خريدة القصر وجريدة العصر - قسم شعراء العراق جـ 4 المجلد الثاني 2

العماد الأصبهاني

الأمير أبو شجاع عاصم بن أبي النجم الكردي

من الفضلاء والأدباء والشعراء الأمير أبو شجاع عاصم بن أبي النجم الكردي من أعيان الأكراد الجاوانية. وكان ينزل أسفل واسط على دجلة، يأخذ منها إلى نهر برحدا والصينية وقرية أبي النجم عند الفاروث، إلى أبيه

منسوبة، وإليه تنتسب العاصمية التي هي برحدا من أمهات القرى محسوبة. وكان رجلاً من الرجال، وبطلاً من الأبطال. أسد قهر الآساد، وذو نجدة طلاع أنجاد. كان من عادته أن يقصد وحده في خيسه الضرغام، فيزيره قبل أن يزأر الحمام ويطعنه بحربةٍ تجعل لمعطسه الإرغام. ولعله قتل في عمره خمسين أسداً، لم يشرك في قتله أحداً. هذا من سير شجاعته. وأما الحديث السائر من راعته، فإنه مشهور، وبالأدب الوافر مذكور. مصاع عاصم ما ذكرناه، ومصوغه ما تدهش منه إذا أوردناه. جيد شعر غيره، كرديء هذا الكردي، عقاب الوغى وشهاب الندي. نظمه مطبوع، باللطف مشفوع.

حكى لي بعض رؤساء الهمامية من بني مروان: أن عاصماً كان له خصم ينازعه في بعض الأملاك، أو دعوى بجهة أخرى، فكتب إلى سيف الدولة، صدقه، بن منصور يشكو منه، ويستنزله عنه، أبياتاً حسنة ومقطعات. فمن جملتها، قوله: مولايَ، خصمي فاسقٌ. ومَنِ ادَّعَى ... زوُراً، ولم يخشَ العواقَب، يَحْلِفِ وَلأخذُ مالِ المسلمينَ، وعصبُهم ... بالُّزور، أعظمً من يمين المُصْحَفِ وقوله: وخصميَ ذو مالٍ، ومن أجل مالِه ... أًهانُ، وما يُلْوَى عليَّ، ويُكرَمُ ولو حلَّ ذو مالٍ بأكناف فارس ... ونادَى، أجابته قريشٌ وجُرْهُمُ ولما قتل سيف الدولة، صدقة، وأقطعت بلاد الأكراد وغيرهم، وكان بدران، بن صدقة بِالنِيّل، فأقُطعت النِيّل لكرديٍّ يقال له سياكيل، وذهب بدران إلى حلب، قال الأمير عاصم

في ذلك أبياتاً مطبوعة، أنشدنيها بواسط بعض المتصرفين: تقول، و ... مسبطرٌّ، وساقُها ... على كتفي: هذا هو العَجَبْ أرى رُفِعَتْ رجلايَ، والفعلُ واقع ... عليها، وهذا فاعلٌ، فبِمَ انتصَبْ فقلتُ لها: يا مَنْ جُعِلْتُ لها الفدا ... ألم تعلمي أَنَّ الَّزمانَ قد انقلَبْ؟ قُرى النِيّلِ قد أضحى سياكيلُ آمراً ... بها، ونُفِي بدرانُ منها إلى حَلَبْ!

الرئيس أبو الفرج بن المحبر الواسطي

الرئيس أبو الفرج بن المحبر الواسطي من الفراتية، وهي قرية من أعمالها. وشي ابن المحبر محبر، ولفظه في نظمه مطبوع محرر. وكان شيخاً مسناً، صار شاعراً بعد أن كان يقطع مسناً. بلغ ستاً وتسعين سنة، وكأن هذا العمر الطويل عند انقضائه سنة. ذكر ذلك صديقي القاضي عبد المنعم الواسطي، وأنشدني له من أبيات: وما زالت الآمال فيكم تهزني ... فلماّ الْتَقَيْنا، صغَّرَ الخَبَرَ الخُبْرُ

ولاقيت منكم كلَّ وجه معِبّس ... فهَبْ لم يكن بِرٌّ، فِلمْ لَمْ يكنِ بِشْرُ وأنشدني غيره من واسط بها له، يهجو بعض بني أبي الجبر: إذا هجوتكمً لم أخشىَ سطوتَكُمْ ... وإنْ مَدَحْتُ فما حظّي سوى التَّعَبِ فحين أصبحتً، لا خوفاً ولا طمعاً، ... رغبِتُ في الهجو، إشفاقاً من الكذِبِ

الفقيه أبو بكر أحمد بن المختار بن مبشر الهاشمي

الفقيه أبو بكر أحمد بن المختار بن مبشر الهاشمي من قرية، يقال لها الإسكندرية على دجلة بإزاء الجامدة. فقيه على مذهب الشافعي. قال السمعاني في تاريخه: ورد بغداد في سنة عشر وخمس مئة متظلماً من عامل. أخبرنا أبو الفضل، محمَّد، بن ناصر، الحافظ السَّلاميّ في

تاريخه، فيما أجازه لنا: أنشدنا أحمد، بن المختار لنفسه، ولي من الحافظ محمد، بن ناصر إجازة، قال: أنشدنا أحمد، بن المختار لنفسه: ب: بغدادٍ أرِقتُ، وبات صحبي ... نياماً ما يَمَلُّونَ الُّرقادا وذاك لأِتَّهم باتوا بِراءاً ... من الهمّ الَّذي ملأ الفؤادا ولو سكَن الغرامُ لهم قلوباً، ... أو اقتدحَ الهوى فيهم زِنادا، إذّنْ لَو جدتُهم مثلي سُكارَى ... بكأس الحبّ، قد هَجَرُوا الوِسادا. وممِاّ قرَّب التَّسهيدَ منَي، ... وصدَّ النّومَ عن جَفْني وذادا، تذكر قول ذات الخال لما ان ... تجعنا عن بلادهم بلادا نراك سَئِمْتَنا ورغِبتَ عنَا ... وقِدْ ماً كنت تَمْنَحُنا الوِدادا. فقلتُ لها: مَعاذَ اللهِ أنّي ... أُطيعُ لغيركم أبداً قِيادا لقد أودعت حبكم فؤادي ... وقد ما أسكنته مني السوادا ولولا أن يقال: أراد سيراً، ... ولكن خاف من سبب فعادا، لَما آثرتُ فُرقتكم، ولكنْ ... إلهُ العرشِ يفعَلُ ما أرادا

السديد أبو الحسن علي بن المسيح

السَّديد أبو الحسن عليّ بن المسيح من الجازرة من أعمال واسط مَدُّه بلاجَزْر، وعلمه غير نَزْر وكان بِبغداد يمدح شرف الدّيِن، عليَّ، بن طِراد الوزير. وهو من قضاة الجازرة، لكن حكي أن اعتقاده كان فاسداً. وله: ما أناديك من وراءِ حجابِ ... فأَذُمَّ البِعادَ بالاقترابِ أنت من ناظِرَىَّ في موضع اللَحْ ... ظِ، ومن منطقي مكانَ الصَّوابِ

الرئيس أبو الغنائم محمد بن علي بن المعلم

الرئيس أبو الغنائم محمد بن علي بن المعلم

متقدم الهرث قرية على نهر الصينية من أعمال واسط، يلقب بنجم الدين بن المعلم. شعره الديباج الملمع المعلم، طرازه المعنى الممنع المحكم، فلفظه السوار ومعناه المعصم، فهو المتقدم في رئاسته وفي فضله المقدم. الهرث آثرها لوطنه، وبغداد تضيق عنه لفطنه. أم حِمى شيخ يشيم حماه بارقة العلم، وبحرٍ رحب الصدر في النثر والنظم، وحسام ما سحٍ لأعراض اللئام، وغريد صادق في رياض الكرام. ورم من بحرِهِ فرائد الفرائد، تحظ بالعقود والقلائد، واغتنم در أبي المكارم، فإنها من الغنائم، الدارة الغمائم. كلامه حلو حالٍ، عالٍ غالٍ صفو من الرنق خالٍ ومنطقه منطقة الفصاحة، ووِشاح الحسن والملاحة. ولسانه مبدي اللسن ومنشئ المقال الحسن. وقلبه قالب للمعاني قابل، وطل فضله عند الفضلاء وابل. فأين مهيار من أسلوبه لو عاش شرب من كوبه. ولو سمع نظمه الرقيق، لصار عبده الرقيق، وبعلمه اعترف، ومن يمه اغترف؛ وهان ابن هانئ المغربي مع غرائبه، لو ركب خضم عجائبه.

وسنورد طرفاً من طرفه، ونهدي للأصدقاء تحفة من تحفه، فإنا إلى نظمه نظماً، ونرشفه ولا رشف أحوى ألمى. كان يزورنا بالهمامية عند كوني فيها ناظراً، ويلم بي رائحاً وباكراً، لصداقة صدقٍ كانت بيني وبين ابن أخيه الكمال بن حراز، فرأيت له مقولاً في الفصاحة ماضياً ولا مضاء جراز، وينشر عندي من فضائله حقيبة بزاز. فكم فأرة مسك فتقها، وخلة أدب رتقها، وباب مشكل فتحه، وزندٍ أصلد عند غيره فقدحه. فمن جملة قصائده، ما أنشدنيه سنة اثنتين وخمسين وخمس مئة، وذكر: أنه كتبه إلى أبي غانم اللؤلئي جواباً، وهو يشتمل على ذم لزوم الوطن والحث على السير، جواب قطعةٍ كتبها إليه، مطلعها: (إنعم، فنور صباحها قد أسفرا) :

تَصِلُ العلى متخمِّطاً هجَرَ الكَرى ... فانهَضْ لها نما المجدُ إِلاّ في السُّرَى سِرْ طالباً غاياتِها إِمّا تُرَى ... فوقَ الثُّرَيّا أو تُرَى فوقَ الثَّرَى لا تُخلِدَنَّ إلى المُقام فإِنّما ... سيرُ الهلالِ قضَى له أن يُقْمِرا إِيهٍ وَليِّ الدّينِ ما غُرَرُ العلى ... إِلاّ لِمَنْ ركِب الخِطارَ وغَرَّرا أيقظتَني ورقَدْتَ عن إِحرازها ... وحِيازةُ العلياءِ في أن تَسْهَرا جرَّدت من عزمي المُوَزَّعِ مُصْلَتاً ... وجلوت من همّي المُرَفَّعَ مُسْفِرا لك واسطٌ ومن الوقوع بمثلها ... حذّرت قبلُ وواجبٌ أنْ تحذرا قال: أردتُ به هذا المعنى: إِمّا ذُنابي فلا تحفُلْ بمَنْقَصة ... أو قِمَّةُ الرأَسِ واحذرْ أنْ تُرَى وَسَطا

ذَرْها وذَرْ ذِكرَ الإِماءِ ولا تَعُجْ ... في الرَّبْع صَوَّحَ نبتُه أو نَوَّرا لا تَبْكِ داراً فالفتى مَنْ إِنْ دعا ... دمعاً عصاه وإِنْ أراد دماً جرى مَنْ باتَ رَهْنَ مُطَوَّقٍ ومُسَوَّر ... يوماً وأصبحَ بالعلاء مُسَوَّرا أين الكِناسُ من العَرِين وأين غِزْ ... لانُ اللِوَى في المجد منْ أسْد الشَّرَى ما لي وللأوطان لستُ أُعِيرُها ... نظراً تأهَّلَ رَبْعُها أو أقفرا فَالهُرْثُ دارٌ قد سمِعتَ كما ترى ... حالي بها دَعْ ما سمِعتَ وما تَرَى إِشهَرْ سُيوفَ العزمِ من أغمادها ... فالسَّيفُ ليس يُخافُ حتّى يُشهَرا ما إِنْ رأيتُ ولا أرى زنداً وَرَى ... لِمُلازمي أوطانِهم من ذا الورى لو يُنتجُ الوطنُ العلى ما سار عن ... غُمْدانَ سيّدُ حِمْيَرٍ مستنصرا

ولو استتمَّ بِمَكَّةٍ لِمُحَمَّدٍ ... ما رامَ لم ينصِب بِيَثْرِبَ مِنْبَرا والليثُ لو وجَدَ الفريسةَ رابضاً ... أو ناهضاً في خِيسه ما أَصْحَرا لا عارَ في بيع النُّفوس على الرَّدَى ... عندي إِذا كان العلاءُ المشتَرىَ أأشَرْتَ في قصد الملوكِ وقلتَ إِنَّ ... البحرَ يمنَحُ لا السَّواقي الجَوْهَرا والرّأيُ رأيُك والفتى مَنْ يمتطي ... ظهرَ الدُّجَى لا مَنْ يَبِيتُ مفكِّرا في الرَّيّ رِيٍّ للفتى وبِتُسْتَرٍ ... سِترٌ لمَنْ بِالرَّيّ زوّج تُسْتَرا فالمجدُ من أيدي الأَكابرِ يُجْتَنَى ... والمُدْن لا أيدي الأصاغر والقُرَى حَتّامَ حظّي في الوِهاد وحظُّ أص ... حابِ الدَّناءة في السَّوامق والذُّرا

ما الجبنُ يَحميني الحِمامَ ولا أرى الْ ... أقدارَ تجلُبُ لي سِوى ما قُدِّرا لا بُدَّ منها وثبةً تُعْرَى الظُّبَى ... فيها ويُكسَى الجوُّ منها عِثْيَرا أشكو من الأيّام ما ألقى بها ... وجهاً على تلوينها مستبشرا ما عذرُ مَنْ لم يلقَ يوماً أبيضاً ... منهنَّ إِنْ لم يلقَ يوماً أحمرا فَلْيَهْنِ هذا الدَّهْرَ أنّي ما عَرَفْ ... تُ العُرفَ منه ولا نَكِرْت المنكَرا حسبي الَّذي أَوْلى وليُّ الدِين مِن ... مِنَنٍ سَوابغَ لم تَقِلَّ فتكثُرا فلقد كفاني اللُؤلُئِيُّ بجوده ... أَنْ أَجتدي غَدَقاً وأَسأَلَ مُمْطِرا بُدِّلت عَدْناً من لَظَى في ظلّه ... ووَرَدْت من بعد الجَحيم الكوثرا وثَنَى زمانَ السُّوء منذُ عَرَفْته ... عنّي حوادثَه فعُدْنَ القَهْقَرَى قَيْلٌ إِذا استمطرتَ غَرْبَ حُسامه ... ويَراعِه عَلَقاً وعَرْفاً أمطرا

حاز العلى مستمسكاً بحماسة ... وسماحة وكتابة وهي العُرا فيمينُه في سِلْمِهِ وخِصامِهِ ... ما إِنْ تفارقُ أبيضاً أو أسمرا في حَلْبَة الشِعر المثقَّف لو جرى ... معه امْرُؤُ القَيْسِ بنْ حُجْرٍ قَصَّرا أو لو جرى قلم ابنِ مُقْلَةَ طالباً ... في الخَطّ شَأْوَ يَراعِه لتَعَثَّرا قُل عن فصاحته وعن إِقدامه ... ما شِئتَ وارْمِ وراءَ قُسٍّ عَنْتَرا ياجا علِي كأبي نُوَاسٍ فاسقاً ... هَبْني كذاك أأنت في زُهد الْبَرا أَمّا الشَّريفُ فما أَضعتُ ذِمامه ... وعقَلْت من آرائه ما سمّرا

وحفِظتُه في غيبه ولَكن لو ... ضيّعتُ أنجدَ من علِمت وغوَّرا فاحفَظْ أبا الفضل الَّذي إِنْ رُعْتَهُ ... أضحى لماءِ العنبريّ معبِرّا حُوشيتَ أن تُضْحي به مستبدلاً ... يوماً وحُوشِيَ أن يُرضى متغيِرّا فخراً لِما أَوْلَيْتَنِيهِ وحَقُّ مَنْ ... لبِس النُّجومَ قلائداً أن يفخَرا هذا القَريضُ يقول حين أَرَيْتُه ... ما قلت: كلُّ الصَّيْدِ في جَوْف الفَرا وله من كلمة في رقَة النسيم السحري، وحسن الوشي التستري، سارت، وأنجدت وغارت، حتى شدا بها الشادي، وحدا بها الحادي، ووجد بها أرباب الغناء الغنى والوجد، وأصحاب القلوب الهوى

والوجد، لا سيما بمطلعها المقبول المعشوق، المعسول المرموق الموموق. وهي في مدح الأمير هندي الكردي: تَنبَّهِي يا عَذَباتِ الرَّنْدِ ... كم ذا الكَرى هَبَّ نسيمُ نَجْدِ مَرَّ على الرَّوض وجاء سَحَراً ... يسحَبُ بُرْدَيْ أَرَجٍ وبَرْدِ حتَّى إذا عانقت منه نَفْحَهُ ... عادَ سَمُوماً والغرامُ يُعدي وا عَجبا منّيّ أَستشفي الصَّبا ... وما تَزيدُ النَارَ غيرَ وَقْدِ أُعَلِّلُ القلبَ ببانِ رامَةٍ ... وما ينوبُ غُصُنٌ عن قَدِّ

وأسال الرَّبْعَ ومَنْ لي لو وعى ... رَجْعَ الكلامِ أو سخا برَدِّ أأقتضي النَّوْحَ حماماتِ اللِوَى ... هَيْهاتَ ما عندَ اللِوَى ما عندي كم بينَ خالٍ وجَوٍ وساهرٍ ... وراقدِ وكاتمٍ ومُبْدِ ما ضَرَّ مَنْ لم يسمَحُوا بزَوْرَة ... لو سمَحَت طُيوفُهم بوعدِ بانُوا فلا دارُ العقِيقِ بعدَهم ... دارٌ ولا عهدُ الحِمى بعهدِ آهٍ من البعد ولو رَفَقْتُمُ ... ما ضَرَّني تأوُّهِي للبُعْدِ عِشْقيَ لا ما عَشِقَتْهُ عُذْرَةٌ ... قبليَ يَسْتَنُّ به من بَعدي ماذا على العاذل إِن كَنَيْتُ عن ... حُزْوَى وليلى بالحِمى وهِنْدِ تَعِلَّةٌ وقُوفُنا بطَلَلٍ ... وضَلَّةٌ سُؤالُنا لصَلْدِ

إِن نكَّبَ الغيثُ الحِمى وضَنَّ أَنْ ... يُنِيرَ في عِراصها ويُسْدِي سقته عيني ورَمَتْهُ أَضلُعي ... بوابل وبارق ورعدِ طَرْفٌ يَجِفُّ المُزْنُ وَهْوَ واكفٌ ... كأنّما جَفْناه كَفّا هِنْدِي وله من أخرى في فنها، وحلاوتها وحسنها، غدت لقلوب الأحرار مرقة، لطفاً ورقة:

أَرُقىً وَهْوَ المحِبُّ المُسْتَهامُ ... ما يُداوَى بالتَّعاوِيذ الغرامُ خَفِّضُوا أينَ نِطاسِيُّ الهوى ... بَعُدَ المطلوبُ أم عَزَّ المرامُ قصُرت عن بُرْئه أيدي الإِسا ... كيفَ حسمُ الدّاءِ والدّاءُ عُقامُ يا سليمَ الحَدَقِ النُّجْلِ متى ... تجِدُ البُرْءَ وحاميهِ الحُسامُ ودواءُ الحبّ في شوك القَنا ... مُتْ لَدِيغاً كلُّ دِرْياقٍ سِمامُ أيُّهذا اللائمي في حبّهمْ ... وكَلامُ المَرْءِ في العَذْلِ كِلامْ أعَذُولٌ أم عدوُّ أنت لي ... ومَلامٌ في هواهم أم خِصامُ قُل لنُوّامِ الغَضَى عن ساهر ... مَنْ تجافاه الهوى كيف ينامُ

صحِب الحُبَّ غلاماً وارتدى ... بِرِداء الشَّيبِ والحبُّ غلامُ غبتُمُ بالشَّمس عن ناظره ... والضُّحى مثلُ الدُّجَى كلٌ ظلامُ سائلِ الوْرْقَ وبانتِ الحِمى ... إِن وعى القولَ غصونٌ وحَمامُ يا ثَناكُنَّ زَفيري لا الصَّبا ... وسقتكنَّ دُموعي لا الغَمامُ أغِناءٌ أم عَناءٌ عَنَّ لي ... يومَ سَلْعٍ وحَمامٌ أم حِمامُ طُلَّ في الخَيْف دمي واعَجَبا ... كيف في خَيْفِ مِنَى طُلَّ الحرامُ نَظَري لم أَدْرِ لولا لحظةٌ ... في المُصَلَّى أَنَّهُ الموتُ الزُّؤامُ نظرٌ لولاه ما كان الهوى ... وهَوىً لولاه ما كان السَّقامُ أعشَق اللومَ عليكم عالماً ... أَنَّ نارَ الشَّوقِ يُذْكيها المَلامُ غيرَ أَنْ قد صارَ دِرعي سَقَمي ... فحماني اللومَ واللومُ سِهامُ

كيفَ يُلْحَى في هواكم ناحلٌ ... لا تراه العينُ أم كيفَ يُلامُ ذابَ حتّى صارَ يُدْعَى هاتفاً ... ما درى النّاسُ به لولا الكلامُ ما على مَنْ هانَ دمعٌ ودمٌ ... فيه لي إِنْ عزَّ صبرٌ ومنامُ يتحامى هَفَواتي شاربٌ ... مالَه غيرُ دمِ القتلى مُدامُ غيرُه الجاني وإن كان به ... من دمي رِيٌّ ولي منهُ أوامُ أنا سلَّمْت فؤادي طائعاً ... فعلى قلبيّ من جسمي السَّلامُ وله من قصيدة: مهلاً فحادي عِيسِنا حينَ حدا ... أحيا غراماً وأماتَ جَلَدا لا تَعِدُونا بِغَدٍ فإِنَّنا ... نَقْضي من البَيْنِ ولا نَلْقى غدا يا ظاعنينَ لم يَبِيتُوا كَمَداً ... وقاتلينَ لم يَخافُوا قَوَدا تطاولَ الليلُ فصبري بعدَكم ... كفجره لا علمَ لي أينَ غدا

وافَى إِليَّ أصدقائي لُوَّماً ... فمُذْ أَبَيْتُ لومَهم عادوا عِدَى هيهاتَ ما اللومُ مُفِيدي رُتْبَةً ... لو عَقَلُوا ولا مُنِيلي أَمَدا قد قلتُ للعاذل إِذْ صَوَّبَ في ... مَلامه من غَيّه وصَعَّدا خَلِّ فؤادي لفي الهوى وشأنَهُ ... ما وَجِدَ ابنُ مَعْمَر ما وَجِدا يحسَبُ أسبابَ الهُدَى العَذْلَ وفي ... دِين الهوى هو الضَّلالُ لا الهُدَى ما أنت من شأني ولست مُشفقاً ... في حالة ولا أراك مُسعِدا حَسْبُك فاللومُ وسمعي أصبحا ... مُغَوِّراً في صَوْبه ومُنْجِدا ما أنا إِلاّ رجلٌ تسلَّمُوا ... فؤادَه وغادروه جسدا

إن وَصَلُوه وَصَلُوا تغفُّلاً ... أو هجروه هجروا تَعَمُّدا أطلُبُ أَن يعودَ بعدَ بَيْنِهم ... قلبي وقلبي ما يعودُ أَبَدا أَينَ ليالِيَّ القِصارُ بالحِمى ... وا كبِدا على الحِمى وا كبِدا يا صاحِ والصّاحبُ لا يُدْعَى به ... إِلاّ إذا جارَ الغرامُ واعتدى قلتُ البُكا يُشفي الصَّدَى وا عَجبا ... هذا دمي ما بالُه يُذكي الصَّدَى غَنِّ بذكراهم لَعَلَّ غُلَّةً ... أضرمَها هواهُمُ أَنْ تَبْرُدا ضاعَ اصطباري ووَجَدْتُ سَقَمي ... ليتَ السَّقامَ كاصطباري فُقِدا خُذْ بيدي من سطوة البَيْنِ فما ... أظُنُّ أنَّ البَيْنَ أبقى لي يدا وله من أخرى صابية المعنى، في لفظها شفاءُ المُعَنَّى وبُرْء المضنى:

نَعَمْ لجِيرانِ العَقيق الذَّنْبُ ... والبُعدُ في أيديهِمُ والقُرْبُ هم عذَّبوك في الدُّنُوّ والنَّوَى ... وقربُهمْ مع العذاب عَذْبُ لا تعتبِ القومَ فكلٌّ عَرَبٌ ... تَغْدِرُ ما ينفَعْ فيها العتبُ يا عُرْبُ كم ذا الغدرُ وهو سُبَّةٌ ... ما هكذا كانت تَدِينُ العُرْبُ ويا نُزولَ الشِّعْب من غَزِيَّةٍ ... لله ما جَرَّ عليَّ الشِعّبُ هل في قضايا الحبّ إن أنصفتُمُ ... يُؤخَذُ بالطَّرْفِ السَّقيمِ القلبُ أمَيْمَ ما فيما أُجِنُّ رِيبةٌ ... إن تسألي تُخبِرْكِ عنّي الشُّهْبُ وعاذلٍ يقولُ لي ولم يَزَلْ ... بالعَذْل من نيرانِ الهوى يَشُبُّ إِنْ جرَّرَتْ ريحُ الصَّبا مريضةً ... تَقْلَقْ إِذَنْ أنت المريضُ الصَّبُّ أو لَمَع البرقُ تَحِنَّ وَلَهاً ... داؤُك ما يلمَعُ أو يَهُبُّ

قلتُ له وحالَتاه دائماً ... مُعْرِبتانِ سِلَمْهُ والحربُ لست كما تزعُمُ بِدْعاً في الهوى ... أيُّ فؤادٍ ما دهاه الحبُّ تَعجَّبَ الرَّكْبُ وإِنَ ضَلَّةً ... إِعجابُهم بالخِصب حيثُ الجَدْبُ إنْ شرِبتْ رِكابُهم وإن رَعَتْ ... فمن دُموعي رعيُها والشُّرْبُ ما مُطِرت إِلاّ بدمعي رامةٌ ... ومنه غُدرانُ اللِوى والشِّعْبُ للعامرِيّينَ فكم لَدَيْهِمُ ... من لُثُم سَطَتْ عليها النُّقْبُ سمَحْتُ بالدَّمع فدوُني عُرْوَةٌ ... وجُدْتُ بالنَّفْس فدُوني كَعْبُ بانُوا فما يؤنسُ طَرْفي أحدٌ ... وا وَحْشَتي ضاقت عليَّ الرُّحْبُ سِوى دموعي كلُّ ماءٍ ناضبٌ ... وغيرُ وَجْدي كلُّ نارٍ تخبو

من أضلُعي ما عصَفَت سَمائمٌ ... ومن جُفوني ما تُقِلُّ السُّحْبُ رُدُّوا عليَّ الرَّكْبَ عَلَّ وقفةً ... تُطفي الظَّما وهل يعودُ الرَّكْبَ لَئِنْ صبوتُ فعُيُون عامرٍ ... تعِلّمُ النّاسكَ كيف يصبو لو شهِد العاذلُ يومَ بَيْنِهم ... أريتُهُ كيف يَجِلُّ الخَطْب

الكمال أبو عبد الله الحسين بن عبد الباقي بن حراز

الكمال أبو عبد الله الحسين بن عبد الباقي بن حراز هو ابن أخت ابن المعلم. من أهل الهمامية من أعمال واسط. الكمال، بن حراز ذو كمال في الأدب أحرزه، وإبريز فضل على محك الانتقاء والانتقاد أبرزه. همام همامي همه الاهتمام بالأدب، وهمته عالية تدل على كمال الحسب. كاتب باتك اليراع، صانع كأنما وشيه حوك الصناع. منشئ يوشي برقمه، ويسرق سرق المعاني من نثره ونظمه. هو لحلي القول صائغ، وكلامه عذب شرابه سائغ. حبر تحبيره منشى الشعر، لا موشي الشعار؛ وتحريره دراري النثر، لا درر النثار.

إذا سود البياض بيض سواد الحظ بخطه، وإذا رقم القرطاس قرطس بسهم الإصابة لوقم حاسده وحطه. فقره فاقرة فقار الحسود، وكلمه كالمة أكباد الأسود. ذو سؤدد، نزهه من سوءددٍ. وأخو مجدٍ مجد في الأمر، مجيد في الشعر، مجيدٌ غير مُجتدٍ، ما نظم قط لاجتداء، ولا طلب حباء. فقد أغنته القناعة عن القنوع، فهو ضنين بماء وجهه المصون الممنوع. صديق لي صدوق، وشقيق شفيق. مساعدي كساعدي، ومرافقي كمرفقي، وأخي المتوخي مرادي، وحميمي الحامي ودادي، وناصحي في الملمات وناصري، ونائبي في دفع النائبات ومؤازري. وما كنت أستأنس إذ كنت أنوب عن الوزير في الهمامية إلا به، وأتأدب في مجاورته ومحاورته بآدابه، وكانت ملازمتي من دابه.

فضائله كثيرة، وشمائله كالخمائل منورة منيرة، ففرق بيننا الدهر طارق الصرف، حتى تجرعت صِرف الصرف وعزلي، وإن كان في هذا الوقت أعز لي، غير أنه باعد بيني وبين أصدقائي في عملي. فنسأل الله العفو والعافية، والعيشة الصافية، والمعيشة الكافية، والتوفيق للموافقة، في المرافقة، والصدق في المصادقة. ثم سافرت إلى الشام، فنعي إلي في سنة إحدى وسبعين وخمس مئة. وسأخرج عقوداً من لآلئ الكمال، ونقوداً له لا تبهرج على محك الرجال، وقلائد، تود الترائب بها توشح، وفرائد، بمياه الفوائد ترشح. أنشدني لنفسه كلمة في نظم الجمان، يعاتب فيها رئيس الهمامية أبا السعود بن مروان، وهي سنة اثنتين وخمسين وخمس مئة، رحمه الله تعالى: شكا مجدكم ما نالني من جفائكم ... فأوسعكم عَتْباً به الدَّهر يلفظُ وظلَّت عُلاكم تنتحي بملامة ... عليكم وبعضُ اللوم للحُرّ أوعظُ أَبَحْتُم حِمى سَرْحي ذِئاباً ضَرِيَّةً ... تَعاوَى فَهّلا كان منكم تحفُّظُ

وكدَّرْتُمُ بالهجر صفوَ عقيدةٍ ... يُصانُ بها سرُّ الوِدادِ ويُحفَظُ وما كان عهدٌ صحَّ بالسِرِّ عَقْدُه ... لِيُلغى بأقوال الوُشاة ويُلفَظُ تُخاتِلُني الأيّامُ فيكم خديعةً ... ولم تَدْرِ أَنّي الحازمُ المتيقِّظُ وكيف الْتفاتي عن ذَراكم وناظري ... إليكم وإن شطَت بيَ الدّار يلحظ وكم كادني الأعداءُ فيكم وسدَّدُوا ... سِهاماً إلى قصدي تُراشُ وتُرعَظُ حِفاظي لكم مستيقظٌ غيرُ نائم ... وإن كان حظّي نائماً ليس يُوقَظُ تُهَجِّرُنِي الأطماعُ فيكم فأنثني ... بظلّ الأمَاني دائماً أتَيَقَّظُ فلا تتخالَجْكم ظنونٌ فإِنّني ... بغيركُمُ في النّاس لا أَتَلَمَّظُ وأنشدني له بالهمامية في أواخر جمادى الأولى سنة ثلاث وخمسين وخمس مئة، في غرض له، يعرض بعامل ظلمه:

يَطوي على طُول الطَّوَى في مَهْمَةٍ ... بُرْداً تَهالَكَ طُولُه في عَرْضهِ بالسُّهْبِ أو بالشُّهْب يُنفقُ عُمرَهُ ... ما بينَ مُنْقِضِهِ إلى مُنْقَضِّهِ طِرْفٌ يُغِضُّ بسيره طَرْفَ الفَلا ... ينضو قَميصَ المجدِ منْ لم يُنْضِهِ ينأى عن اللؤماءِ بي من مطمع ... يقضي بأَسْوّدِه على مُبْيَضِّهِ فعوارفُ الكُرَماءِ ختمُ عطائِها ... أجللتُ نفسي عن تَعاطي فَضِّهِ مُذِقت مَذاقتُهم فلو كشَّفْتُهم ... صَرَّحْتُ شائبَ وْدِّهم عن مَحْضهِ مُذْ عَلَّنِي عِدَّ السُّؤالِ أَعَلَّنِي ... وَأعافَ عافيهِ بنَهْلَة بَرْضِهِ

ولما وليت الأعمال الوزيرية استقلالاً، زدته إِجلالاً، ولم أر لحقه إخلالاً. فكتب إلي، وأنا بواسط، لتهديب الأعمال هناك، وكنت قد صعَدت من الهُماميّة، وذلك في سنة أربع وخمسين وخمس مئة: يا راكباً يَطْوي البلاد بجَسْرَة ... يُدني البعيدَ ذَمِيلهُا ووَجِيفُها ضَمِنتْ مناجاةَ المُنَى بنَجائها ... فغدت وسائقُها الرَّفيقُ عَنِيفُها خَفَّتْ وما ألوتْ على وادي اللِوى ... في حاجةٍ حَمَلَ الثَّقِيلَ خفيفُها يسمو إلى نيل الغِنَى بعزيمة ... مِن دُونها عالي الذُّرا ومُنِيفُها إِرْبَعْ على رَبْع العزيزِ فإِنّه ... ربُّ الأَيادي السَابغاتِ حليفُها واعمَدْ عِمادَ الدِّين بالأمل الذّي ... لك واغْنَ عن أرض تَظَلُّ تطوفُها من دَوْحَة العلياء غصنُ نوالِها ... غضٌّ ودانيةٌ عليك قُطوفُها

أورى زِنادَ الجُود منه للورى ... فسعى إليه غنيُّها وضعيفُها وكا النَّدِيَّ نَداه نَوْرَ مواهبٍ ... سِيّانِ فيه ربيعُها وخَريفها للمجد فيه خلائقٌ مَرْضِيَّةٌ ... يدعو القلوبَ إلى ذَراه لطيفُها مُذْ سافَ عَرْفَ المجدِ لم تَنْفَسْ به ... نَفْسٌ يَرُدُّ مرادَها تسويفُها كم عُصبةٍ عصبت بها عصيانَه ... صَلَف فمدَّ إلى رِضاه صَلِيفُها رفَعت منارَ الكيد حتّى حطَّه ... أنْفاً وقد رُغِمت لَدَيْه أنوفُها كم قلمّت ظُفْرَ العِدى أقلامُه ... يوماً ويَحرِفُ كيدَهُمْ تحريفُها بشبَاتها شُبَّتْ لهم نارُ الوَغَى ... غَنِيَتْ بهنَّ رِماحُها وسُيوفُها بالحامِدِيِّين الأُلى آثارُهم ... في المجد ليس بمُنَكْرٍ معروفها تَصِلُ العلى أسبابُهم وبجودهم ... إِن شَتَّ شَمْلُ مكارمٍ تأليفُها

وتحلَّتِ الدُّنيا لهم بمناقب ... هيَ للعلى أَقراطُها وشُنوفُها مُذْ ثُقِّفت آراؤها وقَناتُها ... دانت لهم عَبْسُ القَنا وثَقِيفُها شرَعُوا له في المَكْرُمات شريعةً ... فغدا ومذهبُه القَويمُ حَنِيفُها في حَلْبَة العلياء كان رِهانُه ... فجرى ومنه جَوادُها وقَطُوفُها فإِذا بلَغْتَ مُناك منه فلا تَحُلْ ... عن وقفةٍ يُجدي عليك وقوفُها وامثُلْ بخدمته الشّريفةِ مُبْلِغاً ... لتحيَّتي إِذْ فاتَني تشريفُها واذكُرْ وَلايَ له وحُسنَ عقيدةٍ ... في حبه لم يثنه تعنيفها وانشر فضائل مجده بروية ... راقت معاني لفظها وحروفُها تُثني عليه وتنثني بثنائها ... تختالُ من طرب ومنه شُفوفُها

ما أسفرت عن وجهها بل سافرت ... والنَّصْفُ أَنْ يُلْقَى لَدَيْهِ نَصِيفُها فارقتُه متكّرِهاً وفَرِقْتُ من ... نُوَب الليالي أن تنوبَ صروفُها وخَلَصْتُ من زمني بإِخلاصي فقد ... زَلَّتْ نوائبهُ وزالَ مَخُوفُها أوفيتُه كيلَ الوفاءِ وإِنَّما ... يُزري بكلّ محبَّةٍ تطفيفُها كلَّفتْ نفسي إِذْ كَلِفْتُ بحبّه ... ما لم يكن من عاديت تكليفُها يا أيُّها المُثْنَى عليه بلفظه ... وُصِفت عُلاه فزانَها موصوفُها عذري إليك من الليالي أَنَّني ... متصرّفٌ ما شاءَ بي تصريفُها في بلدةٍ إن لم تكن لي حاجةٌ ... أثنى عليَّ دَنِيُّها وشريفُها تُنْحي إِليَّ أكفُّهم بإِشارةٍ ... فكأنّني في كَرْخِهِمْ معروفُها ومتى تجدَّد لي إليهم رغبةٌ ... أُلفيتُ أَنّي للسَّبيل مُخِيفُها

وإِذا أردتُ البُعدَ عنها صَدَّنِي ... عنه خَدِين قُرَابةٍ وَأليفُها وعَلِمْت أيَّ محلَّةٍ أوطِنْتُها ... سيَطيبُ مَشْتاها بكم ومَصِيفُها خُذْها إليك هديّةً من مخلص ... يَبْقَى عليك تَلِيدُها وطَرِيفُها قد هذَّبته من الزَّمان تجارِبٌ ... كثُرت وقَوَّمَ دَرْأَه تثقيفُها فاختار رأياً في وَلائك صائباً ... إِن عُدَّتِ الآراءُ فَهْوَ حَصِيفُها فراجعته بقصيدة طويلة أوَّلُها: إِنَّ الخطوبَ على عِداك مَخُوفُها ... وكذا الليالي سالمتك صُروفُها وقضى القضاءُ برتبة لك في العلى ... شَمّاءَ لم يُفْرَعْ إليك مُنِيفُها واتَتْكَ أَقدارُ السَّماء وَأتَتْك من ... خيراتها أنواعُها وصُنوفُها ومنها: وتَحَمَّلِي ريحَ الشَّمالِ تحيّةً ... عنّي حَكاكِ رقيقُها ولطيفُها

لِيَعُودَ في ريح الجَنْوبِ جوابُها ... إن كان يحتملُ القويَّ ضعيفُها وصِفِ الحسينَ تَجِدْ وراه محاسناً ... يا صاحِ يُكْرَمُ ضيفُها ومُضيفُها مَنْ هَمُّه في المَكْرُمات حَرِيصُها ... مَنْ نفسُهُ في المُخزيات عَيُوفُها وإذا حوى عثَراتِ آدابٍ فتىً ... فله على رُغْم الحسودِ أُلُوفُها كن يا ابنَ حَرّازٍ لُودِّي مُحْرِزاً ... لك في العهود تلِيدُها وطَريفُها ومنها: أنا أحنفٌ في الحِلم عن أمثالهم ... وشريعتي ما عِشتُ فيه حَنِيفُها لي هِمَّةٌ تأبى الدَّنايا قد سمت ... وَأعَزَّ نفسي بأسُها وعُزوفُها ولكم عراني حادثٌ ثمَّ انجلى ... عنّي كما يعرو البدورَ خُسوفُها

أَهْدَى السَّقامَ إلى النَّحافة بُعْدُكم ... والسُّمْرُ يُحسَدُ في الطِّعان نَحِيفُها ومنها: ماذا تَسُرُّ ولايةٌ عُمّالُها ... في ذِلَّة وعَزِيزُها مصروفُها في الحظّ منصرّف حكى متصرِّفاً ... هيَ لفظةٌ وبنقطةٍ تصحيفُها ولما فارقت العمل بواسط، كتبت إليه من بغداد: أَقسمتُ لا جُزْتُ الكمالَ مَوَدَّةً ... إِنَّ الَّذِي جازَ الكمالَ لَناقِصُ أَختصُّهُ بالوُدّ من دُونِ الورى ... فله عليهم مِيزَةٌ وخصائصُ صدَقَتْ عقيدتُه وعُقدةُ صدِقه ... لمّا تُحَلَّ وسِرُّه لي خالصُ عَزَّ الصَّديقُ فإِن قنَصْتَ صداقةً ... صُنْها فإِنَّ الأَصدْقاءَ قنائصُ تَفْدِيك أشخاصٌ وُجوهُ وِدادِهم ... سَفَرَتْ وأحداقُ الحقودِ شَواخِصُ هجَّرْتُ في ظِلّ السُّكون إِليهمُ ... في الحادثات وكلُّ ظِلٍّ قالصُ

أقرضتُهم حُسنَى فجازوني بها ... سُوَأى وكلٌّ قارضٌ أو قارصُ كالماء بانَ الظِلُّ معكوساً به ... فبدت مكانَ الرُّوسِ منه أَخامِصُ قل للثَّعالب لا تَغُرَّكِ خلوةٌ ... في الغاب لمّا غاب عنه فُرافِصُ سيعودُ في طلب الفرائس ضَيْغَمٌ ... ذو سطوةٍ وستقشعِرُّ فَرائصُ كلُّ لعَقْدِ يمينه لي ناكثٌ ... كلٌّ على عَقِب المَودَّةِ ناكصُ ولهم عقائدُ ملؤهنَّ حَقائدٌ ... عُقَدُ النِّفاقِ كأَنَّهُنَّ عَقائصُ فرعُ المَعِيبِ الأصلِ يحكي أصلَهُ ... وله مَعايبُ مثلُه ونقائصُ جَهْمٌ مُحَيّاه خبيثٌ عِرضُه ... لؤماً وعارِضُه جَهامٌ ناشِصُ

أنت الَّذي أنجدتَني بنصيحة ... إذْ صَرْفُ دهري عارقٌ لي واهصُ ما خِبتُ حينَ فحصتُ عن مكنونه ... ظنّاً ألا إِنَّ الصَّديقَ لَفاحصُ وأفاضَ لي سَجْلاً رِشاءُ وفائه ... كرماً وأرشيةُ الجميعِ مَوالصُ كم غُصتُ حتّى حُزتُ وُدَّك أَبْحُراً ... ولَرُبَّما حاز اليتيمةَ غائصُ سأزَمُّ نحوَك لِلِّقاء قَلائصاً ... يا خيرَ مَنْ زَمَّت إليه قَلائصُ

سواد أعلى دجلة واسط وما يليها

الشيخ أبو الكرم خميس بن علي بن أحمد بن علي الحوزي

والحَوْزُ قرية بإِزاء واسط من شرقيّها الأعلى. كان حَوْزِيَّ الأَصل، واسطيّ المولد والمسكن والأهل، ومُعَلِّماً، لم يزل ثوب فضله مُعْلَماً، ومؤدِّباً مهذّباً مهدياً: كلُّ متأدب إلى ورود علم خميس خامس، وبه أنار بواسط لأهلها كل ليل من الجهل جنحه دامس. فرد، هو في خميس من الفضائل متفرد. من مكتبه خرج الكتاب الأفاضل، حافظ، للحديث بالصواب لافظ، وراوٍ للأخبار لعلمها حاوٍ، وناقلا، للآثار الشريفة، لمشرفيها صاقل، ومخبر، عن الأنباء النبوية معرب معبر، وفقيه لا يفتأ يفتي في اللغة والشرع، ويشرع في أصل المذهب

والفرع. حبرٌ بحرٌ، رحبٌ ربح من ابتاع من متاعه، وخسِر من لم يَكِل بصواعه، وسعى في إضاعة بِضاعته، ولم يتعلم من صناعته. فالعلم في ذاته عزيز وإن أذله الجهال، رشيد هادٍ صاحبه وإن أضله الضلال. وناظم محسن، له شعر حسن، ومنطق ولسن. أسن، وماء علمه ما أسن، وشاخ، وخمر فضله الجم ما باخ. وهرم، وحبل أدبه ما صرِم. ومات وأثره ما فات. وتوفي، بعد طويل من العمر وفِيّ. فمشايخ واسط الآن عنه يروون، وبالرواية عنه يرتوون. له في الحث على إعارة الكتب، ما أنشدنيه الشيخ الإمام العالم الفقيه هبة الله، بن يحيى، بن الحسن، بن البوقي، الشافعي، الواسطي له: كتبي لأهل العلم مبذولةٌ ... أيديهِمُ مثلُ يدي فيها متى أرادوها بلا مِنّةٍ ... عاريةً فَلْيَسْتَعِيرُوها حاشايَ أن أمنَعَها عنهمُ ... كلا كما غيريَ يُخفيها أعارنا أشياخُنا كتبهم ... وسُنَّةُ الأشياخِ نُمْضِيها

وله: أين مضت عزَّةُ نفسي التي ... كنتُ بها أُعرف بين الورى يجري عليَّ الوَيْلُ فيها فلا ... أَقوى مكافاةً على ما جرى ما ينقضي عُجْبِيَ من مُقْبِل ... صيَّره جورُ الهوى مُدْبِرا وله في مدح زرقة العين: وعابُوا زرقةَ العينينِ منها ... لِيُوكَسَ حسنُها بين المِلاحِ ولولا زرقةٌ في الفجر تبدو ... لمَا عُرِف الظَّلام من الصبَّاحِ وله: وصاحب كنت أستشفي برؤيته ... فآضَ من كَثَبٍ من أدوإ الدّاءِ حالت به الحالُ من بعدِ الصَّفاء إلى ... أن صارَ يتبَعُ حُسّادي وأعدائي أطلعتُهُ طِلْعَ أحوالي على ثِقَة ... بأنَّه لا يُبادِيني بنَكْراءِ

فحين غيَّرهُ صَرْفُ الزَّمانِ بدا ... يَبُثّ ذلك عَوْداً بعدَ إِبداءِ واللهِ ما وَثِقت نفسي إلى أحد ... من بعدِه فبلائي من أَودِّائي وله: تركتُ مقالاتِ الكلامِ جميعَها ... لمبتدع يزهو بهنَّ إلى الرَّدَى ولازمتُ أصحابَ الحديثِ لأنّهم ... دُعاةٌ إلى سُبل المكارمِ والهدى وهل يترُكُ الإِنسان في الدّين غايةً ... إذا قال قَلَّدْتُ النَّبِيِّ مُحَمَّدا وأنشدني الشيَّخ الإمام العالم أبو جعفر، هبة الله، بن البوقي له: يعِزُّ عليَّ أن أرى ذا مُروأة ... من النّاس لا أَسْطِيع تغييرَ حالهِ ولو كان لي مالٌ لَصادفَ مالكاً ... بجودُ ببذل المالِ قبلَ سؤالهِ

أبو الخطاب أحمد بن محمد الصلحي

أبو الخطاب أحمد بن محمد الصلحي الصِّلْح: نهر كبير، يأخذ من دجلة، بأعلى واسط، عليه نواحٍ كثيرة. وقد علا النهر، فآل أمر تلك المعاملات إلى الخراب.

أبو الخطاب، لأبكار المعاني خَطّاب، وله مع كل فائدة حسنة خطاب، صِلْحِيٌّ شعره صالح، وشيطانه في النظم مصالح. أديب دأبه الأدب، وأريب واتاه الأرب. أنشدني له بأصفهان الشيخ الأفضل أبو الفضل، عبد الرحيم، ابن الأخوة الشيباني، البغدادي قال: أنشدني أبو الخطاب الصِلْحِيُّ لنفسه: يا راقدَ العين عيني فيك ساهرة ... وفارغَ القلب قلبي منك مَلآْنُ إنّي أرى منك عَذْب الرِّيق عذَّبني ... وأسهرَ الطَّرْفَ طَرْفٌ منك وَسْنانُ وقال عبد الرحيم: إنه كان شيخاً من فم الصلح، يقال له أبو الخطاب البطائحي، رحمه الله تعالى. وطالعت كتاب الإعجاز، في الأحاجي والألغاز، الذي جمعه صديقنا الفاضل أبو المعالي، الكتبي، الحظيري، فرأيتهُ قد نسب إلى أبي الخطاب الجبلي هذه الأبيات في الألغاز. ولعل

جَبُّلَ قريبة من فم الصِّلْح، نسبه إليها:

أَسحمُ لا تكدَرُ السَّماءُ إذا ... جادَ ولا الشَّمسُ منه تَحتجبُ لا تتعدَّى خُطاه موضعَه ... وقد بَراهُ الوَجِيفُ والدَّأَبُ مستوطِنٌ بالمكان مرتحلٌ ... وساجدٌ في المسير منتصبُ يُديرُ عيناً في كلّ جارحة ... كأنًّها في فُروعه عَذَبْ سارٍ ولك بغير سابقة ... لا عَنْوَةٌ عندَه ولا خَبَبُ يحُثُّ عندَ الفتور قائده ... ضرباً ويعروه دُونَه النَّصَبُ لا يُبصرُ القصدَ في القِياد له ... إلا ضَريرٌ وذلك العجبُ يَعني به دولاب الماء، وثوره الذي يُديره، فأَعْينُه كِيزانه، وقائده الثَّور. وشبَّهه بالثَّور، لأنّه تُشَدّ عينه.

الشيخ عبد الرحمن بن الشيخ الزاهد أبي الفتوح الإسفراييني

الشيخ عبد الرحمن بن الشيخ الزاهد أبي الفتوح الإسفراييني من قرية عبد الله، أسفل واسط بفرسخين، على دجلة. أبوه من إسفرايين. لكنه أقام نيفاً وأربعين سنةً إلى الآن، وهو آخر سنة خمسين وخمس مئة، بقرية عبد الله في رباطها. وهو من المشايخ الكبار المتصوفة. وولده عبد الرحمن: منشؤه، ومولده، وأخواله بقرية عبد الله. وللنَّاس بمكان والده، راحة عظيمة. كان يُطعم الصادر والوارد.

ولما كنت بواسط، عمل الشيخ عبد الرحمن في قصيدة، فرأيت إثبات أبيات منها، للتبرك والتيمن بها. وهي: عِرَجْ على المَرابع الدَّوائرِ ... ما بينَ أَجراعِ النَّقا فَحاجِرِ واحبِسْ بها الرَّكْبَ وَحيِّ دِمنةً ... لظبيبة من فَتَيات عامرِ تحيّةً من مغرمٍ جَمِّ الأَسَى ... ذي كَبِدٍ حَرَّى وطَرْفٍ ساهرِ واسأَلْ مَغانيها لماذا بُدِّلت ... من أهلها بالعُفْر واليَعافِرِ لا زال خفّاقُ النَّسيم غادياً ... بجوَها وكلُّ دَوْنٍ ماطرِ منمِّقاً رُسومَها وَشيْاً له ... نَضارةٌ في عين كلِّ ناظرِ

يا سائقاً عِيساً بَراهُنَّ السُّرَى ... وجَوْبُهنَّ البِيدَ في الهَواجِرِ يَعُمْنَ في الآل فيُدمينَ الحصى ... من أَلم السَّيْر وزجرِ الزّاجرِ قد شَفَّها طولُ السُّرَى فمِلْ بها ... إلى حِمى مَوْئلِ كلِّ حائرِ إلى عِماد الدين ذي الفضل ومَنْ ... حَلَّ جَلالاً قُلَّةَ المَفاخرِ نجلِ الكرامِ الكبراءِ الوُزَرا ... وقائدي الجنودِ والعساكرِ هم أظهروا العُرْفَ وسَنُّوه لمن ... يفعَلُه وكلَّ خيرٍ ظاهرِ يدَّخرُ الحمدَ ببذل ماله ... ثمَّ يراهُ أنفَسَ الذَّخائرِ إذا انتضى يَراعَه لِمَأْرَبٍ ... رأيتَه يُزري على البواترِ فواسط مُذْ حَلَّها كأنَّها ... مكَّةُ ذاتُ الهَدْي والمَشاعرِ فما لِما يكسِرُهُ من جابر ... وما لما يجبُرُه من كاسرِ

يُحْيِي مُحَيّاه مُحَيِّيهِ إذا ... حيّاه عن بِشر وفضل وافرِ له ثناءٌ حسَنٌ خُصَّ به ... وسُؤدَدٌ يُعْجِزْ كلَّ ذاكرِ مقدَّمٌ مكرَّمٌ معظَّمٌ ... مخصَّصٌ بكلّ حمدٍ عاطرِ جواهرُ العلومِ قد أتقنها ... فعلمُهُ مثِقّفُ المَحاضِرِ ومنها: أتى على الوصف مُوالٍ مجدَه ... مُهدي الدُّعا والشَكر غيرُ قاصرِ وما لِبَزِّي غيرُهُ من مُشْتَرٍ ... والجَوْهَرِيُّ مشتري الجواهرِ

الأديب الكامل أبو سعيد نصر بن محمد بن سلم الصلحي

الأديب الكامل أبو سعيد نصر بن محمد بن سلم الصلحي أصله من قرية، يقال لها دَرِينيا. ابن سلم الصِّلْحِيّ معلم بواسط عالم، نظمه صالح المنهاج سالم. شيخ كبير، فضله كثير. من متميزي المؤدبين بمعرفة اللغة والأدب، وشعرِ العرب. أنشدني لنفسه بواسط، في شهر رمضان سنة خمس وخمسين وخمس مئة، في عميد لِواسط، في أيام المسترشد، يعرف بتاج العرب: لاحَتْ والأنجمُ لم تَغِبِ ... وسوادُ الظُّلمةِ لم يَشِبِ

نارٌ بالمَنْدَلِ موقَدةٌ ... إِن أَعْوَزَ وَقدٌ من حطبِ بَعُدَت طلباً لِتَمَنُّعِها ... ودنت للنّاظرِ من كَثَبِ ودُوَيْنَ المَوْقِدِ مَلْحَمَةٌ ... وحروبٌُ تُؤْذِنُ بالحَرَبِ وقِراعُ البَيْضِ بحدّ البِي ... ضِ وسُمْرٍ تلمَعُ كالشُّهُبِ وبذاك الوادِ طويلُ الْها ... دِ لذيذُ المَبْسِمِ ذو شَنَبِ ضافِي الشَّعْرِ شَتيتُ الثَّغْ ... رِ صقيلُ النَّحْرِ بلا نَدَبِ يحكي الشَّمسَ غَداةَ الشَّرْ ... قِ وعندَ الغربِ ولم تَغِبِ قال: أخذتها من قول قيس بن الخطيم: فرأيتُ مثلَ الشمس عندَ طلوعِها ... في الحُسن أوكَدُنُوِّها لِغُروبِ وجَنَى رَشَفاتِ مُقَبَّلِها ... كالشُّهْدِ وراحٍ ذي حَبَبِ

فعليه أسِيتُ ومنه ظَمِي ... تُ وعيشيَ بعدُ فلم يَطِبِ وسُعادُ الهّمِ هُناك وثَ ... مَّ عَشِيَّةَ لم َأنفِذْ أَرَبي عِشنا زمناً وحواسدُنا ... ينشُرْنَ صحائفَ من كذِبِ فوعَتْ قوالَ زَخارِفهِ ... نَّ فجُذَّ الحبلُ بلا سببِ وأخي باتَ يحذِّرُني ... حَدَثاناً يصدُرُ عن نُوَبِ أَأخافُ الذُّلَّ وأخشى القُ ... لَّ وظنّيَ حَلَّ فلم يَخِبِ بنصير الدِّينِ ربيبِ الَّدوْ ... لةِ فخرِ الأُمَّةِ والعَرَبِ الليثِ الغيثِ البحرِ الغَمْ ... رِ الطَّوْدِ الجَوْدِ فتى الحَسَبِ إن قالَ وَفَى أو صالَ نَفَى ... أو نالَ كفَى فِعْلَ السُّحُبِ يَنْمِيهِ سعيدُ إلى فئةٍ ... بُرَءاءِ العِيصِ من الرِّيَبِ وزراء العصرِ إِذا كتبوا ... جاؤُوا بعجائبَ من خُطَبِ يزهو الدَّسْتُ إِذا جَلَسُوا ... بسَناءٍ ليس بمُحْتَجِبِ

جماعة من أهل واسط وفضلائهم أيضا

جماعة من أهل واسط وفضلائهم أيضاً

أبو القاسم هبة الله بن الحسين بن الموذي

أبو القاسم هبة الله بن الحسين بن الموذي ذكر لي: أنه كان مقيماً بواسط. طالعت مجموعاً بخط أبي الفضل، بن الخازن، وفيه يقول: أنشدني أبو القاسم، بن الموذي لنفسه: أنا في واسطٍ بُلِي ... ت بقوم بَراهِمَهْ حُرِّمَ اللحمُ بينَهم ... وَأذى كّلِ سائِمَهْ معشرٌ سُوقُ جورِهم ... بالأباطيل قائِمَهْ وفيه: أنشدني لنفسه، رحمه الله تعالى: يا صحبةً ومودَّةً أوتيتُها ... من ذي مَلالٍ فاسدِ القانونِ ما كان أسرعَ ما عَفَتْ آثارُها ... فكأَنَّها نفّاخةُ الصّابونِ

وفيه: وأنشدني لنفسه: قِيل إنْ أَقسمَ النَّفيس يميناً ... بحياة السَّعيد أنْ سَوْفَ يُعطي وتمنَّيْتَ نَيْلَهُ ونَداهُ ... وترجَّيْتَهُ فإِنّك مُخْطِي فحياةُ السَّعيدِ تجعَلُ للحِنْ ... ثِ اعتماداً في كّلِ قبضٍ وبسطِ يَعني بالسَّعيد مهذب الدولة، بن أبي الجبر، وبالنفيس ولده. وله في تفضيل المرد: لا تركَبَنَّ إلى الزِّنَى ... بحرَ الهلاكِ ولا تُخاطِرْ فالظَّهرُ أسلمُ للفتى ... من موجهِ إن كان زاخِرْ ما للعَلُوق سِوَى الهَوا ... نِ كما حكى هلُ البصائرْ كالمُهْرِ لستَ تُذِلُّهُ ... إلا بشَثْناتِ المَخاصِرْ لا تُظهِرَنْ حبّاً له ... في أوّلٍ يَتْبَعْك آخِرْ

الرئيس أبو غالب

الرئيس أبو غالب نصر بن عيسى بن بابي الواسطي النصراني توفي بعد الخمس مئة. كان من ظرفاء واسط وأعيانها. وله شعر لطيف، ونظم ظريف، وعبارة مستعذبة، وكلمات مطربة معجبة. لم أدرك زمانه. أنشدني له الرئيس العلاء، بن السوادي بواسط، سنة ثلاث وخمسين وخمس مئة، وذكر: أنه كان من بغداد، وأقام مدة عمره بواسط، قال أنشدني الرئيس أبو غالب، بن بابي، النصراني، الكاتب لنفسه: وعشِقتُ حتَى ما أمَ ... لُّ وهِمْتُ حتّى ما أُفيقُ وأنا فعُذْرِيّ الصَّبا ... بة في الهوى نَسَبي عريقُ

وأنشدني أيضاً، قال: أنشدني في جارية، دخلت عليه يوم الكسوف في لباس أسود: عاينتُ في حُلَل السَّوادِ خَرِيدَةً ... مثلَ القَضيبِ المائدِ المَيّاسِ قلتُ اسْلَمي ماذا اللباسُ وغيرُه ... أَدنى إلى الإِبهاجِ والإيناسِ قالت فهذي الشَّمسُ أُختي عُوجِلت ... بالافتضاح على رؤوسِ النّاسِ طلَعتْ فشاكلتِ الضِيّاءَ بطلعتي ... ودَجَتْ فشاكلتِ الدُّجَى بلباسي وأنشدني في منزلي ببغداد، رابع ربيع الأول سنة سبع وخمسين وخمس مئة، قال: أنشدني ابن بابي لنفسه، في جارية له، اسمها فتون، افتضت، فحبلت: عذرُ فُتونٍ عندَ تسويرِها ... ذِروتَها مستطرَفُ الشَّرْحِ قالت كأنِّي شُلْتُ رِجلي له ... أو مكّن الكبش من النَّطْحِ إلا وقد دافعتُ حتّى رمى ... بنفسه في ظُلمة الْجِنْحِ من دَكَّة الخَيْشِ إلى أسفلٍ ... فصِرتُ تحتَ التّنك والطّرحِ

قلتُ أيا سِتّيَ هذا الَّذِي ... أعانَ مولايَ على الفتحِ إنْ كان رِجلاكِ بذا شِيلَتا ... وَقَعْتِ في الحالِ من السَّطْحِ وله نقلته من مجموع، مما قاله في الغلمان. فمن ذلك، قوله في غلام يلعب بالنرد: وبديع الحُسنِ بالمُقْ ... لَةِ والأَصداغِ يَسْبِي رامَ بالنَّرْدِ لِعابي ... والهوى يضمَنُ غَلبَي قلتُ يا تَفَديك نفسي ... ما الّذي تبغي بلعبي قال شَشْداركَ للمه ... رك قد شَشْدَرْتَ قلبي

وله في غلام ألثغ: وأهيفَ كالهلال شكوت وجدي ... إليه بحبّه وأطلتُ بَثِّي وقلتُ له فدتك النَّفْس صِلْنِي ... تَحُزْ فيَّ الثَّوابَ فقال بَثّي وله في غلام غاز: أيُّها الغازي فتنتَ ال ... نَّاسَ فَرعاً وجَبينا قبلَ أن تَفْتِكَ بِالرُّو ... مِ أرى فتكَكَ فينا حسَنٌ غزوْك للكُفّ ... ارِ إِخلاصاً ودِينا فبِماذا غزوُ عيني ... ك قلوبَ المسلمينا وله في غلام دَيْلَمِيّ: دَيْلَمِيٌّ بِتُّ من كَمَدي ... وصَباباتي به أَرقِا مَدَّ ليلاً من غَدائره ... وأرى في وجهه فَلَقا جُنَّ قلبي في محبَّتهِ ... وأطاع الوجدَ والقَلَقا

ورقا يسعى بمفرقه ... في صِراطٍ واجماً فَرِقا فهوى في نارِ وَجْنَتِه ... فاصطلى بالجمر فاحترقا وله في غلام ورد من سفرة شاحباً: فديتُ مَنْ أقبلَ من سفرة ... فأقبلتْ نفسي على أُنْسِها وقلتُ إِذْ أبصرتُه شاحباً ... قد خضَّبَتْهُ الشَّمسُ من وَرْسِها ما كان عندي أَنَّ شمسَ الضُّحى ... تعمَلُ في الخلق وفي نفسها وله في غلام مَجوسي: يا رَبِّ عبدُك ذا قتيلُ صدودِه ... فبِعزِّ عرشِك خُذْ له بالثَارِ لا تُغْفِلَنْ عمَّنْ أصاب بهجره ... قلبي الموحِّدَ فيك بيتَ النّارِ وله في غلام رَمِدَ: وأهيفٍ كقَضيب البانِ مُقلتُه ... تُنْميَ إليها جُفونُ الشَادنِ الخَرِقِ قالوا: تمكَّنَ من أجفانه رَمَدٌ ... أبدى مَحاجِرَها في حُلَّة السَّرَقِ

فقلتُ بل وجهُه شمسٌ منوِّرة ... كسَتْ لواحظَه من حسرة الشَّفَقِ وله في غلام خازن: أيا خازناً خازناً للحِفا ... ظِ أَصْبَى الأنامَ بوجهٍ مليحِ لئِنْ كنت تحفَظْ مالي لقد ... أضعتَ بهجرك قلبي وروحي وله في غلام مجدور: وذي جُدَرِيّ يُشْبِهُ البدرَ طالعاً ... فكلٌّ لمِا يلقاه من حبّه أَرِقْ صفا وانتهى وابْيَضَّ وازدادَ صورةً ... معشَّقةً جَفْني بدمعي بها غَرِقْ كأنّ النِّساءَ استبشرتْ لصلاحه ... وسُرَّتْ قلوبٌ فيه بالوجد تحترقْ فألقت عليه الغِيدُ نثرَ عقودِها ... فمجتمِعٌ من حبّهنّ ومفترقْ وله في غلام خياط: مررتُ بخيّاط حكى البدرَ طلعةً ... وشاكلَ غُصنَ البانِ إِمّا انثنى قَدّا

يقُدُّ ويَفْرِي الثَّوبَ ثمَّ يَخِيطُه ... فلِمْ ثوبَ قلبي لا يَخِيطُ وقد قَدّا وله في غلام زامر: وزامرٍ قام قلبي في هواه على ... رِجل وبَرَّح بي ترجيلُ لِمَّتِهِ كأنّما معه نايانِ في فَمِهِ ... نايٌ ونايٌ مُوَارَى تحتَ عِمَّتِهِ وله في غلام رَمِد أيضاً: قالوا غدت عينُه حمراءَ من رَمَد ... فقلتُ حاشا لها ما ذاك من أَلَمِ بل ذاك لمّا أصابت قلبَ عاشقِها ... سِهامُها خُضِّبتْ من كَلْمه بدمِ وله: كالبدر في الليل البَهِيمِ إذا بدا ... والغُصنِ في وَلَع النَّسيمِ إذا مشى ويُديرُ من غُنْج المَحاجِر مُقْلَتَيْ ... نَشْوانَ من خمر الدّلالِ قد انتشى

قلتُ الوصال فَدَتْك نفسي فالهوى ... قد كادَ يُتلِفُني فقالَ كما تشا وله: مَنَحْتُك صَفْوَ الوُدِّ إذْ نحن جِيرةٌ ... ومَوْرِدُنا في الأُنس جَمُّ الجداوِلِ وأَمَّلْتُ ما قد كان من رُتَب العلى ... فلا تُحْدِثَنْ لي فيك زَهْوَ مُطاوِلِ فإِنَّ الغصونَ الشّامخاتِ يُمِيلُها ... جَناها فتدنو من يد المُتَناوِلِ وله: عطفاً سُعادُ فقد أودى بيّ الكَمَدُ ... وخانَني صاحبايَ الصَّبْرُ والجَلَدُ وعُدت أطلُبُ في تَيّارِ حِبّكمُ ... شريعةً أرتقي فيها فلا أَجِدُ طَرْفِي جَنَى وفؤادي فيك تابَعَهُ ... فكيف خُصَّ بأثواب الضَّنَى الجسدُ وله في لُزوم ما لا يلزم في التَّجنيس: كلَّ يومٍ لا أَراكم ... هو عندي مثلُ حَوْلِ

فأنا المُدْنَفُ بالشَّوْ ... قِ ولا عُوّادَ حَوْلي جُلُّ ما ألقاه فيكم ... أَنْ أُعانيهِ بحَوْلي وله أيضاً يفضل النساء على المرد: يا مغرماً بالمُرْد جهلاً لقد ... أسرفتَ في حبِهِّمْ واعتدَيْتْ عندَ الحِسانِ الغِيدِ ما عندَهم ... فمِلْ إليهِنَّ وخُذْ فضلَ بَيْتْ

الحكيم أبو العلاء

الحكيم أبو العلاء محفوظ بن المسيحي بن عيسى النصراني النيلي الطبيب سكن واسط وعرف بها واكتسب بالطب. وكان عالماً فاضلاً مرضي الصنعة في مداواة المرضى مستقيم الرأي في تسقيم السقيم. لم يزل متردداً إلي مدة إقامتي بواسط: استطبه، وأجد - بمنة الله - بطبه من الصحة ما أستحبه. كان لهجاً بالإلغاز، ولما يسمعه من ذلك شديد الاهتزاز، وأشعاره فيه مستقيمة الصدر سليمة الأعجاز. توفي في أوائل سنة ستين وخمس مئة، وكان قبل ذلك بأشهر قريبة نجتمع ونتذاكر ما قيل في الألغاز.

فمما أنشدنيه لنفسه بواسط، في عاشر شوال سنة تسع وخمسين وخمس مئة، يلغز بالعقل: ما حاضرٌ ما يُرَى له شخصُ ... كأنّه في اختفائه لِصُّ يُضيءُ في البيت كالسِراج وقد ... يشوبُ وقتاً ضِياءَه غَمْصُ يَبين نقصانُه وليس له ... رُجحانُ كَمّيَّةٍ ولا نقصُ لكنّه عادلٌ يَميلُ وما ... رأيتُ ميلاً بالعدل يختصُّ يَهْزِمْ جيشَ الخطوب مقتدراً ... وَهْوَ يُرَى وَهُوَ عاجزٌ نكصُ أعوانُه عِدَّةٌ ثمانيةٌ ... بهم يَتِمُّ الضَّلال والفَحصُ فَهْوَ كَنُوحٍ في الفُلْك مستتر ... وهمْ كأَصحابه إِذا أُحْصُوا ذكر: أن أصحاب نوح، عليه السلام، عِدَّتُهم ثمانية. أَبِنْهُ يا من غدا بفِطنته ... وعلمِه للأُمور يقتصُّ فقد كشَفْت الغطاء مجتهداً ... حتّى بدا ما ظُهورُهُ نقصُ وأنشدني لنفسه في الإِلغاز بالرُّمَانة: يا عالماً يستفهِمُ ... عن كلّ ما يستبهِمُ ما حاملٌ عذراءُ لم ... تَزْنِ ولا تُتَّهَمُ أولادُها في جوفها ... تحتَ الضُلُوعِ جُثَّمُ

كلٌّ لها من ربّها ... عليه ثوبٌ يُقْسَمُ شِفاهُها كثيرةٌ ... فأَعْلَمٌ وأخرمُ لكنْ لها فردُ فمٍ ... ورأسُها هو الفَمُ من الجِنان أُخرجتْ ... وللجحيم تُسْلَمُ قال: أعني بالجحيم المعدة. وما أتت جريمةً ... إِذْ مثلُها لا يُجرِمُ بل فضلُها عندَ الأنا ... مِ ظاهرٌ يُغْتَنَمُ أمثالُها بينَهُمُ ... لها صفاتٌ تُعلَمُ فالبعضُ منها حاكمٌ ... يَعْدِل فيما يحكُمُ يعني رُمّانة القَبّان. والبعضُ منها في الصُّدُو ... رِ جالسٌ يحتشمُ يعني النَّهْد. كلٌ يَرى حقوقَه ... عليه قرضاً يلزَمُ ومن شهيرِ أمرِها ... إذْ مثلُها لا يُكتَمُ أَنَّ بها يشفَى السَّقي ... مُ والنَّديمُ ينعَمُ وقد كشَفْتُ سِرَّها ... وعندَ هذا أَخْتِمُ

وأنشدني لنفسه في المَصْمَغَة إِلغازا: مؤنَّثةٌ مُلَمْلَمَةُ الجُنُوبِ ... لها بطنٌ مُضَمَّخَة بطِيبِ تراها وَهْيَ لمّا تأتِ ذنباً ... معلَّقةً كمخنوقٍ صَلِيبِ لها ذَكَرٌ يَلُوط بها جِهاراً ... ولا يَخْشَى ملاحظةَ الرَّقيبِ يُعاقدُها فمَخْرَجُها عسيرٌ ... كزُبّ الكلبِ من بَعدِ الوُثوبِ وأنشدني لنفسه، في كِيزان الفخار: ما صُوَرٌ كوَّنَها رَبُّها ... من عالمَ الجِنّةِ والإِنسِ فأَصبحتْ للإنس معشوقةً ... تُهدِي إِليهم لذّةَ النّفسِ وفارقَتْ عالَمَ أضدادها ... راغبةً في صحبة الجِنْسِ إِنْ بانَ فيها دَنَس أو بدا ... لها مَعابٌ ظاهر اللُبسِ فما لَها من بَعْدِها رجعةٌ ... إلى مَقَرّ الوصلِ والأُنْسِ فما هُمُ يا مَنْ غدا عالماً ... يَحُلُّ ما يُلْغَزُ في الطِّرْسِ وأنشدني أيضاً لنفسه، في الناي، إلغازاً، بواسط، في ذي الحجة سنة تسع وخمسين وخمس مئة: ومملوكٍ رَشيقِ القَدِّ أَلْمَى ... به تلهو وتبتهجُ النُّفوسُ

صَمُوتٌ ناطقٌ أَرِقٌ نَؤْومٌ ... عجيبٌ شخصُه شخصٌ نفيسُ ويوحشُ ذِكرُه رَبْعَ التّصابي ... ولولاه لمَا أنِسَ الجليسُ له رأسٌ يخالفُ منه جسماً ... بلا رِجلٍ فقِسْ فيما تَقِيسُ إِذا ما بانَ عنْه ظَلَّ مَيْتاً ... وإِمّا عادَ عادوه الحَسِيسُ يَئِنُّ أَنينَ صَبٍّ مُستهامٍ ... مَشُوقٍ قد نأى عنه أَنِيسُ وليس بذي صَبابات فيَهْوَى ... ولكنّ الهوى فيه حَبِيسُ وله مُعَمَّى في محبوب له، اسمه سعيد، أنشدنيه لنفسه: وذِي غُنْجٍ علِقتُ هواه بَلْوَى ... فبَلْبَلَني بطَرْفٍ بابِليِّ له اسمٌ ضدّ حالي في هواه ... ففتِّشْه تَجِدْه بغيرِ عِيِّ إذا أسقطتَ حرفاً منه يوماً ... فذلك يومُ أفراحٍ ورِيِّ وإن أسقطتَ ثانيَهُ اتِّباعاً ... غدا مَوْلىً لعبدٍ أو وَلِيِّ وإن أسقطتَ ثالثَهُ اختياراً ... يصيرُ اسماً لعبد أَرْمَنِيِّ وإن أسقطتَ رابعَهُ اضطراراً ... أَتى نوعاً من المشي الوَحِيِّ فإِن تَكُ دَاحِجاً وأخا أَحاجٍ ... ففسِّرْ يا أخا القلب الذَّكيِّ

وأنشدني له في اسم كمال: مالِكُ رِقَي في هواه له ... من اسمه في البيت منظومُ تَهَجَّهُ واجعَلْ له أوّلاً ... آخِرَهُ فالاسمُ مفهومُ وكان له عندي رسم يصل إليه في كل سنة، من الحنطة. فكتب إلي يلغز بها ويطلب الرسم: عمادَ الدِّينِ دعوةَ مستفيدٍ ... لأَنّك كاشفٌ عن كلّ رَيْنِ فما صفراءُ كالذَّهب المصفَّى ... ولون لُبُابِها لونُ اللُجَيْنِ محبَّبَةٌ إلى الأرواح طُرّاً ... بها تَقْوَى النُّفوسُ بغير مَيْنِ لها اسمٌ نِصفُه شعب قديم ... كما زعَموا من إحدى الأُمِّتَيْنِ ونِصفٌ جَاءَ في القرآن نصّاً ... لأوّل سورةٍ بقراءَتَيْنِ لها وقتٌ تُداسُ بكلّ رجل ... ووقتٌ فيه تُرْفَع باليَدَيْنِ أَجِبْ عنها وُخُذْ بالرَّسم منها ... وقاكَ الله آفةَ كلِّ عينِ وكنت نظمت كُوز الفُقَاع قطعةً لُغزاً وأنشدتها إيّاه، فأثبتها، ثمَّ حضر بجوابها. والأبيات التي هي لي: ما صورةٌ ما مثلُها صُورَهْ ... كأنَّها في العمق مطمورَهْ

تُمطِرُ للَّريّ ومَنْ ذا رأى ... مطمورةً للرّيّ ممطورَهْ منكوحةٌ ما لم تَضَعْ حملَها ... مسدودةُ الأنفاسِ محصورَهْ محرورةُ القلبِ ولكنّها ... مضروبةٌ بالبَرْد مقرورَهْ كأنّما النّارُ بأحشائها ... على اشتداد البردِ مسجورَهْ تَظَلُّ مُلْقاةً على رأسها ... خمّارة تُحْسَبُ مخمورَهْ مُعارة الهامةِ من غيرها ... قصيرة القامةِ ممكورَهْ كأنّها رأس بلا جُثَّةٍ ... موصولة إن شئت مبتورَهْ كهامة صَلْعاءَ محلوقةٍ ... ما استعملت مُوسَى ولا نُورَهْ زامرة في فمها زمرها ... وَهنيَ بغير الزَّمْرِ مشهورَهْ دَوّارة إِن أنت أرسَلْتَها ... مهتوكة الأستار مستورَهْ مَنْ فَضَّها تبصُقُ في وجهه ... كأنّها بالفُحش مأمورَهْ تُورِث تعبيساً لمن باسَها ... وَهْيَ على ذلك مشكوره معسولة رِيقتُها مُزَّةٌ ... وَهْيَ على اللَّذَّة مقصورَهَ وَهْيَ على ما هيَ في إِثْرِهِ ... مُرْسَلةٌ بالهَضْم منصورَهْ إِن عُقِلت قَرَّت وإِنْ أُنشِطت ... فَرَّتْ وثارت مثلَ مذعورَهْ كم عسلٍ ذاقت وكم سُكَّرٍ ... وأنعُمٍ ليست بمكفورَهْ ملمومة من صخرة صَلْدَة ... فاجرة بالماء مفجورَهْ من الصَّفا جسمٌ ولكنْ ترى ... على صَفاء الماء تامُورَهْ فيا حليفَ المأثُراتِ الَّتي ... أضحت لأهل الفضل مشهورَهْ انعمْ وعجِّلْ حَلَّ إشكالِها ... فَهْيَ لَدى فضلِك مأسورَهْ وجواب الحكيم النيلي عنها، أنشدنيه لنفسه: يا ذا الَّذي أعربَ إِلْغازُهُ ... عن فطنة بالعلم معمورَهْ إِنَّ التّي أطنبتَ في وصفها ... حتّى اغتدت في النّاس مشهورَهْ صغيرةُ الجُثَّةِ دَحْداحةٌ ... باردةُ المَلْمَسِ محرورَهْ تعذّبتْ في النّار حتى إِذا ... ماتت غدت في الثَّلْج مقبورَهْ مجبوبةُ المَخْرَجِ لكنّها ... منكوحةٌ ليست بمستورَهْ إِنْ فَضَّها النّاكحُ مقهورةً ... فاضت بماءٍ فيضَ ممخورَهْ أو بصَقَتْ في وجه مُفْتَضِّها ... فإِنّها في ذاك معذورَهْ لأنَّها تسقيهِ خمراً بها ... يحلِّلُ المخمورُ تخميرَهْ ويُصبِحُ الشَّبْعانُ ذا شهوةٍ ... كلبيَّةٍ بالجوع مذكورَهْ صورتُه تحكي إذا قِسْتَها ... مَصْمَغَةً بالصَّمْغ مأسورَهْ

فهذه من طينة صُوِّرَتْ ... وفي لَهيب النّار مسجورَهْ وتلك من جَوْهرةٍ صَلْدَةٍ ... مذابة بالماء مقهورَهْ فخُذْ جوابي مُلْغَزاً مثلَما ... أَلْغَزْتُه في هذه الصُّورَهْ وَهْيَ لمَنْ يُؤْثِرُ كشفي بها ... فُقَاعةُ الفُقَاعِ محبورَهْ

شمس المعالي أبو الفضائل محمد بن الحسين بن تركان

شمس المعالي أبو الفضائل محمد بن الحسين بن تركان من أكابر أهل واسط. كان حاجب الوزير عون الدين والوزير يصدر عن رأيه، ويأخذ بقوله، ويعتمد عليه في جميع أنحائه. وكان حسن الشمائل، جامعاً للفضائل، ظريفاً لطيفاً، سيداً، متودداً، تليق الرئاسة بأعطافه، ويقطر ماء الظرف من أطرافه. وله نظم يناسبه رقة. وكان ينشدني كثيراً منه، وأنا استحسنه، وبذلك أنشطه. وكانت سعادته بسعادة الوزير منوطة، وحياته بحياته محوطة. فلما

توفي الوزير أخذ، والقضاء فيه نفذ، وبالضرب في الحبس وقذ. وذلك في سنة ستين وخمس مئة. وله طردية مليحة، شذت عني أبياتها، وفاتني إثباتها. وما أثبت له، قطعة في الإلغاز بالخيش في أولها وبالكانون في آخرها. وهي مما أنشدنيه لنفسه: قلبي رَهينٌ عندَ محبوسةٍ ... مُبْغَضَةٍ نافحةِ الرّائِحَهْ عاقلةٍ معقولةٍ في الهوا ... غاديةٍ في سيرها رائحَهْ سَحْاحةٍ تَهْطِلُ في قيظنا ... عاديةٍ في حالها سارِحَهْ يابسةٍ في جوّها رطبةٍ ... نائية عن بَحْرها سابحَهْ تبعُدُ إِنْ أدنيتَها للهوا ... منقادة في خَطْمها جامِحَهْ تقسو ولا تجري لها دمعةٌ ... وإن غدَتْ أدمعُها سافِحَهْ إن كتَمَ العُشّاقُ أَسرارَهم ... فَهْيَ بها إِنْ فَطِنُوا بائِحَهْ واقعة طائرة في الهَوا ... جَناحُها منها بلا جانِحَهْ بِكر غدت تنكحُ أزواجَها ... فيا لَها من أَيِّمٍ ناكحَهْ

قريبة تبعدها للنَّوَى ... إنْ قُرَبِت ضَرَّتُها النّازِحَهْ جَمَعَتا برداً وحراً معاً ... نَحيا بها باردةً لافِحَهْ فهذه شمطاءُ مُفْتَرَّةٌ ... وهذه مُسْوَدَّة كالِحَهْ أنفاسُ ذي راكدةٌ تنقضي ... وهذهِ أنفاسُها نازِحَهْ مُضِرَّة نافعة للورى ... فاسدة في فعلها صالِحَهْ وشعره: أصح مزاجاً وأوضح منهاجاً، من هذا. لكنه نكب أيضاً بكونه ما كتب. وما رأيت الإضراب عنه، فإنه كان بلا ضريب، عنده أرب كل أريب.

الطيب وقُرْقُوب وأعمالهما

أبو عبد الله القرقوبي محمد بن محمود بن الحسين بن محمد، بن حامد، بن الحسن، ابن مواهب، بن يوسف، الخطيب بقرقوب. وهي بلدة قريبة من الطيب. شاعر، فاضل، حسن الشعر. ورد بغداد على ما ذكره ابن ناصر المحدث سنة تسع وخمس مئة. قال: سمعت أبا عبد الله، محمد بن محمود، القرقوبي يقول: سألني الشيوخ إجازة بيت الشبلي، رحمه الله تعالى، هو:

بأيّ نواحي الأرضِ أبْغي وِصالكم ... وأنتم ملوكٌ ما لمقصِدكم سُبْلُ قال: فقلت مجيزاً: إذا لم يكن وصلٌ يقرّبُ منكُمْ ... ولا منكُمُ تأتي إِلينا لكم رُسْلُ فنَصبِر حتّى يستلينَ حجابكُم ... فيَدْرَأَ عنه جورَ هجرِكم الوصلُ فما قَرَع الصَّبّارُ بابَ لُبانةٍ ... إليكم وإلا دُونَهُ انفتح القُفْلُ وإلا علاه من سوابغٍ ظِلّكم ... نَسيمٌ له في كلّ مَكْرُمَةٍ فعلُ أيقنَطُ من إحسانكم عبدُ مثلِكم ... وأنتم ملوكٌ في الوَرَى دَأْبُها الفضلُ فإِن لم يكن أهلاً لمِا رامَ عبدُكم ... لَدَيْكم من النُّعْمَى فأنتم له أهلُ ألا حِققوا المظنونَ فيكم وصدِّقُوا ... فأكثرُ ظنّي أنْ سيتَّصِلُ الحبلُ

ابن بكران المتوثي

ابن بكران المتُّوثِّي أبو عبد الله، محمد بن موسى بن بكران. من متوث. وهي قريبة من الطبيب. له من قطعة: أفي كلّ يومٍ عزمةٌ ورحيلُ ... ورُوحٌ بفقد الظّاعنين تَسِيلُ أقول لنفسي عاوِديٍ الصَّبرَ في الهوى ... فصبرُ الفتى في الحادثات جميلُ

جمال الدين أبو العباس أحمد بن عمر بن هبة الله ابن خذداذ

جمال الدين أبو العباس أحمد بن عمر بن هبة الله ابن خذداذ البادرائي المولد والوالد الغزنوي الأصل شاب فاضل أديب أريب فقيه نبيه نبيل جليل. تصاحبنا في خدمة الوزير ابن هبيرة، ووجدنا الخيرة، وعدِمنا الحيرة.

وتولى أعماله مع مقامه في بيت من المدرسة، ولم يزل لهجاً باستفادة العلوم المقتبسة. وهو من تلامذة شيخي شرف الدين، يوسف، الدمشقي، رحمه الله، في الفقه. حسن السمت، متكلف للصمت وضيء الوجه. ولما توفي الوزير، اعتقل أشهراً بالديوان، مثلي، وخلي سبيله قبلي، وتنقلت به الأحوال، إلى أن عدم في الأشغال، الأكفاء والأمثال، فولاه أمير المؤمنين المستنجد صاحب الخبر مع حاجب الباب، ومزجت له حلاوة الشهد بمرارة الصاب. ومن جملة غلطاته في مكاتباته: أن أمير المؤمنين أمر بضرب بعض النصارى، لذنب اجترحه واجترمه، وذنب اقترفه وقدمه، فكتب في مطالعته: عوقب وعوتب. يعني: أنه لم يوجع ضرباً، ولم يرع سرباً، فإنه من كتاب السيدة. فلما وقف الإمام على هذا التجنيس غاظه، وكرر مراراً - على سبيل الاستثقال - ألفاظه، وخرج توقيعه بضربه، فضرب ورد إلى مكانه في ولايته وما نكب.

ولما انتقل المستنجد إلى روض الرضوان، وغرف الغفران، أخذ غلطاً وحبس شططاً ولقي من الرعاع سُطاً، حتى استقر الوزير عضد الدين، بن المظفر في دسته، فسأل عنه في وقته، فأخبر بحديث حادثته، فأبدى الغفلة عن عقلته، وأعاده إلى شغله محترماً، وولاه ممكناً مكرماً. فأصحى جوًّه بعد الغيم، وصحا دهره من سكرة الغم، وصحَّ حظه غب السقم، وأصحب زمانه بعد جموح خطبه الملم. وآخر العهد بكتابه إلي في سنة اثنتين وسبعين وخمس مئة. وقد أوردت من شعره قصيدة، سمعته ينشدها الوزير عون الدين ابن هبيرة - وأنا حاضر - وكتبها لي بخطه. وهي: ولمّا بدا رَبْعُ الأًَحِبَّة بالِلوَى ... وقد جَدَّ جَدُّ الرَّكْبِ قلت لهم قِفُوا قِفُوا نُرِحِ الأَنضاءَ أُبدي تعطّفاً ... عليها وما مِنِّي عليها تعطُّفُ وإِنَّ بوُدِّي لو تُعرقَبُ سُوقُها ... لتمكُثَ حيناً بالِلوَى وتُحذَّفُ

أُحاولُ كِتْمانَ الهوى ومدامعي ... تَفيضُ فتُبدي ما أُجِنُّ وتَكشِفُ وما بي بذاك الرَّبْعِ ظَبْيٌ كأنّما ... تسنَّمَ حِقفاً منه غصنٌ مُهَفْهَفُ غزالٌ على صيدِ الضَّراغمِ قادرٌ ... ويَعْجِزُ عن حَمل الوِشاحِ ويَضْعُفُ تَصدَّى لقتلي بالقِلَى عامداً فما ... أُصادفُه إِلا يصُدُّ ويَصْدِفُ وغِيد يَلينُ الصَّخرُ دُونَ قلوبِها ... وأجسامُها من رقَة الماء ألْطَفُ كأنَّ فؤادي يومَ بنْتُمْ حمامةٌ ... تَصدَّرَ عنها أجدلٌ متغطرفُ كأّنِّي فَعْولُنْ في الطَّويل ومُهْجَتي ... بكَفّ الأَسَى كالنُّونِ بالكَفّ تزحَفُ وها أنا مُعْتَلُّ الثُّلاثيّ والضَّنَى ... من النَّحوْ تصريفٌ به يتصرَّفُ

وقد كنتُ تأسيساً فيا ليتَ أنّني ... دَخيلٌ إذا عَلَّتْ قَوافٍ وأحرُفُ بَلِيتُ سِوَى اسمي في هواكم كزائد ... مع اللفظ يبدو وهو في النَّعْت يُحذَفُ أينفَعُكم ما ضَرَّني من صدودكم ... سؤالٌ عليكم واردٌ لا يُزَيَّفُ أَلائِمُ خَلِّ اللومَ عنك إلى متى ... توبّخُني في حبّهم وتُعَنِّفُ فقد شاع في الأَحكام تقييدُ مُطْلَقٍ ... وفي حَلّ قيدِ العاشقينَ تعسُّفُ إذا قال واشٍ قد سَلا فتيَقَّنُوا ... هنالك أَنّي مغرمُ القلبِ مُدْنَفُ أَذِلُّ لكم في الحبّ ذُلاً مكانُه ... على غيركم واللهُ يَدْرِي تَعَجْرُفُ ويُؤيسُني هِجرانُكم ثُمَّ إِنَّني ... أُعَلِّلُ قلبي بالمُنَى وأُسَوِّفُ

وأُعسِرُ من صبري فأثْرِي تجلُّداً ... كما يَسَّرَ الإِملاقَ منّي التَّعَفُّفُ وإِنْ نالَ منّي الفقرُ أو نالني الغِنَى ... فقد يَكْهَمُ الهِنْدِيُّ والبدرُ يَخِسِفُ وكيفَ ولي من نائلِ ابنِ محمّدٍ ... عطايا إذا ما أخلفَ الغيثُ يُخْلِفُ وَقُورٌ إذا خفَّت حلومُ ذوي النُّهَى ... وكادَ بريحِ الطَّيْشِ ثَهْلانُ يُنْسَفُ جوادٌ يُشِتُّ المالَ سَيْبُ يمينهِ ... وَأسيافُه بينَ المَنُونِ تؤلِّفُ يُبيد العِدى والبِشرُ بادٍ لوَفْده ... فيَنْهَلُّ والخَطِّيُّ بالدّم يَرْعُفُ بنائِله أموالُه وعِداتُه ... بذابِله في السَّلْم والحرب تُخطَفُ

نَدىً ووَغىً هانا عليه فلم يُبَلْ ... أَعَشْرٌ تُجَزَّا أم ألوفٌ تُضَعَّفُ فلا تطلُبَنْ إدراكَ شَأْوِك عُصبةٌ ... سبَقْتَ إلى العلياء لمّا تخلَّفُوا بكم حاوَلُوا أن يَكْلَفُوا فتكلَّفُوا ... ولم يقدِرُوا أَنْ يُسعِفُوا فتعسَّفُوا فهل مُبْلِغٌ منّي إليهم وإِنَّني ... لأَنصَحُهم فيما أقولُ وأنصفُ كفاكم من العلياء يا قومُ علمُكم ... بتقصيركم عن نيلها فبِذا اكتفُوا دَعُوها لِعَوْنِ الدينِ يحيى فإِنّه ... بها منكمُ أَولى وَأحرى وأعرفُ إذا هيَ ضاقت بالوفود مَفاوِزُ الْ ... فَلا فلهم من صدرك الرَّحْبِ نَفْنَفُ وإن أَوْحَشتْ للرَّكْب هَوْجاءُ هَوْجلٍ ... فنارُك للسّارينَ أُنسٌ ومألَفُ

وإِنّك قَيْسُ الرَّأيِ في الجود حاتِمٌ ... وإنّك عَمْرو البأس في الحِلْم أَحنَفُ كما هذَّبَ الأخلاقَ منك محمَّد ... بأخلاقه حَلاك بالحُسن يُوسُفُ تشرّف من آل الهُبَيْرِيّ سادة ... بِيحيى بهم كلُّ الأنامِ مشرَّفُ دعاء مُوالٍ مخلصِ الوُدّ مالَه ... إلى غيركم في العالمينَ تَشَوُّفُ فأنتم رفَعتم طَرْفَه بعدَ خَفْضِهِ ... وقد نَيَّمُوه والقَذَى فيه مُسْدِفُ وعَرَّفتُمُ ما كان منه منكَّراً ... فلولاكمُ ما كان في النّاس يُعرَفُ

وهل رَدَّ عنه النّائباتِ سِواكمُ ... غَداةَ التْقاها وَهوَ أعزلُ أَكشفُ وأجريتُم الماءَ الرَّواءَ لِعُودِه ... فعادَ وَرِيقاً بعدَ أَنْ كان يجففُ فما هو إلا من غُروسكم الّتي ... لها من أَياديكم ربيعٌ وصَيِّفُ

بنو أبي الجبر الليثيون ملوك البطائح وأعيانها بالغراف وما يجري معها أسفل واسط

مهذب الدولة أحمد بن محمد بن أبي الجبر ملك البطيحة أمير مهذب سعيد، كبير محجب سديد، مهيب كأنه لهيب، قريب كأنه غريب. برٌ للبر مقصود، وبحر من البحر والبر مورود. سمح أحسن، وسبع أعبس. سناه آنس، حين بنى البَطيحة وأسس. مجده باذخ وركنه شامخ. كان في عصر سيف الدولة، صدقة، وجرت بينهما مناوشة فيها صدقه، وحبسه سيف الدولة واعتقله، على مال كثير لأجله ثقله، وإلى السجن نقله. فقيل: كان مبلغه أربعين ألف دينار. أنشدت له بواسط، أبياتاً كتبها إلى صدقة فوهبها له، وأطلقه. وهي: سَلْ بقومي في الجاهليّةِ والإِس ... لامِ يُخْبِرْك مجدُهم والعَلاءُ من غِفار وضَمْرَة وفِراس ... زعماءٌ أَشِدَّةٌ حُلَماءُ

وإذا قلتُ يا لَلَيْثٍ أجابت ... ني قُرَيْشٌ وزَمْزَمٌ والصَّفاءُ ومِنَى والحَطِيمُ والحِجْرُ والبي ... تُ وحَسْبي ما ضَمَّتِ البَطْحاءُ ومتى شِمتُ من خُزَيْمَةَ برقاً ... أَسَدِيّاً يَنْهَلُّ منه الحَياءُ مَزْيَدِياً عليه من سِمَة المُلْ ... كِ وَقارٌ وعزَّةٌ وبهاءً

مَن أبوه الجَوادُ منصورٌ القَيْ ... لُ فتىً لا تَهُولُهُ الأَعداءُ مستقلٌ وناهضٌ بالمَعالي ... هِمَّةٌ دُونَ كُنْهِها الجَوْزاءُ كشَفت عن قِناعها لك بَغْدا ... دٌ وَأعطتك واسطٌ ما تَشاءُ وعَطَتْ جِيدَها إليك من الشَّوْ ... قِ حَنانَيْكَ البصرةُ الفيحاءُ لستُ أَغترُّ بالزَّمان مَدَى العُم ... رِ ومن أينَ للزَّمانِ وَفاءُ فبُردُ شعر المهذب مذهب ولفظه فيه مرتل مرتب، ونسج نظمه بالفخر مفوف، ونظم جنسه بالسمو مؤلف. فكيف ينظم الدر في سلكه، إذا تمكن من مُلكه ومِلْكه؟ وله قرأته في مجموع: سأَطْرِفُ عنكُمُ طَرْفِي ... وَأنفُضُ منكُمُ كفّي وَأهجُرُكم ولو أَنِّي ... لَقِيتُ بهَجْركم حَتْفي

وما أُبْديهِ من مَلَل ... فضِعفاهُ الذِّي أُخفي وقد طَلَّقتكم ألفاً ... على التَّحقيق في أَلْفِ وله أيضاً: دهريَ بالحادثات يرشُقُني ... حتّى كأنِّي لنَبْلهِ هَدَفُ ما أنعمَ الجاهلَ الغبيِّ وما ... أشقى رِجالاً بالفضل قد عُرِفُوا

ناصر الدولة المظفر حماد بن أبي الجبر ملك البطيحة في زماننا

ناصر الدولة المظفر حماد بن أبي الجبر ملك البطيحة في زماننا الحيا المنهل، والمحيا السهل، ذو الشيبة المنيرة، والهيبة المبيرة، والهمة الأبية. كان للخائف ملاذاً وفي المخاوف معاذاً. فكل من يخشى من الخليفة والسلطان، يجد عنده المن والمنى والأمان، فلا يقدر عليه ولا يساء إليه، حتى قال بعض الواسطيين في هذا المعنى: كلُّ مَنْ وَلَّتْ سعادتُه ... فإِلى الغَرّافِ ينحدرُ وترى الغَرّافَ عن كَثَب ... عبرةً يأتي بها الخبرُ قال لي الشاهد، هبة الله، بن سلمان، الواسطيُّ: هذا الشعر، لي من جملة أبيات نظمتها.

قرب حماد لابن حَماد، كهف وراد ورواد. ما ينحدر أحد إليه، إلا أنعم عليه، وحظي لديه. فالجود على الحقيقة مات بموته، والكرم في العراق، بين الخليقة فات بفوته. كان أباً للأيتام مربياً، وبراً بمستحقي البر على الأبرار مبراً مربياً، يتصدق وينفق، وسوق المعالي عنده تنفق. قد كانت بلاد البطائح، محترمة به كالأباطح، أحصن من الحصون، والبلد المصون. كانت أيامه غرراً في الغراف مجمع الأفاضل والأشراف. وافاه الحِمام في الحَمّام، وذبح ولا ذَبْحَ فراخ الحَمام. وثب عليه بعض أحفاد المهذب بن أبي الجبر، ليغلب على بيته على سبيل القهر والجبر، فدخل إليه الحمّامَ، واستحلَّ دمه الحرام، ولم يتمكن مما أراد، لكن خرب بقتله البلاد، وذلك في سنة إحدى وخمسين وخمس مئة.

أنشدني المخلص، أبو النجم، بن عمارة، الواسطي بها، لناصر الدولة مظفر بن حماد، كتبه إلى نصر بن مهذب الدولة: أخي وابنَ خالي ما الَّذي كان بينَنا ... من الأمر حتّى صِرتَ تَنْفِرُ من قُربي ولو أَتَّنِي يا نصرُ رامَتْ جَوانحي ... إساءةً فعلٍ فيك حارَبَها قلبي حُكي لي: أن هذا نصرا ملك البطيحة بعد أبيه، ففتك به ابن حماد واستولى على الملك. وملوك البطائح لم يزالوا يملكون بالقتل والفتك.

الصارم مرجى بن بتاه البطائحي

الصارم مرجى بن بتاه البطائحي خال مهذب الدولة، بن أبي الجبر. من فحول الشعراء، وأعيان الفضلاء. غير أنه كان هجاءً، على الثلب هجاماً لا يرى عن الهجاء البتة إحجاماً. فلسان الصارم صارم، مصاول مصادم. قريضه كالمقراض في قطع الأعراض بما له من الأغراض. وكلمه كلم، والحرب في نظره سلم، وثلبه ثلم. لا يثلب إلا كبيراً، ولا يثلم إلا سريراً. فكم أجرم مرجى، ومزح في هجو مرجى حين هجا، حتى هجا ولده وامرأته وخاله وأجرى على هذا النمط عمره حاله. وجه هجوٍ، أحب إليه من وجه حسن حلو. فكم صاد بفخ سخفه حباء، ونال بإثارة رهج هجر نوالاً وعطاء. وكان هذا ابن بتاه بتاتاً لحبال ذوي الحباء، مقاتاً للكرماء، أجهل

هجاءٍ للكبراء، وأضرك راضٍ بضراء. لكنه رأى في زمانه، مع أقرانه، سلوك تلك الطريقة أقرب إلى الحقيقة. وكان بعد في الناس بقية، ومن له على عرضه حمية فيقطع لسان الشاعر بإحسانه، ويكف غرب لسانه. ولو عاش إلى هذا العصر، لرأى للأغنياء راية النصر. فكل جعل عرضه دون العرض لسهم الثلب غرضاً، (في قلوبهم مرضٌ فزادهم الله مرضاً) . لا يعدون ذا الفضل إلا ذا كدية، ولا يردون طالب شيء منهم لو قدروا إلا بمدية. فليل الظلم مظلم لا صباح له، وطائر العدل مقصوص لا جناح له. فأين البطائحي لينبط القرح، وينظر من يستحق المدح؟ فقد كان ناقداً بصيراً بالنقد، حلالاً للعقد. أمر بقتله ابن حماد لما هجاه. وكان في قرية في قرى، فجاءه بعض الأجلاف فطعن بحربته قراه، فأرداه.

له لما قتل سيف الدولة صدقة سنة إحدى وخمس مئة، وأقطع بلاده الأكراد وغيرهم، وضمن كشف تلك الأعمال رجل يقال له ثابت، بن سلطان بن ثابت، ومن الأكراد جماعة يقال لهم بشيرية وجماعة نرجسية، أنشأ مرجى قصيدة، منها: لقد سَنَّ للسُّلطان ثابتُ سُنَّةً ... فلا يأمَنِ السُّلطانَ زيدٌ ولا عمرو مُوافقةَ النُّظَارِ والكشفَ عنهمُ ... ولو كان ممّن لا يَصِحّ له العُشْرُ وقد كثُرَ الإقطاعُ حتّى أظُنُّه ... سيُقطَعُ كلبٌ بالجَزِيرة أو هِرُّ ثلاثونَ ألفاً للبَشِيرِيّ وحدَه ... فدَعْ عنك ممّن لا يجوزُ له ذكرُ وعشرون ألفاً أُقطعت نرجسيّةٌ ... كثيرٌ لها ألفٌ ولو أَنَّها بَعْرُ ولولا سَفاهُ الرَّأيِ كان عليهِمُ ... من الغَنَم الأعشارُ والصُّوف والشَّعرُ

وما كان اسياكيلُ يَرْكَبُ خَلفَه ... جِيادَ البَراذينِ البَشِيريَّةُ الحُمْرُ ويركَبُ سلاّر أخوه بدهره ... ومِن خلفه فهدٌ وقُدّامَهُ صَقْرُ ورُمحانِ مدهونانِ يَخْفِقُ فوقَها ... عُقابانِ مكتوبٌ على وجهه نَصْرُ وأصبحت لا أدري إذا ما رأيتُهُ ... أقد جُنَّ أسياكيلُ أم خَرِف الدّهرُ سلامٌ على مال العِراقِ فإِنَّه ... مضى حيثُ لا نفعٌ لذاك ولا ضُرُّ فشَطْرٌ لأتراك ومن دونِها النَّهْرُ ... وشَطْرٌ لأكرادٍ ومن شأنِها الغدرُ وشَطْرٌ لكُتَابٍ وما فيهِمُ صدرُ ... وشَطْرٌ لحُجّابٍ وما بِهمُ فخرُ وشَطْرٌ لِصبيانٍ يتامى ونِسوةٍ ... أَيامى وما في برِّ أكثرِهم أجرُ وفي هِيتَ والأَنْبارِ للنّاس عِبْرَةٌ ... إذا أبصروا يُمْناً كما انكسف البدرُ

كانَّ غُراباً فوقَ أعوادِ سَرْحَة ... لكَ الخيرُ إِن لاقيتَهُ وله الشَّرُّ كأَنَّ عليه حُلَّةً من إِهابه ... وقد طُلِيت بالقار أو مَسَّها الحِبرُ ومنها يذكر خوفه ممن هجاهم: إذا ما عبَرْتُ النَّهرَ يوماً وأصبحت ... تَخِبُّ بيَ الجُرْدُ المُحَجَّلَةُ الغُرُّ فأدنَى بلادِ اللهِ منها وإِنْ نأت ... وأكثرُها عدلاً وآمَنُها مِصْرُ هنالك لا أخشى عظيماً هجوتُه ... وتُكتَمُ أشعاري كما يُكتَمُ السِّرُّ فيُقِنعُني أَنْ لا أرى مَنْ أَخافُهُ ... بِمِصْرَ على نفسي وإِنْ ظهَر الشِّعرُ وله بيتان، أنشدنيهما مجد العرب العامري في هجو ثلاثة من الكبراء، وهما:

ثلاثةٌ كأثَافِي القِدرِ أَبْرامُ ... مظفَّرٌ ودُبَيْسُ اسْتٍ ووَرّامُ قومٌ إذا قامَ قومٌ للعلى قَعَدُوا ... وإِنْ تنبَّهَ قومٌ للعُلَى نامُوا هذا البيت الأخير نادر في الهجاء يعجز عنه فصحاء البلغاء. وأنشدني أبو الفضل عبد الرحيم بن الأخوة، الشيباني: أنشدني ابن بتاه لنفسه، يهجو أخاه والمعنى في غاية الحسن لم يسبق إليه: أيُّ حرامٍ من الحَلال أَخي ... كأَنّه الخمرُ إِبنةُ العِنَبِ قاتلك اللهُ يا أَخي فلقد ... فضَحْتَنا في قبائلِ العَرَبِ كأَنّنا الغُرُّ من قُرَيْشَ سَمَوْا ... وأنت ما بينَنا أبو لَهَبِ وله في ولده: هَيْهاتَ أَن يُفْلِحَ مسعودُ ... وفيهِ كالجوزة تعقيدُ

وليس للجوزة من كسرها ... بُدٌّ وكسرُ الجوزِ محمودُ كأنَّما مسعودُ عُودٌ فما ... ينفَعُ حتَّى يُحْرَقَ العودُ وله في زوجته يهجو. وقد أحسن في وصفه تكمش وجهها: ولا زَوَرْدِيَّة الثَّنايا ... قد قَمَّعَتْ رأسَها بقِيرِ كأنّما وجهُها قميصٌ ... قد فَرَّكوه على حصيرِ وَيْلي على ما وقَعْتُ فيها ... أوقعها اللهُ في السَّعِيرِ وله في ولده أيضاً: لي ولدٌ لا وَلَدتْ أُمُّهُ ... أَعْذِلُهُ الدَّهْرَ فما يَرْعَوِي الله قد صيَّرَه أعوجاً ... يا ذَنَبَ الكلبِ أما تَستوي وله في زوجته أيضاً: قالوا تزوَّجْتَ دُبَيْسِيَّةً ... أضرى من الذّئب على الشّاةِ تقديسُها النَّخْرُ وتسبيحُها ... وهاتِ تَقْرَا في التَّحِيّاتِ وله في ابن أخته مهذب الدولة، بن أبي الجبر: عليَّ لمولايَ الأميرِ ثلاثةٌ ... تُعَدُّ له عندي من الطَّوْل والْمَنِّ

إذا جئتُ قال النّاسُ قد جاء خالُه ... وأدخُل أحياناً عليه بلا إِذْنِ وإِنْ ضُرِب الطَّبلُ الشَّريفُ سمِعتُهُ ... بأُذْني وهذا الحظُّ في غاية الحُسنِ وله فيه أيضاً: ولا تتَمَنَّ خيراً لابْن أختٍ ... ولو أَلْفَيْتَه بَرَّاً وَصُولا فإِنّي كنتُ أوّلَ من تمَنَّى ... له عزّاً فصار به ذليلا وله في الأمير نصر ولد مهذب الدولة: رأيتُ مَضْرِب شَعْرٍ ... فقلتُ ماذا السَّوادُ فقيل مَطبَخُ نصرٍ ... فقلتُ أين الرَّمادُ فقيل لي فيه بِنُّ ... وكامَخٌ وجَرادُ وليس فيه سِوَى ذا ... وللجَمال يُرادُ وله يهجو أهل الحُويزة: وكم في بني أسد من أميرٍ ... يُنالُ على دَلّهِ والعُجابِ فتزيينُ طُرَّتهِ للنّسِاءِ ... وتدويرُ فَقْحَتِه للزِّبابِ

وله في مظفر بن حماد: يا رَبِّ يا رَبِّ اِرْحَمِ النّاسا ... واجعَلْ أميرَ الغَرّافِ عَبّاسا إِنّ ابنَ حَمّادَ قد طغى وبغى ... بغياً عظيماً وَأرهقَ النّاسا وكان من شؤم بَخْتِه ذَنَباً ... فصارَ من شؤمِ بختِنا راسا وله في بعضهم: للهِ دَرُّك أيُّ فارسٍ بُهْمَةٍ ... في الدّار منك وأيُّ مُوقِدِ نارِ نارٌ ولكن لا تُضيءُ وفارسٌ ... في البيت يَفْرَقُ من دبيب الفار وله في أبي البدر، قضاعة: أبا البدرِ كيفَ ترى ما جرى ... وكيف تلقّاك سوءُ العمَلْ تركتَ عِمادةَ أرضِ العِراقِ ... وأصبحتَ عامل نهر الجَبَلْ

رَجَعْتَ إلى خَلْفَ لمّا كبِرتَ ... فعُدتَ كأنك بولُ الجمَلْ وله يهجو: علق تزوَّج قحبةً مشهورةً ... خَلِقَتْ وغَيرهُ زوجِها لم تَخْلُقِ ظلَّتْ مُعَشَّقةً وظلَّ مُبَغَّضاً ... شتّانَ بينَ مُبَغَّضٍ ومُعَشَّقِِ ومن العجائبِ أَنّها إِنْ واعَدَتْ ... صَدَقَتْ وإن حَلَفَتْ له لم تصدُقِ وله: يا سالماً في بيتِه ما لُهُ ... وَيْحَكَ ما عِرسُك بالسّالمِ النّ ... في السُّرْم فدَعْ غيرَهُ ... يَثْغَبُ مثلَ المطرِ الدّائمِ

وله: علمَّني مذهباً كَفَرْتُ به ... كأَنَّني ما عرَفْتُ إِسلاما فقلتُ هذا من أين تعرِفُهُ ... فقال لي قد كفرتُ إِلْهاما وله يهجو الأَكراد: لقد عرَضَ الأَكرادُ جيشاً عَرَمْرَما ... كفى اللهُ ربُّ النّاسِ شَرَّهُمُ البَقّا إذا رَكِبوُا واْستَلأَمُوا خِلْتَ أنَّهم ... ذُبابٌ إذا ما كان أكثرهُم زرقا وما خَلقَ اللهُ الذبابَ لحاجة ... إليها ولكنْ كي يَغِيظَ بها الخَلْقا ويُغْمَسُ في المأكول بعضُ جَناحِه ... فإِنْ مَقَلُوه فيه كان لهم أَتْقى وليس لهم إلا خِضابُ لِحاهُمُ ... ولو حَلَقُوها كان أبقى لهم حَلْقا وله من قصيدة: كأنَّني إِذْ وَقَفتُ أُنشِدُهم ... شعريَ أعمى يَقْرَا على قبرِ وليس شعري شعراً فتسمَعَهُ ... لكنّ شِعري ضربٌ من السِّحرِ لو لم يكن بحرُه المحيطَ لمَا ... رأيت فيه عجائبَ البحرِ

والبحرُ فيه دُرٌّ ومَخْشَلَبٌ ... وليس فيه شيءٌ سِوَى الدُّرِّ والشِّعرُ لا قدرَ في الوَضِيعِ له ... إلا إذا قيلَ في ذوي القَدْرِ وله: أنا المِلْحُ الَّذي في كلّ شيء ... من المأكول يخبُثُ أو يَطيبُ إذا ما كنتُ في قوم غريباً ... ظننتُ بأَنَّني لهمُ نَسِيبُ أُعاشِرُهم بمعروف وأعفو ... وَأغفِرُ ذنبَهُمْ ولهم ذُنوبُ وله من قصيدة يهجو عاملاً: ليس له شيءٌ سِوَى عِرضِهِ ... من كلِّ ما يملِكُ مبذولا قد هَتكتْ زوجتُه سِترَهُ ... ولم يكن من قبلُ مسبولا رَقاصةٌ ما رَقَصت باِسْتِها ... إلا وما شدَّت سَراويلا تُداخِلُ الفَلْكَةَ في رِحْمِها ... وتُخرِجُ المِغْزَلَ مغزولا وكلَّما أَعْوَزَها نائكٌ ... تعلَّلتْ بالسَّحْق تعليلا

لها نَواةٌ فإِذا ساحقت ... صارتْ لها في الحال إِحْلِيلا وتركَبُ النّاقَةَ من غُلْمَةٍ ... وتترُكُ الفاعلَ مفعولا لو عَبَر الفِيلُ على بابها ... لحَمَلتْ من فوقِه الفِيلا ولم يَرُعْها عندَ إيلاجِه ... فيها كعظم السّاقِ غُرْمُولا ثُمَّ انثنتْ تَنْشُدُ ذا سَلَّةٍ ... وردَّتِ القاتلَ مقتولا والسَّيفُ لا يُرْهَبُ إِغمادُه ... وإِنّما يُرهَبُ مسلولا قد دخَل النّاكةَ مِصْرَ اسْتِها ... فسَيَّحُوا من تحتِها النِّيلا وما لِمصرْ مثلُ نِيلِ اسْتِها ... وُسْعاً ولا عُرضاً ولا طُولا إِنَّ الَّذي يَكسِبُه زوجُها ... تُعطيهِ للنّاكة برطيلا وله: يا دولةَ التُّرْكِ لا رَجَعْتِ ولا ... ظُلْتِ بقاءً يا دولةَ العَرَبِ كِلاكُما واحدٌ وخيرُكُما ... شرُّ زمانٍ للنّاس منقلِبِ خليفةُ الله فيكِ محتجِبٌ ... فكيفَ يُرجَى خَلاصُ محتجبِ وماتَ بكيارُقٌ وإِخْوَتُه ... قد وجَدوا راحَةً من التَّعَبِ

وطابَ تُفَاحُ أَصفهانَ لهم ... جهلاً بما في العِراقِ من رُطَبِ أَظُنّهم قد نَسُوا العِراقَ ولم ... تَبْقَ لهم حاجةٌ إلى الذَّهَبِ ولا إلى الخيلِ في أَعِنَّتِها ... مثلِ السَّعالِي أو المَها السُّلُبِ وَأَنَّ ما بينَ واسطٍ لهمُ ... وبينَ بغدادَ أشرفَ الرُّتَبِ خَلِّ أصْفهاناً تَعْوِي الكلابُ بها ... وأسْرِعْ إِلينا يا خيرَ مُرْتَقَبِ واسْتنقِذِ المسلمينَ إِنَّهُمُ ... قد أَشرفُوا بَعدَكُمْ على العَطَبِ ومنها: وقد مُنِينا بصاحبٍ مَذِقٍ ... يُحِبّ شعري وليس يرفُقُ بي أَخافُ من بأسه فأمدَحُهُ ... وأَبلُغُ الجِدَّ وهو في لِعبِ ومنها في صدقة وكان من سماته سيف الدولة تاج الملوك: لو كانَ تاجاً لكَانَ من خَزَفٍ ... أو كانَ سيفاً لَكانَ من خَشَبِ

حكي لي: أن مرجَّى بن بتاه قصد سيف الدولة، فلما وصل دهليزه، سمع صوته وهو ينشد هذا البيت فهم بالرجوع فأحس صدقه به، فدخل إليه وعفا عنه ووصله وقال له: لا تقم فإنك هجوت مباركة وكذبت ويقتلك بعض عبيدها فلم يقم. ومن جملة ما هجاها به قوله: ولو فتَّشُوا بينَ المقابرِ قبرَها ... لمَا وَجَدُوا إلا خِصىً وأيُورا

الأمير نجم الدولة أبو العباس أحمد بن أبي الفتوح المختار بن محمد بن أبي الجبر

الأمير نجم الدولة أبو العباس أحمد بن أبي الفتوح المختار بن محمد بن أبي الجبر أرى أري نظمه مشتاراً وجميع شعره مختاراً، أحمد من أحمد مقاصد، في قصائده، واتساق فرائد فوائده. كلامه مالك للقلب وكتابه باتك كالعضب، ولسانه ناسل نتائج فضله، ووطابه باخل عليه بنيله.

إذا قال لاقى ذا الفصاحة فأفحمه، وإذا تكلم ملكت ذا العلم كلماته فيقول: ما أعلمه! أنعم بمعناه، الذي أنعم في مغزاه. قال المظفر بن حماد: بيت أبي الجبر ثوبٌ هو طرازه، فتعين علي إكرامه وإعزازه. ما برح في الغراف من بحر المظفر غرافاُ بمناه مظفراً وصار بتبر شعره للجين لهُاه صرافاً، على مدحه متوفراً. لازم الوطن، وأذكى فيه الفطن. ولم يمدح أحداً يستجديه، واقتصر على ما مدح به أهله وذويه. قال ابن الباسيسي: إنه توفي بالغراف سنة سبع وأربعين وخمس مئة. ذكره لي القاضي الصديق عبد المنعم، بن مقبل، الواسطي بها، في محرم سنة خمسين وخمس مئة، وقال: كنت انحدرت إلى الغراف في شغل فلقيته هناك وكتب منه قصائد. منها، في مدح المظفر بن حماد:

قِفا فاسألا رَسْماً لِلعَسْاءَ مُقْفِرا ... عسى أن يُجيبَ السائلينَ مُخَبِّرا وعَلَّ سؤالَ الدّارِ يَشفي صَبابةً ... فيُطْفِي غراماً في الحَشا قد تَسَعَّرا أَوَدُّ لها سَقْيَ السَّحابِ وَأمْتَرِي ... لها عارضاً من جَفْن عينيَ مُمطِرا لعَمْرُ أبيها لو رأتْ أَمسِ موقفي ... على الدّار أَبكي رسمَها حينَ أقفرا رأت حافظاً للعهد غيرَ مُضَيِّعٍ ... وحِبّاً على هِجْرانِها ما تغيَرا ذكَرت الصِبا من بعدِ ما بانَ وانقضَى ... ومَنْ كانَ مشغوفاً بشيءٍ تذكرَّا وللهِ أيّامُ الصِّبا ما ألَذَّها ... وأرغَدَ ذاك العيشَ منها وأنضرا طوى طولَها طِيُب الشَّبابِ فما أرى ... كأوقاتها أَوْحَى فَناءً وأقصرا أكانت لياليهِ جميعاً كليلةٍ ... جَلاها ضياءُ الفجرِ ساعةَ أسفرا أَمِنّي أراد الكاشحونَ خديعةً ... أكنتُ بما رامُوا غبيّاً مُغَمَّرا

أبى ذاك علمي بالأمور وَأنَّني ... حَلَبْت زماني أشْطُرا ثُمَّ أَشْطُرا إذا تَرَكَ المرءُ المطامعَ خلفَهُ ... رأى من صريحِ العزم ما لم يكن يَرَى لعَمْرُك ما الدُّنيا بباقية لنا ... وإن طال عُمرُ المرءِ فيها وعُمِّرا سطت ببني ماء السَّماءِ فدَمَّرَت ... وكِسْرَى فما أَبقت ولم تُبقِ قَيصرا كبِرتُ فما أَلقى امْرُءاً في عشيرتي ... على كثْرة في القوم منّيَ أكبرا وكنتُ أراني حين آتي نَدِيَّهُمْ ... نَدِيَّ العُلى أدنى سِنينَ وأصغرا كفاكَ الليالي تترُكُ الطِّفلَ أَشيباً ... وتَرْجِعُ مخضرَّ الشَّمائلِ أَصفرا قَرينُ الفتى يُنْبيك عنه فلا يكن ... قَرينُك إلا الماجدَ المُتَخَيَّرا إذا كنتَ في القوم الأَغَرَّ خلائقاً ... فلا تَصْحَبَنْ إلا الأَغَرَّ المُشَهَّرا

إذا لم أجِدْ يوماً جليساً مهذَّباً ... يُشاكِلُني في النَّجْر جالستُ دفترا يُرِيني الورى الماضينَ مَنْ كان منهمُ ... ألَبَّ وأقوى في الخطوب وأصبرا إذا شِئتَ أن تَلْقَى الرِّئاسة والحِجا ... وبأسَ الأُسُودِ الغَلْبِ فَالْقَ المظفَّرا ترى حاتِماً جوداً ولُقْمانَ حكمةً ... وسَحْبانَ إيجازاً ويُوسُفَ منظرا يروقُك حُسناً في الرِّجال ومنظراً ... ويرضيك رأياً في الخطوب ومخبرا تباع المعالي عند قومِ رخيصةً ... وعندَ أبي الفتح بنِ حمّادَ تُشترى إذا افتقرَ الإنسانُ منه إلى الثَّنا ... رآه إلى كسب الثَّنا منه أفقرا يرى الرّاحةَ العُلْيا أجلَّ محلَّةً ... من الراحة السُّفْلى وَأسْنَى وَأفخرا كأَنّ السَّجايا كُنَّ أُلْقِينَ عندَه ... فحُكِّمَ فيها فانتقى فتخيرا أعارَ العلى سمعاً وعيناً بصيرةً ... ليَعْرِفَ معروفاً ويُنكِرَ مُنكَرا

فما شَدَّ إلا للمكارم حَبْوَةً ... ولا حَلَّ يوماً للدَّنِيَّة مِئزَرا يرى باطنَ الأمرِ الَّذي غيرُه يرى ... له ظاهراً في الظَّنّ منه مصوَّرا أيا ناصرَ الدِّينِ الَّذي الدِّينُ لا يرى ... له منه في اللأَواء أحمى وأنصرا ويا شيخَها في رأيها وضياءَها ... إذا الخَطْبُ أضحى حالِكَ اللونِ أقترا بنى لك إِسماعيلُ بيتاً سمت به ... قواعدُه فوقَ النُّجومِ ومَفْخَرا غَداةَ الرَّوابي صالَ في القوم صولةً ... فأَخْنَى على جيشِ العميدِ ودَمَّرا بفِتيان صِدقٍ من كِنانةَ لو بدت ... وجوهُهُمُ في حِنْدِس الليلِ أَقمرا إذا حاربوا كانوا الأُسودَ شجاعةً ... وإن سُئِلوا كانوا من البحر أغزرا سَما لهمُ ليثُ بنُ بكرٍ كما سَما ... بليثٍ وأشباهٍ لَقِيطُ بن يَعْمُرا

وَلمّا دعا مسعودُ لَبَّيْتَ إِذْ دعا ... سريعاً إلى صوت الصَّريخ مشمِّرا نهَضْتَ بحَمْل العِبءِ عنه وقد رأى ... جَحافلَ داوودٍ تَجُرُّ السَّنَورَّا ولولاك عادت دُونَ دِجْلَةَ خيلُهم ... ولم تَرَ من شرقٍ إلى الغربِ مَعْبَرا فكنت زعيمَ الجيشِ والفارسَ الَّذي ... يرُدّ سِنانَ الرُّمحِ ريّانَ أحمرا أَصِخْ يا أبا الفتحِ بن حمّادَ تستمعْ ... عِتاباً كزهر الرَّوض أضحى مُنَوِّرا أَفي الحقِّ أَن أُضحِي وحظِّي ناقصٌ ... وحظُّك عندي لا يزالُ مُوَفَّرا

يَسُرّ الفتى إِحسانُه في مَعاده ... وعندَ صباحِ القوم قد يُحْمَدُ السُّرَى مضى رَمَضانٌ عنك بالصَّوم راضياً ... ومِن قبلهِ شعبانُ إذْ كنتَ مُفطِرا ولاقاك يومُ العيدِ بالسَّعد والمُنَى ... وكَبْتِ الأعادي ضاحكَ الوجهِ مُسْفِرا ومنها ما أنشدنيه عبد المنعم، يرثي ولداً له، مات بالحويزة، اسمه أبو الحسين ووجد عليه غماً في يوم عيد: لبِس الجنود جديدهم في عيدهم ... ولبِستُ حزن أبي الحسين جديدا ووَدِدْتُ لو حضَر المُصَلَّى فيهِمُ ... حيّاً وكنتُ المُسْبَتَ المَلْحُودا أيسُرُّني عيدٌ ولم أَرّ وجهَهُ ... فيه أَلا بُعداً لذلك عيدا كيفَ المَسرَّة لامْرِئٍ فقَدَ الهوى ... وحثا عليه جَنادِلاً وصَعيدا أَفحينَ عادَ الليثُ بأساً يُتَّقَى ... والبدرُ حُسناً والسَّحابةُ جودا

وتقيَّلَ النُّجَباءَ من آبائه ... وجدودِه المُتَخَيَّرِينَ الصِّيدا ورجا الصَّديقُ كما رجوت بأن يرى ... بَعدي به ما ساءَني مسدودا وتَخِذْتُه كهفاً أرُدُّ به الأَذَى ... عنّي ورُكناً في الخطوبِ شديدا وَأوانَ أَوْهَنتِ الليالي أعظُمي ... وغَضَضْنَ من بصري وكان حديدا ومشَيْتُ للسّبعينَ مُنْحَنِيَ القَرا ... وبِما أُرَى سَبْطَ القَوامِ سديدا وطوى لِداتي الموتُ إِلا قُلَّهُمْ ... فتبوَّؤُوا بعدَ القصورِ لُحودا فارقتُهُ وبقِيت أَخْلُدُ بَعدَه ... لا كانَ ذاك بَقاً ولا تخليدا مَنْ لم يَمُتْ حَزَناً لموت حبيبِه ... فهو الخَؤُونُ مَودَّةً وعُهودا مُتْ مَعْ حبيبِك إن قدَرْتَ ولا تَعِشْ ... من بعدِه ذا لوعةٍ مكمودا أَنْساه لا واللهِ أو ينسى إذا ... ركب الغصون الأورق الغريدا

أصبحتُ بعدَ أبي الحسين أظُنُّني ... وبنو أَبي حِزَقٌ لَدَيَّ وَحِيدا قد كان يُجْزئني وكم من واحد ... يُجزي ويعدِلُ في الغَناء عديدا ما أُمُّ خِشْفٍ قد ملا أَحشاءها ... حَذَراً عليه وجَفْنَها تسهيدا إنْ نامَ لم تَهْجَعْ وطافتْ حولَهُ ... فيَبِيتُ مكلوءاً بها مرصودا وَجْدي به وَجْدُ التي بعدّ الصِّبا ... والشّيبِ أعقبها الإِلهُ وَلِيدا خَرِقٌ كدُمْلُوجِ اللُجَيْنِ تَرى له ... من غيرِ ما كُحلٍ مَآقِيَ سُودا جَذِلَتْ به يومَيْنِ تَرعى حَولَه ... بالحَزْنِ بَقْلَ خَميلةٍ معهودا

فإذا فُوَاقُ الرِّسْلِ أعجلَها اْرعَوَتْ ... فحَنَتْ عليه من الرَّضاعِ الجِيدا حتّى أَتاحَ لها المُتِيحُ من الرَّدَى ... قبلَ السَّواد من العِشاءِ السِّيدا فقضى عليه فلم يَدَعْ منه لها ... إلا إِهاباً بالعَرا مقدودا فهُناك أعلنتِ البُغامَ كأنَّها ... ثَكْلَى أُصيبتْ فارساً صِنْديدا مِنّي بأوجَعَ إِذْ رأيت نوائحاً ... لأبي الحسين وقد لَطَمْنَ خُدودا أأبا الحسين وما عَدِمْتُ جَلادتي ... إلا غَداةَ رأيتُك المفقودا وعَدِمْتُ صبري يومَ مُتَّ وطالمَا ... قد كان إِن طرَقَ الرَّدَى موجودا كنتُ الجليدَ على الرَّزايا كلِّها ... وعلى فِراقِك ما خُلِقتُ جليدا ولَئِنْ بَقِيتُ وقد هلكتَ فإِنَّ لي ... أَجَلاً وإِن لم أُحصِهِ معدودا

لا موتَ لي إلا إِذا الأَجَلُ انقضى ... فهُناك لا أتجاوزُ المحدودا ومع البقاءِ فإِنَّني بك لاحقٌ ... من عن قريبٍ لاَ أراه بعيدا حُزني عليك بقَدْر حبِّك لا أَرى ... يوماً على هذا وذاك مَزِيدا ما هَدَّني مَرُّ السِّنينَ وإِنَّما ... أَمسيتُ بعدَك بالأسى مهدودا يا ليتَ أَنّي لم أكن لك والداً ... وكذاك أنت فلم تكن مولودا فلقد شَقِيت ورُبَّما شَقِيَ الفتى ... بِفراق مَنْ يهوى وكان سعيدا مَنْ ذمَّ جَفْناً باخلاً بدموعه ... فعليه جَفْني لم يَزَلْ محمودا يبكي ولا يَرْقا فأَحسَبُ دمعَهُ ... بالسُّحْب لا بشُؤونهِ ممدودا فَلأَنْظِمَنَّ مَراثياً مشهورةً ... تُنسي الأَنامَ مُتَمِّماً ولَبِيدا

وجميعَ مَنْ نظمَ القريضَ مُؤَبِّناً ... ولداً له أو صاحباً مودودا وَلأَدْعُوَنَّ لك المُهَيْمِنَ راجياً ... منه الإِجابةَ رَبَّنا المعبودا ومنها يرثي ولده، أنشدنيه عبد المنعم من قصيدة: على القبر بِالمجنونِ كلَّ عشيّةٍ ... وكلِّ صباحٍ رحمةٌ وسلامُ ثوى فيه مَنْ لو يُفْتَدى لَفديته ... بنفسي ولم يُطبِق عليه رِجامُ لَئِن فُلَّ صبري يومَ مات فرُبَّما ... يُفَلُّ غِرار السَّيفِ وَهْوَ حُسامُ أبعدَ مَشيِب الرّأسِ منّي وكَبْرَةٍ ... تَحَنَّى لها صُلْبٌ وهِيضَ عِظامُ أُفارقُ عبد الله تاللهِ إِنّها ... مصائبُ جلَّتْ كلُّهنَّ عِظامُ

لو أنَّ شَماماً يُبتلى بمصيبتي ... تصدَّعَ من عُظم المُصابِ شَمامُ ألا ليتَ شِعري كيفَ في القبر مُكثُه ... تجلَّى نهارٌ أو أَجَنَّ ظلامُ إذا الْتَهبت نارُ الأَسى بين أضلُعي ... تحدَّرَ ماءُ العينِ وهْوَ سِجامُ كعُودٍ يَسِحُّ الماء من جانب له ... ومن جانبٍ للنّار فيه ضِرامُ ومنها: خليلَيَّ إِنْ آنَسْتُما البرقَ لامعاً ... من الأُفُق الشَّرْقيِّ حينَ يُشامُ وهبَّتْ من الحَيّ الحُوَيْزِيّ نفحةٌ ... من الرّيح أو منه استقلَّ غَمامُ فلا تَعْذُلاني أَنْ بكَيتُ وإِنْ جلى ... بعيني فُرادَى أدمعٍ وتُؤامُ فإِنَّ بهاتيك الأماكن لي هَوىً ... يُؤَرِّقُ عيني والعُيونُ نِيامُ

وكان جَمعَ الحكيم، موفق الحكماء أبو ظاهر البرخشي، الواسطي الأبيات التي كتبها على التقاويم في مدى السنين، فطالعت المجموع وقد أحضره يوماً بالهمامية سنة أربع وخمسين وخمس مئة عندي فوجدت فيه للأمير أحمد، بن أبي الفتوح: دواءٌ إلى صحّةٍ يُعْقِب ... وعافيةٌ عنك لا تذهَبُ شرِبتَ دواءً وكان الشِّفا ... ءُ فيما شرِبْتَ وما تشرَبُ وعُكِتَ ويُوعَكُ في خِيسِه ... على عِزّهِ الأسدُ الأغلبُ فما غيَّرَتْ وَعكةٌ بأسَهُ ... ولا كَلَّ نابٌ ولا مِخْلَبُ وقد يَصْدَأ المَشْرَفِيُّ الحُسا ... مُ وما فُلَّ حدٌّ ولا مَضْرِبُ وكتب لي بخطه، وأنشدني القاضي العدل عمر بن الحسين الباسيسي - وهو عدل شاه بالغراف - القصيدة التي كتبها الأمير أحمد بن أبي الفتوح إلى الشيخ أبي محمد القاسم، بن علي الحريري صاحب المقامات بالبصرة والقصيدة التي كتبها الحريري جواباً عنها. قال ابن الباسيسي: سمعتهما من الأمير أحمد، بن أبي الفتوح بالغراف وقرأتهما عليه.

فقصيدة الأمير أحمد هي: لِحَيِّ كعبٍ أَمْ أخيهِ كِلابْ ... مَرَّتْ بنا بالأمسِ تلك القِبابُ فهل رأت عيناك من قبلِها ... جَأذِراً تمنَعُها أُسْدُ غابْ كم في حُدوجِ القوم من غادةٍ ... رَخيمةِ الدَّلِّ أَناةٍ كَعابْ إنْ أظلمتْ فرعاً أَنارت سَناً ... أو أُشبعت حِجْلاً أجاعت حِقابْ يَغُضّ من ضوء الهلال العمى ... ولا يغُضّ الحُسنَ منها النِّقاب وذي صفاءٍ ليس لي دُونَهُ ... سِرٌّ صَريحُ الوُدِّ مَحْضُ الحَبابْ

قال لقد غيَّرْتَ اِسم الَّتي ... سمَّيْتَها في الشِّعر أختَ الرَّبابْ وهْوَ كما قالَ ولكنّني ... أراقبُ الغَيْرانَ أيَّ ارتقابْ وَهنيَ رَداحُ الخَلْقِ خَمْصانةٌ ... أَحسنُ مَنْ جِيبت عليه ثِيابْ تفتَرُّ عن مثلِ أَقاحِ النَّقا ... غُرِّ الثَّنايا واضحاتٍ عِذابْ إِن وعَدَتْ لم يَشْفِني وعدُها ... هل ينقَعُ الظَّمآنَ لمعُ السَّرابْ وَيْحِي وما وَيْحٌ بمُجْدٍ جَداً ... فكلُّ عيشٍ وبقا في ذَهاب إنْ أنا لَمّا أُعْظَ أُمنيَّةً ... قد لَهِجَتْ نفسي بها فَهْيَ دابْ لو قال لي ما تشتهي قائلٌ ... لَقُلْتُها إِمّا خطاً أو صوابْ

عندي من الشَّيْب القليلُ الَّذي ... أمسيتُ منه في عَنا واكتئابْ فكيفَ لا كيفَ يكون العَزا ... إِنْ وقَعَ النَّسْرُ وطارَ العُقاب وكلُّ شيءٍ يتعزَّى الفتى ... عنه إذا ما فاتَ إِلا الشَّبابْ أَستغفِرْ اللهَ بَدِيعَ العُلَى ... إليه أَدعو وإليهِ مَآبْ من سيّئاتٍ أثقلت كأهلِي ... قد مَلأَ الكاتبُ منها الكِتابْ يا لَيْتَ شِعري هل ليالي الغَضَى ... آئِبةٌ أَمْ ما لهَا من مَآبْ أيَّامَ إِنْ يَدْعُ الهوى أَسْتَجِبْ ... فاليومَ ما عندي له من جوابْ ما لي وغِمْرَ حاسدٍ يَنْتَحي ... عِرضيَ بالغيب بظُفرٍ ونابْ يغتابُني ظلماً وتأبى العُلى ... من أن تَراني في مقامِ اغتيابْ لم يستطع مثلي صعودَ العُلَى ... فعادَ يَرْميني بهُجْرِ السِّبابْ

فكنت كالنَّجْم علا منزلاً ... فكادَهُ بالنَّبْح بعضُ الكِلابْ يعدو على ماليَ جُودي ولا ... تعدو عليه عادياتُ الذِّئابْ ولو جَمَعْتُ المالَ أَثْرَتْ يدي ... وآضَ لي مالٌ عَميمٌ وثابْ وكيفَ يَنْمِي المالُ من باذل ... طِلابُه الحمدُ ونِعْمَ الطِّلابْ فازَ بما وَطَّدَ من سُؤْدَدٍ ... وضَلَّ شانِيهِ المُعَنَّى وخابْ وكنتُ إن خِفتُ أذى من عِدىً ... بَدَّلْتُ سيفي مَفْرِقاً من قِرابْ ومنها في صفة السفينة: يا أيُّها الرّائحُ تَنْحُو به ... هَوْجاءُ تنقضُّ انقضاضَ العُقابْ لم يَرْأَمِ الفحلُ لمَّها في الفَلا ... ولا عِراضاً لَقِحَتْ في الضِّرابْ

ولا رعت حَمْ اً ولا خُلَّةً ... يوماً ولم تَجْتَرَّ بُهْمَى العَدابْ ولا اعتقَى الحالبُ أَغبْارَها ... ولا رَأتْ سَقْباً لها في السِّقابْ لا تشتكي الأَيْنَ إذا ما اشتكت ... من الوَجَى الوَجْناءُ ذاتُ الهِبابْ دَهماء لم تَلْمِسْ لها أَشْطُراً ... كلبيّةً قد عصَّبَتْها اعتصابْ تنسابُ والتَّيّارُ ذو حَوْمَةٍ ... مثلَ الحُبابِ الصِّلّ فوقَ الحَباب طالت على العَوْدِ بأعوادها ... والنّابِ لكنْ ما لَها قَطًّ نابْ

بني حَرامِ الصيِّدَ إن جئتَهُمْ ... بِالبصرة الفيحاءِ ذاتِ الرِّحابْ أَبلغْ سلامي قاسماً إِنَّه ... دعا فؤادي شوقُهُ فاستجابْ أَعني الحَرِيرِيَّ فوَجْدي به ... وَجْدُ الصَّدِي الظّامِي ببرد الشَّرابْ قد حلَّ من قلبي على نَأْيهِ ... بينَ السُّوَيْداءِ وبينَ الحِجابْ سمِعت بالبحر سَماعاً وقد ... يُقالُ فيما قيل عنه عُجَابْ وقد رأيت الدُّرَّ لا قيمةٌ ... له وفي الدُّرّ الَّذي فيه عابْ وابنُ الحَرِيرِيّ وألفاظُه ... بحرٌ ودُرٌّ ليس فيه مَعابْ له المقاماتْ التّي لم تكن ... لابن قُرَيْبٍ لا ولا ابنِ الحُبابْ

وابنُ عَطا واصِلْ لو رامَها ... لَجاءَ بالرّاء مَجيءَ اجتلابْ تشهَدُ بالنُّبْل له والحِجا ... شهادةَ الزَّهْرِ لوَدْقِ السَّحابْ أُقسِمُ باللهِ لَقِدْماً أتت ... عن أدبٍ جَمٍّ وصدرٍ رُحابْ وكم له من كلمات غدت ... في الشَّرق والمغربِ ذاتَ اغترابْ لا يعمل المزْهَرُ إلا بها ... كأنّما تحدو الحُداةُ الرِّكابْ

وليس بالمنكرَ منه الحِجا ... والبحرُ لا يُنْكَرُ منه العُبابْ وإِنْ غدا ينسُبُ آباءَه ... خوطاً وعَتّاباً معاً أو شِهابْ أعطته قيسٌ بعدَها خِنْدِفٌ ... بيتَ العلى السّامي وعتِْقَ النِّصابْ من معشر تَمَّتْ تَمِيمٌ بهم ... فالأَصلُ إِمّا طابَ فالفرعُ طابْ هم المَصالِيتُ ليومِ الوَغَى ... وطاعنو الفُرسانِ تحتَ العُقابْ وهم لَدَى طِخْفَةَ فَلُّوا الظُّبَى ... واسترعفوا الخَطِّيَّ يومَ الكُلابْ

وشيَّدوا المجدَ بأسيافهمُ ... في يوم ذِي قارِ ويومَيْ أَرابْ وَأتْأقُوا كأسَ الرَّدَى فاحتسى ... منها وقد عافَ مُراراً ذُؤابْ لمّا تغنَّى شيخُه معلنا ... بالشِّعر كان الثُّكْلُ فيما استطابْ يا ابنَ عليٍّ أنت فخرُ الحِجا ... وصَفْوَةُ العِلمِ الَّتي لا تُشابْ أنت ثِمالُ الأدبِ المُقْتَنى ... ومطلعُ العلمِ الَّذي كان غابْ وعندَك الحُكمُ السَّرِيُّ الَّذي ... لا يُمتَرى فيه ولا يُستَرابْ

يَرضَى به الله وبعضُ الورى ... يكرَهُهُ والحكمُ شُهْدٌ وصاب قد اكتسبَ العملَ المرتَضَى ... والعلمَ نِعْمَ الذُّخُرُ والاكتسابْ وفُقْتَ أهلَ العصرِ بل مَنْ مضى ... في كُلِّ فنٍّ من فنونٍ وبابْ يَفْدِيك يا قاسمُ من يدَّعي ... مَعْ جهلِه الحُكمَ وفصلَ الخطابْ يَدْأَبُ كي يُحْسَبَ من أهله ... وَهْوَ إِذا فُتِّشَ شَرُّ الدَّوابْ رغِبْتُ في وُدّك إِنّي امْرُؤٌ ... لا أرتضي إلا الصَّرِيحَ اللُبابْ يَعي مقالَ الصّدقِ سمعي ولا ... يزالُ ذا وَقْرٍ لقولِ الكُذابْ جاءتك بِكْرُ الشّعرِ مُختالةً ... في الكَرْمِ من حَلنيِ النُّهَى والسِّخابْ أَصِخْ سَماعاً واجْعَلَنْ مَهْرَها ... جوابَ شعرٍ منك نِعْمَ الجوابْ والقصيدة التي للحريري في جواب قصيدة أحمد بن أبي الفتوح ولزم فيها لزوم ما لا يلزم. هي:

عَرِّجْ لك الخيرُ صُدورَ الرِّكابْ ... على رُباً كُنَّ مَغاني الرَّبابْ وقِفْ بها وِقفةَ مُسْتَعبِرٍ ... يَسِحُّ فيها الدَّمعَ سَحَّ الرَّبابْ فسُنَّةُ العُشّاقِ أَنْ يُعْوِلُوا ... في منزل الحِبِّ إذا الحِبُّ غابْ يا حَبَّذا تلك الرُّبا من رُباً ... ظِباؤُها أَفْتَكُ من أُسْد غابْ يَعْجِزُ من يَسْرَحُ أَلحاظَه ... فيها ولو كانَ الذَّكيَّ النِّقابْ من كلِّ هَيْفاءَ رَؤُودِ الخُطا ... واضحةِ الجِيدِ نَجُولِ النِّقابْ وتَستبي اللُبَّ بدَلَ الصِبا ... ومَطْعَمُ الإِدلالِ حُلوٌ وصابْ كأَن ذاك العهدَ من حسنه ... روضٌ هَمى المُزْنُ عليه وصابْ

أو خُلْقُ نجمٍ الدَّولةِ المقتني ... فضلاً شَأَى الشِّيبَ به والشَّبابْ تاهَ به المجدُ ولا تِيهَ مَنْ ... يسحَبُ أَذيالَ الغِنى والشَّبابْ طَلْقُ المُحَيّا مُسْتَهِلُّ الحَيا ... مهذَّبُ الأَخلاقِ من كلّ عابْ ما عِيبَ للفضل اللُباب الَّذي ... حوى ولا من أدب النَّفْسِ عابْ أَوْفَى على قُسٍّ بياناً وفي ... روايةِ الآدابِ فاقَ ابنَ دابْ يَدِينُ بالصّدق وطُوبى لمَنْ ... أمسى وَأضحى وله الصَدقُ دابْ ويومَ تُذْكَى الحربُ يَزرِي على ... عُتَيْبَةٍ بل حارثٍ بل شِهابْ

تخالُهُ والسَّيفُ في كفّه ... ملتمعاً بدراً تلاه شِهابْ زانَ بني ليثٍ على أَنّه ... عندَ طِرادِ الخيلِ ليثٌ يُهابْ كأنّه السَّهمُ انصلاتاً متى ... يُدْعَى به في مَأقطِ أو يُهابْ من معشر لم تَرَ في دَوْحهم ... أصلاً وفَرعاً غيرَ طابِ ابْنِ طابْ زَكَوْا عُروقاً وحَلَوْا مُجْتَنىً ... والمُجْتَنَى يحلو إذا الغرسُ طابْ ذِمارُهم أمنعُ للملتجي ... إليهِمُ من شامخات العِقابْ ونارُهم نارانِ نارٌ بها ... يُجتلَب الضَّيفُ ونارُ العِقابْ

فهذه يَشقَى بها من بَغَى ... وهذه يَحظَى بها من أَنابْ كأنَّما نَشْرُ أحاديثهمْ ... نَشْرُ عبيرٍ فاغمٍ أو أَنابْ فقُلْ لمن يَبْغي مُباراتَهم ... دُونَ الَّذي حاولتَ شيبُ الغُرابْ فغُضَّ طَرْفاً عن مُباراتِهم ... فذِرْوَةَ الغارب يعلو الغُرابْ شَتَان ما بينَكُمُ مثلَما ... شَتّانَ ما بينَ جوادٍ وجابْ يا لَيْتَ شِعري هل مُؤَدٍّ إلى ... أحمدَ شكراً سارَ عنّي وجابْ أهدى ليَ النَّظمَ البديعَ الَّذي ... يَنْسابُ في السَّمعِ انسيابَ الحُبابْ أزرى بما نَقَّحَهُ جَرْوَلٌ ... وحاكَهُ والِبَةُ بن الحُبابْ

فلم أَزَلْ أرتَعُ في روضِه الْ ... حالي وأتلُوه كَأُمّ الكِتابْ للهِ ما أهدى وكم مِنَّةٍ ... أسدى بتأهيلي لذاك الكِتابْ أطربَني طِرْبَةَ خِدْنِ الصِّبا ... من بعدِ ما أَخْلَسَ فَوْدِي وشابْ ونَمَّ عنه بوِدادٍ صفا ... وكم أَخٍ غَشَّ هواه وشابْ فاستخلص الشكرَ ووُدّاً رَسا ... في القلب كالنَّصْل رَسا في النِّصابْ واهاً له خِّلاً يُباهى به ... وما جِداً مَحْضاً كريمَ النِّصابْ

بلَّتْ يدي منه بما لم يكن ... يَخْطِرُ في الوَهْم ولا في الحسابْ وفُزتُ بالصَّفْوةُ من وُدّه ... مَفازةَ العَطا العَطاءَ الحسابْ فَلْيَهْنِني الحظُّ الَّذي حُزتُه ... منه بلا كَدٍّ ولا قَرْعِ بابْ وَلْيَهْنِهِ منّي الثَّناءُ الَّذي ... حبَّرْتُ في تصنيفهِ ألفَ بابْ خُذْها أبا العبّاسِ طَنّانةً ... ورُبَّ شِعرٍ طَنَّ منه الذُّبابْ عارضتُ فيه بغِراري الصَّدِي ... غِرارَك العَضْبَ الصَّقيلَ الذُّبابْ وقد أتَتْ نحوَك تَهْوِي إلى ... فِنائِك الرَّحْب هُوِيَّ العُقابْ كأنَّها عُجباً بمقصودها ... أميرُ جيشٍ سارَ تحتَ العُقابْ فأَوْلِها منك رِضىً ساتراً ... عُوّارَها فَهْوَا أَجَلُّ الثَّوابْ

وابْقَ مَرِيعَ الرَّبْعِ ما عَسَّلَتْ ... نحلٌ وما احْلَوْلى مَذاقُ الثَّوابْ ولا تَلُمْني إِن تراخَتْ خُطا ... عن التَّلاقي أو تراخَى جوابْ فكم لصَوْبِ السَّيْلِ من تَلْعَةٍ ... تعوقُ مَجْراهُ وكم من جَوابْ وأنشدني له القاضي أبو القاسم عمر بن الباسيسي أبياتاً، كتبها إليه وقد أهدى أقلاماً واسطية: يا أبا القاسمِ الَّذي حازَ في العل ... م فنوناً أَربت على الإِحصاءِ تارةً في القضاء تُدْعى وتُدْعى ... تارةً في أفاضل البلغاءِ وإِذا ما جريتَ في حَلْبَة الشّع ... رِ تقدَّمْتَ سابقَ الشَّعراءِ ولك الحظُّ في التُّقَى الوافرِ القَس ... مِ إذا عُدَّ معشرُ الأتقياءِ لو بنو وائلٍ لَقُوك بِسَحْبا ... نَ نَفَوْهُ من جملة الفصحاءِ

ومنها في صفة الأقلام الواسطية: قد بعَثننا بها رِشاقاً دِقاقاًً ... كالقَنا في لُدونة واستواءِ قُطِعتْ عندَما طلوعِ سُهَيْلٍ ... إذْ وجَدنا طِيباً لحُلو الهواءِ لم تُغادَرْ حتَى تَجِفَّ ولكنْ ... قطَعُوها فيها بَقِيَّةُ ماءِ من قِصار ومن طِوال تُضاهِي ... في تمامٍ أَصابعَ العَذْراءِ تركتْ بعضَها كما خَلقَ الل ... هُ وبعضاً عَلَّتْهُ بالحِنّاءِ فابْرِها ثُمَّتَ اسْقِها النِّفسَ واكتُبْ ... بسَوادٍ منه على بيضاءِ لِترى في ابن مُقلَة المُقَلِ النَّقْ ... صَ وتُملي ثناكَ في الإِملاءِ وأنشدني ابن الباسيسي له، من قصيدة سمعها منه في مدح المظفر بن حماد:

ما صَرَمت حبلَك النَّوارُ ... إلا وقد أَخلسَ العِذْارُ وللغَواني عن كلّ شيبٍ ... تجانُفٌ ومنه وازْوِرارُ كان لها بالشَّبابُ أنسٌ ... فلم يُشِبْني لها نِفارُ وقد أراني لهنَّ قِدْماً ... طوعَ يدي العِقدُ والسِّوارُ إِن زُرتُ أكرمنني وإِن لم ... أَزُرْ فمنهنّ لي ازديارُ كان شبابي من العواري ... وطالما رُدَّ مستعارُ ومنها في مدحه: إذا أراد الإلهُ خيراً ... بمَعْشر إِذْ له الخِيارُ وَلَّى عليهم أَميرَ صِدقٍ ... له التُّقَى والنُّهَى شِعارُ مثلَ ابنِ حمّادَ ذي الأيادي ... ومَنْ به يُمْنَعُ الّذِمارُ ومَنْ إليه في كلّ خَطْبٍ ... تُخافُ أَحداثهُ يُشارُ إنْ خَفَّ في النّائبات قومٌ ... زيَّنَه الحِلمُ والوَقارُ وأنشدني الموفق، بن الباسيسي قال: أنشدني الأمير أبو الفتوح لنفسه من قصيدة في مدح عفيف أولها: أمِن جميلةَ رسمٌ غيرُ مسكونِ ... قفرُ المَعالمِ من أَترابِها العِين

ومنها يصف بعض الخارجين المتطرّقين إلى واسط وقد هزَمَه الممدوح، وعبَر في الماء وراءَه: قادَ الجِيادَ من الزَّوٍْراء شازِبةً ... قُبَّ الأَياطِلِ جُرْدَاً كالسَّراحينِ فالجيشُ كالسَّيْل أو كالليل منتجِعاً ... أرضَ العدوِّ على الطَّير المَيامينِ فيه الأَسِنَّةُ من فوقِ الرِّماحِ كما ... رأيتَ ألْسِنَةَ الرُّقْشِ الثَّعابينِ كالليث يتلو سِنانَ الرُّمحِ منصلتاً ... مسنونَ غَرْبٍ يُراعي أُمَّ مسنونِ فبات جيشُ العِدا في واسِط وَجِلاً ... منه يحاذر بأساً غيرَ مأمونِ فانصاع للجانب الشَّرْقيّ منهزماً ... من ليثِ غابٍ بثَدْيِ الحربِ مَلْبُونِ تَصَوُّراً أَنَّ عَبْرَ النَّهْرِ يُعجِزُنا ... عنهم لظّنٍ بغيرِ الحّقِ مظنونِ

هناك قام عفيفٌ بالَّذي قعَدت ... عنه الرِّجالُ برأيٍ غيرِ موهونِ رماهُمْ بالكُماة الغُلْبِ قد لبِست ... من كلّ زَغْفٍ دِلاصِ السَّرْدِ موضونِ والخيلُ في العَبْرِ تتلوهم مبادِرةً ... في كلّ فُلْكٍ كُرْكنِ الطَّوْدِ مشحونِ كأنَّما قيلَ يا ريحُ اسكُني بهِمُ ... ولا تَعَرَّضْ بهِمْ يا بردَ كانُونِ فعندَها راحةُ المَلاّحِ ما حضرت ... والرِّيحُ لم تَثْنِ قصَد الفُلكِ للدِّينِ لو أَنَّ جَيْحُونَ يومَ العبرِ عَنَّ لنا ... مكانَ دِجْلَةَ لم نَحْفِل بجَيْحُونِ أعزَّ ذو العرشِ حزبَ الله وانسدلتْ ... على الطُّغاةِ ثيابُ الذُّلِّ والهُونِ ترى أَسِنَّتَنا في النَّقْعِ تتبَعُهمْ ... مثلَ النُّجومِ رُجوماً للشياطينِ تدبيرُ ألْوَى من الفِتيانِ مضطلعٍ ... بالحرب يمزُجُ خَشْنَ المَكْرِ باللينِ

لولا جُيوشُ بني العبّاس لا بَرِحَتْ ... عزيزةَ النَّصرِ في عزٍّ وتمكينِ ما وَحَّدَ اللهَ فوقَ الأرض من أحد ... ولا سمِعنا لعَمْرِي صوتَ تأذينِ ومنها: ورُبَّ يومٍ من الهَيْجاء محتدِمٍ ... بالدَّم منسجمٍ بالنَّقْع مدجونِ يَنْدَى حُسامُك فيه والسِّنانُ معاً ... في النَّقْع من دمِ مضروبٍ ومطعونِ أَجَرْتَ واسِطَ من جور وقد مُنِيَتْ ... من الوُلاة بحَجّاج وطاعون فاسلَمْ فإِنّك برهانُ الإمام إِذا ... تنافس النّاسُ في أعلى البراهين

أخوه الأمير مضر بن أبي الفتوح بن أبي الجبر

أخوه الأمير مُضَرُ بن أبي الفتوح بن أبي الجبر قال جمال الإسلام، بن الباسيسي: إنه كان أصغر من الأمير أحمد، وله شعر أيضاً. وأنشدني له: ما لي رِضيتُ الهُوَيْنَى واقتنعتُ بها ... كأنَّ سيفيَ مسلولٌ بغيرِ يدي أُعْطَى القليلَ ولا آبى تقَبُّلَه ... كالصَّقْرِ قَنَّعَه القَنّاصُ بالصُّرّدِ

القاضي العدل أبو القاسم عمر بن الحسن بن أحمد بن الباسيسي

القاضي العدل أبو القاسم عمر بن الحسن بن أحمد بن الباسيسي جمال الإسلام من أهل الغَراف. شيخ فاضل متميز، عاقل متعزز. كان المظفر بن حماد يثق غليه ويعتمد في أشغاله عليه، إذ رآه ثقة وعدلاً، حوى أدباً وفضلاً. وكان في كنفه في البز يتعيش ويعيش، ويبري سهام رياشه ويريش. هل ضَفا إلا رِداءٌ يُوّشِّي رِيٌّ ورُوَاءٌ ما يُنشِد ويُنشي. في آخر عهد المقتفي لأمر الله نُكِب، وفاجأه أمر أمَرُّ صعب مر،

ما ظن ولا حسب، وأخذت منه خمس مئة دينار مصادرة، وكانت قصصه عن غصصه إلى العرض الأشرف واردة صادرة، حتى يئس وانحدر، وأقام بواسط يذم القاسط. وبدأني بالمكاتبة نظماً ونثراً وعمل فيِّ شعراً، يبغي التعارف بيننا، فأجبت عن شعره بمثله، ثم حضر فحاورته، فكان غصن حواره حلو الجنى. ومما أنشاه وحبره ووشاه، كلماتٌ منثورة، عكسها منظوم، وهي: (الأيام تنزع، ما فيها المرء يجمع. آثامٌ مجموعها، دارٌ الضر منفوعها. أصنامٌ أربابها، حتى عز ثوابها. إجرامٌ مكسوبها، لكن عم مسلوبها. إظلامٌ صباحها، دنيا قل فلاحها، أغتامٌ قوامها، لما نيل حطامها) . ومقلوبها نظماً: حُطامُها نِيلَ لَمّا ... قُوَامُها أَغتامُ فلاحُها قَلَّ دنيا ... صَباحُها إِظلامُ مسلوبُها عَمَّ لكنْ ... مكسوبُها إِجرامُ ثوابُها عزًّ حتَى ... أَربابُها أَصنامُ منفوعُها الضُّرُّ دارٌ ... مجموعُها آثامُ يجمِّعُ المرءُ فيها ... ما تَنزِعُ الأَيّامُ فعملت ارتجالاً في فنها، وما يكاد ينظم إلا تكلفاً، ويجد الخاطر فيه تعسفاً، وهي أيضاً تقرأ مقلوباً:

(بالأوطار لهيت، لكن نفسك ألهيت. النار فيها ألهبت، إذْ شهوتها طلبت. بالأعذار قدمت، لما ذنبك قدمت. الدار هذي عمرت، حتى عمرك هدمت. غدارٌ بالفتى الدهر، ويقصر العمر. مثتارٌ جناهما، مستعار كلاهما. إصدارٌ إيرادها، دنيا قل ودادها. إضرارٌ طِباعها، ضاريات سباعها. إنكار عرفانها، جائرات جيرانها. إبدار نقصانها، عندي الربح خسرانها. غرار غيريها، مستقل كثيرها. أطوارٌ أوطارها، دائرات أدوارها، أغمارٌ ناسها، فاعلم البأس لباسها. الأبصار والقلوب ذهل، البصائر غفل. الأسفار طالت، ومنها السفر توالت. للأنذار حذارِ، صعب فالأمر بدار العار أنفِ، والثراء أفن، والثناء أقن. الدينار أنفق، وأحسن ولهاك فرق. الأنصار ما لي، فما لي أكثر مالي؟ مختار لي الشكر، وخير عندي الذكر. الأقدار تنتج، ما عني الهم يفرج) . ومقلوبها نظماً: أَلْهَيْتَ نفسَك لكنْ ... لَهِيتَ بالأوطارْ طلَبْت شهوتَها إِذْ ... أَلْهَبْتَ فيها النّارْ قدَّمْت ذَنبَك لمّا ... قَدَّمْتَ بالأَعذارْ هَدَمْتَ عمرَك حتّى ... عَمَرْتَ هذي الدّارْ

العمرُ يقصُرُ والدَّهْ ... رُ بالفتى غَدّارْ كِلاهُما مستعارٌ ... جَناهُما مُشْتارْ وِدادُها قَلَّ دنيا ... إيرادُها إصدارْ سِباعُها ضارياتٌ ... طِباعُها إِضرارْ جاراتُها جائراتٌ ... عِرفانُها إِنكارْ خُسرانُها الرِّبْحُ عندي ... نُقصانُها إِبدارْ كثيرُها مُسْتَقَلٌّ ... غَرِيرُها غَرّارْ لِباسُها البأَسُ فاعلَمْ ... فناسُها أَغمارْ غُفْلُ البصائرِ ذُهْلُ ال ... قلوبِ والأَبصارْ توالتِ السَّفْرُ منها ... وطالتِ الأسفارْ بَدارِ فالأمرُ صعبٌ ... حَذارِ للإنذارْ اقْنِ الثَّناءَِ وَأفْنِ الثَّ ... راءَ وانْفِ العارْ فَرِّقْ لُهاك وَأحسِنْ ... وَأنفِقِ الدِّينارْ ما لي أُكثِّرُ ما لي ... وما ليَ الأنصارْ الذِّكرُ عنديَ خيرٌ ... والشُّكْر لي مختارْ يفرِّجُ الهمَّ عندي ... ما تُنْتِجُ الأَقدارْ وكتب إليَّ ب "واسط"، وأنا مشرف كالنائب في أعمال الوزير (عون الدين، بن هبيرة) ، يستزيدني في معنى أدراره. فكتبت جوابه، وسمعت في تعجيل أدراره.

والذي كتب: يدُلُّ على جودِ الفتى وسَدادِه ... محافظةُ الأَضْرابِ في القُرب والبُعدِ فإِن هو أمسى والياً زاد وُدُّه ... ولا خيرَ في والٍ يَحِيدُ عن الوُدِّ لعَمْرُك إِنَّ العلمَ والفضلَ نِسْبَةٌ ... مؤكَدةٌ توْفِي على نَسَب الجّدِ يُميتُ الفتى الفعلُ القبيحُ وإِنْ غدا ... يجرِّرْ أذيالَ الحياةِ إلى الوُجْدِ وما كنتُ أدري والحوادثُ جَمَّةٌ ... بأَنَّ عماد الدِّينِ ذا الجودِ والمجدِ يقصِّرُ في شيء أكونُ شفيعَه ... إليه فدَعْ حالاً أخَصُّ بها وحدي وفي ذاك لو أعطى البَصيرةَ رَبُّها ... غَضاضةُ ذِكرٍ للمُنيل الَّذي يُسْدي إذا ما أبى الإِنفاذَ نائبُ صاحبٍ ... لمرسومه استدعى المَذَمَّةَ للمجدِ فجودُ الوزيرِ الأَرْيَحِيِّ إذا همى ... عدَلْتُ به فيضَ الفُراتِ إلى المْدِّ

مَليكٌ حوى علماً وحِلماً ونائلاً ... وتقوى وإحساناً يزيدُ على العَدِّ له الشَّرَفُ المَحْضُ الَّذي طالَ سَمْكُه ... وسُؤدُدُه يُنبي عن الحسب العِدِّ توالت أَيادي الجِسامُ برِفْدهِ ... إذا قصَّرَ الأقوامُ للبُخل عن رِفْدِ حلا عِرضُهُ من كلّ ذامٍ وعائبٍ ... كما قد خلا من كلّ شِبْهٍ ومن نِدِّ متى صلَدَتْ زَنْدٌ عن القَدْح في نَدى ... فما زندُه عن شَحَّة القَدْحِ بالصَّلْدِ تفرَّدَ بالإحسانِ فَهْوَ وَحِيدُه ... ولم يُحرزِ الإِحمادَ غيرُ فتىً فَرْدِ لقد ذلَّلَتْ مُستصعَبَ المالِ كفُّهُ ... لسائله فالمال في هيأة العبدِ وما هو بالمُكْدِي على طالبِ اللُها ... إِذا سُئِل المعروفَ أَنْعَبَ بالكَدِّ يرى أَنَّ فعلَ الخيرِ ضربةُ لازم ... عليه وما عن فعل ذلك من بُدِّ

ترحَّلْتُ عن بغدادَ أَشكُرُ فضلَه ... وإحسانَه شكراً يَزِيدُ على الحَدِّ سأشكُره شكراً يفوحُ ثناؤه ... فتَلْحَظُه يُوفِي على المسك والنَّدِّ تَلافَ عمادَ الدِّينِ إصلاحَ ما مضى ... ولاتَكُ ممّن لا يُعِيدُ ولا يُبْدي فبيتُك معروفٌ وفعلُك صالحٌ ... وعِرضُك موفورٌ عن الذَّمّ بالحمدِ فكتبت جوابها إليه ارتجالاً، فأنفذته إليه: أُعيذُك يا ذا الفضلِ ممّا يَشِينُهُ ... وذا المجدِ ممَا لا يَليقُ بذي المجدِ تُفَرِّدُنِي بالعتب دونَ عِصابةٍ ... تَفَرَّدُ عنّي بالإِجابةِ والرَّدِّ ومن نائباتِ الدَّهرِ أَنِّيَ نائبٌ ... وما لي يدٌ في حَلِّ أمر ولا عَقْدِ إذا لم يكن يوماً لَدَى البأسِ لي يَدٌ ... فلا حَمَلَتْ كَفّي لمَكْرُمةٍ زَنْدي وإِن لم أكن أَقضي حقوقَ ذوي النُّهَى ... فمن ذا الَّذي يَقْضي حقوقَهُمُ بعدي

ولو أَنَّني أُعطِيتُ سُؤْلي من العلى ... لكنتُ لمِا أُخفيهِ من سرّها أُبدي ولست بما فيه أنا اليومَ قانعاً ... ولكنْ من العلياء أغدو على وعدِ بواسِطَ مُكْثي لانتظارِ مَواعدٍ ... لها ولِيومٍ يمكُثُ السَّيْفُ في الغِمدِ سأَعْزِمُ عزمَ الماجدينَ برِحلة ... أُصَوِّبُ فيها نحوَ مَنْقَبَةٍ قصدي وما فضَلَ الهِنْدِيُّ إِثراً وقيمةً ... حدودَ الظُّبى حتّى تناءت عن الهِندِ وما أنصفَ العلياءَ مَنْ خَصَّ أهلهَا ... بذمّ وهم أهلُ الثَّنا وذَوُو الحمدِ أولي الفضلِ باسِيسِيُّكُمْ خصَّ بأسه ... عتاباً بمن يرجوه في الوُدّ للرِّفْدِ فأَهْدُوا له عنّي عِتاباً لَعلَّه ... على حادثات الدَّهرِ يُعْتِب أو يُعْدِي أنارت مساعيهِ المنيرةُ فاغتدى ... لها كلُّ مَنْ يَبْغي السَّعادةَ يستهدي أَمُستفرِغاً في عَتْب مثليَ جَهْدَه ... وفي شكره ما زِلتُ مُستفرِغاً جَهْدِي

تجرَّعْتُ كأسَ العتب مُرّاً وإِنّما ... لِوْدِّك عندي كان أحلى من الشُّهْدِ وإِنّ اعتدادي بالوِداد لَصادقٌ ... لَدَيْك فلِمْ كذَّبْتَ آمالَ مُعْتَدِّ أَفي العدل أَنَّ الوصلَ يَحْظَى به العِدا ... وبالعَذْل أَحْظَى والعلاقةُ بي وحدي أيا عُمَرُ المعمورُ قلبي بوُدّه ... أتَهدِمُ بُنْياناً عَمَرْتُ من الوُدِّ تأَمَّلْ حسابي ثمَّ عُدَّ فضائلي ... فمجموعُها يُنْبيك عن حَسَبي العِدِّ لقد كسَدَتْ سُوقُ الفضائلِ كلِّها ... وللْهَزْلُ أحظى في الزَّمان من الجِدِّ ولستُ أرى إلا كريماً يَفِرُّ من ... لئيمٍ وحُرّاً يشتكي الضَّيْمَ من عبدِ وما لي سِوَى ظلِّ الوزيرِ ورأيِهِ ... مَلاذٌ ومأمولٌ على القرب والبُعدِ قد ابْيَضَّ حظّي في ذَراهُ وإِنَّني ... مُسَوَّدُ مَجدٍ حظُّه غيرُ مُسْوَدِّ وبي حَصَرٌ عن حَصْرِ أَنواءِ بِرِّه ... وما تدخُلُ الأَنواءُ في الحصر والعَدِّ وإِنعامُه عندي عن الحدّ زائدٌ ... وشكري له شكرٌ يَزيدُ عن الحدِّ

وأنشدني لنفسه، بغدادَ سنة إحدى وخمسين وخمس مئة: إنَّ دائي في رض بغدادَ مُذْ أَشْ ... فيتُ فيها لم أَلْقَ مَنْ يُشْفِيني ولو أنّي يَمَّمْتُ عالِجَ أو يَبْ ... رِينَ وافى مُعالِجٌ يُبريني وأنشدني لنفسه، في اللغز وهي الخِلالة: ما ذاتُ رأسَيْنِ أُنثى ... بغيرِ فَرْجٍ صغيرَهْ رَشيقةٌ قد بَراها ال ... باري فجاءت قصيرَهْ تُلازِمُ الخِدْرَ إلا ... في وَجْبَةٍ للعشيرَهْ فتنثني بعدَ أَسْرٍ ... على الثَّنايا مُغيرَهْ ما لامستْ كفَّ فحلٍ ... إِلا ورُدَّت كَسِيرَهْ فاكشِفْ غِطاها فليست ... على الذَّكْيّ عَسِيرَهْ

وأنشدني أيضاً لنفسه، في اللُغْز، وهو الرمح: يا أخا الفضلِ والبلاغةِ والمُظْ ... هِر سِرَّ العلومِ بعدَ احتجابِ أيُّ شيءٍ نشا من الخَطّ والعا ... مِلُ فيه مقصِّرٌ في الحساب وَهْوَ في الكُتْب لا يزالُ ولا تَلْ ... حَظهُ مَعْ مُصَنَّفٍ وكِتابِ نازحٌ عن مَواطنِ الوحشِ والثَّعْ ... لَبُ فيه مجاورٌ للعُقابِ وَأصَمّ إِذا مدحت وهذي ... صفةٌ فاكشِفَنْه لي عن صوابِ وبيانٌ أُرِيدُهُ لك فيه ... عَسَلٌ غيرُ نافعٍ مستطابِ وتَراهُ مع الملوك وفي المَوْ ... صِلِ يبدو إِليك من كلّ بابِ قال: إنما خصصت المَوْصِلَ تعميةً وإلا ففي كلّ بلد يكون وأيضاً فإنَّ الرِّماح مع العرب في الشَّرْق، ولا تخلو المَوْصِل منهم. وأنشدني لنفسه أيضاً لُغْزاً في الجرادة وهو: وطائرةٍ من الشَّجَرِ ... تُرَى في البَدْوِ والحَضَرِ لها ذَكَرٌ وتفضُلُه ... وليس البِنتُ كالذَّكَر إِذا ما رِجلُها انقطعت ... أتت رِجلٌ على الأَثَرِ وإنْ وَرَدَتْ إلى بلد ... فما للوِرْدِ من صَدَرِ

وَأدَّى به التَّظَلُّم المُفْرِط، والتَّأَلُّم المُسْخِط، إلى أن تَجَنَّى عليه ابن البَلَدِيّ، فاختلق له جُرماً، واعتقله ظلماً، فمات في حبسه، وذلك في سنة اثنتين وستين وخمس مئة، أو ثلاث.

علماء البصرة وأفاضلها وأدباؤها وأماثلها

الحريري صاحب المقامات أبو محمد القاسم بن علي بن محمد بن عثمان، الحريري، من أهل البصرة.

سار فضله في الآفاق، بين المقيمين والرفاق، وطلعت ذكاء ذكائه في المغرب والمشرق، وامتلأت ببضائع فوائده ونواصع فرائده حقائب المشئم والمُعْرِق. وشي بلاغة الحريري ذهبي الطِراز سَحْبانِيُّ الإِعجاز، قُسِّيُّ الإِسهاب والإِيجاز. ومتى قدَرَ قُسٌّ على ترصيع كَلِمهِ وتوشيع حِكمَهِ؟ حريريُّ الوَشْي، عِراقيّ الوَشْم، لُؤلُئِيّ النَّظْم. كلامه يتيمةُ

البحر، وتميمة النحر، ودرة الصدف، ودري السدف، وطراز الفضل، وعلم العلم. قد أعجز الفصحاء بصناعته، وأبر على البلغاء ببراعته، وبلغ السَّماء ببلاغته، وأوجد حلي الزمان العاطل بجودة صياغته. وقد اشتهرت له المقامات شرقاً وغرباً، وبعداً وقرباً فما نحتاج إلى إيراد شيء منها، ونستغني بغيرها من الغرر عنها. ولم يزل الحريري صاحب الخبر بالبصرة، في ديوان الخليفة ووجدت هذا المنصب لأولاده إلى آخر العهد المقتفوي. وله رسائل معجبة وأكلام غريب، كالضرب ما له من ضريب. وقد لقيت بالبصرة، سنة ست وخمسين وخمس مئة، من بنيه: زين الإسلام، أبا العباس، محمداً، وسمعت عليه من المقامات الخمسين أربعين مقامة، وقطعني المرض عن إتمامها ولم أطق إقامة. وكانت ولادته في سنة ست وأربعين وأربع مئة، ووفاته سنة ست عشرة وخمس مئة. وكان مسكنه بالبصرة في محلة بني حرام، وبيت عمله المشان.

وسمعت المقامات على ابن الحكيم عن الحريري. وسنورد من فقره ونعقد سلك درره، ونثبت ما لم يشتمل عليه مصنفه، ونبرز من جوهره ما لم يحوه صدفه. وأورد أيضاً من المقامات نكتاً غريرة، وفقراً عجيبة. فمن ذلك، قوله: وقلتُ للائمي أَقصِرْ فإِنّي ... سأختارُ المَقامَ على المُقامِ

وأُنفِقْ ما جَمَعْتُ بأرض جَمْع ... وَأسْلُو بالحَطِيمِ عن الحُطامِ وأنشدني الماندائي القاضي بواسط قول الحريري، في لزوم ما لا يلزم، وهو في المقامات، قال: أنشدنا لنفسه، وكان يروي عنه: أَخْمِدْ بحِلمك ما يُذكيهِ ذو سَفَهٍ ... من نار غيظِك واصفَحْ إِنْ جَنَى جانِي فالحِلمُ أفضلُ ما ازدانَ اللبيبُ به ... والأخذُ بالعفو أحلى ما جَنَى جانِي وأنشدني أيضاً قوله: بُنَيَّ استقِمْ فالعودُ تَنمي عروقُه ... قويماً ويغَشاهُ إذا ما الْتَوَى التَّوَى ولا تُطِعِ الحِرصَ المُذِلَّ وكن فتى ... إِذا الْتَهَبَتْ أَحشاؤه بالطَّوى طَوَى

وعاصِ الهوى المُرْدِي فكم من محلِّق ... إِلى النّجم لمّا أَنْ أطاعَ الهَوى هَوَى وَأسعِفْ ذوي القُربى فيقبُحُ أن يُرَى ... على مَنْ إلى الحُرّ اللُباب انضوى ضَوَى وحافِظْ على من لا يخونُ إِذا نَبا ... زمانٌ ومَنْ يَرْعى إذا ما النَّوى نَوَى وإِن تقتدرْ فاصفَحْ فلا خيرَ في امرِئ ... ذا اعتلقت أظفارُه بالشَّوَى شَوَى وإِيّاك والشَّكوى فلم يُرَ ذو نُهَى ... شكا بل أخو الجهلِ الَّذي ما ارعوى عَوَى ومن شعر الحريريّ قوله في المقامات: ولمّا تعامى الدَّهرُ وَهْوَ أبو الورى ... عن الرُّشد في إنحائه ومَقاصِدهْ تعاميتُ حتّى قيل إِنّي أخو عمى ... ولا غُرْوَ أن يحذو الفتى حَذْوَ والِدهْ وكتب إلى بغداد على يد بعض أولاده، إلى أنو شَرْوانَ الوزير، ابن خالد:

ألا ليتَ شِعري والتَّمنّي تَعِلَّةٌ ... وإن كان فيه راحةٌ لأَخي الكَرْبِ أَتدرونَ أنّي مُذْ تناءت دِيارُكم ... وشَطَّ اقترابي من جَنابكم الرَّحْبِ أُكابِدُ شوقاً ما يزالُ أُوارُه ... يقلّبُني بالليل جنباً على جنبِ وأسكُبُ للبَيْن المُشِتِّ مدامعاً ... كأَنَّ عَزالِيها امْتَرَيْنَ من السُّحْبِ وأذكُرُ أيّامَ التَّلاقي فأنثني ... لتَذْكارها بادِي الأَسَى طائرَ اللُبُّ ولي حَنَّةٌ في كلّ وقتٍ إِليكمُ ... ولا حَنَّةَ الصَّادي إلى البارد العَذْبِ فواللهِ إِنّي لو كتَمْت هواكمْ ... لمَا كان مكتوماً بشرقٍ ولا غربِ وممّا شجا قلبي المُعَنَّى وشَفَّه ... رِضاكم بإِهمال الإِجابة عن كتبي على أَنَني راضٍ بما ترتضونه ... وأفخَرُ بالإِعتاب منكم وبالعَتْبِ

ولمّا سرى الوفدُ العِراقِيُّ نحوَكم ... وَأعْوَزَني المَسْرَى إِليكم من الرَّكْبِ جعلتُ كتابي نائباً عن ضَرورة ... ومَنْ لم يجِدْ ماءً تَيَّمَم بالتُّرْبِ ونفَّذتُ أيضاً بَضْعةً من جوارحي ... لينبئكم عن شرح حالي ويَسْتَنْبِي وقلتُ له عندَ الوَداعِ وقلبُه ... شَجٍٍ وأبوه الشّيخُ منكسرُ القلبِ ألا ابشِرْ بما تَحْظَى به حين تجتلي ... مُحَيّا سديدِ الحضرةِ الأوحدِ النَّدْبِ ولستُ أَرى إِذْكارَكم بعدَ خُبْرِكُم ... بمَكْرُمَة حَسْبي اهتزازُكُمُ حَسْبي "وكان أنشدني (أبو طراد، عنان، بن أحمد، بن محمد) عن (أبي العباس) عن أبيه، ثم سمعنا من (أبي العباس) "، وأنشدنا (أبو العباس، محمد) ولده لوالده صاحب "المقامات": ومخطف الخصر، للألباب مختطف ... تهفو الحلوم، لما فيه من الهيف ما جال للطرف لمح من ملامحته ... إلا كسا من حلاه أملح الطرف

ولا رأى غُصنّه الميّاسَ ذو شَرَف ... إلا وظلَّ من البلوى على شَرَفِ كم من أخي خَطَرٍ أمسى على خَطَر ... من حبّه وانطوى منه على دَنَفِ أعتَدُّ عِرفانَه أَسنَى العَتادِ كما ... أرى حفاوَتَه بي أفضلَ التُّحَفِ فلست أنسى تلاقينا بخَيْف مِنىً ... وقولَه لي بذاك الخَيْف لا تَخَفِ وحِلفَه بالصَّفا إِنّ الضَّمير صفا ... وإِنّه لي إِلى حينِ الوفاة وَفِي وقد توسَّمْت سِيما الصّدقِ فيه فإِنْ ... يُخْلِفْ ظُنوني فكم في النّاس من خَلَفِ ونشدت له قصيدة في وصف سعد الملك وزير السلطان

محمد بن ملك شاه، رحمهم الله تعالى وهي ذات تجنيس. طَيْف أَلَمَّ به وَهنْأ فأحياهُ ... لمَا حَباه برَؤياه ورَيّاهُ سرى إليه يُسَرِّي الهَمَّ عنه فما ... أَسَرَّهُ عندَ مَسْراه وأسراهُ أَعَجِبْ به كيف وافَى غيرَ محتشِمٍ ... ومَنْ هداه وَأهداه وهدّاهُ من بعدِ ما كان عَنَّى المُسْتَهامَ به ... حتّى استهلَّتْ لمِا عاناه عيناهُ ظبيٌّ له مُرُّ إِدلالٍ يقبِّحْهُ ... وإِنّما الحسنُ جَلاه وحَلاهُ أزورُه وَهْوَ مُزوَرٌّ وأَنصَحُه ... ويستريبُ وأغشاهُ وأخشاهُ في كلّ يومٍ له إِضرامُ مَلْحَمة ... يَصْلَى بها مَنْ تولاه ومالاهُ

حُسامُه حين يسطو لَحْظُ مُقْلَتِهِ ... لكنّ صارِمَه جَفْناه جَفْناهُ وزُجُّه يومَ يبدو الطَّعن مُسْتَعِراً ... أَزَجُّهُ وقَناه فيه أَقناهُ يرعى القلوبَ ولا يرعى لِعاشقه ... ولو أَلَبَّ بمغَنْاه وَأغناهُ وقَلَّما لاحظَ المعشوق عهد هَوىً ... وإِنْ أخو الوجدِ واتاه وآتاهُ وعُذَّلٍ فيه لي لو أَنَّهُم نظَرُوا ... وكيف زانَ اللَمى فيه لمَا فاهوا فقلت لا تَعْذُ لوا فيمن تغضُّبُه ... يُردي المحبَّ ولو حَيّاهْ أَحيْاهُ لو حاوَرَ الفَطِنَ النِّحْريرَ حارَ له ... ولاحَ للصّخر خَدّاه لَخَدّاهُ

وعيشِه وَهْوَ في شرع الهوى قَسَم ... إِنّي على بُعد مَهْواهُ لأَهْوَاهُ ويزدهيني تَزاهي وَرْدِ وَجْنَتِه ... وإِنْ حمانيَ مَجْناه ومَجْلاهُ وكم تعرَّضَ للقلب المعذَّب من ... مستعذَب الدَّلّ لَوْلاهُ لَوَالاهُ يا صاحِبَيَّ انْهَدا بي نحوَ معهدِه ... فالقلبُ صَبٌّ بمَرْآهُ ومَرْعاهُ واستخبِراهُ بلطف مَنْ أَباح له ... نقضَ العهودِ وأقساهُ وأقصاهُ واستعطِفاهُ لِمَتْبُولِ الفؤادِ لَقىً ... عساه يُنعِش مُلْقاه بمَلْقاهُ فإِنْ سختْ لي يداه فاشكُرا يدَهُ ... وإِنْ سَطَتْ بيَ كَفّاه فكُفّاهُ واستصرِخا بنصيرِ الدّين تعتلقا ... من الذِّمام بأَوْفاهُ وَأوْفاهُ هو المُجيبُ دْعَا الدّاعي فكم أَمَلٍ ... نادى نَداهُ فأنضاهُ وأمضاهُ وكم إليه لَجا من دهره وَجِلٌ ... فعَمَّهُ الأَمْنُ إِذْ أَلْجاه والْجاهُ

طَوْدٌ أَشَمُّ فأَمّا حِينَ تسألُه ... فما أَرَقَّ مُحَيّاهُ وَأحيْاهُ يُعطيك عفواً هنيئاً إِنْ هفوتَ وإنْ ... جشَّمَتَهُ الصَّعبَ سَنَّاهُ وَأسْناهُ لا بالضَّجُورِ إذا طافَ الوفودُ به ... ولا الضَّنِينِ بجَدْواهُ وعَدْواهُ قد جَرَّبَتْ يُمْنَ يُمْناه العُفاةُ كما ... تعوَّدت يُسْرَ يُسْراهُ أَساراهُ وسائلٍ ليَ عن مَغْناه قلتُ له ... قولاً يحِقّقُ عن مَغناه مَعْناهُ هو النُّضَارُ المُصَفَّى سِرُّ جوهرِه ... والنّاسُ من بعدُ أَشباهٌ وأَشباهُ قَيْلٌ علا قُلَّةَ العلياء منفرداً ... من الفخار بأَسْماهُ وسِيماهُ لو عاش يحيى أو الفضلُ ابنهُ وبَغَى ... محلَّه لَتَخطّاهُ وخَطّاهُ

مؤيَّدُ الرَّأيِ والرّاياتِ معتضِدٌ ... باليُمْن والنَّجْحُ مغْزاه ومَغْزاهُ مُغْرىً بنُصرة دينِ اللهِ منتدبٌ ... لِوَقْمِ مَنْ كان ناواهُ وقاواهُ توطَّدَ الملكُ إِذْ وُلِيّ إِيالتَهُ ... واستبشرت حينَ راعاه رَعاياهُ وقامَ بالأمر مُذْ نِيطت عُراه به ... قيامَ مضطلعٍ قَوّاهُ تقواهُ وأذعنَ العدلُ حتّى أَمَّ مذهبَه ... مَنْ كان قِدماً تعدّاه وعاداهُ

وجدَّدَ الجودَ حتَى لاحَ مَعْلَمُهُ ... للمُجْتَدِينَ وطَرّاه وَأطْراهُ فالدِّينُ والملكُ والأَقوامُ قاطبةً ... راضونَ عن سعيه واللهِ واللهُ سعدَ الملوكِ استمعْ مدحاً أُتِيتَ به ... من خادمِ لك أنشاه ووَشّاهُ يُثني عليك وقد حَفَّتْ لُهاكَ به ... ثناءَ راضٍ بما أولاه مولاهُ ولو خلا فكرُه ممّا تَوَزَّعَهُ ... أهدى من الشِّعر أَعلاه وأَغلاهُ لكِنّ خاطرّهُ المشدوهَ بَلْبَلَهُ ... صَرْفُ الزَّمانِ وَأَصْداه وَأصْداهُ وأنت أنت فغَفْراً إِن عثَرتَ على ... عيب فذو الفضل ما استَوْراه واراهُ ورُبَّ نُعماك عندي فالكريم إِذا ... ما أُودِعَ العُرْفَ والاهُ ووالاهُ

واشدُدْ يداً بِسديدِ الحضرة اليَقُظِ الْ ... أَمين فيما تولاه وولاهُ فاقَ الرّجالَ بأخلاق مهذَّبة ... وفاتَ مَنْ كانَ جاراه وباراه ودانَ بالنُّصح حتّى لا خَفاءَ بما ... أخفاه منه وأبداهُ وَأدّاهُ وكافِهِ منك بالحُسْنَى فمَنْ خَبَرَ الْ ... كافي المُناصِحَ واستَكْفاه كافاه ودُمْ مَنيعَ الحِمى مستمتعاً أبداً ... من النَّعيم بأَصْفاهُ وَأضْفاهُ ما أَمَّ وجِهةَ بيتِ الله معتمِرٌ ... يمحو بخَطْوِ مَطاياه خَطاياهُ وله: كم ظِباءٍ بحاجِرِ ... فتَنَت بالمَحاجِرِ ونفوسٍ نفائِسٍ ... جُذِرتْ لِلْجَآذِرِ وشُجونٍ تظافرتْ ... عندَ كشفِ الظَّفائرِ وتَثَنٍّ لخاطرٍ ... هاجَ وَجْداً بخاطري

وعِذارٍ لأَجله ... عاذِلي صارَ عاذِري وشَطاطٍ لأجله ... شَطَّ إِدلالُ هاجِري وقوله: رِئمٌ برامَةَ قد أقام قيامتي ... بقَوامه واقتادَني بِزمامِهِ لولا احْوِرارُ جُفونِه ما حارَ لي ... لُبٌّ ولا بَلْبَلْتُهُ بمَرامهِ يَزْوَرُّ خوفَ رقيبهِ وقريبهِ ... من أَنْ يُحَيِّيَ مُسْلِماً بسلامهِ ولو أنَّه حَيّا لأَحَيْا مُهْجَتي ... وَأسا كُلومَ حُشاشَتِي بكلامهِ فبليَّتي من عينِه وعيوينه ... وشِكايتي من قومه وقَوامهِ وله: أودعَ القلبَ بَلابِلْ ... رَشَأٌ من أرض بابِلْ عدَلَ الحسنُ عليه ... وَهْوَ عن عدليّ عادِلْ

غادرٌ غادَرَ دمعي ... مُهْمَلاً في الخدّ هامِلْ طال فيه اللَوْمُ والسُّؤْ ... مُ ولم أَحْظَ بطائلْ كلَّ يومٍ هو صائلْ ... بالغَدايا والأَصائلْ ومُدِلٌّ بتَجَنّ ... مالَه فيه دلائلْ فاسْلُ عمّن هو سائِلْ ... عن غِيلاً للغَوائلْ أيُّ نفعٍ بوِصالٍ ... من جميلٍ لا يُجامِلْ وللحريري رسالتان: سينية وشينية نظماً ونثراً، أحب إثباتهما: فأما السينية، فإنه كتبها على لسان بعض أصدقائه، يعاتب صديقاً له، أخل به في دعوة دعا غيره إليها، وكتب عليها: القاسم سليل أبي الحسن: (بسم السميع القدوس أستفتح، وبإسعاده أستنجح. سيرة

سيدنا الاسْفِهْسَلاَر السيد النفيس، سيد الرؤساء، سيف السلطان - حرست نفسه، واستنارت شمسه، وبسق غرسه، واتسق أنه - استمالة الجليس، ومساهمة الأنيس، ومؤاساة السحيق والنسيب، ومساعدة الكسير والسليب. والسيادة تستدعي استدامة السنن، والاستحفاظ بالرسم الحسن، وسمعت بالأمس تدارس الألسن سلاسة خندريسه وسلسال كؤوسه، ومحاسن مجلس مسرته، وإحسان مسمع سيارته، فاستسلفت السراء، وتوسمت الاستدعاء، وسوفت نفسي بالاحتساء، ومؤانسة الجلساء، وجلست أستقري السبل، وأستشرف الرسل، وأستطرف تناسي رسمي، وأسامر الوسواس لاستحالة اسمي.

وسيفُ السَّلاطينِ مُسْتأثِرٌ ... بأُنسِ السَّماعِ وحَسْوِ الكؤوسِ سَلانِي وليس لباسُ السُّلُوِّ ... يناسبُ حُسنَ سِماتِ النَّفِيسِ وسَنَّ تناسيَ جُلاّسِه ... وَأَسْوَا السَّجايا تَناسِي الجليسِ وسَرَّ حسودي بطمس الرُّسُوم ... وطمسُ الرُّسُومِ كرَمْسِ النُّفوسِ وَأسكرني حسرةً واستعاضَ ... لِقوته سَكرةَ الخَنْدَرِيسِ وساقى الحُسامَ بكأس السُّلافِ ... وَأسْهَمَني بعُبوسٍ وبُوسِ سأكسوهُ لِبْسَةَ مُسْتَعْتَبٍ ... وَألبَسُ سِربالَ سالٍ يَؤوُسِ وَأسطُرُ سِيناتِه سِيرةً ... تَسيرُ أساطيرُها كالبَسُوسِ وحسبُا السلام وسلامه على رسول الإسلام) .

والشينية: كتبها إلى أبي محمد طلحة بن النعماني الشاعر، لما قصد البصرة يمدحه ويشكره ويتأسى على فراقه. وهي: (بإرشاد المنشيء أنشيء. شغفي بالشيخ شمس الشعراء) ريش معاشه وفشا رياشه، وأشرق شهابه، واعشوشبت شعابه - شغف المنتشي بالنشوة، والمرتشي بالرشوة، والشادن بشرخ الشباب، والعطشان بشبم الشراب. وشكري لتجشمه ومشقته وشواهد شفقته، يشاكه شكر الناشد للمنشد، والمسترشد للمرشد، والمستشعر للمبشر، والمستجيش للجيش المشمر. وشعاري إنشاد شعره، وإشجاء المكاشر

والمكاشح بنشره. شغلي إشاعة وشائعه، وتشييد شوافعه، والإشادة بشذوره وشنوفه، والمشورة بتشفيعه وتشريفه. وأشهد شهادة المشنع المكاشف، المقشر الكاشف، لإنشاؤه يدهش الشائب والناشي، ويلاشي شعر الناشي ولمشافهته تباشير الرشد،

واشتيار الشهد، ولمشاحنته تشقي المشاحن، وتشين المشاين، ولمشاغبته تشظي الأشطان، وتشيط الشيطان، فشرفاً للشيخ شرفاً، وشغفاً بشنشنته شغفاً. فأشعارُه مشهورةٌ ومَشاعِرُهْ ... وعِشرتُه مشكورةٌ وعشائرُهْ شَأَى الشُّعَراءَ المُشْمَعِلَينَ شعرُهُ ... فشانيهِ مَشْجُوُّ الحَشا ومُشاعِرُهُ وشوَّهَ ترقيشَ المُرَقَشِ شعرهُ ... فأشياعُه يشكونَهُ ومَعاشِرْهُ

وشاقَ الشَّبابَ الشُّمَّ والشِّيبَ وَشْيَهُ ... فمنشورُهُ بُشرى المَشُوقِ وناشرُهُ شَمائلُه معشوقةٌ كشَمْولهِ ... وشِرّيبُهُ مستبشرٌ ومُعاشرُهْ شَكُورٌ ومشكورٌ وحَشْوُ مُشَاشِهِ ... شهامةُ شِمِّيرٍ يَطيشُ مُشاجِرُهْ شَقاشِقُه مَخْشِيَّةٌ وشَباتُه ... شَبا مَشْرَفيٍّ جاشَ للشَّرّ شاهرُهُ شفَى بالأَناشيد النَّشاوَى وشَفَّهم ... فمُشفِيه مستشفٍ وشاكيهِ شاكرُهْ ويشدو فيهتشُّ الشَّحيحُ لشَدْوِه ... ويَشْغَفُهُ إِنشاده فيُشاطرُهْ

تجشَّمَ غِشيْاني فشرَّدَ وحشتي ... وبشَّرَ مَمْشاهُ ببِشرٍ أُباشرُهْ سأُنشِدِه شعراً تشرّقُ شمسُهُ ... وأشكُرُه شكراً تَشِيعُ بشائرُهْ وأشهد شهادَةَ شاهدِ الأشياء، ومُشبِع الأحشاء ليُشْعِلَنَّ شواظ اشتياقي شحطه، وليشعشن شمل نشاطي نشطه. فناشدت الشيخ أيشعر باستيحاشي لشسوعه، وإجهاشي لتشييعه، ووشايتي بنشيده الموشين وتشكلي شخصه بالإشراق والعشي؟ حاشاه، تعتشيه شبهة وتغشاه، فليستشف شرح شجوي لشطونه، وليرشحني لمشاركة

شجونه، وليشغلني بتمشية شؤونه، ليشد جاشي، ويشارف انكماشي. عاش منتعش الحشاشة، مستبشر البشاشة، مشحوذ الشفار، منتشر الشرار، شتاماً للأشرار، شحاذاً بالأشعار، يشرخ ويحوش، فينتقش المنقوش، بمشيئة الشديد البطش، الشامخ العرش، وتشريفه لبشير البشر، وشفيع المحشر) . وله مما ذكره في المقامات، هذه الأبيات المشتملة على التجنيس: وأحوى حَوَى رِقَي برِقَّةِ لفظهِ ... وغادَرَني إِلْفَ السُّهادِ بغَدْرِهِ

تصدًَّى لِقتلي بالصُّدودِ وإِنَّني ... لَفي أسْرِه مُذْ حازَ قلبي بأَسْرهِ أُصدّقُ منه الزُّورَ خوفَ ازْوِرارِه ... وَأَرضَى استماعَ الهُجْرِ خِيفةَ هَجْرهِ وأستعذبُ التّعذيبَ منه وكُلَّما ... أَجَدَّ عذابي جَدَّ بي حُبُّ بِرّهِ تناسى ذِمامي والتَّناسي مَذَمَّةٌ ... وَأحْفَظَ قلبي وهو حافظُ سِرّهِ له منّيَ المدحُ الّذي طابَ نَشْرُهْ ... ولي منه طَيُّ الُودِّ من بعدِ نَشرهِ ولولا تَثنّيهِ ثَنَيْتُ أَعِنَّتي ... بِداراً إلى مَنْ أجتلي نورَ بدرهِ وإِنّي على تصريف أمري وأمره ... أَرى المُرَّ حُلْواً في انقيادي لأمرِهِ

ومن رسائله، وقد اختصرناها: (إذا كانت المودات أنفس المرام المخطوب، وأنفع ما اقتني لدفع الخطوب، فلا لوم على من استعفى قدمه لطلبها، واستنطق قلمه لخطبها، لا سيما إذا كان مما يعجب المتأمل، ويسعف المؤمل، كمودته التي تضرب بها الأمثال، وتسجل على أن ليس لها مثال. هذا، وأنا على المغالاة في الموالاة، وعلى هذه الصفات في المصافاة، أشفق من اشتباه لتراخي خدمتي، وأعترف بوجوب معاتبتي، وأعتذر من معظم هفوتي، لتمادي جفوني. ولولا أن لمفتاح حضرته وقفة المتهيب، وخجلة القطر الصيب، لما استهدف قلمي لمرامي الكلام، ولاستنكف أن يكون سكيتاً في حلبة الأقدام. وها هو الوقاح، وتعرض وعرض للافتضاح، وللرأي الشريف بالإيعاز، بتأمل هذا الإيجاز، بما يبين عن كرم الاهتزاز، مزيد الاعتزاز، إن شاء الله تعالى. واهاً لفضلك يا مَنْ شادَ مِقْوَلُهُ ... مجداً كما شادتِ العليا مَقاوِلُهُ فافخَرْ ببيتيك بيتٍ أنت وارثُهُ ... عن القَبُول وبيتٍ أنت قائلُهُ أَبِيتُ أرعى نُجومَ الليلِ من قلق ... عليك لا من هَوىً تنزو بَلابِلُهُ وأشتكي منك ما تشكو ولا عجبٌ ... إذا اشتكى الرّأسُ أن تشكو قبائلهُ وما صديقُك إلا مَنْ تجنَّبَ ما ... جانبتَهُ وأتى ما أنت فاعلُهُ

ما إِنْ ترى غيرَ ذي وجهينِ ظاهرُه ... رَوْحٌ وباطنُه تَغْلِي مَراجِلُهُ يَغْشى أخاه إذا طابت منازلُهُ ... وينزوي عنه إن نابت نَوازِلُهُ وصل الجواب الفُلاني دام ممليه، متلألئةً لآليه، حالية معاليه، مهتزة عواليه، معتزة مواليه، وخلته كتاب الأمان من الزمان، فتلقيته كما تتلقى يد الإنسان صحف الإحسان، وصكاك العطايا الحسان. لا، بل كما تتلقى أنامل الراح كاسات الراح، من أيدي الصباح في نسمات الصباح. وما زلت أتمتع بحلي ودرر، ووشي وحبر، ومُلَح وزهر، ونكت وفقر، ومثل وخبر، وأبياتٍ غرر، ودعاءٍ مستطر، إلى ما فيه من إقالة عثار، وتزيين آثار، وتجميلِ معار، وتغطية عوار وعار. فلله ما جمع فيه من أنوار ونوار، ونضيرٍ ونضار، وتحسين وإحسان، ومعين ومعان، ومثله

بسعادته، وإن كان الفذ الفرد في سيادته، من يعرف ويعترف، ويدري كيف يغترف، ويهتدي إلى حيث يحترف، ويعلم من أين تؤكل الكتف) . وله: (النصحاء رجلان: فأحدهما موثوق بمودته، مسكون إلى عقيدته فهو مشكور على التبرع بالنصح، ومحمود ولو أصلد في اقتداح النجح. والآخر مذبذب بين الباب والدار، مردد بين الإيراد والإصدار، فنصح هذا منظوم في سلك الفضول، محجوب عن خلوة القبول. فإن وزن سيدنا نصحي بمثقاله، ونزهه عن استثقاله، فقد لمحه بعين الإصابة، وآمنني روعة الاسترابة. وإن حال دون اشتباه أو اعتراض، فقد أديت في شرعه المودة المفترض، وإن لم يطابق الغرض) . وله من أخرى: (وصل من فلان - حرس الله مجده، وأسعف جده، وأرهف حده، وأرغم عدوه وضده - كتاب، تجلى لناظر العين، كتجلي نضار العين، وأجلت الطرف منه في روض أضحكه الوابل، وعدم فيه الذابل. لا، بل في عقدٍ أودع الفرائد، وأعجز الرائد، وقلت: لله

القلم السديدي، فما أبدع توشيته! وأحسن نشأته! وأمضى في البراعة والبلاغة مشيتهّ! واعترف بما أولانيه، شيد الله معاليه، من إطراء عطر تغلى بغواليه، وحلى عطلي بلآليه، ولولا أن الإغراق في هذا الفن، معرض لإساءة الظن، لاستوعبت فيه البيان، ولأتعبت الأقلام والبنان. وهذا شوط، إن أجري القلم فيه لم يردعه سوط. وليس من سنة الأدب، ولا في شرعة القرب، أن يشتغل عن الجليل بالجلل، وباستعراض الشمل عن الحلل. وإذا أهلني لتكرمةٍ مؤثلةٍ، وخدمةٍ مؤملةٍ، سعيت وباهيت، وفي الشكر تناهيت) . وله من أخرى: (من حل محل المجلس - أسعد الله جدوده، وأجد سعوده، وشيد علياءه، وأيد أولياءه، ونصر راياته وآراءه: من المجد الذي رست أعلامه، وانتشرت أعلامه، والحسب الذي سرت أنباؤه،

وسروت آباؤه وأبناؤه، والفخر الذي عزت مساماته، واعتزت به سماته - باهت الوسائد بسيادة مكانه، وتاهت المساند إذا أسندت إلى أركانه. والخادم - على تنائي خطته، وتقاصي خطوته - ممن يخلص في الولاء، مذ حظي بتلك الخدمة العلياء ويثق بلطائف الإرعاء، كما يعتكف على إقامة وظائف الدعاء) . وله من تعزية بموت الإمام المستظهر، وتهنئة بخلافة المسترشد: (للدهر - أعز الله أنصار الديوان العزيز، وأدام له مساعفة الأقدار، ومضاعفة الاقتدار، وإيلاء صنائع المبار، والاستيلاء على جوامع المسار - خطوب متفاضلة القيم، كتفاضل ما ينشئه من الغمم، وضروب متفاوتة الدرج، بحسب ما تفنيه من المهج. فأعظمها إيلاماً للقلوب، وإضراماً للكروب، واستجلاباً للواعج الغموم، وإيجاباً للوازم الحزن على العموم - رزء تساهم فيه الأنام، وأظلمت ليومه الأيام، وكان في معاهد

الخلافة ناجماً، وعلى سدة الإمامة المقدسة هاجماً، كالفجيعة بطود الدين الشامخ، ودوحة المجد الباذج، وبحر الكرم الزاخر، وقبلة المآثر والمفاخر، واهاً له خطباً كاد يشيب منه الأطفال، وتنشق الأرض وتخر الجبال. غير أن الله نظر لأصناف عبيده، ومن على أهل توحيده، باستخلاف المسترشد بالله. ولولا هذه المنحة التي انتاشت الدين، وجبرت مصاب المسلمين، لفسدت الأرض (ولكن الله ذو فضلٍ على العالمين) . نشر الله في الخافقين أعلام دعوته، وحلى تواريخ السير بمناقب سيرته، وحقق آمال المستسعفين والمستضعفين في إسعافه ونصرته. وقد التزم الخادم من شرائط هذين الأمرين المقدورين، والمقامين المشهورين، ما يلتزمه المباهي بإخلاص الطاعة، المتناهي في الخدمة المستطاعة) . ومن أخرى: (ولما أهل للتشريف الذي عقد حبا التجميل نيله، وجاوز ربا التأميل سيله، أعظم وقع ما خص به من التنويه، وهن نفسه بمفخرة النبيه. وإذا بهر مطلع النعمة للمتأمل، ورجح وزنها على ظن المؤمل، حار عند تبلج نورها الفطن، وحصر عن درس صحف شكرها

اللسن. ومن الله تعالى نستمد التوفيق لإمراء أخلاف الإحسان، ومقابلة صنوف الإنعام بشكر المساعي لا اللسان) . ومن أخرى: (قد أوضح الخادم من مواقع اجتهاده مالا يأمن أن يشتبه معرضه، أو يستسر فيه غرضه، وهو يعتذر عنه بما اعتذر المعتصم إلى المأمون في تصدير كتاب إليه، في فتح كان عول فيه عليه: كتبت كتاب منه لخبر، لا معتد بأثر) .

ومن أخرى: (الخادم معترف بالصنيعة التي هو بها مغبوط ومغتبط، وفي سلك نشرها وشكرها مخترط. غير أنه مع اختصاصه بمزية الإرعاء، واستخلاصه للخدمة والدعاء، لو اتضح ضيق مخنقه، وتنوع التقصد لعلقه، وعز في حقه بما يؤذن بصفاء رنقه، وإقامة رونقه، وفك ما نطوق من الدين بعنقه) . أخرى من مطالعة: (أعز الله أنصار المجلس الفلاني، وظاهر مزيد علائه، وأسبغ ظلال آلائه، وقرن بالنصر معاقد آرائه، وأرغم بالقهر معاطس أعدائه. عرف تصدي جماعة لخطبة النظر، وبذلهم إظهار حسن الأثر، فإن ندب له من يجمع بين الشهامة والنزاهة انحسمت مواد الضرر. ومن سوء الاتفاق استخدامه في الوقت النكد، وحيث يشتبه اجتهاد المجتهد. وإن لم ينعم بالتفحص عن مقام كل ممن الجماعة في لوازم استخدامه، وما عذق باهتمامه، لم يتميز المتيقظ من الناعس ولا المجتهد

من المتشاكس. فإن اشتبه اجتهاده للشوائب المتوالية، والمقادير التي ليست بمتوانية، فما تخفى على الله خافية. ولا غنى عن التوقيع إلى فلان بما يضمن التحذير والتبصير، ويحض على التشمير لا التقصير، ليتجرد في المعاملة على حفظ الفتيل والنقير. على أن الخادم لم يفسح في مد اليد، إلى الدرهم الفرد، من الارتفاع المستجد. هاهنا شواظٌ قد التهب، وحنق برز بعدما احتجب. وقد كانت هذه البقعة بمثابة روضة غناء، وعروس حسناء، فاستحالت هذه الحال، واعترض شجاً منع من المقال. وفي جملة أدوية هذا الداء العضال أن يوعز عند حسم مادته، وقطع عاديته، بإنشاء ما يقرأ على المنبر من إدحاض التأويلات، وإلجام ما فغر من أفواه الرعاة. وإلا انبسط العدوان، وخربت المشان، ولم يبق من ذوي المسكة بها إنسان، والله المستعان) .

ومن أخرى: (لما أهل الخادم للتشريف الذي بيض صحيفة الظن، وجبر مكاسر الوهن، قدر الإنعام حق قدره، وتناهى في التباهي بفخره، ولئن كان بده ممن لا شبهة في عاره وعره، بما أنساه من شوائب دهره، فلقد سبب له من التجمل ما نوه بذكره. فالله تعالى يوفقه لكل ما يؤذن بظهور قربه، ويقتني به الذخر لعقباه وعقبه) . ومن أخرى: (ما يزال يعاني من مداراة الأهواء المتقلبة، والأطماع المتشعبة، ما هو منه في مكايدة متعبة، ومناظرات ملتهبة. وتوخي الإمساك يؤثم، والانصباب على الخصام يؤلم، والمواصلة بإنهاء مثل ذلك تسئم، وستنضح الحقائق، ويتبين الماخض والماذق) . ومن أخرى: (جعل الله الدولة مشرقة الأزمنة، حالية بالمناقب البينة، متلوة المآثر بجميع الألسنة، مبثوثة الممادح بكل الأمكنة) . ومن أخرى: (أحوال الأعمال، منقلبة إلى الاختلال، والضامن كل يوم في كروب،

والرعية بين مرعوب ومنكوب، والمطامع في ذلك متسعة، والقدرة على حسم هذه المواد ممتنعة) . ومن أخرى: (ولعمر الله إن المشار إليه ما ينزع عن ضلالته، ولا يتقي غائله غوايته) . ومن أخرى: (وحاش لله أن يكون بهذه الصفة، أو يضع مثقاله في هذه الكفة) . ومن أخرى: (وفي جملة هذه النواحي من لا يرتدع بالوعيد، ولا يوهن حتى يرى العذاب الشديد، واستبان ما عليه فلان من الإصرار على الإضرار، والاجتهاد في العناد والإفساد) . ومن أخرى: (ولم يزل يسرج من المشورة ويلجم، ويبرهن عن وجه الرأي ويترجم، إلى ن تمثلا الصلح، واستصوبا النصح. وكان في حسبان

كل أحد أن حبل الالتئام قد انعقد، وشرر الخصام قد خم، فتولد ما أوغر الصدور، وجدد النفور) . ومن أخرى كتبها إلى سعد الملك مع القصيدة التي تقدمت: (دعاء العبد للمجلس الفلاني - دامت جدوده سعيدة، وسعوده جديدة، وعلياؤه محسودة، وأعداؤه محصودة - دعاء من يتقرب بإصداره، على بعد داره، ويقصر عليه ساعاته، مع قصور مسعاته. وشكره للإنعام الذي أوصله إلى التجميل والتأميل، وجمع له بين التنويه والتنويل، شكر من أطلق من أسره، وأذيق طعم اليسر بعد عسره. ولو نهضت به القدمان، وأسعده عون الزمان، لقدم اعتماد الباب المعمور، وأسرع لغيه إسراع العبد المأمور، ليؤدي بعض حقوق الإحسان، ويتلو صحف الشكر باللسان. لكن أنى ينهض المقعد؟ ومن له بأن يصعد فيسعد؟ ولما قصرت خطوة العبد، وحرم حظوة القصد، ولزمه مع وضوح العذر، ن يفصح عن الشكر - خدم بما ينبئ عن فكره المريض، ويشهد بطبع طبعه في القريض. ولولا أن الهدية على حسب مهديها، وبه تعلق مساويها، لما قدر أن يهدي الورق إلى الشجر، ويبيض شعراً كبياض الشعر. هذا، على أن ذنب المعترف مغفور، والمجتهد وإن أخطأ معذور. وهو يرجو أن يلحق بمن نيته خير من عمله، ليبلغ قاصية أمله. وللآراء

العلية في تشريف مدحته بالاستعراض، وصون خدمته للأعراض، وتأهيله من مزايا الإيجاب، والجواب بما يميزه عن الأضراب، مزيد العدو) . وله من أخرى: (لم يزل لله تعالى في اقتبال كل زمان، وإقبال كل سلطان، نظرة تفرج الغمم، وتبهج الأمم، وتنير الظلم، وتديل المظلوم ممن ظلم. وقد أعاذ الله تعالى هذه الدولة القاهرة، والأيام الزاهرة، أن يغضى فيها عن ولاة الجور، ويرضى فيها للعبد بالحور بعد الكور، (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم) . وللرأي العالي بالمغوثة، الجالبة للمثوبة وحسن الأحدوثة، مزيد الشرف) . أخرى: (ولم تتأخر مطالعته عند تبلج بدرها، وتأرج نشرها، غلا لتهيب الاقتصار على خدمة القلم، مع وضوح العذر في قصور التمكن عن السعي بالقدم، نائباً عن تلاوة صحائف التهنية، وإقامة وظائف الأدعية) . ومن أخرى: (وإن قصرت خدماته بالقدم والقلم، وحرم لسوء الحظ اعتمار حرم

الكرم، فهو ممن يرى طاعة الدار العزيزة نسكاً يؤذن بتزكية الأعمال، وغرساً يثمر سعادة لأولي الآمال. ولولا ما يصدفه من تهيب الإنهاء، والأخذ بأدب من يقتصر على الخدمة والدعاء، لما اقتنع لنفسه بحرمة التنويه، والاعتماد على الاستشهاد فيما ينويه) . ومن أخرى لما قتل سعد الملك الوزير: (ثم إنه صدع بهذا الخطب الحادث، والخبر الكارث، وهو في سورة وجوم، ومساورة غموم، فذهل عن رزئهم الطري، وجرى الوادي فطم على القري، فلما انجلت الغمة، وتجلت النعمة، انسرى كربهم الذي بطن، وكمدهم الذي كان علن، (وقالوا: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن)) . ومن أخرى في تعزية: (ووصل ما شرف به مبشر الأنباء المبهجة، والسعادة المتبلجة، ثم أخذ في استخبار القاصد عما خبر ونظر، واستمع واطلع، وكأنه استثار به

الزفرات، والحنين إلى أوقات الملاقاة، ولم يزل الخادم يستوضحه ويستشرحه، وينافثه ويباحثه. وكلما هم بالقيام، وقطع الكلام، لزم أذياله، وأنشده البيت الذي كان قاله، من ضاهت حاله حاله: وحَدَّثتَني يا سَعْدُ عنهم فزِدْتَنِي ... جُنوناً فِزدْني من حديثك يا سَعْدُ وعرف في ضمن مناجاته، واستشراح روزنامجاته، ما اعترض من الشائبة الممضة، والفجيعة بتلك الريحانة الغضة، فوجد مس هذا الرزء، وأخذ منه بأوفى جزء. على أن ما يشوب صفو المنح، ويقذي كاس الفرح، يحل محل التميمة، للنعم الجسيمة، ويسلي أولي البصيرة السليمة، إذا ما أحمد قط دوام الصفو، كما لا يحب استمرار الصحو. وفي سلامة النفس الشريفة مسلاة للقلوب، ومسراة للكروب، تصغر نازلة الخطوب، وتصفح للأيام عن الذنوب) . ومن أخرى: (وعنده من تباريح الاشتياق إلى الخدمة ما يصدع الأطواد، فكيف

الفؤاد؟ ويوهي الجبال، فكيف البال؟ إلا أنه يستدفع الخوف بسوف ويرد الأسى، بعسى، (وهو على جمعهم إذ يشاء قدير) كتاباً قرنه بفضل نفث فيه قلمه، وتشكى ما يؤلمه، وظن أن الرعاية الشريفة، لا زال مولانا يبلي السنين ويستجدها، ويمتري التهانيء ويستمدها، وكقميص يوسف في عين يعقوب، رفع ناظره المغضوض، وبسط باعه المقبوض) . ومن أخرى: (لو اطلع مولانا على ما فاجأ البصرة، من الفتك والقهر، والنهب والأسر، إلى ما منوا به من الشتات، وافتضاح الخفرات، وإحراق المساكن والخانات، وانتشار الفساد، إلى قرى

السواد، لرأى منظراً يحرق الأكباد، ويبكي العين الجماد. وقد أشرفت البصرة على العفاء، واللحاق بالصحراء؛ وأن يؤرخ اندراسها في هذه الدولة الغراء، إذْ كان توالي عليها من الأحداث، في هذه السنين، ما يدمر أعمر البلدان، ولم يعهد مثله في سالف الزمان. فإن نعم وعجل النظر للرعية، بترتيب النجدة القوية، وإسقاط معاملة الذرب، في الهرب من العرب، فلا خفاء بما في تنفيس الكرب، من القرب) . ومن أخرى: (من حل محل المجلس، في المجد الذي بهرت أضواؤه، والفضل الذي انتشرت أنباؤه، والفخر الذي صدعت آياته، والشرف الذي ارتفعت راياته، جل أن يهنأ برتبة وإن علت، وترخص عنده قيمه كل حظوة وإن غلت. فلا زال أبداً يستجد المراتب، ويستمد المواهب، ويرتقي المراقب، ويقتني المناقب، وأمتعه الله بما أولاه، وطرف عين الكمال عن علاه، وجمل جيد الزمان بحلاه. ولولا أن خادمه يرى سنة الإغباب، أعلق بأدب ذوي الآداب، لتابع خدمه متابعة السحب، وأعرب عن ولائه عما هو أنور من الشهب. لكنه يشفق من مغبة

التثقيل، ومعرض المبرم الثقيل، ويود لو أسعفه الدهر بالخدمة، وقرب إسناده في رواية تلك الفضائل الجمة. فإن أسعف بالإيجاب بما يرفع الطرف، وشرف في الجواب ولو بحرف، فقد أدرك قاصية الآمال، وملك ناصية الجمال) . ومن أخرى: وبعد، فإن للسيادة رتباً تتفاضل بتفاضل أسبابها، وتتفاوت بتفاوت أربابها، فأعلاها وأغلاها قيمة، وأزكاها طينةً، وأوفاها زنةً وزينةً، ما نيل بالاستحقاق، لا بالاتفاق، ودخل في حيز الاستحباب، لا العجاب) . ومن أخرى: (وقد اطلع فلان على إطنابي في الثناء الفضفاض الأردية، والشكر الذي استفاض في الأندية. وإن إخلالي بإصدار الجواب، وإن باين خلال الصواب، لم يكن إلا لترصد سفراته. وما أولى كرمه الشهير، وشيمه المتبلجة الأزاهير، بأن يغفر جرم التقصير ويجذب ضبع هذا العذر القصير، وإن استصلحت لخدمة تسن؛ وجد إتحافي بها أجل ما أمنح) .

ومن أخرى: (وصل من فلان كتاب هزه له نبله، واشتمل منه على ما هو أهله، ففغمني تضوع رياه، وشغفني بحسنه وحسناه، واستدللت به على الشرف الذي جمع مزاياه، وملك مرباعه وصفاياه. ولم أزل أستملي من خصائص كماله، ومحاسن خلاله، ما يطرب له المستمع، ويستشف صدق برقه الملتمع. فأود لو أعتب الدهر المجرم، بما يعرب البيان المعجم، ويشجع القلب المحجم. وما هو الآن إلا أن أظفرني بالمطلب المرتاد، وأعلقني من مودته بما عنده من أنفس العتاد) . ومن أخرى: (وإن شرفت ولو بحرف في الفينة بعد الفينة، سررت ولا سرور جميل بملقى بثينة. وها أنا أعرض النفس القاصرة المكنة،

على الاستخدام المؤذن بتقويه وتكمله المنة. فإن أعطيت منه هواها، فطوبى لها وواها، وإلا فآهاً من المخافة وآها) . ومن أخرى: (وعندي لابتعاده ما يضعف الجنان، ويضاعف الأشجانه، ويرنق العيش الصفو لو كان. ثم إنني مذ عرفت اللائمة، بمن فتر في الخدمة اللازمة، لتصديق الأنباء المتقادمة، أسقطت في يدي، واعتلجت الوساوس في خلدي، إشفاقاً من أن أوسم بسوء معاهدة، أو يقال إن الكل خرط يدٍ واحدة. على أنني قد كنت ابتدرت تلافي الغلط، واستدراك ما فرط، بما أصدرته مع القاصد الممتد إلى

النهروان، ولا أعلم منه ما كان، ولا ما الذي أعلق به نكد الزمان) . ومن أخرى: كتاب راق إحساناً وحسناً، وساق إلي مناً ثم يمناً، شوق يلهب أحشاء الصدر، وينفد مسكة الصبر، ولقد كنت أرقب أن أؤهل لدرجة الخلطة، عند تنفيذ فلان إلى هذه الخطة، وما أدري: أحرمت هذه الحظوة، والغنيمة الحلوة، لتمثل قصوري، أو توهم تقصير؟) . ومن أخرى: (قد رشقني بسهام مصارمته، وسد دوني أبواب تكرمته،

وسمح بأن جعلني بعد الإكرام بالمباداة، واستدعاء المناداة، ممن إذا كتب نبذ كتابه، وإن عتب لم يغن عتابه. هذا، مع اشتمال علمه الكريم على أن قطع العادة عنوان الجفاء، واستعمال الملل محظور في شريعة الوفاء) . ومن أخرى: (والله تعالى يجزيه عما يسديه من المكرمات، ويبديه من رعاية حقوق الأحياء والأموات، أفضل ما جزى به أولي المروءات، ومن حافظ على المودات) . ومن أخرى: (أصدرت هذه الخدمة عن هم لازب، ولب عازب، وكرب حازب) . ومن أخرى: (عن قلب بولائه معمور، وبآلائه مغمور) . ومن أخرى: (فلو اطلع على حقيقة ما أعانيه، من ممازجة من لا وفاء له ولا فيه، لأوى لي من العيش الكدر، والنجم المنكدر. لكنني أتسلى بجميل رأيه الذي به أفتخر، وله أدخر) .

ومن أخرى: (ولا أخلاه من استجلاء موهبة، واستحلاء تهنئة مطربة، حتى ينجز له الدهر تكملة الوعود، وتتحاشد إلى جنابه وفود السعود، وينشر صيت مجده إلى اليوم الموعود) . ومن أخرى: (ما يستبدع من سؤدد فلان أن يصل الوسمي من طوله بوليه، ولا يستغرب تعهد ما غرس عند وليه. غير أن المكثر ربما سئم ولم، وفي الخبر: أفضل الأعمال أدومها وإن قل. وما تزال كتب الخدم تشكر ما توالى من الإكرام المشتهر، والإنعام المنهمر. فإن كان المقصود فيه الإبانة عن كرم النفس، فهو أشهر في الآفاق من الشمس، وإن كان يراد به تملك الرق، فقد استخلص من قبله واستحق) . ومن أخرى: (ثم المقترح على معاليه، ستر هذا المكتوب عمن ينتقد معانيه، ويفتقد التناقض والتعارض المودعين فيه. ولعمر الله إن من أعجب العجاب، أن يجمع بني إبداء التكليف والتخفيف في كتاب، إلا من

يحب أن يتطول، جدير بأن يسمح ويتأول. وفيما أخبره من اهتزاز الأريحية، وبواعث العصبية، ما يغني عن تذكار الهمة العلية) . ومن أخرى: (فأما شكري فلم يكن ناقصاً فأتممه، ولا ساذجاً فأنمنمه. غير أني معترف بالقصور عن موازنة مثاقله، والاستثقال بأثقاله) . أخرى: (إن أخذت في شرح ثنائي كنت كمن عرضه بيانه للفهاهة، وأقام نفسه في طبقة أولي السفاهة؛ إذ لو ساعدني الفصحاء بألسنتهم، وأمدوني بمعونتهم، لاستولى علي وعليهم الحصر وكنت وهم بمنزلة من أوجز واختصر) . أخرى: (من حل محل المجلس الفلاني في المناقب، الموفية المراقب، والمكارم، المخجلة الأكارم، توجهت إلى قبلة مجده الآمال، وضربت ببدائع كرمه الأمثال، وأنيخت بأرجائه مطايا الطلب والرجاء، واستغنى

وراد شريعته عن أرشية الشفعاء، وهنئ بالنجاح كل من عشا إلى ضوء ناره، وانتجع روضة أزهاره ونواره) . وله من تعزية: (الدنيا سحابة صوبها المصائب، وكنانة نبلها النوائب وحقيبة ملؤها العجائب. متباينة المقاصد والأنحاء، دائمة التحامل والإنحاء. إن أضحكت مرة أبكت مراراً، وإن أحلت نهلة تلتها إمراراً، وإن واتت ساعة عاصت أياماً، وإن أنكحت حلائل أصارتهن أيامى. تأنيسها محفوف بخديعة، وصلتها موصولة بفجيعة، وهديتها مشفوعة بوقيعة، وعدتها كسراب بقيعة، ما سرت نفساً إلا وقذتها، ولا أقرت مقلة إلا أقذتها، ولا أنمت نبعة إلا جذتها، ولا وهبت هبة

إلا أخذتها. وسواءٌ في حكمها الخلائف والأكاسر، والذئب العاسل، والأسد الكاسر، والنائي النازح والجار المكاسر لا ترؤف بوليد ولا جنين، ولا مزية فيها لهجان على هجين، تنشئ مع الأنفاس عبرة غب عبرةٍ، وتسيل من الآماق عبرة إثر عبرةٍ، وتشن على الساعات غارة بعد غارة، وترتجع العارات: عارة تلو عارة. استأثرت من فلان بعين الكمال، ونظام الجمال، وقطاف الآمال: أية ديانة رمست، وشمس مست، ومروءة درست، وشقشقة خرست، وأية عفةٍ تعفت، ورجاحة خفت، وكرمٍ كفت! فيا أسفا على رئاسة ثل عرشها، وسماحة رفع نعشها!) .

وله، وقد رد هدية أهديت إليه في مولود له، وكتب معها: (إنما يخلص بفضل الإكرام لا بفواضل الإنعام، وخلاصة المكرمة إنما تحصل بتوخي ما يحبه المسدي إليه، ويحسن موقعه لديه، ولهذا جاء في الأثر: (لا تكرم أخاك بما يشق عليه) . وأنا أعيذ المجلس من أن يكدر عندي مورد إكرامه العذب، بما ينكأ القلب، أو يعرضني بعد اختبار ولائي ومودتي، لما يعلم أنه يباين عادتي، ولا يلائم إرادتي. فإن كان قصد من هذه الأكرومة، إطلاعي على خصائص المروءة المعلومة، فأنا بحقائقها شاهد، ولطرائقها مشاهد. وغن بغى به تأكيد الأنسة، فإنه من المباغي المنعكسة، إذ لا خير في المودات النامية بالمهاداة، ولا فيمن يرجح وزن العطيات على حسن النيات. وأرجو أن يصادف هذا العذر قوبلاً لا يبقى على القلب الشريف معه غبار، ولا يتجدد بعده إلي الاعتذار، حتى لا تتنغص لي المسرة بهذا البسط، ولا ألجأ إلى تمني حلوله محل السقط) . ومن أخرى: (من شيم السادات، حفظ العادات. فما بال سيدنا أغلق باب الوصال بعد فتحه، وأصلد زند الإيناس عقيب قدحه، وأوردني أولاً شريعة بره، ثم حلأني عن شاطئ بحره؟ إن كان ذلك عن ملل، فأنا أنزهه عنه، أو لعثور على زلل، فأنا أستغفر الله منه. ولفرط رغبتي في استحفاظ

وداده، واستخلاص اعتقاده، هززت عطفه الكريم لمعاودة طوله الجسمي، وترويح قلبي بمؤانساته الأرجة النسيم. وفيما ألمحه من كلفه بإيلاء الجميل، ما يغني عن الإطالة والتطويل) . وله من أخرى: (وصل من سيدنا كتاب: خليته صحيفة سر، وحقيبة بر، بل ظننته لطيمة عطر، وعتيدة تبر، فجذلت به جذل من آل إلى استعداد أحواله وأوى إلى مآله، ظافراً بآماله، وسررت به مسرة من أطلق من إساره، بعدَ طول إساره، أو قبضت راحة يساره على يساره. واجتليتُ منه ما أزرى في نور الناظر، بالنور الناضر، الحدائق، وأخمل صيت الخمائل، عند ذوي المخايل. ولم أزل أمتع

طرفي بمنظومه البديع، ومنثوره الزاري على منثور الربيع. وهذا شوط إن أجر يد القلم في مضماره، وسامه القلب أن يبوح فيه بإضماره، لم أظفر بدرك الإيثار، ولا آمن شرك العثار، فقل من طلق عنان الإكثار، وإلا استثار تقبيح الآثار. ورعى الله من إن وعى حسناً رواه، أو رأى زللاً واراه) . ومن أخرى: (ثم قبلتها ألفاً، وتخذتها إلفاً، وسحبت من التجميل بها برداً، ووجدت لها على كبدي برداً، وما اكتفيت بما رأيت ولا ارتويت بما رويت حتى أقرأتها خلاني، وأحدقت بها أحداق خلصاني، فكل تأملها جداً، وهام بها وجداً، وتناهب حسنها حادٍ وشادٍ، وطربها العراق والشام، وحث بها المطايا والمدام. فأمتع الله بمنشيها وموشيها، وصرف عين الكمال عن مبديها ومهديها، ورزقه إبلاء الأعمار، في اجتلاء الأقمار، ومعاطاة العقار، ومناغاة الأوتار وإدراك

الأوطار والأوتار، حتى يجتلي الحور العين ويرد الوريد المعين. فأما إفصاحه، دامت أفراحه، عما يجده من التهيام، بمن هو عزيز المرام فلقد استدللت بنفثه، عن بثه، ومن شرحه، على برحه، وساءني استعار غرامه، وأوار أوامه، وتسلط الحرق على جنانه، وتهدي الأرق إلى أجفانه) . ومن أخرى: (سلام الله على فلان ما أهدي سلام، وهدت أعلام. ليت شعري ما الذي عرض، فأوجب أن اعرض؟ أي لسان هجر، حتى استوجب أن هجر؟ وأحاشيه مع دينه المتين، وفضله المبين، أن يهم، أو يتهم أو يتوهم؛ كما أعيذه مع عقله الرصين، وفهمه الحصين، ن يجرم أو يتجرم، فإن رأى - أراه الله ما يهواه، ويقهر أبداً هواه -

أن يعاود الأنسة، ويعاصي الوسوسة، كان كمن أولى براً مبراً، أو أمر وداً مستمراً، وزار أخاً يُحِله في سواده وسويدائه، ويثبت اسمه أول جريدة أودائه، والسلام) . ومن أخرى: (وعلى كل الأحوال، فثقته بما له من الرأفة والاشتمال، كثقته باليمن والشمال) . ومن أخرى: (من الجذل الذي أطربته راحه، وأطاره جناحه، مما أوتي من النعم التي أضحكت ثغور الآمال، وآذنت بصلاح فاسد الأحوال) . ومن أخرى: (أدام الله اقتداره على تلبية من يناديه، وإغاثة من يؤم ناديه، ويستمطر سحب أياديه، حتى يسترق بالإحسان كل إنسان، ويستحق الشكر والمدح من كل لسان) .

ومن أخرى: (جنابه المنيع قبلة الكرم، وحرم أولي الحرم) . ومن أخرى: (وحين تسنى له الغرض، بادر مبادرة السهم إلى الغرض، ومليت بالأعياد ما لاح كوكب، وما ناح قمري، وما فاح عنبر. وهو على أتم الثقة في كل ما يقضي بتصفية رنقه، وتطرية رونقه، وإحلال أطواق المنن في عنقه) . ومن أخرى: (إخلاصاً يناسب جوهر الخلاص، وثناء يستهديه علم العام والخاص) . ومن أخرى: (وكان يترقبه ترقب المجدب الغيث، والملهوف الغوث) .

ومن أخرى: (جراد سد نهار الأفق وليل الطرق) . ومن أخرى: (المراتب تتفاضل مراقيها بتفاضل راقيها، وتتفاوت معاليها لتفاوت من يليها. فأسماها قلة، وأبهاها حلة وأشرقها أهلة، وأوضحها أدلة، رتبة زفت إلى أكفأ أكفائها، وخصت بمن يقوم بأعبائها، كالتي ألقت بالجناب السامي عصا التخييم، واعتصمت منه بالكف الكريم. فهذه التي تغتبط بوصله، وتقول: (الحمد لله الذي أحلنا دار المقامة من فضله)) . ومن أخرى: (أسعد الله فلاناً بما أمطاه من ذروة الرتبة العلياء، وحظوة الرفعة الرافعة نواظر الأولياء، ولا أخلي أبداً من تملي الهناء، واستملاء الثناء. الخادم يأمل من الشيم الحسنى، والمكارم التي تروي

وتروى، أن ينزل هذه الخدمة حين تقرا، منزلة الضيف الذي يستوجب أن يقرى) . ومن أخرى: (حتى تتحلى التواريخ برقم مآثره، وتتناول الركبان تسيير مفاخره، وتطابق الرواة على نشر محامده وممادحه، وتتأرج الآفاق بنشر مناقبه ومنائحه) . ومن أخرى: (أسعد الله جنابه المنيع بغرة كل شهر وسراره، سعادة تكفل بروح إسراره، وتتابع مواد مساره) . ومن أخرى: (مرفه الإسرار موفر المسار، يعتزي إلى الجناب العزيز، ويمت

بالإخلاص الموفي على خلاصه الإبريز، حتى يملك الهمة العلية نواصي الرتب، وقواصي الأرب، ويؤطيء القدم، أعالي القمم، والدرج الغوالي القيم) . ومن أخرى: (وإنه يجد من الكرب، عند تراخي النوب، ما يوهن قوى جلده، ويسقطه في يده) . ومن أخرى: (نواصل حتى يقال: حسبك، قد أبرمت كتبك) . هذا ما أثبتناه من ملح رسائله، ولمح فضائله، على سبيل الاختصار، واكتفينا بالأحداق والأبصار. على أنه لا يباريه فصيح، ولا يجاريه منطيق، في المقامات، وكلمها المرصعات.

وقد أوردت من أبياته التي ما سبق إلى نظم مثلها، وقد أفحم البلغاء بفضلها. فمنها، قوله في التجنيس: لم يبقَ صافٍ ولا مُصافٍ ... ولا مَعِينٌ ولا مُعِينُ وفي المَساوِي بدا التَّساوي ... فلا أَمينٌ ولا ثَمينُ وقوله في ما لا يستحيل بالانعكاس: أُسْ أَرْمَلاُ إذا عرا ... وارْعَ إِذا المرءُ أسا أَسنِدْ أخا نَباهةٍ ... أَبِنْ إخاءً دُنِّسا أُسْلُ جَنَابَ غاشمٍ ... مُشاغبٍ إن جَلسَا أُسْرُ إِذا هَبَّ مِرا ... وارْمِ به إِذا رَسا أُسكُنْ تَقَوَّ فعسى ... يُسْعِفُ وقتٌ نكَسَا

ومن المنثور المذكور، من الجنس الذي لا يستحل بالانعكاس، قوله: (ساكب كاسٍ. لم أخامل. كبر رجاء أجر ربك. من يرب إذا برينم. سكت كل من نم لك تكس. لذ بكل مؤملٍ إذا لمَّ وملك بذل) . وما أفصح قوله في هذه المقامة: (فلم يزل فكري يصوغ ويكسر، ويثري ويعسر، وفي ضمن ذلك أستطعم، فلا أجد من يطعم، إلى أن ركد النسيم، وحصحص التسليم) . وقوله نصيحة في هذه المقامة: إذا ما حَوَيْتَ جَنَى نخلةٍ ... فلا تَقْرَبَنْها إلى قابلِ وإِمّا سقَطت على بَيْدَر ... فحَوْصِلْ من السُّنْبُل الحاصلِ

ولا تَلْبَثَنَّ إِذا ما لَقَطْتَ ... فَتَنْشَبَ في كِفَّة الحابلِ ولا تُوغِلَنَّ إِذا ما سبَحْتَ ... فإِنَّ السَّلامةَ في السّاحلِ وخاطِبْ بهاتِ وجاوِبْ بِسَوْفَ ... وبِعْ آجِلاً منك بالعاجلِ ولا تُكثِرَنَّ على صاحب ... فما مُلَّ قَطُّ سِوى الواصلِ وقوله في أخرى: اسِمَعْ أُخَيَّ وصيّةً من ناصح ... ما شابَ مَحْضَ النُّصحِ منه بغِشِّهِ لا تَعْجَلَنْ بقضيّة مبتوتة ... في مدحِ مَنْ لم تَبْلُهُ أو خَدْشهِ وقِفِ القضيّةَ فيه حتّى تجتليِ ... وَصْفَيْهِ في حالَيْ رِضاهُ وبطشهِ

ويَبِينَ خُلَّبُ برقِه من صدقه ... للشّائمينَ ووَبْلُه من طَشِّهِ فهناك إِنْ تَرَ ما يَشِينُ فَوارِهِ ... كرماً وإِنْ تَرَ ما يَزِينُ فأَفْشِهِ ومَنِ استحقَّ الارتقاءَ فرَقِّهِ ... ومَنِ استحطَّ فحُطَّهُ في حُشِّهِ واعَلمْ بأنَّ التِبْرَ في عِرق الثَّرَى ... خافٍ إلى أن يُستثارَ بنَبْشِهِ وفضيلةُ الدّينارِ يظهَرُ سِرُّها ... من حكّهِ لا من ملاحة نقشِهِ ومن الغباوة أن تعظِّم جاهلاً ... لصِقال ملبسِه ورونقِ رَقْشِهِ أو أن تُهينَ مهذَّباً في نفسه ... لدُروس بِزَّتِه ورَثَّةِ فُرْشِهِ ولَكَمْ أخي طِمْرَيْنِ هِيبَ لفضله ... ومُفَوَّفِ البُرْدَيْنِ عِيبَ لفُحشهِ وإذا الفتى لم يَغْشَى عاراً لم تكن ... أَسمالُه إلا مَراقِيَ عرشِهِ

ما إِنْ يضُرُّ العَضْبَ كَوْنُ قِرابه ... خَلَقاً ولا البازي حقارةُ عُشِّهِ وقوله في رسالته الرقطاء: سيّدٌ قُلَّبٌ سَبُوقٌ مُبِرٌّ ... فَطِنٌ مُعرِبٌ عَزُوفٌ عَيُوفُ مُخْلِفٌ مُتلِفٌ أَغَرُّ فَرِيدٌ ... نابِهٌ فاضلٌ ذكيٌّ أَنوفُ مُفْلِقٌ إِنْ أَبانَ طَبٌّ إذا نا ... بَ هِياجٌ وحَلَّ خَطْبٌ مَخُوفُ وفيها: فلِذا يُحَبُّ ويُستَحبُّ عَفافهُ ... شَغَفاً به فلُبابُه خَلابُ

أخلاقُه غُرٌّ تَرِفُّ وفُوقُه ... فُوقٌ إذا ناضَلْتَه غَلابُ سُجُحٌ يَهَشُّ وذو تَلافٍ إن هفا ... خِلٌّ فليس بحقذه يرتابُ لا باخلٌ بل باذلٌ خِرْقٌ إذا ... يُعْتَرُّ بَرْزٌ لا يَلِيهِ بابُ إِنْ عَضَّ أَزْلٌ فَلَّ عَرْبَ عِضاضِه ... بمَنابِهِ فانْحَتَّ منه نابُ وفيها: فلا خَلا ذا بهجةٍ ... يمتدُّ ظِلُّ خِصْبِهِ فإِنَّه بَرٌّ بمَ، ْ ... آنَسَ ضوءَ شُهْبِهِ زانَ مزايا ظَرْفِه ... بلُبْسِ خوفِ ربِّهِ

وقوله في مقامة أخرى: لا تسألِ المرءَ مَنْ أَبوه ورزْ ... خِلالَهُ ثمَّ واصِلْهُ أو فاصْرِمْ فما يَشِينُ السُّلافَ حينَ حلا ... مَذاقُها كونُها ابْنَةَ الحِصْرِمْ وقوله في أخرى: يقولون إِنَّ جمالَ الفتى ... وزينتَهُ أَدبٌ راسخ وما إِنْ يَزِينُ سِوى المُكْثِرينَ ... ومَنْ طَوْدُ سُؤدَدِه شامخ وأمّا الفقيرُ فخيرٌ له ... من الأدب القُرْصُ والكامِخ وأيُّ جمالٍ له أن يقالَ ... أديبٌ يعلِّمُ أو ناسخ وقوله في الأبيات العواطل: أَعْدِدْ لحُسّادك حَدَّ السِّلاحْ ... وأورِدِ الآمِلَ وِردَ السَّماحْ

وصارِمِ اللهوَ ووصلَ المَها ... وَأعمِلِ الكْومَ وسُمْرَ الرِّماحْ واسْعَ لإدراكِ محلٍّ سما ... عِمادُه لا لادّرِاع المِراحْ واللهِ ما السُّؤُدَدُ حَسْوُ الطِّلا ... وملا مَرادُ الحمدِ رُؤْدٌ رَداحْ واهاً لحُرٍّ صدرُه واسعٌ ... وهمُّه ما سَرَّ أهلَ الصَّلاحْ مَوْرِدْه حُلْوٌ لِسُؤّالِه ... وما لهُ ما سألُوه مُطاحْ ما أسمعَ الآمِلَ رَدّاً ولا ... ماطَلَهُ والمَطُّلُ لؤمٌ صُراحْ ولا أَطاعَ اللهوَ لمّا دعا ... ولا كسا راحاً له كأسَ راحْ

سَوَّدَهُ إِصلاحُه سِرَّهُ ... ورَدْعُه أهواءَه والطِمّاحْ وحصَّلَ المدحَ له علمُهُ ... ما مُهِرَ العُورُ مُهورَ الصِّحاحْ وقوله في الأبيات التي حروفها كلها معجمة: فَتَنَني فجنَّنَتْنِي تَجَنِّي ... بتَجَنٍّ يَفْتَنُّ غِبَّ تَجَنّ شَغَفَتْني بجَفْن ظَبْيٍ غَضيضٍ ... غَنِجٍ يَقْتَضي تغيُّضَ جَفْنِي غِشيَتْني بزينتَيْنِ فشفَّتْ ... ني بزِيّ يَشِفُّ بينَ تَثَنِّ فتظنَّيْت تجتبيني فتَجْزِي ... ني بنَفْثٍ يَشْفي فخُيِّب ظنِّي

ثبَّتَتْ فيَّ غِشَّ جيبٍ بتزَيي ... نِ خبيثٍ يَبغي تشفّيَ ضِغْنِ فنزت في تجَنُّبي فثَنَتْني ... بنَشيجٍ يُشجي بفَنٍّ ففَنِّ وقوله في الأبيات الأخياف: كلمة مهملة وكلمة معجمة: اِسمَحْ فبَثُّ السَّماحِ زينٌ ... ولا تُخِبْ آمِلاً تضَيَّفْ ولا تُجِزْ ردَّ ذي سؤالٍ ... فَنَّنَ أَمْ في السُّؤال خَفَّفْ ولا تظُنَّ الدُّهورَ تُبْقي ... مالَ ضَنِينٍ ولو تقَشَّفْ واحلُمْ فجَفْنُ الكرامِ يُغضي ... وصدرُهم في العطاء نَفْنَفْ ولا تَخُنْ عهدَ ذي وِدادٍ ... ثَبْتٍ ولا تَبْغِ ما تَزَيَّفْ

وقوله في الأبيات المتائيم: زُيِّنَتْ زينب بقَدٍّ يَقُدُّ ... وتَلاهُ وَيْلاه نَهندٌ يَهُدُّ جُنْدُها جِيدُها وظَرْفٌ وطَرْفٌ ... ناعسٌ ناعِشٌ بخَدٍّ يَخُدُّ فارَقَتْني فأَرَّقَتْنِي وشَطَّتْ ... وسَطَتْ ثمَّ نَمَّ وَجْدٌ وجِدُّ قدرْها قد زَهَا وباهت وتاهت ... واعتدتْ واغتدت بحدّ يحدّ فدَنَتْ فُدِّيَتْ وحَنَّتْ وحَيَّتْ ... مُغْضَباً مُغْضِياً بوُدّ يُوَدُ

وقوله في المقامات: وأنشد البيتين المطرفين، المشتبهي الطرفين اللذين أسكتا كل نافث وأمنا أن يعززا بثالث: سِمْ سِمَةً تَحْمَدُ آثارها ... فاشكُرْ لمن أعطى ولو سِمْسِمَهْ والمكرْ مَهْما اسْطَعْتَ لا تَأْتِهِ ... لِتقتني السُّؤْدُدُ والمَكْرُمَهْ وقد تصدى جماعة بعده لمعارضته في هذين البيتين وتعسفوا نظم الثالث والرابع، ولم يبلغوا درجته في صنعته وصحته. وقوله في النصح: عِشْ في الخِداع فأنت في ... زمنٍ بَنُوه كأُسْدِ بِيشَهْ

وأدِرْ قَناةَ المكَرْ حَتَ ... ى تستديرَ رَحى المَعيشَهْ وصِدِ النُّسورَ فإِنْ تعذَّ ... رَ صيدُها فاقنَعْ برِيشَهْ واجْنِ الثِّمارَ فإِنْ تَفْتْ ... ك فَرَضِّ نفسَك بالحشيشَهْ وَأرِحْ فؤادَكَ إِنْ نبا ... دهرٌ من الفِكرَ المُطِيشَهْ فتغايُرُ الأحداث يُؤْ ... ذِنُ باستحالةِ كلِّ عِيشَهْ وقد التقطت من رسائله هذه الكلمات: خلد الله الدولة ما ذر ضوء النجوم ودر نوء الغيوم. ما تكرر الصوم والفطر، وتضوع الروض والعطر. ما استهلت الأهلة، واستهلت الأنواء المنهلة. ما نفثت الأقلام، وانبعثت الأقدام. ما تكررت الأعوام، ونهدت الأعلام. ما سرت سرية، وسارت في برية مطية. ما عبئت الكتائب، وسرت الركائب، وسنحت

النجائب، وتبلجت العجائب. ما در صوب الغمام، وشاق صوت الحمام. ما تعاقب العصران، وتقابل النسران. ما أهديت التحيات، وتليت الآيات. ما خطت الأقلام، وحطت الأقدام. ما رق النسيم، وراق وسيم، وانتجع الكلأ مسيم، وقطع الفلا رسيم. ما بزغت الشموس، ورقمت الطروس، وتعوطيت الكؤوس، وقرمت إلى أحبابها النفوس.

ولده أبو القاسم عبد الله بن القاسم الحريري

ولده أبو القاسم عبد الله بن القاسم الحريري كان من ذوي المراتب. وكان حسن الخط، قليل الحظ، فاضلاً متميزاً على أقرانه مبرزاً. فمن جملة ما وقع لي من نظمه، ما كتبه إلى أبي زيد المطهر، بن سلار، تلميذ والده، ينهاه عن شرب الخمر: أبا زَيْدٍ اعلَمْ أَنَّ مَنْ شَرِب الطِّلا ... تدَنَّسَ فافْهَمْ سِرَّ قولي المهذَّبِ ومن قبلُ سُمِّيتَ المُطَهَّرَ والفتى ... يحِقَقُ بالأفعال تسميةَ الأَبِ ولا تَحْسُها حتّى تكونَ مُطَهَّراً ... وإلا فغَيِّرْ ذلك الاِسمَ واشْرَبِ

أبو العباس محمد بن القاسم الملقب ب زين الإسلام الحريري

أبو العباس محمد بن القاسم الملقب ب زين الإسلام الحريري لقيته بالمشان، كبير الشان، في شهور سنة ست وخمسين وخمس مئة، وسمعت عليه من مقامات والده أربعين مقامة. وهو لها متقن، ولشرحها مبين. وفيه فصاحة ولسن، وفضل حسن. وكنت نائب الوزير عون الدين في الصدريات، وقد توجه على - أعني ابن الحريري - أداء شيء من الخراجات. ولقد كان شديد الانقباض، كثير الاعتراض. فاحتلت عليه، بأن نفذت المطالب بالخراج إليه. فلما حضر عندي أعفيته من الخراج، وتقدمت لأملاكه وأسبابه بالإفراج، وقلت له: كان الغرض وصولك وحصولك، وقد أجيب سؤالك وما خيب سؤلك. ولو أطلت الإقامة، خصصتني بالكرامة، وخلصت من الملامة. فشرح صدراً، وشرح مني صدراً حتى مرضت وأشفيت، فعدت إلى بغداد وشفيت. لكنه مرض بعدي واشتدت حماه، واستباح الموت حماه، رحمه الله، وذلك في سنة ست وخمسين وخمس مئة.

فمما كتبه إلي، وقد أوهمته التوكيل، وألزمته في الوزن التعجيل: يا مَنْ أرى كلَّ مَنْ ألقاه يُخبرني ... عنه بأكرمِ أخلاقٍ وأوصافِ وإن همَّتَهُ مُذْ كان ما صُرِفت ... إلا إلي الرِّيّ من إحسانه الصّافي أجْدِرْ بمجديَ تقليد بمَكْرُمَة ... وما أسومُك فيها غيرَ إنصافي من خصه الله بما خص به المجلس العالي، أسعد الله جده، وأجد سعده، وضاعف علوه، واضعف عدوه. من البيت الرفيع، والجناب المنيع، وحاز إلى نبله، مزية إفضاله وفضله. تعين على مجده النظر بعينها، والبحث عن صدق الأقوال ومينها، وانقشع لسيادته بأن ينفذ مثله، في مقر المعدلة، بحال رقيب فلا يكشف عن تلك الحال، ويستبين الصدق من المحال. والكتاب طويل. فكتبت في جوابه: يا مُهدياً فِقَراً جلَّتْ قلائدها ... عن وصف مُطْرٍ لها أو رَصْفِ رَصّافِ ومَنْ فضائله عن حَصْرها حَصِرت ... في العصر أَلْسُنُ مُدّاحٍ ووصّافِ

رِواتُه في العلى ضافٍ ومَوْرِدُه ... في الفضل للمُرْتَجِي إِفضالَهُ ضافِ ترومُ منّيَ إنصافاً وهل عرَفَتْ ... خلائقي غيرَ إحسانٍ وإنصافِ وكتب إلي بعد ما فارقته: إذا هممت بإصدار الخدمة إلى فلان، شيد الله معاليه، ولا أخلاه من الأنعام: يوليه ويواليه، نكص قلمي عند الإهابة، واعترف بالخجل والمهابة، وأبى إلا أن يحجم، ولا يعرب عما في ضميره ويترجم، فأخلد إلى إصدار الدعاء الذي أواصل إدمانه، وأتخير مظانه. وما كان أسعدني بتلك الساعات. وأسر قلبي بذلك الترداد والمسعاة. ولقد كان ذلك من إحسان الدهر الذي أسا، وبمقتضى ما عندي كان يردني المورد السامي صباح مسا. وإن كانت خدمتي غير متواصلة، فكليتي بالخدمة ماثلة. وسطرت هذه اللمعة المخففة، مستدعياً من اسمه المشرفة.

الصدر أبو زيد المطهر بن سلار فخر الدين

الصدر أبو زيد المطهر بن سلار فخر الدين من ساكني المشان. كان أوحد العصر كبير القدر حسن الشعر جيد النظم والنثر. تلميذ الحريري في الأدب. وسمعت أنه صنف المقامات الحريرية له، فأودعها اسم أبي زيد باقتراحه. تولى صدرية المشان، وتوفي بها بعد سنة أربعين وخمس مئة.

أنشدني ابن الباسيسي قال: أنشدني فخر الدين أبو زيد بن سلار لنفسه ملغزاً في السطل: ما ناشِيٌ في البرد والحَرِّ ... متلوّنٌ ذو أرجُلٍ صُفْرِ ما إِنْ تَجِفُّ الدَّهْرَ لِبْدَنْه ... طَوْراً يَخُبُّ وتارةً يَجْرِي ويَضِجُّ حيناً بالصِّياح إذا ... ما طارَ من وَكْر إلى وَكْرِ في الشّام يُشْرَحُ صدرُه ولَدَى ال ... زَّوْراءِ يُصبِحُ ضيّقَ الصَّدْرِ هذه السطول تحمل من الشام واسعة، وتضيق ببغداد. يسمو بمُعْوَجِّ القَرا قلِقٍ ... مُحْقَوْقِفٍ كقُلامةِ الظُّفْرِ أو كالهلال أو الْحَنِيَّةِ أو ... كالنُّون جاءت آخِرَ السَّطْرِ فاكشِفْ غِطاء اللَبْسِ عنه لنا ... يا أَلْمَعِيُّ بصائب الفكرِ قال: فحل الأمير أبو الغيث هذا اللغز ببيت واحدٍ لغز: خُذْ رُبْعَ مثلِ النَّقْعِ وارْمِ به ... واعْرِفْ حروفَ العِلْق في سطرِ يعني: احذف القاف من قسطل، يبقى سطل.

القاضي نور الدين أبو طاهر يحيى بن محمد بن المولد بن القاضي كمال الدين الرازي

القاضي نور الدين أبو طاهر يحيى بن محمد بن المولد بن القاضي كمال الدين الرازي كان نديم المطهر بالبصرة. وكان فاضلاً أديباً مترسلاً. فيه أدوات حسنة. وأنشدني ولده أبو سعد عبد الرحيم، بنهر دقلا في ذي الحجة سنة تسع وأربعين وخمس مئة، قال: أنشدني والدي لنفسه، وكان حينئذ لم يبقل شارِبه: نَّبَهَ العُودُ ضَجَّةَ المِزْمارِ ... وبدت جهرةً كؤوسُ العُقارِ وغدا الصَّوْمُ هازئاً ينشُرُ الرَّوْ ... عةَ يتلوه عسكرُ الإِفطارِ

ومضى النُّسْكُ والتَّراويحُ والتَّسْ ... بيحُ طُرّاً مُهَتَّكَ الأَستارِ فاشرَبُوا الخمرَ من يَدَيْ فاترِ المُقْ ... لَةِ عَذْبٍ لمَاهُ للمُشْتارِ

الأديب أبو الحسن علي بن الحسن بن إسماعيل العبدي البصري

الأديب أبو الحسن علي بن الحسن بن إسماعيل العبدي البصري من عبد القيس، بن أفصى، بن ربيعة. شاب من أهل العلم وأصحاب الحديث، متوقد الذكاء، وله يد في علم العروض والقوافي. كان خدم ببغداد سنة سبع وخمسين وخمس مئة. فلما انحدرت، في نيابة الوزير، إلى البصرة، في شوال من السنة رافقني إليها. وكنا نتناشد الأشعار، ونتذاكر طرف الأخبار. ومدة مقامي بالبصرة إلى أن خرجت منها في جمادى الآخرة سنة ثمان وخمسين، ما كان يخل بمحاضرتي. فمما أنشدني لنفسه، أبيات له في ذم تاروت جزيرةٍ

والدته

بالبحرين، عند كونه بالقطيف سنة أربع وخمسين وخمس مئة: قبّح الله ليلتي ومَبِيتي ... أتلَوَّى للجوع في تارُوتِ ليس عندي سِوى ثيابيَ شيءٌ ... مثل مَيْت قد حلَّ في تابُوتِ وحِصاني نِضْوٌ من الجوع مثلي ... فاقِدٌ قَتَّهْ كفقديَ قُوتي وأنشدني أيضاً مما كتبه إلى والدته، وكتبت هي في جوابها، وترِد في شعرها.

الفقيهة أم علي الرشيدة بنت الفقيه أبي الفضل بن محمد بن علي بن المؤمل بن تمام التميمي المالكي

والدته الفقيهة أم علي الرشيدة بنت الفقيه أبي الفضل بن محمد بن علي بن المؤمل بن تمام التميمي المالكي لما كننت بالبصرة كانت تعيش، وهي مؤدبة. وكان ولدها الأديب علي العبدي يتردد إلي، فقال لي: كنت غائباً عن والدتي في بعض أسفاري، فكتبت إليها قصيدة طويلة: سِيّانٍ إِنْ عذَرُوا فيكم وإنْ عذَلُوا ... لأنَّني عن هواكم لستُ أتنقلُ لا أكذِبُ الله ما لي غير حِبّكُمُ ... والاستزادةِ من وجدٍ بكم شُغُلُ وليس في النّاس لي لو كان ينفَعكُم ... أَنْ تعلَمُوا ذاك منّي غيركم أَمَلُ أشتاقُكم وبِوُدّي لو يواصلُني ... خَيالكُم لو بنومٍ كنتُ أكتحلُ وقد صحِبتُ أُناساُ واشترطتُ لكم ... قلبي ويصحَبُهم جسمي وقد قَبِلُوا قلبي يميلُ إليكم دونَ غيرِكُمْ ... وإِنْ صدَدْتُم وإِنْ صافَوْا وإِنْ وصَلُوا

ورُبَّما قلتُ للواشي إِليَّ بِكُمْ ... هم الأَحِبَّةُ إِنْ جارُوا وإِنْ عدَلوا صِلوا وصُدُّوا وجُورُوا واعدِلُوا وقِفُوا ... عمّا أُحِبُّ فعندي بعدُ مُحْتَمَلُ مهما فعلتم فمحمولٌ ومغتفَرٌ ... وما أمرتم فمسموعٌ ومُمْتَثَلُ قال: فأجابت والدتي عنها بقصيدة منها: لولا الأمانيُّ والتَّسويفُ والأمَلُ ... ما كان يكنُفُي سهلٌ ولا جَبَلُ وكلَّما اشتدَّ بي نارٌ تُعَذِبني ... فليس إِلا دموعُ العينِ تنهملُ وقد تعلَّلْتُ أسباباً لرؤيتكم ... فكيف بي وبكم إن فاتتِ العِلَلُ أَهْذي بكم حَسْبُ ما أحيا فإِن حضَرَتْ ... منّي الوفاةُ وَأوْفَى دُونِيَ الأَجَلُ ناديتُ لا تأخُذُوا ثأري بهم هبةً ... يا غايةَ السُّؤْلِ قد ضاقت بيَ الحِيَلُ لأظُهِرَنَّ هوىً قد كنتُ أكتُمُه ... فليس لي في هوى أمثالِكم خَجلُ

قال: ولها أيضاً جواب شيء كتبته إليها فأجابت: وَصَل الكتابُ وسِرُّه وضميرُهُ ... فظَلِلْتُ أُسْرِحُ ناظري وأُدِيرُهُ ... فيما تضَمَّنه لأَجْلُوَ ناظري ... وأقول يا مَنْ عَزَّ فيه نظيرُهُ بأَبي وأُمِّي ما اشتكيتَ من الأَسى ... فاشتدَّ في قلبي فُدِيتَ زفيرُهُ ومنها: فسَلِ المُتَيَّمَ بَعْدَ بُعْدِ ديارِكمْ ... من غيرِ سُوءٍ كيف كان مصيرُهُ كلفَتْه صَدّاً وبُعْداً عنكُمْ ... أمراً يَهُدُّ قُوَى الجبالِ عَشِيرُهُ يا مَنْ تأمَّرَ في الفؤاد تحكُّماً ... ما ذَلَّ من كان الجمالَ أميرُهُ ما كان تأخيرُ الجواب تثبُّطاً ... لا بل لأَسباب جرتْ تأخيرُهُ قال: وكتبت إلي أيضاً وأنا بالبحرين، من قصيدة: تحيّةُ ربّي كلَّ يومٍ مجدَّدٍ ... على رَبْعِ ذاتِ الخالِ ما هَبَّتِ الصَّبا

إذا كنتمُ في الرَّبْع قَرَّتْ بقربه ... وقلتُ له يا رَبْعَ مَيَّةَ مرحبا ولا مرحباً بالرَّبْعِ لستم حُلُولَه ... ولو كان مُخْضَلِّ الجوانب مُعْشِبا ومنها: صَبَوْتُ إليكم غيرَ طالبِ ريبةٍ ... ولا غَرْوَ إِنْ قال العَواذلُ قد صَبا وأَلَّفْتُ بينَ الشَّوقِ والصَّبرِ عنكُمُ ... فما اجتمعا بل كان شوقُك أغلبا ولمّا سألتُ القلبَ سلوةَ حُبِّكم ... وشاورتُه فيما أُحاوِلهُ أبى ومنها: وما استطعمتْ نفسي طعاماً بلذّة ... ولا استعذبتْ من بَعْدِ بُعْدِك مَشْرَبا فيا منتهى الآمالِ يا منتهى المُنَى ... أُردِّدُها حتّى أَهِيمَ وَأَطْرَبا تَوخَّيْ كتابي وابْعَثي لي رسالةً ... كتاباً بليغاً عن كتابك مُعْرِبا وأنشدني أيضاً لوالدته الرشيدة هذه من قصيدة أولها: عُوجا علي أرضهم غداً ولِجا ... والْتَمِسا لي من حبّهم فَرَجا ثُمَّ اسألا عنهم الدِّيارَ عسى ... تُظهِرُ لي من جوابها حُجَجا

ومنها: لا تمدَحَنْ غيرَ مَنْ تُجَرِّبهُ ... فرُبَّما يستحقُّ منك هِجا فكم دخيلٍ بغيرِ معرفةٍ ... غير عليمٍ بأنَّهُ خَرَجا واصْبِرْ لصَرْفِ الزَّمان محتسِباً ... بما طواه الزَّمانُ وانْدَرجا لا تُؤْكَلُ القِدرُ غيرَ ناضجةٍ ... وجادَ أكلُ الطَّعامِ إِن نَضِجا ولها أنشدني ولدها علي العبدي: تضايقتِ الأُمورُ فَدَتكَ نفسي ... بلا شكوى ويُوشِكُ أن تَضيقا إذا أعياك أمرٌ في مُهِمٍّ ... ولم تلحقْ لمخرجه طريقا فثِقْ باللهِ فارِجِ كلِّ هَمٍّ ... وسَلْ من بَعْدِ ذالِكُمْ الصَّديقا وأنشدني أيضاً ولدها علي لها: دَعْ سالفَ الأمواتِ لا تَبكْهِمْ ... وابْكِ على نفسك يا جاهلُ ما أنت بالخالد من بعدهمْ ... أنت على آثارهم راحلُ وأنشدني لها ولدُها مَرْثِيَةً: أقولُ ولم أبلُغْ نهايةَ فضلِها ... بكاك ويبكي الوالدُ المتندِّمُ

تشيرُ فلا يَعْيا الصَّواب برأيها ... يَعِزُّ علينا كيف تُنسَى وتعدمُ وإِن تَكُ قد ماتت لنا أُسوةٌ بمَنْ ... مضى قبلَها فيما يُظَنُّ ويُعلَمْ وفاطمةُ الزَّهراءُ بنت مُحَمَّد ... عليها سلامُ الله ماتت ومَرْيَمُ

الأديب أبو علي بن الأحمر البصري

الأديب أبو علي بن الأحمر البصري كتب لي نسبه، وهو: أبو علي الحسين بن أبي منصور، بن حامد ب أبي علي، بن مقلد، ابن الأحمر التميمي. من ولد عاصم بن عمير الحماني. شيخ كبير السن والقدر، غزير الأدب، وقاد الفكر. شعره متكلف جيد، كشعر الأدباء. لكنه متبحرّ في فنّه. أديب، أريب. عربيّ النجار، تميمي الفصاحة.

كان يتردد إلي مدة كوني بالبصرة. وله رواية عالية بمجمل اللغة، وقرأ عليه بعضه. فمما أنشدني من شعره، سنة ثمان وخمسين وخمس مئة، بالبصرة، ما كتبه لي بخطه في مدح بعض القضاة: سلَبَتْ فؤادَك ذاتُ جِيدٍ أَغْيَدِ ... كالصُّبح تسحَبُ ذيلَ فَرعٍ أسودِ غَرْثَى الوِشاحِ نبيلةٌ أردافُها ... كالظّبي فاقَ بحسن جِيدٍ أَجْيَدِ لمّا نواك خَيالُها بزيارة ... كذَبَ الخَيالُ وما وفى بالموعدِ يا سعدُ هل أنتَ الغَداةَ على الَّذي ... أَلْقاهُ من أَلَم التَفرُّقِ مُسْعِدي

ليتَ الحَمائلَ إِذْ وَخَدْنَ بدَلَهِا ... رُمِيَتْ قوائمُها بسهم مُصْرِدِ فلقد نَهَبْنَ رُقادَ عيني بَعدَها ... ورمينني بسُهادِها في المَرْقَدِ أأمَيْمُ هل يشفي بوصلك مغرمٌ ... في اليومِ يُلْفَى ميّتاً أو في الغدِ نَزَحَ البكاءُ دموعَه فأمَدَّه ... بدم على الخدَّيْنِ جارٍ مُزْبِدِ يَهْواكِ مثلَ هوى ابنِ فضلٍ ذي العلى ... قاضي القُضاةِ نَداه للمسترفدِ ومنها: إِيهٍ أبا يَحيى الَّذي أوصافُه ... شرُفَت بمجدٍ بالفخارِ مُعَمَّدِ أنت الّذي بعلومه في دهرنا ... إِنْ أَظلمت طُرُقْ المسائلِ نهتدي ومنها: قد قُمتَ إِذْ قَعَد الجميعُ عن النَّدَى ... وعن الفَخار وكسبِه لم تقعُدِ وسبَقْتَهم لمّا جرَيْتَ إلى العلى ... وبأيِّ فعلِ فضيلةٍ لم تُحْمَدِ

أَقسمتُ لو تبغي النّجومَ مُغالِباً ... لقَبَضْتَها لكريم خِيمكِ باليدِ ومنها: ولأَنتَ في هذا الأنام مكارماً ... يا ذا المعالي مَنْهَلٌ في فَدْفَدِ ولقد أَتانا من قَريضك مُؤنِق ... كالنَّوْر بين مُفَضَّضٍ ومُعَسْجَدِ حِكَمٌ متى تُنْشَدْ قوافي فضلِها ... تحسُنْ بها أَلْحانْ ذاك المُنْشَدِ ولك الفتاوى في العلوم فَقَاهةً ... وخلائقٌ تُنْبِي بطِيب المولدِ ما رَبَّتِ الغَرّافُ مثلك عالماً ... فاق الأنامَ بكلّ جَدٍّ أَصْيَدِ فاعذُرْ صديقَك يا ابنَ فضلٍ إِنَّه ... كلَّتْ عليهِ خطوبُ دهرٍ مُعْتَدِ

أبو العباس يحيى بن سعيد الطبيب النصراني البصري

أبو العباس يحيى بن سعيد الطبيب النصراني البصري له معرفة بالأدب رائقة، ونظم صالح، وشعر جيد. وقد عمل ستين مقامةً على منوال المقامات الحريرية، ورأيتها معه، وقد زوقها، قصر فيها، على أنه ما يبلغ شأو ابن الحريري.

كان يتردد إلي للتطبب، حيث كنت في البصرة، ومدحني بقصائد. وأنشدني لنفسه في الشيب: نفَرَتْ هِندُ من طلائع شيبي ... واعترتها سَآمة من وُجْومي هكذا عادةُ الشّياطينِ يَنَّفِرْ ... نَ إذا ما بدتْ نُجومُ الرُّجُومِ وأنشدني أيضاً لنفسه من قصيدة: قَسَماً بسُكّان العَقيقِ وحاجِرِ ... مُذْ غِبْتَ ما لاذَ الرُّقادُ بخاطري وإِذا أَلَمَّ فما يُلِمُّ بمُقْلَتِي ... إلا طَماعِيَةً بطَيْفٍ زائرِ سَلْ صادحاتِ الوُرْقِ عن كَلَفِي بمن ... ضَمَّت تِهامةُ فَهْيَ عينُ الخابرِ وإذا نطَقْتُ فأنت لفظُ مقالتي ... وإذا سكَتُّ فأنت سرُّ الخاطرِ ما غابَ عن نظر المَشُوقِ ولا نأى ... مَنْ ظَلَّ بين جوانحٍ وضمائرِ

أترى سيوفَ الهِند في أغمادهم ... للحرب طبعَ نواظرٍ ومحَاجِرِ وإذا الوِصالُ أفاد ما يُنمي الجَوى ... والوجدَ فَهْوَ السُّمُّ في يدِ شائرِ حقّقتْ مُذْ وَقَعَ الفِراقُ سأَنثني ... عن وقع بَيْنِهِمْ بلُبٍّ طائرِ ودَّعْتُها والصَّبرُ يَطْوي حائناً ... والصّبرُ وافِي العهدِ في يد ناشرِ وغرامُها للبَيْن في يدِ ناظمٍ ... وعقودُها لِلْهَمَ في يدٍ ناثرِ ومن جملة شعره الذي أودعه المَقاماتِ في حكاية شيخ وغلام، ترافعا إلى القاضي قوله عن الشيخ: أنشدني لنفسه: أيُّها الحاكمْ الذي ... فاقَ في الفضل واللُها والّذي تسجُدُ الجِبا ... هُ لِما فيه من نُهَى أنا علّمتُه العلو ... مَ ولقّنتُه الدَّهَا وتناهيتُ في التَّهَ ... ذُّب حتَى إذا انتهى.. .. لم أزل مُحضِراً له ... كلَّ ما اختار واشتهى

فَمُذِ امتدَّ باعُه ... سارَ في الأرض وازدهى لا يُراعي حقوقَ مَنْ ... عَقْدُ آمالهِ وَهَى وقوله جواب الغلام: يا أيُّها القاضي الَّذي ... فاق الورى عن غُزْرِ فَهْمِ وسَحابُ نائِله على ... أهل الُّدنا في الجَدْب يَهْمي لا تَحْمَدَنْ عُوداً يَسْ ... رُّك ظاهراً من غير عَجْمِ لا تَرْوِ بَتَّ خُصومةٍ ... وحكومةٍ عن فَرْدِ خَصْمِ يَرمِي فيُصْمي مَقْتَلِي ... وإِذا رَمَيْتُ يَطِيشُ سهمي ما فُهْتُ قَطُّ ولا أَفُو ... هُ ولو بَغَى يوماً بشَتْمِ لكنّه ختَمَ الجمي ... لَ وما أفادَ بفَرْط ظُلْمِ رامَ البِعادَ ولم يَسِرْ ... في مطلع الآدابِ نجمي وبقيت رَجْماً للجما ... عة والعِيافة أيَّ رَجْمِ

أشكو الطَّوَى ومدامعي ... من شُحَها للشَّأْن تُدمي وبَقِيتُ خمساً لا أذو ... قُ الزادَ من خَضْمٍ وقَضْمِ وجميعْ ما قد حُزتُهُ ... بينَ الورى من فَرْط حزمي فاللؤلؤُ المنظومُ والمن ... ثورُ من نثري ونظمي فاحكُمْ فحكمُك في البَرا ... يا والقضايا خيرُ حكمِ وقوله في أخرى: بُنَيَّ ... على الأرض لا تَثْبُتَنْ ... وفُقْ كلَّ من جالَ أرضاً وجابا وخَلِّ نديمَك في الاغترابِ ... عُكَيْكِيزَةً ترتضى والجِرابا ورُزْ زُمَرَ العلمِ لا تحتقرْ ... مشايِخَهُ في الورى والشَّبابا وأَرهِفْ لفهمك سمعَ النُّهَى ... وقِفْ لمَراضي البرايا انتسابا ولا تَدَعِ النَّصْبَ حتّى تَحُوزَ ... بفنّك من كلّ مالٍ نِصابا وَأنَّى عثرتَ بعيب فكن ... لبيباً إذا ما رأى العيبَ غابا فَذُو الحزمِ أَنَّى رأى زلَّةً ... ولم يُمْكِنِ الكفُّ عنها تغابى

وقوله: إِنَّ الشَجاعةَ صبرُ ساعَهْ ... فازجُرْ عن القلب انخداعَهْ واقنَعْ بما سَنَّى الإِل ... هُ فخيرُ ما صُحِبَ القناعَهْ وقوله من أبيات: هذا زمانٌ يسودُ فيه ... من جاء بالمكر والدَّهاءِ ومَنْ أرادَ الصَّحيحَ منه ... ينوشُهُ لَهْذَمُ العَناءِ وقوله في مقامة أخرى: بِحِمى الفَيْحاء قَومي ... عَدِيدِي وأناسي وبها مَرْبَعُ أفرا ... حي وَأطرابي وكاسي لستُ ما عِشتْ لعيشي ... في مَغانيها بناسي كيف لا وَهْيَ مَقَرِّي ... وبها مسقَطْ راسي قادَني للضَّيْم مِقدا ... رٌ غدا حِلْفَ شِماسي

وَألانَ الدّهرُ بالغُرْ ... بَةِ من شدّةِ باسي وكم خَتَلْتُ الظَّبْيَ والظَّبْ ... يةَ في ظِلِّ الكِناسِ وأرى الأيّامَ تجري ... بينَ لِينٍ وشِراسِ إنما تجري المَقادِي ... رُ على غير قياسِ وقوله في أخرى: كن حازماً في الدّهر لا ... تَرْكَنْ إلى أحدٍ للِينِهْ فالليثُ يجتابُ الفَلا ... سَغبَاً ويكمُنُ في عَرِينِهْ مَنْ يحفَظُ اليومَ الوِدا ... دَ ومَنْ يَحِنُّ إلى قَرِينِهْ أو مَنْ يفكِّرُ في المَعا ... دِ نُهىً ويخطِرُ في يقينِهْ وأخو النَّدَى يشكو الظَّما ... أَتَي وَرَدْتَ على مَعينِهْ زَمَنٌ تَذِلُّ أسودُهُ ... لِضباعه وضِعافِ عينهِ

الأمير حسام الدولة أبو الغيث محمد بن المغيث بن حفص الحنفي

الأمير حسام الدولة أبو الغيث محمد بن المغيث بن حفص الحنفي من أمراء ربيعة بالبصرة. أباً لغيث الماطر، تشبيه أبي الغيث في غزارة الخاطر؟ أم بالليث الخادر، تمثيله في بسالته القاسرة للقساور؟ كان من أمراء العرب والعربية، شاعراً مُجيداً مفلقاً. بذَّ أهل مدرته في نظمه ونثره، وجزالة شعره، ورقة قوافيه، ودقة معانيه. أنشدني ولده بركة، وهو شاب فاضل كثير الأدب غزير الفضل، بالبصرة، في شهر ربيع الأول سنة ثمان وخمسين وخمس مئة، وكتب لي بخطه هذه الكلمة من شعر والده، من غزل قصيدة طويلة:

أرى الغانياتِ نَكِرْنَ النَّكِيرا ... وأعرَضْنَ عن مُخْلِسِ الرّأسِ زُورا وعاصَيْنَ شيبي وكنتُ المُطا ... عَ أَيّامَ كان شبابي أميرا وقالت سُلَيْمى أتاك الوَقارُ ... وما يمنَحُ الوُدَّ إلا غَرِيرا بما يا سُلَيْمى إذا ما مَرَرْتِ ... بَتَكْتِ العُرا وهَتَكْتِ السُّرورا ونازعتِ لا ترقُبِينَ الرَّقِي ... بَ نَحْوِي ولا تَرْهَبِينَ الغَيُورا لقد جُرْتِ في هِجرتي والجي ... بُ لا يُكْمِلُ الظَّرْفَ حتّى يجورا أتَنْسْنَ أيّامَنا بِالسَّدِيرِ ... سقى اللهُ بالمُعْصِرات السَّدِيرا وأنتِ تَرَيْنَ الزَّمانَ الطويلَ ... إذا فُزْتِ باللهو منّي قصيرا وما حالَ إِلا سوادُ العِذارِ ... ولا زادني الشَّيبُ إلا غرورا

وعندي من الجهل لو تعلَمي ... نَ ما يخلَعُ العقلَ إِلا يسيرا أرى أقربَ الصَّحْبِ منّي الغُواةَ ... وأغلى الشَّرابِ عليَّ العصيرا وَأوْلى المَجالسِ لي أَنْ أُرَى ... لمُطْرِبةٍ بينَ دَنَّيْنِ زِيرا يُرَنّحِهُا الدَّلُّ سُكراً عليَّ ... فأَنشَقُ من عارِضَيْها عَبِيرا وَأرشُفُ من رِيقها بارداً ... بِفِيَّ وفي صَدْعِ قلبي سعيرا وقالت سُلَيْمى متى سُمْنَهُ ال ... تَّصَابيَ أَرْخَى لهنَّ الجَريرا يُعاني وراءَ العيونِ العيونَ ... ويُجْشِمُ دُرَّ الثُّغورِ الثُّغورا

طلَعْنَ شموساً فَرُمْنَ الغروبَ ... حِذارَ العُلى وسَبَلْنَ الشُّعورا ومِسْنَ غصوناً أحالَ النَّعِي ... مُ أوراقَهنَّ لعيني حريرا يُفِدّينَ زهراءَ مثلَ الغَزا ... لِ يأبى من الإِنْس إلا نُفورا أَراها فيحُدِثُ لي وجهُها ... على القلب ناراً وفي الطَّرْف نُورا خَلِيلَيِّ هل يُكْتَرى لي كَرىً ... لَعَلَّ خَيالاتِها أَن تزورا لَعلَّ المنامَ يُداوِي الغرامَ ... بوصل الحبيبِ ولو كان زُورا ومن مدحها: لك السَّيفُ والقلمُ الأَعْلَيا ... نِ تَرُبُّ بهذا وذاك الأُمورا فذا إِن برى لم يَفِلْ شَرُّه ... وذا إن جرى قالَ دُرّاً نَثيرا يفُضُّ الكتيبةَ منك الكتابُ ... كأنَّك بالرُّعبِ تُنشي السُّطورا

وأهدى إلي ولده كُراسة بخط والده من شعره، ورواه لي وفيها: له وأنشدني أيضاً علي العبدي عنه: سقانيَ برداً صدَّعَ الثَّغْرَ بردُه ... وأودعَ قلبي حينَ صافحه جمرا فَبِتُّ أرى عمري الّذي فاتَ ليلةً ... وليلةَ وَصلي في زيارته عُمرا فلو مات سكراناً من الرِّيق عاشقٌ ... لَمْتُّ وقد أسرفتُ من ريقه سكرا فيا ليلُ طُلْ لي قد ظفِرتُ بمُنْيَتي ... ويا صبحُ لا تبعَثْ إلى ليلتي فجرا وأنشداني من قصيدة طويلة وكتبها بخطه: حِدْ ولُمْنِي يا عاذلي مثلَ وَجْدي ... أو تَرفَّقْ فليس عَذْلٌ بمُجْدِ لا تَكِدْ لي فالعينُ عيني إذا أَس ... خَنْتُها بالبكاء والكِبْدُ كِبْدي لم يضمَّنْ قلبي وقد مزج الشو ... قُ دموعي في رَبْع سُعْدَى بسَعْدِ أَسْبِل الدَّمْعَ مَسْقَطَ العِقْدِ بالسِّق ... طِ وَأبْرِدْه في مَجَرّ البُرْدِ

خَلِّ لومي إِنْ كنت خلِّي وَأنْجِدْ ... ني على نحب كلِّ رَبْعٍ بِنَجْدِ هذه دارُها فأين الظِّباءُ الْ ... إنْسُ فيها أَلْوَى بها الدَّهرُ بعدي قد دهاني من بينِ سُعْدَى فهل أَنْ ... تَ مُعِيني ما هوَّنَ الهجرَ عندي أيُّ شيءٍ في الحبِّ أَفنتَكُ للمَعْ ... شُوق بالصَّبّ من نَوىَ بعدَ صَدِّ وبخطه أيضاً أنشدانيه: أَتُراكم استوحشتُمُ لمَفارِقٍ ... أمسى لِوَشْكِ فراقِكم مستوحشا ضَمِنَ الهوى قلباً وفَتَّ من الجَوى ... كَبِداً وحرَّقَ من لَظَى شوقٍ حَشا فلَو أَنَّ ما يَلْقَى من البُرَحاء في ... حَجَرٍ صَغا أو مُقْعَدٍ زَمِنٍ مشى وأنشدني له أيضاً وكتبته من خطه من قصيدة في مدح الأمير

أبي سنان، محمد بن فضل الله بن عبد الله بن علي صاحب البحرين: قِفا تُسْعِدا في رَبع هند على الهوى ... حزيناً عليه لم يُلِمِّ به عهدُ ألا حَبَّذا تلك الرُّبا بِمُحَجّرِ ... وذاك الكَثيبُ الفَرْدُ والأجْرَعُ الفَرْدُ ويا حَبَّذا جَرّي على الأرض مِئْزَراً ... تَضَوَّعَ من أهدابه الشِّيحْ والرَّنْدُ ولمّا أَمَرَّ الحيٌُّ عنّيَ أمرَهُ ... وشَطَّ بهندٍ أَنْ أُراوِدَها البُعدُ ووَلَّوْا وما أَسْدَوْا يداً عندَ عاشقٍ ... ولا شُدَّ في شرع الهوى لهمُ عَقْدُ وقد بقِيت في نفس يعقوبَ حاجةٌ ... ولم يَقْضِ زَيْدٌ منهمُ وَطَراً بعدُ

ظنَنْت بقلبي سلوةً فإِذا الهوى ... يَزيدُ وحامي شوقِها منه يحتَدُّ فلا غَرْوَ أَنْ خانت وفيّاً خريدةٌ ... ولا عجَبٌ أَنْ لا يَصِحَّ لها وعدُ وفاءُ الغَواني للشَّباب فإِنْ بدا ... لهنَّ مَشيبٌ منك أعرضنَ إِذْ يبدو ترى البِيضُ بِيضَ الشَّعْرِ في الرَأس وحشةً ... ويَقْرُبْنَ منه البِيضُ إذْ مُسْوَدُّ

فيا عَجَبا يَنْفُرْنَ عن ذي قرابةٍ ... شبيهٍ ويُدنيهِنَّ من وصلها صَدُّ ومن مديحه: أَمِيلا صُدورَ العِيسِ نحوَ محمَّدٍ ... فثَمَّ الجَنابُ الرَّحْبُ والكَرمُ العِدُّ أَميلا فمن بحر الأمير محمَّدِ بْ ... نِ فضلِ بْنِ عبد اللهِ يُستعذَبُ الوِردُ ونِعْمَ مُناخُ الرَّكْبِ بابُ محمَّدٍ ... إذا ضَنَّتِ الأَنْواءُ وامتنعَ الرِّفدُ فما بعدَ أن تُلقي إليه رِحالَها ... يَمَسُّ ولا رُكبْانَها أبداً جَهْدُ هُمامٌ إليه يُنْسَبُ السَّرْوُ والنَّدَى ... فيلقاهما في عرضه الشّكرُ والحمدُ له عندَ تقطيبِ الوجوهِ طَلاقةٌ ... إلى الرّاغبِ الرّاجي ومَكْرُمَةٌ شُكْدُ

وله وأنشدنيها وكتبتها نم خطه. فمنها، في وصف الفرس: يعدو به طِرْفٌ أَقَبُّ كأنَّه ... وَعِلٌ تَوَقَّلَ في مَزَلِّ صعودِهِ متمطِرٌ كالسِّيدِ أصبحَ طاوياً ... فارتادَ يَعْسِلُ مطمعاً في بِيدهِ وبعده: إن جرَّدَ الهِنديَّ يومَ كريهة ... فالموتُ يحسُدُه على تجريدهِ أو جَرَّ خَطِّيّاً كأنَّ سِنانَهُ ... رَجْمٌ شَرِي فهوَى على مِرِّ يديهِ مشروعة في قلب ثُغرةِ بُهْمَةٍ ... يومَ الوَغَى أوحشي حبلِ وَرِيدهِ

وفيها: وأبْيَضَّ وجُهك في زمان أعربت ... بين الأَشائمِ بِيضُه في سُودهِ وفيها: رَحْبُ الفِناءِ تَرى الضُّيوفَ ببابه ... حِزَقاً كأَسْرابِ القَطا لوُرودهِ يَلْقى العُفاةَ بفضلٍ من نَيله ... قبلَ السؤالِ وعاجلٍ من جودهِ وترى به النُّوّابُ عندَ لِقائه ... مَرْأَى هِلالِ الفِطرِ ليلةَ عيدهِ وله: الكَيْسُ لا يَجْلُبُ رزقاً ولا ... يمنَعُ منه قلَّةُ الحِيلَهْ واللهُ جَلَّ اللهُ في ملكه ... يَقْسِم للذَّرَّة والفِيلَهْ فاقنَعْ ولا تَجْشَعْ فما قدرةٌ ... تَزِيدُ أو تنقُصُ في كِيلَهْ وكتبت في خطه الذي أهداه لي ولده، ورواه: أنشدت بيت (العباس بن الأحنف) :

لها روحي الغَداةَ وروحُها لي ... فنحن كذاك في جسدينِ روحُ فقلت: فلا بُعدٌ يُغيِّرُنا لِودّ ... ولا سِرٌّ لنا أبداً يبوحُ نروحُ كما اغتدينا في صفاء ... ونغدو في الصَّفاء كم نروحُ وله من الخمريّات نقلته من خطّه أيضاً: عوفيت من حُرَقي ومن أشجاني ... ورجَعْت عن عشقي إلى سُلْواني وأطَعْتُ فيك عَواذِلي وتملّكت ... أيدي الوُشاةِ العْائِبِيكِ عِناني إِن كنتُ خُنْتُكِ في المغيب بلحظة ... من ناظري أو لفظة بلساني قَسَماً أَبُرُّ به إليكِ وإن يكن ... ريبٌ حلفتُ لكم يميناً ثانِ

يا هندُ لا حمَلَتْ ثلاثُ أَنامِلي ... كأساً وأرعشتِ القِداحُ بَناني وبحلت في حدر القِيانِ وصاحَ بي ال ... نَّدْمانُ يا بَرَ ما على النَّدْمانِ إن كان سِرُّكِ ذاعَ مُذْ أوْدَعْتُه ... قلبي وبُحْتُ به إلى إنسانِ أُخفِيه عن فِكّرِ الضَّمير فتعتلي ... من دُونهِ محجوبةً بصِيانِ ويَحِلُّ حيثُ يُرَى السُّرورُ مُوَلِّياً ... عنه ومطَّلِعاً على الأضغانِ وحلاوةُ النِّعَم الجِسامِ وضَجَّة ال ... نّاياتِ تبهَرُ ضجَّةَ العيدانِ وجلالةُ الخمّارِ يخرُجُ رائعاً ... في مَسْحَة من ظلمة الدُّكانِ

وبِطانُه حولَ الدِّنانِ لِتتَّقِي ... من سَوْرة الصَّهباءِ بالأَقْرانِ وبروزُها مثل الشُّعاعِ تَميسُ في ... حُلَل من الياقوت والمَرْجانِ صفراء ما مُزِجتْ فإِنْ باشرتَها ... صِرفاً أتتك شَقائقُ النُّعْمانِ تَهْوَى النِّكاحَ وتختشي من بأسه ... فتَظَلُّ تُرْعَد رِعدةَ السَّكرانِ فِإذا أراقَ الفحلُ فيها ماءه ... جَعَلَتْ تُكِبُّ على لسان الزّاني مبسوطة السُّلطانِ إلا أَنَّها ... كِسْرَى قُباذَ ولا أَنُوِشَرْوانِ ولها الشَّجاعةُ لا ابنُ كُلثومٍ يُسا ... مِيها ولا شَهْلٌ فتى زِمّانِ

حتى تَتِيهَ ولا تزالُ بتِيهها ... تُفضي مراتبُها إلى النُّقصانِ وترومُها الخُلَعاء من متطايب ... فَكِهٍ ومن متمسخرٍ صَفْعانِ وتزيدُ في حدِّ الخلاعة أو تُرّى ... في رتبة الصِّبْيان والنِّسوانِ وبحِلْمها وبجهلها قَسَماً أرى ... عندي له فضلاً على الأَيْمانِ ما حَلَّ قلبي غيرُ حِبّكِ فاعْلَمي ... يا هندُ عِلماً واضحَ البرهانِ ولنَظْرَةٌ منّي إليكِ على الَّذي ... ألْقاه من صدّ ومن هِجرانِ أشهى إليَّ من الشّفاء إلى أخي ... مرضٍ ومن ماء إلى عطشانِ وله أيضاً بخطه: لقد ضَمَّ قلبيّ شوقٌ إِلَيْ ... كِ لو ضَمَّهُ حجرٌ لانْفَرَقْ

ولو مازج الماءَ في الزَّمْهَرِي ... رِ من حرّه لاَلْتَظَى واحترقْ وله بخطه أيضاً: قالا نراك ولم تَغِبْ عن داره ... يومينِ قد أوهَى قُواك فِراقُهُ قلت اعذُرا في الوَجْد دُفْتُ لبَيْنِهِ ... كأساً يُفَتُّ مع المحبِّ مَذاقُهُ فارقتُه وتركتُ قلبي عندَه ... يا صاحبَيِّ فكيفَ لا أشتاقُهُ وله من مدح قصيدة من خطه نقلته: تغايرتْ فيك للعلياء وائْتلفتْ ... ضرائرٌ وتلاقت فيه أضدادُ حامٍ مُبيحٌ مُفيدٌ مُتلِفٌ مُقِرٌ ... حُلْوٌ عَفُوٌّ سريعُ الحَلِّ سَدّادُ وبخطه من الخمريات له أيضاً، من قصيدة طويلة: ما شاقني حاتِمٌ ولا صُرَدُ ... ولا شجاني رَبْعٌ به وَتِدُ

لولا نويت الوقوفَ في عرص ال ... دّار عليها السَّرابْ يَطَّرِدُ والعِيسُ في البِيد لا أُكلّفُها ... تُعْنِقُ بي راكباً ولا تَخِدُ لا أَمتطي في الفَلا الجَدِيلَ ولا ... تنقُلُ رحل عَيْرانَةٌ أجُدُ لم تُبْكِ عيني دارٌ بكاظِمة ... ولا استباني العَلْياءُ والسَّنَد ما لي ولِلمَهْمَهِ القِفارِ وقد ... جمَّعَ لذّاتِ عيشِنا البلدُ أُصبِحُ بينَ الصِّحابِ مُنتشياً ... من خمرة كالشُّعاع تَتَّقِدُ قد عَبِقت في دِنانها ومضى ... لها وما فُضَّ ختمُها أَبَدُ روى لنا القسُّ حين ناظَرَنا ... فيها وثارَ الجِدالُ واللَدَدُ

أنَّ أبا جَدِّه وكان بها ... يَضِنُّ عن مثلنا إذا رقَدْوا أفضى إلى ابن ابنه بأنَّ لها ... في الدَّنّ مُذْ كان بيضةً لُبَدُ فحينَ أبدى لنا سرائرها ... حُلَّت لنا من نُقودنا العُقَدُ وقام يمشي مُحْدَوْدِباً وعلى ... عصاه بينَ الدِّنانِ يعتمدُ ثُمَّ تَوخَّى بمنزِلٍ معه ... فؤادَ دَنٍّ لرُوحه زَبَدُ فأقبلت كالدَّم المُراقِ فهل ... رأيتَ دَناً يا صاحِ ينفصدْ وضاعَ في البيت نَشْرُ رائحةٍ ... يهرُبُ منها الزُّكامُ والرَّمَدُ وابتدر القوم بالرَّقِين وبال ... عَسْجَد لا يحفْلون ما وجَدوا

وكالَنا مسرعاً وصاح هَيَا ... عجوزُ نادي الغلامَ ينتقدُ فجاء بدرٌ يُقِلُّه غُصُنٌ ... يكادُ ليناً إِنْ ماسَ ينحصدُ فقبَضَ الشَّيخ مَهْرَ خمرتِه ... وقد دهاني من حبّه الكَمَدْ فقلتُ قُمْ يا غلامُ نرتضعِ ال ... كأسَ فكلُّ لِثَدْيها وَلَدُ ولم أزَلْ بالكلام أَخلُبُه ... يقرُبُ منّي طوراً ويبتعدُ حتّى سخا بالوِصال عن بَخَلٍ ... والمرءُ فيما يهواه يجتهدُ وقام يسعى بكأسها رَشَأٌ ... مسلَّطٌ ما لِعَمْده قَوَدُ يُديرُ من طَرْفه ومن يده ... خمرَيْنِ ينحاز عنهما الرَّشَدُ ومن رُضابٍ بفِيهِ ثالثةً ... تجري بثَغْر كأنّه بَرَدُ إذا حذا بابْنَة العصير فمي ... أقبلتُ بابْنِ العصيرِ أَبْتَرِدُ أَلْحَظُهُ وَهْوَ مُطرِقٌ خجِلٌ ... يَكسِرُ من لَحْظ عينهِ الحَرَدُ والقومُ قد صاحت المُدام بهم ... مُوتُوا فإِنّي لقتلكم صَدَدْ وقد تمشّت فيه الشَّمُولُ فما ... له على شُرْب كأسِها جَلَدْ ولا لسانٌ له فيُسْمِعني ... قولاً ولا للدِّفاع عنه يَدُ

وقلت قُمْ يا غلامُ قد سكِر ال ... رُّفقةُ وارقُدْ فالنَاسُ قد رَقَدُوا فقام يُومي نحوي بإِصْبَعهِ ... لا تَجْنِ ذنباً لم يَجْنِهِ أحد فجئتُ أحبو إليه ليس يرى ... صُنْعيَ إلا المُهَيْمِنُ الصَّمَدُ وكان منّي ما لا أُفسِّرُهُ ... والقومُ مثلُ الجُذوعِ قد خَمَدُوا ذلك دهرٌ مضى نَعِمْتُ به ... والمرءُ يَشقَى حيناً ويرتعدُ وكُلُّ يومٍ لبِست جِدَّتَه ... يَمضي ويأتي بما سِواه غَدُ قد وَعَظ الشَّيبُ فانزجرتُ له ... وكان منّي الخلافُ والفَنَدُ وثابَ حِلْمي فصِرتُ أنكِرُ ما ... كنت إليه أسعى وَأحْتَفِدُ وله من غزل قصيدة نقلها من خطه أيضاً: أَلَمٌّ برَحْلي بعدَما هَجَع السَّفْرُ ... خَيالٌ سرى عهدي بإِلمّامه عُفْرُ وأَهدى إليَّ المالكيَةَ في مِنَى ... لقد بَعُد المَرْمى ومنزلُها العَمْرُ

وما زارَ منّي الطَّيْفُ إلا حُشاشةً ... براها النَّوَى والقربُ والوصلُ والهجرُ وباتت تجلّى لي مَعانٍ يَزْفُّها ... إليَّ الكَرَى والذّكرُ والشَّوقُ والفكرُ وأصبح عندي خفّة ظَنَّ صحبتي ... وقد أنكروا أَشراطَها أَنَّها ذُعْرُ ويُقسِم لي عمرو وقد شَمَّ مِطْرَفي ... لقد بات في دارِينَ أو مَسَّه عِطرُ نَعَمْ أودعته الطِّيب كيف تولَّعت ... بأهدابه في آخرِ الليل يا عمرو يخاف النَّوَى بالحلف قلبي صَبابةً ... ويَنْفِرُ رُعباً كلَّما رَمَلَ السَّفْرُ رمى الوفدُ أفرادَ الجِمار وقد رمى ... جنوناً بِلَيْلَى حَرَّ أحشائيَ الجمرُ وحَجُّوا وحجّت كعبة الحسن همّتي ... فهل لذنوبي عندَها في الهوى غَفْرُ ألا هل مُجيرٌ من ضَنَى أُمِّ سالم ... وما عُذْتُ إلا حينَ أسلمني الصَّبرُ

وله من قصيدة وكتبتها من خطه أيضاً: مَغانٍ لِسَلْمَى أقفرتْ ورُسومُ ... عَفَتْهُنَّ أرواحٌ جرت وغُيومُ وَقَفْتُ بها بينَ القَليبِ فراكسٍ ... قِلاصاً عليها لائمٌ ومَلْومُ فمَنْ مُسعِدٌ لي بالبكاء وزاجرٌ ... له في خلافِ العاشقينَ عَزِيمُ فريقانِ أَمّا من أخافُ فراحلٌ ... مُجِدٌّ وَأَمّا ذو الهوى فمقيمُ فلمّا تَبيَّنّا الدِّيارَ كأنّها ... مَهارقُ من طول البِلى ورُسومُ عَرَفْت برَبْع العامريَة معهداً ... وعهدي به لولا الغرامْ قديمُ فأذكرني دهراً مضى لي بقُربه ... سَقِيٌّ ولم يُحْزَنْ عليه سَليمُ لياليَ غُصني ناضرٌ ومؤَنَبي ... عَذِيرٌ وعيشي في الشَّباب نعيمُ

وسَلْمَى إذا ناديتُ سَلْمَى مجيبةٌ ... ولو غارَ ذو قُرْبَى لها وحَميمُ وما روضةٌ باتت وللطَّلّ فوقَها ... عيونٌ لها بينَ الكِمامِ سُجومُ وأضحت وأنوارُ الأَقاحِ كأَنّها ... قَسِيمةُ تَجْرٍ بالعِراق تسومُ بأحسنَ من سَلْمَى إذا ما نظرتُها ... وقد حانَ من شمس النَّهار وُجُومُ وَأطْيَبَ منها نفحةً إِذْ تحرَّكَتْ ... فيأتيك بالمسك الفَتِيق نسيمُ وما نُطفةٌ من ماء مُزْن ترقرقت ... على قُنَّةٍ تصفو بها وتدومُ قَرَعتُ بها صَهْباءَ جوَّدَ عَصْرَها ... وتعتيقَها جَوْفَ الدِّنانِ حليمُ أتت دونَها الأَيّامُ أَما نِجارُها ... فباقٍ وَأمّا جسمُها فرَمِيمُ

ومازَجَها ماذِيُّ مسكٍ حبا له ... من الصَّحْر عَسَالُ اليدينِ عليمُ ترى من طِعان الدَّنِّ وَهْوَ مُصَمِّم ... إليها على كِلْتا يَدَيْه كُلومُ بأعذبَ من أَنْياب سلمى إذا بدت ... إلى الغَوْرِ أَعقابَ النُّجوم تعومُ وإنّي وسلمى بعدَ ما طالَ هجرهُا ... وشطَّتْ بها بُزْلٌ لهنّ رَسِيمُ كذي ظمأٍ يبدو له لَمْعُ بارقٍ ... بقيظٍ فيرجو وَدْقَهُ ويَشِيمُ فيا قلبُ كان الجهلُ والشَّعرُ فاحمٌ ... يَطيب وأفراخُ الشَّبابِ جُثومُ فأَما وقد شاب العِذارُ وأصبحت ... لِداتي على ما استحسنته تلومُ فخَلِّ الهوى وارجِعْ حميداً عن الخَنا ... فإِنَّ التَّصابي بالشيُّوخ ذَميمُ وفي الدَّهر لي عن لذَة اللهو شاغلٌ ... ومن مَضْجَع الأمرِ الوطيءِ مُقيمُ

ومن مدحها: هُمامٌ ترى أفعالُه البِيضُ غُرّةً ... تلوحُ بوجه الدّهرِ وَهْوَ بَهِيمْ يَرُبُّ عُلَى موروثِهِ عن جدوده ... وكم من عُلىً ليست لهن أَرُومُ إذا ضَنَّ بالبِشر المُنِيلُ فبِشرُهُ ... بنيل العلى للمعتفينَ زعيمْ وأنشدني له الأديب علي العبدي بالبصرة قال: سمعته ينشد في الوداع: أُوَدّعُ منك بدرَ عُلىً منيراً ... وبحرَ نَدىً يَطُمُّ على البُحورِ وأرحَلُ عن جَنابك لا مَلالاً ... ولا أَنّي طرِبْتُ إلى المَسِيرِ ولكنّ الشُّقورَ بحيثُ أَمضى ... دعَتْ فأجَبتُ داعية الشُّقورِ

الأمير شهاب الملك أبو المرجى بن الدقوقاني البصري

الأمير شهاب الملك أبو المرجى بن الدقوقاني البصري من ربيعة. شاعر مجيد وفاضل مفيد، جياش الخاطر فياض القريحة، حسن الأسلوب. لقيته لما كنت بالبصرة في النيابة الوزيرية، في صفر سنة ثمان وخمسين وخمس مئة، وهو كهل لكل فضيلة أهل. وشعره ممتنع سهل. وتنشأت بيني وبينه مودة. وقطع الزيارة أياماً بسبب ما تخيله من مطالبتي إياه بخراج عليه في ملاك في معاملة الوزير فخذفته عنه. ثم مدحني بقصيدة وكتب بها إلي. ثم حضر بعد ذلك وأنشدنيها:

سَلْ بِالغُوَيْرِ عن الخَلِيطِ المُنْجِدِ ... وخُذِ الحديثَ عن الغزالِ الأَغْيَدِ واسمَحْ بدمعِك في مواطئ عِيسِهم ... كسَماح عُرْوَةَ بالدّموع وعدَدِ واشْجُ الدِيارَ كما شَجَتْك ونُحْ بها ... نوحَ الحمامِ على الأرَاكِ بِثَهْمَدِ راحت بهم خُوصُ الرِكاب لَواغباً ... من كلّ قَوْداءٍ وبَكْسرٍ أَقوَدِ ما رُحْنَ إلا بالبدورِ مضيئةً ... وظِباءِ شعبةَ والغصونِ المُيَّدِ فظَلِلْتُ بعدَهُمُ أَسير صَبابة ... حيرانَ بينَ عزيمةٍ وتجلُّدِ

متجرِّعاً غُصَصَ الكآبةِ والِهاً ... أشكو الشَّجا متشبِّثاً بالعُوَّد لا أستلذُّ كَرىً إذا وَقَبَ الدُّجىَ ... وخَبَتْ على الهَضَابِ نارُ المَوْقِدِ متطِلَباً سهلَ الخليقةِ ماجداً ... ثَبْتَ الدِّعامةِ كالهِزَبْرِ الأَلْبَدِ حتّى أتاحَ لي الإلهُ بلطفه ... لُقْيا العِمادِ محمّدٍ بْنِ محمَدِ العالمُ الحَبْرُ النَّقِيُّ من الخَنا ... الأَرْيَحِيُّ السَّيّدَ ابْنُ السَّيِّدِ مُفتي الزَّمانِ أخو النَّدَى وخَدِينُه ... متيقَظُ الأفكار عَذْبُ الموردِ تتكسّبُ الأعناقُ منه إفادةً ... يومَ الجِدالِ إذا احتبى في مشهدِ كشّافُ أغطيةِ الأمورِ بحكمة ... مأخوذةٍ عن واحدٍ عن أوحدِ

متردِّدٌ في المجد مندمجُ القُوَى ... وارِي الزِّنادِ قديمُ عهدِ السُّؤددِ نافثتُهُ فرأيتُ طوداً شامخاً ... في العلم متَّصلاً ببحر مُزبدٍ رَيّان من ماء العلوم كأنّه ... غُصنٌ على ممطورة لم تُحصِدِ من معشر نصَرُوا النَّبيِّ وجاهدوا ... فيه بكلّ مُثَقَّف ومُهَنَّدِ نسبٌ إلى المجد الأَثيل رُجُوعُه ... أمسى وأعلامُ الهدى في قُعْدُدِ بأنامِلٍ لو جَلْمَدا عَبِثَتْ به ... لَتَبَجَّسَتْ منه مِياهُ الجَلْمَدِ يرمي بسهم العث عن عَزَماته ... غَرَضَ الخطوب السُّود غيرَ مُفَنَّدِ ويَسُلُّ من آرائه فيما عرا ... شُعَلاً كمثل الكوكب المتوقَدِ

سمَحَ الزَّمانُ بأن أراه وذادَني ... عن أَنْ أَلُوذَ به لِياذَ المعتدي أصبحتُ من نكَد الحوادث مطلقاً ... في حال معتقَلٍ وزِيِّ مُقَيَّدِ لا آمناً حَتْفاً ولا متخوِّفاً ... كالوحش آنَسَ هيأةَ المتصِيّدِ بين الغِنى طمعاً وبين خَصاصةٍ ... ومسرَّةٍ بالوعد ضِمْنَ تَوعُّدِ هذا الَّذي قطَع الزِّيارةَ رغبةً ... جُهْدَ المُقِلِّ مع الثَّناءِ الجيّدِ لكِنْ أواصِلُ بالدُّعاء ديانةً ... جُهْدَ المُقِلِّ مع الثَّناءِ الجيّدِ فاسْلَمْ لتدبير الأمورِ ودُمْ لمن ... يرجوك للدُّنيا دوَامَ الفَرْقَدِ تُهدي لك الدُّنيا جميلَ فَعالِها ... وتُجِدُّه أبداً برُغْمِ الحُسَّدِ

وأنشدني من قصيدة أولها، ونقلته من خط الوزير عون الدين، نفذها إلى بغداد، فأعيدت إلى البصرة، ورسم لي تأملها: هل للخليطِ أَ، ْ يَفِيءَ آئبا ... وأَنْ تهُزَّ الأَيْنُقُ المراكبا وهل يَدُ القربِ على شحط النَّوَى ... برُغْمِ دهرٍ لم يَزَلْ مُحاربا يا نوقُ ما حَمَلْتِ يومَ بَيْنِهم ... إِلا بدوراً جانَستْ أَعارِبا ضَمَّت بأجراعِ النَّقا قِبابُهم ... جَآذِراً واكتنفتْ رَبارِبا كلُّ مَهاةٍ يسجُدُ البدرُ لها ... يَفْتَرُّ عمّا يَفْضَحُ الكواكبا أفاضتِ الليلَ على مَفْرِقها ... وأرسلتْ من جُنِحْهِ ذَوائبا

تَميسُ كالبانِ أمالَتْهُ الصَّبا ... ظَلَّ له حِقْفُ النَّقا مُجاذِبا سَفَرْنَ إصباحاً وأرسلن على ... أكتافهنَ في الضُّحى غَياهِبا ومنها: وا عَجَبا مَنْ ذا رأى جَآذِراً ... تكتنسُ الْفازاتِ والمَضارِبا إذا خَشِينَ واشياً مُكاشحاً ... أو خِفْنَ في حكم الهوى مُراقبا وإن ضَرَبْنَ موعداً لوامقٍ ... لَزِمْنَ بالأَنامِلِ التَّرائبا أُلِينُ لفظي للحِسانِ رقّةً ... ويَنْبَرِينَ في الهوى عقاربا ساعَدْنَ أيّامي عليَّ فانبرت ... تَسُومُني خَسْفاً وهَمّاً ناصِبا ومن مديحها: أسيافُهُ للحادثاتِ قُطَّعٌ ... تقُدُّ من صَرْف الرِّدَى مُضارِبا

قد جَعَلَتْ عمودَها مَشارِفاً ... تطلُعُ منها والطُّلَى مَضارِبا أُحصي إِذا شئتُ رمالَ عالِجٍ ... عَدّاً ولا أُحصي لهم مَناقِبا ومنها: يا صارماً يَبْتِكُ غَرْبُ حِدّه ... حوادثَ الأزمانِ والنَّوائبا متى أرى دهري وقد أوعدته ... قد جاءَ مرتاعاً إليَّ تائبا ومنها: دَعِ العِدا على مَساوِيها فقد ... أرسلت بالنُّعْمى عليَّ حاصِبا وحِصّلِ الدُّنيا بكلّ ممكن ... فَهْيَ لِمَنْ أصبحَ فيها غالبا ولا تُذِقْ ضِدَّك عفواً صادقاً ... فإِنّه يُظهِر وُداً كاذبا

الصارم الدكيشي

الصارم الدكيشي من عبد القيس، من بني مرة منها. أبو علي الحسن بن علي الملقب بالدكيشي. من أهل المشان. كان شاعراً حادَّ الخاطر، متقد القريحة. أنشدني علي بن إسماعيل العبدي البصري، في سنة سبع وخمسين وخمس مئة، قال: أنشدني الدكيشي لنفسه من قصيدة كتبها إلى صديق له، شرب في جماعة من أصدقائه، فعربد بعضهم عند السكر، وجرى بينهم جراح. منها: لا تبذُلَنَّ الخمرَ للأحمقِ ... فتُظهِرَ الحمقَ به إِن سُقِي لا يحِلُ الخمرَ وسَطْواتِها ... إلا غلامٌ شائبُ المَفْرِقِ مُكَبْرَكُ الذَّقْنِ عريضُ القَفا ... ذو هامةٍ صلعاءَ كالمِطْرَقِ

ابنُ ثمانيَ فما فوقَها ... مُحَنَّكٌ لا يشتكي ما لَقِي إذا رأى الكفَّ تواطا لها ... تَواطِيّ البَرِّ الزَّكيِّ النَّقي وإن تعامِلْه فنِعْمَ امْرُؤٌ ... تَصُكُّ منه صلعةَ المُشْفِقِ لا تَذْرِفُ العينُ له دمعةً ... كمثل فعلِ الدَّرِدِ الأحمقِ قال: وهي طويلة مضحكة، فيها وصايا وأمثال. قال العبدي: رأيته يلعب مع بعض أشراف اليمامة، يقال له عين الشرف الخلوقي بالشطرنج، فنظم فيه بديهاً: سمِعنا وذا خبرٌ صادقٌ ... بأنّ الخلوقيِّ عين الشَّرَفْ

ومخرجُهُ من بني هاشمٍ ... كما الأَنْفِ يخرُجُ منه النَّغَفْ قال: وكان له زرع فقام يجمع السَّماد بنفسه فمر به الحسن بن سدي متقدم نهر عمران، فلامه على ذلك وعنفه، فأنشد ارتجالاً: كَسادُ الدُّرَ من لفظي كساني ... ثيابَ الذُّلِّ من نَسْجِ المحيفِ وسوءُ الحظِّ أحوجني وفقري ... وحِرْماني إلى كَنْسِ الكنيفِ

الشيخ الأديب أبو القاسم عبد الواحد بن طلحة بن محمد بن رمضان المقرئ الشيباني

الشيخ الأديب أبو القاسم عبد الواحد بن طلحة بن محمد بن رمضان المقرئ الشيباني وصفه لي الأديب علي العبدي، وذكر: أنه توفي في فتنة البدو بالبصرة سنة إحدى وأربعين وخمس مئة. وكان إمام مسجد الأخوين. وكان محدِّثاً ثقة صالحاً حسن الخلق. وتوفي وهو شخ مسن. يقرأ فاتحة الكتاب في الصلوات في أربعة أنفاس مجتهداً. قال: سمعته ينشد وما كنت أعلم أنها له، حتى رأيتها بخطه بعد موته منسوبة إليه، في الغزل: يا عاذِلي أنت غيرُ مأمونِ ... ما فيك من رحمةٍ فتُولِيني

أصبحتَ تَلْحَى ولو عَلِمْتَ بما ... يلقَى فؤادي لكنتَ تبكيني بَرَّحَ بي حبُّ شادِنٍ غَنِجٍ ... كأنَّهُ جُؤْذَرٌ من العِينِ سقيمُ طَرْفٍ يُدني السَّقامَ إلى ... مُهْجَة صَبٍّ بالمُرْدِ مفتونِ أما ترى الخالَ فوقَ حاجبِهِ ... كأنّه نقطةٌ على نُونِ قال: وله من قصيدة، يمدح أثير الملك بن إسماعيل الوزير بالبصرة أولها: سبيلُ الهوى صعبٌ عسيرٌ ركوبُهُ ... وحبُّ المَها داءٌ عزيزٌ طببهُ ومنها: عجِبت لها لمّا رمتني وبينَها ... وبينيّ أَنقاءُ الحِمى وكَثيبهُ بغُنْجِ لحاظٍ كُنَّ أُسَّ بليَّتي ... ونَبْلِ جفونٍ ما عداني مُصيبهُ وزَهرِ غصونٍ في رياضٍ أَنيقةٍ ... ووردِ خدودٍ ما يَجِفّ رطيبهُ

ومنها: عليَّ لذاك الرَّبْعِ نَذْرٌ مقرَّرٌ ... إذا ما دعاني الشوقُ فيه أُجِيبهُ ويَهْمي به غَرْبُ الجُفونِ صَبابةً ... إلى ساكنيهِ حينَ خَفَّ عَرِيبهُ هو الرَّبْعُ فاسْتَسْقِ له كلَّ واكفٍ ... يجودُ عليه قَطْرُهُ وعُبوبهُ فجادت على ذاك المحلِّ سحائبٌ ... ثِقالٌ توالي برقُهنَّ سَكْوبُهُ فقد كان للشَّمْل المُشَتَّتِ جامعاً ... يُجابُ مُناديه ويُؤْوَى غَريبهُ وله: هجوتُ بوّابك إِذْ رَدَّني ... والرَّدُّ عن مثلِك نقصانُ يبيّن البوّابُ ما بعدَه ... كما علا الرُّفعةَ عُنوانُ فعُدتُ كالمغبون في بيعه ... إِذَّ مَسَّهُ في البيع خُسرانُ لو أَنَّني الأَكَارُ وافَى وفي ... صُحبتِه مَوْزٌ ورُمّان مارَدَّني لكِنَّني شاعرٌ ... أَغرى به في الشِّعر شيطانُ لا أصلح اللهُ لهذا الورى ... شناً فقد هانُوا وقد شانُوا

ذَبُّوا عن المال بأَعراضهم ... فكلُّهم للمال خَزّان كم عُدْتُ في مدحِهمُ جاهلاً ... فعادَني منعٌ وحِرمانُ قال: وله في صفات الإنسان قصيدة طويلة: أَبى العاجزُ أَنْ يُخْبِ ... رَ مَنْ يسألُ عن علمِ ومَنْ يكتُمُ ما يعلَ ... مُ منسوبٌ إلى الظُّلْمِ فما الأَحْوَصُ والأَخْوَ ... صُ إن كنتَ أخافهم وما الأَسْجَرُ والأَشْتَ ... رُ تِبياناً بلا وَهْمِ وما الأَشْوَسُ والأَجْهَ ... رُ والأَغْصَفْ في الحكم وما المخْطَمُ والعَرثَ ... مُ والمَرْغَمُ ذو الرَّغْم

وما الأَذْلَفُ والأَخْنَ ... سُ والأَخْشَمُ ذو الخَشْم وما الأَرْفَشُ والأَصْمَ ... عُ من عُرْب ومن عُجْمِ وما الأَجْلَغُ والأَبْلَ ... مُ والأَشْرَمُ ذو الجَزْمِ وما الأَخْرَبُ والأَهْرَ ... تُ والأَثْلَمُ ذو الثَّلْمِ وما الأَثْعَلُ والأَدْرَ ... دَ والأَهْتَمْ ذو الهَتْمِ وما الأَشْغَى وما الأَفْلَ ... حُ والأَقْصَمُ ذو القَصْمِ

وما الأَرْجَلُ والأَبْجَ ... رُ ما في القولِ من إِثْمِ وما الأَنْقَدُ والوَكْوَا ... كُ فاسمَعْ قولَ ذي فهمِ وما الأَقْعَسُ والرَّضْرا ... ضُ والوكواكُ ذو العظمِ وما الشَّوْقَبُ والصَّيْهَ ... بُ والشَّوْذَبُ ذو الاِسمِ وما النُّعْنُعُ والأَتْلَ ... عُ والشَّعْشَعُ ذو الجسمِ وما المحبر والمُهْتَ ... رُ والضّمضم إذْ يرمي وما الحَوْقَلْ والحَوْكَ ... لُ والهركلُ إِذْ تُسْمِي

وما الفُلْفُلُ والخِنْذِي ... ذُ ذو الأضلاعِ واللحمِ وما الرَّسْبُ إِذا فُسِّ ... رَ ذو الشَّفْرَةِ والخَذْمِ وما الهَيْضَلُ إِن كنتَ ... من الهِرْماسِ في هَمِّ وما العَسْعاسُ والأَطْلَ ... حُ ذو الوثبةِ والنَّهْمِ وما الغَيْلَمُ والعَثْوا ... ءُ يَنْصاعانِ من حزم

جماعة من البصرة كتبوا إلى المقرئ الشيباني وكتب إليهم

جوهر معلم الأيتام بالبصرة كان شيخاً بهي الوجه أديباً شاعراً من الموالي. أنشدني الأديب أبو الحسن علي العبدي بالبصرة، وقال: ذكر الشيخ عبد الواحد بن طلحة الشيباني أنه كتب إليه جوهر معلم الأيتام يسأله في أبيات، في اللغز، منها: ما اسمٌ تراه مُصَحَّفا ... ومُقَلَّباً ومؤلَّفا وتراه بينَهما يَلُو ... حُ مُعَلَّماً ومُعَرَّفا يا مَنْ يُجِدُّ قَريضَه ... دَعْ عنك قِدماً ما عفا وَأبِنْ حروفَ اسمِ الّذي ... أَلِفَ القَطيعةَ والجفا فأجاب: ما في مقالك من خَفا ... فلقد خَلا ما قد عَفا أخفيتَ ما أضمرتَهُ ... فعَرَفْتُه بعدَ الخَفا وتراه هاروتَ الّذي ... قلَبت منه الأَحْرُفا أو لا فبينَهما هِشا ... مُ جعَلْتَ ذاك مؤلَّفا

لا شكَّ فيما قلته ... فأَبِنْ وكُنْ لي مُنصِفا اسم الّذي ترَكَ الفؤا ... دَ من الصَّبابةِ مشغفا كالبدر إلا أَنَّه ... يَحكي القَضيبَ تعطُّفا فله من الرِّئم اللحا ... ظُ ونم مَلاحته الصَّفا يَبْرِي لقلبك طَرْفُهُ ... باللَحْظِ سيفاً مُرْهَفا وبدا يعرِّضُ بالوِصا ... ل ومالَ يُعْرِضُ بالجَفا فعَلامَ يعذُلُني الحسو ... دُ وما بحالي من خَفا الطَّرْفُ منّي للسُّها ... دِ ووَددت أن لا يَطْرِفا والقلبُ منّي للهوى ... أمسى أسيراً مُدْنَفا وحروفُه معروفةٌ ... فيها تراه مُعَرَّفا ظَهَرتْ فمَنْ هذا الَّذي ... ترَكَ الفؤادَ على شَفا وللشيخ جوهر إليه، يعني حضر موت: يا صاحِ ما اسمُ مدينةٍ ... تفسيرُ أوّلِها حرام وبقيَّةُ الاِسمِ الَّذي ... تُسْمَى به فهو الحِمام

أبو منصور بن المدهوني

أبو منصور بن المدهوني ذكر الأديب علي العبدي البصري: أنه كتب أبو منصور بن المدهوني إلى الشيخ أبي القاسم عبد الواحد، بن المقرئ في جواب شيء، على روي التاء، وأول الأبيات تاء كذلك: تِهْ في الجمالِ فطَرْفي فيك مبهوتُ ... والقلبُ في سَوْرَة الهِجران مفتوتُ تأمَّلِ الدَّمْعَ من جَفْنَيَّ منسكباً ... كأنَّه فَصْلُ مَرْجانٍ وياقوتُ تُميتُني بجْفونٍ منك فاترةٍ ... أحلَّها السِّحرَ هارَوتٌ ومارُوتُ

تنامُ عن ساهر الأجفان ذي مِقَةٍ ... خَلَّفْتَه وهو بالإِبعاد مبتوتُ تباعُدٌ أشمتَ الواشي فُدِيتَ ولو ... أحييتَ بالوصل أضحى وَهْوَ مكبوتُ تُدْني العَذُولَ وتُقصيني لتقتُلَني ... هل يستوي لك محبوبٌ وممقوتُ تظُنُّني لا أُطيقُ الصَّبرَ عنك ولي ... حُسنى أبي القاسمِ العَّلامِ تثبيتُ تَلَذُّه منه أبياتٌ تضمَّنَها ... ذكرُ المُهَلَّب في الأبيات مثبوتُ

تبيّنِ الشِّعرَ يا مَنْ لا ينافِسُهُ ... في النَّثْر والنَّظْم إسحاقٌ وسِكَيتُ ترى بها مُضْمَراً من أربعٍ عَزَبَتْ ... عنّي وتعرِفُها الجنُّ العفاريتُ فأجاب: تَمَّتْ محاسنُها والصَّوتُ والصِّيتُ ... فالحُسنُ من وجهها بالحُسن مبهوتُ تكاملت في معانيها وزَيَّنها ... قَدٌّ بحُسنِ قَوامِ البانِ منعوتُ تاهت بدَلّ وثَغْرٍ زانه شَنَبٌ ... رُضَابُه الخمرُ بالهِنديّ ملتوتُ تشاركت مُقْلَتا رِئْمٍ ومُقْلَتُها ... لَحْظاً فمنها رَهِينُ الشَّوْقِ مكبوتُ

تنام عنّي وعيني ما تذوقُ كَرىً ... فقد تبايَنَ سهرانٌ ومسبوتُ تُبدي الصُّدودَ وأُبدي الوصلَ مجتهداً ... ضِدّانِ في الحكم محبوبٌ وممقوتُ تسابقت من كِلا الجَفْنَيْن واكفةً ... على الخدود فَسبّاقٌ وسُكَّيْتُ تواصلَ الدَّمعُ من عيني يُواصِلُني ... من بعدِها فله رِفقٌ وتثبيتُ تفاؤُلٌ في غَداةِ البَيْنِ خَبَّرَني ... بالطّير حيثُ لها نَوْحٌ وتصويتُ تبيّنَتْ لي حروفُ اسمٍ ذكرتَ لنا ... وجعفرٌ هو فيما قلتُ مثبوتُ س فيه اسم أنت تخرجه ... اسم تحاذُرُهُ الجِنُّ العفاريتُ

أبو الحسن علي بن محمد القمائحي

أبو الحسن علي بن محمد القمائحي قال الأديب علي العبدي البصري: رأيت بخط الشيخ أبي القاسم عبد الواحد بن طلحة المقرئ: كان الشيخ أبو الحسن علي بن محمد القمائحي ابتدأنا، ثم قاطعنا، فبدأناه إلى المعاودة بهذه الأبيات: تُذاكِرُ أم تُراسِلُ أم تُحاجي ... ففي هذا وهذا بعضُ حاجي لقد غضِبتْ لك الآدابُ لمّا ... تركتَ الشّعر مختلطَ المِزاجِ فَتَحْتَ عليك منه رِتاجَ بيتٍ ... فلما أَنْ بدا ضوءُ السِّراج

تركتَ به قلائدَ مُثْمَناتٍ ... لِنَحْرِ خرائدٍ ولِسِحْرِ ساجِ لغيرك نافعات مطربات ... وتصلُحُ للرُّواة وللمُحاجِي فَعُدْ كيما تَقَمَّمَ ما تبَقَّى ... ودَعْ ما لا يُفيدُك من لَجاجِ فما أُنثى لغيرِ أبٍ وأُمٍّ ... تُعِيرُك جسمَها والليلُ داجِ لها ولدٌ يعودُ لها جَنِيناً ... له طَرْفٌ بغُنْجٍ وابتهاجِ وليست من ذوات الرِّيح تسعى ... ولا هيَ من نُحاسٍ أو زُجاجِ لها وجهٌ وفوقَ الوجهِ رأسٌ ... تُرَى فيه الأَهِلَّةَ في الدَّياجي قال: ورأيت بخطه للقمائحي غليه، عقيب نثر أبياتاً أولها وآخرها جيم: جِدالُك في القَريض أفادَ فضلاً ... فهيَّجَ مه بَلْبالي مُهِيجُ جَلَيْتَ ليَ البراعةَ بعدَ هُزْءِ ... فجاءت بعدَ ما امتنعتْ تموجُ جمالُ الفضل فيها غيرُ خافٍ ... بديعُ الحسنِ رائقُهُ بَهِيجُ جعلت بها لك المِنَنَ اللواتي ... تَرادَفُ كلَّما حَجَّ الحَجِيجُ جُمانات بها نُظِمَتْ عقودٌ ... تُقِرُّ لها الثَّواقبُ والبُروجُ

جَفَيْتَ عَرارَها جهلاً فقلبي ... جَريحٌ حيثُما دامت ضَرِيجُ جهِلت بتركها فأفَدْتَنِيها ... بقِيتَ ودُمْتَ ما حَدِبَتْ حُدوجُ جميعُ النّاسِ قد عَلِموُا بأَنِّي ... جَنَحْتُ بها إِذِ اتَّسَع الخَليجُ جَبُنْت وأنت إِذْ تسطو هِزَبْرٌ ... به تزهو المَذاكِي والسُّرُوجُ جَحيمُك في البَسالة ليس يُطْفَا ... وتنتصرُ الظُّبَا بك والوَشِيجُ تمت الجيمية.

الشيخ الأديب أبو العز محمد بن يحيى بن محمد بن أحمد بن المظفر بن أبي الدنيا القرشي الصوفي

الشيخ الأديب أبو العز محمد بن يحيى بن محمد بن أحمد بن المظفر بن أبي الدنيا القرشي الصوفي قال علي العبدي: إنه كان محدثاً عدلاً أديباً يسكن المشان. وهو بصري. كان أبوه محتسب البصرة، وهو من عدول القضاة بالمشان. شاعر أديب حسن الشعر. توفي في سنة إحدى وخمسين وخمس مئة. قال: وأنشدني لنفسه من قصيدة طويلة: ما بالُ قلبي زائداً عُرامُهُ ... ودمعُ عيني هاطِلاً سِجامُهُ

وذلك الجمرُ الَّذي خَلَّفْتُمُ ... على الحشا ما ينطفي ضِرامُهُ يا ناعِمينَ بالرُّقادِ عِيشةً ... عنديَ طَرْفٌ خانَهُ مَنامُهُ ما أطيبَ الليلَ الطَّويلَ واللِقا ... لولا انفجارُ الصُّبحِ وابتسامُهُ إِنّ الكَرى بشَّرَني بوصلكم ... نِعْمَ الكَرى لو صَدَقَتْ أحلامُهُ ولست أدري والَّذي سَنَّ الهوى ... سِهامُكم أقتَلُ أم سِهامُهُ

جنون البصري

جنون البصري كان شاعراً مجيداً. وله قصيدة طويلة سائرة، يهجو فيها جماعة. منها، ما أنشدني نجيب الدين منصور العباسي وغير واحد من أهل البصرة عنه، فمن ذلك في بغاء وهو أحسن ما سمع: يأتي ويُؤْتَى فَهْوَ عَلْقٌ لائطٌ ... ذَكَرٌ وأُنثى صارِمٌ وقِرابُهُ بينا تراهُ طاعناً بقَناتِهِ ... حتّى تراه والقَنا تنتابُهُ أَبَداً بإِصْبَعِيه يُعَوْقِس ... ... ومتى رأى ... يسيلُ لْعابُهُ

وله في بعض العدول: هو شاهدٌ قد غاب عنه رُشدُهُ ... تَيْسٌ وطالِبُ رِفْدِهِ جَلابُهُ وبني ثوابٍ لو صَفَعْتَ كبيرَهُمْ ... بالنَّعْل أَلفاً لم يَنَلْكَ عِقابُهُ

المفرج بن روح

المفرج بن روح من البصرة. قرأت في مذيل السمعاني: أنشدني عبد الوهاب الأنصاري البصري قال: أنشدني أبو روح المفرج المقرئ بالبصرة لنفسه: وكنتُ إِذا حُدِّثتُ يوماً بفُرقة ... تغصَّصْتُ بالماء الّذي أنا شاربُهْ فما بالُني أقوى على البُعدِ والنَّوىَ ... يُحارِبُني وَسْواسُهُ وُأحاربُهْ قال: وأنشد له أيضاً: إذا اختلجت عيني رأتْ من تُحِبُّهُ ... فدامَ لعيني ما حَيِيتُ اختلاجُها وإن خَرَجتْ نفسٌ لتوديع إِلْفِها ... فتلك به يومَ اللقاءِ ابتهاجُها

قال: وأنشدني لنفسه أيضاً: وحُرمةِ ما حُمِّلْتُ من ثِقْلِ حِبّكم ... وأشرفُ محلوفٍ به حُرمةً الحُبِّ لأَنتم وإِنْ ضَنَّ الزَّمان بقربكم ... أَحَبُّ إلى قلبي من البارد العَذْبِ

جماعة من البصرة قصدوني بمدح

الفضل بن حمد بن سلمان وزير فلك الدين بدر بن معقل الأسدي هو الفضل حقيقة اسماً ومُسمى. رأيته بالزكية مع معقل بن بدر بن معقل وله بها أملاك.

وناب عن الوالي بالبصرة. فضله وافر، وبحر خاطره زاخر، ورياض فضائله بنوارها مؤنقة، وشموس مناقبه بأنوارها مشرقة. شيخ بهي المنظر، حسن المخبر، شهي المفاكهة، ظريف المحاضرة، أمين المشاورة، كهل الرأي، شاب الروية، متطرف من الآداب، شاعر مع الشعراء كاتب مع الكتاب. لما وردت البصرة في نيابة الوزير في ذي القعدة سنة سبع وخمسين وخمس مئة، كتب إلي: بقُربك أيُّها النَّدْبُ الجَوادُ ... أضاءَت بعدَ ظُلمتِها البِلادُ في أبيات منها: جمعتَ حِجا وفضلَ نُهىًورأياًبه في الخَطْب يُسْتَوْرَى الزِّنادُ رعاك اللهُ من والٍ مُطاعٍ ... أمين الجيبِ يقدُمُه الرَّشادُ كرمُ الخِيمِ محمودُ السَّجايا ... له في كلِّ صالحةٍ مَعادُ بَلا منه الوزيرُ على التَّداني ... صفاءً لا يكدِّرُه البِعادُ ونصحاً في الأمور وصدقَ عزم ... ورأياً بات يعضُدُه السَّدادُ

وكتب إلي أيضاً في أبيات يسأل إجراء رسمه في أملاكه، ويشكو بعض عمالهم: يا ماجداً أحسنتُ ظنّي به ... فلم يَخِبْ ظنّي ولا زَعْمي مقتفياً آثارَ آبائهِ ... والفرعُ قد يَنْمي إلى الجِذْمِ إِنَّ عزيزَ الدّينِ من معشر ... تعلو مَعاليهِمْ إلى النَّجْمِ مَقاوِلٌ يقصُرُ عن وصفهم ... قولي ولا يبلُغُه نظمي ومنها: لولاك أَضحى مالُ ديوانِها ... وجُودُه يُفضي إلى عُدْمِ وفعلُك الخيرَ دليلٌ على ... أَنَّك خيرُ العُرْبِ والعُجْمِ ومنها: إِنّ ابْنَ إِسماعيلَ هذا الَّذي ... أسرفَ في العُدوانِ والإِثمِ لم يَتَّقِ اللهَ ولم يَخْشَهُ ... ولم يَخَفْ عاقبةَ الجُرْمِ كم كبِدٍ حَرَّى تشكَى الظَّما ... ومُقلةٍ عَبْرَى من الغَشْمِ وكم ضعيفِ الحالِ ذي عَيْلَةٍ ... في القُرّ يعدو عاريَ الجسمِ يَخالُ مَنْ أبصره أَنَّهُ ... خِلالةٌ من شِدَّة السُّقْمِ

ومنها: فانْعَمْ بما تَهْوَى وَأنْعِمْ بِتَوْ ... قِيعٍ بإِجرائي على الرَّسْمِ وليس توقيعك ذا عائداً ... بنقصِ مالٍ لا ولا ثَلْمِ والمالُ قد أَصبحَ في ذِمَّةٍ ... وأنت أهلُ الحمدِ لا الذَّمِّ يَعني: في ذِمة ضامن المعاملة. وكنت بالزكية، فانحدرت في الشبارة، فصدمتها نخلة في الماء فانقلبت وانكسرت، ومن الله بالسلامة من الغرق، في أواخر محرم سنة ثمان وخمسين وخمس مئة، فكتب إلي: ألا إِنّ دجلةَ لمّا رأت ... نَدَى كفِّك الغَمْرَ ما تفعَلُ تطاوَلَ حتّى طغى ماؤُها ... وطَوْلُك من سَيْبِهِ أطولُ وهمَّتْ بتقبيلِ كفٍّ بها ... تُنالُ السَّعادةُ لو تُقْبِلُ وأعجلَها شوقُها والحَنِي ... نُ والشَّوقُ أسبابُه تُعْجَلُ ففاضتْ إلى أَنْ دنت من نداك ... وأخجلَها فانثنتْ تَرْفُلُ وغاضتْ حياءً من العائبينَ ... وممَّنْ يُفَنِّدُ أو يعذُلُ

ولا غَرْوَ إن كان مركوبُهُ ... يغُوصُ وراكبُه جَدْوَلُ ومِن تحتِه زاخرٌ مائرٌ ... ومِن فوقهِ عارضٌ مُسْبِلُ بل البحرُ والبحرُ من جوده ... وفيض السَّحاب إذا يَهْطِلُ كبا كِبْوَةَ الطِّرْفِ في سيرِه ... فأنقذَهُ جَدُّك المُقبِلُ لَعَمْرُك إِنّك يا ابنَ الصَّفِ ... يِّ لَغيثٌ يَلْوذُ به المُرْمِلُ وبحرُ نَدىً وِرْدُهُ سائغٌ ... فُراتٌ إذا كدِّرَ المَنْهَلُ فلا زالَ جَدُّك يعلو الجُدو ... دَ سعداً وجَدُّ العِدا يسفُلُ وكتب إلي وقد حبسه الغيث عن زيارتي: لقد حَبَس الغيثُ عن ماجد ... يَقِرُّ بمنظره النّاظرُ يُميتُ الغُمومَ ويُحيي السُّرورَ ... ويَنْعَمُ في قربه الخاطرُ كريمُ الخِلال جميلُ الفِعَا ... لِ إحسانُه للورى غامرُ ومنها: وما روضةٌ جادَها واكفٌ ... سرى مثلها جادَنِي باكرُ بها النُّوْرُ يحكي نجومَ السَّما ... ءِ والنَّجْمُ فيْ أفْقِه زاهرُ

يَضُوعُ كما ضاعَ نَشْرُ العبيرِ ... سُحَيْراً إِذا فَضَّهُ التَاجِرُ وجاءت بِرَيّاهُ ريحُ الصَّبا ... ولم يَطْوِ منشورَها ناشرُ بأطيبَ عَرْفاً ولا نفحةً ... إذا رامَ ذِكرَكُمُ ذاكرُ رأيتُ العزيزَ أعزَّ الأَنا ... مِ جاراً إِذا أقسطَ الجائرُ وأطولَهم مفخراً في العلى ... يقصِّرُ عن شَأْوِه الفاخرُ وينقُصُ أموالَه المُعْتَفُو ... نَ والعِرضُ من كرمٍ وافرُ يَمِينُ الملوكِ ومَنْ وجهُهُ ... لِساري الدُّجَى قمرٌ زاهرُ وَأنواءُ راحتِه نُجْعَةٌ ... إذا أخلفَ الشَائمَ الماطرُ فكتبت جوابه، من أبيات: لَئِنْ مَنَع الغيثُ عن زورة ... فغيثُ فضائلِه زائرُ وما غابَ مَنْ شخصُ آلائِه ... إذا غابَ عنه منظري حاضرُ بِدُرِّك فُزْتُ وهل فائزٌ ... بِدُرِّك في صفقةٍ خاسرُ ومنها: وما روضةٌ أنفٌ نَوْرُها ... لناظر ذي طربٍ ناضرُ

بَنَفْسَجُها عارضٌ مُغْزِرٌ ... ونَرْجِسُها ناظرٌ ساحرُ فثغرُ الأَقاحي بها باسِمٌ ... ووجهُ الأماني لها ناشرُ كأنَّ سَقِيطَ النَّدَى بينَها ... لآليءُ ينثُرُها ناثرُ بأحسنَ من روضِ أشعارِه ... وقد جادَها فضلُه الماطرُ تَقِرُّ بقُربِك لا بل يَقِرًّ ... بِرؤيتِك القلبُ والنّاظرُ وكتب إلي وقد تأخر جواب بعض رقاعه: جوابُ الكتاب كردّ السّلا ... مِ حَقٌّ ففيمَ مَنَعْتَ الجوابا وأنت فَتىً ماجدٌ مُفْضِلٌ ... يُنيلُ الأَماني ويُدْني الطِّلابا ويُحسِنُ إمّا أَساءَ الرِّجا ... لُ صُنعاً وإِنْ يُدْعَ يوماً أَجابا وإِنْ عدَّدَ القومُ أحسابَهم ... وَجَدْناه أكرمَ قومٍ نِصابا وأوفاهُمُ ذِمَّةً في الورى ... وأعلاهُمُ مَفْخَراً وانتسابا وأنشدني لنفسه: لك جودٌ به يَصِحُّ المريضُ الْ ... جِسمِ لا تَمْرَضُ الجُسومُ الصِّحاحُ ولَئِنْ أخلفتْ ظنوني الليالي ... وتعَدَّى فسادَ أمري الصَّلاحُ

فلَكَمْ واردٍ يَغَصُّ بما يَهْ ... وَى من الماء وهو عَذْبٌ قَراحُ وله من قصيدة كتبها إلي يلتمس شيئاً من شعري: لقد رَحَلَ القلبُ فيمن رَحَلْ ... وغادرَ جسمي رَهِينَ الخَبَلْ وكان خَلِيّاً من الإِكتئابِ ... فأضحى له بهَواهُمْ شُغُلْ ولو عِلمَ الرَّكْبُ ماذا جَنَوْا ... عليه عَشِيَةَ شَدُّوا الرّحلْ أقاموا قليلاً ولم يُزْمِعُوا ... رحيلاً له يومَ سارُ واعَجَلْ وما أنا صَبٌّ برسم الدِّيا ... رِ أندُبُ أَرْبُعَها والطَّلَلْ أَسائِلُها بعدَ سُكّانِها ... وقد خَبَرَتنا وإِنْ لم تَسَلْ وأُطْلِقُ فيها عِقالَ الدّموعِ ... وَأحبِسُ في دِمْنَتَيْها الإِبلْ ومُذْ عرَضَ البِيضُ في مَفرِقي ... نأى البِيضُ عنّي وبانَ الغَزَلْ وعِفْتُ الغَرامَ وشُربَ المُدامِ ... وعَلِّي بكاساتها والنَّهَلْ

وما كنتُ لولا يَمينُ الملو ... كِ مجدُ الكُفاةِ عزيزُ الدُّوَلْ أَحِنُّ إلى شاحطٍ أو أَهِيمُ ... بمُنْتَزِحِ الدّارِ نائي المَحَلّْ يهونُ المَلامُ على حبّه ... ويصغُرُ فيه كبيرُ العَذَلْ أقولُ فأثنِي على فضله ... وإِنّي لَمُثْنٍ وإِنْ لم أَقُلْ صحائفُ نظمِك ذاك الَّذي ... كَنَوْرِ الرِّياض ووَشْيِ الحُلَلْ ونظمِ العقودِ ووَشْيِ البُرودِ ... ووَرْدِ الخدودِ وسحرِ المُقَلْ كلامُك سحرٌ ولكِنَّهُ ... حلالٌ وما كلُّ سحرٍ يَحِلّْ وكم عاطلٍ قلَّدَتهُ يداك ... أَياديَ زَيَّنَّ ذاك العَطَلْ وكم لك من بنتِ فكرٍ تُصانُ ... عن النّاظِرِين فلا تُبْتَذَلْ وأخفيتها خوفَ عين الحسودِ ... إذا ذاقَ معنى جمالٍ وَجِلْ إِذا بَرَزَتْ نَفَثتْ في العُقُو ... دِ سحراً بعَقْد الرُّقَى لا يُحَلّْ وسارت كما سارَ في الخافِقَيْ ... نِ فضلُك في سهلها والجبَلْ من العاقلاتِ عقولَ الرِّجا ... لِ والنّاشطاتِ عِقالَ الجَذَلْ فتلك الّتي هام فكري بها ... وقلبي بها أبداً مشتِغلْ

وكم ليلةٍ بِتُّها ساهراً ... أُراعي بها النَّجمَ حتى أفَلْ وقد طال ليليَ شوقاً إليك ... ولولا الهوى والنَّوى لم يَطُلْ أُسَوِّفُ.

§1/1