خبر الواحد الصحيح وأثره في العمل والعقيدة

نور الدين عتر

خبر الواحد الصحيح وأثره في العمل والعقيدة الدكتور نور الدين عتر وقع بين طوائف من الناس تطرف في حكم الحديث الأحادي الصحيح، وما يترتب على صحة الحديث من التزام، وذلك بسبب الغلو في المسألة قبولاً أو تحفظًا. فقد غلا بعضهم في قبول الحديث حتى بدوا لكثير ممن قرأ كلامهم وكأنهم لا يرون أحدًا عاملاً بالحديث غيرهم، وإن ثمة إيحاءً في كلامهم بأن من أنكر حديثًا صحيحًا أو تأوله فقد استحق أن يحكم عليه بالخروج عن هذه الملة الحنيفية السمحة. وفرط بعض آخر في حق الحديث الآحادي الصحيح حتى صار كأنه لا يعني شيئًا عنده، فإذا قيل له هذا واجب أمر به النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو سنة، أو ورد حديث يخبر بكذا بادر للقول: إنه خبر آحاد والعقيدة لا تثبت به عند العلماء؟! ‍ كذا. وقد درج هذا وذاك للأسف على لسان بعض الإسلاميين، ولعل بعضهم وهو كاتب أديب اجتماعي أثَّر أكثر من غيره في نشر هذه الفكرة الخاطئة عن حكم الحديث الآحادي الصحيح عند العلماء. وهذا التناقض في طرفي الإفراط والتفريط يشوش كثيرًا من الناس، ويدعو أهل العلم والاختصاص في المسألة إلى بحث الموضوع بَحْثًا يلقي الضوء ساطعًا على هذه الاشتباهات، ليكون المثقف بصورة عامة والجامعي بصورة خاصة على بَيِّنَةٍ من الأمر، فيما يتعلق بحكم الحديث الآحادي الصحيح، وما يترتب عليه من الأحكام. وألفت النظر إلى أمر آخر في تقديم هذا البحث يرجع إلى الناحية العلمية الموضوعية بخصوص هذا العلم العظيم علم الحديث، ذلك الأمر هو إبراز دقة المنهج العلمي لأصول هذا العلم، دقة تعتز بها هذه الأمة، حيث اختصت من بين سائر الأمم بإبداع هذا المنهج الدقيق المتكامل في فحص النقول والروايات الذي هو منهج علم مصطلح الحديث، أو علم الحديث (¬1). ¬

_ (¬1) وقد كان هناك من يظن هذه القواعد متفرقة لا ترتبط مع بعضها برباط التكامل، حتى تكلم بعض أهل الفرق المبتدعة طعناً على أهل الحديث، ثم جاء المستشرقون يدندنون حول هذا المنحى في العصور المتأخرة. وقد قمنا بدراسة هذا العلم دراسة مبتكرة على أسلوب منهجي جديد، أثبتنا فيه تكامل هذه القواعد وأنها تشكل نظرية نقدية متكاملة، تحيط بجميع ما يحتاج إليه البحث النقدي للروايات وتأخذ بزمام الحيطة والحذر. وذلك في كتابنا "منهج النقد في علوم الحديث"، وتوصلنا بذلك إلى بيان بطلان ما أورده الناقدون على منهج المحدثين، بإقامة الحجج والبراهين الدامغة على تلك الانتقادات.

[شروط الحديث الصحيح]:

إن الحديث الصحيح يعتبر نقطة الارتكاز التطبيقية الأولى لعلوم الحديث، لأنه يقع في الدرجة الأولى من غايات وضع هذا العلم بقواعده وفنونه الكثيرة المتشعبة التي تبلغ أصولها خمسة وثمانين نوعاً. قَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ جَمَاعَةَ: «عِلْمُ الْحَدِيثِ: عِلْمٌ بِقَوَانِينَ يُعْرَفُ بِهَا أَحْوَالُ السَّنَدِ وَالْمَتْنِ ... وَغَايَتُهُ: مَعْرِفَةُ الصَّحِيحِ مِنْ غَيْرِهِ» (¬2). لذلك كان تصحيح الحديث تصحيحاً علمياً منهجياً من عمل الأئمة المتقنين، وجهابذة الحفاظ المتقدمين، خِلاَفًا لما يفعله كثير من العوام وأشباههم، يشهدون بالعلم والتقدم في هذا الفن لشخص لمجرد أن يقوم بنقد حديث أو تجريح رَاوٍ .. ‍! ومن أجل تحقيق هذين الغرضين الكبيرين فسوف ندرس الحديث الصحيح دراسة مبتكرة، لا تقف عند الدراسة التقليدية لشرح كلمات تعريفه أو قانونه. بل نتجاوز لإبراز تطبيق نظريتنا في منهج النقد في علوم الحديث، وكيف أن شروط الحديث الصحيح قد اشتملت على دفع الخلل عن الحديث من كل جهاته، وفقاً لهذه النظرية، كما سنوضحه في تعريف الحديث الصحيح. وهذا هو تعريف الحديث الصحيح نسوقه ثم نشرحه فيما يلي: الحَدِيثُ الصَّحِيحُ: «هُوَ الحَدِيثُ الذِي اتَّصَلَ سَنَدُهُ بِنَقْلِ العدْلِ الضَّابِطِ عَنْ العدْلِ الضَّابِطِ إِلَى مُنْتَهَاُه، وَلَمْ يَكُنْ شَاذًّا وَلاَ مُعَلاًّ» (¬3). هذه العبارة أدق تعريف للحديث الصحيح، وللعلماء عبارات أخرى لا تخالف ما حوته هذه الجمل، في مضمونها، لكنها منتقدة شكلاً من حيث صياغتها. وبالتأمل في هذا التعريف نجد أن للحديث الصحيح خمسة شروط لا بد أن تتوفر فيه كلها حتى يحكم له بالصحة، فإذا اختل واحد منها فليس الحديث بصحيح، وهذه الشروط الخمسة تتضمن أركان البحث النقدي التي سبق أن أشرنا إليها، ونبين لك ذلك فيما يلي: [شُرُوطُ الحَدِيثِ الصَّحِيحِ]: (*) الشَّرْطُ الأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ رُوَاةِ الحَدِيثِ عَدْلاً: أي متحلياً بصفة العدالة. والعدالة خصلة تلزم صاحبها سبيل الاستقامة والصدق. لأنها كما عرفها العلماء: «مَلَكَةٌ تَحْمِلُ صَاحِبَهَا عَلَىَ التَّقْوَى وَاجْتِنَابِ الأَدْنَاسِ وَمَا يُخِلُّ بِالمُرُوءَةِ عِنْدَ النَّاسِ». وتتضمن العدالة خصالاً عدة كما هو ظاهر لمن تأمل في تعريفها، قد فصلها العلماء (¬4) وفرعوا أحكام العدالة في الرواية على هذه الخصال (¬5). ويجب أن يتنبه إلى أن العدالة لا تعني العصمة من الخطأ، لكن تستلزم تغلب عنصر الاستقامة بحيث لا يكاد يحيد عنه حتى يثوب ويرجع إليه، لذلك قالوا: من غلب نقصه على فضله وهب نقصه لفضله. الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي ضَابِطاً لِمَا يَرْوِيهِ: وهذه الصفة تمنح الراوي القدرة على أن يروي الحديث كما سمعه. ويقسم المحدثون الضبط إلى قسمين: القسم الأول: ضَبْطُ صَدْرٍ: ومعناه أن يحفظ الحديث عن ظهر قلب من حين سماعه إلى أن يؤديه، ويشترط فيه التيقظ لما يرويه، وألا يكون مُغَفَّلاً، وإن كان حَدَّثَ بالمعنى اشترط فيه مع ذلك أن يكون عَالِمًا بما يحيل المعاني. القسم الثاني: ضَبْطُ كِتَابٍ: ومعناه أن يعتمد الراوي في الرواية على وثائق كَتَبَ فيها الأحاديث التي تلقاها من شيوخه، ويشترط فيه أن يكون ضابطًا لكتابه محافظًا عليه أن تمتد إليه يَدٌ بالتبديل أو التغيير. ¬

_ (¬2) " تدريب الراوي شرح تقريب النواوي " للسيوطي: ج1 ص 41. (¬3) انظر التعريف في مطلع كتاب " علوم الحديث " للإمام أبي عمرو ابن الصلاح. (¬4) منذ عصر الأولى كما نجده عند الشافعي في " الرسالة ": ص 370. (¬5) انظر على سبيل المثال " علوم الحديث " لابن الصلاح ص 94 و" شرح الألفية في علم الحديث " للحافظ عبد الرحيم بن الحسين العراقي: ج2 ص 2 - 8 وكتابنا " منهج النقد في علوم الحديث ": ص 79 وما بعد. ---------------------- [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) هذا العنصر من وضعي أدرجته لتناسق البحث.

الشرط الثالث: الاتصال:

وللضبط مقياس دقيق وضعه العلماء، عَوَّلُوا عليه في كشف مستوى حفظ الراوي للحديث، وهو كما لخصه الإمام ابن الصلاح (¬6): «أَنْ نَعْتَبِرَ - أي نقايس - رِوَايَاتِهِ بِرِوَايَاتِ الثِّقَاتِ الْمَعْرُوفِينَ بِالضَّبْطِ وَالإِتْقَانِ، فَإِنْ وَجَدْنَا رِوَايَاتِهِ مُوَافِقَةً - وَلَوْ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى - لِرِوَايَاتِهِمْ، أَوْ مُوَافِقَةً لَهَا فِي الأَغْلَبِ وَالْمُخَالَفَةُ نَادِرَةُ، عَرَفْنَا حِينَئِذٍ كَوْنَهُ ضَابِطًا [ثَبْتًا]، وَإِنْ وَجَدْنَاهُ كَثِيرَ المُخَالَفَةِ لَهُمْ، عَرَفْنَا اخْتِلاَلَ ضَبْطِهِ، وَلَمْ نَحْتَجَّ بِحَدِيثِهِ». فإذا اجتمع في الراوي هذان الركنان: العدالة والضبط فهو حجة يلزم العمل بحديثه إذا استوفى الحديث بقية شروطه، ويطلق على الراوي حينئذ «ثِقَةٌ». وذلك لأنه تحقق فيه الاتصاف بالصدق، وتحلى بقوة الحفظ الذي يمكنه من استحضار الحديث وأدائه كما سمعه، فتحقق أنه أدى الحديث كما سمعه فصار حجة، وإذا اختل فيه شيء من خصال الثقة كان مردود الحديث بحسب الاختلال الذي لحقه. وتحقيق هذين الشرطين في توثيق الراوي يستدعي استيفاء النظر فيه من جميع وجوه البحث في الرواة، وتتركز في وجهين يجمع كل واحد منهما عَدَدًا من علوم الحديث وقواعده: الوجه الأول: البحث في الراوي من حيث تحديد شخصه، أي بعبارة عصرنا تحصيل ما يسمى الآن بطاقة شخصية «تَذْكِرَةُ هَوِيَّةٍ» للراوي، وذلك من ناحيتين: - الأولى: ناحية اسم الراوي واسم أبيه وقبيلته ونسبته وتمييزه عما يشابهه في شيء من ذلك من أسماء الرواة، وذلك بدراسته في ضوء مجموعة علوم تدرس الرواة من هذه الناحية تبلغ ثلاثة عشر عِلْمًا في أصولها، سميتها علوم أسماء الرواة. الناحية الثانية: تحديد شخص الراوي من حيث وجوده الزماني والمكاني، وذلك بمجموعة علوم نُسَمِّيهَا "علوم الرواة التاريخية "، يبلغ عدد أصولها عشرة أنواع من العلوم. الوجه الثاني: البحث في الراوي من جهة العلوم التي تُعَرِّفُ بحاله من حيث القبول أو الرد. الشَّرْطُ الثَّالِثُ: الاِتِّصَالُ: أي اتصال السند: ومعناه أن يكون كل واحد من رواة الحديث قد تلقاه ممن فوقه من الرواة من أول السند حتى يبلغ التلقي قائله. وهذا الشرط يستدعي البحث من جهتين: الأولى: بحث السند من حيث الاتصال أو الانقطاع، فإذا كان مُتَّصِلاً بقانون أي نوع من أنواع الاتصال - وهي خمسة أنواع - كان مقبولاً إذا ثبت استيفاؤه بقية الشروط، أما إذا كان مُنْقَطِعًا بموجب أي قانون من قوانين أنواع الانقطاع - وهي ستة أنواع - كان غير مقبول. الجهة الثانية: قوانين الرواية وهي خمسة أنواع من العلوم الحديثية، ولها صلة وثيقة بالاتصال لأن بعض طرق تحمل الحديث لا يعتبر الحديث به متصل السند، مثل الوجادة، كما أن المقبول منها درجاته متفاوتة، فَضْلاً عن دلالة هذه العلوم على جانب التوثيق السابق فيما يتبين من تطبيق الراوي لها بدقة، أو تساهله فيها، وبيان مدى ذلك التساهل. الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَلاَّ يَكُونَ الحَدِيثُ شَاذًّا: الحديث الشَاذُّ هو ما رواه الثقة مُخَالِفًا لمن هو أوثق منه بمزيد ضبط، أو كثرة عدد. وينقسم إلى قسمين: شاذ المتن، وشاذ السند. ¬

_ (¬6) في كتاب " علوم الحديث ": ص 95، 96.

الشرط الخامس: ألا يكون الحديث معلا:

والسبب في اشتراط عدم الشذوذ أن الثقة إذا خالفه من هو أقوى منه كان ذلك دليلاً على أن هذا الثقة قد وهم في رواية هذا الحديث. وقد يقال: ما فائدة هذا الشرط طالما أننا اشترطنا في الراوي أن يكون ضابطًا؟. والجواب أن الضبط ملكة بالنسبة لجملة أحاديث الراوي، إلا أنه قد يحتمل أن يقع منه وَهْمٌ في بعض ما يرويه، لذلك صرحوا بنفي الشذوذ. الشَّرْطُ الخَامِسُ: أَلاَّ يَكُونَ الحَدِيثُ مُعَلاًّ: والحديث المُعَلَّلُ هو الحديث الذي اطلع فيه على علة تقدح في صحة الحديث مع أن ظاهره السلامة منها. وهو على قسمين: معلل السند، ومعلل المتن. وهذا الشرط يفيد في خلو الحديث من أي وصف قادح في صحة الحديث يكون الحديث بحسب الظاهر سليمًا منه. وتعبيرنا بقولنا «وَلاَ مُعَلاًّ» موافق لعبارة ابن الصلاح، وهو أصح وأدق من تعبير غيره بقوله: «مِنْ غَيْرِ شُذُوذٍ وَلاَ عِلَّةٍ» وهو تعبير درج عليه بعض العصريين، وذلك لأن كلمة «عِلَّةٍ» تطلق على نوعين، علة قادحة، وعلة غير قادحة كما هو مُقَرَّرٌ في أصول الحديث، فلم يكن التعبير بـ «عِلَّةٍ» صريحًا في المراد، أما المُعَلَّلُ فلا يكون إلا مُتَضَمِّنًا في باطنه وَصْفًا قَادِحًا في صحة الحديث. وهذان الشرطان الأخيران يستوجبان بحث الحديث من ناحية متنه على ضوء علوم المتن كلها، وذلك لأنه لا يمكن الحكم على المتن بالشذوذ أو الإعلال أو بسلامته منهما إلا بعد دراسته من جميع الوجوه، وقد تكفلت بذلك علوم المتن. كذلك يستوجب هذان الشرطان بَحْثَ الحديث من ناحية تفرد الراوي به أو عدم تفرده؛ وأنه قد تعدد رواته، وهل التعدد وقع من الرواة مع الاتفاق في المروي أو مع الاختلاف في المروي، وهو بحث يشترك فيه السند والمتن، وفيه ثلاث مجموعات من علوم الحديث هي: أولاً: تفرد الراوي بأي نوع من أنواع التفرد. ثانيًا: مجموعة علوم تعدد رواة الحديث مع اتفاقهم. ثالثًا: مجموعة علوم تعدد رواة الحديث مع اختلافهم. وربما يتوهم بعض الناس الاكتفاء بالحديث المعلل عن المجموعة الثالثة وتضم عشرة أنواع من علوم الحديث، منها الحديث المعلل؟ لكن هذا ليس صحيحًا، لأن أسباب القدح في الحديث المعلل كثيرة، تستنبط من الأنواع الأخرى لاختلاف الروايات سَنَدًا أَوْ مَتْنًا، ويستعان بها للتوصل إلى إعلال الحديث. وهكذا اشتملت شروط الحديث الصحيح على اختبار الحديث سَنَدًا وَمَتْنًا من جميع جوانب البحث، واتضح بطلان ما وقع في كلام بعض المستشرقين من ادعائهم أن المحدثين ينظرون في نقدهم للحديث إلى الشكل فقط، فقد تبين من هذا البحث الموجز كيف احتاج الحُكْمُ بتصحيح الحديث إلى إعمال كل قواعد المصطلح، وأن هذه القواعد تعنى بدراسة المضمون «المَتْنِ» من جميع الجهات كما تعنى بدراسة السند أَيْضًا. وقد أصبح هذا الشرح والفهم العميق الكلي للحديث الصحيح مُيَسَّرًا بنتيجة ما وُفِّقْنَا

تقسيم الخبر من حيث عدد رواته:

إليه بفضل الله تعالى من التوصل إلى صياغة هذا العلم صياغة جديدة تدرس قواعده في شكل نظرية نقدية متكاملة، تتألف فيها أنواع علوم الحديث، وتدرس كل مجموعة من المجموعات التي سبق أن ذكرناها في باب مستقل بعد أن كانت مفرقة مختلطة ببعضها، وتنتقل بقواعد هذا العلم من التجزيء إلى التكامل، ومن المسائل المتفرقة التي قد يظن أنها وضعت دون غاية إلى النظرية المتناسقة التي تجلو دقة علم المصطلح وشموله، وقد أبرزنا ذلك ههنا في شرح تعريف الصحيح بإجمال يلقي ضَوْءًا على الفكرة العامة لهذه النظرية، ويوضح في نفس الوقت دقة علماء الحديث في هذه الشروط التي جعلوها دليلاً على صحة الحديث وأن رواته أَدُّوهُ كما سمعوه. وذلك أن العدالة والضبط يحققان أداء الحديث كما سمع من قائله، واتصال السند على هذا الوصف، في الرواة يمنع اختلال ذلك في أثناء السند، وعدم الشذوذ يحقق ويؤكد ضبط هذا الحديث بعينه، وعدم الإعلال يدل على سلامته من القوادح الخفية بعد أن استدللنا بسائر الشروط على سلامته من القوادح الظاهرة، فكان الحديث بذلك صحيحًا لتوفر عامل النقل الصحيح، واندفاع القوادح الظاهرة والخفية، فيحكم له بالصحة بالإجماع. تَقْسِيمُ الخَبَرِ مِنْ حَيْثُ عَدَدِ رُوَّاتِهِ: يقسم المحدثون الخبر من حيث عدد رواته إلى أربعة أقسام: (¬7) 1 - الفرد المطلق، وهو الذي ليس له إلا راو واحد، ويسمى أَيْضًا الغريب سنداً ومتناً. 2 - العزيز، وهو ما رواه اثنان. 3 - المشهور: وهو ما رواه جمع محصور بثلاثة فأكثر ولم يبلغ درجة التواتر. 4 - المتواتر وهو الخبر الذي رواه جمع كثير يستحيل تواطؤهم على الكذب عن جمع مثلهم إلى نهاية السند، وكان مستندهم الحس. أما علماء أصول الفقه فيقسم الجمهور منهم الخبر إلى قسمين: القِسْمُ الأَوَّلُ: الخَبَرُ المُتَوَاتِرُ: وقد عرفته. القِسْمُ الثَّانِي: خَبَرُ الوَاحِدِ أَوْ الآحَادِ: وهو ما لم يبلغ درجة التواتر، فيشمل أنواع الفرد والعزيز والمشهور. وأضاف الحنفية قسمًا ثالثًا هو المشهور، وهو عندهم الخبر الذي كان آحادي الأصل، متواتراً في القرن الثاني والثالث مع قبول الأُمَّةِ كما في " مسلم الثبوت ". قال في شرحه " فواتح الرحموت ": «وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَهُوَ خَبَرُ الوَاحِدِ» (¬8). وقد تَسَرَّعَ بعض العصريين في النقد لهذا التقسيم عند الحنفية، دون أن يرى لهم وَجْهًا أو عُذْرًا، مما لا نتعرض له هنا، وسنرجع إليه في حينه إن شاء الله تعالى. وخبر الواحد الذي ذكرنا معناه ليس خَاصًّا بالصحيح، بل هو مشترك بين الصحيح وغيره، وسنفرد البحث هنا لدراسة أثر خبر الآحاد الصحيح دراسة تشمل أثره في العمل أي الأحكام، وفي العلم أي العقيدة. ونبدأ أولاً ببحث أثره في العمل، ثم نبحث أثره في العقيدة، فنقول وبالله التوفيق: ¬

_ (¬7) " شرح نخبة الفكر " للحافظ ابن حجر العسقلاني ص 18 - 37 نسخة شرحه للقاري. (¬8) ج 2 ص111.

أثر خبر الآحاد الصحيح في العمل:

أَثَرُ خَبَرِ الآحَادِ الصَّحِيحِ فِي العَمَلِ: قد ظهر لنا أن الحديث الصحيح - وهو هنا الذي لم يبلغ درجة التواتر- قد استوفى - متناً وسنداً - شروطاً تتحرى نفي كل أسباب الخلل عنه، من أي جهة كانت، مما يلزم النفس السليمة بأن تقبله وتلتزم العمل به. وذلك هو ما ذهب إليه جماهير العلماء من السلف والخلف، ومنهم الأئمة الأربعة وسائر فقهاء الأمصار، لم يشذ عن ذلك إلا نفر قليل جداً من أهل العلم في العصور السالفة ممن لم يكونوا أئمة في علوم الدين. قال الإمام السرخسي - رَحِمَهُ اللهُ - (¬9): «وَقَالَ بَعْضُ مَنْ لَمْ يُعْتَدَّ بِقًوْلِهِ: خَبَرُ الوَاحِدِ لاَ يَكُونُ حُجَّةً فِي الدِّينِ أَصْلاً» انتهى. وهذا القائل الذي أشار إليه السرخسي هو الجُبَّائِي من المعتزلة، وبعض أهل الابتداع الخارجين على السُنَّةِ (¬10). واستدلوا بأدلة عديدة تدور كلها حول نقطة واحدة هي أن كل راو من رواة الخبر الآحادي غير معصوم عن الكذب، ولا عن الخطأ فيحتمل أن يكون هناك كذب في الحديث أو خطأ، فلا يجوز أن يكون مصدرًا في الشرع، وأوردوا بناء على ذلك استدلالات من القرآن الكريم يشدون بها مذهبهم. وقد عرض أعلام أصول الفقه أدلتهم على بساط البحث، وناقشوها مناقشة علمية موضوعية دقيقة، أعرض للقارئ هذه الأدلة من كلام للإمام السرخسي الحنفي لما امتاز به عرضه من الاستكثار لهم من الأدلة مع الوضوح: قال الإمام السرخسي - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -: استدلوا بقوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]، وإذا كان خبر الواحد لا يوجب العلم لم يجز اتباعه والعمل به، بهذا الظاهر. وقال تعالى: {وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ} [النساء: 171]، وخبر الواحد إذا لم يكن معصومًا عن الكذب محتمل للكذب والغلط، فلا يكون حَقًّا على الإطلاق، ولا يجوز القول بإيجاب العمل به في الدين. وقال تعالى: {إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86]،وقال تعالى: {وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28]. ومعنى الصدق في خبر الواحد غير ثابت إلا بطريق الظن، ولأن خبر الواحد غير ثابت إلا بطريق الظن، ولأن خبر الواحد محتمل للصدق والكذب، والنص الذي هو محتمل لا يكون مُوجِبًا للعمل بنفسه مع أن كل واحد من المحتملين فيه يجوز أن يكون شَرْعًا، فلأن لا يجوز العمل بما هو محتمل لكذب. والكذب باطل -أصلاً - أولى» انتهى. وأود أن ألفت نظر القارئ إلى هذا الأسلوب العلمي الذي يعرض حجة المخالف وكأنها حجج كثيرة، حتى لربما اقتنع بها بعض القراء إذا لم يكن من أهل التأمل الناقد، وإن كانت هي في الواقع مغالطات ضعيفة يمكن الاستغناء عن الرد عليها، لولا ما نبغ في هذا الزمان العجيب من فئة قليلة معزولة عن المجتمع تخطت تحقيق أئمة العلم والدين، وأخذت سبيل التكلف والتوعر والشذوذ سبيلاً لها، تستهوي بالإثارة العاطفية أغرار الشبان المتدينين تزعم لهم أنهم سيجدون الإسلام، وتلقنهم هذا المبدأ -فيما تلقنهم من شذوذ- مبدأ إنكار العمل بالحديث الصحيح، وإن كان معلم هذه الفكرة العصري لم يصل إلى أن يستند لدلائل كهذه التي ساقها علماؤنا -أجزل الله مثوبتهم- بدافع من أمانتهم العلمية، وإخلاصهم للحقيقة. ونحن نحذر هؤلاء من أنهم سينتهون بهذا الشذوذ إلى أفجع نتيجة من تجديدهم المزعوم، ألا وهي أن يأتوا بإسلام بلا سُنَّةٍ، أي بعبارة ¬

_ (¬9) " أصول الفقه " للسرخسي: ج1 ص 321. (¬10) صرح بهم العلامة الأصولي المحقق محب الله بن عبد الشكور في " شرح مسلَّم الثبوت ": ج 2 ص 131.

أخرى أصرح: إسلام بلا دين إلا مجرد التسمية .. !!. ونبين فيما يلي الخطأ في هذه الاستدلالات، ثم نبين كيف اطرح هذا المذهب المخالف كل دلائل الشرع القطعية من الكتاب وَالسُنَّةِ والإجماع، وخرقوا بداهة المنطق الذي تسير عليه الحياة. أما الخطأ في الاستدلال فيقول فيه الإمام الغزالي في " المستصفى ": (¬11) «وهذا باطل من أوجه: الأول: إنكارهم القول بخبر الواحد غير معلوم ببرهان قاطع، بل يجوز الخطأ فيه، فهو إذن حكم بغير علم. الثاني: إن وجوب العمل به معلوم بدليل قاطع من الإجماع فلا جهالة فيه. الثالث: أن المراد من الآيات منع الشاهد عن جزم الشهادة بما لم يبصر ولم يسمع، والفتوى بما لم يرو ولم ينقله العدول. الرابع: إن هذا لو دل على رَدِّ خبر الواحد لَدَلَّ على رَدِّ شهادة الاثنين والأربعة والرجل والمرأتين والحكم باليمين، فكما علم بالنص في القرآن وجوب الحكم بهذه الأمور مع تجويز الكذب، فكذلك بالإخبار. الخامس: أنه يجب تحريم نصب الخلفاء والقضاة، لأنا لا نتيقن إيمانهم فضلاً عن ورعهم، ولا نعلم طهارة إمام الصلاة عن الجنابة والحدث فليمتنع الاقتداء» انتهى. هذا رد للإمام الغزالي على مغالطات المنكرين للعمل بالخبر الآحادي الصحيح، وهو ظاهر في إبطال مستنداتهم، ونوضح ذلك بأسلوب آخر فنقول: أما ما ذكروه من عدم عصمة الراوي عن الكذب أو الخطأ فهو توهم ضعيف، لا يؤبه له بإزاء ما توفر من شروط العدالة والضبط والاتصال ثم تحري السلامة من الشذوذ والإعلال، ولو فتح باب رَدِّ الأدلة والقضايا الصحيحة بالأوهام على هذا النحو لما سلم للإنسان أمر قط في شأن من شؤون حياته، والنصوص التي أوردوها قد وضعوها في غير موضعها الصحيح، وصرفوها عن المعاني التي وردت لأجلها. وجملة ذلك أن الله تعالى نهى عباده المؤمنين أن يتبعوا ما لم يثبت عندهم بدليل مقبول في شريعة الله من نص شرعي أو برهان عقلي صحيح، وهذا معنى قوله: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]، وقوله: {وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ} [النساء: 171] ونحوهما من النصوص التي سبق أن ذكرت، ونعى القرآن على الكافرين تقليد آبائهم من غير برهان من الله، لكنهم اتبعوا الظنون أي الأوهام التي قامت في نفوسهم وتمكنت بعامل التقليد، فقال: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28]. وقد توفرت الأدلة اليقينية القطعية على وجوب العمل بخبر الواحد الصحيح، وهي أدلة من الكتاب وَالسُنَّةِ والإجماع، كما نوضح فيما يلي: أ - دلالة القرآن على حجية خبر الواحد الصحيح: وذلك في مواضع عديدة، قال الإمام فخر الإسلام أبو الحسن البزدوي الحنفي في " أصوله " (¬12): «وَهَذَا فِي كِتَابِ اللهِ أَكْثَرُ مِنَ أَنْ يُحْصَى». وقد عُنِيَ شارحه العلامة الأصولي عبد العزيز البخاري بالتوسع في إيرادها، مِمَّا لم يفعله غيره من الأصوليين، ونذكر طَرَفًا مِمَّا ذكره فيما يلي: ¬

_ (¬11) ج 1 ص 154 - 155. (¬12) ج 1 ص 692 بهامش شرحه " كشف الأسرار ".

1 - قوله تعالى: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122]. قال في " مسلَّم الثبوت " و" شرحه " (¬13): «فإن الحذر إنما يكون من الواجب، والكريمة دلت على الحذر فيكون الأخذ بمقتضى أخبار الطائفة وَاجِبًا، والطائفة من كل فرقة لا تبلغ مبلغ التواتر، بل الطائفة على ما قال ابن عباس - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - تشمل الواحد والجماعة». 2 - قوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] و [الأنبياء: 7]. أمر الله تعالى في هذه الآية بسؤال أهل الذكر، ولم يفرق بين المجتهد وغيره، وسؤال المجتهد لغيره منحصر في طلب الإخبار بما سمع دون الفتوى، ولم لم يكن القبول وَاجِبًا لما كان السؤال وَاجِبًا (¬14). 3 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} [النساء: 135]. «أمر بالقيام بالقسط والشهادة لله، ومن أخبر عن الرسول بما سمعه فقد قام بالقسط وشهد لله، وكان ذلك وَاجِبًا عليه بالأمر، وإنما يكون وَاجِبًا لو كان القبول وَاجِبًا، وإلا كان وجوب الشهادة كعدمها، وهو ممتنع» (¬15). ب - دَلاَلَةُ السُنَّةِ: وهو أمر أشهر من أن يخفى لكثرة ما تواردت عليه الأحاديث في الوقائع التي لا تحصى كثرة كما صرح بذلك أئمة أهل العلم (¬16)، أذكر منها هذه الأحاديث مُبَيِّنًا تَخْرِيجَهَا: 1 - «نَضَّرَ اللَّهُ امْرُءًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَبَلَّغَهَا، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرِ فَقِيهٍ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ». وهذا حديث متواتر بلغ رواته من الصحابة نحو ثلاثين صَحَابِيًّا، كما ذكر الإمام السيوطي في " تدريب الراوي " (¬17). وهو دليل جَلِيٌّ جِدًّا على الموضوع، استدل به الإمام السرخسي الحنفي على وجوب قبول حديث الواحد الصحيح، قال يوجه استدلاله (¬18): «ثم أن مَنْ بعثه رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خليفته في التبليغ - يعني واجب الامتثال - فكل من سمع شَيْئًا في أمر الدين فهو خليفته في التبليغ، مأمور من جهته بالبيان». يعني فيكون واجب القبول أيضًا، فثبت بذلك وجوب العمل بخبر الواحد. 2 - حديث أنس بن مالك - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - في تحريم الخمر: قال: « ... إِنِّي لَقَائِمٌ أَسْقِيهَا أَبَا طَلْحَةَ، وَأَبَا أَيُّوبَ، وَرِجَالاً مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِنَا إِذْ جَاءَ رَجُلٌ، فَقَالَ: هَلْ بَلَغَكُمُ الخَبَرُ؟ قُلْنَا: لاَ، قَالَ: «فَإِنَّ الخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ»، فَقَالَ أبو طلحة: يَا أَنَسُ، أَرِقْ هَذِهِ الْقِلاَلَ، قَالَ: فَمَا رَاجَعُوهَا، وَلاَ سَأَلُوا عَنْهَا بَعْدَ خَبَرِ الرَّجُلِ». متفق عليه. 3 - حديث عبد الله بن عباس - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ الهِلاَلَ - قَالَ الحَسَنُ فِي حَدِيثِهِ - يَعْنِي هِلاَلَ رَمَضَانَ -، قَالَ: «أَتَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ؟»، قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؟»، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «يَا بِلاَلُ، أَذِّنْ فِي النَّاسِ أَنْ صُومُوا غَدًا» أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي، وورد نحوه عن ابن عمر وأنس بن مالك وربعي بن حراش (¬19) وقد صحح العلماء ذلك. ¬

_ (¬13) ج 2 ص 134. (¬14) " كشف الأسرار " لعبد العزيز البخاري: ج 1 ص 692. (¬15) نفس المكان. (¬16) البزدوي في كتابه " أصول الفقه "، وكذا غيره، وانظر مَزِيدًا من سرد الأحاديث في " شرح البخاري " عليه: ج1 ص 693 - 694. (¬17) ج 2 ص179، وانظر " كشف الخفاء ومزيل الالباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس " للعجلوني: ج2 ص 441. (¬18) " أصول السرخسي ": ج1 ص 325. (¬19) انظر " توضيح الأفكار ": ج 2 ص 467.

وغير ذلك كثير لا نطيل به، فقد بلغ مبلغ التواتر المعنوي، فضلاً عن تواتر الحديث الأول بنفسه كَمَا بَيَّنَّا، نحيل القارئ للتوسع فيه إلى المراجع. ج - إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ: فقد تواتر عنهم العمل بخبر الواحد، حتى تركوا لأجله اجتهادهم. قال الإمام الغزالي في " المستصفى " (¬20): «تَوَاتَرَ وَاشْتَهَرَ مِنْ عَمَلِ الصَّحَابَةِ بِخَبَرِ الوَاحِدِ فِي وَقَائِعَ شَتَّى لاَ تَنْحَصِرُ وَإِنْ لَمْ تَتَوَاتَرْ آحَادُهَا فَيَحْصُلُ العِلْمُ بِمَجْمُوعِهَا» أي أنها بمجموعها تبلغ درجة التواتر المعنوي، فتفيد بمجموعها العلم اليقيني القطعي. وقال العَلاَّمَةُ المُحَقِّقُ محب الله بن عبد الشكور في كتابه "مُسَلَّم الثبوت" (¬21): «ثَانِيًا إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَفِيهِمْ عَلِيٌّ، بِدَلِيلِ مَا تَوَاتَرَ عَنْهُمْ مِنَ الاِحْتِجَاجِ وَالعَمَلِ بِهِ فِي الوَقَائِعِ التِي لاَ تُحْصَى مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، وَذَلِكَ يُوجِبُ العِلْمَ عَادَةً ... ». ومن أمثلة عمل الصحابة بخبر الواحد: 1 - عمل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - بحديث عبد الرحمن بن عوف في قضية المجوس، وهم عبدة النار، حيث شهد عبد الرحمن بن عوف «أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ» يعني الجزية. فأخذ بذلك عمر. أخرجه " البخاري " وغيره (¬22). 2 - كذلك عمل عمر بن الخطاب في دية الجنين، كما رواه عنه ابن عباس - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -: أَنَّ عُمَرَ نَاشَدَ النَّاسَ فِي الجَنِينِ فَقَامَ حَمَلُ بْنُ مَالِكِ بْنِ النَّابِغَةِ فَقَالَ: كُنْتُ بَيْنَ امْرَأَتَيْنِ فَضَرَبَتْ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى [بِمِسْطَحٍ] فَقَتَلَتْهَا، وَجَنِينَهَا، «فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي [جَنِينِهَا] بِغُرَّةٍ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ وَأَنْ تُقْتَلَ بِهَا». أخرجه أصحاب السنن إلا الترمذي، وأخرجه ابن حِبَّان في " صحيحه " والحاكم في " المستدرك " (¬23)، وأصله في " الصحيحين " من حديث أبي هريرة. فقد عمل الصحابة بحديث الواحد ولم يختلفوا في الاحتجاج بأخبار الآحاد، حتى تم إجماعهم على العمل بموجبها كما في الحديثين اللذين ذكرناهما، مما يدل على استقرار قضية العمل بخبر الواحد الصحيح لديهم، وأنها قضية مسلمة عندهم إجماعاً. إِشْكَالٌ عَلَى عَمَلِ الصَّحَابَةِ بِخَبَرِ الوَاحِدِ: اعترض المخالفون على ما ذكرنا ببعض ما ورد من تحري الصحابة وتثبتهم، فجعلوه اعتراضًا على دلائل إجماعهم على وجوب العمل بخبر الواحد، ولعل أشهر ذلك وأقواه هذان الحديثان: 1 - عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ، قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا بِالمَدِينَةِ فِي مَجَالِسِ الأَنْصَارِ، فَجَاءَ أَبُو مُوسَى فَزِعًا لَهُ، فَقَالُوا: مَا أَفْزَعَكَ؟ قَالَ: أَمَرَنِي عُمَرَ أَنْ آتِيَهُ، فَأَتَيْتُهُ، فَاسْتَأْذَنْتُ ثَلاَثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي، فَرَجَعْتُ، فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَأْتِيَنًا؟ فَقُلْتُ: إِنِّي أَتَيْتُ، فَسَلَّمْتُ عَلَى بَابِكَ ثَلاَثًا، فَلَمْ تَرُدُّوا عَلَيَّ، فَرَجَعْتُ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلاَثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، فَلْيَرْجِعْ». قَالَ: لِتَأْتِيَنِي عَلَى هَذَا بِالبَيِّنَةِ!. فَقَالُوا: لاَ يَقُومُ إِلاَّ أَصْغَرُ القَوْمِ، فَقَامَ أَبُو سَعِيدٍ مَعَهُ فَشَهِدَ لَهُ. فَقَالَ عُمَرُ لأَبِي مُوسَى: «إِنِّي لَمْ أتَّهِمْكَ وَلَكِنَّهُ الحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -». أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما (¬24). ¬

_ (¬20) ج 1 ص 148. (¬21) ج 2 ص 132 من نسخة " شرحه " مع " المستصفى ". (¬22) " نصب الراية ": ج 3 ص 448. (¬23) " نصب الراية " للزيلعي: ج 4 ص384. (¬24) " فواتح الرحموت ": ج 2 ص133.

اشتباه ترك الفقيه للحديث:

2 - حديث عمر بن الخطاب وابنه عبد الله بن عمر عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إِنَّ المَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ». فقالت عائشة - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا -: رَحِمَ اللهُ عُمَرَ، وَاللهِ مَا حَدَّثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللهَ لَيُعَذِّبُ المُؤمِنَ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ)؛ [وَلكِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ]: (إِنَّ اللهَ لَيَزِيدُ الكَافِرَ عَذَابًا بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ) وَقَالَتْ: حَسْبُكُمُ القُرْآنُ {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]. متفق عليه. زاد مسلم: «إِنَّكُمْ لَتُحَدِّثُونِّي عَنْ غَيْرِ كَاذِبَيْنِ، وَلاَ مُكَذَّبَيْنِ، وَلَكِنَّ السَّمْعَ يُخْطِئُ». والجواب عن هذا: أنه ليس من إنكار خبر الواحد، لكن من باب التثبت والاحتياط لضبط الحديث، فهذا عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - يقول: «إِنِّي لَمْ أتَّهِمْكَ ... » وحديث تعذيب الميت ببكاء أهله رَدَّتْهُ عائشة - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - اجتهادًا منها كما هو ظاهر، لكن الحديث وارد في معنى صحيح يتحمل فيه الميت مسؤولية ذلك مثل أن يوصي أهله بالبكاء عليه كما كان يفعله أهل الجاهلية، يؤيد ذلك أن في رواية عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - لفظ الحديث: «بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ». فظهر بذلك أنه لا إشكال على حجية خبر الواحد الصحيح عند الصحابة الكرام. [د] دَلاَلَةُ العَقْلِ عَلَى حُجِّيَّةِ الوَاحِدِ: وحقيقة ذلك أن الاحتجاج بخبر الواحد الصحيح أمر بدهي تقضي به الفطرة، لا يحتاج إلى كثير من الاستدلالات والبراهين، فما من إنسان إلا وهو يعول في إبرام شؤونه في العمل أو التجارة أو الدراسة أو غيرها على ما يخبره به واحد موثوق من الناس، حيث يقع في نفسه صدق المخبر، ويغلب على احتمال الغلط أو احتمال الكذب، بل إن الشؤون الكبرى في مصير الأمم يعتمد فيها على أخبار الآحاد المعتمدين، كالسفراء، أو المبعوثين من قبل الحكومات، فالتوقف عن قبول خبر الواحد يفضي إلى تعطيل الدين والدنيا. اشْتِبَاهُ تَرْكِ الفَقِيهِ لِلْحَدِيثِ: تردد في بعض الأبحاث نسبة ترك الحديث إلى الفقهاء، وربما عَبَّرَ بعض الكاتبين بما لا يفهم حقيقة موقف الأئمة - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ -، بل إن بعضهم ربما صدر عنه مثل هذا لأنه لم يحتمل أن يرى عند أحد من الأئمة فهمًا أو استنباطًا غير فهمه هو، وقد جازف بعضهم فزعم أن «الأحاديث التي خالفوا أوامره - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيها التي لو تتبعها المتتبع لربما بلغت الألوف كما قال ابن حزم». هكذا بصيغة الألوف جمع الكثرة لا (الآلاف) جمع القلة. وهذا قول غريب جِدًّا، فهل ترك أئمة الإسلام كل أحاديث الأحكام؟؟ ثم ها هي ذي مصادر تخريج أحاديث الأحكام التي هي موضوع نظر الفقهاء ليخبرونا كم بلغت فيها عدة هذه الأحاديث؟؟. إن القضية في واقع الأمر أن الإمام المجتهد قد يجد أمامه من الأدلة ما يجعله يقدم -على الدليل الذي بين يديه دليلاً أقوى منه، أو يفهم منه معنى غير الذي أخذ به غيره أو استنبطه من النص. وأسرد لذلك ثلاثة أمثلة أشرح بها للأخوة القرّاء مواقف المجتهدين، فيتذكروا بذلك ما يجب تجاه أئمة هذا الدين، ولا يغتر أحد بما يردد من القيل حول هذه القضية من هجر الفقيه للحديث الصحيح، أو ادعاء أنه لم يطلع على الحديث. وهي أمثلة لفقهاء كبار من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين.

المثال الأول: حديث فاطمة بنت قيس أن زوجها طلقها ثلاثًا، فلم يجعل رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لها سكنى ولا نفقة، قال عمر رضي الله عنه: «لاَ نَتْرُكُ كِتَابَ اللهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِ امْرَأَةٍ، لاَ نَدْرِي لَعَلَّهَا حَفِظَتْ، أَوْ نَسِيَتْ، لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةِ، قَالَ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: {لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1]» متفق عليه (¬25). فقد وجد عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أن الأقوى هو الأخذ بنصوص القرآن وَالسُنَّةِ التي تدل على وجوب النفقة والسكنى لكل مطلقة مدة العدة، ومن ذلك المطلقة ثلاثاً، فقدم ذلك على حديث فاطمة بنت قيس ووافقه على ذلك كثير من الصحابة، وعمل بعض الصحابة بحديث فاطمة بنت قيس، لكن أحدًا لم يتهم عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - بترك الحديث وعصيان أمر النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. المثال الثاني: حديث أبي هريرة عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لاَ تُصَرُّوا الإِبِلَ وَالغَنَمَ، فَمَنِ ابْتَاعَهَا بَعْدُ فَإِنَّهُ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْتَلِبَهَا: إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَصَاعَ تَمْرٍ» متفق عليه (¬26). التصرية هي ربط أخلاف (أي أثداء) الناقة والشاة وترك حلبها حتى يجتمع لبنها فيكثر، فيظن المشتري أن ذلك عادتها، فنهى عن التصرية عند البيع لذلك. وقد ذهب الجمهور من العلماء إلى الأخذ بظاهر الحديث لمن اشترى شاة مصراة، إن شاء أمسكها، وإن شاء ردها وصاعاً من تمر مقابل الحليب الذي احتلبه منها. وذهب أبو حنيفة وصاحبه محمد بن الحسن وعليه الفتوى عند الحنفية إلى أنه لا يرد البيع بعيب التصرية، بل يجب الأرش، وهو أن يدفع البائع للمشتري عوضًا عن نقصان ثمن الشاة، الذي تبين له باكتشاف العيب أنها كانت مِصَرّاةً. وقد اشتهر عن الحنفية أنهم قدموا القياس على الحديث الصحيح، والقياس رأي، ومعلوم أنه لا رأي في مقابل النص. والحقيقة أن لفظة قياس هنا أوهمت غير المراد، وإن استعملت في بعض كتب أصول الحنفية، فإن المراد بالقياس هو الأصل الشرعي الثابت بأدلة القرآن وَالسُنَّةِ القطعية، التي توجب المساواة في العوض. مثل قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126]. وهذا عمل بالنص في الموضوع مُدَعَّمًا بأصول متفق عليها في المعاملات المالية (¬27)، نحو صنيع عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - في قصة فاطمة بنت قيس. المثال الثالث: ما أخرجه مالك عن نافع عن ابن عمر: ان النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المُتَبَايِعَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالخِيَارِ عَلَى صَاحِبِهِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، إِلاَّ بَيْعَ الخِيَارِ» وهو حديث متفق عليه، (¬28). وهذه السلسلة أصح الأسانيد وتسمى سلسلة الذهب، فقال الشافعي وأحمد بظاهر النص وهو تشريع الخيار بعد عقد البيع بعد أن يتفرق البَيِّعَانِ. وخالف الإمام مالك راوي الحديث بهذا السند الذي هو أصح الأسانيد وكذا الحنفية، وقالوا لهما الخيار بعد إيجاب أحدهما بقوله: «بِعْتُ» مثلاً قبل قبول الآخر بقوله: «اشْتَرَيْتُ». والسبب في ذلك أن القرآن أباح الانتفاع بالمبيع وبالثمن بمجرد العقد في قوله تعالى: {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] لم يقيده بما بعد المجلس، وكذلك ما قاله الإمام مالك نفسه في " الموطأ " فقال عقب رواية الحديث: «وَلَيْسَ لِهَذَا عِنْدَنَا حَدٌّ مَعْرُوفٌ، وَلاَ أَمْرٌ مَعْمُولٌ بِهِ فِيهِ». ¬

_ (¬25) انظر كتابنا " منهج النقد في علوم الحديث ": ص 53، 54. وتنبه إلى أن لفظة «صَدَقَتْ أَمْ كَذَبَتْ» لا أصل لها في رواية الحديث. (¬26) انظر دراسة الحديث من كتابنا " دراسات تطبيقية في الحديث النبوي " - المعاملات -: ص 137 - 141. (¬27) انظر التفصيل في كتابنا " دراسات تطبيقية "، وقد وضحنا هناك ميلنا مع الجمهور، ونبين هنا دفع الطعن عن الحنفية ومن وافقهم في أصل الفكرة مثل الزيدية وغيرهم. (¬28) انظر تخريج الحديث ودراسته في كتابنا " دراسات تطبيقية ": ص 157 - 160.

أثر الخبر الآحادي الصحيح في العقيدة:

وحاصله أنه لم يَدْرِ كَمْ يَسْتَمِرُّ المَجْلِسُ، فلو توقف الملك على التفرق لأدى إلى الغرر، وقد ثبت تحريم بيع الغرر بالسنن الصحيحة والإجماع. لذلك قالوا: إن المراد من الحديث إلا أن يتفرقا بأقوالهما، وذلك بأن يتم الإيجاب والقبول، ولفظ الحديث يتحمل هذا المعنى فعملوا بالحديث عليه للأدلة التي عرفتها، وهذا لا يجوز أن يجعل تَرْكًا لِلْسُنَّةِ النَّبَوِيَّةِ. أَثَرُ الخَبَرِ الآحَادِي الصَّحِيحِ فِي العَقِيدَةِ: نمهد لهذا البحث ببيان مراتب العلم الذي يستفاد من الدليل المعمول به في الشريعة: وهي ثلاث مراتب: 1 - العلم اليقيني القطعي: وهو ما ثبت بالأدلة القطعية اليقينية، كنص القرآن الكريم والحديث المتواتر، والحكم العقلي الذي لا يقبل رَدًّا، لكونه مِنَ المُسَلَّمَاتِ، مثل: «الثَّلاَثَةُ أَكْثَرُ مِنَ الاثْنَيْنِ»، وكون «الاثْنَيْنِ نِصْفُ الأَرْبَعَةِ». وهذا النوع يعرفه كل متعقل، ولو لم يكن من أهل الاختصاص العلمي في المسألة. والدليل الذي يثبت هذا العلم يجب قبوله والاعتقاد به وَيُكَفَّرُ جَاحِدُهُ، لأنه لفرط ظهور قطعيته صار مِنَ المُسَلَّمَاتِ المَقْطُوعِ بِهَا. وصارت الوسائط كأن لم تكن، وصار المطلع عليه كالسامع من النبي نفسه سواء بسواء، فيكون منكره مُكَذِّبًا بِالنَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. 2 - العلم النظري: وهو علم يقيني، لكن ليس ضروريًا، أي ليس ظاهرًا لكل أحد، إنما هو علم نظري استدلالي، لا يحصل إلا للعالم المتبحر في العلم، لتبحر الباحث في علم الحديث وفي أحوال الرواة والعلل ... 3 - علم غلبة الظن، والمراد بها: إدراك رجحان صدق القضية ووقوع ذلك في القلب موقع القبول، وذلك في كل قضية دَلَّ دليل صحيح على ثبوتها، لكن بقي احتمال مغلوب بعدم الثبوت، لم يقطع الدليل ذلك الاحتمال، فهذا الاحتمال لا يمنع من القبول، وربما يظنه بعض الناس ولا سيما العوام يَقِينًا، لعدم تفريقهم بين الأمرين، وإنما هو علم قائم على الشعور القوي بصحة القضية، وهذا يجب العمل به والأخذ بمقتضاه في الأحكام، كما أوضحنا فيما سبق، وهو في الواقع نوع من العلم، كما قال بعض الأصوليين. إنه إدراك الطرف الراجح. وهو ملزم أَيْضًا، لكن العلماء نَبَّهُوا على هذا الاحتمال الضعيف الذي في هذا النوع والذي لا يلتفت إليه، ليأخذ حكمه المناسب، بإزاء المرتبتين السابقتين. بعد هذا البيان لمراتب العلم فإني أرى أَيْضًا استكمال التمهيد بأن أقسم خبر الواحد الصحيح إلى قسمين: القسم الأول: خبر الواحد الصحيح من حيث هو. أي لم تحتف به قرائن تقويه. القسم الثاني: خبر الواحد الصحيح الذي احتف بقرائن تقويه، وترتفع به عن غلبة الظن. وهذا التمهيد في الواقع مُهِمٌّ جِدًّا لتسهيل فهم البحث على القارئ ووضوح الرؤية فيه، كي لا يتوهم من البحث ما لا يقصد من سياق العبارات. عِبَارَاتٌ مُوهِمَةٌ فِي أَثَرِ الحَدِيثِ الصَّحِيحِ: وقع في بعض النشرات التي صدرت في بيان حكم الحديث الصحيح عِبَارَاتٌ مُوهِمَةٌ، تحتاج إلى تحرير المراد منها، نسوق للقارئ بعض النماذج منها فيما يلي:

1 - «فكما كان لا يجوز للصحابي مثلاً أن يرد حديث النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا كان في العقيدة بحجة أنه خبر آحاد سمعه عن صحابي مثله عنه - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكذلك لا يجوز لمن بعده أن يرده بالحجة نفسها ما دام أن المخبر به ثقة عنده، وهكذا ينبغي أن يستمر الأمر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وقد كان الأمر كذلك في عهد التابعين والأئمة المجتهدين، كما سيأتي النص بذلك عن الإمام الشافعي - رَحِمَهُ اللهُ - تعالى. ثم خلف من بعدهم خلف أضاعوا السنة النبوية وأهملوها، بسبب أصول تبناها بعض علماء الكلام وقواعد زعمها بعض علماء الأصول والفقهاء المقلدين». 2 - «إن القائلين بأن حديث الآحاد لا تثبت به عقيدة يقولون في الوقت نفسه بأن الأحكام الشرعية تثبت بحديث الآحاد، وهم بهذا قد فرقوا بين العقائد والأحكام ... ». 3 - «لقد عرضت لهم شبهة ثم صارت لديهم عقيدة! وهي أن حديث الآحاد لا يفيد إلا الظن، ويعنون به الظن الراجح طَبْعًا، والظن الراجح يجب العمل به في الأحكام، اتفاقًا ولا يجوز الأخذ به عندهم في الأخبار الغيبية، والمسائل العلمية، وهي المراد بالعقيدة». 4 - ذكروا تحت عنوان: فساد قياس الخبر الشرعي على الأخبار الأخرى في إفادة العلم: قال ابن القيم - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - (2/ 368): «وَإِنَّمَا أُتِيَ مُنْكِرُ إِفَادَةِ خَبَرِ الوَاحِدِ لِلْعِلْمِ مِنْ جِهَةِ القِيَاسِ الْفَاسِدِ، فَإِنَّهُ قَاسَ المُخْبِرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَرْعٍ عَامٍّ لِلأُمَّةِ أَوْ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الرَّبِّ تَعَالَى عَلَى خَبَرِ الشَّاهِدِ عَلَى قَضِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ، وَيَا بُعْدَ مَا بَيْنَهُمَا! فَإِنَّ المُخْبِرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ كَذَبَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، وَلَمْ يَظْهَرْ مَا يَدُلُّ عَلَى كَذِبِهِ لَزِمَ عَلَى ذَلِكَ إِضْلاَلُ الخَلْقِ، إِذِ الكَلاَمُ فِي الخَبَرِ الذِي تَلَقَّتْهُ الأُمَّةُ بِالقَبُولِ وَعَمِلَتْ [بِمُوجَبِهِ]». 5 - سبق قبل هذا قولهم: «والحق الذي نراه ونعتقده أن كل حديث أحادي صحيح تلقته الأمة بالقبول من غير نكير منها عليه أو طعن فيه، فإنه يفيد العلم واليقين، سواء كان في أحد " الصحيحين " أو في غيرهما». 6 - وفي نشرة أخرى يقولون: «إن دعوى اتفاق الأصوليين على ذلك القول دعوى باطلة، وجرأة زائدة، فإن الاختلاف معروف في كتب الأصول وغيرها، وقد نص على أن خبر الواحد يفيد العلم الإمام مالك والشافعي وأصحاب أبي حنيفة وداود بن علي وأصحابه كابن حزم ... ». 7 - نقلوا عن الشيخ أبي اسحاق الشيرازي من فقهاء الشافعية قوله: «وخبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول يوجب العلم والعمل، سواء عمل به الكل أو البعض». ونقلوا قول القاضي أبي يعلى الحنبلي: «خبر الواحد يوجب العلم إذا صح سنده، ولم تختلف الرواية فيه، وتلقته الأمة بالقبول، وأصحابنا يطلقون القول فيه وأنه يوجب العلم وإن لم تتلقه الأمة بالقبول». قال: «والمذهب على ما حكيت لا غير». ففي هذه العبارات إيهامات لغير الحق منها: 1 - إيهام أن المتأخرين من علماء المذاهب لم يأخذوا بالحديث الآحادي الصحيح في العقائد، كما قد يفهم من العبارتين رقم / 1 و 2/ وأنهم خالفوا مذاهب أئمتهم، في هذا الأمر، وأسلوب العبارة قد يؤخذ منه

أثر الخبر الصحيح المجرد في العقيدة:

التعميم، كما أنه لم يميز بين ما احتف بالقرائن وبين ما لم يحتف، ولم يوضح الوجه الذي حصل به عدم أخذهم بالحديث الصحيح الآحادي في العقائد؟! 2 - يؤخذ من العبارات عدم التمييز بين الخبر الآحادي الصحيح المحتف بالقرائن وبين المجرد عنها، حيث يذكر كلام العلماء في أن الخبر المحتف بالقرائن يفيد العلم ويجعل هذا شاهدًا على إفادة الحديث الصحيح للعلم بتعبير مطلق لم يقيده بأنه محتف بالقرائن، كما يلاحظ أن التقديم الملخص لفكرة النشر التي نناقشها، يذكر اختيار إفادة الحديث الصحيح المتلقى بالقبول عند الأمة للعلم، ومضمون النشرة تارة يتقيد بذلك وتارة لا يتقيد وهو الأكثر. 3 - في العبارة رقم /6/ ينسب القول بإفادة الخبر الآحادي العلم إلى الشافعي ومالك وأصحاب أبي حنيفة، دون تقييد بكونه تلقته الأمة بالقبول، بينما كلام الإمام الشيرازي الشافعي واضح بأن هذا الحكم إنما هو للحديث الذي تلقته الأمة بالقبول، وكذلك صرح أبو يعلى الحنبلي بأن على هذا أَيْضًا المذهب أي مذهب الإمام أحمد بن حنبل - رَحِمَهُ اللهُ - تعالى. ونحرر فيما يلي البحث في هذه النواحي، بتحقيق يضع كل جزئية في موضعها الصحيح إن شاء الله تعالى: أَثَرُ الخَبَرِ الصَّحِيحِ المُجَرَّدِ فِي العَقِيدَةِ: المعروف أن الخبر الآحادي الصحيح الذي لم تتلقه الأمة بالقبول، ولم يحتف بقرائن تُقَوِّيهِ لا يفيد العلم اليقيني، بل يفيد علم غلبة الظن، وهذا هو مذهب الأئمة الأربعة وجماهير علماء أصول الفقه، وعباراتهم في ذلك أكثر من أن تحصر. وذهب ابن حزم وبعض أهل الحديث إلى أنه يفيد العلم، ونسب ذلك الباجي إلى الإمام أحمد، وابن خويز منداد للإمام مالك. لكن في هذه النسبة إشكال: فقد رأيت من كلام القاضي أبي يعلى الجزم بأن مذهب الإمام أحمد إنما هو في إفادة الخبر المتلقى بالقبول للعلم، خِلاَفًا لمن لم يقيده بذلك، وكذلك نازع المازري ابن خويز منداد فيما نسبه لمالك (¬29)، وكتب أصول الفقه المالكي واضحة في اتجاه المازري. وقد استنكر الأصوليون أصل هذا المذهب، وَأَوَّلُوا مَا عُزِيَ مِنْهُ لِلأَئِمَّةِ؛ قال الإمام الغزالي (¬30): «خَبَرُ الوَاحِدِ لاَ يُفِيدُ العِلْمَ، وَهُوَ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ فَإِنَّا لاَ نُصَدِّقُ بِكُلِّ مَا نَسْمَعُ، وَلَوْ صَدَّقْنَا وَقَدَّرْنَا تَعَارُضَ خَبَرَيْنِ فَكَيْفَ نُصَدِّقُ بِالضِّدَّيْنِ وَمَا حُكِيَ عَنْ المُحَدِّثِينَ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ العِلْمَ فَلَعَلَّهُمْ أَرَادُوا أَنَّهُ يُفِيدُ العِلْمَ بِوُجُوبِ العَمَلِ؛ إذْ يُسَمَّى الظَّنُّ عِلْمًا». أي لكن لا يراد به المعنى الاصطلاحي الذي شرحناه من قبل. فالحقيقة أن مستقر هذه الفكرة هو مذهب الظاهرية، وقد قال بها بعض العصريين وَرَجَّحَهَا تَبَعًا لميله إلى ابن حزم الظاهري. وليس مراد الجمهور من قولهم: «لاَ يُفِيدُ العِلْمَ» أنه لا يلزم تصديقه كما قد يتوهم، بل مرادهم أنه ليس بمنزلة المتواتر لأن المتواتر يفيد عِلْمًا قَاطِعًا يَقِينِيًّا لا يخطر في البال وجود أي احتمال للخطأ فيه، مهما كان الاحتمال ضعيفًا، مثل واحد من مليون. أما خبر الواحد فيفيد الصدق والقبول، لكن يقع في ذهن الباحث العالم أنه قد يحتمل وقوع الخطأ أو الكذب فيه، لما سبق أن الثقة ليس معصومًا من الذنب، وليس وصفه بالضبط يعني أنه لا يخطئ، بل يعتبر ثقة إذا كانت أوهامه ¬

_ (¬29) " تدريب الراوي ": ج 1 ص 75. (¬30) " المستصفى ": ج 1 ص 145. وانظر " شرح مسلم الثبوت ": ج 2 ص 121.

نادرة. فالاحتمال موجود في تصور العقل، لكنه بعيد لغلبة صدق الراوي وأمانته وضبطه للحديث، فكان من منهج العلماء العلمي الدقيق التنبيه على مثل هذا الفرق، لوضع كل شيء في موضعه الذي هو عليه، وإن كان مثل هذا قد يخفى على كثير من الناس، ولا سيما العوام، بل إن عامة الناس، بل بعض أهل العلم الذين لم يمهروا في تطبيق أصول هذا الفن قد يكتفي بتدين الشخص عن اتصافه بالضبط، يقول أحدهم: «حَدَّثَنِي فُلاَنٌ وَهُوَ رَجُلٌ صَدُوقٌ لَوْ قُطِعَتْ عُنُقُهُ لَمْ يَكْذِبْ!». أما المحدث فلا يكتفي بذلك لقبول خبره، حتى يتثبت من ضبطه. لكن ليس معنى هذا أنه لا يجب التصديق بخبر الواحد الصحيح، كَلاَّ، ثُمَّ كَلاَّ، بل قد قرر العلماء من كل المذاهب لزوم الاعتقاد بالخبر الآحادي الصحيح، كما قرروا وجوب العمل به أَيْضًا، ولم يفرقوا بين الأمرين كما قد يظن. يقول الإمام السرخسي الحنفي - رَحِمَهُ اللهُ - بعد بيان نحو ما قدمناه (¬31): «فأما الآثار المروية في عذاب القبر ونحوها فبعضها مشهورة وبعضها آحاد، وهي توجب عقد القلب عليه، والابتلاء بعقد القلب على الشيء بمنزلة الابتلاء بالعمل به أو أهم ... ». وقال الإمام البَزْدَوِيُّ في " أصوله " (¬32): «فأما الآحاد في أحكام الآخرة فمن ذلك ما هو مشهور ومن ذلك ما هو دونه، لكنه يوجب ضَرْبًا من العلم على ما قلنا، وفيه ضرب من العمل أَيْضًا، وهو عقد القلب .. ». وقال الإمام الشافعي - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ - في " الرسالة " (¬33): «أما ما كان نص كتاب بَيِّنٍ أَوْ سُنَّةٍ مجتمع عليها فالعذر فيها مقطوع، ولا يسع الشك في واحد منهما، ومن امتنع من قبوله استتيب. فأما ما كان من سنة من خبر الخاصة الذي قد يختلف الخبر فيه فيكون الخبر محتملاً للتأويل وجاء الخبر فيه من طريق الانفراد، فالحجة فيه عندي أن يلزم العالمين حتى لا يكون لهم رد ما كان منصوصًا منه، كما يلزمهم أن يقبلوا شهادة العدول، لا أن ذلك إحاطة كما يكون نص الكتاب وخبر العامة عن رسول الله. ولو شك في هذا شاك لم نقل له: تُبْ، وقلنا: ليس لك إن كنت عالمًا أن تشك، كما ليس لك إلا أن تقضي بشهادة الشهود العدول، وإن أمكن فيهم الغلط، ولكن تقضي بذلك على الظاهر من صدقهم، والله ولي ما غاب عنك منهم». انتهى. وغير ذلك كثير لا نطيل به من نقل كلام الأئمة وغيرهم - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ -، يدل على أنهم ألزموا قبول خبر الواحد الصحيح في الاعتقاد والعمل، ولم يفرقوا بينهما في حكم اللزوم هذا. نعم إنهم فرقوا في هذا الموضوع تفريقًا آخر، هو التفريق في بعض النتائج بين خبر الواحد الصحيح وبين الخبر المتواتر. وهذا الفرق هو أنهم قالوا: من أنكر مسالة فكرية وردت في خبر آحادي صحيح فإنه لا يحل له ذلك ويأثم، لكنه لا يكفر، أما إذا جحد ما ثبت بالتواتر القطعي أو بنص القرآن القطعي فإنه يكفر عِيَاذًا بِاللهِ تَعَالَى. والسبب في ذلك ما ذكرناه أن إنكار النص اليقيني القطعي يعني التكذيب بالشارع لا محالة، أما إنكار الخبر الآحادي ففيه شبهة احتمال الإنكار على الرواة، وشبهة خطئهم، لما عرفنا أن رواة الخبر الصحيح غير ¬

_ (¬31) ج 1 ص 329، 330. (¬32) ج 1 ص 696. (¬33) ص 460، 461.

أثر الحديث الصحيح المحتف بالقرائن في العقيدة:

معصومين من الخطأ والكذب، وإن كان ذلك مُسْتَبْعَدًا كما ذكرنا، لكن ذلك أورث شبهة منعت من الحكم عليه بالكفر. وكلام الإمام الشافعي الذي ذكرناه واضح في هذا الحكم قال: «ولو شك في هذا شاك لم نقل له تُبْ، وقلنا: ليس لك إن كنت عالمًا أن تشك كما ليس لك إلا أن تقضي بشهادة الشهود العدول، وإن أمكن فيهم الغلط، ولكن تقضي بذلك على الظاهر من صدقهم، والله ولي ما غاب عنك منهم». وقال الإمام صدر الشريعة في كتاب " التوضيح " في أصول الحنفية: «وَالوَاجِبُ لاَزِمٌ عَمَلاً، لاَ عِلْمًا، فَلاَ يُكَفَّرُ جَاحِدُهُ، بَلْ يَفْسُقُ إِنْ اسْتَخَفَّ بِأَخْبَارِ الآحَادِ الغَيْرِ المُؤَوَّلَةِ، وَأَمَّا مُؤَوَّلاً فَلاَ». ومعنى قوله مُسْتَخِفًّا أي بغير حجة على الإنكار، بدليل مقابلته بالمتأول. أما المستخف حقيقة فحكمه أشد. وبهذا تكون قضية الخبر الآحادي الصحيح المجرد عن القرائن قد استكملت بيانها بما فيه الكفاية حسب مقتضى هذا المقام هنا إن شاء الله تعالى. أَثَرُ الحَدِيثِ الصَّحِيحِ المُحْتَفِّ بِالقَرَائِنِ فِي العَقِيدَةِ: إذا كان التصديق يلزم بالحديث الصحيح الآحادي المجرد عن القرائن المقوية له، فإن من الأولى إلزام الاعتقاد بالحديث الصحيح المحتف بقرائن تجعله يفيد العلم النظري. لكن هل يبلغ خبر الآحاد قوة إفادة العلم بالقرائن، أو لا يمكن أن يبلغ ذلك المبلغ: يرى الإمام الغزالي أن القرائن قد ترقى بالخبر الصحيح إلى إفادة العلم، ويقول في ذلك (¬34): «وَمُجَرَّدُ القَرَائِنِ أَيْضًا قَدْ يُورِثُ العِلْمَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إخْبَارٌ؛ فَلاَ يَبْعُدُ أَنْ تَنْضَمَّ القَرَائِنُ إلَى الأَخْبَارِ فَيَقُومُ بَعْضُ القَرَائِنِ مَقَامَ بَعْضِ العَدَدِ مِنْ المُخْبِرِينَ، وَلاَ يَنْكَشِفُ هَذَا إلاَّ بِمَعْرِفَةِ مَعْنَى القَرَائِنِ وَكَيْفِيَّةِ دَلاَلَتهَا، فَنَقُولُ: لاَ شَكَّ فِي أَنَّا نَعْرِفُ أُمُورًا لَيْسَتْ مَحْسُوسَةً، إذْ نَعْرِفُ مِنْ غَيْرِنَا حُبَّهُ لإِنْسَانٍ وَبُغْضَهُ لَهُ وَخَوْفَهُ مِنْهُ وَغَضَبَهُ وَخَجَلَهُ، وَهَذِهِ أَحْوَالٌ فِي نَفْسِ المُحِبِّ وَالمُبْغِضِ لاَ يَتَعَلَّقُ الحِسُّ بِهَا قَدْ تَدُلُّ عَلَيْهَا دَلاَلاَتٌ آحَادُهَا لَيْسَتْ قَطْعِيَّةً، بَلْ يَتَطَرَّقُ إلَيْهَا الاحْتِمَالُ، وَلَكِنْ تَمِيلُ النَّفْسُ بِهَا إلَى اعْتِقَادٍ ضَعِيفٍ. ثُمَّ الثَّانِي وَالثَّالِثُ يُؤَكِّدُ ذَلِكَ، وَلَوْ أُفْرِدَتْ آحَادُهَا لَتَطَرَّقَ إلَيْهَا الاحْتِمَالُ، وَلَكِنْ يَحْصُلُ القَطْعُ بِاجْتِمَاعِهَا». ويقول الغزالي أَيْضًا (¬35): «وَكُلُّ دَلاَلَةٍ شَاهِدَةٍ يَتَطَرَّقُ إلَيْهَا الاحْتِمَالُ كَقَوْلِ كُلِّ مُخْبِرٍ عَلَى حِيَالِهِ، وَيَنْشَأُ مِنْ الاجْتِمَاعِ العِلْمُ، وَكَأَنَّ هَذَا مَدْرَكٌ سَادِسٌ مِنْ مَدَارِكِ العِلْمِ سِوَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي المُقَدِّمَةِ مِنْ الأَوَّلِيَّاتِ وَالمَحْسُوسَاتِ وَالمُشَاهَدَاتِ البَاطِنَةِ وَالتَّجْرِيبَاتِ والمُتَواتَرَاتِ فَيُلْحَقُ هَذَا بِهَا. وَإِذَا كَانَ هَذَا غَيْرَ مُنْكَرٍ فَلاَ يَبْعُدُ أَنْ يَحْصُلَ التَّصْدِيقُ بِقَوْلِ عَدَدٍ نَاقِصٍ عِنْدَ انْضِمَامِ قَرَائِنَ إلَيْهِ لَوْ تَجَرَّدَ عَنْ القَرَائِنِ لَمْ يُفِدْ العِلْمُ، فَإِنَّهُ إذَا أَخْبَرَ خَمْسَةٌ أَوْ سِتَّةٌ عَنْ مَوْتِ إنْسَانٍ لاَ يَحْصُلُ العِلْمُ بِصِدْقِهِمْ، لَكِنْ إذَا انْضَمَّ إلَيْهِ خُرُوجُ وَالِدِ المَيِّتِ مِنْ الدَّارِ حَاسِرَ الرَّأْسِ حَافِيَ الرِّجْلِ مُمَزَّقَ الثِّيَابِ مُضْطَرِبَ الحَالِ يَصْفِقُ وَجْهَهُ وَرَأْسَهُ وَهُوَ رَجُلٌ كَبِيرٌ ذُو مَنْصِبٍ وَمُرُوءَةٍ لاَ يُخَالِفُ عَادَتَهُ وَمُرُوءَتَهُ [إلا عن ضرورة فيجوز أن يكون قرينة تنضم إلى قول أولئك فتقوم في التأثير مقام بقية العدد] (*) وَالتَّجْرِبَةُ تَدُلُّ عَلَيْهِ ... ». ¬

_ (¬34) " المستصفى ": ج 1 ص 135. (¬35) ص136، لكن الغزالي يتوقف عن إفادة الخبر الآحادي الفرد للعلم، كما هو صريح كلامه بعد هذا. ---------------------- [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]: (*) ما بين [ ..... ] لم أجده في " المستصفى " للإمام الغزالي.

الفرق بين العلم القطعي والعلم النظري:

وخالف في أصل المسألة صاحبا " مُسلِّمِ الثبوت " وشرحه " فواتح الرحموت " من الحنفية، وقالا: إنه لا يفيد العلم، وفي " المُسلَّم " و" شرحه " مناقشة مطولة متسلسلة حول هذه القضية، يمكن أن تتبلور فكرتها أمام القارئ بهذا النقاش الموجز نسوقه من المتن والشرح (¬36): «إن دلت القرينة على تحقق مضمون الخبر قَطْعًا، كالعلم بخجَل الخجِل ووجَل الوَجِل الحاصلين من مشاهدةَ الحمرة والصفرة، فالعلم بها أي بالقرينة دون الخبر، وإن دلت القرينة عليه ظَنًّا، والخبر يدل على تحقق مضمونه أَيْضًا يدل ظَنًّا، فمن الظنين الحاصل أحدهما بالقرينة والآخر بالخبر لا يلزم العلم ضرورة». انتهى. وفي رأيي أن التحقيق والتدقيق في مناقشات الفريقين يؤدي إلى أن الخلاف بينهم في هذه القضية ليس خِلاَفًا حَقِيقِيًّا، بل هو خلاف لفظي، لأن الذي ينفيه دليل المانعين في شقه الأول هو إفادة خبر الآحاد العلم بنفسه، وهذا لا يمنع إفادة العلم بالمجموع، وهو المطلوب، والذي ينفيه دليل المانعين في شقه الثاني هو لزوم إفادة مجموع الخبر والقرائن العلم ضرورة، وليس هذا هو المدعى، إنما المدعى إمكان إفادة العلم النظري، فإذا تحقق هذا الإمكان، فما المانع من الأخذ به عند تحقيقه؟. الفَرْقُ بَيْنَ العِلْمِ القَطْعِيِّ وَالعِلْمِ النَّظَرِيِّ: وهذا العلم هو علم نظري استدلالي يقيني، لكنه ليس كالعلم الضروري القطعي الذي يفيده الخبر المتواتر، بل إن هناك فرقًا بينهما ذكره علماء الأصول وعلماء الحديث: يقول الإمام الغزالي (¬37): «النَّظَرِيُّ هُوَ الذِي يَجُوزُ أَنْ يَعْرِضَ فِيهِ الشَّكُّ، وَتَخْتَلِفُ فِيهِ [الأَحْوَالُ] فَيَعْلَمُهُ بَعْضُ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ [وَلاَ يَعْلَمُهُ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ] وَمَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ وَلاَ يَعْلَمُهُ مَنْ تَرَكَ النَّظَرَ قَصْدًا، وَكُلُّ عِلْمٍ نَظَرِيٍّ فَالْعَالِمُ بِهِ قَدْ يَجِدُ نَفْسَهُ [فِيهِ] شَاكًّا ثُمَّ طَالِبًا». ويقول الحافظ ابن حجر في " شرح النخبة " (¬38): «وهذه الأنواع التي ذكرناها لا يحصل العلم بصدق الخبر منها إلا للعالم بالحديث المتبحر فيه العارف بأحوال الرواة المطلع على العلل. وكون غيره لا يحصل له العلم بصدق ذلك لقصوره عن الأوصاف المذكورة لا ينفي حصول العلم للمتبحر المذكور». حُكْمُ العِلْمِ النَّظَرِيِّ: ولما كان العلم النظري مختلفًا عن العلم القطعي الضروري هذا الاختلاف، فقد اختلف حكم الخبر الذي ترقى بالقرائن لإفادة العلم النظري عن الحديث المتواتر، من أوجه نذكر منها: 1 - أن الحكم على الحديث إذا بلغ إفادة القطع يختلف من شخص إلى آخر، لأن القضية قضية بحث، وما يكون كافيًا عند بعض أهل العلم قد لا يكفي عند غيره، فلا يجوز الإنكار فيه على من لم يجد البحث كافيًا لإثبات أن الدليل الفلاني بعينه لا يبلغ درجة العلم. 2 - أن من أنكر قضية ثابتة بدليل يفيد العلم النظري يأثم، بل يضلل عِيَاذًا بِاللهِ تَعَالَى، وهو حكم أشد من حكم المنكر للخبر الآحادي المجرد، لكنه لا يكفر اتفاقًا. قال العلامة محب الله بن عبد الشكور في الكلام على الحديث المشهور (¬39): «وجعله الجصاص قسمًا من المتواتر مفيدًا للعلم نظرًا، والاتفاق على أن جاحده لا يكفر، بل يضلل». قال المحقق عبد العلي الأنصاري في " شرحه " يعلق على قوله: «جَاحِدُهُ لاَ يُكَفَّرُ» -: ¬

_ (¬36) ج 2 ص 121. (¬37) " المستصفى ": ج 1 ص 132، 133. (¬38) " نسخة شرح الشرح ": للقاري ص 46. (¬39) في " مسلم الثبوت ":ج 2 ص 11، 112.

أنواع من الحديث تفيد العلم النظري:

«أما عند غير الشيخ أبي بكر الجصاص فظاهر، وأما عنده فلأن قطعيته نظرية، فقد دخل في حيز الإشكال، وما قيل إنه لم يبق على هذا ثمرة للخلاف، ففيه أن الثمرة عنده لما كان قَطْعِيًّا يعارض الكتاب وينسخه جميع أنحاء النسخ، بخلاف الجمهور ... ». ومن هنا نفهم المراد من إطلاق عبارات بعض الأصوليين حين يقولون: «خَبَرُ الوَاحِدِ لاَ يُفِيدُ العِلْمَ». وقول بعضهم: «لاَ تَثْبُتُ بِهِ العَقِيدَةُ» فإن مرادهم أن خبر الواحد لا يفيد العلم اليقيني القطعي الذي يفيده نص القرآن والخبر المتواتر القطعي، إنما يفيد مع القرائن العلم النظري، وإنه بالتالي لا تثبت به العقيدة أي التي هي فرض مثل أركان الإيمان في أنه يكفر جاحدها، لكن يجب الاعتقاد به قولاً واحدًا كما ذكرنا من قبل، ويضلل منكره. أَنْوَاعٌ مِنَ الحَدِيثِ تُفِيدُ العِلْمَ النَّظَرِيَّ: وفي الختام نذكر للقارئ أنواعًا من حديث الآحاد الذي يفيد العلم النظري لاحتفافه بالقرائن: 1 - الخبر الذي تلقته الأمة بالقبول، كما مر في أكثر من موضع. وألحق به الإمام أبو بكر الجصاص الحنفي الخبر المشهور كما ذكرنا، وذلك بمعنى الشهرة عند الحنفية. واستدل لرأيه باستحالة أن تتفق عليه الأمة ويكون خطأ لأنه يصير مُجْمَعًا عَلَيْهِ (¬40)، وغيره من الحنفية يقولون إنه يفيد علم الطمأنينة بسبب هذا التواتر والتلقي، وهذا قريب جِدًّا من القول بأنه يفيد العلم النظري، لأنهم قالوا إنه قد يعرض فيه الشك كما سبق. ومن هنا نجد للحنفية مُسْتَمْسَكًا بجعل المشهور قِسْمًا مُنْفَرِدًا، لأنه استقل بهذه المزية في قوة الاحتجاج. 2 - المشهور عند علماء الحديث، وقد سبق تعريفه، وذلك إذا كانت له طرق متباينة سالمة من ضعف الرواة والعلل. 3 - المسلسل بالأئمة الحفاظ المتقنين حيث لا يكون غَرِيبًا، مثل حديث مالك عن نافع عن ابن عمر، وهي سلسلة الذهب. فإنه يفيد العلم عند سامعه بالاستدلال من جهة جلالة رواته، بما يقوم مقام العدد الكثير من غيرهم. فإذا انضاف إليه من هو في تلك الدرجة ازداد قوة وبعد عما يخشى عليه، وصار مُفِيدًا للعلم عند العالم المتبحر كما ذكرنا من قبل (¬41). وبهذا نكون قد وفينا مسألة أثر الحديث الصحيح في العمل والعقيدة حقها من البيان في حدود ما يسمح به المجال ههنا، وظهرت بذلك منهجية أئمة العلم في إعطاء كل نوع من الحديث ما يطابق وضع رتبته تمامًا، من غير تشدد ولا غلو، خِلاَفًا لما يذهب إليه المتهوكون من الحكم على الناس بالكفر لأي مخالفة تبدر من الإنسان، ومن غير إجحاف بحق الدليل الشرعي وما يجب على المسلم نحوه. الدكتور نور الدين عتر. ¬

_ (¬40) " فواتح الرحموت " ج 2 ص 111 وهذا المستند تبناه بعد ذلك ابن القيم في الاستدلال على إفادة الحديث الذي تلقته الأمة بالقبول للعلم النظري. (¬41) " نزهة النظر شرح نخبة الفكر " للحافظ ابن حجر: 45، 46.

§1/1