضحى شرابًا سخينًا. والذي نراه أن البيت يحتمل تأويلين: الأول وهو: تراها مشعشعة لونها بلون الزعفران إذا مزحت بالماء سخينا، أي مسخنًا. والثاني: إذا شربناها مشعشعة لونها بلون الزعفران ممزوحه بالماء صرنا كرامًا. 2 لم يكلم: لم يتعرض لأذى والكلم هو الجرح.

مضارعه يسخو، ويسخو من ذوات الواو فلا يجوز أن يكون سخينًا فعلًا على هذا التقدير، فالإجماع عند أهل اللغة أنه يقال: سخا يسخا وسخا يسخو، وهذا مذهب الجوهري في الصحاح، وعلى هذا التقدير، فاشتراك التورية في سخينا صحيح ممكن من الوجهين. انتهى. وكشف أيضًا عن قناع التورية في شعره النابغة الذبياني بقوله: خيل صيام وخيل غير صائمة ... تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما1 أراد بالصيام ههنا القيام، وورى بقوله: تعلك اللجما، عن الصيام. وأورد السكاكي، في المفتاح، للعرب من هذا الباب. حملناهم طرًا على الدهم بعدما ... خلعنا عليهم بالطعان ملابسًا أراد بالحمل على الدهم، تقييدهم، وأوهم بالركوب على دهم الخيل. قلت: وقبل المتنبي أيضًا بزمن طويل قال أبو نواس: فتنت قلبي محببة ... وجهها بالحسن منتقب3 قال الشيخ صلاح الدين الصفدي، في كتابه المسمى: "بفض الختام عن التورية والاستخدام" امتحنت، ببيت أبي نواس جماعة ممن حاضرتهم وذاكرتهم وعاطيتهم كئوس الأدب وعاشرتهم، فبعضهم استخرج منه النكتة، وبعضهم لم أجد له إليها لفتة. وقال البحتري: ووراء تسدية الوشاح ملية ... بالحسن تملح في القلوب وتعذب4 الشاهد في قوله: تملح، فإنه يحتمل أن يكون من الملوحة التي هي ضد العذوبة، وهو المعنى القريب المورى به، ويحتمل أن يكون من الملاحة وهو المعنى البعيد المورى عنه، وقد تقدم من لوازمه على جهة التبيين قوله: ملية بالحسن.

_ 1 العجاج: الغبار، اللجم: جمع لجام وهي حديدة توضع في فم الحصان أو الفرس حتى تسهل السيطرة عليه. 2 الدُّهم: جمع أدهم: القيود، والمصائب، والخيول السوداء اللون، الطعان: القتال. 3 منتقبة: لابسة نقابًا وهو الحجاب. 4 ملية بالحسن: كثيرة الحسن.

وأما أبو العلاء، فإنه أتى في التورية بلمعة خفية الإيماء شديدة العقادة والتكلف، وذلك في قوله: حروف السرى جاءت لمعنى أردته ... برتني أسماء لهن وأفعال إذا صدق الجدّ افترى العم للفتى ... مكارم لا تخفى وإن كذب الخال الجد هنا مشترك بين أبي الأب والسعد، ومراده السعد. والعم مشترك بين أخي الأب والجماعة من الناس، ومراده الجماعة. والخال مشترك بين أخي الأم والظن، ومراده الظن. قلت زحوف1 هذا البيت أيضًا لا تخفى إنه مكسوف بدخان العقادة، أين هذا من قول الشيخ تقي الدين السروجي: في الجانب الأيمن من خدها ... نقطة مسك اشتهى شمها حسبته لما بدا خالها ... وجدته من حسنه عمها2 ومثله في اللطف والظرافة قول الشيخ عز الدين الموصلي: لحظت من وجنتها شامة ... فابتسمت تعجب من حالي قالت قفوا واستمعوا ما جرى ... قد هام عمي الشيخ من خالي3 قلت: ولهذا وقع الإجماع على أن المتأخرين هم الذين سموا إلى أفق التورية وأطلعوا شموسها، ومازجوا بها أهل الذوق السليم لم أداروا كئوسها، وقيل إن الفاضل هو الذي عصر سلافة التورية لأهل عصره، وتقدم على المتقدمين بما أودع منها في نظمه ونثره، فإنه رحمه الله تعالى كشف بعد طول التحجب ستر حجابها، وأنزل الناس بعد تمهيدها بساحاتها ورحابها. وممن شرب من سلافة عصره، وأخذ عنه وانتظم في سلكه بفرائد دره، القاضي السعيد ابن سنا الملك، ولم يزل هو ومن عاصره مجتمعين على دور كأسها، ومتمسكين بطيب أنفاسها، إلى أن جاءت بعدهم حلبة صاروا فرسان ميدانها، والواسطة في عقد جمانها، كالسراج الوراق وأبي الحسين الجزار، والنصير الحمامي وناصر الدين حسن بن النقيب، والحكيم شمس الدين بن دانيال، والقاضي محيي الدين بن عبد الظاهر. قال الشيخ صلاح الدين الصفدي، في كتابه المسمى: "بفض الختام عن التورية

_ 1 زحوف: زحافات مصطلح عروضي يفيد تغييرًا يلحق ثاني السبب في التفعيلة العروضية. 2 الخال: نقطة سوداء تكون في الجلد "الشامة"، عمّها: أي ملأ جسمها كله. 3 عمي: تقال لكل رجل كبير في السن. وخالي: شامتي.

والاستخدام". وجاء من شعراء الشام جماعة تأخر عصرهم، وتأزر نصرهم، ولأن في هذا النوع هصرهم1 وبعد حصرهم، كل ناظم تود الشعرى2، لو كانت له شعرًا، ويتمنى الصبح لو كان له طرسًا والغسق مددًا والنثرة3 نثرًا، ما حلا من بنات فكره خودًا4 إلا شاب لحسنها الوليد، وسيرها في الآفاق وبين يديها من النجوم جوارٍ5 ومن الشعراء عبيد، كالشيخ شرف الدين عبد العزيز الأنصاري شيخ شيوخ حماة، والأمير مجير الدين بن تميم، وبدر الدين يوسف بن لؤلؤ الذهبي، ومحيي الدين بن قرناض الحموي، وشمس الدين محمد بن العفيف، وسيف الدين بن المشد. وقال الشيخ صلاح الدين في أواخر ديباجة كتابه المذكور. ومع هؤلاء جماعة يحضرني ذكرهم عند شعرهم، ويعز عليّ إذ لم أرهم على تكاثرهم لفوات عصرهم. وتلطف بقوله بعد ذلك: ولا تقل أيها الواقف على هذا التأليف، لقد أفرطت في التعصب لأهل مصر والشام، على من دونهم من الأنام، وهذا باطل ودعوى عدوان، وحمية لأوطانك ومن جاورها من البلدان. فالجواب أن الكلام في التورية لا غير، ومن هنا تنقطع المادة في السير، ومن ادعى أنه يأتي بدليل وبرهان. فالمقياس بيننا والشقراء6 والميدان. انتهى كلام الشيخ صلاح الدين الصفدي. قلت: قد تقدم وتقرر أن التورية عند علماء هذا الفن بمنزلة الإنسان7 من العين، وسموها في البلاغة سموّ الذهب على العين8، وقد ثبت أن خواطر المتقدمين كانت بها شحيحة، وأفكارهم لا تقصد مظانها9 وإن كانت سليمة صحيحة، لكنها ربما وقعت لهم عفوًا من غير مرام10، فنقول إنها رمية من غير رامٍ. وقد علم أن المتأخرين من الفاضل إلى من فضل بعدهم نور مشكاتها11، والمتفكهين في أدواح الأدب بثمراتها، فإذا جليت عرائس أفكارهم على اختلاف أنواع التورية لا يمل المتأمل، اللهم إلا أن يكون سيف

_ 1 هصرهم: غمزهم. 2 الشعرى: كوكب نيّر يطلع في الجوزاء في شدة الحر. 3 النثرة: مجموعة من النجوم في صورة السرطان تشكل المنزلة الثامنة من منازل القمر. 4 الخود: الفتاة الحسناء. 5 جوارٍ: جمع جارية: وهي الخادمة. 6 الشقراء: الفرس. 7 الإنسان: إنسان العين، بؤبؤها. 8 العين: ما ضرب نقدًا من الدنانير. 9 مظانها: أماكنها التي يصعب الوصول إليها. 10 مرام: مطلب. 11 المشكاة: مكان وضع المصباح أو القنديل.

ذهنه كليلًا1 فيقول إنه من هذا الفن متنصل2، فإن هذه العرائس لم تبرز لمتأمل إلا من خدور هذا الكتاب، وإذا طلبها من غيره توارت عنه بالحجاب، فإذا سرح المتأمل طرفه وأمسى في كل واد من محاسنها يهيم، وتنوعت حلاوات أنواعها لذوقه السليم، جردت سيف العزم وأقمت لكل نوع حدًّا، ونظمت له من أنواع التورية وأقسامها في سلك هذا النوع عقدًا، فإن الشيخ صفي الدين الحلي لم يذكر في شرح بديعيته نوعًا من أنواع التورية، ولا قسمًا من أقسامها، بل ذكر حد التورية الذي أجمع الناس عليه وقال: هي أن يأتي المتكلم بلفظة مشتركة بين معنيين قريب وبعيد، فيذكر لفظًا يوهم القريب إلى أن يجيء بقرينة يظهر منها أن مراده البعيد. قلت: ومن أين يعرف الطالب من هذا الحد التورية المجردة، والتورية المرشحة وقسميها، والمبنية وقسميها، والمهيأة وأقسامها. وكذلك العلامة زكي الدين بن أبي الأصبح، لم يذكر في كتابه المسمى "بتحرير التحبير" نوعًا من أنواعها ولا قسمًا من أقسامها، مع أن كتابه ما وضع في هذا الفن له نظير، بل قال: التورية، وتسمى التوجيه، وهي أن يكون الكلام يحتمل معنيين، فيستعمل المتكلم أحد احتماليه ويهمل الآخر، ومراده ما أهمله لا ما استعمله. وأما صاحب التلخيص فإنه قال، مشيرًا إلى البديع: ومنه التورية، وتسمى الإيهام أيضًا، وهي أن يطلق لفظ له معنيان، قريب وبعيد، وهي ضربان: مجردة ومرشحة. ولم يزد على هذا القدر شيئًا. وإذا أردت ما وعدت بإيراده من طلاوة المتأخرين في التورية، شرعت في الكلام على أنواعها وأقسامها، ليسير ركب الأدب في طرقها المتشعبة بدليل، ويصير لديباجة هذا النوع تفصيل، وقد قدمت ذكر الفاضل ومن فضل بعده، في باب الاستخدام، ولكن لم يمكن اختصارهم في باب التورية، فإنهم فرسان حلباتها، وأجل من سكن غريب نظمه بأبياتها، وكل ما أوردته لهم ولغيرهم من التورية في غير بابه، تعين نظم شمله هنا، ليجتمع كل غريب بأقاربه وأنسابه. فمن مخترعات القاضي الفاضل في التورية قوله من مديح قصيدة طائية، وهي نكتة لم تختل في صدر غيره، وهو: أما الثريا فنعل تحت أخمصه ... وكل قافية قالت لذلك طا3

_ 1 كليلًا: غير قاطع. 2 تنصل: تخلص، نفى إسهامه. 3 طا: أي طأ. أمر من وطأ.

ومثله قوله: في خده فخ لعطفة صدغه ... والخال حبته وقلبي الطائر ومثله قوله: وكنت وكنا والزمان مساعد ... فصرت وصرنا وهو غير مساعد وزاحمني في ورد ريقك شارب ... ونفسي تأبى شركها في الموارد ومن هنا أخذ الشيخ عز الدين الموصلي، وقال: لقد كنت لي وحدي ووجهك حضرتي ... وكنا وكانت للزمان مواهب فعارضني في ورد خدك عارض ... وزاحمني في ورد ثغرك شارب ومن نظم الفاضل أيضًا، في بوّاب يلقب بالبحري: وهب أن هذا الباب للرزق قبلة ... فها أنا قد وليته دونكم ظهري1 وهب أن البحر الذي يخرج الغنى ... فكلّ خرافي الشط في لحية البحر"ي"2 ومثله قوله: عاتبته فتضرجت وجناته ... والقلب صخر لا يلين لقاصد3 فنظرت من ذا في حرير ناعم ... وضربت من ذا في حديد بارد ومن اختراعاته التي لم تجل في فكر غيره، قوله من مديح قصيدة عادلية. وهذا الترب أم خد لثمنا ... فآثار الشفاه عليه شامه وهذا الدر منثور ولكن ... أروني غير أقلامي نظامه وهذي روضة تندى وسطري ... بها غصن وقافيتي حمامه ومنه قوله أيضًا: بالله قل للنيل عني إنني ... لم أشف من ماء الفرات غليلا وسل الفؤاد فإنه لي شاهد ... إن كان طرفي بالبكاء بخيلا

_ 1 قبلة: مقصدًا، وجهة والقبلة: الجهة التي يتوجه إليها المسلمون في أثناء صلاتهم وتكون فيها الكعبة الشريفة. 2 الخرا: روث الإنسان، وإضافة الياء إلى البحر تجعله اسما للبواب المقصود. 3 تضرج: أشرب حمرة. أو تلون بلون الدم.

يا قلب كم خلفت ثم بثينة ... وأظن صبرًا أن يكون جميلا1 ومنه قوله وأجاد إلى الغاية وقائل وثب الأعداء قلت له ... كما الفراش على نيرانه يثب فإن ثوب الذي عاداكم كفن ... كما بيوت الذي عاصاكم ترب2 بلغتموهم مناهم في ترفعهم ... والقوم ما ارتفعوا إلا وقد صلبوا هل السيوف عيون في الجفون لكم ... فإنها لقراب البغي ترتقب3 ومن نثره، في هذا الباب، قوله في يوم شديد المطر والبرد: والخادم في رأس جبل يتلقى الرحمة غضة قبل أن يبتذلها الناس، ويصافح الرياح عاصفة قبل أن تقتسمها الأنفاس، ويتلقى الرعد بالرعدة4، وإذا السماء انشقت استصحاها المملوك بالسجدة5. وقد تقدم القول إن ممن أخذ عنه ونهل من موارده العذبة، القاضي السعيد ابن سنا الملك فمن نظمه في هذا الباب قوله: أما والله لولا خوف سخطك ... لهان عليّ ما ألقى برهطك6 ملكت الخافقين فتهت عجبًا ... وليس هما سوى قلبي وقرطك7 ومنه قوله أيضًا: وفي الحي من صيرتها نصب خاطري ... فما آذنت في نازل الشوق بمرفع تتيه بفر منه أصل بليتي ... ولم أر أصلًا قط يسعى إلى فرع ومنه قوله: ليس إلا دمعي الذي من رأي جفـ ... ـني رآه كأن دمعي هدبي أنجم الدمع لا تغيب شروقًا ... مع أني رأيتها في الغرب

_ 1 بثينة: حبيبة جميل بن معمر الشاعر العذري، ويقصد بها مجرد الحبيبة، جميلًا: جميل بن معمر، والصبر الجميل. 2 تُرب: خربة، فاسدة. 3 عيون: حراس، الجفون: جمع جفن وهو غمد السيف، قراب: غمد، البغي: الظلم. 4 الرعدة: الإرتجاف. 5 استصحاها: طلب صحوها، بالسجدة: أي بسورة السجدة من القرآن الكريم. 6 رهط الرجل: قومه وعشيرته. 7 تاه: افتخر، القرط: ما تتحلى به المرأة في أذنيها.

ومنه قوله: صفاتك في كل الوجوه صحيحة ... فلحظك نصبي وهو إن صحفوا يصبي1 حرست الحشا من ناظريك بصارم ... فكسرة ذاك الجفن من ذلك الضرب ومما سبق إليه الناس، في هذا الباب، قوله: وفي القلب تصديع وفي الوصل جبره، وفي الخد دينار وفي الجفن كسره وأخذه الشيخ جمال الدين بن نباتة فقال: في خده وجفونه ... للحسن دينار وكسر وتلاعب الناس، بعد ابن سنا الملك، بهذا المعنى كثيرًا حتى وصل إلى المعمار فقال: كم حوى جفني معنى ... قلت ألفًا وكسورا ولم يزل ابن سنا الملك يتلاعب في التورية باختراعاته، ويسكنها في عامر أبياته، إلى أن ظهر بعده السراج فجلا غياهبها بنور مشكاته، وتعاصر هو وأبو الحسين الجزار والنصير الحمامي، وتطارحوا كثيرًا وساعدتهم صنائعهم وألقابهم في نظم التورية، حتى إنه قيل للسراج الوراق لولا لقبك وصناعتك لذهب نصف شعرك، فمن ذلك قوله: شعريتي مذ رمدت قد حبست ... طرفي عنكم فصرت محبوسًا2 الحمد لله زادني شرفًا ... كنت سراجًا فصرت فانوسًا وقال من أبيات، فيمن تلقب بالضياء، وأجاد: أمولانا ضياء الدين دم لي ... وعش فبقاء مولانا بقائي فلولا أنت ما أغنيت شيئًا ... وما يغني السراج بلا ضياء3 ومثله قوله فيه: وما أنا سائر في ليل خطب ... تساوى الصبح فيه والمساء4 فلا أنا مثل ما أدعى سراج ... ولا هو مثل ما يدعى ضياء

_ 1 نصبي: متعبي، من النصب، أو غايتي إذا كان بمعنى نصب عيني، التصحيف: هو تغيير الكلمة عن طريق زيادة نقط حروفها أو نقصها، يصبي: يعيد الصبا. 2 رمدت: هاجت وورمت، أو ذاعت واشتهرت. 3 المثل السائر أو السراج: لقب الشاعر، الضياء: لقب الممدوح. 4 الخطب: المصيبة إذا ألمت.

ومنه قوله: وكنت حبيبًا إلى الغانيات ... فألبسني الشيب هجر الشبيب1 وكنت سراجًا بليل الشباب ... فأطفأ نوري نهار المشيب وكتب إلى بعض الرؤساء: بكتبك راج لي أملي وقصدي ... وفي يدك النجاح لكل راج ولولا أنت لم ترفع مناري ... ولا عرف الورى قدر السراج2 ومنه قوله، يتقاضى من بعض الرؤساء شمعًا: ما علينا ضوء وقد أبطأ السمـ ... ـع فقوض به خيام الدياجي وتدارك بيتًا عليه ظلام ... لم يكد ينجلي بنور السراج وقال، وقد اجتمع شمس الدين بيلبك وبدر الدين آق سنقر: لما رأيت الشمس والبدر معًا ... قد انجلت دونهما الدياجي حقرت نفسي ومضيت هاربًا ... وقلت ماذا موضع السراج وظريف قوله في هذا الباب: بُنِيّ اقتدى بالكتاب العزيز ... وراح لبري سعيًا ولاجا3 فما قال لي أف مذ كان لي ... لكوني أبًا ولكوني سراجا ومنه قوله: أقول في يوم شتاء له ... من سحبه ما خلف النيلا خرجت من بيتي سراجًا وقد ... عدت بحمد الله قنديلا وكتب إلى أبي حسين الجزار في عيد الأضحى: أجبت بعيد النحر من كان سائلي ... عن الحال في عيدي وقد مر ذكره4 إذا بطل الجزار والعيد عيده ... فلا تسأل الوراق فالعذر عذره

_ 1 الشبيب: الشبيبة: الشبان والشابات. 2 الورى: الناس، السراج: أداة الضوء، ولقب الشاعر. 3 الكتاب العزيز: القرآن الكريم، ولاج: داخل، من ولج: دخل. 4 عيد النحر: من أسماء عيد الأضحى، سُمي به لأن الحجاج ينحرون الأضاحي فيه قربة إلى الله تعالى.

ومنه قوله: إلهي لقد جاوزت سبعين حجة ... فشكرًا لنعماك التي ليس تكفر وعمرت في الإسلام فازددت بهجة ... ونورًا لذا قالوا السراج المعمر1 وعمم نور الشيب رأسي فسرني ... وما ساءني أن السراج منوَّر ومن أظرف ما وقع له في هذا الباب قوله: كم قطع الجود من لسان ... قلّد في نظمه النحورا فها أنا شاعر سراج ... فاقطع لساني أزدك نورا ومثله قوله: أثنى عليَّ الأنام أني ... لم أهج خلقًا ولا هجاني فقلت لا خير في سراج ... إن لم يكن دافئ اللسان2 ومثله قوله: إذا بحت بالشكوى عنيت معاشرًا ... بلا راحة في مدحهم أتعبوا ذهني يريدونني رطب اللسان ومن رأى ... سراجًا غدا رطب اللسان بلا دهن وكتب إليه الأمير نصير الدين الحمامي، وهو مقيم بالروضة: كم قد ترددت للباب الكريم لكي ... أبل شوقي وأحيي ميت أشعاري وأثني خائبًا مما أؤمله ... وأنت في روضة والقلب في نار فكتب إليه السراج: الآن نزهتني في روضة عبقت ... أنفاسها بين أزهار وأثمار أسكرتني بشذاها فانثنيت بها ... وكل بيت أراه بيت خمار فلا تغالط فمن فينا السراج ومن ... أولى بأن قال إن القلب في نار وقال النصير يومًا للسراج الوراق: قد عملت قصيدة في الصاحب تاج الدين، وأشتهى أن تثني عليها بحضرته، وسيرها إلى الصاحب. فلما أنشدت بحضرة السراج، قال السراج بعدما فرغ منها:

_ 1 السراج المعمّر: المضاء، والسراج: لقب الشاعر، المعمّر: الذي عاش كثيرًا وكبر في السن. 2 دافئ اللسان: لا يتكلم بالفاحش من القول.

شاقني للنصير شعر بديع ... ولمثلي في الشعر نقد بصير ثم لما سمعت باسمك فيه ... قلت نعم المولى ونعم النصير ومنه قوله: طوت الزيارة إذ رأت ... عصر الشباب طوى الزياره ثم انثنت لَمّا انثنى ... بعد الصلابة كالحجارة وبقيت أهرب وهي تسـ ... ـأل جارة من بعد جاره وتقول يا ستي استرحـ ... ـنا لا سراج ولا مناره1 ومما وَرّى به عن صناعة الوراقة قوله: نصب الحشا غرضًا فقرطس إذ رمى ... وهي القلوب سهامها الأحداق2 وسألته وصلا فقال يحجني ... يا ليت شعري من هو الوراق ومثله قوله: يا خجلتي وصحائفي سود غدت ... وصحائف الأبرار في إشراق وموبخ لي في القيامة قال لي ... أكذا تكون صحائف الوراق3 ومن لطائفه، في غير لقبه وصناعته، قوله: قالوا وقد ضاعت جميع مصالحي ... لهموم نفس ليت لا حملتها قد كان عندك يا فلان صريمة ... فأجبتهم بعت الحمار وبعتها4 ومنه قوله: رفضوا الشعر جهدهم ورموه ... بينهم بالهوان والإزدراء فلو أن الكتاب كان بأيديـ ... ـهم محوا منه آية الشعراء5 وله في المعنى وأجاد: يا بني الآمال قد خاب الرجا ... وقد اشتدت وقد عز العزاء سفن الآمال في بحر المنى ... وحلت منا فأين الرؤساء

_ 1 الست: السيدة 2 قرطس: أصاب القرطاس، وأَهْلَكَ. الأحداق: سواد العيون. 3 القيامة: يوم المعاد والحساب. 4 الصريمة: العزيمة. 5 الكتاب: القرآن. آية الشعراء: سورة الشعراء.

وقال في المعنى: أصون أديم وجهي عن أناس ... لقاء الموت عندهم الأديب ورب الشعر عندهم بغيض ... ولو وافى به لهم حبيب من لطائفه قوله: وقائل لي لما أن رأى قلقي ... من انتظاري لآمال تعنينا2 عواقب الصبر فيما قال أكثرهم ... محمودة قلت أخشى أن تخرينا ومن لطائفه بعد تخرينا قوله: أتيت أرجيه في حاجة ... فلم تنبعث نفسه الجامده وفتل في ذقنه والنفوس ... تعاف المفتلة البارده3 ومنه قوله: دع الهوينا وانتصب واكتسب ... واكدح فنفس المرء كداحه وكن عن الراحة في عزلة ... فالصفع موجود مع الراحة وأنشده الجزار وهو يسرح ذقنه مماجنًا: لا تعجب من لباسي ... فكل أمري لبس4 والله ما ثَمّ مآل ... وإنما ثم نفس فأجابه على الفور: صدقت ما ثم مال ... وإنما ثم نحس وثم أخرى وأخرى ... فيها وعندك حدس ومنه قوله: ومغمومات روس باكرتنا ... بطيب شذا ولا طيب العروس فقمت بما يلين لها فقالت ... يحق لك القيام على الرءوس

_ 1 حبيب: هو أبو تمام حبيب بن أوس الشاعر. 2 عناه: الأمر، أتعبه. 3 المفتلة الباردة: كناية عن البراز وهو روث الإنسان. 4 لبس: اشتباه واختلاط.

ومنه قوله: وأحمق أضافنا ببقله ... لنسبة بينهما ووصله فمن أقل أدبًا من سفله ... قد مد في وجه الضيوف رجله ومنه قوله: وسائل يسأل مني وقد ... أنشدت شعرًا دونه الشعرى يقول لي إذ كنت في معشر ... قد عبدوا البيضاء والصفرا هل حصلت دائرة بينهم ... قلت بلى بطيخة خضرا ومنه قوله: مدحته جهدي فما اهتز من ... قولي ونادى الناس كم تتعب فقلت أرجو زبدة قيل لي ... فاتك أين اللبن الطيب ومن لطائفه أيضًا قوله: كان أيرًا صار سيرًا ... يلطم الأكساس سخره كيف لا ينفرن عني ... ومعي شيب ودره ومنه قوله: فسر لي عابر منامًا ... فصل في قوله وأجمل وقال لا بد من طلوع ... فكان ذاك الطلوع دمل ومنه قوله وقد طلب شرابًا فما وصل إليه: لا تطمعنَّ براحة من معشر ... سادوا بغير مآثر السادات قطعت عن المعروف أيديهم وقد ... سرقوا العلا فخلت من الراحات ومن نكته البديعة في مدائحه قوله: رأيت قطوف عفوك دانيات ... فنحن على المدى نجني ونجني وكم بات المسيء قرير عين ... وسيفك إن حلمت قرير جفن1

_ 1 إذا عفوت فإن سيفك يبقى لا يتحرك، قريرًا في غمده "جفن".

وكتب إلى فتح الدين بن عبد الظاهر: أنا تحت وعدك واعد أملي بما ... يرجوه من ظفر ومن نجح إذ قال أين الجود قلت أجيبه ... مع أين مبني على الفتح ومنه قوله: ومبخل بالمال قلت لعله ... يندى وظني فيه ظن مخلف1 جمع الدراهم ليس جمع سلامة ... فأجابني لكنه لا يصرف وكتبت في هذا المعنى، إلى الخواجا شهاب الدين بن لؤلؤ الذهبي، بدمشق المحروسة، وقد مطلني في صرف دنانير أحلت بها عليه: قد منعتم صرف الدنانير عني ... ولكم في الورى هبات كثيرة وأنا شاعر وفي شرع نظمي ... صرفها واجب لأجل الضروره وكتب السراج إلى بعض أصحابه يطلب كتابًا: لك في المكارم سنة مألوفة ... معروفة في الأنساب والأسباب فابعث لعبدك بالكتاب فلم تزل ... تقواك تشفع سنة بكتاب2 ومن لطائفه في شخص اسمه عرفات: أطنبوا في عرفات وغدوا ... يتعاطون له حسن الصفات ثم قالوا لي هل وافقتنا ... قلت عندي وقفة في عرفات3 ومن أغزاله قوله: وفاتك يجرح سيف لحظه ... مجردًا عن جفنه ومغمدا خاف على خديه من لحاظه ... فبات في عذاره مزردا4 ومنه قوله، وهو في غاية الحسن: ومهفهف عني يميل ولم يمل ... يومًا إلَيَّ فقلت من ألم الجوى لم لا تميل إلى يا غصن النقا ... فأجاب كيف وأنت من جهة الهوى

_ 1 يندى: يكرم، يجود. مخلف: لا يصدق. 2 شفع الأمر بالأمر: أتبعه به. السنة: ما ترك النبي -صلى الله عليه وسلم- من قول وفعل وأثر. الكتاب: القرآن. 3 وقفة: وقوف، واعتراض. عرفات: الجبل المعروف واسم الشخص. 4 العذار: الشعر ما بين العين والأذن. مزرد: مقيد بالزرد الذي شبه به العذار.

ومثله قوله: قلت للأهيف الذي فضح الغصـ ... ـن كلام الوشاة ما ينبغي لك1 قال قول الوشاة عندي ريح ... قلت أخشى يا غصن أن يستميلك ومنه قوله: عذبت طرفي بالسهاد فليله ... قد مات عنه تعيش أنت صباحه وألح سائل أدمعي فحرمتني ... ولكم أضر بسائل إلحاحه وقال في مليح قلندري: عشقت من ريقته قرقفًا ... وما لها إذ ذاك من شارب2 قلندريًّا حلقوا حاجبًا ... منه كنون الخط من كاتب سلطان حسن زاد في عدله ... فاختار أن يبقى بلا حاجب ومنه قوله: ولنا ساقٍ جواد كفه ... وكَفَتْ بالراح سحبًا بعد سحب3 قال يوم فاق كعبًا في الندى ... قمت لا غرو لساق فوق كعب4 ومنه قوله: يا ساكنًا قلبي على أنه ... بوجده في قلق دائب قلبي من خوف النوى واجب ... وأنت لم تخرج عن الواجب5 نكتة الواجب أخذها الشيخ جمال الدين بن نباتة، ولكن سبكها في غير هذا القالب، في قوله في رامي بندق: إسعد بها يا قمري برزة ... سعيدة الطالع والغارب6 صرعت طيرًا وسكنت الحشا ... فما تعديت عن الواجب

_ 1 الوشاة: جمع واشي وهو المفسد بين المتحابين. 2 القرقف: الخمر. 3 وكف: صب. انهل. 4 الندى: الكرم والعطاء. لا غرو: ليس غريبًا. 5 وجب: خفق، واضطرب. 6 البرزة: المرأة التي تجالس الرجال.

ويعجبني من تغزلات السراج الوراق قوله: أقول لهم شبهت بالغصن قدها ... فقالوا رأينا قدها منه أرشقا فقلت وبالرمان شبهت نهدها ... فقالوا إذن شبهت شيئًا محققا ومنه قوله: وقفت بأطلال الأحبة سائلًا ... ودمعي يسقى ثم عهدًا ومعهدا ومن عجب أني أروي ديارهم ... وحظي منها حين أسألها الصدا1 ومنه قوله: وبي من البدو كحلاء الجفون بدت ... في قومها كمهاة بين آساد بنت عليها المعالي من ذوائبها ... بيتًا من الشعر لم يمدد بأوتاد وأوفدت وجناتها النار لا لقرى ... لكن لأفئدة من وأكباد2 فلو بدت لحسان الخصر قُمْنَ لها ... على الرءوس وقلن الفضل للبادي قلت ديوان الشيخ سراج الدين الوراق سبعة مجلدات من القطع الكامل، ولكن الذي جنيته وفكهت المتأمل به هنا هو ثمرات تلك الأوراق، وجمع الشيخ صلاح الدين الصفدي من ديوانه كتابًا لطيفًا وسماه: "لمع السراج" ولكن رأيت نور السراج فيه قليلًا. ومن مقاطيف الجزار في سمين التورية، قوله موريًا في صناعته: ألا قل للذي يسأ ... ل عن قومي وعن أهلي لقد تسأل عن قوم ... كرام الفرع والأصل ترجيهم بنو كلب ... وتخشاهم بنو عجل3 ومثله قوله: إني لمن معشر سفك الدماء لهم ... دأب وسل عنهم إن رمت تصديقي تضيء بالدم إشراقًا عراصهم ... فكل أيامهم أيام تشريق4

_ 1 الصدا: العطش. 2 القِرى: إطعام الضيوف. 3 الكلب، يرجو الجزار لما يرميه له، والعجل يخشاه لما يفعله به. 4 العراص: ساحات الدور. أيام التشريق: أيام ثلاثة تلي أيام الحج مباشرة وعيد الأضحى على الخصوص، تشرق فيها لحوم الأضاحي أي تقدد.

ومثله قوله: أصبحت لحامًا وفي البيت لا ... أعرف ما رائحة اللحم واعتضت من فقري ومن فاقتي ... عن التذاذ الطعم بالهم جهلته فقرًا فكنت الذي ... أضله الله على علم ومثله قوله: أعمل في اللحم للعشاء ولا ... أنال منه العشا فما ذنبي خلا فؤادي وفي فمي وسخ ... كأنني في جزراتي كلبي1 وظريف قوله: كيف لا أشكر الجزارة ما عشـ ... ـت حفاظًا وأرفض الآدابا وبها صارت الكلاب ترجيـ ... ـني وبالشعر كنت أرجو الكلابا وقلبه أيضًا وقال: لا تعبني بصنعة القصاب ... فهي أذكي من عنبر الآداب2 كان فضلي على الكلاب فمذ صر ... ت أديبًا رجوت فضل الكلاب ومثله قوله: معشر ما جاءهم مسترفد ... راح إلا وهو منهم معسر أنا جزار وهم من بقر ... ما رأوني قط إلا نفروا3 وقال متهكمًا على المتنبي: تعاظم قدري على ابن الحسين ... فذهني كالعارض الصيب4 وكم مرة قد تحكمت فيه ... لأن الخروف أبو الطيب5

_ 1 الجزارة: دكان الجزار، وهو هنا بيته. 2 القصاب: الجزار. 3 نقر: خاف وهرب، نقز. 4 ابن الحسين: هو المتنبي واسمه: أحمد بن الحسين الجعفي. العارض: المطر في غير أوانه. الصيب: الغزير. 5 أبو الطيب: كنية المتنبي.

وكتب إليه الشيخ نصير الدين الحمامي، موريًا عن صناعته: ومذ لزمت الحمام صرت بها ... خلا يداري من لا يداريه أعرف حر الأشياء وباردها ... وآخذ الماء من مجاريه فأجابه أبو الحسين الجزار بقوله: حسن التأني مما يعين على ... رزق الفتى والحظوظ تختلف والعبد مذ صار في جزارته ... يعرف من أين تؤكل الكتف ومن لطائفه البديعة، ما كتب به إلى بعض الرؤساء، وقد منع من الدخول إلى بيته في يوم فرح: أمولاي ما من طباعي الخروج ... ولكن تعلمته من خمول أتيت لبابك أرجو الغنى ... فأخرجني الضرب عند الدخول وكتب إلى بعض الرؤساء يستهدي منه قطرًا: يا علم الدين الذي جود كفه ... براحته قد أخجل الغيث والبحرا لئن أمحلت أرض الكنافة إنني ... لأرجو لها من سحب راحته القطرا1 هذا القطر تحلى به الشيخ جمال الدين بن نباتة بقوله: لجود قاضي القضاة أشكو ... عجزي عن الحلو في صيامي والقطر أرجو ولا عجيب ... للقطر يرجى من الغمام تلاعب الناس به بعده كثيرًا. ويعجبني من تغزلات أبي الحسين الجزار قوله: تكلف بدر السما إذ حكى ... محياك لو لم يشنه الكلف2 وقام بعذري فيك العذار ... فأجرى دموعي لما وقف

_ 1 الكنافة: نوع من الحلوى. القطر: هو السكر مذابًا بالماء ومغليًّا مع إضافة قليل من الحامض إليه والعطاء. 2 الكلف: حبوب سمراء تعتري وجه الحامل "النمش".

ومنها قوله: حمت خدها والثغر عن حائم شج ... له أمل في مورد ومورد1 وكم هام قلبي لارتشاف رضابها ... فأعرب عن تفصيل نحو المبرد2 ومن لطائف مجونه في التورية قوله: تزوج الشيخ أبي شيخة ... ليس لها عقل ولا ذهن لو برزت صورتها في الدجى ... ما جسرت تبصرها الجن كأنها في فرشها رمة ... وشعرها من حولها قطن3 وقائل قال ما سنها ... فقلت ما في فمها سن قال الشيخ أثير الدين أبو حيان: رأيت أبا الحسين بالقاهرة عند الشيخ قطب الدين بن القسطلاني، فقال لي الشيخ قطب الدين: هذا هو الأديب أبو الحسين الجزار، فأنشدني لنفسه، وكتبت عنه: من منصفي من معبر ... كثروا عليَّ وأكثروا صادقتهم وأرى الخروج ... من الصداقة يعسر كالخط يسهل في الطرو ... س ومحوه يتعذر وإذا أردت كشطته ... لكن ذاك يؤثر4 ومما شرح الصدور والقلب من قول الحمامي: وكدرت حمامي بغيبتك التي ... تكدر فيها العيش من كل مشرب فما كان صدر الحوض منشرحًا بها ... ولا كان قلب الماء فيها بطيب ومنه قوله: لي منزل معروفة ... ينهل غيثًا كالسحب أقبل ذا العذر به ... وأكرم الجار الجنب5

_ 1 الحائم: الذي يحوم حول الشيء ولا يستطيع الوصول وهو بأمس الحاجة إليه. المورد: مكان الوُرُود أي الشرب. ويقصد هنا الفم لما فيه من الرضاب. الموَرّد: الخد. 2 الرضاب: الريق. أعرب: انكشف، عن أسنان كأنها البرد المنضود. 3 الرِّمَّة: بقية الجثة بعد الموت 4 كشط: أزال. 5 الجنب: القريب الذي بيته إلى جانب بيتك.

ومن لطائفه، ما كتب به إلى السراج الوراق، على يد مليح ولسانه: عبدك يا مولاي وافى بها ... وَفّى بها معنى لمن يعقل وهو على الباب ومقصوده ... وفيك فهم أنه يدخل ومن نكته اللطيفة قوله: أصبحت من أغنى الورى ... وطائرًا بالفرح الخمر عندي ذهب ... أكتاله بالقدح وقوله: أقول للكاس إذ تبدى ... بكف أحوى أغن أحور1 أخربت بيتي وبيت غيري ... وأصل ذا كعبك المدور ومن لطائفه في تغزلاته قوله: ما زال يسقيني زلال رضابه ... لما خفيت ضنى وذبت توقدًا ويظنني حيًّا رويت بريقه ... فإذا دعا قلبي يجلو به الصدى أخذه الشيخ جمال الدين بن نباتة وتقوى عليه بالسيف، فقال: أدعو السيوف صقيلة من لحظه ... وإذا دعوت لماه جاوبني الصدى2 ومن لطائفه في مداعباته قوله: رأيت شخصًا آكلًا كرشة ... وهو أخو ذوق وفيه فطن وقال ما زلت محبًّا لها ... قلت من الإيمان حب الوطن وممن انتظم في سلك الجماعة وانتصر للتورية وحسن مواقعها، ناصر الدين حسن بن النقيب: وجردت مع فقري وشيخوختي التي ... بها اليوم نومي عن جفوني مشرد فلا يدعي غيري مقامي فإنني ... أنا ذلك الشيخ الفقير المجرد

_ 1 الأحوى: الأسود لشدة نضارته، الأغن: في صوته غنّه. الأحور: الشديد بياض، بياض العين وسواد سوادها. 2 اللما: الرفقة. الصدى: رجع الصوت.

ومن نكته الغريبة في التورية قوله: أقول وقد شنوا إلى الحرب غارة ... دعوني فإني آكل الخبز بالجبن ومثل ذلك قوله: أقول لنوبة الحمى أتركيني ... ولا يك منك لي ما عشت أوبه1 فقالت كيف يمكن ترك هذا ... وهل يبقى الأمير بغير نوبه2 ومن لطائفه قوله: قالوا رأينا العلق ينق مسرفًا ... والعلق لا شيء لديه ولا معه3 فأجبتهم إنفاقه من جحره ... قالوا صدقت لذاك ينفق من سعه ومن لطائف ما وقع في تورية السعة، قول أبي الحسين الجزار وقد وقف على باب ابن الزبير ومنع من الدخول دون غيره، فكتب رقعة وأرسلها إلى ابن الزبير، فإذا فيها: الناس قد دخلوا كالأير أجمعهم ... والعبد مثل الخصي ملقى على الباب فلما وقف ابن الزبير على هذا البيت، أمر بعض الخدم أن يقف على الباب وينادي، ادخل يا خصي فدخل وهو يقول: هذا دليل على السعة، ومنه قوله: ومكرش أضحى يحلق سفله ... لعساه لا يشكى إليه ويشكر ويقص لحيته فإن ناديته ... لباك وهو محلق ومقصر ويعجبني من لطائفه قوله في داره: ودار خراب بها قد نزلت ... ولكن نزلت إلى السابعة4 طريق من الطرق مسلوكة ... محجتها للورى شاسعه فلا فرق ما بين أني أكون ... بها أو أكون على القارعه تساررها هفوات النسيم ... فتصغى بلا أذن سامعه

_ 1 الأوبة: واحدة الإياب وهو الرجوع. 2 النوبة: الأولى بمعنى: دورة الوجع والثانية بمعنى الحاشية والحرس. 3 العِلق: النفيس من كل شيء. 4 السابعة: أي الأرض السابعة.

وأخشى بها أن أقيم الصلاة ... فتسجد حيطانها الراكعة إذا ما قرأت إذا زلزلت ... خشيت بأن تقرأ الواقعة1 ومنه قوله: جودوا لتسجع بالمديـ ... ـح على علاكم سرمدا فالطير أحسن ما يغرد عنـ ... ـد ما يقع الندى ومن بدائع أغزاله قوله: وما بي سوى عين نظرت لحسنها ... وذاك لجهلي بالعيون وغرتي2 وقالوا به في الحب عين ونظرة ... لقد صدقوا عين الحبيب ونظرتي ومن لطائف مجونه قوله: نفقت لي رأس من الخيل كانت ... تسبق البرق والرياح الزعازع3 وابتلى الله في المشاعر أخرى ... بشقاق لها عن المشي مانع وإذا قيل كم بقي لك رأس ... قلت رأس لكن بغير كوارع4 ومن لطائفه أيضًا في تورية المطوق قوله: أنت طوقتني صنيعًا وأسمعتك ... شكرًا كلاهما ما يضيع5 فإذا ما شجاك سجعي فإني ... أنا ذاك المطوق المسموع6 ومن هنا أخذ الشيخ جمال الدين بن نباتة سجع المطوق، ووصل به عدة مقاطيع، ومن غاية تغزلاته قوله: رميت بمهجتي جمرات شوق ... ولم تأخذ بالمشتاق رأفه فهرول دمع عيني فوق خدي ... وما حصلت له مع ذاك وقفه

_ 1 "إذا زلزلت" "والواقعة" من سور القرآن الكريم. 2 الغِرة: الإغترار وعدم التجريب. 3 نفق: الحيوان، مات. الزعازع: الهوجاء. 4 الكوارع: القوائم. 5 الصنيع: عمل المعروف. 6 المطوق، والمطوقة: الحمامة.

ومن لطائف مجونه قوله: قال لي الواسع صف لي ... مثل ما أعرف وصفك أين باب الخرق قل لي ... قلت باب الخرق خلفك ومن غرائب النكت قوله: أبيات شعرك كالقصو ... ر ولا قصور بها يعيق ومن العجائب لفظها ... حر ومعناها رقيق1 ومن بديع اختراعاته قوله: قالوا قد احترقت بالنار راحته ... وهي الغمام ومنها الوابل الغدق2 وقال قوم وما ضلوا وما وهموا ... بأنها النيل قلت النيل يحترق ومن غريب نكته قوله: بخالد الأشواق يحيي الدجى ... يعرف هذا العاشق الوامق3 فخذ حديث الوجد عن جعفر ... من دمع عيني إنه الصادق ومن بديع تغزله قوله: يا مالكي ولديك ذلي شافعي ... ما لي سألت فما أجبت سؤالي فوخدك النعمان إن بليتي ... وشكايتي من جفنك الغزال4 ومن بديع غزله قوله: أقول لمن جفنه سيفه ... ولكنه ليس يخشى نبوّه5 تكلف جفنك حمل الفتور ... وأخرج فيه من الضعف قوة ومن نكته الغريبة قوله: قلت لسقم الجسم متى وقد ... أفرط بي فرط ضنى واكتئاب فعلت بي يا سقم ما لم يكن ... تلبس والله عليه الثياب

_ 1 الرقيق: العبد، أو من الرقة. 2 الوابل الغدق: المطر الغزيل. 3 الوامق: المحب. 4 النعمان: شقائق النعمان والنعمان بن المنذر الملك. الغزال: والغزالي الفيلسوف. 5 نبوَّه: من نبا السيف إذا أخطأ، والسهم طاش ولم يصب.

وممن حصل الجلاء لعيون التورية بملاطفته، الحكيم شمس الدين بن دانيال، من لطائفه قوله: يا سائلي عن حرفتي في الورى ... وا ضيعتي فيهم وإفلاسي ما حال من درهم إنفاقه ... يأخذه من أعين الناس ومنه قوله: كم قيل لي إذا دعيت شمسًا ... لا بدَّ للشمس من طلوع فكأن ذاك الطلوع داء ... يرقى إلى السطح من طلوعي ومن لطائفه أيضًا قوله: ما عاينت عيناي في عطلتي ... أقل من حظي ومن بختي قد بعت عبدي وحماري معًا ... وصرت لا فوقي ولا تحتي2 ومن لطائفه أيضًا في جارية تضرب بالدف، وأجاد قوله: ذات القوام الذي يهتز غصن نقا ... لو مر يومًا عليه طائر صدحا تبدي على الدف كالجمار معصمها ... لنقره ببنان يشبه البلحا غناؤها برقيق الغنج تمزجه ... فما ينقط إلا كل من رشحا3 ومن اختراعاته البديعة قوله: أيا سائلي عن قد محبوبي الذي ... فتنت به وجدًا وهمت غراما أبي قصر الأغصان ثم رأى القنا ... طوالًا فأضحى بين ذاك قواما وممن أحيا رسوم التورية وأظهر خفيها، القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر، ومن نظمه فيها: لقد قال كعب في النبي قصيدة ... وقلنا عسى في فضلها نتشارك فإن شملتنا بالجوائز رحمة ... كرحمة كعب فهو كعب مبارك

_ 1 البخت: الحظ والنصيب. 2 وصرت لا فوقي ولا تحتي: مثل يقال للذي يكون عنده شيء فيبيعه فيصير معدمًا ويحتاج إلى المعونة. 3 رشح: سال ببطء، نزّ.

ومن لطائفه قوله: لا ينقل الروض أحاديثه ... عن عين نمام غدت حافيه1 فإنه ينقل أخباره ... إلى أعين عنده صافيه ومثله قوله: يا قاتلي بلحاظ ... قتيلها ليس يقبر إن صبروا عنك قلبي ... فهو القتيل المصبر وقال: إن لوزي جلق ... واهن الحبل والقوى لم يكلفك كسره ... فالق الحب والنوى ومن نظمي في هذا المعنى، في المشمش السلطاني بحماة: قال سلطاني حماة عندما ... أجلسوه مذ أتاهم في الصدور مشمش الشام يقوي قلبه ... يوم نقع فهو قد أضحى وزيري2 ومن لطائف القاضي محيي الدين قوله: شكرًا لنسمة أرضكم ... كم بلغت عني تحية لا غرر أن حفظت أحا ... ديث الهوى فهي الذكية وهذه النكتة أخذها الشيخ صلاح الدين الصفدي، وقال: يا طيب نشر هبَّ لي من نحوكم ... فأثار كامن لوعتي وتهتكي3 أهدي تحيتكم وأشبه لطفكم ... وروى شذاكم إن ذا نشر ذكي وأشار إلى هذه السرقة الشيخ شهاب الدين بن أبي حجلة، بقوله، ولم يخرج عما نحن فيه من التورية: إن ابن أيبك لم تزل سرقاته ... تأتي بكل قبيحة وقبيح نسب المعاني في النسيم لنفسه ... جهلًا فراح كلامه في الريح

_ 1 النمام: الذي يسعى بين الناس بهدف الإيقاع بينهم. حافية: ضعيفة لكثرة استعمالها. 2 النقع: بلّ الشيء بالماء. 3 التهتك: إهمال النفس.

ومن نكته البديعة الغريبة قوله: لا تسلني عن أول العشق إني ... أنا فيه قديم هجر وهجره من دموعي ومن جبينك أرخـ ... ـت غرامًا بمستهل وغره1 وتطفل الشيخ عز الدين الموصلي على هذا المعنى، ولكن سبكه في قالب حسن، بقوله من قصيدة: فيا هاجري عامًا لقد ضل عاذلي ... وليس له وجه وتاريخه سلخ ومن لطائفه قوله بمنزلة القطيفة بالقرب من دمشق: هذي القطيفة التي ... لا تشتهي عقلًا ونقلا حشيت ببرد يابس ... فلأجل ذاك الحشو تقلى2 ومن لطائفه قوله: ضفر الشعر وألقى ... خلفه كالقطن وفره قلت ماذا قال شيب ... قلت والله ودره ومن لطائفه قوله في معشوقه المعنى المسمى بالنسيم: إن كانت العشاق من أشواقهم ... جعلوا النسيم إلى الحبيب رسولا فأنا الذي أتلو لهم يا ليتني ... كنت اتخذت مع الرسول سبيلا ومثله قوله فيه: يا من غدا لي من عوا ... صف هجره الريح العقيم3 أترى يطيب لي الهوى ... ويقال لي رق النسيم ومن لطائفه قوله: سلّ سيفًا من جفنه ثم أرخى ... وفرة وفرت عليه الحميلة4 إن شكا الخصر طولها غير بدع ... لنحيل يشكو الليالي الطويلة

_ 1 المستهل: الدمع. الغرة: أول الشعر من مقدم الرأس. 2 تقلى: تكره وتهجر. 3 الريح العقيم: التي لا تفيد، والعقيم في الأصل من لا ينجب. 4 الحميلة: حميلة السيف، مكان في الرحل يوضع فيه السيف.

وألم به ابن العفيف، فقال: حلَّ ثلاثًا يوم حمامه ... ذوائبًا تعبق منها الغوال1 فقلت والقصد ذؤاباته ... يا سهري في ذي الليالي الطوال وهذا المعنى تلاعب به جماعة من المتأخرين، ولولا الخيفة من طول الشرح لذكرت ذلك، ولكن لا بدّ أن يرد على المتأمل في مواضعه، ويعجبني قوله: وبروحي هويته عجميًّا ... لي ذلت ألفاظه الغتمية2 كم حلا عجمه فقلت لخلي ... خلني والحلاوة العجمية ومن لطائف مجونه قوله: وأعور العين ظل يكشفها ... بلا حياء منه ولا خيفه وكيف يُلفى الحياء عند فتى ... عورته لا تزال مكشوفه3 ومنه قوله: قال لي العلق وقد جئته ... أريه أيرًا فاق في حسنه أيرك هذا مات قلت انحنى ... كرامة الميت في دفنه ويعجبني من خمرياته قوله: خمرة للشقيق أمست شقيقه ... بنت كرم بالمكرمات خليقه4 قال قوم من لطفها هي في الكا ... س مجاز والكاس فيها حقيقه أنتجت فرحة وجاءت بكأس ... صبغت حمرة فنعم الشقيقه ومن بديع اقتباسه بالتورية قوله: بأبي فتاة من كمال صفاتها ... وجمال بهجتها تحار الأعين كم قد دفعت عواذلي عن وجهها ... لما تبدت بالتي هي أحسن

_ 1 الغوال: جمع غالية وهي أخلاط من الطيب، كالمسك والعنبر وغيرهما. 2 الغتمية: غير الفصيحة لعجمة قائلها. من غتم: إذا لم يفصح لعجمة في منطقه. 3 يُلفى: يوجد. العورة: ما حرم الله كشفه من جسم الإنسان. وهو القبل والدبر. ومن المرأة معظم جسمها لقوله صلى الله عليه وسلم: "المرأة عورة كلها". 4 خليقه: حقيقه وجديرة.

هذا الاقتباس بالتورية أخذه الشيخ جمال الدين بقافيته، ولكن زاده إيضاحًا بقوله: يا عاذلي شمس النهار جميلة ... وجمال فاتنتي ألذ وأزين فانظر إلى حسنيهما متأملًا ... وادفع ملامك بالتي هي أحسن وألم به الشيخ عز الدين الموصلي وما خرج عن إيضاحه أيضًا بقوله: قد سلونا عن المليح بخود ... ذات وجه به الجمال تفنن1 ورجعنا عن التهتك فيه ... ودفعناه بالتي هي أحسن ومن لطائفه قوله: ذات طوق وذات زيق تغنى ... فتنبي بالوجد من ليس يدري2 زيفت ثم كاشفتنا فقلنا ... لك زيق الغنى ولى زيق فقري ما تراها قد حدثت خاطر النهر ... بما قد جرى وما منه يجري ومن لطيف كلامه قوله: وبطحاء في واد يروقك روضها ... ولا سيما إن جاد غيث مبكر تلاحظها عين تفيض بأدمع ... يرقرقها منه هنالك محجر إذا فاخرتها الريح وهي عليلة ... بأذيال كثبان الربا تتعثر بها الفضل يبدو والربيع وقد غدا ... بها الروض يحيا وهو لا شك جعفر3 وقال في مليحة اسمها وردة: بأبي وردة مولدة الحسـ ... ـن دعوها بوردة البستان في التصاوير مثلها ليس يلفى ... فيقولون وردة كالدهان4 ومن تواريه الغريبة في المواليا في مليح مشطوب: لك طرف أحور حمى من حسنك السرحه ... كم قد أغار على العشاق في صبحه لما علمت بانو سابق اللمحة ... عليه خفت فشطبتو على صحه

_ 1 الخود: الفتاة الحسناء. 2 الزيق: ما يخاط بالقميص لتقويته به. وزيقت: جعلت لقميصها زيقًا. 3 الفضل والربيع ويحيى وجعفر: بالإضافة إلى أنها أسماء أشخاص فإنها مستعملة هنا بمعانيها الأُخَر، وهي: الفضل: الشيء الفاضل والخير، والربيع: الفصل المعروف. يحيا: من الحياة. جعفر: نهر. 4 يلفى: يوجد. الدهان: الصباغ الأحمر يدهن به.

ومن نكته الغريبة في أغزاله قوله: ذباب السيف من لحظ إليه ... لأخضر صدغه حسن انتسابي1 ولا عجب إذا ما قيل هذا ... له صدغ زمرده ذبابي2 ومن اختراعاته الغريبة قوله: كتبت لكم من أعين القصب التي ... لها من معانيكم ومن نفسها طرب فإن أطرب التشبيب فيها بذكركم ... فكم أطرب التشبيب من أعين القصب ومن هنا أخذ المعمار، فقال: هويته مشببا ... جماله برَّح بي تيم قلبي بالحجا ... ز من عيون القصب ومن مخترعات القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر قوله: ملأت الليالي من علا وختمتها ... فقد أصبحت محشوّة بمكارمك ختمت عليها بالثريا فقل لنا ... أهذا الذي في كفها من خواتمك ومنه قوله: يا سيدي إن جرى من مدمعي ودمي ... للعين والقلب مسفوح ومسفوك لا تخش من قود يقتص منك به ... فالعين جارية والقلب مملوك3 ومنه قوله: ذو قوام يجور منه اعتدال ... كم طعين به من العشاق سلب القضب لينها فهي غيظى ... واقفات تشكوه بالأوراق ومنه قوله: يا رب كأس صرت من شربها ... من بعد رشفي ريق معشوقي ملتهب الأحشاء نارًا لأن ... شربتها منه على الريق

_ 1 ذباب السيف: حده. الصدغ: الشعر ما بين العين والأذن. 2 ذُبابي: أي حاد كذباب السيف. أو لونه شبيه بلون الذبابة وهي الحشرة المعروفة. 3 القود: الدية. اقتص: أخذ منه قصاصًا. جارية: بالدمع وعبدة. ومملوك: عبد.

ويعجبني منه قوله: أنت من وجه ولحظ ... لك دينار وكسر1 هذا الدينار والكسر، اغتصبه الشيخ جمال الدين بن نباتة ولم يسبكه في غير قالبه، فقال: أفدي حبيبًا لي إلى ... مرآه طول الدهر فقر في خده وجفونه ... للحسن دينار وكسر وهذه زاوية اخترتها من ديوان الشيخ الإمام العلامة شيخ الشيوخ عبد العزيز الأنصاري الحموي، سقى الله ثراه، أما بعد حمدًا لله الذي أطلعنا من زوايا الأدب على خبايا، وأرشدنا بمشايخ شيوخه إلى سلوك ما فيه من المزايا، والصلاة والسلام على نبيه الذي اختاره فكان نعم المختار، وعلى آله وصحبه المنتظمين في سلك هذا الاختيار. فقد انتهى ما أوردته منوعًا في التورية من الحلاوات القاهرية، وقد تعين أن أُفَكِّهَ المتأمل بعد ذلك بالفواكه الشامية، وأقتطف له من فروع شيخ الشيوخ ما يظهر به مزية الثمرات الحموية، وقدرة السلطنة في الأدب وناهيك بالسلطنة الشيخية. فاخترت من أبيات قصائده ومواصيل مقاطيعه ما يحلو بها التشبيب، وسميته زاوية شيخ الشيوخ علمًا بأنها زاوية يتأهل بها الغريب، والله تعالى يجعلنا ممن تخير العمل الصالح فأحسن، وسمع القول فاتَّبع منه الأحسن. فمن ذلك قوله من قصيدة: ويلاه من نومي المشرد ... وآه من شملي المبدد يا كامل الحسن ليس يطفي ... ناري سوى ريقك المبرد منها ووصل إلى المخلص، وهو في غاية الحسن قوله: غصن نقا حل عقد صبري ... بلين خصر يكاد يعقد2 فمن رأى ذلك الوشا ... ح الصائم صلى على محمد ومنه قوله من قصيدة: لنا من ربة الخالين جاره ... تواصل تارة وتصد تاره تعاملني بما يحلي سلوي ... ولكن ليس في حلو مراره

_ 1 الكسر: من الدينار ما يقل عنه من العملة. 2 غصن النقا: الغصن الطري الذي جرى فيه الماء.

ومنه قوله وهو مطلع قصيدة: حروف غرامي كلها حرف إغراء ... على أن سقمي بعض أفعال أسماء ومن هنا أخذ الشيخ جمال الدين وقال: أودت فعالك يا أسما بأحشائي ... واحيرتي بين أفعال وأسماء ومن بديع نكته قوله: وبدر دجى لم ينتقل كسميه ... ولكنه ما زال في القلب والطرف يلوح لعيني ما شقا نون صدغه ... فأعبد خلّاقي على ذلك الحرف هذه النكة أخذها ابن الوردي بقافيتها وغالب ألفاظها ومعناها، فقال: يا بدر تم نوره باهر ... منزله في القلب والطرف صدغك حرف النون في مشقه ... من يعبد الله على حرف1 ولعمري إنها سرقة فاحشة، ومنه قوله: أقام لخده الناري عذارًا ... ومذ أقصى عذاري وهو ثلجي حمى مرج العذار بمقلتيه ... فأمشى الناس في هرج ومرج2 ومنه قوله في التورية، مع بديع الاقتباس: يا نظرة ما جلت لي حسن طلعته ... حتى انقضت وأدامتني على وجل عاتبت إنسان عيني في تسرعه ... فقال لي خلق الإنسان من عجل أخذه الشيخ جمال الدين بن نباتة، وجعله مطلعًا لقصيدة، فقال: إنسان عيني بتعجيل السهاد ملى ... عمري لقد خلق الإنسان من عجل ومنه قول الشيخ عز الدين شيخ الشيوخ، وتلطف ما شاء مع قصر الوزن: وغمام معربد ... ببروق وزمجره غادر الروض ناضرًا ... بعيون مخضره

_ 1 الذي يعبد الله على حرف: السريع الانقلاب إلى الكفر عندما تواجهه أبسط المصاعب في سبيل الله سبحانه وتعالى. 2 الهرج والمرج: ثورة الفوضى.

ومنه قوله: قلت وقد عقرب صدغًا له ... عن مشقة الحاجب لم يحجب قد سدت يا رب الجمال الذي ... ألف بين النون والعقرب1 وقال، وتلطف ما شاء، وأظنه أول من ورى بهذه النكتة: أفدي حبيبًا رزقت منه ... عطف محب على حبيب بوجنة من أتم ربحي ... وقد غدا وردها نصيبي ومن هنا أخذ الشيخ جمال الدين بن نباتة وغيره، وقول الشيخ جمال الدين بن نباتة: فديتك غصنًا ليس يبرح مثمرًا ... من الحسن في الدنيا بكل غريب تفتح في وجناته الورد أحمرا ... فيا ليت ذاك الورد كان نصيبي ومنه قوله: لا تنس وجدي بك يا شادنًا ... بحبه أنسيت أحبابي2 ما لي على هجرك من طاقة ... فهل إلى وصلك من باب3 ومنه قوله: مرضت ولى جيرة كلهم ... عن الرشد في صحبتي حائد فأصبحت في النقص مثل الذي ... ولا صلة لي ولا عائد4 ومن هنا أخذ الشيخ عز الدين الموصلي، وقال: أهل دمشق قد مرضت عندهم ... وما قصدت نحوهم بمسألة مع علمهم بأنني أنا الذي ... ولا أتاني عائد ولا صلة ومنه قوله: قالوا أما في جلق نزهة ... تنسيك من أنت به مغرى يا عاذلي دونك من لحظه ... سهمًا ومن عارضه سطرًا

_ 1 النون: الحاجب في وسطه العين والعقرب: الشعر ما بين الأذن والعين مجعدًا على التشبيه. 2 الشادن: الغزال. 3 الطاقة: القدرة والشبّاك. 4 الصلة والعائد: في الأصل الأقرباء والزوار أو العطاء والهبة، وفي المصطلح النحوي الصلة ما يصل بين جملتين، والعائد: ضمير يعود على متأخر في الكلام.

السهم وسطرى من منتزهات دمشق المشهورة، ومن هنا أخذ الشيخ جلال الدين بن خطيب داريا وقال: سألتكما إن جئتما الشام بكرة ... وعاينتما الشقراء والغوطة الخضرا قفا واقرآ مني كتابًا كتبته ... بدمعي لكم مقرًا ولا تنسيا سطرا ومقر أيضًا من منتزهات دمشق، وحسن بعدها ذكر سطرًا، ومنه قوله، وأجاد: سحبان مورثه من حُسن يوسف ما ... لم يبق في الحجر لي والصبر من حصص أقام للشعراء العذر عارضه ... فكم لهم من دبيب النمل من قصص1 ومنه قوله: ولقد عجبت لعاذلي في حبه ... لما دجا ليل العذار المظلم أو ما درى من سنتي وطريقتي ... أني أميل مع السواد الأعظم2 ومن هنا أخذ الشيخ جمال الدين بن نباتة وغيره، فأما ابن نباتة فإنه أخذه وزنًا، وقافية، وقال: أهواه معسول الرضاب منعمًا ... ولقد يعذبني الهوى بمنعم3 يا قلب هذا شعره وجفونه ... صبرًا على هذا السواد الأعظم ومن لطائفه قوله: أكملت ستًّا وأربعين بها ... أخلت همومي من راحتي ربعي4 وجزت في السبع خائفًا وجلا ... لأنني جائز على سبع5 ومن نكته اللطيفه قوله: هزم الهم عن نداماي راح ... حظيت من سماعهم بلحون لم تكد في الكئوس تظهر لطفًا ... فبدت من خدودهم في الصحون

_ 1 الدبيب: مشي كل ذات أربع. 2 السواد الأعظم: المجموع الأكبر من الناس، أو معظمهم. 3 معسول الرضاب: كأن ريقه العسل، حلو الريق. 4 الربع: الدار. 5 جاز: قطع ودخل وتجاوز ما قبله، السبع: العدد والحيوان.

ومن لطائف مجونه قوله: سألته من ريقه شربة ... أطفي بها من كبدي حره فقال أخشى يا شديد الظما ... أن تتبع الشربة بالجره1 ومن هنا أخذ المتأخرون. ومن نكته اللطيفة ما كتبه على جرن حمام السلطان بحماة: كملت لطفًا ووقارًا على ... ما حزت من أوصافي الحلوه من أجل هذا صرت أهلًا لأن ... أجالس السلطان في الخلوه وممن أجار رقيق التورية من غلظ العقادة، الأمير مجير الدين بن تميم. فمن ذلك قوله: فما لبست لبعده ثوب الضنى ... وغدوت من ثوب اصطباري عاريا2 أجريت واقف أدمعي من بعده ... وجعلته وقفًا عليه جاريا3 ومن لطائف نكته قوله في كتاب: يا حسنها نسخة يلهو مطالعها ... بها لما قد حوت من رائق الكلم صحت وقد لطفت أجزاؤها فحكت ... لطف النسيم وحاشاها من السقم ومنه قوله: بتنا جميعًا وبات لثمي ... له حمى ثغره مباح فمات مني الظلام غيظًا ... وانشق من غيظه الصباح ومنه قوله: وساقية تدور على الندامى ... وتنهرهم لسرعة شرب خمر سنشكر يوم لهو قد تقضى ... بساقية تقابلنا بنهر وهذه النكتة تلاعب الناس بها كثيرًا. ومن نكته الغريبة قوله في سجادة: أيا حسنها سجادة سندسية ... يرى للتقى والزهد فيها توسم4

_ 1 الجرّه: وعاء من الفخار أسطواني الشكل يستعمل للماء. 2 وردت في الأصل "لبثت" بدل "لبست" وما أثبتناه أصح ونظنه من خلط الذين يلفظون الثاء سينا والذال والظاء والضاد زايًا في هذه الأيام لكثرة ما صقلتهم "المدنية" و"الحزارة الحديسة". 3 وقفته عليه: قصرته عليه. 4 سندسية: نسبة إلى السندس وهو من رقيق الديباج، التوسم: الأمل.

إذا ما رآها الناسكون ذوو الحجا ... أمامهم صلوا عليها وسلموا1 ومن هنا أخذ الشيخ جمال الدين بن نباتة وقال: إن سجادتي الحقيرة قدرا ... لم يفتها في بابك التعظيم شرفت إذ سعت إليك فأمست ... وعليها الصلاة والتسليم وتطفل عليها الشيخ زين الدين بن الوردي أيضًا، فقال: سجادة أذكرتني ... منك الذي كنت تعلم أهديتها لمحب ... صلى عليها وسلم ومن قوله وهو من ألطف أغزاله: يا حسن أهيف حظه من حبنا ... طيب النعيم وحظنا منه الشقا2 قدم العذار إلى نقا وجناته ... يا مرحبًا بقدوم جيران النقا3 ومن نكته الغريبة، قوله في مليح جرح جبينه: بكوا لجراحة شقت جبين الـ ... ـحبيب فقال ما ضر الجراح أليس جبينه صبحًا منيرًا ... ولا عجب إذا انشق الصباح ومن لطائفه قوله: وعيرني بالشيب قوم أحبهم ... فقلت وشأن العاشقين التحمل بعثتم إلى رأسي المشيب بهجركم ... ومهما أتى منكم على الرأس يحمل وهذه النكتة أيضًا، تلاعب بها المتأخرون بعد ابن تميم كثيرًا. ومن لطائف نكته أيضًا قوله: ونهر حالف الأهواء حتى ... غدا طوعًا لها في كل أمر إذا سرقت حلى الأزهار ألقت ... إليه بها فيأخذها ويجري

_ 1 الناسكون: جمع ناسك وهو الذي يقتصر على عبادة الله سبحانه وتعالي، ذوو الحجا: الثقاة. ذوو الاستمساك بالعقيدة. 2 الأهيف: الدقيق الخصر الضامر البطن، الشقا: الشقاء. 3 نقا: نقاء. النقا: الكثيب من الرمل.

ومثله قوله: سرق النسيم حلى الغصون بسحره ... لما أتاها وهي في اطرابها ورمى بها نحو الغدير فضمها ... في صدره من خوفه وجرى بها ومن بدائع نكته: وليلة بت أسقي في غياهبها ... راحًا تسل شبابي من يد الهرم ما زلت أشربها حتى نظرت إلى ... غزالة الصبح ترعى نرجس الظلم1 ومن لطائف نكته في أغزاله قوله: خليلي قد صاد الفؤاد بحسنه ... غزال به عذر المحبين واضح ولا غرو أن صاد الفؤاد بلحظه ... ألم تعلما أن العيون جوارح ومن لطائف نكته في أغزاله أيضًا قوله: وقالوا بدا خط العذار بخده ... فأضحى سعيد الخد وهو معذر فقلت خيال الشعر ما قد رأيتم ... فإن صح ذاك الخط فهو مزور من هنا أخذ الشيخ صلاح الدين، ولكن زاده نكتة أخرى، بقوله: عيناه قد شهدت بأني مخطئ ... وأتت بخط عذاره تذكارا يا حاكم الحب اتئد في قتلتي ... فالخط زور والشهود سكارى2 ومن نكته الغريبة قوله: أيا ذا الذي قد كف كفيه عامدًا ... عن الجود خوف الفقر ما ذاك سائع أتخشى سهام الفقر ما دمت منفقًا ... نصيبك والنعما عليك سوابغ3 ومن نكته الغريبة قوله: ونهر بحب الروض أصبح مغرمًا ... يروح ويغدو هائمًا بوصالها إذا بعدت عنه شكا بخريره ... جفاها وأمسى قانعًا بخيالها

_ 1 غزالة الصبح: الشمس. 2 اتئد: تؤده تمهّل. 3 سوابغ: جمع سابغة. النعمة: فائضة وزائدة عن الحاجة.

ومن لطائف مجونه: وقواد يعيد الهجر وصلًا ... وطول البعد قربًا واتفاقا1 يكاد لحكمة فيه ولطف ... يقود بلا أزمتها النياقا ومن نكته البديعة الغريبة في باب التورية قوله: لما جسستك بالمديح ولم أكن ... أدري بأنك خامل في الناس ناديت لما أن جسستك بالهجا ... أكليب خذها من يدي جساس2 ومنه قوله: مذ لاحظ المنثور طرف النرجس ... المزور قال وقوله لا يدفع فتح عيونك في سواي فإنني ... عندي قبالة كل عين أصبع ومن لطائفه في هذا الباب قوله: أيا حسنها من روضة ضاع نشرها ... فنادت عليه في الرياض طيور3 ودولابها كادت تعد ضلوعه ... لكثرة ما يبكي لها ويدور4 النكتة في يدور وفي ضاع دارت بين ابن تميم وبين الجماعة، وتسلسل دورها منهم بدر الدين يوسف بن لؤلؤ الذهبي بقوله: وروضة دولابها ... إلى الغصون قد شكا من حين ضاع نشرها ... دار عليها وبكى ومنهم الشيخ جمال الدين بن نباتة بقوله: وناعورة قسمت حسنها ... على واصف وعلى سامع وقد ضاع نشر الربا فاغتدت ... تدور وتبكي على الضائع ومنهم الشيخ صلاح الدين الصفدي ونقل المعنى إلى الغزل بقوله: أضحى يقول عذاره ... هل فيكم لي عاذر الورد ضاع بخده ... وأنا عليه دائر

_ 1 القوّاد: القائد إلى الفجور. 2 جس: جرّب. الخامل: المغمور غير المعروف. وجساس: المجرب وقاتل كليب أخي المهلهل الشاعر. 3 ضاع: يضوع، انتشر. والنشر: الرائحة الطيبة. 4 الدولاب: ما يوضع في الروضة ليسقى به، وتديره الدابة "الناعورة".

وبعضهم نقصه وقنع بالدور بقوله: أبدى لنا الدولاب قولًا معجبًا ... لما رآنا قادمين إليه إني من العجب العجيب كما ترى ... قلبي معي وأنا أدور عليه وزاد الشيخ جمال الدين بن نباتة الدور نكتة أخرى فقال: وناعورة قالت وقد ضاع قلبها ... وأضلعها كادت تعد من السقم أدور على قلبي لأني فقدته ... وأما دموعي فهي تجري على جسمي وهذا المعنى سبق إليه ابن تميم أيضًا، بقوله: قامت لنا بالعذر ناعورة ... أدمعها في غاية السكب تقول لما ضاع قلبي وقد ... ضعفت بالنوح وبالندب صيرت جسمي كله أعينًا ... يدور في الماء على قلبي ومثله قوله: ناعورة مذ ضاع منها قلبها ... ناحت عليه بأنه وبكاء وتعللت بلقائه فلأجل ذا ... جعلت تدير عيونها في الماء وقنع الشيخ زين الدين بن الوردي بالدور، فقال: ناعورة مذعورة ... ولهانة وحائرة1 الماء فوق كتفها ... وهي عليه دائرة وعلى ذكر تورية الدور يعجبني قول المقر المرحومي الفخري ابن مكانس، وقد كتب بدر الدين البشتكي يداعبه، وقد دار الشيخ بدر الدين المذكور في ساقية الهمائل2. دورة البدر في سواقي الهمائل ... تركت أدمع العيون هوامل3 آه من للرياض نور أديب ... مظهر من كلامه سحر بابل فاق سعيًا على بني عجل في الجو ... د وأغنى عن الوَلّي الهاطل زاد علمًا على أبي ثور لكن ... قال بالدور تارة والسلاسل

_ 1 ولهانة: شديدة الحزن. 2 الهمائل: اسم للساقية 3 الهوامل: التي تفيض بالدمع.

ومنها ولم يخرج عن تورية الدور: يا سعيدًا أثرى من النظم والنثـ ... ـر فأنسى الورى زمان الفاضل قد سقيت الرياض يا شيخ بالدو ... ر فها غصنها من السكر مائل ومن نظمي في تورية الدور أيضًا قولي من قصيدة: ومذ مد ذاك النهر ساقًا مدملجًا ... وراح بنقش البيت يمشي على بسط لوينا خلاخيل النواعير فالتوت ... وأبدت لنا دورًا على ساقه السبط1 وعلى ذكر تورية الدور وتسلسلها هنا نكتة لطيفة، وهي أنه اتفق أن الشيخ نجم الدين الفجفيري سأل جماعة من الطلبة المستعلين عليه من قول الشاعر: يا أيها الحبر الذي ... علم العروض به امتزج2 أبِنْ لنا دائرة ... فيها بسيط وهزج ففكر بعض الطلبة فيه ساعة طويلة ثم قال: هذا في الدولاب، لأنه أراد بالبسيط الماء، وبالهزج صوته حال دورانه. فقال له الشيخ: صدقت، إلا أنك درت في الدولاب زمانًا حتى ظهرت لك التورية. وهذا الكلام في غاية الظرافة من الشيخ رحمه الله تعالى: رجع إلى ما كنا فيه من لطائف ابن تميم، فمن ذلك قوله: لم لا أميل إلى الرياض وحسنها ... وأعيش منها تحت ظل ضافي والزهر يلقاني بثغر باسم ... والماء يلقاني بقلب صافي وهذان البيتان عزاهما الصلاح الكتبي، في كتابه فوات الوفيات، للبدر يوسف بن لؤلؤ الذهبي، ونُسبا أيضًا لمحيي الدين بن قرناص، في مواضع كثيرة. والله أعلم. نكته اللطيفة في التورية قوله: روحي الفداء لمن أدار بلحظه ... صهباء في عقلي لها تأثير3 فاعجب له أنى يصون بلحظه ... مشمولة وإناؤها مكسور4

_ 1 السبط: الطويل. 2 الحبر: رجل العلم الذي يعد مرجعًا في علمه. 3 الصهباء: الخمرة 4 المشمولة: التي هبت عليها ريح الشمال وهي أبرد وأطيب.

ومنه قوله: إني لأشهد للحمى بفضيلة ... من أجلها أصبحت من عشاقه ما زاره أيام نرجسه فتى ... إلا وأجلسه على أحداقه وتلاعب المتأخرون بهذه النكتة كثيرًا. ومنه قوله: ألا رب يوم قد تقضى ببركة ... أقمت بها فيما جرى متفكرًا بعيني رأيت الماء فيها وقد هوى ... على رأسه من شاهق فتكسرا1 ومثله قوله: يا حسنه من جدول متدفق ... يلهي برونق حسنه من أبصرا ما زلت أنظره عيونًا حوله ... خوفًا عليه أن يصاب فيعثرا فأبى وزاد تماديًا في جريه ... حتى هوى من شاهق فتكسرا وتورية تكسر تلاعب بها الناس بعد ابن تميم كثيرًا. ومن نكته البديعة الغريبة قوله: لو كنت تشهدني وقد حمى الوغى ... في موقف ما الموت عنه بمعزل لترى أنابيب القناة على يدي ... تجري دمًا من تحت ظل القسطل2 ومن لطائف نكته قوله: قالوا رأيناك كل وقت ... تهيم بالشرب والغناء إني فتى قنوع ... أعيش بالماء والهواء ومنه قوله: حاذر أصابع من ظلمت فإنه ... يدعو بقلب في الدجى مكسور فالورد ما ألقاه في جمر الغضى ... إلا الدعا بأصابع المنثور3 ومن لطائف نكته وقد تقدم معناها، ولكن حلا مكررها هنا بقوله: تأمل إلى الدولاب والنهر إذ جرى ... ودمعهما بين الرياض غزير كأن نسيم الروض قد ضاع منهما ... فأصبح ذا يجري وذاك يدور

_ 1 "بعيني" في الأصل "بعني" ونظنه من خطأ النسّاخ. 2 الأنابيب: جمع أنبوب وهو جسم الرمح، والقناة: الرماح. القسطل: الغبار الكثيف. 3 جمر الغضى: يضرب به المثل في شدة الحرارة وهو جمر شجر يدوم طويلًا.

وقال الشيخ أثير الدين أبو حيان أنشدني أبو الخير الأزدي، لمجير الدين بن صميم: نزلنا إلى الغور في جحفل ... نقاتل قومًا من المسلمينا قطعنا الشريعة في حربهم ... وخضنا إليهم مع الخائضينا1 ومن نكته البديعة الغريبة قوله: إني لأعجب في الوغى من فارس ... حارت دقائق فكرتي في كنهه أدى الشهادة لي بأني فارس الـ ... ـهيجاء حين جرحته في وجهه ومن لطائف مجونه قوله: هويت نطاعًا إذا جئته ... بادرني باللحظ والصفع2 أروم أن أحظى بوصل وقد ... قابلني بالسيف والنطع ويعجبني من نكته في الخمريات قوله: ومدامة كاساتها ... تعطي الأمان من الزمان قد أحكمت علم النجو ... م وأتقنت سحر البيان فإذا حساها الشاربو ... ن وأوقعتهم في الأماني بدأت بإخراج الضميـ ... ـر وبعده عقد اللسان ومن لطائف مجونه قوله: غطت محاسن وجهها عن ناظري ... هيفاء لم أر في البرية شبهها وغدت تمانعني فقمت مبادرًا ... وكشفت من بعد التمنع وجهها ومن نكته الغريبة قوله: سأهجو أناسًا يبتغون نقيصتي ... وقد رسخوا في بحر جهلهم رسخا وأسلخهم لا في أوان مغيبهم ... ولكن أريهم في وجوههم السلخا ومن لطائفه قوله: بعث النسيم رسالة بقدومه ... للروض فهو بقربه فرحان

_ 1 الشريعة: مورد الماء الذي يستقي منه، والقانون السماوي. الخائضين: الذين يتحدثون في ما لا يعلمون أو السابحين. 2 النطاع: الأنيق المتأنق.

ولطيب ما قرأ الهزار بشدوه ... مضمونها مالت له الأغصان1 ومن لطائفه التي سبقه السراج إليها واستعملها ابن تميم أحسن منه: أراق دمي بسيف اللحظ ظلمًا ... وها أثر الدماء بوجنتيه فلما خاف من طلبي لثأري ... أدار عذاره زردًا عليه وقال في غلام وقاد: لاموا على الوقاد في حبه ... وحبه باللوم يزداد لو لم يكن في حسنه كوكبًا ... ما كان أمسى وهو وقاد وزاد شيخنا الشيخ شهاب الدين بن حجر، فسح الله في أجله، هذا المعنى نكتة حصل بها الاتفاق البديع بلقبه الكريم، فقال في وقاد أيضًا: أحبب بوقاد كنجم طالع ... أنزلته برضا الغرام فؤادي وأنا الشهاب فلا يعاند عاذلي ... إن ملت نحو الكوكب الوقاد ومن نكته البديعة الغريبة قوله: بنده الأزرق لما ... شده من قد سباني جدول فوق كثيب ... دار يسقي غصن بان ومن نكته الغريبة قوله في وكيل بدار القاضي بدمشق المحروسة: لا تقرب الشرع إذا لم تكن ... تخبره فهو دقيق جليل ووكل العز الذي وجهه ... على نجاح الأمر أقوى دليل2 ولا تمل عنه إلى غيره ... وحسبنا الله ونعم الوكيل وعلى ذكر الوكيل رأيت: لاقى فلان اليوم ما ساءه ... وأفرغ الصك عليه وكيل3 وذاق من كف الوكيل العمى ... وحسبنا الله ونعم الوكيل

_ 1 الهزار: البلبل. 2 العز: العزيز الكريم القوي. 3 الصك: الوثيقة التي تثبت ملكية منقولة أو غير منقولة.

ومن لطائفه قوله يصف روضة: أرض كساها القطر حلة سندس ... رقمت لها طرز من الغدران1 وفد النسيم أضاع نشر رياضها ... فالورق تنشده بكل مكان2 وكتب إلى كمال الدين بن النجار، وكيل بيت المال بدمشق المحروسة، وهي من نكته المخترعة: كمال الدين يا مولاي يا من ... يغير لبحر في بذل النوالي أتيت لحاجة فاغنم ثنائي ... عليك بها وشكري وابتهالي ولا تجعل سواك لها فإني ... عليك بنجحها وقع اتكالي أيجمل أن يقول الناس أني ... أتيت لحاجة لم تقضها لي وأصبح بينهم مثلًا لأني ... أتاني النقص من جهة الكمال ومن لطائف نكته قوله: لم أنس قول الورق وهي حبيسة ... والعيش منها قد أقام مقفصا قد كنت ألبس من غصوني أخضرًا ... فلبست منها بعد ذاك مقفصا3 وقال فيمن تاب عن شرب الخمر: تركت شرب الحميا غير مفتكر ... فيها وفي شربها اللذات والطرب فارجع فقد أسبل الراووق أدمعه ... شوقًا إليك وقلب الكاس يلتهب4 فأنشده بعد ذلك وقد وافقه: إن كان قد أسبل الراووق أدمعه ... شوقًا إليك وقلب الكاس يضطرم فاليوم أعينه من فرط فرحته ... تفيض دمعًا وثغر الكاس يبتسم ومن نكته الغريبة قوله فيمن غضب عند عزله من منصب ولايته: كم قلت لما فاض غيظًا وقد ... أزيح عن منصبه المعجب لا تعجبوا إن فار من غيظه ... فالقلب مطبوخ على المنصب5

_ 1 رقم الثوب: إذا وشيَ. 2 الورق: الحمام. 3 مقفصًا: الأولى بمعنى موضوعًا في القفص "سجينًا"، والثانية بمعنى: المجمع. 4 الراووق: من أوعية الخمر "الباطية". 5 فار: استشاط غضبًا.

وهذا المعنى أَلَمّ به شرف الدين النصيبي واستعمله أرق وأسجم، بقوله: ولوك إذ علموا بجهلك منصبًا ... علموا بأنك عن قليل تبرخ1 طبخوا بنار العزل قلبك بعد ذا ... وكذا القلوب على المناصب تطبخ وقال يعتذر عن مخدومه في كثرة تجريده له: لقد لام قوم صاحبي حيث لم يزل ... يجردني دون الرفاق تعمدا رآني حسامًا ماضيًا فأقامني ... مدى الدهر في وجه الأعادي مجردا ومنه قوله: مذ قلت للمنثور إن الورد قد ... وافى على الأزهار وهو أمير بسمت ثغور الأقحوان مسرة ... بقدومه وتلون المنثور وأحسن منه قوله: ومذ قلت للمنثور إن مفضِّل ... على حسنك الورد المنزه في الشبه تلوَّن من قولي وزاد اصفراره ... وفتح كفيه وأوما إلى وجهي ومثله قوله: كيف السبيل للثم من أحببته ... في روضة للزهر فيها معرك ما بين منثور وناضر نرجس ... مع أقحوان وصفه لا يدرك هذا يشير بأصبع وعيون ذا ... ترنو إلَيَّ وثغر هذا يضحك ومثله قوله: كيف السبيل لأن أقبل خد من ... أهوى وقد نامت عيون الحرس وأصابع المنثور تومي نحونا ... حسدًا وتغمزها عيون النرجس ومنه قوله: روض الحمى يهوى لقاك وإنه ... من فرط شوق لا يزال قرينه لم يهد نرجسه إليك وإنما ... لغرامه أهدى إليك عيونه

_ 1 تبرخ: تبرح.

ومن لطائفه في أغزاله قوله: قالوا بدا نبت خديه فخذ بدلًا ... عنه فقلت له حاشاه حاشاه إن لاح في خده نبت فلا عجب ... الله أنبته والعين ترعاه1 وتورية النبت والرعي تلاعب بها جماعة من المتأخرين بعد ابن تميم، ومن مخترعاته في هذا الباب قوله: لو كنت حين علوت كور مطيتي ... لم تعتلقها للمطي عيون2 وتوسطت بحر السراب حسبتني ... من فوقها ألفًا وتحتي نون ومن نكته المخترعة قوله: دعيت فكان أكلي فخذ طير ... ولم أشرب من الصهباء نقطه وما يومي كأمس وذاك أني ... أكلت أوزة وشربت بطه3 أخذ الشيخ صلاح الدين الكل مع القافية فقال: شوى الأوز فأضحت ... في حمرة الخد بسطه فقلت تشوي أوزًا ... أم كنت تشرب بطه ومن اختراعاته التي لعب الناس بها بعده: قد هجرت الراح حتى ... ليس لي فيها نصيب وعلى الراووق مني ... طول ما عشت صليب4 ومن نكته المخترعة الغريبة قوله يرثي الأمير قطب الدين رحمه الله تعالى: نأيتم فلا قلبي عن الحزن مقصر ... عليكم ولا جفني يجف له غرب5 وأفلاك لذاتي تعطل سيرها ... وهل فلك يسري إذا عدم القطب6

_ 1 أنبته: صيره رجلًا. 2 الكور: للمطية هو الرحل. 3 البطة: الباطية، والطائر المعروف. 4 الراووق: الباطية، وعاء للخمرة. 5 النأي: البعد والسفر، غرب الجفن: دمعه. 6 الأفلاك: السفن. عدم القطب: لم يعرف الجهة.

ومن غريب نكته في أغزاله قوله: شبهت خدك يا حبيبي عندما ... أبدي الجمال به عذارًا أشقرا تفاحة حمراء قد كتبوا بها ... خطًا دقيقًا بالنضار مشعرا ومثله في الغرابة قوله: ولما اجتمت عنا الغزالة بالسما ... وعز على قناصها أن ينالها1 نصبنا شباك الماء في الأرض حيلة ... عليها فلم نقدر قصدنا خيالها ومن لطائف غرامياته: لا تبعثوا غير الصبا بتحية ... من أرضكم فلها عليّ جميل2 خاضت دموع العاشقين وعرجت ... عنهم إلَيّ وثوبها مبلول وهذا المعنى وقفت عليه لغيره، والله أعلم من السابق. ولعمري إن الآخر أجاد بقوله: وصبا صبت من قاسيون فسكنت ... بهبوبها وصب الفؤاد البالي3 خاضت مياه النيرين عشية ... وأتتك وهي بليلة الأذيال4 ومن لطائفه قوله: لو لم أعانق من أحب بروضة ... أحداق نرجسها إلينا تنظر ما شق جيب شقيقها حسدًا ولا ... بات النسيم بذيله يتعثر وتلاعب الناس بعد ابن تميم بهذا المعنى كثيرًا. وقال في إهداء مهرة حمراء، وهي من مخترعاته: أهديت لي يا مالكي مهرة ... جميلة الخلق بوجه جميل مؤخرها والعنق قد أوقع ... قلب الأعادي في العريض الطويل قد لبست من شفق حلة ... تخبرنا أن أباها أصيل

_ 1 غزالة السماء: الشمس. 2 الصبا: الريح المشرقية تهب عن استواء الليل. 3 قاسيون: جبل يطل على دمشق، الوصب: المرض والتعب الشديد. 4 النيرين: دجلة والفرات وكوكبين قطبيين والله أعلم.

ومنه قوله، وهو من الاختراعات اللطيفة: حبيبي وعدت الكاس منك بقبلة ... وأعقب ذاك الوعد منك نفار1 وما كان هذا لونها غير أنها ... علاها لطول الانتظار صفار ومن هنا أخذ الشيخ بدر الدين بن الصاحب فقال: يا حابس للكأس لا تزدها ... من بعد حبس الدنان حسره2 واغنم مزاجًا لها لطيفًا ... أورثه الانتظار صفره ومن نكته الغريبة البديعة قوله: مما رأت عيني مناطقك التي ... أضحت بشعرك دائمًا تتعلق لا تستقر وقد علتها صفرة ... ونحول جسم بالصبابة ينطق أيقنت أن الخصر ضاع نحافة ... فلذا تدور جوى عليه وتقلق ومن هنا أخذ الشيخ صلاح الدين الصفدي وقال: وشاح من أحببته قال لي ... وهو الذي في قوله قد صدق قد ضاع مني الخصر لما انثنى ... أما تراني دائرًا في قلق وقال في شخص اسمه عثمان يهدده بالهجو: توعدت يا عثمان بالهجو شاعرًا ... سيوليك هجوًا عاره ليس ينجلي فخذها قصيدًا قد أتت من محمد ... كجلمود صخر حطه السيل من عل وممن أبدر في أفق التورية ونظم عقود لآلئها بدر الدين يوسف بن لؤلؤ الذهبي، فمن لآلئ عقوده قوله: صدوا وقد دب العذار بخده ... ما ضرهم لو أنهم خبروه هل ذاك غير نبات خد قد حلا ... لكنهم لما حلا هجروه ومنه قوله: عرج على الزهر يا نديمي ... ومل إلى ظله الظليل فالروض يلقاك بابتسام ... والريح تلقاك بالقبول

_ 1 نفار: هجر. 2 الدنان: جمع دن وهو وعاء الخمر.

ومنه قوله وأجاد: ورياض وقفت أشجارها ... وتمشت نسمة الصبح إليها طالعت أوراقها شمس الضحى ... بعد أن وقعت الورق عليها1 قال الشيخ صلاح الدين الصفدي، في كتابه المسمّى: "بفض الختام عن التورية والاستخدام"1، لما وقف على هذين البيتين نكتة التوقيع، هنا، أليق بابن عبد الظاهر، لكن طلع واطلع عليه البدر، وحفظ سره لما أضاعه ذلك الصدر، ومنه قوله: وحديقة مطلولة باكرتها ... والشمس ترشف ريق أزهار الربا2 يتكسر الماء الزلال على الحصى ... فإذا جرى بين الرياض تشعبا ومن هنا أخذ الشيخ برهان الدين القيراطي فقال من قصيدة: وكأن ذاك النهر فيه معصم ... بيد النسيم منقش ومكتب3 فإذا تكسر ماؤه أبصرته ... في الحال بين رياضه يتشعب ويعجبني قوله من قصيدة كلها غرر، ولولا خشية الإطالة لأوردتها بكمالها: وتنبهت ذات الجناح بسحرة ... بالواديين فنبهت أشواقي ورقاء قد أخذت فنون الحزن عن ... يعقوب والألحان عن إسحاق قامت تطارحني الغرام جهالة ... من دون صحبي بالحمى ورفاقي أني تباريني جوى وصبابة ... وكآبة وأسى وفيض مآقي4 وأنا الذي أملى الجوى من خاطري ... وهي التي تملي من الأوراق ومنه قوله: هلم يا صاح إلى روضة ... يجلو بها العاني صدا همه نسيمها يعثر في ذيله ... وزهرها يضحك في كمه ومنه قوله: أدر كئوس الراح في روضة ... قد نمقت أزهارها السحب

_ 1 الورق: جمع ورقاء وهي الحمامة. 2 مطلولة: أصابها الطل وهو الندى. 3 مُكَتَّب: مجمع أو مخطط. 4 مآقي: جمع مؤق وهو مكان خروج الدمع من العين.

الطير فيها شيق مغرم ... وجدول الماء بها صب1 ومن هنا أخذ الشيخ جمال الدين بن نباتة، وقال في نواعير حماة من طرديته: ذات النواعير سقات الترب ... وأمهات عصفه والأب تعلمت نوح الحمام الهتف ... أيام كانت ذات فرع أهيف فكلها من الحنين قلب ... وكيف لا والماء فيها صبّ وقال ابن نباتة في مطلع قصيدة: دمعي عليك مجانس قلبي ... فارثِ على الحالين للصب ونكتة الصب تطفل عليها أيضًا الشيخ صلاح الدين الصفدي، ولكن ركبها تركيبًا قلقًا فقال: وحقكم ما حلت عن سنن الوفا ... ولم ينقلب مني إلى سلوة قلب وما أنا غر بالصبابة والهوى ... فأنكر دمعي إن جرى وأنا صب2 ويعجبني قول بدر الدين يوسف بن لؤلؤ من قصيدة: باكر إلى الروضة تستجلها ... فثغرها في الصبح بسام والنرجس الغض اعتراه الحيا ... فغض طرفًا فيه أسقام وبلبل الدوح فصيح على الأيـ ... ـكة والشحرور تمتام3 ونسمة الريح على ضعفها ... لها بنا مر وإلمام4 فعاطني الصهباء مشمولة ... عذراء فالواشون نوَّام5 واكتم أحاديث الهوى بيننا ... ففي خلال الروض نمام ومن هنا أخذ الجميع، حتى الشيخ صفي الدين الحلي، مع أن التورية غير مذهبه فقال:

_ 1 الشيق: صيغة مبالغة من الشوق، المشتاق، صب: كثير الانصباب، ومغرم 2 الغر: الجديد الذي لا تجربة له. 3 الأيكة: واحدة الأيك وهو الشجر الكثير الملتف. تمتام: مغرد. 4 الإلمام: المعرفة. 5 عاطني: أعطني. الصهباء: الخمرة. مشمولة: باردة لأنها أصابتها ريح الشمال. عذراء: مختومة في دنها لم تفضض. الواشون: النمامون السعاة بالشر.

أقول وطرف النرجس الغض شاخص ... إِلَيَّ وللنمام حولي إلمام1 أيا رب حتى في الحدائق أعين ... عليّ وحتى في الرياحين نمام2 ولكن ما أخل بها الشيخ جمال الدين بن نباتة لئلا يخرج عن مذهبه فقال: وأهيف بنهب أرواحنا ... ووجهه كالروض بسام تنم خداه بقتل الورى ... فخده ورد وثمام3 وأخذها ابن الوردي أيضًا، ولكن زادها نكتة أخرى بقوله: إن قال صف لي عذارى وصف مبتكر ... ووجنتي قلت خذ يا صنعة الباري هذا عذارك نمام ومسكنه ... نار بخديك والنمام في النار ومنه قوله: الروض أحسن ما رأيـ ... ـت إذا تكاثرت الهموم تحنو عليّ غصونه ... ويرق لي فيه النسيم ومنه قوله: البرد قد ولَّى فما لك راقد ... يا أيها المدثر المزمل4 أو ما ترى وجه الربيع وحسنه ... والروض يضحك والحيا يتهلل5 ومن لطائف تغزلاته قوله: حلال نبات الشعر يا عاذلي ... لما بدا في خده الأحمر فشاقني ذاك العذار الذي ... نباته أحلى من السكر ومثله في اللطف قوله: شوقي إليك على البعاد تقاصرت ... عنه خطاي وقصرت أقلامي واعتلت النسمات فيما بيننا ... مما أحملها إليك سلامي

_ 1 شاخص: ناظر. 2 الأعين: الرقباء. 3 الثمام: عشب من الفصيلة النجيلية 4 المدثر: لابس الدثار وهو الغطاء. المزّمل: الملفف. 5 الحيا: المطر سُمّي به لأنه يبعث الحياة في الأرض ومن بعدها الإنسان والحيوان. تهلل المطر: سقط.

ومنه قوله: تعشقته لدن القوام مهفهفًا ... شهي اللمى أحوى المراشف أشنبا1 وقالوا بدا حب الشباب بوجهه ... فيا حسنه وجهًا إلَيّ محببا2 وقد تقدم القول أن أبا تمام أول من اخترع هذه النكتة. ومن نكته الغريبة اللطيفة البديعة قوله: وذي قوام أهيف ... بين الندامى قد نشط قام يقط شمعة ... فهل رأيت الظبي قط3 وتطفل الناس بعده على هذه النكتة. ومنه قوله: وبمهجتي المتحملون عشية ... والركب بين تلازم وعناق4 وحداتهم أخذت حجازًا بعدما ... غنت وراء الركب في عشاق ومن هنا أخذ الناس بعد الشيخ بدر الدين، كقول بعضهم: قلت مذ غنى حجازًا ... ليتنا في أصبهان ومنه قول الشيخ بدر الدين بن لؤلؤ: لك مبسم عذب اللمى يفتر عن ... برد وسلسال الرضاب مرادي5 وفم يحاكي الميم إلا أنه ... كم حوله عين تحوم كصاد6 وهذا المعنى أيضًا تطفل عليه المتأخرون بعد الشيخ بدر الدين، منهم الشيخ جمال الدين بن نباتة، حيث قال: يا عين آمالي إذا استجمعت ... إني إلى مورد لقياك صاد

_ 1 لدن القوام: رشيق القد. مهفهفًا: نحيف الخصر ضامر البطن. اللمى: سمرة في الشفاه. أحوى المراشف: ألمى الشفاه. الأشنب: رقيق الأسنان أبيضها. 2 حب الشباب: بثور تخرج في وجه الشاب في سن معينة وتكون دليلًا على بلوغه مبلغ الرجال. 3 يقط: يسوي. 4 المتحملون: المسافرون. تلازم: تلاصق. 5 السلسال: العذب. الرضاب: الريق. 6 كصاد: الحرف الهجائي المعروف والعطشان.

ويعجبني قوله من قصيدة ورَّى في بيتها الأول باسمه فقال: قد أنحلتني الغوادي غير راحمة ... ومحقتني الليالي بعد إبدار1 فكم أواري غرامًا من جوى وأسى ... زناده تحت أثناء الحشا واري جيراننا كنتم بالرقمتين فمذ ... بعدتم صار بعدكم جاري ومن هنا أخذ الشيخ جمال الدين بن نباتة وقال: بروحي جيرة أبقوا دموعي ... وقد رحلوا بقلبي واصطباري كأنا للمجاورة اقتسمنا ... فقلبي جارهم والدمع جاري وما أحلى قول بدر الدين من القصيدة المذكورة، في الخمرة، ولم يخرج عما نحن فيه من التورية، فقال: سارت لتقتص من قوم فما ربحت ... في حث كأس على الأوتار دوّار2 فالقوم من بعد قتلاها وما ظلمت ... وإنما أخذت منهم بأوتار ومن هنا أخذ القاضي أمين الدين الحمصي وكان كاتب السر الشريف بالشام المحروس، فقال: وقوس حاجبه يصمي3 كأن له ... مطالبات على قلبي بأوتار ويطربني قوله من قصيدة: فلما تفرقنا كأني ومالكًا ... لطول اجتماع لم نبت ليلة معا فأتبعته قلبًا مطيعًا على الغضى ... وخليت لي جفنًا على السفح أطوعا4 ومن لطائفه الغريبة: رفقًا بصب مغرم ... أبليته صدًّا وهجرًا وافاك سائل دمعه ... فرددته في الحال نهرًا5 هذا النهر ورد منه المتأخرون قاطبة، ولولا طول الشرح لذكرت ذلك، ومن لطائفه قوله:

_ 1 الغوادي: جمع غادة وهي الحسناء. محقتني: جعلتني في المحاق، بلا ضوء. 2 اقتص: قاصص ثأرًا وثأر. الأوتار: في الإنسان العروق والشرايين. 3 يصمي: يصيب ويردي. 4 الغضى: الرغم وشجر. 5 وافى المكان: وصل إليه.

يا عاذلي فيه قل لي ... إذا بدا كيف أسلو يمرّ بي كل وقت ... وكلما مر يحلو ومن لطائف اتفاقه ونكته الغريبة قوله في نجم الدين بن اسرائيل، وقد هويَ مليحًا يلقب بالجارح: قلبك اليوم طائر ... عنك أم في الجوانح كيف ترجّي خلاصه ... وهو في كف جارح وكتب إليه وقد بلغه أنه سلا عن معشوقه المذكور: خلصت طائر قلبك العاني ترى ... من جارح يغدو به ويروح1 ولقد يسر خلاصه إن كنت قد ... خلصته منه وفيه روح ومن مخترعاته الغريبة قوله في الخمرة: أبدى الحباب لها خطا فأحسن ما ... قد كان حرر من ميم ومن هاء2 قديمة ذاتها في روض جنتها ... كانت وكان لها عرش على الماء ومن هنا أخذ الصاحب فخر الدين بن مكانس فقال من قصيدة السرحة: فاستمهدت دوحها المخضل وافترشت ... نجم الربا ورقت عرشًا على الماء3 ولكن لم يساعده في لفظة العرش اشتراك تورية بالنسبة إلى الشيخ بدر الدين فإن نسبة العروش إلى الكرم معروفة. ومنه قوله في مليح نجار: بروحي نجار مكي الغصن قدّه ... رشيق التثني أحور الطرف وسنان4 يميل على الأعواد قطعًا بما جنت ... وما سرقت من قده وهي أغصان ومن هنا أخذ جميع الناس وقال من قال: قد لمت ذا الأهيف النجار وهو على ... الأشجار يقطع في أغصان خلاف5 فقال لي عندها ثار تُحدُّ به ... لأنها سرقت من لين أعطافي6

_ 1 العاني: الخاضع الذليل الأسير. 2 الحباب: الفقاقيع التي تعلو وجه السائل عند صبه. 3 استمهدت: اتخذت منه مهدًا. 4 حكى: شابَهَ. رشيق التثني: خفيف الحركات. وسنان: ذابل الطرف كأنه نعسان. 5 الخلاف: شجر الصفصاف. 6 تجد: تعاقب والحدود قصاصات معلومة فرضها الله تعالى مثل: حد السرقة وحد الزنا.

وممن أحيا ما درس من رسوم التورية القاضي محيي الدين بن قرناص الحموي، تغمده الله برحمته. فمن نكته اللطيفة قوله: سقيا له روضًا قدود غصونه ... تختال في الأبراد من أوراقها1 جنت به ورق الحمام صبابة ... أو ما ترى الأغلال في أعناقها ومن لطائف قوله: مال القضيب بروضة من سكره ... لما سقاه عقاره أدرار2 حتى إذا سرق النسيم دراهمًا ... من كمه صاحت به الأطيار ومثله قوله: مذ أتينا نبغي زيارة دوح ... قد حبانا بالجود والإكرام ناولتنا أيدي الغصون ثمارًا ... أخرجتها لنا من الأكمام ومثله قوله، وتلطف ما شاء في جمعه بين الاستعارة البديعة والتورية. قد أتينا الرياض حين تجلت ... وتحلت من الندى بجمان ورأينا خواتم الزهر لما ... سقطت من أنامل الأغصان ومنه قوله: ورب نهر له عيون ... تحار في وصفه العيون لما غدا الريق منه عذبًا ... مالت إلى رشفه الغصون ومنه قوله: أيا حسنها روضة قد غدا ... جنوني فنونًا بأفنانها3 أتى السماء فيها على رأسه ... لتقبيل أقدام أغصانها ومنه قوله: تثنى الغصن إعراضًا وعجبًا ... على نهر يذوب أسى عليه فرق له النسيم وجاء يسعى ... ملاطفة وميله إليه

_ 1 الأبراد: جمع برد وهو الثوب الموشى. 2 العقار: الخمرة سميت به من المعاقرة. 3 الأفنان: جمع فتن وهو الغصن.

ومنه قوله وتلطف ما شاء: ويوم قد قطعناه بروض ... يضاحك زهره شمس النهار فكأن نهارنا طلق المحيا ... صبيح الوجه مخضر العذاب ومنه قوله: أنعم فإن الدوح يا مالكي ... حمل من أجلك ما لا يطيق يرقبك الطير على وكره ... وأعين الأزهار نحو الطريق1 وهذا المعنى أخذه الصاحب فخر الدين بن مكانس وزنًا وقافية فقال: والنرجس الغض غدا شاخصًا ... فلا يخلي عينه للطريق ومنه قوله، وتلطف ما شاء: لو كنت إذ نادمت من أحببته ... في روضة أطيارها تترنم لرأيت نرجسها يغض جفونه ... عنا وثغر أقاحها يتبسم ومنه قوله في معذر: ووجنة قد غدت كالورد حمرتها ... وأشبه الآس ذاك العارض النضر كأن موسى كليم الله أقبسها ... نارًا وجرَّ عليها ذيله الخضر2 وهذا المعنى استعمله بعضهم في شجرة نارنج3 فقال ولكن لم أعلم المخترع من هو: نارنجة برزت في منظر عجب ... زبرجد ونضار صاغه المطر4 كأن موسى كليم الله أقبسها ... نارًا وجرَّ عليها ذيلة الخضر ومنه قوله: وروض قد أتت فيه معان ... يطيب به الندامى والمدام يسامره النسيم إذا تغنت ... حمائمه ويسقيه الغمام

_ 1 الوكر: الطير كالبيت للإنسان. 2 أقبس النار: أضرمها بقبس. 3 النارنج: شجر مثمر يصنع من زهره ماء الزهر. ومن قشرة الثمرة دواء أو مربيات. 4 الزبرجد: أحجار كريمة منوعة، أشهرها الأخضر.

ومنه قوله: روضة من قرقف أنهارها ... وغناء الورق فيها بارتفاع1 لا تلم أغصانها إن رقصت ... فهي ما بين شراب وسماع ومن لطائفه في أغزاله قوله: هويت في مكتب غلامًا ... قلبي بهجرانه جريح أهيف أضحى قبيح خط ... وإنما شكله مليح ومنه قوله في مليح مؤذن: ومؤذن أضحى كريمًا وجهه ... لكنه بالوصل أي شحيح أبدًا أموت بهجره لكنني ... من بعد ذاك أعيش بالتسبيح ومنه قوله: قبلت خط عذاره لما بدا ... وهصرت لين قوامه المياس2 وطلبت لي من خده المحمر ما ... يشفي قواي فجاءني بالآس"ي" وهذه النكتة توارد هو وشمس الدين محمد بن العفيف عليها فقال: من يعطف نحوي قلب هذا القاسي ... كم أذكره وهو لعهدي ناسي أشكو سقمي لعارضيه وكذا ... يشكو دنف سقامه للآسي "س"3 وتطفل عليها بعدهما الشيخ صلاح الدين الصفدي فقال: كم جرح القلب منه جفن ... كالسيف في صحة القياس وطب آس العذار جرحي ... فصح أن الطيب آسي وابتذل المتأخرون بعدهم حجابها، ونظمتها أنا ولكن زدتها نكتة أخرى من جنسها فترشحت وازدادت حسنًا، وهي قولي: مذ جفاني ممرض القلب ولم ... ألق للضعف وللكسر انجبارا قلت للعارض يا آسي إذا ... درت داري مرض القلب فداري

_ 1 القرقف: الخمرة، الورق: الحمائم. 2 هصر: حذب وعطف به نحوه. المياس: المتمايل. 3 دنف السقام: شدتها حتى يبدو السقيم وكأنه سكران.

ومن لطائفه في أغزاله قوله: إن الذين ترحلوا ... نزلوا بعين ناظره أنزلتهم في مقلتي ... فإذا هم بالساهره وهذه النكتة أيضًا ابتذل المتأخرون حجابها كثيرًا. ومن ظرافات شمس الدين محمد بن العفيف المشهور بالشاب الظريف قوله: إذا حاولت حل البند قالت ... معاطفه حمانا لا يحل وإن جليت بوجنته مدام ... يرى لعذاره دور ونزل1 وسبك أيضًا، تورية الدور في قالب آخر، وجاء في غاية اللطف والغرابة بقوله: لحاظك أسياف ذكور فما لها ... كما زعموا مثل الأرامل تغزل وما بال برهان العذار مسلمًا ... ويلزمه دور وفيه تسلسل ومنه قوله فيما يكتب على كاس وأجاد: أدور لتقبيل الثنايا ولم أزل ... أجود بنفسي للندامى وأنفاسي وأكسو أكف الشرب ثوبًا مذهبًا ... فمن أجل هذا لقبوني بالكاس"ي" ومن هنا أخذ الشيخ شهاب الدين بن أبي حجلة وقال مضمنًا: يا صاح قد حضر الشراب ومنيتي ... وحظيت بعد الهجر بالإيناس وكسا العذار الخد حسنًا فاسقني ... واجعل حديثك كله في الكاس "ي" ويعجبني قوله وقد أهدى مجموعًا: يا أيها الصدر الذي وجه العلا ... منه يزان بمنظر مطبوع لا تعتقد قلبي يحبك وحده ... ها قد بعثت لسيدي مجموعي ونكتة المجموع استعملها الشيخ جمال الدين وغيره. ومن نكته البديعة التي لم يسبق إليها قوله: كان ما كان وزالا ... فاطرح قيلًا وقالا أيها المعرض عنا ... حسبك الله تعالى

_ 1 نزلٌ: مساكن، ونزول نحو الأسفل، ودور، دوائر، ومنازل.

وهذه أخذها صاحبنا المرحوم مجد الدين بن مكانس بنصها، فقال من قصيدة: يا غصنًا في الرياض مالا ... حملتني في هواك مالا يا رائحًا بعد ما سباني ... حسبك رب السما تعالى ومن لطائفه في مليح رسام قوله: قلت لرسامكم ... بك الفؤاد مغرم قال متى أذيبه ... فقلت حين ترسم ومن لطائفه واختراعاته قوله: قامت حروب الزهر ما ... بين الرياض السندسية وأتت بأجمعها لتغزو ... روضة الورد الجنية1 لكنها انكسرت لأن الور ... د شوكته قوية ومن لطائفه أيضًا قوله: يا ساكنًا قلبي المعنى ... وليس فيه سواك ثاني لأي معني كسرت قلبي ... وما التقى فيه ساكنان2 ومن لطائفه أيضًا قوله: إني لأشكو في الهوى ... ما راح يفعل خده ما كان يدري ما الجفا ... لكن تفتح ورده ومن هنا أخذ الشيخ صلاح الدين الصفدي، فقال، ولكن زاده نكتة: أقول له ما كان خدك هكذا ... ولا الصدغ حتى سال في الشفق الدجى فمن أين هذا الحسن والظرف قال ... لي تفتح وردي والعذار تخرجا3 ومن نكته البديعة قوله: قد تعشقت خلافي ... ولي فيه معاني كلما جادلني العا ... ذل فيه ولحاني جئته من عارضيه ... بدليل الدوران

_ 1 الجنية: الناضجة. 2 ساكنان: المقيمان، وفي اللغة حرفان مسكنان بسكون. 3 تخرجا: صار كالخرج وهو نوع من الوشي يوضع في طرف الثوب. ويقصد أنه تخلله الشيب.

ومن اختراعاته اللطيفة قوله في مليح خيالي: خيالَيّ أخاف الهجر منه ... ولست أراه يرغب في وصالي وكنت عهدتني قدمًا شجاعًا ... فما لي صرت أفزع من خيالي وقال في زهر اللوز: تبسم ثغر اللوز عن طيب نشره ... وأقبل في حسن يجل عن الوصف هلموا إليه بين قصف ولذة ... فإن غصون الزهر تصلح للقصف1 ومثله قوله: تمشي بصحن الجامع الشادن الذي ... على قده أغصان بان النقا تثني فقلت وقد لاحت عليه حلاوة ... ألا فانظروا هذي الحلاوة في الصحن2 وقال: يا ذا الذي نام عن غرامي ... ونبه الوجد والجوى لي جفني جرى طيه دموع ... شوقًا إلى وجهك الهلالي ومن اختراعاته الغريبة قوله: عبتم على المحبوب حمرة شعره ... وأظنكم بدليله لم تشعروا لا تنكروا ما احمرّ منه فإنه ... بدماء أرباب القلوب مضفر3 وقال في مليح زجاج: قولوا لزجاجكم ذا الذي ... له محيا بالسنا يسفر إن كنت في الصنعة ذا خبرة ... وكان معروفك لا ينكر فما لأحداقك أقداحها ... في صحة من حسنها تكسر وقال أيضًا: كلف الفؤاد بظبية عجانة ... ما كنت يومًا آمنًا من هجرها عجنت فؤادي بالغرام فماؤها ... من أدمعي ودقيقها من خصرها

_ 1 القصف: اللهو واللعب والافتتان في الطعام والشراب. 2 صحن الدار: ساحتها. 3 مضفر: صبغت ضفائر شعره.

وهذا المعنى تلاعب به الجماعة بعد ابن العفيف، ولكن ما برح دقيقة خاصًّا. وقال في ذم الحشيش وأجاد: ما للحشيشة فضل عند آكلها ... لكنه غير مصروف إلى رشده صفراء في وجهه خضراء في فمه ... حمراء في عينه سوداء في جسده وقال في مليح أصيبت عينه: كان بعينين فلما طغى ... بسحره ردَّ إلى عين وذاك من لطف بعشاقه ... ما يضرب الله بسيفين وتورية السيف تناولها الجماعة بعد ابن العفيف، ولولا خشية الإطالة لذكرت غالبها، وقال في مليح بدوي: بدوي كم جندلت مقلتاه ... عاشقًا في مقاتل الفرسان1 ذو محيا يصيح يا لهلال ... ولحاظ تقول يا لسنان2 وقال في مليح جرح بسكين: لم تجرح السكين كف معذبي ... إلا لمعنى في الغرام يحقق هي مثل ما قد قيل جارحة له ... ولكلّ جارحة إليه تشوّق3 وقال في مليح مؤذن بالجامع الأموي: فديت مؤذنًا تصبو إليه ... بجامع جلق منا النفوس يطير النسر من شوق إليه ... وتهوى أن تعانقه العروس هذان البيتان توارد على نكتتهما شمس الدين بن العفيف والشيخ جمال الدين بن نباتة، ورأيتهما في ديوانه، والبيت الأول بنصه والبيت الثاني فيه بعض تغيير وهو: لقد زف الزمان لنا مليحًا ... تكاد بأن تعانقه العروس وقال في مليح منير: منير وجدي به ... أكتمه ويظهر وكيف تخفى لوعتي ... وقد غدا ينير

_ 1 جندل الفارس: رماه أرضًا وقتله. 2 هلال وسنان: بالإضافة إلى معنييهما المتداولين فهما اسما قبيلتين. 3 الجارحة: العضو العامل من أعضاء الجسد.

وقال أيضًا يصف بساطًا: بساط يملأ الأحداق حسنًا ... ويهدي للقلوب به سرورا ويشرح حين يبسط كل صدر ... وخير البسط ما يرضي الصدورا وقال "من" دو بيت: الصب بحيكم عراه الوله ... في طوع هواكم عصى عذله1 إيضاح غرامه غدا تكملة ... إذ كان مفصل الهوى مجمله2 وقال أيضًا: أفدي عربًا بوادي الجزع ... يا وحشة ناظري لهم في الربع لما بحثوا عندي في فرقتنا ... أنشأت لهم مسائلًا من دمعي ومنه قوله: يقول وقد رنا عن لحظ ظبي ... وهز الغصن في ورق الغلائل أأقتلكم بطرفي أم بعطفي ... فقلت بما تشا فالكل ذابل3 وهذه النكتة أخذها الشيخ جمال الدين بقافيتها وقال: له معطف لدن القوام ومرشف ... رقيق على التقبيل فالكل ذابل وقال الشيخ صلاح الدين الصفدي، في كتابه الذي جمعه من إملاء الشيخ أثير الدين أبي حيان، وسماه "مجاني الهصر من أدب أهل العصر"، أنشدني الشيخ أثير الدين، قال: أنشدني شمس الدين محمد بن العفيف في مليح طباخ: رب طباخ مليح ... فاتر الطرف غرير4 مالكي أصبح لكن ... شغلوه بالقدور5 قال الشيخ صلاح الدين: وأنشدني الشيخ أثير الدين، قال: أنشدني شمس الدين محمد بن العفيف لنفسه:

_ 1 الوَلَه: ذهاب العقل لشدة الحزن 2 المفصل والمجمل: من آيات القرآن الكريم واضحة وغامضة. 3 العطف: الجانب. 4 الغرير: المغرور والذي لا تجربة له. 5 مالكي نسبة إلى الإمام مالك. القدور: الجبر، نظرية بعض الفرق الإسلامية التي لا تؤمن بالاختيار.

ليس خليلًا لي ولكنه ... يضرم في الأحشاء نار الخليل1 يا ردفه جرت على خصره ... رفقًا به ما أنت إلا ثقيل2 وهذه النكتة تلاعب بها غالب المتأخرين بعد ابن العفيف. ومن لطائفه قوله وقد احتجب بعض أصحابه عنه: ولقد أتيت إلى جنابك قاضيًا ... باللثم للعتبات بعض الواجب وأتيت أقصد زورة أحيا بها ... فرددت يا عيني هناك بحاجب3 هذه النكتة أخذها الشيخ جمال الدين بن نباتة -غفر الله له- بقافيتها فقال: حجبتني فازددت عندي علا ... برغم من أقبل كالعاتب وقلت لا أعدم من سيدي ... من كان عيني فغدا حاجبي وألم الشيخ زين الدين بن الوردي بهذه النكتة، ولكن سبكها في غير هذا القالب بقوله: زرتكم صحبة وودا ... ألفيتكم مغلقين بابا سعيي إلى بابكم جنون ... عليه أستأهل الحجابا ومن لطائفه في أغزاله قوله: وكم يدَّعي صونًا وهذي جفونه ... بفترتها للعاشقين يواعد وكم يتجافى خصره وهو ناحل ... وكم يتحالى ريقه وهو بارد ومن هنا أخذ الشيخ صفي الدين الحلي وليته ما قال: وما فيه شيء ناقص غير خصره ... وما فيه شيء بارد غير ريقه ومنه قوله: أيسعدني يا طلعة البدر طالع ... ومن شقوتي خط بخدك نازل ولو أن قسا واصف منك وجنة ... لأعجزه نبت بها وهو باقل4

_ 1 الخليل: الصديق الملازم وإبراهيم -صلى الله عليه وسلم- خليل الرحمن. 2 الردف: العجز والمؤخرة. 3 الزورة: الزيارة. الحاجب: ما يعلو العين من الشعر والخادم الذي يحجب الحاكم عن الناس. 4 باقل: مثمر قرونًا تشبه الباقلاء، وباقل الذي يضرب المثل به في العي وقس: هو ابن ساعدة الإيادي، خطيب مفوه.

الذي يظهر لي أن النكتة في باقل من اختراعات ابن العفيف، فإني لم أجد أحدًا ممن تقدَّمه أَلَمّ بها، ولكن ما صبر الشيخ جمال الدين عنها لحسنها فقال من قصيدة ضمنًا: تطاولت الأغصان تحكي قوامه ... وعند التناهي يقصر المتطاول وأعيا فصيح الوقت نبت عذاره ... وعير قسا بالفهاهة باقل1 وكذلك الشيخ زين الدين بن الوردي، ما صبر عنها حتى قال: وبي أغيد من حسنه البدر خائف ... على نفسه والنجم في الغرب مائل فلو رام قس وصف باقل خدّه ... لعير قسًّا بالفهاهة باقل ومن لطائف قوله: يا خاله خضرة بعارضه ... حرستها عن متيم مغرى كف عن العاشقين مقتصرًا ... هل أنت إلا حويرس الخضرا2 ومن نكته اللطيفة قوله: زار وجيب الظلام منسدل ... فانشق ثوب الدجى عن الفجر وبت من صدغه ومبسمه ... أجمع بين الحشيش والخمر هذه النكتة أخذها الشيخ زين الدين بمعناها وقال: ومليح قال جهرًا ... يا نفوس الناس عيشي من رضابي وعذاري ... بين خمر وحشيش ومن لطائف نكت ابن العفيف قوله: وأتى بوجه كالهلال مركب ... من قامة غصنية هيفاء وبمقلة خفق الفؤاد وقد رنت ... وكذا الجنون يكون عن سوداء3

_ 1 الفهاهة: العي. 2 حويرس: تصغير حارس، للتحقير. 3 رنا: نظر بعطف- السوداء: مرض عصبي يصيب الإنسان نتيجة خلل في إفراز أحد الأخلاط الأربعة التي بها قيام الجسم وهي: الصفراء، الدم، البلغم والسوداء.

ومن لطائف اختراعاته قوله: بدا وجهه من فوق أسمر قده ... وقد لاح من سود الذوائب في جنح فقلت عجيب كيف لم يذهب الدجى ... وقد طلعت شمس النهار على رمح ومنه قوله والنكتة غريبة وبديعة: أسكرني باللفظ والمقلة الـ ... ـكحلاء والوجنة والكاس ساق يريني قلبه قسوة ... كل ساق قلبه قاس "ي" ومن لطائفه أيضًا قوله: يا باعثًا شعره انتشارًا ... بقامة ما لها نظير الموت من ناظريك لكن ... من شعرك البعث والنشور1 ومن لطائفه قوله في مليح اسمه مالك: مالك قد أحلى قتلي برمح الـ ... ـقد منه وراح قلبي طعينه ليس يفتي سواه في قتل صب ... كيف يفتي ومالك بالمدينة2 ومنه قوله مع حسن التضمين: جلا ثغرًا وأطلع لي ثنايا ... يسوق بها المحب إلى المنايا وأنشد ثغره يبغي افتخارًا ... أنا ابن جلا وطلاع الثنايا3 ومن لطائفه قوله: بأبي شادن غدا الوجه منه ... يخجل النيرين في الإشراق4 سلب القضب لينها فهي غيظي ... واقفات تشكوه بالأوراق

_ 1 البعث: إعادة الإحياء، النشور: القيام من الموت. 2 كيف يفتى ومالك في المدينة: أي لا يفتى ومالك في المدينة ومالك هو الإمام مالك بن أنس صاحب المذهب المالكي. 3 أنا ابن جلا: واضح النسب. وطلاع: صيغة مبالغة من طلع، والثنايا: الطرق الجبلية، وطلاع الثنايا: الذي يتحمل الصعاب. وهذا القول هو للحجاج بن يوسف الثقفي من خطبة في أهل العراق يوم تولى أمره. 4 النيرين: الشمس والقمر.

البيت الثاني بلفظه، ومعناه تقدم لابن عبد الظاهر، والله أعلم أيهما السابق. وابتذل حجاب هذه النكتة بعد ذلك المتأخرون، منهم الشيخ زين الدين بن الوردي بقوله: قدّه جار اعتدالًا ... فله فتك ونسك سلب الأغصان لينًا ... فهي بالأوراق تشكو ومن نكته البديعة الغريبة قوله: ومستتر من سنا وجهه ... بشمس لها ذلك الصدغ في كوى القلب مني بلام العذار ... فعرفني أنها لام كي1 ومن لطائفه قوله: كأنني واللواحي في محبته ... في يوم صفين قد قمنا بصفين وكيف يطب صلحًا أو موافقة ... ولحظه بيننا يسعى بسيفين ومن نكته التي تطفل الناس بعده عليها قوله: بأبي أفدي حبيبًا ... تيم القلب غراما عذر العاذل فيه ... مذ رأى العارض لاما وقال: لو لم تكن ابنة العنقود في فمه ... ما كان في خده القاني أبو لهب2 تبت يدا عاذلي فيه فوجنته ... حمالة الورد لا حمالة الحطب3 أخذه ابن نباتة وقال: حمالة الحلى والديباج قامته ... تبت غصون النقا حمالة الحطب قلت ورد ابن العفيف أغلى من ديباج ابن نباتة، من حيث المناسبة الأدبية، والله أعلم. وهذه النكتة أيضًا أغار عليها المعمار بقوله: تعرض البدر يحكي حسن صورته ... فراح منكسفًا وانشق بالغضب وبانة الجزع ماست مثل قامته ... تبت وقد أصبحت حمالة الحطب

_ 1 لام العذار: أطال سالفه وجعله بشكل حرف اللام، ولام كي في النحو هي التي تنصب الفعل المضارع. 2 ابنة العنقود: الخمرة. أبو لهب هو عم النبي محمد الذي خالف دعوته وحاربه. 3 تبّ: انقطع وخسر. وحمالة الحطب: زوجة أبي لهب.

وممن أحسن المباشرة في نظم التورية سيف الدين بن المشد. فمن نكته البديعة الغريبة قوله: مسكية الأنفاس تملي الصَّبا ... عنها حديثًا قط لم يملل جننت لما أن سرى عرفها ... وما نرى من جن بالمندل1 ومن لطائفه قوله: ومجلس راق مر واش يكدره ... ومن رقيب له باللوم إيلام ما فيه ساع سوى الساقي وليس به ... على الندامى سوى الريحان تمام هذه النكتة تقدمت للبدر بن لؤلؤ الذهبي، وذكرت من أغار عليها من الجماعة، ولكن الأمير سيف الدين زادها نكتة أخرى بديعة، واستعملها أحسن من الجماعة، ومن لطائفه قوله: وشادن أورد في هجره ... لهيب حر الشوق والفرقه أصبحت حران إلى ريقه ... فليت لي من قلبه رقه2 هذه النكتة نظمتها في مبادي العمر، ولم أقف على قول ابن المشد، إلا بالديار المصرية في الأيام المؤيدية فقلت: أرشفني ريقه وعانقني ... وخصره يلتوي من الدقة فبت من خصره وريقته ... أهيم بين الفرات والرقة ومن لطائفه قوله: في يوم غيم من لذاذة جوّه ... غني الحمام وطابت الأنداء والروض بين تكبر وتواضع ... شمخ القضيب به وخر الماء ومن لطائفه أيضًا قوله: أذن القمري فيها ... عند تهويم النجوم3 فانثني الغصن يصلي ... بتحيات النسيم

_ 1 العرف: الرائحة الطيبة، الشذا. 2 حران: ظمآن 3 القمري: حمام مطوق حسن الصوت، التهويم: النوم الخفيف، وتهويم النجوم اختفاؤها.

ومن لطائفه قوله: لئن صرفت وحاشا ... ك فالدنانير تصرف وما اعتقلت كريمًا ... إلا وأنت مثقف ومن لطائفه قوله: الحمد لله في حلي ومرتحلي ... على الذي نلت من علمي ومن عملي بالأمس كنت إلى الديوان منتسبًا ... واليوم أصبحت والديوان ينسب لي ومن لطائفه قوله: لعبت بالشطرنج مع شادن ... رشاقة الأغصان من قدّه1 أحل عقد البند من خصره ... وألثم الشامات من خدّه تورية الشامات رخصها المتأخرون بعد سيف الدين بن المشد. وممن أخذها الشيخ جمال الدين بن نباتة فقال: أفديه لاعب شطرنج قد اجتمعت ... في شكله من معاني الحسن أشتات2 عيناه منصوبة للقلب غالبة ... والخد فيه لقتل النفس شامات انتهى ما تخيرته ووعدت بإيراده في باب التورية. من كلام هذه العصابة، التي مشت تحت العصائب الفاضلية، وصار لها من بعده في نظم التورية أعظم روية، وقدمت إمامهم الذي صلت الجماعة خلفه، وهو القاضي الفاضل وبعده القاضي السعيد ابن سنا الملك، والشيخ سراج الدين الوراق، وأبو الحسين الجزار، ونصير الدين الحمامي، وناصر الدين حسن بن النقيب، والحكيم شمس الدين بن دانيال، والقاضي محيي الدين بن عبد الظاهر، وهذه "هي" الفرقة التي تقدمت بعد الفاضل بالديار المصرية. وأما الفرقة الشامية فإمام جماعتها الشيخ شرف الدين عبد العزيز الأنصاري، شيخ شيوخ حماة، وبعده مجير الدين بن تميم، وبدر الدين يوسف بن لؤلؤ الذهبي، ومحيي الدين بن قرناص الحموي، وشمس الدين بن العفيف، وسيف الدين بن المشد. ولكن عجبت من الشيخ صلاح الدين الصفدي كيف أخل في كتابه المسمى: "بفض الختام عن التورية والاستخدام" بذكر الشيخ علاء الدين على بن المظفر الكندي الشهير بالوداعي، وهو اشهر من قفا نبك، في نظم التورية، بل هو امرؤ قيسها وكنديها، وإذا

_ 1 الشادن: الغزال. 2 أشتات: متفرقات.

ذكر شرف نسبها فإنه علويّها، وانتقل من حلب إلى دمشق المحروسة، وعاصر الجماعة المذكورين، ومولده سنة أربعين وستمائة، ووفاته سنة ست عشرة وسبعمائة، فكانت مدة حياته ستًا وسبعين سنة. ومولد السراج الوراق سنة خمس عشرة وستمائة، ووفاته سنة خمس وتسعين وستمائة، فكانت مدة حياته ثمانين سنة. ومولد أبي الحسين الجزار سنة إحدى وستمائة ووفاته سنة اثنتين وسبعين وستمائة، فمدة حياته إحدى وسبعون سنة. ووفاة نصير الدين الحمامي لسنة اثنتي عشرة وسبعمائة. ووفاة ناصر الدين بن النقيب سنة سبع وثمانين وستمائة. ووفاة الحكيم بن دانيال سنة عشر وسبعمائة. ومولد محيي الدين بن عبد الظاهر سنة عشرين وستمائة، ووفاته سنة اثنتين وتسعين وستمائة، فمدة حياته اثنتان وسبعون سنة. ومولد شيخ الشيوخ الأنصاري سنة ست وثمانين وخمسمائة، ووفاته سنة إحدى وستين وستمائة، فمدة حياته خمس وسبعون سنة. ووفاة مجير الدين بن تميم سنة إحدى وثمانين وستمائة. ووفاة بدر الدين يوسف الذهبي سنة ثمانين وستمائة. ومولد شمس الدين بن العفيف سنة اثنتين وستين وستمائة، ووفاته سنة سبع وثمانين وستمائة، فمدة حياته خمس وعشرون سنة. ومولد سيف الدين بن المشد سنة اثنين وستمائة ووفاته سنة خمس وخمسين وستمائة. فمدة حياته ثلاث وخمسون سنة. وجل القصد من ذلك، تحقيق الواقف على هذا الشرح، إن علاء الدين الوداعي عاصر الجماعة أو غالبهم، وقد تقدم قولي في باب التوجيه، إن الشيخ علاء الدين الوداعي سبك التورية في قوالب لم يسبقه أحد من هذه الجماعة إليها، ولا سقط فكره عليها. ومع علو قدر الشيخ جمال الدين بن نباتة، وهو الذي مشت ملوك الأدب قاطبة، بعد الفاضل، تحت أعلامه، تطفل على موائد نكت الوداعي ومعانيه، وعلى الأنواع الغريبة من تواريه. وأوردت هناك من هذا القدر نبذة، ولكن تعين إيرادها هنا كاملة لأنها حق من حقوق التورية، وصل في تقدمه إلى غير مستحقه بحيث إن الطالب إذا أراد أن يفرد هذا النوع، أعني التورية، كان بإفراده فريدًا، وعقدًا نضيدًا. وكلما أوردته من أنواع التورية في غير بابه، عزمت على نظم شمله هنا ليجتمع كل غريب بأقاربه وأنسابه، وقد عنَّ لي أنني إذا فرغت من هذا الشرح أن أفراد بابًا للتورية والاستخدام، أجعلهما مصنفًا مفردًا، وأسميه: كشف اللثام عن وجه التورية والاستخدام، فإن الشيخ صلاح الدين الصفدي، في كتابه، لم يشف القلوب بترتيبه، ولا تفقه في بديعه وغريبه. فمن موائد الوداعي التي تطفل الشيخ جمال الدين بن نباتة عليها قوله من قصيدة: أثخنت عينها الجراح ولا إثـ ... ـم عليها لأنها نعساء زاد في عشقها جنوني فقالوا ... ما بهذا فقلت بي سوداء

أخذه الشيخ جمال الدين بن نباتة، فقال من مطلع قصيدة: قام يرنو بمقلة كحلاء ... علمتني الجنون بالسوداء والشيخ جمال الدين بن نباتة أدرك الوداعي وهو في عنفوان شبابه، ولمعان سيوف آدابه، وقد تقدم مولد الوداعي ووفاته، ومولد الشيخ جمال الدين سنة ست وثمانين وستمائة، وتوفي سنة ثمان وستين وسبعمائة، فمدَّة حياته اثنتان وثمانون سنة. وعلى هذا كان سن الشيخ جمال الدين بن نباتة عند وفاة الوداعي ثلاثين سنة والله أعلم. ومما نعطف به على ما تقدم قول الوداعي: إذا رأيت عارضًا مسلسلًا ... في وجنة كجنة يا عاذلي1 فاعلم يقينًا أنني من أمة ... تقاد للجنة بالسلاسل أخذه الشيخ جمال الدين بن نباتة، وزنًا وقافية، وقال: أفدي الذي ساق إليها مهجتي ... فرع طويل تحت حسن طائل قلبي بصدغيها إلى طلعتها ... يقاد للجنة بالسلاسل ومن ذلك قول الشيخ علاء الدين الوداعي: لقد سمح الزمان لنا بيوم ... غدا فيه السمي مع السمي2 تجمعنا كأنا ضرب خيط ... عليّ في عليّ في عليّ أخذه الشيخ جمال الدين بن نباتة، أيضًا وزنًا وقافية، وقال: علوت اسمًا ومقدارًا ومعنى ... فيا لله من حسن جليّ كأنكم الثلاثة ضرب خيط ... عليّ في عليّ في عليّ قال الشيخ علاء الدين الوداعي: من آخذ من خدّه ... بدم الشهيد المغرم فالريح ريح المسك منـ ... ـه ولونه لون الدم أخذه الشيخ جمال الدين بن نباتة وقال: لا ينكر الكاسر من جفنه ... دم الشهيد الصابر المغرم فالريح ريح المسك من خدّه ... كما ترى واللون لون الدم

_ 1 العارض: المطر في غير أوانه، المسلسل: الدائم الهطول. 2 السمي: الذي يسمى بالاسم نفسه.

قال الشيخ علاء الدين الوداعي من قصيدة: يفتن بالفاتر من طرفه ... وريقه البادر يا حار أخذه الشيخ جمال الدين بن نباتة وقال من قصيدة: لو ذقت برد رضاب من مقبله ... يا حار ما لمت أعضائي التي ثملت1 مع أن الشيخ جمال الدين فتر عن الفاتر. وقال الشيخ علاء الدين الوداعي: قيل إن شئت أن تكون غنيًّا ... فتزوج وكن من المحصنينا2 قلت ما يقطع الإله بِحُرٍ ... لم يضع بين أظهر المسلمينا أخذه الشيخ جمال الدين بالقافية، وقال: قال لي خِلي تزوج تسترح ... من أذى الفقر وتستغني يقينًا قلت دع نصحك واعلم أنني ... لم أضع بين ظهور المسلمينا قلت إن قافية محصنين أصدق من يقين ابن نباتة في مقطوعه. قال الشيخ علاء الدين الوداعي مضمنًا: يا عاذلي في النكاريش اطّرح عذلي ... واعذر فعذري فيهم واضح حسن3 فالمرد إن حاولوا حربي بهجرهم ... إذن لقام معشر خشن4 أخذه الشيخ جمال الدين بن نباتة فقال: لو آذنتني عذالي بحربهم ... إذ في النكاريش قد أصبحت هيمانا إذن لقام بنصري معشر خشن ... عند الحفيظة إنْ ذو لوثة لانا5 قال الشيخ علاء الدين الوداعي من قصيدة: عذب مقبله وحلو لحظه ... أو ما تراه بالنعاس معسلا6

_ 1 المقبل: مكان التقبيل "الشفاه". ثمل: سكر. 2 المحصنين: المتزوجين. 3 النكاريش: جمع نكريش وهو اللواطي، وقد سبق وأشرنا إلى هذه اللفظة "ص137". 4 المرد: جمع أمرد وهو الذي لا لحية له من الشبان. 5 الحفيظة: الغضب أو الحمية، اللوثة: الجنون. 6 المعسّل: من التعسيل وهو النوم الخفيف، أن ينام وتبقى عيناه مفتوحتين قليلًا.

أخذه الشيخ جمال الدين بن نباتة وقال من قصيدة: معسل بنعاس في لواحظه ... أما تراها إلى كل القلوب حلت قال الشيخ علاء الدين الوداعي، من القصيدة المذكورة. ألحاظه وهي السيوف كليلة ... ويكون تعذيب الكليلة أطوالا1 أخذه الشيخ جمال الدين مع القافية وقال من قصيدة: بليت به ساجي اللحاظ كليلها ... وما زال تعذيب الكليلة أطولا2 قال الشيخ علاء الدين الوداعي من قصيدة: والنهر فيه كالمبرد يجلو الصدى ... ببرده عن قلب ظمآنه أخذه الشيخ جمال الدين بن نباتة وقال من قصيدة: والنهر فيه كمبرد ... فلأجل ذا يجلو الصدى لكن، نقص نهره وكَلَّ مبرده، عن نكتة ببرده في بيت الوداعي، فإن الشيخ جمال الدين حط مكانها في بيته: فلأجل ذا. وشتان. قال الشيخ علاء الدين الوداعي في مطلع قصيدة: ما كنت أول مغرم محروم ... من باخل بادي النفار كريم3 أخذه الشيخ جمال الدين بن نباتة وقال من قصيدة: مبخل يشبه ريم الفلا ... يا طول شجوي من بخيل كريم قال الشيخ علاء الدين الوداعي في مليح أعمى: بروحي غزال راح في الحسن جنة ... تعشقته أعمى فهمت من الوجد إذا ما تردَّى قائدًا بيمينه ... تيقنت حقًّا أنه جنة الخلد أخذه الشيخ جمال الدين بن نباتة بالقافية، وقال: أفديه أعمى مغمدًا لحظه ... ليرتعي في خدّه الوردي تمكنت عيناي من وجهه ... فقلت هذي جنة الخلد

_ 1 الكليلة: من السيوف غير القاطعة. 2 ساجي اللحاظ: ساكنه ولينه. 3 النفار: الهجر وعدم الوصال، كريم الحسب والأصل.

قال الشيخ علاء الدين الوداعي من قصيدة: بخلت على بدر مبسمها ... فغدت مطوقة بما بخلت1 أخذه الشيخ جمال الدين بن نباتة وقال من قصيدة: بخلت بلؤلؤ ثغرها عن لائم ... فغدت مطوقة بما بخلت به هذا المعنى استحقيته على الشيخ علاء الدين الوداعي، والشيخ جمال الدين بن نباتة، فإني زدت الاقتباس من الحديث تورية بقولي: ناحت مطوقة الرياض وقد جرى ... دمعي الملون بعد فرقة حبه لكن بتلوين الدموع تباخلت ... فغدت مطوقة بما بخلت به قال الشيخ علاء الدين الوداعي من قصيدة يصف مليحًا من المغل: وما يبري هوى المشتا ... ق إلا ذلك المغلي2 قال الشيخ جمال الدين من قصيدة: من المغل أشكو نحوه ألم الجوى ... وطب الهوى عندي كما قيل بالمغلي قال الشيخ علاء الدين الوداعي: يا نديمي والذي عاهدني ... أنه عن شربها لن يقصرا اسقني صرفًا ودع عذالنا ... يضربون الماء حتى يخصرا3 أخذه الشيخ جمال الدين بن نباتة وقال: اسقني صرفًا من الرا ... ح تحت الهم حتًّا4 ودع العذال فيها ... يضربون الما حتى قال الشيخ علاء الدين الوداعي، من مطلع قصيدة: باللِّوي صعدة عليها لواء ... كل طعنات نصلها نجلاء5

_ 1 المطوقة: الحمامة، وفي البيت إشارة إلى قوله تعالى: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} . 2 المغلي: نسبة غلى المغل وهم جيل من الناس "المغول". ونوع من الحلوى. 3 يخصرا: أي يختصر ويقل. 4 حتّ: أزال. 5 اللوي: مكان. الصعدة: الطويلة المستقيمة كالرمح. نجلاء: الطعنة الواسعة.

وقال بعد المطلع: لا تخل عندها سماعًا لشكوى ... فلهذا قالوا لها صماء1 قال الشيخ جمال الدين بن نباتة في مطلع قصيدة: وعدت بطيف خيالها أسماء ... إن كان يمكن مقلتي إغفاء وقال بعد المطلع: يا من يطيل من الجوى لقوامها ... شكواه وهي الصعدة الصماء قال الشيخ علاء الدين الوداعي: يا ربوة أطربتني ... وحسنت لي هتكي إذ لست أبرح فيها ... ما بين دف وجنك2 أخذه الشيخ جمال الدين بن نباتة وقال: بالجنك من مغنى دمشق حمائم ... في دف أشجار تشوق بلطفها فإذا أشار لها الشجي بكأسه ... غنت عليه بجنكها وبدفها وتطفل أيضًا الشيخ صلاح الدين الصفدي على الوداعي، في جنكه ودفه، فقال: انهض إلى الربوة مستمتعًا ... تجد من اللذات من يكفي فالطير قد غنى على عوده ... في الروض بين الجنك والدف3 وتطفل على الوداعي أيضًا، الشيخ زين الدين بن الوردي، وتزاحم هو والصفدي على العود: دمشق قل ما شئت في وصفها ... واحكِ عن الربوة ما تحكي فالطير قد غني على عوده ... في الروض بين الدف والجنك قال الشيخ علاء الدين الوداعي، من قصيدة يصف نار شوقه لمحبوبه مع كتمان سره: في حشاه للشوق نار تلظَّى ... وبفيه حفظًا لسرك ماء4

_ 1 تخل: نهي من خان ظن. الصماء: التي لا تسمع، والقوية. 2 الجنك: من آلات الطرب، الطنبور. 3 العود: الغصن، وآلة موسيقية. 4 بفيه ماء: أي بفمه الماء، فلا يستطيع الكلام.

أخذه الشيخ جمال الدين بن نباتة، بالقافية وقال من قصيدة ولكن زاده حسنًا: فيا عجبًا مني لإنسان مقلتي ... يحدث أخباري وفي فمه ماء ومن لطائف الوداعي ونكته، في العود الذي أخذه منه الشيخ صلاح الدين الصفدي، والشيخ زين الدين بن الوردي واستعملاه بلا أوتار، قوله: والروض يهدي مع نسيم الصبا ... نشر خزاماه وريحانه وراسل القمري ورقاءه ... شدوًا على أوتار عيدانه1 ويعجبني من هذه القصيدة قوله، مشيرًا إلى رأس العين ببعلبك: يا حادي الأظعان إن شارفت ... من بعلبك سفح لبنانه2 فاقرأ تحياتي على نازل ... في محجر العين كإنسانه قال الشيخ علاء الدين الوداعي من قصيدة: يا جيرة بالغوير قد نزلوا ... الله من جيرة ونزال ما عطل الطرف بعد فرقتكم ... من دمعه واكشفوا عن الحال أخذه الشيخ جمال الدين بن نباتة وقال: حلوا بعقد الحسن أجيادهم ... وحاولوا صبري حتى استحال فآه من عاطل صبر مضى ... والحمد لله على كل حال قال الشيخ علاء الدين الوداعي، وأجاد إلى الغاية: قالت الورق إذ شدا ... فشجاها وشوّقا ما رأينا مقرطقًا ... قبل هذا مطوَّقا3 ومثله في تورية المطوّق: يا جنة كوثرها ... رضا به المروق وفوق غصن قده ... عذاره مطوَّق

_ 1 القمري: نوع من الحمام، وكذلك الورقاء. وكما يبدو هو ذكر الورقاء. 2 الحادي: الذي يسوق الإبل بواسطة الحداء وهو نوع من الغناء الشجي تحث بواسطته الإبل على السير. الأظعان: المسافرون جمع ظعن ويعني به الإبل. 3 المقرطق: لابس القرطق وهو نوع من الثياب الإيرانية المزركشة.

ومثله قوله: فديت من مبسمه ... زهرًا لغصن قده وصدغه مطوّق ... في روضة من خده النكتة في المطوق من اختراعات الوداعي، وتطفل عليها الشيخ جمال الدين بن نباتة، حتى في تسمية كتابه، ومن نظمه فيها قوله: طوّق جود الوزير جيدي ... فلست عن مدحه أعوّق أسجع بالمدح في علاه ... لا غرو أن يسجع المطوّق قال الشيخ علاء الدين الوداعي: لي من الطرف كاتب يكتب الشو ... ق إليه إذا الفؤاد أمله سلسل الدمع في صحيفة خدي ... هل رأيتم مسلسلات ابن مقله هذا المعني قلبه ابن نباتة، بعد الوداعي، كثيرًا وسبكه في قوالب كثيرة، وأظنه أخذه وزنًا وقافية بقوله: قلت للكاتب الذي ما أراه ... قط إلا ونقط الدمع شكله إن تخط الدموع في الخد خطًا ... ما يسمى فقال خط ابن مقله قال الشيخ علاء الدين الوداعي من قصيدة: قلبي مطبع في هواك وأنت لي ... من بين دوح الحسن غصن خِلاف1 أخذه الشيخ جمال الدين بن نباتة، وقال في مطلع قصيدة: قاسي الجوانح لين الأعطاف ... أهواه في الحالين غصن خلاف قال الشيخ علاء الدين الوداعي من قصيدة: كيف أقوى لحمل سخط وبعد ... بعدما كان من رضا وتداني فتكرم بعطفة والتفات ... مثل ما في الأغصان والغزلان أخذه الشيخ جمال الدين، فقال من قصيدة: غزال رمل ولكن غير ملتفت ... وغصن بان ولكن غير منعطف

_ 1 الخلاف: شجر الصفصاف.

ومن لطائف الشيخ علاء الدين الوداعي ونكته الغريبة قوله: قال لي العاذل المفند فيها ... يوم وافت فسلمت مختاله1 قم بنا ندَّعي النبوة في العشـ ... ـق فقد سلمت علينا الغزاله أخذه الشيخ جمال الدين بن نباتة فقال يا غزالًا أهدى السلام إلى المغـ ... ـرم لا تنكرن حالًا لديه كيف لا يدَّعي النبوّة في العشـ ... ـق وقد سلم الغزال عليه وأخذه الشيخ صفي الدين الحلي، فقال في ثلاثة أبيات تركيبها ضعيف: تنبأ فيك قلبي واسترابت ... قلوب صدهم عنه ضلال2 وردهم الهوى أن يؤمنوا بي ... وقالوا إن معجزه مجال فمذ سلمت سلمت البرايا ... إِلَيّ وقيل كلمه الغزال ومن لطائف الشيخ علاء الدين الوداعي أيضًا ونكته الغريبة، قوله على لسان صديق اسمه عمرو قد هام بمليح في إحدى أذنيه لؤلؤة: كم قلت لما مرّ بي ... مقرطق يحكي القمر هذا أبو لؤلؤة ... منه خذوا ثأر عمر3 ومن لطائفه أيضًا في مليح اسمه سعد: إذا ما كان قتلي يا حياتي ... مرادك من يردّك أو يصدُّ ففوق سهم طرفك نحو قلبي ... فداك أبي وأم وارمِ سعد ومن لطائفه أيضًا في مليح بدوي: أقبل من حيه وحيا ... فأشرقت سائر النواحي فقلت يا وجه من بني مَن ... فقال لي من بني صباح

_ 1 العاذل: اللائم. المفند: الضعيف الرأي. مختالة: متبخترة في مشيها، متكبرة. 2 استراب: شك. 3 أبو لؤلؤة: غلام فارسي طعن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، فكانت الطعنة سببًا لوفاته.

ومن نكته البديعة الغريبه قوله: تعجبوا لما غدت أدمعي ... بيضا وراحت كالدم القاني لا تعجبوا طرفي رب الهوى ... فكل يوم هو في شان1 ومن نكته البديعة الغريبة أيضًا قوله: وليلة خلت مجلسنا سماء ... وصحبي كالثريا في اجتماع فبات الطرف يرعى البدر منهم ... إلى أن حل منزلة الذراع2 ومن نكته البديعة الغريبة أيضًا قوله من دو بيت: يا غصن نقا أينع بالأزهار ... يا ألطف من نسيمة الأسحار ريحان عذارك الذي تيمني ... من ولده من قلم الأشعار ومن لطائفه قوله من دو بيت أيضًا: لما حجب الكرى عن الآماق ... وانقاد مع العدى على العشاق3 ناديت وقد تزايدت أشواقي ... يا غصن رضيت منك بالأوراق ومن لطائفه الغريبة قوله فيمن يبيع السكر بالدين: أرى من الواجب أن يصرف الـ ... ـعطار بالصد وبالزجر4 فأي تصريف وذوق لمن ... يدين السكر بالصبر5 ومن نكته الغريبة أيضًا من قصيدة: يا طالبًا للكيمياء ولم ... يحصل على عين ولا أثر6 زر لائمًا عتبات ساحته ... تظفر إذا بمكرم الحجر وهذا المعنى تطفل عليه الشيخ جمال الدين بن نباتة، وكثير من الناس، بعد الوداعي.

_ 1 هذا تضمين لقوله تعالى: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 55/ 29] . 2 منزلة الذراع: من منازل القمر، وهو نجم على شكل الذراع. 3 الآماق: جمع مؤق وهو مكان خروج الدمع من العين. 4 العطار: في الأصل بائع العطر وتطلق على البائع إطلاقًا. 5 الصبر: يقصد أنه مرّ المذاق. 6 العين: معظم الجسم. الأثر: ما يدل على وجود جسم.

ومن لطائفه قوله: يا عز والله العزيز الذي ... قضى على نفسي بإذلالها له خطرت من نحوكم نسمة ... إلا تعرضت لتسآلها1 ولا سرت منا إلى أرضكم ... إلا تمسكت بأذيالها ومن لطائف مجونه قوله: لنا شاعر قد هذب الطبع شعره ... وأصبح عاصيه على فيه طيعا إذا خمس الناس القصيد لحسنه ... يحق لشعر قاله أن يسبعا2 ومن نكته البديعة الغريبة، قوله مع حسن التضمين: وشادن مثل الضحى وجهه ... كتمت عشقي فيه خوف الرقيب حتى بدا ليل عذار له ... فبحت والليل نهار الأديب ومن لطائفه التي تقدم بها قوله: كلما رمت فيك إنكار حبي ... من عذول يزيد في تعنيفي3 عرفته لام العذار غرامي ... بك واللام آلة التعريف ومن نكته التي هي نوع من السحر قوله في مطلع قصيدة: أعيذ ريم الترك بالروم ... والصدغ مع فيه بحم4 وما أحلى ما قال بعده، ولم يخرج من مطابقة التورية: وخده المشرق قد صح في ... عذاره المعوج تقويمي ومن نكته البديعة الغريبة المطربة قوله: وأغنّ ساجي الطرف ذي هيف ... والواو في وأغنّ للقسم5

_ 1 التسآل: السؤال. ونعتقد أن البيت يبدأ بـ "لا" بدلًا من "له" لمناسبة المعنى. 2 خمس القصيد أو سبعه: من المخمس والمسبع: جعل مقاطع لكل مقطع خمسة أبيات تأتي القافية في آخر البيت الأخير. أو سبعة أبيات والقافية في آخر البيت السابع. 3 رام: أراد. العذول: اللائم. والتعنيف: التبكيت واللوم. 4 الروم وحم: سورتان من سور القرآن الكريم. وأعيذ: أحمي. 5 الأغن: الذي في صوته غُنَّه. ساجي الطرف: ساكنه.

قالت خلاخله أيمكنني ... نطق وماء الساق ملء فمي1 ومن نكته البديعة الغريبة قوله من قصيدة: وكأن ريق النحل ريقتها ... فيها الشفاء لمهجة نحلت2 ومن لطائفه قوله: ويوم لنا بالنيرين رقيقة ... حواشيه خال من رقيب يشينه3 وقفنا وسلمنا على الدوح بكرة ... فردت علينا بالرءوس غصونه ومن لطائفه أيضًا قوله: وذي دلال أهيف أحور ... أصبح في عقد الهوى شرطي طاف على القوم بكاساته ... وقال ساقي قلت في وسطي ومن نكته البديعة الغريبة قوله: روِّ بمصر وبسكانها ... شوقي وجدد عهدي الخالي4 وارو لنا يا سعد عن نيلها ... حديث صفوان بن عسال ومن اختراعاته البديعة الغريبة قوله: سقيًا لكرم مدامة ... أنشت لنا النشوات ليلًا5 خلعت علينا سكرة ... بدوية كما وذيلًا ومن نكته البديعة الغريبة قوله: رمتني سود عينيه ... فأصمتني ولم تبطي6 وما في ذاك من بدع ... سهام الليل لا تخطي

_ 1 الخلاخل: الخلاخيل، جمع خلخال وهو من الحلي ما تلبسه الفتاة أو المرأة في ساقها. الساق: الساقي، خففها لإقامة الوزن ولإيهام التورية بين الساقي والساق. 2 ريق النحل: العسل. نحلت: ضعفت. 3 النيرين: الشمس والقمر، ودجلة والفرات. يشينه: يعيبه أو يعكره. 4 الخالي: الماضي، البائد. 5 النشوة: قمة الفرح والسرور، والسكر. 6 أصمى: أصاب وأمات.

أخذه الشيخ جمال الدين بالقافية وقال: وأغيد كل شيء فيه يعجبني ... كأنما هو مخلوق على شرطي1 أجفانه الود ما تخطي إذا رشقت ... سهامها وسهام الليل لا تخطي ويعجبني من نكته الغريبة قوله من قصيدة: أهل نجد هل تنجدون محبًا ... صاده بالغوير ظبي ملول2 كم دماء مطلولة في هواه ... وبها روض خده مطلول3 وحديث عن السقام صحيح ... قد رواه عن طرفه مكحول4 وقال وقد عينه الوزير، لرحبة مالك بن طوق: حاشاك أن تختار لي رحبة ... لست إليها الدهر بالسالك لأنها نار تلظّى أما ... ترونها تعزى إلى مالك ومن نكته التي ما حام فكر غيره عليها قوله: وفي أسانيد الأراك حافظ ... للعهد يروي صبره عن علقمة وكلما ناحت به حمامة ... روى حديث دمعه عن عكرمة التورية في علقمة وفي عكرمة أيضًا فإنه اسم للحمامة. ومثله في الغرابة أيضًا قوله وقد توجه من دمشق إلى البلقاء، لزيارة صاحب له يلقب بالشمس، فلما وصل إلى البلقاء وجده قد توجه إلى حسبان، فكتب إليه. أتيت إلى البلقاء أبغي لقاءكم ... فلم أركم فازداد شوقي وأشجاني فقالت لي الأقوام من أنت قاصد ... لرؤياه قلت الشمس قالوا بحسبان5 انتهى ما أوردته من ترجمة الشيخ علاء الدين الوداعي. ومن غرائب نكته البديعة في باب التورية، وأبدت سموّ رتبته بتطفل مثل الشيخ جمال الدين بن نباتة على موائد

_ 1 الأغيد: الناعم المتثني. 2 الملول: الذي لا يثبت على حب شيء. 3 المطلول: المهدور الدم دون الأخذ بثأره، والذي أصابه الطل وهو الندى. 4 مكحول: أحد رواة الحديث النبوي الشريف، والذي وضع الكحل في عينيه. 5 حسبان اسم بلد، وفي البيت إشارة إلى قوله تعالى: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} .

بدائعه وغرائبه. ولكن أقول إن الجزاء من جنس العمل. فكما أغار الشيخ جمال الدين على الوداعي ودخل إلى بيوته وابتذل حجاب بنات فكره، قيض الله له الشيخ صلاح الدين الصفدي. فإن الشيخ جمال الدين -رحمه الله- كان يخترع المعنى الذي لم يسبق إليه، ويسكنه بيتًا من أبياته العامرة بالمحاسن، فيأخذه الشيخ صلاح الدين الصفدي، بلفظه ولم يغير فيه غير البحر، وربما عام به في بحر طويل يفتقر فيه إلى كثرة الحشو واستعمال ما لا يلائم، فلم يصبر الشيخ جمال الدين على ذلك، وصنف كتابًا ألفه من نظمه ونظم الشيخ صلاح الدين الصفدي، وسماه: "خبز الشعير" يعني أنه مأكول مذموم، واستهل خطبته بقوله تعالى: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِي مُؤْمِنًا} 1، ورتب كتابه المذكور على قوله: "قلت أنا فأخذه الشيخ صلاح الدين وقال". وكنت أوردت من خبز الشعير نبذة في أوائل هذا الكتاب، ولكن لم يرض باب التورية إلا بإيراده هنا كاملًا؛ لأنه حق من حقوقها، فمن ذلك قول الشيخ جمال الدين بن نباتة، قلت: ومولع بفخاخ ... يمدّها وشباك قالت لي العين ماذا ... يصيد قلت كراكِ "ي"2 فأخذه الشيخ صلاح الدين وقال: أغار على سرح الكرى عندما رمى الـ ... ـكراكي غزال للبدور يحاكي فقلت ارجعي يا عين عن ورد حسنه ... ألم تنظريه كيف صاد كراك "ي" قال الشيخ جمال الدين بن نباتة: قلت: أسعد بها يا قمري برزة ... سعيدة الطالع والغارب3 صرعت طيرًا وسكنت الحشا ... فما تعديت عن الواجب فأخذه الشيخ صلاح الدين وقال: قلت له والطير من فوقه ... يصرعه بالبندق الصائب4 سكنت قلبي فحركته ... فقال لم أخرج عن الواجب

_ 1 نوح: 71/ 28. 2 كراكِ "ي": الأولى: بمعنى النعاس. والثانية بمعنى طيور. 3 البرزة: المرأة الحسناء التي تجالس الرجال. الطالع: الحظ والطلعة. الغارب: الكاهل والذهاب، أي سعيدة الإقبال والصدود. 4 البندق: حبيبات تضرب بواسطة البندقية وهي نوع من السلاح.

وقال الشيخ جمال الدين: قلت: وبمهجتي رشأ يميس قوامه ... فكأنه نشوان من شفتيه1 شغف العذار بخده ورآه قد ... نعست لواحظه فدب عليه2 أخذه الشيخ الصلاح الصفدي وقال: وأهيف كالغصن الرطيب إذا انثنى ... تميل حمامات الأراك إليه له عارض لما رأى الطرف ناعسًا ... أتى خده سرًّا فدب عليه قال الشيخ جمال الدين: قلت: يا غادرًا ولم أغدر بصحبته ... وكان مني مكان السمع والبصر قد كنت من قلبك القاسي أخال جفا ... فجاء ما خلته نقشًا على حجر3 فأخذه الشيخ صلاح الدين وقال: ما زلت أشكو حين وفر في الضنى ... قسمي وأسلمني إلى البلوى وفر4 حتى تأثر من شكاية لوعتي ... لي قلبه فرأيت نقشًا في حجر وأحسن ما وقع في هذا الباب، للشيخ جمال الدين بن نباتة أنه قال: بروحي عاطر الأنفاس ألمى ... مليء الحسن حالي الوجنتين5 له خالان في دينار خدٍّ ... تباع له القلوب بحبتين6 فأخذه الشيخ صلاح الدين الصفدي وقال: بروحي خدّه المحمر أضحت ... عليه شامة شرط المحبه كأن الحسن يعشقه قديمًا ... فنقطه بدينار وحبه7

_ 1 يميس: يتمايل في مشيته، والرشأ: الغزال. النشوان: السكران. 2 العذار: خط من النخل والشجر والرمل، والمقصود ورد ذلك المكان أو طيوره، والله أعلم. 3 أخال: أظن. والجفاء: القسوة والهجر. 4 الضنى: الحزن والمرض. 5 الألمى: الأسمر الشفاه. حالي الوجنتين: من الحلا أي أنهما حلوتين أو أنهما حُلِيَتَا فليس عليهما شعر. 6 الخال: الشامة. الحبتين: هما حبتا القلب أو مكان الفرح والحزن والحب والنغض منه، أو هما. الصمامان والله أعلم. 7 نقطه: جعل عليه نقطًا، أو قدم له هدية في يوم عرسه وهذه تسمى "نقطة".

فلما وقف الشيخ جمال الدين على هذين البيتين، قال: لا إله إلا الله سرق الشيخ صلاح الدين، كما يقال، من الحبتين حبه. قال الشيخ جمال الدين قلت: يا عاذلي شمس النهار جميلة ... وجمال فاتنتي ألذ وأزين1 فانظر إلى حسنيهما متأملًا ... وادفع ملامك بالتي هي أحسن فأخذه الشيخ صلاح الدين، مع البحر، بل أخذ الكل مع القافية، وقال: بأبي فتاة من كمال صفاتها ... وجمال بهجتها تحار الأعين كم قد دفعت عواذلي من وجهها ... لما تبدى بالتي هي أحسن2 وهذان البيتان تقدم القول أنهما بنصهما للقاضي محيي الدين بن عبد الظاهر، ولكن رأيت العز الموصلي نسبهما، في تذكرته، للصلاح الصفدي من جملة "خبز الشعير" والله أعلم. قال الشيخ جمال الدين: قلت: فديتك أيها الرامي بقوس ... وطرف يا ضنى جسدي عليه لقوسك نحو حاجبك انجذاب ... وشبه الشيء منجذب إليه فأخذه الشيخ صلاح الدين، وقال: تشرط من أحب فذبت وجدًا ... فقال وقد رأى جزعي عليه3 عقيق دمي جرى فأصاب خدي ... وشبه الشيء منجذب إليه4 قلت: أظن أن الشيخ صلاح الدين لَمّا سمع قول الشيخ جمال الدين، ونظم هذين البيتين، ما كان في حيز الاعتدال، وأين انجذاب القوس إلى الحاجب من انجذاب الدم إلى الخد، وليته ما تلفظ بالانجذاب، بل قال: عقيق دمي جرى فأصاب خدي. قال الشيخ جمال الدين: قلت أنا: يا مشكتي الهم دعه وانتظر فرجًا ... ودارِ وقتك من حين إلى حين ولا تعاند إذا أصبحت في كدر ... فإنما أنت من ماء ومن طين

_ 1 العاذل: اللائم. 2 تبدى: ظهر وبان واضحًا. 3 الوجد: شدة الشوق. الجزع: شدة الفزع، الهلع. 4 العقيق: حجر كريم لونه لون الدم تقريبًا.

أخذه الشيخ صلاح الدين الصفدي، وقال: دع الإخوان إن لم تلق منهم ... صفاء واستعن واستغن بالله أليس المرء من ماء وطين ... وأي صفًا لهاتيك الجبلّة1 قال الشيخ جمال الدين بن نباتة، قلت: أحاول صبرًا عن هوى قد كتمته ... فلا أجد الصبر المحاول يعذب وألقى به ثوب المثيب مطبعًا ... فأغسله بالدمع والطبع أغلب2 فأخذه الشيخ صلاح الدين الصفدي وقال: يقول الفكر لي دنست ثوب الشـ ... ـباب وفي غداة الشيب تتعب وتغسله بدمعك كل وقت ... وما ينقى لأن الطبع أغلب قال الشيخ جمال الدين بن نباتة -رحمه الله تعالى رحمة واسعة- قلت: أسفت لشاشي الذي قد مضى ... وفاز به سارق حاشه3 والله ما بي مما جرى ... سوى قولهم صفعوا شاشه4 فأخذه الشيخ صلاح الدين الصفدي وقال: قد سرق الشاش بليل وما ... قدره الله فما يندفع الحمد لله الذي لم يكن ... شاشي على رأسي لما صفع قال الشيخ جمال الدين بن نباتة: قلت أنا: أشكو إلى الله ما أكابد من ... دمامل مسني بها الضر5 فالليل عندي من حالها سنة ... فما لليلي ولا لها فجر فأخذه الشيخ صلاح الدين وقال: أشكو إلى الله من أمور ... تُمِرّ عيشي لما تَمُرّ6

_ 1 صفًا: صفاء. الجبلة: الخليط، والخلقة والطبيعة. 2 مطبعًا: مبقعًا ببقع تشبه طبعة الختم. الطبع أغلب: مَثَلٌ يضرب في من لا يستطيع ترك ما تعود عليه. 3 الشاش: نسيج رقيق يستعمل للجروح ولفافة العمامة. حاشه: سَرَقه. 4 صفعوا: سرقوا، والصفع في الأصل، الضرب بالكف المبسوطة. 5 كابد: عانى الدمامل: جمع دمل وهو التهاب بسيط في الجلد والنسيج الذي تحته مصحوب بتقيح. 6 تمر: تجعله مُرًّا.

ودمل مع دوام ليل ... ما لهما ما حييت فجر ونظم الشيخ جمال الدين هذا المعنى أيضًا، في أبيات معناها الوعظ يعجبني إلى الغاية وهي: لا تخش من هم كغيم عارض ... فلسوف يسفر عن إضاءة بدره1 إن تمس عن عباس حالك راويًا ... فكأنني بك راويًا عن بشره2 ولقد تمر الحادثات على الفتى ... وتزول حتى ما تمر بفكره ولرب ليل في الهموم كدمل ... صابرته حتى ظفرت بفجره3 وقال الشيخ جمال الدين بن نباتة: قلت أنا: بروحي فاتر الأجفان ساجٍ ... كأنَّ الحسن لفظ وهو معنى تفرد وهو فتان التثني ... فيا لله من فرد تثنى4 فأخذه الشيخ صلاح الدين، وقال: وأهيف حاز قدًا ... قد حار فيه المعنى تراه في الحسن فردًا ... لكنه يتثنى قال الشيخ جمال الدين بن نباتة: قلت أنا: بروحي جيرة أبقوا دموعي ... وقد رحلوا بقلبي واصطباري كأنا للمجاورة اقتسمنا ... فقلبي جارهم والدمع جاري5 أخذه الشيخ صلاح الدين الصفدي، وقال: أسكنت شخصك طرفي ... حتى أُواري أُواري6 فحين جاورت دمعي ... جعلت جارك جاري

_ 1 الغيم العارض: الذي يعترض في الأفق فيسده، أسفر: انكشف. 2 عباس: ابن عباس وبشر هما من رواة الحديث النبوي الشريف ومن الصحابة. 3 فَجرِه: انفجاره وخروج ما فيه من الصديد وهو القيح. 4 تثنى: تمايل وأصبح مثنى أي اثنين. 5 جاري: سائل والقريب من منزلي. 6 أواري: الأولى من المواراة وهي الإخفاء: وأواري: الثانية من أوار النار وهو لهيبها.

وقد تقدم أن بدر الدين يوسف بن لؤلؤ الذهبي أول من سبق إلى هذه النكتة قال الشيخ جمال الدين بن نباتة: قلت: سألت النقا والغصن يحكي لناظري ... روادف أو أعطاف من زاد صدّها1 فقال كثيب الرمل ما أنا حملها ... وقال قضيب البان ما أنا قدّها2 أخذه الشيخ صلاح الدين الصفدي وقال: يقول ردف حبيبي ... وعطفه المتثني ما أنت يا غصن قدي ... ولا كثيبك وزني قال الشيخ جمال الدين: قلت أنا: لك يا أزرق اللواحظ مرأى ... قمري أضحى على الخلق ينهى يا لها من سوالف وخدود ... ليس تحت الزرقاء أحسن منها3 أخذه الشيخ صلاح الدين الصفدي وقال: ألبسوه عمامة للنصارى ... قد روى اللازورد في الحسن عنها4 وجلا طلعة كبدر تمام ... ليس تحت الزرقاء أحسن منها5 قال الشيخ جمال الدين بن نباتة: قلت أنا: يا مجريًا دمعي وموقف لوعتي ... من جسمي المضنى على الأطلال6 يا من إذا سألوه عن بدر الدجى ... والمسك قال أخي الشقيق وخالي7

_ 1 النقا: الرمل. الروادف: مفردها الردف وهو الكفل. أو المؤخرة. الأعطاف: جمع عطف وهو الجنب. الصد: الإعراض. 2 كثيب الرمل: المرتفع الصغير من الرمل. قدّها: أساويها، وقِوامها. 3 السوالف: جمع سالف وهو ما تدلى من الشعر على جانب الرأس بين العين والأذن وللرجل: الصدغ. 4 اللازورد: من الأحجار الكريمة لونها بلون السماء. 5 الزرقاء: السماء. 6 اللوعة: الحزن. المضنى: المريض. الأطلال: البقايا والآثار. 7 الشقيق: نوع من الأزهار الحمراء "شقائق النعمان".

أخذه الشيخ صلاح الدين وقال: فديت حبيبًا ضرج الحسن خده ... فصب على خديه ذوب عقيق1 إذا عاين الروض المدبّج خده ... يقول لنا هذا أخي وشقيقي2 قلت: الشيخ صلاح الدين ما شم لمسك الخال رائحة، والله أعلم. وقال الشيخ جمال الدين: قلت أنا: هيهات بين ذوي الأسى لا يستوي ... دمعي ودمعك أيها المتواجد3 فحديث دمعي عن تلهب أضلعي ... ذاكي اللظى وحديث دمعك بارد4 فأخذه الشيخ صلاح الدين وقال: شكوت حتى لان بعد قسوة ... ورحت أبكي وهو لي يساعد وقال ها نحن سواء في البكا ... لا يا حبيبي ما بكانا واحد لا يستوي دمع حكى جمر الغضى ... إذا جرى ودمع عين بارد5 قال الشيخ جمال الدين بن نباتة، قلت أنا: هنئتم آل الشهيد بنجمكم ... وبوجه مولود لكم ما أزهره من قبل ما عملت لديه عقيقة ... عملت له المدح الجواري جوهره6 فأخذه الشيخ صلاح الدين وقال: أيا أندى الورى كفا ووجهًا ... وأقومهم إلى العليا طريقه7 لقد جاءتك جوهرة المعاني ... فلا تبخل عليها بالعقيقه

_ 1 ضرج: لوّن، خضب. ذوب عقيق: عقيق مذاب. والعقيق نوع من الأحجار الكريمة لونها يشبه لون الدم. 2 عاين: نظر بعينيه. 3 المتواجد: الذي يدعي الوجد. وهو شدة الشوق. 4 ذاكي اللظى: مستعر اللهب. 5 جمر الغضى: من أشد الجمر حرارة والغضى شجر جمره يدوم طويلًا. 6 العقيقة: الطعام الذي يعمل عند حلق شعر المولود لأول مرة ويكون ذبيحة على الأكثر. 7 أندى الورى: أجود الناس.

قال الشيخ جمال الدين: قلت أنا: عذول لست أسمع منه عذلا ... على هيفاء مثل البدر تما له طرف ضرير عن سناها ... ولي أذن عن الفحشاء صما1 أخذه الشيخ صلاح الدين الصفدي، وغير صيغة المثل بالحشو، فقال: تعشقته مثل القضيب إذا انثني ... بوجه حكى البدر المنير إذا تما وإن كان عذالي عموا عن جماله ... فلي أذن عن كل ما نقلوا صما قال الشيخ جمال الدين: قلت أنا: حربي من مهفهف القد رام ... أسهم اللحظ ما أسدّ وأرشق2 كلما قلت يفتح الله بالوصـ ... ـل رماني من سحر عينيه يغلق فأخذه الشيخ صلاح الدين الصفدي وقال: سهام طرفك أصمت ... قلبي ولم تترفق3 ما يفتح الجفن إلا ... ورهن قلبي يغلق قال الشيخ جمال الدين: قلت أنا: تأملت في الحمام تحت مآزر ... روادف بيض ما سناها بغائب4 كأني من هذي وهاتيك ناظر ... بياض العطايا في سواد المطالب5 فأخذه الشيخ صلاح الدين الصفدي، وقال: تبدى حبيبي في السواد فراقني ... وما راعني لما أتى بالعجائب وشبهت ذاك الجيد في طوق برده ... بياض العطايا في سواد المطالب قال الشيخ جمال الدين: قلت أنا: لقد كنت في لذات ثغرك هائمًا ... ليالي لم يمنع على عاشق ثغر فأما وستر دونها من شوارب ... فلا خير في اللذات من دونها ستر

_ 1 السناء: النور والبهاء. صما: ترخيم صماء. وهي التي لا تسمع. 2 ما أسد: ما أحسن تسديده، والتسديد هو التصويب نحو الشيء. 3 أصمى: أصاب مقتلًا. 4 المآزر: جمع مئزر، هو ما تلتف به المرأة. الروادف: جمع ردف وهو العجز. 5 العطايا: جمع عطية وهي الهبة.

أخذه الشيخ صلاح الدين الصفدي وقال: ألا فاسقني من خمرة لَذّ طعمها ... بفيك ولا تبخل وقل لي هي الخمر1 وحط لثامًا حجب اللثم عن فمي ... فلا خير في اللذات من دونها ستر قلت: قد أوردت هنا ما جناه الشيخ صلاح الدين الصفدي، من حدائق الروض النباتي، ومقابلة الشيخ جمال الدين له على ما جناه: فإن نسبني أحد إلى تحامل، راجعته إلى النقل، وإن وافق وتعقل الرتبتين فقد اكتفى بشاهد العقل، وإلا فالأقسماء الصفدية بالنسبة إلى القطر النباتي تمجها الأذواق، وها أنا قد أبرزت ثمرات الدوحتين بين هذه الأوراق، والشيخ صلاح الدين -رحمه الله- تصاغر لذلك وما كابر، ووقف على باب الشيخ وقوف فقير يسأل بر الإجازة، وطال وقوفه على ذلك الباب العالي إلى أن حصل له الفتوح وأجازه2. وها أنا أذكر سؤال هذا السائل الذي ودَّ قبل العطاء أن يدفع بالتي هي أحسن، وأشرح كرم المسئول الذي نثر على سائله الدر جزافًا علمًا بأن عطاء الكريم لا يوزن. فسؤال الإجازة من الشيخ صلاح الدين، قوله يخاطب الشيخ جمال الدين بن نباتة، رحمهما الله تعالى: الحمد لله على نعمائه، المسئول من إحسان سيدنا الشيخ الإمام العالم العلامة، رحلة أهل الأدب. قبلة ذوي التحصين في التحصيل والدأب، الذي تبيت شوارد المعاني صرعى تخوله للطافة تخيله، وتمسي الألفاظ العذبة طوع تحوله في التركيب وتحيله، فأمسى وله النسيب الذي يضحك من العباس3 في رقته. ويقيم صريع الغواني4 إلى مقته بعد مقته، والغزل الذي يشيب له فؤاد الوليد، ويسترق الحر من كلام عبيد، والتشبيه الذي لو علمه ابن المعتز لما نصب الهلال فخًا لصيد النجوم، ولو تعاطاه حفيد جريح لقيل له ألم تسمع: {الم، غُلِبَتِ الرُّومُ} ، والمديح الذي لو بلغ زهيرًا لقال ما أنا من هذه الحدائق، أو اتصل نبؤه بالمتنبي لاشتغل عن ذكر العذيب وبارق5، والرثاء الذي نقص عنده أبو تمام بعد أن رفع له لواء الشرف والفخر. وقال هذه عذوبة الزلال لا ما تفجر من الخنساء على صخر، والترسل الذي سقى الفاضل كأس الحتوف، لما شبه الغمود بالكمائم والسيوف بالأزهار، وأذهله حتى صحت له القسمة في الخيل والخيال، بين المراقب والمرافد، فأخطأت معه في المرابع والمساجد بين الأنواء والأنوار، والكتابة

_ 1 ومعنى هذين البيتين صاغه أبو نواس في بيت واحد، هو قوله: ألا فاسقني خمرًا وقل لي هي الخمر ولا تسقني سرًّا إذا أمكن الجهر. 2 أجازه: سمح له بالشيء. 3 العباس: هو ابن الأحنف الشاعر. 4 صريع الغواني: هو مسلم بن الوليد الشاعر. 5 العذيب وبارق: مكانان صحراويان.

التي تغدو الطروس بها وكأنها رياض محبرة، أو سماء بالنجوم زاهرة، إن لم ترض أن تكون في الأرض رياضًا مزهرة. أدب على الحصري يعلو تاجه ... وله ابن بسام بكى ألوانًا وترسل سبحان من قد زاده ... منه وأعطى الفاضل النقصانا وكتابة لعلوها في وضعها ... ليس ابن مقلة عندها إنسانا فلكم أخى فضل رأت عيناه ... في الأوراق لابن نباتة بستانا جمال الدين أبي عبد الله، محمد ابن الشيخ الحافظ شمس الدين محمد بن نباتة، جمع الله به شتات أهل الأدب في درجة هذه الدولة، ولَمَّ به شعث أبنائه الذين لا صون لهم ولا صولة، وأقام به عماد أبيات الشعر التي لولاها لما عرفت دار مية من أطلال خولة1، إجازة كاتب هذه الأحرف فسح الله له في مدته برواية المصنفات في الأحاديث النبوية، والتأليفات الأدبية، على اختلاف أوضاعهما وتباين أجناسهما وأنواعهما، بحسب ما يؤدي ذلك إليه واتصل به من سماع أو إجازة، أو وصية أو وجازة، من مشايخ العلم الذين أخذ عنهم وإجازة ماله أحسن الله إليه من مقول، نظمًا أو نثرًا أو تأليفًا أو وضعًا، إجازة خاصة، وإثبات ما له من التصانيف إلى هذا التاريخ بخطه الكريم، وإجازة ما لعله يقع بعد ذلك إجازة عامة على أحد القولين في المسألة، فإن الرياض لا ينقطع زهرها، والبحار لا ينفد درها، وإثبات ما يحسن إيراده في هذه الإجازة من المقاطيع الرائقة، والأبيات اللائقة، وذكر نسبه ومولده ومكانه متفضلًا، في ذلك، وكتب كتبه خليل بن أيبك عبد الله الأيبكي بالقاهرة المحروسة، في مستهل شعبان المبارك سنة تسع وعشرين وسبعمائة، وحسبنا الله ونعم الوكيل. وكتب الشيخ جمال الدين بن نباتة الجواب مجيبًا لسؤال الشيخ صلاح الدين الصفدي، رحمهما الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد، حمدًا لله الذي إذا توجه إليه ذو السؤال، فاز، وإذا استدعى كرمه ذو الطلب أجاب وأجاز، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، كعبة القصد التي ليس بينها وبين النجح حجاز، وعلى آله وصحبه حقائق الفضل والفضل من بعدهم مجاز. فلو لزم في كل الأحوال تناسب المخاطبة، وكان جواب السؤال بحسب ما بينهما من شرف المناسبة، لما رضي سجع الحمائم لمطارحته نوعًا من الأطيار، ولا قبل فصحاء الأول مراجعة الصدى من الديار، ولا قنع غمز حواجب الأحبة برد القلوب الهائمة في

_ 1 خولة: حبيبة طرفة بن العبد التي ذكرها في معلقته بقوله: لخولة أطلال ببرقة ثهمد تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد

أودية الأفكار، ولكن نقول: الأكابر والأولياء تبذل من الأجوبة جهدها وتنفق ما عندها، وتجرد الأماثل سيوف المنطق ولا تتعدى الاتباع من الطاعة حدها، ولما كنت أيها الراقم1 برود هذا الاستدعاء ببنانه، والمنشئ روض هذا السؤال بآثار السحب من بيانه والسائل الذي بهرت الأفكار فضائله، وسحرت أرباب العقول عقائله2، وأقام المسئول مقامًا ليس من أهله فليتق الله سائله، فريد فن الأدب الذي لا يبارى، وبحره الذي لا يهدي غائص قلمه الدرّ إلا كبارًا، وذا اليد البيضاء فيه الذي طال ما آنس من جانب الذهن نارًا، وخليله الذي اطلع على أسراره الدقيقة، ورئيسه الذي لو طارح ابن المعتز وتمت ولايته لكان أمير المؤمنين على الحقيقة، وناظمه الذي يسري الطائيان3 تحت علمه المنشور، وكاتبه الذي تتبجح4 العيدان بالدخول تحت رقه المأثور، طالما شافه5 منه القلم وجهًا جميلًا وقدرًا جليلًا، ولا في من لا يندم على صحبته فيقول ليتني لم أتخذ فلانًا خليلًا، فهو الغرس الذي يقصر عن أمالي وصفه الشجري، ويفخر الدين والعلم بشخصه ولفظه، فهذا يقول غرسي وهذا يقول ثمري، كم أغنى بمفرد شخصه عن فضلاء جيل، وكم بدا للسمع والبصر من بنات فكره بثينة ومن وجهه جميل، وكم تنزهت الأفكار من لفظه بين آس وورد لا بين إذخر6 وجليل، وكم دام عهده ووده حتى كاد يبطل قول الأول دليلًا على أن لا يدوم خليل. تود الشهب لو كانت حصباء غدير طرسه، وتغار الأفق إذا طرز يراع درجه7 بالظلماء أردية شمسه، ويتحاسد النظم والنثر على ما تنتج مقدمات منطقه من النتائج، وينشد كل منهما إذا حاول القول: "خليل الصفا هل أنت بالدار عائج". إن كتب أغضى ابن مقلة من الحسد على قذاه8، وحمل ابن البواب لحجبه عصا القلم قائلًا ما ظلم من أشبه أباه، وإن نحا النحو لباه عشرًا، ولانت أعطاف الحروف قسرًا. وتشاجرت على لفظه الأمثلة فلا غرو أن ضرب زيد عمرًا، يترجل كلام الفارسي بين يديه. ويطير لفظ ابن عصفور حذرًا من البازي المطل عليه. وإن شعر هامت الشعراء بذكره في كل واد، ونصبت بيوت نظمه على بقاع الشرف كما نصبت بيوت الأجواد،

_ 1 الراقم: الموشي المزخرف. 2 العقائل: الكرائم جمع عقيلة وهي المصونة. 3 الطائيان: حاتم وحبيب "أبو تمام". 4 تبجّح: افتخر بما فعل وإن كان قليلًا. 5 شافه: حكى مشافهة، وطالع. 6 الإذخر: الثمين المدّخر. 7 الدّرج: جارور المكتب، أو ما توضع فيه أدوات الكتابة. 8 القذى: الضرر والأذى.

طالَمَا بلَّد لبيدًا، وولى منه شعر ابن مقبل شريدًا، وقالت الآداب لبحتري لفظه ألم نربك فينا وليدًا، وإن نثر فما الدر اليتيم إلا تحت حجره، ولا الزهر النضير إلا ما ارتضع من أخلاف قطره، ولا المرسلون إلا من تصرف في ولاية البلاغة تحت نهيه وأمره. وإن تكلم على فنون الأدب روى الظما، وجلا معاني الألفاظ كالدمى، وقالت الأعاريض لابن أحمد وله: "خليلي هبا بارك الله فيكما". هذا وكم أثنى قديم علم الأوائل على فكره الحكيم، وشهدت رواية الحديث النبوي بفضله، وما أعلى من شهد بفضله الحديث والقديم. بدأتني أعزك الله، من الوصف بما قل عن مكاني، وكاد من الخجل يضيق صدري ولا ينطلق لساني. وحملت كاهلي من المنن ما لم يستطع، وضربت لذكري في الآفاق نوبة خليلية لا تنقطع، وسألتني، مع ما عندك من المحاسن التي لها طرب من نفسها، وثمر من غرسها، أن أجيبك وأجيزك وأوازن بمثقال كلمي الحديد إبريزك3، وأقابل لسانك المطلق بلساني المحصور، وأثبت استدعاءك على بيت مال نطقي المكسور، فتحيرت بين أمرين أمرَّين، ووقع ذهني السقيم بين داءين مضرين: إن فعلت ما أمرت به فما أنا من أرباب هذا القدر العالي، والصدر الحالي، ومن أنا من أبناء مصر حتي أتقدم لهذا الملك العزيز، وكيف أطالب مع إقتار علمي بأن أمدح وأجيز. وإني لمقيد خطوي هذه الوثبات، وأني يماثل قوة هذا الغرس ضعف هذا النبات. وإن منعت فقد أسأت الأدب والمطلوب حسن الأدب مني، وأهملت الطاعة التي أقرع بعدها برمح القلم سني، وفاتني شرف الذكر الذي امتلأ به حوض الأفق وقال قطني4. ثم ترجح عندي أن أجيب السؤال، وأقابل بالامتثال، صابرًا على تهكم سائلي، معظمًا قدري كما قيل بتعاقلي5، منقادًا إلى جنة استدعائك من السطور بسلاسلي، وأجزت لك أن تروي عني ما تجوز لي روايته من مسموع ومأثور، ومنظوم ومنثور، وإجازة ومناولة ونقل وتصنيف، وتنضيد وتفويف6، وماض ومتردد، وآت على رأي بعض الرواة ومتجدد، وجميع ما تضمنه استدعاؤك فاجمع ما يكون من لفظه المتبدد، كاتبًا لك بذلك خطي، مشترطًا عليك الشرط المعتبر فليكن قبولك يا عربي البيان جواب شرطي، ذاكرًا من لمع خبري ما أبطأت بذكره وأرجو أن أبطئ ولا أخطي.

_ 1 الإبريز: الذهب. 2 قطني: حسبي. 3 التعاقل: اصطناع التعقل. 4 تنضيد: ترتيب. تفويف: تزيين، وهو من المحسنات البديعية.

فأما مولدي فبمصر المحروسة، في ربيع الأول سنة ست وثمانين وستمائة، بمنزلنا بزقاق القناديل، وأما شيوخ الحديث الذين رويت عنهم سماعًا وحضورًا، فمن أقدمهم الشيخ شهاب الدين أبو الهيجاء غازي بن أبي الفضل بن عبد الوهاب المعروف بالرادف، والشيخ عز الدين أبو نصر عبد العزيز بن أبي الفرج الحصري البغدادي، والشيخ شهاب الدين أحمد بن أبي محمد إسحق الأبرقوهي. وأما ذوو الإجازة في مصر وغيرها من الأمصار فكثير، وأما الفضلاء والأدباء الذين رويت عنهم ورأيت منهم، فمنهم القاضي الفاضل، محيي الدين أبو محمد عبد الله ابن الشيخ رشيد الدين عبد الظاهر بن نشوان الكاتب المصري، والشيخ الإمام بهاء الدين أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن النحاس الحلبي النحوي، والأمير الفاضل، شمس الدين أبو عبد الله محمد بن الصاحب شرف الدين بن إسماعيل بن المتنبي اقترح عليّ أن أنظم له في زيادة النيل، فقلت: زادت أصابع نيلنا ... وطمت فأكمدت الأعادي1 وأتت بكل جميلة ... ما ذي أصابع ذي أيادي والشيخ العالم علم الدين قيس بن سلطان المصري من أهل منية ابن خصيب، قرأت عليه كثيرًا من الكتب الأدبية، وكان كثيرًا ما يستنشدني إلى أن أنشدته قولي: يا غائبين تعللنا لغيبتهم ... بطيت عيش ولا والله لم يطب ذكرت والكأس في كفي لياليكم ... فالكأس في راحة والقلب في تعب2 فقال: أتعب والله جزعك القدح. والشيخ العالم شهاب الدين أحمد بن محمد المعروف بابن المفسر أنشدني لنفسه: لا أرى لي في حياتي راحة ... ذهبت لذة عيشي بالكبر بقي الموت لمثلي سترة ... يا إلهي أنت أولى من ستر فأنشدته لي: بقلت وجنة المليح وقد ولى ... زمان الصبا الذي كنت أملك3 يا عذار الحبيب دعني فإني ... لست في ذا الزمان من خل بقلك

_ 1 طمى النهر: فاض وزاد ماؤه حتى حمل الطمي وهو عبارة عن الأتربة والأحجار وأغصان الشجر. أكمد: أحزن. 2 الراحة: باطن الكف، والإرتياح. 3 بقلت وجنته: نبت شعرها، والبقل نبات عشبي يغتذي به الإنسان.

والشيخ الأديب الفاضل سراج الدين عمر الوراق المصري، سمعته ينشد لنفسه: واخجلتي وصحائفي مسوّدة ... وصحائف الأبرار في إشراق وتوقفي لموبخ لي قائل ... أكذا تكون صحائف الوراق والأديب الفاضل نصير الدين المناوي الحمّامي أنشدني لنفسه: أحب من الدنيا إلَيّ وما حوت ... غزال تبدى لي بكأس رحيق1 وقد شهدت لي سنة اللهو أنني ... أحب من الصهباء كل عتيق2 فأنشدته لي: إني إذا آنت هَمًّا طارقًا ... عجَّلت باللذات قطع طريقه ودعوت ألفاظ المليح وكأسه ... فنعمت بين حديثه وعتيقه3 وجماعة يطول ذكرهم، ويعز عليَّ أن لا يحضرني الآن شعرهم. وأما مصنفاتي التي هي كالياسمين لا تساوي جمعها، ولولا الخزائن الشريفة السلطانية الملكية المؤيدية تجبرها، ما استخرت نصبها ورفعها، فهي: كتاب مجمع الفرائد، القطر النباتي، سرح العيون في شرح رسالة ابن زيدون، منتخب الهدية من المدائح المؤيدية، الفاضل من إنشاء الفاضل، زهر المنثور، أبرار الأخيار، شعائر البيت، التقوى لم تكمل إلى الآن، الأرجوزة المسماة فرائد السلوك في مصائد الملوك. أجزت لك أعزك الله روايتها عني، ورواية ما أدونه وأجمعه بعد ذلك حسبما اقترحه استدعاؤك ونمقه، ونسخه وحققه وتضمنه سؤالك الذي تصدقت به، فمنك السؤال ومنك الصدقة، والله تعالى يشكر عهدك الجميل، وكلماتك الجزلة وكرمك الجزيل ويمتع بك فنون الفضائل الملتجئة إلى ظل قلمك الظليل، ولا يعدم الأحباب والآداب من اسمك وسميك خير صاحب وخليل. قال ذلك وكتبه محمد بن محمد بن محمد بن الحسن بن أبي الحسن بن صالح بن على بن يحيى بن طاهر بن محمد بن الخطيب بن يحيى بن عبد الرحيم بن نباتة الفارقي الحذاقي ثم المصري، عفا الله عنه. انتهى ما أوردته من استدعاء الشيخ صلاح الدين وسؤاله، وجواب الشيخ جمال

_ 1 الرحيق: ما تفرزه الأزهار لجذب الحشرات، ومنه يكون العسل. 2 الصهباء: الخمرة. وعتيق: معتق وهو أجود الخمرة. 3 حديثه: تحديثه، كلامه، وجديده.

الدين وإجازته، بعد أن علمت دقائق الدرجتين في النظم والنثر، واتضح الفرق بينهما وثبت أن الشيخ جمال الدين بن نباتة سقى الله نباته ورعاه، ومتع أهل الذوق السليم بحلاوة ذلك النبات وجناه، فإنه وإن تأخر في السبق عن فحول المتقدمين عصرًا، فقد تقدم عليهم ببديعه وغريبه بيانًا وسحرًا، وتفقه في الطريق الفاضلية لمذاهب ما سلكها المتقدمون وها نحن نستجدي من حواصلها نظمًا ونثرًا، وكم سأله عالم في سلوك هذه الطريقة فقال له إنك لن تستطيع معي صبرًا، وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرًا. وإن قيل إن الفاضل أجل من تمذهب بهذا المذهب فمذهبي، وأنا أستغفر الله، أنه وصل فيه إلى درجة الاجتهاد، وهذا القول يقول به من رفع الخلاف وتأدب، فإن هذه الطريقة ما أمَّها1 ناظم ولا ناثر في الأيام الأموية، ولا ابتسمت لهم ثغورها في الخلافة العباسية، ولما انتهت الغاية إلى الفاضل أتى بهذه الفضيلة الغريبة وأظهر منها الزيادة المستفادة، واعتادت بلغاء المتأخرين بها بعد ما شهدوا بسبقه فأكرم بها عادة وشهاده، ولما اتصلت بالشيخ جمال الدين بن نباتة أهل غربتها، وشرّف بأصل شجرته النباتية نسبتها، وأسكن في أبياته من بديع النظم كل قرينة صالحة، وأمست سواجع إنشائها على فروعه النباتية صادحة. وقد عنَّ لي أن أورد نبذة من مفرداته التى حصل الإجماع في الغرابة عليها، وأشار المصنف بقوله إليها: أصغ لما قال أخو وقته ... وخلّ عنك اليوم ما قيلا واسمع مقاطيعًا له أطربت ... ولا تقل إلا مواصيلا فمن ذلك قوله: حملت خاتم فيه فصًّا أزرقا ... من كثرة اللثم الذي لم أحصه2 لولاه ما علم الرقيب فيا له ... من خاتم نقل الحديث بفصه ومنه قوله: لله خال على خد الحبيب له ... في العاشقين كما شاء الهوى عبث3 ورَّثته حبة القلب القتيل به ... وكان عهدي أن الخال لا يرث

_ 1 أمها: قصدها. 2 هذا البيت هكذا ورد: برفع أوجر خاتم ونصب فصًّا أزرقًا، وهذا مما لم نعرف أو نتبين له وجهًا أعرابيًا. وكان حقه النصب في خاتم والرفع في فص أزرق فيكون: حملت خاتمًا فيه فص أزرق. والفص: قطعة صغيرة من حجر كريم توضع في وسط الخاتم. 3 الخال: شامة سوداء تعلو الجلد. حبة القلب: مركز العواطف منه.

ومنه قوله: وأغيد جارت في القلوب لحاظه ... وأسهرت الأجفان الوسنى1 أجل نظر في حاجبيه وطرفه ... ترى السحر منه قاب قوسين أو أدنى وقوله: بروحي مشروط على الخد أسمر ... دناو وفي بعد التجنب والسخط وقال على اللثم اشترطنا فلا تزد ... فقبلته ألفًا على ذلك الشرط وقوله: وا حربا من هوى رشيق ... معتدل كالقضيب مائل عذاره لا يجيب دمعي ... وسائل لا يجيب سائل2 ومن نكته البديعة في هذا الباب قوله: وضعت سلاح الصبر عنه فما له ... يقاتل بالألحاظ من لا يقاتله وسال عذار فوق خديه جائر ... على مهجتي فليتق الله سائله ومن السرقات الفاحشة قول ابن الوردي، غفر الله له: تعجبت من نهديه لو أن لامسًا ... أراد انقباضًا لم تطعه أنامله3 ومال عذار لو نحا نفس صبه ... لجاد بها فليتق الله سائله4 ومنه قوله: لا تخف عيلة ولا تخش فقرًا ... يا كثير المحاسن المختاله لك عين وقامة في البرايا ... تلك غزالة وذي قتاله ومنه قوله: قبلته عند النوى فتمرَّرت ... تلك الحلاوة بالتفرق والجوى ولثمته عند القدوم فحبذا ... رطب الشفاه السكري بلا نوى5

_ 1 الأغيد: الناعم المتمايل في مشيه. جارت: ظلمت. الوسنى: الذابلة الناعسة. 2 سائل: الأولى بمعنى: الريق، والثانية بمعنى: الذي يسأل أو يطلب. 3 النهد: الثدي. الانقباض: التجمع عكس الانبساط. الأنامل: أطراف الأصابع. 4 نحا: ينحو اتجه ناحية. الصب: المغرم به. 5 الرطب: ثم البلح إذا حلي وصار رُطَبًا. النوى: البذرة.

وقوله: أفديه لدن القوام منعطفًا ... يسل من مقلتيه سيفين1 وهبت قلبي له فقال عسى ... نومك أيضًا فقلت من عيني ومنه قوله: يا ربَّ لص ناهب سالب ... وهو من الحسن مليء غني2 يرنو إلى سرب الظبى لحظة ... فيسرق الكحل من الأعين ومنه قوله: مبقل الخد أدار الطلا ... فقال لي في حبها عاتبي3 عن أحمر المشروب ما تنتهي ... قلت ولا عن أخضر الشارب4 ومنه قوله: كم قلت باللثم وبرد اللمى ... إيه برغم العاذل الحاسد روِّ صدى قلبي ودع عاذلي ... في الحب يغتاظ على البارد ومنه قوله: بروحي معسول اللمى متحجب ... إذا لم يزر لم يهن عيش ولا إذا وإن ذقت منا من حلاوة ريقه ... أتانا رقيب يتبع المن بالأذى ومنه قوله: يا كعبة الحسن الممنع لا تطل ... بيني وبينك للجفاء حجاز6 حاشى لها من قامة ألفية ... يثني لقاها كاشح هماز7

_ 1 اللدن: الطري. 2 اللص والناهب والسالب: السارق 3 مبقل الخد: الذي نبت شعر خده، الطلا: الخمرة، عاتبي: لائمي. 4 أحمر المشروب: النبيذ. أخضر الشارب: الشاب الأمرد الذي لم ينبت شارباه. 5 اللمى: سمرة أو سواد في باطن الشفة السفلى يعد من عناصر الجمال في المرأة. إيه: اسم فعل أمر بمعنى الزجر. 6 الجفاء: الهجر والابتعاد. حجاز: حاجز. 7 الكاشح: المبغض. الهماز: المغتاب، ومنه قوله تعالى: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ، هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} .

ومنه قوله: يا واصف الخيل بالكميت وبالنهد ... أرحني من طول وسواسي1 لا نهد إلا من صدر غانية ... ولا كميت إلا من الكاس ومن هنا أخذ الصاحب فخر الدين بن مكانس، وقال: وإن ذكرت الخيل في الميدان ... فاشرب كميتًا واعل فوق نهد ومنه قوله: قلت ولي في هوى حبيبي ... قلب رقيق عليه يدهش بالجفن والصدغ يا عنائي ... هذا سقيم وذا مشوّش2 ومنه قوله: نقطة خال في وجنة جعلا ... في اللهو لي بعد نوبتي غبطه3 فيا لها وجنة معشقة ... صرت عليها أقول بالنقطه ومنه قوله: إذا سألوني عن هوى قد كتمته ... سكت أراعي واشيًا ورقيبًا4 وجاوب عني سائل من مدامعي ... فلله دمعي سائلًا ومجيبًا ومن اختراعاته الغريبة مع بديع التضمين قوله: لما رأيت نهودها قد أقبلت ... ورأت لقلبي عشقه يتجدد قالت وقد رأت اصفراري من به ... وتنهدت فأجبتها المتنهد ومنه قوله: وتاجر قلت له إذ رنا ... رفقًا بقلب صبره خاسر ومقلة تنهب طيب الكرى ... منها على عينك يا تاجر5

_ 1 الكميت: ذات اللون الأحمر المائل إلى السواد. النهد: المستعدة دائمًا. 2 مشوّش: غير مرتب. 3 النوبة: دورة من الجنون تصيب الإنسان وتسمى بـ: النقطة أيضًا. الغبطة: الفرح والانبساط. 4 الواشي: النمام الذي ينقل الكلام بين المحبين يقصد إفساد ما بينهما. 5 على عينك يا تاجر: هذا مثل يضرب في الإنسان الفاجر الوقح.

وهذه النكتة زاحمه فيها الشيخ زين الدين بن الوردي، وزنًا وقافية ومعنى، وقال: وتاجر شاهدت عشاقه ... والحرب فيما بينهم دائر قال علام اقتتلوا هكذا ... قلت على عينك يا تاجر واتصَلَتْ بالشيخ شمس الدين الرئيس الدمشقي العصري الشهير بالمزين، فاستعملها أحسن من الشيخ زين الدين بن الوردي، وزاد المثل قوة وإيضاحًا بقوله: وتاجر أسكرني طرفه ... والكاس فيما بيننا دائر وقال لي سرك قلت اسقني ... جهرًا على عينك يا تاجر ومنه قوله: أفنى جفاكم كثير دمعي ... لكن بقي في القليل نشطه1 وكنت أروي عن ابن بحر ... فصرت أروي عن ابن نقطه ومنه قوله وتلطف كثيرًا: خف خصر الحبيب ثم ابتلاني ... بعذول يزيدني تعنيفا ليت لو كان في الملامة مثلي ... في هوى الخصر يؤثر التخفيفا ومنه قوله: وكنت أظن العشق يترك مهجتي ... إذا زاحم الشيب الشباب بمفرقي فلما بدا مع أسود الشعر أبيض ... أتي العشق يغزوني على ألف أبلق2 ومنه قوله: يا حبذا خد الحبيـ ... ـب وقد أضاء شريقه3 إن لم يكن في الحسن نفـ ... ـس الروض فهو شقيقه أخذه الشيخ صلاح الدين الصفدي، وقال: فديت حبيبًا ضرج الحسن وجهه ... وصب على خديه ذوب عقيق إذا أبصر الروض المديح خده ... يقول لنا هذا أخي وشقيقي

_ 1 النشطة: واحدة النشاط، وفي الأصل: العضة أو اللدغة. 2 الأبلق: الحصان، وهو ذو اللونين الأبيض والأسود. 3 الشريق: الإشراق.

ومنه قوله: يا حبذا يومي بوادي جلق ... وفرحتي مع الغزال الحالي من أول الجبهة قد قبلته ... مرتشفًا لآخر الخلخال4 ومنه قوله: آهًا لحاذق ذهن ... يقول في الحب من لي2 قال العذار لحذقي ... ما أنت من خل بقلي3 ومنه قوله مع التضمين للمثل: في الناس من يشتاق للمرد ولا ... يزال في هجر وشوق يبطنه4 وآخر شاخوا وما يتركهم ... ذا يشتهي التين وذا يقطنه5 ومنه قوله: يا من يقول البدر أو شمس الضحى ... كمعدني لا كيد للقمرين أبوجه ذاك ووجه تلك تقيسه ... قسمًا لقد أخطأت من وجهين ومنه قوله: نسبوه حسنًا للهلال وعينه ... للظبي تنسب لا رميت ببينه6 فإذا بدا فإلى هلال أصله ... وإذا رنا فهو الغزال بعينه ومثله ومن خطه نقلت: يرنوا ويشرق حسنه ... في ناظري ولهانه7 فهو الغزالة والغزا ... ل بعينه وعيانه8

_ 1 ارتشف: شرب بملء فمه، وعلى مهل، الخلخال: ما تضعه المرأة من زينة في ساقها. 2 الذَهِن: الذكي. 3 الخل: عصير العنب المخلل. البقل: نبات معروف. 4 المرد: جمع أمرد وهو من الشباب الذي لم ينبت شارباه بعد ولا شعر لحيته. أبطن: ستر. 5 يقطن التين: يجعله كالقطن مكبوسًا وملفوفًا. 6 البين: الفراق والهجر. 7 اللهان واللهنة: ما يهدى للمسافرعند عودته أو ما يهديه هو عند عودته. 8 العيان: الأثر المادي للجسم.

وضافت عين الشيخ صلاح الدين الصفدي عن هذه النكتة، فأخذها بعينها وقال: بسهم أجفاني رماني ... وذبت من صده وبينه 1 إن مت ما لي سواه خصم ... لأنه قاتلي بعينه ومنه قوله: دعوني في حلي من العيش مائسًا ... ومرتقبًا بعده عفو راحم2 أمد إلى ذات الأساور مقلتي ... واسأل للأعمال حسن الخواتم ومنه قوله: لما تبدي في الحنين ... تحاربت كبدي وعيني فأعجب لها من وقعة ... جاءت ببدر في حنين3 ومن هنا آخذ الشيخ برهان الدين القيراطي، فقال: بدت روادف حبي ... تحت الحنين بعين فقلت يا بدر هذي ... حقًّا جبال حنين ومن لطائف الشيخ جمال الدين قوله: دعوا شبيه الغزال يرمي ... في مهجتي بالنقار جمرًا4 تا الله لا فاتني لقاه ... وعين كيسي عليه حمرًا ومنه قوله: بأبي نائم على الطرق راحت ... في هواه وليس يعلم روحي فاتح في الكرى فما سكريا ... يا له من مسكر مفتوح ومنه قوله: ملأت إنسان عيني عسجدًا ... من خدود قد ملاها الحسن صبغا

_ 1 الصد: الإعراض. 2 المائس: المتبختر أو الماجن. 3 بدر وحنين: من حروب المسلمين الشهيرة. 4 النفار: أيام معينة من وقت الحج وبالتحديد اليومين الثاني والثالث من أيام التشريق، ورمي الجمار: من مناسك الحج.

قلت والردف أريني فانثنت ... ثم قالت هكذا الإنسان يطغى1 ومنه قوله: ومن الشقا أن الجفا وتشوقي ... لا ينتهي هذا وذاك إلى طرف ما مال غصن قوامه عن فكرتي ... يومًا ولا دينار وجنته انصرف ومنه قوله: سلت مهجة قد كان صدعها الأسى ... فلا آخذ الله الأسى بصدوعها2 وعين على حالي بعاد وجفوة ... عفا الله عما قد جرى من دموعها ومن لطائفه قوله: من الترك أثني سلوتي مع أنها ... صواب وأفتي فيه وهو من الخطا أما والهوي لا حلت عن عطف أغيد ... ولا بت في رمان صدر مفرطا3 ومن نكته البديعة في المدائح قوله: لنا ملك قد قاسمتنا هباته ... فنثر العطا منه ونظم الثنا منا4 يذكرنا أخبار معن بجوده ... فننشي له لفظًا وينشي لنا معنى5 وقال في صدر مطالعه: خذ من عبيدك مقتضى نياتها ... في الحمد واعذر مقتضى أقوالها قسمًا لو اسطاعت إليك جسومهم ... بعثت دروج الحمد من أوصالها6 وقوله: لا عد منا لابن الأثير يراعًا ... جاريًا للعفاة بالأرزاق7 كلما ماس في المهارق كالغصـ ... ـن رأيت الندى على الأوراق8

_ 1 يطغى: يجاوز الحدود التي وضعها الله في كل الأمور. 2 صدّع: شقق، وأضعف. الأسى: الحزن. 3 مفرط: مكثر، متجاوز الحد. 4 العطا: العطاء. الثنا: الثناء وهو المدح. 5 معن: هو معن بن زائدة، من الأجواد. 6 دروج: صناديق. الأوصال: المفاصل. 7 اليراع: القلم. العفاة: طالبوا المعروف. 8 ماس: مال وتحرك. المهارق: الصحائف التي يكتب عليها.

وقوله في كمال الدين بن الزملكاني: يفديه قوم تشبهوا حسدًا ... به وليسوا له بأشباه إن نطقوا بالجميل أو فعلوا ... فللريا والكمال لله1 ومنه قوله: لعمري لقد أفحمت بالفضل منطقي ... وقد كنت ذا نطق وفضل بيان2 وحركت ميزاني فأثنى لسانه ... فلا زلت مشكورًا بكل لسان وقال، وقد كتب إليه الملك المؤيد صاحب حماة: فديتك من ملك يكاتب عبده ... بأحرفه اللاتي حكتها الكواكب3 ملكت بها رقي وانحلني الأسى ... فها أنا ذا عبد رقيق مكاتب4 وقال يهنئ القاضي جمال الدين، وقد عاد من غزوة سيس: بقيت مدى الدنيا جمالًا لدولة ... لها منك شهم في اللقا ورئيس يسوق لها عند الفتوح جنائبًا ... وأوَّل هاتيك الجنائب سيس5 ومنه قوله في جواد: وأدهم اللون حندسي ... في جريه للورى عجائب6 يقصر سعي الرياح عنه ... فكلها خلفه جنائب ومنه قوله وقد كتب بها إلى الصاحب شرف الدين يعقوب: قالت العليا لمن حاولها ... سبق الصاحب واحتل ذراها فدعوا كسب المعالي إنها ... حاجة في نفس يعقوب قضاها

_ 1 الريا: الرياء وهو الكذب والنفاق والخداع. 2 أفحم: أسكت بالحجة، ومنعه النشاط. 3 المكاتبة: هي أن يكتب عهد بين العبد والسيد أنه يصير العبد حرًّا مقابل مبلغ معين من المال. الرق: العبودية. أنحل: أضعف. الأسى: الحزن. 4 الخلع: جمع خلعة وهي الهدية من الثياب. 5 الجنائب: النواحي والجهات. 6 الأدهم: من الخيل الأسود اللون. الحندسي: لونه لون الحندس وهو الظلام.

ومنه قوله: قصدت معاليك أرجو الندى ... وأزجي من العسر داء دفينا1 فما كان بيني وبين اليسار ... سوى أن مددت إليك اليمينا2 وقوله يهنئ محتسبًا: تهنأ بها حسبة أدركت ... بأيام فضلك ما ترتقب فإنك من أسرة تصطفى ... وترزق من حيث لا تحتسب3 ومنه قوله يهنئ بعيد النحر: تهنأ بعيد النحر وابق ممتعًا ... بأمثاله سامي العلا نافذ الأمر4 تقلدنا فيه قلائد أنعم ... وأحسن ما تبدو القلائد في النحر وقوله: كذا أبدًا يا أرفع الناس همة ... غوادي الندى من راحتيك غزار أقدم أطراسًا وتمنح أنعمًا ... فمني أوراق ومنك ثمار ومنه قوله، وكتب بها إلى القاضي بهاء الدين بن أبي البقاء على يد طالب شفاعة: أرسلته لك واثقًا بمكارم ... أورثتها عن سادة أنجاب لا غرو أن أعربت عن أحسابهم ... فأبو البقاء أحق بالإعراب ومنه قوله، وكتب بها إلى القاضي شمس الدين البهنسي: يا رب أمدد بالغنى يد سيد ... في يومه يهب الجزيل وفي غده فالبحر يسعى خادمًا في بابه ... والسحب جارية تصب على يده ومنه قوله، وكتب بها إليه: على ديون من ثنا لم أقم بها ... فيا عجبًا في ازديادي من الفضل وأعجب من ذا أنك الشمس أشرقت ... وها أنا منها حيثما كنت في ظل

_ 1 الندى: العطاء. العسر: الفقر والضيق. 2 اليسار: الغنى والثراء. 3 تصطفى: تختار. 4 عيد النحر: هو عيد الأضحى سمي بذلك لأن الحجيج ينحرون فيه الأضاحي تقربًا إلى الله تعالى. سامي: عالي. نافذ الأمر: مطاع.

ومنه قوله وقد أرسل إليه شرف الدين خالد القيسراني هدية جليلة في وقتها: لك الله ما أزكى وأشرف همة ... وأحمد صنعًا حيث تبلى المحامد1 فأنت الذي قرت برؤيته العلا ... وهنئت الدنيا بأنك خالد قال وقد وصلت إليه هدية على يد الكمال: قبضت من الكمال نداه عفوًا ... بريئًا من سؤال أو مطال2 فينا لله من عادات بر ... أتتني بالتمام وبالكمال وكتب إلى الصاحب تقي الدين بن هلال: هنئت ما أوتيته من رتبته ... حملتك في العينين من إجلالها في مقلة الإنسان نمت فقل لنا ... أنت ابن مقلتها أم ابن هلالها وقوله: فديناك يابن المحسنين مجوّدًا ... بأقلامه أو جائدًا بمكارمه3 فحاتم عند الجود في بطن كفه ... وياقوت عند الخط في فص خاتمه وقوله يهنئ بالعيد: تهن بعَوده عيدًا سعيدًا ... وعش ما شئت يا كهف البرايا نحرت به جميع عداك فانحر ... قرونًا آخرين من الضحايا4 ومنه قوله: قف بباب العلا وقل يا كتابي ... عن لساني قول الخويدم حقّا أنا عبد مكاتب غير أني ... لست أبغي من مالك الرق عتقا5

_ 1 تبلى: تجرب وتختبر. المحامد: الأعمال التي يحمد عليها فاعلها. 2 الندا: العطاء والهدية. المطال: إخلاف الوعد والتسويف. 3 مجوّدًا: بالقلم: متأنقًا. جائدًا: متكرمًا، معطيًا. 4 قرون: أجيال. 5 المكاتب: العبد يتفق مع سيده على أن يكون حرًّا مقابل مبلغ معين من المال. العتق: التحرر.

وقال وقد أنعم عليه بنصيفة: سور الذكر سهلت ... لي نصيفة علت1 فبياسين عوذت ... وبحاميم فصلت2 وتلطف بكتابته إلى من أنعم عليه بالنصيفة، بقوله: يا سيدي نصيفتي قد فصلت ... وعجزت لما غبت عن تبطينها ما حلت فيها عن ندى نعمًا يديـ ... ـك ولا اتخذت بطانة من دونها3 وكتب إلى القاضي شمس الدين البهنسي: شكر الله أياديك التي ... أنعشت حالي بشمس الهبات أنت بالمعروف قد أحييته ... وكذا الشمس حياة للنبات وقال يهنئ قادمًا من الحجاز: قالوا سررت زائدًا بقادم ... حج شهابًا ثم عاد بدرا تقصد منه ماله أو جاهه ... قلت نعم كلاهما وتمرا وكتب إلى من أهدى إليه تمرًا رديئًا غالبه نوى: أرسلت تمرًا بل نوى فقبلته ... بيد الوداد فما عليك عتاب وإذا تباعدت الجسوم فودّنا ... باق ونحن على النوى أحباب4 ومنه قوله: قال فتح الدين إذ حدَّثنا ... يتلافى قصة تفضي لمنحي5 كيف أثمار حديثي عندكم ... قلت فصي أولا فهو فتحي وقال يهنئ ولد الأمير ناصر الدين بن فضل الله العمري بإمرة عشرة:

_ 1 الذكر: القرآن الكريم. النصيفة: العمامة. أو أي غطاء الرأس. 2 ياسين: سورة يس. عوّذت: حميت. حاميم: سورة حم السجدة من القرآن الكريم. 3 البطانة: قطعة من القماش الناعم تخيط على داخل الثوب، والحاشية من الأتباع والأعوان. 4 النوى: السفر والبعد، والبذور من الثمار. 5 تلافى: تحاشى وابتعد. أفضى إلى الأمر أو إلى المكان: أوصل إليه.

هنئتها إمرة مجدَّدة ... يابن السراة الأكابر البرره1 أقسم من ذا وذا بأنكم ... وجدتم من أكابر العشره ومن لطائفه في هذا الباب قوله: والله ما عجبي لقدرك إنه ... قدر على باغي مداه بعيد2 إلا لكونك لست تشكو وحشة ... في هذه الدنيا وأنت وحيد وكتب على شرح مختصر ابن الحاجب لشمس الدين الأصفهاني: أخا العلم إن الشمس باد ضياؤها ... فسر بسناها حيثما أنت سائر وخل فتى شيراز عنك فإنما ... هو القطب قد دارت عليه الدوائر ومن لطائفه قوله: وصلت إلى باب المعز وظله ... وفارقت ذلي إذ وصلت إلى العز وأصبحت من جند المحامد والثنا ... ولا بدَّ للجندي من طلب الخبز وقوله في الجامع الأموي بدمشق: أرى الحسن مجموعًا بجامع جلق ... وفي صدره معنى الملاحة مشروح فإن يتغالى بالجوامع معشر ... فقل لهم باب الزيادة مفتوح3 ومن مداعباته ومجونه وإعراضه ونكته اللطيفة، في باب التورية، قوله: يا أير لا تركن لعلق ولا ... تثق به واتركه مع نفسه ولا ترج الود ممن يرى ... إنك محتاج إلى فلسه ومن مداعباته اللطيفة مع الشيخ بدر الدين حسن الزغاري، مضمنًا قوله: يا غائبًا عن مجلس قد شاتمت ... ندماه واشتعلت عليه الأكؤس نبئت أن النار بعدك أوقدت ... واستب بعدك يا كليب المجلس4

_ 1 السراة: الأشراف والسادة. 2 الباغي: المريد والطالب. 3 يتغالى: يتباهى. 4 استب: تشاتم. كليب: هو كليب وائل الذي قتله جساس بن مرة لأجل ناقة البسوس، وتصغير كلب، للتحقير.

ومنه قوله في مليح اسمه إلياس: أفدي مليحًا في البرايا لم أزل ... طول الزمان عليه في وسواس قالوا أتقطعه كثيرًا قلت من ... راحات المرء قطعُ إلياس وقوله: لهفي على فرسي الذي ... أضحى قريح المقلتين1 يكبو وأملك رقه ... فمعثر في الحالتين2 ومنه قوله: سافرت للساحل مستبعضًا ... قصدًا وحمدًا حسن الجملة3 فيا له من متجر رابح ... ما نفقت فيه سوى بغلتي4 وقوله: ميزاني العاطل المحلى ... قال له الفقر قف مكانك لا تذكر المال عند هذا ... ولا تحرك به لسانك ومنه قوله يداعب صديقًا له يروم ولاية القضاء: رب إن ابن عامر هائم الفكـ ... ـر معنى في صبحه والمساء5 يتمنى القضاء فلا تعطينه ... واجعل الموت سابقًا للقضاء ومثله قوله: لقد أصبحت في حال ... يرق لمثلها الحجر مشيب وافتقار يد ... فلا عين ولا أثر6

_ 1 قريح: مجروح. المقلة: معظم العين. 2 كبا الجواد: تعثر. والمعثر: الذي يتعثر ويكبوا أو الذي لاحظ له. 3 هكذا في الأصل: مستبعضًا، ونعتقد أنها: مستبضعًا: أي طالبًا للبضاعة لمناسبة المعنى. 4 نفقت الدابة: ماتت، أو بيعت. 5 المعنى: الكثير الاهتمام والاعتناء لدرجة الوسواس. 6 يرق: يصبح رقيقًا ويشفق ويعطف. لا عين ولا أثر: لا ملك مادي ولا ملك معنوي، وهذا مثل يقال للفقير المعدم.

ومنه قوله يداعب بعض أصحابه: بفلان في الديوان صورة حاضر ... وكأنه من جملة الغياب لم يدر ما مخزومه وجريده ... سبحان رازقه بغير حساب1 ومن لطائفه قوله يهنئ شارب دواء: أمط بالدواء ثياب الأذى ... وطب بالرواح به والغدوّ2 وكرر أحاديث بيت الخلا ... ولكن على رغم أنف العدو وكتب إلى صفي الدين الحلي مداعبًا له: أوقعني ودّي مع هاجر ... يبخل بالدَّرْج وبالوصل3 والله لا غررت من بعدها ... ولا جعلت الود في حل4 ومنه قوله: وقالوا أحاطت ذقنه بخدوده ... ووجدك لا ينفك يذكر حسنه فقلت نعم ضيفي بقلبي نازل ... أعظم مثواه وأكرم ذقنه وقوله: رب مليح حسن صوته ... قالوا وقد أصبح ذا ذقن لحيته قد قطعت حلقه ... قلت من الأذن إلى الأذن وكتب، وقد أهدى إليه بعض أصحابه ديوكًا: وصلتنا ديوك برك تزهو ... بوجوه جميلة مستجاده5 كل عرف يروق حسنًا وإني ... أرتجي أن تكون عرفًا وعاده6

_ 1 الجريدة: دفتر أرزاق الجيش في الديوان. 2 أماط: أزاح وخلع. 3 الدَّرْج: الطاعة. 4 في حل: أي بغير عهد. 5 برِّك: جودك 6 العرف: القطعة القرمزية التي تعلو رأس الديك، وما تعارف عليه الناس. راق: أعجب.

وكتب إليه في المعنى: قل للرئيس جمال الدين لا برحت ... هباته ذات تأسيس وإيناس1 واصل رجاي يعرف الديك مقتبلًا ... لن يذهب العرف بين الله والناس ومن لطائفه في هذا الباب قوله: لقد عدناكم لما ضعفتم ... فلا والله ما وافيتمونا2 أقيموا في ضناكم أو أفيقوا ... فإن عدنا فإنا ظالمونا ومنه قوله، وقد صرف عن مباشرته: أيا ابن نباتة جار الزمان ... وزلت وزالت قوى همتك وقد كنت ذا خدم وانقضت ... فلا أوحش الله من خدمتك ومن نكته اللطيفة قوله في هذا الباب: أحمد الله كم أجوّد في الخلـ ... ـق مقالًا وما يفيد المقال كلمي في الأنام سحر ولكن ... أنا والسحر باطل بطال وقوله: لقد أصبحت ذا عمر عجيب ... أقضي فيه بالإنكاد وقتي من الأولاد خمس حول أم ... فوا حرباه من خمس وست3 ومن لطائفه قوله: قد لقبوا الراح بالعجوز وما ... تخرج ألقابهم عن العادة ألانت الغادة التي امتنعت ... فصح أن العجوز قوادة4 وقال يداعب كبير الأنف: أقبل عند القوم يسألني ... من أي أرضيك نلت إيثارا قلت من النيك ما رأى بصري ... خيرًا ولكن رأيت منقارا

_ 1 التأسيس والإيناس: من المصطلحات العروضية. 2 عاد الضعيف: زار المريض. وافى: زار أو جاء. 3 ست: العدد والسيدة. 4 الغادة: الحسناء الناعمة. القوادة: التي تقود إلى الفجور والفحش.

ومن لطائف مجونه: أرى أيري تكبر في جلوسي ... وفي عمر وأعطى اللؤم قومه فأمسى لا يقوم لزائريه ... وإن زار العزيز فنصف قومه1 وقال في صديق باع مملوكًا وتزوَّج امرأة جميلة: لي صاحب ترك المليح وعاد في ... حب المليحة من ذوي الأقدار قد كان عبد الأشهب المنسوب في ... حسن فأضحى وهو عبد الدار ومن لطائفه قوله في هذا الباب: قد أضحت سعاد تعاف أيري ... وتحوجها الضرورة أن تجامل فتمعكه بلا قلب لديها ... وتأخذه بأطراف الأنامل2 ومنه قوله مع التضمين المخترع، وهو: دنوت إليها وهو كالفرخ راقد ... فيا خجلتي لما دنوت وإدلالي وقلت امعكية بالأنامل فالتقى ... لدى وكرها العناب والحشف البالي ومنه قوله: محبوبتي دنيا جفت بعدما ... جادت وكانت نزهة الهائم كانت مع الأير زمان الصبا ... وهكذا الدنيا مع القائم ومن لطائفه قوله: باع صديقي لجام بغلته ... ليشتري الخبز منه والأدما واهًا عليه راحت جرايته ... فهو على ذلك يعلك اللجما4 ومن لطائف مجونه قوله: يا ملاذي الغوث من عائلة ... ليس من تكليفهم لي مهرب طلبوا في أرجلي شيئًا وقد ... نقبوا رأسي بما قد طلبوا

_ 1 العزيز: عزيز مصر والمحبوب. 2 تمعكه: تدلكه وتفركه. 3 الأدم: ما يؤكل مع الخبز من الطعام. 4 الجراية: الصبا. علك: مضغ. اللجم: جمع لجام وهو حديدة توضع في فم الحصان للسيطرة على سرعته.

ومنه قوله: جنينة التين وجيرانها ... قد طيبت لذاتها وقتي وكثرت عندي ما أشتهي ... فالتين من فوقي ومن تحتي وقال يداعب صديقًا له طلق زوجة تسمى دنيا: قل لابن بغلان الذي أصبحت ... كرته بين الورى خاسره ظلمت دنياك وفارقتها ... ورحت لا دنيا ولا آخره وقوله: تبسم الشيب بذقن الفتى ... يوجب سح الدمع من جفنه حسب الفتى بعد الصبا ذلة ... أن يضحك الشيب على ذقنه ومن أغراضه اللطيفة في إهداء كتاب قوله: أرسلته نعم الجليـ ... ـس إذا تغيرت البشر يبقى على سنن الوفا ... أبدًا ويقنع بالنظر وقوله: لله تصنيف له رونق ... كرونق الحبات في عقدها كادت تصانيف الورى عنده ... تموت للهيبة في جلدها وقال وقد عتب عليه القاضي بدر الدين، لأمر: أهلتني للعتب حتى لقد ... لذ لسمعي وهو صعب شديد هذا ولو قطعتني لذلي ... وسرني أني ببدر شهيد وقال يداعب جنديًّا من أصحابه عرض ولم يقبل: ظننا طوله يجدي ... ليوم العرض أو يرضي فلا والله ما أجدى ... وراح الطول في العرض ومن لطائف مجونه قوله: صفا لون شيبي ثم كدر عيشتي ... فيا عجبًا للشيب من كدر صافي وصار على الأكتاف يضحك من يرى ... فآهًا له شيبًا يقطع أكتافي

ومن أغراضه اللطيفة قوله: كانت للفظي رقة ... ضن الزمان بما استحقت فصرفتها عن قدرتي ... وقطعتها من حيث رقت ومن لطائف مجونه قوله: قالت أريد من طبيخ قدرة ... وكثرت حاجاتها وأوغلت1 فقلت هذي قدرة يا ستنا ... من قبل أن تمسها النار غلت2 ومن لطائف مجونه قوله: دعاني صديق لحاجاته ... فأوقعني في العذاب الأليم كلام يزيد وماء يقل ... فبئس الصديق وبئس الحميم ومنه قوله: ما زلت أقلع شيبة نسخت بها ... فسواد عقد شبابها مفسوخ حتى غدت صفحات وجهي آية ... لا ناسخ فيها ولا منسوخ3 ومن مراثيه البديعة قوله يرثي الملك المؤيد صاحب حماة: ألا في سبيل الله ملك مؤبد ... كنصل غدا في باطن الأرض مغمدا على الرغم منا إن أتى منه لامع ... وجاوبنا من حول تربته الصدى قوله وقد توفي له ولد ولم يبلغ حولًا: يا راحلًا من بعد ما أقبلت ... مخايل للخير مرجوَّه لم تكتمل حولًا وأورثتني ... ضعفًا فلا حول ولا قوَّة ومثله قوله في ولده عبد الرحيم: يا لهف قلبي على عبد الرحيم ويا ... شوقي إليه ويا شجوي ويا دائي في شهر كانون وافاه الحِمام لقد ... أحرقت بالنار يا كانون أحشائي4

_ 1 قدرة: قدر صغير يطبخ فيه. أوغل في الشيء: زاد فيه. 2 الست: السيدة. 3 الناسخ والمنسوخ: من آيات القرآن: الناسخ الآية التي تبطل حكم المنسوخ وهو الآيات التي بطل حكمها. 4 الحِمام: الموت.

ومنه قوله فيه: آهًا لشمل قد وهى سلكه ... وكان ذا در بعبد الرحيم فليتني لاقيت عنه الردى ... وعاش ذاك الدردرا يتيم وقال يرثي جارية له: يقولون قد أخلقت جفنك بالبكى ... نعم إن جفني بالبكاء حقيق1 دعوا الدمع للجفن القريح مؤاخيًا ... فإني عدمت الدمع وهو شقيق وقال يهنئ بالعشر بعد تعزية بميت: أتيتك يا أزكى البرية جامعًا ... لأمرين في يوم من الدهر وافد هنا وعزا لا عيب فيه لأنني ... أهني بعشر إذا أعزي بواحد وقال يرثي الملك الأفضل صاحب حماة: مضى الأفضل المرجو للباس والندى ... وصحت على رغم العداة وفاته وما مات إذا ماتت بحزن نساؤه ... وماتت بأحزان البلاد حماته وقال في رثاء طفل: بدا وفي حاله توارى ... فيا لها طلعة شريقه جوهرة ما عملك إلا ... دموع عيني لها عقيقه2 وقال في رثاء ولده أيضًا: قالوا فلان قد جفت أفكاره ... نظم القريض فلا يكاد يجيبه هيهات نظم الشعر منه بعدما ... سكن التراب وليده وحبيبه انتهى ما وقع عليه الاختيار ووعدت بإيراده من غرائب الشيخ جمال الدين بن نباتة، وبدائعه في باب التورية على اختلاف أنواعها، وقد تقدم قولي إن الراية الفاضلية هو عرابة مجدها، وواسطة عقدها، وقائد زمامها، ومسكة ختامها. وقدمت أيضًا من مشى تحت الراية الفاضلية، من ابن سنا الملك إلى الوداعي، ولما رفع العلم النباتي كانت هذه الفرقة التي مشت تحت هذا العلم أكثر عددًا وأشهر ذكرًا، وأعلى رتبة نظمًا ونثرًا.

_ 1 أخلق: أبلي. حقيق: جدير. 2 العقيقة: ما يعمل من الطعام عند ولادة المولود.

وقد عنَّ لي أن أذكر هنا لكل من عاصره ومشى تحت علمه النباتي، وتحلى بنكته الأدبية، نبذة من مختار مقاطيعه التي حلاوتها في الأصل نباتية، ليظهر صدق قولي في تفضيل الصحابة المحمدية، وأشرع بعد ذلك في إيراد نبذة من نظم التابعين لهم بإحسان، وأدير هذا الكاس بحيث يتسلسل دوره إلى أهل هذا العصر والأوان، والعصابة التي مشت تحت العلم النباتي، وتحلت بقطر نباته هم: الشيخ صلاح الدين الصفدي، والشيخ زين الدين بن لوردي، والشيخ برهان الدين القيراطي. ومذهبي أنه أقرب الناس إلى الشيخ جمال الدين، نظمًا ونثرًا، والشيخ شمس الدين بن الصائغ، والشيخ بدر الدين ابن الصاحب، والشيخ شهاب الدين بن أبي حجلة، والشيخ إبراهيم المعمار، والشيخ بدر الدين حسن الزغاري، والشيخ يحيى الخباز الحموي، والشيخ شهاب الدين الحاجبي. وممن أدركهم وعاصرهم المصنف، وكتبوا إليه وكتب إليهم، وأنشدوه وأنشدهم من أهل مصر والشام: الشيخ زين الدين بن العجمي عين كتاب الإنشاء الشريف بالديار المصرية، والقاضي فتح الدين بن الشهيد صاحب دواوين الإنشاء الشريف بدمشق المحروسة، وناظم السيرة النبوية نور الله ضريحه، والشيخ عز الدين الموصلي والشيخ علاء الدين بن أيبك الدمشقي والشيخ جلال الدين ابن خطيب داريا، والشيخ شمس الدين الرئيس الشهير بابن المزين، والصاحب فخر الدين بن مكانس وولده الجناب المخدومي المجدي، وسيدي أبو الفضل بن أبي الوفاء قدس الله روحه، ولكن ما رأيته، والشيخ شرف الدين عيسى الشهير بعويس، والشيخ شهاب الدين بن العطار، ولكن ما حضرته، والشيج جمال الدين، ولكن ما رأيته، وصاحبنا الشيخ شمس الدين المتنبي المصري، والفرقة التي أطال الله بقاءها وأمست قواعد الأدب بها قائمة، وختمت بهم هذه الطريقة البديعة وأخلصوا في العمل ففازوا في الحالتين بحسن الخاتمة، وهم: القاضي بدر الدين ابن الدماميني المالكي المخزومي، فسح الله في أجله، والشيخ الإمام الحافظ العلامة شهاب الدين بن حجر العسقلاني الشافعي -رحمه الله تعالى- والشيخ بدر الدين البشتكي، رحمه الله تعالى. ونبدأ بمن تقدم ذكره أولًا فأولًا. فمن محاسن الشيخ صلاح الدين الصفدي في باب التورية -رحمه الله- قوله: أفديه ساجي العيون حين رنا ... أصاب مني الحشا بسهمين1 أعدمني الرشد في هواه ولا ... أفلح شيء يصاب بالعين

_ 1 ساجي العيون: ساكنها. رنا: نظر.

ومثله قوله: لقد شب جمر القلب من فيض عبرتي ... كما أن رأسي شاب من موقف البين1 فإن كنت ترضى لي مشيبي والبكى ... تلقيت ما ترضاه بالرأس والعين ومثله في تورية العين قوله: سألتم عن منام عيني ... وقد براه جفا وبين واليوم قد غاب حين غبتم ... ولم يقع لي عليه عين ومثله قوله: إن عيني مذ غاب شخصك عنها ... يأمر السعد في كراها وينهى بدموع كأنهن الغوادي ... لا تسل ماجرى على الخد منها2 ومنه قوله: وفقيه قلت صلني ... فالبكى قرَّح عيني قال لا تفخر بشيء ... هو دون القلتين3 ومن لطائفه قوله: قلت وقد أعرض عني ولم ... يصغ إلى الشكوى ولم يقبل لا تطمعي يا نفس في وصله ... ويا دموع العين لا تسألي ومن لطائفه قوله: إن لم تصدقني تصدق بالكرى ... ليزورني فيه الخيال الزائل وانظر إلى فقري لوصلك واغتنم ... أجري وقل للدمع قف يا سائل وقوله أيضًا: يقول الناس كيف يميل عنه ... الحبيب ويدعي صونًا وعفه أليس لقده في كل يوم ... يمر مع النواسم ألف عطفه

_ 1 العبرة: الدمعة. البين: الفراق. 2 الغوادي: من السحاب التي تنشأ غدوة وهي أكثر مطرًا. 3 القلتين: من القليل.

وقوله أيضًا: وأحور أحوى فاتر الطرف قد غدا ... به قلب صب بالجوى يتضرم1 كستني ضنى جسمي سهام جفونه ... فبرد سقامي في هواه مسهم2 وقوله مع حسن التضمين: مقلته السوداء أجفانها ... ترشق في وسط فؤادي نبال ويقطع الطرق على سلوتي ... حتى حسبنا في السويدا رجال3 وألم الشيخ زين الدين بهذه النكتة، ولكن سبكها في غير هذا القالب بقوله: من قال بالمرد فإني امرؤ ... ميلي إلى النسوة ذات الجمال4 ما في سويدا القلب غير النسا ... ما حيلتي ما في السويدا رجال5 ومنه قوله: بجفنه سيف فرى حده ... قلوب قوم في الهوى أسرى6 ومن عجيب نصر ألحاظه ... وجفنها المكسور قد فرّا ومنه قوله: وظبي معانيه بيان بديعها ... له حار فكري إذ رأى كل معجز قرأت مقامات الحريري كلها ... بعارضه مشروحة للمطرزي وتزاحم الشيخ صلاح الدين والشيخ زين الدين بن الوردي، في هذا المعنى والنكتة، بقوله: شبهت خد حبيبي ... تشبيه فكر مبرز مقامة للحريري ... وشرحها للمطرز

_ 1 الأحور: شديد بياض العينين وسواد سوادهما. الأحوى: الأسمر أو الأحمر الذي يميل إلى السواد. الصب: المغرم. يتضرم: يشتعل ويحترق. 2 الضنى: الضعف. المسهم: الذي فيه صور السهام. 3 حسبك في السويدا رجال: مثل يضرب في الفرارين الجبناء. 4 المراد: جمع أمرد وهو الغلام لم تنبت لحيته وشارباه بعد. 5 سويداء القلب: مركز العواطف منه. 6 فرى: كلّ وعاد لا يقطع.

والذي يشهد به الذوق أن تركيب الصفدي أحسن وأقعد، ومنه قوله: كن كيف شئت فإن قد ... رك قد علا عندي وعزا مات السلو تعيش أنـ ... ـت أما رأيت الصبر عزا1 ومن لطائفه في هذا الباب قوله: قالوا حكى بدر الدجا وجه الذي ... تهوى فقلت لهم قفوا وتربصوا أنا ما أصدّق ما عليه كلفة ... فإذا حكى شيئًا يزيد وينقص ومن قوله: من شافعي يومًا إلى مالك ... في أمر روحي القبض والبسطا صوب رأي الناس في حبه ... وشعره في الأرض قد خطا ومنه قوله: يقولون حاكاه الهلال فلا تزغ ... عن الحق واعرف ذاك إن كنت تنصف3 فقلت إذا ما صار بدرًا مكملًا ... حكاه ومع هذا عليه تكلف4 وقوله: إذا قلت قد أسرفت في التيه قالي لي ... تقل في جمالي في الورى غير ما جرى5 وابيض طرفي واقف عند حده ... واسود شعري قد تواضع للثرى وقوله: محياه له حسن بديع ... غدا روض الخدود به مزهر وعارضه رأي تلك الحواشي ... مذهبة فزمكها وشعر6

_ 1 عز الصبر: ندر وقلَّ. 2 العذار: الشعر في مؤخر الرأس ما بين الأذنين. 3 زاغ: مال وحاد. 4 حكاه: شابهه. التكلف: الكلف وهو ما يعتري وجه الحامل من النمش. 5 التيه: التكبر. 6 زمكها: ملأها.

وقوله: أقول وحر الرمل قد زاد وقده ... وما لي إلى شم النسيم سبيل أظن نسيم الجو قد مات وانقضى ... فعهدي به في الشام وهو عليل النسيم العليل تلاعبوا به كثيرًا، ولكن قول الصفدي: فعهدي به في الشام وهو عليل، في غاية اللطف. ومنه قوله: كئوس المدام تحب الصفا ... فكن لتصاويرها مبطلا ودعها سواذج من نقشها ... فاحسن ما ذهبت بالطلا وقوله: قلت لما شوى إوزًا حبيبي ... واكتسى باللهيب ثوب ثناء لو يعيش الجزار مات غرامًا ... في معاني محاسن الشواء وقوله: كلفي ببدر صائغ ... كالبدر في جو السماء سكر المحب بريقه ... وغدا يموِّه بالطلاء ومنه قوله: شوى الإوز فأضحت ... في حمرة الخد بسطه فقلت تشوي إوزًا ... أم كنت تشرب بطه2 ومنه قوله: قل للعذول يسترح من عذلي ... ما أصبح المعشوق عندي مشتهى وارتدّ قلبي عن سيف لحظه ... وكل شيء بلغ الحد انتهى ومن نكته البديعة قوله: أقول له ما كان خدك هكذا ... ولا الصدغ حتى سال في الشفق الدجى3

_ 1 الطلا: الخمر والدهان. 2 البطة: الباطية وهي وعاء من أوعية الخمر. 3 الصدغ: الشعر بين العين وشحمة الأذن. الدجى: الظلام.

فمن أين هذا الحسن والظروف قال لي ... تفتح وردي والعذار تخرجًا9 وقوله: أصبحت نابغة الغرام لصبوة ... في غادة بجمالها متفرده كم قد جلت من خدها وسيوف مقـ ... ـلتها إلى النعمان والمتجرده وقوله أيضًا: أنفقت كنز مدائحي في ثغره ... وجمعت فيه كل معنى شارد وطلبت منه جزاء ذلك قبلة ... فأبى وراح تغزلي في البارد وقوله: قالت وقد مادت كغصن النقا ... أسرفت في العشق بلا فائده2 فقلت منهوم الهوى لم يكن ... يشبع إن مدت له المائده3 وقوله: سكن البدو من أحب فقالوا ... زاد أهل الغرام في البعد بعدا قلت بالله هل سمعتم ببدر ... غاب عن عاشقيه لما تبدى ومن نكته الغريبة قوله: سال العذار فسل سيف جفونه ... حتى غدت مهج الورى أفلاذا4 يا صدغه والله كنا في غنى ... عن أن نراك السائل الشحاذا5 وقوله: أقول لقاض سهم مقلته غدا ... يصيب الحشا لا تبغ قلبي ولا توذي وإن كان قلبي عنده غير تائب ... فدعه ولا تحكم عليه بتنفيذ

_ 1 تخرجا: صار له خرجًا وهو من التخريج وهذا نوع من التطريز في طرف الثوب. 2 ماد: مال. 3 منهوم: من النهم وهو شدة الجوع والعطش. 4 العذار: الشعر بين الأذنين من مؤخر الرأس. أفلاذ: جمع فلذة وهي القطعة 5 الصدغ: الشعر بين العين والأذن. الشحاذ: المستعطي.

وقوله: أملت أن تتعطفوا بوصالكم ... فرأيت من هجرانكم ما لا يرى وعلمت أن بعادكم لا بد أن ... يجري له دمعي دمًا وكذا جرى وقوله: لئن سمح الدهر البخيل بقربكم ... وسكن مني أنفسًا وخواطرا جعلت ابتذال الروح شكران وصلكم ... وقلت لدمع العين يعمل ما جرى وقوله: بدا في الخد عارضه فأضحى ... عليه معنفي باللوم يغري وحاول أن يرى مني سلوًا ... وقال لقد تعذر قلت صبري وقوله: تقول له الأغصان إذ ماس قدّه ... أتزعم أن اللين عندك قد ثوى1 فقم نحتكم في الروض عند نسيمه ... ليقضي على من مال منا مع الهوى وقوله: تنائي الذي أهوى فمت صبابة ... فقال عجيب كل أمرك في الهوى صبرت لطرفي إذ رمتك سهامه ... ولم تتصبر إذ رمتك يد النوى2 وقوله: أتاني وقد أودى السهاد بناظري ... يمزق جنح الليل بارق فيه فناديته يا طيب الأصل هكذا ... أخذت الكرى مني وعيني فيه وقوله: بأسياف الجفون قتلت نفسًا ... مبرأة عن الشكوى زكيه فما أقوى جفوك وهي مرضى ... وأقدرها على قتل البريه وقوله: جاء بقدّ قد ثنته الصبا ... ورنحت أعطافه الساميه3 ومذ غدا في لينه واحدا ... كانت له ريح الصبا ثانيه وقوله: وفي القلب من هاجري لوعة ... بغير تلافيه ما تندمل4 فيا شعره بعض هذا الجفا ... ويا ردفه أنت ما تتجمل وقوله: يا قلب صبرًا على الفراق ولو ... روعت ممن تحب بالبين وأنت يا دمع إن أبحت بما ... تخفيه وجدًا سقطت من عيني

_ 1 ماس: مال واهتز. ثوى: أقام وسكن. 2 النوى: السفر والهجران. 3 الصبا: ريح ناعمة صحراوية. رنح: أسكر وأنشأ. السامي: العالي. الأعطاف: الأطراف والجناب. 4 تلافي: احتراز واجتناب. اندمل الجرح: طاب وشفي.

وقوله: لولا شفاعة شعره في صبه ... ما كان زار ولا أزال سقاما لكن تطاول في الشفاعة عنده ... وغدا على أقدامه يترامى وهذه النكتة تزاحم هو والشيخ زين الدين بن الوردي عليها، والله أعلم من المخترع، فإنهما كانا متعاصرين فقال: كيف أنسى لشعر حبي يومًا ... وهو كان الشفيع فِيّ لديه شعر الشعر أنه رام قتلي ... فرمى روحه على قدميه وقوله: إن قلت زرني قال لا ... بحاجب ما أظلمه فما يرى جوابه ... إلا بنون العظمه1 والشيخ صلاح الدين تزاحم هو والشيخ برهان الدين القيراطي على هذه النكتة، وزنًا وقافية -والله أعلم من المخترع منهما- بقوله: وتائه حدثته ... فلم يفه بكلمه أجابني بحاجب ... لكن بنون العظمه ويعجبني قوله: أضحى نسيم دمشق حياها الحيا ... يمشي الهوينا في ظلال رباها فكأنه من مائها وهضابها ... ما داس إلا أعينًا وجباها ومثله قوله: تقول دمشق إذ تفاخر غيرها ... بمعبدها الزاهي الرفيع المشيد جرى ليباهي حسنه كل معبد ... وما قصبات السبق إلا لمعبد2 "ي" وقوله: لما زها زهر الربيع بروضه ... وغدا له فضل ينير لديه قام الحمام له خطيبًا بالهنا ... وجرى الغدير فخر بين يديه

_ 1 نون العظمة: النون التي تصاحب كل كلمة من كلمات المتكلم المفرد، وتدل على تعظيمه نفسه. 2 معبد الأولى: مكان العبادة، ومعبد الثانية: اسم المغني المشهور، ومع إضافة الياء إليها وهي ياء المتكلم، تصير بمعنى مكان العبادة، وإذا كانت الياء ياء النسبة تصير بمعنى: ذلك الذي ينتسب إلى معبد المغني أو الذي يسير على خطه أو غنائه.

وقوله: قالوا علا نيل مصر في زيادته ... حتى لقد بلغ الأهرام حين طمى1 فقلت هذا عجيب في بلادكم ... أن ابن ستة عشر يبلغ الهرما ومن أغراضه قوله: رب طباخ به نضجت ... مهجات غير مرحومه سلوتي عنه مزورة ... أبدًا والنفس مغمومة وقوله: أحببت بابًا حسنه بارع ... سبى من النساك ألبابًا أغلق في وجهي باب الرضى ... فهل تراني أفتح البابا وقوله: إن اللطافة لم تزل ... بين الأكابر فاشيه أرأيت عمرك في الورى ... طرفًا رقيق الحاشيه وكتب على لسان صاحب له طلب من صاحب سرجًا فلم يجهزه له، قوله: عجبًا كيف لم تجد لي بسرج ... وحده واللجام دأب النفوس وإذا لم تبعثه في أول الأمـ ... ـر اختيارًا فابعثه بالدبوس2 وكتب إلى من أهدى له صحن قطائف قوله: أتاني صحن من قطائفك التي ... غدت وهي روض قد تنبت بالقطر فلا غرو إن صدقت حلو حديثها ... وسكرها يرويه لي عن أبي ذر الجماعة تجاروا في هذه الحلبة وأجادوا، منهم الشيخ زين الدين بن الوردي، بقوله: بعثت قطائفًا حلت ... جناها قطرها الغامر فسكرها أبو ذر ... ومرسل صحنها جابر وأجاد الشيخ جمال الدين بن نباتة هنا، وجمع بين التورية وحسن التضمين وبديع الاكتفاء، والحلاوة، بقوله: أقول وقد جاء الغلام بصحنه ... عقيب طعام الفطر يا غاية المنى بعيشك قل لي جاء صحن قطائف ... وبح باسم من تهوى ودعني من الكنا3

_ 1 طمى النهر: إذا فاض. 2 الدبوس: المقمعة وهي عصا من حديد أو من خشب في رأسها كرة من حديد. والمعنى: ابعثه بالقوة بعد أن لم تبعثه اختيارًا. 3 الكنافة: نوع من الحلوى.

وقوله مع بديع التضمين: رعى الله نعماك التي من أقلها ... قطائف من قطر النبات لها قطر أمد لها كفي فأهتز فرحة ... كما انتفض العصفور بلله القطر ويعجبني هنا قول الشيخ برهان الدين القيراطي، مع بديع التضمين: لقد قطفت زهر النبات قطائف ... تخيرتها فاخترت للنفس ما يجلو تقول اسمعوا مني مدائح مرسلي ... فكلي إن حدثتكم ألسن تتلو وأما تورية القطر فالقطر النباتي معروف، فمن ذلك قوله: شكرًا لبرّك يا غيث العفاة ولا ... زالت مدائحك العلياء تنتخب1 قد جدت بالقطر حتى زدت في طمع ... وأول الغيث قطر ثم ينسكب وقوله: لجود قاضي القضاة أشكو ... عجزي عن الحلو في صيامي والقطر أرجو ولا عجيب ... القطر يرجى من الغمام ويعجبني هنا قول أبي الحسين الجزار: أيا علم الدين الذي جود كفه ... براحته قد أخجل الغيث والبحرا لئن أمحلت أرض الكنافة إنني ... لأرجو لها من سحب راحتك القطرا2 قلت الشيء بالشيء يذكر، ذكرت هنا لغزًا في لوزينج كتب به مولانا قاضي القضاة صدر الدين بن الآدمي -رحمه الله- إلى علامة العصر القاضي بدر الدين بن الدماميني رحمهما الله: يا من له في عروض الشعر أي يد ... فاق الخليل بها فضلًا وتمكينا ما اسم دوائره في لفظه ائتلفت ... والثلم في صدرها مستعمل حينا أجزاؤه من زحاف الحشو قد سلمت ... وقد تقطع مطويًّا ومخبونا3 تصحيف معكوسه لفظ يرادفه ... يا فرد يا رحلة قوم مقيمونا والعبد منتظر من حله فرجًا ... لا زال سعدك بالإقبال مقرونا

_ 1 العفاة: طالبوا المعروف. 2 الكنافة: نوع من الحلوى. السحب: واحدتها سحابة وهي الغيمة. 3 الزحاف والحشو والمطوي والمخبون: مصطلحات عروضية.

فأجابه المشار إليه بقوله: يا مرسلًا من شهي النظم لي كلمًا ... منه ابن سكرة قد راح مغبونا لله درك صدرًا من حلاوته ... وجوهر النظم لم يبرح يحلينا هذا وكم قد رأينا في دوائره ... للكف قبضًا يزيد العقل تمكينا وليس إضماره مستحسنًا فأدم ... بالكشف عنه لمن وافاك تحسينا وكن لنا هاديًا صوب الصواب ودم ... فينا أمينًا رشيد الرأي مأمونا وقد آن الرجوع إلى ما كنا فيه، مما اختاره من نظم الشيخ صلاح الدين الصفدي في باب التورية، فمن لطائف مجونه قوله فيمن سرق شيئًا من بعض شعره: إن كان يا مولاي لا بد أن ... تأخذ شعري جملة كافيه قافية البيت اطرح لفظها ... وقم خذ الكل بلا قافيه وقوله: أدير بلحيتي البيضاء كاسي ... بكَيْسٍ زائد مني وفطنه1 ألم ترني وعفو الله راج ... ومن شرهي أصفيها بقطنه2 وقوله: وجرّة قدموها ... والراح فيها كمينه3 شممت طينة فيها ... فرحت سكران طينه وقوله: قلت له إذ هز لي ذقنه ... ولام فيمن همت في عشقها تذكر إذ غنت فنادى نعم ... فقلت واشوقًا إلى حلقها وقوله: وعاذل بارد المقالة لا ... يعي صوابًا وزاد في نكدي وقال ذقن الحبيب باردة ... فقلت يا بردها على كبدي وقوله: ملكت كتابًا أخلق الدهر جلده ... يقولون لا تهلك أسى وتجلد5

_ 1 الكَيَس: اللباقة وحسن التصرف. 2 الشره: النهم وهو شدة العطش والجوع. 3 الكمين: المختبئ. 4 أخلق: أبلى. 5 الأسى: الحزن. تجلد: تصبر، والشطر لطرفة بن العبد من معلقته: وُقوفًا بِها صَحبي عَلَيَّ مَطيَّهُم ... يَقولونَ لا تَهلِك أَسىً وَتَجَلَّدِ

ومن نكت المجون التي توارد هو والشيخ جمال الدين عليها، وزنًا وقافية، قوله: إذا ما قام أيرك في الدياجي ... وعندك من تحب فلا تحابي1 ومل نحو الطواشي واعتنقه ... فمثلك لا يدل على صواب2 وقول الشيخ جمال الدين: أرى الصواب يا أيري صفات ... تحث على التعشق والتصابي فبادره فأنت به خبير ... ومثلك لا يدل على صواب ويحسن أن نختم هذه المجونات بقول الشيخ صلاح الدين، وهو: يا ساحبًا ذيل الصبا في الهوى ... أبليته في الغي وهو القشيب3 فاغسل بدمع العين ثوب التقى ... ونقه من قبل وقع المشيب الشيخ صلاح الدين سامحه الله كان من المكثرين، وكان هو والشيخ شهاب الدين بن أبي حجلة يرضيان، لرغبتهما في الكثرة بالأشياء الرخيصة، ولم أورد للشيخ صلاح الدين هنا غير الغالي من نظمه واختياره واختياري، ومن محاسن الشيخ زين الدين بن الوردي في باب التورية، ومقاطيعه التي هي أحسن من مقطعات النيل، وأحلى في الأسماع من نغمات المواصيل: إن قلت قدّك غصن ... قالت لي الغصن ساجد أو قلت ريقك ثلج ... قالت تشبه بارد ومن ذلك قوله: يا سائلي تصبرًا ... عن لثم فيه لا تسل ما تستحي تبدلني ... بالصبر عن ذاك العسل ومن ذلك قوله: ومليح إذا النحاة رأوه ... فضلوه على بديع الزمان برضاب عن المبرّد يروي ... ونهود تروى عن الرماني

_ 1 حابي: فاضل بين شيئين أو فضل أحدهما على الآخر. 2 الطواشي: الخصيّ، الذي لا يمكنه الجماع. 3 القشيب: الجديد.

وقوله: أمام في الركوع حكى هلالا ... ولكن في اعتدال كالقضيب وقال تلوت قلت الشمس حسنًا ... وقال ختمت قلت على القلوب ومن لطائفه في هذا الباب قوله: يشفع فِيّ شعره ... إذ مال عن قبوله فهو على أقدامه ... ممدد بطوله ومنه قوله: عجبت في رمضان من مسحره ... بديعة الحسن إلا أنها ابتدعت قامت تسحرنا ليلًا فقلت لها ... كيف السحور وهذي الشمس قد طلعت ومن لطائفه قوله: إذا تعذر حبي ... فخله يتعذر فجيده حصل ما بي ... والجيد لا يتغير ومنه قوله: وتاجر ماطلته دينه ... لأجتليه قال ما أمطلك1 قلت له جيدك لي أو لمن ... فقال هات المال والجيد لك وقوله: قالت إذا كنت تهوى ... أنسي وتخشى نفوري صف ورد خدي وإلا ... أجور ناديت جوري ومنه قوله: أنكر حبي مدمعي ... وقال هذا من هوى فقلت لا بل من فتى ... أصاب عيني بنوى ومن نكته اللطيفة في تضمين المثل السائر قوله: وسمينة كانت لها ... في القلب ترقت رقت فعفت وصالها ... وقطعتها من حيث رقت

_ 1 ماطل: سوّف ولم يف بالوعود.

وقوله: سألتها أي ناه ... نهاك عن حسن نوجك1 قالت نهاني زوجي ... فقلت روحي بزوجك ومن أغزاله قوله: أقول إذ قال لي حبيبي ... علام فارقتني علاما خدّك كان الصفا ولكن ... قد أصبح المشعر الحراما وقوله: رامت وصالي فقلت لي شغل ... عن كل خود تريد تلقاني2 قالت كأن الخدود كاسدة ... قلت كثير القلة القاني3 وقوله: أبصروا دمعي فخافوا ... قلت لاتخشوا بكائي ما عليكم من دموعي ... غير أمطار السماء ومنه قوله: سل الله ربك من فضله ... إذا عرضت حاجة مقلقه ولا تسأل الترك في حاجة ... فأعينهم أعين ضيقه وقوله: لما شتت عيني ولم ... ترفق لتوديع الفتى أدنيتها من خده ... والنار فاكهة الشتا وقوله: ضممتها عند اللقا ضمة ... منعشة للكلف الهالك4 قالت تمسكت وإلا فما ... وهذا الشّذا قلت بأذيالك وقوله: شكى من الخط ضعفًا ... وذاك منه دلال قلت استعن بمثال ... فقال ما لي مثال ومنه قوله: وأغيد يسألني ... ما المبتدأ والخبر5 مثِّلهما لي مسرعًا ... فقلت أنت القمر ومن نكته مع حسن التضمين قوله: مليح ردفه والساق منه ... كبنيان القصور على الثلوج خذوا من خده القاني نصيبًا ... فقد عزم الغريب على الخروج

_ 1 نوجك: مراءاتك، النوج: المراءاة 2 رام: أراد وطلب. الخود: الحسناء. 3 كاسدة: ليس عليها طلب. القاني: المحترف والمتزين. 4 الكَلِف: الشديد العشق المتلهف على اللقاء. 5 الأغيد: الممشوق القد المتمايل في مشيته.

ومن نكته اللطيفة قوله: مهفهف القد إذا ما انثنى ... يقول لا تخش من الردّ ما أنت حملي يا كثيب النقا ... ولست يا غصن النقا قدي وقوله: لو نلت من خديه تقبيلة ... تزين الريحان بالورد وقوله: رومية الأصل لها مقلة ... تركية صارمها هندي قد فضحتني وجنتاها فقل ... في وجنة فاضحة الوردي وقوله من دو بيت: يا روضة حسن ليتها لي وحدي ... الشركة فيك قيد أذابت كبدي ما ضرك أن تسقي بماء فرد ... والواجب أن يكون ماء الورد ومنه قوله: هويت أعرابية ريقها ... عذب ولي فيها عذاب مذاب رأسي بنو شيبان والطرف من ... نبهان والعذال فيها كلاب1 وقوله: قلت وقد عانقته ... عندي من الصبح فلق2 قال وهل يحسدنا ... قلت نعم حتى انفلق ومنه قوله: تقويم قدك مال يا من ثغره ... در يقصر دونه التقويم3 إني لأبكي من جفاك ولي أب ... والثغر يضحك منه وهو يتيم ومن اختراعاته قوله: رام ظبي الترك وردًا ... قلت أقصر خاب ضدّك عندك الورد المربى ... قال قاني قلت خدك وقوله: رب فلاح مليح ... قال يا أهل الفتوّه كفلي أضعف خصري ... فأعينوني بقوّه4

_ 1 بنو شيبان ونبهان وكلاب: قبائل عربية. 2 الفلق: الضوء ينشق من ظلمة الليل. 3 تقويم: الأولى بمعنى الاستقامة والثانية بمعنى التثمين. 4 الكفل: فلكتا المؤخرة أو الردف.

وقوله: قلت لفرا فرى أديمي ... وزاد صدًّا وطال هجرا1 قد فر صبري وفر نومي ... قال نعم مذ عشقت فرا وقوله: رغيف خبازكم قد حكى ... من وجهه التدوير والحمره إذا رأى ميزانه المشتري ... قال هنا الميزان والزهره2 ومنه قوله في مليح عبري: أغيد عبري له عمة ... حكت من العشاق ألوانا لقد سبى بالنور شمس الضحى ... فهل أتى من آل عمرانا ومنه قوله: ووعدت أمس بأن تزور ولم تزر ... فغدوت مسلوب الفؤاد مشتتا لي مهجة في النازعات وعبرة ... في المرسلات وفكرة في هل أتى3 وقوله: أعور كالبدر له مقلة ... واحدة قامت مقام اثنتين قد سرق الرقدة من ناظري ... وقال ما جئتك إلا بعين وقوله: بأبي أعور عين فاتن ... مثل بدر التم والتم بعين طرفه الواحد عضب ذكر ... فله في الحسن حظ الأنثيين4 ومنه قوله: رأيت رشيق القد أعور فاتنا ... له مقلة أغنته عن حسن ثنتين5 إذا قال غصن البان أنت ابن قامتي ... يناديه بدر التم أنت أخو عيني وقوله: جنكية شاهدت عشاقها ... وهم بها في الجهد والضنك قالت أما تعشق جنكية ... قلت كذا يا ليتني جنكي وقوله: تغسل عيني وجنتي ... بدمعة هاملة فوجنتي قائلة ... عدوتي غاسلتي

_ 1 فرى: يفري، شق. والأديم: الجلد. 2 الميزان والمشتري والزهرة: من الكواكب والأبراج بالإضافة إلى معناها الحقيقي. 3 هل أتى، والنازعات: سورتان من سور القرآن الكريم. 4 العضب: الحاد القاطع. الأنثيين: الخصيتين. 5 الجنكية: التي تضرب بالجنك وهو من آلات الطرب. الضنك: التعب.

وقوله: ناديت صالحة إلى ... كم أنت عنا نازحه قالت نزحت لأنكم ... لا تصلحون لصالحه1 هويت حصادًا حكت قامتي ... من طول ما يهجرني منجله2 أقول والسنبل من حوله ... مولاي أنت الشمس في السنبلة3 وقوله: أنا في حالي نقيض ... يا شموسًا في البزوغ هزم الصبر عليكم ... والمنى دون البلوغ ومن لطائفه قوله: قال لي بند خصره ... كم كذا ترجع البصر قلت لا تنفرد به ... لك شد ولي نظر ومن أغراضه اللطيفة قوله في صديق له بالمعرة يقال له شمس: لي بالمعرة شمس ... رضاه غير مرادي فلا تذموه إني ... أدرى بشمس بلادي وكتب إليه في زفة له: يا شمس أشعلت شمعًا ... عليك عشر الأصابع رغمًا لمن قال قبلي ... الشمع في الشمس ضائع4 ومنه قوله في آل النصيبي بحلب: فؤادي إلى آل النصيبي مائل ... وودي لهم في محضري ومغيبي فبيني وبين القوم نوع تجانس ... إذا طاب أصل الورد كان نصيبي5 وقوله: للمقدسي بقلبي ... حب خليّ الدليل فمن يكن ذا خليل ... فالمقدسيّ خليلي

_ 1 نزح: هاجر. صالحه: اسم علم وعمل الخير. 2 المنجل: آلة الحصاد البدائية. 3 السنبلة: أحد أبراج الشمس. 4 ضائع: لا يظهر ضوؤه. 5 نصيبي: نسبة إلى آل النصيبي ومن الحظ.

ومن لطائف أغراضه قوله: يا شيخ خلِّ التصابي ... فالزهد بالشيخ أليق1 ولا تحت كميتًا ... فإن فودك أبلق2 ولي صاحب بالمدح والهجو كسبه ... يقول أتدري كيف أصنع بالخلق إذا حمَّروا وجهي وما بيّضوا يدي ... أزرِّق لهم رجلي ولو خضَّروا عنقي3 ومثله قوله: لي صاحب واسمه سراج ... ما قرّ لي عنده قرار لسانه محرق لقلبي ... إن لسان السراج نار ومن أغراضه اللطيفة قوله: تجادَلْنا أماء الزهر أزكى ... أم الخلاف أم ورد القطاف4 وعقبى ذلك الجدل اصطلحنا ... وقد حصل الوفاق على الخلاف ومن لطائف مجونه: يا من تولى قاضيًا ... هذا قضاء أم قدر غدروك في بستاننا ... إن القضا يعمي البصر ومن أغراضه البديعة قوله: قد مات شيخي فاظهروا ... بحربه أو سلمه عيشوا بجهل بعده ... فقد قضى بعلمه ومن أغراضه البديعة قوله: لا تحملوني على انتقام ... فالجاه يحكي خيال طيف عفوت عن مذنب فقرت ... عين عدوي وجفن سيفي

_ 1 خلِّ: اترك. التصابي: عمل الصبيان. 2 حتّ: أسقط. الكميت: من صفات الخمرة. الفود: الشعر النابت فوق جانب الرأس مما يلي الأذن. الأبلق: الذي خالد سواده بياض. 3 حمروا وجهي: أخجلوني. بيضوا يدي: بالعطاء، أزرّق لهم رجلي: أهيئها للرحيل إليهم. خضّروا عنقي: دقوها. 4 الخلاف: الصفصاف.

ومن أغراضه قوله: ديار مصر هي الدنيا وساكنها ... هم الأنام فقابلهم بتقبيل يا من يباهي ببغداد ودجلتها ... مصر مقدمة والشرح للنيل ومن لطائف مجونه قوله: حمامكم قيمه أسود ... هربت منه وأنا صارخ1 قد سلخت جسمي أظفاره ... يا قوم هذا أسود سالخ2 ومن لطائف أغراضه قوله: يا من غدا في طلاب المجد مجتهدًا ... لم يثنه عنه لا مال ولا ولد لا تبسطن لتقليد القضاء يدًا ... أيرتضي رتبة التقليد مجتهد3 وكتب إلى قاضي القضاة شرف الدين بن البارزي: جنبتني وأخي تكاليف القضا ... وكفيتنا مرضين مختلفين يا حيّ عالم دهرنا أحييتنا ... فلك التصرف في دم الأخوين وقوله مع تضمين المثل السائر: إني عدمت صديقًا ... قد كان يعرف قدري دعني لقلبي ودمعي ... يا صاح أحرف وأدْري4 ومن لطائف أغراضه وقد ولى قضاء شيراز قوله: إنما شيراز نار ... وبها القاضي مخلد قلت لا أمكث فيها ... أنا من حزب محمد ومن أغراضه قوله: مرض الفؤاد وصح ودّي فيهم ... وأقام تذكاري وصبري نازح إنسان عيني كم سهادكُم بكى ... يا أيها الإنسان إنك كادح5

_ 1 القيم: المسئول عن الشيء والمعتني به. 2 الأسود السالخ: من الحيات أشرسها وأشدها سُمًّا. 3 المجتهد: الذي يستطيع استنباط الحكم الإلهي في أي قضية. 4 أحرف وأدري: أي أعرف وأنكر. 5 كادح: عامل عملًا شاقًّا، وهذا الشطر من آية قرآنية هي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ} .

ومن نكته البديعة مع تضمين المثل قوله في آل البيت عليهم السلام: يا آل بيت النبي من بذلت ... في حبكم روحه فما غُبنا1 من جاء عن بيته يحدثكم ... قولوا له البيت والحديث لنا ومن نكته الغريبة قوله في محتسب: من ولي الحسبة يصبر على ... تعرض الواقف والسائر فليس يحظى بالمنى والغنى ... فيهم سوى المحتسب الصابر2 وقوله: قد عجبنا لأمير ... ظلم الناس وسبح فهو كالجزار فيهم ... يذكر الله ويذبح وقوله في مدينة حلب: عليك بصهوة الشهباء تلقى ... بجوشنها محاربة الزمان3 فللعرفان في الفردوس ريح ... يفوح شذاه من باب الجنان ومن مجونه فيمن رتبوا له أربعة دراهم قوله: كل يوم رتبوا أربعة ... لك فازددت علينا صعصعة4 فلو استفتيت في سيدنا ... قلتَ يستأهل قطع الأربعة5 ومن لطائفه قوله: ناعورة مذعورة ... ولهانة وحائره6 الماء فوق كتفها ... وهي عليه دائره ومن نكته الغريبة قوله: زوجة مجد الدين والدها ... قد أخذ عرض المجد أشبهاها إن أباها وأبا أباها ... قد بلغا في المجد غايتاها

_ 1 غُبن: بخس حقه. 2 المحتسب: الذي يعمل العمل في سبيل الله. 3 الجوشن: الصدر. الصهوة: أعلى الشيء. 4 الصعصعة: الجلبة والصياح. 5 استفتى: طلب الفتوى، وهي الحكم الشرعي. الأربعة: اليدين والرجلين. 6 الناعورة: دولاب يستقى بواسطته الماء. المذعورة: الهاربة التي تبدو وكأنها ملاحقة.

وقوله: مليحة مصطولة ... إن لمتها فيما أرى1 تقول كل ظبية ... ترعى الحشيش الأخضرا ومن أغراضه البديعة مع حسن التضمين قوله: كرهت وضوءًا من قناة تساق من ... دماء الرعايا أو بسخرة مسلم2 ستشرق في يوم الحساب ندامة ... كما شرقت صدر القناة من الدم ومما تخيرته هنا من تأليفي الذي وسمته بتحرير القيراطي -رحمه الله تعالى- قوله: البدر طلعة وجهه ... وعذاره هالاته3 وخفوق قلبي في هوا ... هـ سعيدة حركاته وقوله: أجريت دمعي فمذ أفنيت أبحره ... أجريت مني بأسياف الجفون دمي إن ملت عني برمح القدّ يا أملي ... لتقرَعَنَّ على السن من ندم وقوله: أسدي ثم ألحم تحت طاق ... له والدمع يجري كل وقفه4 وكم يوم عبرت له زقاقًا ... أحاول غفلة وأروم عطفه وقوله: لما تبدى قوام قامته ... وحاجباه لناظر العين رأيت موتي بسيف ناظره ... من قيد رمح وقاب قوسين وقوله: تنفس الصبح فجاءت لنا ... من نحوه الأنفاس مسكيه واطربت في العود قمرية ... وكيف لا تطرب عوديه5 وقوله: ارتاح للأقمار وهي طوالع ... وشموس راحي للمغارب تجنح ويهزني زجل الطيور بلحنها ... والروض بالزهر النظيم موشح

_ 1 مصطولة: بلهاء. 2 السخرة: التسخير وهو التشغيل دون مقابل. 3 العذار: الشعر ما بين الأذنين من مؤخر الرأس. الهالات: جمع هالة، وهي دائرة من النور تحيط بالقمر في أيام القيظ عادة. 4 أسدي ثم ألحم: من السدى واللحمة وهما الخياطة والتبطين. 5 القمرية: نوع من الحمام المطوق.

وقوله: يا أمير الجمال قل ... فالمراسيم تستمع أنا مملوكك الذي ... لك قلبي غدا تبع وقوله: في جفنه سيف مضاربه ... يا صاح اسبق لي من العذل وبخدّه والردف لي خبر ... قد سار بين السهل والجبل وقوله: شبه السيف والسنان بعيني ... من لقتلي بين الأنام استحلا فأبى فالسيف والسنان وقالا ... حدنا دون ذاك حاشا وكلا1 وقوله: هويت طباخًا له نصبة ... نيرانها للقلب جنات2 يكسر أجفانًا إذا ما رنا ... لها على الأرواح نصبات وقوله: أهيم بأعطاف القدود صبابة ... وإن هي زادتني جفا وتباعدا ويعجبني بين الأنام تطفلي ... عليها إذا شاهدتهن موائدا وقوله: أباح لي نرجس ألحاظه ... في مجلس ما فيه ما نكره فقلت ورد الخد جد لي به ... أيضًا فقال الكل في الحضره3 وقوله: قال لي بالحمى غزالي لما ... لم أجد من ظبا الجفون ملاذا4 كيف جاءت إليك أسياف جفني ... قلت جاءت على الحمى فولاذا وقوله: في وصف خمر الثغر منك نوادر ... تزري بحسن نوادر ابن عتيق5 وإذا وصفت رشيق قدك عندما ... هز القوام لنا فما ابن رشيق وقوله: جفني وجفن الحب قد أحرزا ... وصفين من نيلك يا مصر جفني له يوم الوداع الجفا ... وجفنه الساجي له الكسر6 وقوله: خدمت بالأغزال أبوابه ... لما تبدى حسنه الباهر ولي من الدمع على خدمتي ... جراية أطلقها الناظر7

_ 1 هكذا في الأصل ونرجح أنه: السيف، بدل: فالسيف. 2 النصبة: الموقد المنصوبة. 3 في الحضرة: في خدمة صاحب المكانة الرفيعة. 4 ظبا: جمع ظبة وهي شفرة السيف وحده. 5 ابن عتيق: الناقد الشهير ابن أبي عتيق الأموي. 6 الساجي: الساكن الهادئ. 7 الجراية: الجريان والمسيل.

وقوله: الدمع والجفن فيه ... لي شاهدان بحزني فالجفن يسقط دمعي ... والدمع يجرح جفني وقوله: عبدك يا من جفا وصدّ وما ... درى بصب يموت بالكمد1 جرى على الخد من مدامعه ... في الحب ما لا جرى على أحد وقوله: في خد من همت به شامة ... ما الند في نفحه ندها2 والعنبر الرطب غدا قائلًا ... لا تدعني إلا بيا عبدها وقوله: ومخايل نبت العذار بخدّه ... وله مخايل بالملاحة تشهد3 لما رآني قانعًا بخياله ... نزل العذار بوجنتيه يسوّد وقوله: مال إلى الهيئة ذو هيئة ... فاتنة ألبابنا باهره فخاله في خده نقطة ... عِذاره أضحى لها دائره وقوله: أنظر إلى سطر عذار بدت ... من فوقه الشامات مثل النقط صحت به نسخة حسن لمن ... قد راحت الأرواح فيه غلط وقوله: جزت النقا فحويت لين غصونه ... وكثيب واديه وجيد غزاله وأخذت حسن البدر منه وقد بدا ... في أفقه بتمامه وكماله وقوله: ويوم توالي القطر فيه فجاءني ... بشمس الطلا بدر يفوق على البدر4 فعانقت لما مال عسال قده ... وقبلت معسول اللمى عدد القطر5 وقوله: يا من تبرمك6 صبه في عشقه ... بالروح لا تبخل فعشقي زائد بالفضل جد لي إن دمعي جعفر ... والوجد يحيى والتشوق خالد وقوله: يا هاجرًا أوقعني هجره ... وصده في حالة صعبه أخذت قلبي بالتجني وما ... تركت لي منه ولا حبه

_ 1 الصب: الشديد العشق. الكمد: كبت المشاعر. 2 الند: عود يتبخر برائحته الطيبة. ندها شبيهها. 3 المخايل: المختال الفخور. المخايل: العلامات. 4 الطلا: الخمرة 5 العسال: المضطرب المهتز. المعسول: الممزوج بالعسل. اللمى: سمرة الشفاه. 6 تبرمك: انتسب إلى بني برمك أو تشبه بهم، وهم أسرة علت مكانتها في الحكم حتى كانت نكبتهم على يد أحد الخلفاء العباسيين. ومنهم يحيى البرمكي وخالد وجعفر والفضل.

وقوله: قلت له لما زها حسنه ... على بدور التم ما أحسنك وقلت للائم يا لائمي ... في خده الناعم ما أخشنك ومن لطائف مدائحه قوله: أوصافكم تسري أحاديثها ... مسرى النجوم الزهر في الأفق كما أحاديث الندى عندكم ... تسندها الركبان من طرق وقوله في البجانقي الموقت: شهاب الدين ذو فكر بسمت ... وبالفلك المحيط غدت محيطه1 غدا في العصر شيخ الوقت حقًّا ... وفي أوضاعه ملك البسيطة2 ومن أغراضه قوله: قناطر الجيزة كم قادم ... عليك يلقى فيك أقصى مناه أتاك قوم لاطة فانحنى ... ظهرك للوطء وصب المياه3 وقلت في هذا المعنى: وقالوا كميت النيل يجري وقد غدا ... عليه حلوق السبق قلت كذا جرى4 ولكنه نحو القناطر إذ أتى ... تجرّى عليها معجبًا فتقنطرى ويعجبني من أغراضه اللطيفة قوله: كم عالم قد اشتكى ... في الفقر طول مكثه وكل نور سارح ... زيد له في حرثه5 وكتب إلى الشيخ صلاح الدين: يا صلاح العلا صفاء ودادي ... لا يرى عن أبي الصفا تحويلا فدع العتب إنني لست ممن ... لا يراعون في الأنام خليلا6

_ 1 السمت: الهيئة الخيّرة. 2 البسيطة: الأرض وما عليها. 3 لاطة: يمارسون اللواط وهو إتيان الرجال شهوة من دون النساء. 4 الكميت: الحمراء الضاربة إلى السواد. الحلوق: الطرق. 5 الحرث: المتاع. 6 الخليل: الصديق الملازم.

ومن لطائفه قوله فيما يكتب على طاسة: تأمل فإني طاسة صح نقشها ... وفاق على نقش الغواني التي تسبي1 وواصف حسني أطرب السمع قوله ... كأني في الكاسات داخلة الضرب وقلت في المعنى: أنا طاسة قدري سما وبروضتي ... نهر المجرة للنجوم موارد وتسارح القمر المنير لحسنه ... فقمرته وعليه نقشي قاعد2 وقلت أيضًا: أنا طاسة بيضت وجهي عندكم ... وصفًا لكم قلبي بماء رائق عذبت موارده ببارق بهجتي ... فتنزهوا بين العذيب وبارق3 ومن أغراضه اللطيفة في باذهنج قوله مضمنًا: بروحي أفدي باذهنجًا موكلًا ... بإطفاء ما يلقاه من حرق الجوي4 إذا مدحت أوصافه قال منشدًا ... على أنني راض بأن أحمل الهوى ومن أغراضه قوله: أطربنا العود إلى أن غدا ... مقامنا يرقص مع صحبه فشمعنا قام على ساقه ... وكأسنا دار على كعبه وقوله مضمنًا: درب الحجاز لقد شرفت منازلًا ... قدر المنازل من سواها نازل كم سارت فيها نحو مكة منشدًا ... لك يا منازل في القلوب منازل ومما اخترته من الأبيات العامرة، للمعمار -رحمه الله- قوله: إن قام يتلو سورة الشمـ ... ـس المنيرة في ضحاها

_ 1 تسبي: تفتن وتأسر، والطاسة وعاء صغير مجوف ومستدير. 2 قَمَرَ: غَلَبَ. 3 العذيب وبارق: مكانان في الصحراء. 4 باذهنج: لم نعثر على هذه اللفظة في ما بين أيدينا ونظنه من الأسماء التي تدل على نوع من النبات.

يا حسنه فكأنه الـ ـقمر المنير إذا تلاها1 "ى" ونقلت من تذكرة الشيخ عز الدين الموصلي، بخطه، بيتين للمعمار وذكر أنهما خارجان عن الديوان، وهما من اللطائف في هذا الباب. لما تبدى عذار الحب قلت له ... رفقًا ومهلًا عليه أيها الجاني ولا تخشن فما في الخد محتمل ... بان يخط عليه عرق ريحان2 ومن لطائفه في هذا الباب قوله: وخادم قبلت مشروطه ... في خده لكن رأيت العجب من ناعم حلو فناديته ... ما أنت يا مشروط إلا رطب3 وقوله: تملك قلبي خادم قد هويته ... من الهند معسول اللمى أهيف القد أقول لصحبي حين يرنو بلحظه ... خذوا حذركم قد سل صارمه الهندي وقوله: لثمت عذار محبوبي الشرابي ... فقال تركت لثم الخد عجبًا حفظت الأنيسون كما سمعنا ... ورحت تضيع الورد المربى4 وقوله: صاد فؤادي من بني العرب فتى ... له من الحسن اتصال ونسب فصحت في الحي وقلبي طائر ... يا عربًا أهل ذمام وحسب عساكم أن تنشدوا حشاشة ... في حبكم ضلت وراحت يا عرب5 وقوله: رحلوا عريب المنحنى ... وفراقهم ما كان أصعب أملتهم أن يرجعوا ... والموت لي من ذاك أقرب جئت الحمى لأرى الخيا ... م فلم يلح في الحي مضرب6 ومنه قوله وأجاد: كلفي بطباخ تنوع حسنه ... ومزاجه للعاشقين يوافق لكن مخافي من جفاه وكم غدت ... منه قلوب في الصدور خوافق

_ 1 تلاها "هى" الأولى بمعنى: قرأها والثانية، بمعنى اللهو. 2 البان: شجر طيب الرائحة. الريحان: كل نبات طيب الرائحة. 3 المشروط: المتأنق في عمله. 4 الأنيسون: اليانسون، نبات عشبي ذو رائحة فواحة يستعمل في الاستطباب 5 الحشاشة: بقية الروح. ضلت أضاعت الطريق. 6 المضرب: الخيمة أو مكانها.

ومنه قوله: رب جزار هواه ... صار لي لحمًا ودما فزت بالألية منه ... وامتلا قلبي شحما1 وقوله: حاكمت في شرع الهوى قاتلي ... ولي دم طل على خده فاتهم الحاكم لحظًا له ... تحقق الفتنة من عنده مال إلى الحق فلما رأى ... قد حبيبي مال مع قده وقوله: أصاب قلبي خطائي ... بلحظه لشقائي فرحت من فرط دائي ... أشكو إلى الحكماء قالوا أصبت بعين ... فقلت من علم دائي إن كان هذا صوابًا ... فتلك عين الخطائي ومن لطائفه قوله: رحت يوم الفراق أجري دموعي ... حسرة إذ قضى الزمان ببيني2 قيل كم ذا تجري دموعك تعمى ... أوقف الدمع قلت من بعد عيني ومن لطائفه قوله: شكوت للحب منتهى حربي ... وما ألاقيه من ضنى جسدي3 قال تداوى بريقتي سحرًا ... فقلت يا بردها على كبدي ومن لطائفه قوله: قلت له لما وفى موعدي ... مختفيًا من حاسد معتدي رب كما فرحتني بالوفا ... أسبل عليّ الستر يا سيدي4 وقوله: وبي غضبان لا يرضيه إلا ... دموع ساكبات مستمره فما عطفت معاطفه بوصل ... وفي عيني بعد الهجر قطره

_ 1 الألية: ذنب الغنم أو العجيزة وما ركبها من شحم ولحم. 2 البين: الفراق. 3 حربي: غضبي الشديد. الضنى: الضعف والمرض. 4 أَسبل الستر: أرخاه وستر به.

ومن لطائفه قوله: لو أنصفت لإشارات بالسلام على ... متيم ما قضى من وصلها وطره1 بأصبع إنما عضت أناملها ... حتى ولا واحد يصفو من العشره ومثله قوله: لو رأى دور ثغره ... عاذلي في التبسم ذهبت روحه كما ... قيل في دور درهم وقوله: في خد من أحببته ... ورد بدا لم أجنه وشامة ذقت لها ... حلاوة في صحنه2 ومن لطائف قوله مع التضمين: عزمت على رقيا محاسن وجهه ... بأنوار آيات الضحى حين أقبلا3 فلما بدا يفتر عن نظم ثغره ... بدأت ببسم الله في النظم أولا ومن بديع مديحه قوله: لابن فضل الله فضل ... غمر الفضل ووفى كيف لا وهو عليّ ... علم السر وأخفى وقوله: أيا بدر المحاسن حزت جودًا ... وفضلًا شاع بين العالمينا وكنت من الكرام فحزت حظًّا ... فصرت من الكرام الكاتبينا وقوله: قسمًا بما أوليت من إحسانه ... وجميله ما عشت طول زماني ورأيت من يثني على عليائه ... بالجود إلا كنت أول ثان4 ومن أغراضه قوله: ما مصر إلا منزل مستحسن ... فاستوطنون مشرقًا أو مغربا هذا وإن كنتم على سفر به ... فتيمموا منه صعيدًا طيبا5

_ 1 الوطر: الحاجة والأرب. 2 الشامة: الخال بقعة سوداء تظهر على الجلد وتكون عادة على الخد. صحنه: أي صحن خده وصحن الخد صفحته. 3 الرقيا: التداوي بالرقى وهي التعاويذ والطلاسم. 4 ثانٍ: الذي يثني، المادح. 5 هذا البيت عبارة عن آياتين قرآنيتين تصرف بهما الشاعر، وتيمموا: اقصدوا. الصعيد: الأرض والتراب.

وقوله: جاء الرخاء وفاض النيل وانفرجت ... عنا الهموم وهان القمح ثم رمى وراح خزانه للنيل ينظره ... فاستكثر الماء في عينيه ثم عمى وقوله: حزن الخزان لما أن رأى ... نيلنا قد عم سهلًا وجبل ورأى الأرض لنا قد أخرجت ... سنبلات ذات حب فاختبل1 وبكى إذ رمدت أعينه ... زادها الله عروقًا وسبل2 وقوله: سمعت يومًا سد مصر يقو ... ل النيل وافى زائدًا عندي وكان هذا خبرًا صادقًا ... فرحت أرويه عن السدي3 وقوله: لائمي في الشباب دع عنك لومي ... لست ممن تروعه بالعتاب أيها الشيخ هات بالله قل لي ... أي عيش يحلو بغير الشباب وقوله: وشادن ليس له شارب ... ولا عذار بل له طره4 كفايتي من ريقه شربة ... واحسرتي منه على جره ومن لطائف مجونه قوله: شهر الصيام تولى ... فراقه يوم عيد فقيل شيع بست ... فقلت أيضًا وسيدي5 وقوله: قلت هلال الصيام ليس يرى ... فلا تصوموا وارضوا بقول ثقه فغالطوني وحققوا ورجوا ... وكل هذا من قوة الحدقه6 وقوله: أيري مع المرد خاب متجره ... مذ عاملوه معثر النصبه فضيعوا رأس مال حاصله ... إذ كسروه وقام بالثقبه

_ 1 اختبل: جن واختلط عقله. 2 عروق العين: مرض يصيبها فلا تقوى على النظر "الظفر". والسبل: العمى والغشاوة. 3 السدي: أحد رواة الحديث. 4 الشادن: الغزال تشبه به الفتاة. العذار: جانب اللحية أو معظمها. الطرة: الطغراء وهي الشعر الذي يجمع ويرفعه صاحبه فوق جبهته. 5 الست: العدد المعروف والسيدة من النساء. 6 الحدقه: دائرة العين التي يرى بواسطتها.

وقوله: أيري إذا ندبته ... لحاجة تختص بي قام لها بنفسه ... ما هو إلا عصبي وقوله: تأخرت لعذرها ... قلت لها تقدمي أيري هذا عصبي ... يدخل معك في الدم وقوله: لي أيري فيه كبر وجفاء ... وهو مني يا لقومي وإلَيّ كلما أغضبني أرضيته ... وإذا أرضيته قام عليّ وقوله: أيري مغري باللواط الذي ... يقبح لا سيما على مثله أوقف حالي لا تسلى ما جرى ... وصرت خلف الناس من أجله وقوله: وبخت أيري إذ جاء ملتثمًا ... بذاك من غفلة فما اكترثا بل قال لي حين لمته قسمًا ... ما جزت حمام قعره عبثًا كيف وفيها طهرتي وبها ... أقلب ماء وأرفع الحدثا وقوله: يا ليلة قضيتها ... فهل تراها عائده عمود أيري قائم ... وهي عليه قاعده وقوله: وصغيرة كلفتها ... أيري فقالت ويك باعد ما خلت يحمل ذا العمود ... من النسا إلا القواعد ومثله: صغير نام على وجهه ... وقال حكك قلت لا فائده قم أدخل العمود يا سيدي ... فقال لا تنخرم القاعده وقوله: عميرة قام يبتغي نكدي ... جلدته ثم قلت يا ولدي ها أنت في قبضتي تطاوعني ... وإن عصاني خصاه تحت يدي وقوله: وقحبة ذات حر يابس ... يحمل كالسندان رصعي الشديد تقول قم طرّقه لي لا تنم ... فقلت ما لي زبرة من حديد وقوله: أطعمت أيري كي ينام ... وقلت قرّ فما استقر بل قام يسعى قائلًا ... أنا من إذا طعم انتشر وقوله: قد ذبت من كربي لفقد النسا ... أفور كالتنور من ناريه وقد طغى الماء فمن لي بأن ... أحمل بالجود على جاريه

وقوله: لو رأى فقحة حبي عاذلي ... وهي تجلي في ثياب سندسيه1 لغدا العاذل فيها عاذرًا ... وتفاصلنا على بيضا نقيه وقوله: سألت وصال حبي قال دعني ... فإنك في افتقار لا تجاب فقلت له حبيب القلب أدعى ... بذي فقر وفي وسطي نصاب وقوله: وصاحب أنزل بي صفعة ... غضبت إذ ضيع لي حرمتي2 فقال في ظهرك جاءت يدي ... فقلت لا والعهد في رقبتي وقوله: سألته في صفعة قال لي ... جناية الصفعة ما منه بد صاع من التمر أحلى به ... قلت له أعطيك صاعًا ومد وقوله: لج العذول ولامني ... فيمن أحب وعنفا فهممت ألطم رأسه ... لما بليت تأسفا لكنني زلقت يدي ... وقعت على أصل القفا3 وقوله: جئت لخل يلاطف الجرحى ... قلت له يا أخا الرضا صف لي في عنقي دمل به ورم ... قال تداو بمرهم الخل وقوله: قالوا عشقت الشباب جهلًا ... فعلك هذا هو القبيح فقلت قد قيل كل شيء ... يأتي على وجهه مليح وقوله: بدا بخد الحبيب شعر ... وسفله يا أخي سالم فكان كالخوخ إذ ينادي ... عليه ذا مشعر وناعم وقوله: ومماجن يهوى الصفاع ... ولم يكن إذ ذاك فني4 سلمته عنقي الدقيق ... فراح ينخله بغبن5 ما إن أذنت له رضا ... لكنه من خلف أذني لولا يد سبقت له ... لأمرته بالكف عني

_ 1 الفقحة: الزهرة أيًا كان لونها. السندس: نسيج الديباج أو الحرير. 2 الصفعة: ضرب القفا. 3 زلق: غلط وأخطأ المقصد. 4 المماجن: الذي يمارس المجون. الصفاع: ضرب القفا. 5 نخل: هز ليتبين جودته أو رداءته. الغبن: الخفية.

ومثله قوله: ومازحة تهوى المجون ولم تزل ... تباسطني لطفًا بطيب مجونها تقول وقد تاهت بلين قوامها ... وقلبي مفتون بسحر عيونها بعيشك هب لي صفعة ثم أقسمت ... على صبها المضني بنور جبينها فلما جرى منها اليمين وأكدت ... مددت قفاي فسحة ليمينها ومن عجائبه وغرائبه قوله: جاءت بخدين كاللجين ... فقلت ماذا سوى لحيني1 ذات حر واسع عميق ... كأنه ترعة اللبيني عليه شعر لو نسجته ... لجاء مسحمًا لراهبين2 تقول لم لا تجر ألفًا ... أجبتها باسط اليدين إن كان قصدي عليه جرًّا ... غرقت فيه بجرتين ومنه قوله: وإن من الخدام من ليس ترتجي ... مكارمه فالبعد عنه غنائم ولا تك ممن يتهمهم بحشمة ... فليس لهم بين الرجال محاشم3 وقوله: فلان والجماعة عارفوه ... وإن أبدى التنسك والزهاده يموت على الشهادة وهو حي ... إلهي لا تمته على الشهادة وقوله: لما جلوا لي عروسًا لست أطلبها ... قالوا ليهنك هذا العرس والزينه4 فقلت لما رأيت النهد منتفشًا ... رمانة كتبت يا ليتها تينه وقوله: أبيت من الإفلاس والفقر طاويًا ... لقد زهدوني العشق قهرًا وسلوني5 وقالوا تحب البيض والسمر قلت لا ... أحب من الألوان قمحية اللون

_ 1 اللجين: الفضة. الحين: الموت. 2 المسح: يجمع على مسوح وهي ثياب خاصة برجال الدين. 3 الحشمة: الغضب والأذى. 4 جلا العروس: زفها إلى عريسها، والجلوة من أعمال العرس وكانت تتم بأن تقوم إحدى النساء بالغناء للعروس بأغانٍ معروفة بينما تقوم العروس بالدوران مادة يديها وفي كل دورة يدفع لها العريس بعض المال حتى تتم عددًا معينًا من الدورات. 5 طاوي: جائع، خاوي البطن.

ووله في المواليا: طرفي لمح حسن رابس قرحوا تقريح ... أوسق بصدي وسمى الهجر بالتصريح1 قذف لعرضي وخلاني من التبريح ... دمعي انحدر والعواذل تقذفوا في الريح2 وقوله: مزحت يومًا مع الحب الرشيق القد ... وقلت آهي على قبلة بصحن الخد فسل سيفه من الحاظو لقتلي حد ... قلت انتهى الأمر يا حبي إلى ذا الحد وقوله: رمى أصاب صميم القلب زين الزين ... وأصبحت مضنى قلق أخشى حلول الحين3 وكنت لم أشك قبل الخل وشك البين ... سالم من العشق حتى صابني بالعين وقوله: يقل لها زوجها لا تختشي من لوم ... ولا ففي كل من في الأرض وأنا الكوم واتبنى واطعميني ابق من ذا اليوم ... انعس وأرقد مثل ومثلي لا يرى في النوم وقوله: قلت لمن تركتني بالجفا ناحل ... وصلك بكم وارحمي ذا العاشق الناحل قالت بميتين جمل قلت لها أنا راحل ... ما لي جمال ولكن نخل في الساحل وقوله: قالت لي أخبر وروي قلبي الظامي ... وأصدقني أعطيك ما خلفي وقدامي عهدي بأيرك رقيق خرط لاقلامي ... وقد نما قلت أيري لم يزل نامي وقوله: قالوا توق الشتا كم قد صرع أعيان ... يصدمك تعمى وذا شي يعرفوا العميان انهض تحلل ودع لعبك مع الصبيان ... قلت يجي إنني لو منحني عريان ومن لطائف العلامة الشيخ شمس الدين بن الصائغ الحنفي -رحمه الله تعالى- في باب التورية قوله: من هجر سلمى ما سلمت ومن ترى ... يقوى لحمل الشوق والهجران لا تغترر يومًا بحلو رضابها ... فلقد بدا من قدها مران6 وقوله: وشادن ظلت غصون الربا ... لما رأته مقبلًا ساجده سألته من ريقه شربة ... فقال ذي مسألة بارده

_ 1 رابس: حامض كناية عن صعوبة الوصول إليه. أوسق: عارض. 2 القذف: اتهام الإنسان في عرضه. التبريح: الشوق 3 الحين: الموت. 4 الرضاب: الريق. المران: الرماح الصلبة اللدنة، وبزيادة الياء منسوب إليها.

وقوله: ثنى غصنًا ومد عليه فرعًا ... كحظي حين أطلب منه وصلا وأسبله على الأرداف منه ... فلم أر مثل ذاك الفرع أصلا وقوله: ركبت في بحر هواكم مركبا ... قذفت فيه بيد التبريح فانحدرت مدامعي وأقبلت ... عواذلي وأقلعت في الريح وقوله: هجرت فأحشائي توقد جمرها ... هذا وليست في المحبة فاتره وتظل تحرقني بنيران الجفا ... ومن الذي يقوى لنار الهاجره1 وقوله: قد أودعوا القلب لما ودعوا حرقا ... فظل في الليل مثل النجم حيرانا راودته يستعير الصبر بعدهم ... فقال إني استعرت اليوم نيرانا2 وقوله: يقول عذولي للدموع وقد جرت ... على إثر محبوب برى مهجتي بريا تأنى فقد لاح العذار بخده ... فقالت له والله قد زدتني جريا3 وقوله: قد زاد في التفنيد لي عاذلي ... على هوى من لم أطق بينها4 حتى بدا من لحظها صارم ... ففر لما أن رأى عينها5 وقوله: لا تنكروا أني تركت معذرًا ... أضنى الفؤاد بلوعة التبريح6 لما بدا شعر بصفحة خده ... قابلت ذاك الشعر بالتسريح وقوله: عارضني العذال في عارض ... قالوا له بلطف بعدما أطنبوا ما آن للعارض أن ينتهي ... قلت ولا للشيب لا تتعبوا وقوله: قاس الورى وجه حبيبي بالقمر ... لجامع بينهما وهو الخفر7 قلت القياس باطل بفرقه ... وبعد ذا عندي في الوجه نظر

_ 1 الهاجرة: وقت اشتداد الحر من النهار وهو وسطه. 2 راود: حاول الخداع. 3 الجري: الركض. 4 التفنيد: التكذيب. البين: الفراق. 5 الصارم: السيف. 6 أضنى: أتعب. التبريح: شدة الشوق. 7 الخفر: الحياء.

وقوله: لما ثنى العطف ثنى مهجتي ... إليه ظبي في الهوى شارد ناديت إذ صرنا بلا ثالث ... يا ثاني العطف عسى واحد وقوله: قال العذول عندما ... شاهدني في شغلي بمن فتنت في الورى ... فقلت دعني بعلي وقوله: يا باخلين بالسلام جهدهم ... من ذا رأيتم له شح يومًا بالكلام1 لا تمنعوا عني السلام سادتي ... فأنتم قصد المعنى والسلام وقوله: يا مليحًا رووا لنا عنه حسنًا ... وقبيح إن لم يكن تم حسنا2 طبت لفظًا مع الرواة ولكن ... ينبغي أن تكون في الدهر معنا وقوله: أميل إليه كي يميل فينثني ... ويعرض أبصرت القضيب إذا انثنى ويطرحني عن باله لا يعدني ... فيلبسني من طرحه حلة الضنى وقوله: وليلة مرت لنا حلوة ... إن رمت تشبيهًا بها عبتها بت مع المعشوق في روضة ... ونلت من خرطومه المشتهى وقوله: لست أنسى رقة العيش الذي ... زاد في الرقة حتى انقطعا فرعى الله زمانًا بالحمى ... وحماه وسقاه ورعا وقوله: بدا ليل العذار بخد بدر ... يفوق البدر حسنًا في الكمال فلا تطمع عذولي في سلوي ... فعشقي لا تغيره الليالي وقوله: بروحي أفدي خاله فوق خده ... ومن أنا في الدنيا فأفديه بالمال تبارك من أخلى من الشعر خده ... وأسكن كل الحسن في ذلك الخال وقوله: راحت مني روحي فهذي مهجتي ... من بعد ذا وجدًا بها قد طاحت3 فاترك ملامك يا عذول فإنما ... هي مهجة رحلت على من راحت وقوله في القاضي علاء الدين بن فضل الله: لقد أعطى علاء الدين ما لم ... توف بشكره المداح طرا

_ 1 الشح: البخل. 2 هذا البيت هكذا ورد في الأصل يرفع قبيح. والتقدير: وقبيح هو إن لم يكن تم حسنًا، والله أعلم. 3 طاحت: هلكت.

نحا نحو الكرام إلَيَّ حتى ... دخلت مبردًا وخرجت فرًّا وقوله في القاضي تقي الدين بن صالح مع بديع التضمين: بجود تقي الدين أصبح دهرنا ... رقيق الحواشي معلمًا بالمدائح1 فيا دهرنا حزت المفاخر فافتخر ... إذا نحن أثنينا عليك بصالح ومن أغراضه قوله: أعدى احتراق النيل أكباد الورى ... فغدت تذوب تلهبًا وتلهفا وتزايدت نيرانها من نقصه ... فإذا به طاف البلاد وقد طفا2 ومن نكته اللطيفة، وقد أهدى له بعض الوزراء في عيد الأضحى كبشًا: وزير الملك عيد ألف عيد ... فأنت الصاحب الخلق الجميل لقد منيت في الأضحى بكبش ... مليّ بالغنى كاف كفيل ومن لطائف مجونه قوله: وناحل أضحى يصفي وقد ... حنت له راووق جريال3 سألته كأسًا أطفي بها ... نيران أحشائي فصفى لي وقوله: قلت لبزاز على خلوة ... واصل فتى ينسب للخرقة4 وخلني أصفق ولو صفقة ... فأنت ما تخسر في صفقتي وقوله في العنب العاصمي: وعاصميّ قد غدا طعمه ... أروى من الماء لدى الحائم5 أورث خلي أكله هيضة ... فاعجب له من مسهل عاصم6

_ 1 معلمًا: مشهورًا ومميزًا. 2 طفا: تمادى في ارتفاعه. 3 الراووق: وعاء الخمر. الجريال: نوع من الشراب أحمر اللون ونظنه النبيذ الأحمر. 4 البزاز: بائع الثياب. الخرقة: الحمق. 5 الحائم: الشديد العطش. 6 هيضة: الإسهال والاستفراغ "الكوليرا".

وقوله: جاء نحوي معذر ... بعدما عز مطلبه قلت ذا الأير ميت ... ظل يبكي ويندبه وقوله: تطلبت حجرًا في الظلام فلم أجد ... ومن يك مثلي حية دأبه الجحر فناداني البدر الأديب إلى هنا ... وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر1 ومن لطائف مجونه مع الشيخ شهاب الدين أحمد بن أبي حجلة قوله: يكذب من ينسب البغاء إلى ... شاعرنا المنتمي إلى حجله2 ما هو بغا كما يقال لنا ... بل هو نور يدور بالعجله3 وقوله في الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد: لعلاء الدين ذقن ... تملأ الكف وتفضل فاعمل المنخل منها ... لدقيق العيد وانخل ومن لطائف الشيخ بدر الدين بن الصاحب في باب التورية قوله وتلطف ما شاء: حبيب لي طبيب لم يزرني ... سوى بالطيف في ظلم الليالي رآني ناحلًا من فرط شوقي ... فأهدى لي مزوّره الخيالي4 وقوله: وعدتني بخيال ... يزور طرفي منامًا فشاب رأسي انتظارًا ... وما بلغت احتلامًا5 وقوله: يا هلالًا قد تسامى ... وله الصدغ عمامه أشتهي لو نلت حظًّا ... منك مقدار قلامه6 ومن لطائفه في هذا الباب قوله: يقبل الأرض لا زالت مقبلة ... من بعد ثغري بثغر الأرض والزهر ويسأل الله جمع الشمل منتظمًا ... ودمعه قائل يا منزل المطر

_ 1 الشطر الثاني من هذا البيت، لأبي فراس الحمداني من قوله: سيعرفني قومي إذا جد ... وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر 2 البغاء: ممارسة الفجور. 3 العجلة: السرعة. 4 ناحل: ضعيف. مزوره: طيفه. 5 الاحتلام: العقل والبلوغ. 6 القلامة: قصاصة الظفر.

وقوله: جفني عليك ساهر ... بحرقة قد ذقتها ودمعتي جارية ... إن زرتني عتقتها1 وقوله في قيم حمّام: وقيم قيم في حسن صنعته ... حاز الجمال على حسن من الترف لو يخدم البدر أنقى البدر من كلف ... لكنه لم يزل ما بي من الكلف2 وقوله: فتنت بنبت من عوارض خده ... فها أنا في قيد الغرام أسير ولا كان لي بالعشق قط تعلق ... ولا بالهوى قبل العذار شعور وقوله: إذا جلوا لي كأسي ... بها حباب منظم3 علمت أن زماني ... بعد القطوب تبسم4 وقوله: يا أيها العاصر بادر إلى ... عنقودك الفاخر في كرمه إياك أن تتركه ساعة ... يزبب النحس على أمه5 وقوله: يا حابس الكاس لا تزدها ... من بعد حبس الدنان حسره6 واغنم مزاجًا لها لطيفًا ... أورثه الانتظار صفره وقوله: أطربنا مشبب ... من غير جعل سأله7 يا حسن موصول له ... لم يفتقر إلى صله ويعجبني قوله: غنت فأغنت عن كئوس الطلا ... بالسكر من لذات تلك اللحون فقلت إذ هيمني صوتها ... في مثل ذا الحلق تروح الذقون8

_ 1 عتقتها: حبستها. 2 الكلف: شدة العشق والكلف، النمش الذي يعلو وجه الحامل. 3 الحباب: الفقاقيع التي تعلو وجه السائل عند صبه. 4 القطوب: العبوس. 5 تزبب: صار زبيبًا. النحس: المجدب الذي لا خير فيه: وهذا من الأمثال: يزبب النحس على أمه. 6 الدنان: جمع دن وهو وعاء الخمر. 7 الجعل: الضريبة. 8 الحلق: الحلاقة.

يا مهدي الأقصاب من سكر ... صفرًا حكى طول القنا طولها1 إياك أن تقطعها ساعة ... فأحسن الأقصاب موصولها وقوله: ناحت حمام البان أم تاهت أسى ... لم أدر ما عناؤها من شوقها عجماء لا تظهر حرفًا من شجى ... كأنها مخنوقة من طوقها وقوله: وذات طوق على الأغصان تذكرني ... قوم حسنك في ضمي لمعتنقك قد سوّدت وجهها نوحًا فقلت لها ... سواد قلبي يا ورقاء في عنقك2 ويعجبني قوله: يا ليل إن الحبيب وافى ... وخفت إسراع دهم خيلك3 فطل وغش الصباح إني ... دخلت بالليل تحت ذيلك ومن نكته البديعة الغريبة في الشطرين قوله: تأمل ترى الشطرنج كالدهر دولة ... نهارًا وليلًا ثم بؤسًا وأنعما محركها باق وتفنى جميعها ... وبعد القنا تحيا وتبعث أعظما وقوله مضمنًا: أميل لشطرنج أهل النهى ... وأسلوه من ناقل الباطل وكم رمت تهذيب لعابه ... وتأبى الطباع على الناقل ومن أغراضه: لعبت في الشطرنج في غاية ... تقصر الأوصاف عن حدها إن صاح في الأقران لي بيدق ... تموت منه الشاة في جلدها4 ومن لطائف مجونه قوله: شاب الحبيب فقلت أهلًا بالوفا ... وازددت فيه تعشقًا وتكلفا والأير قام ولم يبل لمشيبه ... فالراية البيضا عليه في الوفا

_ 1 الأقصاب: جمع قصبة وهي نبات ذو ساق كالأنبوب ومنه ما هو سكري الطعم ويصنع منه السكر. القنا: الرماح. 2 النوح: البكاء. الورقاء: الحمامة المطوقة. 3 دُهم الخيل: سودها والدَّهم: المداهمة والمفاجأة. 4 البيدق: من أدوات لعبة الشطرنج "الجندي".

وقوله: كم جار صرف الدهر في حكمه ... وضرَّني من حيث بي يعتني ألبسني من شيبتي حلة ... قلت له والله عزيتني ومن أغراضه البديعة مع حسن التضمين قوله: لله يوم الوفا والناس قد جمعوا ... كالروض تطفوا على نهر أزاهره وللوفاء عمود من أصابعه ... مخلق تملأ الدنيا بشائره1 وقوله: النيل ألبس حلة ... حمراء في تخليقه وله أصابع زينب ... قد ختمت بعقيقه وقوله: نادى منادي الوفاء مصرًا ... إذا علقوا سترة علامه من الغلا قد سلمت حقًّا ... فبت في الستر والسلامه2 وقوله: كانت لمصر سترة ... بالنيل مذ ولى خلت كأنه زوج لها ... فبعده ترملت3 ومن أغراضه البديعة قوله: فاخرت الأقلام سمر القنا ... والسعد في الأقسام مكتوب فقلت للخطيّ لا تستطل ... كلاكما للخط منسوب4 وقوله: ولائم زاد لومًا ... في أسود أشتهيه وقال أسود تهوى ... فقلت عينك فيه ومن لطائف أغراضه في مليح فوّال قوله: أنا ابن الذي في الليل تسطع ناره ... كثير رماد القدر للعبء يحمل يطوف بأقداح العواقي على الورى ... ويصبح بالخير الكثير يفوّل5 ومما اخترته من نظم الشيخ شهاب الدين بن أبي حجلة، وقد تقدم قولي: إنه كان يرضى بالرخيص لأجل الكثرة، قوله:

_ 1 المخلق: ذو الأخلاق الفاضلة. 2 الغلا: الغلاء وهو ارتفاع الثمن. 3 ترملت: المرأة، فقدت زوجها فصارت أرملة. 4 استطال: تكبر وتعجرف. 5 يفوّل: يملأ أو من الفأل.

بي من غدا ظهري عليه المنحنى ... ولحظه لحظ ظباء رامه كم قلت من عذاره وقد بدا ... لي خطه يا كاتب السلامه وقوله: يقول لي الحبيب أرى عذاري ... يدب الحسن من وجهي إليه تكلم في وظيفة حسن خدي ... وقام بنفسه يسعى إليه وقوله: وعاذل قد زاد في لومه ... وقال لما هاج بلبالي1 بعارض المحبوب ما تنتهي ... قلت ولا بالشيب والوالي2 وقوله: يا سائلي عن حالتي ما حال من ... أمسى بعيد الدار فاقدًا إلفه بي صيرفِيّ لا يرق لحالتي ... قدمت من جور الزمان وصرفه3 وقوله: أصبحت ما بين الورى ... كالواله المصاب من هجر ذي القبطي الذي ... ما كان في حسابي4 وقوله: يقول جاري من بعد جور ... وقد رأى حرقتي وناري دمعك ما شأنه ومن ذا ... عليك قد جار قلت جاري وقوله مضمنًا: أقول لصب قلبه يشتكي الأسى ... هو الحب فاسلم بالحشا ما الهوى سهل عذلتك في ابن السكري والذي أرى ... مخالفتي فاختر لنفسك ما يحلو وقوله مضمنًا: قل للهلال وغيم الأفق يستره ... حكيت طلعة من أهواه بالبلج5 لك البشارة فاخلع ما عليك فقد ... ذكرت ثم على ما فيك من عِوَج وقوله في غلام يدعى مقبلًا: يا من تحجب عن محب صادق ... ما زال عنه كل حين يسأل من لي بيوم فيه تقبل باللقا ... ويقال لي هذا حبيبك مقبل6

_ 1 البلبال: شدة الهم أو الحزن الشديد. 2 العارض: جانب اللحية. ولا بالشيب: أي ولا أنتهى بالمشيب وما بعده. 3 صرف الزمان: تقلّبه. والصرف من الصيرفة عملية تبديل العملات. 4 القبطي: نسبة إلى الأقباط وهم طائفة من النصارى أكثرهم في مصر. 5 البلج: الإضاءة والإشراق. 6 مقبل: آتٍ واسم الحبيب.

وقوله في جارية تدعى حكم الهوى: حكم الهوى صدق فبت لأجل ذا ... ولهان من فرط الصبابة والجوى يا عاذلي لا تلحني في حبها ... نفذ القضا وكذا جرى حكم الهوى1 ورأيت غالب مقطعات الشيخ شهاب الدين بن أبي حجلة، في الباذهنج والفانوس، ولكن نختار منها ما يحسن نظمه في هذا السلك، فمن ذلك قوله في فانوس مع حسن التضمين: وكأنما الفانوس نجم نير ... منع الظلام من الهجوم طلوعه أو عاشق أجرى الدموع بحرقة ... من حر نار تحتويه ضلوعه وتقدمه فيه مجير الدين بن تميم، فقال وأحسن التضمين: انظر إلى الفانوس تلق متيمًا ... ذرفت على فقد الحبيب دموعه يبدو تلهب قلبه بدموعه ... وتعد من تحت القميص ضلوعه وقال فيه ابن أبي حجلة وأجاد مع حسن التضمين: يحكي سنا الفانوس من بعد لنا ... برقًا تألق موهنًا لمعانه2 فالنار ما اشتملت عليه ضلوعه ... والماء ما سحت به أجفانه ويعجبني قوله مع حسن التضمين: أنا في الدجى ألقى الهوى وبمهجتي ... حرق يذوب لها الفؤاد جميعه فكأنني في الليل صب مدنف ... كتم الهوى فوشت عليه دموعه3 ويعجبني أيضًا هنا قول مجير الدين بن تميم: أبدى اعتذارًا لنا الفانوس حين بدا ... في حالة من هواه ليس ينكرها رأى الهوى مضرمًا ما بين أضلعه ... نار الجوى فغدا بالثوب يسترها4 ومن نظم الشيخ شهاب الدين بن أبي حجلة في الباذهنج قوله مع حسن التضمين:

_ 1 لحا: لام. 2 الموهن: قريب من منتصف الليل أو بعده بقليل. 3 الصب: العاشق. المدنف: المريض بالعشق. وشى: دَلَّ ونَمَّ. 4 مضرمًا: ملتهبًا. الجوى: الشوق والصبابة.

وباذهنج غدا في الجو منظره ... من فوق مخبره يبدو على سنن فانظر فديتك يا محبوب رفعته ... واستنشق الريح من تلقاه يا سكني وقوله: يا باذهنجي كم كذا ... تعلو على بان الحمى أبديت حمقًا زائدًا ... ورفعت رأسك للسما وألطف منه قوله مع حسن التضمين: يا باذهنجي لا برحت من الهوى ... مثلي على حب الديار مولها داري بحبك لم تزل مشغوفة ... خلعت هواك كما خلعت هوى لها وقوله مضمنًا: هجا الشعراء جهلًا باذهنجي ... لأن نسيمه أبدًا عليل فقال الباذهنج وقد هجوه ... إذا صح الهوى دعهم يقولوا ومن نكته الغريبة في باب التورية قوله، وكتب به إلى ابن الزين المعروف بلبيكم: يا شاعرًا قد حاز حسن بديهة ... وتطيعه درر النجوم إذا نظم وتجيبه قبل السؤال لقصده ... وتقول يابن الزين لبيكم نعم1 وقوله وقد قدم الشيخ جمال الدين إلى الشام: يا معشر الأدبا غدا تشبيبكم ... ومديحكم فيما يروق ويعذب2 وافاكم ابن نباتة فتفقهوا ... أقواله بسكينة وتأدَّبوا وقوله من أبيات: ومتى امتطيت من الكئوس كميتها ... أمسيت تمشي في المسرة راكبا3 ومتى طرقت عشى آنس ديرها ... لم تلق إلا راغبًا أو راهبا وممن قنص شوارد التورية بحبائل فكره الشيخ بدر الدين حسن الزغاري، فمن ذلك قوله:

_ 1 لبيكم: لقب المذكور ومعناها سرعة الاستجابة للطلب. 2 التشبيب: التغزل. 3 الكميت: الحمراء التي يميل لونها إلى السواد. المسرة: السرور.

قالت وقد أنكرت سقامي ... لم أرد ذا السقا يوم بينك1 لكن أصابتك عين غيري ... فقلت لا عين بعد عينك وقوله: حبست الدّمع ثم جعلت جفني ... سياجًا ما له قط انفراج فما زلتم بجوركم إلى أن ... تجرى الدمع وانخرق السياج وقوله: قيل لي إذ رأيت أقمار تَمّ ... عن بدور السماء للطرف تلهي أي وجه أضناك قلت دعوني ... فسقامي قد صح من كل وجه وقوله: سل لحتفي كالحسام الصقيل ... لحظًا حديدًا تحت جفن كليل2 ثقيل ردف قادني في دجى ... شعره عنقود وليل طويل وقوله أيضًا: أفدية في الألكن يرمي دائمًا ... وسواد قلب الصب من أغراضه3 أطلقت لحظي نحوه فأجابني ... سهم وما عاينت كشف بياضه وقوله مضمنًا، وأجاد: يقول العاذلون نرى رمادًا ... على خديه من شعر العذار فقلت لهم صدقتهم غير أني ... أرى خلل الرماد وميض نار4 وقوله: شتت بأسمر حلو اللمى ... لسلوانه السب لم يستطع5 يقطع قلبي وما رق لي ... ودمعي يرق وما ينقطع ومنه قوله في مليح بيده قوس حلقه: وبدا العشية أغيد في كفه ... قوس كنانتها سهام جفونه6 فسألته البقيا على عشاقه ... فنفوسهم مطوية بيمينه

_ 1 السقام: المرض والضعف. البين: الفراق. 2 الحسام: السيف. الصقيل: المسنون القاطع. حديد: شديد الإبصار. الكليل: الذي لا حدّ له فلا يقطع. 3 الألكن: الذي يصعب عليه الإفصاح بالعربية لكنه في لسانه أي عجمة. 4 الوميض: اللمعان. 5 اللمى: سمرة في الشفاه من عناصر الجمال. 6 الكنانة: الجعبة التي تحوي السهام.

وقوله: وافى كتابك يا خليلي بعدما ... حكمت علي بعدك الأيام لكن أرى نار اشتياقي لم تكن ... بردًا عليَّ وفيه منك سلام ومن نكته الغريبة قوله: أما ترى النهر كالحسام غدا ... ينسل بين الغصون والورق وليس في الجري مثل صارمه ... يشق نحوي مفارق الطرق ومن غاياته البديعة في هذا الباب قوله: سرت من بعيد الدار لي نفحة الصبا ... وقد أصبحت حسري من السير ظالعه1 ومن عرق مبلولة الجيب بالندى ... ومن تعب أنفاسها متتابعه2 ومن لطائفه قوله: أعجب ما في مجلس اللهو جرى ... من أدمع الرواق لما انسكبت3 لم تزل البطة في قهقهة ... ما بيننا تضحك حتى انقلبت4 ومثله قوله وزاد لطفًا بزيادة نكتة أخرى: يا من يلوم في التصابي خلني ... فأذني عن الملام قد نبت5 تصفية الكاسات في شواربي ... أضحكت البطة حتى انقلبت وتلاعب بهذا المعنى وقال: أنا القليل العقل في صرف الذي ... أملكه في كلف المشارب ولم أنل مما أضعته سوى ... تصفية الكاسات في شواربي ومن مجونه قوله: يا صاحبًا ما زال من أنعامه ... لثياب راجيه المؤمل رافي6 قد قطعت فرجيتي حتى لقد ... ظهر القطوع بها على أكتافي7

_ 1 حسرى: كاشفة. ظالعة: متهمة. 2 الجيب: موضع وضع القلادة من العنق. 3 الرواق: هكذا وردت في الأصل ونظنها الراووق وهو وعاء الخمر. 4 البطة: الباطية وهي وعاء للخمر. 5 نبا: أخطأ ولم يصب. 6 رفى: يرفي ويرفو: رقع. 7 الفرجية: ثوب واسع طويل الأكمام يلبسه رجال الدين عادة "محدثة".

وممن أتى في دقيق التورية بخاص الخاص الشيخ يحيى الخباز الحموي، فمن ذلك قوله: قال عذولي والقوم قد رحلوا ... وقصده في مقاله حيني أطلق دموعًا ما زلت تحبسها ... وطلق النوم قلت من عيني1 وقوله: لم أنس طيفًا زارني وانثنى ... عني وقلبي بعده يخفق وما كفى حتى دموعي غدت ... من خلفه تجري وما تلحق وقوله مضمنًا: لئن وعدت بالوصل سلمى وأخلفت ... فسلها عسى العذر المبين يقوم2 ولا تبدها باللوم قبل سؤالها ... لعل لها عذرًا وأنت تلوم وقوله: لقد تعشقت فتى سائبًا ... يبدل الحاضر بالغايب مدحته جهدي فلم يرتبط ... وراح كل المدح في السائب وقوله: تعذر من أهواه واسودّ وجهه ... ورام وصالي بعدما لم يكن خلقي3 وقال حكى صدغي نباتًا أجبته ... صدقت لهذا عاد يصلح للحلق4 ومن لطائف نكته في هذا الباب قوله: قلت لمن ينتف أصداغه ... لا تكره الريحان حول الشقيق وأعتق شعور الذقن من نتفها ... فإنني شيخ أحب العتيق ومن لطائف نكته في هذا الباب قوله: أصبحت في العالم أعجوبة ... عند ذوي الألباب والفهم جدي حموي فاسمعوا واعجبوا ... وما كفى حتى أبي أمي

_ 1 من عيني: كناية عن الاستجابة للطلب. 2 أخلف الوعد: نكثه ولم يف به. 3 رام: طلب وأراد. خلقي: جدير بي. 4 الحلق: الحلاقة. الصدغ: الشعر بين العين والأذن حكى: شابه.

ومن لطائفه قوله: عاطنيها من عهد كسرى سلافًا ... تتقد في الكئوس كالنيران1 وابن ماء السماء زوجه راحًا ... أذكرتنا شقائق النعمان ومن رقيق أغزاله قوله: لضعف أجفان حبي ... بالفتك فينا عتوّه2 فيا لها من جفون ... تزداد بالضعف قوّة ومن مجونه قوله: كسبت مملوكًا ومن لطفه ... يسير باللطف على سيري سميته خيرًا وإن يدخل ... الأير يكن خيرًا على خير ومن مماجناته مع الشيخ حسن الزغاري المذكور قوله: حسن الزغاري أحمق ... يا بئس من يوافقه خنقته هجوًا وما ... للكلب إلا خانقه ومثله قوله فيه: نبح الزغاري عند نظم موشح ... وكمال نظمي بالسفاهة نقصا فضربته بعصا الهجا لما عوى ... فأصبت مصرعه ولم تضع العصا وقوله فيه: قل للزغاري الذي من جهله ... أمسى بأقوال الأكابر هازي هذا ابن قرصة قد سمعت هجاءه ... من ذا يجيرك من يد الخباز ومن لطائف الشيخ شهاب الدين الحاجبي -تغمده الله برحمته- في باب التورية، ولم أظفر له إلا بما قل من مقاطيعه، مع أني كثير الفحص عنها، فإنه ما يجاري في انسجامه وسهولته ورقته ولطيف تركيبه في هذا الباب، قوله: لها عين لها غزل وغزو ... مكحلة ولي عين تباكت وحاكت في فعائلها المواضي ... فيا لك مقلة غزلت وحاكت

_ 1 عاطاه: الخمرة: شربها معه. 2 العتوّ: القوة والشدة والهياج.

وقوله: وصفت خصره الذي ... أخفاه ردف راجح1 قالوا وصف جبينه ... فقلت ذاك واضح2 وقوله: عودوا لصب بكى عليكم ... يا جيرة ودّعوا وساروا فدمع عينيه عاد بحرًا ... وقلبه ما له قرار وقوله: لا تبعثوا غير الصبا بتحية ... ما طاب في سمعي حديث سواها حفظت أحاديث الهوى وتضوّعت ... نشرًا فيا لله ما أذكاها3 ووقفت له على قصيدة لامية امتدح بها الملك الأفضل صاحب حماة، كلها غرر في باب التورية، مطلعها: عما جرى من أدمعي لا تسألوا ... فمدامعي أخبارها تتسلسل وما أحلى ما قال بعد المطلع: وخذوا حديثًا قد ألم بمهجتي ... وازداد حتى أهملته العذل منها: ثاني المعاطف كنت أول عاشق ... في حبه ولكل ثانٍ أول4 يرنو فيحلو للمتيم لحظه ... إذ ذاك لحظ بالنعاس معسل5 وتميل منه شمائل لم أدر من ... مشمولة أو حركتها الشمأل6 متلون الأوصاف سيف لحاظه ... ماضٍ ولكن هجره مستقبل منها قوله، وأظنه سبق ابن نباتة إلى معناه، وهو:

_ 1 الردف: الكفل والعجيزة. الراجح: الثقيل. 2 واضح: بين ظاهر، وواضح الجبين: عريضه. 3 تضوع: فاح. النشر: الرائحة الطيبة. 4 ثاني: طاوي من ثنى يثني. 5 يرنو: ينظر بعطف. المتيم: العاشق. المعسّل: ذو النوم الخفيف. 6 المشمولة: الخمرة الباردة. الشمأل: الريح الشمالية.

أيجود لي دهر بطيف خياله ... وأظنه برجوع ذلك يبخل أم كيف يأتي الطيف جفنًا بابه ... بالفتح من أرق الصبابة مقفل1 وقول الشيخ جمال الدين: وأقسم لو جاد الخيال بزورة ... لصادف باب الجفن بالفتح مقفلا ومن قصيدة الحاجبي قوله: يا ساكنين السفح كيف حجبتم ... عن ناظري البدر الذي لا يأفل2 وفعلتم بي ما يسر عواذلي ... ما شئتم يا أهل بدر فافعلوا لا تحجبوا بيني وبين غزالكم ... فعلى حجاز الصد ماء لي محمل ومنها وهو المرقص والمطرب قوله: يا صاح عللني بكأس مدامة ... عن ذكره إن المحب يعلل3 صهباء إن جن الفتى بخمارها ... فهي الشفاء وفي شذاها المندل4 ومن لطائفه في هذا الباب قوله: لم أنس أيام الصبا والهوى ... لله أيام النجا والنجاح ذاك زمان مر حلو الجنى ... ظفرت فيه بحبيب وراح5 تالله لقد عز علي أن تتحجب عن عرائس الحاجبي في خدور الأوراق، فإني لم أظفر من منهله العذب بغير هذه النهلة، ومن عروبة الشيخ زين الدين بن العجمي في باب التورية، قوله: سهل الخدود عزيز وصل من يرم ... يومًا جنى وجناته لم يستطع كم رمت لثم الخد منه فقال لي ... لا تطمعن فكل سهل ممتنع

_ 1 الأرق: عدم استطاعة النوم. الصبابة: الشوق. 2 أفل النجم: غاب. 3 علل: منّى النفس. المدامة: الخمرة أديمت في الدنان. 4 الصهباء: الخمرة. الخمار: غطاء الوجه للفتاة أو السكر. الشذا: الرائحة. المندل: العود الطيب الرائحة، وضرب من الكهانة. 5 الراح: الخمرة.

وقوله: حبي يمين في يمين الهوى ... فلا تشق منه بزور المقال كم قال ما ملت وولى وكم ... قد سلب العشاق روحًا ومال وقوله: وافى وفي كميه ورد أحمر ... حيا به مذ شب تجت لثامه فرشفت حلو الراح من خرطومه ... وجنيت ورد الخد من أكمامه وقوله: أنظر إلى الغدران كيف تجعدت ... أمواجها فزهت وراقت منظرا وحكت سطورًا في طروس خطها ... قلم النسيم بلطفه لما انبرى ومن نكت مدائحه البديعة قوله في القاضي شهاب الدين بن فضل الله، رحمه الله تعالى: يا عمري الأصل أنت مالكي ... ونافعي بجوده دون البشر لذا رفعت سندي في حكمكم ... لنافع لمالك لابن عمر1 وقال وقد أهدى له حلاوة سكب: لفضلك يا قاضي القضاة مزية ... على السحب لا تخفى على من له لب2 فأول جود الغيث قطر مبدّد ... وغيث نداك الجم أوله سكب3 ويعجبني من زهدياته قوله: عن طريق الذنوب قيدت خطوي ... خيفة من عقاب عقبى التجري4 وإذا لاح نهج بر تراني ... فيه أمشي أبغي ثوابي وأجري وقد عنّ لي أن أورد هنا نبذة له من المواليا، فإنه كان فارس ميدانها وقائد عنانها، فمن ذلك قوله: للحب قالوا معناك الذي إذ بلتو ... جدلو بقبله فعقلو فيك خبلتو فقال أقسم لو أن البوس سبلتو ... ومات للشرق ما درتو وقبلتو

_ 1 نافع ومالك بن أنس وعبد الله بن عمر: من رواة الحديث. 2 اللب: العقل. 3 الغيث: المطر والمساعدة. الندى: العطاء. 4 التجري: اتخاذ الجواري.

ومن مخترعات معانيه قوله فيها: حشيش عارضك الأخضر بدا في هدو ... في روض وجنتك يحدو للصبابه حدو والوهم ما ضر خدك يا رخيم الشدو ... إلا لأن حشيشو قد طلع في بدو وقوله: شدوا المحامل فصرت ساعة التحميل ... ملهوف لا حمل يعنيني ولا تحميل والعين قد حلفت يا بدر في التكميل ... لا تكتحل بالكرى إن غبت عنها ميل وقوله: يا من على الخلق أذيال المكارم جر ... وقد سلب نوم أجفاني وعني فر يحل لك أن قلبي يا غزير الدر ... مالو قرار ودمعي البحر وأنت البر وممن فتح له هذا الوصيد، القاضي فتح الدين بن الشهيد -رحمه الله تعالى- فمنه قوله: بستان حسنك أينعت ثمراته ... واهًا لغصن قوامك المياس1 في صدره رمان نهد زانه ... حليٌّ يوسوس في صدور الناس وقوله: أفدي التي ساقت حروب الهوى ... بحسن ساقيها لمشتاقها جادلت عذالي على حسنها ... فقامت الحرب على ساقها وقوله: قال لا تخش رقيبي فلمن ... حبني في زورتي أوفى نصيب قلت إن زرت وحانت غفلة ... فبودي وعمى عيني رقيبي وقوله في عين بعلبك: ولقد أتيت لبعلبك فشاقني ... عين بها روض النعيم منعم فلأهلها من أجلها أنا مكرم ... ولأجل عين ألف عين تكرم وقوله: قاسوا حماة بجلق فأجبتهم ... هذا قياس باطل وحياتكم فعروس جامع جلق ما مثلها ... شتان بين عروسنا وحماتكم

_ 1 أينع الثمر: نضج. واهًا: اسم فعل بمعنى التلهف والتفجع والتعجب.

فأجبته في ذلك التاريخ عن ذلك بقولي: والله إن حماة شامية شامكم ... وعروسها بمحاسن متزايده ودمشقكم بعذارها الثلجي قد ... ولت شبيبتها وأمست بارده ومن لطائف القاضي فتح الدين بن الشهيد، قوله وقد أحضر له عواد يسمى طائر بغا، بسفارة الحاجب توكل: نهاري أنس كله بمنادمٍ ... على عوده يغزو الحشا بتبلبل1 وكنت أراه طائرًا عز مطلبًا ... ولكنني حصلته بتوكل وقال وقد حضر عنده من يلعب بالقانون وأطربه: غنى على القانون حتى غدا ... من طرب يهتز عطف الجليس2 داوى قلوبًا من عليل الأسى ... وكان فيها من هواها رسيس3 فصاحت الجلاس عجبًا به ... يا صاحب القانون أنت الرئيس ومن نكته اللطيفة التي هو أحق بها من غيره، لكونه صاحب ديوان الإنشاء الشريف بالشام، قوله: كانت فتاتي لنظم بيتي ... قرينة برة أمينه بكيتها والحمام قامت ... بالسجع في ندبها معينه من علم الورق أنّ سجعي ... ليس يؤاتي بلا قرينه ومن لطائفه، وقد جهز لبعض أصحابه رسالة القلب، وهي ما لا يستحيل بالانعكاس وجهز بعده قوالب سكر: رسالة القلب بها خدمتي ... تقدمت في الزمن الذاهب وها أنا أرسل من بعدها ... قوالب السكر في الواجب ليعلم المخدوم أني امرؤ ... أخدمه بالقلب والقالب وكتب على عمارة بيته قوله: بنيت على وفق المكارم والعلا ... فللفتح أبوابي وصدري للضم سنا الملك يبدو من موشح زينتي ... ومن أجل ذا دار الطراز على كمي

_ 1 التبلبل: الاضطراب. 2 القانون: من آلات الطرب الموسيقية. العطف: الجنب. 3 الرسيس: الأثر.

وكتب على الرفرف: رفعتك ما شاء الترفه رفرفًا ... أزين سمائي بل أزين سماحي1 فلا بدع أن الناس يهوون بهجتي ... ويمشون في ظلي وتحت جناحي وكتب على مجلس بيته: يا من ينزه في حسني نواظره ... اسمع صفات بها قد قفت أمثالي2 أني مقام مقر عز جانبه ... ودون قدر مقامي المجلس العالي ومن لطائف الشيخ عز الدين الموصلي، في باب التورية، قوله، رحمه الله تعالى: يقول وقد بدا قمرًا وغصنًا ... حباه حسنه هيفًا بلين تنشق مسك أصداغي حلالًا ... فهذا الطيب من عرق الجبين وقوله: كالزرد المنظوم أصداغه ... وخدّه كالورد لما ورد بالغت في اللثم وقبلته ... في الخدّ تقبيلًا يفك الزرد ويعجبني من نكته الغريبة قوله: وحاجم في الكأس أجرى دمًا ... من ساق ساقينا بإشفاق3 لكنه خالف في شرطه ... وحكّم الكأس على الساق ولعمري إنه تلطف إلى الغاية بقوله: أعدى سقام جفونه ... جفني فأعدمني الكرى4 حتى اعتللت بسرعة ... مثل النسيم إذا سرى ويعجبني قوله في باب التدبيج: خضرة الصدغ والسواد من العيـ ... ـن بياض المشيب قد أورثاني واحمرار الدموع صفر خدي ... كل ذا من تلونات الزمان

_ 1 الرفرف: الرف تجعل عليه طرائف البيت. 2 فاق: تفوق وزاد عليه. 3 الحاجم: الذي يشتغل بالحجامة وهي المداواة بكبايات الهواء أو امتصاص الدم بالمحجم. 4 أعدمني: حرمني. الكرى: النوم.

وقوله: حديث عذار الحب باد وساقه ... له أوجه تبدي لقلبي اشتياقه درى أننا نسعى إلى الحسن كلنا ... فأبدى لنا ذاك الحديث وساقه1 وقوله: يا مقلة الحب مهلًا ... فقد أخذت بثارك وأنت يا وجنتيه ... لا تحرقيني بنارك وقوله: حديث عذار الحب في خدّه جرى ... كمسك على الورد الجني مسطرا فقبلته حتى محوت رسومه ... كأن لم يكن ذاك الحديث ولا جرى2 وقوله: عيني أفاضت دموعي ... من طول صد وبين ووجنة الحب قلت ... رأيت غسلي بعين وقوله: عاتبت حبي على تأخره ... وقد تعنى برجة الردف3 فقال هذا الثقيل أخرني ... عن سرعتي لانقطاعه خلفي وقوله: لحديث نبت في العذار حلاوة ... وطلاوة هاجت بها العشاق4 فإذا تجافى المرد قلت تمهلوا ... فإليكم هذا الحديث يساق5 وقوله: هجروك البيض لما ... نصل الصبغ فضرك6 كشف الدهر المغطى ... يا جميل الستر سترك وقوله: ذو حور أصابني ... بعينه لما نظر فليس قتل صبه ... إلا كلمح بالبصر ومن لطائف مجونه قوله: وبي ناتف للعارضين يقول صف ... نبات عذار زان في الحسن منظري فناديت يا حلو الشمائل ما الذي ... يقول لساني في النبات المكرر

_ 1 درى: عرف. وساقه: الحديث حدث به في سياق الكلام. والساق المتصل بالقدم. 2 الرسوم: الآثار. جرى: حدث. 3 الرجة: الاهتزاز. تعنى: تعب. الردف: المؤخرة. 4 الحديث: الجديد. الطلاوة: الرونق. 5 المرد: جمع أمرد وهو الشاب الذي لم تنبت لحيته بعد. 6 نصل الصبغ: بهت وبار لونه. والصبغ الخضاب.

وقوله: لما جفا المحبوب ناديته ... قابلت حبي منك بالبغض فعندها نام على وجهه ... وقال وجهي منك في الأرض1 وكنت أظن أن هذه النكتة اختراع الشيخ عز الدين الموصلي، إلى أن وقفت على الديوان الكبير من نظم الشيخ جمال الدين بن نباتة، فوجدته قد أخذها منه بنصها، الله إلا أن يكون وقع حافر على حافر، وقول الشيخ جمال الدين في هذه النكتة: عاتبت محبوبي وقد نكته ... بطحا فأضحى خجلًا مغضي فقلت دربسني وخل الحيا ... فقال وجهي منك في الأرض2 ومن لطائف مجون الشيخ عز الدين قوله: قد لقبوا بالزاغ ذا حنكة ... كواه ذا التلقيب في القلب داغ3 وهو غراب البين في شؤمه ... لكن إذا جئنا إلى الحق زاغ4 وقوله في تمتع الدمشقي: وذي أدب لطيف الذات جدًّا ... طلبت الوصل منه فما تمنع ودب لأخذ أيري قلت من ذا ... فناداني بإشفاق تمتع وقوله: مذ نام أيري قال لي ... أفمه يحظى بالوصول فقلت فيه قصر ... فقال ذا شيء يطول وممن عاصر الشيخ عز الدين الموصلي، ومشى تحت علم التورية، علاء الدين بن أيبك الدمشقي، وكان المتعصبون على الشيخ عز الدين يناظرونه به. ولعمري إن هذه المناظرة ما صدرت ممن له نظر. فمن نكته البديعة قوله، وقد اجتمع بمليح في متنزه من متنزهات دمشق يعرف بالسلطاني: سلطان حسن أفتديه بناظري ... وأعيذه من نظرة الشيطان يومًا بزهر اللوز لما زارني ... قضيت ذاك اليوم بالسلطان

_ 1 وجهي منك في الأرض: كناية عن الخجل وشدته. 2 دربس: قدّم. 3 الزاغ: من أنواع الغربان قريب من الحمامة أسود اللون لا يأكل الجيف. الحنكة: الدهاء والحيلة. داغ: هذه اللفظة لم نعثر على معنى لها في ما بين أيدينا ونرجح أن تكون بمعنى ترخيمًا لداغل وهذه تقال للجرح الخفي، أو أنها تكون بمعنى الأحمق من دُغينة وهي علم على الأحمق. 4 زاغ: مال عن الحق وحاد. ويمكن أن تكون ترخيم "زاغل" وهي بمعني غاش.

وقوله: أحببت من خياله وجنة ... مشرقة حمراء شبه اللهب قالوا الشهيدية أعطافه ... فقلت والردف تليل الذهب1 وقوله: أقول وقد ظمئت ووجه حبي ... له عرق على ورد الخدود أرى ماء وبي ظمأ شديد ... ولكن لا سبيل إلى الورود2 ومن لطائف مجونه قوله: تلطف واحتمل مزح الغواني ... وإن أوجعن منك الظهر دقا وجيدك إن يُلَقَّ الصفع فاصبر ... فإن الجيد في الدنيا ملقى ومن نظم الشيخ جلال الدين ابن خطيب داريا في باب التورية قوله: شهدت جفون معذبي بملالة ... مني وإن وداده تكليف3 لكنني لم أفأ عنه لأنه ... خبر رواه الجفن وهو ضعيف4 وقوله: تقول وقد أتتني ذات يوم ... مخبرة عن الظبي الجموح يسرك أن أروح إليه أجري ... فقلت لها خذي مالي وروحي5 ومن لطائف مجونه قوله: يا معشر الأصحاب قد عن لي ... رأي يزيل الحمق فاستظرفوه6 لا تحضروا إلا بأخفافكم ... ومن تثاقل بينكم خففوه وقوله: تصفحت ديوان الصفيّ فلم أجد ... لديه من السحر الحلال مرامي فقلت لقلبي دونك ابن نباتة ... ولا تقربي الحليّ فهو حرامي7

_ 1 الشهيدية: ونظنها الشهدية نسبة إلى الشهد وهو العسل ويمكن أن تكون منسوبة إلى الشهيد لطيب أعطافه. تليل الذهب: عنقه وأحسن شيء فيه. 2 الورود: شرب الماء وجمع وردة. 3 تكليف: واجب. 4 فاء عن الشيء: تاه عنه وأضاعه. وفاء إليه: لجأ. 5 روحي: من الروح والرواح. 6 عنَّ: بات وظهر. 7 تقربي: هكذا ورد والأصح: تقرب أو تكون تقربي كما وردت ولكن يكون البيت كما يلي: فقلت لنفسي: بدل قلبي. الحرامي: السارق.

الشيخ جمال الدين -رحمه الله تعالى- أراد بالسحر الحلال الذي ما وجده في ديوان صفي الدين التورية لا غير، وما ذاك إلا أن الشيخ صفي الدين كان أجنبيًّا منها، ولهذا لم أنظمه في سلك القوم الذين مشوا في نظم التورية تحت العلم الفاضلي والعلم النباتي، وغايته أنه رضي بالشعر الساذج المنسجم، وتعرض للتورية في بعض المواضع، ولكن سبكها في غير قالبها؛ لأنه لم يكن في طباعه ويأتي الكلام على ذلك في موضعه، إن شاء الله تعالى. ومن نظم الشيخ جلال الدين -غفر الله له- والمعنى في مراده ومفهوم قوله: ذكر المصطفى ثلاثين دجّا ... لًا يجيئون في قيام الساعة1 فيهم أعور وقد صح بالبر ... هان أن جا كواحدٍ من جماعه ويعجبني قوله، في آثار النبي، صلى الله عليه وسلم: يا عين إنْ بعد الحبيب وداره ... ونأت مرابعه وشط مزاره2 فلقد حظيت من الزمان بطائل ... إن لم تريه فهذه آثاره3 ومن لطائف شمس الدين بن المزين، في باب التورية، ما أنشدنيه من لفظه لنفسه: مدير الكاس حدثنا ودعنا ... بعيشك من كئوسك والخبيث حديثك عن قديم الراح يغني ... فلا تسقي الأنام سوى الحديث4 وأنشدني من لفظه لنفسه أيضًا: ومليح لالاه يحكيه حسنًا ... فهو كالبدر في الدّجى يتلالا5 قلت قصدي من الأنام مليح ... هكذا هكذا وإلا فلا لا ومن نكته اللطيفة قوله: قلت للأحدب لما ... أن رأى الوجد علاني6 أنا أبقى وبوجدي ... فيك يا أحدب فاني

_ 1 الدجّال: المنافق الكذاب. 2 نأى: ابتعد. المرابع: جمع مربع وهو الدار. شط: بعد. المزار: المسكن والمقام. 3 الطائل: الخير الكثير. 4 الحديث: الجديد والكلام. 5 لالاه: لألاؤه: فرحه وضحكه أو طلعته. 6 الأحدب: منحني الظهر.

وقد تقدم القول أن النكتة في التاجر استحقها الشيخ جمال الدين بن نباتة على الصلاح الصفدي، وعلى زين الدين الوردي، وهي: وتاجر أسكرني طرفه ... والكاس فيما بيننا دائر وقال لي سرك قلت اسقني ... جهرًا على عينك يا تاجر ومن نكته المخترعة قوله: شاب ورد الرياض من ... ورد خديك وانفرك1 فله الناس أثبتوا ... وانتفى الورد للكرك2 ورسم الجوباني، وهو إذ ذاك كافل المملكة الشامية لفضلاء دمشق، أن ينظموا له ما يكتب على أسنة الرماح، فنظم القاضي فتح الدين بن الشهيد: إذا الغبار على في الجو عثيره ... فأظلم الجو ما للشمس أنوار3 هذا سناني نجم يستضاء به ... كأنه علم في رأسه نار4 إن الرماح لأغصان وليس لها ... سوى النجوم على العيدان أزهار ونظم مولانا قاضي القضاة صدر الدين بن الآدمي، نور الله ضريحه، وكان إذ ذاك في عنفوان شبابه ومبادي نظمه: النصر مقرون بضرب أسنة ... لمعانها كوميض برق يشرق سبكت ما لتسبك كل خصم مارق ... وتطرقت لمعاند يتطرق زرق تفوق البيض في الهيجاء إذ ... يحمر من دمها العدو الأزرق5 ينسجن يوم الحرب كل كتيبة ... تحت الغبار فنصرهن محقق

_ 1 انفرك: صار قريبًا من النضوج. 2 الكرك: مدينة. 3 العثير: الناعم من الغبار. 4 الشطر الثاني من هذا البيت مضمن وهو للخنساء ترثي أخاها صخرًا في قولها: وإن صخرًا لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار والعلم: الجبل العالي سمي بذلك لأنهم كانوا يوقدون في رأسه نارًا علامة للضالين من المسافرين في الصحراء ليهتدوا إلى مكان معمور. 5 الزرق والبيض: الخيول. الهيجاء: الحرب. العدو الأزرق: الأجنبي من أبناء الروم.

ولعمري إن الشيخ شمس الدين بن المزين تطاول برمحه على أقرانه في ذلك العصر، بقوله: أنا أسمر والراية البيضاء لي ... لا للسيوف وسل من الشجعان لم أحل في عيش العداة لأنني ... نوديت يوم الجمع بالمرّان1 وإذا تعانقت الكماة بجحفل ... كلمتهم فيه بكل لسان2 فتخالهم غنمًا تساق إلى الردى ... قهر المعظم سطوة الجوباني وكتبت من حماة المحروسة حسب ما رسم لي به قولي: أنا في الخط إن تحمر نقطي ... فكتابي مقاتل الفرسان وقوامي إذا تثنى ففرد ... ما له في تفرق الجمع ثاني وسناني كالبرق بل صار منه ... قلب سيف البروق قي خفقان رمحه للردين ينسب لكن ... صاح لما علاه بالسنان3 ومن أغراض الشيخ شمس الدين المزين اللطيفة قوله: حمل الدواة فرمتها ... منه مرامة عاشق4 قالت إذًا ما أنت يا ... قلم الديار بلائق ومن لطائف مجونه قوله: سلماني أضافنا ... لبنًا ما له ثمن بيض الله وجهه ... كلما جاء باللبن ومن مقاطيعه التي سارت لديها الركبان قوله: أنا دواة يضحك الجود من ... بُكا يراعي جلّ من قد براه5 دلوا على جودي من مسه ... داء من الفقر فإني دواه6

_ 1 المرّان: الرماح الصلبة اللدنة، مفردها مرانة. 2 الكماة: الفرسان الأبطال. كلمتهم: جرجتهم ومن الكلام. 3 الردين: امرأة كانت تقوم الرماح فنسبت إليها فيقال: رماح ردينية وهي أصلب الرماح وأقومها. 4 رام: طلب، مرامة: مطلب. 5 بكا: بكاء. يراع: قلم. 6 الداء: المرض.

ومن أغراضه اللطيفة قوله: نزلنا بالقصير فرام قلبي ... مليحًا بالعذارى الغيد أزرى1 فلما أن تعذر مال عنه ... فؤادي والجوانح نحو عذرا2 ومن مدائحه المخترعة ما أنشده لشيخنا ومولانا، قاضي القضاة علاء الدين بن القضامي الحنفي -نور الله ضريحه- وقد مرّ على دمشق متوجهًا إلى الحجاز الشريف في محفة، قوله: محفة المجلس العلائي ... تنشر جدواه في المشاهد تقول هذا قنى وأعطى ... وحج بالناس وهو قاعد3 وأمر ابن المزين أن يكتب على قبره من نظمه، ما قرأته على القبر وحفظته، وهو قوله، رحمه الله: بقارعة الطريق جعلت قبري ... لأحظى بالترحم من صديقي فيا مولى الموالي أنت أولى ... برحمة من يموت على الطريق ومما قررته للشيخ شرف الدين عيسى العالية في باب التورية، قوله، رحمه الله تعالى: لما رأوه مضاجعي تحت الدجى ... حجبوه عن عينيّ حتى أسهرا قبلت خالًا فوق كعبة خده ... قبل الوداع وما أتيت المشعرا4 وقوله: ومليحة راودتها فتعللت ... بالحيض وهي تقول كالمذعور هل موضع خال فقلت لها اسكتي ... فمواضعي ليست تعد ودوري ومن لطائف مجونه قوله وهو حكاية لحاله: قالت لي الفروة قم دفني ... حتى أدفيك بقلبين قلت لها بالله ما تشتهي ... قالت غشا قلت على عيني5

_ 1 أزرى به: أظهر بشاعته. 2 عذرا: عذراء وهي الفتاة لم يمسسها بشر. 3 قنّى: جعله يقتني ويملك أي وهب ما يقتني 4 المشعر: المشعر الحرام وهو من مناسك الحج. 5 غشا: جُماع. على عيني: كناية عن الاستجابة.

ومن مجونه مع الشيخ بدر الدين البشتكي: البشتكي المكدي ... ذو أُبنة ليس تخفى1 قد مد للنيك رجلًا ... وللخلائق كفًّا وقوله: أيا معشر الصحب مني اسمعوا ... مقالي وكس أم من ينتكي2 ألا فالعنوا آكلين الحشيش ... وبولوا على شارب البشتكي وقوله: البشتكي البدر له لحية ... كلحية الراهب مشعوره3 قال أنا أشعر هذا الورى ... قلنا له فاستعمل النوره4 ويعجبني من مدائحه قوله: تهنأ بنصف كم به من حلاوة ... وجد لي بفضل لا يضيع ثوابه فإن لساني صارم وفمي له ... قراب وأرجو أن يحلى قرابه5 ومن شعر عيسى في مؤلفه من قصيدة: صبيغ دعاويه ما تنقضي ... ويخطئ في القول لا يشعر تفكرت فيه وفي ذقنه ... فلم أدر أيهما أحمر6 وقوله: أيا رب الجناب الرحب جد لي ... وكثر في العطاء ولا تقلل وما تعطيه لي من خشكنان ... نهار العيد كبر أو فهلل7 وقوله: لفضلك يابن فضل الله أشكو ... برأسي البرد في نومي وأمي وأرجو أن يكون الشاس شمسًا ... أروم الفوز من برد بشمس8

_ 1 المكدي: الشحاذ. الأُبنة: العيب. 2 ينتكي: يشاكس ويعمل بالضد "نكاية". 3 مشعورة: المغطاة بالشعر الكثيف. 4 النورة: أخلاط من الأملاح تستعمل لإزالة الشعر. أشعر: أكثر شَعْرًا وأحسنهم شِعْرًا. 5 القراب: للسيف غمده أو موضعه. 6 أحمر: أفعل تفضيل من حِمار، واللون المعروف. 7 الخشكنان: نوع من الحلوى يضع من دقيق الحنطة والسكر واللوز أو الفستق "فارسية". كبّر: قال الله أكبر. هلل: قال لا إله إلا الله. 8 الشاش: نسيج رقيق من القطن تضمد به الجراح ويستعمل لفافة للعمامة.

الشيخ شرف الدين عيسى، وعصريه الشيخ شهاب الدين بن العطار الآتي ذكره -رحمهما الله تعالى- والشيخ بدر الدين البشتكي، لم أجد في أغزالهم من المقاطيع ما يغازل بغزله عيون التورية، ولكن وقفت لهم على أغراض هي فوق الغرض، فمن ذلك قول الشيخ شهاب الدين بن العطار: أصبحت بطال والأولاد أربعة ... محمد وثلاث موتهم يجب1 فإن تخيل في رزق بمدحكم ... أبو محمد البطال لا عجب ومن إيهامه في هذا الباب قوله: طلبت رزقًا قيل رح ناظرًا ... جيوش سيس قلت رأي تعيس2 لو أن ذي الحكام في سلطة ... ما طلبوا أني أبقى بسيس وقال في الشيخ شرف الدين عيسى المذكور: عيسى ومن مدحوه ... ما شمت فيهم رئيسا3 وما رأيت أناسًا ... لكن حميرًا وعيسا4 وقوله في طاهر بن حبيب: تجادل شافعي مع مالكي ... وهذا البحث بين الناس ظاهر فقال الشافعي الكلب نجس ... وقال المالكي الكلب طاهر ومن لطائف مجونه قوله: هيأ البلان موسى ... خلوة تحيي النفوسا5 قلت ما أصنع فيها ... قال تستعمل موسا ومن محاسن الشيخ جمال الدين عبد الله السوسي، في باب التورية، قوله: أهوى غزالًا عليه صبري ... قد بان في الحب وهو عذري قد أسرت مقلتاه قلبي ... فرحت مملوكه بأسري6

_ 1 بطال: بدون عمل. 2 سيس: اسم بلد. 3 شام: رأى أو وجد وآنس. 4 العيس: الإبل مفردها أعيس. 5 البلان: الحمام. 6 بأسري: بكل جوارحي.

وقوله: تهاون شمس الدين بي وهو صاحب ... وأظهر لي أضعاف ما تظهر العدا نزلت به أبغي الندى وهو طالع ... وعند طلوع الشمس يرتفع الندى1 وقوله: زجرت النفس عن نذل لئيم ... أقر بموعدي غلطًا وأنكر وقد ذكّرته عنه مرارًا ... وهيهات المؤنث لا يذكر وقوله: تجنب أقطعًا لصًّا جريئًا ... يحن إلى الجناية كل ساعة2 وما قطعوه بعد الوصل إلا ... أرادوا كفه عن ذي الصناعة ومن محاسن الصاحب فخر الدين بن مكانس، في باب التورية، قوله: بأبي عقيقة مرشف ... برت وكانت قبل عقت3 فلثمتها ورشفتها ... وقطعتها من حيث رقت ومنه قوله: يقول مفندي إذ همت وجدًا ... بخد خلت فيه الشعر نملا4 أيعرف خده للعشق أهلًا ... فقلت لهم نعم أهلًا وسهلا وقوله: زارت معطرة الشذا ملفوفة ... كي تختفي فأبى شذا العطر يا معشر الأدباء هذا وقتكم ... فتناظموا في اللف والنشر5 وقوله: علقتها معشوقة خالها إذ عمها ... إذ عمها بالحسن قد خصصا6 يا وصلها الغالي ويا جسمها ... لله ما أغلى وما أرخصا وقال وأجاد: إن الهواءين يا معشوق قد عبثا ... بالروح والجسم في سر وفي علن فالروح تفديك بالممدود قد تلفت ... والجسم حوشيت بالمقصور في كفن7

_ 1 الندى: الثانية بمعنى الرذاذ الذي يكون صباحًا على الأزهار والأولى بمعنى العطاء. 2 الأقطع: الذي حدّ حد القطع فقطعت يده لأنه سرق. اللص: السارق. الجناية: العمل المشين. 3 العقيقة: واحدة العقيق، حجر كريم يميل لونه إلى الدم تشبه به الشفاه. المرشف: مكان الرشف أي الشفاه. برّت: أطاعت. عقت: عصت. 4 المفند: المتهم والمكذب ومضعف الرأي. 5 اللف والنشر: من المصطلحات البلاغية. 6 علقتها: عشقتها. 7 المقصور: من الأسماء الذي ينتهي بألف أصلها ياء، ومكان العبادة، حوشيت: حاشاكِ.

وقوله مضمنًا: ومقلة ظبي يرشق القلب سهمًا ... ولكنه رشق يزال به الهم على نفسه فليبك من ضاع عمره ... وليس له منها نصيب ولا سهم وقوله: عارض المحبوب من فو ... ق صفاء الخد فاتن شبه ورد زاد لطفًا ... حول ماء غير آسن1 وقوله في مجونه مضمنًا: قلت يا لائمي على بذل مالي ... في هوى الحب دع كلام الفشار2 فعلى فلس ذا يناح ويبكي ... لا على درهم ولا دينار وقوله: شكى إلَيَّ اليتم إذ نكته ... مراهق فيه حلا هتكي3 بت أسليه على يتمه ... وكلما سلّيته يبكي4 وقوله: سكر الشيخ وطابا ... واشتهى الشيخ شبابا حسب الخمرة صابا ... وجد الراح شرابا5 وقوله يمازح السراج السكندري، وقد انقطع عنه: قل للسراج إذا تكبـ ... ـر حيث بالقوم احتمى أنت السراج بعينه ... لو شلت انفك للسما6 ومثله قوله فيه: يا ذا السراج اشترى أيري فأنت به ... أولى وذلك للحق الذي وجبا سكندري وتدعى بالسراج وذا ... مثل المنار إذا ما قام وانتصبا وقال في الصاحب بن النشو الوزير، وقد أنشأ سبيلًا بالجامع العمري:

_ 1 آسن: فاسد ومتغير اللون والطعم والرائحة. 2 الفشّار: الأحمق. 3 المراهق: الذي لم يبلغ الحلم من الصبيان. الهتك: المجون والفحش. 4 سلّيته: من التسلية، والسّل. 5 الصاب: عصارة شجر مر المذاق. الراح: الخمرة. 6 شال بأنفه: تكبر وتعجرف.

أنشأ القطيم النشو لما ارتقى ... وزارة زادته في وزره1 بالجامع العمري سبيلًا وقد ... قال لنا عنه بنو مصره هذا سبيل حاله فاسد ... وزيره يرشح من قعره2 ومن أغراضه البديعة قوله: لولا الزمان للمحال قابل ... ما سلسلوا مطلق كل جدول وأصبح الدولاب في رياضه ... يقول بالدور وبالتسلسل3 ومن أغراضه الغريبة قوله في ولده مجد الله بن فضل الله، رحمهما الله تعالى: أرى ولدي قد زاده الله بهجة ... وكمله في الْخَلْق والْخُلق مذ نشا سأشكر ربي حيث أوتيت مثله ... وذلك فضل الله يؤتيه من يشا ومن بدائع أمداحه قوله في الشهيد فخر الدين نقيب الأشراف، رحمه الله تعالى: جناب فخر الدين كهف الورى ... دامت له النعماء لا تنقضي فهو الشريف الحسن المرتضى ... وخلقه ذاك الشريف الرضي4 وقال يمدح الإمام المرتضى، علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: يابن عم النبي إن أناسًا ... قد توالوك بالسعادة فازوا أنت للعلم في الحقيقة باب ... يا إمامًا وما سواك مجاز ويعجبني من حسن خواتمه قوله: وا سوأتاه إذا وقفت بموقف ... ما مخلصي فيه سوى الإقرار5 وسواد وجهي عند أخذ صحيفتي ... وتطلعي فيها شبيه القار6

_ 1 القطيم: الصقر. الوزر: الحمل الثقيل والمسئولية. 2 يرشح: يتسرب منه الماء. قعره: إسته. 3 الدولاب: ما يستقى به ويوضع فوق البئر "الناعورة". 4 الشريف الرضي: الشاعر المعروف وأخو الشريف المرتضى صاحب الأمالي. 5 الإقرار: الاعتراف. 6 القار: الزفت.

ومن محاسن ولده مجد الدين بن فضل الله -تغمده الله برحمته- قوله: وأغيد بت منه ... بنار عشقيه أقلى1 رمى من اللحظ سهمًا ... به نموت ونبلى وقوله: قالوا وقد عبثت بنا ... قاماتهم والأعينا إن رمت تلقانا فلج ... بين السيوف والقنا2 وقوله: يقولون هل من الحبيب بزورة ... ومنا كم المطلوب قلنا لهم منا3 فقالوا لنا غوصوا على قده وما ... يحاكي إذا ما اهتز قلنا لهم غصنا وقوله: بحق الله دع ظلم المعنى ... ومتعه كما يهوى بأنسك وكف الصد يا مولاي عمن ... بيومك رحت تهجره وأمسك وقوله: قال خلي لحبيبي صل فتى ... بك قد أضحى معنى مغرمًا قال هل يولم إن واصلته ... قلت إن فاز بثغر أولَما4 وقوله: يا لائمي إن فقدت الصبر في قمر ... أصداغه سلبت أهل الهوى وسبت كلت سيوف اصطباري عنه حين بدا ... آس العذار على وجناته ونبت5 وقوله: من مجيري من سادة ألفوا الهج ... ـر لعشاقهم وزادوا النفارا سأل الدمع أن يجيروه قالوا ... مثل هذا في حينا لن يجارا6 ومن اختراعاته اللطيفة: تساومنا شذى أزهار روض ... تحير ناظري فيه وفكري فقلت نبيعك الأرواح حقًّا ... بعرف طيب منه ونشر7

_ 1 أُقلى: أُحرق بالزيت الساخن أو أُكره وأُهجر. 2 لج: أمر من ولج: أدخل. القنا: الرماح. 3 منَّ: جاد وتفضل. منّى: علل. 4 أولم: أقام وليمة. لما: سمرة في الشفاه. 5 كَلَّ السيف: لم يعد قاطعًا. الآس: نبات ذو ثمار كروية بيضاء ورائحة زكية. نبت: أخطأت الهدف ومن النبات. 6 أجار: حمى. لن يجارى: لن يسبقه أحد ولن يعينه أحد. 7 العرف: الشذا. النشر: الرائحة الطيبة.

ومن أغراضه اللطيفة قوله: سحقًا لذى نظم يهيج من البغا ... ويثير في هجو الكرام عجاجا1 أقصيته عني فظل يسبني ... ومنعته أيري فذم وهاجا2 ومن مدائحه يهنئ والده بعوده من السفر: هنئت يا أبتي بعودك سالِمًا ... وبقيت ما طرد الظلام نهار ملئت بطون الكتب فيك مدائحًا ... حتى لقد عظمت بك الأسفار وقال فيه أيضًا، وقد أهدى له هدية حسنة: تناهيت في بري إلى أن هديتني ... ولولاك كنت الدهر في الغي ساديا3 وأهديت لي ما حير العقل حسنه ... فلا زلت في الحالين للعبد هاديا ويعجبني من زهدياته قوله: جزى الله شيبي كل خير فإنه ... دعاني لما يرضي الإله وحرضا فأقلعت عن ذنبي وأخلصت تائبًا ... وأمسكت لما لاح لي الخيط أبيضا ومن كلام الشيخ أبي الفضل بن أبي الوفاء العارف، الذي دخل بحسن سلوكه إلى زوايا الأدب فأخرج منها الخبايا وأظهر البرهان -تغمده الله برحمته- قوله: عبدك الصب المعنى ... عرف الفقر وذاقه فلكم فاخر محتا ... جًا شكا فقرًا وفاقه ومن مخترعاته، في باب التورية مع بديع التضمين، قوله: ما خادم واسمه في در مبسمه ... إلا أغن غضيض الطرف مكحول4 وريقه مع ثناياه التي انتظمت ... كأنه منهل بالراح معلول5 "مع لولو"

_ 1 البغا: البغاء وهو الفحش. العجاج: الغبار المتصاعد فوق أرض المعركة. 2 هاج: اضطرب وصاح. وهاجي من الهجاء بادله إياه. 3 ساديًا في الغي: متماديًا في الضلال. 4 أغن: في صوته غنه، غضيض الطرف: ذابله. 5 الثنايا: الأسنان. معلول: ممزوج.

ومن اختراعاته قوله: على وجنتيه جنة ذات بهجة ... ترى لعيون الناس فيها تزاحما حمى ورد خديه حماة عذاره ... فيا حسن ريحان العار حماحما1 "حمى حمى" ومثله قوله: أرسلت عينَيّ بدمعيهما ... بين يدي من قد تمادى جفاه أسأله في فمه قبلة ... فلم يميلاه ولم يعطفاه "يعطِ فاه" ومثله قوله: سألتها رشف ريق ... مستعذب الطعم حلو قالت فصفني ارتجالًا ... فقلت بعد التروي2 ومن لطائف نكته في هذا الباب، قوله: ازداد خدك شعرًا ... فازداد قلبي حبًّا إذ كان وردك جمري ... فيه فصار مربى3 ومن لطائفه قوله: ألا لا تلوموني فلست بمقلع ... إذا انحدرت من كأسها الراح في حلقي سآوي إلى بحر من الخمر مترع ... أحط المراسي عنده فأمل لي واسقي "وسقي"4 وقوله: ذكرك لي في اللوم مستحسن ... واللوم عندي غير مستحسن كم قلت للمعرب في لومه ... إن جئت نحوي قط لا تلحنِ "ني"5 ومن لطائف مجونه مع حسن التضمين: وخلّ سمته صفعًا بمال ... فقال توازعوه يا صحابي6 إذا الحمل الثقيل توازعته ... أكف القوم هان على الرقاب

_ 1 الحماحم: الحبق، نبات طيب الرائحة. 2 التروي: الشبع والتأني. 3 مربى: من الحلويات وذو تربية. 4 الوسق: مكيال مقداره ستون صاعًا والصاع خمسة أرطال وثلث، والرطل كيلوان ونصف، وعن هذا يكون الوسق: سبعماية وخمسون كيلو أو لترًا. وتجمع على أوسق. 5 تلحن: تخطئ في النحو وتلومني. 6 سام: طلب الشراء.

ومن أغراضه قوله: تعنت دهر لج فينا بخطبه ... وذللنا من بعد عز وأنكانا1 قسا وانثنى يختال في جبروته ... وجرر أذيالًا علينا وأردانا2 وأنشدني، من لفظه لنفسه، الشيخ شمس الدين المتنبي، قوله في مليح اسمه حمزة ترى يبدو لحمزة بعض ما بي ... ويرثي لي وينظر في بلائي وأشفي بالمبرد من لماه ... واجمع بين حمزة والكساء "ي"3 ومن لطائف علّامة الوجود فريد الدهر بدر الدين بن الدماميني المخزومي المالكي، قوله: قلت له والدجى مولٍّ ... ونحن في مجلس التلاقي قد عطس الصبح يا حبيبي ... فلا تشمته بالفراق4 وقوله: يقول بديوان المحبة وردوا ... محاسن حبي فهو في الحسن مفرد فوردت في الديوان عامل قدّه ... فقال وذاك الخد قلت مورد وقوله: وبي وجنة حمراء زاد صفاؤها ... وأبدت صفات أبدع الحسن كونها فدع لائمي ينهى عن الحب جهده ... فما أنا بالسالي صفاها ولونها "نهى" وقوله: يا عذولي في مغن مطرب ... حرك الأوتار لما سفرا5 كم تهز العطف منه طربًا ... عندما تسمع منه وترى "ا"6 وقوله: أذاب أحشائي هوى صائغ ... قلت له والقلب رهن لديه إني على فيك أرى خاتما ... فهل ترى يقعد نقشي عليه

_ 1 الخطب: الأمر الجلل والمصيبة. أنكانا: عاندنا 2 يختال: يتبختر في مشيته. أردانا: أكمام أو قتلنا أو أوردنا الردى وهو الموت. 3 حمزة والكسائي: من رواة الحديث. 4 عطس الصبح: طلع وبان ضوؤه. شَمّت العطس: قال له: يرحمكم الله. 5 سفر: انكشف. 6 وترى "ا": الوتر الخيط في الآلة الموسيقية. والرؤية.

وقد زاد النكتة حسنًا بقوله: بدا وقد كان اختفى ... وخاف من مراقبه فقلت هذا قاتلي ... بعينه وحاجبه1 وقوله: أمنيتي أنت يا مليح ... ما مثله في الزمان ثاني فكيف تبدي جفاك خوفًا ... وأنت في غاية الأمان "ني" وقوله: وعزيز الجمال أوجب ذلي ... وهواه عليَّ أصبح فرضا فهو في الحسن والجمال سماء ... صرت يا صاح منه بالذل أرضا "ضى" وقوله: تناسبت أوصاف من وصله ... ينفي عن القلب جمع الكرب2 في الخد تسهيل ومن ثغره ... يطيب للصب ارتشاف الضرب وقوله: لا ما عذاريك هما أوقعا ... قلب المحب الصب في الحين3 فجد له بالوصل واسمح به ... ففيك قد هام بلامين وقوله: قلت لعطار به صبوتي ... محمودة والصبر لا يستطاب أسقيتني كأس غرام به ... ذبت ومن فيك براني الشراب وقوله: لله منه ملثم أشنب ... قد طاب فيه العشق للمغرم5 قلت لعذالي لا تعجبوا ... طيب الهوى ما زال في الملثم وقوله: في ليلة البدر أتى ... حبي فقرت مقلتي وقال لي يا بدر قم ... فقلت هذه ليلتي وقوله: قم بنا نركب طرف ... اللهو سيقًا للمدام6 واثن يا صاحي عناني ... لكميت ولجام7

_ 1 بعينه: نفسه وذاته والعين أداة النظر. 2 الكرب: الضيق. 3 الحين: الحيرة والقلق المميت. 4 المين: المراهنة والرياء. 5 الملثم: الفم. الأشنب: الأبيض الأسنان رقيقها. 6 سيقًا: هكذا في الأصل وهي من السياقة، ونظنها سقيًا: وهي بمعنى شربًا. وهي أنسب في المعنى. والمدام: الخمرة. 7 العنان: المقود. الكميت: من الخمرة التي يميل لونها الأحمر إلى السواد. الجام: وعاء للشراب. واللجام: المقود.

ومن أغراضه اللطيفة قوله: أقول لخل جن من فرط ماله ... ورابى فأسق الناس كأس عذاب صفاتك يا هذا لعمري تناقضت ... فإنك ذو مال وأنت ترابي ومن مدائحه، ما كتب به إلى قاضي القضاة ناصر الدين التنيسي، قوله: قد نلت يا قاضي القضاة مطالبي ... بكنوز ود منك أورثت الغنى وأخافني الدهر الظلوم فمذ رآني ... داعيًا لجناب جودك أمنا ومن مدائحه فيه قوله، وقد ولاه وظيفة العقود في مبادي العمر: يا حاكمًا ليس يلفى ... نظيره في الوجود1 قد زدت في الفضل حتى ... قلدتني بالعقود2 وكتب إلى برهان الدين المحلي: يا سر يا معروفه ليس يحصى ... ورئيسًا ذكا بفرع وأصل مذ علا في الورى محلك عزا ... قلت هذا هو العزيز المحلِ "ي"3 وكتب إلى شهاب الدين الفارقي: قل للذي أضحى يعظم حاتِمًا ... ويقول ليس لجوده من لاحق إن قسته بسماح أهل زماننا ... أخطا قياسك مع وجود الفارقِ "ي" ويعجبني من أغراضه البديعة قوله: لئن عقدت بنت الكروم عقودها ... على حمل نفي الهم والهم زائد فنحن شهود في المقام لعقدها ... على أولياء اللهو واللوز عاقد4 ومن لطائف مجونه قوله: أمنت صدوده فدنوت منه ... على مهل بشيء زاد حسنا وعاجلني الرقيب فخاف أيري ... وأنزل إذ رأى خوفًا وأمنا "ي"

_ 1 يلفى: يوجد. النظير: المثيل والشبيه. 2 قلد: ألبس قلادة وهي عقد ثمين يلبس في العنق. 3 العزيز: عزيز مصر، واشتهر عهده بالرخاء. 4 عقد اللوز: إذ صار زهره ثمرًا. والعقد: عقد الزواج.

ومما اختاره سيدنا الشيخ العالم العلامة، أبو الفضل أحمد بن حجر العسقلاني، روى الله من سحاب الرحمة ثراه، من نظمه لنفسه -رحمه الله تعالى- في باب التورية، ورسم لي أن يكون واسطة لهذا العقد، وكتب ذلك بخطه الكريم في كراسة، وأتحف بها العبد لأنظمها في عقود هذه الأسلاك، وكتب في ديباجة الكراسة قوله: يا سيدًا طالعه ... إن راق معناه فعد وافتح له باب الرضا ... وإن تجد عيبًا فسد وقوله: سألت من لحظه وحاجبه ... كالقوس والسهم موعدًا حسنا ففوق السهم من لواحظه ... وانقوس الحاجبان واقترنا1 "وقت رنا" وقوله: سألوا عن عاشق في ... قمر باد سناه أسقمته مقلتاه ... قلت لا بل شفتاه وقوله: أتى من أحبائي رسول فقال لي ... ترفق وهن واخضع تفز برضانا فكم عاشق قاسى الهوان بحبنا ... فصار عزيزًا حين ذاق هوانا2 وقوله: ضنيت جوى فواصلني حبيبي ... وعاد إلى الجفاء فعاد ما بي فقلت أعد وصالًا قال كلا ... فها أنا ذبت من رد الجوابِ "بي" وقوله، مع بديع الاقتباس: خاض العواذل في حديث مدامعي ... لما رأوا كالبحر سرعة سيره فحبسته لأصون سر هواكم ... حتى يخوضوا في حديث غيره3 وقوله: يا عاذلي وسهام اللحظ ترشقني ... عن قوس حاجب بدر خدّه قبسي إن تستطع لنجاتي في الهوى سببًا ... فاستنبط السلم لي من أسهم وقسِ "ي" وقوله: ولم أنس إذ زار الحبيب بروضة ... فغارت من المعشوق أعينها المرضى ولاحت بخد الورد حمرة خجلة ... حياء رأينا طرف نرجسها غضا

_ 1 فوّق السهم: صوّبه. انقوس: صار منحنيًا كالقوس. 2 هوانا: حبنا، والذل. 3 حتى يخوضوا في حديث غيره، تضمين للآية الكريمة: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام: 6/ 86] . 4 قس: أمر من قاس: قدر المسافة. وقسي: جمع قوس.

وقوله: يا مبدعًا في حسنه واصل أخا ... همّ له عام وما واصلنا فقال هل ضيف في مشتاته ... قلت نعم وفي هموم شتى وقوله: محبوبتي واصلتني ... والهم عني تشتت وذاب قلب حسودي ... لما وفت وتفتت وقوله: أحبب بوقاد كنجم طالع ... أنزلته برضا الغرام فؤادي وأنا الشهاب فلا تعاند عاذلي ... إن ملت نحو الكوكب الوقاد وقوله: نحن أهل الهوى بلوناه قدما ... بين خوف من أهله وأمان وشربنا خمر الهوى كل حين ... بكئوس قد أترعت وأوان "ني"1 وقوله: ورشا مذ نشا وعينا التصابي ... بعدما كان ذا اشتباه علينا2 وجهلنا الغرام حتى أرانا ... منه تحت اللثام خدًّا وعينا وقوله: سرت وخلفتني غريبًا ... في الربع أصلى جوى بنارك3 أغث حشا أحرقت غرامًا ... في ربعك المعتلي ودارك وقوله: وبدر تَمّ جميل ... محجب بالدلال إذا هممت بأني ... أسلو هواه بدا لي وقوله: نهاني حبيبي أن أطيع عواذلي ... لكي أتهنى بالوصال الذي سرا فقلت فدتك النفس سمعًا وطاعة ... فلم أرَ نهيًا منه أهنى ولا أمرا4 وقوله: وأهيف حياتي بطيب وصاله ... ومن ريقه الخمر الحرام حلالي أدار لي الكأسين خمرًا وريقة ... ونزهني عن جفوة وملالِ "لي" وقوله: تجرد من أحب فقال لي من ... يلوم وأظهر الحسد المكتم أجاد لك الحبيب بلمس جسم ... له كالخز قلت نعم وأنعم

_ 1 أترع الكأس: امتلأ. أوان: وقت وآنية وهي الأوعية. 2 الرشأ: الغزال. اشتباه: التباس. 3 أصلى: أحترق. 4 أمرا: من الأمر وأمرأ: أي أسهل وأهون.

وقوله: تيه فلان الدين مع فقره ... أقوى دليل أنه جاهل1 لثوبه بالصقل من فوقه ... قعاقع ما تحتها طائل2 ومن أغراضه اللطيفة قوله: أشكو إلى الله ما بي ... وما حوته ضلوعي قد طابق السقم جسمي ... بنزلة وطلوع وقوله، وهو مما كتبه على مجموع الكرماني: نظرت لما سطرته من فوائد ... لها الفضل إذ وافت محاسنها يعزى فللَّه ما سطرت منها لخاطري ... فلم يكف طرفي منه شيء ولا أجزا3 وقوله: قد جئت في علم الأصول لنا وفي ... علم الفروع بخالص الإبريز4 وبرزت في هذا وفي هذا على الر ... ازي بالإحسان والتبريز "ي" ويعجبني من وعظياته قوله: يا أيها الشيخ المطيع هواه دع ... هذي الدعاية قد أتى داعي الردى5 وخيوط هذا الشيب لا تنسج بها ... ثوب التصابي فهي ما خلقت سدى6 وقوله: خليليّ ولي العمر منا ولم نتب ... وننوي فعال الصالحين ولكنا فحتى متى نبني بيوتًا مشيدة ... وأعمارنا منا تهد وما تبنى "تبنا" ومن نظم الشيخ بدر الدين البشتكي -رحمه الله- في هذا النوع قوله: بدا بوجه جميل ... قد شرف الحسن قدره في شمسه كل صب ... يود يبذل بدره

_ 1 التيه: التكبر والخيلاء. 2 قعاقع: أصوات وجلبة. 3 أجزا: أجزأ أي كفى أو قام مقام. 4 الإبريز: الذهب. 5 الردى: الموت. 6 سدى: عبثًا بدون طائل.

هذا الذي ظفرت به من أغزاله في هذا الباب. ومن مجونه قوله: وافى بذقن بعد أن ... قاسيته حلوًا ومرًا فقبضت لحيته وأيـ ... ـري في استه وهلم جرا1 وقال من كتابه المسمّى "برفع شان العمشان": أقول لناتف خديه مهلًا ... أترضى اللائطين مدى الدهور2 فدع نتف العوارض عنك كيما ... تناك بلحية مثل الحرير "ي" ومثله قوله في الشيخ بدر الدين بن الدماميني المخزومي: تبًّا لقاض جار في أحكامه ... حتى على المنثور والمنظوم خان الشريعة مذ أطاع بني وفا ... وانقاد للفساق كالمخزوم3 "ي" ومن مدائحه قوله: وقاس الورى بالنيل نائلك الذي ... حلا وصفا والنيل يبدو مرنقا4 فقلت وهل ينقاس من خلقه الوفا ... بمن بالوفا في العام يومًا تخلقا وكتب إليه سيدنا ومولانا قاضي القضاة شهاب الدين بن حجر العسقلاني، في رمضان: أليس عجيبًا بأنا نصوم ... ولا تشتكي من أذى الصوم غما ونسغب والله في نسكنا ... إذا نحن لم نرو نثرًا ونظما5 فأجابه بقوله: ألا يا شهابًا رقى في العلا ... فأمطرنا نوؤه العذب قطرا6 إلى فقرة منك يا فقرنا ... ونستغن إن قلت نظمًا ونثرا7

_ 1 الإست: مكان خروج الفضلات من جسم الإنسان. 2 اللائطين: الذين يأتون الرجال شهوة من دون النساء. 3 المخزوم: الذي جعل في جانب منخره الخزام أو الخزامة وهي حلقة يشد فيها الزمام وهو الرسن. 4 المرنق: المكدر. 5 نسغب: سغبًا وهو الجوع. 6 النوء: المطر. 7 نثرًا "ي": النثر الكلام العادي غير الموزون ونثرى: نستغني.

ومما فضل لي من صابات هؤلاء الفضلاء في مناهل التورية قولي: هويته أعجميًا فوق وجنته ... لامية عوذتها أحرف القسم في وصفها ألسن الأقلام قد نطقت ... وطال شرحي في لامية العجم وقولي: خال الحبيب يقول لي لما بدا ... من تحت عارضه كسر غامض أنا فارضيّ في الغرام بخده ... فغدا مقامي تحت ذيل العارض وقولي: عزمت على السلو لطول هجري ... فجاءتني عوارضه تعارض وكان العذر يقبل في سلوّي ... ولكن ما سلمت من العوارض وقولي: دويرة العارض عني حميت ... برشقة من جفنه مشتقة فاترك ملامي يا عذولي إنني ... قتلت بين دورة ورشقة وقولي: ولما رآني الشعر وهو مذيل ... وجانب ذاك الصدغ وهو مطرّف بدا بخمار من خمار بريقه ... فقلت لهم هذا الجناس المحرف وقولي: أقول لثغر الحب مت ولم أجد ... سبيلًا إلى برد الحشايا أخا الصفا فقال ارتشف من خمر ريقي نهلة ... ألم تره من برده قد تقرقفا1 وقولي: لما تعذر من أحب تعذر الصـ ... ـبر الجميل فلم أطق أن أصبرا قال العذول الصبر أعظم مسعد ... في العشق قلت أما تراه تعذرا وقوله، مع بديع الاقتباس: ناحت مطوقة الرياض وقد رأت ... تلوين دمعي بعد فرقة حبه لكن به لما سمحت تباخلت ... فغدت مطوقة بما بخلت به2 وقولي في مدح حماة: ذكرت أحبتي بالمرج يومًا ... فقوّت أدمعي نيران وهجي وبت أكابد الأحزان وحدي ... وكل الناس في هرج ومرج3

_ 1 تقرقف: برد كثيرًا. 2 في مطوقة بما بخلت به، تضمين لقوله تعالي: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 3/ 180] . 3 كابد: عانى. الهرج والمرج: كناية عن الفرح وعدم المبالاة.

وقولي فيه أيضًا: مرج حماة بنواعيره ... زاد على المقياس في روضته واغتاظ نمروذ دمشق لذا ... فقلت لا أفكر في غيظته1 وجلست يومًا في قطاف السفرجل على عين الغيضة الموصوفة بست الشام، مع جماعة من أهل العلم والأدب، فنظم كل منهم ما يليق بذلك المقام على قدر مقامه، فنظمت قولي: تقول ست الشام لما غازلت ... بعينها فأنعشت حياتي وانتقشت بمرجها وأبرزت ... نهدًا حلا لأنه نباتي خذني بغير ضرة فإنني ... بديعة في الحسن والصفات واستجلني عروسة يتيمة ... شامية وعش بلا حماة وقولي في وادي رشعين وعينه، بظاهر مدينة طرابلس: أرض وادي رشعين مفتوحة العيـ ... ـن لها نقطة على النيرين2 ما حللنا هناك إلا وقالت ... أجلسوهم على محاجر عيني وقولي بوادي المنافس، بظاهرها أيضًا: وادي المنافس من مغنى طرابلس ... بطيب أنفاسه أبدى نفائسه وكاد يلحق بالشقرا وأبلقها ... فلا تلوموا إذ أقوى منافسه3 وقولي برأس العين ببعلبك: ولما نزلنا بعلبك تفكهت ... عيوني وأذواقي وصلت على البين وطالبتها يومًا برؤية مرجها ... وخضرته قالت على الرأس والعين4 ومن أغزالي البديعة قولي: ماس في الروض وانثنى ... بخدود مورده فرأينا غصونه ... وهي خشب مسنده

_ 1 النمروذ: نوع من الأزهار. 2 النيرين: الشمس والقمر. 3 أقوى: ضعف وبلي. 4 على الرأس والعين: تعبير عن الاستجابة للطلب.

وقلت موريًا ومقتبسًا ومكتفيًا: قالوا وقد فرطت في تصبري ... وما برى بوصله سقاما اصبر عسى تسقى بماء ريقه ... قلت لهم يا حسرتا على ما1 وقولي: أرخت لنا ذوائبًا من شعرها ... عشرًا وفرق الفجر فيهم يسري فصرت بالفجر لها معوّذًا ... لما بدا بين ليال عشر2 وقولي: موريًا مع بديع التضمين: سرنا وليل شعره منسدل ... وقد غدا بنومنا مضفرا3 فقال صبح ثغره مبتسمًا ... عند الصباح يحمد القوم السرى4 وقولي: قف واستمع طربًا فليلي في الدجى ... باتت معانقتي ولكن في الكرى وجرى لدمعي رقصة بخيالها ... أتُرى درى هذا الرقيب بما جرى وقولي: كم صحت في ظلمة الليالي ... ويلاه من نومي المشرد والدمع في وجنتي ينادي ... أواه من شملي المبدد وقولي: يقول معذبي حسن تخير ... سواي فقلت قد عز اصطباري وكم في الناس من حسن ولكن ... عليك لشقوتي وقع اختياري وقولي: أرشفني ريقه وعانقني ... وخصره يلتوي من الدقه فصرت من خصره وريقته ... أهيم بين الفرات والرقه5 وقولي: أبصروا عند وداعي ... عقدها وهو مفرط لمتها في ذاك قالت ... برح الشوق وأفرط6

_ 1 يا حسرتا على ما: على ماء ريقها أو على ما أؤمل. 2 الفجر: سورة الفجر. معوّذًا: حاميًا من التعويذ وهو الاحتماء بآيات القرآن الكريم وبالطلاسم. 3 مضفرًا: بشكل ضفائر واحدتها ضفيرة وهي الجديلة من الشعر أو غيره. 4 السرى: السير ليلًا. 5 الرقة: مدينة سورية. 6 أفرط: زاد.

وقولي: سجدت جفوني هيبة لما بدا ... محراب حاجبه بغير حجاب الله أكبر وهو يغزو مهجتي ... حربًا ولم أخرج عن المحراب1 وقولي: طلبت منه قبلة فقال لي ... وقد بدا يشرع في الإعراض نسيت فعل سيف لحظي قلت لا ... يا قاتلي وكيف أنسى الماضي وقولي: قيل لي لما عرتني شدة ... وتناءى فرجٍ عني مده يا أخا الأشواق ماذا تبتغي ... قلت أبغي فرجًا من بعد شده وقولي: مذ جفاني ممرض القلب ولم ... ألق في الضعف وفي الكسر انجبارا قلت للعارض يا آسي إذا ... درت داري ممرض القلب فدارا وقولي: طلبت تقبيل من أحب وقد ... أنكرت في الخد نقطة حسنه فرق لي قلبه وقال إذا ... قبلت خدي لا تنكر الحسنه وقولي موريًا ومضمنًا: حثثت عزمي شوقًا إليكم ... فلم أطق مكثه بأرض وحيث لم أحظ بالتلاقي ... فغايتي أن ألوم حظي وقولي: جاء بصبح ثغره مبتسمًا ... يمشي بليل الشعر في دلال قلت له دمت لقلبي هكذا ... ما دامت الأيام والليالي وقولي مرتجلًا في جبهة دمشق، من دو بيت: لما ملأ الجبهة بالأنوار ... لمناه على ذلك خوف العار قال انصرفوا سئمت من بلدتكم ... والجبهة من منازل الأقمار وقولي: مذ أظهر ورده لنا ريحانه ... ناديت لتلك المقلة الكسلانه قد دب عذاره على وجنته ... قومي انتبهي قالت أنا نعسانه وقولي: أحببته متأدبًا ونظمت في ... حسن ابتدائي فيه نظم المرقص وأشار في حسن الختام أجبته ... حسن الختام يكون بعد تخلصي

_ 1 المحراب: مكان العبادة.

وقولي: يحاضرني بأبيات ولكن ... يعيرني إذا طال اجتماعي فإن أنشدت أشعار السلام ... يطارحني بأبيات الوداعِ "عي" وقولي: قلت للخال إذ بدا ... في نقا جيده السعيد فزت يا عبد قال لي ... أنا عبد لكل جيد وقولي: قال أراك الحمى تعوّض ... بغصن قدي إذا جفاكا فقلت من بعد قد حبي ... والله ما أشتهي أراكا وقولي: رمت يوم العيد منه وقفة ... ليرى من بعده حالي وضعفه فطر القلب وولى قائلًا ... يا معنى ما لعيد الفطر وقفه1 وقولي: قال نهد الحب صفني مذ غدا ... قاعدًا في الصدر بالتصدير يجهر قلت إذ برز في تحقيقه ... أنت بالتحقيق والله مصدر وقولي: أسياف لحظ قاتلي ... لما تعدت حدها وعربدت من سكرها ... قلت استحي فردّها2 وقال لي موريًا ... لا بد أن أحدها3 وقولي: عاتبته ودموعي غير جارية ... لأن دمعي من طول البكى نشفا فقال لم أر وكف الدمع قلت له ... حسيبك الله يا بدر الدجى وكفا4 وقولي: قالت وقد قبلتها في جيدها ... تصبو إلى غيري وتخلص من يدي فأجبت حين تقلدت بمدامعي ... يا هند خوضي في دمي وتقلدي5 وقولي: بنقطة الخال وطعم اللمى ... وخضرة الشارب يا عاتبي قد ملت للنقطة بعد التقى ... وقلت بالمشروب والشارب

_ 1 الوقفة: اليوم الذي يسبق عيد الأضحى وفيه يقف الحجيج بعرفة. 2 عربد: تكلم بكلام ماجن فاحش. 3 أحدها: أعاقبها والحد العقاب المعروف كحد السرقة: القطع، وحد الزنى الجلد إلخ.... 4 وكف الدمع: انصبابه. 5 خاض في دمه: قتله. تقلدي: البسي قلادة وهي العقد.

وقولي: أرداف من أهواه قد تثاقلت ... لما تجافى الشعر يوم البين بعد ذا وجنته تلوّنت ... وساقه والله ذو وجهين وقولي: برامة لي ظبي ... تخشى الأسود مرامه كم هام قلبي فيه ... بين العذيب ورامه وقولي: هويت غصنًا لأطيار القلوب على ... قوامه في رياض الوجد تغريد قالت لواحظه أنا نسود على ... بيض الظبا قلت أنتم أعين سودوا1 "د" وقولي: قلت له إن جفن مقلته ... يشبه سهمًا بجعبة رشقه2 خفت من الفتك رحت أملقه ... سابقني مدمعي جرى ملقه3 وقولي: في سويداء مقلة الحب نادى ... لحظه وهو يقنص الأسد صيدا4 لا تقولوا ما في السويدا رجال ... فأنا اليوم من رجال السويدا وقولي: بروحي أفتدي ظبيًا نفورًا ... يحق له بروحي أن يفدى جلا لصدا قليبي فرد يوم ... بوصل منه ثم جفا وصدا وقولي مورّيًا مضمنًا: ومذ كلمت جسمي سيوف لحاظها ... شكوت إليها قصتي وهي تبسم5 فلم أر بدرًا ضاحكًا قبل وجهها ... ولم تر قبلي ميتًا يتكلم وقولي: جاد النسيم على الربا ... بندى يديه وقال لي أنا ما أقصر عن ندى ... وكما علمت شمائلي6 وقولي: رأيت مع المنثور بعض وقاحة ... ولم أدر ما بين الغدير وبينه تلوّن منه ثم مد أصابعًا ... إلى وجهه قصدا وخضر عينه

_ 1 سودوا: كونوا سادة، تزعموا. 2 الجعبة: مكان وضع السهام. 3 ملق: كذب واحتال. ملقة: أملس. 4 قنص: صاد بغتة. 5 كلم: جرّح. 6 هذا البيت مأخوذ من بيت لعنترة بن شداد يفخر فيه بشربه الخمر فيقول: وإذا صحوت فما أقصر عن ندى وكما علمت شمائلي وتكرمي والندى: العطاء والكرم. والشمائل: الصفات الحسنة.

وقولي: حيا بها عاصرها في كأسها ... مشرقة باسمة كالثغر وقال هذي تحفة في عصرنا ... قلت اسقنيها يا إمام العصر وقولي: لما غدا حباب كأسي شاعرًا ... لنظم خمرياته يحرّر1 أوقفت ساقينا على نظامه ... فقال لي والله هذا جوهر وقولي: لما غدا راحي نحيلًا باليًا ... وكاد أن لم يك في الزجاج وجاز بالماء إلى بحرانه ... ورق قالوا صنه بالعلاج فجئته مستقصيًا أعراضه ... وجدته معتدل المزاج2 وقولي: في حب كأسي لامني ... من ليس يدري حالتي فقلت دعني إنني ... وجدت فيها راحتي وقولي مماجنًا: أعنابكم إن حرموا ماءها ... وحرفوا فيها على الشارب لا تحرموني التين إني امرؤ ... أعشقه بالقلب والقالب وقولي: أدخلت أيري فيه ... أصبت منه المقاتل فقلت كيف تراه ... فقال والله داخل وقولي: العلم ابن الكوير قال معي ... لطف وظرف حواهما الكرم وقامتي بانة مهفهفة ... فقلت لا بانة ولا علم وقولي: قالوا صفي الدين أشعاره ... ما للورى في طرقها ممشى وهكذا إنشاؤه مسكر ... قلت لهم والله ما أنشا وقولي: ديوان نظمي جاء وهو محرّر ... برقيق نظم لفظه يستعذب فإذا بدى لا تستقلوا حجمه ... وحياتكم فيه الكثير الطيب انتهى ما أوردته في باب التورية من كتاب الله وحديث نبيه -صلى الله عليه وسلم- وكلام أصحابه -رضي الله عنهم أجمعين- ومن نظم فحول العرب والمولدين، إلى أن ارتفع العلم الفاضلي وأوردت محاسنه، ومحاسن من مشى تحت علمه المحمدي، إلى أن اتصل هذا السند بأعيان أهل العصر. قلت ولولا الحياء من العصابة النباتية، وأنا منها، لعززت العلمين من الوداعي

_ 1 حرّر: كتب. 2 مستقصيًا: متتبعًا ومتبينًا. وأعراض المرض: مظاهره وعلاماته.

بثالث، فأوردت هنا من مطرب عطر مفرداته ما يغني عن المثاني والمثالث، فإنه أحد أئمة هذا المذهب، وإذا ذكرت التورية فهو عذيقها المرجب، وعلى كل تقدير ففرسان العلمين المشهورين الفاضلي والنباتي هم الذين أبرزوا عروس التورية من خدرها، وحققوا للناس من تساذج عن نقوش القاعدة وسفل عن علوّ قدرها، ولم أخل بذكر الشهاب محمود، وكان محمود الحشمة في ألفاظه على كل ناظم وناثر، إلا أن التورية كانت غير مذهبه، ووقوعها في نظمه ونثره من النوادر، وتمذهب بها القاضي شهاب الدين بن فضل الله، ولكن ما تفقه في هذا المذهب ولا حرره، ولا أبدر فيها بدر الدين بن حبيب، وكانت ليالي سطورها بنظمه غير مقمرة، ولهذا خدمها حذاق الأدب وحافظوا على الخدمة وثابروا وأنشدوا من رضي بالشعر الموزون: إذا كنت لا تدري سوى الوزن وحده ... فقل أنا وازن وما أنا شاعر1 قلت: ومما تخيرته من نظم القاضي شهاب الدين بن فضل الله -رحمه الله- من النكت التي وقعت له عفوًا من غير كد ولا تكلف، قوله: جاءوا بأنواع من الطيب لنا ... تحملها معشوقة ممشوقه2 قلت خذوا الطيب لكم جميعه ... بشرط أن لا تأخذوا المعشوقه ومما اخترته من نظم بدر الدين بن حبيب -رحمه الله تعالى- قوله: وجنته الحمراء لما اكتست ... خضرة أذناب الطواويس عابوا لفرط الحسن دينارها ... فقلت خلوه على كيسي قلت: وقد عنَّ لي أن أورد هنا نبذة من نظم من كانت التورية غير مذهبه، لأجعلها في مهالك الأشكال وموانع العقادة جل مطلبه، وما عليَّ ممن تأخر عصرًا أو تقدم، فإن الغرض أن يصير عقد التورية وهو بنظم من شعر بها منظم، وما خفي أن من حذاق الأدب من وقعت له التورية عفوًا، وصار العفو محلًا عند القدرة، ومنهم من نقب عنها وعسعس عليه ظلام التكليف، فلم يبرزها نيرة، كالشيخ صفي الدين، فإنها كانت غير مذهبه، وحاولوا مرارًا فأتى بها مغصوبة، ولم يبلغ من اقتناص شواردها بحبائل فكره مطلوبه، كقوله:

_ 1 وازن: هكذا في الأصل ونظنه من التحريف فالبيت غير قائم الوزن والأصح: وزّان: وهو الذي ينظم الشعر الموزون حسب التفعيلات. 2 ممشوقة: طويلة القوام.

وساق من بني الأتراك طفل ... آتيه به على جمع الرقاق1 أملكه قيادي وهو رقي ... وأفديه بعيني وهو ساقي2 قلت: لا شك أن مراده بالمعنى الواحد من التورية ساقي الراح، وهو ظاهر صحيح، وبالمعنى الآخر أن يكون هذا الساقي ساقًا للشيخ صفي الدين، وهو غير ممكن ولعمري إن هذا مسلك من ليس له في باب التورية مدخل، وهذه النكتة أبرزتها معلمة الطرفين، وأنا إذ ذاك مبتدئ لم أبلغ من البلاغة أشدي، ولا ثبت عند قضاة الأدب رشدي، بقولي موريًا ومضمنًا: يا حسن ساق يقول إن ذهبت ... مدامكم تكيفوا بأحداقي شمر عن ساقه لنا وسقى ... قامت حروب الهوى على ساق قلت: ومما عقده الشيخ صفي الدين، في هذا الباب، بيت بديعيته الذي نظمه شاهدًا على هذا النوع، وهو قوله في مدح النبي، صلى الله عليه وسلم: خير النبيين والبرهان متضح ... في الحجر عقلًا ونقلًا واضح اللقم3 قلت: ومن تواريه التي يستشهد بها على رفضه، ولا بد أن الله تعالى يقابله فيها على قبح سريرته وقلة أدبه، قوله: إذا شاهدت عيناك وجه معذبي ... وقد زارني بعد القطيعة والهجر رأيت بقلبي من تلقيه مرحبًا ... وسيف عليَّ في لحاظ أبي بكر وكذلك الشيخ شمس الدين أبو عبد الله محمد بن جابر الأندلسي، ناظم البديعية، كان عن نظم التورية بمعزل، ولم ترض أن تنزل من أبياته بمنزل، وبيت نظمه في بديعيته، شاهدًا على هذا النوع، في غاية العقادة والسفالة، وهو قوله: لا يرفع العين للراجين يمنحهم ... بل يخفض الرأس قولًا هاك فاحتكم وهذه البديعية غالبها سافل على هذا النمط، والتورية تجل عن أن تكون من مخدرات هذا البيت. ولكن أورد له الشيخ أبو جعفر، في شرحه الذي كتبه على بديعيته، ما هو منقول في هذا الباب، وهو قوله:

_ 1 أتيه: أفتخر. 2 ساقي: الساق المعروفة وساقي الخمر. 3 اللقم: الطريق والنهج الواضح.

وقفت للوداع زينب لما ... رحل الركب والمدامع تسكب مسحت بالبنان دمعي وحلو ... سكب دمعي على أصابع زينب قلت: ورتبة الشيخ صفي الدين بالنسبة إلى ابن جابر معلوم أنها عالية، ولكن التورية ما دخلت إلى بيت من بيوته إلا خرجت غير راضية. ومن التواري التي وقعت لناظمها عفوًا، بل سحرًا من غير كد، قول القائل: قاسوك بالغصن في التثني ... قياس جهل بلا انتصاف فذاك غصن الخلاف يدعى ... وأنت غصن بلا خلاف1 ومن ذلك قول جلال الدين شاعر ماردين قديمًا: ويوم برد يد أنفاسه ... تخمس الأوجه من قرصها2 يوم تودّ الشمس من برده ... لجرت النار إلى قرصها ومثله قوله شرف الدين بن منقذ: ولرب ليل تاه فيه نجمه ... وقطعته سهرًا فطال وعسعسا3 وسألته عن صبحه فأجابني ... لو كان في قيد الحياة تنفسا ومثله قول ابن نبيه، وكانت التورية غير مذهبه: تعلمت علم الكيمياء بحبه ... غزال بجسمي ما بعينيه من سقم فصعدت أنفاسي وقطرت أدمعي ... فصح بذا التدبير تصفية الجسم ومثله قول ظهير الدين بن البارزي: يا لحية الحب التي ... طال لها تلفتي هل أنت مسك الترك أو ... هل أنت مسك تبت ومثله قول أمين الدين السليماني: أضيف الدجى معنى إلى لون شعره ... فطال ولولا ذاك ما خص بالجر وحاجبه نون الوقاية ما وقت ... على شرطها فعل الجفون من الكسر

_ 1 الخلاف: الصفصاف. وبلا خلاف: بلا شك. 2 تخمش: تلطم وتخدش. القرص: شدة البرد. 3 تاه النجم: غاب. عسعس الليل: انتشر.

ومثله قول محاسن الشواء: ولما أتاني العاذلون عدمتهم ... وما منهم إلا للحمى قارض وقد بهتوا لما رأوني ساهيًا ... وقالوا به عين فقلت وعارض2 ومثله قول سعد الدين الفارقي: قف بي على نجد فإن قبض الهوى ... روحي فطالب خد ليلى بالدم وإذا دجى ليل الفراق فناده ... يا كافرًا أحللت قتل المسلم ومثله قول شهاب الدين بن أبي الحوف: أقول لعقد أذهل الطرف حسنه ... على جيد خود وصلها كل مقصودي3 أخذت نظامًا راق معنى فقال لي ... وما زلت في عمري أدور على الجيد ومثله قول إبراهيم بن عبد الله الغرناطي: يا رب كأس لم تشج شمولها ... فأعجب لها جسمًا بغير مزاج لما رأينا السحر من أشكالها ... جملًا نسبناه إلى الزجاج5 ومثله قول مجير الدين بن حبان الشاطبي: تؤمون الحجاز وما علمتم ... بأن القلب بيتكم العتيق وألفاظي العذيب وأضلعي المنـ ... ـحنى ودموع مقلتي العقيق6 ومثله قول الشريف محمد بن قاضي الجماعة بغرناطه، وهو: حدائق أنبتت فيها الغوادي ... ضروب النور رائقه البهاء فما يبدو بها النعمان إلا ... نسبناه إلى ماء السماء7

_ 1 قارض: جائز قاطع من قرض إذا جاز وقطع. 2 العين: صيبة العين. والعارض: المس. 3 الجيد: العنق. الخود: القناة الحسناء. 4 تشج الكأس: يمزج ما فيها من الخمرة بالماء لكسر سورتها. 5 الزجاج: أحد النحويين العرب. 6 العذيب والمنحنى والعقيق: أودية بظاهر المدينة المنورة. 7 النعمان: الزهر المعروف بشقائق النعمان، والنعمان بن المنذر بن ماء السماء، الملك.

ومنه قول لسان الدين بن الخطيب: جلس المولى لتسليم الورى ... ولفضل البرد في الجوّ احتكام فإذا ما سألوا عن يومنا ... قلت هذا اليوم برد وسلام ومنه قول الشيخ شمس الدين الأدفوي: كم للنسيم على الربا من نعمة ... وفضيلة بين الورى لن تجحدا1 ما زارها وشكت إليه فاقة ... إلا وهز لها الشمائل بالندى2 ومثله، في الحسن واللطف، قول الشيخ موفق الدين الحكيم: لله أيامنا والشمل مجتمع ... نظمًا به خاطر التفريق ما شعرا وا لهف قلبي على عيش ظفرت به ... قطعت مجموعه المختار مختصرا ومنه قول عبد العزيز الآمدي: إن الذي في وجهه جنة ... حفت بمكروه من العذل مقلته في وسط قلبي غدت ... أرملة تأكل بالغزل ومنه قول القائل وأجاد: ويد الشمال عشية مذ أرعشت ... دلت على ضعف النسيم بخطها كتبت سقيمًا في صحيفة جدول ... فيد الغمامة صححته بنقطها ومثله، في الحسن، قول علاء الدين بن البطريق ناظر الجيش ببغداد: دار السراج بديعة ... فيها تصاوير بمكنه تحكي كتاب كليلة ... فمتى أراها وهي دمنه3 ويعجبني في هذا الباب قول القائل في حمام: إن حمامك التي نحن فيها ... أي ماء لها وأية نار قد نزلنا فيها على ابن معين ... وروينا عنه صحيح البخارِ "ي"

_ 1 جحد: أنكر. 2 الفاقة: الحاجة. الشمائل: المكرمات. الندى: العطاء والكرم. 3 دمنة: أخو كليلة الثعلب الذي ورد اسمه في عنوان كتاب لابن المقفع "كليلة ودمنة" والدمنة آثار الدار أو الخربة.

ومن المخترعات في هذا الباب، قول الشيخ شمس الدين الواسطي يهجو عوادًا وزامرًا: شبهت ذا العوّاد والزامر إذ ... ضاقت علينا بهم المناهج بعقرب يضرب وهو ساكت ... وأرقم بنفخ وهو خارج1 ويعجبني قوله، من دو بيت: إن ضرمني بجذوة التذكار ... حبي وبرى عظمي شكرت الباري فالعاذل في هواه لا عقل له ... ما أبلد عاذلي وأذكى ناري ومنه قول القاضي علاء الدين بن الجويني صاحب الديوان ببغداد: يا طيب مبيتنا بواد السمر ... في بهجة ليلة بضوء القمر وافى بفراقنا نسيم سحرًا ... ما أبرد ما جاء نسيم السحر ومن الغايات في هذا الباب، قول الشيخ صدر الدين بن الوكيل: كم قال معاطفي حكتها الأسل ... والبيض سرقن ما حوته المقل2 والآن أوامري عليهم حكمت ... البيض تُحدُّ والقنا تعتقل3 ومثله قوله: يا غاية منيتي ويا معشوقي ... من بعدك لم أمل إلى مخلوق يا خير نديم كان لو يؤنسني ... من بعدك صليت على الراووق4 ويعجبني، من نظم المواليا في هذا الباب، قول القائل: حبي ومحبوبتي مذ بان يوم البين ... زاروا عشا ليلة الاثنين قبل الحين فصرت أنظر إلى زينه وألمح زين ... وأقول يا قلب ما أحلى ليلة الاثنين ومثله، في اللطف، قول الآخر: سمعتها وهي داخل دارها في الصحن ... تنشد رمل صحنت قلبي المعنى صحن5 يا ليتها مع تغنيها وطيب اللحن ... ترفع أجر ودع يدخل على اللحن6

_ 1 الأرقم: ذكر الحية. 2 الأسل: الرماح. والبيض: الخوذ. 3 تحدّ: تقاصص بالحد وهو قصاص محدد. 4 الراووق: إناء الخمرة. 5 صحنت: ضربت. 6 اللحن: الموسيقى والخطأ النحوي.

ومثله قول الآخر: قالت لها أختها قصدي يسمعنا ... ما النحو قالت لها نحن بأجمعنا للرفع والنصب أنا وأنتِ ومن معنا ... للجر والزوج حرف جاء للمعنى ومنه قوله: ستي الكبيرة لها الخدام والحرمه ... تحلف على النيك بالمصحف وبالختمه جاها الطواشي أفشخت لو ناك من كلمه ... راحت يمين القواقية على قرمه ومثله في اللطف قول القائل: يا منيتي زدت لهواتي تنشفها ... واحرمتني الشفة الحمراء أرشفها تحب بيضا وأجفانك تحشفها ... بالله أنظر ظلاماتي وكشفها ويعجبني قول الشيخ حامد الحكاك: ثار الغرام الذي في مهجتي خامد ... وسال دمعي الذي كنت أعهده جامد وأنا ببغداد والمحبوب في آمد ... مصيبتي عظمت وأنا لها حامد وقد طال الشرح، وأوردت في باب التورية من المحاسن ما يكفي، قديمًا وحديثًا، وأوردت بعد ذلك ما وقع فيها من النظم، عفوًا وتكليفًا. وقد تعين على إيراد ما وعدت به في ديباجة هذا الباب، من فقه التورية والكلام على أنواعها وأقسامها، فإن القول على اختلاف عبارات الحدود قد تقدم، والكل راجع إلى مقصود واحد، إذ القصد من لفظ التورية أن يكون مشتركًا بين معنيين أحدهما قريب ودلالة اللفظ عليه ظاهرة، والآخر بعيد ودلالة اللفظ عليه خفية، فيريد المتكلم المعنى البعيد، ويوري عنه بالقريب، فيوهم السامع أول وهلة أنه يريد القريب وليس كذلك، ولهذا سمي هذا النوع إيهامًا. أنواع التورية: والتورية أربعة أنواع: مجردة، ومرشحة، ومبينة، ومهيأة. النوع الأول التورية المجردة: وهي التي لم يذكر فيها لازم من لوازم المورى به، وهو المعنى القريب، ولا من لوازم المورى عنه، وهو المعنى البعيد. وأعظم أمثلة هذا النوع قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [ط: 5/ 20] ؛ لأن الاستواء على معنيين: أحدهما الاستقرار في المكان، وهو المعنى القريب، والثاني الاستيلاء والملك، وهو المعنى

_ 1 طه، 20/ 5.

البعيد المورى عنه، وهو المراد؛ لأن الحق سبحانه منزه عن المعنى الأول، ولم يذكر من لوازم هذا شيئًا، ولا من لوازم ذاك، فالتورية مجردة بهذا الاعتبار. ومنه قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في خروجه إلى بدر، وقد قيل له: ممن أنتم؟ فلم يرد أن يعلم السائل، فقال: من ماء، وأراد أنّا مخلوقون من ماء، فورى عنه بقبيلة من العرب يقال لها ماء. ومن ذلك قول أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- في الهجرة وقد سئل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فقيل من هذا؟ فقال هذا هاد يهديني. أراد أبو بكر هاديًا يهديني إلى الإسلام، فورى عنه بهادي الطريق الذي هو الدليل في السفر. ومنه قول القاضي عياض، في سنة كان فيها شهر كانون معتدلًا فأزهرت فيه الأرض: كأن نيسان أهدى من ملابسه ... لشهر كانون أنواعًا من الحلل أو الغزالة من طول المدى خرفت ... فما تفرق بين الجدي والحمل1 فالتورية هنا مجردة، والشاهد في الغزالة والجدي والحمل، فإن الناظم لم يذكر قبل الغزالة ولا بعدها شيئًا من لوازم المورى به، كالأوصاف المختصة بالغزالة الوحشية، من طول العنق وسرعة الالتفات وسرعة النفرة وسواد العين، ولا من أوصاف المورى عنه، كالأوصاف المختصة بالغزالة الشمسية، من الإشراق والسمو والطلوع والغروب. فإن قيل إن الغزالة قد رشحت بذكر الجدي والحمل، وهما مرشحان بالغزالة، فالجواب إن لازم التورية من شرطه أن يكون لفظه غير مشترك، والغزالة هنا مشتركة وكذلك الجدي والحمل. ومنه قول القاضي محيي الدين بن زيلاق، وقد أهدى لصاحب الموصل حملًا: يا أيها المولى الذي ... ببابه كل أمل لو لم تكن بدرًا لما ... أهدى لك الثور حمل فالتورية وقعت بين البدر والثور والحمل، ولم يذكر لواحد منها لازمًا، فالبدر مشترك بين اسم الممدوح وبدر السماء، والثور مشترك بين الحيوان والبرج في السماء، وكذلك الحمل. ومنه قول بعضهم، من كان وكان: لو سنبله خلف ظهرو ... ناظر إليها المشتري2 ولو ذنب ما يقارن ... حتى يرى الميزان3

_ 1 الغزالة: الشمس والحيوان المعروف. خرفت: فقدت قدرتها على التفكير والتمييز بين الأشياء. الجدي والحمل: منزلتين من منازل الشمس والمدارين المعروفين وحيوانين معروفين. 2 سنبلة: الشمس في منزلة تدعى السنبلة. المشتري: الكوكب المعروف. 3 ذنب: مذنب وهو مجموعة من الكواكب. الميزان: مجموعة من الكواكب.

ومنه قوله القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر يصف واديًا: وبطحاء من واد يروقك حسنه ... ولا سيما إن جاد غيث مبكر1 به الفضل يبدو والربيع وكم غدا ... به العيش يحيى وهو لا شك جعفر2 فالتورية وقعت هنا في الفضل والربيع ويحيى وجعفر، والاشتراك في كل من الأربعة ظاهر. النوع الثاني: التورية المرشحة: وهي التي يذكر فيها لازم المورى به، سميت بذلك لتقويتها بذكر لازم المورى به، ثم تارة يذكر اللازم قبل لفظ التورية، وتارة بعده، فهي بهذا الاعتبار قسمان: فالقسم الأول منها، هو ما ذكر لازمة قبل لفظ التورية، وأعظم أمثلته قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} 3 فإن قوله بأيد يحتمل الجارحة، وهذا هو المعنى القريب المورى به، وقد ذكر من لوازمه على جهة الترشيح، البنيان، ويحتمل القوة وعظمة الخالق، وهذا المعنى البعيد المورى عنه وهو المراد، فإن الله سبحانه منزه عن المعنى الأول. ومنه قول يحيى بن منصور من شعراء الحماسة: فلما نأت عنّا العشيرة كلها ... أنخنا فخالفنا السيوف على الدهر فما أسلمتنا عند يوم كريهة ... ولا نحن أغضينا الجفون على وقر4 الشاهد في الجفون فإنها تحتمل جفون العين، وهذا هو المعنى القريب المورى به، وقد تقدم لازمًا من لوازمه على جهة الترشيح، وهو الإغضاء؛ لأنه من لوازم العين، وتحتمل أن تكون جفون السيوف أي أغمادها، وهذا هو المعنى البعيد المورى عنه، وهو مراد الناظم. ومن ألطف ما وقع في هذا القسم قول شمس الدين الحكيم بن دانيال الكحال: يا سائلي عن حرفتي في الورى ... وصنعتي فيهم وإفلاسي ما حال من درهم إنفاقه ... يأخذه من أعين الناس الشاهد هنا، في أعين الناس، فإنها تحتمل الحسد وضيق العين، وهو المعنى

_ 1 البطحاء: الأرض المنبسطة. جاد الغيث: المطر إذا تساقط. 2 الفضل والربيع ويحيى وجعفر: من البرامكة والزيادة وفصل من فصول السنة، ويعيش والنهر. 3 الذاريات: 51/ 47. 4 الوقر: الذل.

القريب المورى به، وقد تقدم لازمه على جهة الترشيح، وهو درهم الإنفاق لأنه من لوازم الحسد، ويحتمل العيون التي يلاطفها بالكحل، وهذا هو المعنى المورى عنه، وهو مراد الناظم الكاحل. انتهى القسم الأول من التورية المرشحة، والقسم الثاني منها، هو ما ذكر لازمه بعد لفظ التورية، ومن أمثلته اللطيفة قول الشاعر: مذ همت من وجدي في خالها ... ولم أصل منه إلى اللثم قالت قفوا واستمعوا ما جرى ... خالي قد هام بي عمي الشاهد في الخال، فإنه يحتمل خال النسب، وهذا هو المعنى القريب المورى به، وقد ذكر لازمه بعد لفظ التورية على جهة الترشيح وهو العم. ومنه قول الشاعر: أقلعت عن رشف الطلا ... واللثم في ثغر الحبب1 وقلت هذي راحة ... تسوق للقلب التعب الشاهد هنا في الراحة التي هي ضد التعب، وقد ذكر التعب بعدها على جهة الترشيح لها، وهذا هو المعنى القريب المورى به، ويحتمل الراحة التي هي من أسماء الخمر، وهذا هو المعنى البعيد المورى عنه، وهو مراد الناظم. النوع الثالث: التورية المبينة: وهي ما ذكر فيها لازم المورى عنه، قبل لفظ التورية أو بعده، فهي بهذا الاعتبار أيضًا قسمان: فالقسم الأول: هو ما ذكر لازمه من قبل، واستشهدوا عليه بقول البحتري: وراء تسدية الوشاح ملية ... بالحسن تملح في القلوب وتعذب الشاهد هنا في تملح، فإنه يحتمل أن يكون من الملوحة التي هي ضد العذوبة، وهذا هو المعنى القريب المورى به، ويحتمل أن يكون من الملاحة التي هي عبارة عن الحسن، وهذا هو المعنى البعيد المورى عنه، وهو مراد الناظم، وقد تقدم من لوازمه على جهة التبيين ملية بالحسن. قلت: هذا الشاهد الذي استشهدوا به من نظم البحتري فيه نظر، ولكن يأتي

_ 1 أقلع عن العادة: تركها. الرشف: الشرب على مهل. الطلا: الخمرة.

الكلام عليه في موضعه. ومن أحسن الشواهد على هذا القسم قول الشيخ شرف الدين بن عبد العزيز شيخ شيوخ حماة، رحمه الله تعالى: قالوا أما في جلق نزهة ... تنسيك من أنت به مغرى يا عاذلي دونك من لحظه ... سهمًا ومن عارضه سطرا الشاهد هنا في موضعين، وهما: السهم وسطرا، فإن المعنى البعيد هما الموضعان المشهوران بمتنزهات دمشق، وذكر النزهة بجلق قبلهما هو المبين لهما، وأما المعنى القريب فسهم اللحظ وسطر العارض. القسم الثاني من التورية المبينة: هو الذي يذكر فيه لازم المورى عنه بعد لفظ التورية، ومن أمثلته البديعة قول الشاعر: أرى ذنب السرحان في الأفق ساطعًا ... فهل ممكن أن الغزالة تطلع1 الشاهد هنا في موضعين2: أحدهما ذنب السرحان، فإنه يحتمل أول ضوء الفجر، وهذا هو المعنى البعيد المورّى عنه وهو مراد الناظم، وقد بينه بذكر لازمه بعده بقوله ساطعًا، ويحتمل ذنب الحيوان المعروف، وهذا هو المعنى القريب المورّى به. واستشهدوا على هذا القسم بقول ابن سناء الملك، وهو: أما والله لولا خوف سخطك ... لهان عليَّ ما ألقى برهطك ملكت الخافقين فتهت عجبًا ... وليس هما سوى قلبي وقرطك الشاهد هنا في: الخافقين، فإنه يحتمل أن يريد قلبه وقرط محبوبه، وهذا هو المعنى البعيد المورى عنه وهو مراد الناظم، وقد بينه بالنص عليه فإنه صرح بعد الخافقين بذكر القلب والقرط، ويحتمل أن يريد ملك المشرق والمغرب وهذا هو المعنى القريب المورى به. النوع الرابع: التورية المهيأة: وهي التي لا تقع فيها التورية ولا تتهيأ إلا باللفظ الذي قبلها، أو باللفظ الذي بعدها، أو تكون التورية في لفظين لولا كل منهما لما تهيأت في الآخر. فالمهيأة، بهذا الاعتبار، ثلاثة أقسام: القسم الأول من التورية المهيأة: وهو

_ 1 السرحان: الذئب والفجر. 2 يبدو أن ابن حجة نسي أن يذكر الموضع الثاني من الشاهد وهو قول الشاعر: الغزالة: التي يحتمل أن تكون ذلك الحيوان المعروف التي تشبه الفتاة الحسناء كما يحتمل أن تكون الشمس.

الذي تتهيأ فيه التورية من قبل، وقد استشهدوا على ذلك، بقول ابن سناء الملك يمدح الملك المظفر صاحب حماة: وسيرك فينا يسرة عمرية ... فروحت عن قلب وأفرجت عن كرب1 وأظهرت فينا من سميك سنة ... فأظهرت ذاك الفرض من ذلك الندب الشاهد هنا في الفرض والندب، وهما يحتملان أن يكونا من الأحكام الشرعية، وهذا هو المعنى القريب المورى به، ويحتمل أن يكون الفرض بمعنى العطاء، والندب صفة الرجل السريع في قضاء الحوائج الماضي في الأمور، وهذا هو المعنى البعيد المورى عنه، ولولا ذكر السنة لما تهيأت التورية فيهما، ولا فهم من الفرض والندب الحكمان الشرعيان اللذان صحت بهما التورية. القسم الثاني من التورية المهيأة: وهو الذي تتهيأ فيه التورية بلفظة من بعد، ومن أمثلته نثرًا قول الإمام على بن أبي طالب -كرم الله وجهه- في الأشعث بن قيس: "إنه كان يحول الشمال باليمين". فالشمال يحتمل أن يكون جمع شملة، وهذا هو المعنى البعيد المورى عنه، ويحتمل أن يراد بها الشمال التي هي إحدى اليدين، وهذا هو المعنى القريب المورى به، ولولا ذكر اليمين بعد الشمال لما تنبه السامع لمعنى اليد. ومنه نظمًا قول الشاعر: لولا التطير بالخلاف وأنهم ... قالوا مريض لا يعود مريضا لقضيت نحبًا في جنابك خدمة ... لأكون مندوبًا قضى مفروضا2 فالمندوب هنا يحتمل الميت الذي يبكى عليه، وهذا هو المعنى البعيد المورى عنه وهو المراد، ويحتمل أن يكون أحد الأكام الشرعية، وهو المعنى القريب المورى به، ولولا ذكر المفروض بعده لم يتنبه السامع لمعنى المندوب، ولكنه لما ذكر تهيأت التورية بذكره. ومثله قول أبي الحسين الجزار: يا عذولي دعني من العذل إن ... النصح في مذهب الهوى تحريض مت لما نأى فها أنا مندو ... ب فراق وحبه مفروض الكلام على هذا الشاهد كالكلام على الذي قبله.

_ 1 روح عن القلب: فرحه من بعد حزن. الكرب: الشدة والهم. 2 النحب: النحيب وهو أشد البكاء والعمر أو المدة منه.

القسم الثالث من التورية المهيأة: وهو الذي تقع التورية فيه في لفظين، لولا كل منهما لما تهيأت التورية في الآخر، واستشهدوا على ذلك بقول عمر بن أبي ربيعة المخزومي، وهو: أيها المنكح الثريا سهيلًا ... عمرك الله كيف يلتقيان هي شامية إذا ما استقلت ... وسهيل إذا استقل يماني الشاهد، في البيت الأول، في الثريا وسهيل، فإن الثريا يحتمل أن يكون أراد بها بنت على بن عبد الله بن الحرث بن أمية الأصغر، وهذا هو المعنى البعيد المورى عنه، وهو المراد، والقريب ثريا السماء، وهذا هو المعنى القريب المورى به، وسهيل يحتمل أيضًا سهيل بن عبد الرحمن بن عوف، وقيل كان رجلًا مشهورًا من اليمن، وهذا هو المعنى البعيد المورى عنه، ويحتمل النجم المعروف بسهيل، وهذا هو المعنى القريب المورى به، ولولا ذكر الثريا التي هي النجم لم يتنبه السامع لسهيل، وكل واحد منهما صالح للتورية. والتورية هنا، لا تصلح أن تكون مرشحة ولا مبينة؛ لأن الترشيح والتبيين لا يكون كل منهما إلا بلازم خاص، والفرق بين اللفظ الذي تتهيأ به التورية واللفظ الذي تترشح به واللفظ الذي تتبين به، أن اللفظ الذي تقع به التورية مهيأة، لو لم يذكر لما تهيأت التورية أصلًا، واللفظ المرشح والمبين إنما هما مقوّيان للتورية، فلو لم يذكرا لكانت التورية موجودة. وسبب نظم هذين البيتين أن سهيلًا المذكور تزوَّج الثريا المذكورة، وكان بينهما بون بعيد في الخلق، فإن الثريا كانت مشهورة في زمانها بالجمال، وسهيل بالعكس، وهذا مراد الناظم بقوله: عمرك الله كيف يلتقيان. وأيضًا هي شامية الدار، وسهيل يماني. انتهى الكلام على التورية المهيأة وهي آخر أنواع التورية. وهنا تنبيه فيه فائدة: وهو أن مشايخ هذا العلم قالوا: ليس كل لفظ مشترك بين معنيين تتصور فيه التورية، كاللغات التي تدور على الألسنة، وإنما تتصور حيث يكون المعنيان ظاهرين، إلا أن أحدهما أسبق إلى الفهم من الآخر. وقد عنَّ لي أن أختم باب التورية بفائدة تكون مسكًا لختامها وبدرًا لتمامها، وهي أن بعض علماء هذا الفن قالوا، إن التورية، إذا جاءت بلازمين فتكافآ ولم يترجح أحدهما على الآخر، فكأنهما لم يذكرا وصار المعنى القريب والمعنى البعيد بذلك في درجة

واحدة، وتلحق هذه التورية بالمجردة وتعد فيها قسمًا ثانيًا، وتصير مجردة بهذا الاعتبار. واستشهدوا على ذلك بقول الشاعر: غدوت مفكرًا في سرّ أفق ... أرانا العلم من بعد الجهاله فما طويت له شبك الدراري ... إلى أن أظفرته بالغزاله وقالوا: إن الشبك من لوازم الغزالة الوحشية، والدراري من لوازم الغزالة الشمسية. قلت: أما قوله في تقريره: إن اللازمين إذا تكافآ ولم يترجح أحدهما على الآخر تصير التورية كالمجردة، فقريب. وأما الشاهد ففيه نظر، فإنه صدر بقوله: غدوت مفكرًا في سرّ أفق فالتفكر في سرّ هذا الأفق الذي أراه العلم من بعد الجهالة؛ لازم خاص يرجح جانب الغزالة الشمسية، وأما الشبك فاستعارة مرشح بالحسن لنجوم الدراري، وهي أيضًا مما يرشح جانب الشمس عند طيها، الذي أراد به الناظم غيابها، ولو كانت الشمس مجردة من الدراري، ربما كان للغزالة الوحشية بعض مقاربة، وعين الشمس هنا ما تغطى على الترجيح، والله أعلم. واستشهدوا أيضًا على هذا بقول مجير الدين بن تميم: وليلة بت أسقى في غياهبها ... راحًا تسل شبابي من يد الهرم1 ما زلت أشربها حتى نظرت إلى ... غزالة الصبح ترعى نرجس الظلم وقالوا أيضًا: إن الصبح من لوازم الغزالة الشمسية، والرعي من لوازم الغزالة الوحشية. قلت: أما الصبح فمن لوازم الغزالة الشمسية، كما قالوا، وأما رعي نرجس الظلم فليس من لوازم الغزالة الوحشية، وإنما هو استعارة مرشحة بالحسن للنجوم، وهي مثل استعارة الشباك والدراري، والغزالة الوحشية ليس لها هنا مرعى، فإنها أجنبية من رعي نرجس الظلم الذي هو عبارة عن النجوم، والله أعلم. وقد تقدم قولي على الشاهد الذي أوردوه للبحتري، في التورية المبينة، بذكر لازم المورى عنه من قبل وقلت: فيه نظر، وهو قوله: ووراء تسدية الوشاح ملية ... بالحسن تملح في القلب وتعذب هذا الشاهد تعارض فيه اللازمان وتكافآ، وهو أقرب إلى المجردة، وما ذاك إلا أن الشاهد في قوله: تملح، يحتمل أن يكون من الملوحة، ولازمه تعذب، وهو المعنى.

_ 1 الغياهب: الظلمات. الراح: الخمرة. سل: سحب بسرعة.

القريب، ويحتمل أن يكون من الملاحة، وهذا هو المعنى البعيد المورى عنه، ولازمه ملية بالحسن، وقد تعارض اللازمان، وهذا هو الشاهد على هذا القسم الذي اختاروه أن يكون قسمًا ثانيًا للتورية المجردة، وأقرب منه قول الشيخ زين الدين بن الوردي: قالت إذا كنت تهوى ... أنسي وتخشى نفوري صد ورد خدي وإلا ... أجور ناديت جوري ومثله قول الشيخ جمال الدين بن نباتة: حملت خاتم فيه فصًّا أزرقا ... من كثرة اللثم الذي لم أحصه لولاه ما علم الرقيب فيا له ... من خاتم نقل الحديث بفصه والأشباه والنظائر من هذا القسم كثير، والغرض أن اللازمين، إذا تعارضا وتكافآ في التورية، يلحق هذا القسم بالتورية المجردة. انتهى الكلام على التورية، وقد قدمت من نظم الجماعة الذين مشوا تحت العلمين المشهورين ما هو أشهر من الأعلام، فالمتأمل إذا جمع بين طرفي هذا الباب، وعرف الأنواع والأقسام، وضع كل شيء في محله فإني كشفت له اللثام عن وجه التورية، وأما أبيات البديعيات فقد تقدم ذكرها، والله أعلم بالصواب.

ذكر المشاكلة

ذكر المشاكلة: ن اعتدى فبعدوان يشاكله ... لحكمة هو فيها خير منتقم المشاكلة: في اللغة هي المماثلة، والذي تحرر في المصطلح، عند علماء هذا الفن، أن المشاكلة هي ذكر الشيء بغير لفظه، لوقوعه في صحبته، كقوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} 1، فالجزاء عن السيئة في الحقيقة، غير سيئة، والأصل: وجزاء سيئة عقوبة مثلها، ومثله قوله تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} 2 والأصل: تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما عندك، فإن الحق، تعالى وتقدس، لا يستعمل في حقه لفظ النفس، إلا أنها استعملت هنا مشاكلة لما تقدم من لفظ النفس، ومنه قوله تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} 3 والأصل: أخذهم بمكرهم، ومنه قوله تعالي: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} 4 أي: فعاقبوه، فعدل عن هذا لأجل المشاكلة اللفظية. وفي الحديث، قوله صلى الله عليه وسلم: "فإن الله لا يمل حتى تملوا". الأصل: فإن الله لا يقطع عنكم فضله حتى تملوا عن مسألته، فوضع لا يمل موضع لا يقطع الثواب، على جهة المشاكلة، وهو مما وقع فيه لفظ المشاكلة أولًا. ومنه قول عمرو بن كلثوم في معلقته: ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا

_ 1 الشورى: 42/ 40. 2 المائدة: 5/ 116. 3 آل عمران: 3/ 54. 4 البقرة: 2/ 194.

أي فنجازيه على جهله، فجعل لفظة نجهل موضع فنجازيه، لأجل المشاكلة. ومثله قول الشاعر، وتلطف ما شاء: قالو اقترح شيئًا نجد لك طبخه ... قلت اطبخوا لي جبة وقميصا أراد خيطوا، فذكره بلفظ اطبحوا، لوقوعه في صحبة طبخه. قلت: قد تقرر أن هذا النوع، أعني المشاكلة، اللفظية، أن يأتي المتكلم في كلامه باسم من الأسماء المشتركة في موضعين، فتشاكل إحدى المشاكلتين اللفظيتين الأخرى في الخط واللفظ ومفهومها مختلف. ومن إنشادات التبريزي في هذا الباب، قول أبي سعيد المخزومي: حدق الآجال آجال ... والهوى للمرء قتال فلفظة الآجال الأولى: أسراب البقر الوحشية، والثانية: منتهى الأعمار، وبينهما مشاكلة في اللفظ والخط. قال الشيخ زكي الدين بن أبي الأصبع، في كتابه المسمى: "بتحرير التحبير"، هذا الشاهد وأمثاله داخل في باب التجنيس. قلت: قول الشيخ زكي الدين ظاهر ليس في صحته سقم، وهذا البيت الذي أنشده التبريزي من أحسن الشواهد على الجناس التام، ولو اعتمد البديعيون على المشاكلة المعنوية لخلصوا من هذا الاعتراض. وعلى كل تقدير، فالمعارضة تعدّت حكم الالتزام في نظم هذا النوع، أعني المشاكلة اللفظية. وبيت الشيخ صفي الدين في بديعيته، على هذا النوع، قوله عن النبي، صلى الله عليه وسلم: يجزي إساءة باغيهم بسيئة ... ولم يكن عاديًا منهم على إرم1 وبيت العميان: سقاهم الغيث ماء إذ سقى ذهبًا ... فغير كفيه إن أمحلت لا تشم2 وبيت الشيخ عز الدين: يجزي بسيئة للضد سيئة ... معنى مشاكلة من خير منتقم وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي، صلى الله عليه وسلم: من اعتدى فبعدوان يشاكله ... لحكمة هو فيها خير منتقم

_ 1 إرم: مدينة قوم عاد الذين ورد ذكرهم في القرآن الكريم في قوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} [الفجر: 89/ 7] . 2 شام: طلب.

ذكر الجمع مع التقسيم

ذكر الجمع مع التقسيم: مع الأعادي بتقسيم يفرّقه ... فالحي للأسر والأموات للضرم1 هذا النوع، أعني الجمع مع التقسيم، هو أن يجمع الناظم بين شيئين فأكثر، ثم قسم. كقول أبي الطيب المتنبي: الدهر معتذر والسيف منتصر ... وأرضهم لك مصطاف ومرتبع للسبي ما نكحوا والقتل ما ولدوا ... والنهب ما جمعوا والنار ما زرعوا وقد يتقدم التقسيم ويتأخر، كقول حسان بن ثابت: قوم إذا حاربوا ضروا عدوهم ... أو حالوا النفع في أشياعهم نفعوا2 سجية تلك منهم غير محدثة ... إن الخلائق فاعلم شرها البدع3 فالأول أحسن وأوقع في القلوب، وعليه مشى أصحاب البديعيات. وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته قوله: أبادهم فلبيت المال ما جمعوا ... والروح للسيف والأجساد للرخم4

_ 1 الضرم: الاحتراق. 2 أو حالوا: هكذا وردت في الأصل، ونظن أنه سقط منها حرف الواو وهي: حاولوا. أشياعهم: أتباعهم. 3 السجية: العادة. المحدث: الجديد الذي كان بعد أن لم يكن. البدع: الافتراءات وهي ما يستحدث في الدين زورًا وبهتانًا. 4 الرخم: طير من الجوارح كبير الجثة وحشي الطباع.

وبيت العميان في بديعيتهم: والمال والماء في كفيه قد جريًا ... هذا لراج وذا للجيش حين ظمي وبيت الشيخ عز الدين في بديعيته قوله: علم ومال على جمع تقسمه ... هذا لغمر وهذا نفع مغترم4 وبيت بديعيتي: جمع الأعادي بتقسيم يفرقه ... فالحي للأسر والأموات للضرم

_ 1 الغمر: الجاهل غير المجرب للأمور. المغترم: الآثم.

ذكر الجمع مع التفريق

ذكر الجمع مع التفريق: ناه كالبرق إن أبدوا ظلام وغى والعزم كالبرق في تفريق جمعهم هذا النوع، أعنى الجمع مع التفريق: هو أن يجمع الشاعر بين شيئين في حكم واحد، ثم يفرق بينهما في ذلك الحكم، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} 1 فكأنه يقول: الشمس والقمر كوكبان، فهذا نهاري، وهذا ليلي، فجمع بينهما إذ هما كوكبان، ثم فرق بأن هذا يضيء نهارًا وهذا يضيء ليلًا، فوقع الفرق في الشيء الذي وقع به الجمع. واستشهدوا على هذا النوع بقول الفخر عيسى: تشابه دمعانا غداة فراقنا ... مشابهة في قصة دون قصة فوجنتها تكسو المدامع حمرة ... ودمعي يكسو حمرة اللون وجنتي هذا الناظم جمع بين الدمعين في الشبه، ثم فرق بينهما بأن دمعها أبيض، فإذا جرى على خدها صار أحمر بسبب احمرار خدها , وأن دمعه أحمر؛ لأنه يبكي دمًا وجسده من النحول أصفر، فإذا جرى عليه الدمع حمره. ومنه قول البحتري: ولما التقينا والنقا موعد لنا ... تعجب رائي الدر منا ولاقطه2 فمن لؤلؤ تجلوه عند ابتسامها ... ومن لؤلؤ عند الحديث تساقطه

_ 1 الإسراء: 17/ 12. 2 لاقط الدر: جامعه.

وبيت الصفي الحلي: سناه كالبرق يجلو كل مظلمة ... والعزم كالنار يفني كل مجترم1 وبيت العميان في تركيبه قلق، حيث قالوا: فلذ بمن كفه والبحر ما افترقا ... إلا بكف وبحر في كلامهم2 وبيت الشيخ عز الدين، شن فيه الغارة على بيت الشيخ صفي الدين الحلي، بقوله: وعزمه النار في جمع يفرقه ... ووجهه النور يجلو ظلمة الغشم3 وبيت بديعيتي أقول فيه، عن النبي، صلى الله عليه وسلم: سناه كالبرق إن أبدوا ظلام وغى ... والعزم كالبرق في تفريق جمعهم

_ 1 المجترم: مرتكب الجريمة. 2 لاذ: احتمى. 3 الغشم: الظالمون، والليالي المظلمة.

ذكر الإشارة

ذكر الإشارة: من إشارته في الحرب كم فهم ألـ ... أنصار معنى به فازوا بنصرهم هذا النوع، أعني الإشارة، مما فرّعه قُدَامة من ائتلاف اللفظ مع المعنى، وشرحه بأن قال: هو أن يكون اللفظ القليل مشتملًا على المعنى الكثير، بإيماء ولمحة تدل عليه، كما قيل في صفة البلاغة، هي لمحة دالة. وتلخيص هذا الشرح: إنه إشارة المتكلم إلى المعاني الكثيرة بلفظ يشبه، لقلته واختصاره، بإشارة اليد. فإن المشير بيده يشير دفعة واحدة إلى أشياء، لو عبر عنها بلفظ لاحتاج إلى ألفاظ كثيرة. ولا بد في الإشارة من اعتبار صحة الدلالة، وحسن البيان مع الاختصار؛ لأن المشير بيده، إن لم يفهم المشار إليه معناه، فإشارته معدودة من العبث. وكان النبي، صلى الله عليه وسلم: سهل الإشارة، كما كان سهل العبارة وهذا ضرب من البلاغة يمتدح به. والإشارة قسمان: قسم للسان، وقسد لليد. ومن شواهد الإشارة في الكتاب العزيز قوله: {وَغِيضَ الْمَاءُ} 1 فإنه سبحانه أشار بهاتين اللفظتين إلى انقطاع مادة الماء من نبع الأرض ومطر السماء، وذهاب الماء الذي كان حاصلًا على وجه الأرض قبل الإخبار، ولو لم يكن كذلك لما غاض الماء. ومنه قوله تعالى: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ} 2 فالمح أيها المتأمل كل ما تميل النفوس إليه من اختلاف الشهوات، وملاذ الأعين في اختلاف المرئيات لتعلم أن بلاغة هذا اللفظ القليل جدًّا، عبرت عن المعاني

_ 1 هود: 11/ 44. 2 الزخرف: 43/ 71.

التي لا تنحصر عدا. ومنه قوله تعالى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} 1. ومن المنظوم قول زهير في هذا النوع: فإني لو لقيتك فاتجهنا ... لكان لكل منكرة لقاء يعني قابلت كل منكرة بمثلها. ومن أمثلة هذا النوع قول امرئ القيس: بعزهم عززت فإن يذلوا ... فذلهم أنالك ما أنالا فانظر كم تحت قوله: أنالك ما أنالا، من أنوع الذل ومثله قوله: فلأشكرن غريب نعمته ... حتى أموت وفضله الفضل أنت الشجاع إذا هم نزلوا ... عند المضيق وفعلك الفعل فالحظ كم تحت قوله: وفضله الفضل، بعد إخباره بأنه يشكر غريب نعمته حتى يموت، من أصناف المدح وترجيح فضله على الشكر، وفي قوله: غريب نعمته، غاية المدح، إذ جعل نعمته غريبة لم يقع مثلها في الوجود، وكم تحت قوله: وفعلك الفعل، بعد إخباره بنزول القوم عند المضيق الدال على صبرهم وشجاعتهم، وما في ذلك من ترجيح شجاعته عليهم. ومنه قوله في صفة الفرس: على هيكل يعطيك قبل سؤاله ... أفانين جري غير كز ولا واني2 فإنه أشار بقوله: أفانين، إلى جمع صنوف عدو الخيل المحمودة، والذي يدل على ذلك قوله: قبل سؤاله، فإن الأفانين المحمودة كانت منه عفوًا من غير طلب ولا حث، وهذا كمال الوصف. ولو عدت هذه المعاني بألفاظها الموضوعة لها، لاحتاجت في العبارة إلى ألفاظ كثيرة. وبيت الشيخ صفي الدين في بديعيته: يولي الموالين من جدوى شفاعته ... ملكًا كبيرًا عدا ما في نفوسهم والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم. وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته: ما تشتهي النفس يهدي في إشارته ... يعطي فنونًا بلا من ولا سأم وبيت بديعيتي: ومن إشارته في الحرب كم فهم ... الأنصار معنى به فازوا بنصرهم

_ 1 النجم: 53/ 10. 2 الهيكل: الحصان الضخم الجثة الغليظ العظام. الكزّ: السريع. الواني: البطيء.

ذكر التوليد

ذكر التوليد: ليد نصرتهم يبدو بطلعته ... ما السبعة الشهب ما توليد رملهم قلت: هذا النوع أعني، التوليد: ليس تحته كبير أمر، وهو على ضربين من الألفاظ والمعاني، فالذي من الألفاظ تركه أولى من استعماله؛ لأنه سرقة ظاهرة، وما ذاك إلا أن الناظم يستعذب لفظة من شعر غيره، فيقتضبها ويضمنها غير معناها الأول في شعره، كقول امرئ القيس في وصف الفرس: وقد أغتدي والطير في وكناتها ... بمنجرد قيد الأوابد هيكل1 فاستعذب أبو تمام قيد الأوابد فنقلها إلى الغزل فقال: لها منظر قيد الأوابد لم يزل ... يروح ويغدو في خفارته الحب2 والتوليد من المعاني، هو الأجمل والأستر3، وهو الغرض ههنا، وذلك أن الشاعر ينظر إلى معنى من معاني من تقدمه، ويكون محتاجًا إلى استعماله، في بيت من قصيدة له، فيورده ويولد منه معنى آخر، كقول القطامي: قد يدرك المتأني بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل4 وقال من بعده، ونقص الألفاظ، وزاد تمثيلًا وتوكيدًا وتذييلًا:

_ 1 الوكنات: جمع وكنة وهي العش والمخبأ. المنجرد: الذي يسهل قيادة قيد الأوابد: يعني أنه لسرعته لا تفلت منه الوحوش. الهيكل: الضخم 2 الخفارة: الحراسة. 3 "الأستر": هكذا وردت ونعتقد أنها: "الأَسْيَر" أي الأكثر وجودًا في النظم. 4 المتأني: المتمهل. الزلل: الخطأ.

فمعنى صدر هذا البيت معنى بين القطامي بكماله، ومعنى عجزه نوع التذييل، وما تقدم ذكره، وهو مولد. قال ابن أبي الأصبع في "تحرير التحبير": أغرب ما سمعت في التوليد قول بعض العجم: كأن عذاره في الخد لام ... ومبسمه الشهي العذب صاد وطرة شعره ليل بهيم ... فلا عجب إذا سرق الرقاد1 فإن هذا الشاعر ولد من تشبيه العذار باللام، وتشبيه الفم بالصاد لصًّا، وولد من معناه ومعنى تشبيه الطرة بالليل ذكر سرقة النوم، فحصل في البيت توليد وإغراب وإدماج. وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته على هذا النوع. من سبّق لا يرى سوط لها سملا ... ولا جديد من الأرسان واللجم2 بيت صفي الدين هنا غير صالح للتجريد، وقد تكرر عليه هذا النقد في كثير من الأبيات، فإن بيته لم يظهر له معنى إن لم ينشد البيت الذي قبله، وهذا العيب سماه علماء هذا الفن التضمين، ويأتي الكلام عليه في موضعه، ولكن هو أقبح ما يكون في البديعيات؛ لأن المراد من بيت البديعيات أن يكون بمجرده شاهدًا على النوع المذكور، ليس له تعلق بما قبله ولا بما بعده. وبيت صفي الدين مولد من قول أبي عبد الله بن الحجاج: خرقت صفوفهم بأقب نهد ... مراح السوط متعوب العنان3 والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم. وبيت الشيخ عز الدين: ما لي بتوليد مدحي في سواه هدى ... لمعشر شبهوا الهندي بالجلم4 وبيت عز الدين هنا صالح للتجريد، فإن ضميره عائد إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وأما قوله:

_ 1 بهيم: شديد السواد. 2 السبق: الخيل السابقة. السوط: الكرباج. سمل: البالي من كثرة استعماله أي هي خيول تسبق دون أن تضرب. اللجم جمع لجام وهو حديدة توضع في فم الخيل ليسهل قيادها والسيطرة عليها. 3 الأقب: من الخيل الضامر. النهد: السريع القفز. مراح السوط: مدهونه وذلك ليصير أشد لسعًا. متعوب العنان: عنانه تعب لسرعته. 4 الهندي: السيف. الجلم: المقص.

لمعشر شبهوا الهندي بالجلم، فإن ذكر في شرحه أنه ولده من قول أبي الطيب المتنبي: فالعيس أعقل من قوم رأيتهم ... عما أراه من الإحسان عميانا1 ثم قال في الشرح: ما شبه السيف بالمقص إلا أعمى. قلت: ومن أين لنا أن تشبيه السيف بالجلم مولد من بيت المتنبي، وألفاظها ومعانيها ظاهرة للمتأمل. وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي، صلى الله عليه وسلم: توليد نصرتهم يبدو بطلعته ... ما السبعة الشهب ما توليد رملهم معنى هذا البيت ولدته من قول أبي تمام: والنصر من شهب الأرماح لامعة ... بين الخميس علا في السبعة الشهب2 ولكن ذكر التوليد هنا، وهو اسم النوع البديعي، مع النصرة لا تخفى محاسنه على حذاق الأدب، فإنه التوليد في التوليد، وذكر الرمل هنا توليد آخر، وقد جمعت في صدر هذا البيت وعجزه بين التوليد الذي هو المراد من التورية في تسمية النوع، وبين التذييل بقولي، بعد تتمة الفائدة: ما توليد رملهم، وبين مراعاة النظير، بذكر التوليد والرمل والسبعة الشهب والنصرة، وجمعت بين قسمي التوليد في اللفظ والمعنى، والذي بينهما من توليد المحاسن الظاهرة الزائدة على بيت أبي تمام غير خاف على المتأمل المنصف، والله أعلم.

_ 1 العيس: الإبل جمع أعيس. 2 الخميس: الجيش.

ذكر الكناية

ذكر الكناية: قالوا طويل نجاد السيف قلت وكم ... لناره ألسن تكني عن الكرم1 الكناية: هي الإرداف بعينه، عند علماء البيان، وإنما علماء البديع أفردوا الإرداف عنها، والكناية هي أن يريد المتكلم إثبات معنى من المعاني، فلا يذكره باللفظ الموضوع له في اللغة، ولكن يجيء إلى معنى ردفه في الوجود فيومئ إليه، ويجعله دليلًا عليه، مثال ذلك قولهم: طويل النجاد، كثير الرماد، يعنون بذلك أنه طويل القامة، كثير القرى2. فلم يذكروا المراد بذكره الخاص به، ولكن توصلوا إليه بمعنى آخر هو رديفه في الوجود، ألا ترى أن القامة إذا طالت طال النجاد، وإذا كثر القرى كثر الرماد؟ ومن أحسن الأمثلة على هذا النوع قول الشاعر: بعيدة مهوى القرط أما لنوفل ... أبوها وأما عبد شمس وهاشم3 أراد أن يذكر طول جيدها فأتى بتابعه وهو بعد مهوى القرط. ومثله قول ليلى الأخيلية: ومخرّق عنه القميص تخاله ... وسط البيوت من الحياء سقيما كَنّتْ عن الإفراط في الجود بخرق القميص، لجذب العفاة له عند ازدحامهم عليه لأخذ العطاء. والأبلغ في هذا الباب والأبدع، أن يكني المتكلم عن اللفظ القبيح باللفظ الحسن.

_ 1 نجاد السيف: حمائله وطويل نجاد السيف كناية عن طول قامته. 2 القِرى: إطعام الضيوف. 3 بعيدة مهوى القرط: كناية عن طول عنقها. والمهوى: الموضع، والقرط: ما تتزين به المرأة في أذنيها.

والمعجز في ذلك قوله تعالى: {كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} 1 كناية عن الحدث، وقوله جل جلاله: {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} 2 يريد بذلك ما يكون بين الزوجين. وعلى الجملة لا تجد معنى من هذه المعاني في الكتاب العزيز إلا بلفظ الكناية؛ لأن المعنى الفاحش متى عبر المتكلم عنه بلفظه الموضوع له كان الكلام معيبًا، من جهة فحش المعنى، ولهذا عاب قدامة على امرئ القيس قوله: فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع ... فألهيتها عن ذي تمائم محول3 إذا ما بكى من تحتها انصرفت له ... بشق وتحتي شقها لم يحول قال، أعني قدامة: عيب هذا الشعر من جهة فحش المعنى، والقرآن منزه عن ذلك. ولو استعار امرؤ القيس لمعناه الفاحش لفظ الكناية لسلم من العيب، وهذا القدر ينتقد على مثله. وفي السنة النبوية من الكنايات ما لا يحصى، كقوله صلى الله عليه وسلم: لا يضع العصا عن عاتقه كناية عن الضرب، أو كثرة السفر. وحكى ابن المعتز أن العرب كانت تقول لمن به أُبنة4 أنت تحت العصا وأنشد: زوجك زوج صالح ... لكنه تحت العصا ومن نخوة العرب وغيرتهم كانت كنايتهم عن حرائر النساء بالبيض، وقد جاء القرآن العزيز بذلك، فقال سبحانه: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} 5. وقال امرؤ القيس في معلقته: وبيضة خدر لا يرام خباؤها ... تمتعت من لهواتها غير معجل6 أي بيضة خدر يعني امرأة كالبيضة في صيانتها لا يرام خباؤها لعزتها. ومن لطائف الكنايات قول بعض العرب: ألا يا نخلة من ذات عرق ... عليك ورحمه الله السلام

_ 1 المائدة: 5/ 75. 2 النساء: 4/ 21. 3 طرق: زار ليلًا. ذو التمائم: الولد. المحول: الذي له حول من العمر. 4 الأُبنة: العيب. 5 الصافات: 37/ 49. 6 بيضة الخدر: المرأة المصونة في خدرها وهو الخباء. لا يرام: لا يمكن الوصول إليه. لهواتها: واحدتها لهاة وهي قطعة من اللحم مدلاة في سقف الفم. وهذا البيت يروى كما يلي: وبيضة خدر لا يرام خباؤها ... تمتعت من لهو بها غير معجل وغير معجل: غير مستعجل، دليل على عدم الخوف.

سألت الناس عنك فخبروني ... هناة ذاك تكرهه الكرام1 وليس بما أحلّ الله بأس ... إذا هو لم يخالطه الحرام فإن هذا الشاعر كنى بالنخلة عن المرأة، وبالهناة عن الرفث، فإن العرب كانت تكني بها عن مثل ذلك. وأما الكناية بالنخلة عن المرأة من ألطف الكنايات. وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته عن الكناية قوله: كل طويل نجاد السيف يطربه ... وقع الصوارم كالأوتار والنغم2 والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم. وبيت الشيخ عز الدين الموصلي: داع كثير رماد القدر إن وصفت ... كناية بطنها والظهر بالدسم قول الشيخ عز الدين: كثير رماد القدر، معلوم أنه أراد بذلك الكرم، وأما تتمة البيت، فالدسم الظاهر من القدر في ظاهرها تعافه النفس، ولفظة الدسم سافلة بعيدة عن حشمة الألفاظ. وبيت بديعيتي: ؤقالوا طويل نجاد السيف قلت وكم ... لناره ألسن تكني عن الكرم تقدم القول إن الناس كنوا بطول النجاد عن طول القامة، وبكثرة الرماد عن كثرة القرى، ولكن الكناية بألسن النار عن كثرة الكرم والقرى لا تخفى استعارتها التي كادت تقوم مقام الحقيقة من المحاسن الظاهرة، والله أعلم بالصواب.

_ 1 الهناة: واحدتها هنة وهي الضعف والعيب. 2 الصوارم: السيوف.

ذكر الجمع

ذكر الجمع: آدابه وعطاياه ورأفته ... سجية ضمن جمع فيه ملتئم هذا النوع، أعني الجمع: هو أن يجمع المتكلم بين شيئين فأكثر في حكم واحد، كقوله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} 1 جمع سبحانه وتعالى المال والبنون في الزينة. ومنه قوله تعالى: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ، وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} 2 فجمع بين الشمس والقمر في الحسبان، وجمع بين النجم والشجر في السجود. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "من أصبح آمنًا في سربه معافَىً في بدنه -ويروى في جسده- عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها". فجمع الأمن ومعافاة البدن وقوت اليوم في حوز الدنيا بحذافيرها، وهي النواحي والواحد حذفار، ومنه قول الشاعر: إن الشباب والفراغ والجدة ... مفسدة للمرء أي مفسدة فجمع بين الشباب والفراغ والجدة في المفسدة. وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في الجمع قوله: آراؤه وعطاياه ونقمته ... وعفوه رحمة للناس كلهم وبيت العميان في بديعيتهم: قد أحرز السبق والإحسان في نسق ... والعلم والحلم قبل الدرك للحلم

_ 1 الكهف: 18/ 46. 2 الرحمن: 55/ 5، 6.

وبيت الشيخ عز الدين: للفصل والفضل والألطاف منه يرى ... والعلم والحلم جمع غير منخرم1 قلت: حشو لفظة يرى، في بيت الموصلي، أذهب طلاوة الانسجام. وبيت بديعيتي: آدابه وعطاياه ورأفته ... سجية ضمن جمع فيه ملتئم

_ 1 المنخرم: المنقطع، والمثقوب والمنثلم.

ذكر السلب والإيجاب

ذكر السلب والإيجاب: إيجابه بالعطايا ليس يسلبه ... ويسلب المنّ منه سلب محتشم هذا النوع، أعني: السلب والإيجاب، ذكر ابن أبي الأصبع في "تحرير التحبير": أنه من مستخرجاته. ولكن رأيت لأبي هلال العسكري تقريرًا حسنًا على هذا النوع، وهو أن يبني المتكلم كلامه على نفي شيء من جهة، وإثباته من جهة أخرى، والذي قرَّره ابن أبي الأصبع، هو أن يقصد المادح إفراد ممدوحه بصفة لا يشركه فيها غيره، فينفيها في أوّل كلامه عن جميع الناس، ويثبتها لممدوحه بعد ذلك، كقول الخنساء في أخيها: وما بلغت كف امرئ متطاولًا ... من المجد إلا والذي نلت أطول ولا بلغ المهدون للناس مدحة ... وأن أطنبوا إلا الذي فيك أفضل قال الشيخ زكي الدين بن أبي الأصبع: ويروى متناولًا، ونصبها على أنها مفعول به، وما هنا أبلغ، وعلى هذه الرواية رسمنا هذا الشاهد. وأخذ أبو نواس معنى البيت الثاني، ولكن لم يتمكن منه إلا في بيتين، ومع ذلك قصر عنه تقصيرًا زائدًا، فقال: إذا نحن أثنينا عليك بصالح ... فأنت كما نثني وفوق الذي نثني وإن جرت الألفاظ منا بمدحة ... لغيرك إنسانًا فأنت الذي نعني هذا كله عين كلام الخنساء، ولكن فاته وإن أطنبوا في بيت الخنساء، وقولها: وما بلغ المهدون، وكل هذه المبالغات قصر عنها أبو نواس، والفرق بين فأنت الذي نعني، وبين الذي فيك أفضل ظاهر وأعظم الشواهد علي هذا النوع قوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} 2 ومنه قول امرئ القيس:

_ 2 الإسراء: 17/ 23.

هضيم الحشا لا يملأ الكف خصرها ... ويملأ منها كل حجل ودملج1 وبيت الشيخ صفي الدين في بديعيته على هذا النوع: أغرّ لا يمنع الراجلين ما طلبوا ... ويمنع الجار من ضيم ومن حرم والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم. وبيت الشيخ عز الدين قوله: لم ينف ذمًا بإيجاب المديح فتى ... إلا وعاقدت فيه الدهر بالسلم وبيت بديعيتي: إيجابه بالعطايا ليس يسلبه ... ويسلب المن منه سلب محتشم

_ 1 هضيم الحشا: دقيقة الخصر. الحجل والدملج: الأساور والمجوهرات.

ذكر التقسيم

ذكر التقسيم: هداه تقسيمه حالي به صلحت ... حيًّا وميتًا ومبعوثًا مع الأمم التقسيم أول أبواب قدامة، وهو في اللغة مصدر قسمت الشيء إذا جزأته، وفي الاصطلاح اختلفت فيه العبارات والكل راجع إلى مقصود واحد، وهو ذكر متعدد ثم إضافة ما لكل إليه على التعيين ليخرج اللف والنشر، هذه عبارة صاحب التلخيص وذكر بعضها في الإيضاح. وقال السكاكي: هو أن يذكر المتكلم شيئًا ذا جزأين أو أكثر ثم يضيف إلى واحد من أجزائه ما هو له عنده. ومنهم من قال: هو أن يريد المتكلم متعددًا، أو ما هو في حكم المتعدد، ثم يذكر لكل واحد من المتعددات حكمه على التعيين. وتعجبني بلاغة زكي الدين بن أبي الأصبع، فإنه قال: التقسيم عبارة عن استيفاء المتكلم أقسام المعنى الذي هو آخذ فيه، ومثل ذلك قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا} 1 ليس في رؤية البرق غير الخوف من الصواعق، والطمع في الأمطار، ولا ثالث لهذين القسمين. ومن لطيف ما وقع في هذه الجملة من البلاغة، تقديم الخوف على الطمع، إذ كانت الصواعق لا يحصل فيها المطر في أول برقة، ولا يحصل إلا بعد تواتر البرقات، فإن تواترها لا يكاد يكذب، ولهذا كانت العرب تعد سبعين برقة ثم تنتجع، فلا تخطئ الغيث والكلأ، وإلى هذا المعنى أشار المتنبي بقوله: وقد أرد المياه بغير هاد ... سوى عدي لها برق الغمام

_ 1 الرعد: 13/ 12.

فلما كان الأمر المخوف، من البرق، يقع في أول برقة، أتى ذكر الخوف في الآية الكريمة أولًا، ولما كان الأمر المطمع إنما يقع من البرق بعد الأمر المخوف، أتى ذكر الطمع في الآية الكريمة ثانيًا، ليكون الطمع ناسخًا للخوف، لمجيء الفرج بعد الشدة ومنه قوله تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} 1 فاستوفت الآية الكريمة جميع الهيئات الممكنات. ومنه قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّه} 2 فاستوفت الآية الكريمة جميع الأقسام التي يمكن وجودها، فإن العالم جميعه لا يخلو من هذه الأقسام الثلاثة. ومنه قوله تعالى: {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ} 3 فالآية الشريفة جامعة لأقسام الزمان الثلاثة، ولا رابع لها، والمراد الحالي والماضي والمستقبل فله ما بين أيدينا المراد به المستقبل، وما خلفنا المراد به الماضي، وما بين ذلك الحال. وفي الحديث النبوي قوله صلى الله عليه وسلم: "ما لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أوتصدقت فأبقيت". ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "من أقام الصلاة كان مسلمًا ومن آتى الزكاة كان محسنًا ومن شهد أن لا إله لا الله كان مخلصًا". فإنه صلوات الله عليه استوعب الوصف الذي من الدرجات العليا والوسطى والسفلى. ومنه قول على بن أبي طالب، كرم الله وجهه: "أنعم على من شئت تكن أميره، واستغن عمن شئت تكن نظيره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره". فإنه استوعب أقسام الدرجات، وأقسام أحوال الإنسان بين الفضل والكفاف والنقص. ويحكى أن بعض وفود العرب قدم على عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه- وكان فيهم شاب فقام وتقدم في المجلس وقال: يا أمير المؤمنين أصابتنا سنون. سنة أذابت الشحم، وسنة أكلت اللحم، وسنة أنقت العظم، وفي أيديكم فضول أموال، فإن كانت لنا لا تمنعونا، وإن كانت لله ففرقوها على عباده، وإن كانت لكم فتصدقوا إن الله يجزي المتصدقين. قال عمر بن عبد العزيز: ما ترك لنا الأعرابي في واحدة عذرًا. ووقف أعرابي على حلقة الحسن البصري فقال: رحم الله من تصدق من فضله، أو واسى من كفاف، أو آثر من قوت: قال الحسن: ما ترك الأعرابي في واحدة عذرًا.

_ 1 آل عمران: 3/ 191. 2 فاطر: 35/ 32. 3 مريم: 19/ 64.

ومن النظم قول زهير بن أبي سلمى في معلقته: وأعلم ما في اليوم والأمس قبله ... ولكنني عن علم ما في غد عم1 ونقل أبو نواس جد زهير إلى الهزل، فقال: أمر غدٍ أنت منه في لبس ... وأمس قد فات فاله عن أمس فإنما الشأن شأن يومك ذا ... فباكر الشمس بابنة الشمس2 وقال ابن حيوس، وأجاد في تقسيمه: ثمانية لم يفترقن جميعها ... فلا افترقت ما ذب عن ناظر شقر3 ضميرك والتقوى وكفك والندى ... ولفظك والمعنى وسيفك والنصر ومنه قول الشيخ شرف الدين عمر بن الفارض، قدس الله روحه: يقولون لي صفها فأنت بوصفها ... خبير أجل عندي بأوصافها علم صفاء ولا ماء ولطف ولا هوى ... ونور ولا نار وروح ولا جسم وأنشد سيبويه بيتًا بديعًا على هذا الباب، وهو قوله: فقال فريق القوم لا وفريقهم ... نعم وفريق أيمن الله ما ندري ويعجبني قول الحماسي في هذا الباب. وهبها كشيء لم يكن أو كنازح ... عن الدار أو من غيبته المقابر ويعجبني قول، أبي تمام في مجوسي أحرق النار: صلى لها حيًّا وكان وقودها ... ميتًا ويدخلها مع الفجار ومنه قول عمرو بن الأهتم: اشربا ما شربتهما فهذيل ... من قتيل أو هارب أو أسير وبيت صفي الدين مأخوذ من قول عمرو بن الأهتم: أفنى جيوش العدا غزوًا فلست ترى ... سوى قتيل ومأسور ومنهزم

_ 1 غم: جاهل. 2 ابنة الشمس: من أسماء الخمرة. 3 ذبَّ: دافع وحامى. الشَّقْر: الأمر المهم.

وبيت النعمان في بديعيتهم غيثان أما الذي من فيض أنمله ... فدائم والذي للمزن لم يدم وبيت الشيخ عز الدين: تقسيمه الدهر يومًا أمسه كغد ... في الحلم والجود والإيفاء للذمم قلت: قد تقدم شرح هذا النوع، وتقرر أن الاثنين في التقسيم لا يمكن أن يكون لهما ثالث، والثلاثة لا يجوز أن يكون لها رابع. وقد تقدم في الاثنين قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا} 1 وليس في رؤية البرق إلا الخوف من الصواعق والطمع في المطر. وتقدم في تقسيم الثلاثة قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأبقيت". ولا رابع لهذه الثلاثة. ورأيت باب الزيادة في بيت الشيخ عز الدين مفتوحًا، فإنه يحتمل الحلم والجود وإيفاء الذمم والشجاعة والصبر والقناعة والدين وهلم جرًا. وتقدم أن بيت صفي الدين الحلي مأخوذ من بيت عمرو بن الأهتم. اشربا ما شربتما فهذيل ... من قتيل أو هارب أو أسير فهذه الثلاثة لا تحتمل رابعًا. وكذلك بيت صفي الدين، فإنه مأخوذ من هنا. وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم: هداه تقسيمه حالي به صلحت ... حيًّا وميتًا ومبعوثًا مع الأمم وهذه الثلاثة أيضًا لا يمكن أن يكون لها رابع، وهذا النوع ليس في تحصيله على واضعه مشقة زائدة على حذاق الأدب، لا سيما مثل الشيخ عز الدين. والذي أقوله: إنه لم تضق عليه المسالك إلا بالتزام التورية في تسمية النوع، والله أعلم.

_ 1 الرعد: 13/ 12.

ذكر الإيجاز

ذكر الإيجاز: أوجز وسل أوّل الأبيات عن مدح ... فيه وسل مكة يا قاصد الحرم هذا النوع، أعني الإيجاز، اعتنت به فصحاء العرب وبلغاؤها كثيرًا، فإنهم كانوا إذا قصدوا الإيجاز أتوا بألفاظ استغنوا بواحدها عن ألفاظ كثيرة، كأدوات الاستفهام والشرط وغير ذلك. فقولك: أين زيد؟ مغن عن قولك: أزيد في الدار أم في المسجد، إلى أن تستقري جميع الأماكن. وقولك: من يقم أقم معه، مغن عن: إن يقم زيد أو عمرو أقم معه. وما بالدار من أحد، مغن عن قولك: ليس فيها زيد ولا عمرو. فغالب كلام العرب مبني على الإيجاز والاختصار، وأداء المقصود من الكلام بأقل عبارة. وهذا النوع على ضربين: إيجاز قصر، وإيجاز حذف. فإيجاز القصر: اختصار الألفاظ، وهو كقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} 1 فهذا اللفظ الوجيز المعجز المختصر، غاية في الإيجاز والإيضاح والإشارة والكناية والطباق وحسن البيان والإبداع ومنه قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} 2 وعظ في ذلك بألطف موعظة، وذكر بألطف تذكرة، واستوعب جميع أقسام المعروف والمنكر، وأتى بالطباق اللفظي والمعنوي، وحسن النسق والتسهيم، وحسن البيان والإيجاز، وائتلاف اللفظ ومعناه، والمساواة وصحة المقابلة وتمكين الفاصلة. ومن ذلك قول الشاعر: يا أيها المتحلي دون شيمته ... إن التخلق يأتي دونه الخلق

_ 1 البقرة: 2/ 179. 2 النحل: 16/ 90.

وإيجاز الحذف: عبارة عن حذف بعض لفظه، لدلالة الباقي عليه كقوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} 1 وكقول الشاعر: ورأيت زوجك في الوغى ... متقلدًا سيفًا ورمحا أي ومعتقلًا رمحا. ومثله قول الشاعر: علفتها تبنًا وماء باردًا، أي: وسقيتها ماء باردًا. وبيت الشيخ صفي الدين في بديعيته على الإيجاز: واستخدم الموت ينهاه ويأمره ... بعزم مغتنم في زي مغترم تقديره بعزم رجل مغتنم، ومثله في زي مغترم، ولكنه ما تحته في بلاغة الإيجاز كبير أمر. والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم. وقول الشيخ عز الدين: وسل زمانك تلف الكتب راوية ... إيجاز معنى طويل الذكر مرتسم2 الشيخ عز الدين إيجازه: وسل زمانك، أي أهل زمانك، وأما بقية البيت فلا أفهم له معنى، فإن البيت الذي قبله متعلق بمدح النبي -صلى الله عليه وسلم- ماش في أثر الأبيات التي قبله، وأما رواية الكتب لإيجاز هذا المعنى الطويل المرتسم، فإنه نوع من المعميات، والله أعلم. وأما بيت بديعيتي فهو قولي عن النبي، صلى الله عليه وسلم: أوجز وسل أول الأبيات عن مدح ... فيه وسل مكة يا قاصد الحرم الضمير في لفظة فيه عائد إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- والإيجاز البديع البليغ الغريب في قولي: وسل أول الأبيات، فإنه إشارة إلى أول بيت وضع للناس، والإيجاز الثاني في قولي: وسل مكة أي وسل أهل مكة، فهذا البيت المبارك فيه إيجازان بليغان، وفيه التورية بتسمية النوع، وفيه المناسبة البديعة بين مكة والبيت والحرم، ومراعاة النظير أيضًا بين الإيجاز والمدح والإثبات، وفي الأبيات تورية أخرى، ونوع التمكين في القافية ظاهر.

_ 1 يوسف: 12/ 82. 2 تَلْفَ: تجد.

ذكر المشاركة

ذكر المشاركة: بالحجر ساد فلا ند يشاركه ... حجر الكتاب المبين الواضح اللقم1 هذا النوع، أعني الاشتراك، جعله ابن رشيق وابن أبي الأصبع ثلاثة أقسام: قسمان منها من العيوب والسرقات، وقسم من المحاسن: وهو أن يأتي الناظم في بيته بلفظة مشتركة بين معنيين اشتراكًا أصليًّا، أو فرعيًّا، فيسبق ذهن سامعها إلى المعنى الذي لم يرده الناظم، فيأتي في آخر البيت بما يؤكد أن المقصود غير ما توهمه السامع، كقول كثير عزة: وأنت الذي حببت كل قصيرة ... إلَيّ ولم تعلم بذاك القصائر2 عنيت قصيرات الحجال ولم أرد ... قصار الخطا شر النساء الحباتر3 فإنه أثبت في البيت الثاني ما أزال به وهم السامع من أنه أراد القصار مطلقًا، وقد يلتبس الاشتراك بالتوهيم على من لا يحققه، والفرق بينهما أن الاشتراك لا يكون إلا باللفظة المشتركة، والتوهيم يكون بها وبغيرها من تحريف أو تصحيف أو تذييل، والفرق بينه وبين الإيضاح أن الإيضاح في المعاني خاصة، لا تعلق له بالألفاظ، وهذا نوع اشتراك اللفظة. وبيت الشيخ صفي الدين على هذا النوع قوله: شيب المفارق يروى الضرب من دمهم ... ذوائب البيض بيض الهند لا اللمم

_ 1 اللقم: الطريق والنهج. 2 القصائر: النساء المقصورات في خدورهن. 3 الْحَبَاتر: القصار، مفردها حباتر وحبتر.

هذا البيت الاشتراك فيه بين البيض، فلولا بيض الهند التي ترشح بها جانب السيوف، بذكر الهند، لسبق ذهن السامع إلى أنه أراد الذوائب البيض، ولكن بيت الشيخ صفي الدين لم يخل من بعض عقادة. والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين الموصلي: وللغزالة تسليم به اشتركت ... مع التي هي ترعى نرجس الظلم هذا البيت يصلح أن يعد من باب الإشارة في الجناس المعنوي، فإن الشيخ عز الدين أضمر أحد الركنين وأظهر الآخر، وهذا حد جناس الإشارة من المعنوي، فإنه ذكر الغزالة في أول البيت وأضمر الغزالة الشمسية في الشطر الثاني، وهذا النوع تقدم تقريره، ولو صرح الشيخ عز الدين في الشطر الثاني بلفظة الغزالة، وذكر معها الإشراق والنور بحيث يزيل وهم السامع أن المراد الغزالة الوحشية، ويتحقق أن المراد الغزالة الشمسية، أو بالعكس، كان نوع الاشتراك في بيته خالصًا، مع ما فيه من النظر، وهو أن كلًّا من الغزالتين سلم على النبي -صلى الله عليه وسلم- ولكنه أظهر لفظ الغزالة الثانية، فتحتم أنه صار جناسًا معنويًّا، ولعمري إنه أحسن من بيته الذي استشهد فيه على الجناس المعنوي في أول بديعيته: وكافر نعم الإحسان في عذل ... كظلمة الليل عن ذا المعنوي عمي فإن أظهر في أول البيت لفظة كافر، والليل يسمى كافرًا، فأضمر لفظة كافر الذي هو الليل، وتالله إن بيته الذي نظمه شاهدًا على نوع الاشتراك يستحق الجناس المعنوي، استحقاقًا ذوقيًّا وهو أسجم من هذا البيت وأرق للمعنى وأوقع في الأسماع. وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي، صلى الله عليه وسلم: بالحجر ساد فلا ند يشاركه ... حجر الكتاب المبين الواضح اللقم هذا البيت يجب أن يعتمد عليه في هذا النوع، ولا يخفى على أهل الذوق السليم ما في تركيبه. والعميان ما نظموه في بديعيتهم. وبيت عز الدين تقرر أن الجناس المعنوي أحق به، واشتراك بيتي في لفظة الحجر، فإني قلت في أول بيتي بالحجر ساد وهذه اللفظة مشتركة بين العقل وسورة الحجر، فلما قلت في الشطر الثاني: حجر الكتاب المبين، زال الالتباس عن السامع وعلم المراد، وترشح عنده جانب السورة المنزلة على الممدوح فيه، صلى الله عليه وسلم.

ذكر التصريع

ذكر التصريع: تصريع أبواب عدن يوم بعثهم ... يلقاه بالفتح قبل الناس كلهم هذا النوع، أعني التصريع: هو عبارة عن استواء آخر جزء في صدر البيت، وآخر جزء في عجزه في الوزن والروي والإعراب، وهو أليق ما يكون بمطالع القصائد، وفي وسطها ربما تمجه الأذواق والأسماع. وهذا وقع في معلقة امرئ القيس فإنه صرع المطلع بقوله: قفا نبك من ذكري حبيب ومنزل ... بسقط اللوي بين الدخول فحومل1 وقال في أثناء هذه القصيدة: ألا أيها الليل الطويل ألا انجلِ ... بصبح وما الإصباح منك بأمثل قلت: وعلى كل تقدير، ليس في نوع التصريع كبير أمر حتى يعد من أنواع البديع، ولكن القوم كلما تغالوا في الرخص رغبوا في الكثرة. وبيت الشيخ صفي الدين الحلي: لاقاهم بكماة عند كرهم ... على الجسوم دروع من قلوبهم2 والعميان ما نظموه. وبيت الشيخ عز الدين الموصلي: لا زال بالعزمات العز والهمم ... يصرع الضد بالتشطير في القمم

_ 1 سقط اللوى والدَّخول وحومل: أسماء أماكن في الصحراء. 2 الكماة: الأبطال الشجعان.

وبيت بديعيتي أشير فيه إلى النبي، صلى الله عليه وسلم: تصريع أبواب عدن يوم بعثهم ... يلقاه بالفتح قبل الناس كلهم انظر أيها المتأمل المنصف إلى بديع التورية وترشيحها، عند ذكر الأبواب بالفتح، هو فتوح في هذا الباب، مع سهولة التركيب، وحسن الانسجام، وتمكين القافية.

ذكر الاعتراض

ذكر الاعتراض: فلا اعتراض علينا في محبته ... وهو الشفيع ومن يرجوه يعتصم هذا النوع، أعني الاعتراض، هو عبارة عن جملة تعترض بين الكلامين، تفيد زيادة في معنى غرض المتكلم. ومنهم من سماه الحشو، وقالوا في المقبول منه: حشو اللوزينج، وليس بصحيح، والفرق بينهما ظاهر، وهو أن الاعتراض يفيد زيادة في غرض المتكلم والناظم، والحشو إنما يأتي لإقامة الوزن لا غير. وفي الاعتراض من المحاسن المكملة للمعاني المقصودة ما يتميز به على أنواع كثيرة، ومن معجزه في القرآن: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} 1. ومنه قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ، وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} 2 ومن الشواهد الشعرية قول بعضهم: إن الثمانين وبلغتها ... قد أحوجت سمعي إلى ترجمان فقوله: وبلغتها، من الاعتراضات التي زادت المعنى فائدة في غرض الشاعر، وهو الدعاء للمخاطب، وأمثلته كثيرة، وبيت الشيخ صفي الدين الحلي يقول فيه عن النبي، صلى الله عليه وسلم. فإن من أنفذ الرحمن دعوته ... وأنت ذاك لديه الجار لم يضم3

_ 1 البقرة: 2/ 24 2 الواقعة: 56/ 76. 3 أنفذ: جح. يضم: يصاب بالضيم وهو الضيق والهوان.

فقوله: وأنت ذاك، هو الاعتراض بعينه، فإنه زاد المعنى. وسماه قدامة التفاتًا، وهو قريب. والعميان ما نظموه. وبيت الشيخ عز الدين: فلا اعتراض علينا في السؤال به ... أعني الرسول لكي ننجو من الضرم1 فقول الشيخ عز الدين: أعني الرسول، هو الاعتراض الذي أراده. وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي، صلى الله عليه وسلم: فلا اعتراض علينا في محبته ... وهو الشفيع ومن يرجوه يعتصم فقولي، بين الكلامين: هو الشفيع، هو الاعتراض البديع المتمكن، فإن في قول عز الدين: أعني الرسول، ركة تدل على ضعف التركيب، وكذلك قول الشاعر في مخلص مديحه: أعني فلانًا، يدل على ضعف رويته وقلة تصرفه، فإنهم عدوا ذلك من المخالص الواهية، ولم يجنح إليه إلا عوام أهل الأدب، ومثل الشيخ عز الدين ينتقد عليه ذلك والله أعلم.

_ 1 الضرم: النار والاحتراق بها.

ذكر الرجوع

ذكر الرجوع: وما لنا من رجوع عن حماة بلى ... لنا رجوع عن الأوطان والحشم1 هذا النوع، أعني الرجوع، ذكره ابن المعتز وأبو هلال العسكري، وسماه بعضهم استدراكًا واعتراضًا، وليس بصحيح. قال القاضي جلال الدين القزويني في "التلخيص والإيضاح": هو العود على الكلام بالنقض لنكتة، كقول زهير: قف بالديار التي لم يعفها القدم ... بلى وغيرها الأرواح والديم2 والنكتة فيه، كأنه لما وقف بالديار عرته روعة ذهل بها عن رؤية ما حصل لها من التغير، فقال لم يعفها القدم، ثم رجع إلى عقله وتحقق ما هي عليه من الدروس، فقال بلى عفت، وعليه بيت الحماسة: أليس قليلًا نظرة إن نظرتها ... إليك وكل ليس منك قليل ويعجبني هنا قول أبي البيداء: وما لي انتصار إن غدا الدهر جائرًا ... عليَّ بلى إن كان من عندك النصر وأما من سَمّى هذا النوع استدراكًا واعتراضًا، فتسميته غير صحيحة، والذي أقول: إن هذا الرجوع لا فرق بين السلب والإيجاب، وقد تقدم قول أبي هلال العسكري: إن السلب والإيجاب هو أن يبني المتكلم كلامه على نفي شيء من جهة، وإثباته من جهة.

_ 1 الحشم: العيال والأهل والتابعون. 2 يعفها: يبلها. القِدَم: العِتق. الأرواح: الرياح. الديم: الأمطار.

أخرى. وقال القاضي جلال الدين: الرجوع هو العود على الكلام السابق بالنقض، وكل من التقريرين لائق بالنوعين، وللمتأمل أن ينظر في ذلك ليحسن ذوقه. وبيت الشيخ صفي الدين الحلي: أطلتها ضمن تقصيري فقام بها ... عذري وهيهات إن العذر لم يقم وبيت العميان: قلوا ببدر ففلوا غرب شانئهم ... به وما قل جمع بالرسول حمي1 وبيت الشيخ عز الدين: رمت الرجوع عن الأمداح أنظمها ... سوى مديح سديد القول محترم2 قلت: ليس في بيت الشيخ عز الدين رجوع، إلا عن حشمة الألفاظ وفخامتها في مديح النبي -صلى الله عليه وسلم- فإن قوله: سديد القول، دون من أنزل الله القرآن في أوصافه. ويعجبني قول ابن نباتة في لاميته: ماذا عسى الشعراء اليوم مادحة ... من بعد ما مدحت حم تنزيل3 وأيضًا، فإنه كان يجب على الشيخ عز الدين أن يقول في النوع البديعي، الذي هو الرجوع: رجعت عن الأمداح، حتى يصح النقض في الشطر الثاني، وإنما قال: رمت، كأنه يرى أن يرجع. وعلى الجملة، فالبيت قاصر من كل وجه. وبيت بديعيتي أشير فيه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بقولي: وما لنا من رجوع عن حماة بلى ... لنا رجوع عن الأوطان والحشم هذا البيت لم يحتج إلى إطلاق عنان القلم في ميادين الطروس، بوصف ما فيه من المحاسن، إذ في مدح أهل الذوق، من علماء هذا الفن، ما يغني عن ذلك والله أعلم.

_ 1 فلوا: قطعوا والغرب: العزيمة والقوة. الشانئ: العدو المبغض. حمي: احتمى. 2 رام: طلب وأراد. سديد القول: صائبه. 3 حم تنزيل: من سور القرآن الكريم وفيها مدح للنبي محمد، صلى الله عليه وسلم.

ذكر الترتيب

ذكر الترتيب: ترتب الحيوانات السلام له ... والنبت حتى جماد الصخر في الأكم1 هذا النوع، أعني الترتيب، من استخراجات التيفاشي، ذكره في كتابه وسماه بهذا الاسم، وقال: هو أن يجنح الشاعر إلى أوصاف شتى في موضوع واحد، أو في بيت وما بعده على الترتيب، ويكون ترتيبها في الخلقة الطبيعية، ولا يدخل الناظم فيها وصفًا زائدًا عما يوجد علمه في الذهن أو في العيان، كقول مسلم بن الوليد: هيفاء في فرعها ليل على قمر ... على قضيب على حقف النقا الدهس2 فإن الأوصاف الأربعة على ترتيب خلقة الإنسان، من الأعلى إلى الأسفل. وبيت صفي الدين الحلي: كالنار منه رياح الموت إن عصفت ... روى صرى مائه أرض الوغى بدم3 ترتيب بيت صفي الدين على العناصر الأربعة، وهي الماء والنار والهواء والتراب. والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم. وبيت الشيخ عز الدين: له الملائك والإنسان أجمعهم ... والجن والوحش في الترتيب كالخدم

_ 1 الأكم: التلال والأمكنة المتكاتفة الأشجار. 2 حقف النقا: كثيب الرمل. الدهس: غير الصافي. أي الممزوج بالتراب وغيره. 3 الصرى: المحبوس والمجتمع في مكان ما. الوغى: الحرب.

هذا البيت، ذكر الشيخ عز الدين في شرحه أنه على ترتيب المخلوقات: الملائك والإنس والجن والوحش، ولكن وضع هذا الترتيب غير منتظم على ما قرره التيفاشي. وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم: ترتب الحيوانات السلام له ... والنبت حتى جماد الصخر في الأكم معلوم أن الموجودات ثلاثة، وهي حيوان ونبات وجماد، والثلاثة على ترتيب خلقة الإنسان من الأعلى إلى الأسفل، فإذا قلنا: جسم نام، خرج الجماد لأنه لا ينمو، وإذا قلنا: جسم نام متحرك بإرادته، خرج النبات، وإذا قلنا: جسم نام متحرك بإرادته ناطق، خرج باقي الحيوان وبقي الإنسان، وهذا حده. والله أعلم بالصواب.

ذكر الاشتقاق

ذكر الاشتقاق: محمد أحمد المحمود مبعثه ... كل من الحمد تبيين اشتقاقهم هذا النوع، أعني الاشتقاق، استخرجه الإمام أبو هلال العسكري، وذكره في آخر أنواع البديع من كتابه المعروف "بالصناعتين"، وعرفه بأن قال: هو أن يشتق المتكلم من الاسم العلم معنى، في غرض يقصده، من مدح أو هجاء أو غيره، كقول ابن دريد في نفطويه: لو أوحي النحو إلى نفطويه ... ما كان هذا العلم يعزى إليه أحرقه الله بنصف اسمه ... وصير الباقي صياحًا عليه1 وهذا النوع، ما ذكره القاضي جلال الدين القزويني في "التلخيص" ولا في "الإيضاح"، ولا ذكره الشهاب محمود في "حسن التوسل"، ولا نظمته العميان ولا غيرهم من أصحاب البديعيات، غير الشيخ صفي الدين الحلي، وبيت بديعيته، التي ذكر أنه جمعها من سبعين كتابًا، قوله: لم يلق مرحب مني مرحبًا ورأى ... ضد اسمه عند هدّ الحصن والأطم2 الشيخ صفي الدين اشتق من اسم مرحب، الترحاب، حتى يقابله بضده، وهذا هو الغرض الذي أراده الناظم، وبيت الشيخ عز الدين في المعارضة قوله:

_ 1 ذلك أن النصف الأول لاسمه هو: نفط ومعناه البترول تلك المادة المشتعلة، والنصف الآخر: ويه وهي للندبة. 2 الأطم: الحصون. ومرحب هو الفارس اليهودي الذي قتله الإمام على بن أبي طالب -رضي الله عنه- يوم فتح حصن خيبر.

ميم وحا في اشتقاق الاسم محوُ عِدا ... والميم والدال مد الخير للأمم هذا البيت يشق عليّ أن أشرح اشتقاقه، وأذكر ما فيه من التعسف والزيادة، وعدم القبول للتجريد، فإنه أراد أن يمشي على طريق ابن دريد في الاشتقاق، فلم يأتِ بغير الشقاق، وما ذاك إلا أن اسم نفطويه سداسي، قسمه الناظم في الاشتقاق نصفين: جعل النصف الأول نفطًا، والثاني صياحًا، وهذا الاشتقاق صحيح على هذا التفصيل، وقالوا هو في محمد رباعي من أين للشيخ عز الدين -غفر الله له- هذا حتى تصح معه لفظة محو، مع أني راجعت شرحه فوجدته قال: الميم والحاء، من اسم محمد -صلى الله عليه وسلم- فيهما محو لأعدائه، وأيضًا فلم نجد أحدًا استشهد، في بيت من بيوت بديعيته وصدر بيته، بقوله: ميم وحا في اشتقاق الاسم محو عدا، إلا الشيخ عز الدين، فإن المراد من بيت البديعية أن يكون صالِحًا للتجريد خاليًا من العقادة، ليصح الاستشهاد به على ذلك النوع. وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم: محمد أحمد المحمود مبعثه ... كل من الحمد تبيين اشتقاقهم قد تقدم تقرير أبي هلال العسكري، في هذا النوع، وهو أن يشتق المتكلم معنى لغرض يقصده. والغرض هنا، إن كلًّا من محمد وأحمد وصفتهما المحمودة مشتق من الحمد، وشرف هذا المدح ظاهر. والله أعلم.

ذكر الاتفاق

ذكر الاتفاق: ووصفه لابنه قد جاء تسمية ... فإنه حسن حسب اتفاقهم الاتفاق: عزيز الوقوع جدًّا، وهو أن تتفق للشاعر واقعة وأسماء مطابقة لتلك الواقعة تعلمه العمل في نفسها، إما بالمشاهدة، أو بالسماع، فإن السبق إلى معاني الوقائع، يشترك الناس في مشاهدتها وفي سماعها فضل لا يجحد، وإن حصل للشاعر في ذلك قران سعادة، سارت الركبان بقوله، وترنم الحادي والملاح به، كما اتفق للرضي بن أبي حصينة المصري، في حسام الدين لؤلؤ صاحب الملك الناصر، يوسف، حين غزا الفرنج الذين قصدوا الحجاز من بحر القلزم، فظفر الحاجب بهم فقال ابن أبي حصينة يخاطب الفرنج: عدوكم لؤلؤ والبحر مسكنه ... والدر في البحر لا يخشى من الغير وأحسن من ذلك وأبدع، ما اتفق للشيخ شمس الدين الكوفي، الواعظ، في الوزير مؤيد الدين العلقمي حيث قال: يا عصبة الإسلام نوحي والْطمي ... حزنًا على ما حل بالمستعصم دَستُ الوزارة كان قبل زمانه ... لابن الفرات فصار لابن العلقمي1 فاتفق أن المذكورين كانا وزيرين، وأن المورى بهما: "الفرات والعلقمي" نهران معروفان، وقد طابق الناظم بينهما بالفرات الحلو والعلقم المر.

_ 1 دَست الوزارة: منصبها.

ومنه قول ابن الساعاتي، وقد حضر الملك الناصر بيت يعقوب من حصون الشام يخاطب الفرنج: دعوا بيت يعقوب فقد جاء يوسف. ومنه قول ابن أبي الأصبع، وقد اجتمع الملك الأشرف موسى بالملك الظاهر، وهو الخضر بن يوسف بن أيوب: غدا مجمع البحرين شاطي فراتنا ... ألم تر موسى فيه قد لقي الخضرا واتفق لي مع الملك ما يناسب هذه الاتفاقات البديعية، فإني أنشدته، وقد كسر النيل في شهر مسرى، وبلغه في يوم الكسران نوروز قد وصل من الشام إلى غزة، وقصد الديار المصرية، فقلت: أيا ملكًا بالله أضحى مؤيدًا ... ومنتصبًا في ملكه نصب تمييز كسرت بمسرى نيل مصر وتنقضي ... وحقك بعد الكسر أيام نيروز1 الاتفاق البديع الغريب، في هذا البيت، أن كسر نوروز بعد كسر مسرى، ويسميه المصريون: الكسر النيروزي، ولم يبق بعده كسر. واتفق لي نظير ذلك بالحضرة المؤيدية وهو أن المقر التاجي، نائب السلطنة الشريفة، نقل عنه إلى المسامع الشريفة كلام، فثبت فيه براءته فأنشدته الحضرة الشريفة المؤيدية ما حصل به للخواطر الشريفة الرضا الزائد، وهو قولي: سبع وجوه لتاج مصر ... تقول ما في الوجوه شبهي وعندنا ذو الوجوه يهجى ... وأنت تاج بفرد وجه وبيت الشيخ صفي الدين في بديعيته على هذا النوع: ومن غدا اسم أمه نعتًا لأمته ... فتلك آمنة من سائر النقم اتفاق هذا البيت في اشتراك لفظي آمنة وآمنة. والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم. وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته قوله: محمد واسمه بالاتفاق له ... وصف يشاكله في اسمه العلم وبيت بديعيتي، أقول فيه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأذكر فيه وصفه الشريف لابنه الحسن2

_ 1 المسرى: المجرى. النيروز: عيد الربيع عند الإيرانيين ويصادف رأس السنة الفارسية. 2 الحسن والحسين -رضي الله عنهما- هما ابنا على بن أبي طالب -رضي الله عنه- ولكن النبي محمد صلى الله عليه وسلم كان يقول إنهما ابناه إشعارًا للمسلمين بقربهما له وبأنهما من ورثته فهما ابنا بنته فاطمة الزهراء -رضي الله عنها- والتي كان يقول فيها: "فاطمة بضعة مني،.... وفاطمة أم أبيها ... من أغضبها فقد أغضبني ومن أغضبني فقد أغضب الله".

رضي الله عنه: ووصفه لابنه قد جاء تسمية ... فإنه حسن حسب اتفاقهم اتفاق هذا البيت في اشتراك لفظي: حسن وحسن الوصف، هو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أشار إلى الحسن -رضي الله عنه- وقال: "إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين". اهـ.

ذكر الابداع

ذكر الإبداع: إبداع أخلاقه إيداع خالقه ... في زخرف الشعر فاسجع بها وهِمِ1 الإبداع: هو أن يأتي الشاعر في البيت الواحد بعدة أنواع، أو في القرينة الواحدة من النثر وربما كان في الكلمة الواحدة ضربان من البديع، ومتى لم يكن كذلك فليس بإبداع، كقوله تعالى: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} 2. هذه الآية الشريفة استخرج منها زكي الدين بن أبي الأصبع أنواعًا كثيرةً من البديع منها: المناسبة التامة بين ابلعي وأقلعي، والمطابقة اللطيفة بين الأرض والسماء، والمجاز في قوله: ويا سماء، ومراده مطر السماء، والاستعارة في قوله: أقلعي، والإشارة في قوله تعالى: وغيض الماء، فإنه بهاتين اللفظتين عبر عن معانٍ كثيرة، والتمثيل في قوله تعالى: وقضي الأمر، فإنه عبر عن هلاك الهالكين ونجاة الناجين بغير لفظ الموضوع له، والإرداف في قوله تعالى: واستوت على الجودي، فإنه عبر عن استقرارها في المكان بلفظ قريب من لفظ المعنى، والتعليل؛ لأنه قوله تعالى: غيض الماء، علة الاستواء، وصحة التقسيم، إذ قد استوعب سبحانه أقسام أحوال الماء حالة نقصه، والاحتراس، في قوله تعالى: وقيل بعدًا للقوم الظالمين، إذ الدعاء عليهم مشعر بأنهم مستحقون الهلاك، احتراسًا من ضعيف يتوهم أن الهلاك شمل من يستحق ومن لا يستحق، فأكد بالدعاء على المستحقين، والمساواة؛ لأن لفظ الآية الشريفة لا يزيد على معناها، وحسن النسق؛ لأنه سبحانه وتعالى قص القصة،

_ 1 هِم: أمر من هام يهيم أي أحبَّ حبًّا شديدًا. 2 هود: 11/ 44.

وعطف بعضهما على بعض، بحسن ترتيب، وائتلاف المعنى؛ لأن كل لفظة لا يصلح معها غيرها، والإيجاز؛ لأنه سبحانه وتعالى قص القصة بأقصر عبارة، والتسهيم؛ لأنه من أول الآية إلى قوله: أقلعي، يقتضي آخرها، والتهذيب؛ لأن مرادات الألفاظ موصوفة بصفات الحسن، وعليها رونق الفصاحة لسلامتها من التعقيد والتقديم والتأخير، والتمكين؛ لأن الفاصلة مستقرة في قرارها مطمئنة في مكانها، والانسجام، وهو تحدر الكلام بسهولة، كما ينسجم الماء، وباقي مجموع الآية الشريفة هو الإبداع الذي هو المراد هنا، مع تكرار الأنواع البديعية. وسهوت عن تقديم حسن البيان، وهو أن السامع لا يتوقف في معرفة معنى الكلام، ولا يشكل عليه شيء من هذه النظائر، وهذا الكلام تعجز عنه قدرة البشر. وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته على الإبداع قوله: ذل النضار كما عز النظير لهم ... بالفضل والبذل في علم وفي كرم1 الشيخ صفي الدين في بيته من أنواع البديع: التجنيس، والتسجيع، واللف والنشر، والكناية عن الكرم، في قوله: ذل النضار، وائتلاف المعنى مع المعنى. والعميان ما نظموا هذا في بديعيتهم. وبيت الشيخ عز الدين الموصلي ذكر فيه ستة عشر نوعًا، ما أمكن العبد استيعابها، وتركته لحذاق الأدب، وهو قوله: كم أبدعوا روض عدل بعد طولهم ... وأترعوا حوض فضل قبل قولهم وبيت بديعيتي، أقول فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم: إبداع أخلاقه إبداع خالقه ... في زخرف الشعر فاسجع بها وهم الشطر الأول من هذا البيت مشتمل على: التورية، وعلى جناس التصحيف، وعلى الجناس المطلق، وعلى الترصيع، والمماثلة، والتسجيع، وائتلاف المعنى مع المعنى، والسهولة. والشطر الثاني فيه: التورية، ومراعاة النظير، والاعتراض، والانسجام ظاهر في البيت بكماله، والإبداع الذي هو المراد هنا، والله أعلم.

_ 1 النضَار: الجود والكرم.

ذكر المماثلة

ذكر المماثلة: فالخير ماثله والعفو جاوره ... والعدل جانسه في الحكم والحكم هذا النوع، أعني المماثلة: هو أن تتماثل ألفاظ الكلام، أو بعضها، في الزنة دون التقفية، كقوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ، النَّجْمُ الثَّاقِبُ، إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} 1 وقد تأتي ألفاظ المماثلة مقفاة من غير قصد؛ لأن التقفية في هذا الباب غير لازمة، كقول امرئ القيس: كأن المدام وصوب الغمام ... وريح الخزامى ونشر العطر وأما الشاهد الذي هو على أصل هذا الباب في الزنة دون التقفية، فهو كقول الشاعر: صفوح صبور كريم رزين ... إذا ما العقول بدا طيشها2 والفرق بين المماثلة والمناسبة توالي الكلمات المتزنة وتفرقها في المناسبة، قلت: هذا النوع، أعني المماثلة، ما تستحق عقود أنواع البديع، بسموها، أن ينتظم النوع السافل في أسلاكها، وما أعلم وجه الإبداع فيه ما هو، ولا نرى من استخراجه وعده بديعًا غير الكثرة، وقد حسن أن أنشد ههنا: وكثر فارتابت ولو شاء قلّلا وبالله ما اختلج في فكري من حين تأدبت أن أرصعه في قصيدة من قصائدي، ولكن حكم المعارضة أوجب ذلك.

_ 1 الطارق: 86/ 31. 2 الصفوح: المتسامح المتساهل. الرزين: الوقور العاقل.

وبيت الشيخ صفي الدين الحلي: سهل خلائقه صعب عرائكه ... جم غرائبه في الحكم والحكم1 والعميان ما نظموا. وبيت الشيخ عز الدين الموصلي: يبدي مماثلة يعطي مناسبة ... يجزي مجانسة في الكلم والكلم وبيت بديعيتي: فالخير ماثله والعفو جاوره ... والعدل جانسه في الحكم والحكم

_ 1 العرائك: جمع عريكة وهي العشرة والمعاملة. جم: كثير.

ذكر حصر الجزئي وإلحاقه بالكلي

ذكر حصر الجزئي وإلحاقه بالكلي: الحق بحصر جميع الأنبياء به ... فالجزء يحلق بالكلي للعظم هذا النوع الغريب اخترعه الشيخ زكي الدين بن أبي الأصبع، وهو أن يأتي المتكلم إلى نوع فيجعله، بالتعظيم له، جنسًا، بعد حصر أقسام الأنواع فيه والأجناس، كقوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} 1 فإنه سبحانه وتعالى يعلم ما في البر والبحر، من أصناف الحيوانات والجماد حاصر الجزئيات المولدات، فرأى الاقتصار على ذلك لا يكمل به التمدح، لاحتمال أن يظن ضعيف أنه جلّ جلاله يعلم الكليات دون الجزئيات، فإن المولدات، وإن كانت جزئيات بالنسبة إلى جملة العالم، فكل واحد منها كلي بالنسبة إلى ما تحته من الأجناس والأنواع والأصناف، فقال، لكمال التمدح: {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا} 2. وعلم سبحانه وتعالى أن علم ذلك يشاركه فيه كل ذي إدراك، فتمدّح بما لا يشاركه فيه أحد فقال عز من قائل: {وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ} 3 ثم ألحق هذه الجزئيات بالكليات فقال: {وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} 4 وأمثاله من النظم قول الشاعر: إليك طوى عرص البسيطة جاعل ... قصارى المطايا أن يلوح لها القصر فكنت وعزمي في الظلام وصارمي ... ثلاثة أشباه كما اجتمع النشر فبشرت آمالي بملك هو الورى ... ودار هي الدنيا ويوم هو الدهر

_ 1 الأنعام: 6/ 59. 2 الأنعام: 6/ 59. 3 الأنعام: 6/ 59. 4 الأنعام: 6/ 59.

المراد من النوع، البيت الثالث، فإن الشاعر قصد تعظيم الممدوح وتفخيم أمر داره التي قصد فيها، ومدح يومه الذي لقيه فيه، فجعل الممدوح جميع الورى، وجعل داره الدنيا، ويومه الدهر، فجعل الجزء كليًّا بعد حصر أقسام الجزئي، أما جعله الجزئي كليًّا فلأن الممدوح جزء من الورى، والدار جزء من الدنيا، واليوم جزء من الدّهر، وأما حصر أقسام الجزئي؛ فلأن العالم عبارة عن أجسام وظروف زمان وظروف مكان، وقد حصر ذلك، وهذا النوع صعب المسالك في نظمه، عزيز الوقوع والتحصيل، وقد فر العميان من نظمه. وبيت الشيخ صفي الدين الحلي فيه: شخص هو العالم الكلي في شرف ... ونفسه الجوهر القدسي في عظم الشيخ صفي الدين جعل الجزئي كليًّا فقط، وهو القسم الأول، لكون الواحد لا يسع جميع القيود وبيت الشيخ عز الدين: فألحق الجزء بالكلي منحصرًا ... إذ دينه الجنس للأديان كلهم هذا البيت ما وجدت فيه للكلام فسحة لأمور، وبيت بديعيتي: ألحق بحصر جميع الأنبياء به ... فالجزء يلحق بالكلي للعظم النبي -صلى الله عليه وسلم- صالح أن يكون هنا كليًّا، العلو مقداره وعظمه، فقولي عن الأنبياء: فالجزء يلحق بالكلي للعظم، لا يخفى ما فيه من المبالغة والمغالاة في وصف الممدوح، صلى الله عليه وسلم، هذا مع تحرير هذا النوع الذي يدق عن أفهام كثيرة، وإيضاحه مع التورية باسمه، وسهولة تركيبه وانسجامه، وما أعلم له في هذا الباب نظيرًا، وما أوضحه وزاده طلاوة وحسنًا إلا تشريفه بالمديح النبوي.

ذكر الفرائد

ذكر الفرائد وشم وميض بروق من فرائده ... وانظم حنانيك عقدًا غير منفصم الفرائد: نوع لطيف مختص بالفصاحة دون البلاغة؛ لأن المراد منه أن يأتي الناظم، أو الناثر، بلفظة فصيحة من كلام العرب العرباء تتنزل من الكلام منزلة الفرائد من العقد، وتدل على فصاحة المتكلم بها، بحيث أن تلك اللفظة لو سقطت من الكلام لم يسد غيرها مسدها، كقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} 1 قوله تعالى: الرفث، فريدة لا يقوم غيرها مقامها، وكقوله تعالى: {هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي} 2 فقوله سبحانه وتعالى: أهش بها على غنمي، فريدة يعز على الفصحاء أن يأتوا بمثلها في مكانها، ومنه قول عنترة في معلقته: يا دار عبلة بالجواء تكلمي ... وعمي صباحًا دار عبلة واسلمي فعمي صباحًا، فريدة في مكانها. وروي أن أبا ذر أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: عم صباحًا، فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: "إن الله قد أبدلني ما هو خير منها". فقال: ما هي؟ قال: "السلام". وبيت الشيخ صفي الدين الحلي: ومن له جاور الجزع اليبيس ومن ... بكفه أورقت عجزاء ذي سلم3

_ 1 البقرة: 2/ 287 2 طه: 10/ 18. 3 الجزع: الخرز الأسود والأبيض من العقيق. العجزاء: العصا أو بقية الشجرة. وذي سلم: في نسخة: من سلم.

الفريدة في بيت الحلي هي العجزاء، والعجزاء هي العصا المعقدة. والعميان ما نظموا هذا النوع. وبيت الشيخ عز الدين: كم حصحص الحق إذ وافت فرائده ... وفي الوطيس بدا ثبًتا بلا برم1 الفريدة في بيت الشيخ عز الدين هي لفظة الوطيس، وأما برم فما أبرم فيها أمرًا. وبيت بديعيتي أقول فيه، وأنا مستمر على خطابي لمن رام مديح النبي -صلى الله عليه وسلم- فإني قلت في البيت الذي قبله: ألحق بحصر جميع الأنبياء به ... فالجزء يلحق بالكلي للعظم وقلت بعده في الفرائد: وشم وميض بروق من فرائده ... وانظم حنانيك عقدًا غير منفصم2 الفرائد في هذا البيت ثلاثة وهي شم وحنانيك ومنفصم والوميض صالح لذا، والله أعلم بالصواب.

_ 1 حصحص الحق: ظهر وبان. الوطيس: احتدام المعارك. الثبت: الشجاع الذي يثبت في المعركة. البرم: التذمر. 2 شم: أمر من شام: طلب. الوميض: اللمعان. حنانيك: رحمك الله. مقصم: منقطع.

ذكر الترشيح

ذكر الترشيح: يس زادت على لقمان حكمته ... وبان ترشيحه في نون والقلم هذا النوع، أعني الترشيح: هو أن يأتي المتكلم بكلمة لا تصلح لضرب من المحاسن، حتي يؤتى بلفظة ترشحها وتؤهلها لذلك، كقول التهامي في مرثيته المشهورة: وإذا رجوت المستحيل فإنما ... تبني الرجاء على شفير هار1 فلولا ذكر الشفير، لما كان في الرجاء تورية برجا البئر، ولكان من رجوت الأمر، لقوله أولًا: وإذا رجوت المستحيل. قلت: وهذا النوع تقدم ذكره، في باب التورية المرشحة، وقد تقدم أيضًا أن التورية أربعة أنواع: مجردة ومرشحة ومهيأة ومبينة، فالمرشحة هي التي يذكر فيها لازم من لوازم المورى به قبل لفظ التورية أو بعده، وسميت مرشحة لترشيحها وتقويتها بذكر لازم المورى به، وتقدم هذا في باب التورية المرشحة، ولكن ذكروا في تكرير الترشيح هنا فائدة لم يكن لمكررها حلاوة، وهي إذا قيل: ما الفرق بين التورية والترشيح، وقد جعلت مثاليهما واحدًا؟ قلت: الفرق بينهما من وجهين: أحدهما من أنواع البديع ما لا يحتاج إلى ترشيح، وهي التورية المجردة المحضة، والثاني أن الترشيح لا يختص بالتورية دون بقية الأبواب، بل يعم المطابقة والاستعارة وغيرهما، في كثير من الأبواب، ألا ترى إلى قول أبي الطيب المتنبي: وخفوق قلب لو رأيت لهيبه ... يا جنتي لرأيت فيه جهنما

_ 1 الرجاء: للبئر، الناحية والأمل. الشفير: الحرف، والجنب، والناحية. الهار: الموشك على السقوط والخراب.

فإن قوله: يا جنتي، رشحت لفظة جهنم للمطابقة، ولو قال مكانها: يا منيتي، لم يكن في البيت مطابقة البتة، وأما ترشيح الاستعارة، فكقول بعض العرب: إذا ما رأيت النسر عزى ابن دأية ... وعشش في وكريه طارت له نفسي فإنه شبه الشيب بالنسر لاشتراكهما في البياض، وشبه الشعر الأسود بابن دأية، وهو الغراب، لاشتراكهما في السواد، واستعار التعشش من الطائر للشيب، لما سماه نسرًا ورشح به إلى ذكر الطيران الذي استعاره لنفسه من الطائر، فقد ترشح باستعارة إلى استعارة، ولولا خشية الإطالة لذكرت ترشيح التشبيه، وترشيح غيره من الأنواع. وبيت الشيخ صفي الدين الحلي يقول فيه عن النبي، صلى الله عليه وسلم: إن حل أرض أناس شد أزرهم ... بما أباح لهم من حط وزرهم1 لفظة شد، في البيت، للشيخ صفي الدين، رشحت لفظة حل، للمطابقة، ولو أبقاها على حالها في معنى الحلول، لم يكن في البيت مطابقة البتة. والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم. وبيت الشيخ عز الدين في بديعيته قوله: في الفتح ضم من الأنصار شملهم ... جبرًا لكسر بترشيح من الرحم الترشيح في بيت الشيخ عز الدين ظاهر، فإنه رشح الفتح للتورية بصريح الضم، ورشح الضم للتورية بذكر الكسر. وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم: يس زادت على لقمان حكمته ... وبان ترشيحه في نون والقلم فذكر لقمان رشح يس للتورية، وذكر النون والقلم رشح لقمان للتورية والفريق بين قولي: وبان ترشيحه في نون والقلم، وبين قول الشيخ عز الدين: بترشيح من الرحم، ظاهر، وأما سهولة التركيب وعذوبة الانسجام وتمكين القافية، فلم أحتج معهما إلى إقامة دليل، والله تعالى أعلم.

_ 1 الأزر: القوة والظهر. الوزر: الحمل الثقيل.

ذكر العنوان

ذكر العنوان النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم التباهل: {تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} 1 وكان قد خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- محتضنًا الحسين آخذًا بيد الحسن -عليهما السلام- وفاطمة تمشي خلفهما -سلام الله عليهم أجمعين- فحين رآهم العاقب قال للنصارى: لا تباهلوا محمدًا فإني أرى معه وجوهًا لو أقسم على الله أن يزيل بها الجبال لأزالها، فانصرفوا وقبلوا الجزية. والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم. وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته قوله: بشرى المسيح أتت عنوان دعوته ... وقبله كل هاد صادق القدم وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم: هبه العصا أثمرت عزًّا لصاحبها ... موسى وكم قد محت عنوان سحرهم هذا البيت عنوانه ظاهر لم يحتج فيه إلى شرح، ولكن التورية في العنوان وترشيحها، بلفظة محت، لا يخفي ما فيها من المحاسن؛ لأنها اسم النوع الذي هو القصد هنا، وأما قولي: به العصا أثمرت، فهي مناسبة ليس لها في الحسن مناسب.

_ 1 آل عمران: 3/ 61.

ذكر التسهيم

ذكر التسهيم: كذا الخليل بتسهيم الدعاء به ... أصابهم ونجا من حر نارهم هذا النوع مأخوذ من الثوب المسهم، وهو الذي يدل أحد سهامه على الآخر الذي قبله، لكون لونه يقتضي أن يليه لون مخصوص به، لمجاورة اللون الذي قبله. ومن المؤلفين من جعل التسهيم والترشيح شيئًا واحدًا، والفرق بينهما: أن الترشيح لا يدل على غير القافية، والتسهيم تارة يدل على عجز البيت، وتارة يدل على ما دون العجز، وتعريفه أن يتقدم من الكلام ما يدل على ما يتأخر، تارة بالمعنى وتارة باللفظ، كأبيات أخت عمرو ذي الكلب، فإن الحذاق بمعاني الشعر وتأليفه يعلمون معنى قولها: فأقسم يا عمرو لو نبهاك. يقتضي أن يكون تمامه: إذا نبها منك داء عضالًا، دون غيره من القوافي؛ لأنه لو قال، مكان داء عضالًا: ليثًا غضوبًا، أو أفعى قتولًا، أو ما ناسب ذلك، لكان الداء العضال أبلغ، إذ كل منهما ممكن مغالبته والتوقي منه، والداء العضال لا دواء له، هذا مما يعرف بالمعنى، وأما ما يدل على الثاني دلالة لفظية فهو قولها بعده: إذا نبها ليث عرّيسة ... مقيتًا مفيدًا نفوسًا ومالًا1 وكذلك قولها: وخرق تجاوزت مجهولة ... بوجناء حرف تشكي الكلالا2 فكنت النهار به شمسه

_ 1 العريسة: الأكمة، أو الشجر الملتف يكون مأوى للأسد. 2 الخرق: الأحمق. الوجناء: من النوق، الشديدة القوية. الحرف: من النوق: المهزولة.

يقتضي أن يتلوه: وكن دجا الليل فيه الهلالا. ومنه قول البحتري: أحلت دمي من غير جرم وحرمت ... بلا سبب يوم اللقاء كلامي فليس الذي قد حللت بمحلل ومن هنا يعرف المتأدب أن تمامه: وليس الذي قد حرمت بحرام. الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته قوله: كذلك يونس ناجي ربه فنجى ... من بطن حوت له في اليم ملتقم1 والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم. وبيت الشيخ عز الدين الموصلي، في بديعيته يقول فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم. تسهيمه في الوغى حسم لمتصل ... تسليمه في الرضا وصل لمحتشم قلت: الشيخ عز الدين رماه التسهيم في العكس، فتشوش إذ صار كل من النوعين يتجاذبه، وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم: كذا الخليل بتسهيم الدعاء به ... أصابهم ونجا من حر نارهم لفظة التسهيم، في هذا البيت، انحصر فيها ثلاثة أنواع أحدها تسمية النوع، والثاني الاستعارة البديعية، والثالث التورية المرشحة، فإن لفظة التسهيم رشحت التورية، بذكر الإصابة وتحرير النوع ظاهر في دلالة الأول على الثاني.

_ 1 اليم: البحر. ملتقم: مبتلع.

ذكر التطريز

ذكر التطريز: شملي بتطريز مدحي فيه منتظم ... يا طيب منتظم يا طيب منتظم هذا النوع، أعني التطريز: هو أن يبتدئ المتكلم، أو الشاعر، بذكر جمل من الذوات غير منفصلة، ثم يخبر عنها بصفة واحدة من الصفات مكررة بحسب العدد الذي قرره وقدره، في تلك الجملة الأولى، وعدد الجمل التي وصفت بالذوات عدد تكرر واتحاد لا عدد تغير، كقول ابن الرومي: قرون في رءوس في وجوه ... صلاب في صلاب في صلاب ومثله قوله: كأن الكأس في يدها وفيها ... عقيق في عقيق في عقيق1 ومثله قول ابن المعتز: فثوبي والمدام ولون خدي ... شقيق في شقيق في شقيق وأبدع من الجميع وألطف، قولي من قصيدتي المصغرة: لفيظك والمقيلة مع نظيمي ... سحير في سحير في سحير وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته على التطريز: فالجيش والنقع تحت الظل مرتكم ... في ظل مرتكم في ظل مرتكم

_ 1 فيها: فمها.

قلت: هذا البيت لا يخلو أن يكون للعقادة فيه بعض تراكم. والعميان ليس في بديعيتهم تطريز: وبيت الشيخ عز الدين الموصلي -رحمه الله تعالى- في بديعيته قوله: الدين والنقع تطريز لمحترم ... في نصر محترم في نصر محترم هذا البيت لم أفهم منه غير لفظة التطريز، الذي هو اسم النوع. وبيت بديعيتي أقول عن النبي صلى الله عليه وسلم. شملي بتطريز مدحي فيه منتظم ... يا طيب منتظم يا طيب منتظم هذا البيت بهجة التطريز ظاهرة على أركانه، وقد جمعت فيه بين التطريز الذي هو المراد، والتورية، واللف والنشر، والترشيح، والاستعارة، ومراعاة النظير، والسهولة، والانسجام، والجناس التام، والله أعلم.

ذكر التنكيت

ذكر التنكيت: وأله البحر آل إن يقس بندى ... كفوفهم فافهموا تنكيت مدحهم1 هذا النوع، أعني التنكيت، يستحق لغرابته أن ينتظم في أسلاك البديع، ويغار عليه أن يعد مع المماثلة والموازنة ومع التطريز والترصيع، وقد تقدم الكلام على سفالة هذه الأنواع. والتنكيث: عبارة عن أن يقصد المتكلم شيئًا بالذكر دون أشياء كلها تسد مسده، لولا نكتة في ذلك الشيء المقصود، ترجح اختصاصه بالذكر. وعلماء هذا الفن أجمعوا على أنه لولا تلك النكتة التي انفرد بها، لكان القصد إليه دون غيره خطأ ظاهرًا عند أهل النقد، وجاء من ذلك في الكتاب العزيز قوله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} 2 فإنه سبحانه خص الشعرى بالذكر، دون غيره من النجوم، وهو رب كل شيء؛ لأن من العرب من عبد الشعرى، وكان يعرف بابن أبي كبشة، ودعا خلقًا إلى عبادتها، فأنزل الله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} التي ادعيت فيها الربوبية دون سائر النجوم، وفي النجوم ما هو أعظم منها. ومنه قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} 3 فإنه سبحانه وتعالى خص تفقهون دون تعلمون، لما في الفقه من الزيادة على العلم، والمراد الذي يقتضيه معنى هذا الكلام: الفقه في معرفة كنه التسبيح من

_ 1 آله: أهله وأقاربه. آل: سراب. إن: لا. 2 النجم: 53/ 49. 3 الإسراء: 17/ 44.

الحيوان البهيمي والنبات والجماد، الذي تسبيحه بمجرد وجوده الدال على قدرة موجده ومخترعه. ومن الأمثلة الشعرية قول الخنساء: يذكرني طلوع الشمس صخرًا ... وأذكره بكل غروب شمس فخصت هذين الوقتين بالذكر، وإن كانت تذكره كل وقت، لما في هذين الوقتين من النكتة المتضمنة للمبالغة، في وصفه بالشجاعة والكرم؛ لأن طلوع الشمس وقت الغارات على العدا، وغروبها وقت وقود النيران للقرى. وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته، على التنكيت: وآله أمناء الله من شهدت ... لقدرهم سورة الأحزاب بالعظم الشيخ صفي الدين خصص سورة الأحزاب هنا بالذكر؛ لأن فيها تصريحًا بمدح آل البيت -عليهم السلام- بقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} 1 ولولا هذا الاختصاص كانت كغيرها من السور. والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم. وبيت الشيخ عز الدين الموصلي، رحمه الله: ففي براءة تنكيت بمدحته ... معناه في الشرح يشفي داء ذي البكم2 ذكر الشيخ عز الدين، في شرحه، أن النكتة المقصودة في بيته، في سورة براءة، هي قوله تعالى: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} 3 وبيت بديعيتي أشير فيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: وآله البحر آل إن يقس بندى ... كفوفهم فافهموا تنكيت مدحهم التنكيت، في هذا البيت بديع وغريب في بابه، فإنني خصصت الندى بالذكر عند مقايسته بالبحر، في قولي: إن البحر عند ندى كفوفهم كالآل، والآل هو الذي يحسبه الظمآن ماء، ولو قلت: أنهاركفوفهم أو جداول كفوفهم لسد كل واحد منهما مسده بزيادة زائدة، ولكن في الندى نكتة ليست فيهما، وهي الغلو في أن البحر يصير عند هذا الندى سرابًا، وهذا الذي أوجب تخصيص الندى بالذكر دون غيره، وقد اجتمع في هذا البيت التنكيت الذي هو القصد هنا، والتورية، والغلو، ومراعاة النظير، والجناس، والله أعلم.

_ 1 الأحزاب، 33/ 33. 2 البكم: العجز عن التكلم خِلقة. 3 التوبة: 9/ 40.

ذكر الإرداف

ذكر الإرداف: وفي الوغى رادفوا لسن القنا سكنًا ... من العدا في محل النطق بالكلم نوع الإرداف: قالوا إنه هو والكناية شيء واحد. قلت: وإذا كان الأمر كذلك كان الواجب اختصارهما. وإنما أئمة البديع، كقدامة والحاتمي والرماني، قالوا: إن الفرق بينهما ظاهر، والإرداف: هو أن يريد المتكلم معنى، فلا يعبر عنه بلفظه الموضوع له، بل يعبر عنه بلفظ هو رديفه وتابعه، كقوله تعالى: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} 1 فإن حقيقة ذلك جلست على المكان، فعدل عن اللفظ الخاص بالمعنى إلى لفظ هو رديفه، وإنما عدل عن لفظ الحقيقة، لما في الاستواء الذي هو لفظ الإرداف، من الإشعار بجلوس متمكن لا زيغ فيه ولا ميل، وهذا لا يحصل من لفظ جلست وقعدت، ومن الأمثلة الشعرية على الإرداف قول أبي عبادة البحتري يصف طعنة: فأوجرته أخرى فأحللت نصلها ... بحيث يكون اللب والرعب والحقد ومراده القلب، فذكره بلفظ الإرداف، والفرق بين الإرداف وبين الكناية أن الإرداف قد تقرر أنه عبارة عن تبديل الكلمة بردفها، والكناية هي العدول عن التصريح بذكر الشيء إلى ما يلزم؛ لأن الإرداف ليس فيه انتقال من لازم إلى ملزوم، والمراد بذلك انتقال المذكور إلى المتروك كما يقال: فلان كثير الرماد، ومراده نقله إلى ملزومه، وهي كثرة الطبخ للأضياف.

_ 1 هود: 11/ 44.

وبيت الشيخ صفي الدين -رحمه الله تعالى- على الإرداف قوله: بقتبة أسكنوا أطراف سمرهم ... من الكماة محل الضغن والأضم1 الشيخ صفي الدين زاحم البحتري في بيته، إلى أن نزع قلبه من صدره، بل جل قصده في إردافه هنا القلب وكان الواجب العدول عنه لشهرته في هذا الباب عند أهل البديع. والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم. وبيت الشيخ عز الدين الموصلي: للطعن والضرب إرداف يحل به ... في موضع العقل يحكيه ذوو الحكم وبيت بديعيتي، قلت قبله عن آل النبي -صلى الله عليه وسلم- مشيرًا إلى الغلوّ في كرمهم: وآله البحر آل أن يقس بندى ... كفوفهم فافهموا تنكيت مدحهم وأردفته بقولي في الشجاعة: وفي الوغى رادفوا لسن القنا سكنا ... من العدا في محل النطق بالكلم انظر أيها المتأمل في بديع هذا الإرداف الغريب الذي ميزته على أقرانه من البحتري إلى الشيخ عز الدين، بحسن مراعاة النظير الذي أسكنت به الألسنة بالأفواه، بقولي: في محل النطق بالكلم، مع التورية بتسمية النوع، والله سبحانه أعلم.

_ 1 القتبة: جمع قتب وهو الضيق الخلق السريع الغضب من الرجال. الكماة: جمع كمي وهو الفارس المغوار. السمر: الرماح. الضغن: البغض والكره. الأضم: الحقد.

ذكر الإيداع:

ذكر الإيداع: وأودعوا للثرى أجسامهم فشكت ... شكوى الجريح إلى العقبان والرخم1 هذا النوع أعني الإيداع، يغلب عليه التضمين، والتضمين غيره، فإنه معدود من العيوب، والعيب المسمى بالتضمين هو أن يكون البيت متوقفًا في معناه على البيت الذي بعده، كقول النابغة: وهم وردوا الجفار على تميم ... وهم أصحاب يوم عكاظ إني شهدت لهم مواطن صادقات ... أنبئهم بود الصدر مني والإيداع الذي نحن بصدده: هو أن يودع الناظم شعره بيتًا من شعر غيره، أو نصف بيت أو ربع بيت، بعد أن يوطئ له توطئة تناسبه بروابط متلائمة، بحيث يظن السامع أن البيت بأجمعه له. وأحسن الإيداع ما صرف عن معنى غرض الناظم الأول، ويجوز عكس البيت المضمن، بأن يجعل عجزه صدرًا أو صدره عجزًا، وقد تحذف صدور قصيدة بكمالها وينظم لها المودع صدورًا، لغرض اختاره وبالعكس. وقد تقدم وتقرر أن الأحسن، في هذا الباب، أن يصرف الشاعر ما أودعه في شعره عن معناه الذي قصد صاحبه الأول، ويجوز تضمين البيتين بشرط أن ينقلهما من معناهما الأول إلى صيغة أخرى، كما حكي أن الحيص بيص قتل جرو كلب وهو سكران، فأخذ بعض الشعراء كلبة وعلق في رقبتها قصة وأطلقها عند باب الوزير، فإذا فيها مكتوب: يا أهل بغداد إن الحيص بيص أتى ... بخزية ألبسته العار في البلد

_ 1 العقبان والرخم: من الطيور الجوارح.

أبدى شجاعته بالليل مجترئًا ... على جريّ ضعيف البطش والجلد1 فأنشدت أمه من بعد ما احتسبت ... دم الأبليق عند الواحد الأحد2 أقول للنفس تأساء وتعزية ... إحدى يدي أصابتني ولم ترد كلاهما خلف من بعد صاحبه ... هذا أخي حين أدعوه وذا ولدي البيتان الأخيران لامرأة من العرب قتل أخوها ابنها، فقالت ذلك تسلية. ومنهم من أودع شعره بيتين، وكل بيت منهما لشاعر، كقول القاضي شهاب الدين محمود: وبتنا على حكم الصبابة مطعمي ... زفيري وأشجاني وشربي المدامع وخلي يعاطيني كئوس ملامة ... وينشدني والهم للقلب صادع أتطمع من ليلى بوصل وإنما ... تقطع أعناق الرجال المطامع فبت كأني ساورتني ضئيلة ... من الرقش في أنيابها السم ناقع البيت الأخير للنابغة، قلت غاية الأوائل أن ينقلوا المعنى الأول في الإيداع إلى معنى آخر، إن كان في بيتين أو بيت واحد أو نصف بيت، ولكن الفرقة التي مشت تحت العلم الفاضلي، وتحلت بالقطر النباتي وهلم جرًا، لم يرضوا بنقله مجردًا من التورية أو ما يناسبها من أنواع البديع، ومما يؤيد قولي هذا قول القاضي جلال الدين القزويني، في التلخيص وأحسنه ما زاد على الأصل بنكتة، كالتورية والتشبيه، وممن أبدع في نقله إلى التورية علامة هذا الفن، الشيخ جمال الدين بن نباتة -رحمه الله تعالى- بقوله: أتاني على البانياسيّ منشدًا ... فيا لك من شعر ثقيل مطوّل مكر مفر مقبل مدبر معًا ... كجلمود صخر حطه السيل من عل ومثله قوله في مليح اسمه حبيب وهو: حبيب حبيب القلب أخلى منيزلًا ... به كان في عرس المسرة ينجلي فيا صاحبي الذكر قد لذ بالبكا ... قفا نبك من ذكري حبيب ومنزل وما يشك من عنده ذوق أن المقطوعين في الإيداع تميز المحاسن التورية، وغريب النقل إلى غرض كل من الناظمين وكذلك تقطيع أعناق الرجال، في إيداع الشهاب محمود، فإنهم نقلوه إلى الصفع، وجاءت توريته في غاية الحسن، وهذا هو المذهب

_ 1 جريّ: تصغير جرو وهو ولد الكلب. 2 الأبليق: هكذا في الأصل ونظنها من الأخطاء الطباعية والأصح: الأبيلق: وهو تصغير الأبلق الذي في لونه الأسود بقع بيضاء، وكان قد صغر جرو في البيت الذي قبله. فيصير جُرَيٌّ أبيلق، والله أعلم.

الذي انتهت غايات المتأخرين إليه، ومن ذلك قول الشيخ جمال الدين بن نباتة أيضًا وهو: أقول لمعشر جلدوا ولاطوا ... وباتوا عاكفين على الملاح ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح وقولي: ومذ كلمت قلبي سيوف لحاظها ... شكوت إليها قصتي وهي تبسم فلم أر بدرًا ضاحكًا قبل وجهها ... ولم تر قبلي ميتًا يتكلم وقال الشيخ جمال الدين بن نباتة: دنوت إليها وهو كالفرخ راقد ... فيا خجلتي لما دنوت وإذلالي فقلت امعكيه بالأنامل فالتقى ... لدى وكرها العناب والحشف البالي1 وقولي طاول الليل بالذؤابة قبس ... وتثنى عجبًا بلطف وكيس2 فحلا لي السهاد مذ طال ليلي ... يا خليليّ من ذؤابة قيس وقال الشيخ جمال الدين بن نباتة: تصدى إلى أيري فقلت له اتئد ... وحقك لو عاينته وهو ثائر3 رأيت الذي لاكله أنت قادر ... عليه ولا عن بعضه أن صابر وأنشدني، من لفظه لنفسه الكريمة، مولانا المقر الأشرف المرحومي القاضوي الناصري محمد بن البارزي الجهني الشافعي، صاحب دواوين الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية المحروسة، كان، تغمده الله برحمته، ما اختلف هو والشيخ جمال الدين بن نباتة في إيداعه واتفقا في معناه، والمعنى في البيتين المذكورين قبل. وأما الترشيح فعندي أن التورية في بيتي المقر الناصري أرجح، وهما قوله: أقول وقد أبى عن أخذ أيري ... وسالت من محاجره دموع إذا لم تستطع شيئًا فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع

_ 1 امعكيه: ادلكيه. وكرها: فرجها، شبهه بوكر الطير. العناب: البظر: شبهه بالعناب: الثمر المعروف. الحشف: التمر أو التمرة من قضيب الرجل على التشبيه. 2 الكيس: اللباقة. 3 اتئد: تمهل. ثائر: منتصب.

الذي ترجع عندي أن قوله: وجاوزه أعقد من قول الشيخ جمال الدين: لا كله، والذي أقوله: إن كلًّا منهما في بابه بديع وغريب، وقال الشيخ جمال الدين بن نباتة: لم أنس موقفنا بكاظمة ... والعيش مثل الدار مسود والدمع ينشد في مسائله ... هل بالطلول لسائل ردّ ومثله قولي: قف واستمع طربًا فليلى في الدجى ... باتت معانقتي ولكن في الكرى وجرى لدمعي رقصة بخيالها ... أترى دري ذاك الرقيب بما جرى ومن إيداعاتي الغريبة قولي من إعجاز الملحة: تنكر الحال علينا عندما ... سال عليه العارض المسلسل فعنه سلني إن ترد تعريفه ... فإنه منكر يا رجل ومما انفرد به الشيخ جمال الدين بن نباتة -رحمه الله تعالى- تضمين أعجاز الملحة، والذي يؤيد انفراده حسن تخلصه من الغزل، وهو ماش على التضمين، إلى مدح قاضي القضاة، ولم يزل مستمرًا على غرر المدائح اللائقة بالقاضي إلى حسن الختام. وضمن الشيخ زين الدين بن الوردي نبذة من أعجاز الملحة، ولم يفرغها في غير قوالب الغزل، فإن التخلص من الغزل إلى المدح من المستحيلات في هذا الباب، ولكن الشيخ جمال الدين بن نباتة كان في ذلك العصر نسيج وحده، ومن المعلوم أن الجماعة مثل الشيخ زين الدين بن الوردي، والشيخ صلاح الدين الصفدي، والشيخ برهان الدين القيراطي، وغيرهم ممن عاصره، ما منهم إلا من تطفل على موائد حلاواته النباتية. وقد عنَّ لي أن أورد هنا نبذة من التضمين للشيخين، وأجعل كلًّا من أبيات الشيخين وقفًا محبسًا على أصحاب الذوق السليم. قال الشيخ جمال الدين في المطلع: صرفت فعلي في الأسى وقولي ... بحمد ذي الطول الشديد الحول1 وقال الشيخ زين الدين -رحمه الله تعالي- في المطلع: يا سائلي عن الكلام المنتظم ... هو الذي في لفظ من أهوى قسم هذا المطلع من إيداع الذي قصر فيه باع الشيخ زين الدين بن الوردي، فإنه صدر

_ 1 الْحَوْل: القوة.

مطلعه بالصدر وهو جائز، ولكنه غير المراد، فإن الشيخ جمال الدين تقدمه بتضمين الإعجاز ونسج إبداعه على هذا المنوال، ومن أغزال الشيخ جمال الدين البديعة في هذا الباب قوله: أفدي غزالًا مثلوا جماله ... في مثل قد أقبلت الغزاله ما قال مذ ملك قلبي واسترق ... كقولهم رب غلام لي أبق1 للقمرين وجهه مطالع ... فهي ثلاث ما لهن رابع لأحرف الحسن على خديه خط ... وقال قوم إنها اللام فقط منفرد بالوصل في دار الهنا ... مثاله الدار وزيد وأنا لا يختشي تلاعب الظنون ... والأمر مبني على السكون في خده التبري هان نشبي ... وقيمة الفضة دون الذهب2 فاصرف عليه ثروة تسام ... فما على صارفها ملام وإن رأيت قدّه العالي فصف ... وقف على المنصوب منه بالألف والعارض النوني ما أنصفته ... وإن تكن باللام قد عرّفته واهاله من حرف نون قد عرف ... كمثل ما تكتبه لا يختلف يأتي بنقط الخال في الإعجام ... وتارة يأتي بمعنى اللام للحظه المسكر فعل يطرب ... مفعوله نحو سقى ويشرب ولا تلم فيه عويشقًا تلف ... ولا سكيران الذي لا ينصرف جسمي وذاك الخصر والجفن الدنف ... هن حروف الاعتلال المكتنف2 فيا مليحًا عنه أخرت القمر ... أما لا هوان وإما لصغر كرر فما أحلى بسمعي السامي ... قولك يا غلام يا غلامي وارفق بمضناك فما سوى اسمه ... ولا تغير ما بقي من رسمه وقد حكى العذار في الوقوف ... فاعطف على سائلك الضعيف وافخر بمعنى لحظك المعشوق ... في كل ما تأنيثه حقيقي يا لك لحظًا بسعاد أزرى ... وجاء في الوزن مثال سكرى يا ناصبًا أوصاف ذياك الصبي ... تم الكلام عنده فلتنصب هيهات بل دع عنك ما أضنى وما ... وعاص أسباب الهوى لتسلما

_ 1 استرقّ: استعبد. أبق: هرب. 2 التبر: الذهب. نَشَبي: مالي، الثابت والمنقول. 3 الدنِف: المريض. المكتنف: الذي أصاب المصيب.

وكرر الأمداح في علي ... قاضي القضاة الطاهر النقي بكل معنى قد تناهى واستوى ... في كلم شتى رواها من روى بادر بنا ذاك الحمى العالي وصف ... إذا اندرجت قائلًا ولا تقف دونك والمدح زكيًا معجبًا ... نحو لقيت القاضي المهذبا فالجود والعلم عليه أرسي ... وهكذا أصبح ثم أمسي واهرع إلى قارٍ قراه نافع ... وافزع إلى حام حماه مانع1 يقول للضيف نداه جب وجل ... ومثله ادخل وانبسط واشرب وكل وإن ظفرت عنده بموعد ... تقول كم مال أفادته يدي لله ما ألينه عند العطا ... وما أحد سيفه إذا سطا إن قال قولًا بين الغرائبا ... وقام قس في عكاظ خاطبًا وإن سخا أتى على ذي العدد ... والكيل والوزن ومذروع اليد معطل السمع عن العذال ... فما له مغير بحال الفضل جنس بيته المهنا ... ونوعه الذي عليه يبنى سام به أهل العلا جميعًا ... وارفع ولا رد ولا تقريعًا2 وإن ذكرت أفق بيت قد نما ... فانصب وقل كم كوكب تحوي السما بيت عظيم المجد والعلاء ... عند جميع العرب العرباء3 إذا اجتليت في العطا جبينه ... أو استثرت للرجا يمينه منها والبيت مضمن بكماله: تقول قد خلت الهلال لائحًا ... وقد وجدت المستشار ناصحًا كم بالغنى عنه تولى راجل ... وواقف بالباب أضحى سائل قال له الشرع امض ما تحاوله ... واقض قضاء لا يرد قائله وأنت يا قاصده سر في جدد ... واسع إلى الخيرات لقيت الرشد4 ولا تقل كان غمامًا ورحل ... كان وما انفك الفتى ولم يزل باب سواه اهجر عداك عيب ... وصغر الباب وقل بويب أود به أنسى أحاديث المطر ... فليس يحتاج لها إلى خبر

_ 1 قارٍ: الذي يقري الضيوف أي يطعمهم. والقِرى: إطعام الضيف. 2 التقريع: اللوم والتوبيخ. 3 العرب العرباء: العرب الخلص، الأقحاح. 4 الجدد: نوع من السير السريع ويكون في الأرض المستوية.

خذ بحر شعر جبته للذكر ... وغصت في البحر ابتغاء الدر حتى ملا عيني نداه عينًا ... وطبت نفسًا إذ قضيت الدينا دونكها معسولة الآداب ... ممزوجة بملحة الإعراب1 مضى بها الليل مضيّ الأنجم ... وبات زيد ساهرًا لم ينم فافتح لها باب القبول تجتلى ... وإن تجد عيبًا فسد الخللا لا زلت مسموع الثنا ذا منن ... جائلة دائرة في الألسن ما لعداك راية تقام ... فليس إلا الكسر والسلام وقال الشيخ زين الدين بن الوردي: في صدغه للحسن آيات تخط ... وقال قوم إنها اللام فقط قلت: الشيخ جمال الدين تقدمه في هذا البيت بالإيداع، وهنا بحث لطيف أبحثه مع حذاق الأدب، قال الشيخ جمال الدين بن نباتة: "لأحرف الحسن على خديه خط" ومراده بذكر الأحرف هنا مخالفة القوم له، على أنها ليست بأحرف وإنما هي حرف اللام فقط. وقال الشيخ زين الدين: "في خده للحسن آيات تخط" فلم يبق لقول من خالفه بقوله. وقال قوم إنها اللام فقط موضع ولا محل، وأين الآيات التي تخط من اللام، ولعمري إن هذا الإيداع، على هذا التقدير، يصير بينه وبين العجز من بيت الملحة بعض مباينة، وكان الأليق للشيخ زين الدين الإعراض عن إيداع هذا البيت بعد الشيخ جمال الدين، فإنه لم يترك لغيره مجالًا فيه، والله أعلم. وقال الشيخ زين الدين بن الوردي، رحمه الله تعالى: زمانه غض فلا يخشى فرط ... إذ أَلِفُ الوصل متى يدرج سقط بسيف حفنه قتلت نفسي ... فإنه ماض بغير لبس2 فيا غزال إن أبنت ما اعتدى ... فأسقط الحرف الأخير أبدا قلت لمذكر لحي خلّ الفند ... واسع إلى الخيرات لقيت الرشد وهذا الإيداع أيضًا نسخه الشيخ زين الدين من قول الشيخ جمال الدين، وسبكه في غير قالبه، وأين هذا من قول الشيخ جمال الدين في إشاراته إلى قاصد ممدوحه: وأنت يا قاصده سر في جدد ... واسع إلى الخيرات لقيت الرشد

_ 1 معسولة الآداب: حلوة الآداب. وكأن آدابها مزجت بالعسل لحلاوتها. 2 ماضٍ: قاطع. اللبس: الشك والريبة.

قال الشيخ زين الدين: وإن يكن عدلك في المؤنث ... فقل لها خافي رجال العبث منها وأجاد إلى الغاية: قوامه أشبه شيء بالألف ... كمثل ما تكتبه لا يختلف ومثله في الحسن قوله: يا خصره من ردفه بالمنح ... ولا تسل أخف وزنًا أم رجح تركيب هذا البيت غاية في هذا الباب؛ لأنه قدم ذكر الألف في الأول، وقال في عجز بيت الملحة كمثل ما تكتبه لا يختلف، بخلاف قوله في ذلك البيت آيات، وقوله في عجز بيت الملحة. وقال قوم إنها اللام فقط وقال: عذاره الرقيم فز بلثمه ... ولا تغير ما بقي من رسمه1 ولكن مرسوم الشيخ جمال الدين أمثل، وأين قول الشيخ جمال الدين: "وارفق بمضناك فما سوى اسمه" حتى يقول بعد التوطئة: "ولا تغير ما بقي من رسمه". من قول الشيخ زين الدين: "عذاره الرقيم فز بلثمه". وقال الشيخ زين الدين بعد بيته الأول: تقول فيه خضرة يسيره ... كما تقول ناره منيره دينار وجهه به شححت ... وكم دنينير به سمحت2 يا ليته يعطف بالوصال ... والعطف قد يدخل في الأفعال لا ما حلا لي في هواه العذل ... لشبهه الفعل الذي يستقبل منها وأجاد: عيناه أفنت أكثر العشاق ... وهكذا تفعل في البواقي في ثغره جواهر غوالي ... جلوتها منظومة اللآلي صورته كالبدر فوق الغصن ... فانظر إليها نظر المستحسن وخل عنك يا عذول العذلا ... وإن تجد عيبًا فسد الخللا وهذا البيت أيضًا منسوخ من إيداع الشيخ جمال الدين، والبون بينهما بعيد، فإن

_ 1 الرقيم: المنقش. والرقيم، الكتاب أو اللوح نقش فيه. 2 شح: بخل.

الشيخ جمال الدين اعتذر للممدوح في آخر القصيدة، عن التقصير، كما جرت عادة الشعراء بقوله: فافتح لها باب القبول تجتلى ... وإن تجد عيبًا فسد الخللا هذا، مع مطابقة الفتح بالسد في هذا الباب، وهذا غاية، وأما اعتذار الشيخ زين الدين للعاذل، وقوله له عن محبوبه: "وإن تجد عيبًا فسد الخللا" فالمحبوب عند محبه أجل من هذا القدر، والله أعلم، وختام الشيخ زين الدين بن الوردي -رحمه الله- قوله: حتى رثى لي وألان القولا ... والحمد لله على ما أولى ولعمري إني اختصرت من إيداع الشيخ زين الدين بن الوردي جانبًا لم أرضه له. ومن الإيداعات التي برز فيها الشيخ زين الدين بن الوردي، قصيدته التي امتدح بها النبي -صلى الله عليه وسلم- وضمن فيها أعجاز قصيدة أبي العلاء المعري وبعض صدورها، وهي القصيدة الرائية التي امتدح بها أبو العلاء المعري ابن القصيصي، ونقلها الشيخ زين الدين بن الوردي إلى مستحقها صلى الله عليه وسلم، وقد عنَّ لي أن أجمع هنا بين الأصل والفرع، لتظهر مزية الشيخ زين الدين، فإنه أظهر في إيداعه العجائب وأتى بالغرائب، ومطلع الشيخ زين الدين خال من الإيداع، وهو: أدر أحاديث سلع والحمى أدر ... والهج بذكر اللوى أو بانة العطر1 ومطلع الشيخ أبي العلاء المعري: يا ساهر البرق أيقظ راقد السمر ... لعل بالجزع أعوانًا على السهر قال الشيخ زين الدين بعد المطلع: وقف على الجزع واذكرني لساكنه ... لعل بالجزع أعوانًا على السهر وقال في إيداع صدر مطلع أبي العلاء: إذا تبسم ليلًا قل لمبسمه ... يا ساهر البرق أيقظ راقد السمر قال أبو العلاء يخاطب البرق: وإن بخلت على الأحياء كلهم ... فاسق المواطرَ حيًّا من بني مطر

_ 1 سلع والحمى واللوى وبانة العطر: أسماء أماكن في الجزيرة العربية.

وقال أبو العلاء، في قصر الليل على العاشق ليلة الوصل: يود أن ظلام الليل دام له ... وزيد فيه سواد القلب والبصر نقله الشيخ زين الدين إلى المديح، وأجاد إلى الغاية، بقوله عن النبي صلى الله عليه وسلم: تشرف الركن إذا قبلت أسوده ... وزيد فيه سواد القلب والبصر قال أبو العلاء: لو اختصرتم من الإحسان زرتكم ... والعذب يهجر للإفراط في الخصر فنقله الشيخ زين الدين إلى المديح النبوي، فقال يخاطب النبي، صلى الله عليه وسلم: عذبت وردًا فلم تهجر على خصر ... والعذب يهجر للإفراط في الخصر1 قال أبو العلاء يخاطب محبوبته: قلدت كل مهاة عقد غانية ... وفزت بالشكر في الآرام والعفر2 نقله الشيخ زين الدين إلى المديح النبوي، وما أحق المادح والممدوح به، فقال: إن الغزالة لما أن شفعت نجت ... وفزت بالشكر في الأرآم والعفر قال الشيخ أبو العلاء: أقول والوحش ترميني بأعينها ... والطير تعجب مني كيف لم أطر نقله الشيخ زين الدين وقال: ضمنت مدح رسول الله مبتهجًا ... والطير تعجب مني كيف لم أطر قال أبو العلاء: في بلدة مثل ظهر الضب بت بها ... كأنني فوق روق الظبي من حذر3 نقله الشيخ زين الدين وقال: ولي ذنوب متى أذكر سوالفها ... كأنني فوق روق الظبي من حذر

_ 1 الإفراط: الزيادة. الخصر: الاختصار. 2 المهاة: البقرة الوحشية. الغانية: الفتاة الحسناء. الأرآم: جمع رئم وهو الظبي الأبيض. العفر: جمع أعافر وهو نوع من الظباء الضعيفة العدو. 3 الضب: من الزواحف شبيه بالحرذون. الروق: القرن. الظبي: الغزال.

قال أبو العلاء يخاطب صاحبيه: لا تطويا السير عني يوم نائبة ... فإن ذلك ذنب غير مغتفر قال الشيخ زين الدين بعد قوله: ولي ذنوب: ومطمعي أنها لا شراك "إلا" بشركها ... فإن ذلك ذنب غير مغتفر قال أبو العلاء: يا روع الله سوطي كم أروع به ... فؤاد وجناء مثل الطائر الحذر1 نقله الشيخ زين الدين وقال: ولي فؤاد متى تفخر سوى مضر ... فؤاد وجناء مثل الطائر الحذر قال أبو العلاء في المخلص، بعد روع الوجناء: باهت بمهرة عدنانا فقلت لها ... لولا القصيصيّ كان المجد في مضر قال الشيخ زين الدين لله دره: والله لو أن أهل الأرض قاطبة ... مثل القصيصيّ كان المجد في مضر قال أبو العلاء مشيرًا إلى ممدوحه، وأساء الأدب: وقد تبين قدري أن معرفتي ... من تعلمين سيرضيني عن القدر نقله الشيخ زين الدين بن الوردي إلى المديح النبوي، وقال بحق: يا نفس لا تيأسي يوم المعاد فلي ... من تعلمين سيرضيني عن القدر قال أبو العلاء، وكذب عن القصيصي في قوله: ولو تقدم في عصر مضى نزلت ... في وصفه معجز الآيات والسور نقله الشيخ زين الدين إلى المديح النبوي، وقال -رحمه الله- حيث قال: وأين شعري من الهادي الذي نزلت ... في وصفه معجزات الآي والسور

_ 1 السوط: الكرباج، قطعة من الجلد تستعمل للضرب. راع: أخاف. الوجناء: من النوق: الشديدة القوية.

قال الشيخ أبو العلاء يخاطب ممدوحه: وافقتهم في اختلاف من زمانكم ... والبدر في الوهن مثل البدر في السحر1 نقله الشيخ زين الدين إلى المديح النبوي، وقال يخاطب النبي -صلى الله عليه وسلم- وسبى العقول بقوله: وأنت في القبر حي ما اعتراك بلى ... والبدر في الوهن مثل البدر في السحر قال أبو العلاء يخاطب ممدوحه: أعاذ مجدك عبد الله خالقه ... من أعين الشهب لا من أعين البشر والبيت نقله الشيخ زين الدين إلى المديح النبوي بكماله، ولكن كان فارس ميدانه وقائد عنانه، وكأنه كان معدًّا لقصيدته حتي يبرزه في محله من مديح النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو: لله قولي لعبد الله والده ... قولًا إلى فص علياه على قدر2 أعاذ مجدك عبد الله خالقه ... من أعين الشهب لا من أعين البشر قال أبو العلاء يخاطب ممدوحه: سافرت عنا فظل الناس كلهم ... يراقبون إياب العيد من سفر3 نقله الشيخ زين الدين إلى المديح، فقال يخاطب النبي، صلى الله عليه وسلم: كم راقبت أمم منك القدوم كما ... يراقبون إياب العيد من سفر قال أبو العلاء يخاطب الممدوح: لو غبت شهرك موصولًا بتابعه ... وأُبت لانتقل الأضحى إلى صفر4 قال الشيخ زين الدين يخاطب النبي، صلى الله عليه وسلم: سل تعط واشفع تشفع ما ترده يكن ... لو شئت لانتقل الأضحى إلى صفر

_ 1 الوهن: من الليل بُعَيد منتصف الليل. السحر: قبيل الفجر. 2 إلى فص علياه: إلى أصلها. 3 الإياب: الرجوع. 4 الأضحى: عيد الأضحى عند المسلمين. وهو العيد الذي يقدم فيه الحجيج الأضحيات قربة إلى الله تعالى.

قال أبو العلاء في ختام قصيدته: ولا تزال بك الأيام ممتعة ... بالآل والحال والعلياء والعمر1 قال الشيخ زين الدين في ختامه: وارتجي بك من ذي العرض عافية ... في الآل والحال والعلياء والعمر رحم الله الشيخ زين الدين، هذه القصيدة معدودة من محاسنه، ولولا خشية الإطالة لاستوعبتها بكمالها، فإنها بديعة في باب الإيداع. انتهى. وأما أعجاز قصيدة امرئ القيس اللامية المعلقة، فإن جماعة من أهل الأدب ثابروا على تضمينها وتضمين البعض منها، وسبكوها في قوالب مختلفة الأنواع. كتب إلَيّ مولانا قاضي القضاة، صدر الدين بن الآدمي الحنفي -سقى الله ثراه- من دمشق المحروسة إلى حماة المحروسة، في صدر رسالته: أحن إلى تلك السجايا وإن نأت ... حنين أخي ذكرى حبيب ومنزل وأهدي إليها من سلامي معطرًا ... بمسكٍ سحيق لا بريّا القرنفل2 وأذكر ليلات بكم قد تصرّمت ... بدار حبيب لا بدارة جلجل3 شكوت إلى صبري اشتياقي فقال لي ... ترفق ولا تهلك أسى وتجمل وقلت له إني عليك معول ... وهل عند رسم دارس من معول4 فأجبته وصدرت الرسالة بقولي: سرت نسمة منكم إلَيّ كأنها ... نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل فقلت لليلي مذ بدا صبح طرسها ... ألا أيها الليل الطويل ألا انجلِ جنت ما حلا ذوقًا فقلت تقربي ... ولا تبعدينا عن جناكِ المعلل ورقت فأشعار امرئ القيس عندها ... كجلمود صخر حطه السيل من علِ فقلت قفا نضحك لرقتها على ... قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

_ 1 الآل: الأهل والعشيرة. 2 ريا القرنفل: رائحة القرنفل وهو نبات طيب الرائحة. 3 تصرّم: انقضى. 4 الرسم: الأثر. الدارس: الممحو، غير الواضح. معول: فائدة.

وتطارح الشيخ جمال الدين، والشيخ صلاح الدين قبلنا، في جانب كثير منها، ولكن الشيخ جمال الدين تنازل فيها إلى الغاية فقال: رأى فرسي إصطبل عيسى فقال لي ... قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل وأما الشيخ صلاح الدين فإنه كتب إلى الشيخ جمال الدين، في معنى العتب المفرط: أفي كل يوم منك عتب يسوؤني ... كجلمود صخر حطه السيل من عل وترمي على طول المدى متجنيًا ... بسهميك في أعشار قلب مقتل1 فأمسى بليل طال جنح ظلامه ... عليّ بأنواع الهموم ليبتلي وأغدو كأن القلب من وقدة الجوى ... إذا جاش فيه حميه غلي مرجل2 تطير شظاياه بصدري كأنها ... بأرجائه القصوى أنابيش عنصل3 وسالت دموعي من همومي ولوعتي ... على النحر حتى بل دمعي محملي إذا عاين الأخوان ما بي من الأسى ... يقولون لا تهلك أسى وتجمل ترفق ولا تجزع على فائت الوفا ... فما عند رسم دارس من معول ولي فيك ود طال ما قد شددته ... بأمراس كتان إلى صم جندل4 ولي خطرات فيك منها جوانحي ... صبحن سلافًا من رحيق مفلفل كأن أمانيها كئوس مدامة ... غذاها نمير الماء غير محلل5 سلوت غوايات الشبيبة والصبا ... وليس فؤادي عن هواها بمنسلي وأجلو محيا الودّ فيك لأهله ... متي ما ترق العين فيه يسهل فكر على جيش الجناية عائدًا ... بمنجرد قيد الأوابد هيكل6 تجد خفرات الأنس منها كواعبًا ... ترائبها مصقولة كالسجنجل7

_ 1 لمتجني: الذي يبدأ الجناية. السهمان: هما النظرتان. الأعشار: الأجزاء 2 جاش: تحرّك صعودًا وهبوطًا، ثار. الْمِرجل: القدر يطبخ فيها. 3 الشظايا: القطع. الأنابيش: جذور الأشجار وبقاياها. العنصل: نبات معمر من الفصيلة الزنبقية له ورق كورق الكراث. 4 الصم: الصلاب. الجندل: الصخور. 5 نمير الماء: الصافي منه والعذب. 6 المنجرد: الحصان القصير الشعر. قيد الأوابد: كناية عن السرعة، الأوابد: الوحوش. الهيكل: الضخم. 7 خفرات: شديدات الحياء. الكواعب: جمع كاعب وهي الفتاة نهد ثدياها. الترائب: عظام الصدر. السجنجل: المرآة. رومية معربة.

وخل الجفا وارجع إلى معهد الوفا ... وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجمل1 حلا ودك الماضي وإن لم تعد أعد ... لدى سمرات الحي ناقف حنظل2 فأجابه الشيخ جمال الدين متهكمًا في المطلع، والتهكم فيه غاية لا تكاد تخفى على حذاق الأدب، بقوله: فطمت ولائي ثم أقبلت عاتبًا ... أفاطم مهلًا بعض هذا التدلل بروحي ألفاظ تعرض عتبها ... تعرض أثناء الوشاح المفصل فأحييت ودًّا كان كالرسم عافيًا ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل3 تعفي رياح العذر منك رقومه ... لما نسجتها من جنوب وشمأل4 نعم قوّضت منك المودة وانقضت ... فيا عجبًا من رحلها المتحمل أمولاي لا تسلك من الظلم والجفا ... بنا بطن خبت ذي قفاف عقنقل5 ولا تنس مني صحبة تصدع الدجى ... بصبح وما الإصباح مني بأمثل صحبتك لا ألوي على صاحب عطا ... بجيد معم في العشيرة مخول6 وحاولت من إدناء ودك ما نأى ... فأنزلت فيه العصم في كل منزل يقلب لي وجدي به سوط سائق ... وإرخاء سرحان وتقريب تتفل7 وكم خدمة عجلتها ومحبة ... تمتعت من لهو بها غير معجل وكم أسطر مني ومنك كأنها ... عذاري دراري في ملاء مذيل8 وقلب خليل ينشد الودّ همه ... ألا أيها الليل الطويل ألا انجلِ

_ 1 الصرم: القطيعة. أزمع: نوى وعزم على الأمر. 2 سمرات: جمع سمرة وهي شجرة الطلح. الحنظل: نبات شديد الحرارة. الناقف: الذي يكسر الحنظل، وناقف الحنظل يبقى سائل الأنف، كثير الدمع لشدة حرارة الحنظل. 3 العافي: الممحو غير الواضح. الرسم: الأثر. سقط اللوى والدخول وحومل: أسماء أماكن في الصحراء العربية. 4 الرقوم: النقوش. الجنوب والشمأل: الريح. 5 الخبت: الوادي العميق المحدود. القفاف: التلال والوهدات ويروى: حقاف وهي الرمال المرتفعة. العقنقل: الوادي العظيم المتسع والكثيب من الرمل. 6 المعم: ذي الأعمام. المخول: ذي الأخوال. 7 الإرخاء: السير السريع. السرحان: الذئب. التقريب: السير البطيء. التتفل: ولد الثعلب أو الثعلب عينه. 8 الملاء: الثوب الفضفاض تلتف به المرأة من قمة رأسها إلى أخمص قدميها. المذيل: المطرزة أذياله.

وكم ناصح كذبت دعواه إذ غدت ... عليّ وآلت حلفة لم تحلل1 ولحية لاح غاظها ضحكي على ... أثيث كقنو النخلة المعثكل2 ترى بعر الآرام في عرصاتها ... وقيعانها كأنه حب فلفل نزعت لسكري ساحبًا من صبابتي ... على إثرها أذيال مرط مرحل3 إلى أن تبدى عذره متمطيًا ... وأردف أعجازًا وناء بكلكل4 فلاطفته في حالتيه ولم أقل ... فسلي ثيابي من ثيابك تنسل وضن بأسطار كأن يراعها ... أساريع ظبى أو مساويك إسحل5 ويقرع سمعي من معاريض لفظه ... مداك عروسك أو صلاية حنظل6 وعدنا لود يملأ القلب عوده ... بشحم كهداب الدمقس المفتل أعدت صلاح الدين عهد مودة ... بكل مغار الفتل شدت بيذبل7 فدونك عتبي اللفظ ليس بفاحش ... إذا هي نصته ولا بمعطل8 وعادات حب هن أشهر فيك من ... قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل والذي أقوله: المهيع الذي اخترعه الصاحب فخر الدين بن مكانس، ومشى عليه في تضمين هذه المعلقة، يعد من المعلقات في بابه، فإنه ضمنها في مداعبة رجل من أصحابه، كان كبير الأنف وأتى بما لا اختلج في صدر متأدب، ولا سمع بعده المرقص والمطرب، وهو قوله: تأنف عن وصف الغزال تغزلي ... بلحية أنف ذي عقاص ومرسل انظر أيها المتأدب ما ألطف تأنف هنا، وألطف منه قوله بلحية أنف، فإن العقاص

_ 1 آلى: حلف. 2 اللاحي: اللائم. الأثيث: الملتف. قنو النخلة: العنقود. المتعثكل: المتشابك. 3 المرِط: الإزار. المرحل: الموشى. 4 أردف أعجازًا: أتبع المؤخرة. ناء بعد. الكلكل: الصدر. 5 أساريع الظبي: أصابعه واحدها أسروع. المساويك: جمع مسواك: وهو عود تنظف به الأسنان. الإسحل: الشجر الذي تتخذ منه المساويك. 6 المداك: المسك المدقوق دقًا وتستعمله العرائس عادة أو هو الحجر الذي يسحق به. صلاية الحنظل: الحجر الأملس الذي يكسر عليه، وهو نبات شديد الحرارة. 7 مغار القتل: محكم الجدل وهو الحبل المتين. يذبل: اسم جبل في الصحراء. 8 نصّته: أبرزته وأظهرته. المعطل: الذي لا حلي فيه.

جمع عقيصة وهو ما جمع من الشعر، والمرسل الشعر المسرح، ومراده أن لحية هذا الأنف غزيرة الشعر مسرحة وقال مشيرًا إليها: من البقّ فيها جملة قد تعرضت ... تعرض أثناء الوشاح المفصل1 فيا قبح شعر فوق أنف معرقص ... أثيث كقنو النخلة المتعثكل2 الأثيث الكثير، والمتعثكل الذي دخل بعضه في بعض لكثرته وتدلى وهكذا قنو النخلة الذي شبه به الصاحب فخر الدين هذا الأنف، ولعمري إن هذا الإيداع من السحر في نقله إلى هذه الصفة الغريبة وقال بعده: وقالوا اختبا في شعره فكأنه ... كبير أناس في بجاد مزمل هذا التشبيه بالنسبة إلى كبر الأنف نوع من الغلوّ، وهو من المخترعات في بابه، فإن امرأ القيس شبه به جبل ثبير فقال: كأن ثبيرًا في عرانين وبله ... كبير أناس في بجاد مزمل والعرانين جمع عرنين وهو الأنف، والوبل ما عظم من المطر، والبجاد كساء مخطط من الشعر الأبيض والأسود، فنقله الصاحب فخر الدين في إيداعه إلى الأنف، لما فيه من الشعر الأبيض والأسود الذي انتسج في أنفه كالبجاد، ولما اختفى في ذلك الشعر، بكبير أناس في بجاد مزمل أي ملتف، وقد تقدم قولي إنه من المخترعات. مقلص كلتا الجانبين كأنه ... لدى سمرات الحي ناقف حنظل وهذا التشبيه أيضًا من العجائب، فإن هذا الأنف لم يبرح سائلًا، فشبهه الصاحب برجل ناقف حنظل، فإن ناقف الحنظل كثير الدمع لشدة حرارته. وقال: ترى القمل والصيبان في عرصاته ... وقيعانه كأنه حب فلفل3 وفي جوفه شعر طويل كأنه ... بأرجائه القصوى أنابيش عنصل فيا لك شعرًا فوق أنف معظم ... يلوح كهداب الدمقس المفتل وكم قلت إذ أرخى ذوائب أنفه ... عليّ بأنواع الهموم ليبتلي ألا أيها الليل الطويل ألا انجلِ ... بصبح وما الإصباح منك بأمثلِ

_ 1 البق: نوع من الحشرات التي تشبه القمل ولكنها أكبر منه. 2 المعرقص: المجعد كثيرًا. 3 العرصات: واحدتها عرصة وهي ساحة الدار. والقيعان: مفردها قاع: وقاعة الدار ساحتها أيضًا.

الصاحب فخر الدين -رحمه الله- ضمن هنا عجزًا وبيتًا كاملًا بنصف بيت واحد، وفي هذا من الروية والقوة ما يزيد على الوصف، وأما قوله بعدما أرخى هذا الرجل ذوائب أنفه: ألا أيها الطويل ألا انجل، فإن هذا نوع من السحر بل السحر بعينه، ومن المبالغة المفرطة في هذا الباب قوله: كأن الفسا إن قس مع ريح أنفه ... نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل1 ترى شعرات الأنف سدت خدوده ... لما نسجتها من جنوب وشمأل وقد درست بالأنف آثار وجهه ... فهل عند رسم دارس من معوّل كأني بمولانا على وصف أنفه ... تولى بأعجاز وناء بكلكل وجرد شعر الأنف منه وجاءنا ... بمنجرد قيد الأوابد هيكل مكر مفر مقبل مدبر معًا ... كجلمود صخر حطه السيل من علِ هذا الذي وقع عليه الاختيار من اختراع الصاحب فخر الدين -تغمده الله برحمته ورضوانه- ولعمري إنه من الاختراع الذي لم يسبق إليه، ولا حام فكر من قبله عليه، انتهى. وكان الأمير مجير الدين بن تميم يجنح إلى نوع الإيداع كثيرًا، وأتى فيه بالعجائب والغرائب، وقال من شغفه بالتضمين: أطالع كل ديوان أراه ... ولم أزجر عن التضمين طيري أضمن كل بيت فيه معنى ... فشعري نصفه من شعر غيري ومن تضامينه: أفدي الذي أهوى بفيه شاربًا ... من بركة راقت وطابت مشرعًا أبدت لعيني وجهه وخياله ... فأرتني القمرين في وقت معًا وله أيضًا: وشبابة قد كنت أهوى سماعها ... وقد صرت منها بعدما تبت أنفر3 وها أنا قد فارقتها غير نادم ... وكم مثلها فارقتها وهي تصفر

_ 1 الفسا: الريح الذي يخرج من دبر الإنسان. 2 درس: امّحى. المعول: الفائدة أو ما يعوّل عليه. 3 الشبابة: آلة موسيقية قديمة يستعملها الرعاة عادة وهي عبارة عن قصبة فيها خمسة ثقوب أو ستة توضع عليها الأصابع وينفخ فيها مع تحريك الأصابع فيسيل منها نغم مطرب، وقد تكون مصنوعة من الحديد أو النحاس أو ما إلى ذلك وتعرف أيضًا بالقصبة.

وأورد العميان في شرح بديعيتهم بيتين ذكروا أن تضمينهما لبعض المتقدمين المغاربة، وهما على طريقتهم، ولكن أعجباني، وهما: وفرع كان يوعدني بأسر ... وكان القلب ليس له قرار فنادى وجهه لا خوف فاسكن ... كلام الليل يمحوه النهار ومن التضامين البديعة قول زكي الدين بن أبي الأصبع، وقد جعل مطلع أبي الطيب عجزين لبيتين، فلم يلحق فيهما، فإنه نقلهما من فخامة التحمس إلى زخارف الغزل بقوله: إذا الوهم أبدى لي لماها وثغرها ... تذكرت ما بين العذيب وبارق ويذكرني من قدها ومدامعي ... مجرّ عوالينا ومجرى السوابق ومن تضامين ابن تميم: عاينت في الحمام أسود واثيًا ... من فوق أبيض كالهلال المسفر1 فكأنما هو زورق من فضة ... قد أثقلته حمولة من عنبر وقال في الفانوس: يقول لي الفانوس حين أتوا به ... وفي قلبه نار من الوجد تسعر خذوا بيدي ثم اكشفوا الثوب تنظروا ... ضنى جسدي لكنني أتستر وله: أزهر اللوز أنت لكل زهر ... من الأزهار يأتينا إمام لقد حسنت بك الأيام حتى ... كأنك في فم الدهر ابتسام وقال: لو كنت إذ أبصرتها موارة ... للشمس في أمواهها لألاء2 لرأيت أعجب ما ترى من بركة ... سال النضار بها وقام الماء وقال غيره، وسبكه في غير هذا القالب: لو كنت في الحمام والحنا على ... أعطافه ولجسمه لألاء لرأيت ما يسبيك منه بقامة ... سال النضار بها وقام الماء

_ 1 واثيًا: مصابًا بالوثء وهو وصم يصيب لحم اليد ولا يبلغ العظم المسفر: المكشوف. 2 أمواه: جمع ماء.

وقال: يا من يقول بأن رشـ ... ـف لمى الحبائب لم يرق وغدا يعنفني به ... دع عنك تعنيفي وذق وقال: لما رأيت البدر في ساعدي ... ونرجس الأنجم قد صوّحا1 أفنيت رشفًا فيه ريق الدجى ... من قبل أن ترشف شمس الضحى وقوله: صهباء ريقته رشفت سلافها ... وتغلبت فعجزت أن أتكلما وإذا سئلت أقل لمن هو سائل ... إني لأعلم ما تقول وإنما2 ومن محاسن الشيخ سراج الدين الوراق قوله: توارت من الواشي بليل ذوائب ... له من جبين واضح تحته فجر فدل عليها شعرها بظلامه ... وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر نقله الشيخ شمس الدين بن الصائغ إلى المداعبة، وزاده تورية، بقوله: تطلبت حجرًا في الظلام فلم أجد ... ومن يك مثلي حية دأبة الحجر3 فناداني البدر الأديب إلى هنا ... وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر ويعجبني من تضمين ابن أبي الأصبع قوله، وهو منقول من الحماسة إلى الغزل: له من ودادي مثل كفيه صافيًا ... ولي منه ما ضمت عليه الأنامل ومن قده الزاهي ونبت عذاره ... صدور رماح أشرعت وسلاسل وقوله: هذا الذي أنا قد سمحت بحبه ... كرمًا بلؤلؤ دمعي المتنظم لا تحرموني ضم أسمر قدّه ... ليس الكريم على القنا بمحرم ومن تضامين الشيخ محمود البديعة قوله: من حاتم عدّ عنه واطرح فيه ... في الجود لا بسواه يضرب المثل لو مثل الجود سرحًا قال حاتمهم ... لا ناقة لي في هذا ولا جمل4

_ 1 صوّح: جف ويبس. 2 وإنما لا أستطيع التكلما. 3 الحجر: بيت الحية. دأبه الحجر: دأبه طلب الحجر. 4 لا ناقة لي في هذا ولا جمل: مثل يضرب فيمن لا يعنيه شيء من الأمر.

ومن محاسن تضامين شمس الدين محمد بن العفيف البديعة قوله: قالوا غدا تندم عن لثمه ... في خده إذ يغلب السكر فقال لي مبسمه دعهم ... اليوم خمر وغدًا أمر1 وقال: جلا ثغرًا وأطلع لي ثنايا ... يسوق بها المحب إلى المنايا وأنشد ثغره يبغي افتخارًا ... أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ومن تضامين مجير الدين بن تميم التي تطفل الناس عليها بعده قوله: إن تاه ثغر الأقاحي إذ تشبهه ... لله حبك واستولى به الطرب فقل له عندما يحكيه مبتسمًا ... لقد حكيت ولكن فاتك الشنب2 ومن تضامين القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر البديعة قوله: وناطقة بالروح عن أمر ربها ... تعبر عما عندها وتترجم سكتنا وقالت للقلوب فأطربت ... فنحن سكوت والهوى يتكلم ومن تضامين الشيخ صلاح الدين الصفدي قوله: ملكت كتابًا أخلق الدهر رسمه ... وما أحد في دهره بمخلد إذا عاينت كتبي الجديدة جلده ... يقولون لا تهلك أسى وتجلد وقال: قل للرقيب يسترح من عذلي ... ما أصبح المعشوق عندي مشتهى وارتد قلبي عن سيوف لحظه ... وكل شيء بلغ الحد انتهى وقال مضمنًا ومكتفيًا: رشفت ريقك حلوًا ... فلم يكن لي صبر وسوف أحظى بوصل ... وأوّل الغيث قطر ومن تضامين الشيخ عز الدين الموصلي: وعلق يرى للترك فيه تحمس ... يقود عليه أحدب ويعاشره3 إذا جاءه اللوطي يطلب وصله ... ثنى طرفه نحو الحسام يشاوره

_ 1 اليوم خمر وغدًا أمر: قالها امرؤ القيس عندما بلغه مقتل والده وقد كان خليًّا لا هم له يشرب الخمر ويلهو، فصار مهتمًا بالثأر لأبيه. 2 حكيت: شابهت. الشنب: بياض الأسنان ورقتها. 3 العلق: الصعلوك من الناس، أو المخنث المتشبه بالنساء. يقود عليه: يجلب له الزبائن وهي القوادة أي القيادة إلى الفحش. يعاشره: يجامعه، يلوطه.

وله أيضًا: جاد لنا كالشادن الربيب ... لحظته بالنظر المريب فقال في السكرة عند نومه ... يا رب سلمها من الدبيب1 وقال: نادمت قومًا لا خلاق لهم ولا ... ميل إلى طرب ولا سمار يستيقظون إلى نهيق حميرهم ... وتنام أعينهم عن الأوتار وقال: لحديث نبت في العذار حلاوة ... وطلاوة هامت بها العشاق فإذا نهاني المرد قلت تمهلوا ... فإليكم هذا الحديث يساق2 ومن تضامين الشيخ برهان الدين المعمار التي أجاد فيها قوله: عزمت على رقيى محاسن وجهه ... بأنوار آيات الضحى حين أقبلا فلما بدا يفتر عن نظم ثغره ... بدأت ببسم الله في النظم أوّلا3 وكتب الشيخ شرف الدين عبد العزيز الأنصاري، إلى الشيخ سيف الدين الآمدي: لئن تقدم قوم عصر سيدنا ... فكم تقدم خير المرسلين نبي وإن يكن علمه فرعًا لعلمهم ... فإن في الخمر معنى ليس في العنب وإن أتت قبله كتب مؤلفة ... فالسيف أصدق إنباء من الكتب ومن الغايات في هذا الباب، قول الشيخ بدر الدين بن الصاحب: لله يوم الوفا والناس قد جمعوا ... كالروض تطفوا على نهر أزاهره وللوفاء عمود من أصابعه ... مخلق تملأ الدنيا بشائره ومما جاد به الشيخ برهان الدين القيراطي، في تضمينه: قل في اخضرار عذاره وقوامه ... خلع الربيع على غصون البان وانشر من الأغزال في أردافه ... حللًا فواصلها على الكثبان4 ومن غايات الشيخ شهاب الدين بن أبي حجلة في هذا الباب قوله: قل للهلال وغيم الأفق يستره ... حكيت طلعة من أهواه بالبلج لك البشارة فاخلع ما عليك فقد ... ذكرت ثم على ما فيك من عوج

_ 1 الدبيب: سريان الخمرة في المفاصل بعد شربها. 2 المرد: جمع أمرد وهو الشاب لم تنبت لحيته بعد. 3 يفتر: يبتسم حتى تبدو أسنانه. 4 الأرداف: جمع ردف وهي المؤخرة. الكثبان: جمع كثيب: تلة الرمل.

ومن تضامين علاء الدين بن أيبك الدمشقي البديعة قوله: أقول وقد ظمئت ووجه حبي ... له عرق على ورد الخدود أرى ماء وبي ظمأ شديد ... ولكن لا سبيل إلى الورود ومن تضامين القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر قوله: لقد قال لي إذ رحت من خمر ريقه ... أحث كئوسًا من ألذ مقبل1 بلثم شفاهي بعد تقبيل مبسمي ... تنقل فلذات الهوى في التنقل وظريف في هذا الباب قول الشيخ بدر الدين بن المنيجي: ولما خلونا والمسرة بيننا ... وقد عز شرب الراح فينا عن الشرب2 تعوّض كل بالحشيش عن الطلا ... ومن لم يجد ماء تيمم بالترب3 ومن تضامين شهاب الدين بن أبي حجلة البديعة قوله: يحكي سنا الفانوس من بعد لنا ... برقًا تألق موهنًا لمعانه فالنار ما اشتملت عليه ضلوعه ... والماء ما سمحت به أجفانه وقال فيه: أنا في الدجى ألقى الهوى وبمهجتي ... حرق يذوب لها الفؤاد جميعه وكأنني في الليل صب مغرم ... كتم الهوى فوشت عليه دموعه وقال وأجاد: يا صاح قد حضر الشراب ومنيتي ... وحظيت بعد الهجر بالإيناس وكسا العذار الخد حسنًا فاسقني ... واجعل حديثك كله في الكاس ومن تضامين الشيخ برهان الدين القيراطي: تجمعت من نطف ذاته ... حتى بدا في قالب فاسد وليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد

_ 1 المقبّل: مكان التقبيل وهو الفم. 2 المسرّة: الفرحة. الشرب: الذين يشربون الراح وهي الخمرة. 3 الحشيش: نوع من المسكرات يدخن تدخينًا والطلا: الخمرة.

وقال مضمنًا في قطائف: لقد نطقت زهر الثنا بقطائف ... تخيرتها فاختر لنفسك ما يحلو تقول اسمعوا مني مدائح مرسلي ... وكلي إن حدثتكم السن تتلو وله في باذهنج وأجاد: بروحي أفدي باذهنجًا موكلًا ... بإطفاء ما ألقاه من حرق الجوى6 إذا فتتحت في الحر منه طوابق ... أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى وقال فيه: أيا باذهنجًا صح فيه لنا الهوا ... صفاتك ما وفى بهن خطاب وما شئت إلا أن أدل عواذلي ... على أن عشقي في هواك صواب وقال فيه الشيخ شهاب الدين بن أبي حجلة وأجاد: هجا الشعراء جهلًا باذهنجي ... لأن نسيمه أبدًا عليل فقال الباذهنج وقد هجوه ... إذا صح الهوى دعهم يقولوا ويعجبني من قصائد الشيخ برهان الدين القيراطي قوله: وموسوس عند الطهارة لم يزل ... أبدًا على الماء الكثير مواظبا يستصغر البحر الكبير لذقنه ... ويظن دجلة ليس تكفي شاربا ومن غاياته في هذا الباب قوله: ولما بدا والليل أسود فاحم ... قد انتشرت في الخافقين غياهبه2 أضاء بدر الثغر عند ابتسامه ... دجا الليل حتى نظم الجزع ثاقبه3 وقال بدر الدين حسن الزغاري وأجاد: وبي سامري مربى في عمامة ... قد اكتسبت من وجنتيه احمرارها موردة دارت بوجه كأنما ... تناولها من خده فأدارها

_ 1 الباذهنج: شجر طيب الرائحة. 2 الخافقين: الأفقين. الغياهب: الظلمات. 3 الجزع: نوع من الخرز الأسود.

ومثله قول الشيخ عز الدين الموصلي: وسامري أعار البدر منه سنا ... سموه نجمًا وهذا النجم غرار تهتز قامته من تحت عمته ... كأنه علم في رأسه نار ومن تضامين محيي الدين بن قرناص الحموي: أفديه أغيد زارني تحت الدجى ... وعليه من فرعيه ليل ساجي والفرق بين الشعر فوق جبينه ... عريان يمشي في الدجى بسراج وقال أيضًا: سقى الله روضا قد تبدى لناظري ... به شادن كالغصن يلهو ويمرح وقد نضحت خداه من ماء ورده ... وكل إناء بالذي فيه ينضح وقوله في كاحل: دعوا الشمس من كحل الجفون فكفه ... تسوق إلى الطرف الصحيح الدواهيا1 فكم أذهبت من ناظر بسواده ... وخلت بياضًا خلفها ومآقيا وقال الشيخ شهاب الدين بن أبي حجلة: ومتى امتطيت من الكئوس كيمتها ... أمسيت تمشي في المسرّة راكبًا ومتى طرقت عشى آنس ديرها ... لم تلقَ إلّا راغبًا أو راهبا وقال ابن الوردي: تعجبت من اشتهار بيتين ما أحكمهما بانيهما، ولا اعتنى بمعانيهما وهما: مقامات الغريب بكل أرض ... كبنيان القصور على الثلوج يذوب الثلج تنهدم البنايا ... وقد عزم الغريب على الخروج فخلصتهما من مقامات الغريب بكل أرض، وأوقدت فكرتي فذاب الثلج، وانهدمت البنايات المستحقة للنقض، وجعلتهما أسمى من السماء، ونقلتهما من كثافة الأرض فقلت: مليح ردفه والساق منه ... كبنيان القصور على الثلوج خذوا من خده القاني نصيبًا ... فقد عزم الغريب على الخروج

_ 1 الدواهيا: المصائب.

قلت، وقد سألني بعض حذاق الأدب عن بيت ابن مطروح، الذي لم تصل أفواه البلغاء إلى لثم أعتابه، ولا الحضور إلى جنابه، ولا وجدوا طاقة للدخول من بابه، فضمنته تضمينًا لو سمعه ابن مطروح لطرح نفسه خاضعًا، وسلم إلَيّ مفاتيح بيته طائعًا، وهو قوله: لبسنا ثياب العناق ... مزررة بالقبل فقلت: ولما خلعنا العذار ... فككنا طويق الخجل لبسنا ثياب العناق ... مزررة بالقبل ومن تضامين الشيخ زين الدين بن الوردي ما ذكره في ديوانه، أنه كان له صاحب يدعي بالمجد، حصل له أذية مفرطة من زوجته، وأبيها وجدها، فكتب إليه الشيخ: زوجة مجد الدين والداها ... في ثلب عرض المجد أشبهاها1 إن أباها وأبا أباها ... قد بلغا في المجد غايتاها ومن تضميني الذي ما حام فكر من ضمن إعجاز الملحة عليه، ولا سبقني جواد من فحول العربية إليه قولي مداعبًا: نصبت أيري إذ نحوت نيكه ... وهو يريد رفعها لي ابتدا وبعد ذا للجر قد أضفته ... وفي المضاف ما يجر أبدا وأنشدني من لفظه الكريم، قاضي القضاة شهاب الدين بن حجر، من هذا الباب بيتين كان مولانا قاضي القضاة علاء الدين يترنم بهما: تيه فلان الدين مع فقره ... أقوى دليل أنه جاهل لثوبه بالصقل من فوقه ... قعاقع ما تحتها طائل2 وقال أيضًا في المجون: وشاعر فاسق أتى امرأة ... من خلف إذ سامه المليح قِلى وقال إذا عاتبوه معتذرًا ... تلجي الضرورات في الأمور إلى3

_ 1 ثلب: تجريح. وعيب. 2 القعاقع: الكثير التصويت على غير طائل، والطائل: النتيجة والفائدة والمعنى. 3 إلى: إلى الممنوعات.

ومن تضاميني الغريبة: حثثت عزمي شوقًا إليكم ... فلم أطق مكثة بأرض وحيث لم أحظ بالتلاقي ... فغايتي أن ألوم حظي وقولي: يقول معذبي حسن تخير ... سواي فقلت قد عز اصطباري وكم في الناس من حسن ولكن ... عليك لشقوتي وقع اختياري وأنشد المقر المرحومي محمد بن منهال ناصر الدين، عين الموقعين بدمشق المحروسة، بيتين لابن الوردي، والأصل للحريري صاحب المقامات: لوجنة صيادكم نسخة ... حريرية ملحة في الملح يقول لنبت العذار اجتهد ... ومدّ الشباك وصد من سنح1 فنظمت في ذلك المجلس بيتين اعترفت لهما القصور العوالي بالقصر، وما شك أحد أن أبا بكر مقدم على عمر: غدا طير أفراحنا سانِحًا ... يحوم على ورد عذب القدح فقلنا لبدر الحباب اجتهد ... ومد الشباك وصد من سنح ومن تضاميني الغريبة ما ضمنته قول عنترة في معلقته: وإذا سكرت فإنني مستهلك ... مالي وعرضي وافر لم يكلم وإذا صحوت فما أقصر عن ندى ... وكما علمت شمائلي وتكرمي فقلت: جاد النسيم على الربا ... بندى يديه وقال لي أنا ما أقصر عن ندى ... وكما علمت شمائلي وبيت الشيخ صفي الدين في هذا النوع: إذا رآه الأعادي قال قائلهم ... حتام نحن نساري النجم في الظلم الشيخ صفي الدين ضمن في بيته الشطر الأول من مطلع المتنبي، وشطره الثاني: "وما سراه على خف ولا قدم".

_ 1 سنح: ظهر وتعرّض أو مرّ من اليمين إلى الشمال.

وبيت العميان: واسمح بنفسك وابذل في زيارته ... كرائم المال من خيل ومن نعم والعميان ضمنوا الشطر الثاني من بيت الشريف الرضي، وشطره الأول: "ماض من العيش لو يفدى بذلت له". وبيت الشيخ عز الدين: إيداعه الفضل في الأصحاب شرفهم ... بين الرجال وإن كانوا ذوي رحم والشيخ عز الدين ضمن الشطر الثاني من بيت المتنبي، من قصيدته التي ضمن فيها الشيخ صفي الدين الشطر الأول وهو قوله: ولم تزل قلة الإنصاف قاطعة ... بين الرجال وإن كانوا ذوي رحم وبيت بديعيتي أنا مستمر فيه على المديح النبوي تابع لقولي، وهو: وآله البحر آل أن يقس بندى ... كفوفهم فافهموا تنكيت مدحهم وفي الوغى رادفوا لُسنَ القنا سكنًا ... من العدا في محل النطق بالكلم وأودعوا للثرى أجسامهم فشكت ... شكوى الجريح إلى العقبان والرخم وأنا أيضًا ضمنت في بيتي شطرًا ثانيًا من ميمية المتنبي، والشطر الأول: "ولا تشك إلى خلق فتشمته"، ووجه الاستحقاق هنا سافر لمستجلي محاسن هذا النوع، والله أعلم.

ذكر التوهيم

ذكر التوهيم: والبعض ماتوا من التوهيم واطرحوا ... والسمر قد قبلتهم عند موتهم1 قلت: هذا النوع، أعني التوهيم، وتقدمه باب الترشيح، كان الأليق بهما أن ينتظما في سلك باب التورية ويذكر التوهيم مع إيهامها والترشيح مع المرشحة، وقد تقرر كل من النوعين وتقدم في بابه، والذي مشى عليه الشيخ صفي الدين هنا هو إيهام التورية وهو قوله: حتى إذا صدروا والخيل صائمة ... من بعد ما صلت الأسياف في القمم فذكر صيام الخيل، هنا، يوهم السامع أن السيوف صلت من الصلاة، ومراده الصليل وهو صوت الحديد، وأعظم الشواهد على هذا النوع قوله تعالى: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} 2 بعد قوله: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} 3 فإن ذكر الشمس والقمر، هنا، يوهم السامع أن المراد بالنجم أحد النجوم، والمراد به النبت الذي لا ساق له. قال ابن أبي الأصبع: وقد يأتي التوهيم للمطابقة، كقول أبي تمام، رحمه الله تعالى: تردّى ثياب الموت حمرًا فما أتى ... لها الليل إلا وهي من سندس خضر فإنه أوهم بالمطابقة بين الأحمر والأخضر، وليس يطابق، إذ الأحمر لا يطابق

_ 1 السمر: الرماح. التقبيل: الطعن في الثغر. ويحتمل أن يكون السمر النساء، والتقبيل: الاتجاه نحو القبلة. 2 الرحمن: 55/ 6. 3 الرحمن: 55/ 5.

الأخضر وفرع منه ضربًا آخر فقال: هو أن يأتي المتكلم بكلمة توهم، بما بعدها من الكلام، أن المتكلم أراد تصحيفها ومراده خلاف ذلك، كقول أبي الطيب: وإن الفئام التي حوله ... لتحسد أرجلها الأرؤس فإن الأرجل أوهمت السامع أن لفظة الفئام بالقاف، ومراد الشاعر الفئام بالفاء، وهي الجماعات الكثيرة، هكذا روي هذا البيت، والمبالغة تقتضيه فإن القيام بالقاف يصدق عليه أقل الجمع. انتهى. وبيت عز الدين الموصلي: يا سائرًا مفردًا أعربت لحنك في ... توهيم منع رضاع الشاء من حلم قلت: هذا البيت المبارك عجزت عن حل معناه، إذ ليس له تعلق بما قبله، ولا بما بعده، ولا بمدح النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم أزل في حيرة إلى أن وقفت على شرح المصنف، فوجدته قد قال: الحلم مشتق من الحلمة، وهي رأس الثدي، ويحصل في جلد الشاة دود، فتقول العرب: حلمت وحلم أديمها، أي وجد الدود في جلدها، ثم قال: ومعنى البيت، أني أخاطب سائرًا في الطريق منفردًا بنفسه عن الناس، لا يرغب في مرافقة أحد، فقلت: له وأنت تتوهم بترك اجتماعك بالناس معنى لا تظهره، كما يوهم الراعي بمنع رضاع الشاء، أن جلودها حلمت، وحلم بين حلم الشاة وحلم الأديب. قلت والله ما ازددت إلا حيرة في تفسير هذا الشرح، والذي أقوله: إن الشرح والنظم في العقادة، وعدم الفائدة، كفرسي رهان. وبيت بديعيتي تقدم قبله وهو: وأودعوا للثرى أجسامهم فشكت ... شكوى الجريح إلى العقبان والرخم وقلت بعده في التوهيم: والبعض ماتوا من التوهيم واطرحوا ... والسمر قد قبلتهم عند موتهم فذكر الموت في البيت يوهم السامع أن نساءهم السمر قد أدارتهم إلى جهة القبلة، كما هو المعهود. والتوهيم هنا في التقبيل وفي السمر، والمراد بالسمر الرماح، وبالتقبيل الطعن في الأفواه التي تنزل هنا منزلة التقبيل، واستعارة التقبيل للرماح في غاية الحسن، فإنهم شبهوا سنان الرماح باللسان، وشبهوا مواقع الطعن بالثغور. ويعجبني هنا قول ابن المزين في الرمح:

أنا أسمر والراية البيضاء لي ... لا بالسيوف وسل من الشجعان لم يحل بي عيش الغداة لأنني ... نوديت يوم الجمع بالمران1 وإذا تفاخمت الكماة بجحفل ... كلمتهم فيه بكل لسان2

_ 1 المران: الرماح اللدنة الصلبة واحدتها مرانة. 2 تفاخمت: علت قدرًا. الكماة: الأبطال الشجعان. الجحفل: الجيش الجرار. كلم: جرح. اللسان من الرمح سهمه.

ذكر الألغاز

ذكر الألغاز: وكل ما ألغزوه حله لسن ... مذ طال تعقيده أزري بفهمهم هذا النوع، أعني الألغاز: يسمى المحاجاة والتعمية، وهي أعم أسمائه، وهو أن يأتي المتكلم بعدة ألفاظ مشتركة، من غير ذكر الموصوف، ويأتي بعبارات يدل ظاهرها على غيره، وباطنها عليه، وأبدع ما فيه أنه لم يسفر في أفق الحلى غير وجه التورية، وأما تعسف الفرقة التي ليس لها إلمام بالتورية في الألغاز، فأمرهم مسلم إليهم، وأما علماء هذا الفن فإنهم ما قرروا غير ما قررناه، فمن ذلك قول أبي العلاء في إبرة: سعت ذات سم في قميصي فغادرت ... به أثرًا والله شاف من السم1 كست قيصرًا ثوب الجمال وتبعًا ... وكسرى وعادت وهي عارية الجسم وقول ابن حراز في خيمة: ومضروبة من غير ذنب أتت به ... إذا ما هدى الله الأنام أظلت2 قلت: لغز أبي العلاء ولغز محيي الدين، لم تسفر فيهما الوجوه الحسان إلا من وراء ستور التورية، ومنه قول ابن حراز فيمن اسمه عثمان: حروفه معدودة خمسة ... إذا مضى حرف تبقى ثمان ومن ألطف الألغاز في القلم: وذي خضوع راكع ساجد ... ودمعه من جفنه جاري مواظب الخمس لأوقاتها ... منقطع في خدمة الباري

_ 1 السم: الثقب، وذات السم: الإبرة. والسم: مادة تسبب الموت. 2 المضروبة: التي ضربت من الحيوانات فشارفت على الموت، والخيمة.

وقول ابن عبد الظاهر في شربه في كوز الوزير: وذي أذن بلا سمع ... له قلب بلا قلب إذا استولى على حب ... فقل ما شئت في الصب ومن لطائف ما وقع في باب الألغاز أن شيخ الشيوخ بحماة كتب إلى والده ملغزًا في باب، بقوله: ما واقف بالمخرج ... يذهب طورًا ويجي لست أخاف شره ما لم يكن بمرتج1 ... فكتب إليه والده في الكتاب ذهاب ومجيء وخوف وشر، هذا باب خصومة والسلام. وقال القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر ملغزًا في باب: أي شيء تراه في الدور والكتـ ... ـب مجازًا هذا وذاك محقق هو زوج وتارة هو فرد ... وهو في أكثر الأحايين يطرق وطليق في نشأتيه ولكن ... بحديد من بعد ذلك يوثق2 وهو في القلب يستوي وتراه ... بان تصحيفه لمن يترمق3 فأجبني عنه بقيت مطاعًا ... نست في حلبة الفضائل تسبق وقال الشيخ برهان الدين القيراطي في باذهنج، وأجاد: أهواؤنا المختلفة ... قد أصبحت مؤتلفه في شامخ بأنفه ... على العوالي أنفه وذي جناح لم يطر ... وكل طير ألفه جناحه طول المدى ... يبدي علينا رفرفه في الريح ضاع قول من ... على هواه عنّفه عليله الصحيح كم ... شفى قلوبًا دنفه وروحه لطيفة ... وذاته منحرفه

_ 1 أرتج: الباب، أقفله. 2 يوقف: يربط، ويقيد. 3 التصحيف: تغيير نقط الحروف. المترمق: المحد النظر.

عن قبلة الدين أرى ... حب الهوا قد صرفه ولم تكن مع الهوا ... أعطافه منعطفه هواه تحت طوعه ... كيف يشاء صرفه ما زال غير شاكر ... ساكنه مذ ألفه وكلما أسرف في ... بذل شكرنا سرفه أنفاسه كم أودعت ... مجلسنا تلطفه كم رنحت من غصن ... وقامة مهفهفه1 معتله هو الصحيـ ... ـح عند من قد عرفه وقال محيي الدين ملغزًا في قمري: ما معمى ورأسه ... في عداد المطير كم له من مترجم ... كم له من مسحر كم خواف له بدت ... لالتماع المبصر2 كله معجم وإن ... زال بعض اسمه قري وقال المقر المرحومي الأميني، صاحب دواوين الإنشاء الشريف بدمشق المحروسة، ملغزًا في فاختة3: وما طائرًا يهوى الرياض تنزهًا ... ويسرح في أفنانها ويغرد هجاء اسمه خمس حروف تعدها ... وخمساه حرف إن تأملت مفرد وبعدهما تصحيف باقية إن ترد ... بيانًا له أفعى تبين وتشهد وفيه أخ إن تهت عنه فأخته ... تدل على ما قد عنيت وترشد هذا اللغز ورد إلى الديار المصرية، وحله بقية السلف الشيخ زين الدين بن العجمي، وأجاب عنه بقوله: أيا من له مجد أثيل وسودد ... غدا دون مرقاه سماك وفرقد4 تفيد يسار المقترين يمينه ... ويسراه من يمنى الغمامة أجود

_ 1 رنح: أسكر، وأمال. 2 الخوافي: أربع ريشات في جناح الطائر تختفي إذا ضم الطائر جناحه، واحدتها خافية. 3 الفاختة: نوع من الحمام المطوق، يباعد بين جناحيه وإبطيه ويتمايل في مشيه. 4 الأثيل: الأصيل المتجذر. السؤدد: الرفعة. مرقاه: ارتقاؤه. السماك والفرقد: نجمان، وهنالك سماكان وفرقدان.

ونقل الشيخ جمال الدين الدميري في كتابه "حياة الحيوان" لغزًا في بجع: ما طائر في قلبه ... يلوح للناس عجب منقاره في وسطه ... والعين منه في الذنب وكتب علامة العصر الشيخ بدر الدين الدماميني، إلى المجدي فضل الله بن مكانس، ملغزًا في قدح، فقال: ما اسم حبيب إلى النفوس، شبيه بالبدر حليق للشموس، إن قلب كان لقلبه من العين مكان المناسبه، أو سقط قلبه مع الفعل كان ضدًّا للأقوال الكاذبه، وإن صحف بعد العكس أنبأ عن الذكاء وهذا غاية الشرح، وإن غير ثانيًا علم رب الكلام المحرر أنه دال على الطرح، حاشيتاه مع التصحيف آلة للصيد، معينة على المكر والكيد، وإن قطع طرفه كان صراح باقيه قوامًا، وإن عكس على الطرف صار بتصحيفه مدامًا، وإن زال أوله كان العكس عقابًا بالمتعاطي إثمه، أو صحف اشتاقت الشفاه إلى تقبيله ولثمه، وربما كان الحد عند تصحيفه الآخر منافيًا لاسمه، مبيانًا في الحقيقة لحده ورسمه. فكتب الجناب المجدي الجواب وألغز فيه ورد بقوله: يقبل الأرض التي أطالت بالجفاء حرمانه، وتداركته بعد إجراء دموعه فعظمت في الحالين شانه، وانتهى المملوك إلى اللغز الذي تمتع بملحه، وشرب بقدحه، فابتهل شكرًا، ومالت أعطافه بالقدح الفارغ سكرًا، فوجده كما قال مولانا حبيبًا إلى النفوس، مجتهدًا في التوصل بما حازه إلى الرءوس، وكتب في الجواب لغزًا، وخالف نفسه إذ قالت لا ينبغي مجاراة هذا الجواد لزًّا1. "وهو" ما عاطل يتحلى به المجالس، ويتفكه به في المجالس، تحمر وجناته من الشرب، وتحمد آثاره في البعد والقرب، إن قلبته وجدته تاجًا، وإن تركته على حاله زادك ابتهاجًا، يعذب بالنار وغيره الجاني، ويريك إن بدلت أوله برد الأماني، يستخرج وهو داخل، ويرى دمعه من نار قلبه هاطل، لا تبرح به في غبطة، ولا تجد فيه مع انهماله نقطة، فإن حذفت أوله وحرفت باقيه وجدته أمرًا بالشراب، وإن فعلت كذا في ثانيه رأيت ما بقي مولدًا للمحبة بين الأحباب، وورّ إن حذفت آخره كمن وري، وغص في بحر الفكر على عكس ثلثيه لتستخرج درًا، والمملوك يسأل الصفح فإنه لولا المحبة ما أجاب، ولا طرق بعد فقد أبيه هذا الباب. فكتب إليه الشيخ بدر الدين الجواب: يقبل الأرض وينهي ورود الجواب، الذي شفى القلوب بوروده، واللغز الذي نسي بوروده، بان الحمى وطيب وروده، فوجده روض

_ 1 اللز: الإلتصاق، والسرعة.

سؤالك عن أنثى طروب ولم تزل ... على عودها في الروض تشدو وتنشد وتجذبني بالطوق عند نشيدها ... لنحو التصابي لا أطيق أفند ومذ بان منها الطرف أمست لعكسها ... تخاف الردى ممن لها يترصد وإن حذفت ثاني الأخير فإنه ... على العكس خاف بل يلوح ويشهد فأولها مع ما يليه وحرفها ... لنا فاه بالمعنى الذي فيه يقصد وحرفان منها فرد حرف لناطق ... واف لمن بالعكس في ذاك يجحد بقيت بقاء الدهر عزك باذخ ... وفي مفرق الجوزا لواؤك يعقد1 وقال ملغزًا في درة: أي شيء من الجمادات يلفى ... وتراه من بعد ذا حيوانا وترى ذلك الجماد عزيزًا ... غاليًا منه رصعوا تيجانا2 وترى الروح منه في حيوان ... ذي جناح ويألف الطيرانا وإذا ما شدا على العود يومًا ... فوق دف يحرك الأغصانا أو بدا في مقفص فابن برد ... عند أسجاعه يصير مهانا كله طائر وفي ثلثيه ... لك ذو أربع مع العكس بانا كله عاطل به تتحلى ... كل خود وتستقل الجمانا3 وتراه عند الملوك عظيمًا ... وبتصحيفه حقيرًا مهانا عكسه في تصحيفه زد بنقص ... فالمعمى هنا فكن يقظانا وإذا لم تدر التصاحيف ذره ... للذي فيه فهو يدري البيانا وبتحريفه تؤدب من شئـ ... ـت إذا كان يجهل العرفانا ثلثاه در نفيس وفي فيـ ... ـه إذا جاء يصحب المرجانا لكن الثلث عنده نصف وحش ... ذب عنا تصحيفه ما اعترانا وهو في البر نافر وإذا ما ... حضروه قد يألف الإنسانا فافترسه بالحل إن كنت ليثًا ... فهو لغز عن فضله قد أبانا وعلى ذكر القمري والفاختة، أوردت هنا ما ألغزته في القفص، وهو قولي: أي مغنى أعواده بيت شدو ... مرقص مطرب وبالقلب صفق ولمجموعه النباتي حسن ... فزت من بعضه بسجع المطوق

_ 1 الباذخ: عظيم الشأن. اللواء: الراية. 2 عزيزًا: عزيز الوجود: نادره. رصّع: زخرف وزين. 3 العاطل: الذي لا حلي له. الخود: الحسناء. استقل: رأى الشيء قليلًا. الحجان: اللؤلؤ.

بلاغة عدم العاتب والعائب، وترعرع زهره حيث أمطرته من الأنامل المجدية خمس سحائب، فلو شاهده ابن الوردي لاحمرّ خجلًا، أو صاحب زهر الأدب لتلوّن وجلًا، ثم تأمل حل اللغز فوجده قد كشف المشكل وجلى، واعترف أنه لم يمر بذوقه أطيب من ذلك الحل ولا أحلى، وتحقق أن مولانا أوسع المملوك في مقام الأدب بفضله إيناسًا، وتناول منه قدحًا أعاده بألفاظه المسكرة كاسًا، وانتهى المملوك إلى اللغز المخدومي، فقال: مولاي مجد الله يا من فضله ... يروي وجود كفوفه يروي الصدى ألغزت في اسم عاطل حليته ... فينا بدرّ اللفظ أو قطر الندى1 إن أورد التحريف في أثنائه ... قد كان للشاني هلاكًا أو ردى2 وقال مجيبًا له أيضًا عن الورد: لله لغزك يا مولى فضائله ... قد عطر الكون منها طيب أنفاس أتى بورد فحياني على قدحي ... به وأبهجني ما بين جلاسي وقد أسا جرح كسرى حين أقبل لي ... روحي الفداء لذكر الورد والآس فاستحلى المملوك بالتحريف ورده، وود لو اقتطف من أغصان حروفه ورده، ورده إلى ذل القصور عاريًا عن ملابس عزه، وأنشد قول ابن قلاقس وقد تقلى بنار عجزه: إذا منعتك أشجار المعالي ... جناها الغض فاقنع بالشميم3 فراح على بهرج هذا الرأي الكاسد، واقتنع بالشميم على رغم أنف الحاسد، وعلم أن تلك الورود لا تخرج إلا من تلك الخضرة، وأن هذه الفاكهة لا تخرجها إلا أغصان أقلام لها باليد المخدومية بهجة ونضرة، وتمشى المملوك من هذا اللغز في بساتين الوزير على الحقيقة، ورأى كل ورقة فاحمرت الوجنات الحمر فتحير أهي وردة أم شقيقة4، وتفكه به معجبًا بثمار غرسه، منشدًا لمن كرر النظر في صحيفتي طرسه: إن كنت تزعم ما في خده عجبًا ... فانظر إلى الورد في خديه منثورًا فلقد ظفرت من نفسه الوردي بالعنبر الورد، وعودته عند تبديل الثلاثة بالواحد

_ 1 العاطل: الذي لا حلي له. 2 الشاني: الشانئ: المبغض. الهلاك: الموت. الردى: الموت. 3 الشميم: ما يشتم من الرائحة. 4 الشقيقة: واحدة الشقائق، وهي أزهار حمراء قانية فيها بقع سوداء تعرف بشقائق النعمان.

الفرد، وتأملت بقصور راحتي نكتة برد الأماني، فانعقد لسحر البيان لساني، وتيقنت أنه لا يقوى على فهم هذا البرد إلا كل حديد النظر، ووجدت تصحيف هذه الكلمة، يا شمس الفضائل للعقول قمر، وعلمت أن الفكر لا يجاري من بديهته من بحر الفضائل رويه، وأن الخاطر لا يقوى على سلطان هذا اللغز؛ لأن شوكته قوية، وقلت للذهن رد1 بعضه لتنتهل شرابًا سائغًا، وزد تصحيفه ليكون في التعريف بمعناه مبالغًا، وتمتعت من ورده بالمشموم، ثم تذكرت البعد عن جناب المخدوم، فاستقطر البين ماء الورد من حدقي ولمولانا الصفح عن مقابلة هذا الدر بالسقط2، وتمر هجر بهذا الحشف الملتقط3. قلت وعلى ذكر القدح والورد، حسن أن نورد هنا لغزًا في المدام وقفت عليه، للشيخ صلاح الدين الصفدي بخطه: وما شيء حشاه فيه داء ... وأوله وآخره سواء إذا ما زال آخره فجمع ... يكون الحد فيه والمضاء4 وإن أهملت أوله ففعل ... له بالرفع والنصب اعتناء قلت: لا بد للمدام من ماء من حيث الممازجة: ووقفت بالديار المصرية على لغز للشيخ زين الدين بن العجمي، ألغزه في الماء فأعجبني، وهو قوله: سألتك أعزك الله عن سائل لا حظ له في الصدقة، ولم يكن متصل النسب بالأشراف، وتراه كثير الرجفان. من غير أن يخاف، كم رد سائله نهرًا، وعفر وجه قائده في التراب قسرًا، مذكر كثير الحيض، لطيف الانبساط سريع الفيض، مطلق التصرف وعليه الحجر5، وطال ما قبل العشاء أبدى لنا الفجر، يتشعب ويتكسر، ويتعوج ويتدور، وتبدو له خمسون عينًا وأكثر، يحمل القناطير المقنطرة، ويعجز عن حمل إبرة، سرع الاستحالة، قل أن يثبت على حاله، بعيد الغوص ليس له قرار، ويعاجل صفاء وراده بالأكدار، ويسكن في تخوم الغبرا6، وينم على أحوال السماء نثرًا، بعيد الغوص رقيق القلب على كل عديم، وكيف لا وهو المولى الحميم، يجود بأفخر الحلى، ولا يردّ

_ 1 رِدْ: أمر من وَرَدَ. 2 السقط: من كل شيء الرديء. 3 الحشف: التمر الرديء، وتمر هجر أحسن أنواع التمر، وهجر مدينة اشتهرت بتمرها. 4 الحدّ: قصاص مفروض من الله سبحانه وتعالى مقابل جنايات معينة. والمضاء: التنفيذ. 5 الْحَجْر: المنع من التصرف والحركة. 6 الغبرا: الأرض.

من نداه مؤملًا، كم عمر سبيلًا، وقطع طريقًا وأخاف سبيلًا، وكم طغى واحترق، وأظهر الجفاء وهو كثير الملق1، صقيل يجلو الصدى، ويظهر على شدة البرد تجلدا، قد جمع فيه الخوف والرجا، والكدر والصفا، فسبحان من جمع فيه هذه الأصداد، وأرسله رحمة للعباد. ويعجبني فيه قول أبي الفضل بن الخازن: وخل صفاء زرته بعد هجعة ... فألفيت شخصي في حشاه مصورا2 وأودعته سري فأفشاه للورى ... فيا حسن ما أفشى الغداة وأظهرا3 أبوه حليف للثريا وأمه ... به حامل في بطن منخفض الثرى سطيح له جسم بغير جوارح ... يباري الرياح الذريات إذا جرى تزر عليه الريح ثوبًا موردًا ... وتكسوه شهب الليل ثوبًا مدثرًا4 قلت: وعلى ذكر الماء يحسن أن نورد هنا لغزًا في القربة. كتب الشيخ بدر الدين الدماميني إلى المقر الأميني، أمين الدين الحمصي، كاتم السر بدمشق صاحب، ديوان الإنشاء بالشام لغزًا في قربة تزاحم سرب الأدب على الشرب منها، ولو عاش صريع الدلاء ودّ أن يكون راوية عنها، وهو قوله: أكاتب سر الملك والفاضل الذي ... ثناه على الأفكار فرض مرتب يحدث عن سهل رواة كلامه ... إذا ما أتاه اللغز يرويه مصعب فديتك ما ذات أطالعكم بها ... ويبحث في الأسفار عنها وتطلب تشدوكم في الأرض قارٍ أمالها ... وصدق إذا ما قيل تملى وتكتب5 وما هي في التحقيق راوية وكم ... لها خبر في الذوق يحلو ويعذب مليحة شكل يألف الحب صبها ... زمانًا وفي وقت لها يتجنب وتبلغ منها للحياض حقيقة ... ولكن رأينا قلبها وهو طيب يزيد مريدوها إذا ما تصوفت ... ويشكرها أهل الزوايا ويطنبوا6

_ 1 الملق: الكذب والمراءاة. 2 الهجعة: سكون الليل وهدوؤه. الحشا: الجوف والداخل. 3 أفشى السر: كشفه وأذاع به. الورى: الناس. 4 تزر عليه: تلبسه. المدثر: الذي رسمت على أطرافه الدنانير. 5 القاري: مطعم الضيوف. تملى: تملأ. تكتب: يقال كتبت القربة إذا ربطت بابها وشددتها بالوكاء. 6 الزوايا: أماكن العبادة التي اشتهرت في تونس في فترة من الفترات وكان أشهرها الزوايا السنوسية. أطنب: زاد وتوسّع.

لها أربع لكن بساق رأيتها ... على السعي في الأحياء بالنفع تدأب1 وما نال إثْمًا في تعاطيه بعدما ... رأيناه من تلك العتيقة يشرب وشم فما المفتوح كم راح سائلًا ... وما نطقت حرفًا عن القصد يعرب وترضع أحيانًا وما حان رضعها ... وكم من فتى في حملها راح يرغب وتحمل ما فيه الحياة لربها ... فيا حبذا منها البسيط المركب2 وترسله فاعجب له من مسلسل ... غدا مرسلًا عن الرواية تعجب3 وكم من خليع شمته إذ تعتقت ... يمد إليها الراح لهوًا ويطرب وكم قد تعبدنا بتحريف لفظها ... ولم أر بالتحريف من يتقرب وتصحيفها يا جبهة الدهر بلدة ... حواها من الأقطار شرق ومغرب وتوجد في الأفلاك عالية لها ... ويألفها بعض الجواري ويصحب ويا من لرق الفضل أصبح مالكًا ... فما لي إلا نحو علياه مذهب تلفت للغز نحو بابك قد أتى ... وكل غدا من ظرفه يتعجب وقال بعضهم ملغزًا في قربة السباحة: وذات فم طورًا تسبح ربها ... ولم تكتسب أجرًا بتسبيحها قط معانقة الصبيان مضمرة الهوى ... كأن بقايا قوم لوط لها رهط قلت: أما لغز الشيخ بدر الدين في القرية فنسيج وحده، وما ذاك إلا أنه لم يحتج فيه إلى عقادة من تمذهب بغير مذهبنا، ولم يسبكه في غير قوالب التورية، وقد أذكرني لغزًا ألغزته في قصب السكر بطرابلس المحروسة، وقد أنشدني بعض المخاديم وهو المقر المرحوم الشهابي الدنيسري لغزًا في قصب السكر أيضًا، وهو: وحاملة درًا حكى الخمر لذة ... ونشرًا يروي شربه ويقوت تعيش إذا لم يبد منها فإن بدا ... فمهجتها في إثر ذاك تفوت فلم تر عيني مرضعًا في مثالها ... من الخلق تسقي درها وتموت وقال بعد الإنشاد: ولا أعلم في هذا الباب مثل هذا اللغز؛ لأنه سالم من التعقيد

_ 1 أربع: أي أربع سوقٍ. 2 ربها: صاحبها. 3 المرسل من الحديث: ما سقط من إسناده الصحابي ويرويه التابعي بقوله: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دون ذكر الصحابي الذي أخذه عنه.

والتصحيف والتحريف والعكس والحذف والإبدال، فنظمت هذا اللغز في يوم الإنشاد وهو: وعسالة تبدو بغير أسنة ... ولا طعن فيها وهي داخلة الصدر1 ممشقة هيفاء حلو مذاقها ... به يطرح في المهمة القفر2 منعمة لقاء مهضومة الحشا ... تكاد بأن تنقد من رقة الخصر وتحلو على البيض الرشاق شمائلًا ... إذا ما تثنت في غلائلها الخضر يلذ قبيل العصر في الظهر رشفها ... وبرد لماها من أليم الجوى يبري وإن سقيت ماء سقتك سلافة ... بطيب مزاج وهي طيبة النشر4 وينبت حلو الثغر حلو نباتها ... فيرشف أرياقا ألذ من الخمر وإن لمعت في ثغرها وتبلجت ... دع ابن جلا يقرع ثناياه في الثغر5 على عودها كم للرباب مواقع ... وموصولها يغني عن الناي والزمر وإن قطعوا موصولها شببت به ... ألو الذوق تشبيبًا شفى غلة الصدر وترفع بعد النصب والكسر جرها ... فتجزم ما للفارسي من الذكر وهمزاتها همزات وصل وقطعها ... إذا ما أميلت جائز لك يا مقري6 وفي أول الأعراف تروي من الظما ... وتضرم نيران الجوى وهي في العصر ومن حلها إن أفرغت في قوالب ... يقول الورى هذا هو السكر المصري ومن أجل ذا عنها ابن سكرة روى ... وأما النباتي قال من ههنا قطري كذا ابن الجلاوي قلبه معها يرى ... كسيرًا وكم قد أوردته لظى الجمر فيا من حلا ذوقًا وحل بدائعي ... وفي عقد عقد الألغاز يا نافت السحر تأملت بعد الحل كيف تنوعت ... حلاوتها حتى رقت منبر الشكر بنية فكر من حماة تغربت ... وغربتها والله قد أشغلت فكري

_ 1 العسّالة: الخلية والجعبة التي توضع فيها السهام. 2 المرّان: الرماح اللدنة الصلبة واحدتها مرانة. المهمة: الأرض الواسعة. 3 الغلائل: واحدتها غلالة وهي الرقيق من الثياب. 4 السلافة: الخمرة. النشر: الرائحة التي تنتشر منها. 5 تبلج: بان ووضح. ابن جلا: الحجاج بن يوسف لقب به لقوله: أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني 6 المقري: المقرئ وهو علم تقريبًا على قارئ القرآن. والإمالة: تقريب الفتحة والألف في اللفظ من الكسرة والياء.

ومن شط ذاك النهر يا بحر قد أتت ... فلا تنهروها فهي في جيرة البحر سعت من أبي بكر لأحمد خدمة ... وأحمد من أولى الورى بأبي بكر فلا زلت في حل وظعن مؤملًا ... لكل غريب جاء حتى من الشعر قلت: وبعد قصب السكر يحلو أن نورد هنا شيئًا مما ألغزوه في العسل، فمن ذلك ما كتب به الشيخ شرف الدين عيسى العالية، إلى سيدنا الشيخ الإمام العالم العلامة بدر الدين بن الدماميني، وهو: يا أيها المولى الرئيس ومن له ... ألّفت مدحًا كالجواهر نظمه اسمع سمعت الخير أمرًا محكمًا ... يمضي على الألغاز جمعًا حكمه قالوا من الأطيار حقًّا أصله ... أكرم به لغزًا يروقك طعمه لكنه ما حاز منقارًا ولا ... ريشًا وأجنحة ولست أذمه من أين يعرف ما اسم شيء ربما ... أكلته في بعض المجاعة أمه فأجابه الشيخ بدر الدين بقوله: يا فاضلًا نثر المحاسن نظمه ... يوللغزه قد ذل عجزًا خصمه وتطرزت حلل البديع بمنطق ... منه علا بين الأفاضل رسمه شرف لأعراض البدائع سابق ... ومن الفضائل قد توفر قسمه ألغزت في اسم عاطل حليته ... بنفيس در صح فينا يتمه1 فإذا أضفت القلب منه لأصله ... قلنا بهذا الفعل قد وضح اسمه وإذا عكست الأصل منه فهو إن ... أعربت لحنًا ليس يجهل حكمه قد كانت الأذهان منه خلية ... فحوت به شهدًا لذيذًا طعمه ورأى ابن سكرة حلاوة طعمه ... فقضى بتقطير المرارة وهمه ورأى بعين لغزك الحلو الجنى ... حلو المذاق فحار فيه فهمه وأعاذه بعلي أمير النحل إذ ... أضحى عليًّا في الفصاحة نظمه فاصفح بفضلك عن جواب سافل ... يا طالعًا في خير أفق نجمه قلت: وعلى ذكر العسل يحلو أيضًا أن نورد هنا ما ألغزه مولانا المقر المرحومي القاضي الناصري محمد بن البارزي الجهني الشافعي في سكر نبات، وكتب به إلَيّ، وهو:

_ 1 العاطل: الذي لا حلي له. النفيس: الثمين. اليتيم: من الدر، الذي لا ثاني له.

يا قاضي الأدب احكم لي فذا أدبي ... حلا مذاقًا ووقع لي بتحسين واقبل شهادة ما أهديته تر من ... تصحيف معكوسه ثانٍ يزكيني ورسم لي بحل اللغز والجواب فألغزت مع الحل لغزًا زائد الحلاوة في قطر، وهو: أهديت لغزًا حلا ذوقًا مكرره ... فانحل مذ حل في قلبي بتمكين وفزت منه بشكر في مصحفه ... وجاء منه بثانٍ قلت يكفيني تصحيف معكوسه من غير تزكية ... وحكمه ثابت عندي بتبيين حماة منبته لكن بمصر له ... مزية تزدري نبت الرياحين فحل منه لنا لغزًا مجانسيه ... يحل أحشاء أرضينا فيرضيني يرادف اسم رباب فهو يطربني ... هذا وتصحيفه في العيد يأتيني حلو رقيق بلا حشو لذائقه ... لأن قطر النباتي عنه ينسيني فلا برحت برغم الكسر تجبرني ... وكلما مرّ لي عيش تحليني قلت: وعلى ذكر القطر، يحلو أن نورد هنا شيئًا من بديع ما ألغزوه، في الكنافة والقطائف، فمن ذلك ما ألغزه الشيخ برهان الدين إبراهيم القيراطي في النوعين وهو قوله: هذان لغزان قد حلا ببابك يا ... قاضي البرية ما هذان خصمان اسمان كل خماسي إذا كتبت ... حروفه فهما لا شك حرفان تباينا في الورى شكلًا إذا نظرا ... وصورة وهما في الأصل مثلان هما إلى الصين منسوب مقرهما ... أن أحضرا في مكان بين أخوان لذا كنى وهو بين الناس ليس له ... من كنية ما انتحى في ذلك اثنان في البر يلقى وإن فتشت عنه تجد ... في لجة البحر ملقى خمسه الثاني نبت أرى النار قد أبدت له ورقًا ... فأعجب له ورقًا ينمو بنيران يحيا إذا ما سقاه القطر وابله ... وجاده بسحاب منه هتان1 ذو رقة فإذا صحفته ظهرت ... كثافة منه فاستره بكتمان هذا وكم من بدور فيه قد طلعت ... في آخر الشهر لم تمحق بنقصان2 فقدها خيط فجر أبيض عجل ... بالبرق يسطو عليها سطوة الجاني

_ 1 الهتان: الشديد المطر متتابعة. 2 محق: البدر صار في المحاق وهي المنزلة التي ينزلها القمر قبل أن يبدأ بالإثارة، أو الهلال قبل رؤيته.

واللغز الآخر في اسم ذات ألسنة ... لم يبد منها لنا بالنطق حرفان يا حسنها ألسنا أضحت حلاوتها ... يحلو المديح لها من كل ملسان1 بالطي والنشر في حال قد اتصفت ... والطي والنشر فيما قيل ضدان كم سكرت ففتحنا بالدخول بها ... أبوابها فتلقتنا بإحسان حسناء أجمع أهل العقد كلهم ... والحل منها عليها بعد عرفان وصالها حل بالإجماع في زمن ... فيه الوصال حرام عند أعيان ثلثا ثلاثة أخماس لها وجدا ... شيئا يجيء بإيضاح وتبيان وما ذكرت من الأخماس قد نطقت ... صدقًا بذكر اسمها من غير بهتان2 وخمسها جبل لكن بقيتها ... في مكرة يرتجى فوزًا بغفران ما ملَّ راوٍ من القالي أماليه ... عنها وما خاطر القالي لها شاني3 في الجوف منها قلوب جمة جمعت ... ولا يكون بجوف الشخص قلبان كم ظل يطرحها من ليس ذا شرف ... جهرًا ويوصف مع هذا بإتقان بالحل أنعم سقى القطر المواطئ من ... إقدام سعيك من إرواء ظمآن وكتب مولانا قاضي القضاة، صدر الدين بن الآدمي الحنفي -رحمه الله- إلى علامة العصر سيدنا ومولانا الشيخ بدر الدين بن الدماميني -رحمه الله- ملغزًا في لوزينج وأجاد إلى الغاية، وهو: يا من له في علوم النظم أي يد ... فاق الخليل بها فضلًا وتمكينا ما اسم دوائره في نظمها ائتلفت ... والثلم في صدرها مستعمل حينًا أجزاؤه من زحاف الحشو قد سلمت ... هذا ويقطع مطويًّا ومخبونا تصحيف معكوسه لفظ يرادفه ... يا فرد يا رحلة قوم مقيمونا والعيد منتظر من حله فرجًا ... لا زال سعدك بالإقبال مقرونًا4 فحله المشار إليه -رحمه الله- وأجاد إلى الغاية، والجواب: يا مرسلًا من شهي النظم لي كلمًا ... منها ابن سكرة قد راح مغبونًا لله درك صدرًا من حلاوته ... وجوهر النظم لم يبرح يحلينا

_ 1 الملسان: الفصيح. 2 البهتان: الافتراء والكذب. 3 شاني: شانئ مبغض. والقالي. صاحب الأمالي والمبغض أيضًا. 4 السعد: الحظ. مقرونًا: مقترنًا ملازمًا.

حليت لغزك إذ أبهمته فلذا ... يا فاتني رحت بالإعجاب مفتونا هذا وكم قد رأينا في دوائره ... للكف قبضًا يزيد العقل تمكينا وليس إضماره مستحسنًا فأين ... بالكشف عنه لمن وافاك تحسينا وكن لنا هاديًا صوب الصواب ودم ... فينا أمينًا رشيد العقل مأمونا والله تعالى يمن على أفواه شاكريه بما هو أشهى من اللوزينج وأحلى، ويحلي أعناق المتأدبين من كلمه بما هو أنفس من الدر وأغلى. وكتب الشيخ بدر الدين، المشار إليه، أيضًا لغزًا في دواة وجهزه إلى المقر المرحومي الأميني المقدم ذكره، وهو هذا: كتبت وأعذاري إليك تقرر ... ونظمي بها يا كاتب السر يجهر أتتك بأبيات المعاني فرضتها ... وحكت حبير اللفظ وهو محرر1 وحليت أهل العصر إذ كنت خاتمًا ... لهم فعليك الآن يعقد خنصر وما أنت إلا البحر جاش عبابه ... ولكن رأينا منك علمًا يجسر2 فما كلمة أفديك دام اعتلالها ... وفيها دواء إن عراها تغير ويحفظها ذو السر وهي التي وشت ... وذلك من عاداتها ليس يترك وما مسها إلا وجادت بنفسها ... وصحف ترى المقصود بالنفس يظهر وتحمل سمر الخط رايات ملكها ... على الرأس عباسية حين تخطر كحيلة طرف تعشق العين شكلها ... ويحسن مرآها إذا ما تحبر مؤنثة كم ذكرتنا بلونها ... عهود الصبا والشيء بالشيء يذكر وكم قد أرانا ريقها من مسلسل ... يلذ به في الذوق ورد ومصدر وكم لاقت الأحبار منها محاسنًا ... فعادت لها الجهال بالعي تحصر3 مسودة إن ترض فالعيش أخضر ... وإن غضبت فالموت لا شك أحمر ويعذب للسمر الرقاق رضابها ... فتنهل منها موردًا لا يكدر لقد أحكمت والنسخ ما زال دأبها ... بذلك قد جاء الكتاب المسطر وما هي إلا ذت متربة غدت ... وكم ذي غنى عن قصدها ليس يفتر4

_ 1 حبير اللفظ: المحبر، المكتوب. 2 جاش: هاج واضطرب. عبابه: وسطه ولجته. 3 الأحبار: مفردها حبر وهو الرئيس الديني للنصارى. العي: عدم القدرة على التكلم. تحصر: تمنع من الكلام. 4 المتربة: الحاجة والفقر. يفتر: يضعف.

ولسنا نراها غير سائلة ولم ... تفه بسؤال فاعترانا التحير1 فانعم بحل اللغز يا خير منعم ... فأنت به والله أجدى وأجدر فلا زالت الأقلام تسعى لشكركم ... على رأسها طول المدى لا تقصر فكتب المقر المرحومي الأميني الجواب بعد أيام، وهو قوله: مواقع أقلام لها الفضل ينشر ... وروضة آداب بها القلب يجبر تحرر معنى حسنه نسيج وحده ... فيا حبذا الإسكندري المحرر تشق على الأفهام شقة شأوها ... فكم من بليغ عن مداها يقصر2 أتت سهلة الألفاظ ممنوعة الذرا ... حماها من العلياء لا يتسوّر3 تشير إلى الحبلى التي عز وضعها ... فأحشاؤها فيها الأجنة تقبر ينامون لا تغشاهم سنة الكرى ... فإن هب فرد ظل يسعى ويحضر وإن أرشفته من زلال رضابها ... تهادى بها نشوان يمشي ويعثر وأما إذا اعتموا السواد فكلهم ... خطيب له فوق الأنامل منبر وينطق عن علم وطول نباهة ... وعما رآه في المنام يعبر تطاول سمر الخط أنى تشامخت ... سموًا ومع هذا على الطول تقصر وكل بني الآداب تلفى بيوتهم ... تقام بها بين الأنام وتعمر فأكرم بما قد ولدته وأنشأت ... وربت ويكفيها بذلك مفخر نجية وجهي إن جلست ووجهها ... تجاهي وجاهي عندها ليس يحقر4 وقد فتحت فاها فقالت وقصرت ... وأنى استقالت فهي في ذاك تعذر فلا زلتم أهل الجمال وخيركم ... لدى النقص مثلي فهو حظ موفر بمدحكم الأقلام يضحك سنها ... بحق وأفواه الدواة تقطر ويعجبني من الألغاز، في التورية، قول شهاب الدين الغزاوي، في قوس، وهو: ما عجوز كبيرة بلغت سنًا ... طويلًا وتتقيها الرجال ولها في البنين سهم وقسم ... وبنوها كبار قدر نبال ومن غريب ما أعجبني في هذا الباب قول القائل في كمون وهو:

_ 1 سائلة: من الأجسام التي تشبه الماء، والتي تطلب العطاء، فاه: تكلم، نطق. 2 شق: صعب وصار شاقًّا. الشأو: المدى والغاية. 3 تسوّر: تسلق، الذرا: القمم والأعالي. 4 النجية: التي تحادث وجهًا لوجه ولكن عن بعد.

يا أيها العطار أعرب لنا ... عن اسم شيء قل في سومك1 تنظره بالعين في يقظة ... كما ترى بالقلب في نومك ومثله قول شمس الدين الهيتي في ورق، وهو: وشيء بلا جرم يصلب تارة ... ويقطع حينًا في حضور وأسفار2 ومن قدم قد بيض الله وجهه ... على أنه ما انفك يومًا عن القار3 ومن لطائف الشيخ شمس الدين بن الصاحب في هذا الباب قوله في سهم: لله مملوك إذا ... ما قام في الشغل اعترض لكنه في لحظة ... محصل لك الغرض وقال الشيخ جمال الدين بن نباتة -رحمه الله- ملغزًا في قلم: مولاي ما اسم لنا حل دنف ... وما به علة ولا سقم لسان قوم فإن حذفت وإن ... صحفت بعض الحروف فهو فم وقال ملغزًا في علي: أمولاي ما اسم جلي إذا ... تعوض عن حرفه الأوّل لك الوصف من شخصه سالِمًا ... وإن قلعت عينه فهو لي ويعجبني في هذا الباب قول ابن المرجاني ملغزًا في مشط وهو: يا إمامًا سألته حل لغز ... شط منه مزار أهل الذكاء4 أهمل الثلث باعتناء وقلب ... تره جاء قائد الشعراء ويعجبني قول الشيخ صلاح الدين ملغزًا في قريشة: أي شيء يروق الناس أكلًا ... ذو بياض وأصله من حشيشه خمسة أثقل الجمادات وزنًا ... فتعجب له وباقيه ريشه

_ 1 السوم: التثمين والتسعير. 2 الجرم: الجسم والجسد. 3 القار: الزفت وبزيادة الياء: مطعم الضيوف. 4 شط المزار: بعد المسكن والمقام.

ويعجبني لغز ابن منقذ في الضرس، وهو: وصاحب لا أملُّ الدهر صحبته ... يسعى لنفعي ويسعى سعي مجتهد لم ألقه مذ تصاحبنا فمذ وقعت ... عيني عليه تفارقنا إلى الأبد ومن الغايات التي لم تدرك، في هذا الباب، قول القاضي صدر الدين بن الآدمي -رحمه الله- ملغزًا في كشتوان: ما رفيق وصاحب لك تلقاه ... معينًا على بلوغ المرام هو للعين واضح وجلي ... وتراه في غاية الإبهام1 واستظرف قول بعض مواليا ملغزًا في بدرة: محبوبتي وجهها يغني عن المقباس ... واسمها ينقذ العاشق من الإفلاس2 إن تعكسوا تجدوا ضدين في الأجناس ... هذا نفور وهذا يقبل الإيناس وسألني جماعة من فضلاء أهل الأدب بالديار المصرية أن أنظم لهم لغزًا في كرمة، وأطلق لهم عنان القلم في ذلك فقلت: أخبروني عن فاضل بأصولٍ ... وفروع يسمو على كل فاضل أسبغ الله ظله فهو ظل ... سابغ وافر مديد وكامل وأبو محجن يقول ادفنوني ... تحته إن أتاني الموت عاجل كم إلينا قد مد كفًا نديًّا ... فصير العيش أخضرًا في المنازل نقط الطل فوقه وضحته ... عند توقيعها به وهو عاطل3 ما تبدى لنا بعين ولكن ... حرفته وصحفته الأفاضل فرأينا للترك فيه اسم عين ... بفتور الأجفان جاءت تغازل إن تذكره أحرف الكل تبدي ... كرمًا والندى من الكف هاطل أو تؤنثه يقبل الهاء في الحا ... ل ومن بعد ذا يرى وهو حامل ويقل شطره لمن عابه مه ... لك هم بالعكس عندي حاصل4 هو حلو وفيه مرّك يبدو ... عند تحريف عكسه المتماثل

_ 1 الإبهام: الغموض، والأصبع الكبرى لليد. 2 المقباس: الذي ينار به الضوء ويؤخذ منه القبس من النور. 3 الوضحة: الجبهة من الوضوح. عاطل: غير محلى. 4 مه: اسم فعل أمر بمعنى اكفف، للزجر.

وبلا أول يرى فعل أمر ... واقلب الفعل منه فالأمر حاصل وهو خشب مسندات ولكن ... حاز نجلًا يبدو رقيق الغلائل1 ومن العز جسمه الغض يدمى ... وتراه من بعد ذا وهو ذابل وإذا ما فرطت فيه تراه ... لم يحل عنك وهو نعم الخصائل ذو بياض وحمرة ولّدا لي ... فرحًا راح ساريًا في المفاصل فتراه يومًا عقود بلخش ... نظمت سلكها بغير أنامل2 وتراه يبدو عقود جمان ... ما لها غير ثغر حبي مماثل وتراه طورًا سلافة راح ... ولدر الحباب فيه حواصل3 وعلى عوده يغني علينا ... أعجمي به تهيج البلابل لك منه فواكه وشراب ... كل غض إليك تلقاه واصل وحلاواته بها كل قلب ... كسروه والكسر للقلب حامل وترى وصله بمصر قليلًا ... وهو بالشام لا يزال يواصل وتراه بذات عرق مقيمًا ... في نعيم وظله غير زائل وإذا قلت في المخيم بالغور ... رأيناك فيه أصدق قائل ولقد جاءنا بعتب لطيف ... عند تصحيفه لمن هو هازل كيف لا والكتاب عن جنتيه ... قد أتى مخبرًا بكل الفصائل فتفكه من حله بقطوف ... دانيات لكل آت وراحل4 وأقم تحت ظله فهو لغز ... ظله ظاهر على كل قائل ثم دم للألغاز في الحل والعقـ ... ـد غني إذا أتى اللغز سائل قلت: ومما ألحقوه بالألغاز، ما حكي عن بعض ولاة الطوف ببغداد: جاءوا إليه بغلامين غلب عليهما السكر، فقال لأحدهما من أبوك؟ فقال: أنا ابن الذي لا ينزل الدهر قِدْرُه ... وإن نزلت يومًا فسوف تعود 5 ترى الناس أفواجًا إلى ضوء ناره ... فمنهم قيام حولها وقعود

_ 1 النجل: الابن. الغلائل: الثياب الرقيقة الناعمة. 2 اللخش: لم نعثر لها على معنى وربما كانت اسْمًا للخرز أو الجواهر. 3 الحباب: فقاقيع الماء. الحواصل: جمع حوصلة وهي بالنسبة للطائر كالمعدة بالنسبة للإنسان. 4 الحل: الحلال. القطوف الدانية: القريبة المتدلية. 5 القِدر: وعاء يستعمل للطبخ.

فأطلقه وعظم في عينه، وقال: هذا أبوه من بيت كبير، وقال للآخر: من أبوك؟ فقال: أنا ابن من دانت الرقاب له ... ما بين مخزومها وهاشمها1 تأتيه بالرغم وهي صاغرة ... يأخذ من مالها ومن دمها فقال الوالي: ما أشك أن هذا أبوه كان ملكًا شجاعًا، فأمر بإطلاقهما فلما انصرفا كان في المجلس رجل نبيه فقال للوالي: الشاب الأول كان أبوه فوّالًا، والثاني كان أبوه حجامًا. فأعجب الوالي منه ذلك، فقال: كان ابن من شئت واكتسب أدبًا ... يغنيك مضمونه عن النسب2 إن الفتى من يقول ها أنا ذا ... ليس الفتى من يقول كان أبي وبيت الشيخ صفي الدين على الألغاز في بديعيته: حرّان ينقع حر الكر غلته ... حتى إذا ضمه برد المقيل ظمي3 الشيخ صفي الدين ألغز هنا في السيف فإنه يروي في حر الكر بالدماء، وإذا أدخل القراب الذي كنى به عن برد المقبل، كان ظامئًا. والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم. وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته: إن المنافق لغز قلبه زغل ... وهو المعمى كمثل الأرزة الرزم4 قلت: الشيخ عز الدين -غفر الله له- لم يأت في بيته بغير الجناس المقلوب، في لغز وزغل، وأما التعمية بالأرزة الرزم، فما علمت ما المراد منهما حتى نظرت في شرحه، فوجدته قد قال: الرزم القائم والأرزة شجرة الصنوبر، فما ازددت في التعمية غير تعمية. وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي، صلى الله عليه وسلم: وكلما ألغزوه حله لَسِنٌ ... مذ طال تعقيده أزرى بفهمهم

_ 1 دان: خضع. 2 مضمونه: معناه ويروى: محموده. 3 الحرّان: الشديد العطش. نقع: روى. الكر: المعركة. الغلة: شدة العطش. ظمي: ظمئ، عطش. 4 الزغل: الخبث والانطواء عليه. الأرزة: شجرة من فصيلة الصنوبريات وهي شعار اللبنانيين وتتوسط علمهم. من الناس الأرزة: المنقبض. الرزم: الثابت القائم على الأرض.

قد تقدم، وتقرر أن أحسن التعمية في اللغز ما أسفر بعد الحل عن تورية بديعة في بابها، وهذا البيت أيضًا بديع في هذا الباب، فإن اللغز في الرمح والتورية في لسن؛ لأن لسان الرمح لسان القائل في التورية للتكليم، وفي التعقيد المشترك بين تعقيد اللغز وتعقيد الرمح، وأما المناسبة بين الحل والتعقيد، والإزراء بالفهم بعد ذكر الألغاز، فمحاسنها لا تخفى على حذاق الأدب. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

ذكر سلامة الاختراع

ذكر سلامة الاختراع: وقده باختراع سالم ألف ... يبدو بترويسه من رأس كل كمي1 هذا النوع، أعني سلامة الاختراع: هو أن يخترع الشاعر معنى لم يسبق إليه، كقول عنترة في وصف الذباب: وخلا الذباب بها فليس بنازحٍ ... غردًا كفعل الشارب المترنم هزجًا يحك ذراعه بذراعه ... قدْحَ المكب على الزناد الأجذم هذا المعنى إذا تأمله المتأدب، وتخيله في فكره يجده غريبًا في بابه، فإنه قال: إن هذا الذباب لَمّا خلا بهذه الروضة التي أعاد الضمير إليها في قوله: بها، صار هزجًا مترنّمًا يحك ذراعه بذراعه من الطرب الذي اعتراه، فشبهه عنترة برجل أجذم قاعد يقدح زنادًا بذراعيه، والأجذم المقطوع اليد، والتقدير في البيت قدح الأجذم المكب على الزناد. انتهى. ومنه قول ابن الرقاع، في تشبيه قرن الخشف: يزجي أغن كأن إبرة روقه ... قلم أصاب من الدواة مدادها2 وعدّوا قول ابن الرومي من المخترعات التي لم يسبق إليها، فإنه قال في تشبيه الرقاقة حين يبسطها الخباز:

_ 1 الترويس: الرأس المحدد. والألف: الرمح، وترويسه: سهمه. الكمي: البطل الشجاع. 2 يزجي: يرسل ويحث. الأغن: الذي في صوته غنه. الروق: القرن.

لم أنس بالأمس خبازًا مررت به ... يدحو الرقاقة وشك اللمح بالبصر1 ما بين رؤيتها في كفه كرة ... وبين رؤيتها قوراء كالقمر2 إلا بمقدار ما تنداح دائرة ... في صفحة الماء يرمى فيه بالحجر3 وأجمعوا على أن قول أبي الطيب من الاختراعات التي لم يسبق إليها، وهو قوله: حلفت وفيًّا إن رُدِدْت إلى الصبا ... لفارقت شيبي موجع القلب باكيا قلت: أما أبو الطيب فإنه شن الغارات على معاني المتقدمين كثيرًا، وما خفي ما أورده عليه الحاتمي في الحاتمية، وكان قد عنَّ لي أن أورد، في هذا الشرح المبارك -له ولمن تقدمه ولمن تأخر عنه- جملة مستكثرة مما وقع لهم من معانيهم، من سلامة الاختراع بالنسبة إلى اطلاعي، وخفت أن يقع اختياري على معنى أعده لصاحبه من سلامة الاختراع، فيأتي من تبحر في اطلاعه على معنى له لغيره ممن تقدمه، فأضربت عن ذلك وجنحت إلى ذكر ما وقع لي في نظمي، من سلامة الاختراع التي لم أسبق إليها، ولا حام طائر فكر غيري عليها، فمن ذلك قولي من قصيدة رائية: وحمرة الخد أبدت خيط عارضه ... فخلت كأس مدام وهو مشعور4 ومذ بدت نسمات الثغر باردة ... بدا بإغضاء ذاك الجفن تكسير وقلت منها في وصف القلم: له يراع سعيد في تقلبه ... إن خط خطًّا أطاعته المقادير ومنها: وأشقر يده البيضاء غرته ... له إلى الرزق فوق الطرس تيسير5 بل أسمر عينه السوداء يلحظها ... وهدب أجفانها تلك المشاعير6

_ 1 يدحو: يدوّر. الرقاقة: الرغيف ويروى: ما أنسى لا أنسى خبازًا مررت به. 2 قوراء: لم تستكمل دورتها بعد. 3 انداح: استدار. 4 مشعور: مكسور دون انفصال أجزائه وتبعثرها. 5 الطرس: ما يكتب عليه. 6 المشاعير: الخطوط الدقيقة.

ومثله قولي من القصيدة: كذا محابره سود العيون فإن ... دنت أياديه فهي الأعين الحور ومنه قولي من قصيدة ميمية: حين قابلت خده بدموعي ... أثرت خلت ثوب خز منمنم1 ومنه قولي في وصف حماة من قصيدة طائية: ينظم بالشطين دور ثمارها ... عقودًا لها العاصي رأيناه كالسمط2 وقد مد ذاك النهر ساقًا مدملجًا ... وراح بنقش النبت يمشي على بسط3 لوينا خلاخيل النواعير فالتوت ... وأبدت لنا دورًا على ساقة الشط وقلت من قصيدة أخرى: وعاص رحيب الصدر قد خر طائعًا ... ودولابه كالقلب يخفق في الصدر وقلت من قصيدة أخرى: وهززت فيه كل عود أراكةٍ ... أضحى بهاتيك الثغور مطيبا والمعنى المخترع قولي بعده: ودخلت كل خباء زهر قد غدا ... بدموع أجفان الغمام مطنبا4 ومن اختراعاتي التي لم أسبق إليها، وسارت الركبان بها قولي في المدائح المؤيدية: فرج على الملجون نظم عسكرا ... وأطاعه في النظم بحر وافر5 فانبت منه زحافه في وقعة ... يا من بأحوال الوقائع شاعر6 وجميع هاتيك البغاة بأسرهم ... دارت عليهم من سطاك دوائر والمعنى المخترع فيها قولي: وعلى ظهور الخيل ماتوا خيفة ... فكأن هاتيك السروج مقابر

_ 1 الخز: الحرير. المنمنم: المزركش. 2 العاصي: نهر العاصي وهو نهر ينبع من لبنان ويصب في سوريا. السمط: العقد. 3 المدملج: الذي يلبس الدملج وهو من الأساور والحلى. 4 مطنبًا: مرفوعًا أو مشدودًا بالطنب وهي حبال وأعمدة الخيمة. 5 الملجون: الورق اللزج. 6 انبت: انقطع. الزحاف: في المصطلح العروضي تغيير يلحق ثاني السبب من التفعيلة.

ومنها في سلامة الاختراع قولي: وإذا مددت يراع رمحك ماله ... إلا قلوب الدارعين محابر1 ونعال خيلك كالعيون ومالها ... إلا جماجم من قتلت محاجر ومنه قولي متغزلًا في مليح مشطوب: بالصدع أبدى شطبة ... من شكله محوّط2 سألته عن أمرها ... فقال زاد اللغط3 قلتم بدا لي عارض ... مشكل منقط جئت شطبت فوقه ... وقلت هذا غلط ولي من قصيدة بديعة مشتملة على وصف متنزهات حماة المحروسة: والنبت يضبطها بشكل معرب ... لما يزيد الطير في التلحين4 والمعنى المخترع قولي بعده: والغصن يحكي النون في ميلانه ... وخياله في الماء كالتنوين وقلت في مطلع قصيدة: ألف القد مدها لي بعزه ... وعليها من عطفة الصدغ همزه وقلت من قصيدة فائية: وعارضه في الوضع لامٌ وصِدغه ... إذا مدها من فوقه تتكوف5 ولعمري، إن الشرح قد طال، ولولا خشية الإطالة لذكرت من هذا الباب قدرًا وافيًا، بالنسبة إلى ما أدى إليه اجتهادي، وقلت: إني مخترعه، وبشهادة الله إني ما تطفلت بالنسبة إلى علمي على معنى لغيري، اللهم إلا أن تكون أحكام المواردة قد حكمت عليّ فالحكم لله العلي الكبير.

_ 1 الدارعين: لابسي الدروع. المحابر: جمع محبرة وهي الدواة. 2 الشطبة: أثر الجرح. محوّط: مرقيّ بالرقي لإبعاد الضرر عنه. 3 اللغط: القيل والقال. 4 التلحين: من الألحان بمعنى الزقزقة والتغريد ومن اللحن وهو الخطأ اللغوي وكذلك: معرب: مبين واضح وحسب قواعد الإعراب. 5 تتكوّف: تتجمع وتستدير.

وبيت الشيخ صفي الدين في بديعيته على سلامة الاخترع قوله: كادت حوافرها تدمي جحافلها ... حتى تشابهت الأحجال بالرثم1 جحفلة الفرس شفته العليا، والرثم بياض شفتيه، وكأنه يقول: إن هذه الفرس لسرعة جريانها اتصلت أحجالها إلى شفتها فتشابها في البياض. والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم. وبيت الشيخ عز الدين الموصلي، -رحمه الله- في بديعيته قوله: سلامة لاختراعي في علا هممي ... اسمي وفعلي كحرف عند رسمهم وقال في الشرح: اسمي علا، وفعلي علا، والحرف المشبه بهما على هذا المعنى على الذي هو معدود من حروف الجر، قلت: لو ألحق الشيخ عز الدين ما قاله هنا بالألغاز لكان أقرب وأليق، فإن سلامة الاختراع وغرابة المعنى عنه بمعزل. وبيت بديعيتي تقدمه قولي في الألغاز بالرمح بقولي: وكلما ألغزوه حله لسن ... مذ طال تعقيده أزرى بفهمهم ولم أخرج عن الرمح بل قلت مخترعًا فيه اختراعًا بعد من المرقص والمطرب، بعد بيت الألغاز، وهو: وقده باختراع سالم ألف ... يبدو بترويسه من رأس كل كمي2 تقدم قولي: أنه كان عنّ لي أن أورد هنا، من سلامة الاختراع للمتقدمين والمتأخرين، جمل مستكثرة ولم يصدني عن ذلك إلا الخيفة ممن تبحر علي في المطالعة، فيورد ما أثبت من المعنى المخترع لزيد، أنه مسبوق إليه من عمرو، فأردت أن أخلص من هذا الاعتراض، وأورد هنا نبذة من مخترعات ابن حجاج، فإنه منوال ما نسج عليه غيره، وقد تقدم قول الشيخ جمال الدين بن نباتة في ديباجة كتابه المسمى: "بتلطيف المزاج من شعر ابن الحجاج"، وأما أشعار أبي عبد الله الحسيني بن حجاج، فإنه أمة غريبة تبعث وحدها، وذرية تبلغ بإتقان اللهو رشدها، فمن ذلك قوله: يا ديمة الصفع صبي ... على قفا المتنبي

_ 1 الجحفلة: شفة الحيوان ذي الحافر. الأحجال: مفردها حجل وهو بياض يكون في قوائم الخيل. الرثم: بياض الشفة عند الخيل. 2 الألف: الرمح. الترويس: السهم. الكمي: البطل الشجاع.

وأنت يا ريح بطني ... على عذاريه هبي ويا قفاه تقدم واقعد ... قليلًا بجنبي وإن صفعتك ألفا ... فلا تقولن حسبي وقد تعشقت معنى ... طرطورك المتعبي1 يا لحية هي عن أهـ ... ـل شيخنا النذل تنبي قومي ادخلي جوف بطني ... فقد وقعت بقلبي وأنت عندي مكان ... السواد من عين صلبي ومنه قوله: كأنما باب سور مبعرها ... عنقود كرم مزبب العنب2 كأنما الأير فوق عصعصها ... راكب حمارة على قتب ومنه قوله: جارية قد سمطت فيشتي ... بوهج حمى سرمها الصالب3 أخذت في الليل مجس استها الـ ... ـحامي وقد نامت إلى جانبي أوجب إخراج دم فاسد ... من عين قيفال استها الضارب4 لبظرها الأسود دنية ... تصلح للقاضي أبي السائب خطبت بالأمس عليها استها ... فأنعمت للخاطب الراغب وبات أيري رافضي الخصى ... يعطي قفا مبعرها الناصب وقال أيضًا: قوموا افتحوا باب سرمها ولجوا ... فكل عضو من استها شرج قوموا فعين استها لرؤيتكم ... بالليل فوق الفراش تختلج إن لم يسعكم ممر عصعصها ... فثم بالطول تحته أزج وفي استها خاتم للولبه ... طوق محلى وفصه سبج5 إذا الخصي صافح استها خريت ... تحتي وبالبيض تعمل العجج وقال أيضًا: بأبي من تمكنت من فؤادي ... فأنا الدهر كله في اجتهاد قدها في القياس من قوم يأجو ... ج ولكن بظرها قوم عاد

_ 1 الطرطور: من حلى النساء: قلنسوة دقيقة طويلة ويقال: طنطور بالنون. 2 المبعر: مكان خروج البعر والبعر هو فضلات الحيوانات أو روثها. 3 الفيشة: الحشفة من الأير. السرم: طرف المعي الغليظ أو مكان خروج البراز. الصالب: الحمى الشديدة الحرارة. 4 القيفال: وريد في الجانب الوحشي من العضد. 5 السبج: خرز أسود.

وقفت لي فبستها من قعود ... بوسة بردت غليل فؤادي1 ولها شعرة ولا زبد البحـ ... ـر بياضًا وعصعص كالمداد وحر أشمط العذارين الحي ... فيه سمت النساك والعباد بظرها فوقه كدنية الحا ... كم يوم انحداره في السواد ما توهمته وحقك إلا ... بعض أصحابنا بني حماد يوم حاملتها فلما أحست ... في خراها بمثل شرط الفصاد2 جذبت لحيتي وقالت أيا شيخ ... ترى أنت كافر بالمعاد أنت ممن يبغي خلافًا على الله ... ويسعى في أرضه بالفساد قلت كفي إنا وجدنا على هـ ... ـذا أيور الآباء والأجداد عرفيني وخبريني متى كا ... نت سيوف الخصي بلا أغماد ومن غاياته في هذا الباب قوله: مولاي يدعوك شيخ لا وقار له ... حتى القيامة سكران ومخمور ما فيه للشيب إكرام فيزجره ... عن الخمور ولا للسن توقير يقول بالأمرد المصقول عارضه ... مقسمًا فيه تأنيث وتذكير وبالفتاة التي تنور مدخلها ... بعد العشا لشوى الخصيان مسجور3 وبالعجوز التي في أصل عنبلها ... غداة بعث المخاصي ينفخ الصور زبال زرع استها يسقى بدالية ... وبظرها واقف في الزرع ناطور4 لها حر أشمط قد شاب مفرقه ... عليه بظر طويل فيه تدوير كأنه شاعر قد جاء من حلب ... شيخ على رأسه المحلوق طرطور5 هذا الاستطراد في البيت الأخير استطرد فيه إلى أبي الطيب، وهو في غاية اللطف والظرف، وقد تقدمت إشارته إلى طرطوره في الأبيات المتقدمة البائية، ومن اختراعاته في هذا الباب قوله: أحب من الكس تقبيله ... إذا كان في شفتيه لعس6

_ 1 البوسة: القبلة: 2 الشرط: البضع والجرح. الفصاد: عملية إخراج الدم الفاسد من العروق. 3 مسجور: محميّ. 4 الزبال: ما تحمله النملة. الدالية: الناعورة. البظر: نتوء في فرج المرأة. 5 الطرطور: القلنسوة. 6 الكس: فرج المرأة. اللعس: سواد مستحسن في باطن الشفة.

ويعجبني منه أني إذا ... نقرت أنفه بقمدي عطس1 وواسعة السرم تشكو استها ... إذا مسها النيك ضيق النفس فتاة لدرب إستها حارس ... يعلق من خصيتيه جرس ويعجبني قوله من قصيدة: في إستها سدرة إذا نفضوها ... جمعوا لي من تحتها كف نبق2 وهو نبق بلا نوى أسود اللو ... ن إذا لكته تحمض شدقي3

_ 1 القمد: الطويل الضخم العنق. 2 النبق: ثمرة شجر الدر أو دقيق يخرج من لب جذع النخلة. 3 لاك: مضغ.

ذكر التفسير

ذكر التفسير: وصحبه بالوجوه البيض يوم وغى ... كم فسروا من بدور في دجى الظلم هذا النوع، أعني التفسير، من مستخرجات قدامة، وسماه قوم التبيين، وهو أن يأتي المتكلم أو الشاعر في بيت بمعنى لا يستقل الفهم بمعرفة فحواه دون تفسيره، إما في البيت الآخر، أو في بقية البيت، إن كان الكلام يحتاج إلى التفسير في أوله. والتفسير يأتي بعد الشرط وما هو في معناه، وبعد الجار والمجرور، وبعد المبتدأ الذي يكون تفسيره خبره، بشرط أن يكون المفسَّر مجملًا والمفسر مفصلًا. فمن بديع التفسير الذي وقع في بيت واحد قول بعض المغاربة: صالوا وجادوا وضاءوا واحتبوا فهم ... أسد ومزن وأقمار وأجبال فإنه أحسن الترتيب في عجز البيت كله، وجعل المفسَّر في الصدر، بحيث أتى كل قسم مستقلًا بنفسه. ومثال ما وقع من التفسير بعد الحروف المتضمنة معنى الشرط، قول الفرزدق: لقد جئت قومًا لو لجأت إليهم ... طريد دم أو حاملًا ثقل مغرم لألفيت منهم معطيًا ومطاعنًا ... وراءك شزرًا بالوشيج المقوّم1 والفرزدق ما راعى حسن الترتيب في بيته، فإن عندهم عدم الترتيب مع حسن الجوار، وقرب الملائم، لا ينقص حسن الكلام البليغ. ألا ترى إلى قوله تعالى:

_ 1 ألفيت وجدت. الشزر: النظر بطرف العين. الوشيج المقوم: الرمح المستقيم.

{يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ} 1. ثم قال سبحانه وتعالى بعد ذلك: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ} 2. ومن الأمثلة الواقعة بعد الجار والمجرور في باب التفسير، قول شرف الدين القيرواني: لمختلفي الحاجات جمع ببابه ... فهذا له فن وهذا له فن فللخامل العليا وللمعدم الغنى ... وللمذنب العقبى وللخائف الأمن ومما جاء من التفسير بعد المبتدأ، قول ابن الرومي: آراؤكم ووجوهكم وسيوفكم ... في الحادثات إذا دجون نجوم منها معالم للهدى ومصابح ... تجلو الدجى والأخريات رجوم3 قالوا إن هذا أبلغ ما وقع في التفسير من الأمثلة الشعرية، فإنه راعى فيه الترتيب أحسن مراعاة. ومن بديع هذا النوع قول محمد بن وهيب في المعتصم: ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها ... شمس الضحى وأبو إسحاق والقمر ومثله في الحسن قول محمد بن شمس الخلافة: شيئان حدِّثْ بالقساوة عنهما ... قلب الذي يهواه قلبي والحجر وثلاثة بالجود حدث عنهم ... البحر والملك المعظم والمطر ومن معجز التفسير، ما جاء في الكتاب العزيز، وهو قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} 4 فذكر سبحانه الجنس الأعلى أولًا، حيث قال: كل دابة فاستغرق أجناس كل ما دب ودرج، ثم فسر سبحانه هذا الجنس، بعد ذلك، بالأجناس المتوسطة والأنواع، حيث قال: فمنهم ومنهم ومنهم، مراعيًا للترتيب، وذلك أنه قدم ما يمشي على غير آلة لكون الآية سيقت لبيان القدرة وتعجب السامع، وما يمشي بغير آلة أعجب مما يمشي

_ 1 آل عمران: 3/ 106. 2 آل عمران: 3/ 107. 3 رجوم: ظنون لا دليل على صحتها. 4 النور: 24/ 45.

بآلة، فلذلك كان تقديمه ملائمًا لمقصود الآية الشريفة، ثم ثنى بالأفضل فأتى بما يمشي على رجلين وهو الآدمي والطير لتمام خلق الإنسان وكمال صورته ولما في الطير من عجب الطيران الدال على الخفة مع ما فيه من الكثافة الأرضية، وثلّث بما يمشي على أربع؛ لأنه أحسن الحيوان البهيمي وأقواه، فتضمنت هذه الكلمات، التي هي بعض آية، عدة من المحاسن، وهي صحة التفسير وصحة التقسيم مع مراعاة الترتيب والإشارة وائتلاف اللفظ مع المعنى وحسن النسق. والفرق بين التفسير والإيضاح: أن التفسير تفصيل الإجمال، والإيضاح رفع الإشكال؛ لأن المفسر من الكلام لا يكون فيه إشكال. وبيت صفي الدين على التفسير قوله: هم النجوم بهم يهدى الأنام ... وينجاب الظلام ويهمي صيب الديم1 والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم. وبيت الشيخ عز الدين الموصلي قوله: ذكر الإمام وابنيه يفسره ... عليّ والحسنان أكرم بذكرهم الشيخ عز الدين ما أفادنا في التفسير هنا شيئًا وبيت بديعيتي أقول فيه، عن الصحابة، رضي الله عنهم أجمعين: وصحبه بالوجوه البيض يوم وغى ... كم فسروا من بدور في دجى الظلم هذا هو التفسير الذي لا يستقل الفهم بمعرفة فحواه، في الشطر الأول من البيت، إلا بتفسيره من الشطر الثاني على الترتيب. وأما ذكر الإمام عليّ -كرّم الله وجهه- وذكر ولديه -رضي الله عنهما- في بيت الشيخ عز الدين -رحمه الله- فإنه غير محتاج إلى تفسير والله أعلم.

_ 1 انجاب: انكشف. يهمي: يمطر بغزارة. الديم: الغيوم.

ذكر حسن الاتباع

ذكر حسن الاتباع: ذكراه يطربهم والسيف ينهل من ... أجسامهم لم يشن حسن اتباعهم1 هذا النوع، أعني حسن الاتباع، هو أن يأتي المتكلم إلى معنى اخترعه غيره فيحسن اتّباعه فيه، بحيث يستحق بوجه من الوجوه الزائدة التي توجب للمتأخرين استحقاق معنى التقدم، إما باختصار لفظه، أو قصر وزن أو عذوبة لفظ، أو تمكين قافية، أو تتميم نقص، أو تحلية من البديع توجب الاستحقاق، كاتباع أبي نواس جريرًا في قوله: إذا غضبت عليك بنو تميم ... حسبت الناس كلهم غضابا فنقل أبو نواس المعنى من الفخر إلى المدح بقوله: وليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد فزاد على جرير زيادات، منها: قصر الوزن، وحسن السبك، وإخراج كلامه من الظن إلى اليقين، وأيضًا فإن ذكر العالم، أعم من ذكر الناس في بيت جرير. وعدوا من الشواهد الحسنة في حسن الاتباع، قول منصور النميري، في زينب أخت الحجاج وأترابها، وهو: وهي اللواتي إن برزن قتلنني ... وإن غبن قطّعن الحشا حسرات

_ 1 شان: عاب.

فأحسن اتباعه ابن الرومي بقوله: ويلاه إن نظرت وإن هي أعرضت ... وقع السهام ونزعهن أليم قلت: وقع السهام ونزعهن، بعد ويلاه، في بيت ابن الرومي، تركت بيت النميري أطلالًا بالية: وقال أبو عبادة البحتري: أخجلتني بندى يديك فسودت ... ما بيننا تلك اليد البيضاء صلة غدت في الناس وهي قطيعة ... عجبًا وبرُّ راح وهو جفاء وأحسن أبو العلاء وقال: لو اختصرتم من الإحسان زرتكم ... والعذب يهجر للإفراط في الخصر لأنه استوعب معنى البيتين في صدر بيته، وأخرج العجز مخرج المثل السائر، مع الإيجاز والإيضاح وحسن البيان. وقال عنترة: إني امرؤ من خير عبس منصبًا ... شطري وأحمي سائري بالمنصل1 فأحسن اتباعه منصور الفقير في شريف نسبه، وكان شرفه من جهة أبيه لا من جهة أمه، بقوله: إن فاتني بأبيه ... فلم يفتني بأمه2 ورام شتمي ظلمًا ... سكت عن نصف شتمه فإن هذا الفقيه أحسن غاية الإحسان، من وجوه: أحدها الإيجاز، فإنه عمل معنى عنترة الذي جاء به في بيت تام من الكامل، في بيت من المجتث، وأتى بالمطابقة المعنوية، فأما قوله سكت عن نصف شتمه، ففيه من التأدب الديني مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والاحتراس، ما يزيد على الوصف. وقال ابن الرومي: تخذتكم درعًا حصينًا لتدفعوا ... نبال العدا عني فكنتم نصالها

_ 1 المنصل: السيف. 2 لم يفتني: بالقرابة.

وكنت أرجي منكم خير ناصر ... على حين خذلان اليمين شمالها فإن كنتم لا تحفظون مودتي ... ذماما فكونوا لا عليها ولا لها قفوا وقفة المعذور عني بمعزل ... وخلوا نبالي للعدا ونبالها فأحسن ابن سنان الخفاجي اتباعه بقوله: أعددتكم لدفاع كل ملمة ... عونًا فكنتم عون كل ملمة وتخذتكم لي جنة فكأنما ... نظر العدو ومقاتلي من جنتي1 فلأنفضن يدي يأسًا منكم ... نفض الأنامل من تراب الميت ويعجبني هنا قول القائل: وأخوان حسبتهم دروعًا ... فكانوها ولكن للأعادي وخلتهم سهامًا صائبات ... فكانوها ولكن في فؤادي وقالوا قد صفت منا قلوب ... لقد صدقوا ولكن من ودادي وقال ابن الرومي: سد السداد فمي عما يريبكم ... لكن فم الحال عني غير مسدود وأحسن زكي الدين بن أبي الأصبع اتباعه فقال: هبني سكت فما لسان ضرورتي ... أهجى لكل مقصر عن منطقي وقال سليك بن سلكة: وتبسم عن ألمي اللثاة مفلج ... خليق الثنايا بالعذوبة والبرد2 وما ذقته إلا بعيني تفرسًا ... كما شيم برق في السحابة من بعد3 وقال نصيب: كأن على أنيابها الخمر شجها ... بما الندى في آخر الليل عابق4 وما ذقته إلا بعيني تفرسًا ... كما شيم في أعلى السحابة بارق

_ 1 أي منكم عرف العدو كيف يقتلني. والمقاتل: الأمكنة التي إذا أصيب فيها الإنسان قتل. 2 ألمى: أسمر. اللثاة: مفردها لثة وهي مكان انغراز الأسنان في الفم. مفلج: بين أسنانه فسحات متساوية. 3 التفرّس: التثبت بالنظر. شيم: انتظر. 4 شجها: الخمرة مزجها بالماء. العابق: اللبق الظريف.

وأحسن بشار بن برد اتباعهما بإيجازه، وقال: يا أطيب الناس ريفًا غير مختبر ... إلا شهادة أطراف المساويك1 وقال السموأل: يقرب حب الموت آجالنا لنا ... وتكرهه آجالهم فتطول فأحسن بشار اتباعه بزيادة محاسن، فقال: أفناهم الصبر إذ أبقاهم الجزع. وقال الأسود ابن يعفر: يسعى بها ذو توأمين كأنما ... قنأت أتأمله من الفرصاد2 وأحسن أبو نواس اتباعه، بزيادة من المحاسن، وقال: تبكي فتذري الدمع من نرجس ... وتلطم الورد بعناب استوفى أبو نواس المعنى في نصف بيت، وأخذه الوأواء الدمشقي من أبي نواس، وزاد عليه زيادة عجيبة، بقوله: وأمطرت لؤلؤًا من نرجس فسقت ... وردًا وعضت على العناب بالبرد وقال مسلم بن الوليد: تجري محبتها في قلب عاشقها ... مجرى المعافاة في أعضاء منتكس3 فأحسن أبو نواس اتباعه فقال: فتمشت في مفاصلهم ... كتمشي البرء في السقم وجميع ذلك مأخوذ من قول بعض الملوك باليمن: منع البقاء تقلب الشمس ... وطلوعها من حيث لا تمسي تجري على كبد السماء كما ... يجري حمام الموت في النفس نقل أبو هلال العسكري في "الصناعتين" عن الصولي أنه قال: حدثني أبو بكر بن هارون بن عبد الله المهلبي، قال: كنا في حلقة دعبل الشاعر، فجرى ذكر أبي تمام،

_ 1 المساويك: مفردها مسواك وهو غصن شجر يستاك به أي تنظف به الأسنان. 2 قنأ: احمر كثيرًا- الفرصاد: التوت أو صبع أحمر، أو نوى العنب. 3 المعافاة: البرء. المنتكس: الذي يعود إليه المرض بعد تماثله للشفاء.

فقال دعبل: كان يتبع معانِيَّ فيأخذها، فقال له رجل في مجلسه: مثل ماذا أعزك الله؟ فقال: قلت: وإنّ امرأ أسدى إلَيَّ بشافع ... إليه ويرجو الشكر مني لأحمق فأخذه أبو تمام، وقال: وإذا امرؤ أسدى إليك صنيعة ... من جاهه فكأنها من ماله فقال الرجل: أحسن والله! فقال دعبل: كذبت والله، قبحك الله. فقال الرجل: إن كان سبقك بهذا المعنى وتبعته فما أحسنت، وإن كان أخذه منك فقد أجاد فصار أولى به منك على الحالين، فغضب دعبل وقام. وقال بشار: من راقب الناس لم يظفر بحاجته ... وفاز بالطيبات الفاتك اللهج1 فأحسن اتباعه سلم الخاسر، وقال: من راقب الناس مات غمًا ... وفاز باللذة الجسور فلما سمع بشار هذا البيت قال: قد ذهب ابن الفاعلة ببيتي. وممن زاد على المتقدمين بحسن سبكه وعذوبة لفظه، ابن المعتز -رحمه الله- بقوله: ولا ضوء هلال كاد يفضحه ... مثل القلامة قد قدت من الظفر2 وهو مأخوذ من قول الأول: كأن ابن ليلته جانح ... إلى مسقط الأفق من خنصر3 وقال أبو العتاهية: كم نعمة لا تستقل بشكرها ... لله في طي المكاره كامنه فأحسن أبو تمام اتباعه فقال: قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت ... ويبتلى الله أدنى القوم بالنعم

_ 1 الفاتك: الشجاع. اللهج: المثابر. 2 القلامة: قصاصة الظفر. قُدّ: قُطِع. 3 ابن ليلته: الهلال مضت عليه ليلة واحدة بعد المحاق. الخنصر: الأصبع الأصغر.

فزاد عليه، إلا أنه أتى بعكس المعنى، وما يعرف للمتقدمين معنى شريف، إلا نازعهم إياه المتأخرون وطلبوا الشركة معهم فيه، إلا قول عنترة: وخلا الذباب بها فليس بنازح1. فإنه ما نوزع في هذا المعنى، على جودته، وقد رامه بعض المجتهدين فافتضح، وتقرر ذلك في بيت سلامة الاختراع. وبيت الشيخ صفي الدين الحلي، على حسن الاتباع قوله: ينازع السمع فيها الطرف حين جرت ... فيرجعان إلى الآثار في الأكم2 بيت الشيخ صفي الدين مأخوذ من قول القائل: وطرف يفوت الطرف في جريانه ... ولكن للأسماع فيه نصيب والعميان ما نظوا هذا النوع في بديعيتهم، وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته قوله: والجزع حن إليه بعد فرقته ... حسن اتباع لتلك الأربع الحرم ذكر الشيخ عز الدين، في شرحه، أنه اتبع الفرزدق في قوله، في مديح الإمام زين العابدين علي بن الحسين بن عليّ -رضي الله عنهما- وهو هذا: هذا ابن من تعرف البطحاء وطأته ... والركن يعرفه والبيت والحرم وبيت بديعيتي تقدمه قولي، في حق الصحابة، رضي الله عنهم أجمعين: وصحبه بالوجوه البيض يوم وغى ... كم فسروا من بدور في دجى الظلم ثم إني قلت بعده، في حسن الاتباع عن الصحابة: ذكراه يطربهم والسيف ينهل من ... أجسامهم لم يشن حسن اتباعهم هذا المعنى سبقني إليه الشيخ شرف الدين بن الفارض، وكنت في صغري أترنم به وهو قوله: فلي ذكرها يحلو على كل صيغة ... ولو مزجوه عذلي بخصام الشيخ شرف الدين قرر: إن ذكر محبوبه يحلو، ولو كان في محل خصام من

_ 1 نازح: مغادر. 2 الأكم: المكان الملتف الأشجار، المرتفع.

العذال، وقولي أبلغ في حق الصحابة -رضي الله عنهم- لأن ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- يطربهم والسيوف تنهل من أجسامهم، وأين الطرب في هذا المقام؟ من يحلو في ذلك المقام؟ وأين المخاصمة بالألسن من التكليم بألسنة السيوف؟ والزيادة التي ما على حسنها من مزيد، قولي: لم يشن حسن اتباعهم، فإن شدة الحرب وتكليم النفوس، ما شان حسن السيوف وذهاب الأنفس، ما شان حسن اتباعهم للنبي -صلى الله عليه وسلم- يومًا من الأيام. والتورية، في حسن الاتباع الذي هو المراد من تسمية النوع، محاسنها لا تخفى على المنصفين من أهل الأدب، والله أعلم.

ذكر المواردة

ذكر المواردة: نما الهام أحداق مسهدة ... ونومها واردته في سيفوهم1 هذا النوع، أعني المواردة: هو أن يتوارد الشاعران على بيت، أو بعض بيت، بلفظه ومعناه: فإن كان أحدهما أقدم من الآخر وأعلى رتبة في النظم حكم له بالسبق، وإلا فلكل منهما ما نظمه كما جرى لامرئ القيس وطرفة بن العبد في معلقتيهما، وهو قول امرئ القيس: وقوفًا بها صحبي عليَّ مطيهم ... يقولون لا تهلك أسى وتجمل قال طرفة: أسى وتجلد. فلما تنافسا في ذلك وأحضر طرفة بن العبد خطوط أهل بلده في أي يوم نظم هذا البيت، كان اليوم الذي نظما فيه واحدًا. وقد يقع مثل ذلك أو دونه في بيت يخالف وزن البيت الأصلي. وبيت الشيخ صفي الدين على الواردة قوله: تهوى الرقاب مواضيهم فتحسبها ... حديدها كان أغلالًا من القدم وبيت الشيخ صفي الدين ذكر في شرحه أنه نظم بيتًا من جملة أبيات، وهو: تهوى مواضيك الرقاب كأنما ... من قبل كان حديدها أغلالا ثم ذكر أنه سمع بعد ذلك بيتًا لا يعلم قائله وهو: تهوى الرقاب مواضيه فتحسبها ... تود لو أصبحت أغلال من أسرا فأسقط البيت الذي له، فلما تعددت عليه الأنواع في نظم البديعية، ووصل إلى

_ 1 الأحداق: جمع حدقه وهي استدارة العين. والهام: الجباه.

المواردة، ألجأته الضرورة إلى نظمها، ليكون البيت المنظوم منتظمًا في سلك شواهد بديعيته، بحيث لا تخلو من هذا النوع. وبيت الشيخ عز الدين في بديعيته قوله: بيت المدائح تستوفي علاه ولو ... تواردت في مديح غير منصرم الشطر الأول من هذا البيت، ذكر الشيخ عز الدين، في شرحه، أنه توارد هو وأبو الطيب المتنبي عليه. والعميان لم ينظموا هذا النوع في بديعيتهم. ومعنى المواردة في بيت بديعيتي أني كنت مدحت تمر بغاء الأفضلي الشهير بمنطاش، ورياحين الشبيبة غضة، ونشوة الابتداء تحث على دور كاسات الأدب، وكان المشار إليه إذ ذاك كافل المملكة الحموية، بقصيدة رائية سارت ببديع محاسنها الركبان، واحتوت على معان لم أسبق إليها، وتمثلت في غصون نظمها بين يدي شيخي، وهو مولانا قاضي القضاة علاء الدين أبو الحسن على القضامي الحنفي -رحمه الله- وقد علق بخاطري منها أبيات، فأنشدته في ذلك الوقت ما علق بخاطري، وهو قولي منها: له مطالعة في الحرب حين يرى ... دم العدا فوق طرس الأرض قد سطرا إن راسل القوم أنشا في رسائله ... سجعات ضرب بها الهامات قد نثرا كتابه السيف والخطي له قلم ... والرسل أسهم حتف توضح الخبرا1 إن كان قد نظم الأعدا مكيدتهم ... فقل لهم إنه من قبلهم شعرا لأنه ببديع الحسن لف لنا ... شملًا ولكن لأرقاب العدا نشرا وخط من فوق ألواح الصدور لهم ... بابًا من الخوف في أحشائهم وقرا وصار يكتب بالهندي ويعجم بالـ ... ـخطي فعل شجاعٍ قد قرا ودرى2 تراه بالرمح بدرًا حاملًا غصنًا ... وبالتريسة غصنًا حاملًا قمرا3 إن جس عودًا لضرب مال سامعه ... والخيل يرقصها إن حرك الوترا وصار4 كلما أنشدته بيتًا من هذه الأبيات يترنم كثيرًا، ويرسم لي بإعادته حتى انتهيت إلى قولي:

_ 1 الخطي: الرمح. 2 الهندي: السيفن ويكتب بالهندي: يفرض بالسيف. يعجم: يزيل الإبهام، ويختبر. قرا: قرأ. 3 التريسة: الترس وهو ما يتقى به السيف. 4 في الأصل: صرت.

كأنما الهام أحداق أضرّ بها ... سهد وأسيافه في الحرب طيب كرى فلما سمع هذا البيت لم يترنم كما ترنم للأبيات التي قبله، وقال: أبو الطيب هو أبو عذرة هذا المعنى ولكن أحسنت الاتباع، بقولك: أضر بها سهد، وبقولك في الشطر الثاني: طيب كرى، فإن فيهما زيادتين حسنتين، فالتزمت له بيمين أنني ما ملكت ديوان المتنبي يومًا من الأيام، ولا طالعته عند غيره، وما كنت في ذلك الوقت أطالع غير ديوان الشيخ جمال الدين بن نباتة، وديوان الشيخ صفي الدين الحلي، فتعجب مولانا قاضي القضاة من ذلك وبالغ في الجبر والثناء، ولكني أسقطت البيت من القصيدة، خوفًا من قدح حاسد، فلما وصلت بديعيتي إلى نوع المواردة ألجأت الضرورة إلى نظمه في سلك أنواعها. وبيت المتنبي الذي حصلت المواردة به قوله: كأنّ الهام في الهيجا عيون ... وقد طبعت سيوفك من رقاد1 وبيت بديعيتي: كأنما الهام أحداق مسهدة ... ونومها واردته في سيوفهم والترشيح أيضًا هنا ظاهر في قولي: مسهدة، والترشيح، في تورية المواردة، بتسمية النوع وزيادة المعنى، غير خاف على أهل الأدب.

_ 1 الهام: جمع هامة وهي الجبهة من الإنسان.

ذكر الإيضاح

ذكر الإيضاح: هذا تزداد إيضاحًا مخافتهم ... في كل معترك من بطش ربهم هذا النوع، أعني الإيضاح: هو أن يذكر المتكلم كلامًا في ظاهره لبس، فلا يفهم من أول وهلة، حتى يوضحه في بقية كلامه، كقول الشاعر: يذكرنيك الخير والشر كله ... وقيل الخنى والحلم والعلم والجهل1 فألقاك عن مكروهها متنزهًا ... وألقاك في محبوبها ولك الفضل معنى البيت الأول ملتبس، وما ذاك إلا أنه يقتضي المدح والذم ولكنه أوضحه بقوله: فألقاك عن مكروهها متنزهًا ... وألقاك في محبوبها ولك الفضل وقد يكون الإيضاح في الوصف الذي لا يتعلق به مدح ولا هجاء، وذلك أن يخبر المتكلم بخبر واحد عن شيء واحد يحصل فيه الإشكال، فيوضح ذلك الإشكال بما يفهم منه كشف اللبس عن الحد الأول، كقول ابن حيوس: ومقرطق يغني النديم بوجهه ... عن كأسه الملأى وعن إبريقه2 فعل المدام ولونها ومذاقها ... في مقلتيه ووجنتيه وريقه فإنه لو اقتصر على البيت الأول أشكل الأمر من جهة الوجه، فإنه وإن كان حسنًا لا يغني النديم عن الخمر، فأزال اللبس في البيت الثاني وأوضحه، وقد تقدم وتقرر الفرق بين الإيضاح والتفسير.

_ 1 الخنى: القول الفاحش. 2 المقرطق: لابس القرطق وهو ثوب فارسي مزركش.

وبيت الشيخ صفي الدين قوله: قادوا الشواذب كالأجبال حاملة ... أمثالها ثبتة في كل مصطدم1 العميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم. وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته قوله: للخير والشر إيضاحًا به فبذا ... أمر وعن ذاك نهيٌ حب نصحهم والذي أقوله: إن الشيخ عز الدين -غفر الله له- لم يتضح في بيته غير الإشكال. وبيت بديعيتي تقدم قولي قبله في وصف الصحابة -رضي الله عنهم أجمعين- بحسن الاتباع والصبر والإقدام، إلى أن قلت في المواردة: كأنما الهام أحداق مسهدة ... ونومها واردته في سيوفهم ثم إني قلت بعده في الإيضاح: هذا وتزداد إيضاحًا مخافتهم ... في كل معترك من بطش ربهم الإطناب والمبالغة، في وصف الصحابة -رضي الله عنهم- قد تقدم بالشجاعة التي هي فوق الوصف، فلما قلت في هذا البيت: إن مخافتهم تزداد إيضاحًا في كل معترك، ظهر اللبس فأوضحته بقولي: من بطش ربهم. والتورية بتسمية النوع، الذي هو المطلوب هنا، محاسنها لم تفتقر إلى الإيضاح، والله الموفق.

_ 1 الشواذب: جمع مفرده الشاذب وهو المتنحي عن وطنه. ثبتة: شجاعة. المصطدم: مكان الاصطدام أو ساحة المعركة.

ذكر التفريع

ذكر التفريع: ما العود إن فاح نشرًا أو شدا طربًا ... يومًا بأطرب من تفريع وصفهم هذا النوع، أعني التفريع، وهو ضد التأصيل، هو أن يصدّر الشاعر أو المتكلم كلامه باسم منفي، بما خاصة، ثم يصف ذلك الاسم المنفي بأحسن أوصافه المناسبة للمقام، إما في الحسن وإما في القبح، ثم يجعله أصلًا يفرع منه جملة، من جار ومجرور، متعلقة به تعلق مدح أو هجاء أو فخر أو نسيب أو غير ذلك، ثم يخبر عن ذلك الاسم بأفعل التفضيل، فتحصل المساواة بين الاسم المجرور بمن وبين الاسم الداخل عليه ما النافية؛ لأن حرف النفي قد نفى الأفضلية. فتبقى المساواة بين ذلك أن تقول: ما الزهر إذا بكى الغمام فضحك، بأحسن من أخلاق زيد. فالمساواة بين الزهر والأخلاق ههنا ثابتة، بالشروط المذكورة، ومن الأمثلة الشعرية قول الأعشى: ما روضة من رياض الحسن معشبة ... غناء جاد عليها مسبل هطل1 يضاحك الزهر منها كوكب شرق2 ... مؤزر بعميم النبت مكتهل يومًا بأطيب منها طيب رائحة ... ولا بأحسن منها إذ دنا الأصل3

_ 1 غناء: ملتفة الشجر. جاد: هطل. المسيل: من المطر: الناز من السحاب بغزارة. هطِل: صيغة مبالغة من هطل. 2 شرِق: واضح الإشراق. مؤزر: يلبس الإزار. مكتهل: كبير السن. 3 الأصل: الأصيل أو وقت الغروب.

وقد يجيء الفرع والأصل في بيت واحد، كقول أبي تمام: ما ربع مية معمورًا يطيف به ... غيلان أبهى ربا من ربعها الخرب1 ولا الخدود وإن أدمين من خجل ... أشهى إلى ناظري من خدها الترب فذكر في البيت الأول الأصل والفرع، وكذلك في البيت الثاني، فالأصل هو الاسم المنفي مع ما ذكر من أوصافه، والفرع هو أفعل التفضيل مع ما يتعلق به. ويعجبني في هذا الباب قول إبراهيم بن سهل الأشبيلي، من قصيدة، وهو: وما وَجْدُ أعرابية بان دارها ... وحنت إلى بان الحجاز ورنده2 إذا آنست ركبًا تكفل شوقها ... بنار قراه والدموع بورده وأن أوقدوا المصباح ظنوه بارقًا ... يحيي فهشت للسلام ورده بأعظم من وجدي بموسى وإنما ... يرى أنني أذنبت ذنبًا لوده ومن إنشاء القاضي شهاب الدين محمود، في هذا الباب، قوله: وما أم طفل قذفها الزمن العنيد، في بعض البيد، في أرض موحشة المسالك، قليلة السالك، قد لمع صوابها، وتوقدت هضابها، وصرخ بومها، ونفر ظليمها3، وحضر سمومها4، وغاب نسيمها، فلما خافت على ولدها من الظمأ الهلاك، أجلسته إلى جنب كثيب هناك، ثم ذهبت في طلب الماء للغلام، لئلا يقضي عليه الأوام5، فانتهى بها المسير إلى روضة وغدير، وآثار مطي بوارك، تدل على أن الطريق هنالك، فعادت إلى ولدها مسرعة، وكل أعضائها إليه عيون متطلعة، فلما شارفت جنب الكثيب، رأت ولدها في فم الذيب: بأكثر مني حسرة وتلهفًا ... وأعظم مني حرقة وتأسفًا وأغزر دمعًا عندما قيل لي الذي ... كلفت به أضحى على البعد مزمعًا وذكر صاحب الإيضاح، للتفريع، قسمًا ثانيًا لم يذكره غيره، ولا نسج على منواله أصحاب البديعيات فألغيته أيضًا، والشيخ زكي الدين بن أبي الأصبع اخترع قسمًا ثالثًا،

_ 1 غيلان: اسم ذي الرمة الشاعر. 2 بان: بَعُد. البان: شجر طيب الرائحة طويل الأغصان طريها. الرند: شجر طيب الرائحة يشبه الآس وينبت في البادية. 3 الظليم: ذكر النعام. 4 السموم: الريح الحارة. 5 الأوام: شدة العطش.

ولكن وجدت هذا النوع الذي نحن بصدده أحلى في الأذواق، وأوقع في القلوب، وعلى سننه مشى أصحاب البديعيات، فألغيت أيضًا ما اخترعه ابن أبي الأصبع، رحمه الله. وبيت الشيخ صفي الدين الحلي على هذا النوع في وصف الصحابة، رضي الله عنهم أجمعين: ما روضة وشع الوسمي بردتها ... يومًا بأحسن من آثار سعيهم1 والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم. وبيت الشيخ عز الدين في بديعيته قوله: ما الدوح تفريعه بالزهر متسق ... نظمًا بأطيب من تعريف ذكرهم وبيت بديعيتي أقول فيه عن الصحابة، رضي الله عنهم أجمعين: ما العود إن فاح نشرًا أو شدا طربًا ... يومًا بأطيب من تفريع وصفهم هذا البيت فيه نوع التفريع، الذي هو القصد هنا، والتورية بتسميته، والاستخدام، ومرعاة النظير، وفيه الانسجام، والتمكين، والله أعلم.

_ 1 وشّح: زين وزخرف. الوسمي: مطر الربيع.

ذكر حسن النسق

ذكر حسن النسق: من ذا يناسقهم من ذا يطابقهم ... من ذا يسابقهم في حلبة الكرم هذا النوع، أعني حسن النسق، ويسمى التنسيق، من محاسن الكلام، وهو أن يأتي المتكلم بالكلمات من النثر، والأبيات من الشعر، متتاليات متلاحمات تلاحمًا مستحسنًا مستبهجًا، وتكون جملها ومفرداتها منسقة متوالية، إذا أفرد منها البيت قام بنفسه واستقل معناه بلفظه، كقوله شرف الدين القيرواني: جاور عليًّا ولا تحفل بحادثة ... إذا ادّرعت فلا تسأل عن الأسل1 سل عنه وانطق به وانظر إليه تجد ... ملء المسامع والأفواه والمقل فالحظ حسن النسق، وصحة هذا التركيب فيه، واستيعاب هذا التقسيم، ووضوح هذا التفسير. ومنه قول أبي نواس: وإذا جلست إلى المدام وشربها ... فاجعل حديثك كله في الكاس وإذا نزعت عن الغواية فليكن ... لله ذاك النزع لا للناس حسن النسق، هنا، لأمرين بين فنين متضادين، في هذين البيتين، وهما المجون والزهد، حتى صارا كأنهما فن واحد.

_ 1 ادّرع: لبس الدرع. الأسل: الرماح.

وبيت الشيخ صفي الدين الحلي قوله: والذئب سلم والجني أسلم والثـ ـعبان كلم والأموات في الرحم1 والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته قوله: فالضيق أذهب والتوفيق سبب والتنـ ... ـسيق رتب في تصديق حكمهم وبيت بديعيتي أنا مستمر فيه على وصف الصحابة -رضوان الله عليهم- بقولي: من ذا يناسقهم من ذا يطابقهم ... من ذا يسابقهم في حلبة الكرم

_ 1 سلم: رضي. الجني: واحد الجن. أسلم: انقاد وتدين بالإسلام. الثعبان: الحية ذكرًا كانت أو أنثى. كلّم: تكلم ورد الجواب. الأموات في الرحم: الأجنة. والبيت في مدح النبي صلى الله عليه وسلم.

ذكر التعديد

ذكر التعديد: تعديد فضلهم بيدي لسامعه ... علمًا وذوقًا وشوقًا عند ذكرهم هذا النوع، أعني التعديد، ذكره الإمام فخر الدين الرازي وغيره، وسماه قوم الإعداد، وهو عبارة عن إيقاع أسماء منفردة على سياق واحد، فإن روعي في ذلك ازدواج، أو مطابقة، أو تجنيس، أو مقابلة، فذلك الغاية في حسن النسق. مثاله قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} 1 ومن الأمثلة الشعرية قول أبي الطيب المتنبي: الخيل والليل والبيداء تعرفني ... والسيف والرمح والقرطاس والقلم وبيت الشيخ صفي الدين في بديعيته على هذا النوع قوله: يا خاتم الرسل يا من علمه ... والعدل والفضل والإيفاء للذمم والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم. وبيت عز الدين في بديعيته قوله: تعديد أوصافهم في المدح يعجزنا ... أهل التقى والنقا والمجد والهمم وبيت بديعيتي أنا مستمر فيه على مدح الصحابة -رضي الله عنهم أجمعين- بقولي: تعديد أوصافهم بيدي لسامعه ... علمًا وذوقًا وشوقًا عند ذكرهم

_ 1 البقرة: 2/ 155.

ذكر التعليل

ذكر التعليل: نعم وقد طاب تعليل النسيم لنا ... لأنه مر في آثار تربهم هذا النوع، أعني التعليل: هو أن يريد المتكلم ذكر حكم واقع، أو متوقع، فيقدم قبل ذكره علة وقوعه، لكون رتبة العلة تتقدم على المعلول، كقوله تعالى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 1 فسبق الكتاب من الله تعالى علة النجاة من العذاب، وكقوله صلى الله عليه وسلم: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة"، فخوف المشقة على الأمة، هو علة في التخفيف عنهم من الأمر بالسواك عند كل صلاة. ومن أمثلته الشعرية قول البحتري: ولو لم تكن ساخطًا لم أكن ... أذم الزمان وأشكو الخطوبا فوجود سخط الممدوح، هو علة في شكوى الشاعر. ومنه قول ابن هانئ الأندلسي: ولو لم تصافح رجلها صفحة الثرى ... لما صح عندي علة للتيمم وفي رواية: لما كنت أدري، وعلى كلتا الروايتين، ففي الغلو قبح وإساءة أدب، كيف أنه لم يدر علة للتيمم إلا بما ذكر، وقد علمت صحة التيمم من نص الكتاب والسنة. ولقد أحسن ابن رشيق القيرواني، في تعليل قوله صلى الله عليه وسلم: "جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورا"، حيث قال:

_ 1 الأنفال: 8/ 68.

سألت الأرض لم جعلت مصلى ... ولم كانت لنا طهرًا وطيبا فقالت غير ناطقة لأني ... حويت لكل إنسان حبيبا فتخلص مما وقع فيه ابن هانئ، لكونه سأل الأرض عن العلة، وتلطف في استخراج علة مناسبة لا حرج عليه في إيرادها. وقد يتقدّم المعلول على العلة في هذا الباب، وعلى هذا المنوال نسج ابن رشيق. وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته على التعليل قوله: لهم أسام سوام غير خافية ... من أجلها صار يدعى الاسم بالعلم1 وبيت العميان: لم تبرق السحب إلا أنها فرحت ... إذ ظللته فأبدت حسن مبتسم وبيت الشيخ عز الدين قوله: تعليل طيب نسيم الروض حين سرى ... بأنه نال بعضًا من ثنائهم وبيت بديعيتي أقول فيه عن الصحابة: نعم وقد طاب تعليل النسيم لنا ... لأنه مر في آثار تربهم

_ 1 أسامٍ: جمع مفرده اسم. سوام: جمع مفرده سامي: عالي المكانة.

ذكر التعطف

ذكر التعطف: تعطف الخير كم أبدوا لمذنبهم ... والخبر ما زال في أبواب صفحهم1 التعطف شبيه بالترديد في إعادة اللفظة بعينها في البيت، والفرق بينهما أن التعطف شرطه أن تكون إحدى كلمتيه في مصراع، والأخرى في مصراع آخر. قلت: وهذا النوع أيضًا من الأنواع التي تقدمت، وقررت أن ليس تحتها كبير أمر، وأن رتبة البديع أعلى من هذه الأنواع السافلة، ولكن تقدم قولي: إن القوم كلما طلبوا الكثرة تغالوا في الرخيص، والشروع في المعارضة ملزم، وقد استشهدوا على هذا النوع -أعني: التعطف- بقول أبي الطيب المتنبي: فساق إلَيَّ العرف غير مكدر ... وسقت إليه المدح غير مذمم وبيت الشيخ صفي الدين على هذا النوع الرخيص قوله: وصحبه من لهم فخر إذا افتخروا ... ما أن يقصر عن غايات فضلهم والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم. وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته قوله: تعطفوا برضا أحبابهم وعلى ... أعدائهم عطفوا بالصارم الخذم2 وبيت بديعيتي أنا مستمر فيه على وصف الصحابة -رضي الله عنهم- بقولي: تعطف الخير كم أبدوا لمذنبهم ... والخير ما زال في أبواب صفحهم وقلت بعده مشيرًا إليهم.

_ 1 الصفح: العفو والغفران. 2 الصارم: السيف القاطع. الخذم: القاطع.

ذكر الاستتباع

ذكر الاستتباع: يحمون مستتبعين العفو إن ظفروا ... ويحفظون وفاهم حفظ دينهم الاستتباع: هو استفعال من تتبع الرجل، إذا اقتفى أثره. وفي الاصطلاح: هو أن يذكر الناظم أو الناثر معنى مدح أو ذم أو غرض من أغراض الشعر، فيستتبع معنى آخر من جنسه يقتضي زيادة في وصف ذلك الفن، كقول أبي الطيب المتنبي: نهبت من الأعمار ما لو حويته ... لهنئت الدنيا بأنك خالد فإنه مدحه بالشجاعة، على وجه استتبع مدحه بكونه سببًا لإصلاح الدنيا، حيث جعلها مهنأة بخلوده ومثله قوله: إلى كم ترد الرسل فيما أتوا به ... كأنهم فيما وهبت ملام فمدحه بالشجاعة إيماء، وألغز في رد الرسل عما أتوا به وصدهم عن مطلوبهم والتهاون بمرسلهم، واستتبع في آخر البيت مدحه بالكرم، لعصيان الملام في الهبات. ويعجبني هنا قول أبي بكر الخوارزمي: سمح البديهة ليس يمسك لفظه ... فكأنما ألفاظه من ماله فإنه مدحه بذلاقة اللسان على وجه استتبع الكرم. وبيت الشيخ صفي الدين في بديعيته على هذا النوع قوله: الباذلو النفس بذل الزاد يوم قرى ... والصائنو العرض صون الجار والحرم1

_ 1 القرى: إطعام الضيوف، ويوم القرى: يوم المسغبة أو يوم الحاجة.

وبيت العميان: تجري دماء الأعادي من سيوفهم ... مثل المواهب تجري من كفوفهم وبيت الشيخ عز الدين: يستتبعون ببذل العلم بذل ندى ... ويحفظون المعالي حفظ عرضهم وبيت بديعيتي: يحمون مستتبعين العفو إن ظفروا ... ويحفظون وفاهم حفظ دينهم

ذكر الطاعة والعصيان

ذكر الطاعة والعصيان: اعاتهم تقهر العصيان قدرهم ... له العلوّ فجانسه بمدحهم هذا النوع، أعني الطاعة والعصيان، استنبطه أبو العلاء المعري في شرحه الذي سماه: "معجز أحمد" عند نظره في شعر أبي الطيب، وهو قوله: يرد يدًا عن ثوبها وهو قادر ... ويعصي الهوى في طيفها وهو راقد وسماه الطاعة والعصيان، وقال: إنما أراد أبو الطيب أن يقول: يرد يدًا عن ثوبها وهو مستيقظ، بحيث تطيعه المطابقة في قافية البيت، بقوله: راقد، فلم يطعه الوزن في ذلك، ولما عصاه الوزن عدل إلى لفظة: قادر، وجعلها مكان مستيقظ، لما فيها من معنى اليقظة وزيادة، فأطاعه التجنيس المقلوب، بين قادر وراقد، وعصته المطابقة، بين راقد ومستيقظ، فلم يخل بيته عن معنى بديعي، وقيل إن هذا النوع لم يسمع له مثال قبل أبي العلاء، ولا بعده في سائر كتب البديع، لقلة وقوعه وتعذر اتفاقه، وإنما وقع للمتنبي نادرًا. قلت: أنا تابع، في هذا النوع، مذهب علامة هذا العلم، وهو الشيخ زكي الدين ابن أبي الأصبع -تغمده الله برحمته ورضوانه- فإنه كشف عن وجه الإشكال، وأرشد من كان متعلقًا بحبال المحال، فإن القوم أضربوا عن هذا النوع وهو ظاهر؛ لأن الشيخ زكي الدين قال: إضرابهم عن النظر فيه، إما لحسن ظنهم بالمعري وموضعه من الأدب، واعتقادهم فيه العصمة من الخطأ والسهو، وإما أن يكون مر عليهم ما مر عليه في هذا البيت، إذ ليس في البيت شيء أطاع الشاعر ولا شيء عصاه، ودليل ذلك قول المعري: إن المتنبي أراد مستيقظًا، ليحصل بينها وبين لفظة راقد طباقًا، فعصته لفظة مستيقظ.

لامتناعها من الدخول في هذا الوزن، وهذا محال؛ لأن المتنبي لو أراد أن يقول: يردُّ يدًا عن ثوبها وهو ساهر، لحصل له غرضه من الطباق، ولم يعصه الوزن، وإنما المتنبي قصد أن يكون في بيته طباق وجناس، فعدل عن لفظة ساهر إلى قادر؛ لأن القادر ساهر وزيادة، وحصل بين راقد وقادر الطباق المعنوي، وجناس العكس؛ لأن الطباق أنواع: منها المعنوي: كما أن الجناس أنواع: منها العكس، ومذهب المتنبي ترجيح المعاني على الألفاظ، ولا سيما وبالعدول عن الطباق اللفظي، حصل في البيت الطباق والجناس معًا، وما كان فيه الطباق والجناس معًا أفضل مما ليس فيه سوى الطباق. ولو عدل المتنبي إلى ما ذكره المعري، لفاته هذا الفضل، والله أعلم. وقد ثبت من هذا البحث، أن بيت المتنبي لا يصلح أن يكون شاهدًا على هذا الباب؛ لأنه لم يعصه فيه شيء ولم يطعه غيره، وكذلك بيت الشيخ صفي الدين في بديعيته وهو قوله: لهم تهلل وجه بالحياء كما ... مقصوره مستهل من أكفهم1 فإنه ذكر، في شرحه، أنه أراد الجناس، بين الحياء والحيا، ولما عصاه الوزن وتعذر التجنيس عدل إلى لفظة مقصوره، وهي ردف لفظة الحيا، فأطاعه الجناس المعنوي بإشارة ردفه إليه. اهـ. قلت: والذي قرره الشيخ صفي الدين أيضًا محال، ولو قال: لهم تهلل وجه بالحياء كما ... لنا الحيا مستهل من أكفهم لحصل له ما أراد من الجناس، وخلص من ثقل مقصوره، وحصل لبيته طلاوة في الأذواق، وخلا من العقادة، وتحقق المتأمل أن عصيان الوزن هنا محال، وكذلك بيت الشيخ عز الدين وهو: أطاعه وعصاه المؤمنون ومن ... ناواه ذا الفرق بين الإنس والنعم2 فإنه ذكر، في شرحه، أنه أراد الطباق بين المؤمنين والكافرين، فعصاه الوزن وتعذرت المطابقة، فأتى بلفظة ناواه، فأطاعته المطابقة وعصاه الوزن. قلت: والذي قرره الشيخ عز الدين أيضًا ههنا محال، ولو قال: أطاعه وعصاه المؤمنون وجمـ ... ـع الكافرين ولم يحفل بجمعهم

_ 1 المقصور: الذي يقتصر عليهم منه. مستهل: نازل أو بادئ. 2 ناواه: ناوأه: عصاه وعمل ضده. النعم: الأنعام وهي الحيوانات.

لحصل له ما أراد من المطابقة بين المؤمنين والكافرين، وخلص من ثقل ناواه وتجشم الإنس والنعم التي زلزلت أركان بيته، وأما قوله: أطاعه وعصاه فهذه المطابقة تحصيل الحاصل؛ لأنها تسمية النوع الذي هو المراد هنا، وجل القصد: أن عصيان الوزن في بيت أبي الطيب، وبيت الشيخ صفي الدين وبيت الشيخ عز الدين محال. وبيت بديعيتي أقول فيه، عن الصحابة رضي الله عنهم أجمعين: طاعاتهم تقهر العصيان قدرهم ... له العلو فجانسه بمدحهم هذا البيت أردت أن أجانس فيه بين العلوّ والغلوّ، فلم يطع فيهما الوزن، فلما عصى ذلك عدلت إلى لفظة مجانسة، فحصل الجناس المعنوي بإشارة ردفه إليه، فهذا البيت مشتمل على الطاعة والعصيان حقيقة، فإن الناظم أراد فيه جناس التصحيف، فعصاه الوزن وأطاعه الجناس المعنوي. والعميان ما نظموه في بديعيتهم، والله أعلم.

ذكر المدح في معرض الذم

ذكر المدح في معرض الذم: في معرض الذم إن رمت المديح فقل ... لا عيب فيهم سوى إكرام وفدهم هذا النوع، أعني المدح في معرض الذم، من أنواع ابن المعتز، وهو أن ينفي صفة ذم ثم يستثني صفة مدح، كقولك: لا عيب في زيد سوى أنه يكرم الضيف. وأعظم الشواهد على هذا النوع قوله تعالى: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا، إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا} 1 ومن الشواهد الشعرية قول النابغة الذبياني: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب2 ومنه قول الشاعر: ولا عيب فيكم غير أن ضيوفكم ... تعاب بنسيان الأحبة والوطن ومنه أيضًا قول الشاعر: ولا عيب في هذا الرشا غير أنه ... له معطف لدن وخد منعم3 وبيت الشيخ صفي الدين الحلي: لا عيب فيهم سوى أن النزيل بهم ... يسلو عن الأهل والأوطان والحشم

_ 1 الواقعة: 56/ 25، 26. 2 فلول: كسور. قراع: قتال. الكتائب: مجموعات من الجيوش. 3 الرشا: الغزال. اللدن: الطريء.

وبيت العميان في بديعيتهم: لا عيب فيهم سوى أن لا ترى لهم ... ضيفًا يجوع ولا جارًا بمهتضم1 قلت: بين قول الشيخ صفي الدين، عن الضيف أنه يسلو عن الأهل والأوطان والحشم، وبين قول العميان عن الضيف، أنه لا يجوع، بون بعيد. وبيت الشيخ عز الدين: في معرض الذم إن رمت المديح فهم ... لا عيب فيهم سوى الإعدام للنعم وبيت بديعيتي: في معرض الذم إن رمت المديح فقل ... لا عيب فيهم سوى إكرام وفدهم

_ 1 مهتضم: مغموط الحق أو لحق به الجور.

ذكر البسط

ذكر البسط: هم معشر بسطوا جودًا سقاه حيًّا ... فأخضر العيش في أكتاف أرضهم1 هذا النوع، أعني البسط، من مستخرجات ابن أبي الأصبع، والبسط بخلاف الإيجاز لكونه عبارة عن بسط الكلام، لكن شروطه زيادة الفائدة، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة"، فقيل: لمن يا رسول الله؟ قال: "لله ولكتابه ولنبيه ولأئمة المسلمين وعامتهم". فبسط هذه اللفظة الجامعة، ليفرد الأئمة بالذكرمن جملة المسلمين، ولم يكن الاقتصار على الأئمة لأجل نقص المعنى، إذ تمامه لا يكون إلا بذكر عامة المسلمين، فأتى بذلك البسط ليفيد تتميم المعنى، بعد تخصيص من يجب تخصيصه بالذكر. ومن الأمثلة الشعرية المستحسنة على البسط، قول البحتري في الخيري وهو المنثور الأصفر: قد نفض العاشقون ما صنع الـ ... ـهجر بألوانهم على ورقه فإن حاصل هذا الكلام الإخبار بصفرة الخيري، فبسط اللفظ الذي لو اقتصر عيه لما حصل به المراد، لما في البسط من حسن إدماج الغزل في الوصف، بغير لفظ التشبيه ولا قرينة، إذ مفهوم اللفظ أن صفرة المنثور تشبيه ألوان المهجورين. وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته: سهل الخلائق سمح الكف باسطها ... منزه قوله عن لا ولئن ولم

_ 1 الحيا: المطر. الأكناف: النواحي. مفردها كنف.

والعميان ما نظموه في بديعيتهم. وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته: ذو بسط كف وخلق زانه خلق ... أثنى عليه إله العرش بالعظم وبيت بديعيتي، أنا مستمر فيه على مدح الصحابة، رضي الله عنهم أجمعين: هم معشر بسطوا جودًا سقاه حيًّا ... فأخضر العيش في أكناف أرضهم

ذكر الاتساع

ذكر الاتساع: نور القبائل ذو النورين ثالثهم ... وللمعالي اتساع في عليهم هذا النوع، أعني الاتساع، يتسع فيه التأويل على قدر قوى الناظم فيه، وبحسب ما يحتمل ألفاظه من المعاني، كقول امرئ القيس: إذا قامتا تضوّع المسك منهما ... نسيم الصبا جاءت بريّا القرنفل فإن هذا البيت اتسع النقد في تأويله، فمن قائل: تضوع المسك منهما بنسيم الصبا، ومن قائل: تضوع المسك منهما بفتح الميم، يعني الجلد بنسيم الصبا، وهو أضعف الوجوه، والوجه الثاني مذهب ابن أبي الأصبع، وهو أنور الوجوه. ومن ذلك فواتح السور التي أقسم الله بها، فإنهم اتسعوا في تأويلها، ولم يترجح من ذلك إلا أنها أسماء للسور. وبيت الحلي في بديعيته قوله: بيض المفارق لا عار يدنسهم ... شم الأنوف طوال الباع والأمم1 والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم. وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته قوله:

_ 1 شم الأنوف: أي رافعو الرءوس كناية عن العزة. طوال الباع: طوال ما بين البلدين إذا مدتا وهذا كناية عن القوة والقدرة. بيض المفارق كناية: عن نقاء العرض والنسب أو الشرف. الأمم: قريب التناول.

بان اتساع المعالي في الصحابة كالفاروق ثم شهيد الدار ذي الحرم1 وبيت بديعيتي، أنا مستمر فيه على مدح الصحابة، رضي الله عنهم أجمعين: نور القبائل ذو النورين ثالثهم ... وللمعالي اتساع في عليهم

_ 1 الفاروق: لقب عمر بن الخطاب الخليفة الثاني للمسلمين بعد أبي بكر. شهيد الدار: هو عثمان بن عفان الخليفة الثالث.

ذكر جمع المؤتلف والمختلف

ذكر جمع المؤتلف والمختلف: جمعت مؤتلفًا فيهم ومختلفًا ... مدحًا وقصرت عن أوصاف شيخهم هذا النوع -أعني جمع المؤتلف والمختلف- ذكر المؤلفون فيه أقوالًا كثيرة غير سديدة، ومثلوه بأمثله غير مطابقة، ولم يحرره ويطابقه بالأمثلة الصحيحة اللائقة غير الشيخ زكي الدين بن أبي الأصبع، والذي تحرر عنده: أن هذا النوع عبارة عن أن يريد الشاعر التسوية بين ممدوحين، فيأتي بمعانٍ مؤتلفة في مدحهما، ويروم بعد ذلك ترجيح أحدهما على الآخر، بزيادة فضل لا ينقص بها مدح الآخر، فيأتي لأجل الترجيح بمعانٍ تخالف معنى التسوية، كقوله تعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ، فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} 1 فحصلت المساواة في الحكم والعلم، فساوى بينهما في أهلية الحكم، ثم رجح سليمان فقال: ففهمناها سليمان، ثم راعى حق الوالد فقال: وكلًّا آتينا حكمًا وعلمًا، فحصلت المساواة في الحكم والعلم. وكقول الخنساء في أخيها، وقد أرادت مساواته بأبيها مع مراعاة حق الوالد بزيادة مدح لا ينقص به حق الولد: جارى أباه فأقبلا وهما ... يتعاوران ملاءة الفخر2 وهما وقد برزا كأنهما ... صقران قد حطا على وكر حتى إذا نزت القلوب وقد ... لزت هناك العذر بالعذر

_ 1 الأنبياء: 21/ 78, 79. 2 تعاور: تداور أي كل واحد يلبسها مرة. الملاءة: الثوب الفضفاض. 3 نزا: طاش، والقلب: طمح. لزّت: ألصقت.

وعلا طباق الأرض أيهما ... قال المجيب هناك لا أدري برقت صفيحة وجه والده ... ومضى على غلوائه يجري أولى فأولى أن يساويه ... لولا جلال السن والكبر وبيت الشيخ صفي الدين الحلي -رحمه الله- في بديعيته قوله: هم هم في جميع الفضل ما عدموا ... سوى الإخاء ونص الذكر والرحم قلت: الحلي أساء الأدب في نظم هذا البيت، وكان يجب أن يؤدب على نظمه، فإنه بخس فيه حق صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكذب في الثلاثة التي استثناها، وقال: إن الصحابة -رضي الله عنهم- عدموها وقوله: هم هم في جميع الفضل، لا يفهم منه مدح؛ لأنه سلبهم الفضل في الشطر الثاني من البيت، ولهذا قال الشيخ عز الدين في بديعيته مشيرًا إلى هذا البيت: هم هم في جميع الفضل ما عدموا ... ما قاله الرافضي النذل في الكلم1 وعلى هذا الترتيب الفاسد. فما اجتمع في بيت الصفي غير المختلف؛ لأن المؤتلف عنه بمعزل. والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم، وبيت الشيخ عز الدين في بديعيته قوله: جمع لمؤتلف فيهم ومختلف ... في العلم والحلم مع تقديم ذي قدم وبيت بديعيتي يجب أن لا يستشهد على هذا النوع بغيره، فإني قلت فيه، عن الصحابة رضي الله عنهم: جمعت مؤتلفًا فيهم ومختلفًا ... مدحًا وقصرت عن أوصاف شيخهم

_ 1 الرافضي: لقب للذي يرفض خلافة أبي بكر وعمر، يجمع على الروافض وهو منسوب إليهم. النذل: الخسيس من الناس الدنيء.

ذكر التعريض

ذكر التعريض: تعريض مدح أبي بكر يقدّمني ... في سبق حُليِّهم مع موصليهم هذا النوع -أعني التعريض- نوع لطيف في بابه، وهو عبارة عن أن يكني المتكلم بشيء عن آخر، لا يصرح به، ليأخذه السامع لنفسه ويعلم المقصود منه، كقول القائل: ما أقبح البخل، فيعلم أنك أردت أن تقول له: أنت بخيل. وكقول بعضهم للآخر: لم تكن أمي زانية، يعرض بأن أمه زانية، والتعريض نوع من الكناية، ومن أمثلته الشعرية قول الحجاج، يعرض بمن تقدمه من الأمراء: لست براعي إبل ولا غنم ... ولا بجزار على ظهر وضم1 والشواهد على هذا النوع كثيرة، ولكن أردت أن أجعل العمدة فيه على بيتي المنتظم في سلك بديعيتي، فإنه من الأمثلة البديعة، وليس في هذا النوع له مثال، ولكن نبدأ ببيت الشيخ صفي الدين -رحمه الله- لأجل الترتيب، وهو: ومن أتى ساجدًا لله ساعته ... ولم يكن ساجدًا في العمر للصنم والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم. وبيت الشيخ عز الدين الموصلي -رحمه الله- قوله: تطويل تعريض شانئهم يعظمهم ... والرفض أقبح شيء موجب الأضم2

_ 1 الوضم: الخشبة التي يقطع عليها الجزار اللحم. 2 الشانئ: المبغض والكاره. الأضم: الحقد والعداوه.

وبيتي الذي أطنبت في وصفه، هو قولي بعد: جمعت مؤتلفًا فيه ومختلفًا ... مدحًا وقصرت عن أوصاف شيخهم تعريص مدح أبي بكر يقدمني ... في سبق حليهم مع موصليهم

ذكر الترصيع

ذكر الترصيع: نعم ترصع شعري واعتلت هممي ... وكم ترفع قدري وانجلت غممي هذا النوع، أعني الترصيع: هو عبارة عن مقابلة كل لفظة من صدر البيت، أو فقرة النثر، بلفظة على وزنها ورويها، وهو مأخوذ من مقابلة ترصيع العقد، ومن أمثلته الشريفة في الكتاب العزيز قوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} 1 ومثله قوله تعالى: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} 2 ومنه قول الحريري في المقامات: يطبع الأسجاع بجواهر لفظه، ويقرع الأسماع بزواجر وعظه. وإن كان مع الترصيع زيادة بديع، كطباق أو مقابلة أو جناس، كان ذلك زيادة حسنة. ومن أمثلته الشعرية قول أبي فراس: وأفعالنا للراغبين كرامة ... وأموالنا للطالبين نهاب ومنه قول الشاعر: فيا يومها كم من مناف منافق ... ويا ليلها كم من مواف موافق والمبرز في هذا النوع هو الذي يخلي نظم بيته من الحشو، والحشو فيه عبارة عن تكرار الألفاظ التي ليست من الترصيع، بحيث لا يأتي في صدر بيته بلفظة إلا ولها أخت تقابلها في العجز حتى في العروض والضرب، كقول ابن النبيه: فحريق جمرة سيفه للمعتدي ... ورحيق خمرة سيبه للمعتفي3 فهذا البيت وقع الترصيع في جميع ألفاظه فإن المقابلة فيه حاصلة بين حريق

_ 1 الانفطار: 82/ 13، 14. 2الغاشية: 88/ 25، 26. 3 السيب: الكرم والعطاء، المعتفي: طالب المعروف.

ورحيق، وبين جمرة وخمرة، وبين سيفه وسيبه، وبين المعتدي والمعتفي، وأبو فراس بيته خال من ترصيع العروض والضرب. والشاهد الثاني كرر فيه ناظمه حرف النداء، فدخل عليه الحشو. وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في الترصيع قوله: من حاسر بغرار العضب ملتحف ... وسافر بغبار الحرب ملتثم1 صفي الدين فاته في هذا البيت ترصيع العروض والضرب وقد تسامحوا فيهما ولكن الغاية ما قررته في نظم هذا النوع، وأيضًا فإن الشيخ صفي الدين غير عاجز عن ذلك. فإن أتى في بيته بالحشو مع عدم ترصيع العروض والضرب، وناهيك أن العميان تبصروا له ونظموه في بديعيتهم، وهو: فهجر ربعي لذاك الربع مغتنمي ... ونثر جمعي لذاك الجمع معتصمي هذا البيت استشهد به العميان على الترصيع الواقع في جميع ألفاظ البيت، ولكن ذاك في مقابلة ذاك اعتذر عنهما الشيخ شهاب الدين أبو جعفر الشارح، وقال: إن معناهما مختلف، فإن الإشارة الأولى للربع، والثانية للجمع، وعلى كل تقدير فالنظر فيهما مجال. وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته قوله: كم رصعوا كلمًا من در لفظهم ... كم أبدعوا حكمًا في سر علمهم الشيخ عز الدين رصع، حتى في العروض والضرب، ولكن كرر في بيته لفظة كم. ودخل عليه الحشو وهو من وفى، والكمال لله. وبيت بديعيتي أقول فيه بعد قولي في بيت التعريض: نعم ترصع شعري واعتلت هممي ... وكم ترفع قدري وانجلت غممي التنبيه على محاسن هذا البيت، كالتنبيه على محاسن بيت ابن النبيه، وفي حقوق هذا النوع في نظمه، وأما الجماعة المذكورون معه، فما منهم إلا من بخسه بعض حقه، لما أدخله في بيته. وقد تميز بيتي على بيت ابن النبيه أيضًا في ترصيع نظمه بزيادة جوهرتين، فإني قابلت فيه خمسة بخمسة، وابن النبيه وبقية القوم قابلوا أربعة بأربعة، والزيادة على ابن النبيه أيضًا في تسمية النوع الذي هو الترصيع، ولعمري إنها تورية ما رصع في العقود نظيرها، وهذا البيت مشتمل على الترصيع، والتورية، والجناس اللاحق، واللزوم، والتمكين، والموازنة، ومراعاة النظير، والسهولة والانسجام، والله أعلم.

_ 1 الحاسر: كاشف الرأس. غرار العضب: حد السيف القاطع. السافر: كاشف الوجه.

ذكر السجع

ذكر السجع: سجعي ومنتظمي قد أظهرا حكمي ... وصرت كالعلم في العرب والعجم السجع: مأخوذ من سجع الحمام، واختلف فيه، هل يقال في فواصل القرآن أسجاع أو لا؟ فمنهم من منعه ومنهم من أجازه، والذي منع تمسك بقوله تعالى: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} 1 فقال: قد سماه فواصل، وليس لنا أن نتجاوز ذلك. والسجع ينقسم أربعة أقسام: المطرف، والموازي، والمشطر، والمرصع. القسم الأول: المطرف، وعلى منواله نسج نظام البديعيات، وهو أن يأتي المتكلم في أجزاء كلامه، أو في بعضها بأسجاع غير متزنة بزنة عروضية، ولا محصورة في عدد معين، بشرط أن يكون روي الأسجاع روي القافية، كقوله تعالى: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا، وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} 2 وكقولهم: جنابه محط الرحال، ومخيم الآمال. ومن الأمثلة الشعرية قوله أبي تمام: تجلّى به رشدي وأثرت به يدي ... وفاض به ثمدي وأورى به زندي3 الثاني: الموازي، وهو أن تتفق اللفظة الأخيرة من القرينة مع نظيرتها في الوزن والروي، كقوله تعالى: {سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ، وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ} 4. ومنه قول النبي، صلى الله عليه وسلم: "اللهم أعط منفقًا خلفًا، وأعط ممسكًا تلفًا". ومنه قول الحريري في المقامات: ألجأني

_ 1 فصِّلت: 41/ 3. 2 نوح: 71/ 13، 14. 3 الثمد: الماء. وأورى: اشتعل. والزند: عود تقتدح به النار. 4 الغاشية: 88/ 13، 14.

حكم دهر قاسط، إلى أن أنتجع أرض واسط. وقوله: وأودى بي الناطق والصامت، ورثى لي الحاسد والشامت. ومن أمثلته الشعرية قول أبي الطيب المتنبي: فنحن في جذل والروم في وجل ... والبر في شغل والبحر في خجل القسم الثالث: المشطر، وهو أن يكون لكل نصف من البيت قافيتان مغايرتان لقافيتي النصف الأخير، وهذا القسم مختص بالنظم، كقول أبي تمام: تدبير معتصم بالله منتقم ... لله مرتقب في الله مرتعب الرابع: المرصع، وقد تقدم الكلام عليه. قلت: وإذ كنت منشئ ديوان الإنشاء الشريف، أنشأت جميع ما يحتاجون إليه من الفوائد التي أخذتها عن علماء هذا الفن، فإن قصر الفقرات يدل على قوة المنشئ، وأقل ما يكون من كلمتين، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ، وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ، وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} 1 وأمثال ذلك كثيرة في القرآن العزيز، لكن الزائد على ذلك هو الأكثر وكان بديع الزمان يكثر من ذلك، كقوله: كميت نهد2، كأن راكبه في مهد، يلطم الأرض بزبر3، وينزل من السماء بخبر. لكن قالوا: التذاذ السامع بما زاد على ذلك أكثر، لتشوقه إلى ما ورد منه متزايدًا على سمعه. وأما الفقر المختلفة، فالأحسن أن تكون الثانية أزيد من الأولى بقدر غير كثير، لئلا يبعد على السامع وجود القافية فتذهب اللذة، وإن زادت القرائن على اثنتين، فلا يضر تساوي القرينتين الأوليين، وإن زادت الثانية على الأولى يسيرًا، والثالثة على الثانية، فلا بأس، ولا يكون أكثر من المثل. ولا بد من الزيادة في آخر القرائن. مثاله في القرينتين: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا، لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدّا، تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّا} 4 فالثانية أطول من الأولى، ومثاله في الثالثة قوله تعالى: {وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا، إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا، وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا} 5 ومن قواعد الإنشاء، أن تكون كل فاصلة مخالفة لنظيرتها في المعنى؛ لأن اللفظ إذا كان

_ 1 المدثر: 74/ 1-4. 2 الكميت: الأحمر الذي يميل إلى السواد. والنهد: السريع. 3 الزبر: الحديد وهي قطع توضع في أسفل حافر الحصان "النضوة". 4 مريم: 19/ 88- 90. 5 الفرقان: 25/ 11- 13.

من القرينة بمعنى نظيره من الأخرى كان معيبًا، كقول الصاحب بن عباد يصف منهزمين: طاروا واقين بظهورهم صدورهم، وبأصلابهم نحورهم. فالظهور بمعنى الأصلاب والصدور بمعنى النحور, ومنه قول الصابي: يسافر رأيه وهو لا يبرح، ويسير وهو ثاوٍ لا ينزح. ويبرح وينزح بمعنى واحد، ويسافر ويسير كذلك. ومن فوائد الإنشاء التي يطول بها باع المنشئ، أن السجع مبني على الوقف، وكلمات الأشجاع بين القرائن ويزاوج، ولا يتم له ذلك إلا بالوقف، إذ لو ظهر الإعراب، لفات ذلك الغرض، وضاق ذلك المجال على قاصده، ألا ترى أنهم لو بينوا الإعراب، مثل قولك: ما أبعد ما فاتَ، وما أقرب ما هو آتٍ، للزم أن تكون التاء الأولى مفتوحة، والثانية مكسورة منونة فيفوت غرض الاتفاق؟ ومن ذلك أن السجع مبني على التغيير، فيجوز أن تغير لفظة الفاصلة لتوافق أختها، فيجوز فيها حالة الازدواج ما لا يجوز فيها حالة الانفراد. فمن ذلك: الإمالة، فقد يكون في الفواصل ما هو من ذوات الياء وما هو من ذوت الواو، فتمال التي هي من ذوات الواو وتكتب بالياء حملًا على ما هو من ذوات الياء، لأجل الموافقة، نحو قوله تعالى: {وَالضُّحَى، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} 1. أميلت والضحى وكتبت بالياء حملًا على ما هي من ذوات الياء، لأجل الموافقة، وكذلك: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} 2 أميلت فيها ذوات الواو وكتبت بالياء حملًا على ما هي من ذوات الياء. ومن ذلك، حذف المفعول، نحو قوله تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} 3. الأصل وما قلاك. حذفت الكاف لتوافق الفواصل. ومن ذلك، صرف ما لا ينصرف، كقوله تعالى: {قَوَارِيرَا، قَوَارِيرَا} 4 صرفه بعض القراء السبعة، ليوافق فواصل السورة الكريمة. ولو تتبع المتأمل ذلك في الكتاب العزيز، لوجده كثيرًا. ومما جاء من الحديث5، قوله صلى الله عليه وسلم: "أعيذه من الهامة والسامة، ومن كل عين لامة". والأصل: عين ملمة؛ لأنه من ألم، ولكنه لأجل الموافقة قيل: لامة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "ارجعن مأزورات غير مأجورات". الأصل: موزورات بالواو؛ لأنه من الوزر، ولكن ليوافق مأجورات. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "دعوا الحبشة ما ودعوكم، واتركوا الترك ما تركوكم". الأصل: ما وادعوكم، ولكن حذف الألف ليحصل الاتفاق مع تركوكم.

_ 1 الضحى: 93/ 1، 2. 2 الشمس: 91/ 1. 3 الضحى: 93/ 3. 4 الإنسان: 76/ 15، 16. 5 أي من السجع.

وسمعت أن بعض علماء الإنشاء صنع مؤلفًا في أحكام الفواصل. ومن ذلك أن المراد من علم الإنشاء: البلاغة في المقاصد. والبلاغة هي أن يبلغ المتكلم بعبارته كنه مراده، مع إيجاز بلا إخلال، وإطالة من غير إملال. والفصاحة خلوص الكلام من التعقيد. وقيل: البلاغة في المعاني والفصاحة في الألفاظ، فيقال: لفظ فصيح ومعنى بليغ. والفصاحة خاصة تقع في المفرد، يقال كلمة فصيحة ولا يقال كلمة بليغة، وأنت تريد المفرد، فإنه يقال للقصيدة كلمة، كما قالوا: كلمة لبيد. ففصاحة المفرد خلوصه من تنافر الحروف، والفصاحة أعم من البلاغة؛ لأن الفصاحة تكون صفة للكلمة والكلام، يقال: كلمة فصيحة وكلام فصيح. والبلاغة لا يوصف بها إلا الكلام، فيقال: كلام بليغ، ولا يقال: كلمة بليغة. واشتركا في وصف المتكلم بهما فيقال: متكلم فصيح بليغ. فمن الإنشاء الفصيح البليغ، قول ابن عباد، وقد قيل له: ما أحسن السجع! فقال: ما خف على السمع. فقيل: مثل ماذا؟ قال: مثل هذا ومنه، ما كتب به عبد الحميد، عند ظهور الخراسانية بشعار السواد: فاثبتوا ريثما تنجلي به هذه الغمرة، وتصحو هذه السكرة، فينصب السيل وتمحى آية الليل. ومنه قول أبي نصر العتبي: دب الفشل في تضاعيف أحشائهم، وسرى الوشل1 في تفاريق أعضائهم، فجيوب الأقطار عنهم مزرورة2، وذيول الخذلان عليهم مجرورة. ومنه قول الصابي: نزغ به شيطانه، وامتدت في الغي أشطانه3. ومنه قول بديع الزمان: كتابي إلى البحر وإن لم أره، فقد سمعت خبره، والليث وإن لم ألقه، فقد تصورت خلقه، ومن رأى من السيف أثره، فقد رأى أكثره. ومنه قول القاضي الفاضل رحمه الله: ووافينا قلعة نجم وهي نجم في سحاب، وعقاب في عقاب، وهامة لها الغمامة عمامه، وأنملة إذا خضبتها أيدي الأصيل كان الهلال لها قلامة. ويعجبني في هذا الباب، من إنشاء الشهاب محمود قوله في وصف مقدم سرية: لا زال في مقاصده أخف من وطأة ضيف، وفي مطالبه أخفى من زورة طيف، وفي تنقله أسرع من سحابة صيف، وأروع للعدا من سلة سيف. ومثله في الحسن قوله في صدر مثال شريف سلطاني: أصدرناها والسيوف قد أنفت من الغمود ونفرت من قربها، والأسنة قد ظمئت إلى موارد القلوب وتشوقت إلى الارتواء من قلبها، والسيوف قد أضرمت الحمية.

_ 1 الوشل: الوهن والضعف. 2 مزرورة: مقفلة. 3 الأشطان: جمع شطن وهو الحبل.

للدين نار غضبها، وعداها حر الإشفاق على ثغور المسلمين فأعرضت عن برد الثغور وطيب شنبها، والحماة ما منهم إلا من استظهر بإمكان قوته وقوة إمكانه، والأبطال ما فيهم من يسأل عن عدد العدو بل عن مكانه. قلت: ما أوردت كثيرًا من الإنشاء ههنا إلا لأن يطيب للتأمل تنقله من شطوط البحور، إلى التنزه في رياض المنثور. فمن ذلك ما أنشأته في تقليد مولانا المقر الأشرف المرحومي القاضوي الناصري، محمد بن البارزي الشافعي، بصحابة دواوين الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية المحروسة، وهو قولي: وقد أوصلناه إلى رتبة استحقاقه من رتب المعالي، ورقيناه إلى درجات الكمال، علمًا أن الكمال ما خرج عن بيته العالي، فإنه المنشئ الذي ما للصاحب دخول إلى ديوانه، ولا لابن عبد الظاهر بلاغته وقوة سلطانه، ولا للشهاب محمود أن يباهي كماله في طارفه وتليده، ولا للقاضي الفاضل شرف البارزي وتمييزه ولو بالغ في كثرة شهوده، ما نثر في كمام طرسه1 زهره إلا وأرانا ذيول زهر المنثور، ولا قرع أبواب المصطلح إلا فتحت ودخل بيتها بغير دستور، ولا تسنم منبرًا إلا أجاد بألفاظ كان مزاجها من تسنيم، وقالت البلغاء للفصاحة المحمدية ما ثم إلا الرضا والتسليم. ومنه ما أنشأته في تقليد ولده، وهو مولانا المقر الأشرف الكمالي عظم الله شأنه، بصحابة دواوين الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية المحروسة، وهو قولي: فإنه من البيت الذي وهبه الله شرف العلم ورحم منه كل ميت، فقل لكل من مشايخ الإسلام ناشدتك الله هل تنكر هبة الله لهذا البيت، وما خفي أن إمامكم الأعظم أول من راعى حقوقه وبادر إلى رفع مثاله، وشرع في رفع قواعده وتشييد كماله، ولهم هذا الفرع الذي زكت أصوله وسقيناه ماء القرب فأتمر، وقد أنبته الله نباتًا حسنًا والنبات الحموي حسنه لا ينكر. غاب نيره الأكبر فأبدر بعده وهذا البدر في كماله ما أبهاه، ولجأ إلى الله ثم إلينا فزاده الله كمالًا وعلمنا أن الكمال لله، وسلكناه في حياة والده فكان لمشيختنا الشريفة نعم المريد، وأخذ عنا الأدب فجاد نظمه وها هو في البيوت البارزية بيت القصيد، والكتابة دون كماله ومحاسنه تجل أن تقابل بمثال، وإن كان الكمال زها بحاشيته فحاشيتنا زهت بهذا الكمال، وكان والده عقدًا فرط فيه الزمان ولكن استدرك فارطه، وقد نظمناه في عقد سلكنا الشريف إلى أن صار به نعم الواسطه. وامتدت ألسن الأقلام إلى ثغور المحابر فقبلتها، وانشرحت صدور الأوراق وعلق فيها عنابر سطور فحملتها، وقالت لحمر أقلامه: أهلًا بالعربيات التي ليس لها إلا الأيدي الجهينية غرر، ومرحبًا بعد النوبة بقهوة الإنشاء

_ 1 الطرس: ما يكتب عليه.

فإن شباب الزمان قد عاد وزهر المنثور قد زهر، وجاء الإمام الذي إن كتب تقليدًا قالت البلغاء هذا الإمام الذي يجب تقليده، وهذا هو الخليفة على السر الشريف وأمينه ومأمونه ورشيده. إن تحمس في إنشائه قال الجبان لا أقعد الجبن عن الهيجا، أو استطرد إلى وصف روض ممرج زاد هرجًا ومرجا، أو ترسل غراميًا فما حديقة زهير عند زهر منثوره، أو كتب عنا تهديدًا سال جامد الصخر، ولو سمعت الجوزاء حديثه لسقطت مع الحصى عند خريره فإنه المنشئ الذي ما اعتقل رمح فمه بيمينه وهزه هزه، إلا قال كل منشئ دخلت أصبع قلمي. من دواتي تحت رزه1. ولا حرك من دوح أقلامه فرعًا إلا تساقط بين الأوراق ثمرات شهيه، فلو أدركها الصاحب لقدمها وأخر الفواكه البدرية، ولو ناسبه الفتح لقابله المؤمنون بالقتال، وكان والده قد اعترف بكماله وهذا هو التقليد لثبوت ذلك الاعتراف أسجال2، فإنه الأمين الذي إن تصرف في مزررتنا3، الشريفة، فقد ثبت أن توثيق العرا4 لبيته العالي، أو أملى في ديواننا الشريف كانت أماليه أمالي المحب لا أمالي القالي5 ولولا خشية الإطالة، لأوردت هذا التقليد الشريف بكماله؛ لأنه في صناعة الإنشاء لنسيج وحده. ومنه ما أنشأته عن ملانا السلطان الملك المؤيد، سقى الله ثراه من غيث الرحمة جوابًا عن مكاتبة الملك الناصر صاحب اليمن، وهو: لا زال جناس مجده سعيد الحركة بين اليمن واليمن، وسيفه اليماني لم يرض بمجانسة سيف بن ذي يزن، والأمة بأحمدها تهنأ بجنات عدنٍ6 في عدن، ولا برحت صنائعه بصنعاء محبرة حتى في سطور الطروس، وأقلام الثناء سود اللمم بمدحه ولو تركت لاعتراها شيب الرءوس، وتحياته المكرمة مخصوصة منا بشرف التسليم، وبدور مودته سافرة في ليالي سطورها بين بديعي التكميل والتتميم، أصدرناها وشاهد المودّة قد وضع رسم شهادته وكتب، وأثبت مقدمات الإخلاص فحكم له قاضي المحبة بالموجب، وأودعناها من السلام ما تعمه رحمة الله وبركاته، ومن طيب الثناء ما يتأرج بين إدراك ذلك المندل7 الرطب نفحاته، ومن خالص المودة ما يضم به بعد حسن المخلص من طيب أعرافه حسن الختام، ومن سجعات

_ 1 رزه: ورقه الصقيل. 2 أسجال: إثباتات. 3 المزررة: مكان الأزرار. 4 العرا: جمع عروة وهو فتحة الزر. 5 القالي: أبو علي صاحب الأمالي المشهورة، والقالي: الهاجر الكاره. 6 عدْنٍ: خلد ونعيم. وعَدَن بالمكان أقام فيه. 7 المندل: بفتح الميم: عود طيب الرائحة.

الأشواق كل مصونة ليس لها غير سواد النقس لثام. وتبدى لعلمه ورود المثال العالي بطيب تلك المعادن التي ود النسيم أن يقيدها ويحتبس، ولقد رافقها الاكتساب اللطيف ولكن سرق من طيب عرفها وتكلم بنفس، فأكرم به مثالًا أرانا خفر الملك على كل قرينة لها من حجب البلاغة ستور، وخدامها من سود سطورها وبيض طروسها عنبر وكافور، ورد صحف الصفاء صقيلة فتمثل فيها، وأظهر من أوراقه ثمرات المودة ونحن بيد القبول نجنيها، وقدم من ذلك الحرم الأحمدي فكان أكرم وافد قوبل منا بالإكرام، وفتح أبواب الدخول إلى السلام فسلمنا وقلنا لخواصنا ادخلوها بسلام. ولقد ثملنا بكأس إنشائه وهو بحضرتنا الشريفة دائر، وعلمنا أن هذا الإنشاء لا يصدر إلا من فاضل والفاضل لا ينسب إلا إلى الناصر، وتغزلنا في محاسنه بحيرة اليمن بعد تغزلنا بحيرة العلم، وراعنا تحمس بلاغته فقلنا هذا لا يصدر إلا من رب سيف وقلم، وود كل دوح أن يملأ طروس أوراقه بريحان سطوره، وتطفل كل روض أريض1 عند وروده على زهر منثوره، وقالت فصاحته وتلك البلاغة التي جاءت بسحر البيان، هل يفتى لنا بصدق المحبة فقال لهما القلب: قضي الأمر الذي فيه تستفتيان، فهذا نفس طيب عرفنا معدن طيبه فلم نقل من أين، وهذه سلافة إنشاء دارت سلطانياتها فأنشأت أهل الخافقين2، وهذا سحر صدقت عزائمه في العطف والقبول بين الملكين، وأبطل هذا السحر الحلال ما حرم ببابل من سحر الملكين3، واشتمل على نظم ونثر رأينا شعار السلطنة عليهما عيانا4، كأن البلاغة قالت لهما قديمًا سنجعل لكما سلطانا5، فيا له من مثال تدرع زرد ميماته فقلنا لا طعن فيك لطاعن، وتشرع طباق بديعه فكانت على أكناف النيل من أثره مساكن، وأطرب بأنفاس علمنا أنها من يراع ما برح بالسعادة موصولًا، وطاف في حضرتنا الشريفة بكاس يمانية كان مزاجها زنجبيلا6. ولقد أكثر هذا المقال في كتابه المبين من إيناس الخطاب، وقضت به الوحشة أجلها فقلنا لكل أجل كتاب. وهذا الجواب أيضًا، لولا خشية الإطالة لاستوعبته بكماله، فإن اليمن ما دخل إليها من الديار المصرية نظيره، والله أعلم.

_ 1 الأريض: والأروض: الروض الذي كسى الأرض بالنبات. 2 الخافقين: المشرق والمغرب. 3 الملكين: هما هاروت وماروت اللذان ورد ذكرهما في قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ....... يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} البقرة: 2/ 102. 4 العيان: الظاهر للعين، الواضح. 5 السلطان: السلطة والقوة. 6 الزنجبيل: نوع من الشراب كالخمرة أو هو الخمرة ذاتها.

ومنه ما أنشأته عن مولانا السلطان الملك المؤيد -سقى الله ثراه- جوابًا عن مكاتبة وردت من صاحب تونس، وهو المتوكل على الله أبو فارس عبد العزيز -رحمه الله- وهو: لا زالت سيوف عزائمه في الجهاد ماضية الضرب، ولا برح جوده وإقدامه متطابقين في السلم والحرب، تخصه بسلام هو لنا والشوق برد وسلام، وسقاية وداد ماء زمزم تسنيم قبولها إلا تعالى ذلك المقام، وتحيات تنطق بها عن مواظبة الخمس1 ألسنة الأقلام، وثناء يقلد بخالص عقوده جيد الزمان، وينسى قلائد العقيان، ومحبة يقمر صدقها في ذلك الأفق الغربي ويشمس، وتزيل وحشة من سلا عن غيرها في المغرب وتونس ... واستطردت مفاوضتكم إلى الوصية بحاج المغرب فبادرنا إلى قبول ذلك، فإن هذا قد يتبرك من النجب السائرة به بالمبارك، وقد أعدناه مصحوبًا بالسلامة وحداته2 تطرب بنغمتها الحجازية، وتهيم اشتياقًا عند تشبيبها بذكرالطلعة المتوكلية، وأعدنا جواب ذلك على يد رسولكم الذي لم يقابل منا بغير القبول، ليكون خالص ودنا متمسكًا بالكتاب والرسول. ومنه ما كتبته جوابًا عن مكاتبة وردت من الجناب العالي، الناصري محمد بن أبي يزيد بن عثمان، وهو: لا زالت تحياته مخصوصة منا بشرف التسليم، وسيره العثماني محفوظًا في بيعة المودة بالتقديم، وشعراء الإخلاص في كل بيت من معاني محبته تهيم، وفروض الجهاد بسيوفه المسنونة في كل وقت تقام، وبلاده الإسلامية محروسة بالجناب المحمدي عليه السلام، وهمزات عوامله بصدور الكفار موصوله، وألسن سيوفه بثغور بلادهم من رشف أرياق دمائهم مبلولة، ولا برح يجاهد في سبيل الله برًّا ويتخذ في البحر سبيله، فإنه من الذي علا بمحمد مقامه، وانسجم بالخلف العثماني نظامه، واقتدى بمشيختنا المؤيدية والنجح في هذا الاقتداء له شريك، وساعدته تورية السعادة لما تمسك بقول من قال: ولا بد من شيخ يريك، ولم يبق بعد الاقتداء بهذه المشيخة إلا الفتوحات المقبوله، والمشاركة في القبول على ما يرضي الله ورسوله، صدرت هذه المفاوضة إلى الجناب المحمدي تأرّج بطيب السلام عليه، وتنسم نسيمات القبول من أخبارها الطيبة ما تنقله إليه، وحملناها ثناء أطلقنا عنان كميت القلم وهو غرة في جبهته، وتوجهت رءوس الأقلام قبل ركوعها إلى قبلته، "ومن الإنشاء الملوكي ما أطلق به فصيح القلم لسانه وخضر الشباب على عوارض نفسه ومحاسن سجعاته، وقال الفاضل الناصر هذا الإنشاء الذي ما خرس لسانه قلمه ولا شابت لمة دواته" وتبدى لعلمه الكريم ورود ما أهداه من

_ 1 الخمس: يعني الصلوات الخمس: الصبح والظهرين والمساءين. 2 الحداة: جمع حادي، وهو الذي يسوق الإبل بالحداء وهو نوع من الغناء.

ثمرات المودة يانعًا في أوراقه، مختالًا في شعار الإخلاص فعلمنا أنه عنوان لعهده وميثاقه، وقد أتحف من نبات الإيناس ما غرس بأكناف النيل فحلا نباته، ودنت قطوف أنسه وظهر في فروع المحبة ثمراته، فاقتطفنا زهر المنثور من رياضه عند الورود1، وتغزلنا في رقم سطوره على بياض طروسه بين العوارض2 والخدود. وطالعنا مجموع محاسنه الذي لم ينس فعلمنا أنه للملوك تذكرة، وتبصرنا فيما أدهش من حكمه فرأينا المدهش في التبصرة، وقلنا هذه لمعة لو أدركها السراج لقصر لسانه وقال: سراج الملوك حرمته قوية، أو القاضي السعيد لقال: ما لسناء الملك بهجة عند هذه الأنوار المحمدية ... وقد تيقظت عيون عزمنا الشريف للجهاد وعن قريب تهدر مقل السيوف أجفانها، وتتجرد لقتال المشركين وقد تكنى لها النصر بأبيه فأيد سلطانها، وإذا قدحت سيوف الدولتين في عباب البحر على الكفار نارًا، تلا لسان النصر: {لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} 3. "ومن إنشاء الفاضل عن الناصر هنا ما يحسن أن يشنف به سمعه الكريم، فإنه عن أبي الفتوحات الذي مشى على هذا الصراط المستقيم" وهو: إذا كان الله قد أعطانا البلاد وهي آلة المقيم الراتب4. وأعطاهم المراكب وهي آلة الظاعن5 الهارب، فقد علمنا لمن عقبى الدار، ومن ينقله الله تعالى انتقال قوم نوح من الماء إلى النار. فالجناب يوطن نفسه على حسن المآل في الحالين، ويعلم أنه من المكرمين في الدارين6، وقد تلمظت7 ألسن سيوفنا شوقًا لحلاوة نصره، وتحركت عيدان رماحنا طربًا عند سماع ذكره، ونفضت جوارح سهامنا ريش أجنتها لاقتناص تلك الغربان، وهامت فرساننا المؤيدية إلى منازل الأحباب لتريه من أعدائه مقاتل الفرسان، فإنه المجاهد الذي حظ بني الأصفر في البحر الأزرق من بيض سيوفه أسود، وكم أذاقهم الموت الأحمر، وكمال التدبيج يقول أهلًا بعيش أخضر يتجدد، وتتولد نصرتنا عنده برفع راية الفرح في كل وقت عليه مبارك، ويتأيد بعز نصرنا المؤيدي حتى يقول له لسان الحال: أعز الله أنصارك، فتقديمه العثماني من جهة الاستحقاق قد ثبت عندنا وتقرر، وهو اليوم إمام المجاهدين الذي ما صلت سيوفه في محراب القتال إلا قال مرقي النصر الله أكبر. والله

_ 1 الورود: المجيء. 2 العوارض: جمع عارض وهو صفحة الخد. 3 نوح: 71/ 26. 4 الراتب: الدائم الثابت، وعند المحدثين: ما يأخذه الموظف من أجر شهري لقاء عمله. 5 الظاعن: الراحل. 6 الدارين: الدنيا والآخرة. تلمظ: السيف: خرج واهتز.

يجريه على أجمل العوائد من هذا النصر، ليصير الكافرون في زلزلة من قارعة سيوفه بهذا العصر. ومنه ما كتبته جوابًا عن مولانا السلطان الملك المؤيد -سقى الله عهده- عن مثال كريم ورد من قرى يوسف صاحب العراقين، وهو: أعز الله أنصار المقر الكريم العالي الجمالي اليوسفي، لا زالت زوراء العراق في أيامه القويمة مستقيمة الجانبين، وحلتها الفيحاء عالية المنار وشمل الدين بها مجتمعًا في الجامعين، وعراق العرب والعجم بارزين من محاسنه اليوسفية في حلتين، فلامية العرب تقول: ولولا اجتناب الذم لم يلف مشرب ... يعاش به إلا لديّ ومأكل ولامية العجم تقول: حلو الفكاهة مر الجد قد مزجت ... بشدة البأس منه رقة الغزل فأكرم بهما لامين دارا على وجنات الطروس لكمال المحاسن اليوسفية، وفتحت لها الميمات أفواه الشكر؛ لأنها من الأحرف المؤيدية، أصدرناها إلى المقر وسواجعها تغرد بالثناء بين أوراقها، وألسن الأقلام قد أودعت صدور طروسها سر أشواقنا عند انطلاقها، فإنها الصدور التي تعرب من نفثاتها عن ضمائر الأشواق، وإذا أطلقت من فض الختم خففت أجنحتها بذلك الثناء على الإطلاق، ونبدي لكريم علمه ورود البشير بالقرب اليوسفي، وقد حل بالأسماع قبل رؤيته تشنف، وهبت نسمات قبوله فأطفأت ما في القلوب من التلهف، وضاع نشرها1 اليوسفي، فقال شوقنا اليعقوبي: إني لأجد ريح يوسف، وتأملنا كريم مثاله فوجدناه قد مد أطناب المحبة وخيم على معاني المودة، وحام عليه صادي الأشواق فوجده منها قد أعذب الله في مناهل الصفاء ورده، وأومض البرق في الظلمات من رقم سطوره فما شككنا أنه نظم برده، فهو مثال يوسفي ولكن ظهر السر الداودي من فصل خطابه، وصدقنا رسوله لما جاءنا بكريم كتابه، والتفتت من كناس سطوره آرام الإيناس فاقتنصنا منها ما هو عن العين شارد، وألفت القلوب على الولاء فضربت الأعداء من جماد الجسد في حديد بارد، وأمست الدجلة والنيل لامتزاجهما بسلاف المحبة كالماء الراكد، وهذه ألفة خولتنا في نعم الله وزمام الأخوة منقاد إلينا، وقد تعين على المقر أن يقول: أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا، وسرتنا الإشارة الكريمة بالتمكين من أرض الأعداء ومطابقة الطول بالعرض، وعلمنا أن هذا الاسم الكريم قد

_ 1 ضاع نشرها: انتشر ريحها الطيب.

شملته العناية قديمًا بقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ} 1 وأما قرا عثمان فمقل سيوفنا ما غمضت عنه في أجفانها، وأنامل أسنتنا، ما ذكرت نوبته إلا شرعت في جس عيدانها، وجوارح سهامنا ما برحت تنفض ريش أجنحتها للطيران إليه، وإن كان معنى سافلًا فلا بد لأجل الغرض اليوسفي أن نخيم عليه، وننزل سلطان قهرنا بأرضه، ونغرس فيها عوامل المران2، وإن كانت من الأسماء التي ما أنزل الله بها من سلطان، ولم يهمل إلا لاشتغال الدولتين بالدخول في تطهير الأرض من الخوارج، وإيقاع الضرب الداخل بعد جس العيدان في كل خارج، وقد آن سله لئلا يكون بين المحب والمحبوب رقيبًا، ولا بد أن يجانسه العكس ويرى ذلك قريبًا، ويدهمه من أبي النصر أبناء حرب شرف في أنساب الوقائع جدهم، ورد الجموع الصحيحة إلى التكسير فردهم، وإذا كثرت الخدود وتوردت بالدماء غردت بورق الحديد الأخضر مردهم3، وإذا امتدوا إلى أمد تلالهم حصنهم سورة الفتح قبل القتال، فإنهم مريدون ولهم شيخ منحه الله بكثرة الفتوح والإقبال، وإذا صرفوا الهمم المؤيدية لم تكن لهم حصونهم عند ذلك الصرف مانعة، ولم يسمع لساكنها مجادلة إذا صدموا بالحديد وتلت تلك الحصون الواقعة4، وإن كانت المنايا غابت عنه مدة، كلمته ألسنة سيوفهم وقالت حصرت، وإذا طرق بروجه منهم طارق رأى سماء تلك البروج قد انفطرت، وما خفي عن كريم علمه ما جمعه الناصر من الجموع التي مزقها الله أيدى سبأ، وكم سائل سأل وقد رآهم في النازعات عن ذلك النبأ. وقد أشار بعض شعراء دولتنا الشريفة إلى ذلك بقصيدة كامل بحرها مديد، ولكن القصد هنا من أبيات تلك القصيدة: يا حامي الحرمين والأقصى ومن ... لولاه لم يسمر بمكة سامر والله إن الله نحوك ناظر ... هذا وما في العالمين مناظر فرج على اللجون نظم عسكرا ... وأطاعه في النظم بحر وافر5 فانبت منه زحافه في وقعة ... يا من بأحوال الوقائع شاعر6 وجميع هاتيك البغاة بأسرهم ... دارت عليهم من سطاك دوائر وعى ظهور الخيل ماتوا خيفة ... فكأن هاتيك السروج مقابر

_ 1 يوسف: 12/ 21. 2 المران: جمع مرانة وهي الرمح اللدن في صلابة. 3 المرد: جمع أمرد وهو الشاب لم تنبت لحيته بعد. 4 الواقعة: القتال، المجادلة، الحديد، الطارق، النازعات، النبأ: أسماء لسور من القرآن الكريم. 5 اللجون: البطيء الثقيل المشي، أو الورق اللزج: الملجون. وقد وردت في ما سبق "الملجون". 6 انبت: انقطع. الزحاف: من علل الشعر، وهو تغيير يلحق ثاني السبب من التفعيلة.

وما خفي عن علمه الكريم أمر الذين نقضوا بيعتنا بعد الناصر فاشتروا الضلالة بالهدى، ودعوا سيوفهم الصقيلة لما حاق1 بهم المكر السيئ فأجابهم الصدا، ولم يكن لحرارة عزمنا الشريف عند عصيانهم البارد فترة2، حتى أظهرنا تلون الشام من دمائهم على تدبيج الدروع ألوان النصرة، وأخذوا سريعًا شبان حرب ما شابت عوارضهم إلا بغبار الوقائع، وحكم برشدهم ولم يخرجوا من تحت حجر المقامع3، وقد أسبع الله ظلال الملك وخيم به على الدولتين، ولم يظهرلمحراب بهجة إلا بهاتين القبيلتين، ولو صلت السيوف لغيرهما ما قبلت، أو صرفت العوامل4 للإعراب عن سواهما ما عملت، وقد فهمنا كريم الالتفات إلى أن تدار كئوس الإنشاء بيننا ممزوجة بصافي المودة، وعلمنا أنها أحكام صحيحة في شرع الأخوة. وهذه الأحكام عندنا عمدة، وتالله لقد سابق القصد اليوسفي بسهام مراده إلى الغرض، وقضى حاجة في نفس يعقوب لي عنها عوض، ولم يبق إلا اتصال شمل الأوصال بكل رسالة سطور الأخوة في رقاعها محققة، وتصديق ما يقصه في الجواب فإن القصة اليوسفية ما برحت مصدقة، والله تعالى يمتع الأسماع والأبصار بمشاهدة مثلته وطيب أخباره، ويفكهنا من بين أوراقها بشهي ثماره. ومما أنشأته بالديار المصرية، وحصل إجماع الأمة على أنه من الأفراد، تقليد مولانا قاضي القضاة جلال الدين شيخ الإسلام البلقيني -نور الله ضريحه- بعد عزل الهروي، ويوم قراءته بالجامع المؤيدي أرخه المؤرخون، وذكروا أنه لم يتفق بملك مصر يوم نظيره، وهو: الحمد لله الذي أبان فضل العرب على العجم في الكتاب والسنة، وأظهر جلال سراجهم المنير فأوضح بحسن تدريبه طريق الجنة، وأزال ظلم الجهل بنور هذا الجلال فله الحمد على هذه المنة، ونكرر حمده على نصرة أصحاب الشافعي وعود جيرته إلى منازلها العالية، ونشكره على نيل الغرض بسهام ابن إدريس فمن جهل أحكام القضاء أمست عليه قاضية، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نستعين بحسن أدائها على القضاء والقدر، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله الذي من قابل شريعته المطهرة بدنس الجهل فقد كفر، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين أزالوا بفصاحتهم

_ 1 حاق: أحاط وطوّق. 2 فترة: وهن وضعف. 3 المقامع: جمع مِقمعة وهي خشبة أو حديدة في طرفها سلك معدني أو خيط يضرب بها الحيوان والإنسان ليُقْمَع ويذل. 4 العوامل: مصطلح نحوي يعني الكلام الذي يسبب رفعًا أو نصبًا أو جرًّا في غيره من الكلام، كالفعل مثلًا يعمل الرفع في الفاعل والنصب في المفعول به، والمبتدأ يعمل الرفع في الخبر، بينما الإبتداء يعمل الرفع في المبتدأ ... إلخ.

العربية كل عجمة، وتميزوا على العجم بقوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} وهذا التمييز نصبه مرفوع على كل أمة، صلاة نسن بها سيوف السنة على من تسربل بدروع ضلاله، ونقيم حدودها على من بدل حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- وجهل أسماء رجاله، وسلم تسليمًا كثيرًا. أما بعد، فالهناء بنصرة هذا الدين القيم بين هذه الأمة مشترك، وكيف لا وقد ظهر جلاله مقمرًا وأنشدوا: يا ليل طل أو لا تطل ... فليس نرعى قمرك وقد حلا مكرر الحمد بنشر الأعلام المؤيدية على أئمتنا الأعلام2، وحلت أيضًا مواقع التورية بنصرة شيخ الإسلام، فهو الليث الذي كان لظما العلماء إلى إمامهم نعم الغوث والغيث، حتى تأيدوا بمؤيدهم وأعز الله أنصارهم بالشافعي والليث، حجبناه عن غيوم العزل، وقلنا وقد ساعدنا رأينا الشريف في إظهاره: أصالة الرأي صانتني عن الخطل ... وحلية الفضل زانتني لدى العطل3 وولى غيره فأنشد كل عالم أظلم ضوء نهاره: ما كنت أوثر أن يمتد بي زمني ... حتى أرى دولة الأنذال والسفل واعتلت كتب العلم فقالت وعيون سطورها باكية: لعل إلمامة بالجذع ثانية ... يدب منها نسيم البرء في عللي وأنشد لسان حال شيخ الإسلام وقطوف قربه دانية: تقدمتني رجال كان شوطهم ... وراء خطوي لو أمشي على مهل وأشار إلينا وقال وخواطرنا الشريفة بإشارته راضية: لعله إن بدا فضلي ونقصهم ... لعينه نام عنهم أو تنبّه لي فتنبهنا له وقلنا لضده وقد أهبطناه من تلك الرتبة العالية: فإن جنحت إليه فاتخذ نفقًا ... في الأرض أو سلمًا في الجو فاعتزل وكيف يطلب من نار خامدة هدى، أو يجعل السراب ماء، وإذا دعونا الري جاوبنا الصدى، ويأبى الله أن يطابق سحبان بباقل، أو يجاري فارس العلم براجل: ومن يقل للمسك أين الشذى ... كذبه في الحال من شما

_ 1 الزخرف: 43/ 3. 2 الأعلام: الفطاحل الهداة. 3 العطل: عدم التزين. والخطل: خطأ الرأي.

وتالله لقد زادنا بحجبه في غيوم العزل علمًا بعلو مقداره، وكان عزلًا أظلمت بسببه الدنيا إلى أن من الله على المسلمين بإبداره، وقالت الأمة ذلك ما كنا نبغي، واستوفى كل عالم شروط المحبة واستوعب، وعلمنا أن الحكم العدل حكم بتقديم هذا الإمام بالموجب، أنلنا وظيفته غيره فزلزلت الأرض زلزالها، وقلنا يخف على قلبنا فأخرجت الأرض أثقالها، وأظهرنا جلال العرب فأطلقوا أعنة بلاغتهم في ميادين الفصاحة، وما أحقهم هنا بقول الفاضل: وتناجدت أهل نجد فكل صاح يا صباحه، وعلمنا أن هذا فضل رفل به أبناء العرب في حلل التقديم، وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، وامتلأ صحن جامع القلعة بحلاوة هذه البشرى، وهلل مؤذنوه وذكروا طلعته الجلالية فكبروا وأنشدوا: لو أن مشتاقًا تكلف فوق ما ... في وسعه لسعى إليك المنبر وأزهرت هذه البشرى في ربيع ولكنه ربيع الأبرار الذي نزه الله روحه وريحانه عن كل نمام، وصان فيه المسلمين ممن يأكل أموال الناس بالباطل ويدلي بها إلى الحكام. ونشر الله أعلام كتب العلم وزاد الله بالسيف المؤيدي إسعافها. وكانت ستور الجهل قد أسبلت على التفاسير فأظهر السر للآي كشافها، أما القراءات فهي في قرى1 شيخ الإسلام وفضله فيها عاصم من الجهل ونافع2 وأما الحديث فهو مجلي مبهماته بنور جلاله الساطع. وأما العربية فقد ظهر بعد وعر العجم تسهيلها، وشرعت بيوت العرب لشواهدها وأكرم نزيلها. وأما المعاني فقد أظهر الله بيانها وجليت بها عروس الأفراح واهتدينا بنور جلالها ففتحت لنا أبوابها بغير مفتاح. وأما المنطق فمقدمات منطقه العذب أرتنا نتائجه يقينًا، وأما العقليات فما رأينا لمن ناظره فيها في هذه المدة عقلًا ولولا الحياء لقلنا ولا دينا، وها هو قد نبه الفقه من سنة الغفلة بعدما أمرض الجهل عيونه وأرمد، والحاوي أظهر ما حواه من العلم بعدما كان هلك أسى وتجلد، والروضة أزهرت في حدائق هذه المسرة بين أوراقها فأينعت، ومدة الشافعية أصول دوحتها فتفرعت، وظهرت رفعة الرافعي في أفق كماله، ونور الله ضريح الشافعي بنور سراجه وبهجة جلاله. "ولما كان" الجناب الكريم الجلالي هو الذي ناظرناه بغيره فقال نور الشريعة وهو أشهر من نار على علم:

_ 1 قِرى: طعام الضيف أو قراءة. 2 عاصم ونافع: من المقرئين الأفذاذ.

وما انتفاع أخي الدنيا بناظره ... إذا استوت عنده الأنوار والظلم فعلمنا أنه حجة للشافعي الذي منه الاستقاء وإليه منتهى السؤال، وما أبدر في أفق درس لا أزال ظلم الشك بأنواره وأسفر أبداره عن التتمة والإكمال، وهو أبو العلماء الذي ولد من الأم أفراحهم، وأبو المهمات الذي شهر من العدة الكاملة في ميدان الفرسان سلاحهم، وإليه انتهت الغاية فإنه ما برح يأتينا في وجيز تقريبه بالعجاب، ويغنينا عن موضح القشيري فإنه يغذينا في إبانته باللباب. اقتضت آراؤنا الشريفة أن نعيده إلى منال شرفه بعد التحجب وها هو قد ظهر، ويتسلسل في أيامنا الشريفة عند الرواة حديث ابن عمر، فلذلك رسم بالأمر الشريف العالي المولوي السلطاني الملكي المؤيدي السيفي، لا زالت الشافعية في أيامه الشريفة بجلالهم في ترشيح بهجة وابتهاج، وثبت الله القواعد وأقامها في ملكه عي التحرير ومشى الرعية فيها على أوضح منهاج، أن تفوض إلى الجناب المشار إليه وظيفة كذا وكذا. وقد وقع التمويه في الفروق بينه وبين غيره عند أهل التبصرة والهداية وهو نهاية المطلب، وعيون المسائل وتاج رءوسها والمذهب الذي تهذيبه في أدب القاضي كفاية، وهو البحر الذي ما دخلنا بسيطه المبسوط، إلا قالت التورية إنه في البسيط كامل، ولا نظرنا إلى حليته الجلالية إلا غنينا عن المصباح بنوره الشامل، وقد ميزناه على مناظريه لما أقروا له بالتعجيز، وقرت عيون ابن البارزي -نور الله ضريحه- بهذا التمييز، وألغينا ذكر علوم يجل قدره عن نسبتها إليه، ولكن ثغور سيناتها تبسم عند ذكره وأفواه ميماتها تكثر الثناء عليه، فليتلق ذلك فإنه العزيز عندنا والمنتقى لهذا التشريف الذي هو ديباجة رقمه، وإذا ذكرنا الأصول فأصوله محفوظة، وهو المعتمد عليه في التمهيد والمستصفى ببديع عمله، ولو عاشن ابن الحاجب ما تغزل في رفع حاجبه وخفض له جانبه، وعلم أن جلالنا عين الإسلام فلم نرفع على العين حاجبه، والوصايا كثيرة ولكن جواهر ذخائرنا تلتقط من إملائه وأماليه، وهو جامع مختصراتها ومظهر زوائدها ببيانه ومعانيه، لا زال حديث فضله يتسلسل مع الرواة ويسند، ولا برح أجل من أوضح الرسالة في مسند محمد وأحمد. "ورسم" لي في الأيام الشريفة المؤيدية، سنة تسع عشرة وثمانمائة، أن أنشئ رسالة بوفاء النيل المبارك لم أسبق إليها، ولا حام طائر فكر عليها، وأحضر مولانا المقر الأشرف القاضوي الناصر محمد بن البارزي الجهني الشافعي، صاحب دواوين الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية -تغمده الله بالرحمة والرضوان- قطعة من إنشاء القاضي الفاضل بوفاء النيل وقرئت على المسامع الشريفة المؤيدية، وحذرت من التعرض إلى شيء من ألفاظها ومعانيها فأنشأت رسالة حكم لأبي بكر بها على كل فاضل بالتقديم، وإن

كان لسان القلم قد طال فأنا أقطه1 ههنا تأدبًا مع عبد الرحيم، وقد وصلنا ههنا شمل القطعتين، ليتفكه المتأمل في جنى الجنتين، ويتنزه نظره في حدائق الروضتين، ويطرب لسجع حمام الدوحتين. "قال القاضي الفاضل": نعم الله سبحانه وتعالى من أصوبها بزوغًا، وأضفاها سبوغًا، وأصفاها ينبوعًا، وأسناها منفوعًا، وأمدها بحر مواهب، وأضمنها حسن عواقب، النعمة بالنيل المصري الذي يبسط الآمال ويقبضها مده وجزره، ويربي النبات حجره، ويجري على سواد الأرض بفضته البيضا، ويهنأ بيده الخصيبة نقب الجرب من الحربي، ويحيي مطلعه أنواع الحيوان، ويجني ثمرات الأرض صنوان وغير صنوان، وينشر مطوي حريرها وينشر مواتها، ويوضح معنى قوله تعالى: {وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} ، وكان وفاء النيل المبارك في تاريخ كذا وكذا، فأسفر وجه الأرض وإن كان قد تنقب، وأمن يوم بشراه من كان خائفًا يترقب فرأينا الإبانة عن لطائف الله سبحانه وتعالى وقد حققت الظنون، ووفت بالرزق المضمون، إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون، وقد أعلمناك لتوفي حقه من الإذاعة، وتبعده من الإضاعة، وتتصرف فيه على ما يصرفك من الطاعة، وتشهر ما أورده البشير من البشرى بإبانته، وتمده بإيصال رسمه إليه على عادته. "فقلت بعد الفاضل": ونبدي لعلمه ظهور آية النيل المبارك الذي عاملنا الله فيه بالحسنى وزيادة، وأجراه لنا في طرق الوفاء على أجمل عادة، وحلق أصابعه ليزيل الإبهام فأعلن المسلمون بالشهادة، كسر بمسرى فأصبح كل قلب بهذا الكسر مجبورًا، وأتبعناه بنوروز2 ما برح هذا الاسم بالسعد المؤيدي مسكوًّا، دق قفا السودان فالراية البيضاء من كل قلع3 عليه، وقبل ثغور الإسلام وأرشفها ريقه الحلو فمالت بأعطاف غصونها إليه وشبب خريره في الصعيد بالقصب، ومد سبائكه الذهبية إلى جزيرة الذهب، فضرب الناصرية واتصل بأم دينار، وقلنا إنه صبغ بقوة لما جاء وعليه الاحمرار، وأطال الله عمر زيادته فتردد الناس على الآثار، وعمته البركة فأجرى سواقي مكة إلى أن غدت جنة تجري من تحتها الأنهار، وحصن مشتهى الروضة في صدره وحنى عليه حنوّ المرضعات على الفطيم. وأرشفه على ظمأ زلالا ... ألذ من المدامة للنديم4

_ 1 قطّ: قصّ وقصّرَ. 2 النوروز: والنيروز: عيد الربيع عند الفرس وهو رأس السنة الفارسية. 3 القِلْع: الصدرية والرجل الذي لا يثبت على ظهر الخيل. وبفتح القاف وكسر العين: الذي لا يثبت في البطش ولا على السرج، والرجل البليد. 4 الزلال: الماء الصافي. وأرشف: سقى.

وراق مديد بحره لما انتظمت عليه تلك الأبيات، وسقى الأرض سلافته الخمرية فخدمته بحلو النبات وأدخله إلى جنات النخيل والأعناب فالق النوى والحب، فأرضع جنين النبت وأحيا لها أمهات العصف والأب1، وصافحته كفوف الموز فختمها بخواتيمه العقيقية، ولبس الورد تشريفه وقال أرجو أن تكون شوكتي في أيامه قوية، ونسي الزهري بحلاوة لقائه مرارة النوى، وهامت به الشقراء فأرخت ضفائر فروعها عليه من شدة الهوا، واستوفت الأشجار ما كان لها في ذمة الري من الديون، ومازج الحوامض بحلاوته فهام الناس بالسكّر والليمون، وانجذب إليه الكباد2 وامتد ولكن قوي قوسه لما حظي منه بنصيب سهم لا يرد، ولبس شربوش الأترج3 وترفع إلى أن لبس بعده التاج، وفتح منشور الأرض لعلامته بسعة الرزق وقد نفذ أمره وراج. فتناول معالم الشنبر4 وعلم بأقلامها ورسم لمحبوس كل سد بالإفراج، وسرح بطائق السفن فخفقت بمخلق بشائره، وأشار بأصابعه إلى قتل المحل فبادر الخصب إلى امتثال أوامره، وحظي بالمعشوق وبلغ من كل أمنية مناه، فلا سكن على البحر إلا تحرك ساكنه للمطالعة بعدما تفقه وأتقن باب المياه، ومد شفاه أمواجه إلى تقبيل فم الحور، وزاد بسرعته فاستحلى المصريون زائده على الفور. ونزل بركة الحبش فدخل التكرور5 تحت طاعته، وحمل على الجهات البحرية فكسر المنصورة وعلا على الطويلة بشهامته، وأظهر في مسجد الخضر عين الحياة فأقر الله عينه، وصار أهل دمياط في برزخ بين المالح وبينه، وطلب المالح رده بالصدر وطعن في حلاوة شمائله، فما شعر إلا وقد ركب عليه ونزل في ساحله، وأمست واوات دوائره على وجنات الأرض عاطفة، وثقلت أردافه على خصور الجواري فاضطربت كالخائفة، ومال إليه باسق النخل فلثم طلعه وقبل سوالفه، وأمست سود السفن كالحسنات في حمرة وجناته، وكلما زاد زاد الله في حسناته، فلا فقير سد إلا وحصل له من فيض نعمائه الفتوح، ولا ميت خليج إلا عاش به ودبت فيه الروح. ولكنه احمرت عيونه على الناس بزيادة وترفع، فقال له المقياس عندي قبالة كل عين أصبع، فنشر النيل أعلام قلوعه وحمل وله من ذلك الخرير زمجره، ورام أن يهجم

_ 1 الأب: ورد ذكره في قوله تعالى، في سورة عبس: {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا،.... وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} 80/ 27-30. وهو "المرعى لأنه يؤب أي يؤم أو الفاكهة اليابسة تؤب أي تعد للشتاء" "تفسير الزمخشري، ص549". 2 الكبّاد: عامية معناها الأترج ويقال له أيضًا الترنج وهو ثمر شبيه بالليمون. 3 الشربوش: لغة في الطربوش، والأترج: الكبّاد. 4 الشنبر: لم نعثر على هذه اللفظة في ما بين أيدينا وربما كانت بمعنى "القصب" 5 التكرور: لقب حاكم الحبشة في ذلك الوقت.

على عير بلاده فبادر إليه عزمنا المؤيدي وكسره، وقد أثرنا المقر بهذه البشرى التي عم فضلها برًّا وبحرًا، وحدثناه عن البحر ولا حرج وشرحنا له حالًا وصدرًا، ليأخذ حظه من هذه البشرى البحرية بالزيادة الوافرة وينشق من طيها نشرًا، فقد حملت له من طيبات ذلك النسيم أنفاسًا عاطره، والله تعالى يوصل بشائرنا الشريفة لسمعه الكريم ليصير بها في كل وقت مشنفًا، ولا برح من نيلنا المبارك وإنعامنا الشريف على كلا الحالين في وفا. ومما انفردت بإنشائه: رسالة السكين، فإن الشيخ جمال الدين بن نباته سبق إلى رسالة السيف والقلم، وتقدمه أبو طاهر إسماعيل بن عبد الرزاق الأصفهاني إلى رسالة القوس. وكتاب الإنشاء لا بد لهم من سكين فقلت: وينهى وصول السكين التي قطع المملوك بها أوصال الجفاء، وأضافها إلى الأدوية فحصل بها البرء والشفاء، وتالله ما غابت إلا وصلت الآلام من تعثرها إلى الجفاء زرقاء1، كم ظهر للبيض منها ألوان، خرساء ومن العجائب أنها لسان كل عنوان، ما شاهدها موسى إلا سجد في محراب النصاب، وذل بعد أن خضعت له الرءوس والرقاب. كم أيقظت طرف القلم بعدما خط، وعلى الحقيقة ما رؤي مثلها قط، وكم وجد بها الصاحب في المضائق نفعًا، وحكم بحسن صحبتها قطعًا، ماضية العزم قاطعة السن فيها حدة الشباب من وجهين؛ لأنها بالناب والنصاب معلمة الطرفين، وأنملة صبح تقمعت بسواد الدجى، فعوذتها بالضحى والليل إذا سجى، ولسان برق امتد في ظلمات الليل، فتنكرت الأشعة الأنجم وما عرف منها سهيل2، هذا وتقطيعها موزون إذ لم يتجاوز في عروض ضربها الحد، ومعلوم أن السيف والرمح لم يعرفا غير الجزر والمد. من أجل ذا تدخل في مضائق ليس فيها قط مدخل، وكلما تفعله ترجزه والرمح في تعقيده مطول. إن هجعت بجفنها كانت أمضى من الطيف، وكم لها من خاصة جازت بها الحد على السيف. تنسى حلاوة العسال3 فلا يظهر لطوله طائل، ويغني عن آله الحرب بإيقاع ضربها الداخل. إن مرت بكلها المحلى تركت المعادن عاطلة، ولم يسمع للحديد في هذه الواقعة مجادلة. شهد الرمح بعدالته أنها أقرب منه إلى الصواب، وحكم لها بصحة ذلك قبل أن يستكمل النصاب. ما طال في رأس القلم شعرة إلا سرحتها بإحسان، ولا طالعت كتابًا إلا أزالت غلطه بالكشط من رأس اللسان.

_ 1 رزقاء: نافعة. 2 سهيل: نجم يظهر في أواخر شهر تموز يقولون إن خروجه دليل على نضوج الفواكه وانقضاء القيظ، وفي المثل: إذا طلع سهيل رفع كيل، ووضع كيل يضرب في تبدل الأحكام. 3 العسّال: الرمح. وهو في الأصل الذي يستخرج العسل.

تعقد عليها الخناصر لأنها عِدَة، وتالله ما وقعت في قبضة إلا أطالت لسانها وتكلمت بحدّة. إن أدخلت إلى القراب كانت قد سبكت1 على الدخول، أو أبرزت من غيمه كان على طلعتها قبول. تطرف بأشعتها الباهرة عين الشمس، وبإقامتها الحد حافظت الأقلام على مواظبة الخمس2. وكم لها من عجائب صار بها جدول السيف في بحر غمده كالغريق، ولو سمع بها قبل ضربه ما حمل التطريق, فلو عارضها أبو طاهر لعراك من قوسه الأذنين، وقال له جحدت رسالتك يا ذا القرنين. فإن جذبت إلى مقاومتها وكان لك يد تمتد، وصلت السكين إلى العظم وصار عليك قطع وانتهى أمرك إلى هذا الحد. وهل تعاند السكين صورة ليس لها من تركيب النظم، إلا ما حملت ظهورها أو الحوايا أو ما اختلط بعظم. ولو لمحها الفاضل لحقق قوله إن خاطر سكينه كل، أو أدركها ابن نباتة ما أقر برسالة السيف وفل، وقال لقلم رسالته أطلق لسانك بشكر مواليك، وأخلص الطاعة لباريك، وما قصد المملوك الإيجاز في رسالة السكين ونظمها، إلا لتكون مختصرة كحجمها، لا زالت صدقات مهديها تنحف بما يذبح نحر فقري، وتأتي بما يشفي وإيهام التورية يقول ويبري. قلت: الذي أوردته ههنا من إنشائي وإنشاء غيري، كان من الواجب؛ لأن الباب الذي تحتم عليّ شرحه وبيانه وإيضاحه، باب التسجيع، وهو عبارة عن علم الإنشاء، وقد تقدم تقرير السجع وأقسامه، وعلم أنها أربعة أقسام، وهي المطرّف والموازي والمشطر والمرصع، وذكرت فيه الفوائد التي منها أحكام الفواصل، وأوردت المباحث في الإنشاء الذي فيه نظر بالنسبة إلى الحالة التي هي المطلوب، وأوردت من بديع الإنشاء وغريبه، هذه النبذة التي هي من إنشائي وإنشاء غيري، ولولا خشية الإطالة لأوردت من ذلك ما يذبل عنده زهر المنثور، ويقرط3 في قلائد النحور، ومن أراد البحث عن صحة ذلك فعليه بمصنفي المسمى: "بقهوة الإنشاء"، فإنه خمسة مجلدات، منها مجلد أنشأته بالبلاد الشامية، قبل أن أستقر منشئ دواوين الإنشاء الشريف بالديار المصرية والممالك الإسلامية، وثلاثة مجلدات أنشأتها عن مولانا السطان الملك المؤيد -سقى الله ثراه- ومجلد أنشأته عن الملك المظفر والملك الظاهر والملك الصالح، وعن مولانا السلطان الملك الأشرف، وعن مولانا أمير المؤمنين المعتضد بالله -زاده الله شرفًا وتعظيمًا. انتهى.

_ 1 سبكت: جبلت عليه وفُطِرت فهو خُلق منها. 2 الخمس: يعني الصلوات اليومية، والمواظبة عليها: المداومة. 3 يُقرَّط: يجعل أقراطًا. القلائد: جمع قلادة وهي الحلية تلبسها المرأة في عنقها. والنحر: موضع القلادة "العنق وما يليه من الصدر".

والفرق بين التسجيع والتجزئة، اختلاف زنة أجزائه ومجيئه على قافية واحدة، من غير عدد معين محصور. وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته على التسجيع قوله: فعال منتظم الأحوال مقتحم ... الأهوال ملتزم بالله معتصم وبيت العميان: من لي بمستلم لليد معتصم ... بالعيش لا مسئم يومًا ولا سئم1 وبيت الشيخ عز الدين الموصلي قوله: كم قاتل بصحيح الجمع مقتحم ... وقائل لنظيم السجع ملتزم قلت: الذي يظهر لي أن الشيخ عز الدين لم يمش في نظم بديعيته مشي محقق، لأنه تقرر عنده وعند الجماعة في شروحهم: أن التسجيع هو أن يأتي المتكلم في أجزاء بيته أو كلامه أو في بعضها، بأسجاع غير متزنه، والشيخ أتى في شطر بيته الأول بأسجاع قابل كلًّا منها في الشطر الثاني بوزنه، مثل: قاتل وقائل، وصميم ونظيم، وجمع وسجع، ومقتحم وملتزم، وهذا هو الترصيع بعينه. فإن الترصيع من شرطه أن تقابل كل لفظة من البيت بوزنها ورويها وليته نقل هذا البيت إلى الترصيع فإن بيته في الترصيع ناقص بالذي أظهره، مع قصر باعه فيه من الحشو، وهو: كم رصعوا كلِمًا من درّ لفظهم ... كم أبدعوا حِكمًا في سر علمهم مع أنه نظر في بيت الشيخ صفي الدين الحلي، وهو: فعال منتظم الأحوال مقتحم ... الأهوال ملتزم بالله معتصم ورأى اختلاف الوزن بين ملتزم ومعتصم. وبيت بديعيتي أقول فيه: سجعي ومنتظمي قد أظهرا حكمي ... وصرت كالعلم في العرب والعجم

_ 1 المسئم: العمل المتعب. والسئم: الملول التعِب.

ذكر التسميط

ذكر التسميط: تسميط جوهره يلقى بأبحره ... ورشف كوثره يروي لكل ظمي1 هذا النوع -أعني التسميط- هو أن يجعل الشاعر كل بيت، بسمطه، أربعة أقسام ثلاثة منها على سجع واحد، بخلاف قافية البيت، كقول مروان بن أبي حفصة: هم القوم إن قالوا أصابوا وإن دعوا ... أجابوا وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا والفرق بين التسميط والتسجيع، كون أجزاء التسميط غير ملتزم أن تكون على روي البيت، وكون أجزائه متزنة فيكون عددها محصورًا، والفرق بين التفويف وبينه تسجيع بيت التسميط. قال ابن أبي الأصبع: ما خالفوا بين قافية البيت وأسجاع التسميط إلا لتكون القافية كالسمط، والأجزاء المسجعة بمنزلة حب العقد؛ لأن السمط يجمع حب العقد، والمراد بأجزاء التسميط بعض أجزاء التقطيع ويسمى تسميط التبعيض، ومن التسميط نوع آخر يسمى تسميط التقطيع، وهو أن تسجع جميع أجزاء التفعيل على روي يخالف القافية، كقول ابن أبي الأصبع: وأسمر مثمر من مزهر نضر ... من مقمر مسفر عن منظر حسن فجاءت جميع أجزاء التفعيل من هذا البيت، من سباعيها وخماسيها، مسجعة على خلاف سجعة الجزء الذي هو قافية البيت.

_ 1 التسميط: في اللغة أن تجعل الجواهر سماطًا أو عقدًا. والرشف: الشرب على مهل. والكوثر: النهر العذب الماء الصافي. والظمي: الظامئ: العطشان.

وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته على التسميط: فالحق في أفق والشرك في نفق ... والكفر في فرق والدين في حرم والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم. وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته قوله: تسميط ذي أدب تنظيم ذي أرب ... تحقيق ذي غلب بالنصر ملتزم1 وبيت بديعيتي أشرت فيه إلى نظمي ونثري، ترفعًا بمدح النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحابته -رضي الله عنهم- بقولي: سجعي ومنتظمي قد أظهرا حكمتي ... وصرت كالعلم في العرب والعجم وقلت بعده مشيرًا إلى النظم: تسميط جوهره يلفى بأبحره ... ورشف كوثره يروي لكل ظمي التورية في التسميط هنا منتظمة في سلك الجواهر، وقد تقرر أن السمط هو الذي يجمع حب العقد، ولهذا قلت: تسميط جوهره، والمناسبة البديعية حاصلة بقولي: يلفى بأبحره، فمحاسنه غير خافية بعد ذكر الجوهر، مثل ذلك الرشف للكوثر والري للظامئ، وتمكين القافية ظاهر. والله أعلم.

_ 1 الأرب: الحاجة، والبغية والأمنية، والمهارة.

ذكر الالتزام

ذكر الالتزام: لأن مدح رسول الله ملتزمي ... فيه مدح سواه ليس من لزمي1 هذا النوع الذي سماه قوم: الالتزام، ولزوم ما لا يلزم، ومنهم من سماه: الإعنات، والتضييق، وهو في الاصطلاح أن يلتزم الناثر في نثره، أو الناظم في نظمه، بحرف قبل حرف الروي أو بأكثرمن حرف، بالنسبة إلى قدرته مع عدم التكلف، وقد جاء في الكتاب العزيز في مواضع تجل عن الوصف، كقوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ، الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} 2 وكقوله تعالى: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ، وَإِنَّ لَكَ لأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ} 3 ومثله قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ، وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ} 4، وأما الشعراء فأبو العلاء كان أكثرهم في هذا النوع التزامًا، حتى إنه صنع كتابًا وسماه: "اللزوميات" جاء فيه بأشياء بديعة، إلا أن فيه من عثرات لسانه كثيرًا، كقوله: ضحكنا وكان الضحك منا سفاهة ... وحق لسكان البسيطة أن يبكوا يحطمنا صرف الزمان كأننا ... زجاج ولكن لا يُعادُ لنا سبك ومنه قوله: لا تطلبن بآلة لك رفعة ... قلم البليغ بغير حظ مغزل سكن السماكان السماء كلاهما ... هذا له رمح وهذا أعزل

_ 1 ملتزمي: التزم به، واجبي. واللزم: الواجب. 2 التكوير: 81/ 16. 3 القلم: 68/ 2، 3. 4 الانشقاق: 48/ 17، 18.

ومنه قوله: يقولون في البستان للعين لذة ... وفي الراح والماء الذي غير آسن1 إذا شئت أن تلقى المحاسن كلها ... ففي وجه من تهوى جميع المحاسن وبيت الشيخ صفي الدين الحلي على لزوم ما لا يلزم قوله: من كل مبتدر للموت مقتحم ... في مارق بغبار الحرب ملتجم2 وبيت العميان: وميل سمعي لنيل القرب من شيمي ... وسيل دمعي بذبل الترب كالديم3 وبيت الشيخ عز الدين قوله: لي التزام بمدحي خير معتصم ... بربه وارتباط غير منفصم وبيت بديعيتي أقول فيه: لأن مدح رسول الله ملتزمي ... فيه ومدح سواه ليس من لزمي

_ 1 آسن: الماء: فسد وتغير لونه وطعمه وريحه. أو ركد. 2 المبتدر: الذي يبادر إلى الأمر ويندفع إليه. المارق: من الدين الخارج عنه، ومن الغبار الخارج منه. 3 الشيم: جمع شيمة: وهي الخلق الحسن، والخصلة النبيلة.

ذكر المزاوجة

ذكر المزاوجة: إذا تزاوج ذنبي وانفردت له ... بالمدح منّ ونجّاني من النقم هذا النوع، سمّوه المزاوجة والازدواج، وهو في اللغة مصدر زاوج بين الشيئين، إذا قارب بينهما، وفي الاصطلاح قال السكاكي ومن تبعه: هو أن يزاوج المتكلم بين معنيين في الشرط والجزاء، كقول البحتري: إذا ما نهى الناهي فلج لي الهوى ... أصاخت إلى الواشي فلج بها الهجر1 ومنه قوله: إذا احتربت يومًا ففاضت دماؤها ... تذكرت القربى ففاضت دموعها2 وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته قوله: ومن إذا خفت في حشري فكان له ... مدحي نجوت وكان المدح معتصمي وبيت العميان: إذا تبسم في حرب وصاح بهم ... يبكي الأسود ويرمي اللسن بالبكم3

_ 1 لجّ: ألح. وأصاخ: أنصت وسمع كلامه وأطاعه. والواشي: النمّام الذي ينقل الكلام بين اثنين وأكثر بهدف إفساد ذات البين. 2 احتربت: تحاربت. والقربى: الأقرباء. 3 اللُسن: الفصحاء. البَكَم: العي والخرس.

وبيت الشيخ عز الدين: إذا تزاوج خوف الذنب في خلدي ... ذكرت أن نجاتي في مديحهم وبيت بديعيتي أقول فيه: إذا تزاوج ذنبي وانفردت له ... بالمدح منّ ونجّاني من النّقم1

_ 1 منَّ: تفضَّل. النقم: الانتقام.

ذكر التجزئة

ذكر التجزئة: ورّيت في كلمي جزيت من قسمي ... أبديت من حكمي جليت كل عمي التجزئة: هي أن يأتي المتكلم ببيت ويجزئه جميعه أجزاء عروضية، ويسجعها كلها على وزنين مختلفين جزءًا بجزء، أحدهما على روي يخالف روي البيت، والثاني على روي البيت، كقول الشاعر: هندية لحظاتها خطية ... خطراتها دارية نفحاتها1 وبيت الشيخ صفي الدين: ببارق خذم في مارق أمم ... أو سابق عرم في شاهق علم2 والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم. وبيت الشيخ عز الدين قوله: ذي فضل أندية عدل تجزئة ... فالذئب في ظلم يمشي مع الغنم الشيخ عز الدين سها في هذا البيت عن رتبة التجزئة في الشطر الثاني، بالنسبة إلى التقرير، في شرط الرتبة. وبيت بديعيتي أشير فيه إلى ما أبديته من المحاسن في المديح النبوي، بقولي: وريت في كلمي جزيت من قسمي ... أبديت من حكمي جليت كل عمي

_ 1 هندية: نسبة إلى الهند. خطية: نسبة إلى الرماح الخطية أي تفعل فعلها. ودارية: نسبة إلى داريا. 2 البارق: السيف. الخذم: القاطع. المارق: الخارج من الشيء. الأمم: المأموم وهو المضروب على أم رأسه. السابق: الفارس. العرم: السّريع الطعن الشرس. الشاهق: الشديد الارتفاع. والعلم: الجبل.

ذكر التجريد

ذكر التجريد: لي المعاني جنود في البديع وقد ... جردت منها لمدحي فيه كل كمي1 التجريد، عرفه صاحب التلخيص بأن قال: هو أن ينتزع من أمر ذي صفة آخر مثله، وفائدته المبالغة في تلك الصفة، كقولك: مررت بالرجل الكريم، والنسمة المباركة. فجردت من الرجل نسمة متصفة بالبركة، وعطفتها عليه كأنها غيره، وهي هو. ومن أمثلته الشعرية قول الشاعر: أعانق غصن البان من لين قدّها ... وأجني جنيَّ الورد من وجناتها فإنه جرد من قدها غصنًا ومن وجنتيها وردًا. وبيت الشيخ صفي الدين في بديعيته قوله: شوس ترى منهم في كل معترك ... أسد العرين إذا حر الوطيس حمي2 والشيخ صفي الدين جرد في بيته أسد العرين من الشوس. وبيت العميان في بديعيتهم: من وجه أحمد لي بدر ومن يده ... بحر ومن لفظه در لمنتظم

_ 1 الكمي: الفارس المغوار. 2 الشوس: والأشاوس: الشجعان. العرين: بيت الأسد. الوطيس: المعركة.

وبيت الشيخ عز الدين الموصلي قوله: من لفظه واعظ بالنصح جرد لي ... يا نفس توبي وللتجريد فالتزمي وبيت بديعيتي في المديح النبوي قولي: لي في المعاني جنود في البديع وقد ... جردت منها لمدحي فيه كل كمي

ذكر المجاز

ذكر المجاز: وهو المجاز إلى الجنات إن عمرت ... أبياته بقبول سابغ النعم المجاز: هو عبارة عن تجوز الحقيقة، فإن المراد منه أن يأتي المتكلم بكلمة يستعملها في غير ما وضعت له في الحقيقة في أصل اللغة، هذا رأي السكاكي وأصحاب المعاني والبيان، وقال البديعيون: المجاز عبارة عن تجوز الحقيقة، بحيث يأتي المتكلم إلى اسم موضوع لمعنى فيخصه، إما أن يجعله مفردًا بعد أن كان مركبًا، أو غير ذلك من وجوه الاختصاص. والمجاز جنس يشتمل على أنواع كثيرة، كالاستعارة والمبالغة والإرداف والتمثيل والتشبيه، وغير ذلك مما عدل فيه عن الحقيقة الموضوعة للمعنى المراد. وهذه الأنواع وإن كانت من المجاز، فكونها متعددة لخلوها عن معنى زائد عن تجوز الحقيقة، كالاستعارة والتشبيه وبقية ما ذكره من الأنواع، فلما لم يكن له غير تجوز الحقيقة اختصارًا، أفرد باسم المجاز إذ لا يليق به غيره. وعمل الشريف الرضي كتابًا سماه: "مجاز القرآن" ومات قبل استيفائه، ومن أمثلته الشعرية قول العتابي: يا ليلة لي بحوّارين ساهرة ... حتى تكلم في الصبح العصافير قوله: ساهرة، مجاز. وبيت الشيخ صفي الدين قوله: صالوا فنالوا الأماني من مرادهم ... ببارق في سوى الهيجاء لم يشم

المجاز في بيت الشيخ صفي الدين في لفظة بارق. والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم. وبيت الشيخ عز الدين قوله: أحيا فؤادي مجازي نحو حجرته ... وقد دهشت لجمع فيه مزدحم وبيت بديعيتي تقدمه قولي: إني تجردت لمدح النبي -صلى الله عليه وسلم- وقلت بعده في المجاز: وهو المجاز إلى الجنات إن عمرت ... أبياته بقبول سابغ النعم

ذكر الائتلاف

ذكر الائتلاف: وهو أربعة أنواع هي: 1- ائتلاف اللفظ مع المعنى: تألف اللفظ والمعنى بمدحته ... والجسم عندي بغير الروح لم يقم هذا النوع ذكره قدامة -أعني ائتلاف اللفظ مع المعنى- وترجمه منفردًا ولم يبين معناه وشرحه الآمدي وأطال، ولم توف عبارته بإيضاحه. وأوضحه ابن أبي الأصبع وقال: مختصر عبارة هذه التسمية أن تكون ألفاظ المعاني المطلوبة ليس فيها لفظة غير لائقة بذلك المعنى، إن كان اللفظ جزلًا كان المعنى فخمًا، أو رشيقًا رقيقًا كان المعنى غريبًا، كقول زهير بن أبي سلمى: أثافيّ سفعًا في معرس مرجل ... ونؤيا كجذم الحوض لم يتثلم1 فلما عرفت الدار قلت لربعها ... ألا انعم صباحًا أيها الربع واسلم فإن زهيرًا قصد تركيب البيت الأول من ألفاظ تدل على معنى غريب، لكن المعنى غير غريب، فركبه من ألفاظ متوسطة بين الغرابة والاستعمال، ولما جنح في البيت الثاني إلى معنى أبين من الأوّل وأغرب، ركبه من ألفاظ مستعملة معروفة. وبيت الحلي في بديعيته قوله: كأنما حلق السعدي منثرًا ... على الثرى بين منقض ومنقصم

_ 1 الإثافيّ: حجارة الموقد. السفع: تغير اللون. المعرّس: المنزل، أو مكان التعريس وهو التجمع، والمعرس: هو الدار أو مكان الخيمة، وهنا مكان القدر أو الموقد. والمرجل: القدر يطبخ به. النؤي: نهير صغير يحفر حول الخيمة ليمنع دخول ماء المطر إليها. الجذم: البقية والأثر. تثلم: تشقق وتكسّر وخرب.

والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم. وبيت الشيخ عز الدين الموصلي قوله: تؤلف اللفظ والمعنى فصاحته ... تبارك الله منشي الدرّ في الكلم بيت الشيخ عز الدين في هذا النوع عامر، وبيت الشيخ صفي الدين خراب؛ لأنه غير صالح للتجريد، ولم يظهر له معنى حتى يأتي بالمشبه به في البيت، وعلى هذا التقرير لم يحصل في بيته ائتلاف بين اللفظ والمعنى. وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم: تآلف اللفظ والمعنى بمدحته ... والجسم عندي بغير الروح لم يقم 2- ائتلاف اللفظ مع الوزن: واللفظ والوزن في أوصافه ائتلفا ... فما يكون مديحي غير منسجم هذا النوع، أعني ائتلاف اللفظ مع الوزن، قال قدامة: هو أن تكون الأسماء والأفعال تامة لم يضطر الشاعر في الوزن إلى نقصها في البنية، ولا إلى الزيادة، ولا إلى التقديم والتأخير. ومنهم من قال: هذا النوع لا مثال له بصورة معينة؛ لأنه عبارة عن أنه لا يضطر إلى ما لا يلزمه منه فساد صورة المعنى وذهاب رونق اللفظ، كقول الفرزدق: وما مثله في الناس إلا ملكًا ... أبو أمه حي أبوه يقاربه وفي رواية: أخو أمه: فإن اضطرار الوزن حمله على رداءة السبك، فحصل في الكلام تعقيد يمنع من فهم معناه بسرعة، ولو قال: ما مثله إلا مملك أبوه يقارب خاله، لسهل مأخذه وقرب تناوله. وبيت الشيخ صفي الدين في بديعيته قوله: في ظل أبلج منصور اللواء له ... عدل يؤلف بين الذئب والغنم والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم. وبيت الشيخ عز الدين الموصلي قوله: أؤلف اللفظ مع وزن بمدحة مو ... لانا وذم عدوّ بين الثلم قلت: ثقل الهمزة في اللفظة أؤلف، والوقوف لتحرير الوزن عند قوله: بمدحة مولانا، كان سببًا في عدم ائتلاف اللفظ مع الوزن في بيت الشيخ عز الدين

وبيت بديعيتي قلت فيه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد قولي فيه في ائتلاف اللفظ مع المعنى: تألف اللفظ والمعنى بمدحته ... والجسم عندي بغير الروح لم يقم وقلت بعده: واللفظ والوزن في أوصافه ائتلفا ... فما يكون مديحي غير منسجم 3- ائتلاف المعنى مع الوزن: والوزن صح مع المعنى تألّفه ... في مدحه فأتى بالدرّ في الكلم هذا النوع -أعني ائتلاف المعنى مع الوزن- هو أن تأتي المعاني في الشعر صحيحة، لا يضطر الشاعر في الوزن إلى قلبها عن وجهها، ولا إلى خروجها عن صحتها، كقول عروة بن الورد: فإني لو شهدت أبا سعاد ... غداة غد بمهجته يفوق1 فديت بنفسه نفسي ومالي ... وما آلوه إلا ما يطيق2 فإنه أراد أن يقول: فديت نفسي بنفسي ومالي، فألجأته ضرورة الوزن إلى قلب المعنى. ومهما كان الشعر سليمًا من مثل هذا، كان الشعر الذي ائتلف معناه مع وزنه. وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته قوله: من مثله وذراع الشاة حذره ... عن سمه بلسان صادق الرتم3 والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم. وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته قوله: تؤلف اللفظ والمعنى مدائحه ... فللمعاني ترى الألفاظ كالخدم قلت: بيت الشيخ صفي الدين، في هذا النوع، قاصر عن بيت الشيخ عز الدين فإن الشيخ عز الدين أتى أولًا بالانسجام والسهولة مع التورية بتسمية النوع وتمكين القافية، فإن لفظة رتم، في بيت الشيخ صفي الدين غير ممكنة، وأيضًا فإن الوزن والمعنى في بيت الموصلي في غاية الائتلاف. وبيت بديعيتي قلت فيه: واللفظ والوزن في أوصافه ائتلفا ... فما يكون مديحي غير منسجم

_ 1 يفوق: يجود. 2 آلى: أقسم وحلف اليمين. 3 الرتم: الكلام الخفي.

وقلت بعده في ائتلاف المعنى مع الوزن: والوزن صح مع المعنى تألفه ... في مدحه فأتى بالدرّ في الكلم 4- ائتلاف اللفظ مع اللفظ: هذا النوع، أعني ائتلاف اللفظ مع اللفظ: هو أن يكون في الكلام معنى يصح معه هذا النوع، ويأخذ عدة معانٍ فيختار منها لفظة بينها وبين الكلام ائتلاف، كقول البحتري في الإبل النحيلة: كالقسي المعطفات بل الأسـ ... ـهم مبرية بل الأوتار1 فإن تشبيه الإبل بالقسي كناية عن هزالها، فلو شبهها بغير ذلك كالعرجون والدال جاز، ولكن المناسبة والائتلاف بين الأسهم والأوتار والقسي حسنت التشبيه. وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته: خاضوا عباب الوغى والخيل سابحة ... في بحر حرب بموج الموت ملتطم والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم. وبيت الموصلي في بديعيته: ساروا وجدوا النوى واللفظ مؤتلف ... من لسنِ دمعي بلفظ جِدُ منسجم2 الذي فهمته من هذا النوع معنى الشطر الأول، وأما الشطر الثاني فما حصل بينه وبين هذا النوع ائتلاف. وبيت بديعيتي قلت قبله: والوزن صح مع المعنى تألفه ... في مدحه فأتى بالدرّ في الكلم وقلت بعده، في ائتلاف اللفظ مع اللفظ: واللفظ باللفظ في التأسيس مؤتلف ... في كل بيت بسكان البديع حمي

_ 1 القسي: جمع قوس. المعطفات: المحنيات. الأسهم المبرية: المحدودة الرءوس. 2 جدّوا النوى: أسرعوا بالبعاد والسفر. وقد ورد الشطر الثاني من هذا البيت بلفظ "خد" بدل "جدُّ" التي أثبتناها وهي كما هو واضح، أصح وأقوم.

ذكر التمكين

ذكر التمكين: تمكين سقمي بدا من خيفة حصلت ... لكن مدائحه قد أبرأت سقمي هذا النوع -أعني التمكين- وهو ائتلاف القافية، منهم من سماه بالتمكين، منهم من سماه بائتلاف القافية: وهو أن يمهد الناثر لسجعه فقرة، أو الناظم لقافية بيته تمهيدًا تأتي به القافية ممكنة في مكانها، مستقرة في قرارها، غير نافرة ولا قلقة، ولا مستدعاة بما ليس له تعلق بلفظ البيت ومعناه، بحيث إن منشد البيت، إذا سكت دون القافية، كملها السامع بطباعه بدلالة من اللفظ عليها. وأكثر فواصل القرآن على هذه الصورة، والذي عقد البديعيون عليه الخناصر في هذا الباب، قول أبي الطيب: يا من يعز علينا أن نفارقهم ... وجداننا كل شيء بعدكم عدم وقال ابن أبي الأصبع: لم نسمع لمتقدم شعرًا متمكنًا في قافية أشد من تمكين النابغة الذبياني، حيث قال: كالأقحوان غداة غب سمائه ... جفت أعاليه وأسفله ندي زعم الغمام ولم أذقه بأنه ... يروي بريقته من العطش الصدي قلت: ويعجبني هنا قول صدر الدين بن عبد الحق، ولعمري إنه أمكن وألطف وأظرف، وهو: ورب ظبي آنس ... حشاشتي ملّكته أسقيته أسكرته ... حركته نبهته نادمته أعجبته ... حدثته أطربته مددته كشفته ... بلا طويل نكته

وبيت الحلي على تمكين القافية قوله: به استغاث خليل الله حين دعا ... رب العباد فنال البرد في الضرم1 والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم. وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته قوله: تمكين حبك في قلبي نسخت به ... محبة الكل من عرب ومن عجم2 وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي، صلى الله عليه وسلم: تمكين سقمي بدا من خيفة حصلت ... لكن مدائحه قد أبرأت سقمي

_ 1 الضرم: النار الملتهبة، والبيت عبارة عن قوله تعالى: {يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} . 2 النسخ: الإبطال، ومنه الناسخ والمنسوخ في القرآن، والآيات التي جاءت لتبطل أحكام آيات جاءت قبلها.

ذكر الحذف

ذكر الحذف: وقد أمنت وزال الخوف منحذفًا ... نحو العدوّ ولم أحقر ولم أضم1 هذا النوع، أعني الحذف، عبارة عن أن يحذف المتكلم من كلامه حرفًا من حروف الهجاء، أو جميع الحروف المهملة، بشرط عدم التكلف والتعسف، وهذا هو الغاية، كما فعل الحريري في المقامة السمرقندية، بالخطبة المهملة التي أجمع الناس على أنها نسيج وحدها، وواسطة عقدها. "وقد عن لي" أن أوردها ههنا بكمالها، وأورد معها ما نسج المتأخرون على منوالها، وهي قوله: الحمد لله الممدوح الأسماء والمحمود الآلاء، الواسع العطاء، المدعوّ لحسم اللأواء، مالك الأمم، ومصور الرمم2، وأهل السماح والكرم، ومهلك عاد وإرم، أدرك كل سرّ علمه، ووسع كل مصر حلمه، وعمّ كل عالم طوله، وهدّ كل مارد حوله، أحمده حمد موحد مسلم، وأدعوه دعاء مؤمل مسلم، وهو الله لا إله إلا هو الواحد الصمد، لا والد ولا ولد، أرسل محمدًا للإسلام ممهدًا، وللملة موطدًا، ولأدلة الرسل مؤكدًا، وللأسود والأحمر مسدّدًا، وصل الأرحام، وعلّم الأحكام، ووسم الحلال والحرام، ورسم الإحلال والإحرام، كرَّم الله محله، وكمل الصلاة والسلام له، ورحم آله الكرماء، وأهله الرحماء، ما همر ركام3 وهدر حمام، وسرح سوام4، وسطا حسام.

_ 1 أُضم: مجزوم أضام, أي لم أصب بأذى أو أتضايق. 2 الرمم: واحدتها رمة وهي عبارة عن الهيكل العظمي البالي. 3 الركام: الغيوم المركوم بعضها فوق بعض. 4 السوام: الماشية.

اعملوا رحمكم الله عمل الصلحاء، واكدحوا لمعادكم كدح الأصحاء، واردعوا أهواءكم ردع الأعداء، وأعدوا للرحلة إعداد السعداء، وادّرعوا حلل الورع، وداووا علل الطمع، وسووا أود العمل، وعاصوا وساوس الأمل، وصوّروا لأوهامكم حئول الأحوال، وحلول الأهوال، ومساورة الأعمال، ومصارمة المال والآل، وادّكروا الحمام وسرعة مصرعه1، والرمس وهول مطلعه2، واللحد ووحدة مودعه، والملك وروعة سؤاله ومطلعه، والمحوا الدهر ولؤم كرّه، وسوء محاله ومكره، كم طمس معلمًا، وأمّر مطعمًا، وطحطح عرمرمًا، ودمر ملكًا مكرمًا، همه سك المسامع، وسح المدامع، وإكداء المطامع، وإرداء المسمع والسامع، عم حكمه الملوك والرعاع، والمسود والمطاع، والمحسود والحساد، والأساود والآساد، ما موّل الآمال، وعكس الآمال، ولا وصل الأوصال، وكلم الأوصال، ولا سر إلا وسا3، ولؤم وأسا4، ولا أصح إلا ولّد الداء، وورع الأودّاء. الله الله، رعاكم الله، إلام مداومة اللهو، ومواصلة السهو، وطول الإصرار، وحمل الإصار، واطّراح كلام الحكماء، ومعاصاة إله السماء، أما الهرم حصادكم، والمدر5 مهادكم، أما الحِمام مدرككم، والصراط مسلككم، وأما الساعة موعدكم، والساهرة موردكم، أما أهوال الطامة6 لكم مرصده، أما دار العصاة الحطمة المؤصدة7، حارسهم مالك، ورواؤهم حالك، وطعامهم السُّموم، وهواؤهم السَّموم8، لا مال أسعدهم ولا ولد، ولا عدد حماهم ولا عدد، وألا رحمه الله امرأً ملك هواه، وأَكَّم مسالك هداه، وأحكم طاعة مولاه، وكدح لروح مأواه، وعمل ما دام العمل مطاوعًا، والعمر موادعًا والصحة كاملة، والسلامة حاصلة، ولا دهمه عدم المرام، وحصر الكلام، وإلمام الآلام، وحموم الحمام، وهدوء الحواس، ومراس الأرماس، آهًا لها حسرة ألمها مؤكد، وأمدها سرمد، وممارسها مكمد9، ما لولهه حاسم، ولا لسدمه10 راحم، ولا له

_ 1 الحِمام: بكسر المهملة: الموت. 2 الرمس: القبر. 3 سا: ترخيم ساءَ: أحزن. 4 أسا: ترخيم أساء: أضر. 5 المدَر: الطين الذي لا يخالطه رمل. 6 الطامة: المصيبة الكبيرة، والقيامة. 7 الحطمة: نار جهنم. المؤصدة: المقفلة، التي لا يمكن الخروج منها. 8 السَّموم: الريح الحارة "ريح جهنم". والرياح الخمسينية. 9 مكمد: مكبوت الحزن، مهموم. 10 السدم: الهم مع الندم، أو الغيظ مع الحزن.

مما عراه عاصم، ألهمكم الله أحمد الإلهام، وردأكم رداء الإكرام، وأحلكم دار السلام، وأسأله الرحمة لكم ولأهل ملة الإسلام، وهو أسمح الكرام والمسلم والسلام. قلت: رحم الله أبا القاسم الحريري، أتى في عاطل هذه الخطبة بالسهل الممتنع، ولكن ألجأته ضرورة العاطل، في مواضع، إلى الإتيان بألفاظ تفتقر إلى الحل. وقد تعين هنا تفسيرها، لئلا يتعذر على الطالب مرام، ولا يحصل هذا الإشكال في مرآة الأفهام. فاللأواء: الشدة. والأحمر والأسود: العرب والعجم، ووسم بمعنى علم. وهمر بمعنى صب والركام: السحاب المتراكم. والكدح: عمل الإنسان، من الخير والشر. والأود: المعوّج، والمساورة: المواثبة, وطحطح بمعنى هدّ وأهلك. والسَّكك ضيق الصماخ. والرعاع: السفلة. والأساود: الحيات. والآصار: جمع إصر، وهو الثقل. والساهرة: قيل إنها عرصات القيامة، وقيل إنها وجه الأرض. انتهى. "وأوقفني" رجل من طلبة العلم بحلب المحروسة، يقال له الشيخ بدر الدين بن محمد بن الضعيف، سنة أربع عشرة وثمانمائة، على رسالة مشتملة على حِكَم ومواعظ، على طريق الفقهاء لا على طريق الأدباء، وسألني الكتابة عليها فامتنعت من ذلك، فتوصل إلى أن رسم لي مولانا المقر الأشرف القاضوي الناصري محمد بن البارزي الجهني الشافعي، صاحب دواوين الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية، روَّح الله روحه، وجعل من الرحيق المختوم غبوقه وصبوحه، أن أكتب له على رسالته العاطلة تقريظًا عاطلًا، فقلت: هذا النوع من المستحيلات، فإن الخطب والوعظيات ثمرات، ألفاظها دانية القطوف. وأما التقريظ فالتوصل إلى تحصيل ألفاظه العاطلة غير ممكن؛ ولأن كف المتناول من ذلك صفر، والطريق مخوف، فلم يحصل عن المرسوم رجوع، وعلمت، أن الصرف إلى غير الامتثال، ممنوع. "فكتبت" هذا التقريظ الذي ما سبقني ناثر إليه، ولا حام طائر فكره عليه، وهو: طالع المملوك رسالة محمد وسلم، وأحكم السمع والطاعة لكلامها المحكم. والله ما سمعها عالم إلا وهام، ولا ردع سحرها الحلال مسلمًا إلا كره الحرام، وعاد عاملًا وأعد للصلاح حواصله، وصار له مع الله معاملة, ما أحلى ما كرر عاطلها المحلى، وأهلًا لسهولة مسلكها وسهلًا، ما لولد ساعة سعد أحكامها، ولا أهل العصر سكر إلا ما أدار كأس مدامها، ولا لعمارة عامر صرحها ورهطه، ولا للصرّ در كلؤلؤها وسمطه1، ولا لولد مطروح مع طرحها المحرر مطارحه، ولا صار لولادة رسالة مسموعة ولا لسرحها آرام

_ 1 السمط: عقد اللؤلؤ.

سارحه، ولا مسارح الماء الحلو لملحها إلا كالآل1، وما عامر ما أسه المعمار إلا أطلال، وما المطاعم الحلوة معها إلا مالحة، وما صوادح الكلام الصادح إلا حول دوجها صادحة، وما لطعم الراح مع حلاوة وردها راحة، ولا لسلسل الورد معها طلاوة ولو كلل الطلُّ2 أدواحه، ولا لسلوك الدر در سلوكها، ولا للمسوك العاطرة عطر مسوكها. ولم لا ومحكمها حرسه الله صارملكًا ولحكمه أحكام، وكلام الملوك ملوك الكلام، لا إله إلا الله ما أسرار ولد آدم إلا حكمة، وما كلام الحكماء وما أحكموه إلا حرمة، وما أمة رسول الملك العلام إلا سادة الأمم، وما سماه صدورهم إلا مطالع أهل الحكم، أطال الله عمره وما ملها سامع، وأطلع هلال دالها1 وسعد السعود لها طالع، وحصل للعالم لما هل هلالها سرور، وأكرموا محلها وأحلوها الصدور. أحكامها عمدة لأمة محمد، وما أعادها السامع إلا صار العود أحمد: سلسلوا دورها لسمع كساه ... درّها وهو عاطل كل حلّه لا سماع إلا لها لا كلام ... لسواها كرره كرره الله وع ما حكاه، ولد همام أو رواه، واسمع مسامرة همام صعد طور الحكم وساعده الله، وحسم كل كلامه مادة العواطل، وسلسل لطروسه وسطوره سلاسل الدور ودور السلاسل، ولو سمعها ملك العواطل أمال رءوس رماحه، وكلَّ حدُّ سلاحه، وسع معالم العلم ومعاهده صدره، وأدرّ لأهل الموارد الحلوة ولله دره، ما للكمال أصول سطوره الكاملة، ولا ورد مع رسول كرسال محمد مراسلة، رحم الله امرأً أطاع أوامر حكمها، وسمع مرسوم رسمها، ودارس ما أحكمه ممهدها وأملاه، أمد الله عمره والحمد لله. والحلي بنى بيت بديعيته، في باب الحذف، على العاطل، وهو: آل الرسول محل العلم ما حكموا ... لله إلا وُعدوا أعدل الأمم والعميان ما نظموا نوع الحذف في بديعيتهم، وأنا والشيخ عز الدين تعذر علينا نظم الحذف عاطلًا، لأجل تسمية النوع في البيت، إذ فيه الذال والفاء ولا بد من التورية بتسمية النوع، كما شرط أولًا، فكل منا جنح في باب الحذف إلى جهة. أما الشيخ عز الدين فإنه ذكر أنه نظم بيته من الحروف النورانية المقطعة، وسمى الحذف في بيته إسقاطًا، فقال:

_ 1 الآل: السَّراب الذي: {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً} . 2 الدال: جمع الدالة وهي الشهرة والسلطان.

أروم إسقاط ذنبي بالصلاة على ... محمد وعلى صديقه العلم1 وبيت بديعيتي حذفت منه الأحرف التي تنقط من تحت، وهو الذي نظمته بعد قولي: تمكين سقمي بدا من خيفة حصلت ... لكن مدائحه قد أبرأت سقمي فقلت: وقد أمنت وزال الخوف منحذفًا ... نحو العدوّ ولم أحقر ولم أضم

_ 1 أروم: أتوخى وأقصد. الصدّيق: الخليفة الثاني أبو بكر وكان ملقبًا بالصدّيق.

ذكر التدبيج

ذكر التدبيج: واخضر أسود عيشي حين دبجه ... بياض خطي ومن زرق العداة حمي نوع التدبيج من مستخرجات ابن أبي الأصبع، وهو عبارة عن أن يذكر الناظم أو الناثر ألوانًا يقصد بها التورية والكناية بذكرها عن أشياء، من تشبيب أو مدح أو وصف أو غير ذلك من الأغراض, فمن التدبيج على طريق التورية قول الحريري، في المقامة الزورائية: فمذ اغبرّ العيش الأخضر، وازور المحبوب الأصفر، اسودّ يومي الأبيض، وابيض فودي الأسود، حتى رثا لي العدوّ الأزرق، فحبذا الموت الأحمر. ومنه، ما كتبت به جوابًا عن مولانا السلطان الملك المؤيد -رحمه الله- إلى الجناب العالي الناصري محمد بن أبي يزيد بن عثمان. فإن المجاهد الذي جعل حظ بني الأصفر، في البحر الأزرق من بيض سيوفه أسود، فأذاقهم الله به الموت الأحمر، وكمال التدبيج يقول: أهلًا بعيش أخضر يتجدد. ومن الأمثلة الشعرية في باب التدبيج قول ابن حيوس: إن ترد خبر حالهم عن يقين ... فالقهم في منازل أو نزال1 تلق بيض الوجوه سود مثار النـ ... ـقع خضر الأكناف حمر النصال ومثله قوله: ببياض عزم واحمرار صوارم ... وسواد نقع واخضرار رحاب2

_ 1 النزال: الحربْ. 2 الصوارم: السيوف. النقع: غبار الحروب.

وظريف هنا قول الشيخ زين الدين بن الوردي، من أبيات: ولي صاحب بالمدح والهجو كسبه ... يقول أتدري كيف أصنع بالخلق إذا حَمَّروا وجهي وما بيضوا يدي ... ازرقّ لهم رجلي ولو خضروا عنقي1 ويعجبني قول الشيخ عز الدين في هذا الباب: خضرة الصدغ والسواد من العيـ ... ـن بياض المشيب قد أورثاني واحمرار الدموع صفّر خدي ... كل ذا من تلونات الزمان قلت: تلونات الزمان، في باب التدبيج، غاية في الحسن. وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في التدبيج قوله: خضر المرابع حمر السمر يوم وغى ... سود الوقائع بيض الفعل والشيم2 والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم, وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته: خضر المرابع حمر البيض سوى ردى ... بيض الثنا فاستمع تدبيج وصفهم قلت: ما يليق بالشيخ عز الدين ما اعتمده في بيت الشيخ صفي الدين، من أخذ لفظه ومعناه، والحق أنه تلون في باب التدبيج على الصفي، وتحرم على الحلي: وبيت بديعيتي قولي: واخضر أسود عيشي حين دبجه ... وبياض حظي ومن زرق العداة حمي

_ 1 حَمّر الوجه: أخجل صاحبه. بيضوا يدي: بالعطاء والهدايا. أزرق لهم رجلي: أسرع لهم الخطو. 2 السمر: الرماح. المرابع: الدور وأماكن النزول.

ذكر الاقتباس

ذكر الاقتباس: وقلت يا ليت قومي يعلمون بما ... قد نلت كي يلحظوني باقتباسهم الاقتباس: هو أن يضمن المتكلم كلامه كلمة من آية، أو آية من آيات كتاب الله خاصة، هذا هو الإجماع. والاقتباس من القرآن على ثلاثة أقسام: مقبول، ومباح، ومردود. فالأول: ما كان في الخطب والمواعظ والعهود ومدح النبي -صلى الله عليه وسلم- ونحو ذلك. والثاني: ما كان في الغزل والرسائل والقصص. والثالث: على ضربين: أحدهما، ما نسبه الله تعالى إلى نفسه، ونعوذ بالله ممن ينقله إلى نفسه، كما قيل عن أحد بني مروان أنه وقّع على مطالعة فيها شكاية من عماله: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} 1 والآخر تضمين آية كريمة في معنى هزل، ونعوذ بالله من ذلك، كقول القائل: أوحى إلى عشاقه طرفه ... {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} 2 وردفه ينطق من خلفه ... {لمثل ذا فليعمل العاملون} 3 ومن الاقتباسات التي هي غير مقبولة، قول ابن النبيه في مدح الفاضل: قمت ليل الصدود إلا قليلًا ... ثم رتلت ذكركم ترتيلًا ووصلت السهاد أقبح وصل ... وهجرت الرقاد هجرًا جميلًا مسمعي كَلَّ عن سماع عذول ... حين ألقى عليه قولًا ثقيلًا وفؤادي قد كان بين ضلوعي ... أخذته الأحباب أخذًا وبيلًا4

_ 1 الغاشية: 88/ 26. 2 المؤمنون: 23/ 36. 3 الصافات: 37/ 61، مع إبدال "ذا" بـ "هذا". 4 وبيلًا: شديدًا قاسيًا.

قل لراقي الجفون إن لعيني ... في بحار الدموع سبحًا طويلًا ماس عجبًا كأنه ما رأى غصـ ... ـنًا طليحًا ولا كثيبًا مهيلا وحمى عن محبه كاس ثغر ... كان منه مزاجها زنجبيلا1 بان عني فصحت في أثر العيـ ... ـس ارحموني ومهلوهم قليلا أنا عبد للفاضل بن علي ... قد تبتلت بالثنا تبتيلا2 لا تسميه وعد بغير نوال ... {إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولا} 3 ونعوذ بالله من قوله بعد ذلك: جل عن سائر الخلائق فضلًا ... فاخترعنا في مدحه التنزيلا واعلم أن الاقتباس على نوعين: نوع لا يخرج به المقتبس عن معناه، كقول الحريري: فلم يكن إلا كلمح البصر أو أقرب، حتى أنشد فأغرب. فإن الحريري كنى به عن شدة القرب، وكذلك هو في الآية الشريفة. ونوع يخرج به المقتبس عن معناه، كقول ابن الرومي: لئن أخطأت في مدحيـ ... ـك ما أخطأت في منعي لقد أنزلت حاجاتي ... {بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} 4 فإن الشاعر كنى به عن الرجل الذي لا يرجى نفعه، والمراد به في الآية الكريمة أرض مكة، شرفها الله وعظمها. ثم اعلم أنه يجوز أن يغير لفظ المقتبس منه، بزيادة أو نقصان أو تقديم أو تأخير أو إبدال الظاهر من المضمر أو غير ذلك، فالزيادة وإبدال الظاهر من المضمر، كقول الشاعر: كان الذي خفت أن يكونا ... إنا إلى الله راجعونا فزاد الألف في راجعون على جهة الإشباع وأتى بالظاهر مكان المضمر في قوله: إنا إلى الله، ومراده آية التعزية في المصيبة، وهي قوله تعالى:

_ 1 الزنجبيل: مشروبات الروحية. وهو قريب من الخمرة. 2 تبتل: انقطع لعبادته ومنه البتول مريم التي انقطعت لعبادة ربها. 2 مفعولًا: نافذًا. وسام: طلب. و"وعد" وردت بالرفع وكان حقها النصب "وعدًا". 4 إبراهيم: 14/ 37.

{إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} 1. والنقصان ما تقدم من قول الحريري: فلم يكن إلا كلمح البصر أو أقرب، فإنه أسقط لفظة هو، إذ الآية الكريمة لفظها: {كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} 2. والتقديم والتأخير، كقول الشاعر: قال لي إن رقيبي ... سيئ الخلق فداره قلت دعني وجهك ... الجنة حفت بالمكاره هذا الاقتباس من الحديث، فإنه تقدم أن الإجماع على جواز الاقتباس من القرآن ومنهم من عد المضمن في الكلام من الحديث النبوي اقتباسًا، وزاد هنا الطيبي في الاقتباس من مسائل الفقه، والشاعر قدم في لفظ الحديث وأخر؛ لأن لفظ الحديث: "حفت الجنة بالمكاره"، ومن هنا يتبين لك قطع نظرهم في الاقتباس عن كونه نفس المقتبس منه، ولولا ذلك للزمهم الكفر في لفظ القرآن، والنقص منه، ولكنهم يأتون به على أنه لفظ القرآن، ومن أمثلته الشعرية قول الحماسي: إذا رمت عنها سلوة قال شافع ... من الحب ميعاد السلو المقابر سيبقى لها في مضمر الحب والحشا ... سرائر تبقى يوم تبلى السرائر3 ومنه: أهدى إليكم على بعد تحيته ... حيّوا بأحسن منها أو فردوها ويعجبني هنا قول ابن سنا الملك في بعض مطالعه: رحلوا فلست مسائلًا عن دارهم ... أنا باخع نفسي على آثارهم4 ومن لطائف هذا الباب قول القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر في معشوقه المسمى بالنسيم: إن كانت العشاق من أشواقهم ... جعلوا النسيم إلى الحبيب رسولا فأنا الذي أتلو لهم {يا ليتني ... كنت اتخذت مع الرسولا سبيلا} 5 ومثله في الحسن، قول شيخ شيوخ حماة المحروسة رحمه الله تعالى:

_ 1 البقرة: 2/ 156. 2 النحل: 16/ 77. 3 السرائر: الأولى: الأسرار، والثانية: النوايا أو مكان الأسرار وتبلى: تختبر وتجرّب. 4 باخع نفسه: قاهرها وقاتلها غيظًا وغمًّا. 5 الفرقان: 25/ 26. بزيادة "كنت" عليها.

يا نظرة ما جلت لي حين طلعته ... حتى انقضت وأدامتني على وجل عاتبت إنسان عيني في تسرعه ... فقال لي {خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ} 1 ومثله: إن دمعت عيني فمن أجلها ... بكى على حالي من لا بكى أوقعني إنسانها في الهوى ... يا أيها الإنسان ما غركا ومثله: قسمًا بشمس جبينه وضحاها ... ونهار مبسمه إذا جلاها وبنار خديه المشعشع نورها ... وليل ضدغيه إذا يغشاها لقد ادعيت دعاويًا في حبه ... صدقت وأفلح من بذا زكّاها فنفوس عذّالي عليه وعذّري ... قد ألهمت بفجورها تقواها فالعذر أسعدها مقيم دليله ... والعذل منبعث له أشقاها ومنه قول القاضي محيي الدين بن قرناص: إن الذين ترحلوا ... نزلوا بعين باصره أنزلتهم في مقلتي ... فإذا هم بالساهرة2 ومنه قول الشيخ جمال الدين بن نباتة، رحمه الله تعالى: وأغيد جارت في القلوب لحاظه ... وأسهرت الأجفان أجفانه الوسنى3 أجل نظرًا في حاجبيه وطرفه ... ترى السحر منه قاب قوسين أو أدنى ومنه قول الشيخ زين الدين بن الوردي، رحمه الله تعالى: رب فلاح مليح ... قال يا أهل الفتوّة كفلي أضعف خصري ... فأعينوني بقوّة4 ومنه قول المعمار: ابن الجمالي مات حقًّا ... برّح بي موته وآذى ورحت أقرأ عليه جهرًا ... {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا} 5

_ 1 الأنبياء: 21/ 37. وإنسان العين: بؤبؤها. 2 الساهرة: من الأرض المنبسطة المطمئنة، وجهها. 3 الأغيد: الفتاة التي تتمايل في مشيها "الغادة". الوسنى: الناعسة. 4 الكفل: الردف أو العجيزة. 5 مريم: 19/ 23.

ويعجبني في هذا الباب قول سيدنا الإمام القدوة، الحافظ الشيخ شهاب الدين بن حجر العسقلاني الشافعي -تغمده الله برحمته- وهو: خاض العواذل في حديث مدامعي ... لما جرى كالبحر سرعة سيره فحبسته لأصون سر هواكم ... {حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} 1 وقلت: ناحت مطوّقت الرياض وقد رأت ... تلوين دمعي بعد فرقة حبه لكن له لما سمحت تباخلت ... فغدت مطوقة بما بخلت به وهنا فائدة يتعين ذكرها في هذا الباب، وهي أن العلماء في هذا الباب قالوا: إن الشاعر لا يقتبس بل يعقد ويضمن، أما الناثر فهو الذي يقتبس كالمنشئ والخطيب، فمن ذلك قول الحريري: فطوبى لمن سمع ووعى، وحقق ما ادّعى، {ونَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} 2، وعلم أن الفائز من ارعوى، {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى، وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} 3، وقوله: {أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِْ} 4، وأميز صحيح القول من عليله. وكقول ابن نباته الخطيب في الخطب التي في ديوانه: أما أنتم بهذا الحديث تصدقون، ما لكم لا تشفقون، {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} 5. قلت: وأما عبد المؤمن الأصفهاني، صاحب أطباق الذهب، فإنه عنوان هذا الكتاب، وإمام هذا المحراب، فمن قوله في الأطباق: فمن عاين تلوين الليل والنهار لا يغتر بدهره، ومن علم أن بطن الثرى مضجعه لا يمرح على ظهره، فيا قوم لا تركضوا خيل الخيلاء في ميدان العرض، {أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ} 6. وقوله: ولو علم الجذل صولة النجار، وعضة المنشار، لما تطاول شبرًا، ولا تخايل كبرًا، وسيقول البلبل المعتقل ليتني كنت غرابًا، {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} 7، وقوله: لله تحت قباب العز طائفة ... أخفاهم في رداء الفقر إجلالا

_ 1 النساء: 4/ 140. 2 النازعات: 79/ 40. 3 النجم: 53/ 39، 40. 4 يوسف: 12/ 45. 5 الذاريات: 51/ 23. 6 الملك: 67/ 16. 7 النبأ: 78/ 40.

هم السلاطين في أطمار مسكنة ... استعيدوا من ملوك الأرض أقيالا1 هذي المكارم لا ثوبان من عدن ... خيطا قميصًا فعادا بعد أسمالا هذي المناقب لا قعبان من لبن ... شيبًا بماء فعادا بعد أبوالا2 هم الذين جبلوا براء من التكلف، {يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ} 3 وقوله أهل التسبيح والتقديس، لا يؤمنون بالتربيع والتسديس، والإنسان بعد علو النفس، يجل عن ملاحظة السعد والنحس، وإن في الدين القويم، لشغلًا عن الزيج4 والتقويم. الإيمان بالكهانة, باب من أبواب المهانة، فأعرض من الفلاسفة، وغض بصرك عن تلك الوجوه الكاسفة، فأكثرهم عبدة الطبع، وحرسة الكواكب السبع، فما للمنجم الغبي، وما للكاهن الأجنبي، وسر حُجِبَ عن غير النبي، وهل ينخدع بالفال إلا قلوب الأطفال، وإن امرأ جهل حال قومه، وما الذي يجري عليه في يومه، كيف يعرف حال الغد وبعده، ونحس الفلك وسعده، وإن قومًا يأكلون من قرصة الشمس5 لمهزولون، وإنهم عن السمع لمعزولون، ما السموات إلا مجاهل والكواكب ضواها، وما النجوم إلا هياكل سبعة ومن الله قواها، كلُّ يسري لأمر معمى، {وَكُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى} 6. وقوله: الحرص يسبل على وجوه الظلمة براقعًا، والظلم يدع الديار بلاقعًا7، يرضون طيب الحياة وينسون يوم النشور، ويفتكون فتك البزاة ويؤملون عمر النسور. فلا تغرنك من الظلمة كثرة الجيوش والأنصار، {إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ} 8. وقوله: اغتنم فودك9 الفاحم قبل أن يبيض، فإنما الدنيا جدار يريد أن ينقض، فلا يغرنك قطفها النضيج هو {غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ} 10. قوله في آخر مقالة من الأطباق: تلك أمة قد خلت ذكروا الله في الخلوات،

_ 1 الأطمار: الثياب البالية. الأقيال: جمع مفردة قيل وهو الملك العظيم. 2 المناقب: الأعمال الجليلة. قعبان: مثنى قعب وهو القدح الضخم أو وعاء الحلب. 3 البقرة: 2/ 273. 4 الزيج: خيط البناء الذي يمد على الحائط لتضبيط المداميك. 5 فرصة الشمس: عينها. 6 الرعد: 13/ 2، وفاطر: 335/ 13، والزمر: 39/ 5. 7 بلاقع: مقفرة. 8 إبراهيم: 14/ 41. 9 الفود: جانب الرأس مما يلي الأذنين إلى الأمام. الشعر الذي عليه. 10 الحد: 57/ 20.

{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} 1. وقوله: أصدق الأرواح روحان ممتزجان، وأخلص القلوب قلبان يزدوجان، يتصاحبون {قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} 2، وآخرون {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} 3. وقوله لله دره: فيا هذا لا تحسد المتنعم على ترفه، ولا تغبط المتكبر على شرفه، وقل له إذا برزت الجحيم وقدم له الحميم، {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} 4. وقوله: أليس من الخسران جزار يأكل الميت، ومكّيّ لا يزور البيت، فلا تكن كالجمل الطليح5 يحمل لغيره أسفارًا، ولأنك كـ {الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} 6. قلت: هذا القدر الذي أوردته هنا كافٍ في الاقتباسات التي تليق بمواعظ الخطب، فيتعلم بليغ الخطباء منها سلوك الأدب، ولم يبق إلا إظهار نور الاقتباس من مشكاة نور المترسلين، فإنهم ملوك هذا الشأن، ومن استضاء بسحر اقتباسهم قال: إن هذا إلا سحر مبين. "ومن ذلك" قول مالك أزمة هذا الفن القاضي الفاضل من تقريظ ورأيت كل معتاض غيره لصناعة البديع لاهجًا بالبدعة خارجًا عن الشرعة، دارجًا في غير عشه، مخرجًا ميت القول من طرسه على نعشه، فهي المدام وما دون فهم عنها قدام، ووفود بلاغة لو وجهت إلى الجنة لقال رضوانها: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ} 7 وكل ابنة فكر ما طالعت فكره إلا صاح لسان طربه: {يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ} 8 وكل غصن ألف وكل همزة حمام، وفيها وفيها، وأخاف أن أقول ولا أوفيها، وليت هذه المحاسن وليت الأسماع، وألقت القناع، وفي العمر مستمتع، وفي قوس الشبيبة منزع، ولكن ضاق فتر عن مسير، وجاء فضلها الأوَّل في الزمن الأخير، وقد حان أن تخيب في البلاغة القدحان9، وأنى وإنه {قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} 10. وقوله: لا زالت الملوك تنزل لركوبه، والسيوف تضحك لقطوبه، وأسبغ عليه نعمه باطنة وظاهرة، وكتب له في الدنيا حسنة وفي الآخرة، وغض عيون أعدائه فإذا هم

_ 1 مريم: 19/ 59. 2 آل عمران: 3/ 191. 3 آل عمران: 3/ 167. 4 الدخان: 44/ 59. 5 الطليح: المهزول المجهود. 6 الجمعة: 62/ 5. 7 الحجر: 15/ 46. 8 يوسف: 12/ 19. 9 القدحان: جمع مفرده قدح وهو ما كان يستقسم به أو قَدَح: وهو الإناء. 10 يوسف: 12/ 41.

بالساهرة1. وقوله: وقف الخادم على الكتاب فارتقى إلى سماء المكرمات وكانت سطوره درجا، وأضاءت في خاطره فما استمدت مدادًا ولكن أذكت سرجًا، ونهجت له طريق السعادة فللَّه من كتاب لولا الغلو لقلنا من كتاب {لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} 2. وقوله: ورد على الخادم الكتاب الكريم فشكره وقربه نجيا ورفعه مكانًا عليا، وأعاد عليه عصر الشباب وقد بلغ من الكبر عتيا. وقوله: كتبها الخادم وقد أخرجت السماء أثقالها، وفتحت من العز إليَّ أقفالها، وركضت الرعود لابسة من الغيم جلالها، وثوب الليل بالغمام غسيل، وسبج3 الظلام بسيف البروق قتيل. وقد زادت السيول إلى أن صارت الخيام عليها فواقع، وهمهم الرعد قارئًا فاستقبلت قبابها بين ساجد وراكع، وكأن الصباح قد ذاب في الليل قطرا، وكأن البرق لما ساوى الغمام بين صدفي الليل والنهار قال: آتوني أفرغ عليه قطرا. وقوله: ونفذت بلاغته بسلطانها، ونفثت بسحر بيانها، وصلى القلم من يده في محراب، ومن طرسه على سجادة وجاء منه كتاب، لو كان البحر مدادًا لما زاده، وكم كتاب لا يساوي مداده و {أَخَذَتْ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا} 4 وحملت من الأسلحة أحرفها، وشنت الغارة على السمع والبصر، فسلم لها من سلم وبهت الذي كفر. وقوله: النوبة البغدادية الحديث فيها زائد وناقص، والخبر عنها مشوب وخالص، وابن أبي عصرون قوم يقولون قد وزر، ويوم يقولون كلا لا وزر. وقوله: وقفت على تلك الألفاظ المجنسة التي هي ذرية بعضها من بعض، وثمرات الجنة فكلما رزقت منها رزقًا قلت كقول أهلها: الحمد لله الذي أورثنا الأرض. وقوله: ومما يجب أن يعانيه تربية الحمام التي سكنت في البروج فهي أنجم، وأعدت كنانتها للحاجات فهي أسهم، وقد كادت أن تكون من الملائكة فإذا نيطت بها الرقاع، صارت أولى أجنحة مثنى وثلاث ورباع. وقوله: وعملوا الأبرجة الخشبية، وزحفوا بها إلى الأبراج الحجرية، وخصوصًا إلى برج يعرف بالذباب، ولكن حماه ذباب السيف الإسلامي من الذباب، فلم يقدروا أن يستنقذوه، وضعفوا عنه فسلبهم أرواحهم {وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ} 5. وقوله: والإسلام مد إلى ترابه باعًا طويلًا، ألقى عليه الشرك من ألسنة السيوف قولًا ثقيلًا، وحصون العدوّ قامت قيامتها فحالها اليوم كيوم

_ 1 الساهرة: الأرض المنبسطة المطمئنة. وجهها. 2 الكهف: 18/ 1. 3 السيج: نوع من الخرز أسود اللون، وسبج الليل وسواده. 4 يونس: 10/ 24. 5 الحج: 22/ 73.

تكون الجبال كثيبًا مهيلًا. وقوله، مما كتب به عن السلطان الملك الناصر إلى أمير المؤمنين المستضيء بالله، وهو: سلام قولًا من رب رحيم و {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ} 1، مملوك العتبات الشريفة وعبدها، ومن اشتمل على خاطره ولاؤها وودها، ينهى أن الله سبحانه شرف ملة الإسلام على الملل، ودولة أمير المؤمنين على الدول، وقد أقام سيفه حسان الكفرة فأظهر تحريف حسابها، ونقلها من ظهور أسرتها إلى بطون ترابها، فهل ترى لهم من باقية، أو تسمع لهم من لاغية، وظلت أقحاف بني حام تحت غربان الفلاة غربانًا، وشوهدت ظلمات بعضها فوق بعض أفعالًا وألوانًا. وعزّت سيوف الإسلام فظلت أعناقهم لها خاضعين، وعوتبت منهم الأنفس والرءوس فقالتا أتينا طائعين. ومن اقتباسات القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر البديعة، قوله, من رسالته التي كتبها عن السلطان الملك الظاهر إلى شمس الدين آق سنقر الفارقاني، جوابًا عن كتابه الذي أرسله بفتوح النوبة، لما توجه إليها من الديار المصرية، "وهو": أدام الله نعمة المجلس ولا زالت عزائمه مرهوبة، وغنائمه مجلوبة ومحبوبة، وسطاه وخطاه هذي تكفي النوب2 وهذه تفتح أرض النوبة، ولا برحت وطأته على الكفار مشتدة، وآمالها لهلاك الأعداء كرماحه ممتدة، ولا عدمت الدولة بيض سيوفه التي يرى بها الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة. صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس تثني على عزائمه التي دلت على كل أمر رشيد، وأتت على كل جبار عنيد، وحكمت بعدل السيف في كل عبد سوء {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} 3 والله يشكر تفاصيل همم المجلس وجملها, وآخر غزواته وأولها, وإذا انسلخ نهار سيفه من ليل هذا العدو يعود سالِمًا إلى مستقره، {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} 4. وقوله: في وصية العهد الشريف الذي أنشأه السلطان الملك الأشرف صلاح الدين خليل، عن والده الملك المنصور قلاوون الصالحي -رحمه الله- وهو: والشرع الشريف هو قانون الحق المتبع، ومأمون الأمر المستمع، به يتمسك من يمتار5 ويمتاز، وهو جنة والباطل نار، فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز. "ومن ذلك" اقتباس العلامة أبي طاهر إسماعيل بن عبد الرزاق الأصفهاني، في

_ 1 الواقعة: 56/ 89. 2 النوب: الكوارث والمصائب. 3 فصلت: 41/ 46. 4 يس: 36/ 38. 5 امتارَ: وامترى: شكَ وجادل.

رسالة القوس وهو صورة مركبة، وليس لها من تركيب النظم، إلا ما حملت ظهورها أو الحوايا أو ما اختلط بعظم. "ومن ذلك" ما أورده الشيخ جمال الدين بن نباته من الاقتباسات البديعية، في رسالة السيف والقلم، فرقى الأنامل على أعواده وقام خطيبًا بمحاسنه في خلعة سواده، والتفت إلى السيف فقال: {بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ، ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ، مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} 1. الحمد لله الذي علم بالقلم، وشرفه بالقسم، وخط به ما قدر وقسم، وصلى الله على سيدنا محمد القائل: "جف القلم بما هو كائن"، وعلى آله وصحبه ذوي المجد البين وكل مجد بائن، صلاة واضحة السطور، فاتحة أدراج الصدور، ما نقلت عن صحائف البحار غواديها، كتبت أقلام النور على مهارق الرياض حكمة باريها. أما بعد: فإن القلم منار الدين والدنيا، وقصبة سباق ذوي الدرجة العليا، ومفتاح باب اليمن المجرب إذا أعيى، وسفير الملك المحجب، وعذيق الملك المرجب2، وزمام أموره السائرة، وقادمة أجنحته الطائرة، وأنملة الهدى المشيرة إلى ذخائر الدنيا والآخرة، به رقم كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل، وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- التي تهذب الخواطر والخواطل3. فبينه وبين من يفاخره الكتاب والسنة، وحسبه ما جرى على يده الشريفة من منّه، إن نظمت فرائد العلوم فالقلم سلكها، وإن علت أسرة الكتب فإنما هو ملكها. هذا، وهو الجاري بما أمر الله به من العدل والإحسان، والمسود الناظر فكأنما هو ملكها. هذا، إنسان، طالما قاتل على البعد والصوارم في القرب، وأوتي من العجزات نوعًا من النصر والرعب، لا يعاديه إلا من سفه نفسه، ولبس لبسه، وطبع على قلبه، وفل الجدال من غربه، وكيف يعادي من إذا كرع من نفسه4. فقل: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} 5 وإذا ذكر شانئه فقل: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} 6. فعند ذلك نهض السيف عجلًا، وتلمظ لسانه للقول مرتجلًا، وقال: {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ ... وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} 7.

_ 1 القلم: 68/ 1، 2. 2 العذيق: الذكي اللبق. والمرجّب: المبجّل، المعظم والمهيب. 3 الخواطل: جمع خاطل من الخطل وهو خطأ الرأي، والخواطر بمعنى الآراء. 4 النقس: المِداد. 5 الكوثر: 108/ 3. 6 الكوثر: 108/ 1. 7 الحديد: 57/ 25.

الحمد لله الذي جعل الجنة تحت ظلال السيوف، وشرع حدها في ذوي العصيان فأغصتهم بماء الحتوف، وشيد بها مراتب الذين يقاتلون في سبيله صفًّا، كأنهم بنيان مرصوص وعقد مرصوف، صلى الله سيدنا محمد هازم الألوف، وعلى آله وأصحابه الذين طالما محوا بريق الصوارم من سطور الصفوف، وسلم. أما بعد فإن السيف زند الحق القوي وزنده الوري، به أظهر الله الإسلام وقد جنح خفاء، وجلا شخص الدين الحنيفي وقد جمح جفاء، وأجرى سيوله بالأباطح فأما الحق فمكث وأما الباطل فذهب جفاء، وحملته اليد الشريفة النبوية، وخصته على الأقلام بهذه المزية، وأطلعته في ليالي النقع1 والشك سراجًا وهاجًا، وفتح باب الدين إلى أن دخلت فيه الناس أفواجًا، فهو ذو العزم الثاقب، وسماء المجد الذي زينت آثاره بزينة الكواكب، والحد الذي كأنه ماء دافق يخرح من بين الصلب والترائب، تحسم به أدواء الفتن المضلة، وتحذف هممه الجازمة حروف العلة، ويحيا من سماء القتام بالضرب فقل: يسألونك عن الأهلة، يجلس على رءوس الأعداء قهرًا، ويصرع أبناء الشجاعة قائلًا للقلم: ذلك تأويل ما لم تستطع عليه صبرًا. وهل يفاخر من وقف الموت على بابه وعضت الحرب الضروس بنابه، وقذف شياطين القراع بشهبه، ومنح آيات شريفة منها طلوع الشمس من غربه، ومنها أن الله أنشأ برقه، وكان للمارد مصرعا، وللرائد مرتعا، {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمْ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا} 2 فقام القلم في دواته وقعد، واضطرب على وجه القرطاس وارتعد، وانحرف إلى السيف وقال أيها المضر بطبعه، المغر بلمعه، الناقض حبل الأنس بقطعه، الناسخ بهجيره من ظلال العيش فيأ السراب الذي {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} ، الحبيس الذي طالما عادت عليه عوائد شره الكمين، الإبليس الذي لو أمر لي بالسجود لقال: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} 3، فاقطع عنك أسباب المفاخرة واستر من نابك في هذه المكاشرة، فما يحسن بالصامت محاورة المفصح، والله يعلم المفسد من المصلح، أولست الذي قيل فيه: شيخ يرى الصلوات الخمس نافلة ... ويستحل دم الحجاج في الحرم؟! فدع عنك هذا الفخر المديد، وتأمل قدري إذا كشف عنك الغطاء {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} 4.

_ 1 النقع: الغبار الذي يحجب الرؤية. 2 الروم: 30/ 24. 3 الأعراف: 7/ 12. 4 حديد: قوي جدًّا. ق: 50/ 22.

قلت: لولا خشية الإطالة لأوردت هنا رسالة السيف والقلم بكمالها، ولكن في هذا القدر من نور اقتباسه ما يهتدي به الأعشى، ويستغني بإنشائه عن سلافة الإنشا. ومن غريب اقتباسات الشيخ جمال الدين أيضًا، ما كتب به مع منقد نحاس، "وهو قوله فيه": طالما حمدت معاشرته ولذت في الليالي مسامرته، وأطلع من أفقه نجومًا سعيدة القران، وتلا على الريح والثلج {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنتَصِرَانِ} 1. "ومن ذلك" بديع الاقتباس للشيخ زين الدين بن الوردي في خطبته في الكلام على المائة غلام. "وهو": لعمري ما أنصفني من أساء بي الظن، وقال إني رضيت مع درجة العلم بهذا الفن، والصحابة كانوا ينظمون وينثرون، ونعوذ بالله من قوم لا يشعرون. "ومن ذلك" قوله في توقيع عدالة بعض الشهود بحلب المحروسة، "وهو": الحمد لله الذي شاد رتبة العدالة وحماها، وجعلها همة من شرفت نفسه فزكت {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} 2 وعصمة من فرقة في قلوب الحكام من نار تدليسهم وقود، {وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} 3. "ومن ذلك" ما كتب به عنه وعن أخيه يوسف: وإذا عني الصاحب بالأخ رفقًا وإحسانًا، تلونا {هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا} 4، والله يعلينا بعلوك، ويبلغنا مرجونا ببلوغ مرجوك، حتى يقول أولاد الصاحب عنا {لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا} 5. "ومن ذلك" ما كتب به بقية السلف، الشيخ زين الدين أبو بكر العجمي، على قصيدتي الكافية البرهانية، تقريظًا أشرفت أقطار الأدب بنور اقتباسه، والاقتباس في التقريظ: فيا له من قصيد رد عيون أعيان هذه الصناعة من الحياء مطرقة، تالية على من قاسها بامرئ القيس {فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} 6. "ومن ذلك" ما كتب به الشيخ برهان الدين القيراطي إلى الشيخ جمال الدين بن نباته: يقبل الأرض التي سقت السماء نباتها، وعمر الله بمعانى الحسن أبياتها. "منها": فلا غرو أن فصح بديع الزمان بلفظه البديع، وأزهرت الأوراق بمنثور رسائله التي كل فصل منها ربيع، وخجلت صفحة الخد المنمنمة بطراز العذار المرقوم، وقالت الكئوس حين شبهت في إمالة الأعطاف بألفاظه وما منا إلا له مقام معلوم. "ومنها":

_ 1 الرحمن: 55/ 35. 2 الشمس: 91/ 9. 3 البروج: 85/ 7. 4 يوسف: 12/ 65. 5 يوسف: 12/ 8. 6 النساء: 4/ 129.

فسبحان من أسرى بها في ليل نقسها إلى المحل الأقصى، وحباها بالفضل الذي لا يحصى، وأنبت دوحتها في رياض الفصاحة، ونمق حدائقها التي لو فتح النرجس عينه في عينها لنسب إلى الوقاحة. فتبارك الذي جعل في سماء دوحته لشمس بلاغته بروجًا، وأعلى هممه التي لا ترضى الشهب جيادًا والأهلة سروجًا، حتى أقام يراع قلمه لسوق الأدب قصبه، وشاد من قصائده كل بيت إذا مر الحاسد ببابه قبل العتبة، وسارت كالسبعة السيارة مصنفاته، وعلت من قصره المشيد بسينات سطوره شرفاته، وفديت بالمباسم والقدود ميماته وألفاته، وزهت أمداحه المؤيدية فأصبت بيوته المرفوعة ذات العماد، وراقت محاسنها التي لم يخلق مثلها في البلاد، وفضحت لسهلها الممتنع أدباء العصر الذين جابوا الصخر بالواد. "ومنها": طالما سرح الناظر في بستانها منظره، ورام ابن سكرة فتح الأبواب لمعارضة قطرها النباتي فوجدوها مسكره، وعلم المتنبي أن هذا خاتم الأدباء لا محالة، والمترسل الذي نهض دونه بأعباء كل رسالة، وأقام بتقديمها على غيرها براهين الاحتجاج، وقال الملحي عندما قابل بحرها الحلو ببحره {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} 1. ومن ذلك ما نقلته من خط الصاحب فخر الدين بن مكانس، تغمده الله برحمته "وهو": ورد علينا شخص من أهل القيروان ضرير، يسمى عبد الله الزغبي يتعاطى نظم الشعر المقفى الموزون الخالي عن المعاني، فتردد إلَيَّ في مجالس متفرقة، ثم بلغني أنه وشى إلى صاحبنا الشيخ زين الدين بن أبي بكر العجمي، عين كتاب الإنشاء الشريف، أني اهتضمت جانبه، وانتقصته وغضيت منه بالنسبة إلى الأدب، وأنه يستعين بكلام غيره كثيرًا فتأذى من ذلك. وتأذيت من كذب الناقل، فكتبت: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ} 2 بلغني، بلغ الله سيدنا ومولانا الإمام العالم العلامة الأديب الشاعر الناظم الناثر المحقق الأمة الكاتب الحجة زين الدنيا والدين هرة عين الكرام والكاتبين، أقصى ما ينتهي إليه تنافس المتنافس، وتبتهج به صدور الأولياء والرؤساء والمجالس، ولا زال زينة يحلى به العاطل، ويظل تحت جناح أدبه القائل، من غيبة ذلك الضرير، ما لا خشي الله فيه بظهر الغيب، ونقل إلى المسامع الكريمة ما لا يحتاج للاعتذار عنه لما فيه من الريب، ولكن لا غناء لسيف ذهن المملوك الكليل من التنصل، ولا بد من نهلة اعتذار على سبيل التعلل. وكان المملوك يترقب سببًا للمطارحة، فهذا المغتاب الآن صار عنده محمودًا، إذ كان السبب لحسن التوسل إلى صناعة الترسل. "ومنها" فلو اختلف الأدباء على إمام لأهل هذه

_ 1 فاطر: 35/ 12. 2 النور: 24/ 61.

الصناعة مطهر من الأرجاس، لقال لهم لسان البلاغة مروا أبا بكر فليصل بالناس، وكيف يسوغ للمملوك أن يدعي غير هذا، وكيف ولِمَ ولماذا؟ أحسدًا على الأدب فما أهجرني له من عصر الصبا بحمد الله وما أغناني، أو تفاخرًا بالنظم فما أشغلني عنه بتدبير الممالك بما عناني. نعم, وإن كان جوهر الألفاظ مما يحسد عليه فما أزهدني والله في هذا العرض الفاني. "ومنها" والمسئول من إحسانه أمران: الجواب فإنه يقوم عند المملوك مقام الفرج من هذه الشدة، والآخر رد كل فاسق عن الباب العالي فإن أبا بكر أول من تصلب في الرِدَّة1. وبلغ المملوك أن هذا الضرير قصد بعض الأصحاب برمية كهذه فأصمى، وتردد إليه مرة أخرى فـ {عَبَسَ وَتَوَلَّى، أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى} 2. "ومن ذلك" ما كتبت به إلى المقر الصاحبي الفخر المشار إليه بعد توجهي من خدمته إلى دمشق المحروسة، ومشاهدتي ما قدر الله عليها من الحريق والحصار من قبل الملك الظاهر، سنة إحدى وتسعين وسبعمائة. وهذه الرسالة التي سارت بها الركبان، وجاء لبديع الاقتباس في معانيها بيان، "وهي": يقبل الأرض التي من يممها أو تيمم ترابها حصل له الفخر والمجد، فلا برح هيام الوفود إلى أبوابها أكثر من هيمان العرب إلى ربا نجد، ولا زالت فحول الشعراء تطلق أعنة ألفاظها، وتركض في ذلك المضمار، وتهيم بواديها الذي يجب أن ترفع فيه على أعمدة المدائح بيوت الأشعار، وينهى بعد أشواق أمست العين بها في مجاري العين معثرة، ولو لم يقر إنسانها بمرسلات الدمع لقلت في حقه {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} 3 وصول المملوك إلى دمشق المحروسة فيا ليته قبض قبل أن يكتب عليه ذلك الوصول، ودخوله إليها والله لقد تمنى خروج الروح عند ذلك الدخول. "ومنها": وتطرقت بعد ذلك إلى الحدادين ولقد نادتهم النار بلسانها من مكان بعيد {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} 4. لقد كان يوم حريقها يومًا عبوسًا قمطريرًا، ضج المسلمون فيه من الخيفة وقد رأوا سلاسل وأغلالًا وسعيرًا. يا مولاي لقد لبست دمشق في هذه المآتم السواد، وطبخت قلوب أهلها وسلقوا من الأسنة بألسنة حداد، ولقد نشفت عيونهم من الحريق واستنشقوا فلم ينشقوا رائحة الغادية، وكم رؤي في ذلك اليوم {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ، عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ، تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} 5، وكم رجل تلا عند لهيب بيته: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} 6 وخرج هاربًا، وامرأته حمالة الحطب.

_ 1 الرّدّة: الارتداد عن الدين. 2 عبس: 80/ 2. 3 عبس: 80/ 17. 4 الكهف: 18/ 96. 5 الغاشية: 88/ 2-4. 6 المسد: 111/ 1.

"ومنها": ونظرت بعد ذلك إلى القلعة المحروسة، وقد قامت قيامة حربها حتى قلنا: {أَزِفَتْ الآزِفَةُ} 1 وستروا بروجها من الطارق بتلك الستائر وهم يقولون {لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} 1. "ومنها": وتطاول إلى السور المشرف، وقد فضل في علم الحرب وحفظ أبوابه المقفلات، فما وقفنا على باب إلا وجدناه لم يترك خلفه لصاحب المفتاح تلخيصًا لما أبداه من المشكلات، فلا وأبيك لو نظرته يوم الحرب وقد تصاعدت فيه أنفاس الرجال، لقلت ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد، وإلى المحاصرين وقد جاءوا فارسًا وراجلًا ليشهدوا القتال لقلت: {كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} 2، وإلى كواكب الأسنة وقد انتثرت وإلى قبور الشهداء وهي تحت أرجل الخيل قد بعثرت، وإلى كر الفوارس وفرها لقلت: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} 3. "ومنها": وتصفحت بعد ذلك فاتحة باب النصر فعوذته بالإخلاص4 وزدت الله شكرًا وحمدًا، وتأملت أهل الباب وهم يتلون لأهل البلد سورة الفتح وللمحاصرين {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا} 5 وكم طلبوا فتحه ولم يجدوا لهم طاقة وضرب بينهم بسور له باب {بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} 6. "ومنها": هذا وكم من مؤمن قوم خرج من دياره حذر الموت وهو يقول النجاة وطلب الفرار، وكلما دعاه قوم لمساعدتهم على الحريق ناداهم وقد عدم الاصطبار: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} 7. "ومنها": فأعيذ ما بقي من السبعة بالسبع المثاني والقرآن العظيم، فكم رأينا بها يعقوب حزن رأي سواد بيته فاصفر لونه {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} 8. "ومنها": وتوصلت إلى ظاهر كيسان، فأنفقت كيس الصبر لما افتقرت من دنانير تلك الأزهار والدراهم رباها، وكابرت إلى أطراف الباب الصغير فوجدت فاضل النار لم يغادر منها {صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا} 9. "ومنها": هذا وكم خائف قبل اليوم آويناه بها إلى ربوة ذات قرار، وكم كان بها مطرب طير خرج بعدما كان يطرب على عود وطار.

_ 1 النجم: 53/ 57، 58. 2 ق: 50/ 21. 3 الانفطار: 82/ 5. 4 الإخلاص: من سور القرآن الكريم، وتسمى: التوحيد والصمد. 5 يس: 36/ 9. 6 الحديد: 57/ 13. 7 غافر: 40/ 41. 8 يوسف: 12/ 84. 9 الكهف: 18/ 49.

وأوضحت أوقات الربوة بعد ذلك العيش الخضل واليسر عسيرة، لقد كان أهلها في ظل ممدود {وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ، وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ} 1. ومن ذلك، ما أنشأته قديمًا في توقيع لمولانا قاضي القضاة، علاء الدين عالم المسلمين، أبي الحسن علي الحنبلي -جمل الله الوجود بوجوده- بنظر البيمارستان2 النوري بحماة المحروسة. والذي أوردته في التوقيع، من الاقتباسات البديعة, قولي: وصفت مشارب الصفا بعد الكدر {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} 3 وتلا من سعى لهم في ذلك وجزى بالخيرات، إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورًا، ودار شرب العافية على أهل تلك الحضرة بالطاس والكاس، وحصل لهم البرء من تلك البراني4 التي يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس، وتمشت الصحة في مفاصل ضعفائه وقيل لهم: جوزيتم بما صبرتم، وامتدت مقاصيرهم {وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ} 5. "ومن ذلك"، ما اقتبسته في ديباجة عهد مولانا أمير المؤمنين المعتضد بالله، زاده الله شرفًا وتعظيمًا، وهو: الحمد لله الذي شد عضد هذه الأمة بمن أمسى به معتضدا، وأسعفنا من البيت النبوي بخليفة ما برح شيخ الملوك في تقديم بيته الشريف مجتهدًا، وأقام العلم العباسي بعد أبي مسلم بأبي النصر فأكرم بحسن الختام وحسن الابتدا، وتكرر حمده على سلطان مؤيد أتحف به العلماء الأعلام، وظهر لجلالهم في أيامه الزاهرة بهجة فقال: هذا زمان مشايخ الإسلام، ونحمده على حكمته التي اقتضت أن تكون الخلافة عمدة الأحكام يزول بها الالتباس، وهو القائل تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ} 6. "من ذلك" ما اقتبسته في عهد مولانا السلطان الملك الظاهر ططر، بقولي منه: فإن البغاة لاحتجاب السلطنة عنه سدا أسسته على الطغيان، فقيل لأهل البيعة: قد فتح الله لأبي الفتح {فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ} 7.

_ 1 الواقعة: 56/ 32. 2 البيمارستان: فارسية معرّبة بمعنى العيادة والمستشفى. 3 الإنسان: 76/ 21. 4 البراني: جمع مفرده برينة وهي إناء من فخار. 5 الزمر: 39/ 73. 6 سورة ص: 38/ 26. 7 الرحمن: 55/ 33.

"من ذلك"، ما اقتبسته في مثال شريف مؤيدي، كان جوابًا لقرا يوسف: وتبدّى لعلمه الشريف ورود البشير بالقرب اليوسفي، وقل حل بالأسماع قبل رؤيته تشنف، وهبت نسمات قبوله فأطفأت ما في القلوب من التلهف، وضاع نشرها اليوسفي فقال شوقنا اليعقوبي {إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} 1 وهذه ألفة خولتنا في نعم الله وزمام الأخوة منقاد إلينا، وقد تعين على المقر أن يقول: {أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} 2. "واتفق لي" في تقليد قاضي القضاة، ولي الدين العراقي اقتباسات بديعية "منها": وكم قال هذا المنصب رب قد أضعفني اليتم وصار الباطل قويًّا فهب لي من لدنك وليًّا. "ومنها": وأعاذنا الله من ولاية قوم يسمعون بينة الحق وإذا اجتمعوا على الرشوات، تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات. "ومن ذلك"، ما كتبته على ديوان المقر البارعي الكاملي الأديبي العماد ي، إسماعيل بن الصائغ الحلبي، أحد الأعيان كتاب الإنشاء الشريف الذي عارض به ديوان الصبابة، للشيخ شهاب الدين بن أبي حجلة -رحمه الله- وهو: وقفت على هذا الكتاب الذي رفع عماد الأدب في هذا الجيل، وشرعت في ذكر محاسنه فقال لسان القلم واذكر في الكتاب إسماعيل. "ومنه": وأما ابن حجة فقد ندب إلى الواقعة على عرفات هذا الفضل المعروف، والامتثال هنا واجب ولكن الكف صفر والطريق مخوف. هذا وقد ذوت من حدائق فكري زهرة الشباب، واختفى لساني كما قال ابن نباتة وأغلق عليه من شفتيه مصراعي باب، وخمد جمر القريحة وجمد ذلك الذهن السيال، ونأى عن خدمتي كافور الطروس وعنبر المداد وصواب المقال، ولكن هبت علَيَّ نسمات الشبيبة من دوحة هذا المصنف الجليل، فقلت وقد شبت نار القريحة وأملت عليَّ هذا الوصف الجميل: الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل. وهذا القدر الذي أوردته كافٍ هنا في الاقتباس من القرآن، فإني أخشى باب الملالة، ولكن عنَّ لي أن أفرد كتابًا وأسميه: "رفع الالتباس عن بديع الاقتباس"، وقد تقدم وتقرر أيضًا أنه إن جاء في المنظوم فهو عقد وتضمين، وإن كان في المنثور فهو اقتباس. وقد أوسع بعض علماء هذا الفن المجال في ذلك، فذكر أن الاقتباس يكون في مسائل الفقه، وقال بعضهم: إذا قلنا بذلك فلا معنى للاقتصار على مسائل الفقه، بل يكون في غيره من العلوم. وعلى هذا التقدير تعين أن نورد هنا ما وقع من الاقتباس في الحديث

_ 1 يوسف: 12/ 94. 2 يوسف: 12/ 90.

النبوي وبقية العلوم، بحيث لا يخلو هذا الشرح الغريب من الغرائب، فإن الظاهر من كلامهم أن الاقتباس مقصور على القرآن والحديث. فمما وقع من الحديث النبوي قول الصاحب بن عباد: أقول وقد رأيت له سحابا ... من الهجران مقبلة إلينا وقد سحت غواديها بهطل ... حوالينا الصدود ولا علينا الصاحب اقتبس من قوله عليه الصلاة والسلام، حين استسقى وحصل نزول مطر عظيم: "اللهم حوالينا ولا علينا". "ومنه" قول أبي الحسن علي بن المفرج المنجم، لما احترقت دار الوجيه بن صورة بمصر: أقول وقد عاينت دار ابن صورة ... وللنار فيها مارج يتضرم1 كذا كل مال أصله من نهاوش ... فعما قليل في نهاير يعدم2 وما هو إلا كافر طال عمره ... فجاءته لما استبطأته جهنم اقتبس من قوله صلى الله عليه وسلم: "من أصاب مالًا من نهاوش أهلكه الله في نهابر". النهاوش: بالنون المظالم. والنهابر: المهالك، الواحد نهبور. "ومنه" قول شمس الدين محمد بن عبد الكريم الموصلي: ومنكر قتل شهيد الهوى ... ووجهه ينبئ عن حاله اللون لون الدم من خده ... والريح ريح المسك من خاله اقتبس من قوله صلى الله عليه وسلم، في وصف دم الشهيد: "اللون لون الدم، والريح ريح المسك". ومن اقتباسات الحديث في النثر، قول الحريري في المقامات: إنما الأعمال بالنيات، وبها انعقاد العقود الدينيات. ومنه قوله: شاهت3 الوجوه. وقبح اللكع4 ومن يرجوه. اقتبس من قوله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، وقد رمى الكفار بكف من الحصى: "شاهت الوجوه".

_ 1 المارج: الشعلة. يتضرم: يلتهب. 2 النهاوش: المظالم. النهابر: جمع مفرده نُهبُرة وهي الحفرة بين الآكام. 3 شاهت الوجوه: قبحت. 4 اللكع: اللئيم الخسيس.

ويعجبني من المنظوم، هنا، قول الشيخ شهاب الدين أبي جعفر بن مالك الأندلسي الغرناطي: لا تعاد الناس في أوطانهم ... قلما يرعى غريب في الوطن وإذا ما شئت عيشًا بينهم ... خالق الناس بخلق ذي حسن اقتبس من قوله صلى الله عليه وسلم، لأبي ذر: "اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن". وهذا الحديث صحيح. ومن الاقتباس في مسائل الفقه، في المنظوم، قول بعضهم: أقول لشادن في الحسن أضحى ... يصيد بلحظه قلب الكمي1 ملكت الحسن أجمع في نصاب ... فأدر زكاة منظرك البهي فقال أبو حنيفة لي إمام ... يرى أن لا زكاة على الصبي وإن تك مالكيّ الرأي أو من ... يرى رأي الإمام الشافعي فلأنك طالبًا مني زكاة ... فإخراج الزكاة على الولي ومثله قول أبي العلاء، أحمد بن سليمان المعري: أيا جارة البيت الممنع جاره ... غدوت ومن لي عندكم بمقيل لغيري زكاة من جمال فإن تكن ... زكاة جمال فاذكري ابن سبيل ومما ينسب إلى الإمام الشافعي رحمه الله: خذوا بدمي هذا الغزال فإنه ... رماني بسهمَيْ مقلتيه على عمد ولا تقتلوه إنني أنا عبده ... وفي مذهبي لا يقتل الحر بالعبد ومنه قول القاضي عبد الوهاب المالكي: يزرع وردًا ناضرًا ناظري ... في وجنة كالقمر الطالع فلم حرمتم شفتي قطفها ... والحكم أن الزرع للزارع وله أيضًا: ونائمة قبلتها فتنبهت ... وقالت تعالوا فاطلبوا اللص بالحدّ2 فقلت لها إني فديتك غاصبّ ... وما حكموا في غاصبٍ بسوى الرد3

_ 1 الشادن: الغزال تشبه به الحسناء. اللحظ: النظر. الكمي: الشجاع. 2 الحدّ: قصاص معلوم وهو القصاص الشرعي، منه حدّ الزنا وحدّ السرقة. 3 الردّ: إرجاع المغضوب وهو المأخوذ عنوة وبالقوة.

ومنه قول أبي الطيب المتنبي: بليت بلى الأطلال إن لم أقف بها ... وقوف شحيح ضاع في الترب خاتمه قفي تغرمي الأولى من اللحظ مهجتي ... بثانية والمتلف الشيء غارمه1 المعنى أن النظرة الأولى أتلفت مهجتي، فلزم غرمها بنظرة ثانية؛ لأنه من أتلف شيئًا حكم عليه بغرمه، ولكن في التركيب قلق وعقادة. "ومنه": قول شمس الدين محمد بن جابر الأندلسي رحمه الله تعالى: طلبت زكاة الحسن منها فجاوبت ... إليك فهذا ليس تدركه مني عليَّ ديون للعيون فلا ترم ... زكاة فإن الدين يسقطها عني ومنه قول الشيخ صدر الدين بن الوكيل: يا سيدي إن جرى من مدمعي دمي ... للعين والقلب مسفوح ومسفوك لا تخش من قود يقتص منك به ... فالعين جارية والقلب مملوك2 ومن الاقتباسات في علم المنطق، قول شمس الدين محمد بن العفيف التلمساني: للمنطقيين أشتكي أبدًا ... عين رقيب فليته هجعا صادرها من أحبه فأبى ... أن نختلي ساعة ونجتمعا كيف غدت دائمًا وما انفصلت ... مانعة الجمع والخلو معا وهذه الأبيات في غاية الحسن، ولكن أورد بعضهم إيرادًا وقال: ظاهر كلامه التعجب من هذه القضية، والمراد في مثل هذا أن يتعجب مما خرج عن القواعد, وهذه القضية موجودة مستعملة، وذلك قولهم: العدد إما زوج وإما فرد، فهذه القضية مانعة الجمع فإن الزوجية والفردية لا يجتمعان، ومانعة الخلو فإن العدد لا يخلو من أحدهما، فلا معنى للتعجب. ومنه قول بعضهم: مقدمات الرقيب كيف غدت ... عند لقاء الحبيب متصلة تمنعنا الجمع والخلو معا ... وإنما ذاك حكم منفصله

_ 1 غارم: كافل ضامن. والمتلف: المفسد. 2 القود: الثأر، والقصاص.

هذا تعجب مما يسوغ التعجب منه؛ لأن منع الجمع لا يكون في المتصلة؛ وإنما هو في حكم المنفصلة. وأما الاقتباس، في علم الجدل، فمنه قول شمس الدين بن العفيف: وما بال برهان العذار مسلمًا ... ويلزمه دور وفيه تسلسل وعندي أن الشمس بالصحو آذنت ... وسكري أراه من محياك يقبل وأما الاقتباس، من علم النحو، فقد اتسع مجالهم فيه، حتى غلب على غالبهم التوجيه، فمنه قول أبي الطيب: حولي بكل مكان منهم حلق ... تخطي إذا جئت في استفهامها بمن أبو الطيب يقول إذا استفهمت عن مثل هؤلاء الأقوام لا تستفهم بمن لأن من لمن بعقل وهؤلاء عندي بمنزلة ما لا يعقل، فحقهم أن يستفهم عنهم بما. ومنه قوله: إذا كان ما ينويه فعلًا مضارعًا ... مضى قبل أن تلقى عليه الجوازم يقول إذا هم بفعل أوقعه، قبل أن يمنع وينهى عنه, ويقال له: لا تفعل، أو ينفى فيقال: لم يفعل. ومنه قول ابن عنين في معزول: فلا تغضبن إذا ما صرفت ... فلا عدل فيك ولا معرفة ومنه قول ابن أبي الأصبع في ذلك: أيا قمرًا من حسن وجنته لنا ... وظلّ عذاريه الضحى والأصائل جعلتك للتمييز نصبًا لناظري ... فهلا رفعت الهجر فالهجر فاعل قلت: ومن أغرب ما وقع في هذا الباب، أن شرف الدين محمد بن عنين مرض فكتب إلى الملك المعظم هذين البيتين: أنظر إليَّ بعين مولى لم يزل ... يولي الندى وتلاف قبل تلافي1 أنا كالذي أحتاج ما يحتاجه ... فاغنم ثنائي والدعاء الوافي2 فجاءه الملك المعظم يعوده ومعه ألف دينار، وقال له: أنت الذي، أنا العائد، وهذه الصلة.

_ 1 يولي: يعطي. الندى: العطاء. تلاف: أمر من تلافي أي اجتنب وتحاش. وتلافي: هلاكي. 2 الثناء: المدح. الوافي: الكثير.

ومنه قول البهاء زهير: يا ألفًا من قده أقبلت ... بالله كوني ألف الوصل ومنه قول الأمير أمين الدين علي السليماني: أضيف الدجى معنى إلى لون شعره ... فطال ولولا ذاك ما خص بالجر وحاجبه نون الوقاية ما وقت ... على شرطها فعل الجفون من الكسر ومنه قول شمس الدين بن العفيف: يا ساكنًا قلبي المعنى ... وليس فيه سواه ثاني لأي معنى كسرت قلبي ... وما التقى فيه ساكنان أما البيتان، فإنهما في غاية اللطف، ولكن أوردوا عليها أيضًا إيرادًا حسنًا، وهو أن الساكنين إذا اجتمعا كسر أحدهما، وهو الأول وكلامه في البيتين أن المكسور غير الاثنين. ومنه قول ابن الوردي: شاعر أخرج نصفًا زغلًا ... عند خباز فلما أن عرف1 قال لم تصرف هذا قال مه ... يصرف الشاعر ما لا ينصرف قلت: قد أتيت في معنى هذه النكتة، بما هو أبدع من بيت زين الدين بن الوردي، وما ذاك إلا أن مولانا المقر الأشرف القاضوي الناصري، محمد بن البارزي الجهني الشافعي، صاحب دواوين الإنشاء الشريف -رحمه الله- وأحالني على شهاب الدين الذهبي بخمسين دينارًا، ومطل بها مدة، فكتبت إليه: قد منعتم صرف الدنانير عني ... ولكم في الورى هبات كثيرة وأنا شاعر وفي شرع نظمي ... صرفها جائز لأجل الضرورة ويعجبني في هذا الباب إلى الغاية، قول الشيخ زين الدين بن الوردي، رحمه الله تعالى: وأغيد يسألني ... ما المبتدا والخبر مثَّلهما لي مسرعًا ... فقلت أنت القمر وحكي أنه كان بالعراق غلامان، أحدهما اسمه عمر، والآخر أحمد، فعزل عمر عن عمله وولي أحمد مكانه بسبب ما وزنه، فقال بعض الشعراء في ذلك:

_ 1 الزغل: الغش.

أيا عمر استعد لغير هذا ... فأحمد في الولاية مطمئن وكل منكما كفوء كريم ... ومنع الصرف فيه كما يظن فيصدق فيك معرفة وعدل ... وأحمد فيه معرفة ووزن ومنه قول الفاضل: لي عندكم دين ولكن هل له ... من طالب وفؤادي المرهون فكأنني ألف ولام في الهوى ... وكأن موعد وصلك التنوين ويعجبني، في الاقتباس من علم العروض، قول القائل: وبقلبي من الجفاء مديد ... وبسيط ووافر وطويل لم أكن عالِمًا بذاك إلى أن ... قطّع القلب بالفراق الخليل وهذا القدر كافٍ، في الاقتباس من القرآن والحديث النبوي ومسائل الفقه والمنطق وعلم العربية والعروض وغيره، وقد تقدم أن الاقتباس مقصور على القرآن والحديث في النثر، وأما في النظم فهو عبارة عن عقد وتضمين. ونظام البديعيات لم يقتبسوا من غير القرآن، وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته قوله: هذي عصاي التي فيها مآرب لي ... وقد أهش بها طورًا على غنمي1 وبيت العميان: ذو مرة فاستوى حتى دنا فرأى ... وقيل سل تعط قد خيرت فاحتكم2 وبيت الشيخ عز الدين: فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم ... ولا اقتباس يرى من هذه الأطم3 وبيت بديعيتي قولي: وقلت يا ليت قومي يعلمون بما ... قد نلت كي يلحظوني باقتباسهم4

_ 1 أهُش: أهوّل، وأنهر. والبيت عبارة عن قوله تعالى على لسان النبي موسى -صلى الله عليه وسلم- بعد سؤاله: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى، قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} . 2 مِرَّة: قوة. استوى: استقام والبيت اقتباس لقوله تعالى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى، ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} . 3 البيت اقتباس لقوله تعالى في معرض حديثه عن قوم عاد: {فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ} الأحقاف: 46/ 25. والأطم: الحصون أو البيوت العالية، جمع آطام وأطوم. 4 البيت اقتباس لقوله تعالى: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ، بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنْ الْمُكْرَمِينَ} ، يس: 36/ 27.

ذكر السهولة

ذكر السهولة: يا رب سهل طريقي في زيارته ... من قبل أن تعتريني شدة الهرم السهولة: ذكرها التيفاشي مضافة إلى باب الظرافة، وشركها قوم بالانسجام، وذكرها ابن سنان الخفاجي في كتاب: "سر الفصاحة"، فقال في مجمل كلامه: هو خلوص اللفظ من التكلف، والتعقيد والتعسف في السبك. وقال التيفاشي: السهولة أن يأتي الشاعر بألفاظ سهلة تتميز على ما سواها عند من له أدنى ذوق من أهل الأدب، وهي تدل على رقة الحاشية، وحسن الطبع وسلامة الروية. ومن ألطف الأمثلة، "عليها" قول الشاعر: أليس وعدتني يا قلب أني ... إذا ما تبت عن ليلى تتوب فها أنا تائب عن حب ليلى ... فما لك كلما ذكرت تذوب ومنه قول أبي العتاهية: أتته الخلافة منقادة ... إليه تجرر أذيالها فلم تكن تصلح إلا له ... ولم يك يصلح إلا لها ومذهبي: أن البهاء زهير، قائد عنان هذا النوع وفارس ميدانه، فمن ذلك قوله: ومدام من رضاب ... بحباب من ثنايا كان ما كان ومنه ... بعد في النفس بقايا مثله قوله: إن أمري لعجيب ... ما يُرى أعجب منه كلّ أرض لي فيها ... غائب أسأل عنه

ومثله قوله: شوقي إليك شديد ... كما علمت وأزيد وكيف تنكر شيئًا ... به ضميرك يشهد ومثله قوله: أوحشتني والله يا مالكي ... قطعت يومي كله لم أرك هذا جفاء منك ما اعتدته ... فليتني أعرف من غيرك ومثله قوله: سيدي قلبي عندك ... سيدي أوحشت عبدك أترى تذكر عهدي ... مثل ما أذكر عهدك أترى تحفظ ودي ... مثل ما أحفظ ودك قم بنا إن شئت عندي ... مسرعًا أو شئت عندك أنا في داري وحدي ... فتفضل أنت وحدك ومنه قوله: هذا كتاب محب ... قد زاد فيك غرامه أضناه فرط اشتياق ... فرقّ حتى كلامه أما ترى كيف أضحى ... مثل النسيم سلامه ومنه قوله: كلمني والمدام في فمه ... قد نفحت من حباب مبسمه1 وماس كالغصن في تمايله ... سكران يشتط في تحكمه2 بالله يا برق هل تحدثه ... عن نار وجدب وعن تضرّمه3 وهل نسيم سري يبلغه ... رسالة من فمي إلى فمه عجبت من بخله عليّ وما ... يذكره الناس من تكرمه هم علموه فصار يهجرني ... رب خذ الحق من معلمه وقال، ويكاد يسيل رقة وسهولة: كتبت إليك أشكو في كتابي ... أمورًا من فراقك أشتكيها وفي سوق الهوان عرضت نفسي ... رخيصًا لم أجد من يشتريها فهل وعد إلى سنة فإن لم ... يكن فيها يكن فيما يليها وقد أنهيت من شوقي فصولًا ... لمولانا علوُّ الرأي فيها ومثله في الرقة والسهولة قوله: ملكتموني رخيصًا ... فانحط قدري لديكم

_ 1 الحباب: المحبوب. 2 ماس: تمايل. يشتط: يجور. 3 الوجد: شدة الشوق. التضرم: شدة الاشتعال.

فأغلق الله بابًا ... دخلت منه إليكم حتى ولا كيف أنتم ... ولا السلام عليكم وألطف منه قوله: أنا أدري بأنني ... قل قسمي لديكم فإلى كم تطلعي ... والتفاتي إليكم كان ما كان بيننا ... وسلام عليكم وألطف منه قوله: أما تقرّر أنا ... فلم تأخرت عنا وما الذي كان حتى ... حللت ما قد عقدنا ولم يكن لك عذر ... ولو يكون علمنا فلا تلمنا فإنا ... قلنا وقلنا وقلنا ومنه قوله: قال ما ترجع عني قلت لا ... قال ما تطلب مني قلت شيّ فانثنى يحمر مني خجلًا ... وثناه التيه عني لا إليّ1 كدت بين الناس أن ألثمه ... آه لو أفعل ما كان عليّ ومنه قوله: قالوا كبرت عن الصبا ... وقطعت تلك الناحية فدع الصبا لرجاله ... واخلع ثياب العارية ونعم كبرت وإنما ... تلك الشمائل باقية ويميلني نحو الصبا ... قبل رقيق الحاشية فيه من الطرب القديـ ... ـم بقية في الزاوية وقال، وزنًا وقافية وسال برقته: من لي بقلب أشتريـ ... ـه من القلوب القاسيه وإليك يا ملك الملا ... ح وقفت أشكو حاليه وإني لأطلب حاجة ... ليست عليك بخافيه أنعم علي بقبلة ... هبة وإلا عاريه2

_ 1 ثنى: ردّ. التيه: الخيلاء والتكبر. 2 عارية: إعارة.

وأعيدها لك لا عدمـ ... ـت بعينها وكما هيه وإذا أردت زيادة ... خذها ونفسي راضيه ومنه قوله: إن شكا القلب هجركم ... مهد الحب عذركم لو أمرتم بما عسى ... ما تعديت أمركم قصروا عمر ذا الجفا ... طوّل الله عمركم كنت أرجو بأنكم ... شهركم لي ودهركم قد نسيتم وإنما ... أنا لم أنس ذكركم قد رأيتم محلكم ... من فؤادي لسركم لو وصلتم محبكم ... ما الذي كان ضركم ومن المرقص في هذا الباب قوله: تعيش أنت وتبقى ... أنا الذي مت عشقا حاشاك يا نور عيني ... تلقى الذي أنا ألقى ولم أجد بين موتي ... وبين هجرك فرقا يا أنعم الناس بالًا ... إلى متى فيك أشقى سمعت عنك حديثًا ... يا رب لا كان صدقا وما عهدتك إلا ... من أكرم الناس خلقا لك الحياة فإني ... أموت لا شك حقّا يا ألف مولاي مهلًا ... يا ألف مولاي رفقا1 قد كان ما كان مني ... والله خير وأبقى وبيت الشيخ صفي الدين في السهولة قوله: وقلت هذا قبول جاءني سلفًا ... ما ناله أحد قبلي من الأمم والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم. ولا وجدته في بديعية الشيخ عز الدين الموصلي، إلا أن يكون في نسخة غير التي نقلت منها، وعلى كل تقدير فالشيخ عز الدين قدم العقادة في بيته على السهولة. وبيت بديعيتي: يا رب سهّل طريقي في زيارته ... من قبل أن تعتريني شدة الهرم

_ 1 الرّفق: اللطف والتمهل.

ذكر حسن البيان

ذكر حسن البيان: حتى يبث بديعي في محاسنه ... حسن البيان وأشدو في حجازهم حسن البيان: قالوا هو عبارة عن الإبانة عما في النفس، بعبارة بليغة بعيدة عن اللبس، إذ المراد منه إخراج المعنى إلى الصورة الواضحة، وإيصاله إلى فهم المخاطب بأسهل الطرق، وقد تكون العبارة عنه تارة من طريق الإيجاز، وطورًا من طريق الإطناب، بحسب ما يقتضيه الحال، وهذا بعينه هو البلاغة وحقيقتها. وفي البيان: الأقبح والأوسط، والأحسن, فالأقبح، كبيان باقل وقد سئل عن ثمن ظبي في يده، فأراد أن يقول أحد عشر، فأدركه العي، حتى فرق أصابعه وأدلع لسانه فأفلت الظبي. ومن هنا يعلم أنه ليس كل إيجاز بلاغة, ولا كل إطالة عيًّا، فإنه لا إيجاز في الأفهام أوجز من بيان باقل؛ لأن المخاطب فهم عنه بمجرد نظرة واحدة. وقد ضرب به المثل بالعي في بيانه. وكان الأحسن أن يقول: أحد عشر. والأوسط: أن يقول: ستة وخمسة، أو عشرة وواحد. والنور المبين في هذا الباب، بيان القرآن الكريم، كقوله تعالى، وقد أراد أن يحذر من الاغترار بالنعم: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ، وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ} 1. وكقوله سبحانه، وتعالى: وقد أراد أن يبين عن الوعد: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} 2، وكقوله سبحانه، وقد أراد أن يبين عن الوعيد: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ} 3، وكقوله تعالى، في الاحتجاج القاطع للخصم: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ

_ 1 الدخان: 44/ 25. 2 الدخان: 44/ 51. 3 الدخان، 44/ 40.

خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} 1. كقوله تعالى، وقد أراد أن يبين عن العدل: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} 2، وأمثال هذا الباب كثيرة لمن يتتبعها في القرآن. ومما جاء من ذلك في الشعر قول أبي العتاهية: يضطرب الخوف والرجاء إذا ... حرك موسى القضيب أو فكرا وكقول الآخر: له لحظات في خفايا سريرة ... إذا كرّها فيها عتاب ونائل3 فإن هذين الشاعرين أرادا مدح هذين الممدوحين بالخلافة، ووصفهما بالقدرة المطلقة وعظم المهابة، بعد الله سبحانه وتعالى، فإذا نظر أحدهما نظرة أو حرك القضيب مرة أو أطرق مفكرًا، اضطرب الخوف والرجاء في قلوب الناس، فأبانا عن هذه المعاني بأحسن إبانة. وبيت الشيخ صفي الدين رحمه الله تعالى: وعدتني في منامي ما وثقت به ... مع التقاضي بمدح فيك منتظم والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم. وبيت الشيخ عز الدين قوله: حسن البيان بحمد الله بين لي ... هدي النبي الرضي الواضح اللقم4 وبيت بديعيتي قلت قبله، في السهولة: يا رب سهل طريقي في زيارته ... من قبل أن تعتريني شدة الهرم وقلت بعده، في حسن البيان: حتى يبث بديعي في محاسنه ... حسن البيان وأشدو في حجازهم

_ 1 يس: 36/ 78، 79. 2 الأنعام: 6/ 28. 3 كرّها: كرّرها تكرارًا. 4 اللقم: النهج والطريق.

ذكر الإدماج

ذكر الإدماج قد عز إدماج شوقي والدموع لها ... على بهار خدودي صبغة العنم1 هذا النوع، أعني الإدماج: هو أن يدمج المتكلم غرضًا له في ضمن معنى قد نحاه من جملة المعاني، ليوهم السامع أنه لم يقصده، وإنما عرض في كلامه لتتمة معناه الذي قصده، كقول عبد الله بن عبيد الله لعبد الله بن سليمان بن وهب، حين وَزِر للمعتمد، وكان ابن عبيد الله قد اختلّت حاله فكتب لابن سليمان: أبي دهرنا إسعافنا في نفوسنا ... وأسعفنا في من نحب ونكرم فقلت له نعماك فيهم أتمها ... ودع أمرنا إن المهم المقدم فأدمج شكوى الزمان، وشرح ما هو عليه من الاختلال في ضمن التهنئة، وتلطف في التلويح، ورقق التخيّل لبلوغ الغرض، مع صيانة نفسه عن التصريح بالسؤال. لا جرم أن ابن سليمان فطن لذلك ووصله واستعمله. ومن لطيف الإدماج قول ابن نباته السعدي: ولا بد لي من جهلة في وصاله ... فهل من حليم أودع الحلم عنده ابن نباتة أدمج الفخر في الغزل فإنه جعل حلمه لا يفارقه البتة، ولا يرغب عنه بنفسه جملة، وإنما عزم على أن يودعه، إذ كان لا بد له من وصل هذا المحبوب لأن الودائع تستعاد، ثم استفهم عن الخل الصالح الذي يصلح لهذه الوداعة استفهامًا إنكاريًّا،

_ 1 العنم: شجر ذو ثمار حمراء، واحدته عنمة. والبَهار: الجَمَال أو تكون فارسية معربة بمعنى: "الربيع".

فيكون مفهوم الخطاب: بقيا حلمه لعدم من يصلح للوداعة، ثم أدمج في ضمن الفخر الذي أدمجه في الغزل شكوى الزمان لقلة الإخوان، بحيث إنه لم يبق منهم من يصلح لهذا الشأن، ومنه قول ابن المعتز في وصف الخيري: قد نقض العاشقون ما صنع الـ ... ـدهر بألوانهم على ورقه قصد وصف الخيري بالصفرة، وأدمج فيه وصف ألوان العشاق. وبيت الحلي في الإدماج قوله: لصدق قولك لو حب امرؤ حجرًا ... لكان في الحشر عن مثواه لم يرم هذا البيت فيه إدماج سؤاله حسن المحشر في زمرة النبي -صلى الله عليه وسلم- في طي تصديقه الحديث المأثور عنه. وبيت العميان: لهم أحاديث مجد كالرياض إذا ... أهدت نواسم أحيت دارس السلم قال الشيخ أبو جعفر الشارح: إن الناظم جعل لهم أولًا أحاديث مجد طيبة. وأدمج في ذلك وصف الرياض. وبيت الشيخ عز الدين الموصلي: أدمجت شكواي من ذنبي بمدحته ... عساك تشفع لي يا شافع الأمم الشيخ عز الدين ذكر أنه أدمج الشكوى من ذنبه، لكن نوع الإدماج البديعي لا أعلم أين أدمجه. والله أعلم. وبيت بديعيتي: قد عز إدماج شوقي والدموع لها ... على بهار خدودي صبغة العنم هذا البيت أبدع من بيت ابن المعتز، وفيه زيادة وإدماج آخر. فإن ابن المعتز غاية قصده وصف الخيري1 بالصفرة، وأدمج فيه ألوان العشاق. وأنا قصدت شرح الحال في غرة إدماج الشوق بواسطة جريان الدمع، وأدمجت في ذلك صفرة اللون وحمرة الدموع. هذا محاسن التورية بتسمية النوع غير خافية على أهل الإنصاف من حذاق الأدب. والله أعلم.

_ 1 الخيريّ: نوع من الحمام.

ذكر الاحتراس

ذكر الاحتراس: فإن أقف غير مطرود بحجرته ... لم أحترس بعدها من كيد مختصم الاحتراس: هو أن يأتي المتكلم بمعنى يتوجه عليه فيه دخل فيفطن له، فيأتي بما يخلصه من ذلك ومثاله في كتاب الله عز وجل: {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} 1 فاحترس بقوله تعالى: من غير سوء، عن إمكان أن تدخل في البرص والبهق2 وغير ذلك، ومثال ذلك في الشعر، قول طرفة: فسقى ديارك غير مفسدها ... صوب الغمام وديمة تهمي فقوله: عير مفسدها احتراس من مقابله وهو محو معالمها، والفرق بين الاحتراس والتتميم والتكميل أن المعنى قبل التكميل صحيح تام، ثم يأتي التكميل بزيادة تكمل حسنه، إما بفن زائد أو معنى، والتتميم يأتي لتتميم نقص المعنى ونقص الوزن معًا، والاحتراس إنما هو لدخل يتطرق إلى المعنى وإن كان تامًّا كاملًا ووزن الشعر صحيحًا. وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته قوله: فوفني غير مأمور وعودك لي ... فليس رؤياك أضغاثًا من الحلم3 احتراس الشيخ صفي الدين، في قوله: غير مأمور، فإن لفظة وفني في البيت فعل أمر، ومرتبة الآمر فوق مرتبة المأمور، فاحترس بقوله: غير مأمور.

_ 1 القصص: 28/ 32. 2 البهق: بياض في الجسد غير البرص. 3 أصغاث: جمع مفرده ضغث وهو الكلام لا خير فيه، وأضغاث أحلام: لا يمكن تأويلها لالتباسها واختلاطها.

والعميان ما نظموا هذا النوع. وبيت الشيخ عز الدين: حبي له يتمشى في المفاصل قل ... بالاحتراس تمشي البرء في السقم1 قلت: الشيخ صفي الدين احترس في بيته، بقوله: غير مأمور. واحتراس الشيخ عز الدين عجزت عن تحقيقه بل عن تحقيق معناه، فإن هذا البيت مأخوذ من قول أبي نواس، في وصف الخمرة: فتمشت في مفاصلهم ... كتمشي البرء في السقم وبيت بديعيتي: فإن أقف غير مطرود بحجرته ... لم أحترس بعدها من كيد مختصم فقولي: غير مطرود، هو الاحتراس الذي يليق بمقام المادح، بالنسبة إلى مقام النبي -صلى الله عليه وسلم- والتورية باسم النوع في قولي: لم أحترس بعدها، محاسنها توري. والتكميل، بقولي: من كيد مختصم، هو الذي زاد محاسنها بهجة وكمالًا.

_ 1 احتراس الشيخ عز الدين في قوله: "بالاحتراس". إذ يكون معنى البيت قل إن حبي له يتمشى في المفاصل تمشي البرء في السقم، واحتراس بقوله: "بالاحتراس" لئلا يخيل للسامع أن هذا التمشي على كل حال. والله أعلم.

ذكر براعة الطلب

ذكر براعة الطلب: وفي براعة ما أرجوه من طلب ... إن لم أصرح فلم أحتج إلى الكلم هذا النوع من مستخرجات الشيخ عز الدين الزنجاني، في كتاب: "المعيار". وهو أن يلوّح الطالب بالطلب، بألفاظ عذبة مهذبة منقحة مقترنة بتعظيم الممدوح خالية من الإلحاف1 والتصريح، بل يشعر بما في النفس دون كشفه، كقول أبي الطيب المتنبي: وفي النفس حاجات وفيك فطانة ... سكوتي بيان عندها وخطاب2 والفرق بين براعة الطلب وبين الإدماج، أن الإدماج أن يقدر معنى من المعاني، ثم يدمج غرضه ضمنه ويوهم أنه لم يقصده، وهذا مقصور على الطلب فقط، وهو أيضًا فرق بينه وبين الكناية. وبيت الشيخ صفي الدين قوله: وقد علمت بما في النفس من أرب ... وأنت أكرم من ذكري له بفمي3 والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين الموصلي رحمه الله قوله: براعة بان فيها منتهى طلبي ... وأنت أكرم من نطق بلا ولم وبيت بديعيتي: وفي براعة ما أرجوه من طلب ... إن لم أصرح فلم أحتج إلى الكلم

_ 1 الإلحاف: الرّمز أو ما خفي معناه من الكلام، والتلميح. 2 الفطانة: سرعة البديهة. والذكاء، وقوة الذاكرة مجتمعة. 3 الأرب: الحاجة الماسة.

ذكر العقد

ذكر العقد: قد صح عقد بياني في مناقبه ... وإنّ منه لسحرًا غير سحرهم العقد ضد الحل؛ لأن العقد نظم المنثور والحل نثر المنظوم. ومن شرائط العقد أن يؤخذ المنثور بجملة لفظه أو بمعظمه، فيزيد الناظم فيه وينقص ليدخل في وزن الشعر، ومتى أخذ بعض المنثور دون لفظه كان ذلك نوعًا من أنواع السرقات، ولا يسمى عقدًا إلا إذا أخذ الناظم المنثور برمته، وإن غير منه طريقًا من الطرق التي قدمناها كان المتبقي منه أكثر من المغير، بحيث يعرف من البقية صورة الجميع، كما فعل أبو تمام، في كلام عزى به الإمام علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه- الأشعثَ بن قيس، في ولده، وهو: إن صبرت صبر الأحرار، وإلا سلوت سلوّ البهائم، فعقده أبو تمام شعرًا فقال: وقال علي في التعازي لأشعثٍ ... وخاف عليه بعض تلك المآثم أتصبر للبلوى عزاءً وحِسبة ... فتؤجر أم تسلو سلوّ البهائم1 وبيت الشيخ صفي الدين قوله: ما شب من خصلتي حرصي ومن أملي ... سوى مديحك في شيبي وفي هرمي المقصود، في هذا البيت، من العقد، قول النبي، صلى الله عليه وسلم: يشيب ابن آدم ويشب فيه خصلتان: الحرص وطول الأمل. والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم. وبيت الشيخ عز الدين في بديعيته قوله:

_ 1حِسبة: أي تحتسب أجر الصبر عند الله سبحانه وتعالى.

عقد اليقين صلاتي والسلام على ... محمد دائمًا مني بلا سأم قلت: أما الشيح صفي الدين فإني لم أصادف في بيته من عقد الحديث النبوي محلًا، ولكن ذكر فيه حكاية حاله. وأما الشيخ عز الدين -غفر الله- له فإنه ذكر، في شرحه أن الصحابة -رضي الله عنهم- قالوا: يا رسول الله قد علمنا كيف نسلم عليك، فكيف نصلي عليك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "قولوا اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم". وفي حديث آخر: "قولوا اللهم صل على محمد عبدك ورسولك النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم". وفي الحديث: "أكثروا من الصلاة عليَّ". ومنه قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} 1. وذكر أنه عقد الآية والحديث، ولم يظهر لي حل هذا العقد في أي موضع هو من البيت. وبيت بديعيتي: قد صح عقد بياني في مناقبه ... وإن منه لسحرًا غير سحرهم العقد هنا قوله صلى الله عليه وسلم: "إن من البيان لسحرًا". والله أعلم.

_ 1 الأحزاب: 33/ 56.

ذكر المساواة

ذكر المساواة: تمت مساواة أنواع البديع به ... لكن يزيد على ما في بديعهم هذا النوع -أعني: المساواة- مما فرعه قدامة من ائتلاف اللفظ مع المعنى، وشرحه بأن قال: هو أن يكون اللفظ مساويًا للمعنى، بحيث لا يزيد عليه ولا ينقص عنه، وهذا من البلاغة التي وصف بها بعض الوصاف بعض البلغاء فقال: كأن ألفاظه قوالب لمعانيه، ومعظم آيات الكتاب العزيز كذلك. واعلم أن البلاغة قسمان: إيجاز وإطناب، والمساواة معتبرة في القسمين معًا. فأما الإيجاز فكقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} 1. والإطناب في هذا المعنى كقوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} 2. وقال سبحانه وتعالى، في قسم الإيجاز من غير هذا المعنى: {خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} 3. وقال عز من قائل، في الإطناب: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} 4. الآية. ولا بد من الإتيان بهذا الفصل، لئلا يتوهم المتأمل أن الإطناب لا يوصف بالمساواة. ومن الشواهد على المساواة قول امرئ القيس: فإن تكتموا الداء لا نخفه ... وإن تبعثوا الحرب لا نقعد وإن تقتلونا نقتلكم ... وإن تقصدوا الذم لا نقصد

_ 1 البقرة: 2/ 179. 2 الإسراء: 17/ 33. 3 الأعراف: 7/ 199. 4 النحل: 16/ 90.

وقول زهير: ومهما تكن عند امرئ من خليقة ... وإن خالها تخفى على الناس تعلم1 وقول طرفة: ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلًا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته قوله: وقد مدحت بما تم البديع به ... مع حسن مفتتح منه ومختتم والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم. وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته قوله: خطت مساواة معناه وصورته ... في الحسن شاهده في نون والقلم2 وبيت بديعيتي في المساواة قولي: تمت مساواة أنواع البديع به ... لكن يزيد على ما في بديعهم

_ 1 الخليقة: العادة والخصلة، والخلق. خال: ظن. 2 نون والقلم: سورة القلم من القرآن الكريم.

ذكر حسن الختام

ذكر حسن الختام حسن ابتدائي به أرجو التخلص من ... نار الجحيم وهذا حسن مختتمي هذا النوع ذكر ابن أبي الأصبع أنه من مستخرجاته، وهو موجود في كتب غيره بغير هذا الاسم، فإن التيفاشي سماه: "حسن المقطع"، وسماه ابن أبي الأصبع: "حسن الخاتمة". وهذا النوع الذي يجب على الناظم والناثر أن يجعلاه خاتمة لكلامهما، مع أنهما لا بد أن يحسنا فيه غاية الإحسان، فإنه آخر ما يبقى في الأسماع، وربما حفظ من دون سائر الكلام في غالب الأحوال، فلا يحسن السكوت على غيره. وغاية الغايات، في ذلك، مقاطع الكتاب العزيز في خواتم السور الكريمة. فمن المعجز في ذلك، قوله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا، وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا، وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا، يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا، بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا، يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} 1. انظر أيها المتدبر هذه البلاغة المعجزة. فإن السورة الكريمة بدأت بأهوال يوم القيامة، وختمت بقوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} "ومثله" قوله تعالى، في سورة عبس: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ، وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ، ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ، وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ، تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ، أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} 2. ومن ذلك قوله تعالى:

_ 1 الزلزلة: 99/ 7، 8. 2 عبس: 80/ 34- 42.

{وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 1. ومن كلام أمير المؤمنين، عليّ بن أبي طالب -كرم الله وجهه- وهو المقدم في فنون البلاغة على بلغاء البدو والحضر، في ختام جواب كتاب كتب به إلى معاوية: ثم ذكرت أن ليس لي ولأصحابي عندك إلا السيف، فلقد أضحكت بعد استعبار، وإني مرقل2 إليك بجحفل من المهاجرين والأنصار، وقد صحبتهم ذرية بدرية، وسيوف هاشمية، عرفت مواقع نصالها في أخيك وخالك وجدك، وما هي من الظالمين ببعيد. وأجمعوا، بعد ذلك، على أن فواصل المقامات تقوم غالبها مقام المثل السائر، وحسن خواتمها تعقد عليه الخناصر. "وقد عنّ لي" أن أورد هنا مقامة كاملة، فإذا نظر المتأمل إلى براعة استهلالها، وفهم القصد الذي جنح إليه الحريري، عرف مقدار حسم الختام الذي تمت به الفائدة؛ وحسن السكوت عليه. "وقد اخترت المقامة الثالثة عشرة"، وهي الزورائية؛ لأنه ثبت عن القاضي الفاضل أنه شرع في معارضة المقامات، وعارض منها كل فصل بفصل أحسن منه، إلى أن وصل إلى فصل هذه المقامة الذي سيأتي وأنبه عليه في موضعه. والمقامة الموعود بإيرادها هو قوله: "حكى الحرث بن همام" قال: ندوت3 بضواحي الزوراء، مع مشيخة من الشعراء، لا يعلق لهم مبار بغبار، ولا يجري معهم ممار4 في مضمار، فأفضنا في حديث يفضح الأزهار، إلى أن نصفنا النهار، فلما غاض در الأفكار، وصبت النفوس إلى الأوكار، لمحنا عجوزًا تقبل من البعد، وتحضر إحضار الجرد5، وقد استتلت صبية أنحف من المغازل، وأضعف من الجوازل، فما كذبت إذ رأتنا أن عرتنا، حتى إذا ما حضرتنا، قالت حيا الله المعارف. وإن لم يكن معارف. اعلموا يا مآل الآمل، وثمال الأرامل، أني من سروات القبائل، وسريات العقائل. "والفصل الذي عجز الفاضل عنه، هو": لم يزل أهلي وبعلي يحلون الصدر، ويسيرون القلب ويمطون الظهر، ويولون اليد. فلما أردى الدهر الأعضاء، وفجع

_ 1 الزمر: 39/ 75. 2 أرقل: أسرع. والجحفل: الجيش الكثير العدد. 3 لم نشرح من هذه المقامة إلا الألفاظ التي لم يشرحها الكاتب إذ إنه يعود إلى شرح ما استعجم من مفرداتها بعد إتمامها. 4 المماري: المجادل المناقش. 5 الجرد من الخيول: السريعة واحدها أجرد.

بالجوارح الأكباد، وانقلب ظهرًا لبطن، نبا الناظر، وجفا الحاجب، وذهبت العين، ونفدت الراحة، وصلد الزند، ووهت اليمين، وبانت المرافق، ولم يبق لنا ثنية ولا ناب. قلت: وهذا الفصل الذي أحجم القاضي عن معارضته، قلت في معناه، وكتبت إلى سيدنا قاضي القضاة صدر الدين بن الآدمي -نوّر الله ضريحه- رسالة مجسدة، مشتملة على ذلك جيدة، راعيت فيها النظير، لأجل الصدر من الرأس إلى القدم، ولم أخرج فيها عن حسن الختام الذي ما ختمت رسالة بنظيره، والتزمت فيها السجع الذي فر الحريري منه في فصله. "وقد عنّ لي" أن أثبت الرسالة هنا بكمالها، وأرجع إلى ما كنا فيه من حسن الختام في المقامة الحريرية. "والرسالة هي": يقبل أرضًا بالعلا قد تجسدت ... بأرواح أهل العلم روضة مشتهى وهبت بأنفاس العلوم قبولها ... ولا زال صدر الدين منشرحًا بها وينهى أن الصدر رأس العلوم، وكم له من فرق دق على الأفهام، وهو كالغرة في جباه الأيام، لا زال المجد له حاجيًا1 مقرونًا بسعده الشامل، ولا برح بعلمه عينًا لوجوه المسائل. فللَّه أهداب معانيه التي هي أسحر من عيون الغزلان، وأمضى من السيوف إذا برزت من الأجفان، وأصداغ فضائله التي هي عاطفة على وجنات الوجود، لأنها كالعوارض الماطرة، وكم أنست عند ذكره من سالفة، وكم لها في قلوب الأعداء من خدود وندى جوده الذي إذا جاءه الشارب وجد عنده شفاه، حلاوة نظمه الذي أنسانا ذكر العذيب وثناياه، وعنق مكارمه التي ألفت من البديع الالتفات؛ وأوصافه التي غدت على خد الدهر شامات، حتى تبدلت سيئاته حسنات. كف عنا تعب الفقر بكرم راحته المتزايد، من غير أن يقال له ساعد، وشهدنا بأن أياديه بحر يفيض بصنائعه. فأشار النيل إلى قبول هذه الشهادة بأصابعه. فللَّه ندى يمينه الذي لم يزل المملوك به في بلاد الشام مكفى، وكم فاض منه قلب النيل وجهد أن يوفيه بالباع والذراع فما وفى. جبلت على محبته القلوب فصار حبه ظاهرًا في كل باطن، وحنت إليه الجوارح لما سارت مناقبه إلى جانب فحركت كل ساكن، ورفع المملوك أدعيته التي هي إن شاء الله تعالى نعيم للبدن الكريم، واعتدال اللطيف ذلك المزاج، وأثنيته التي هي كالمناطق على خصور الحسان وبها لكل قلب ابتهاج, لكن تثاقلت2 عليه أرداف النوى، وأسكنت في وسط لبه الجوى وقده الانقطاع بسيفه الذي زاد في حده, ولكن جار في قده, ولو حصر المملوك

_ 1 حاجيًا: ملازمًا وسابقًا. 2 تثاقلت: أصبحت ثقيلة. وفي النسخة المطبوعة: "تناقلت" بالنون وما أثبتناه هو الصحيح. كما هو ظاهر.

ما ساق إليه البعد من الاشتياق إلى تقبيل الأقدام لم تسعه قائمة، وهو يعد القلب بالصبر، ولكن كما ذكر كعب عن مواعيد عرقوب، فنسأل الله حسن الخاتمة. "رجع" إلى ما كنا فيه من تكملة المقامة الحريرية، والتنبيه على حسن ختامها. قال بعد الفصل المجسد الذي آخره: ولم يبق لنا ثنية ولا ناب. فمذ اغبرّ العيش الأخضر وازور المحبوب الأصفر، اسود يومي الأبيض، وابيض فودي الأسود، حتى رثى لي العدو الأزرق، فحبذا الموت الأحمر. وتلوى من ترون عينه فراره، وترجمانه اصفراره، قصور بغية أحدهم ثرده1، وقصارى أمنيته برده. وكنت آليت أن لا أبذل الحر إلا للحر، ولو أني مت من الضر، وقد ناجتني القرونة، بأن توجد عندكم المعونة، وآذنتني فراسة الحوباء، بأنكم ينابيع الحباء، فنضر الله امرأ أبر قسمي، وصدق توسمي ونظر إليَّ بعين يقذيها الجمود، ويقذيها الجود. "قال الحرث بن همام": فهمنا لبراعة عبارتها وملح استعارتها، وقلنا لها: قد فتن كلامك، فكيف إلحامك. فقالت: يفجر الصخر ولا فخر، فقلنا لها: إن جعلتنا من رواتك، لم نبخل بمواساتك. فقالت: لأرينكم أولًا شعاري، ثم لأروينّكم أشعاري. فأبرزت ردن درع دريس2 وبرزت عجوز دردبيس، وأنشأت تقول: أشكو إلى الله اشتكاء المريض ... جور الزمان المعتدي البغيض يا قوم إني من أناس غنوا ... دهرًا وجفن الدهر عنهم غضيض فخازهم ليس له دافع ... وصيتهم بين الورى مستفيض كانوا إذا ما نجعة أعوزت ... في السنة الشهباء روضًا أريض تشب للسارين نيرانهم ... ويطعمون الضيف لحمًا غريض ما بت جار لهم ساغبًا ... ولا لروع قال حال الجريض فغيضت منهم صروف الردى ... بحار جود لم أخلها تغيض3 وأودعت منهم بطون الثرى ... أسد التحامي وأساة المريض فمحملي بعد المطايا المطا ... وموطني بعد اليقاع الحضيض وافرخي ما تأتلي تشتكي ... بؤسًا له في كل يوم وميض4 إذا دعا القانت في ليله ... مولاه نادوه بدمع يفيض يا رازق النعاب في عشه ... وجابر العظم الكسير المهيض

_ 1 الثردة: الخبز المثرود بمرق اللحم: "الثريد" وقد كنى به عن تفاهة الغاية. 2 دريس: بالٍ. 3 غيض: الماء، غار في العمق ومنه قوله تعالى: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ} . لم أَخَلْها: لم أظنها. 4 إئتلى: ملّ، ما تأتلي ما تنفك. الوميض: الإشارة الخفية أو اللمعان الخفيف.

أتح لنا اللهم من عرضه ... من دنس اللؤم نقي رحيض يطفئ نار الجوع عنا ولو ... بمذقة من جازر أو مخيض1 فهل فتى يكشف ما نابهم ... ويغنم الشكر الطويل العريض فوالذي تعنو النواصي له ... يوم وجوه الجمع سود وبيض2 لولاهم لم تبد لي صفحة ... ولا تصديت لنظم القريض "قال الراوي": فوالله لقد صدعت بأبياتها أعشار القلوب، واستخرجت خبايا الجيوب، حتى ماحها من دينه الامتياح، وارتاح لرفدها من لم تخله يرتاح، فلما افعوعم جيبها تبرا، وأولاه كل منا برا تولت يتلوها الأصاغر، وفوها بالشكر فاغر، فاشرأبت الجماعة بعد ممرها إلى سبرها، لتبلو مواقع برها، فكفلت لهم باستنباط السر المرموز، ونهضت أقفو أثر العجوز، حتى انتهت إلى سوق مغتصة بالأنام، مختصة بالزحام، فانغمست في الغمار، وأملست من الصبية الأغمار، ثم عاجت بخلو بال، إلى مسجد خال، فأماطت الجلباب، ونضت النقاب، وأنا ألمحها من خصاص الباب وأرقب ما ستبدي من العجاب، فلما انسرت أهبة الخفر، رأيت محيا أبي زيد قد سفر، فهممت بأن أهجم عليه، لأعنفه على ما أجرى إليه، فاستلقى استلقاء المتمردين، ثم رفع عقيرة المغردين، واندفع ينشد: يا ليت شعري أدهري ... أحاط علمًا بقدري وهل درى كنه غوري ... في الخدع أم ليس يدري كم قد قمرت بنيه ... بحيلتي وبمكري وكم برزت بعرف ... عليهم وبنكر أصطاد قومًا بوعظ ... وآخرين بشعر واستفز بخل ... عقلًا وعقلًا بخمر وتارة أنا صخر ... وتارة أخت صخر3 ولو سلكت سبيلًا ... مألوفة طول عمري لخاب قدحي وقدحي ... ودام عسري وخسري فقل لمن لام هذا ... عذري فدونك عذري "قال الحرث بن همام": فلما ظهرت على جلية أمره. وبديعة أمره، وما زخرف في

_ 1 المذقة: الشربة. الجازر: اللبن. المخيض: اللبن الذي سُحب منه الدسم بواسطة المخض. 2 تعنوا: تخضع. النواصي: جمع مفرده ناصية وهي مقدم الشعر من الرأس وكنى بها عن الرأس. 3 صخر: هو ابن عمرو الشريد أخو الخنساء الشاعرة واسمها تماضر بنت عمرو الشريد.

شعره من عذره، علمت أن شيطانه المريد لا يسمع التفنيد1، ولا يفعل إلا ما يريد، فثنيت إلى أصحابي عناني، وأبثثتهم ما أثبته عياني، فوجموا لضيعة الجوائز، وتعاهدوا على محرمة العجائز. "قلت": قد علمت أيها المتأمل أن هذا المقامة البديعة بنيت على ترهات هذه العجوز، وما زخرفته من الباطل، في نظمها ونثرها، الذي خلب كل منهما القلوب وسلب عقول السامعين إلى أن بالغوا في إكرامها. فلما كشف لهم الغطاء عن جميع ما نمقته، وتحققوا أنه بني على الباطل، كانت الخاتمة, فوجموا لضيعة الجوائز، وتعاهدوا على محرمة العجائز. والألفاظ المحتاجة إلى الحل، في هذه المقامة، هي قوله: ندوت أي حضرت النادي، والجوازل: فراخ الحمام، واحدها جوزل. وعرتنا قصدتنا: يقال عراه واعتراه. والمعارف: الوجوه. المعارف الثانية: من المعرفة. وثمال القوم: من يقول بأمرهم. وسروات القبائل: السرو: وهو السخاء والمروأة. واحد السروات سراة، لا يجوز أن يكون سراة بالضم، وسريات: جمع سرية، وهي العقيلة السخية. والقلب: هنا قلب العسكر ويمطون الظهر: أي يحملون المنقطع. ويولون اليد: أي النعمة، وأردى: أهلك. والأعضاد: جمع عضد، وهو ما يمسك الشيء ويقويه. والجوارح: هنا الأعضاء التي تجرح. وقوله: وانقلب ظهرًا لبطن: المراد به عكس الحال. ونبا: ارتفع. والحاجب: صاحب الأمير. وصلد الزند: أي لم يور. ووهت: أي ضعفت. واليمين: القوة. والثنية: الناقة التي لها ستة أعوام. والناب: المسنة. واغبرّ العيش: أي تكدر. وازورّ: مال والمحبوب الأصفر: هو الدينار. وفودي: صدغي. والموت الأحمر كناية عن الفقر. والعدو الأزرق الشديد العداوة، والأصل فيه: العطش، وبه فسر قوله تعالى: {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} 2 أي عطاشًا. وتلوى تابعي عينه فراره: أي عيانه يغنيك عن اختباره، وفي المثل: إن الجواد عينه فرارة. أي عيانه. وقصارى أمره: أي آخر أمره. وآليت: أي حلفت. وأبذل الحر: أي الوجه. والقرونة: النفس. والحوباء: النفس أيضًا. ونضر: بمعنى حسن. ويقذيها: يلقي فيها القذى. والجمود: الإمساك. ويقذيها الجود: يخرج عنها القذى. والحامك: بمعنى نظمك الشعر. والشعار: الثوب الذي يلي الجسد. والدثار: ما فوقه. والردن: الكم ودردبيس: من أسماء الداهية. والسنة الشهباء:

_ 1 التفنيد: الاحتجاج والمناقشة. 2 طه: 20/ 102.

المجدبة. وتشب: توقد، وغريض: طري. وساغب: جائع. والجريض: العصص والأساة: الأطباء. والمطايا: الإبل. والمطا: الظهر. واليفاع: التل المشرف. والحضيض: القرار من الأرض. تأتلي: تترك. والنعاب: فرخ الغراب. والمهيض: الذي كسر بعد جبر. وأتح: وفق. ورحيض: مغسول. وبمذقة: أي بجرعة. وأعشار القلوب: أي قطع القلوب. وحتى ماحها من دينه الامتياح: أي أعطاها من عادته يعطي. وافعوعم: امتلأ، وفاغر: مفتوح. فاشرأبت: تطلعت. وسبرها: اختبارها. واستنباط: استخراج. والمرموز: المبهم. والغمار: الزحام. والأغمار: البله. وعاجت: عطفت. وأماطت الجلباب: باعدته، وهو الرداء. ونضت: جردت. وخصاص: جمع خصاصة، وهو الثقب في الباب، وكذلك الصبر. وفي الحديث: من نظر إلى قوم من صير باب فقئت عينه. وانسرت: انكشفت. والخفر: الحياء. وسفر: انكشف. وأسفر: أضاء. وأجرى: قصد. واستلقى: رقد على ظهره ورفع رجلًا على رجل. والمغردين: المطربين. والعقيرة: الصوت. وكنه غوري: حقيقة أمري. والخل والخمر: هنا كنايتان عن الخير والشر. وقدحي: سهمي. وقدحي: استخراجي أمره العجيب. والمريد: العاتي. والمرادة: العتو. وجموا: أي سكتوا. ا. هـ. تفسير الألفاظ المحتاجة إلى البيان من هذه المقامة. "ومن صناعات القاضي الفاضل، في حسن الخواتم، قوله": في حسن خاتمة رسالة كتب بها إلى الديوان العزيز الخليفي، وهو: لا برحت راياته السود سويدات1 قلوب العساكر، وأجنحة الدعاء المحلق إلى السماء من أفق المنابر. ومثله قوله: لا برحت الأقدار له جنودًا، والجديدان2 يسوقان إليه في أيامهما ولياليهما إماء3 وعبيدًا؟ ومثله قوله: والله تعالى يرده رد السحب الهاطلة إلى الأمكنة الجدوب4، والمغفرة الشاملة إلى مواقع الذنوب، والمسرة إلى مستقرها من مطالع القلوب. "ومن ذلك" قوله، في ختام جواب كتاب ناصري: ولا زال كالئًا5 للإسلام بسيفه الذي جفنه كجفنه ساهر، ولا أخلى الله منه الدين بقوة منه ولا ناصر.

_ 1 سويدات: جمع مفرده سويداء وهي مركز العواطف من القلب. 2 الجديدان: الليل والنهار سميا بذلك لتجددهما الدائم. 3 الإماء: الخدم من النساء، جمع أَمَة. 4 الجدوب: المقفرة. 5 كالئ: حافظ، حامي.

"ومنه قوله": والله تعالى يغني عن المكاتبات بلقائه، كما أغنى عن بقية الخلق ببقائه. "ومن ذلك قول العلامة الشهاب محمود في ختام رسالة": والله تعالى يجعل الآمال منوطة به وقد فعل، ويجعله كهفًا للأولياء وقد جعل. "وصرع" ابن الصاحب أمين الدين مرزمًا، وهو من أصناف الطير الجليل، ومن طيور الواجب، وسأل الشيخ جمال الدين في إنشاء مطالعة إلى الحضرة الشريفة المقدسة الخليفية، يسأل فيها القبول فيما صرعه من الواجب، فأنشأ الشيخ جمال الدين بن نباتة رسالة بديعة، في هذا المعنى، وحسن ختامها أبدع "وهو": والله المسئول سبحانة أن يمتع المملوك في ولاء المواقف المقدسة باتباع طرقه، وأن ينفعه بالانتماء إذا ألزمته الدنيا طائره في يديه، وألزمته الآخرة طائره في عنقه. "ومن ذلك"، حسن ختام العهد الذي أنشأه القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر، عن السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون، لولده الملك الأشرف صلاح الدين خليل، "وهو": والله تعالى يجعل استخلافه هذا للمتقين إمامًا، وللمعتدين انفصامًا1، ويطفئ بماء سيوفه نار كل حطب حتى تصبح كما أصبحت نار سميِّه بردًا وسلامًا. "ومن ذلك"، حسن ختام رسالتي، التي تقدم ذكرها في باب الاقتباس، والمشتملة على الكائنة التي قدرها الله تعالى على دمشق المحروسة، من الحريق وغيره، "وهو": فوصل المملوك إلى البلاد وقد ودّ يومه لو تبدل بالأمس، ولم يسلم له في وقعة الحرب غير الفرس والنفس! فأعاذ الله مولانا وبلاده من هذه القيامة القائمة، وبدأه في الدنيا ببراعة الأمن وفي الآخرة بحسن الخاتمة. "ومن أبدع الأمثلة، التي ليس لها مثال في حسن الختام، قولي في تقليد بالإشارة الشريفة": والوصايا كثيرة ولكن لا يهدى تمر إلى هجر، فإننا إلى مشورته أحوج من المبتدأ إلى الخبر. والله تعالى يديمه ركنًا لهذا البيت الشريف، الذي تطوف الناس حوله ويُسعى إليه، ولا برح كلامه في المشورة، لفظًا ومعنى، تتم الفائدة به ويحسن السكوت عليه. "وقلت في خاتمة تقليد بنظر الكسوة": فليباشر ذلك علماؤنا أنه من تقرب إلى الله بخدمة بيوته فقد فاز، ولا بد أن يصير لديباجة هذا البيت بحسن توشيحه دار الطراز، فقد

_ 1 الانفصام: التفريق.

أسعده الله وظهر له في توشيح هذا البيت نظم مفيد، ولا ينكر حسن هذا التوشيح للقاضي السعيد، والله تعالى يكرم مثواه في الآخرة بتشييد هذا البيت وقيام شعاره، ولا زالت أنامل بره تتختم بخواتيم الخبر وتنقل أحاديث المحاسن بفصها في أخباره. "ومثله قولي": في تقريظ كتبته لأقضى القضاة، ولي الدين القرشي، على كتابه المسمى: "بعمدة المناسك" "وهو": والله تعالى يزيد صناعة هذا النسك بهجة على كل ناظم، ويجعله لأعماله الصالحة المقبولة من أحسن الخواتم. "وتقدم لي بالديار المصرية" بشارة بوضع المقر الأشرف، سيدي موسى ولد المقام الشريف المؤيدي -سقى الله من غيث الرحمة ثراه- من رأس القلم بالحضرة الشريفة جاءت نسيج وحدها، وواسطة عقدها. "منها": حملت به أمه وأبرزته كشمس الحمل1 بهجة ونورًا، وأصبح فؤاد أم موسى فارغًا ولكن ملأ الدنيا سرورًا. "وتوجهت"، بعد ذلك التاريخ، إلى المقر ثغر الإسكندرية المحروسة في مهم شريف، فورد على نائب الثغر المحروس بشارة شريفة، بمولد سيدي المقر الأشرف الناصري، محمد ولد المقام الشريف المؤيدي -نوّر الله ضريحه- فركب نائب السلطنة الشريفة بالثغر منها، "وهو": أكرم بها صحيفة محمدية أمسى بها كل قلب مأنوسًا، وتلت مسرتها من تقدم قبلها من الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى. فالحمد لله على تواتر هذه التهاني التي أتهم بها كل حادٍ وأنجد، وعمت بركتها بإبراهيم وموسى ومحمد، والله تعالى يوصل أحاديث التهاني المؤيدية ليتسلسل كل حديث بمسنده، ولا برحت الخواطر الشريفة مسرورة بمحمد وحديثه ومولده. "ومن ذلك"، قولي في ختام تقليد قاضي القضاة ولي الدين العوافي بقضاء قضاة الشافعية، بالديار المصرية والممالك الإسلامية، "وهو": والله تعالى يطلق له أعنة الإقبال، وينيله من نعمه ما لا يخطر قبل وقوعه ببال، ويحلي به جيد الدهر وقد تحلى بعدما ذهب رونقه وزال، كما أحسن له في البداية، أن يحسن إليه في النهاية، حتى يقول الحمد لله على كل حال. "ومثله" في الحسن، ختام تقليد قاضي القضاة أبي البقاء علم الدين صالح البلقيني، "وهو": والله يرفع علم علمه على كل غاد ورائح، ويجعل كلًّا من عمله وحكمه واسمه الكريم صالِحًا في صالح في صالح.

_ 1 الحمل: منزلة من منازل الشمس أحسن ما تكون فيها نورًا.

"وقد عنَّ لي" أن أختم ما تقدم لي من الأمثلة في حسن الخواتم، بختام كتاب المسك من أقل عبيده، ويود منثور الدر أن ينتظم في سلك عقوده، وذلك أني كتبت للمقر المرحومي الفتحي، فتح الله صاحب دواوين الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية، كان على لسان قاضي القضاة شرف الدين مسعود الشافعي وأعيان طرابلس المحروسة، وقد وصلوا إلى الديار المصرية في البحر قسرًا، مما عاينوه من أهوال تلك المحنة المشهورة، التي قدرها الله تعالى على طرابلس المحروسة. وحسن الختام في القصة المذكورة قولي: والقوم يا نظام الملك قد دهمهم من لم يفرق بين التحليل والتحريم، إلى أن صرحوا بالطلاق، ووقعوا في التغابن، وشمت المنافقون، ومنعوا في الجمعة الصف، ومست فرقتهم الممتحنة في الحشر، ولم يسمع لهم مجادلة، لما فزعوا بالحديد في هذه الواقعة، ولكن منّ الرحمن، وطلع قمر الأمن، ولاحظهم نجم السعد وصعدوا طور النجاة، وكفكفوا ذاريات الدموع، وطردت عنهم العداة إلى قاف، لما دخلوا حجرات مصر، وحظوا من مولانا السلطان بعد سد المذاهب بالفتح1. "قلت": هذا الختام جعلته خاتمة للأمثلة المنثورة في هذا الباب. وأما الأمثلة الشعرية، فمن المجيدين فيها أبو نواس، حيث قال في خاتمة قصيدة مدح بها الخصيب: وإني جدير إذ بلغتك بالمنى ... وأنت بما أملت منك جدير فإن تولني منك الجميل فأهله ... وإلا فإني عاذر وشكور ومنه قول أبي تمام معتذرًا في آخر قصيدة: فإن يك ذنب عنَّ أو تكُ هفوة ... على خطإٍ مني فعذري على عمد1 ومنه قول أبي الطيب، في ختام قصيدة: فلا حطت لك الهيجاء سَرْجًا ... ولا ذاقت لك الدنيا فراقا2 وقال أبو العلاء، من ختام قصيدة: ولا تزال بك الدنيا ممتعة ... بالآل والحال والعلياء والعمر3

_ 1 عنَّ: ظهر وبان. 2 السرج: البردعة توضع على ظهر الحصان ليركب. 3 الآل: الأهل.

وقول الأرجاني في ختام قصيدة: بقيت ولا أبقى لك الدهر كاشحًا ... فإنك في هذا الزمان فريد1 عُلاك سوار والممالك معصم ... وجودك طوق والبرية جيد2 وقول ابن نبيه، في ختام قصيدة أشرفية: دمتم بني أيوب في نعمة ... تجوز في التخليد حد الزمان والله لا زلتم ملوك الورى ... شرقًا وغربًا وعلى الضمان وقال شيخ شيوخ حماة، في ختام مديح مظفري: فلا زلت ذا ملك جديد مؤيد ... تدين لك الدنيا وتصفو لك الأخرى ولا زال للأيام طول على الورى ... وما الطول إلا أن يطيل لك العمرا وقال ابن سنا الملك، في ختام مديح عادلي: بقيت حتى يقول الناس قاطبة ... هذا أبو إلياس أو هذا أبو الخضر3 وقال الشيخ جمال الدين بن نباته -رحمه الله- في ختام مديح مؤيدي: فابق عالي المقام داني العطايا ... قاهر الباس ظاهر الأنباء يتمنى عدوّك العيش حتى ... أتمنى له امتداد البقاء وقال الشيخ برهان الدين القيراطي -رحمه الله تعالى- في ختام مديح نبوي: يا إمام الهدى عليك الصلاة ... وسلام في الصبح ثم العشاء ما صبا في أصائل قلب صب ... ذكر الملتقى على الصفراء ومثله قول الشيخ زين الدين عمر بن الوردي، في ختام قصيد نبوي: صلى عليك الله يا خير الورى ... ما نار نور من ضريحك في الدجى ومثلهما قولي، في ختام مديح نبوي، لكن مسك هذا الختام أضوع من ختامهما في المديح النبوي، وهو:

_ 1 الكاشح: المبغض. 2 السوار: ما تتحلى به المرأة في معصمها. والجود: الكرم. والطوق: القلادة تطوق العنق. والجيد: العنق وما يليه من النحر. 3 إلياس والخضر: من أنبياء الله سلامه عليهم.

عسى وقفة أو قعدة لابن حِجة ... على بابكم يسعى بها وهو مُحرِم فقد جاء يشكو من ذنوب تعاظمت ... وقدرك في يوم الشفاعة أعظم وقد ناله في عنفوان شبابه ... هموم وسيف الهم للظهر يقصم وعارضه قد شاب في زمن الصبا ... عسى بك من ذا العارض الصعب يسلم فيا وردنا الصافي طيور قلوبنا ... عليك إذا ما نابها الضيم حُوَّم وقلت بعده في حسن الختام: عليك سلام نشره كلما بدا ... به يتغالى الطيب والمسك يختم وبيت الشيخ صفي الدين في حسن الختام "هو": فإن سعدت فمدحي فيك موجبه ... وإن شقيت فذنبي موجب النقم وبيت العميان فيه "هو": لكن وإن طال مدحي لا أفي أبدًا ... فاجعل العذر والإقرار مختتمي وبيت الشيخ عز الدين الموصلي قوله: فجعل له مخلصًا من قبح زلته ... في حسن مفتتح منه ومختتم وبيت العميان في حسن الختام أبدع من بيت الشيخ صفي الدين الحلي في حسن ختامه، وموجب ذلك التورية بتسمية النوع، وتمكين القافية في آخر البيت. وبيت الشيخ عز الدين وأبدع من بيت العميان، إذ فيه الترشيح بذكر التخلص والافتتاح والمختتم، ولكن فاته الترتيب، فإنه قدم ذكر التخلص على الافتتاح. وبيت بديعيتي: حسن ابتدائي به أرجو التخلص من ... نار الجحيم وهذا حسن مختتمي هذا البيت العامر بمدح النبي -صلى الله عليه وسلم- ختامه مسك، لكونه جاء خاتمة لما وصلت إليه القدرة من الأوصاف النبوية، واجتمع فيه: حسن الابتداء مورى به، مع حسن التخلص، وحسن الختام على الترتيب. ولو قال الشيخ عز الدين في بيته: بحسن مبتدأ، ساعدته التورية بتسمية النوع الذي هو حسن الابتداء.

_ 1 العارض: الأولى: بمعنى الشعر الذي على قفى الرأس بين الأذنين. والثانية: بمعنى ما يعرض له من مرض وأحداث.

قال المؤلف، رحمه الله تعالى: هذا المصنف المبارك، أعني البديعية وشرحها، وإذا ملكه متأدب شرفت نفسه عن النظر في غيره من تذاكر الآداب، فإني ما تركت نوعًا من أنواع البديع إلا أطلقت عنان القلم في ميادين الطروس، مستطردًا إلى استيعاب ما وقع من جيده ورديئه، ونصبت فيه البحث بين المقصرين والمجيدين. بيد أني أقول وبالله المستعان: إن العميان اختصروا جانبًا كبيرًا من البديع، وما أجادوا النظم فيما وقع اختيارهم عليه. والشيخ صفي الدين الحلي أجاد في الغالب، لخلاصه من التورية في تسمية النوع، ولكنه قصَّر في مواضع نبهت عليها في مظانها. والشيخ عز الدين -رحمه الله- قصّر في غالب بديعيته، لالتزامه بتسمية النوع البديعي ومراعاة التورية. والبحث مقرر مع كل منهم في إجادته وتقصيره، عند إيراد بيته على ذلك النوع الوارد. وقد تقدم الإطناب في تقرير حسن الابتداء وبراعة الاستهلال، وفي الفرق بينهما، وأوردت في حسن التخلص ما وقع من غريبه وبديعه، وما تقرر من البحث مع المقصر في نظمه، وما يتفرق به شمل مجاميع الأدب وينسى تذاكره، وقد انتهت الغاية بحمد الله إلى حسن الختام. وأوردت فيه ما لا خفيت محاسنه على المتأمل، ولا ضمه صدر كتاب، وأنا أسأل الله سبحانه وتعالى حسن الخاتمة، وببركة الممدوح عليه أفضل الصلاة وأتم السلام. وقد فرغت من تأليف الكتاب في شهر ذي الحجة الحرام سنة ست وعشرين وثمانمائة، وحسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوَّة إلا بالله العلي العظيم، وسبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم، وأستغفر الله العظيم وأتوب إليه، وصلى الله على سيدنا محمد النبي وعلى آله وصحبه وسلم.

فهرس الموضوعات

فهرس الموضوعات 3 ذكر النوادر 7 ذكر المبالغة 11 ذكر الإغراق 16 ذكر الغلو 21 ذكر ائتلاف المعنى مع المعنى 24 ذكر نفي الشيء بإيجابه 27 ذكر الإيغال 31 ذكر التهذيب والتأديب 36 ذكر ما لا يستحيل بالانعكاس 39 ذكر التورية 252 ذكر المشاكلة 254 ذكر الجمع مع التقسيم 256 ذكرالجمع مع التفريق 258 ذكر الإشارة 260 ذكر التوليد 263 ذكر الكناية 266 ذكر الجمع 268 ذكر السلب والإيجاب 270 ذكر التقسيم 274 ذكر الإيجاز

276 ذكر المشاركة 278 ذكر التصريع 280 ذكر الاعتراض 282 ذكر الرجوع 248 ذكر الترتيب 286 ذكر الاشتقاق 288 ذكر الاتفاق 291 ذكر الإبداع 293 ذكر المماثلة 295 ذكر حصر الجزئي وإلحاقة بالكلي 297 ذكر الفرائد 299 ذكر الترشيح 301 ذكر العنوان 303 ذكر التسهيم 305 ذكر التطريز 307 ذكر التنكيت 309 ذكر الإرداف 311 ذكر الإيداع 399 ذكر التوهيم 342 ذكر الألغاز 362 ذكر سلامة الاختراع 370 ذكر السير 373 ذكر حسن الاتباع 380 ذكر المواردة 383 ذكر الإيضاح 385 ذكر التفريع 388 ذكر حسن النسق 390 ذكر التعديد 391 ذكر التعليل 393 ذكر التعطف

394 ذكر الاستتباع 396 ذكر الطاعة والعصيان 399 ذكر المدح في معرض الذم 401 ذكر البسط 403 ذكرالاتساع 405 ذكر جمع المؤتلف والمختلف 407 ذكر التعريض 409 ذكر الترصيع 411 ذكر السجع 431 ذكر التسميط 433 ذكر الالتزام 435 ذكر المزاوجة 437 ذكر التجزئة 438 ذكر التجريد 440 ذكر المجاز 442 ذكر الائتلاف 446 ذكر التمكين 448 ذكر الحذف 453 ذكر التدبيج 455 ذكر الاقتباس 478 ذكر السهولة 482 ذكر حسن البيان 484 ذكر الإدماج 486 ذكر الاحتراس 488 ذكر براعة الطلب 489 ذكر العقد 491 ذكر المساواة 493 ذكر حسن الختام

§1/1