خاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم

محمد أبو زهرة

الجزء الأول

الجزء الأول نشأته- شبابه- بعثته مصابرته المشركين اتصاله بالقبائل هجرته صلى الله عليه وسلم

مقدمة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مقدمة محمد رسول الله وخاتم النبيين لله الحمد على ما أنعم، وله الفضل فيما أكرم، إذ أكمل الدين، وأتم الرسالة الإلهية، بإرسال محمد صلّى الله عليه وسلّم بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله، فأكمل الهداية، وأبلغ الغاية، وكشف المحجة، وبين الجادة، ورفع راية الاسلام القوى العزيز، المكين، وحمل الحواريون من أصحابه ما حملهم الله، فقاموا بواجب التبليغ، وأدوا الأمانة التى حملوها، فكانوا منارا مقتبسا من نوره، فرضى عنهم، ورحم الإنسانية بما اقتبسوا من معانى الرسالة المحمدية. يا رسول الله: إن الله خلقك بشرا سويا، ولكنك فوق سائر البشر، واثارك التى حملتها الأجيال من بعدك فوق القدر، ونحن معشر المتبعين لك إن كان فينا شرف هذا الاتباع إنما ندرك بالتصوير أمثالنا. فمن خواطرنا ومنازع نفوسنا نتعرف نفوس غيرنا، ونحكم على أحوالهم، وإن حاولنا أن ندرك من هو أعلى منا، فإنه يجب أن يكون علوه على مرأى أنظارنا، وفى مطالع افاقنا، فعندئذ نحاول وقد نصل، ولكنك يا رسول الله فى علو لا نصل إليه، وفى سماك لا نراه، وليس منا من يضاهئك حتى نتمثله ونتخيله، فأنّى لأمثالنا أن يكتب فى شأنك، وأن يعلو إلى شأوك، إن ذلك أمر فوق المنال، ويعلو على مدارك الخيال. ومن أجل هذا نضرع إلى الله أن ينالنا بغفرانه، إن تسامينا محاولين الوصول إلى الكتابة فيك، فالمعذرة قائمة، والقصور ثابت، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها. يا رسول الله: قد كتبنا فى أئمة أعلام، قد قبسوا من نورك قبسة أو قبسات، أدركنا نورهم، ووفقنا الله تعالى إلى ما نحسب أننا وصلنا فيه إلى ما يفيد، وبمقدار ما قبسوا كنا ندرك ما به شرفوا، وما به أصابوا. واهتدوا. فلما جئنا إلى ساحتك. وحاولنا أن ندخل إليها، غمرنا النور، وكف أبصارنا الضوء المنير، فأنّى ندرك، وأنّى نرى، وقد صرنا كذى رمد غمره ضوء الشمس، أما ما هو أعلى، فأصابتنا الحيرة، ولا هادى لنا يخرجنا منها، إلا أن تكون الهداية من الله تعالى كما أمر إذ قال سبحانه: قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ «1» فليس لنا إلا أن نلجأ إليه ضارعين أن يهدينا لتصوير شخصك الطاهر المطهر، أو لتقريبه إذا كان التصوير فوق طاقتنا، وأعلى من أن نصل إليه، فإن التقريب يحل عند العجز محل التسديد، والعجز مغفور، والقاصر معذور، والله عفو غفور.

_ (1) سورة ال عمران: 73.

يا رسول الله:

يا رسول الله: إننا نكتب فى العظماء لنصور نواحى عظمتهم، ولكل عظيم ناحية واحدة من نواحى العظمة، فالاتجاه إلى تلك الناحية هو مفتاح عظمته، فتسهل معرفته، ولكنك يا رسول الله فوق عظمة الأشخاص، لأن وجوه عظمتك تعددت، حتى يعجز المحصى عن الإحصاء، والمستقرئ عن الاستقراء، وإذا نفدت الطاقة أقر مطمئنا بعجزه، ومؤمنا بأن وجودك فى هذا الوجود معجزة البشر، فإذا كنت من البشر، ولست فى كونك إلا بشرا، فلست إلها، ولست ملكا من الملائكة، فإنك فى مقام أعلى من سائر البشر ومن الملائكة، صانك ربك، وحفظك ورباك على عينه، حتى كنت وحيدا بين الغلمان، بما كلأك الله به وحماك، وصبيا فريدا بين الصبيان، وكنت الشاب الأمين عن رجس الجاهلية بين الشباب، فكل شىء فى حياتك الأولى كان من الخوارق التى علت عن الأسباب والمسببات، فلم تكن أثر تربية موجهة، ولا أثر بيئة حاملة، ولا أثر شرف رفيع، وإن كان محققا، ولكنك كنت صنيع الله، فكنت معجزة بشخصك وكونك ووجودك، فيك البشرية، وفيك المعجزة الإلهية اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ «1» . يا رسول الله يا خير البشر: كنت ذا الخلق القويم، والسياسى الحكيم، والقائد العظيم، والحاكم الرفيق، والمربى لأمتك بالشورى، والوحى ينزل إليك، وكنت الرؤف بأمتك، والمحارب الرحيم، وحامل لواء السلام فى مرحمة النبى، وعزة القوى، أنشأت جماعة مؤمنة ابتدأت بها بذرا صالحا، وأخذ ينمو فى بيئتك الطاهرة، مختفيا فى خلايا الإيمان، حتى أخرج شطأه، فظهر متعرضا لمقاومة الحدثان، قويا فى تكوينه حتى استغلظ واستوى على سوقه، وصار قوة الحق فى الأرض، وكنت كما قال الله تعالى مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ، تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً، يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً، سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ، ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ، وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ «2» وكل ذلك بتوجيه ربك، وإلهام نفسك، وعلو فكرك، وقوة قلبك، فمن أى ناحية يدرس حياتك الدارس، وقد كان كل شىء فيك قويا عظيما، كما قال فيك ربك، وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ «3» . اللهم ربى، ولا خالق سواك، ولا إله غيرك.. وليس كمثلك شىء، وأنت السميع البصير، خلقت محمدا من البشر، وجعلته سيد البشر، وأرسلته رحمة للعالمين، وإذا كان وجوده وما أحاط به خارقا للأسباب والمسببات فقد أرسلته بمعجزة لا تزال تتحدى الخليقة إلى يوم الدين.

_ (1) سورة الأنعام: 124. (2) سورة الفتح: 29. (3) سورة القلم: 4.

ربى العظيم:

ربى العظيم: لقد تطاولت فاعتزمت أن أكتب فى سيرة نبيك وخاتم أنبيائك محمد صلّى الله عليه وسلّم، فاغفر لى يا رب ذلك التطاول، إنك أنت الغفور الرحيم، وأمدنى بعونك وتوفيقك فى هذا المقام الذى يعلو عن طاقتى، وتعجز فيه قدرتى إن لم يكن منك العون. رب لا تخزنى، فإنه لا قدرة لى إلا بتوفيقك، ولك الفضل، والمن، وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ «1» . وإنى قد اتجهت إلى القصد فى القول. فمهما يكن الإطناب، فإنه لا يصل إلى الغاية ولا يبلغ الشأو. ولذلك اجتهدنا فيما هو تحت سلطان قدرتنا، ومع ذلك استطال بنا القول، وإن لم ندرك النهاية، فهى فوق قدرة عاجر مثلى، ولقد قسمت الكتاب إلى ثلاثة أجزاء: أولها- ذكر حياة النبى صلّى الله عليه وسلّم من ولادته التى حاطتها الخوارق، وحياته التى كانت كلها إرهاصات بالنبوة، حتى بعثه الله تعالى بشرا رسولا، وأوذى هو وحواريوه فى الله، وصبر وصابر، حتى كانت الهجرة التى أنشئت بها مدينة الإسلام، ودولة الإيمان. والثانى- فى جهاده، وقمع الشرك، وفتح الطريق للدعوة المحمدية، وإزالة المحاجزات من طغيان الظالمين، وفتنة المؤمنين، حتى تسير الدعوة فى طريقها من غير عوج، وفى طريق معبد لا يحاجزه الشر، ولا يدعثره الإيذاء. وإن هذا الجزء ينتهى بصلح الحديبية، حيث يئس الشرك من أن ينال من أهل الإيمان، وعجز عن أن يغزو المؤمنين، وصارت الكلمة العليا فى الجزيرة العربية للإيمان، وسارت الدعوة فى كل مسار. والجزء الثالث من بعد الحديبية، وفيه تجرد النبى صلّى الله عليه وسلّم لليهود الذين كانوا شوكة فى جنب العرب، وأخذ الإسلام يعم جزيرة العرب، ويخرج إلى أقطار الأرض، فكانت مؤتة، وكان الفتح العظيم الذى يئس فيه الشيطان أن يعبد فى هذه الأرض، وأخذ الإسلام يغزو ما حول العرب بكتب النبى ورسله، والسرايا يبثها، وبالخروج إلى الروم الذين قتلوا المؤمنين من أهل الشام فى أرضهم، فكان لابد من تأمين الدعوة، وإزالة الفتنة، وهذا الجزء ينتهى برحلة النبى صلّى الله عليه وسلّم من هذه الدنيا بروحه إلى السموات العلا. اللهم انفعنا بهديه، واهدنا سبله، إنك تهدى من تشاء، وإنك على كل شىء قدير. محمد أبو زهرة

_ (1) سورة هود: 88.

تمهيد

[تمهيد] الاضطراب الفكرى: 1- فى القرن الخامس الميلادى وما يليه، كان العالم الإنسانى يموج بالشر، وتضطرب النفوس، واستحكمت الأهواء، وتفرق بنو الإنسان، حتى صار القانون السائد المسيطر، الحق هو القوة، والقوة هى الحق، فشاهت الأفكار، وتقطعت الأسباب. وصار ابن ادم ينقض ما أبرمته الفطرة، ويحل الرابطة الإنسانية الجامعة، وعجز العقل عن أن يحكم بين الناس، بل إنه اتخذ العقل مطية لتبرير الباطل، وتزييف الحق، والعبث بالميراث الإنسانى للنبيين من بعد إبراهيم وموسى وعيسى، وشوهت المفاسد تعاليم موسى وعيسى، وغيرهم من الأنبياء المرسلين، فالنصارى قد استسلموا لحكم الأباطرة وزكوه، بل أيدوه، وتفرقوا، وصار بأسهم بينهم شديدا، وأغرى الله سبحانه وتعالى بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة. فالملكانيون تحكموا فى اليعقوبيين، حتى نفروا منهم. واليهود شوهوا تعاليم موسى عليه السلام فضربت عليهم الذلة والمسكنة، وصاروا مع فساد قلوبهم، لا وجود لهم إلا بمعونة قوى يريد أن يكون غالبا لهم ولغيرهم، وتسربلوا سربال العداوة لبنى الإنسان جميعا، إذ يعطون لأنفسهم من الصفات العقلية، والمزايا الدينية ما ليس فيهم وينكرونه فى غيرهم، حتى زعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه، وأنهم شعب الله المختار، وزعموا لغيرهم المنزلة الدون، وكانوا يقولون عن العرب الذين نكبوا بمعاشرتهم.. لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ.. «1» ، فهم يأخذون منهم بالحق والباطل، ولا يعطونهم شيئا لأنه لا سبيل لهم بحق، ولا بغيره. 2- وكان الأقربون والأبعدون، والقاصون والدانون فى اضطراب فكرى، وعجز العقل البشرى عن أن يحل مشاكل هذا الوجود. فتاه العقل فى معرفة أصل الوجود، ولم تستطع الفلسفة الأيونية أن تحل مشكلة أصل الوجود، ولا أن تصل إلى منشئه، مما أثبت أن العقل مهما يؤت لا يستطع أن يفسر سر الظواهر، فهو يعرف مظاهر الأشياء، ولا يعرف الأسرار المستكنة الباعثة، يعرف مظاهر الحرارة والكهرباء ولا يمكن أن يعرف ما يحركها، إلا إذا اتجه إلى معرفة المؤثر من الأثر، والمنشىء مما أنشأ. ولكنه- وقد غمر بالمحسوسات، ومظاهر القوى، دون أن يعرف مصدرها، عمى عن الأصل وشغل بالفرع، فتاه فى هذه السماء، وصار فى عمياء، لا يعرف المبتدأ وإن عرف مظاهره. ومع ظهور الأديان السماوية، واختتامها بالإسلام لا يزال العقل، وهو مأسور بما يحس، لا يعرف ماوراء المحسوس، وكل ما تراه من سيطرة العقل ونفاذه لا يتجاوز المظاهر واستخدامها، وهو يجهل باعثها، ولا يعرف منشئها إلا إذا كان ينفذ من المظهر إلى المنشئ المكون.

_ (1) ال عمران: 75.

المجوسية:

وإنه لا يمكن معرفة الكون على حقيقته إلا بالإيمان بمن أنشأه، وإن الأديان السماوية تدعو إلى معرفة المنشىء مما أنشأه، ومعرفة الخالق من المخلوق، فهى تدعو إلى دراسة الخلق لمعرفة من أنشأه. تدعو إلى دراسة الكون، وتعرّف مظاهره لمعرفة من وراء هذه المظاهر، ولم يكن ذلك شأن الدارسين للكون فى الماضى، ولا من يدرسون مظاهره المجردة فى الحاضر، وإنما يهمنا الماضى الذى كان قبل محمد صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه الوجود. 3- تلك كانت حال العقيدة فى الفلسفة الأيونية، والفلسفة اليونانية التى ورثتها، ولما جاء سقراط زعيم هذه المدرسة وكبيرها، أراد أن ينزل بالفلسفة من السماء إلى الإنسان، ودعا إلى ترك البحث عما وراء الطبيعة ومظاهرها، وأراد أن يعمل ما يجدى وما ينفع فى السلوك الإنسانى، بدل أن يهيم فيما وراء الطبيعة من غير هاد يهدى، ولا مرشد يرشد. أخذ يدرس نظام التعامل الإنسانى، ومقياس الفضيلة الذى يميزها عن الرذيلة، ليميز به الحق من الباطل، وخطأ السلوك واستقامته؛ ليعرف ما هو فاسد وما هو صالح. ودعا إلى ذلك، واختلف هو وتلاميذه، فمن قائل إن القياس هو المعرفة وهو ما اختاره سقراط، ومن قائل إنه الحكمة والعدالة والشجاعة والعفة. والفضائل كلها ترجع إلى هذه العناصر، وقد اختار ذلك أفلاطون، ومن قائل إنه اللذة أو المنفعة، فما هو نافع، ولو نفعا شخصيا فهو خير، وما لا نفع فيه فهو شر، ومن قائل إن الخير وسط بين رذيلتين. وهكذا كانت المتاهات العقلية فى إدراك أسس التعامل الإنسانى، كالحيرة فى معرفة العقيدة الصحيحة، فالعقل لم يستطع أن يصل إلى قانون التعامل المستقيم، كما لم يصل إلى إدراك سر الوجود، بل كان يهيم فى نظريات من غير أن يصل إلى حقائق ثابتة. وفى وسط ذلك الديجور ظهرت السوفسطائية التى تشكك فى حقائق الوجود، فمنهم من أنكرها، ومنهم من شك فى كل شىء، ومنهم من قال إن الحق فى الأشياء هو ما يعتقده كل امرىء فى ذات نفسه، وتسمي العندية، فليس للأشياء حقيقة، وإنما الأمر فيها إلى اعتقاد وجودها. وهكذا كان الضلال المبين بسبب الاعتماد على العقل المجرد فى وسط تلك الفلسفة التى لا تهدى، بل يضل فيها الفكر، كما يضل السارى فى ظلمات الليل. المجوسية: 4- ولو غادرنا اليونان ومن سبقوهم إلى الفرس ومن وراءهم فإنا واجدون عجبا، فإنا نجد بجوار الفلسفة اليونانية التى سرت إليهم فلسفة أخرى، أرادت أن تنظم التعامل الإنسانى وتحل مشكلة أصل

المانوية:

الوجود بأوهام توهموها، وأساطير اكتتبوها، فكانت الزرادشتية التى تفرض أن الوجود له إلهان إله الخير وإله الشر، وأن كليهما يتنازع النفس الإنسانية والكون وما فيه. وإن هذا- بلا ريب- باطل لا أصل له من دين، ولكن قد يقال إنه تحريف لدين سماوى، كان يدعو لعبادة الله تعالى واحده، ولا مانع من ذلك عقلا، وقد وجد فى بعض كتب ذلك بقايا تبشر بمحمد عليه الصلاة والسلام، وقد قال تعالى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ «1» . ولكن نجد بجوار ذلك مذهبا اجتماعيا خطيرا يدعو إلى القوة، وأنه لا عبرة بالضعفاء، وأنهم لا يصلحون للبقاء، فالحق مع القوى دائما، والباطل مع الضعيف دائما، فقانون الحياة يعمل للأقوياء على الضعفاء، ويجب أن يبقى الأقوياء، وأن يفنى الضعفاء، فلا إيمان بالعدل، وإنما الإيمان بالقوة. المانوية: 5- ثم كان بفارس أيضا مذهب يحسب أن الوجود الإنسانى كله شر يجب ألا يبقى، بل يجب العمل على إفناء الإنسان، وهو مذهب (مانى) وعقيدته تسمى المانوية، فهو مذهب يدعو إلى الفناء. ولذلك يمنع الزواج، حتى لا يكون تناسل، وينتهى ذلك الإنسان الذى اعتبر وجوده لعنة فى الأرض، ومادام الإنسان فى الإنسال مستمرا، فإن اللعنة الإنسانية مستمرة، وكأنه يحسب أنه نزل إلى الأرض بخطأ ارتكبه أبوه، فالخطيئة باقية بوجوده. المزدكية: 6- وبعد ذلك جاء المذهب المخرب، كان مذهبا اخر يحل الواحدة الإنسانية، والعلاقة الفاضلة، وهو مذهب (مزدك) الذى انتشر فى فارس، وأساسه إباحة النساء، فلا زواج ولا ارتباط، بل يسافد الإنسان كما يسافد الحيوان من غير أى قيد من رابطة حافظة للأنساب، وراعية للطفولة المقبلة، كما أباح الأموال، فلا ملكية تحمى إنسانا، من إنسان، بل كل الأموال مباحة للجميع من غير أى نظام، فهو يمنع القيود فيها كما يمنع القيود فى النساء. وجملة هذا المذهب أنه يبيح الانطلاق من كل قيد، كما أن الحيوان فى البادية أو الغابة منطلق، لا يقيد إلا بقوة غير التى ترسم له حدا لا يتعداه. والوهم الذى قام عليه ذلك المذهب أنه زعم أن الشحناء والبغضاء تتوالدان من احتياز النساء بالزواج أو نحوه، واحتياز المال بالملكية، ويحسب أنه إذا زالت روابط الزوجية، وزالت الملكية للأموال يكون الناس فى

_ (1) سورة فاطر: 24.

البراهمة:

سلام دون خصام، وياليته اعتبر الإنسان كالحيوان لأنه مع زوال الملكية والعقود الرابطة للعلاقة بين الذكر والأنثى فى الحيوان لم تزل القوة الغالبة والافتراس بين الحيوانات المتحدة فى الجنس والأرومة والمختلفة القوة والقدرة على التسلط والعدوان. ومهما يكن فقد انتشر ذلك المذهب فى فارس، وضاعت الأنساب، واعتنقه بعض الأكاسرة، وساد وسار مدة حكم هذا الكسرى. ولكن زال ملكه، قبيل مبعث النبى صلّى الله عليه وسلّم، فانظر كيف تأذّى بهم ما سمّوه حكم العقل. البراهمة: 7- ولو أننا تجاوزنا فارس إلى ماوراءها من أرض المشرق، فإنا واجدون الهند، وما فيها، وهنالك نجد ديانة تقوم على التفرقة الإنسانية بين الطبقات، فالناس ليسوا سواء فى الحقوق والواجبات، بل يقرر دين البراهمة التفرقة بين الناس من حيث العبادة والزلفى لبراهما، إلههم الأكبر؛ فقد انقسم الناس من حيث مهنهم التى تتوارث، والتى تصير المهنة عندهم أصلا نسبيا ينتقل من الأصول إلى الفروع، ومن الفروع إلى فروعهم فقسموا إلى أربع طبقات: [طبقات الناس في عقيدة البراهمة في المجتمع الهندي] الطبقة الأولي: هى أعلاها وهى طبقة البراهمة ، وهم رجال الدين الذين يبينون أحكامه، ويزعمون أنهم خلقوا من رأس إلههم (براهما) ولذلك كانوا أعلى الناس، لأنهم خلقوا من أعلى الإله. وهم فى زعمهم خلاصة الجنس البشرى، وعقله المتفكر، ورأسه المدبر، لأن الرأس عنوان ذلك كله، فهم علاوة الجسم. الطبقة الثانية: طبقة الجند ، ويزعمون أنهم خلقوا من مناكب إلههم (براهما) ويديه، وهم لهذا الحماة والغزاة وموطن القوة. ومرتبتهم دون مرتبة البراهمة، وهى تليهم مباشرة. الطبقة الثالثة: طبقة الزراع والتجار ، وهم مخلوقون من ركبتى إلههم، والمسافة بينهم وبين الطبقة السابقة لها كبيرة، وهى قريبة من الطبقة التى تليها مباشرة لتقاربهما فى التكوين والخلق. الطبقة الرابعة: طبقة الخدم والرقيق، وهؤلاء خلقوا فيما يزعمون من قدمى إلههم فهم أحط الطبقات، وأبعدها، لأنها البعيدة عن رأس (براهما) . وهناك دون هذه الطبقات طبقة أبناء الزنى والمحرومين أو المنبوذين، والذين يتناولون الأعمال الحقيرة فى المدن، ويسمون من ليسوا من الهنود (أبليج) ومعناها أنجاس، فكل من ليس هنديا نجس.. ويلحق بتلك الطبقة من المنبوذين.

هل للبرهمية أصل سماوى:

ونجاسة أولئك ليست نجاسة معنوية فقط، بل هى نجاسة حسية فى زعمهم، حتى أن الأجنبى لو شرب من كوب ماء حطموه، وألقوا بحطامه فى الأرض. ويلاحظ فى هذه الطبقات أنها تتوارث، فلا يرتقى ابن طبقة إلى أعلى منها، ولا ينحدر من هو فى الأعلى إلى الأدنى. والفضائل تتفاوت بتفاوت الطبقات، ففضائل البرهمى أن يكون وافر العقل ساكن القلب صادق اللهجة، ظاهر الاحتمال، ضابطا لنفسه، مقيما للعدل، بادى النظافة، مقبلا على العبادة، مصروف الهمة إلى التدين. ويجب أن يكون الجندى مهيبا شجاعا، ذلق اللسان، سمح اليد، غير مبال بالشدائد، حريصا على لقاء الخطوب، وتيسيرها. ويجب أن يكون الزراع والتجار عاكفين عليها، يرعى الزراع شئون السوائم وتربيتها، ويقوم التاجر بشئون التجارة، ومعرفة الأسواق، وما تتقاضاه الخبرة من صفق فى البياعات والتمرس بشئونها وتعرف أحوالها. ويجب أن يكون الخدم والأسارى والأنجاس مجتهدين فى الخدمة، والتحبب إلى الناس، لأن ذلك أليق بما ينبغى أن يكونوا عليه من اداب، وهذا الذى يتفق مع أعمالهم فى الجماعات. ويقول أبو الريحان البيرونى فى كتابه (ما للهند من مقولة، مقبولة فى العقل أو مرذولة) بعد بيان الطبقات ما نصه: «وكل من هؤلاء إذا ثبت على رسمه وعادته نال الخير فى إرادته إذا كان غير مقصر فى عبادته غير ناس فى جل أعماله، وإذا انتقل عما عهد إليه إلى ما عهد إلى طبقة أخرى- كان اثما بالتعدى» . هذه نظم وعبادة فيها وثنية، وإذا ضربنا صفحا عن الوثنية فيها واتجهنا إلى النظم العملية، فعجب كيف يقبل شعب مهما تكن درجة التفكير فيه تلك الطبقية المقيتة، ويسير عليها على دين واجب الطاعة، ومن أجل هذه الطبقية كان التأخر النفسى والاجتماعى. هل للبرهمية أصل سماوى: 8- لا شك أنه لا يوجد فى دين سماوى التفرقة الطبقية التى يعتبرها البراهمة فى القديم فى ضمن دينهم الذى انتشر بها قبل المسيح، ولا تزال بقاياها قائمة، وإن خفت حدتها بفعل الزمان، وبطبيعة الاتصالات الإنسانية العامة، وشيوع فكرة المساواة بين الناس علما، وإن كان العمل لا يزال يتخاذل عن تعميم المساواة بين الناس بحكم الخضوع المزعوم لقضايا العقل الذى يحسبون أنهم يطبقونه.

الأدلة على سماوية الأصل البرهمي

ولكن يفيد كلام أبى الريحان البيرونى احتمال أن يكون لأصل البرهمية رسالة سماوية، ويرجح هذا الاحتمال بدليلين ينشأ عنهما، وبهما يكون احتمالا ناشئا عن دليل، ولمثل هذا الاحتمال قوة فى الاستدلال. [الأدلة على سماوية الأصل البرهمي] أولهما: أن الرسل المذكورين فى التوراة والقران ليسوا هم الرسل واحدهم، بل يوجد غيرهم، فقد قال تعالى: مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ «1» ويقول سبحانه وتعالى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ «2» فوجود ديانة سماوية بين الهنود الذين كانت فيهم ثقافة وإدراك أمر راجح، بل أمر يقارب المقطوع به بمقتضى النصوص القرانية. ثانيهما: ما يذكره أبو الريحان البيرونى فى كتابه (ما للهند من مقولة، مقبولة فى العقل أو مرذولة) من أن خواص الهنود مواحدون، وأن عوامهم هم الذين دخلت الوثنية فى مزاعمهم، فهو يقول فى هذا المقام: «اعتقاد الهند فى الله سبحانه وتعالى أنه الواحد الأزلى، من غير ابتداء ولا انتهاء، المختار فى فعله القادر، الحكيم المحيى المدبر المنفرد فى ملكوته عن الأضداد، لا يشبه شيئا ولا يشبهه شىء. ولنورد لك شيئا من كتبهم لئلا تكون حكايتنا كالشىء المسموع فقط: قال السائل فى كتاب ياتنجل: من هذا المعبود القوى؟ قال المجيب: هو المستعالى بأزليته وواحدانيته عن فعل لمكافأة عليه براحة تؤمل وترتجى، أو شدة تخاف وتتقى، والبرىء من الأفكار، لتعاليه عن الأضداد المكروهة، والأنداد المحبوبة، والعالم بذاته سرمدا. إذ العلم الطارئ يكون لما لم يكن بمعلوم، وليس الجهل بحجة عليه فى وقت ما أو حال. ثم يقول السائل بعد ذلك: فهل له من صفات غير ما ذكرت؟ فيقول المجيب: العلو التام فى القدر لا فى المكان، فإنه يجل عن التمكن، وهو الخير المحض التام، وهو العلم الخالص عن دنس الهوى والجهل. قال السائل: أفتصفه بالكلام أم لا. قال المجيب: إذا كان عالما فهو لا محالة متكلم.. قال السائل: فإذا كان متكلما لأجل علمه فما الفرق بينه وبين العلماء الذين تكلموا من أجل علومهم. قال المجيب: الفرق بينهم وبينه هو الزمان، فإنهم تعلموا فيه وتكلموا بعد أن لم يكونوا عالمين ولا متكلمين، ونقلوا بالكلام علومهم إلى غيرهم، فكلامهم وإفادتهم فى زمان، إذ ليس للأمور الأزلية بالزمان اتصال، فالله سبحانه وتعالى عالم متكلم فى الأزل، وهو الذى كلم براهما وغيره من الأوائل على أشكال شتى، فمنهم من ألقى إليه كتابا، ومنهم من فتح الواسطة بابا، ومنهم من أوحى إليه، فقال بالفكر ما أفاض عليه. قال السائل: فمن أين هذا العلم؟ قال المجيب: علمه على حاله فى الأزل، وإذ لم

_ (1) سورة غافر: 78. (2) سورة فاطر: 24.

أولها:

يجهل قط فذاته عالمة، لم تكتب علما لم يكن له، كما قال فى فيد الذى أنزل على براهما: احمدوا وامدحوا من تكلم بفيد. وكان قبل فيد، قال السائل: كيف نعبد من لم يلحقه الإحساس؟ قال المجيب: تسميته تثبت إنيته، فالخبر لا يكون إلا عن شىء.. والاسم لا يكون إلا لمسمى، وهو إن غاب عن الحواس فلم تدركه، فقد عقلته النفس، وأحاطت بصفاته الفكرة، وهذه هى عبادته الخالصة» . هذه نقول البيرونى فى كتابه عن الكتب المقدسة الهندية، وهو يدل على ثلاثة أمور: أولها: أن هذه الكتب تدل على واحدانية الله سبحانه وتعالى، وتنزهه عن مشابهة الحوادث، فهو ليس كمثله شىء وهو السميع البصير العالم المتكلم، والمتصف بكل كمال، لا يتلاقى فيه مع صفات أحد من البشر. فواحدانيته سبحانه وتعالى فى الخلق والتكوين، وصفاته العلية، وخلوصه سبحانه بالعبودية لا ريب فيها فى كتب البرهمية الأصلية. الأمر الثانى: أن الرسل جاءت إليهم، وقد ذكر أن النصوص الدينية فى التوراة والإنجيل والقران، لا تمنع ذلك بل إنها تؤيده، كما تكون من الايات الكريمات. وإن براهما- لم يكن إلها، ولا شىء فيه من الألوهية إلا أنه كان رسولا من عند الله تعالى. والعبارات التى نقلها لنا البيرونى من كتبهم صريحة فى ذلك صراحة مطلقة. الأمر الثالث: أن هناك كتابا منزلا تلقاه براهما من ربه، من غير نظر إلى كون ذلك الكتاب حرف فيه الكلم عن مواضعه كما حدث للتوراة والإنجيل، أم لم يحرف، والراجح أنه حرف لتقادم العهد، بدليل أنه وجد عندهم تشبيه ونحل لبراهما وصف فيها بالإله، لا وصف الرسول عند عامتهم. كتبهم: 9- للبراهمة كتب كما دلت على ذلك عبارات البيرونى، وأقدم ما عرف من كتبهم الفيدا، ولم يعرف المؤرخون عصره على وجه التحقيق والضبط، وأقصى ما تأكد لديهم أن الفيدا كانت موجودة قبل القرن الخامس عشر قبل ميلاد المسيح عليه السلام، فقد كانت مع الفاتحين الاريين على أنها من أصول ديانتهم.. والفيدا مجموعة من الأشعار ليس فى كلام الناس ما يماثلها فى نظرهم، ويقول جماهيرهم: «إن البشر يعجزون عن أن يأتوا بمثلها» ويقول البيرونى أن خاصتهم يقولون أن فى مقدورهم أن يأتوا بمثلها ولكنهم ممنوعون من ذلك احتراما لها. ولم يبين البيرونى وجه المنع: أهو منع بمعنى التحريم، بمعنى أن فى استطاعتهم أن يأتوا بمثلها ويتجهوا إلى ذلك، ولكنهم كلفوا ألا يأتوا، أم أن هذا المنع إنما

البوذية:

هو صرف لهم عن أن يأتوا بمثلها، فهم قادرون على أن يأتوا، ولكنهم صرفوا عن ذلك كما يقول بعض الجهلاء فى إعجاز القران منحرفين فى دينهم؟ لم يبين لنا البيرونى أى الوجهين أراد بالمنع. لئن أراد الأول، وهو منع بالتحريم وذلك لا يقتضى الامتناع، فقد يكون من بعض المكلفين من يعصى، فيأتى بمثلها، أو يزيد عليها، لأن الناس ليسوا معصومين عن المخالفة، ولا أحد من البراهمة يعتقد جواز وجود أمثالها، ولذلك نرجح أن يكون الامتناع فى زعمهم بصرفه، ونكتفى من الإشارة إلى كتبهم بهذا القدر. البوذية: 10- بعد أن حرفت البرهمية وجعل الناس فى عقيدتها طبقات كان لابد أن يكون من بينهم من يغيّر، ولا يرضى بهذه الطبقات، ولذلك ظهر من بينهم من لا يرضى وهو من رجال الطبقة الأولى، وبلغ أقصى الغاية فيها، وهو بوذا، الذى ولد سنة 560 قبل المسيح عليه السلام، وكانت دعاية بوذا تخفيف ويلات الإنسانية التى أرهقها نظام الطبقات. ولقد اتجه فى سبيل تخفيف ويلات الإنسانية إلى الدعوة لتخفيف الحاجات وكف النفس عن الشهوات، وهذه الشهوات هى التى تشقى، فإذا كانت ويلات الناس تجىء إليهم من ناحية أهوائهم وشهواتهم، واتساع مطالبهم، والرغبة فى المزيد منها، فإن تخفيف ويلات الحياة يكون بتربية النفس على الاستغناء عن أكثر مطالبها. والاكتفاء بالقليل ومجانبة الأهواء والشهوات. فإنها هى التى تجعل النفس طلعة، تحب اللذائذ وإن كانت عاقبتها سيئة، فكان من الواجب السيطرة على الأهواء. وقد وضع منهاجا للتربية النفسية، الخط الأول منه يبدأ باجتناب الأهواء، والاتجاه إلى الأمور بقلب سليم منها، فإن النفس تشرق، ويكون إدراكها سليما، ثم يكون من بعد ذلك الاعتقاد سليما، ومن بعد الإدراك يكون النطق الصادق. ثم العمل القويم، ثم السلوك الحسن، ثم الجماعة التى تقوم على الأخلاق. [مبادىء بوذا الخلقية] ويقرر مبادىء خلقية، فهو يقول فى النهى عن أمور عشرة: 1- لا تقتل أحدا. 2- لا تسرق ولا تغضب، ولا تأخذ ما لا لم يقدم إليك. 3- لا تكذب، ولا تقل قولا غير صحيح. 4- لا تشرب خمرا، ولا تتناول مخدرا. 5- لا تزن ولا تأت بأى أمر يتصل بالحياة الجنسية يكون محرما.

أقسام البوذيين

6- لا تأكل طعاما لم ينضج. 7- لا تتخذ طيبا، ولا تكلل رأسك بالزهر. 8- لا ترقص، ولا تحضر مرقصا، ولا حفل غناء. 9- لا تقتن فراشا وثيرا، فلا تقتن أرائك وطنافس، ولا وسائد ولا حشايا رافهة. 10- لا تأخذ ذهبا ولا فضة. وإن هذه المبادىء البوذية فيها عيب، وهى ناقصة. أما عيبها، فإنها لا تعتمد على عقيدة موجهة، بل يروج عن بوذا أنه أنكر أن يكون ثمة إله منشىء للوجود، ولهذا شاعت عبادة الأوثان فيمن جاؤا بعده، فلم تنق قلوبهم، لأنه لم تسلم عقيدتهم، وكانت وهما من الأوهام ضل فيها العقل، ولم يهتد إلى سواء السبيل. ويضاف إلى هذا عيب اخر، وهى أنها تزهد فى الحياة، وتمنع الانتفاع بخيراتها. فكأنما مباهج هذه الحياة، إنما خلقت لكى ترى وتشتاق النفوس لها، ثم تحرم على الإنسان. وأما النقص فلأن فضائلها سلبية، هى نهى لا طلب، ومنع لا التزام، فالخير فيها لا يطالب به، ولكن يتجنب الشر. إن الفضائل الإنسانية تتكون من عنصرين، عنصر إيجابى وهو تقديم النفع الإنسانى والقيام بحق الإنسان على أخيه الإنسان، والاتصال بالتعاون بين الناس بعضهم مع بعض، وذلك هو العنصر القوى فى الفضيلة، والعنصر الثانى الامتناع عن الإيذاء، وهذا هو العنصر السلبى، وهو الأدنى، والأول هو اللباب، وهو الخير الحقيقى، بل إنه يمنع غيره، فإن النفع يمنع بعض الأذى، فإذا اقتصرت البوذية على السلب نقص معنى الكمال فيها. وإن تكاليف البوذية قد يستطيع تنفيذها الخواص، ولا يمكن أن يكون تنفيذها عاما، والمذاهب لا يلاحظ فى تطبيقها الخاصة، بل لابد أن يكون تطبيقها عاما، وهى كالمذاهب الصوفية يطبقها الشيوخ، ويقاربهم المريدون، ولا يمكن أن تكون نظاما عاما يطبقه الجميع. [أقسام البوذيين] ولهذا لم يطبقها الجميع، بل انقسم البوذيون أنفسهم إلى قسمين: (أحدهما) البوذيون الذين أخذوا أنفسهم بالتعاليم السابقة لا يحيدون عنها، وقيدوا أنفسهم بأنواع من الأطعمة، وحرموا غيرها، ولا يختارون للباسهم إلا الخشن من الثياب، لما راضوا أنفسهم عليه من ترك لذات الحياة لتكون الحياة تحت سيطرتهم، ولا يخضعوا لسلطانها.

(ثانيهما) البوذيون المدنيون، وأولئك لم يطبقوا المنهاج الشاق

(ثانيهما) البوذيون المدنيون، وأولئك لم يطبقوا المنهاج الشاق ، فاختاروا لأنفسهم طريقا وسطا ليس فيه إفراط فى اللذائذ، ولا شدة فى تركها. أخذوا ببعض الأخلاق البوذية من تواضع وصدق وأمانة، ونالوا بعض الملاذ التى لا تعقب ألما، ولم يندفعوا فى اجتراح الشهوات، حتى لا يصابوا بالام الحرمان إن لم يستطيعوا. وخلاصة القول أنهم أخذوا من المبادىء السلبية المبادىء الخمسة الأولى، وهى ألا يقتلوا، ولا يسكروا، ولا يكذبوا، ولا يزنوا، وتركوا الباقيات من المنهيات، فلم يحرموها على أنفسهم. ولقد كان ذلك الانقسام سبيلا لأن يكثر المدنيون، ولأن يوجد فريق لا يأخذون بشىء من هذه المبادىء بل يتركونها وراءهم ظهريا. وبذلك ضعف العقل واحده عن أن ينشىء دينا امرا وناهيا. الكونفوشيوسية: 11- وإن البوذية التى ولدت فى الهند كان أكثر تابعيها فى الصين لا فى الهند، وقد انتقلت إليها وثنية، كما كانت فى الهند، واقترن بها ما ليس منها، وانحرفت العقول. ولكنها إذا انتقلت إلى الصين قد احتضنتها بيئة امتازت من بين البيئات بالوثنية والتمسك بكثير من المبادىء العملية التى تتفق مع قانون الأخلاق إلى حد كبير، ولكن لعدم اعتمادها على عقيدة قوية، كانت فى قلوب شاغرة، وإذا سكنت المبادىء فى قلوب شاغرة عن الإيمان جف عودها، ولم تقو على البقاء. كان فى الصين فيلسوف يسمى فى لغة الفرنجة كونفوشيوس، وهو تحريف لاسمه الأصلى فى الصين، وهو «كونج فوتس» ، وقد أخذ ذلك الفيلسوف بالمذهب البوذى، ولكنه أخذ بمبدأ البوذيين المدنيين، وكان مذهبه ليس دينا يتبعه، ولكنه إصلاح يدعو إليه. ومع وجود المنهج العلمى فى إصلاح كونج فوتس نجد بجواره فيلسوفا كان أسنّ من كونج فوتس إذ أن هذا ولد سنة 551 قبل الميلاد، أى أنه يعاصر بوذا، والفيلسوف الاخر واسمه لوتس، كان يكبر الأول بنحو خمسين عاما، ومذهبه هو الاعتزال أو أن ينجو بنفسه ومن يتابعه من المفاسد. وقد التقى الفيلسوف الشاب كونفوشيوس الذى يرى أن مبادىء الأخلاق يكون أساسها النفع الإيجابى، لا الاعتزال السلبى، بالشيخ لوتس الذى لا يرى إلا الاعتزال السلبى، فتحاورا.

عقيدة الصين القديمة:

قال الشيخ للشاب: «إن الخير ليس في محاولة إصلاح المجتمع الفاسد بالعمل والاختلاط، إذ أن الاختلاط يفسده، بل الخير كل الخير في الزهادة والقناعة والاعتزال، والتسامح، ومقابلة السيئة بالحسنة، وهي العفو» . قال الشاب للشيخ: «إذا كان واجب كل شخص من احاد الأمة أن يعتزل في كهف من الكهوف فمن الذي يبقي في المدن يعتمرها، وفي الأرض يفلحها ويزرعها، وفي الصنائع يمهر فيها، ومن الذي ينسل ويعمل ليبقي الكون عامرا ببني الإنسان؟ وإذا كان الاعتزال مقصورا علي الحكماء، والفضلاء، فمن الذي يربي الإنسان ويؤدبه، أم يترك الناس حائرين بائرين لا هادي ولا مرشد» . عقيدة الصين القديمة: 12- ومهما تكن اراء كونغ فوتس من الحكمة والصواب فقد اختلط بها ما ليس سائغا، فقد كان يعتقد بالهة، وبأن السماء مرتبطة بالأرض، فيصلح الكون إذا صلح الإنسان، ويفسد بفساده، لقد كان كونج فوتس يعتقد ما يعتقده الصينيون القدماء. وأساس هذا الاعتقاد أنهم يعبدون ثلاثة أشياء: السماء، والأرواح المسيطرة على ظواهر الأشياء، (الملائكة) ، وأرواح الاباء. والسماء التى يعبدونها لا يقصدون بها تلك القبة الزرقاء، بل يقصدون الأفلاك ومداراتها، والقوى المسيطرة التى تسيطر عليها وتسيرها فى مدارتها. وباتصالها بالأرض والرياح والأمطار تنبت الأرض، وكانت عبادتهم للسماء لاعتقادهم أنها عالم حى يتحرك حسب نظام دقيق محكم، وللسماء السلطان الأكبر على العالم، إذ أن كل ما فيه من قوى مسيرة خاضع لسلطان السماء. وظاهر كلامهم أنهم لا يفرضون للكون- سمائه وأرضه- قوة منشئة مغايرة هى المدبرة والتى تحفظ العالم، وتحول قواه، فهم بذلك يعدون منكرين لله الواحد الأحد الفرد الصمد، وعلى ذلك يكون الأساس الذى بنيت عليه عقيدتهم باطلا. وهم يعتبرون التحول والتغير فى الكون على حسب مداركهم، وعلى أساس عقيدتهم السقيمة، فهم يرون أن العالم قسمان مادى وروحى وأن الروحى، هو الذى يسير المادي، فهم بهذا يرون أن المنشيء من ذات الكون لا من قوة فوقهم، وبذلك يتقاربون من الفلسفة الأيونية. ومع أنهم لا يؤمنون بالواحد الأحد المنفرد بذاته عن المشابهة يؤمنون بالقضاء والقدر، ويرون أن السماء هى التى تقدر وتقضي، فلا مفر من حكمها فى زعمهم، ولا خلاص من سلطانها فى اعتقادهم.

ويؤمنون بأن الأحكام القدرية مرتبطة هى والأمور الكونية، بالأخلاق الإنسانية، فإذا كانت الأخلاق مستقيمة استقام الكون، وإذا فسدت اضطرب، فكلما كان الاعتدال والانسجام والعدالة بين الناس استقام الكون ولا يضطرب. وما الزلازل وما خسف الأرض وكسوف الشمس وخسوف القمر إلا من فساد الأخلاق، وعدم استقامتها. وهى أمارات على ذلك، وإذا كان السلوك غير القويم يحدث الاضطراب، فالسلوك القويم يجلب الخير، والبركات، ويجعل كل ما فى الكون يجيء على ما يحبه الإنسان ويرضاه. وعلى ذلك يكون المؤثر فى الكون ثلاثة: أولها: السماء بسلطانها، والأرض بقبولها لحكم السماء، والإنسان بإرادته الخلقية. فإن اختار خير الأخلاق وأفضلها واتجه إليها فإن مظاهر الكون تكون لخير الإنسان. فالجو يمتليء بالنسيم العليل، والحرارة المنعشة غير اللافحة، والغيث المحيى لموات الأرض من غير أن يخرب العمران، ويصير غيثا، وتكون الشمس المشرقة، والنهار المبصر والليل الساجى. 13- وبذلك نجد أن العقيدة الصينية فاسدة، والخلق الصينى قوي، والإرادة الصينية قويمة ولكنها قائمة على عقائد فاسدة، وما يقوم على الفاسد لابد أن ينهار، إذ هو قائم على شفا جرف هار، غير مستقر ولا ثابت الدعائم. وإذا كانت الفلسفة اليونانية ووليدتها الرومانية قد عجزتا عن تكوين حكم خلقى له مقياس ثابت لا يتغير بتغير الأعراف ولا بتغير الأماكن والأزمان، فإن الصين قد وصلت إلى حكم عملى حسن فى جملته يتجه إلى الخير فى غايته. ولكنه لم يقم على دعائم ثابتة من إيمان، خالية من الأوهام، وعقيدة بعيدة عن الأخيلة غير المحققة ولا الثابتة. إن العقيدة الصالحة هى التى توجد الأخلاق الثابتة، وهى التى توجد المجتمع الفاضل الذى يريد الخير بدافع من إيمان ثابت الدعائم قوى الأركان. 14- وننتهى من هذا السياق الذى انتقلنا فيه من اليونان والرومان سائرين إلى الشرق الأدنى فالشرق الأقصى- إلى أن العالم كله فى الفترة التى كانت قبل المسيح وخاتم النبيين محمد صلّى الله عليه وسلّم، كان يموج فى مضطرب فسيح من الاراء والمنازع المتناحرة. وإنه فى الوقت الذى كانت الوثنية تضيق فيه ذرعا بالواحدانية التى جاء بها موسى وخلائفه، وجاء بها عيسى وحملها حواريوه- كان الشرق الأقصى بعيدا عن هذه الدعوات إلى الواحدانية، فكانت فيه

وثنية اليونان والرومان:

مجوسية الفرس، ووثنية الهندوس، وظلم الطبقات، ثم كان من وراء ذلك عبادة الأفلاك والنجوم والأرواح فى الصين. كان العالم إذن يموج بفساد الفكر، وفساد العمل، واضطراب الحكم، وانقطاع الصلة بين الحاكم والمحكوم، وسيطرة الأقوياء على الضعفاء، وقد اشتد الطغيان. وثنية اليونان والرومان: 15- وبجوار تلك كانت أوروبا تعيش فى ظلمات الوثنية، وكان غربها من الوندال والسكسون قبل المسيح يعيشون فى جاهلية عمياء، لم يكن فيها هاد ولا مرشد، كما تعيش بعض القبائل فى مجاهل أفريقية، ولا فرق بينهم إلا فى اللون، فأولئك بيض وهؤلاء سود ولكن الفعل واحد، والوحشية متقاربة، ولعل البيض أغلظ أكبادا، وأقسى قلوبا. 16- ولما جاءت المسيحية جاءت إليهم بعد أن شاهت، واعتراها التغيير والتبديل، وذلك لأن الفلسفتين اليونانية والرومانية من بعدها عجزتا عن إصلاح الأخلاق، وبث الاطمئنان فى القلوب، والرضا فى النفوس، فكان لابد من دين يقود العقل إلى ما فيه خير العباد. وقد فقدت الأوثان قوة تأثيرها فى الجماعات، إذ أن الفلسفة قد أيقظت العقول، وإن لم تهدها، وحركت الأفهام ودفعتها إلى التفكير، وإن لم تهدها إلى الصراط السوى الذى يسلكه من يستضيء بنورها واحدها، فكان لابد من دين بجوارها، وخصوصا أن المدائن الرومانية لم يكن فيها التناسق الاجتماعى الذى يجعل كل إنسان يرضى بما قسم له من حظ. إن التاريخ يحكى أن توزيع الثروة فى الدولة الرومانية لم يتحقق فيه العدل الاجتماعي، فبينما ترى الترف فيمن أفاءت عليهم الدولة بالغنائم والأسلاب من الفتوح الرومانية ترى ألوف الألوف من الناس قد حرموا ما يتبلغون به فى حياتهم، فاستولى عليهم الإحساس بالظلم، والناس لا يشقون بالام ذاتية وحرمان ذاتى بمقدار ما يشقون لسعادة غيرهم التى امتنعت عليهم، وكذلك كانت الالام فى سواد الرومان، ولولا بقايا من الصبر عندهم لانفجروا فى ثورات ما حقة لا تبقى ولا تذر. مزج الفلسفة بالدين: 17- وفى هذا الوقت أرادوا أن يمزجوا الفلسفة بالدين أو يحلوا الفلسفة محل الدين، إذ أخذت التماثيل تفقد قوتها، ولم يعد لها سلطان فى التأثير فى نفوس الشعوب، وفقدت معابد الأوثان ما كان لها من روعة، ولقد كان يعتور النفس الرومانية حينئذ عاملان قويان كلاهما فيه شدة وبأس، فشعورهم بالبأساء

التثليث فى الفلسفة:

والالام يجعلهم فى حاجة إلى عزاء من الدين، وسلوى بالجزاء فى يوم اخر غير يوم الشقاء الذين يعيشون فيه، والعامل الثانى الذى أضعف هذه السلوى هو أن الالهة التى تمثلوها فى الأوثان فى زعمهم قد فقدت قوة تأثيرها. وقد أرادت الفلسفة أن تحل محل الأديان، ولكنها لم يكن لها تأثيرها، فاتصلت بالأديان والتقت بها التقاء تعاون، وليس التقاء تخاصم وتناحر، كما كان الشأن بينهما. جاء فى كتاب (المباديء الفلسفية) «إن الفلسفة استخدمت نظريات علوم اليونان لتهذيب الاراء الدينية، وترتيبها والتقدم بها إلى الشعور الدينى اللجوج بفكرة فى العالم قد تقنعه. فأوجدت نظما دينية تتفق مع الأديان فى النظر فيما وراء المادة اتفاقا يختلف قلة وكثرة» . وهنا نجد الفلسفة اليونانية التى تسمى الأفلاطونية الحديثة تحاول الالتقاء بالديانتين اللتين كانتا بارزتين فى ذلك الإبان، وقد تخاذلت وثنية اليونان والرومان عن أن تقف واحدها فى الميدان، فأتى باراء فى خلق العالم تقرر أن منشيء الكون الجدير بالعبادة فى نظرها يشتمل على ثلاثة أمور: أولها- أن الكون صدر عن منشيء أزلى دائم لا تدركه الأبصار ولا تحده الأفكار ولا تصل إلى معرفة كنهه الأفهام. ثانيها- أن جميع الأرواح شعب لروح واحدة، وتتصل بالمنشيء الأول بواسطة العقل الذى صدر عن المنشيء صدور المعلول عن علته، فهما متلاقيان فى القدم. ويصبح التعبير عن المنشيء الأول بالاب وعن العقل بالابن، وإن كان أحدهما ليس متخلفا عن الاخر فى الزمان. ثالثها- أن العالم فى تدبيره وتكوينه خاضع لهذه الثلاثة. التثليث فى الفلسفة: 18- وخلاصة القول أن المنشيء الأول هو مصدر كل شيء، وإليه معاده لا يتصف بوصف من أوصاف الحوادث، فليس بجوهر، ولا بعرض، فليس بفكر كفكرنا، ولا إرادة كإرادتنا، ولا وصف له إلا أنه واجب الوجود، يتصف بكل ما يليق به، يفيض على كل الأشياء بنعمة الوجود، ولا يحتاج هو إلى موجد له. وأول شيء صدر عن هذا المنشيء فى نظر صاحب تلك المدرسة- وهو أفلوطين- هو العقل، صدر عنه كأنه متولد منه، ولهذا العقل قوة الإنتاج، ولكن ليس كمن تولد عنه.

ويلاحظ أمران:

ومن العقل انبثقت الروح التى هى واحدة الأرواح، وعن هذا الثالوث يصدر كل شيء، ومنه يكون التدبير والخلق. ويلاحظ أمران: أولهما- أنه التقت الأفلاطونية الحديثة مع الدين ، وصارا يضربان على نغمة واحدة هى نغمة ذلك التثليث، وهو ما اشتملت عليه النصرانية التى حالت إليها المسيحية التى تزعمها من تركوا ما دعا إليه المسيح عليه السلام. وبها تلتقى الفلسفة مع ذلك الدين، وتلتقى الوثنية التى تتعدد فيها الالهة وتكوّن منهما تلفيق متناسق أو غير متناسق، من غير نظر إلى كون هذا الامتزاج مزيجا قد اختفت فيه ظواهر العناصر الممتزجة فى مزاج واحد، أم لم تختف. الأمر الثانى- أن شيخ هذه المدرسة هو أمنيوس المتوفى سنة 242 ميلادية ، اعتنق الديانة المسيحية الأولى التى جاء بها أتباع المسيح عليه السلام فيما نظن، ثم ارتد عنها إلى وثنية اليونان الأقدمين. وجاء من بعده أفلوطين المتوفى سنة 270 م. وقد تعلم فى مدرسة الإسكندرية أولا، ثم رحل إلى فارس والهند، وهناك استقى ينابيع الصوفية الهندية واطلع على اراء بوذا ومذهبه، وبراهمة الهند وديانتهم، وعرف اراء البوذيين فى بوذا، وقد رفعوه إلى مرتبة الإله، والبراهمة فى كرشنة، وقد رفعوه أيضا إلى مرتبة الإله، وقد عاد من بعد هذه الرحلة التى تزود منها بالزاد البرهمى والبوذى إلى الإسكندرية التى كانت مهد مدرسته المثلاثة على النحو الذى بيناه. 19- فى هذه الموجة الفكرية كان يعيش العالم فى القرن الثالث من مولد المسيح عليه السلام، وقد استمر ذلك الاضطراب الفكرى أمدا بعده، حتى جاء القرن السادس، وقد زادت المنازع وتخالفت المناهج، وانحل الفكر انحلالا شديدا فيما يتعلق بالاعتقاد. وانشقت النصرانية التى انحرفت عن تعاليم المسيح عيسى بن مريم على نفسها، فكان منها الملكانية وكان منها اليعقوبية، واشتد الخلاف بينهما، حتى انتقل الخلاف إلى عداوة فكرية ثم إلى عداوة تشبه العداوة الجنسية، وأغرى الله تعالى بينهم بالعداوة والبغضاء، وتفرقت النفوس والأفكار، وضعف الاعتقاد، وانحل الإيمان، فإنه كلما انتقلت العقائد إلى أن تكون موضع مجادلات تضعف، ويعرض لها الشك، وينتهى اليقين، وكذلك كان الأمر فى الأرض التى كانت تعتنق النصرانية فى القرن السادس، فى البلاد التى كانت تجاور الجزيرة العربية وفى الجزيرة نفسها.

20- فالمسيحية إبان القرن السادس الميلادى قد ضعف الإيمان بها، لكثرة الجدل فيها، ولم تكن قد استقرت الأفكار حولها، واقتصرت على اتجاه معين من اتجاهاتها. فابتدأت أولا باضطهاد الوثنية لها، وتجسس اليهود على النصاري، واختفى المسيحيون فى أكنان من أرض الروم وفلسطين مستسرين بعقائدهم. وكلما ظهر فريق منهم قوبل بالاضطهاد، والأذى المرير، وتبارى فى ذلك ملوك الرومان، وقد جعلوا عمل أمرائهم الذين يرسلونهم هو ذلك الأذى ليئدوا ذلك الدين الجديد فى مهده، ويقبروه فى حجر ولادته. وقد تكاثرت المصادر الدالة على ذلك الاضطهاد، وقد جاء فى كتاب (تاريخ الحضارة) ما نصه «قد كتب بلين وكان واليا فى اسيا إلى الإمبراطور تراجان كتابا يدل على الطريقة التى كان يعامل بها المسيحيين قال: «جريت مع من اتهموا بأنهم نصارى على الطريقة الاتية، وهو أنى أسألهم إذا كانوا مسيحيين، فإذا أقروا أعيد عليهم السؤال ثانية وثالثة مهددا بالقتل، فإن أصروا أنفذ فيهم عقوبة الإعدام مقتنعا بأن غلطهم الشنيع، وعنادهم الشديد يستحقون بهما هذه العقوبة، وقد وجهت التهم إلى الكثيرين بكتب لم تذيل بأسماء من كتبوها، فأنكر المتهمون أنهم نصاري، وكرروا الصلاة على الأديان الذين ذكرت أسماءهم أمامهم، وقدموا الخمور والبخور لتمثال أتيت به عمدا مع تماثيل الأديان، بل إنهم شتموا المسيح، ويقال إنه من الصعب إكراه النصرانى الحقيقى على شتم المسيح، ومنهم من اعترفوا بأنهم نصاري، وكانوا يقرون بأنهم يجتمعون فى بعض الأيام قبل طلوع الشمس على العبادة، وعلى إنشاد الأناشيد إكراما للمسيح، وتعاهدوا بينهم لا على ارتكاب جرم بل على ألا يسرقوا ولا يقتلوا ولا يزنوا وأن يوفوا بعهداهم، ورأيت من الضرورى أن أعذب امرأتين ذكرتا أنهما خادمتا الكنيسة، بيد أنى لم أقف على شيء سوى خرافة سخيفة» . وقد كثر الاضطهاد، وكان نيرون يجعل من النصارى مشاعل تسير فى موكبه، إذ يطليهم بالقار، ويشعل فيهم النار. وتسير تلك الشعلة فى احتفاله بنفسه. وأوقع دقلديانوس بنصارى مصر أشد الاضطهاد، وأنزل بهم العذاب، وقتل فى مصر المسيحية التقتيل الذربع الماحق، حتى أنه اعتبر تاريخ ذلك العذاب هو ابتداء التاريخ القبطى. 21- وبعد زوال الاضطهاد ظهرت الخلافات على أشدها، فكانت بقايا الواحدانية تظهر على لسان أريوس، ومعه أكثر كنائس الشرق، وأكثر الكنائس فى فلسطين، وكثير من كنائس مصر. ولما أراد قسطنطين أن يدخل فى النصرانية جمع مجمع نيقية سنة 325 م وأعلن ثمانية عشر وثلاثمائة من المجتمعين ألوهية المسيح، فأخذ بقولهم مع أن المجتمعين ابتداء فى المجمع كانوا يبلغون 2048 أو يزيدون، ولكن أراد أن تتغير المسيحية إلى ما يقرب من الفلسفة والوثنية على أن يبقى اسم المسيحية وإن خلت من لبها، وهى الواحدانية التى تحارب الوثنية.

وبذلك نقول مقررين أمرين:

ثم توالت بعد ذلك المجمع الذى مال بالمسيحية عن معناها مجامع أخري، وأول مجمع عام انعقد بعد ذلك كان المجمع القسطنطينى الأول سنة 381 ميلادية وفيه أضيفت إلى مناصب الألوهية روح القدس لتتم عناصر الأفلاطونية الحديثة التى أشرنا إليها انفا. ولكن يظهر أن ألوهية المسيح التى قررها مجمع نيقية لم تكن قد استقرت فى الأذهان، فقد جاء من بعد ذلك نسطورس، واعتقد أن المسيح ابنا للإله بالحقيقة، إنما البنوة مجازية، إذ هو ابن بالنعمة والمحبة، لا بالألوهية، فاجتمع مجمع أفسس الأول سنة 431، ليبطل قوله، ويكفروه كشأنهم فى كل من يجهر برأى. توالت من بعد ذلك الخلافات المفرقة، فمنهم من قرر أن مريم ولدت المسيح الإنسان ثم فاضت عليه البنوة الإلهية التى هى اللاهوت، فيقولون أن فى المسيح صفتين هما اللاهوت والناسوت، أو الإنسان والإله، والابن هو مجموع الاثنين، وهو الأقنوم. والاخرون يقولون إنه طبيعة واحدة تجسد فيها العنصر اللاهوتي، ومريم ولدت الناسوت واللاهوت معا، فقد ولدت الإنسان والإله. وقد اعتنقت الكنيسة المصرية واحدة الطبيعتين وولادة مريم لهما معا. وكان الخلاف الشديد بينهما، وكان النزاع وكان الجدل، وكل جدل يحل الاعتقاد، ويضعف قوته، ويخضد شوكته، ولا يجعل له قوة دافعة مانعة. وقد اشتد ذلك كله فى القرن الخامس والسادس. وبذلك نقول مقررين أمرين: أولهما - أن القرن السادس كانت العقائد فيه غير قارة فى النفوس، والاراء تخلق وتعتنق ثم يتعصب لها، وليس التعصب دليلا على قوة الاعتقاد، بل التعصب دليل على الانحراف النفسي، والنظر الجانبي، وكذلك كان تعصب الملكانيين ضد اليعقوبيين، إذ كان فى جملته إدراكا جانبيا منحرفا. العصبية هى المسيطرة فيه، وليست قوة اليقين هى المسيطرة. ثانيهما - أن النفوس فى القرن السادس كانت مهيأة للعقيدة الصحيحة تعتنقها إذا ظهرت بيناتها، وقام الاستدلال المنطقى عليها، وخصوصا أن الأفكار المرددة كانت أوهاما، أو أقوالا غير متميزة تميزا عقليا، ولم تكن قد استقرت استقرارا يجعل التعصب لها يشبه الطائفية، كما حدث من بعد بين النصاري، وبين اليهود.

العرب

وهكذا نرى المسيحية التى خلفت المسيحية الحقيقية التى جاء بها المسيح رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاءت إلى النفوس قلقة غير مستقرة، بل إنها مضطربة غير ثابتة. فإذا كانت أوثان الرومان قد فقدت قوة تأثيرها، وحل فى ربوع الوثنية ديانة تأخذ من اليهودية طرفا بأخذها بأحكام التوراة إلا ما خالف الأناجيل، وتأخذ من الوثنية بأطراف، ولا تكاد تأخذ من الدين الحقيقى شيئا- فإن ذلك المزيج الجديد لم يستقر، بل جاء مضطربا واهنا حتى نهاية القرن السادس الهجري، فكانت النفوس مهيأة لدين جديد هو الدين الحق. العرب 22- طفنا بتفكيرنا حول العالم من غربه القريب والبعيد، إلى شرقه الأدنى والأوسط والأقصي، ولم نعرج على البلاد العربية، ونحسب أنها القلب، وأنها ذؤابة الفكر الأدبي، فإليها تأرز الحقائق الدينية قديما وحديثا، ومنها خرجت أصوات الأنبياء، خرجت ابتداء من أطرافها، ثم ختمت الرسالة الإلهية فى قلبها، ولقد هاجر إبراهيم أبو الأنبياء إلى بلاد العرب وولد فيها ولده إسماعيل الذى كان أول البشرى وحمد الله على ولادته ومن بعده إسحاق، والأول من جاريته هاجر. والثانى من زوجته سارة، وقال من بعدهما الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ. وقد كان من ولده اسماعيل قريش الذين كانوا ذؤابة العرب، ولهم مكانة الزعامة فيهم، كما سنبين عند الكلام عن الكعبة المكرمة، فإليهم يأرزون، وإلى تلك البنية يحجون. وكانت قريش ومن يتبعونها على الدين الذى جاء به أبو الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فكانوا فى أصلهم مواحدين لا يعبدون غير الله تعالي، فلا يعبدون صنما، ولا حجرا، ولا حيوانا، وليس فيهم ألوهية لمخلوق إلا ما كان ممن وفدوا إليهم من النصارى كنصارى نجران ونصارى تغلب وغيرهم.. وقد كان يقوى توحيدهم صلتهم بإبراهيم عليه السلام، وشرفهم فى الانتساب إليه عن طريق ولده إسماعيل عليه السلام، ولكن طرأ عليهم ما حالت به أحوالهم، وتغيرت بسببه عقائدهم، وذلك لتقادم الزمن بينهم وبين إسماعيل عليه السلام حتى نسوا ما عرفوا. دخول الوثنية أرض العرب: 23- تواردت عبادة الأوثان على النفس العربية، والتفكير العربى من نواح ثلاث: أولاها- أن بقايا من الديانات القديمة كانت فيها وثنية، وإن لم تكن سائدة فى البلاد، فقوم نوح كان فيهم وثنية، وقيل إنه كان عربيا، أو خاطب العرب، وقد قص الله خبر أوثانهم فقال تعالى:

وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً، وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً «1» . ولا شك أن هذه الأثارة من بقايا الوثنية تبقي، وإن لم تكن سائدة مسيطرة، وإنك لترى أن بعض المتدينين بديانات سماوية يبقى فى نفوسهم بعد اعتناقها بقايا أشربت بها نفوسهم، وتجرى اثارها فى بعض ارائهم، وإذا لم تصل إلى أن تكون رأيا يقنع، فإنها قد تكون تقليدا يتبع. الثانية من جيرانهم الرومان. فإن الوثنية الرومانية كانت على مقربة من العرب من قبل المسيح ومن بعده، فعدوى العقائد تسرى كعدوى الأمراض، ومن الاختلاط الذى كان بين بعض العرب والرومان فى الاتجار كانت العقائد الدينية تجيء إليهم، وخصوصا أن دولة الرومان كانت أقوى سلطانا من الجماعات العربية، وأن بعض القبائل العربية كانت تخضع لسلطان الروم، كالغساسنة، فإنهم كانوا تحت سلطان الرومان، وكانت لهم تبعية للرومان، ووراء هذه التبعية الاختلاط، ووراء الاختلاط العدوى. والناحية الثالثة ذكرها ابن إسحاق صاحب السيرة فقال: «يزعمون أن أول ما كانت عبادة الأحجار في بني إسماعيل أنه كان لا يظعن من مكة ظاعن منهم حين ضاقت والتمسوا الفسيح في البلاد إلا حمل معه حجرا من حجارة الحرم تعظيما للحرم، فحيثما حلوا وضعوه وطافوا به كطوافهم بالكعبة، حتي أدي ذلك إلي أن كانوا يعبدون ما استحسنوه من الحجارة وأعجبهم، حتي خلفت من بعدهم خلوف ونسوا ما كانوا عليه واستبدلوا بدين إبراهيم وإسماعيل غيره، فعبدوا الأوثان، وصاروا أبعد ما كانت عليه الأمم من الضلالات» . ويذكر الحافظ ابن كثير في تاريخه أن ابن هشام قال: «حدثني أهل العلم أن عمرو بن لحي خرج من مكة إلي الشام، فلما قدم ماب من أرض البلقاء وبها يومئذ العماليق راهم يعبدون الأصنام فقال لهم: ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون؟ قالوا له: هذه أصنام نعبدها، فتمطرنا، ونستنصر بها فتنصرنا. فقال لهم: ألا تعطونني منها صنما، فأسير به إلي أرض العرب فيعبدونه، فأعطوه صنما يقال له هبل، فقدم به مكة ونصبه وأمر الناس بعبادته» . وعمرو بن لحي هذا كان سيد خزاعة، وكانت لخزاعة سدانة البيت الحرام، فكان لها بهذا سلطان في التوجيه. يعظمون ما تعظمه. وإن هذا يدل علي مقدار العدوي التي جاءت من الرومان، فما كان في الشام إنما هو من أثر وثنية الرومان، وإن ذلك يؤكد أن وثنية العرب كان للعدوى أثر فيها وإن كان ثمة أسباب قوتها. ومهما تكن الأسباب فقد توافرت، حتى دخلت الوثنية الأرض العربية، وبين ذرية إبراهيم حاطم الأوثان الذي جعلها جذاذا.

_ (1) سورة نوح: 24.

لم ينسوا الله فى وثنيتهم:

وقد سيطرت الوثنية على أعمالهم حتى لقد ورد عن أبى رجاء العطاردى أنه قال: «كنا فى الجاهلية إذا لم نجد حجرا جمعنا حثية من التراب فحلبنا عليها ثم طفنا بها» . لم ينسوا الله فى وثنيتهم: 24- لقد أغرم العرب بعبادة الأوثان إغراما شديدا، حتى صارت جزا من مداركهم وعقولهم، وأصبحوا يستنصرون بالأحجار، ويظنون أنها تجيب سؤلهم، ولكنهم مع ذلك لم ينسوا الله تعالى خالق هذا الوجود ومنشئه، وكانوا كما قال تعالى عنهم: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ «1» . وهنا تفترق الوثنية الرومانية واليونانية عن وثنية العرب، إذ أن وثنية العرب فيها إيمان بالله، وإن لم يكن واحدانية، بل كانوا يشركون مع الله تعالى غيره، أما الاخرون فقد كانت نظرية الحلول تسرى فيهم، ولا يجيء فى وثنيتهم ذكر الله تعالى قط. والسبب الجوهرى فى هذه التفرقة أن الأصل عندهم هو التوحيد، كما تلقوه عن إسماعيل وإبراهيم عليهما السلام، فكان بقية مما وصى به إبراهيم بنيه ويعقوب، كما قال تعالى فى كتابه الكريم وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ، فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ «2» . الأمر الثانى- هو احترام الكعبة والبيت الحرام، وهو ما ورثوه عن إبراهيم عليه السلام، فقد كانوا مع وثنيتهم فيهم بقايا من عهد إبراهيم من تعظيم البيت والطواف والحج والعمرة والوقوف على عرفات والمزدلفة وهدى البدن، والإهلال بالحج والعمرة مع إدخالهم فيه ما ليس منه، ويقول ابن إسحاق فى سيرته: كانت كنانة قريش إذا أهلوا قالوا: لبيك اللهم لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك. فيواحدونه بالتلبية، ثم يدخلون معه أصنامهم، ويجعلون ملكها بيده، ويقول تعالى لمحمد وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ. «3» ومن أجل أن العرب كانوا يحاولون الجمع بين إيمانهم بالله تعالى وإيمانهم بالأوثان نقول أن إيمانهم بالأوثان لم يكن قويا مستغرقا كما ال إليه أمرها عند الرومان، وخصوصا قبل البعث المحمدي، كما أن إيمانهم بالله تعالى لم يكن صحيحا، لأن الإيمان بالله لا يتحقق إلا إذا كان المؤمن يؤمن بواحدانيته لا يشرك به أحدا فى ذاته ولا فى الخلق والتكوين، ولا فى العبادة، فلا عبادة إلا لله تعالى واحده.

_ (1) سورة لقمان: 25. (2) سورة البقرة: 132. (3) سورة يوسف: 106.

القلوب فارغة من إيمان:

ولكن الذى يدل عليه الجمع بين الإيمان بالله تعالي، والإيمان بالأوثان هو أن اعتقادهم فى الأوثان لم يكن قويا مكينا، بل هو اضطراب فى الاعتقاد، ولا استقرار فيه، بحيث تستقر النفس وتطمئن، وكيف يستقر عقل، يجمع قبضة من التراب أو يقتطع قطعة من الحجر يجعله معبوده، ويعبده أطراف النهار وزلفا من الليل، وهو مع ذلك يجزم بأنه ليس بخالق، ولكنه مخلوق. وإذا كانت الوثنية قد ضعفت فى اخر أمرها قوة الأوثان، فإن أوثان العرب خلقت فكرتها ضعيفة يوجد ما ينازعها، أو يجعلها قلقة غير مستقرة إذ هى فى نفسها تحمل عوامل ضعفها وردها، ولكنه التقليد الأعمي، الذى سد مسالك الإدراك على العقل. القلوب فارغة من إيمان: 25- إن الذى ذكرناه أن القلوب والعقول كانت فارغة تحتاج إلى ما يملؤها ويسد فراغها، ولا يتركها شاغرة فى شرق الأرض وغربها، يستوى فى ذلك قاصى الأرض ودانيها، فالشرق الأقصى كما يعبر رجال السياسة لم يكن فيه إيمان بشيء، وقد كانت الأوهام هى التى تسيطر، والأوهام وإن استحكمت فى نفوس من تسيطر عليهم غير صالحة للبقاء، إنما الذى يصلح للبقاء مما يسيطر على النفوس هو ما يكون متفقا مع حكم العقل، والتفكير السليم. والأوهام وإن قويت لا تستطيع مقاومة العقل، ومثل الأوهام كمثل الضباب يبدده ضوء الشمس، فكذلك العقل يبدد ضباب الأوهام، ويشكف عن المدارك غمتها. والهنود تسيطر عليهم أوهام أشد، وظلم اجتماعى غير صالح للبقاء، والفرس ظهر عندهم مذاهب هدامة تهدم الإنسانية. فتجتثها من جذورها أو تهدم أخلاقها التى يتماسك بها احادها. والرومان وما كان تحت ظلهم قد فقدوا الإيمان، فاستبدلوا بالوثنية النصرانية التى ابتدعوها، ولكن لم يثبت بها إيمان إلى القرن السادس. وليس فقد الإيمان كان خاصا بالعقيدة فيما وراء الطبيعة، بل كان مفقودا فى القيم الإنسانية الخلقية كما هو مفقود فى العبادة والألوهية، فلم يكن ثمة خلق إنسانى سليم، بل كان كل شعب ينظر إلى الاخر نظرة العداء، وأصبح التفكير الخلقى مقصورا على معاملة أبناء الوطن الواحد، لا أبناء الإنسانية عامة. وعم ذلك ولم يخص، حتى كان الفلاسفة لا يؤمنون بحق الشعوب، فأفلاطون قد كان يعتبر ما عدا اليونان من الناس برابرة، وكل من يبعد عن وطنه فرسخا أو دونه يسترقه من يلقفه من غيره، وقد وقع الرق على أفلاطون نفسه، حتى افتدى، وهكذا قد فقد الإيمان بالقيم الإنسانية كما فقد الإيمان بالألوهية.

أرض النبوة الأولى

فكانت أماكن الإيمان شاغرة من القلوب، فلابد أن يكون من يملؤها، لابد من محمد رسول الله رب العالمين، ولابد أن يقوم فى وسط الأرض يدعو أهل الأرض فى الأرض النبوة الأولي. أرض النبوة الأولى 26- قرأت لبعض كتاب الفرنجة كلاما يتحدث فيه عن أورشليم وبيت المقدس، يقول فيه إن أورشليم وما حولها البقعة المباركة كانت مدرسة الأنبياء، ففى وسطها تربى الأنبياء، وعلت أصواتهم بالرسالة، وأنه لا مدرسة للنبوة غير هذه المدرسة، ففيها ظهر داود وسليمان وعيسي، وهى التى أرادها موسي، ودعا بنى إسرائيل لأن يدخلوها، فقالوا إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها «1» . وذلك القول فيه حق، وفيه باطل، أما الحق فهو ما ينبيء عنه من مكانة أورشليم التى بها المسجد الأقصى مسرى النبي، وثالث المساجد التى تشد إليها الرحال، والتى كان منها المعراج، والقبلة الأولى للإسلام، وهى بهذا وبغيره سميت فى القران الكريم والمصادر الدينية السماوية الأرض المقدسة. أما الباطل فى كلام ذلك الكاتب فهو: أولا- فى قصره النبوة على أورشليم وما حولها، فإن القصر ليس بسليم، فإنه ما من أمة إلا خلا فيها نذير، وبعد أن قص الله تعالى قصص عدد من الأنبياء قال تعالى فى كتابه الكريم: مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ «2» وإننا لا نذهب بعيدا عن أورشليم فإنه بجوارها الجزيرة العربية وأطرافها كان فيها الأنبياء أصحاب الرسالات التى جاءت بها كتب سماوية وذكرتها التوراة والقران، مما سنذكره فى هذا الموضوع قريبا إن شاء الله تعالي. ثانيا- لأنه فهم أن للنبوة مدرسة يتربى فيها الأنبياء، وذلك باطل لأن النبوة رسالة من الله تعالى لخلقه، لا تكون بمدرسة يتخرج فيها الأنبياء، ولكن تكون بوحى من الله تعالي، وتكليف منه سبحانه وتعالي، سواء أكان ذلك الوحى بخطاب أوحى به إليه، أو بكلام الله تعالى من وراء حجاب، كما كان الشأن بالنسبة لموسى عليه السلام، أو برسول من الملائكة ينقل عن الله تعالى لمن اصطفاه من خلقه نبيا أو رسولا، فاعتبار أورشليم مدرسة للنبوة كلام ليس دينيا وليس علميا، ولا يتفق مع تاريخ الأنبياء المرسلين عليهم الصلاة والسلام. 27- وإذا سأل سائل: لماذا بعث محمد صلّى الله عليه وسلّم فى الجزيرة العربية وفى الحجاز منها، ولم يبعث فى أورشليم كما بعث داود وسليمان وعيسى عليهم الصلاة والسلام؟

_ (1) سورة المائدة: 22. (2) سورة غافر: 78.

إدريس عربى:

نقول فى الجواب عن ذلك: إن أكثر الأنبياء وخصوصا أصحاب الرسالات كموسى وإبراهيم ونوح وإسماعيل وإسحاق لم ينشئوا بأورشليم كما توهم ذلك الكاتب الفرنجى الذى لم يعرف معنى الرسالة والرسل، ولم تكن الجزيرة العربية خالية، بل هى كانت مبتعث الأنبياء أصحاب الرسالات من القديم، والذين كانوا فى أورشليم إن استثنينا عيسى عليه السلام وداود وسليمان لم يكونوا أصحاب كتب يعمل بها أقوامهم وإنما كان يعمل أكثرهم بكتب نزلت على غيرهم، وأكثرهم كان يعمل على إقامة توراة موسي. أما الرسل الذين جاؤا فى الجزيرة العربية فقد كانوا أصحاب رسالات، ينفذونها بأنفسهم، ولم يكن عملهم مقصورا على بيان الرسالات لمن سبقوهم، ولقد بين الله واحدة الرسالة الإلهية التى اختلفت كتبها، ولم يختلف معناها، فذكرها فى قوله تعالى شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً، وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ، وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ، كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ، اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ «1» . وأولئك هم أولو العزم من الرسل، ولم ينشأ فى أورشليم منهم إلا عيسى عليه السلام، والاخرون كانوا تابعين من البلاد العربية، أو مما حولها من أرض كنعان، أو من أطراف الجزيرة كأرض سيناء. فالبلاد العربية هى موطن الرسالات الأولي، بها ابتدأت الرسائل الإلهية، وبها ختمت، فلم يكن غريبا أن يبعث محمد صلّى الله عليه وسلّم فى تلك البلاد، وينبثق نوره فى الافاق من أهل المدر، وأهل الوبر فيها. هذا إجمال نعرج إليه ببعض التفصيل: إدريس عربى: 28- إن الحقيقة أن البلاد العربية كانت مهد النبوة، فإدريس عليه السلام الذى رفعه الله تعالى مكانا عليا، والذى تقول الأخبار، أنه كان فى البطن الثالث لادم أبى الخليقة، قالوا أنه كان عربيا وفى أرض العرب، وليس لدينا دليل يجعلنا نؤمن بأنه البطن الثالث لادم، ولذلك نطرح القول فى ذلك غير مكاذبين ولا مصادقين، ولا نحسب أنه من أساطير الأولين. وإنما الذى نتمسك به هو أنه صديق من الأنبياء الذين وصفهم الله تعالى بذلك الوصف الكريم. فقد قال تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا. وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا «2» ، فهو صديق، وهو رفيع المكانة عند الله تعالي، لأنه سبحانه رفعه مكانا عليا. ويغلب على الظن أنه لم تكن نشأته بأورشليم، لأن أورشليم أنشأها يعقوب بن إسحاق عليهما الصلاة وأتم التسليم.

_ (1) سورة الشورى: 13. (2) سورة مريم: 56.

نوح عربى:

وقد جاء فى كتاب قصص الأنبياء لأبى الفداء أن إدريس فى سلسلة نسب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فقد جاء فيه ما نصه: «إدريس عليه السلام قد أثنى الله تعالى عليه بالنبوة والصديقية وهو فى عمود نسب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم» . ومادام فى عمود نسب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يعد عربيا، ولا يعد من أورشليم، ولا شك أن الحكم فى هذه المسألة الموغلة فى التاريخ لا يعد حكما قاطعا، ولكنه حكم راجح، وأكثر مسائل التاريخ الحكم فيها ظنى لا قطعى. نوح عربى: 29- تضاربت الروايات عن منشأ نوح عليه السلام أكان ببابل أم كان بالجزيرة العربية، ولكن الثابت أنه من البلاد العربية، وذكروا أن سفينته مرت فى مقابل الكعبة أربعين مرة، ولقد أكد ابن كثير أنه دفن فى البلاد العربية، فقد قال ابن كثير فى قبره: وأما قبره عليه السلام، فروى ابن جرير والأزرق عن عبد الرحمن بن ساباط مرسلا أن قبر نوح بالمسجد الحرام أى بالموضع الذى بنى فيه المسجد الحرام. ويقول ابن كثير: «وهذا أقوى وأثبت من الذى يذكره كثير من المؤرخين من أنه ببلدة بالبقاع تعرف اليوم (أى فى القرن الثامن الهجري) بكرك نوح، وهناك جامع قد بنى بسبب ذلك» . والحق أنا نميل إلى أنه طوف بالافاق. فإذا كان منشؤه ببابل، فهو قد اوى إلى بلاد العرب حصن الديانات الأولي، ومنابع النبوة. هود نبى الله كان عربيا: 30- هود أقدم من إبراهيم عليه السلام، كان من قوم عاد، وكانوا عربا يسكنون بالأحقاف، وكثيرا ما كانوا يسكنون الخيام ذوات الأعمدة الضخام. ويذكر ابن كثير أنه يقال إن هودا أول من تكلم بالعربية، ويقول ابن كثير.. «وزعم وهب بن منبه أن أباه (أى أبا هود) أول من تكلم بها، وقال غيره: أول من تكلم بها نوح عليه السلام، ويقال للعرب الذين كانوا قبل إسماعيل العرب العاربة، وهم قبائل كثيرة منهم عاد، وثمود وجرهم، وغيرهم، وأما ولد إسماعيل، فيسمون العرب المستعربة.

صالح عربى:

وقد قالوا إن هودا كان أول نبى بعد نوح عليه السلام، وربما يوميء إلى ذلك ما حكاه الله تعالى فى خطابه لقومه: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً، فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ، وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ «1» . ونرى من هذا النص أنه يوميء إلى أن هودا جاء من بعد نوح، وأن قومه كانوا خلفاء من بعد نوح ثم يؤتى بالإشارة من جهة أخرى أن قوم نوح كانوا فى أرض العرب، كما كان خلفاؤهم، والله أعلم. وإن عادا كانوا من أقوى قبائل العرب منعة، وأقواها شكيمة، ولكن كانوا أشدها غرورا، كما قال الله تعالى عنهم: فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً، أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً، وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ. فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ «2» . وهكذا نرى هودا عليه السلام يجادل قومه بالحسنى أو التى هى أحسن، وهم يجادلونه بالعنف أو الطغيان حتى أهلكهم الله تعالى بريح صرصر عاتية. صالح عربى: 31- صالح عليه السلام هو نبى ثمود، وكانوا عربا من العاربة يسكنون الحجر الذى بين الحجاز وتبوك، وقد مر بديارهم رسول الله محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وهو ذاهب إلى تبوك فى الغزوة التى قد غزاها. كان يدعوهم إلى التوحيد، وكانت بينته ناقة لا يمسوها بسوء، وإلا كانوا خاسرين كما قال تعالى حكاية عن سيدنا صالح وقومه: وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً، قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ، قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ، هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً، فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ «3» ولقد كان قوم صالح من بعد عاد قوم هود. إذ كانوا خلفاءهم، وكانوا أقوى وأكثر عددا كما قال تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ، وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً، وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً، فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ «4» .

_ (1) سورة الأعراف: 70. (2) سورة فصلت: 16. (3) سورة الأعراف: 73. (4) سورة الأعراف: 74.

إبراهيم أبو العرب المستعربة وإسماعيل:

ولكن ثمود بعدت عن أمر ربها، واعتدوا على صالح، فنزل عليهم عذاب واصب وأبادهم. ويروى أن المسلمين رأوا البئر التى كانت تشرب منها الناقة، وذلك فى غزوة تبوك، فقد روى عن ابن عمر قال: لما نزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالناس على تبوك نزل بهم الحجر عند بيوت ثمود، فاستقى الناس من الابار التى كانت تشرب منها ثمود، فعجنوا منها وملأوا القدور، ثم ارتحل بهم حتى نزل بهم على البئر التى كانت تشرب منها الناقة. إبراهيم أبو العرب المستعربة وإسماعيل: 32- لقد ولد إبراهيم فى أرض الكلدانيين يعنون أرض بابل. وقيل إن إبراهيم ولد بغوطة دمشق فى قرية يقال لها برزة فى جبل يقال له جبل قايسون، ولكن ابن عساكر راوى الخبر يقول «والصحيح أنه ولد ببابل» . ولكن إبراهيم لم يستقر فى بابل، بل كان ينتقل فى الأقاليم، فارتحل إلى كنعان حيث أرض فلسطين، ثم ارتحل إلى حران، والجزيرة، والشام. وكانت عبادة الكواكب سائدة فى البلاد التى نزل بها. وكان هو يدعو إلى عبادة الله تعالى الواحد القهار، ولقد حطم الأوثان وجعلها جذاذا، وقد حاول المشركون أن يحرقوه بالنار لما فعل بالهتهم، فألقوه فى النار، وهو لا يعتمد إلا على الله تعالي، وقال حسبنا الله ونعم الوكيل، فاستجاب الله لدعائه، وجعل النار بردا وسلاما عليه، فقال سبحانه: قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ. وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ «1» . أرادوا أن يغلبوا فغلبوا، فهم أرادوا الأذى لإبراهيم، وأراد الله الخير له، فكان كيدهم شرا، وأراد إحباط ما صنعوا وكانوا الأخسرين، لأنه لم يتم لهم مأرب، وحقق لإبراهيم الغاية. ولم يجد إبراهيم مهاجرا إلا فى بلاد العرب، هاجر إليها بعد أن طوف ما طوف، إذ أن أم ولده إسماعيل هاجرت بولدها إلى مكة فرارا به، وطمأنينة عليه، وكان معها إبراهيم، أو هو الذى أخذها إليه. هربت بابنها إسماعيل إلى موضع مكة. ومعها أبوه خليل الله. وقد أصابها العطش، فأخذت تسعى إلى الماء بين الصفا والمروة حتى رأت عينا ثرة، فملأت سقاءها وشربت هى وولدها. ولقد شب إسماعيل عن الطوق، وتعلم العربية، ورزقه الله هو وأمه رزقا حسنا، كان يأتيهما من غير حساب، وكان الخليل يزورهم الوقت بعد الاخر.

_ (1) سورة الأنبياء: 69.

بناء الكعبة:

بناء الكعبة: 33- وفى إحدى الزورات التقى الشاب بأبيه، فصنع كل منهما ما يصنع الولد بالوالد، والوالد بالولد، على شوق بعد طول غياب، فقال الأب لولده الشاب: يا إسماعيل إن الله تعالى أمرنى بأمر. قال الشاب: اصنع ما أمرك به ربك. قال الشيخ: وتعيننى عليه؟ قال الشاب: وأعينك عليه. قال الشيخ لابنه: فإن الله أمرنى أن أبنى ها هنا بيتا. وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها. فعندئذ رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتى بالحجارة، وإبراهيم يا بني، حتى إذا ارتفع البناء جاء بالحجر الأسود فوضعه، ليكون علامة ابتداء الطواف وانتهائه فى مراته. وهذا ما بينه الله تعالى فى قوله تعالت كلماته: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ «1» . استقر بإبراهيم المطاف بأن بنى ذلك البيت، أول بيت وضع للناس، فشرفت البلاد العربية به، وشرفت بإبراهيم الذى جعلها تختار بناءه بأمر الله تعالي. فإبراهيم إذا كان مولودا ببابل، وإن بيته أول بيت لله تعالى بناه بالبلاد العربية، فليست البلاد شريفة به وبابنه فقط، بل هى شريفة بأن ابنه أبو العرب المستعربة. وإذا كان إبراهيم أبا الأنبياء حقا وصدقا، فإنه لم يبن بيتا بأمر الله تعالى إلا فى البلاد العربية، ولم يبن ذلك البيت بكنعان ولا ببابل ولا بغيرهما، فكانت الجزيرة العربية أرض النبوة الأولى حقا وصدقا. ولا غرابة فى أن يكون مبعث محمد عليه الصلاة والسلام فيها. إنما تكون الغرابة إن خرج نبته الطاهر من غيرها.

_ (1) سورة البقرة: 127- 129.

شعيب ومدين:

شعيب ومدين: 34- جاء شعيب بعد إبراهيم وبعد لوط. وقيل أنه كان بعد يوسف عليهم السلام، ومن المؤكد أنه جاء بعد لوط لأنه جعل من إنذاره لقومه أن يصيبهم مثل ما أصاب قوم لوط، فقد قال الله تعالى عنه: وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ «1» . وإن هذا النص القرانى السامى يدل على أمرين: أولهما: أن مبعث شعيب عليه السلام كان بعد مبعث هود وصالح ولوط، فقد جعل فى بيانه ما حدث لأقوام هؤلاء من عذاب دنيوى ما حق كان موضع إنذار لهم. ثانيهما: أنه يدل على أن قوم لوط كانوا فى العرب، ولذلك قال سبحانه وتعالى: وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ «2» فهم كانوا على مقربة منهم، فهم كانوا مثلهم فى أطراف أرض العرب من ناحية الشام، إذ قد اختار لوط محلة غير المحلة التى كان بها عمه إبراهيم عليهم جميعا الصلاة والسلام، فهم من صفوة خلق الله الذين اصطفاهم على عباده، وكانوا رسلا مبشرين ومنذرين، وتركوا رسالات خالدة خلدها القران الكريم. ولا نترك الكلام فى شعيب من غير أن نذكر كلمتين: إحداهما: أنه بعث لمدين، وأهل مدين هم أهل الأيكة، إذ كانوا يعبدون شجرة عظيمة هى الأيكة، وهم أصحاب يوم الظلة، وقد ذكر علماء تاريخ الأنبياء أن يوم الظلة يوم فيه حر شديد أصابهم، وأسكن الله تعالى هبوب الهواء عليهم سبعة أيام، فكان لا ينفعهم مع ذلك ظل ولا ماء، ولا دخول فى الأسراب، فهربوا من محنتهم إلى البرية فأظلتهم سحابة، فاجتمعوا تحتها، ليستظلوا بظلها، فلما تكاملوا أرسلها الله تعالى عليهم ترميهم بشرر وشهب، ورجفت بهم الأرض، وجاءتهم صيحة من السماء فأزهقت الأرواح، وخرت الأشباح. هذا ما ذكره ابن كثير فى معنى الظلة والصيحة التى أصيب بها قوم شعيب، وقد ذكر سبحانه وتعالى الرجفة والصيحة، فقد قال سبحانه وتعالى فى قصتهم فى سورة الأعراف فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ، فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ «3» ، وجاء فى سورة هود أنه وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ «4» .

_ (1) سورة هود: 89. (2) سورة هود: 89. (3) سورة الأعراف: 78. (4) سورة هود: 67.

موسى كلف الرسالة فى أرض العرب:

وهى عقوبات متتالية، أرهقتهم الذلة، حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، حتى فروا من أماكنهم، فجاءتهم الغمامة فرجوا أن يستظلوا بها، أو أن يجدوا فيها الرحمة، فكانت الصيحة العنيفة وكانت الرجفة التى أصابتهم. وقد قال فى ذلك ابن كثير: جمع الله تعالى عليهم أنواعا من العقوبات وصنوفا من المثلات، وأشكالا من البليات، وذلك لما اتصفوا به من قبيح الصفات. سلط الله عليهم رجفة شديدة أسكنت الحركات، وصيحة عنيفة أخمدت الأصوات، وظلة أرسل منها شرر النار من سائر أرجائها والجهات. الكلمة الثانية أن أهل مدين امتازوا من بين عبدة الأوثان بأنهم جمعوا مع عبادة الشجرة فساد الأخلاق وسوء المعاملات بعضهم مع بعض، كانوا يطففون فى الكيل والميزان، وكانوا قطاع طريق، يقطعون السبيل ويخيفون المارة، يأخذون الفائدة الزائدة، ويدفعون الناقص، فإن استدانوا نقصوا من الدين، فكانوا بذلك أشد فسادا، ولذلك كان نهى نبيهم لهم عن الفساد، فقال لهم: ولا تعثوا فى الأرض مفسدين، فلا يفسد الجماعات إلا التعامل الفاسد، وهو مبيد جمعها، لقد كانوا قليلا، فكثرهم الله، ولكنهم أضعفوا نخوتهم، وأماتوا عزتهم، فانصرفوا إلى الفساد. ولقد كان أوضح ما دعاهم إليه شعيب عليه السلام هو الوفاء والمعاملة الطيبة، والتعاون على البر والوفاء بالحقوق، بدل التعاون على الإثم. وكان شعيب فصيح العبارة، قوى البيان والتأثير، حتى لقد روى فى بعض الاثار أنه خطيب الأنبياء، ومدين من بلاد العرب على أطراف الشام، جاء فى قصص الأنبياء لأبى الفداء فى أرض مدين ما نصه: «كان أهل مدين قوما عربا يسكنون مدينتهم التى هى قريبة من أرض معان من أطراف الشام مما يلى ناحية الحجاز قريبا من بحيرة قوم لوط، وكانوا بعدهم بمدة قريبة، ومدين قبيلة عرفت بهم، وهم من بنى مدين بن مديان» «1» . موسى كلف الرسالة فى أرض العرب: 35- لقد نشأ موسى بمصر حيث ولد بها، وتربى فى دار فرعون، وترعرع فى هذا، وكان فى رعاية الله، لا فى رعاية فرعون، إذ كان يتوجس منه خيفة، ولكن صنعه الله تعالى على عينه، فحماه وأعطاه سبحانه وتعالى النبوة، فكان كليم الله تعالي.

_ (1) قصص الأنبياء ص 275 ج 1

ولكنه لم تبلغ إليه رسالة ربه فى أرض مصر منبته، ومرباه، بل كلمه ربه من وراء الشجرة خارج مصر حيث البلاد العربية. ذلك أن موسى عندما قتل من المصريين رجلا اعتدى على اخر من بنى إسرائيل قوم موسى، وحرض على أن يقتل اخر لولا أنه أدرك أن هذه فتنة، وقال لمن حرضه من قومه إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ «1» ، ولما أخبر أن الملأ يأتمرون به ليقتلوه خرج من مصر، واتجه تلقاء مدين وهو يحس بالحاجة إلى الغوث والمعونة، وهو يقول رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ «2» ، وهو يقول أيضا راجيا الهداية من ربه: عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ. «3» وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ، وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ «4» : أى تكفكفان غنمهما أن تختلط بغنم غيرهما. وكانتا لا تسقيان غنمهما إلا من فضل الماء الذى يبقى بعد سقى الرجال، وأنهم كانوا بعد سقيهم يضعون صخرة على العين، فلا تتمكن الفتاتان إلا من سقى غنمهما من فضل الرجال، فقال موسى الفقير إلى رحمة الله، للفتاتين الضعيفتين فى بدنهما كما هو ضعيف النفس لفقره، والضعيف يحنو على الضعيف ما خَطْبُكُما قالتا: لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ «5» فجاء موسى إلى الصخرة فرفعها بعد أن صدر الرعاء وسقى لهما. بعد ذلك قصت الفتاتان على أبيهما قصة القوى الأمين، فاستأجره ثمانى حجج أو عشرا، حتى انقضت المدة، وهى عشر سنين لأنه قضى أطول الأجلين، أى أتمها عشرا. فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً، قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ. فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ «6» . ومدين كما جاء فى قصص الأنبياء لأبى الفداء، هى المدينة التى أهلك الله فيها أصحاب الأيكة، وهم قوم شعيب عليه السلام، وقد كان هلاكهم قبل زمن موسى عليه السلام. فمدين كما ترى من بلاد العرب، هى التى جاءت فيها الرسالة. بعد أن أقام موسى عليه السلام فيها عشر سنين، بعد فيها عن بيئة فرعون فصفت نفسه. وقد يقال إن النص يفيد أنه كان بجانب الطور، أى فى أرض سيناء، ونحن نقول أن ذلك حق، ولكن بعد أن صفت نفسه من فرعون واثاره وطغيانه، وتربيته قومه على الذلة والخنوع، حتى كان فى مصر الرخاء والخصب والذلة مجتمعات.

_ (1) سورة القصص: 18. (2) سورة القصص: 24. (3) سورة القصص: 24. (4) سورة القصص: 23. (5) سورة القصص: 23. (6) سورة القصص: 29، 30.

أرض العرب مأوى الفارين بدينهم:

وكيف يوفق بين كون مدين ببلاد العرب على أطراف الشام، وكون موسى كلف الرسالة بجانب الطور. يجيب عن ذلك السؤال أبو الفداء فى قصص الأنبياء: «وسار بأهله» أى من عند صهره ذاهبا فيما ذكره غير واحد من المفسرين وغيرهم أنه اشتاق إلى أهله فقصد زيارتهم ببلاد مصر فى صورة مختف، فلما سار بأهله، ومعهم ولدان وغنم قد استفادها مدة إقامته بمدين، ومهما يكن من الأمر، فإن الله اصطفى موسى كليما له ورسولا إلى فرعون، وشعيب استنقذه من أرض مصر، مدة عشر سنين، بعد فيها عن جو فرعون المعتم، ليلقى أمر ربه بتبليغ رسالته إلى فرعون الذى طغى أن راه استغنى. أرض العرب مأوى الفارين بدينهم: 36- كانت أرض العرب مأوى لأصحاب الديانات الذين فروا من الضطهاد، فاتخذوها مستقرا ومقاما، فهى أرض النبيين أصحاب الرسالات العامة، وهى أيضا مأوى الديانات التى نبتت فى غير أرض العرب عندما اضطهدوا فى ديارهم، ونزل بهم البلاء من التتار الذين جاسوا خلال ديار بنى إسرائيل ومزقوهم كل ممزق، وهم أولو البأس الذين بعثهم الله تعالى، ثم من بعد ذلك الرومان الذين ضربوا عليهم الذلة والمسكنة، وكانوا لا يعترفون لهم بحقوق الرومان، ولم يدخلوهم فى الجنسية الرومانية مع أنهم فى حكمهم وتحت سلطانهم، ورعاياهم، ولكنهم الرعايا الأدنون، وهم من فوقهم، ولذلك لم يجد كثيرون منهم مأوى يأوون إليه إلا البلاد العربية التى كانت حصن الذين يفرون بدينهم، ولا يجدون ملجأ إلا أرض النبيين الأولين التى لم يتغلب عليها. وقد وجدوا الملاذ ابتداء فى أرض اليمن فاستظلوا بظل قوم تبع، ومع أنهم كانوا وثنيين وجدوا فى حكمهم ظلا ظليلا، استظلوا به، وأخذوا حريتهم فيه، وقد اعتنق اليهودية بعض اليمنيين، ولكن اليهود لا يعتبرون اليهودية دينا فيه إصلاح البشر وصلاحه، ولكنهم يعتبرونه جنسية، ويقولون مقالهم المزعوم الفاسد، نحن أبناء الله وأحباؤه، ولذلك لم يضموا اليمنيين الذين دخلوا فى اليهودية إليهم، ولم يضعوهم فى جماعتهم، ويسمونهم السامرة، ولقد عاشروا الأوس والخزرج فى موطنهم الأصلى باليمن. ولما هاجر أولئك الوثنيون إلى يثرب حيث الجناب الخصيب، وحيث المنجع المريع، هاجر اليهود أيضا، إلى ما حول يثرب فهاجر بنو النضير وبنو قريظة، وبنو قينقاع، وخيبر. ولم يندمجوا فى الشعب العربى، بل اتخذوا حصونا تحتويهم حيثما أقاموا، وانتجعوا الخصيب من الأرض، فكان لهم النخيل والتمر فى يثرب، امتلكه الذين أقاموا فيها من بنى قينقاع والنضير، وقريظة. وامتلك أهل خيبر مثلها. وكانوا كشأنهم أثرين يحبون أنفسهم. ولا يتعاونون مع أهل البلاد، فكانوا لا يتعاملون مع العرب، وإن تعاملوا معهم بخسوهم وخانوهم عهودهم، كما قال تعالي: وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ

النصرانية:

إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ. بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى، فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ «1» فالعرب الذين أووهم وأنزلوهم أرضهم، أبواهم عليهم المعاملة الطيبة، ونظروا إليهم على أنهم دونهم وأنهم أميون، والأمى يؤكل حقه فى زعمهم الباطل، ومنطقهم الأثيم. وجانبوهم، وتحيزوا فى حيز دونهم، وعاشوا بجوارهم يأخذون ولا يعطون. النصرانية: 37- كما أوت اليهودية إلى أرض الحرية أرض العرب أوت النصرانية إليها عندما كانت مضطهدة من الرومان، وكان اليهود يغرونهم بهم كما روى عن محاولتهم إغراء الرومان بالسيد المسيح عليه السلام نفسه. وقد لجأت النصرانية إلى أرض نجران، ويظهر أنهم كانوا من النصارى الذين فروا من حكم القياصرة الذين اضطهدوهم، ويظهر أنهم كانوا فى ابتداء أمرهم مواحدين حتى غشيت الوثنية تلك الديانة السماوية بالتثليث وادعاء الألوهية لعيسى بن مريم، وأمه، والروح القدس. فقد جاء فى كتاب (الاكتفاء) ما نصه: كان بنجران بقايا من أهل دين عيسى بن مريم على الإنجيل، أهل فضل واستقامة من أهل دينهم، لهم رأس يقال له عبد الله التامر، وكان موضع أصل ذلك الدين بنجران، وهى بأوسط العرب فى ذلك الزمان. وإن استقامة أهل نجران على أصل دين المسيح عليه السلام كانت قائمة فيهم، حتى عصر النبى صلّى الله عليه وسلّم حتى ذكرهم القران الكريم بالثناء عليهم فقال تبارك وتعالى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ. وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ، يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ. وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ، وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ. فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ «2» .

_ (1) سورة ال عمران: 75، 66. (2) سورة المائدة: 82: 85.

رجل صالح:

رجل صالح: وقد قالوا فى أخبار نجران أنه مع مكانة عبد الله، كان رجلا صالحا من نصارى الشام، ويظهر من سياق الأخبار أنه كان ممن فر بدينه هاربا من أرض الرومان، إما لاضطهادهم النصارى، وإما لأنه رأى بعد زوال الاضطهاد أن الرومان وجهوها وجهة وثنية، وانحرفوا بها عن التوحيد الذى هو لبها وأصلها. وذلك الرجل اسمه «فيميون» كان رجلا زاهدا صالحا مجتهدا عاملا لا يأكل إلا من كسب يده، كان حريصا على أن يعيش مستخفيا، لا يريد أن يعرفه الناس، فما أن يعرف فى قرية، حتى يخرج منها إلى غيرها، ولكن فضله كان يكشفه. ولعل السر فى استخفائه أنه كان مضطهدا، فأراد ألا يعرف، وأن يذهب إلى أماكن متفرقة يحتقب عقيدته الخالصة، حتى لا يكون اضطهاد يقع به. ولقد تبعه فى ذهوبه وجيئته شاب اسمه صالح، اتبعه اتباع المريد للشيخ، فكان ينزل معه حيث نزل، ويرحل من حيث ارتحل. وبينما هما يسيران اختطفتهما سيارة، واسترقهما من فيها، وباعوهما، وقد رأى من ابتاع فيميون فى عبده المزعوم خيرا كثيرا، إذ كان يقوم من الليل ويصلى، غير ابه لرق الجسد، ما كانت له حرية العبادة. وكان أهل نجران يعبدون نخلة، كما كان أهل مدين من قبل يعبدون أيكة، وقد أخذ ذلك الزاهد الطيب يدعو لله واحده، ويسيطر بدينه على من استرق بدنه. قال لهم: إنما أنتم فى باطل، إن هذه النخلة لا تضر ولا تنفع، ولو دعوت عليها الله الذى أعبده واحده لا شريك له لأهلكها. قال الرجل: فافعل. فإنك إن فعلت دخلنا فى دينك، وتركنا ما نحن عليه. فقام فيميون وتطهر وصلي، ثم دعا الله تعالى عليها، فأرسل الله تعالى عليها ريحا فاقتلعتها، فاتبعه عند ذلك الكثيرون، وذاعت حاله ودعاؤه، وما كان للشجرة بعد الدعاء. وبذلك دخلت نجران فى دين (فيميون) فحملهم على الشريعة الحق من دين عيسى عليه السلام. ولا شك أن هذا الخبر لا يخلو من الأساطير، وخصوصا أن فيه بعض الأوهام، وقد ضربنا عن ذكرها صفحا، واكتفينا منها بما يقبل التصديق، ولا يوجد ما يدل على الكذب، أو يوهم بأنه غير معقول فى ذاته.

أصحاب الأخدود:

وأنه مهما يكن فيه من مبالغات لا ينفى العقل وجودها فإنه لا شك أن النصرانية دخلت نجران وفى أول دخولها كانت مسيحية المسيح، لا النصرانية التى دخلها الانحراف من بعدها، وإذا كانت قد غشيتها غواشى التحريف فى أهل نجران من بعد، فإن بقية من الاستقامة النفسية كانت فيهم عندما التقوا بالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ولقد كان مع أهل نجران من العرب من دخل النصرانية غيرهم كنصارى بنى تغلب الذين كانوا مع المسلمين، واستمروا حتى عصر الراشدين، ومع انتشار النصرانية فى أهل نجران بدعاة المسيحيين الأصليين كان ملكها باقيا على وثنيته، وقد رأى الشعب يخرج منه الدعاة الذين يدعون إلى توحيد المسيحية الأولى مخلصين، فشدد فى إيذاء هؤلاء الدعاة ونكل بهم، وأوجد فيهم صنوفا من العذاب ابتدعها، ولم يسبق بها. أصحاب الأخدود: 38- وإن أهل نجران أخلصوا فى المسيحية وقبلوا فى سبيلها العذاب الشديد، ورضوا به عن أن يغيروا دينهم غير مطمئنين إلى عقيدة سواه، وابتلوا فى ذلك، فأبلوا بلاء حسنا، وصبروا. وذلك أن ذا نواس سار إليهم وأراد حملهم على اليهودية، أو أن يعودوا إلى الوثنية، فأبى أهل نجران أن يخالفوا، وأن يرتضوا بالعذاب بدل أن يغيروا ويبدلوا فحفر لهم أخدودا، أى شق لهم فى الأرض شقا طويلا امتد، وألقى بهم فى النار التى أثارها فى هذا الأخدود، وحرقهم، فما غيروا وما بدلوا، حتى قالوا أنه ألقى فيها نحو عشرين ألفا أبادهم، وهؤلاء هم الذين جاء ذكرهم فى القران الكريم فقال تعالى: وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ. وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ. وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ. قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ. النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ. إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ. وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ. وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ. الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ. إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ «1» . وهكذا نرى أن الذين عذبوا ذلك العذاب سماهم القران الكريم مؤمنين، مما يدل على سلامة اعتقادهم وحسن إيمانهم، وأنهم يؤمنون بالعزيز الحميد، لا يؤمنون بشيء سواه، فلا تثليث ولا شريك. وإذا كان هؤلاء هم نصارى نجران، فهو دليل على أنه لم يصل إليهم التحريف النصرانى، أولم يكن قد دخل التحريف بعد إلى الدين المتين. وكأنه قد نزل بأولئك المؤمنين الصادقين ما نزل بهم من القياصرة قبل قسطنطين أمثال دقلديانوس ومن قبله نيرون وغيرهما ممن أذاقوا النصارى الخسف والهوان.

_ (1) سورة البروج: 1- 10.

اختصاص الجزيرة العربية

اختصاص الجزيرة العربية [أسئلة] 39- ولماذا اختصت الجزيرة العربية بالرسالات الأولى: رسالة إدريس، ونوح وهود، وصالح، وكان لإبراهيم الفضل فى إنشاء البيت، وكان شعيب قد بعث فى مدين بها، وانبعث نور رسالة موسى عليه السلام منها. ثم لماذا كانت مهجر اليهود عندما نزل بهم الأذي، ونزل بهم سوء العذاب؟ ولماذا وجد المسيحيون الأول فيها مأوى؟ [الجواب] ونجيب عن هذه الأسئلة بأمور ثلاثة: أولها: أن البلاد العربية ليست بلادا متوحشة، كما يتوهم الذين يحكمون بغير بينات، أو الذين يرمون الكلام على عواهنه، أو الذين يتجنون على الحقائق مغرضين غير منصفين، إنما هى بلاد فيها ذكاء ونفوس صافية كصفاء سمائها، وقوة الاستجابة فيها متكافئة مع قوة المقاومة. وليس لأحد أن يدعى أن بلادا فى العصور القديمة كانت أكثر منها تحضرا، فأوربا كانت فى غربها تعيش كالوحوش، فالواندال أو سكسون وغيرهم لم تصل إليها حضارات قبل أن تصل المسيحية، وما وصلت إليهم إلا بعد أن شاهت، وانحرفت عن أصلها، بينما كان الشرق فى القديم مهد الحضارات، ومهد الديانات، ومهد الرسل، واختصت الجزيرة العربية بأنها كانت أصفى الشرق، ففيها انبعثت رسالات الله تعالي، ومن حولها كأرض كنعان وأرض بابل، وغيرهما مما يحوطها، أو من يدخل فى دائرتها كاليمن والبحرين وما وراءهما. الأمر الثانى: أن الجزيرة العربية مع ذكاء أهلها واستقامة نفوسهم، وإن انحرفت أحيانا عقولهم، معتصم حصين، فبيداؤها، وقراها، وبرها فيها حصون لمنع الاعتداء الوحشى من الأمم التى اشتدت إغارتها فى الماضي، فإذا كان النبيون قد قووموا فى إقناعهم ابتداء، فإنهم إذا كانت ديانتهم في حصنين منيعين: حصن من الأرض المانعة لكل أجنبى من أن يقتطعها، وحصن من النفوس التى إذا أمنت قاومت واعتزت بإيمانها، وأن استقامة النفوس وقوتها هى التى بها تتميز أخلاق الأمم، فإن العقول إذا انحرفت تقوم وتستقيم، والقلوب إذا غشيتها غاشيات الضلال فى نفوس ملتوية غير مستقيمة فإن الحق لا يصل إليها إلا من رحم الله. واعتبر بحال العرب بين دولتين قويتين من الدول التى صاقبتها، فإنهما لم تتجاوزا فى سلطانهما أطرافها، ولم تتمكن إحداهما أن تنتقل من الأطراف إلى داخلها، فإنهما عندئذ تجدان قلوبا صلدة قواها ضوء الشمس الساطع، وقوة الحياة فيها، والتعرض لأوابد الحيوان ليلا ونهارا.

الأمر الثالث:

الأمر الثالث: قوة الشكيمة وقوة الخلق العربي، وما امتاز به العربى من جود، وسماحة، وحسن تأت إذا وجد القيادة الحكيمة، فإن العربى أنف إلا إذا رأى القائد الحكيم الذى يقوده، ولعل أحسن تصوير للنفس العربية ما قاله الإمام الحكيم عمر بن الخطاب عندما تولى إمرة المؤمنين. فقد قال رضى الله عنه «مثل العرب كمثل جمل أنف فليعلم قائده أين يقوده» . [عناصر تبوئ العرب الصدارة في الدعوة إلى الحق] وبذلك يلتقى فى العرب عناصر ثلاثة تجعلهم فى موطن الدعاة إلى الحق فى المكان الأول. العنصر الأول: قوة فى النفس تقاوم، ولا تستسلم ، واعتبر ذلك فى النصارى المؤمنين الذين لم يغيروا ولم يبدلوا، ولما حاول تبع أن يغيرهم ووضعهم فى الأخدود، ما نال مأربا، ولا وصل إلى مبتغى. العنصر الثانى: صفاء نفسى وقوة مدارك ، احتفظوا بها حتى فى جاهليتهم، وصدق النفس، والصدق فى القول، والعمل الذى يوجهون إليه. العنصر الثالث: الأنفة وألا يطيعوا فى ذلة ، بل يتبعون فى هداية ورشد مختارين، غير مجبرين، ولقد جاءت بعثة النبى صلّى الله عليه وسلّم فيهم، فبدت هذه السجايا، وشقت طريق النور فى وسط الظلمات. الله أعلم حيث يجعل رسالته 40- نعم، الله واحده هو الذى يختار مكان الرسالة، والذين يحملون الرسالة، والذين ينزل عليهم الوحي، ويبلغون رسالة الله تعالى إلى خلقه، فاختار الله تعالى أرض العرب، لأنها أرض الرسالات العامة التى جاء بها النبيون الذين أرسلوا مبشرين ومنذرين، وأوتوا الكتاب الإلهى بقوة. وفيها العبر وفيها المثلات، وفيها الاثار التى تدعو إلى الاعتبار، وهى لا مطمع فيها لتحكم أو تسيطر، وهى التى لم تغلب عليهم قوى الشر، وإن كانت فيهم عيوب، فهى التى تتعلق بالعلم، ولا تتعلق بالنفس، وهى التى لم يجر فيها الذل الذى يفرضه الملوك الذين يفسدون النفوس، ويجعلون أعزة أهلها أذلة كما قال الله تعالى حكاية عن بلقيس: إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها، وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ «1» . ولقد كانت نفوس أولئك الذين لم يتمرسوا بظلم الملك هى التى حملت رسالة العزة إلى بقاع الأرض، وإذا كانوا قد أبوا حكم الملوك فى جاهليتهم، فقد قوضوا عروشهم بعد إسلامهم، هم أعداء التحكم الفردى، وهم الذين قوضوا قصورهم انتهاء، بعد أن أشربوا حب الإسلام وحملوا لواءه شرقا وغربا. وإنه لو كان لنا اختيار فى أرض غير العرب، لأعيانا الاختيار، لأنها أرض العزة، فلا ذلة فيها، وأرض الحرية، وهى أرض الشجاعة، ولا ينقل دين العزة والإقدام، والعمل الصالح إلا الأحرار الذين يتأبون الدنية،

_ (1) سورة النمل: 34.

ولا يرضون بالذل، ويتحملون الشدائد، وليس ذلك إلا فى العرب، وأرض العرب، ولذلك ما أن انطلقوا بالإسلام إلا خرجوا من ديارهم يدعون إلى الحق، ويهدون إليه من غير توان، ولا فرار، ولا يأس، ولا يتركون البأس إلى الرخاء.. لأنهم تحملوا الام الصحراء. وترى لو تصورنا أرضا للنبوة فى غير أرض العرب، أتكون فى أرض القياصرة حيث تطامن العامة لحكم القيصر، وديثوا بالصغار له نفوسهم، حتى حسبوه من طينة غير طينتهم، وحيث يختلفون فى كل شيء، وحيث لا يحكم بينهم إلا الهوي، وحيث العنصرية الجاثمة على الرؤس، وحيث رق النفوس لهوى الحكام، والخروج على كل منطق للمساواة الإنسانية. وإذا لم يكن الرومان، أفتكون أرض الفرس هى أرض النبوة، وكسراهم فرض عليهم المذلة والهوان، وتوزعتهم سيادة الأشراف، حتى إذا بعدوا عن ذل الملك، وجدوا ذل الحاشية، ووجدوا أنهم يتنقلون فى الذل والهوان، وقد لانت نفوسهم، وخنغوا وهانوا أمام الملوك، وهل هؤلاء فى ذلتهم هم الذين يحملون دعوة الإسلام إلى العزة؟ وهل هم فى رقهم النفسى هم الذين يدعون إلى الكرامة الإنسانية التى سجلها الله تعالى فى قوله تعالت كلماته: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ، وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ، وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا «1» . لا يمكن أن تكون دعوة الحق ممن تمرسوا بالظلم، حتى أمات نخوتهم أو ممن ألفوا الخضوع، حتى لا يستطيعوا التفصى عنه، والخروج منه، ولا ممن قنعوا بالحياة الدون، ورضوا بالهون، إنما لا يدعو إلى العزة ولا إلى الحرية إلا الأحرار. وهل تتصور أن تكون أرض الفراعنة هى التى تدعو إلى إسقاط حكم الفراعنة، وإعلان أن الناس قد ولدتهم أمهاتهم أحرارا، وما انتقلوا من حكم الفراعنة إلا لمن هو أطغي، وأشد بغيا، وأكثر عتوا وفسادا، فهم يسارعون فى الذل والهوان، وينتقلون فيه من قطاع إلى قطاع، ومن جانب إلى جانب، لا يتململون، ولا يضجون ولا يثورون لقهر قاهر، أو ظلم ظالم، بل إنهم يألفون الخضوع حتى يحسب الدارس لهم أنهم يستطيبونه، ويستمرئونه، ويعاونون من يذلهم وينغضون رؤسهم على من يحاول أن يبث فيهم روح العزة والكرامة، بل يحسب أنهم يجدون العزة عبئا لا يمكن احتماله، وحملا لا يمكن حمله، ووزرا يرزحون تحته. قال لهم فرعون: أنا ربكم الأعلي، فصدقوه. وقال لهم: أليس لى ملك مصر، وهذه الأنهار تجرى من تحتى فلم يكذبوه. وقال لهم: ليس لكم من إله غيري، فقالوا: أنت الإله. لقد تضعضعت نفوسهم، حتى ألفوا الذلة فصبت عليهم، وقبلوا أن يكونوا قوما بورا.

_ (1) سورة الإسراء: 70.

وإن الذلة كانت تجرى فى دمائهم، حتى إنه إذا جاءهم من يريد لهم العزة استنكروا ما يدعو إليه، وإن صدقوه جعلوه معبودا أو كالمعبود، وأطاعوه فى الخير والشر، وتصوروا فيه ما ألفه اباؤهم من تقديس لقوله، وإطاعة لعمله، يذوقون الجوع والعري، ويرضون، لأنهم كانوا مع فرعون فلا يتصورون الطاعة، إلا لمن يشبه. إن موسى عليه السلام عندما بعثه الله تعالى بعثه فى غير مصر، وفى غير أرض فرعون، ولما دعا فرعون بدعوة الحق لم يجد مستجيبا إلا من السحرة، وعدد من الشعب ليس بالكثير، فما امن من قوم فرعون إلا قليل، وخرج ببنى إسرائيل ناجيا بهم. وأطبق البحر على فرعون، وخرج إلى سيناء ليدعو بدعاية الحق، ولكنهم لم يصلحوا لتمرسهم بما كان عليه المصريون حتى أنهم أرادوا أن يتخذوا من عجل صنعوه لأنفسهم إلها، كما كان المصريون يعبدون العجل، وهانت نفوسهم كشأن المصريين، حتى أن موسى عندما طلب منهم أن يدخلوا الأرض التى كتب الله تعالى لهم أن يدخلوها، غلبت عليهم شقوتهم، وغلب عليهم الذل الذى أذاقهم فرعون كؤوسه. واقرأ ما حكاه القران الكريم عنهم، فقد قال موسى يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ، وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ. قالُوا يا مُوسى، إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ، وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها، فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ. قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا، ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ، فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ، فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها، فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا، إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ. قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ. قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ «1» . كان ذلك من تأثير إذلال فرعون، فكتب الله عليهم التيه أربعين سنة، حتى يتربوا على البأس والقوة، ويجيء جيل يغالب. ولو تركنا الشرق الأدنى إلى الهند لوجدنا الطبقات قد قتلت فيها النخوة، ودفعت شعبها إلى الاستسلام للذل، إذن فليس لدعوة الحق والعزة والحرية إلا العرب.

_ (1) سورة المائدة: 21- 26.

مكة المكرمة

مكة المكرمة 41- إذا كانت الجزيرة العربية موطن النبوة الأولى، وقد ثبت أن خليل الله تعالى إبراهيم عليه السلام اوى إلى بلاد العرب بعد تطوافه بين العراق وأرض كنعان، وبنى بيت الله تعالى، وقد وجد فى الدعوة إلى الواحدانية فيها مستجيبا، وأنشأ فيها بيت الله الذى قال الله تعالى فيه: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ. فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ، وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً «1» . كانت مكة المدينة الممتازة بين العرب، وقد تضافرت أسباب كثيرة فى العرب جعلتها مناط عزتهم، وملتقى اجتماعهم، وجماع لغتهم، وكان من أهم هذه الأسباب وأبرزها: (أ) أن أبا الأنبياء هو الذى ابتدأ بإنشائها، وكانت من بعده مدينة العرب العظيمة وقطبها الذى تدور حوله قواها، وهى وسكانها أولاد إبراهيم، ذوو المكانة العظمى عند العرب استجابة لدعاء إبراهيم إذ قال عليه السلام، كما حكى الله سبحانه وتعالى: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ، رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ، فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ، وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ. رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ، وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ. الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ، إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ. رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ، وَمِنْ ذُرِّيَّتِي، رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ. «2» فكانت الاستجابة لدعوة إبراهيم عليه السلام أن كان العرب يفدون إليها من كل فج عميق، من وقت أن أنشأ إبراهيم البيت الحرام، وصار مثابة للناس وأمنا، وملتقى العرب أجمعين، مع اختلاف قبائلهم، وتباين منازعهم. (ب) وكان سكان مكة المكرمة هم قريشا الذين كانوا أعلى العرب فكرا إن كان العلو بالفكر، وأشرفهم نسبا، إن كان التفاخر بالنسب، ولسانهم كان أقوى الألسنة أداء، وأفصحها لفظا، وأشرقها أسلوبا، ولذلك كان العرب يجتهدون فى أن تكون اثارهم الأدبية بلغة قريش، فكان الشعراء حريصين أشد الحرص على أن يكون شعرهم بلغة قريش، ويعتزون بأن يكون على نهج اللسان القرشى. ولقد ذكر رواة الأدب أن من ينال قصب السبق يعلق شعره على أستار الكعبة، كأنما يسجل بين العرب ماثره الشعرية، ومكانته بين الناس.

_ (1) سورة ال عمران: 96، 97. (2) سورة إبراهيم: 37- 40.

(ج) وجود البيت الحرام بها، وهو أعلى الأسباب، إذ أنه صار بيت العرب الدينى، ومستقر شرفهم، إليه يحجون، وبه يأمنون، كما قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً، وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ، أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ «1» . لقد كانوا لتقديسهم لمكانة البيت، يحرمون على أنفسهم أن يقتلوا أو أن يقتتلوا داخل الحرم، حتى أنهم مع تشديدهم فى الأخذ بالثأر مما فرق جمعهم كانوا يحرمونه على أنفسهم فى الحرم المكى، زاده الله تعالى تشريفا وتكريما، وأن الرجل كان يلقى قاتل ابنه أو أخيه فلا يمسه بسوء لمكان التقديس النفسى، بل إنهم لا يحترمون المكان فقط، بل يحترمون أيضا الزمان الذى يكون فيه الحج إلى بيت الله الحرام، فكانوا لا يتقاتلون فى أشهر الحج، ولا شهر العمرة، وهو ما يسمى بالأشهر الحرم، وهى ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب الذى بين جمادى وشعبان، إذ كانت فيه عمرة مضر، ولذلك سمى رجب مضر. وقد أقر الإسلام من بعد حرمة البيت، ومنع القتال فى الأشهر الحرم إلا إذا كان فيها اعتداء، فإنه يكون من ظلم النفس ألا يدافع المعتدى عليه عن نفسه. (د) لقد كانت الصحراء العربية موضع تنازع بين القبائل، ولم يكن فى القبائل من تقرر لها نظام، إلا مكة، وإن لم تكن فيه صفة الدولة، بيد أنه كان سلطانا ناشئا من تعاونهم، وتضافرهم، وتلاقيهم، فهو نظام حر ناشىء ومنفذ بين قوم أحرار، وإن لم تكن دولة ابتداء، فإنه يجوز إذا اتسع السلطان، ووجدت المقدرة الثابتة، يصلح أن تكون فيه دولة العرب من بعد، لأنهم يجدون فيها الرياسة المختارة من الشعب، بمقتضى الإرادة العربية التى تتلاقى فيها القبائل، وبمقتضى الانتخاب الطبيعى فى البلاد العربية. (هـ) وكانت قريش بمكة المكرمة ذات اتصال تجارى بين الروم والفرس، فكانت فيها المتاجر تغدو وتروح ذاهبة إلى اليمن حاملة بضائع الروم إليها، ومن اليمن تنفذ إلى ماوراءها فى أرض الفرس، وكانت بضائع الفرس التى تؤخذ من اليمن تذهب إلى الشام لتصل إلى ماوراءه من الرومان. والسبب فى أن مكة كانت لها تلك الميزة الاقتصادية أنها كانت فى وسط البلاد العربية بين اليمن والشام، وأن المواصلات إبان ذلك كانت عن طريق البر بالصحراء العربية، وفوق ذلك النزوع التجارى فى أهل قريش، احترفوا التجارة، واتخذوها مرتزقا لهم، إذ لم يكن فى مكة زرع يغنيهم. وكان العرب يتخذون موسم الحج سبيلا للصفق فى الأسواق التى تعقد فى أيام الحج، ومن هذه الأسواق عكاظ، وغيره، وكان هو أكبرها.

_ (1) سورة العنكبوت: 67.

ولرغبة العرب البيانية قد اتخذ الشعراء من هذه الأسواق سوقا لترويج شعرهم، فكانت الأسواق فيها الزاد المادى، وفيها الزاد البيانى. وقد قال الله تعالى فى روح قريش التجارية لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ. رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ. فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ. الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ، وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ «1» . (و) ويجب أن يذكر فى هذا المقام أن الوثنية سادت العرب، فنسوا دين إبراهيم، ودين هود وصالح وغيرهم وسرت فيهم الوثنية سريان النجاسات فى الماء الطاهر القراح، ولعل قريشا فى مكة اخر من دخل فى الوثنية، كما تحدث أخبار العرب، فالوثنية سرت إليهم من غيرهم، ولم تنبعث من أرضهم، ولكنها موجة من الموجات التى كثرت فى ذلك العصر، وما سبقه، حتى لقد حسب بعض الناس أنها موجة من التفكير الدينى سرت فى العرب، ووفدت إليهم من حولهم، وجاءت إليهم من أرض غير أرضهم. وقد أشرنا من قبل إلى أن العرب وخاصة قريشا لم يكن إيمانهم بالأوثان إيمانا متغلغلا فى النفس، إذ أنه كان مع الاعتقاد فى الأوثان اعتقاد بأن الله سبحانه وتعالى هو خالق الكون، وبقية من تعاليم إبراهيم عليه السلام، فمناسك الحج كانوا يقومون بها على اختلاف أو انحراف، وألفاظه الموروثة كانت تردد على تحريف يقرب من وثنيتهم. وكون بقايا من ديانة إبراهيم فيهم كان يجعلها موضع الرسالة، وإذا كانت الوثنية قد قاومت التوحيد الذى جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم فما كانت كلها من أجل الاعتقاد، بل من تسلط العصبية الجاهلية، والمنافسة فى الشرف بين بطون قريش وأفخاذها، كما سنبين إن شاء الله تعالى عندما نتحدث فى مقاومة الشرك للواحدانية، وذلك بمقاومة زعماء مكة للنبى صلّى الله عليه وسلّم. كانت مكة جماع العرب، فكانت بها دار الندوة التى تجمع أقيال العرب وكبراء القبائل، من شتى الجزيرة، من اليمن جنوبا إلى الغساسنة بالشمال، فإذا أهم العرب أمر واحتاجوا إلى أمر جامع لا يجدون مثابة تجمعهم إلا دار الندوة فى أرض مكة المكرمة، وكانت الرياسة فيها لقريش، وأقربهم كان من جدود النبى صلّى الله عليه وسلّم، وكان عليه الصلاة والسلام يحضر ندوة قريش فى صدر حياته، وكان مع هدوء طبعه، واطمئنان نفسه يلفت الأنظار، وتتطلع إليه الأبصار. يروى أنه كما جاء فى كتاب «زهر الاداب» حضر الندوة قيل من أقيال اليمن، فرأى الرسول، كلما عرض ما يراه خيرا اطمأن إلى القول اطمئنان المؤمن، وإذا كان ما يرى فيه غير الخير أحد البصر، فى

_ (1) سور قريش: 1- 4.

أول بناء فى مكة المكرمة وبلوغها هذه المنزلة:

هوادة، من غير هوان، فقال ذلك القيل: «مالى أرى هذا الغلام ينظر إليكم تارة بعينى لبؤة وتارة بعينى عذراء خفرة، والله لو أن نظرته الأولى كانت سهاما لانتظمت أفئدتكم فؤادا فؤادا، ولو أن نظرته الثانية كانت نسيما لأنشرت أموآتاكم» . ومكة فوق ذلك لها المكانة فى التاريخ الدينى القديم، فقد ذكرت فى الديانات القديمة، واليهودية والنصرانية. وقبل أن نخوض فى ذلك نتكلم فى ناحية حول حال مكة المكرمة. أول بناء فى مكة المكرمة وبلوغها هذه المنزلة: 42- وإن مكة قد صارت مطمع امال العرب، لما ذكرنا من معان دينية وقومية وثقافية وتجارية، ولكن لابد من معرفة وقت قدسيتها، ونيلها هذه المكانة بين العرب، وإن ذلك أمر لابد منه فى دراستنا عن النبى الذى ظهر فى هذه المدينة. واتصالها بماضيها القريب والبعيد. كان مكان مكة وسط البلاد العربية، وقد ذكر ياقوت الحموى وضعها فى كتابه «معجم البلدان» فذكر أنها بقعة من الأرض تحيط بها الجبال الجرداء من كل جوانبها، وينفذ من بين هذه الجبال المحيطة ثلاثة مسالك، أحدها سلك بها إلى طريق اليمن، ويصلها الثانى بطريق جدة حيث سيف البحر، ويكون مرفأ جدة، ويصلها الثالث بطريق الشام، حيث يمر بيثرب، وبذلك يتضح اتصالها منذ القدم، وإن كانت الشقة بعيدة. وقد كانت البقعة التى أنشئت فيها تلك المدينة التى تتوسط البلاد العربية، ملتقى القوافل، ومنتجعها فى السفر، حيث تأوى وتستريح بين جبالها حيث كان فى الوادى حول هذه البقعة ماء العيون، وكان بجوارها أو على قرب منها أماكن منثورة، كان يلوذ بها التجار بقوافلهم. وإن إبراهيم عندما أوت إلى هذه البقعة هاجر جاريته وولدها إسماعيل وألهمه الله تعالى بناء الكعبة، التى كانت أول بيت للعبادة، كما تلونا من قبل، وإن إنشاء ذلك البيت المقدس هو الذى أدى إلى تكوين المدينة، وإن هذا تصوير للوقائع التى حدثت، والتى ذكرها القران الكريم فى محكم التنزيل. وإن فى التاريخ ما يدلنا دلالة راجحة على ابتداء بناء المدينة، وإن معرفة ابتداء المدن فى ذلك الماضى السحيق لا يمكن أن يكون على وجه جازم أو راجح، فإن المدن لا توجد مساكنها فى أمثال هذه العصور البعيدة التى تنشأ فى الصحراء، ولم تكن فى أرض لها حكومة ثابتة قائمة، تنشىء وتخطط، وتبنى وتهندس، إنما الذى يتصور أنها ابتدأت ببناء المسجد، ثم تدرجات، ثم أخذ الزمان يزيدها بناء، والعمران يدخل إليها

شيئا فشيئا، وإن تصورها على أساس التصور الذى أو مأت إليه المصادر الدينية، فإنه يكون إنشاؤها قبل ميلاد المسيح بنحو تسعة عشر قرنا. ويستفاد من هذا أن الكعبة قد بنيت، أو على الأقل بناها إبراهيم عليه السلام قبل دخول القبائل الارية الهند، لأنها دخلت فيما نظن قبل ميلاد المسيح عليه السلام بنحو خمسة عشر قرنا، وعلى ذلك لا تكون ثمة غرابة فى أن يجىء ذكر مكة والكعبة، والتبشير بمحمد صلّى الله عليه وسلّم فى كتب الفيدا المقدسة عند الهنود كما سنبين إن شاء الله تعالى. ومهما يكن فإن الذى بنى الكعبة إبراهيم، والتفت من بعده حوله الأبنية، سواء أكان ذلك قبل تجمع الأبنية لتكون مدينة مكة أم كان بعد التجمع، وفصل القران الكريم ذلك فى نصوص كثيرة. ولكن الذين يحاولون مهاجمة القران الكريم من ناحية التشكيك فى الوقائع التاريخية التى يشتمل عليها، ينكرون أو يفترون، أو يثيرون الشك المجرد. فيثير الريب قوله إن قصة إبراهيم وإسماعيل من صنع اليهود قالوها ليربطوا بينهم وبين العرب برابطة من قربى النسب، حتى يكونوا أولاد عمومتهم، ليحسنوا إيواءهم، إذ يؤوون إليهم ذوى قرابتهم لرابطة الرحم بينهم، ويسوق شاهدا لكلامه التباعد بين الوثنية العربية، وبين دين إبراهيم عليه السلام الذى كان مواحدا، وكان هادم الأوثان. وفى الحق أن ذلك الكاتب أو المؤرخ غلبت عليه شهوة التشكيك فى القران فساق كلاما لا يا بنى على أى أساس علمى من وقائع ثابتة، لأنه كان يجب أن يا بنى الطعن على وقائع ثابتة، إنه يحاول هدم أمر معروف مقرر، ذكره التاريخ قرنا بعد قرن، حتى جاء إلى هذه العصور، وقد تطابقت عليه الكتب السماوية حتى المحرفة منها، فقد جاء ذكر إبراهيم وإسماعيل فى التوراة، أى كتب العهد القديم التى يؤمن بها المسيحيون، وأنهم جاؤا إلى بلاد العرب. فقد جاء فى التوراة (أي كتب العهد القديم عند المسيحيين) قد جاء فى الإصحاح السادس خبر هاجر الجارية وحملها، وذهابها بابنها فى البرية (أى الصحراء) «هو ذا الرب قد أسكننى عن الولادة، ما دخل إلى جاريتى لعلى أرزق منها بنين ... لما رأت هاجر أنها حملت صغرت فى عينها، فقالت ساراى لإبراهيم: ظلمى عليك، وقعت جاريتى إلى حضنك، فلما رأت أنها حبلت صغرت فى عينيها، يقضى الرب بينى وبينك، فقال إبراهيم لساراى: هو ذا جاريتك فى يدك افعلى بها ما يحسن فى عينيك، فأذلتها ساراى، فهربت من وجهها، فوجدها ملاك الرب على عين الماء فى البرية، على العين التى فيها طريق شور، وقال: يا هاجر جارية ساراى، من أين أتيت؟ وإلى أين

تذهبين، فقالت: أنا هاربة من وجه مولاتى ساراى. فقال لها ملاك الرب: ارجعى إلى مولاتك، واخضعى تحت يديها، وقال لها ملاك الرب: تكثيرا أكثر نسلك فلا يحصى، وقال لها ملاك الرب: ها أنت حبلى وتلدين وتدعينه إسماعيل، لأن الرب قد سمع لضراعتك، وأنه يكون إنسانا وحشيا، يده على كل واحد، ويد كل واحد عليه، وأمام جميع إخوته يسكن» . وجاء فى الإصحاح الحادى والعشرين: «مضت وتاهت فى برية بير سبع، ولما فرغ الماء من القربة طرحت الولد تحت إحدى الأشجار، ومضت وجلست مقابله بعيدا على مرمى القوس، لأنها قالت: لا أنظر موت الولد، فسمع الله صوت الغلام ونادى ملاك الرب هاجر من السماء: لا تخافى، لأن الله قد سمع صوت الغلام حيث هو، قومى احملى الغلام، وشدى يدك به، لأنى سأجعله أمة عظيمة، وفتح الله عينها، فأبصرت بئر ماء، فذهبت وملأت القربة ماء، وسقت الغلام، وكان الله تعالى مع الغلام، فكبر، وكان وسكن فى برية فاران، وأخذت له أمه زوجة من أرض مصر» .. 43- (أ) هذه نصوص صريحة فى التوراة تدل على أن إسماعيل ولد من هاجر جارية سارة، وأنه ولد فى برية فاران، وهى قد كانت حول الكعبة، وأن هذا حجة على منكر أن يكون إسماعيل من ولد إبراهيم أو أنه جاء إلى أرض الحجاز، وأن اليهود قالوا هذا ليتقربوا إلى العرب، بحسبان أنهم أولاد عمومة. (ب) وعلى أن هذا التشكيك أمر مثير، من غير بينة، ولا دليل، وكأنه يشك فى التوراة أيضا، وما كانت إصحاحات التوراة مقارنة لتقريب اليهود من العرب، بل إنها سابقة على ذلك. وإن الشك الذى أثاره تدل الأمور الثابتة على مناقضة ما أثاره، وذلك لأن الطبع اليهودى فى ماضيهم وحاضرهم أنهم لا يعترفون لأحد بدين غير دينهم، وأنهم كانوا يقولون: نحن أبناء الله وأحباؤه، ويقولون وهم بين ظهرانى العرب: ليس علينا فى الأميين سبيل ... وأن المعروف أنهم كانوا فى البلاد العربية يستعلون على العرب ويظنون أنهم الأعلون بما أوتوا من كتاب. (ج) وفوق ذلك فإن العمومة المدعاة من اليهود لا أصل لها فى زعم ذلك الكاتب النحرير، فكانت للعرب العدنانية التى تنتهى إلى إسماعيل عليه السلام، وهم الذين يسمون العرب المستعربة، واليهود، عندما اووا إلى العرب فارين بدينهم من عنت التتار، ومن بعدهم الرومان، ومن أذاقوهم العذاب أكؤسا، إنما أووا إلى أرض عرب قحطان، فهل يعقل أن يتملقوا القحطانيين بادعاء النسب إلى العدنانيين، والارتباط بينهم برباط القرابة بالعمومة ونحوها، إنما المعقول الذى لم يدركه الكاتب النحرير أن يكون الادعاء عند القحطانيين، لا عند العدنانيين، ولا يصدق كلام ذلك إلا أن يكون تصرفهم مخالفا كل معقول، ويأتون عكس ما يريدون، كعقل ذلك الكاتب.

(د) وإن تاريخ العرب المحفوظ أن العرب العدنانية لهم تاريخ ثابت موصول تلقاه أهل العقول بالقبول، وما يتلقاه العلماء بالقبول لا ينقض بمجرد الشك، بل لا يرفض إلا بدليل يناهضه، وبينات تقاومه، ولا يقاوم بمجرد الشك وإلا ضاعت الحقائق، وضلت الأفهام، وظواهر الأحوال شاهد يؤخذ به، حتى يقوم الدليل على خلافه. (هـ) وأن الزعم بأن أولاد إسماعيل وثنيون، وإبراهيم عليه السلام كان مواحدا، فكيف يلتقيان، أو القول بأن العرب وثنيون، والمواحد لا يمكن أن يكون أبا للوثنيين، منطق فاسد، لأن مؤداه أن من يكون مواحدا يجب أن تكون سلالته كلها من الأولاد الصلبيين إلى اخر الذرية، ولو كانوا فى الطبقة المتممة للمائة، مواحدين، وذلك كلام باطل، فإنه قد ينحرف الأبناء عن وصايا الاباء، وإذا كان ذلك غريبا فى الطبقة الأولى، أو ما يكون قريبا منها، فإنه لا يكون غريبا فى الطبقات البعيدة من الذرية. وإن إبراهيم عليه السلام قد طوف فى الافاق داعيا إلى التوحيد محاربا للوثنية، وترك أثره واضحا فى العرب وخصوصا ذريته، فقد كانت ذريته مواحدة، سالكة سبيل الحق فى عبادتها، ولكن القلوب إذا تقادم العهد قد تنحرف شيئا فشيئا حتى تصل إلى الوثنية، فالوثنية، عارضة على العقل العربى، وخصوصا ذرية إبراهيم عليه السلام، فإن الوثنية لم تكن أصيلة فيهم، ومع ذلك كان فى وثنيتهم بقايا من تعاليم إبراهيم عليه السلام، وما كانوا يؤمنون بأن أوثانهم لها قوة الخلق والإنشاء، كما كان عند المصريين القدماء، وكما كان عند اليونان والرومان، بل كانوا يقرون بأن الخلق والتكوين لله تعالى واحده، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ «1» ، ويقولون ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى «2» . وإن تفكير ذلك الكاتب المستشرق فيه غرابة من حيث المنهاج العلمى المستقيم من ناحية أمرين: أولهما: أنه من الاستهانة بأى منهاج عقلى أن يثير عالم الشك من غير أى مسوغ للريب من أمور تقترن بالأمر الجازم المقطوع به، فإن ذلك إثارة لطريقة السوفسطائيين الذين يشكون فى حقائق الأشياء شكا مجردا من غير أى باعث علمى، أو من غير أى بينة تسوغ الشك، حتى يحارب اليقين، ولكن هذه الأمور البدهية نسيها ذلك الباحث إن صح هذا الوصف له، وما أنساه إلا شيطان التعصب المردى الذى ينزل من علياء العلم إلى مهاوى العمى. فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ، وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ «3» . ثانيهما: أن من الحقائق الاجتماعية والنفسية، أن العقائد فى الناس تتحول وتتغير، ويجرى عليها نظام التغير، ويستمر فى طريقه، ما لم يكن هناك كتاب ثابت يهدى إلى الحق، ويرشد الضال فيهتدى، ويكون ميزانا يمنع الانحراف.

_ (1) سورة العنكبوت: 61. (2) سورة الزمر: 3. (3) سورة الحج: 46.

مكة المكرمة موطن تقديس لأجل الكعبة المشرفة:

مكة المكرمة موطن تقديس لأجل الكعبة المشرفة: 44- وإن التاريخ الإنسانى العام جاء فيه ذكر مكة والكعبة، وقد ورد اسمها فى مصادر التاريخ اليونانية واسمها فى كتاب بطليموس الإسكندرى ماكورايا «1» . وإنها أقدم من ذلك، فإنها تمتد فى القدم إلى تسعة عشر قرنا قبل الميلاد، وذكره لها فى القرن الثانى بعد الميلاد، لا يومىء من قرب أو بعد، إلى أنها كانت غير موجودة قبل ذلك العصر، وليس إنشاؤها فيه إذ هو إخبار عن الموجود، وليس بيانا لوقت الوجود. والمؤرخون بشكل عام ذكروا أنه كان فى غرب الجزيرة العربية أماكن للعبادة كانت فيها مكة، وما حولها من الصفا والمروة. وعرفات، والمزدلفة، ومنى كانت بالقرب منها، فإذا كان المؤرخون يذكرون أماكن للعبادة فى غرب الجزيرة العربية فهى هذه الأرض. وقد جاء فى كتاب تاريخ الإسلام لجواد على: «قد ذهب أو غست ميل إلى أن المعبد الذى قال عنه ديودور الصقلى أنه معبد مشهور هو مكة» «2» . ويستفاد من هذا أمران: أولهما: أن مكة كانت قائمة بشهادة التاريخ العام. وثانيهما: أن الكعبة كانت بها، وكانت معبدا يفد إليه الحجيج من كل مكان من بلاد العرب، يقصدها القاصى والدانى من تلك البلاد. 45- هذه شهادات المؤرخين بتقديس الكعبة فى القديم، وبمنزلتها عند العرب، واجتماعهم حولها مع تفرقهم منازع، وقبائل وعصبيات أحدثت حروبا مدمرة، ودماء مهراقة، مع ذلك يلتفون متحابين أو غير متحابين، ولا اخذين بثاراتهم احتراما للبيت، وتقديسا لهذه البنية التى زادها الله تعالى تكريما وتشريفا.

_ (1) حياة محمد للمرحوم الدكتور محمد حسين هيكل ص 84. (2) جواد على ص 4 ص 504.

المكان والزمان

المكان والزمان [المكان] 46- كانت مكة هى المكان المختار للرسالة، وقد أشرنا إلى ما كانت تمتاز به بين البلاد العربية، فأشرنا إلى مكانتها الثقافية، فهى ملتقى العرب، ولغتهم أفصح اللغات، وشعراؤهم يعملون على أن تسجل أشعارهم بلغة قريش، فكأنها التى تختص بوصف الفصحى واللغات الاخرى بجوارها كاللغات العامية بجوار الفصحى فى عصرنا الحاضر، وهى ملتقاهم الدينى، فإليها يحجون وينسلون من كل أرضها، ويلتقون فى أسواقها ونجوعها، بها تروج بضائعهم، ويروج أدبهم، وفيها يتفاخرون من غير ملاحاة ويتجادلون من غير مجافاة، وفيها تحقن الدماء، وتغمد السيوف فى أجفانها، ويلتقون على التدين والمحبة، ولا يلتقون على العداوة والبغضاء، الامهم يطرحونها وأحقادهم يستدبرونها، ولا يرون أمامهم إلا النسك على قدر مداركهم وتبادل المنافع، والقول الطيب، ومع أن كل قبيلة لها صنمها فى الكعبة على ظاهرها، كانوا يجتمعون فى العبادة على تقديس البيت الحرام مطرحين ما عداه. وكانت مكة مع هذه المنزلة الثقافية والدينية والاجتماعية ملتقى القوافل التى تجىء من اليمن ومن أقصى الشرق، والقوافل التى تجىء من أقصى غرب الجزيرة، فتلتقى فيها المتاجر، وتلتقى فيها العقول الناقلة للحضارات، ولو نقلا سطحيا، ولا يصل إلى أعماق القلوب، ولكنه يمس المدارك، وأنه فى مكة ويثرب تلتقى البداوة ببعض الحضارة، فيكون مزج بين رقة الحضارة، مع خشونة البادية، فيكون مزيج غير متميع، وقوة نفس فى غير جفوة، ويلتقى صفاء البداوة والحضارة العربية فيها، فينتفى الخبث، ويبقى اللب الكريم. وإن أكثر الرسالات الإلهية التى كانت على مقربة من الرسالة المحمدية كانت فى أرض تكون على مقربة من البوادى أو هى فى البوادى ومثلها كالواحات فى وسط الصحراء لأن أولئك تكون نفوسهم قابلة للجديد من الرسالة، وغير متخلفة فى مداركها. (1) إذ يكون فيها الصفاء الصالح لتلقى تكليفات الوحى الإلهى، وفيها المدارك المتقبلة التى تزن وتفكر وتربط حاضرها بماضيها، وتستخرج من ماضيها ما ينير لها حاضرها، من غير إعنات فكرى ولا إجهاد نفسى، والمقاومات للرسالة تكون أعراضها ظاهرة، يمحوها الزمان القصير، إذ ليست مستكنة فى أغوار النفوس، وخبايا القلوب، بل إنها على سطحها، والتغيير يعرو السطوح، ولا يتجه إلى عميق القلوب. (ب) وإن المدائن ذوات الحضارات تكون فيها عادات راسخة، وتقاليد ثابتة، وأفكار سائدة، فلكى تدخل العقيدة الجديدة يجب تفريغ الأذهان مما امتلأت، حتى يكون ثمة حيز للتفكير الجديد، إذ أن

العلوم وما يتصل بها من فلسفات سواء أكانت حقا أم كانت باطلا تملؤها، وإذا جاء الدين الجديد كانت المصارعة بين ما ألفوا، وما جدلهم، وأقل أبواب المصادمات المجادلة، والمجادلة مع المتعصبين تضيع فيها الحقائق، ولا يبدو جوهرها نقيا صافيا. وإن الأفكار العلمية ولو خطأ تركز فى النفس، والتقاليد المستحكمة المسيطرة تشتد حتى تصل إلى أغوارها فلا يسهل الوصول إلى اقتلاعها. وقد يقال إن أهل البادية لهم عادات وتقاليد، كما أن أهل الحضارات لهم ذلك، ونقول فى الجواب عن ذلك: إن تقاليد البدو لا ترتكز على عناصر فكرية تتغلغل فى الأذهان، وتسيطر على القلوب كالأفكار والاراء فى بلاد الحضارات، وما يكون فى دائرة العمل من غير تغلغل فى النفس لا يكون راكزا ثابتا، كالذى يكون منشؤه التفكير العميق. (ج) وإن التجارب قد أيدت ذلك، فإن الدين الجديد يسهل دخوله فى البادية الصافية نفوس أهلها. (د) وإن أى دين لابد له من ناس يحملونه، ويسيرون به، وأهل البادية الذين يكون عندهم نوع من التفكير والرقى النفسى يكونون أقوى نفسا، وأشد جلادا، وأكثر احتمالا، ولقد قرر الاجتماعيون أنهم هم الذين يحملون أعباء الجهاد فى سبيل ما يعتقدون مادامت أوضاع الحضارة لم تصب قلوبهم. بل فيهم بأس وقوة احتمال. وإن الشواهد قائمة، فإننا نجد الأديان التى جاءت برسل أوحى إليهم من السماء كان بعثهم فى الأرض التى تكون بين الحضارة والبداوة، وكان التابعون دائما من أهل البأس والقوة الذين عاشوا فى الصحراء، وقاوموا لأواءها، ولم يكونوا من أهل المدن التى أصيبت بطراوة التحضر. واعتبر ذلك بموسى عليه السلام، فقد أرسل إلى قوم فرعون، ولكن ما نزلت عليه الرسالة إلا فى أرض مدين المتاخمة لحدود الشام، وما وجد الذين يستجيبون له من أهل مصر، وما كانوا هم الذين حملوا عبء التبليغ من بعده، وحمله غيرهم. ولقد كان بنو إسرائيل أضعف فى نفوسهم من أن يحملوا عبئها من بعده؛ وذلك لأنهم مردوا على أخلاق المصريين وإن لم يكونوا منهم، فكان لابد من أن يتربوا على البأس فى البادية، ليستطيعوا حملها، ولذلك قال تعالى لموسى عليه السلام إذ أمرهم نبيهم موسى عليه السلام أن يدخلوا الأرض

المقدسة التى كتب لهم أن يدخلوها وإن لم يقيموا فيها: قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ «1» . ولقد فهم بعض الكتاب أن المواحدين كانوا فى الساميين فقط، وجاء بعض الأوربيين، وعلل ذلك بأن العقل السامى عقل سطحى، لا يفهم من العقيدة إلا التوحيد، ولا يتصور المعنى الفلسفى فى التثليث، وهذا الكلام يأتى على عقيدته بالنقض، لأن عقيدته المسيحية جاء بها سامى، فلابد أن يكون ما أتى به، وما دعا إليه يتفق مع السامية التى لا تهضم فلسفة التثليث وأن يكون التثليث الذى نسب إليه لا تشتمل عليه دعوته، ولا تدعو إليه رسالته، وليس ما اشتملت عليه عقيدته. على أن العقل الارى قد اعتنق الواحدانية فى أصل الديانة البرهمية التى جاءت بها القبائل الارية، فدعوى الاقتصار فى الواحدانية على العقل السامى يأتى على أصل التثليث بالنقض، وينتهى بأن التثليث من أوهام الفلاسفة، وليس من عقائد الرسل. ولعل ما ذكرنا من أن القبائل الارية التى جاءت تحمل الديانة البرهمية من بوادى اسيا، قرينة على أن الرسائل الإلهية، إنما تنزل فى الأرض التى تكون بادية قريبة من المدائن، أو تكون فى طريق القوافل، فقد جاءت إلى الهند التى كانت مملوءة بالأنهار والأحراش، وفيها تحضر نوعا ما، ولم يكن فيها صفاء البادية، وبأسها، وقوتها وسذاجتها، وسلامة فطرتها، ولذلك سرعان ما حرفت العقيدة إلى الصورة التى جاءت بعد ذلك من نظام الطبقات الظالم. وقد أشرنا من قبل إلى أن الرسائل الإلهية غير محصورة، وأن الله تعالى ذكر أنه لم يقص في القران أخبار كل النبيين، فقد قال تعالت كلماته: مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ «2» . وسيتبين عند الكلام في البشارات التي بشرت بالنبي صلّى الله عليه وسلّم أن من البشارات ما جاء في كتاب الفيدا الذي هو أعلي مصادر الديانة البرهمية، وبينا في وضوح أنها في أصلها ديانة توحيد، كما جاءت بالفيدا النصوص الدالة علي ذلك مما يدل علي أنها ديانة منزلة ابتداء، وإن انحرف عنها القوامون عليها، وشاهت إلي الحال التي الت إليها من عصور سابقة ولا تزال قائمة إلي الان. 47- من هذا البيان الموجز يتبين أن البيئة الطبيعية بمكة وما حولها وما لها من مزايا امتازت بها كانت من المرشحات لأن تكون موطن النبوة وموطن خاتم النبيين، فإذا كانت النبوة قد ابتدأت بإبراهيم أبي الأنبياء وإسماعيل ابنه، فإن ختام النبوة فى العالمين كانت بها أيضا، برجل من ولد إسماعيل.

_ (1) سورة المائدة: 26. (2) سورة غافر: 78.

الزمان:

فهى أصلح مكان لأن ينبعث منها الدين الجديد الخالد إلى يوم القيامة حيث يلتقى العرب جميعا فيها، وحيث الأمن والسلام فيها، وحيث القدسية التى تملأ النفوس تنبعث من أرضها، وحيث دار الندوة التى يتشاور فيها العرب أجمعون. وكان المكان أصلح الأرض، لأن تغرس فيه أغراس الدين الجديد وأن يؤتى أكله. والعرب أصلح الجماعات لأن يحملوا عبء الدعوة إليه، والدفاع عنه وحمايته من سطوة الملوك، وطغيان الجبارين حول العرب، ومن ورائهم فهم أهل البأس والنجدة. ولغة قريش فى مكة أصلح اللغات لأن ينزل بها القران الكريم الذى أعجز العالمين عن أن يأتى أحد بمثله، فالمكان صالح لأن يبعث رسول الله طهرا، وثقافة وقوة بأس، وجلادا، ولغة، اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ «1» . الزمان: 48- إذا كان المكان الذى اختاره الله تعالى لخاتم النبوة مكانا يدرك العقل البشرى صلاحيته، ويعلم بالاختيار مكانته، فإن الزمان قد تهيأت فيه الأسباب لدين يجمع الإنسانية، ويهديها، والقلوب قد فرغت، وأصبح العالم فى حاجة إلى هداية من السماء، إذ قد صار الناس على فترة من الرسل، فالديانة السماوية حرفت، وانحرف تابعوها، وغيروا وبدلوا وحولوها عن غايتها، وبعدوا عن الحق فيها. والأوثان قد تزايلت قوتها وضعفت مكانتها، وأدركت العقول موضع الوهم فيها، فالهة اليونان قد زالت الأوهام التى تحيطها، والأوثان الرومانية تكشف للناس أنها أحجار لا تنفع ولا تضر، وأنها ليس فيها سر يمنع أو يمنح، يضر أو ينفع، يشفى أو يسقم، وعلى فرض أنها لم تذهب الأوهام حولها، فهى خرافات يجب إزالتها، وفساد فى العقول يجب إصلاحه. وكانت الإمبراطورية الرومانية تعبث برعاياها، وتفرض عليهم طاغوتها، وهم لا حق لهم يستطيعون به تقويمهم، والنفوس قد ضلت وزلت، ولكنها لم ترض وتطمئن، فهى هالعة جازعة، لأنها كانت تفرض على الشعب دينها وإن كان لا يرتضيه، وتفرض عليه عقائد لا يؤمن ولا يرضى بها، كما كانت الحال فى الشعب المصرى الذى فرض عليه دينها، أو عقيدتها، كما فرض عليه سلطانها، وجعلتهم عبيدا أو كالعبيد. والرومانيون فى داخل أرضهم، وفى الشعوب التى منيت بحكمهم، كانت التفرقة بين الناس عندهم واضحة جلية.

_ (1) سورة الأنعام: 124.

كانت التفرقة أولا، من حيث تحكم رجال السلطان فى الرعية، واختصاصهم بالمال يجيء إليهم من الغنائم التى يغتنمونها فى الحروب، وحرمان بقية الرعية من المال والسلطان معا، والناس لا يشقون لالام ذاتية فقط، وإن كان الحرمان فى ذاته يحدث ألما نفسيا، ولكنهم يألمون من ذلك، ومن رؤية النعمة فى يد غيرهم يرتعون ويلعبون، ويعبثون، ولا حق لأحد فى أن يعترض عليهم أو يلومهم، أو يوجه إليهم نقدا. والتفرقة من الناحية الثانية فى أن الشرف كل الشرف لطبقة الأشراف والمهانة كلها فى الطبقة المحكومة، والشريف الرومانى يعلو على كل احاد الرعية من الضعفاء. والرق فى أرض الرومان كانت تتكاثر أسبابه، حتى إنه يسوغ لأى إنسان يرى شخصا من أى شعب أن يسترقه، والحكم للقوى فى العلاقات الإنسانية كلها، وكأن أرض تلك الدولة أجمة يفترس قويها ضعيفها. والأحكام بين الناس تسير على مقتضى تلك النظم المقيتة التى تفرض التفرقة بين الناس. والمرأة عندهم أمة لأبيها قبل الزواج، وأمة لزوجها فى بيت زوجها ولو قتلها لا عقوبة عليه. وهكذا ترى نظاما اجتماعيا أهدرت فيه الحقوق الإنسانية الأساسية التى تثبت للإنسان بمقتضى أنه إنسان. وشاع الفساد، وظهر فى البر والبحر بما كسبت أيدى الناس. كان لابد من تغيير لهذه الحال، ومن إصلاح لهذا الفساد، لأن الله لا يحب الفساد، والله لا يريد ظلما للعباد، فلابد من أن يكون من يغير هذه النظم، وليس فى الناس من يغير، ويبدل بالفساد صلاحا، وبالضلالة هدى، ولا يكون من الإنسان لأن ابن الأرض ترك لأخيه الإنسان فأكله أو أذله، أو أهدر إنسانيته، لابد من رسالة السماء تكون فى أرض تصاقب الرومان، وهم ذوو بأس وقوة. 49- وإذا تركنا غرب الجزيرة العربية وشمالها، واتجهنا إلى شرقها وجنوبها، فإنا نجد أرض فارس، وما فيها من انحلال سياسى وظلم، وانحلال اجتماعي، وانحلال فى الأسرة، وظلم فى الحكم، نجد كسرى يعتبر الشعب كله عبيدا أو كالعبيد، ومن حوله من رؤساء ودهاقين يسوغون ذلك للناس، ولا يكادون يسيغونه، وأن العقائد المختلفة التى تواردت على العقل الفارسى جعلته فى متاهات فكرية يضل فيها السارى، وتظلم النفس، والطبقية التى سرت إليها من الهنود الذين على مقربة منها حلتها اجتماعيا وإن كانت لم تصل إلى مثل ما كان عليه الهنود. والأسرة كانت غير قائمة على أسس قوية وسليمة، فقد كان الولد يتزوج أمه وأخته، ويتزوج الرجل ابنته، وغير ذلك مما يضعف النفس فى العلاقة الزوجية، وينحدر به الإنسان إلى أحط من الحيوان، وكان مذهب مزدك الذى جاء فى اخر الحكم الفارسى الذى حل

المجتمع الفارسي، وضاعت فيه الأنساب واستبيحت الأموال حتى وهنت الحقوق، وضعف تثمير الأموال، واختلط الحابل بالنابل، وما كان فى المستطاع أن يغير النظام بنظام من فارس، فإن التجارب فى المذاهب السابقة من زرادشتية إلى مانوية إلى مزدكية، لم تنجح فى إصلاح، بل كانت كالأدوية التى تزيد الداء العضال استشراء فى الجسم، فتكون هى أسبابا لتقوية الانحلال، فالزرادشتية دعت إلى القوة، فتحكم القوى فى الضعيف، والمانوية دعت إلى إنهاء ابن الإنسان من هذه الأرض مما اضطر كسرى لقتله، وجاء من بعد ذلك مزدك، فنشر الفساد وانهار به المجتمع الفارسى انهيارا. إذن لابد من هداية السماء، لتستقيم الأمور، فكانت فى أرض العرب التى تجاورهم، كان من أرض العرب الرسول الأمين (صلّى الله عليه وسلّم) . 50- واذا تجاوزنا فارس وخراسان وما وراءهما، نجد الهند والصين، وعندئد نجد حيرة العقول واضطرابها، نجد مجتمعا مضطرب التفكير، قد حرفت البرهمية، حتى صارت وثنية بعد أن كانت ديانة مواحدة، وصار براهما إلها مجسما فى أعينهم، مع أنه فى حقيقته رسول أرسله الله تعالي، قد جسموه، وجعلوا بعضه يخلق منه، خلق من أعلاه، وخلق من سواعده، وخلق من ركبتيه، وخلق من قدميه، وحالوا بين الخلق والحق، ثم فرقتهم الفرقة والطبقية، ورضوا بالتنافر بينهم بدل التحاب والتواد، وتقطع بينهم أمرهم، حتى صاروا هدفا يراد، ومقصدا يقصد. وصارت الأوهام تسيطر عليهم، حتى توهموا فى أحد رجال الدين عندهم أنه إله أو ابن إله، ونحلوه من الصفات ما لا يكون لبشر عادي، وذكروا أن النصارى تبعوه، إلى اخر ما قيل مما أخذه عنهم النصارى من بعدهم. ولما اتجهت بعض النفوس إلى إصلاحهم كانوا فى حيرة من أى الأبواب تدخل فى الإصلاح، لأن معرفة المداخل والمخارج فى باب التهذيب الدينى لا تكون إلا بدين، ولم يكن ثمة دين مرشد، ولا نبى مبعوث يدعو إلى الحكمة وإلى الصراط المستقيم. فاقتصروا على ما يوميء إليه الإحساس، فجاء بوذا وأتى بعقيدة هى إلى الحرمان أقرب منها إلى الإصلاح والإيجاب ورفع الإنسان وتكوين الإرادة المتجهة إلى الفضيلة الإيجابية والعمل النافع المثمر، وعمارة هذه الأرض، وإقامة المصالح على أسس خلقى مكين. وإن الحرمان لا ينتج ولا يثمر، ولا يطبقه العامة، وإن ادعاه الخاصة، ولذلك لم يكتب لهذا المذهب الأخذ به أخذا كاملا، أو قريبا منه، أو حتى إرادته إلا عند بعض الاحاد الذين سموا فى الماضى والحاضر الفقراء، وقد راضوا أنفسهم على الحرمان غير المنتج.

البشارات

ولما انتقل المذهب إلى الصين أثمرات فيه ثمرات غير إيجابية، وكانت كلها تتجه إلى الحرمان، وقد أراد بعض المصلحين أن يحول الشعب إلى الناحية الإيجابية، ولكن ضلال الفكر، حال بينهم وبين إدراك الحقائق، وقد ضلوا فى تفكيرهم ضلالا بعيدا على النحو الذى ذكرناه فى صدر كلامنا، وإن الإشارة فيه تغنى عن العبارة والإيجاز يقوم فى ذلك مقام الإطناب. فكانت حالهم تقتضى هاديا مرشدا لا يكون من بينهم، ولا يكون ممن على شاكلتهم، بل يكون من الله تعالي، وإذا كانوا قد عبدوا السماء، فهدايتهم تجيء من خالق الأرض والسماء. وقد يقول قائل: إنه بلا ريب كان العالم يحتاج إلى رسالة من السماء، وإلى رسالة محمد عليه الصلاة والسلام خاصة التى دعت إلى تهذيب النفس وتقوية الجسم، وأن يكون الإنسان ربانيا نافعا. فهل سد الفراغ فى أوروبا واسيا فى مجاهل العالم، ومعالمه؟ والجواب عن ذلك أن الشريعة لا تزال قائمة ثابتة، وما جاء به محمد لا يزال يدعو إلى الحق، ويوجه ويهدي، وأتباع محمد هم الذين قصروا فى العبء الذى حملوه ولم يقوموا بحق الأمانة التى ائتمنهم محمد عليه الصلاة والسلام عليها بأمر ربه، والله بكل شيء محيط. البشارات 51- إذا كانت الدنيا كلها كانت تتطلع إلى وجود النبى صلّى الله عليه وسلّم ليصلح الناس، وليعلمهم الكتاب والحكمة، وليهدى من تبلغه الدعوة، وهم ممن يؤمنون بالغيب ويهدون إلى صراط مستقيم، فإن البشارات كانت تجيء إليهم برسول قد قدر الله زمانه، وسيدركهم إبانه، ولم تكن البشرى من الكتب السماوية التى كانت على مقربة من النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهى اليهودية والنصرانية فقط، بل كانت البشرى مما وراء ذلك مما دل على أن هذه الكتب جاء بها رسول، وكانت هذه الكتب مما اشتمل عليه ما يدعو إليه من توحيد الله تعالى العليم العزيز، الذى جاءت النذر والبشرى بما يدعو أهل الإيمان إليه. وأقدم الكتب التى اشتملت على هذه البشارة بمحمد صلّى الله عليه وسلّم كتب الهنود القدماء، فإن كتابهم فيدا الذى أشرنا إليه، قال بعض المطلعين من المسلمين أن فى فيدا ما يدل على التبشير بوجود الرسول محمد خاتم النبيين، وإليك ما قال ذلك الكاتب ننقله مما نقله عنه الأستاذ المرحوم عباس محمود العقاد فى كتابه «مطلع النور» جاء فى هذا الكتاب القيم ما نصه: يقول الأستاذ عبد الحق إن اسم الرسول العربى أحمد مكتوب بلفظه العربى فى الساما فيدا من كتب البراهمة، وقد ورد فى الفقرة السادسة والفقرة الثامنة من الجزء الثانى ونصها: «إن أحمد تلقى الشريعة من ربه، وهى مملوءه بالحكمة، وقد قبست منه النور، كما يقبس من الشمس» .

ويستفاد من هذا الكلام أمران:

ولا يخفى المؤلف وجوه الاعتراضات التى قد تأتى من جانب المفسرين البرهميين، بل ينقل عن بعضهم أنه وقف عند كلمة «أحمد» فالتمس لها معنى هنديا وحاول إن يجعلها تفيد أننى واحدى تلقيت الحكمة من ربى ... قال الأستاذ عبد الحق ما فحواه، أن العبارة منسوبة إلى البراهمي، (فانزا كانفا) من أسرة كنفا، ولا يصدق عليه أنه واحده متلقى الحكمة من أبيه» «1» . ويستفاد من هذا الكلام أمران: أولهما: أنه ورد ذكر أحمد فى كتاب الفيدا كما ورد ذكر هذا الاسم الكريم فى التوراة والإنجيل. ثانيهما: أن البراهمة الذين حرفوا تعاليم هذه الديانة، التى كانت فى الأصل ديانة توحيد، حاولوا أن يحرفوا الكلم عن مواضعه، ويغيروا المعنى بتفسيرها بغير مجراها. ولا شك أن التفسير التحريفى لهم يخالف ما يدل عليه الأصل كما قرر الأستاذ عبد الحق، وفوق ذلك فإن العبارة تفيد بنصها «أن أحمد تلقى الشريعة من ربه» ويخالفه التفسير المنحرف، فإن الذى تلقاه بالنص أحمد هو الشريعة وإنه تلقاها من ربه لا من ابنه، والفرق واضح بين الأب والرب إلا إذا كانوا يجعلون الرب أبا كما قال النصارى من بعدهم. وقد يقول قائل إن البرهمية لم يأت بها رسول نزل عليه أمر من الله، وإن الجواب عن ذلك أن نصوص كتبهم تفيد كما ذكر البيروني، أن براهما كان مرسلا ولم يكن إلها، ولم يكن ابن إله، وقد نقلنا لك ما ذكره البيرونى فارجع إليه. لقد جاء فى كتب الهنود كما قررنا تبشير بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، كما جاءت بكتب فيدا، التى اعتبرها الهنود أصلا لعبادتهم، ولقد ذكر الأستاذ عبد الحق أن وصف الكعبة ثابت فى كتب الاثار فافيدا، ويسميها الكتاب بيت الملائكة، ويذكر من أوصافها أنها ذات ثمانية جوانب، وأبواب تسعة، والأستاذ عبد الحق يعبر عن الأبواب بالأبواب المؤدية إلى الكعبة، وهى باب إبراهيم، وباب الوداع، وباب الصفا، وباب على، وباب عباس، وباب النبى صلّى الله عليه وسلّم، وباب الزيارة، وباب الحرم. ويفسر الجوانب الثمانية، كما فسر الأبواب. فيذكر أنها جبال تكتنف البيت الحرام، وهى جبال خليج، وقيقعان، وجبل هندى، وجبل لعلع، وجبل كدا، وجبل أبى حديد، وجبل أبى قبيس.

_ (1) معالم النور للأستاذ المرحوم عباس محمود العقاد ص 12.

ولا يلتفت الكاتب إلى ما قاله البراهمة المحرفون من أن البيت هو مثل الإنسان وجسمه، وذلك لأنه قول لا اعتبار له، إذ أنه يتنافى مع وصف القدسية المذكورة وصفا للبيت، ولا إلى أنه بيت الملائكة، فلا يوصف الإنسان بأنه بيت الملائكة. ويسترسل الكاتب فى بيان أن كتب البراهمة قد اشتملت على إشارة إلى ما يلاقيه النبي صلّى الله عليه وسلّم من عداوات، ويشير إلى عدد الذين حاربوا النبي صلّى الله عليه وسلّم فى موقعة بدر وانتصاره عليهم «1» . وقد تشكك بعض النصوص فى الكاتب الهندي، ولكن الكاتب لم يعتمد على أوهام توهمها، لم يعتمد على وهمه، أو خياله، إنما اعتمد على المنقول، وفسره تفسيرا تحتمله الألفاظ، ولا يجافى العقول، والذين خالفوه فسروها تفسيرات لا تقلبها العبارات. بل تناقضها، وهى مخالفة للمعقول، كتفسيرهم بيت الملائكة والقداسة بأنه جسم الإنسان، وكتفسير الرب بالأب، وغير ذلك. 52- ولقد ذكر الكاتب الأستاذ عبد الحق إشارة تبشر بالنبى محمد صلّى الله عليه وسلّم من كتاب زاندافستا، إنه وصف فى هذا الكتاب ببعض الأوصاف التى جاءت فى القران الكريم، فقد وصف بأنه رحمة للعالمين، والله تعالى يقول فى الكتاب المبين وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ «2» وذكر أنه يدعو إلى الواحد الأحد الذى ليس له كفء، وليس له أول ولا اخر، ولا ضريع ولا قريع، ولا صاحب ولا أب ولا أم، ولا ولد، ولا مسكن ولا جسد، ولا شكل ولا لون ولا رائحة. ولا شك أن هذه أوصاف للذات العلية، وهى من الواحدانية فى الذات والصفات وواحده الخلق والتكوين ثابتة واضحة، والنتيجة لهذا واحدة العبارة فلا يعبد إلا الله تعالى. ويقول الأستاذ العقاد «ويشفع (أى الأستاذ عبد الحق) ذلك بمقتبسات كثيرة من كتب الزرادشتية تنبيء عن دعوة الحق التى يجيء بها النبى الموعود، وفيها إشارات إلى البادية العربية، ويترجم نبذة منها إلى اللغة الإنجليزية معناها بغير تصرف «إن أمة زرادشت حين ينبذون دينهم، يتضعضعون، وينهض رجل فى بلاد العرب يهزم أتباعه فارس ويخضع الفرس المتكبرين، وبعد عبادة النار فى هياكلهم يولون نحو كعبة إبراهيم التى تطهرت من الأصنام، ويومئذ يصبحون وهم أتباع للنبى رحمة العالمين وسادة لفارس ومديان، وطوس وبلخ، وهى الأماكن المقدسة للزرادشتين ومن جاورهم، وإن نبيهم ليكونن فصيحا يتحدث بالمعجزات «3» .

_ (1) كتاب مطلع النور للأستاذ المرحوم عباس محمود العقاد ص 13 بتصريف قليل. (2) سورة الأنبياء: 107. (3) الكتاب المذكور ص 14.

وهنا نقف وقفة قصيرة، فإن هذا الكلام يدل على أن زرادشت كان نبيا، وأن ديانته ديانة سماوية، وإلا ما اشتملت على هذه البشارات، وما كان لها عندنا اعتبار، لولا أصلها السماوي، وكيف يتفق هذا مع ما يقال فى كتب الفرنجة من أن زرادشت كان يدعو إلى القوة، وإلى معاضدة الأقوياء، وإفناء الضعفاء حتى وجدت فلسفة فى أوربا تدعو إلى إفناء الضعفاء.. وألا يكون لهم مكان فى الوجود، وذلك يتنافى كل المنافاة مع أخلاق النبوة السماوية، وما تدعو إليه الأخلاق الإنسانية الكاملة، فإن حق الحياة ثابت لكل الأحياء، والضعيف لا يموت أو يبخع بحق قانون الأخلاق وقانون السماء، ولكن يعاون ويعيش، حتى يبلغ أجله. والجواب عن ذلك أن هذه النصوص موجودة فعلا فى كتب الزرادشتية وهى تؤدى بمنطقها إلى أنها جاءت على لسان رسول فى كتاب سماوي، فقد وقعت الحوادث، كما ذكرت، فقد تضعضع الشعب الفارسى فعلا، وأدخل أرضه العرب فعلا، وكان الفارسيون حملة العلم الإسلامى الذى كان رحمة للعالمين. وذلك لا يكون إلا من وحى السماء. فليس لنا إلا أن نقول أن هنا رسولا ورسالة، وكتابا ينطق بوحى الله تعالى. أما ما ينحل إلى زرادشت من أنه كان يدعو إلى القوة فإن كان يراد بها أن يكون المؤمن برسالته قويا فى خلقه وعقله وجسمه، فإن ذلك حق، وهو يتفق مع مباديء الأخلاق، ورسائل الرسل، وقد أثر عن محمد صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «المؤمن القوى خير من المؤمن الضعيف، وفى كل خير» وليس فى هذا ما يمنع أن يكون نبيا مرسلا، داعيا إلى التوحيد؟ وإن كان يراد أنه يغلب القوة على الحق فذلك باطل، وتقوله أوهام الأوربيين وهو جدير بساستهم، ولا نظن إلا أن فلاسفتهم الذين زعموا هذا قد حرفوا القول عن مواضعه، كما حرفوا دعوة المسيح عليه السلام، وادعوا له الألوهية وهو منها براء، وما قال لهم إلا ما أمر الله تعالى به. وكذلك ما يزعمون من أنه أوجب إفناء الضعفاء، إنه فيما نرى دعا أهل الإيمان إلى أن يدرعوا بالقوة، وأن يعالجوا الضعيف، لا أن يفنوا الضعفاء. وخلاصة القول فى هذا المقام أن البشارات جاءت فى هذه الكتب، وهى صادقة فيما قالت، وتنتج إثبات النبوة لمن وجدت فى كتبه، وليس لنا أن نطعن فى صدق ما تنتجه، لمجرد أوهام توهمها ناس ينكرون الواحدانية، وادعوا على عيسى أنه إله، أو أنه ابن الله، فليس غريبا أن يدعوا على غيره ما دونها. وقد يقول قائل إن القران الكريم عندما ذكر الذين بشروا بالنبى صلّى الله عليه وسلّم لم يذكر هؤلاء، بل ذكر أن الإنجيل فيه أن المسيح عليه السلام بشر برسول يأتى من بعده اسمه أحمد، وذكر أن التوراة فيها محمد

محمد فى التوراة:

عليه الصلاة والسلام مكتوب، كما قال تعالي: وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ، قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ، وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ، وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ، وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ، فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ، أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ «1» . والجواب عن ذلك أن أهل الكتاب كانوا يجادلون النبي صلّى الله عليه وسلّم إذ كانوا على مقربة من دعوته، فكان يحاجهم بما عندهم، وكانوا هم يعرفون النبي، ويستفتحون على المشركين عندما كانوا ينازلونهم بالنبى عليه الصلاة والسلام قبل أن يبعث، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به. على أن رسالة النبى عليه الصلاة والسلام ما كانت تستمد من شهادة السابقين، إنما كانت قوتها تستمد من ذاتها، وتحمل فى نفسها الشهادة بصدقها، والبينات الناطقة بأنها حق، وأنها من الله العزيز الحكيم. محمد فى التوراة: 53- جاء ذكر محمد عليه الصلاة والسلام فى التوراة بالإشارة الواضحة، ومع أنه جرى فيها التغيير والتبديل لم يمح ذلك ما فيها من إشارات بينات واضحات إلى رسالته عليه الصلاة والسلام مما جعل اليهود يعرفونه على وجه اليقين، كما يعرفون أبناءهم، واستفتاحهم على المشركين به قبل أن يبعث، فلما بعث كفروا. وقد عنى الأستاذ عبد الحق ببيان النصوص العبرية التى فيها البشارة بالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وكانت ترجمتها هى «إن الرب جاء من سيناء ونهض من ساعير لهم، وسطع من جبل فاران، وجاء مع عشرة الاف قديس وخرج من يمينه نار شريعة لهم» . وجبل فاران إنما هو بمكة، وقد قال عبد الحق فى ذلك: «إن الشواهد القديمة جميعا تنبيء عن وجود فاران فى مكة، وقد قال المؤرخ جيرون، واللاهوتى يوسبيوس إن فاران عند بلاد العرب على مسيرة ثلاثة أيام إلى الشرق من أيلة، ولا يكتفى بالنقل العبرى وترجمته، بل ينقل عن النص العربى المترجم أن إسماعيل سكن برية فاران بالحجاز، ثم يقرر أن سفر العدد من العهد القديم جاء فيه أن بنى إسرائيل ارتحلوا

_ (1) سورة الأعراف: 156، 157.

من برية سيناء فحلت السحابة فى برية فاران.. ويستنبط من ذكر عشرة الالاف الذين ذكروا على أنهم محمد وأصحابه عندما خرجوا فى غزواتهم إلى مكة، وإلى الشام، فقد بلغوا هذا العدد، وكانوا من الصحابة الأطهار. ويسوق ما جاء فى التوراة من أن موسى كليم الله تعالى بشر بمحمد عليه الصلاة والسلام بقوله: «إن نبيا مثلى سيقيم الرب إلهكم من إخوانكم أبناء إبراهيم» . ويسترسل الكاتب المحقق فى بيان ما جاء بالتوراة من إشارات فيذكر أن عبارة «نبى من أبناء إبراهيم مثلي» تثبت أنه محمد عليه الصلاة والسلام، إذ لم يجيء أى نبى بعد موسى عليه السلام بشريعة كاملة تبين كل الأحكام غير القران الكريم الذى نسخ بعض الأحكام التى جاءت فى التوراة «1» . وهكذا نجد التوراة قد بشرت بالنبى وإشارات التبليغ قائمة فيها، حتى بعد أن عراها التغيير والتبديل. وإن هذا الكلام لا يبشر فقط بالنبى عليه الصلاة والسلام، بل يبين مكان الرسالة، ومنبعثها الذى تعم منه مشارق الأرض ومغاربها، ففاران كما جاء فى أخبار المؤرخين والمحققين من الكتاب الأقدمين، كان بينها وبين أيلة مسيرة ثلاثة أيام، وكما جاء فى كثير من أقوال المؤرخين كانت حول مكة أو بمكة. وقد ذكر الأحمديون الذين عنوا بترجمة معانى القران الكريم، وإن كنا نخالفهم فى أصل ترجمة القران، كما نرى الرأى المبطل لاعتقادهم، مع ذلك نأخذ كلامهم فى التبشير بالنبى صلّى الله عليه وسلّم، فإن اللؤلؤة الفائقة لا تهون لهوان غائصها الذى استخرجها، والحكمة ضالة المؤمن يلقفها أنى وجدها. ذكر الأستاذ المرحوم العقاد ما قاله الأحمديون، فقال: «ومن الجماعات التى عنيت عناية خاصة بهذه النبوات جماعة الأحمدية الهندية التى ترجمت القران (أى معانيه) إلى اللغة الإنجليزية، فإنها أفردت للنبوات والطوالع عن ظهور محمد عليه الصلاة والسلام بحثا مستفيضا فى مقدمة الترجمة.. قالت فيه إن نبوءة موسى الكليم تشتمل على ثلاثة أجزاء، وهى التجلى فى سيناء، وقد حصل فى زمانه، والتجلى من ساعير، أو جبل أشعر، وقد تجلى فى زمن السيد المسيح، لأن هذا الجبل، على قول الجماعة الأحمدية، واقع حيث يقيم أولاد يعقوب الذين اشتهروا بعد ذلك بأبناء أشعر، وأما التجلى الثالث فمن أرض فاران، وهى أرض التلال التى بين المدينة ومكة. وقد جاء فى كتاب (فصل الخطاب) أن الأطفال يحيون الحجاج فى تلك الأراضى بالرياض من برية فاران ... وقد أصبح أبناء إسماعيل أمة كبيرة، كما جاء فى وعد إبراهيم، فلا يسعهم شريط من الأرض على تخوم كنعان ولا وجه لإقامتهم، حيث أقام العرب المنتسبون إلى إسماعيل، ولا باعث لهم

_ (1) الكتاب المذكور ص 150.

على انتحال هذا النسب، والرجوع به إلى جارية مطرودة من بيت سيدها، وقد جاء فى التوراة أسماء ذرية إسماعيل الذين عاشوا فى بلاد العرب. ومن نبوءة أشعياء التى سبقت مولد السيد المسيح بسبعمائة سنة أن أبناء أسماعيل كانوا يقيمون بأرض الحجاز، ففى هذه النبوءة يقول النبى أشعياء فى الإصحاح الحادى والعشرين: «تبيتين بقوافل الدادانيين، هاتوا ماء لملاقاة العطشان، بإسكان أرض تيماء، وأووا الهارب بخبره، فإنهم من أمام السيوف قد هربوا، من أمام السيف المسلول، ومن أمام القوس المشدودة، ومن أمام شدة الحرب، فإنه هكذا قال إلى السير فى مدة سنة كسنة الأجير يفنى كل مجد فيدا» . ويقول المترجمون من الجماعة الأحمدية فيفسرون هزيمة فيدا بهزيمة المكيين فى وقعة بدر، وهى الهزيمة التى نزلت بهم فى وقعة بدر بعد هجرة النبى صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة «بنحو سنة كسنة الأجير» «1» وهذا النص يشير، وكل تبشيرات الكتب بالأخبار المستقبلة تكون بالإشارة التى لا تخفى على المتأمل، وربما لا يفهمها من يأخذ بظواهر الألفاظ، لا بمراميها وغاياتها، وإن التفسير بالظواهر لا يجدى ولا يؤدى معانى، والاتجاه إلى المرامى التبشيرية يجعل للألفاظ معانى قائمة بذاتها وواضحة. ويسوق جماعة الأحمدية فى مقدمة تفسيرهم بالإنجليزية، فينقلون عن إصحاح فى سفر أشعياء، «وهو يرفع راية للأمم من بعيد، ويصف لهم من أقصى الأرض، فإذا هم بالعجلة يأتون، وليس فيهم وازع ولا عائر، لا ينعسون ولا ينامون، ولا تنحل حزم حقائبهم، ولا تنحل سيور أحذيتهم، سهامهم مملوءة، وجميع قسيهم ممدودة، حوافر خيلهم كأنها الصوان» . وإن هذا النص يدل على الدعوة إلى الحج، وهى قد تدل على بعض قوله تعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا، وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ. لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ، وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ، فَكُلُوا مِنْها، وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ «2» . وجاء فى سفر أشعياء فى الإصحاح الثامن: «ولا تقولوا فتنة لكل ما يقول هذا الشعب فتنة، ولا تخافوا خوفة ولا زهوا، وقدسوا رب الجنود فهو خوفكم وهو رهبتكم، ويكون مقدسا، وحجر كل صدمة، وصخرة عثرة وكما شرقا لسكان أورشليم، فيعثر بها كثيرون، ويسقطون فيتكسرون، ويعلقون فليفظون، صدا شهادة، أختتم الشريعة بتلاميذى، فاصطبر للأب السائر وجهه فى بيت يعقوب» .

_ (1) الكتاب المذكور ص 17. (2) سورة الحج: 27، 28.

محمد فى الإنجيل:

ذاك، وإننا نرى أن الإشارة بعيدة أو أن الدلالة يعسر إدراكها على وجه يقينى، وحسبنا ما مضى من نقول ففيها ما يكفى. محمد فى الإنجيل: 54- جاءت البشارة بمحمد صلّى الله عليه وسلّم فى الأناجيل أوضح إشارة منها فى التوراة، ولنضرب لذلك بعض الأمثال: (أ) جاء فى الإصحاح الثالث والعشرين من إنجيل متى على لسان المسيح يخاطب بنى إسرائيل: «هو ذا بيتكم يترك لكم خرابا، لأنى أقول لكم، إنكم لا تروننى من الان حتى تقولوا مبارك الاتى باسم الرب» فهو يدل على أن هناك من يأتى بعده مباركا باسم الرب، ولم يأت بعده إلا محمد عليه الصلاة والسلام. (ب) وفى الإصحاح الحادى والعشرين من هذا الإنجيل على لسان السيد المسيح ما نصه: «لذلك أقول لكم، إن ملكوت الله ينزع منكم، ويعطى لأمة تعمل أثماره ومن سقط على هذا الحجر يترضض، ومن سقط هو عليه يسحقه» . (ج) وجاء فى إنجيل يوحنا فى الإصحاح الأول حديث يوحنا مع الكهنة فى اللاويين، إذ سألوه: من أنت، فاعترف ولم ينكر، وقال: إنى لست أنا المسيح، إذن ماذا! أأنت إيليا، فقال: لا. قالوا: أأنت النبى! فأجاب: لا. فقالوا له: من أنت لنعطى جوابا لمن أرسلونا، ماذا تقول عن نفسك؟ قال: أنا صوت صارخ فى البرية. ولا شك أنه كان تنبؤ عن نبى ليس هو المسيح ولا هو نبيا، فمن يكون هو غير محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. (د) وجاء فى الإصحاح السادس من إنجيل يوحنا الذى صرح بألوهية المسيح فيما يزعمون، جاء فيه على لسان المسيح، «إنه خير لكم أن أنطلق لأنى إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزى، ولكن إن ذهبت أرسله إليكم، ومتى جاء إليكم يبكت العالم على خطيئته وعلى بره، وعلى دينونة الله، فأما على خطيئته فلأنهم لا يؤمنون به، وأما على بره فلأنى ذاهب إلى أبى ولا تروننى أيضا، وأما على دينونة الله، فلأن رئيس هذا العالم قد دين، وأن لدى أمورا كثيرة أقولها لكم، ولكن لا تستطيعون أن تتحملوها الان، وإنما متى جاء ذاك روح الحق، فهو يرشد كم إلى الحق جميعه، لأنه لا يتكلم عن نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به، ويخبركم بأمور اتية، وذاك يمجدنى لأنه يأخذ مما لى ويخبركم، وبعد قليل لا تبصروننى» .

على فترة من الرسل:

وإن هذا الكلام إذا اطرحنا عبارات الاب، والألوهية المدعاة، يتبين أنه ينبيء عن المعزى الذى يجيء بعده. وأنه ينطلق ليخلى له الطريق، وأنه يبكت العالم على خطيئته، وهو إنكار نبوة المسيح، ويبكت على بر بالمسيح فى زعمهم، لأنه يبكتهم على ادعائهم ألوهية المسيح وبنوته لله سبحانه وتعالى المنزه عن الصاحبة والولد. ثم إنه يصرح إلى أنه يدعو إلى الحق جميعه، لأنه أتى بالشريعة كاملة غير منقوصة، خالدة لكل زمان ومكان، ولكمالها كانت هى الخالدة، فمن غير محمد يكون إذن المعزى للخليقة، الذى ينكر الخطايا، وينكر غلو أهل الكتاب فى دينهم؟ إنه محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقد جاءت نصوص الأناجيل الحاضرة بأن المسيح يبشر بالفارقليط، والفارقليط هو أحمد إذ أن ذلك هو المعنى اللفظى للفارقليط «1» . على فترة من الرسل: 55- إن نظرت إلى العالم شرقا فى أقصاه، أو غربا فى أقصاه، أو القريب الداني، أو البعيد النائى، فإنك واجد أن العالم فى حاجة إلى من يهديه من ضلاله، فالفلسفة لا تصلح الناس، ولو استقامت على الطريقة، لأنها إن أقنعت الخاصة لا تملأ نفوس العامة، ولا تهديها إلى سواء السبيل، وهى ما استقامت فما أصلحت أحدا. والعقائد قد اعتراها التحريف، فاليهود حرفوا التوراة عن معناها، ونسوا حظا كثيرا مما ذكروا به، ونظروا إلى الناس جميعا، على أنهم دونهم، وأنهم ليسوا عباد الله مثلهم، وأن الله تعالى خالقهم كما خلق غيرهم، بل زعموا أنهم المختارون وأن كل الناس دونهم، وبذلك عاثوا فى الأرض فسادا، ولما ذلوا وهم على الاعتقاد بأنهم شعب الله المختار، حقدوا على الخليقة وعملوا بكل الوسائل للكيد لغيرهم غير متحرجين ولا متأثمين، بل إنهم يغرون بالعداوة بين الناس، وينشرون الفساد فى غير تحفظ، ولا مراعاة لأى جوار فى أى مكان، فكان لابد من نبى يأتى بدين قوى يكفكف غرورهم وينهنه من غلوائهم. والنصرانية انحرفت، وخرجت عن مباديء المسيح وغلوا فيه، واستبدلوا بأدب المسيح وسماحته استعلاء واستكبارا فى الأرض وعتوا وفسادا. فكان لابد من رسول بشير ونذير، يهدى إلى الحق وإلى صراط مستقيم. يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ، أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ، فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. «2»

_ (1) قد كتب بعض تلاميذنا المسيحيين كتابا قيما يبين فيه بعض نصوص الأناجيل بنبوة المسيح عليه السلام، وقد طبع. (2) سورة المائدة: 19.

الرسول صلى الله عليه وسلم

خاتم النبيين الرسول صلّى الله عليه وسلّم

محمد من أوسط قريش نسبا

محمد من أوسط قريش نسبا 56- التقى أبو سفيان بن حرب بهرقل بعد أن ظهر أمر نبوة النبى صلّى الله عليه وسلّم. وشاعت دعوته، وسمع الرومان برسالته، فسأله عن النبى صلّى الله عليه وسلّم أسئلة كان من بينها السؤال عن نسب النبى صلّى الله عليه وسلّم، فقال أبو سفيان، وهو خصم شديد اللدد قوى الخصومة عندما سئل فى ذلك، فقال غير كاذب: «إنه من أوسط قريش» أى أعلاهم، لأن الأوسط هو الأعلى والأشرف. فقال هرقل: هكذا يبعث الأنبياء من أشرف الناس نسبا. وأخبار القران عن الأنبياء السابقين تثبت أنهم كانوا من أعلى الناس فى قبائلهم من حيث مكانة أسرهم، ولنضرب لذلك مثلا بشعيب عليه الصلاة والسلام، فقد كان من رهط شريف، وكان نسيبا فيهم، ولقد قال الله تعالى فى مجادلته لقومه قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ، وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً، وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ، وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ. قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ، وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا، إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ «1» . وإن هذا النص الكريم يدل على أن شعيبا عليه السلام كان من قبيل فيهم شرف، وفيهم عزة ومنعة، وبذلك كان من أوسط العشائر وأعلاها فى مدين. ومحمد صلّى الله عليه وسلّم كان من أسرة فيها سمو وعلو فى قومه، وقد روى ابن عباس أن النبى صلّى الله عليه وسلّم قال: «لم يزل الله عز وجل ينقلنى من الأصلاب الطيبة إلى الأرحام الطاهرة صفيا مهذبا، لا تتشعب شعبتان إلا كنت فى خيرهما» . وفى الصحيح من حديث واتلة بن الأسقع أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من ولد إسماعيل بنى كنانة، واصطفى من بنى كنانة قريشا، واصطفى من قريش بنى هاشم، واصطفانى من بنى هاشم» . وبذلك يتقرر أن محمدا عليه الصلاة والسلام كان رفيع النسب، وليس المراد بشرف النسب أن تكون عشيرته ذات مال كثير، وأن يكون قد نال منهم تركة مثرية كبيرة، فإن المال لا يكون نسبا، وقد كان عمه أبو طالب كبير البطحاء وشريفها، وكان مع ذلك فى المال قلا، والنبى صلّى الله عليه وسلّم مع علو نسبه بين العرب كان فقيرا، وكان يتيما، وكان يرعى الغنم، فليس علو النسب والشرف ملازما لكثرة المال، أو قوة البطش، أو عظمة السلطان، إنما شرف النسب أن يكون من كورة يعلو احادها عن النقائص، ويخشون العار من أن يقعوا فى رذيلة يستنكرها العرف، ويستهجنها ذوو العقول السليمة، وأن يكون لهم شرف نفسى، ولم يجعل النبى عليه الصلاة والسلام شرفه فى العرب بالمال، أو السطوة، بل جعل شرفه بأنه من خيرهم نفسا وبيتا، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «جعلنى فى خيرهم بيتا وخيرهم نفسا» .

_ (1) سورة هود: 91، 92.

وانظر إلى أبى سفيان الذى كان من أعلى قريش عندما سأله هرقل أجاب بالصدق والأمانة، وإن كان صدقه حجة عليه، ومعطيا للنبى صلّى الله عليه وسلّم قوة، واستعلاء بدعوته ورسالته، ويقول أبو سفيان وهو على الشرك: «لولا أنى أخشى أن تحفظ عنى كذبة فى العرب لكذبت» . 57- ولماذا كان الأنبياء لا يكونون إلا من كورة عرفت بشرف النفس وعلو المحتد، وإن تولدت الرفعة من غير كبرياء، واحترام النفس من غير استعلاء. ذلك لأن الرسالة تحتاج إلى دعوة قوية لا يرنقها كدرة التعييب، أو عدم الثقة، أو نقص فى شرف النفس، أو رميه بالرذيلة ابتداء، وإن كان هو فى ذاته كاملا. إن النبى الذى ليس فيه رفعة، ولم يعرف بأنه من عشيرة ذات تقاليد فاضلة، كان أول ما يبادر به هو الرد، لعدم شرف أسرته، وإنما نجد النبيين كانوا يعيرون بأن أتباعهم من أراذل القوم، لا من أشرافهم، ولا من ذوى النسب، ويتخذون ذلك ذريعة لرد الدعوة، وإن كانوا فى ذلك ظالمين، وإن رد قوم نوح أبى الإنسانية الثانى ليبين هذا، فقد قال تعالى عنه وعن قومه الذين ردوه فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا، وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ، وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ، بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ. قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ، فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها، وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ. وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالًا إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ. وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ، أَفَلا تَذَكَّرُونَ. وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ، وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ، وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ، وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً، اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ، إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ «1» . إن اعتراضهم على أن الذين اتبعوا نوحا عليه السلام هم أراذلهم اعتراض ظالم، ولكن الله تعالى أرحم بعباده من أن يأتيهم بنبى مغمور فى أسرته، منكوب فى أمر أمته، مرذول ابتداء عند قومه، فيبادرون بعدم تصديقه، ويجاهرون ابتداء بمخالفته، ويصرون، ويأخذون حجتهم من حال عشيرته وما يألفون، وإن التأثير فى الأقوام لا يكون بإكراه النفوس على عكس ما يبدولها، وما تبادر برده، لأن المبادرة بادى الرأى بالرد تجعل النفس تبتديء بالانحراف عن الخط المستقيم الذى تدركه العقول، وإذا انحرفت زاوية التفكير بأمر منفر بادى الرأى، فإنه يستمر فى خط الانحراف ولا يرجع إلى الحق إلا بعسر، وإنه كلما استطال خط

_ (1) سورة هود: 27- 31.

الانحراف انفرجت الزاوية، ويصعب التلاقى من بعد، ورضى الله تعالى عن على كرم الله وجهه إذ يقول: «إن للقلوب شهوات، وإقبالا وإدبارا، فإن القلب إذا أكره عمى» ودعوات الرسل للهداية، وليست للعماية. 58- ولا شك أنه يجب أن يكون للرسول صلّى الله عليه وسلّم منعة من قومه، لأنه يبادر الناس بالمجاهرة بغير ما يعلمون، وبغير ما يعتقدون، ويصدع مفاجئا بما لا يريدون، وأنهم بلا ريب يجدون أنه لا يدفع ما يجئ على غير رغبتهم بالحسنى، بل بالمقاومة الحقيقية القوية، وإذا لم يكن له منعة من قومه يقتلونه فجر دعوته قبل أن يصبح صباحها، أو يكون لها ضوء فى المجتمع ولو كان ضئيلا، فإنه من بعد يكون نورا، ولو أطفئ النور عاش فى ظلام لا يضئ أبدا، وانظر إلى قصة قوم شعيب، إذ أنه لم يمنعهم من أن يقتلوه إلا رهطه، فقد قالوا فيما حكاه القران الكريم عنهم مما تلونا.. وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ «1» فلو كان الرسول فى غير رهط يمنعه، وفى غير منعة تدفع أعداءه لماتت دعوته فى مهدها. وما لنا نغوص فى الماضى قريبا كان أو بعيدا، ونحن بين يدى حضرة الرسول عليه الصلاة والسلام، إذ أن قريشا عندما صدع الرسول صلّى الله عليه وسلّم بأمر ربه، عارضته، ولجت فى المعارضة، ولما لجت فى المعارضة ساورتها نزعة الشر لقتله، وما كان يمنعها إلا أسرته، وشرف هذه الأسرة، ومكانتها عند العرب، وخوفها من أن تبادر بالثأر، ودفع العار، حتى تمكن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من أن يخرج بدعوة الحق من الفجر الذى يشق الظلام إلى الصباح المشرق المنير، بل إلى الضحى الذى يملأ الوجود ضياء، عندئذ قيض الله تعالى من يمنعه، وقد وقفت الدعوة تناضل عن نفسها، وترد كيد الكائدين. 59- وقد يقول قائل إنهم إن لم يستطيعوا النيل من شخصه، فقد نالوا ممن يتبعونه، ووقفوا محاجزين دون أن تصل دعوته إلى الضعفاء، فلم يمنعهم مكانه فى أسرته من أن ينالوا من صحابته، ويعوقوا رسالته، وقد مات فعلا بعض الضعفاء من الصحابة تحت حر العذاب. ونقول إن هذا دليل على أنه لو كان صاحب الدعوة كأولئك الضعفاء لم يوجد من يمنعه- لقتلوه، وقالوا إنه أصلها فلو قتلناه لزالت، فيستكلبون عليه وتموت الدعوة فى مهدها، فيعجلون بوقفها. وإنه يلاحظ أن الأذى الذى كان ينزله المشركون من قريش بالمؤمنين كان يتفاوت مقداره بمقدار قوة أسرهم، ومكانتهم فى النسب الذى كان موضع فخارهم، فكان لأبى بكر وعثمان، لون ما كان لال ياسر، وال خباب بن الأرت، وكان لهؤلاء الذين لا ناصر لهم أشد ما يلاقى الإنسان من أخيه الإنسان،

_ (1) سورة هود: 91.

حتى كانوا كالذين عذبوا بالأخدود كما نوهنا من قبل، وكما جاء فى القران تعالت كلماته، وسمت عن القيل عباراته. والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم ناله الأذى، وأصابه العنت من أولئك، ولكن دون أن يفكروا فى قتله إلا بعد أن يئسوا من أن يقفوا الدعوة. وبعد أن وجدوه يعمل على توجيه دعوته إلى خارج مكة، وقد أخذ نورها يتجه إلى القبائل العربية، فحاولوا أن يقتلوه، ولكن قد ان له عليه الصلاة والسلام أن ينشيء دولة الإيمان، وقد تكاملت عناصر تكوينها، ولكن فى غير أرض مكة. وهكذا اختبر الله أهل الإيمان بالشدائد، حتى هاجروا فرارا بدينهم لأن الشدائد تملأ القلوب صرامة، وتعطى الإرادة عزيمة، فلا تهن ولا تضعف، ولا تحزن ولا تيئس من روح الله، ومن أن تكون كلمة الله تعالى هى العليا، وهكذا يربى الرجال الذين يكونون دعائم الحق، قال تعالت كلماته أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا، حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ، مَتى نَصْرُ اللَّهِ، أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ «1» . 60- كان لابد لنبى الرحمة أن يكون فى كل حياته رحيما، فيربى على الرحمة بالضعفاء صغيرا، يكون بينهم ضعيفا ليحس بالام الضعفاء والمساكين، فليس رحيما من لم يذق مثل ما فيه حال الضعفاء. وإن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مع أنه كان نسيبا من أعلى نسب فى قومه قد كان فى المال قلا، وابتدأ حياته يتيما، ثم كان أجيرا فى رعى الغنم، فالتقى فيه مهذّبان: أحدهما- النسب الرفيع الذى يجعله لا يتجه إلى سفساف الأمور، بل يتجه إلى معاليها، ليتكافأ نزوعه مع شرفه، فيتلاقيا، ويتوافرا على إعلائه، وبذلك حفظ محمد شرف النسب، فكان الصادق الأمين، الذى لم يكن فيه ما ينقص نسبه، ويضعف شرفه العظيم، فكان النبيل حقا وصدقا، وكان الكامل بين ذوى الأنساب، والمتبع من غيرهم. المهذّب الثانى اليتم وقلة المال، وإن هذا المهذّب من شأنه أن يجعله موطأ الكنف للضعفاء من العبيد، والعاملين والفقراء، فلا يستكبر، ولا يستعلي، بل يكون قريبا منهم، أليفا معهم من غير أن يناله ذل الفقر، وضعف الحاجة واستخذاء المسكين، فهو العالى الرفيع، وهو الذى ينبع معين الرحمة من بين جنبيه، فإن الرحمة تنبع من بين الشدائد والرحيم هو الذى يذوق الشديدة من غير أن تذله، ليرحم غيره، ولا يعترى نفسه حقد على من هو أعلى منه، بل هو ينظر دائما إلى من دونه ليعليه، وليحميه، ويعينه.

_ (1) سورة البقرة: 214.

إن هذين التهذيبين قد توافرا فى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فاتجه منذ صباه إلى معالى الأخلاق التى تليق بذوى الشرف والرياسة، ولم يتخذ الشرف سبيلا للاستطالة على غيره. وإن يتمه وفقره، وعمله فى ميدان الأجراء الضعفاء جعله قريبا مألوفا غير متعال، يحس أنه من الضعفاء فى إخلاصهم، ومع الأشراف فى امتناعهم عن الدنية فى أعمالهم، وفى كل أحوالهم ... كان العطوف الأليف. وإنه يلاحظ فى استقراء أحوال الناس أن الضعفاء دائما إذا لم ترنق قلوبهم بحقد، ولا حسد للناس على ما اتاهم الله من فضله، يكون فى قلوبهم إخلاص، ومع الإخلاص إشراق النفوس الذى ينزع بها إلى الحق، وإلى صراط مستقيم، ذلك لأن قلوبهم لم تصبها كدرة الهوى، والشهوات واللذات التى يدفع إليها المال، أو يسهل سبيلها، واستغراق النفس بها، فيكون الإنسان قريبا من الإيمان سرعان ما يدخل قلبه الإيمان، ولذلك كان أول من يجيب دعوة الأنبياء ويؤمن بها، وأول من يجيب دعوة أى حق ويؤمن بها الضعفاء والفقراء بهذا القيد الذى ذكرناه، وهو ألا يدنس قلوبهم حقد، ولا حب انتقام، ولا حسد يطفيء موضع الإيمان فى قلوبهم. لقد أوتى النبى عليه الصلاة والسلام الرحمة بالضعفاء، لأنه أحس بأنه منهم، من غير أن يناله ما عساه يكمن فى نفوس الضعفاء من استكانة، ورضا بالدون من السجايا المرهقة المذلة، لأن الضعيف إذا لم يصب بالحقد أصيب بنوع من الرضا بالقليل، وعدم المطالبة بحقه الهضيم، وإن ذلك قد يجر إلى الاستخذاء، والنبى عليه الصلاة والسلام أوتى مزايا الفقر من إخلاص واتجاه إلى الطريق المستقيم، من غير تدلى الضعفاء إلى هوان، أو إذلال، لأن علو النسب منعه، وأبعده عن ذلك، فالتقت فيه الحسنيان، حسنى النسب، والإخلاص لله سبحانه وتعالي، فكان ذلك تهيئة للرسالة الإلهية الرافعة للإنسانية.

النسب الطاهر

النسب الطاهر 61- يذكر المؤرخون للسيرة الطاهرة، سيرة خير الأنام محمد صلى الله تعالى عليه وسلم أنه من ولد إسماعيل بن إبراهيم، ولكن لا تعرف سلسلة النسب كاملة إليه، بل إن التاريخ لا يحفظ إلا عشرين منها، فهو محمد بن عبد الله، بن عبد المطلب، واسمه شيبة الحمد، بن هاشم واسمه عمرو، ابن عبد مناف، واسمه المغيرة، ابن قصى واسمه زيد بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤى بن غالب بن فهر، ابن مالك، بن النضر، بن كنانة، بن خزيمة، بن مدركة، بن إلياس، بن مضر، بن نزار، بن معد، بن عدنان. وهذا التعريف بنسبه الكريم، هو المجمع عليه بين كتاب السيرة، ولقد كان ذلك التعريف كما تدل الرواية عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما، فقد كان يقول: «كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إذا انتهى إلى عدنان أمسك، ثم يقول: كذب النسابون، قال الله تعالى: وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً «1» . وإن هذا الخبر المنسوب للنبى عليه الصلاة والسلام يدل على صدق تلك السلسلة الكريمة أبا عن جد إلى أن ينتهى إلى عدنان، وإن حفظ النبى لهؤلاء فقط يدل على أمرين: أولهما- الشك فيمن فوقهم، وأنه لم يصل إليه عن طريق صحيح، وأنه وصل إلى الناس عن طريق النسابين، وأن النسابين قد يدفعهم الفخر إلى الكذب والافتراء. ثانيهما: أنه يدل على صدق هذا النسب، فما كان النبى صلّى الله عليه وسلّم ليقول إلا حقا فهو الصادق الأمين، ويظهر أن ذلك القدر من النسب الرفيع هو الذى كان معلوما فى حكم المتواتر، أو المشهور عند العرب، وغيره موضع شك، والقول فيه رجم بالغيب، وأخذ بالتوهم أو الظن، وإن الظن لا يغنى من الحق شيئا. وما كان أولئك معروفين إلا لأنهم أثرت عنهم ماثر، صارت مفاخر لذرياتهم، وإن كان النبى عليه الصلاة والسلام لم يفخر قط بنسبه. ومع ذلك هو من خيار الأقوام، فقد قال عليه الصلاة والسلام: «ولدت من خيار من خيار من خيار» فهو يذكر الخير فيهم، ومكان الشرف فى أسلافه، ويمتنع من أن يستعالى بهم، والتفاخر استعلاء واستطالة بالنسب، وقد يكون فيه شحناء، والشحناء ليست من شأنه صلى الله تعالى عليه وسلم. 62- وإن الظاهر أن أولاد عدنان قد أقاموا بمكة منهم من هو فى سلسلة نسب النبى عليه الصلاة والسلام، وذلك لأن إسماعيل عليه السلام، كانت إقامته قرب مكة، وهو بانى الكعبة، ولأن النسابين

_ (1) سورة الفرقان: 38.

ذكروا أنه كان أولئك العشرون بها، ولأنهم كانوا معروفين فيها كابرا عن كابر، وما يعرفون إلا لإقامتهم بمكة التى قام بها الأخلاف من بعدهم، ولتقديس الكعبة ومكة، ووفود الناس إليها من كل فج عميق. ولقد ذكروا أن بعض ذرية عدنان أقام باليمن، وأنسل فيها نسلا، وذلك لأن عدنان ولد له ولدان أحدهما معد، والثانى عك، فتزوج هذا من الأشعريين، وهم بنو أشعر الذين يقيمون باليمن، فانتقل إلى موطن زوجته باليمن، ثم كان من بعض منهم من كان بعض ولده يخرج من مكة، وينفرد بالبقاء فيها من يدخل فى سلسلة النسب، كما رأيت فى معد، وأخيه عك فهذا هاجر إلى اليمن مع أسرة زوجه، وبقى معد فيها. وجاء معد. فكان مثل أبيه فكان من أولاده قضاعة الذى تنسب إليه هذه القبيلة، وكان نزار هو الذى استمر بمكة، حتى كان منه ولده من بعده من يدخلون فى نسبه عليه الصلاة والسلام. وكان من أولاده ربيعة الذى ينسب إليه الربعيون، وأنمار، وإياد، وهذان كانا أبوين لقبيلتين، وكان ابنه مضر الذى كان جد النبى عليه الصلاة والسلام، وهو الذى أقام بمكة المكرمة. وكان لمضر ولدان هما إلياس، وغيلان، ومضر خيرهما، هو الذى يدخل فى نسب النبى عليه الصلاة والسلام، ويظهر أنه فى عهد إلياس أخذ بنو إسماعيل يغيّرون ما ورثوا من شريعة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام فأنكر عليهم ما غيروا من سنن ابائهم وسيرتهم. ويقول فى ذلك صاحب كتاب «الاكتفاء» : بان فضله عليهم، ولان جانبه لهم، فأيد جميعهم رأيه، ورضوا به رضاء لم يرضوه لأحد من ولد إسماعيل، فردهم إلى سنن ابائهم، حتى رجعت سنتهم قائمة على أولها. وجاء من بعد إلياس ابنه مدركة، واسمه عامر، وله ابنان اخران، لكن هذا كان المختار منهم، وسماه مدركة لأن إبلا كانت قد نفرت منهم، فتقاصر الولدان الاخران عن تتبعها، ونهض عامر، لردها من نفارها، وقد بعدت، فأدركها فردها، فسمى مدركة وصفا لهذا العمل، وكان لمدركة خزيمة وهذيل فكان خزيمة المختار ليكون جدا للنبى عليه الصلاة والسلام، كان جدا لهما، وولد لخزيمة- كنانة وأشد وأشدة والهون، وكان كنانة هو المختار ليكون النبى عليه الصلاة والسلام من صلبه. وكان لكنانة عدة أولاد، ولكن الذى اختار الله تعالى، ليجرى فى صلبه محمد صلى الله تعالى عليه وسلم هو النضر المختار من بينهم، ويقال إن النضر هذا هو الذى جمع قريشا، ولكن الأكثرين على أنه فهر حفيده الذى هو جد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. والنضر كان له أولاد كان أنجبهم فهر جد النبى عليه الصلاة والسلام.

وكان فهر هو مجمع قريش، وكان يسمى قريشا، وقد كان فيه حكمة، وخلق سوي، وقد قال فى وصيته التى قالها لولده غالب الذى أعقبه فى الزعامة وهو المختار ليكون النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من صلبه، فقد قال لابنه غالب عندما حضرته الوفاة: «يا بنى إن فى الحزن قبل المصائب إقلاق النفوس، فإذا وقعت المصيبة برد حرها، وإنما أقلق فى غليانها، فإذا أنا مت فبرد حر مصيبتك بما ترى من وقع المنية أمامك وخلفك، وعن يمينك، وعن شمالك، وبما ترى من اثارها فى محبى الحياة، ثم اقتصر على قليلك، وإن قلت منفعته، فقليل ما فى يدك، كان خيرا لك من كثير ما أخلق وجهك. وقد كان غالب له أولاد، وقد خلفه فى زعامة قريش لؤى، وقد كان لؤى هذا فيه كلمة كأبيه وجده، بدت وهو غلام حديث، فقد جرت مناقشة بينه وبين أبيه غالب دلت على حكمة قلبهما. قال الغلام لأبيه: يا أبت من رب معروفا قل إخلافه، ونضر ماؤه، ومن أخلفه أهمله، وإذا أهمل الشيء لم يذكر، وعلى المولى تكبير صغيره ونشره، وعلى المولى تصغير كبيره وستره. فقال الأب الحكيم: «إنى لأستدل بما أسمع من قولك على فضلك وأستدعى لك به الطول على قومك، فإن ظفرت بطول، فعد به على قومك، وكف غرب جهلهم بحلمك، ولم شعثهم برفقك، فإنما تفضل الرجال الرجال بأفعالها، ومن قايسها على أوزانها أسقط الفضل، ولم تعل به على أحد، وللعليا فضل أبدا على السفلى. خلف الغلام بعد أن اكتمل رجلا أباه، وقد ولد له أولاد، كان كعب أعقلهم، وأفضلهم، وهو جد النبي، وقد كان حكيما كأبيه وجده، ويذكر رواة السيرة أنه قال هذه الخطبة: «أيها الناس اسمعوا وعوا، وافهموا وتعلموا، ليل ساج ونهار وضاح، والسماء بناء والأرض مهاد والنجوم أعلام، لم تخلق عبثا، لتضربوا عن أمرها صفحا، الاخرون كالأولين، والدار أمامكم، واليقين غير ظنكم، صلوا أرحامكم واحافظوا أصهاركم، وأوفوا بعهدكم، وثمروا أموالكم، فإنها قوام مروآتاكم، ولا تصونوها عما يجب عليكم، وعظموا هذا الحرم، وتمسكوا به، فسيكون له نبأ عظيم، وسيخرج منه نبى كريم» . هذا ما يقوله كتاب السيرة فى نسبة الخطبة إليه، وليس لنا أن نحكم بصدق النسبة أو تكذيبها، ولكن نحملهم مغبة ذلك، إن صدقا وإن كذبا. وقد كان لكعب بن لؤى أولاد خيرهم مرة جد النبى عليه الصلاة والسلام، وقد كان أحد الرجال الذين تفاخر بهم قريش. وقد جاء من بعد مرة كلاب، وهو جد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.

قصي:

ثم جاء من بعده ولده قصى وهو خير أولاده، وأظهرهم، وأبينهم أثرا فى قريش فهو الذى جمع الله به قريشا، وكان اسمه زيدا، فسمى مجمعا، لما جمع من أمرها، ويسمى قصيا لتقصيه أمورها، وإن قصيا على هذا جد قريب، وليس من الأجداد الذين يبعد عهداهم به عليه الصلاة والسلام، وله شأن خاص فيما يتعلق بسدانة الكعبة، ورياسة الندوة وغيرها، فلابد أن نخصه بكلمة. قصي: 63- قد ترك أبوه كلاب ولدين أحدهما قصي، والثانى زهرة، وكلاهما جد للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فقصى جده عليه السلام، وهو الجد العصبة، وأما زهرة فهو جده لأمه، فهو الجد الرحمي، وكأن كلابا بهذا قد جمع الله تعالى له شرفين، فهو جد النبى عليه الصلاة والسلام لأبيه ولأمه، فالتقى فيه الشرفان. وقد طوف قصى فى بلاد العرب، فهو فى أول حياته لحق بأمه فى قضاعة، فأقام معها، وقد كان فتى قويا كريما أبيا يأبى الضيم والعار، ناضل يوما شابا من قضاعة فنضله قصي، فغضب المنضول، وحزت فى نفسه حرارة السهام، وسبة الهزيمة، فتنازعا فى القول، فقال المهزوم: ألا تلحق بأهلك فلست منا. ويظهر أنه إلى هذا الوقت ما كان يعرف أباه وشرفه، فقد عاد إلى أمه وشكا لها من مرارة القول الذى سمعه، فقالت له: أنت والله يا بنى أكرم منه نفسا ووالدا، ونسبا، وأشرف منزلا، وأنت ابن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤى بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة القرشى، وقومك بمكة عند البيت الحرام، وفيما حوله، تفد العرب إلى ذلك البيت. أجمع قصى بعد ذلك الخروج، واللحوق، وضاق ذرعا بالبقاء غريبا، فقالت له أمه: لا تعجل، حتى يدخل عليك الشهر الحرام، فتخرج فى حاج العرب، فإنى أخشى عليك أن يصيبك بعض الناس «1» . انتقل قصى إلى أسرة أبيه فى مكة بعد أن جاءت الأشهر الحرم، وخرج حاجا. وكان جلدا بهذا نسيبا، ولم يلبث أن نال سدانة البيت الحرام. ولم تكن من قبله لقريش بل كانت لخزاعة. وكان له الأمر فى إجازة الحج للناس، وكان ذلك لغير قريش، فانتزع تلك الولاية بحيلة الداهية، وقوة ذى البأس. ولى بهذا قصى سدانة البيت، وإمرة مكة، وجمع قومه من منازلهم، واجتمعت فى يده بمقتضى الولاية سدانة البيت وإمرة مكة والحجابة والرفادة والسقاية والندوة واللواء، ومعنى الحجابة أن يملك مفاتيح

_ (1) الاكتفاء ص 73 ج 1

البيت، فلا يفتح إلا بأمره، ومعنى السقاية تولى سقاية الحج، والرفادة كانت خرجا تخرجه قريش فى كل موسم من أموالها وتعطيه قصيا، فتصنع به طعاما للحجاج فيأكله من لم يكن له سعة ولا زاد. وقد سن هذه السنة الكريمة، ودعا إإليها قريشا، وقال فى خطابه لهم بذلك: «يا معشر قريش إنكم جيران الله، وأهل بيته. وأهل الحرم، وإن الحجاج ضيف الله وزوار بيته، وهم أحق الضيف بالكرامة، فاجعلوا لهم طعاما وشرابا أيام الحج حتى يصدروا عنكم» . ومعنى اللواء ألا يعقد لقريش لواء إلا بيد قصى هذا، ومعنى الندوة دار الشورى لقريش، ثم كانت من بعد ذلك للعرب، فكانت تعقد فى دار قصي. وقد أعطى كل هذه الحقوق التى نالها بهمته لابنه عبد الدار، ليعزه بها، وأراد أن يرفع خسيسته وينال الشرف على بنى عمه من قريش، ولذلك قال له أبوه عندما أعطاه إياها: «أنا والله يا بنى لألحقنك بالقوم، وإن كانوا قد شرفوا عليك» . وكان عبد الدار هذا ولده البكر، وله ولد اخر هو عبد مناف، وقد شرف فى مكة بذاته، ونبل أمره، وقد ذهب كل مذهب، وأبوه حى. وقد أراد أبوه بإعطائه عبد الدار ما أعطى أن يتعادل الأخوان فى الشرف الذى وصل إليه الأول بذاته ونبله، وتخلف الثانى فأعطاه أبوه ما يعوض تخلفه. وعبد مناف هذا هو الجد الرابع للنبى صلّى الله عليه وسلّم، وقد أعطى الله عبد مناف أولادا أربعة هم عبد شمس جد الأمويين، وهاشم والمطلب الذى ربى عبد المطلب الذى يعد اسمه الأصلى شيبة الحمد، ونوفل جد جبير بن مطعم. 61- وكان أولئك الأربعة فيهم شرف ذاتى كشرف أبيهم ونبله، فلم يتركوا لعبد الدار وأولاده ما أعطاه جدهم قصي، ورأوا أنهم أولى بذلك منهم لفضلهم فى قومهم، وقد انقسمت قريش فى تمكين بنى عبد مناف من نزع ما بأيدى أولاد عمهم، فرأى بعضهم أنهم أولى لمكان فضلهم، وليس إمرة مكة وزعامتها عطاء يعطى من لا يستأهله، بل يوسد الأمر لمن هو له أهل، ورأى اخرون أن بنى عبد الدار أولى، لأن قصيا صاحب الحق هو الذى أعطى أباهم، ولأنه بأيديهم، ولا ينزع من يد صاحبه لغيره، ومن قريش طائفة التزمت الحياد.

عبد المطلب:

وقد كان خلف شديد انتهى إلى صلح سديد، لأن المختلفين أزمعوا الحرب، وحيث قد بلغ الخلاف أقصاه تنبه المختلفون إذ نبهتهم العاقبة المرتقبة إلى أن يكفوا، أو يكف كل فريق عن غلوائه، فتداعوا إلى الصلح. اصطلحوا على أن يكون فى بنى عبد مناف السقاية والرفادة، وأن تكون الحجابة واللواء. والندوة فى بنى عبد الدار كما هى. وكان هاشم أصبح بنى عبد مناف، وأنقبهم صحيفة، ولذلك كان له الشرف على إخوته، ونال مما أخذه بنو عبد مناف، وكان ينفس عليه أخوه عبد شمس ما كان له من شرف ذاتي، ومكانة عند العرب عامة، وعند قريش خاصة، وقد أعقبه فى شرفه مربى النبى عليه الصلاة والسلام عبد المطلب، وهنا نقف وقفة عند عبد المطلب. عبد المطلب: 65- نقف عنده وقفة قصيرة، لأنه هو الذى حضن النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو فى سن الحضانة، وعبد المطلب أمه من يثرب مهاجر النبى صلّى الله عليه وسلّم، وهى من بنى النجار بها، وقد شب فى حياته الأولى فيها، وقد تربى بينهم فى دار الغربة حتى أتى به عمه المطلب، ودخل مكة ولزم صحبته، فقيل له عبد المطلب. وقد أعطته قريش رياستها، واستحق ذلك بقوة نفسه وقوة خلقه، وسماحته، فهو لشبابها أب ولكهولها أخ، فى طلعته يمن، وفى خلقه عزمة قوية؛ ولكن فى هدوء، وسمت طيب راض، وطيبة، ولكن فى غير هوان. هو الذى حفر زمزم بعد أن طمرتها جرهم عندما سيطروا على مكة، وكانت لهم قوة فيها، واستمرت مطمورة عبر السنين، حتى حفرها عبد المطلب، فسقوا من مائها، وأثار ذكريات إسماعيل عليه السلام بحفرها، وملأهم عزة وكرامة باستعادة بئر كانت ببركة أم إسماعيل الذى كان هو وأبوه فخر العرب، وزاده ذلك شرفا فيهم، وعلوا، وما كان لطيبة نفسه بالذى يستعالى على أحد بمناقبه، وما أعطاه الله من حسن النقيبة ويمن الطالع، بل يحمد الله تعالى على ما وفقه وهداه. ويذكر كتّاب السير أنه حفرها برؤيا صادقة مكررة، وكأنها إلهام من الله تعالي، ألهمه سبحانه وتعالى إياه لصفاء نفسه، وإشراق روحه.

صفات عبد المطلب

يروى على بن أبى طالب عن أبيه عبد المطلب أنه قال: إنى لنائم فى الحجر (بجوار الكعبة) إذ أتانى ات، فقال: «احفر طيبة، قلت: وما طيبة؟ ثم ذهب عني. فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي، فنمت فيه، فجاء فقال: احفر برة، قلت: وما برة؟ ثم ذهب عنى. فلما كان الغد رجعت إلي مضجعى فنمت فيه، فقال: احفر المضنونة. قلت: وما المضنونة، ثم ذهب عنى. فلما كان الغد رجعت إلى مضجعى، فنمت فيه فجاءنى فقال: احفر زمزم. قلت: وما زمزم؟ فقال: لا تنزف أبدا، ولا تذم، وتسقى الحجيج الأعظم. وهى بين الفرث والدم، عند نقرة الغراب الأعصم عند قرية النمل. ومعنى بين الفرث والدم، أى عند المذبح الذى كانت قريش تذبح ذبائحها فيه، ومعنى قرية أى المكان الذى كان فيه نمل، ووجد الغراب ينقر عندها، وكأن هذين كانا علامة حد المكان، والاية التى تدل على صدق الاتى، فى تبشيره. فلما بدا لعبد المطلب الماء كبّر الله تعالي، وقد كانت قريش تلاحظ عمله، وكأنها غير مصدقة لنتائج ما يحفر، فلما كبّر علموا أنه أدرك ما يريد. ولكنهم جاؤا يشاحونه فى أن تكون العين تحت سلطانهم جميعا لا تحت سلطانه واحده، وقالوا: إنها بئر إسماعيل، وإن لنا فيها حقا فأشركنا معك فى السلطان عليها، ولكنه لم يسلم لهم، بل رأى أن تكون تحت سلطانه، لأنه هو الذى حفرها، وقد نازعوه هذا الحق، ثم لما رأوا من طيبته، وراجعوا حسن نقيبته، تركوا الأمر، وما هو بمانعهم من مائها. ولكنه يسقيهم ويسقى الحجاج منها فى غير منة ولا أذي، ولكن فى عدل وحسن توزيع على أن يكون له حق السقاية فيها. وإن وصف زمزم بأنها لا تنزف، وفيها سقاية الحجيج خبر حققه الزمن إلى اليوم، فلا يزال الحجاج يشربون منها. وهى تفيض عليهم فى سخاء. وهى عين ثرة، ومعين لا ينضب، ولا تزال فيها بركة إسماعيل، ونقيبة عبد المطلب، والدلالة على أن بيت الله تحوطه البركة كما قال تعالى فى وصفه: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ «1» . [صفات عبد المطلب] 66- إن الناظر فى تاريخ عبد المطلب ينتهى بأنه كان متصفا بثلاث صفات كريمات. الأولى- الطيبة والسماحة ، فكان موطأ الكنف قريبا من الناس أليفا محبوبا، لا يستغلظ على أحد، ولا يستكبر ولا يستعالى، يطمئن أهل مكة إليه، ويثقون به، ويرضونه حكما، ولو على نفسه.

_ (1) سورة ال عمران: 96.

الثانية - أنه كان مباركا

الثانية- أنه كان مباركا ، لا يضع يده فى عمل إلا بارك الله تعالى فيه.. حمل المعول، فحفر بئر زمزم، وإذا لم يكن ذا مال فى قومه، فقد كان موفورا فى كرمه، مباركا له فى رزقه، وأكثر قريش فضلا عليهم، وعائدة بالخير على جمهورهم، لا يضن بخير، ولا يستأثر به، وقد وقاه الله تعالى شح نفسه. الثالثة- عزيمته، وإصراره على ما يقوم به من خير مهما يصادف فى ذلك من عقبات، وما يحتاج إليه العمل من خير له وللناس. فكان قوى الإرادة ماضى العزيمة، متحملا أثر ما يقول. ذكر علماء السيرة أنه ما كان له عند حفر زمزم إلا ولد واحد، وهو الحارث بن عبد المطلب، وكان العرب يعتزون بكثرة المال، وكثرة البنين، فكان يجرى على ألسنتهم فى مقام الفخر أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَأَعَزُّ نَفَراً «1» وإذا كان عبد المطلب قد قنع بما أعطاه الله تعالى من مال، وإن لم يكن كثيرا كغيره من أثرياء قريش وثقيف، فقد قنع به، لأنه كان يكفى لحفظ مروءته، وما كان حريصا على أن يجمع، بل كان حريصا على ألا يمنع، وحسبه ذلك شرفا. ولقد كان له شوق إلى البنين ليكون أعز نفرا، والمال والبنون زينة الحياة الدنيا. ولقد نذر نذرا فيه بقية من بقايا الجاهلية، وهو أنه إذا عاش له عشرة من البنين، لقدم أحدهم فداء عند الكعبة، وكأنه يريد أن تكون فيه قوة التقرب إلى الكعبة، كما تقرب جده إبراهيم بولده البكر إلى الله تعالي، ولكنه فعله نذرا من نفسه، ولم يفعله بأمر ربه، ولذلك كان استعداد إبراهيم قوة عبادة، ونذر عبد المطلب لا يخلوا من جاهلية، وهذا فرق ما بين أبى الأنبياء وخليل الله تعالي، وصفيه، ومن عاش فى جاهلية الوثنية، غير مستنكر لها، والله هو الذى يهب من يشاء الذكور، ويهب من يشاء الإناث، ويهب من يشاء الذكور والإناث. اتجه الرجل القوى فى نفسه وعزمته إلى الوفاء بنذره، وقد بلغ عدد أولاده عشرة رجال، ولكن من يختاره لهذا الفداء، فأراد القرعة، فجمعهم، ودخل بهم فى جوف الكعبة، وأمرهم أن يأخذ كل واحد منهم ورقة، ويكتب فيها اسمه، وقد أخبرهم من قبل بنذره، فارتضوا طائعين غير منافرين، وبعد أن كتبوا أسماءهم وضع اسم كل واحد فى قدح، وأمر خبيرا فى القداح أن يسهم بينهم، فساهم، فكان القدح على عبد الله ابنه وأبى محمد صلّى الله عليه وسلّم.

_ (1) سورة الكهف: 34.

ومع أن عبد الله كان أحب بنيه إليه، أخذ الشفرة يحدها ليذبح أحب ولده إليه، ولكن ترامى الخبر فى أندية قريش من أن عبد المطلب يحمل شفرته ليذبح ابنه، فجاؤا سراعا إليه، ورأوه حاملا شفرته ليذبح ولده الحبيب غير وان ولا مقصر، فصاحوا فيه: ماذا تريد يا عبد المطلب، قال: إنى أذبحه، فهال الأمر قريشا، وفزع إخوته، وقد ضعفت عزمتهم وطاعتهم الأولي، ومحبة أخيهما، ولكن لم تضعف عزمة الشيخ الفادى الوفى بنذره وإن كان الفداء أحب إليه منهم جميعا، ولكنها قوة الإرادة والعزيمة، والإيمان بما يعتقد، وإن كان باطلا. أقسم الأبناء وقريش على ألا يذبحه، وبنوا ذلك على أنه ستكون مغبته سوا على قريش خاصة، وعلى العرب عامة، قالوا له: لا تذبحه أبدا حتى تعذر فيه، لئن فعلت هذا لا يزال الرجل يأتى بابنه ليذبحه، فما بقاء الناس على هذا؟! وقالت له ابنة أخته: والله لا تذبحه حتى تعذر فيه (أى تبدى العذر عن النذر) فإن كان فداؤه فديناه بأموالنا. ذهبوا إلى عرافة فى أرض الحجاز، فأشارت عليهم بأن يقدموا الدية وهى عشرة من الإبل ويقرع بينها وبين الذبيح، فإن كانت القرعة عليه زادوا فى الإبل، حتى تكون القرعة عليها. أصاخوا إلى صوتها، وأجمعوا الأمر، ثم قربوا عشرا من الإبل وعبد الله الذبيح، فقرعوا بينها، فكان السهم على عبد الله، ثم زادوا حتى صارت عشرين، فكان القدح أيضا على عبد الله، فزادوا حتى صارت ثلاثين، ولكن خرج القدح على عبد الله أيضا، واستمرت الزيادة عشرة بعد عشرة حتى وصل العدد مائة من الإبل، ثم ضربوا القداح فخرج القدح على الإبل. فقالت قريش: قد انتهى الأمر، ورضى ربك بالفداء يا عبد المطلب. ولكن عبد المطلب يريد أن يستوثق من الرضا بالفداء، فزعم الرواة أنه ضرب مرة ثانية وثالثة، والقدح يخرج على الإبل، فنحرت الإبل، وتركت للناس لا يصد ولا يمنع إنسان. 67- وإن دل هذا على صفة من صفات عبد المطلب، فهى تدل على صفة الرجل المريد لما يفعل، القوى فى عزمه، الصادق فى نفسه واختياره، وهو يدل على قوته فى البلاء، وتحمل الصبر على ما يكره، وإن تقاضاه الصبر ذبح أحب أولاده إليه، فاختبر، وابتلى فأحسن البلاء. والرجل القوى ليس هو الذى يخضع إرادته لهواه، أو عزمته لشفقته، إنما القوى حقا وصدقا هو الذى يجعل الإيمان والإرادة يغلب الهوى والمحبة، وقد كان عبد المطلب القوي، ولا يمنع ذلك أن يكون

عبد الله

شفيقا محبا، فإذا امن بفكرة نفذها بقلب قوى صابر، وبنفس مطمئنة راضية، ولو كان مصدر إيمانه باطلا. وكان قوى الجنان ثابت الجأش لا يضطرب، ولا يهن ولا يضعف عند المفاجأة، ولا تذهب نفسه شعاعا، عندما يكون الأمر المخوف. جاءت الحبشة بملكها، وأفيالها، وأقبل على مكة جيش لجب قوى مستند بأقوى العدد، وبأكثر العدد، فانخلعت القلوب واضطربت إلا قلب عبد المطلب كبير قريش، وسيد البطحاء، وكان يحسن القول، ويرهب بقوله فى هدأة من غير هوادة فى الحق. جاء الجيش الحبشي، واستاق إبلا لأهل مكة، ومن بينها إبل لعبد المطلب، فذهب إلى لقاء أبرهة ملك الحبش وقائد جيشهم، ومعه الرهبة والطغيان، فما اضطرب قلب كبير البطحاء، بل ذهب إليه، وكانت فيه هيبة، وله سمت كريم يهابه من يلقاه، ويطمئن إلى سماحته، فعند اللقاء وقع فى قلب أبرهة هيبته فسأل عما جاء إليه، فسأله أن يرد الإبل، فقال إنه حسبه جاء يسأل عن الكعبة، وقال مستنكرا «أراك تسأل عن إبلك ولا تسأل عن الكعبة» فأجابه فى قوة أوقع الرعب فى قلبه بإجابته «أما الإبل فأنا ربها، وأما البيت فله رب يحميه» والجواب فيه إرهاب وتخويف، إذ أنه يقول له: لا تظن أنك منتصر، أو غالب، أو مقتلع البيت الذى جئت لهدمه، فإن ذلك فوق قدرتك، بل فوق طاقتك، لأنه بيت الله والله يحمى بيته، ولن تنتصر، فالله خاذلك. جواب مرهب مفزع، ولكن فى هدوء الحكيم، ورفق الذى يزن القول، ويعرف موقعه. ولذلك كلام مفصل فى موضعه إن شاء الله تعالى. عبد الله 68- ذلك هو الجد القريب الذى تربى النبى عليه الصلاة والسلام فى حضنه، والذى رأى أول ما رأى عزة الرجال، وحكمة الشيوخ، وعطف الأبوة التى عوضه بها عن أبيه الذى لم تكتحل عيناه برؤيته، ولابد أن نذكر كلمة عن الرجل الذى افتدته قريش كلها، وهو عبد الله أعز أولاد أبيه إليه، وأقربهم منه، لقد كان أحب أولاد عبد المطلب العشرة «1» وقد اتسم بالجمال فكان أجمل قريش وأحب الشباب إليها.

_ (1) العشرة هم الحارث والزبير وحمزة وضرار وأبو طالب واسمه عبد مناف، وأبو لهب، واسمه عبد العزي، وعبد الكعبة، والمغيرة، ونوفل، وعبد الله.

الأم:

وكان فى خلقه طيبة نفس، واطمئنان قلب، ورضا بما يجرى به القدر مع استعداد للفداء، إن كان ما يقتضيه، لم يتردد أن يقدم نفسه لأبيه ليوفى بنذره، فاستعد لأن يذبح، فكان الذبيح الثانى بعد جده العظيم إسماعيل، وإذا كان فداء إسماعيل بذبح عظيم كان من أمر الله تعالي، لأن الله تعالى اختبر إبراهيم بما رأى فى المنام، ومادام الاختبار، فالفداء يكون بأمر الله تعالى ونهيه. أما ذبح عبد الله، فكان بنذر من عبد المطلب، فكان الفداء برأى أهل مكة، فما كان من البشر يكون منهم، وما كان من الله تعالى، فالأمر إليه، وكان لجمال وجهه، ولطيب نفسه، موضع اجتذاب الناس، ومحبتهم، فلم يسلموه لأبيه، وقد أراد قتله، ونجوه من يد أبيه الشفيق الحازم المريد القوى فيما يريد، وإن كان شديدا عليه. وكان موضع اجتذاب النساء لوسامته وجاذبيته، ولكنه كان العفيف الذى لا يريد إلا الحلال، ولا يبتعد عنه، وكأنه يبتعد عن الحرام مروءة، وكرامة نفس، لا لتنفيذ أوامر إلهية، بل أمر مروءته واحتفاظ كرامته يستجيب لهما، كأوامر المصادر الدينية. تعرضت له امرأة، راقتها وسامته، وجذبتها طيبته، فأرادته لنفسها، وربما راودته عن نفسه، ولكنه العيوف الذى لا يشتار إلا عسلا يملكه حلالا نكاحا، ولا يريده نزوة أو سفاحا، فيردها الشاب القوى الذى لا يستهواه الهوى قائلا: أما الحرام فالممات دونه ... والحل لا حل فأستبينه فكيف بالأمر الذى تبغينه ... يحمى الكريم عرضه ودينه صان الشاب نفسه، وصان أمانته، وصان خلقه وكرامته، فلم يتدل كما تدلى الشباب من قومه، لأنه أراد أن يعيش طاهرا كريما محبوبا، لينقل وديعة الله تعالى للإنسانية الذى ينقل رسالته سبحانه وتعالى إلى خلقه وذلك بزواج طاهر حلال. الأم: 69- كل فتاة فى قريش كانت تتمنى أن يكون الشاب عبد الله بن عبد المطلب شيبة الحمد أن يكون لها زوجا، وأن يكون لأولادها أبا، وقد قارب العشرين أو يزيد من عمره، عفيفا، لم يزن بريبة، ولم يعرف عنه نزوع إلى شر، بل كان ينزع إلى الخير، ولا يزيد، ولأبيه عليه حق الطاعة فى غير معصية، إذ كان له ملازما، لا يستطيع له فراقا، ولا خلافا. لأنه حب أبيه، وصفيه المختار. وقد اختار أبوه له زوجا امنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة أخى قصي، وابن كلاب، وكان أبوها سيد بنى زهرة، كما كان عبد المطلب سيد بنى قصي، ثم سيد مكة جميعها غير منازع، لأنه

محمود النقيبة حكيما بين قريش لا يطيش، ولا يجبن، ولا يرهق أحدا، فكان السيد المطاع فى غير جبر، ولا إعنات، ولا تضييق، ولقد التقى الشاب مع أبيه فى الإصهار إلى بنى وهب بن زهرة، إذ أن عبد المطلب كان قد تزوج هالة بنت وهب بنت عم امنة، واختار لابنه امنة. وهى بنت عم لزوجته التى أنجب منها حمزة بن عبد المطلب «1» الذى صار فى جهاده للإسلام سيد الشهداء، وصفية أم الزبير بن العوام حوارى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وبذلك التقت فى حمزة بن عبد المطلب ثلاث صلات بالنبي، أولها أنه عمه، وثانيها أنه ابن بنت عم أمه، وثالثها أنه أخوه فى الرضاعة، وفوق ذلك أنه ثانى عميه اللذين تصديا للدفاع عن النبى عليه الصلاة والسلام فى مواجهة قريش فى مكة، ولكنه الثانى الذى دافع عنه لا بمقتضى حكم القرابة القريبة الوثيقة، بل بذلك وبحكم الإيمان بالرسالة المحمدية، والجهاد فى سبيل الله، فكان سيد الشهداء حقا. وكذلك كانت صفية بنت عبد المطلب لها بالرسول قرابتان: قرابة العصب، وقرابة الرحم، فهى عمته أخت أبيه، وهى ابنة هالة بنت عم أمه، وكانت معه فى الرخاء وفى الكريهة، وفيها شجاعة ال عبد المطلب. وبنو زهرة مع التقائهم فى نسب النبى فى جده كلاب كما سماه العرب، وحكيم كما سماه التاريخ لما فيه من حكمة، لم يكونوا مع بنى هاشم فى خلاف، ولا منافسة جرت إلى عداوة فى جاهلية أو إسلام، بل كانوا لهم معاونين ومناصرين وموادين، لا بقضاء يسيطر على نفوسهم، ولكن مودة تربط على قلوبهم. ولقد قالوا فى الأخبار كان كلابا ممن يؤمن بأنه سيكون نبى من قريش، وكان يخطب قومه كل جمعة ينبههم بذلك «2» وإن صح ذلك الخبر فمؤداه أن كلابا هذا كان من أشد المستمسكين بإبراهيم، ونبى من بنى إسماعيل، ولا يمنعنا ذلك من أن نقول أنه تأشب إيمانه بالله تعالى بعض أثارة من الوثنية الجاهلية، فنحن لا ننفى هذا عن عقلاء العرب، وذوى الأخلاق والهمة فيهم كعبد المطلب، ومن بعده ابنه أبو طالب سيد مكة، وحامى الرسول، ومانعه من الأذى. وامنة تلتقى مع النبى صلّى الله عليه وسلّم من جهة أمها برة بنت عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصى جد النبى صلّى الله عليه وسلّم.

_ (1) ابن كثير الجزء الثانى ص 251. (2) البداية والنهاية لابن كثير ج 2 ص 254.

70- وهنا يثور كلام يجيء فى أخبار عن عبد الله أبى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أكانت له زوج غير امنة تزوجها قبلها أو بعدها وأن امنة إحدى اثنتين كانتا زوجين لعبد الله. قال ابن إسحاق صاحب السيرة «فقد ذكر أن عبد الله إنما دخل على امرأة كانت له مع امنة بنت وهب وقد عمل فى طين له وبه اثار من طين، فدعاها إلى نفسه، فأبطأت عليه لما رأت به من أثر الطين فخرج من عندها فتوضأ، وغسل ما كان به من ذلك الطين» ، ثم خرج عامدا إلى امنة فمر بالمرأة فدعته إلى نفسها، فأبى عليها، وعمد إلى امنة فدخل عليها عليها وأصابها، فحملت بمحمد (صلّى الله عليه وسلّم) ثم مر بامرأته تلك، فقال لها: هل لك؟ قالت، لا، مررت بي، وبين عينيك غرة بيضاء فدعوتك فأبيت على، وذهبت إلى امنة، فذهبت بها» «1» . وإنا نرد ذلك الخبر، ونؤمن بأن عبد الله ما تزوج إلا امنة أم محمد خير الخلق والنور المنبثق فى هذا الوجود، وإنما نقرر ذلك: أولا:: لأنه خبر انفرد بذكره ابن إسحاق، ولم ينقله، ولم يأت فى كتب السنة الصحاح، ولو كان عبد الله له زوج أخرى لاشتهر ذلك، ولذكر فى الأخبار، كما ذكر خبر زواج عبد المطلب المتعدد، وأولاده من كل زوجة تزوجها وبيان نسبها، ومن تنتمى إليهم، وما كان عبد الله أبو سيد الخلق بأقل شأنا من أن يعرف زواجه الأول والثانى، من عبد المطلب إن كان قد عدد الأزواج، وقد علا شرف عبد الله بأبوته لمحمد، فليس بأقل من أبيه الكريم، والسيد العظيم. وثانيا: أن هذه الزوج المزعومة لم تذكر متى كان زواجها منه، وما أحوال ذلك الزواج لو كان حقا، وما الذى انتهى إليه، ولماذا تزوج أخرى فى هذه السن المبكرة؟ إن عدم ذكر شيء من هذا فى ذلك الخبر يجعله غير قابل للتصديق، وهو غريب فى ذاته. وثالثا: أن المذكور فى السير أن المرأة المشار إليها كانت قد طلبت أن يصيبها، ولم تذكر زواجا، وأنه أجابها بالاستنكار، وقال البيتين المشهورين عنه اللذين يفيدان أنه لا يقبل إلا الحلال الذى يسوغه له عرضه وكرامته، وشرف أسرته، وقد أشرنا إلى ذلك من قبل. ورابعا: أن الخبر يحمل فى نفسه دليل بطلانه، لأنه يذكر أنه طلبها وهو مغبر بطين، فلم ترض، وكان المعقول وقد طلبها طلب الرجل لامرأته وأنها مانعته حتى يغتسل، وأنه اغتسل أن يذهب إليها،

_ (1) السيرة لابن هشام ج 1 ص 157 طبع الحلبى.

صفات سامية فى امنة:

وإذا عاد إليها بعد امنة وهى إحدى زوجتيه، فإنه ليس لها أن تمتنع عليه لأنها زوجه، فكيف يقال من بعد أنه رضيت به لغرة نور فى جبينه، ولو كان ذلك هو السبب، ما منعها عند إجابته وعلى ثيابه طين، لأن الأساس فى نظرها أن تصل إلى أن يكون النور فى رحمها لا يمنعها غبار طين أو نحوه. فالخبر مضطرب فى مبناه متناقض مع العقل فى معناه، فيردّ جملة وتفصيلا. صفات سامية فى امنة: 71- اتسمت امنة كما يبدو من أخبارها، أنها كانت صبورا، وكانت تشبه البتول فى سموها، وفى اصطفاء الله تعالى لها فى أن تكون أما لسيد البشر محمد صلّى الله عليه وسلّم كما اصطفى مريم البتول لتكون أما للمسيح عليه السلام، ولكن امنة، ولدت محمدا وحملت به كسائر البشر. وكانت شبيهة بالبتول فى الصبر، وفى خلاصها من فتن الزواج، وكونها حملت صاحب أكبر رسالة فى هذا الوجود. إنها منحت زوجا مرموقا محبوبا تتمناه كل فتيات عصره، ولكنه سرعان ما غادرها بعد الزواج بمدة قصيرة، قدرها بعض الإخباريين بأنها ثلاثة أيام أو ثلاثة أشهر، سافر ليمتار لأهله من قريش تمرا، فذهب لأخوال أبيه بنى النجار، ومات هناك. فهذه الأم الصبور على فراق زوجها الشاب، ولم تشتر عسل الزواج ورضيت الحرمان فى سبيل نفع قومها، إذ ذهب ليجلب لهم رزقا، والمرأة الفاضلة ترضى باغتراب من تحب إذا كان الاغتراب لنفع قومه، وإصلاح حالهم، وارتضت صابرة، أن يولد ولدها الحبيب فى غيبة زوجها الحبيب الذى لم تلبث أن نالته حتى بعد عنها، فكان الرضا بالانتساب إليه يغنى عن المتعة بقربه، واكتفت من متعة هذا الزواج الطاهر بمتعة قرة عينها ولدها الحبيب محمد صلّى الله عليه وسلّم، وعاشت مطمئنة إلى أمل اللقاء، وأن يجمع الله تعالى الشمل المتفرق كما أراد رب العالمين، ولكن الله جلت قدرته أراد اختبارها فأفقدها زوجها فى غربته، فكانت الصابرة الكريمة القائمة على تربية ولدها، الراضية بأمر ربها من غير أن يعرف عنها تململ بحياتها وعيشها. ولما استغنى ولدها عن المراضع شدت رحالها مع وليدها، وقطعت الفيا فى والقفار فى مشقة لا يقدر عليها إلا الصابرون، وذهبت إلى يثرب لترى قبر زوجها الذى اختيرت له وهو مرمى الأنظار

والحبيب فى مكة وأبى القدر الحكيم إلا أن ترى بعد ذلك رمسه المدفون فيه، وهى فى كل هذا الصبور المطمئنة إلى قدر الله تعالى العادل: لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، وَهُمْ يُسْئَلُونَ «1» . ومكثت هناك بجواره مدة لا تقل عن ثلاث سنين كان فيها متاع حسن بالنسبة لها، إذ كانت قريبة من زوجها الحبيب، وقد ارتضت ذلك واطمأنت نفسها، فهى الصابرة الامنة كاسمها، الشريفة كقومها، الكريمة كمحتدها. ويظهر أنها لم ترد أن يبعد ابنها عن قومه، وهم أشراف مكة، ولم تكن التى تضن به على جده فهى تؤثره على نفسها دائما وقد احتملت المشقة وأخذت تقطع الفيافى والقفار، وليس معها إلا جارية تعينها على مشقة الطريق، وتكون لها رفيقة مع بعد الشقة، وتعاونها فى حضانة الغلام النورانى. ولكن هذه المجاهدة فى سبيل الوفاء، والإخلاص للولد ولجده أجهدتها الرحلة فماتت، وهى عائدة إلى مكة ودفنت بالأبواء بين مكة والمدينة، وهى إذ أسلمت روحها، ودعت الدنيا تاركة عزيزها، كما ودعت أباه من قبله، ولكن وداعها الأول كان لعزيز إلى طريق الأبدية، أما وداعها من بعد، فكان لولدها العزيز، وتركه إلى طريق الحياة والجهاد فيها، ولكنها تركته إلى رعاية الله تعالى مع الجارية التى صحبتها، فرعاه الله تعالى وصنعه تعالى على عينه، حتى وصل إلى جده العظيم فى قومه فاحتضنه. وهنا نقف وقفة قصيرة، لننظر إلى تلك المجاهدة الهادئة الصبور، فإذا قلنا إنها عاشت كالعذراء إذ لم يكن إلا أنها حملت سر هذا الوجود، وكأنها أودعت أمانة النبوة لتحتفظ بها، وكأنها كالبتول العذراء، بيد أن هذه لم تصطفها الملائكة، عزاء من رب العالمين، إذ اختارها وتعهدها نبى وأقامها فى المحراب وكانت فى رعاية ظاهرة، وأما امنة بنت وهب فقد خوطبت بلسان الفطرة المستقيمة، وعلمت بحكم الباعث فى نفس طاهرة أنها حملت أمانة، واستمرت الأمانة معها فى رعاية الله تعالي، وهى حاملة ما حملت غير وانية ولا مقصرة، ولا هادى يهديها إلا ما انبعث فى نفسها من نور الفطرة، والإحساس بعبء الأمانة.

_ (1) سورة الأنبياء: 23.

الجنين المبارك

الجنين المبارك 72- إن أحداث هذا الوجود تسير علي مقتضى ناموس كونى ثابت عند رب العالمين، قد أراده الله تعالى بحكمته وتخيره بإرادته، وأقامه بقدرته، وليس للمصادفة حكم عند الله، وإنما حكمها لا يتجاوز ما عند الناس، لأنهم يربطون الأسباب بمسببات بحكم العادة، ويطبقون عليها نظام قانونهم المحسوس المعلوم، فإذا خالفه قالوا إنه مصادفة، وهذا نظر الذين يدركون الماديات، ولا يدركون ماوراءها، ويحكمون بالمحسوسات، ولا يحكمون بأن ثمة سلطانا قاهرا لخالق الأسباب والمسببات، وأنها لا تقيد إرادته، بل هو الذى يقدرها بحكمته. وقد صرح سبحانه بأن أهل القرى لو آمنوا واتقوا لأنزل لهم الرزق مدرارا، فقال تعالت كلماته، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ «1» . وصرح سبحانه بأنه أنزل الرجز على الذين ظلموا من ال فرعون، وقد ربط الله تعالى ذلك بعصيانهم، فقال تعالت كلماته فى قصصهم وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ. فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ. وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ. فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ. وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ. فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ. فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ. فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ «2» . وإن هذه النصوص الكريمة تدلنا دلالة قاطعة على أن الله ينزل البركات لمن استقاموا على الطريقة، إن سلكوا طريق الوصول إلى الخير وتوكلوا عليه سبحانه حق التوكل، وأنه يصيب الأقوام بالرجز والحرمان والبلايا إن هم طغوا وبغوا، فى ترتيب محكم سنه سبحانه وتعالى وأراده، وإن خالف ما نعلم من الأسباب والمسببات. لسنا نقول مقالة قدماء الصين من أن الكون يضطرب، وما فى السماء يختلف إذا عصى ابن الأرض وأفسد ولم يصلح، فإن ذلك كلام قوم وثنيين يؤمنون بالمحسوس، ولكنا نقول مقالة المؤمنين، إن

_ (1) سورة الأعراف: 96. (2) سورة الأعراف: 130- 136.

أصحاب الفيل

مدبر الكون يجرى الأمور على مقاديرها بما قدره سبحانه وأراده، وعلى ما ارتضاه من نظام لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، وَهُمْ يُسْئَلُونَ «1» . 73- سقنا هذا الكلام لتوضيح أن محمد بن عبد الله قد كان وجوده بركة على قومه من وقت أن علقت به أمه إلى أن قبضه الله تعالى إليه، وأن البركة التى اتاها الله تعالى لقومه مباشرة من وقت العلوق به فى بطن أمه، كانت خيرا على الإنسانية كلها، لأنها حمت البيت الذى كان أول بيت للناس، وهو كعبة المسلمين. وهو المكان المقدس الذى قدسته الأديان كلها كما أسلفنا من قبل. وقد كان إنقاذ البيت، وهو فى بطن أمه، إذ أن أبرهة ملك الحبشة واليمن أراد اقتلاع البيت من مكة وهدمه، وأن يا بنى بدله فى اليمن ليكون ذلك البيت الجديد هو مزار العرب، ومثابتهم وأمنهم كما كان البيت، وفى ذلك مصادمة لدعوة إبراهيم عليه السلام، إذ يقول رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ، رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ، فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ، وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ «2» . وقد استعد بخيله ورجله من قبل الحمل بالنبى، وساور مكة وأمه حامل به، وقد ردهم الله مدحورين ببركة الجنين الذى بعثه الله تعالى برسالة تشرف البيت الحرام وتحميه، ولنعرج على ذلك بكلمة موضحة موجزة. أصحاب الفيل 74- ال أمر اليمن إلى رجل من الحبشة اسمه أبرهة، وصار لها حاكما بأمره، وبنى بها كنيسة فخمة بصنعاء سماها القليس، وأراد أن يحج إليها العرب، وخاصة النصارى منهم، فلم يؤثروها على البيت الحرام، ولم يستبدلوها به، وبعد بنائها بعث إلى النجاشى بالحبشة، وهو لا يزال يعتبر نفسه تابعا، وجاء فى هذا الكتاب «إنى بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يبن مثلها لملك قبلك ولست بمنته حتى أصرف إليك حج العرب» . ولكن رجلا من العرب أدرك هذا المراد. فأراد تحقيرها، وأحدث فيها شيئا استهانة وسخرية. فلما رأى أبرهة احتقار العرب لها، واستمرارهم على الذهاب إلى البيت الحرام من غير وناء ولا تقصير لم يجد بدا لتنفيذ إرادته إلا أن يهدم البيت الحرام بجيش يسيره مجهزا بأعظم عدة، وخرج بالفيل الذى يستخدمونه فى الحرب مع الإبل والخيل.

_ (1) سورة الأنبياء: 23. (2) سورة إبراهيم: 37.

أفزع ذلك العرب وأعظموه، ورأوا مدافعته حقا عليهم، فنفر منهم نفر بقيادة بعضهم وهاجموا أبرهة، ولكنه هزمهم، ومضى قاصدا البيت الحرام، لا يقاومه أحد من العرب إلا هزمه، واستمر سائرا لا يلوى على أحد من العرب إلا أخضعه. وصل إلى الطائف، وقد رأوا ما حل بغيرهم فمالأوه، وخصوصا أنهم كانوا ينفسون على قريش ما كسبوه من شرف لقيامهم على سدانة البيت، وحاولوا أن يجعلوا مكان تقديسهم بيتا بنوه للات إلههم المزعوم. أهم الأمر من بمكة من قريش وكنانة وهذيل، وسائر من كان بها، وعلموا أنه لا قبل لهم بمقاومته لما عنده من قوة، ولأن الانتصارات المتتالية فى طول طريقه إلى مكة زادته قوة، وزادتهم خوفا، فسكتوا حتى يكشف المخبوء فى قدر الله تعالى. ولعل الفزع قد غلب عليه مما علم من منزلة للبيت فى الكتب المقدسة، ومنها كتب النصارى التى أشارت إلى ذلك، فلم يرد أن يستمكن من البيت عنوة، بل أراد أن يسلمه له أهله، لا ليزيد بناءه، بل ليهدمه، فإن فعلوا كان ذلك مبررا فى زعمه. ومهما يكن فإنه قد تردد فى القتال، أو أراد أخذه بسلام، فأرسل رسولا إلى مكة، وقال له: سل من سيد أهل هذا البلد وشريفهم، ثم قل له «إن الملك يقول لكم إنى لم ات لحربكم، إنما جئت لهدم هذا البيت، فإن لم تعرضوا له بحرب، فلا حاجة لى بدمائكم: فإن هو لم يرض إلا حربى فأتنى به» . ذهب الرسول إلى مكة، وعلم أن سيد البلد وشريف مكة هو عبد المطلب بن هاشم فبلغه الرسول، فأجابه عبد المطلب إجابة سليمة، ولكن فى طيها إيمان بالله رب البيت، وذلك لا يخلو من إرهاب بقوة الله. قال عبد المطلب للرسول: «والله ما نريد حربه، وما لنا بذلك من طاقة، هذا بيت الله الحرام وبيت خليله إبراهيم، فإن يمنعه منه فهو بيته وحرمته، وإن يخل بينه وبينه فو الله ما عندنا دفع عنه» . كان هذا الكلام السهل اللين يخفى فى نفسه إنذارا شديدا لرجل كتابى نصراني، لأنه بهذا الكلم اللين ينبهه إلى أنه لا يحارب أحدا من أهل مكة إنما يحارب الله، ويهدم بيتا بناه بأمر الله أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام، فهو مع هذا اللين يتضمن تهديدا يروّع من كان عنده اعتقاد بالله، وإيمان برسالته. وقد كان بلا ريب لذلك الكلام وقعه، ومن الكلام الهادىء ما يفعل فى النفوس ما لا تفعله المقاومة بالسيوف، وخصوصا إذا كان الكلام لمن تعود الانتصار فى الحروب، وهزيمة من يدافعه، إذ فى هذا الكلام تهديد بحرب لم يألفها ولم يعرفها، وهى حرب الله، وحرب أبى الأنبياء.

75- استاق جيش أبرهة إبلا لعبد المطلب، وقد طلب هو لقاءه فلقيه ليؤكد ما قاله لرسوله بالقول المتضمن فعلا، إذ قرر أن يطالبه برد الإبل التى استاقها جيشه بعلمه أو بغير علمه. التقى عبد المطلب المهيب غير المرهوب بعد أن علم أبرهة قوله. ولقد كان عبد المطلب من أوسم الناس وأجملهم وأشدهم هيبة، فلما راه أبرهة أجله وأكرمه، فنزل عن سرير ملكه وجلس بجواره، ثم قال له بلسان الترجمان: قل حاجتك. فقال للترجمان: حاجتى أن ترد لى إبلى، مائة بعير أصابها، فقال أبرهة: كنت أعجبتنى حين رأيتك، ثم زهدت فيك حين كلمتنى. أتكلمنى فى مائة بعير لك، وتترك بيتا هو دينك ودين ابائك قد جئت لهدمه لا تكلمنى فيه. فقال عبد المطلب- يضع أبرهة أمام الله تعالى وجبروته الذى فوق كل جبروت: أنا رب الإبل، وإن للبيت ربا سيمنعه. قال أبرهة، وقد غلب عليه الفزع: ما كان ليمتنع منى. قال عبد المطلب: أنت وذاك. لا شك أن عبد المطلب يهدده بالله، أولا بتأكيد أن الله مانع البيت، وثانيا بأن قال له أنت وذاك، كان التهديد واضحا، وإن كان هادئا، ولعل الذى قوى وقعه هدوءه، فالهدوء يخاطب النفس فتعتبر، وخصوصا لمن تعود الانتصار المادى الذى يكون فيه إيمان فى الجملة بالغيب، وأبرهة نصرانى. عندئذ تحقق رجاء عبد المطلب فى ربه، وتحقق أمر الله ببركة الجنين الذى حله فى بطن أمه، وهو سيد الخلق محمد صلّى الله عليه وسلّم. أرادوا بالفيل أن يسير متجها إلى البيت الحرام، فوقف ولم يسر إليه وحبسه الله تعالى عنه، فوجهوه إلى اليمن، فاتجه، فوجهوه إلى الشام فاتجه، ثم أرادوا أن يوجهوه إلى البيت، فامتنع «1» ، ولهذا كانت إرادة الله أن ينجو البيت ببركة الجنين المستكن فى الغيب المستور. ولو أن أبرهة اعتبر واعتزم العودة إلى اليمن لرضى من الغنيمة بالإياب، ولكنه اعتزم تنفيذ نيته، فلم يبق إلا أن يأخذه الله تعالى أخذ عزيز مقتدر، فأرسل الله تعالى طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل، كما قال سبحانه وتعالى فى سورة الفيل: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ. أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ. وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ. تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ. فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ «2» .

_ (1) الاكتفاء ج 1 ص 1- 5. 132، 133، 134 ومن تاريخ البداية والنهاية لابن كثير. (2) سورة الفيل: 1- 5.

أتتهم رياح عاصفة، ومعها طير جاء جماعة بعد جماعة، ترميهم بحجارة صلبة شديدة قوية تنفذ فى الجسم، لا تبقى فى ظاهره، بل تدخل فى باطنه، وراء جلده، وقد جعلتهم كعصف مأكول، أى كبقل أكل لبه، وبقى قشره، وقد قال علماء الأخبار أن تلك الحجارة الصلبة التى أرسلها الله تعالى بريح عاصف كانت صغيرة تشبه حب العدس، وأن الطير كان يحملها فى منقاره، وفى رجليه. ولقد قال بعض الكتاب إنهم أصيبوا بالجدرى قرح أجسامهم، ولعل جرثومة ذلك الداء الوبيل كانت فى الأحجار التى رمتها الطيور التى جاءتهم وباء وبلاء، وإهلاكا، وقد كادوا من الشر كيدهم، ودبروا بالفساد أمرهم، وتحدوا بيت الله وهو أول بيت وضع للعبادة، والذى كرمه الله وباركه. وليس عندى ما يمنع أن يكونوا قد أصيبوا بالجدرى بما رماهم الله تعالى به، فقد قال ابن إسحاق فى سيرته «حدثنى يعقوب بن عيينة أنه أول ما رميت الحصبة والجدرى بأرض العرب كان فى ذلك العام» هذا كلام مقبول إذا قلنا أن الحجارة كانت تحمل معها جرثومة هذه الأمراض الفتاكة، ولكن ما لا يقبل هو القول بأن الطير هى جراثيم ذلك المرض، لأن هذا يكون مخالفا لنص الاية الكريمة، إذ أن نص الاية الكريمة يفيد أن الطير رمتهم بحجارة قوية شديدة. 76- إن ذلك العذاب الأليم الذى أصابهم فى الدنيا، فبعد أن أرسل الله تعالى عليهم الطير الذى جاء جماعة بعد جماعة، ورماهم بالحجارة الجامدة التى كانت تنفذ إلى جسمهم، وتضع فيه جراثيم الأمراض الوبيلة كالحصبة والجدرى، وصاروا يتساقطون فى الطرق، ويهلكون كل مهلك، وقد وصف حالهم ابن إسحاق فقال: «خرجوا يتساقطون ويهلكون بكل مهلك على كل منهل، وأصيب أبرهة فى جسده، وخرجوا به معهم يسقط أنملة بعد أنملة، كلما سقطت أنملة أتبعتها منها مدة (صديد) تمت قيحا ودما، حتى قدموا به صنعاء، وهو مثل فرخ الطائر، فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه فيما يزعمون» . عاد من حيث خرج، ولكن فرق ما بين العودة والخروج، إنه فى الخروج، كان قويا فى بدنه مغرورا فى نفسه يصحبه جيش لجب، يحسب أن لن يغلبه أحد، وقد غلب من قاومه حتى إذا جاء إلى رحاب الله يتحدى الله تعالى فى بيته، ويريد هدمه، وقد جعله الله تعالى مباركا، عاد مذموما مدحورا، مقصوص الجناح، لا مجازا ولكن حقيقة، فقد تقرح جلده، وتساقط، وذهب تدبيره كله فى ضلال العماء. وقد استجاب الله تعالى لعبد المطلب، وهو اخذ بحلقة باب الكعبة يقول: لا هم أن العبد يمنع ... رحله فامنع رحالك لا يغلبن صليبهم ... ومحالهم غدرا محالك

ولد الهدى

كانت واقعة الفيل هذه وامنة الطاهرة كالبتول حاملة قد أودعها الله تعالى خير الخلق محمدا صلّى الله عليه وسلّم فكان مباركا على العرب، وعلى الناس أجمعين من يوم أن حملت به أمه. وما حملت به كرها، وما كان فصاله كرها، فما كانت تحس بشدة فى حمله، وما أحست بشدة فى فصاله، ولقد قالت السيدة امنة الطاهرة: «لقد علقت به، فما وجدت له مشقة حتى وضعته، فلما فصل منى خرج معه نور، ثم وقع على الأرض معتمدا على يديه» . ولد الهدى 77- سبقت محمدا فى الوجود بركاته، فقد ولد كما يقول أكثر الرواة بعد خمسين يوما من مغادرة الفيل وأصحابه مدحورين، بعد أن أباد الله تعالى أكثرهم، وقد ابتلعتهم الأرض، بعد أن غرهم الغرور. وقبل أن نخوض بالقول فى مولده صلّى الله عليه وسلّم، نقول أنه ولد وأبوه غائب، ذلك أننا ألمحنا فى القول أنه ترك زوجه وقد ذهب فى عير ليمتار لأهله، وليتجر فى كسب رزقه، فسافر فى عير لقريش، وكان الوفى الأمين، فانتهز فرصة ذهابه إلى يثرب، وزار قبر جده هاشم الذى كان يهشم الثريد، الذى يأكل منه الحجيج، ولكنه لم يعد من غربته، بل أصابه المرض فى بيت بنى النجار، وعاد العير الذى كان معه، وتركوه حزانى على تركه مدنفا بمرض عضال فى بيت بنى النجار أخوال أبيه، وأصهار جده الكريم، وعادوا إلى مكة، وأخبروا أباه الذى حدب عليه، وزوجه الصبور التى صبرت على غيبته، وجمل لها الصبر لأنها كانت ترجو لقاءه، ولكن حرمت من هذا، ففظع الأمر عليها، ولكنها الصبور مع رقة صباها. وإن عبد المطلب أرسل إلى ابنه الحبيب كبير أولاده الحارث، فذهب إليه، وقد رأى فراق نفسه، وقيل أن الموت سرى إليه، ولم يجده أخوه إلا ميتا. فإذا كان الأب قد ثكل ابنه الحبيب فتجلد، فقد فقدت الأم الزوج الحبيب، فكان منها الصبر المرير، ولكنه مع ذلك كان الصبر الجميل، وهو الصبر الحبيس الخالى من الضجر والأنين. ولادته قبل وفاة أبيه: 78- أكثر الرواة على أنه ولد صلّى الله عليه وسلّم بعد وفاة أبيه عبد الله، ولكن روى أنه توفى بعد أن وضعت امنة حملها، ومنهم من أقصر المدة ومنهم من أطالها، حتى أوصلها إلى نحو ثلاث سنين، فقد قال ابن حزم الظاهرى ما نصه:

«ولد صلّى الله عليه وسلّم بمكة، إذ مات أبوه، وهو لم يستكمل ثلاث سنين، وماتت أمه، وهو لم يستكمل سبع سنين» . وإن هذا القول يتقارب مع من يقول أن أباه عليه السلام مات بعد ولادته عليه الصلاة والسلام بنحو ثمان وعشرين شهرا، ولكن كلام ابن حزم يومىء إلى مدة أطول، لأن الثمانية والعشرين شهرا هى سنتان وثلث، ولا يقرب من ثلاث سنين. فقد روى عن عوانة بن الحكم أنه قال هو وأبوه أن عبد الله توفى بعد ما أتى على رسول الله ثمانية وعشرون شهرا، وقد قيل: توفى بعد ولادته بسبعة أشهر. وإننا نستبعد كل الاستبعاد أنه توفى والنبى عنده نحو ثلاث سنين، كما نستبعد أنه ولد من بعده، لإجماع الرواة على أنه عليه الصلاة والسلام استرضع فى بنى سعد، وهو يتيم، ومن كان أبوه حيا لا يعد يتيما، وإذا كانت الرضاعة أقصى مدتها فى الغالب حولان كاملان لمن يريد أن يتم الرضاعة، وقد أرسل إلى المراضع فى أولها أو بعد مضى وقت قصير من الولادة، فلا يمكن أن يسمى عند أخذه وأبوه حى يتيما، وإجماع الرواة على وصفه باليتم عندما أخذته حليمة التى أرضعته. وإن الذى رجحه الرواة- وعليه الكثرة الكاثرة- أن أباه توفى وأمه حامل به. وقد قال ابن كثير فى تاريخه «والمقصود أن أمه حين حملت به توفى أبوه عبد الله وهو حمل فى بطن أمه على المشهور» . وقد روى ابن سعد عن عبد الرحمن بن أبى صعصعة، قال: «خرج عبد الله بن عبد المطلب إلى الشام فى عير من عيرات قريش، ففرغوا من تجارتهم، ثم انصرفوا فمروا بالمدينة، وعبد الله بن عبد المطلب يومئذ مريض، فقال: أتخلف عند أخوالى بنى عدى بن النجار، فأقام عندهم مريضا شهرا.. فبعث إليه عبد المطلب أكبر ولده الحارث فوجده قد توفى ودفن.. فوجد عليه عبد المطلب وإخوته وجدا شديدا، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم حمل، ولعبد الله يوم توفى خمس وعشرون سنة» . ويؤخذ من هذا الكلام أن رحلة عبد الله إلى التجارة كانت فور زواجه أو بعده بقليل كما توميء عبارة ابن كثير. وأن عمره يوم الوفاة كان خمسا وعشرين، وكانت رحلته بعد الزواج بقليل، ويستفاد من هذا أنّ الزواج كان بعد العشرين وقرب الخامسة والعشرين. ولقد قال الواقدى فى وفاة عبد الله وكونه قبل ولادة ابنه الكريم: «هذا هو أثبت الأقاويل فى وفاة عبد الله عندنا» وهو المشهور، كما نقل الحافظ بن كثير رضى الله تبارك وتعالى عنه «1» .

_ (1) البداية والنهاية: 2 ص 262.

ظواهر تعلن مكانته

ظواهر تعلن مكانته 79- تكريم الله تعالى له ظهر وهو جنين كما رأيت. وظهر وأمه حامل به، وكأن وجوده على ظاهر الأرض كان أمرا خارقا للعادة، فى بركته على قومه برد أصحاب الفيل وكيدهم فى تضليل، وفى الحمل به، إذ لم يصبها شيء من أعراض الحمل الشاقة، وكأنه مر فى قلبها مرور الماء فى الميزاب، وإن طال حتى مدة الحمل. ثم كانت الأمور تسير سيرا يدل على أمور ربانية أكنها الغيب لذلك المولود الجديد. فأبوه يلقى وديعة الله فى امنة الصبور المطمئنة، وما كان الزواج إلا ليلقى هذه الوديعة، ويعزب عنها مسافرا مغتربا، وقبضه الله تعالى بعد أن ألقى هذه الوديعة، وكأنه خلق بما يشبه كلمة الله تعالى «كن فيكون» «1» . وينزل من بطن أمه مكتملا، كأنه تجاوز السنة، وهو قد نزل فى المهد، لم يتناوله حجر النساء، فأمه الصادقة تقول أنه وقع على الأرض معتمدا على يديه كما نقلنا، وهو فى هذا شبه الساجد، وقال بعضهم أنه نزل جاثيا على ركبتيه. وعندما ولد أرسلت أمه الكريمة إلى جده عبد المطلب تبشره بولد قد رزقه، فقالت فى رسالتها: «قد ولد لك غلام فأت فانظر إليه» . وقد أضافته إليه مسرية له عن حزنه لموت ولده عبد الله الذى وجد عليه وجدا شديدا، فلما جاءها أخبرته بالولادة، وبرؤية صادقة تعددت روايتها مما يدل على مكانته، وبذلك سرّت عن نفس حميها، وهى الحزينة، ولكنها الصبور التى تواسى غيرها فى مصاب أبيه، ومصابها، وإن كان أعظم وأشق احتمالا ولكنه الان قد يسهل احتماله إذ وجد ما يعوض، وهو المولود الذى يسمو على كل الخليقة، وهو سيدها، وهو محمود الوجود، وهو حمد الكون وتسبيحه، وإذا كان الله تعالى قد أعطى به البركة على قومه، فقد كانت إرهاصات التكريم تبدو وهو جنين أيضا فى بطن أمه. لقد رأت أمه فيما يرى النائم رؤيا صادقة، والرؤيا إلهام من الله تعالى، أو توجيه منه سبحانه يشعر بها من تصفو نفسه، وله اتجاه روحى، ورأت حين حملت به كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام، وقد ورد ذلك فى حديث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صحيح النسبة. قد ذكر ابن إسحاق أن كانت تحدث أنها أتيت حين حملت به فقيل لها: «إنك حملت بسيد هذه الأمة، فاذا وقع إلى الأرض فقولى: أعيذه بالواحد ... من شر كل حاسد «2» ثم سميه محمدا..

_ (1) سورة البقرة: 117. (2) البداية والنهاية ج 2 ص 293.

وقد يقول قائل، وكيف نثبت التكريم بالرؤيا وقد تكون أضغاث أحلام، وهى لا تثبت شيئا، فنقول فى الإجابة عن هذا السؤال العارض، إن الرؤيا الصادقة تشبه الإلهام أو كأنها وحى، أو هى جزء من الوحى كما روى عن النبى صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «الرؤيا الصادقة جزء من أربعة وأربعين جزا من النبوة» وثبت فى الصحاح أن أول ما جاءت به إرهاصات الوحى كانت الرؤيا الصادقة «فما كان يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح» . هذا ما تقوله الحقائق الدينية فى الرؤيا الصادقة، ويقول الذين يتكلمون فى الأرواح فى هذا الزمان أن الرؤيا الصادقة سبحات روحية فى الملكوت الأعلى. وإنه بلا ريب هناك فرق ثابت بين الرؤيا الصادقة وأخلاط الأحلام التى تكون صورة لحال مادية أو عصبية للنائم، كتخمة تصيبه من كثرة الطعام، أو أن يكون مخمورا، أو أن يكون مضطرب الأعصاب، أو مضطرب النفس، أو مشغولا بأمر من أمور المادة أو الشهوة، فإن هذا يكون أخلاطا لا تخبر عن شيء، ولا يصدق فى شيء، وهى التى تسمى أضغاث أحلام، والتى لا يكون لها تأويل، ولا يعبرها خبير. وإذا كان من الناس من ينكر الرؤيا الصادقة، ويكذب الأحلام بإطلاق، ويقول أنها صورة للعقل الباطن، فذلك لأنه لا يمكن أن يدرك معنى الرؤيا الصادقة، إذ لم يجربها، لأن الله تعالى لم يؤته قوة روحية ولم يؤته طاقة نفسية يستطيع أن يتغلب بها على خواطر اللذات والشهوات وهو لا ينام إلا مخمورا، أو مبطونا، أو تكون نفسه واقعة فى الأهواء والشهوات، فيكون ليله كنهاره، ونومه كصحوه، وحياته كلها صورة للمادة فى النوم واليقظة على سواء. 80- وترى من هذا الكلام الذى سقناه من بشارات التكريم فى منام أمه البتول الطاهرة الصبور أن تسميته محمدا صلّى الله عليه وسلّم، كان بأمر من الاتى الذى أتاها فى هذه الرؤيا. وقد توافقت مع رؤيا أخرى راها سيد قريش عبد المطلب الذى كان قد اشتهر بالنسك فى قومه، وإن لم يكن نسكا فيه حرمان، بل نسك فيه ما يجمل بالمروءة، وقد كان صادق الرؤيا، قيل لعبد المطلب: لم سميته محمدا؟ فقال شيخ قريش الطيب: «أنه رأى فى منامه كأن سلسلة من فضة خرجت من ظهره لها طرف فى السماء، وطرف فى الأرض، وطرف فى المشرق وطرف فى المغرب، ثم عادت كأنها شجرة على كل ورقة منها نور، وإذا أهل المشرق والمغرب يتعلقون بها» .

وأراد عبد المطلب أن يعرف مدى هذه الرؤيا التى راها، فسأل من يعبر له رؤياه، فقيل له إنه يكون مولود من صلبه يتبعه أهل المشرق والمغرب ويحمده أهل السماء والأرض «1» . اجتمعت رؤياه، ورؤيا الأم الرؤم التى قصتها على الجد الكريم عندما بلغت بالمولود الذى بلغته بأنه مولوده فارتضى الاسم الذى أفهمت به رؤيا الأم وهو محمد. صلوا عليه وسلموا تسليما ... فالله قد صلى عليه قديما وحباه بالخلق العظيم فأبشروا ... يا مادحين لذاته تكريما لم يكن هذا الاسم معروفا عند العرب، ولقد ذكر علماء السيرة أنه لم يسم به أحد فى الجاهلية إلا ثلاثة تسموا بهذا الاسم فى عصر ولادة النبى عليه الصلاة والسلام. وقد قال صاحب كتاب الروض الأنف فى ذلك: «لا يعرف من تسمى بهذا الاسم قبله صلّى الله عليه وسلّم إلا ثلاثة طمع اباؤهم حين سمعوا بذكر محمد صلّى الله عليه وسلّم وقرب زمانه، وأنه يبعث فى الحجاز أن يكون ولدا لهم. ذكرهم ابن فورك فى كتاب الفصول، وهم محمد بن سليمان بن مجاشع جد الفرزدق الشاعر، والاخر محمد بن أحيحة الجلاح، والاخر محمد بن حمران بن ربيعة. وكان اباء هؤلاء قد وفدوا على بعض الملوك، وكان عنده علم من الكتاب الأول، فأخبرهم بمبعث النبى صلّى الله عليه وسلّم، وكان كل واحد منهم قد خلف امرأته حاملا، فنذر كل واحد منهم إن ولد له ولد سماه محمدا. سقنا هذه القصة لنثبت منها ندرة الذين سموا ولدا لهم محمدا، إذ لم يكن معروفا ذلك الاسم عند العرب، ونكاد نوافق على حصر العدد فى ثلاثة، وإذا فرض وكان أكثر فإنه لا يتجاوزه بكثير، سواء أصح السبب الباعث على التسمية أم لم يصح، فإن تلك التسمية لم تعرف إلا قرب مولد النبى صلّى الله عليه وسلّم، وإنا نميل إلى صدق هذا الباعث لأن التبشير برسول اسمه أحمد كان معروفا فى أوساط أهل الكتاب اليهود والنصارى، وإن أنكر أكثر اليهود رسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم ودعوته لهم: فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ «2» ، وَجَحَدُوا بِها، وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ «3» . وقد اختيرت هذه التسمية من الله تعالى، ولنذكر إشارة إلى ما فى هذه التسمية من معنى يفهم بمقتضى قراءة اللغة، ذلك إن صيغة التفعيل تدل على تجدد الفعل وحدوثه وقتا بعد اخر بشكل مستمر متجددا انا بعد ان، فيقال إذا تكرر ذلك الفعل. وعلى ذلك يكون محمد أى يتجدد حمده انا بعد ان بشكل مستمر حتى يقبضه الله تعالى إليه. وذلك لأنه تكون منه فعال الخير المتجددة وقتا بعد اخر، فهو

_ (1) الاكتفاء ص 168 من الجزء الأول. (2) سورة البقرة: 89. (3) سورة النمل: 14.

تاريخ مولده:

لاينى عن فعل الخير الذى يقتضى ثناء وحمدا، ولا عن قول الصدق الذى يقتضيه، ولا عن الجهاد فى الحق الذى يستمر عليه إلى أن ينشر الحق وهو شرع الله تعالى ويخلد إلى يوم القيامة. وكان من أسماء النبى صلّى الله عليه وسلّم- أحمد- وهو الاسم الذى بشر به فى الإنجيل، وبشر به موسى عليه السلام، وهو أفعل تفضيل من الحمد والثناء، فهو كثير الحمد، وكثير الثناء والذكر لله تعالى. ولعله لم يكن التبشير فى الإنجيل وعلى لسان موسى عليه السلام إلا بأحمد، إلا لأنه اشتهر بذلك فى حياته وخصوصا بعد أن بعث، وكثرت دعوته، ولأنه اسم لا يشاركه فيه أحد، ولو نادرا، فيكون التبشير متجها إليه. تاريخ مولده: 81- الجمهرة العظمى من علماء الرواية على أن مولده عليه الصلاة والسلام فى ربيع الأول من عام الفيل فى ليلة الثانى عشر منه، وذلك لأن الفيل وجيشه ساروا إلى مكة فى المحرم، وولد النبى صلّى الله عليه وسلّم بعد مقدم الفيل بخمسين يوما، وبذلك أجمع الأكثرون على أنه ولد بعد مساورة جيش أبرهة بخمسين يوما. وقد وافق ميلاده بالسنة الشمسية نيسان (أغسطس) «1» ، فقد ولد فى العشرين منه، وقد جاء ذلك فى الروض الأنف فقد قال: «ذكر أن مولده عليه الصلاة والسلام كان فى ربيع الأول وهو المعروف، وقال الزبير كان مولده فى رمضان، وهذا موافق لمن قال أن أمه حملت به فى أيام التشريق، والله أعلم. وذكروا أن الفيل جاء مكة فى المحرم، وأنه صلّى الله عليه وسلّم ولد بعد مجيء الفيل بخمسين يوما، وهو الأكثر والأشهر ... وأهل الحساب يقولون وافق مولده من الشهور الشمسية نيسان (أى أغسطس) فكانت لعشرين مضت «2» ويلاحظ هنا أمران: أولهما: أن هناك رواية تقول أنه ولد فى رمضان، وأنه على مقتضى هذه تكون البعثة فى رمضان، وأول نزول القران، وأول نور الإسلام ظهر على وجه الأرض فيه بمولد محمد صلّى الله عليه وسلّم، وفيه يوم الفرقان إذ جعل الله تعالى كلمة الشرك السفلى وكلمة التوحيد هى العليا، وفيه زوال دولة الأوثان ويأس الشيطان من أن يعبد فى هذه الأرض بفتح مكة المكرمة، وطرح الأوثان من فوق ظهرها، وحطمها. ولولا أن هذه الرواية ليست هى المشهورة لأخذنا بها، ولكن علم الرواية لا يدخل الترجيح فيه بالعقل.

_ (1) نيسان فى السنة الشمسية هو شهر أبريل أما أغسطس فهو اب ولعل هذا سهو من صاحب الروض الأنف أو الناقل عنه. (2) الروض الأنف ج 1 ص 107 طبع المغرب.

إرهاصات النبوة يوم مولده:

ثانيهما: أن صاحب الروض الأنف يذكر فيما نقلنا أن الأشهر أنه ولد بعد خمسين يوما من قدوم جيش أبرهة، ولكن هناك قول اخر مشهور وهو أنه ولد بعد خمس وخمسين، كما فى رواية أبى جعفر محمد الباقر، إذ يذكر أن الفيل قدم فى النصف من المحرم، فيكون المناسب لليلة الثانية عشرة هو أن يكون قد مضى خمسة وخمسون ليلة «1» . وإن ذلك يتفق من التقدير الشمسى بعشرين من نيسان، ولذلك نختار هذا إذا كانت روايته وثيقة، وإن ذلك الاختلاف اليسير فى ليلة مولده عليه الصلاة والسلام لا يضر لأنه عليه الصلاة والسلام وجد وشاهد الوجود الإنسانى وكان شهيدا على أمته حفيظا على شرعها، يشهد للمؤمنين بشرعه ويشهد على العصاة الخارجين، وأمته شاهدة على الناس بالحق، تبين للمنحرفين، وتهدى السالكين. وروايات الميلاد جاءت على ألسنة من عاصروها، وما يعتمد على المشاهدة أو المعاصرة قد يختلف فيه العلم، فيذكر كل إنسان ما يعلم، وإن كانت الحقيقة لا تختلف، والمؤرخ يتعرفها من وراء الاختلاف اليسير، والله سبحانه وتعالى هو العليم. إرهاصات النبوة يوم مولده: 82- وضعت امنة الطاهرة حملها الطاهر الذى لم يثقل، فأضاء الوجود ببزوغ شمس هذا الوجود، وقد ذكرت الروايات فى كتب السيرة أمورا كثيرة ظهرت غب ولادته، أو قارنت الولادة: (أ) فقد قالوا أنه خرت الأصنام، وتزايلت عن أماكنها، وتمايلت على وجوهها، لأنه جاء هادمها، وليس ذلك منها بإرادة، ولكنها بإرادة القاهر الحاكمة على كل شىء. (ب) ظهر النور حتى أضاء قصور الشام. (ج) جاء فى سيرة ابن اسحق «كان هشام بن عروة يحدث عن أبيه عن عائشة قالت كان يهودى قد سكن مكة يتجر فيها، فلما كانت الليلة التى ولد فيها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، قال فى مجلس قريش: يا معشر قريش. هل ولد فيكم الليلة مولود، فقال القوم: والله ما نعلمه، فقال: الله أكبر أما إذا أخطأتم فانظروا واحافظوا ما أقول لكم، ولد هذه الليلة نبى هذه الأمة الأخير بين كتفيه علامة فيها شعرات متواترات» . وروى ابن إسحاق عن حسان بن ثابت «قال إنى لغلام تبعة ابن سبع سنين أو ثمانى سنين، أعقل ما رأيت وسمعت، إذا بيهودى فى يثرب يصرخ ذات غداة يا معشر يهود فاجتمعوا إليه وأنا أسمع، قالوا: ويلك مالك، قال قد طلع نجم أحمد الذى يولد الليلة» .

_ (1) البداية والنهاية لابن كثير ج 2 ص 262.

وحسان بن ثابت قد ولد قبل النبى عليه الصلاة والسلام بسبع سنين فإنه كانت سنه عند هجرة النبى عليه الصلاة والسلام إلى يثرب ستين سنة، والنبى صلّى الله عليه وسلّم كانت سنه ثلاثا وخمسين. وهكذا تواردت أخبار من جهات مختلفة عن اليهود بأنهم أدركوا مطلع ولادة النبى عليه الصلاة والسلام، ونحن نؤمن بأن اليهود كان عندهم من علم التوراة ما يجعلهم يعلمون أن النبى الأمى سيبعث من العرب، وكانوا يستفتحون به على المشركين الذين كانوا يجاورونهم فى المدينة، فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ، فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ «1» . (د) ذكر مخزوم بن هانيء المخزومى أن إيوان كسرى ارتجس ليلة مولد النبى صلّى الله عليه وسلّم، وسقطت منه أربع عشرة غرفة، وخمدت نيران فارس التى يعبدها المجوس، ولم تخمد قبل ذلك بألف سنة. ورأى أحد رجال كسرى فى منامه أن إبلا صعابا تقود خيلا عرابا قد قطعت دجلة والفرات فى بلاده، فلما قص الرؤيا على كسرى أفزعه، فتصبر وإن لم يصبر، فجمع كبار دولته وقال لهم: أتدرون فيم بعثت إليكم؟ قالوا: لا إلا أن يخبرنا الملك، فبينما هم كذلك إذ ورد إليهم كتاب بخمود النار، ثم أخبرهم بما رأى أحد رجاله وبما هاله وقد تأولوا هذه الرؤيا، وخمود النيران بأن حدثا يكون من بلاد العرب. 83- ونقف وقفة قصيرة، أمام هذه الروايات التى تواردت من مزايلة الأصنام عن أماكنها وتمايل وجوهها، وإضاءة الضوء ساعة مولده، وارتكاس إيوان كسرى، وخمود نار فارس التى لم تخمد منذ ألف سنة، فنقرر أن العبرة فيها بصدق الرواية لا بكون هذه الأخبار مقبولة فى العقل فإن حكم مؤرخ بعدم صدق الرواية رددناها. ونقول فى الرواية أن المحققين فى علم الرواية لم يجدوا مساغا لتكذيبها فإن الحافظ بن كثير يروى فى هذا روايات كثيرة يعلن شكه فى صدق بعضها، ويسكت عن سائرها، وقد نقلنا ما لم يشك فيه، فحق علينا أن نقبل منها ما قبل، ونرد منها ما ذكر أن فيه ريبا، وخبر الصادق يقبل، مادام لم يعرف عليه كذب، والأحكام تبنى على أخبار الصادقين، ولو كان فيها احتمال الكذب لأنه احتمال غير مبنى على دليل، ومجرد الاحتمال لا يمكن أن يكون سببا لرد أقوال الصادقين، وإلا ما حكم قضاء، ولا أدين متهم، ولا ثبت حق، ولا دفع باطل، ولذلك لا يسعنا الا أن نقبل ما لم يجر فيه طعن. وأما من ناحية قبول العقل، فإنا قد بينّا أن خوارق العادات تجىء بتقدير الله تعالى الذى لا يتقيد بالعادات ولا بما يجرى بين الناس من أسباب ومسببات، فإنه خالق الأسباب والمسببات، فقد يكون الرجز والمحق والخسف والزلزال لفساد قام به بعض الخلق، وذكرنا الايات الدالة على أن الله تعالى يلقى

_ (1) سورة البقرة: 89.

بالنعم على من يتقى ويعمل صالحا وقد تلونا من قبل قوله تعالى وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ «1» وذكرنا أن الرجز والعذاب قد يكون بسبب فساد ارتكبه بعض الأقوام، كما أنزل الله تعالى من الرجز على فرعون وملئه، بما كانوا يفسدون فى الأرض. فالذين يدعون أن هذه الأخبار غير مقبولة فى العقل، إنما ينظرون إلى الأسباب والمسببات العادية التى تجرى فى أعمال بنى الإنسان، ولو علوا بأنظارهم إلى ما فى الكون من كسوف وخسوف وما فى الرياح من مثيرات، وما فى الأرض من زلزال وخسوف ما وجدوا لذلك تعليلا إلا أن تكون إرادة الحكيم العليم القاهر فوق كل شيء الذى لا يسأل عما يفعل، وأنه يفعل ما يفعل لحكم يريدها، ومصالح يقدرها، وقد ربطها بأمور يعلمها، وهو علام الغيوب، وتقديره هو تقدير العليم الخبير. وإذا كان الله تعالى قد أراد الكرامة لمحمد صلّى الله عليه وسلّم وأراد أن يعلم من يطيفون به من أهل وقوم ما كرمه الله تعالى به، وهو سينادى بالحق، فإن ذلك هو المعقول، وغيره هو المردود، لأنه مخالف لما قدره الله تعالى لهذا الإنسان الذى سيعلم الإنسانية كلها. 84- ولا يصح لعاقل أن يقول أن هذه أوهام سيطرت، وخيالات خيلت، وظنون ظنت، لمجرد أنها خالفت مجارى العادات، وما ألف الناس فى كل مولود، فليس ككل مولود. ومع ذلك فنحن نرجح صدقها، ولا نلزم الناس بالإيمان بها، فليس من الإيمان أن نؤمن بأن إيوان كسرى ارتجف، ولا النار خمدت، ولا أن الوجود قد استنار عند ما شرف هذا الوجود، لأن هذه الأمور ليست جزا مما دعا النبى صلّى الله عليه وسلّم إلى الإيمان به، إذ أن ما يجب الإيمان به هو ما دعا إليه، وما تكلم به عن الله سبحانه وتعالى، وما نطق به القران الكريم، وحكم به الديان. ولو رجعنا إلى ما كتبته الأناجيل الحاضرة فى مولد عيسى عليه السلام وما ألزمت الأناجيل به النصارى الذين يؤمنون بهذه الأناجيل التى يزعمون صدقها- لوجدنا أن ما تذكره السيرة النبوية لا يعد شيئا كثيرا بالنسبة لما ذكرته الأناجيل وأوجبت الإيمان به، ولنقبض قبضة يسيرة مما جاء فى هذه الأناجيل وما زعمته بالنسبة لولادة المسيح عليه السلام: (أ) جاء فى إنجيل متى فى الإصحاح الثانى أنه لما ولد يسوع المسيح ظهر نجمه فى المشرق، وبواسطة ظهور نجمه عرف الناس محل ولادته.

_ (1) سورة الأعراف: 96.

(ب) وجاء فى إنجيل لوقا فى الإصحاح الثانى: لما ولد يسوع المسيح رتل الملائكة فرحا وسرورا، وظهر من السحاب أنغام مطربة. (ج) وجاء فى ولادة المسيح أيضا فى أحد الأناجيل، لما ولد يسوع المسيح أضيء الغار بنور عظيم أعيا بلمعانه عينى القابلة، وعينى خطيب أمه يوسف النجار. (د) وجاء فى إنجيل لوقا الإصحاح الثانى «وعرف الرعاة يسوع، وسجدوا له» . (هـ) وجاء فى إنجيل متى الإصحاح الثانى أيضا «ولما ولد يسوع فى بيت لحم اليهودية فى أيام هيرودس الملك، إذ المجوس من الشرق قد جاؤا إلى أورشليم قائلين: أين هو المولود من اليهود» . هذه قبضة مما عند النصارى فى أناجيلهم، ولا شك أن ما يذكر عند ولادة الرسول من أخبار صادقة هى دون ما يذكره هؤلاء عن مولد عيسى عليه السلام. وإنه من الحق أن نقرر أن الفارق بين ما يقولون فى مولد عيسى عليه السلام وما يقوله الرواة الصادقون من ناحيتين: الأولى- أن ما يذكر فى الأناجيل عن حال عيسى عليه السلام أكثر غرابة، وما يذكر لنبينا عليه السلام أقل غرابة بكثير. الناحية الثانية أننا لا يجب علينا دينا وإيمانا أن نذعن لهذه الأخبار وإن كانت صادقة، ولكن المسيحيين يعتقدون صدق ما فى أناجيلهم، من لم يصدقها يكون كافرا بها. وإذا كان ذلك هو الحق الذى لا ريب فيه، فليس لأحد من الذين كتبوا فى النبى عليه الصلاة والسلام أن يثيروا غبارا حول ما ذكر عند ولادته عليه الصلاة والسلام. وإلا فعليهم أن يثيروا عثيرا بل أكواما من التراب، حول ما قيل عند ولادة السيد المسيح عليه السلام، ولكن رضى الله عن عبد الله بن عباس الذى يقول: إن الإنسان يرى الشظية فى عين أخيه، ولا يرى الخشبة فى عينه هو، وما ذلك إلا لعدم الإنصاف.

إرضاعه صلى الله تعالى عليه وسلم

إرضاعه صلى الله تعالى عليه وسلم 85- الغذاء الأول للجنين بعد ولادته هو الرضاعة، والرضاعة تكون من الأم، لأن لبنها يسير مع نموه سيرا مطردا، فكلما كبر الغلام فى المهد كبرت دسامة اللبن، حتى يستغنى بالغذاء، ولذلك كانت الرضاعة من الأم أولى المطلوبات من الأمومة، فقد قال تعالى فيما شرع من أحكام: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ «1» فكان بمقتضى الفطرة أن تكون امنة الأم الرؤم هى التى تتولى إرضاعه. ولكن كان لابد من وجود من يعينها بلبنه، فقد أرضعته معها ثوبية وهى جارية لأبى لهب عم النبى صلّى الله عليه وسلّم، وقد ناوأه العداوة لما بعث رسولا ورحمة للعالمين، ولكن قد كان محبا لأخيه عبد الله، ولابنه النبى الكريم محمد، وكانت ثوبية أول من أعلم أبا لهب بولادة ابن أخيه محمد، فأعتقها لهذه البشرى الكريمة، وكان هذا له خيرا يحتسب، ولكن أخفاه كفره، وانضمامه إلى المخالفين المؤذين للنبى عليه الصلاة والسلام، وضعفاء المؤمنين. أعانت ثوبية امنة فى إرضاعه، وقد أرضعت أيضا حمزة بن عبد المطلب، وقد كان هذا سببا من الأسباب التى من أجلها طلب عبد المطلب لمحمد المراضع. وعلى ذلك نقول إن طلب المرضع للنبى عليه الصلاة والسلام من مراضع البادية له أسباب ثلاثة: أولها: عدم كفاية لبن أمه لتغذيته، ولعل من بعض أسباب ذلك ما نالها من حزن دفين عميق صبرت عليه من غير تصبر، وهو موت زوجها الحبيب الطيب، ولم يزله ألم قريش كلها لوفاته وأ لم أبيه وأ لم إخوته، وإن خففته فإن المشاركة فى الأسى تخففه ولا تزيله. ثانيها: أنه كان من عادة أشراف قريش أن يعطوا أولادهم للمراضع فى البادية، ولا يرضع نساؤهم، كما هو ظاهر الان في كبراء الحضر أو ذوو اليسار فيهم، فإنه لا يرضع نساؤهم الأولاد، وإن كانوا لا يرسلونهم إلى الريف. ثالثها: أن الغلمان إذا رضعوا فى البادية اكتسبوا غذاء طيبا، وهواء ليس معكرا بما فى جو المدر، فأهل الوبر أقرب إلى الهواء النقى النظيف من أهل المدر.

_ (1) سورة البقرة: 233.

ولقد قال فى هذا صاحب الروض الأنف، وأما دفع قريش وغيرهم من أشراف العرب أولادهم إلى المراضع، فقد يكون ذلك لوجوه أحدها تفريغ النساء إلى الأزواج ... وقد يكون ذلك منهم لينشأ الطفل فى الأعراب، فيكون أفصح للسانه، وأجلد لجسمه ... وقد قال عليه الصلاة والسلام لأبى بكر حين قال له: ما رأيت أفصح منك يا رسول الله، فقال: وما يمنعنى وأنا من قريش، وأرضعت فى بنى سعد. فهذا ونحوه كان يحملهم على دفع الرضعاء إلى المراضع الأعرابيات، ليتربوا على تحمل الأجواء، ويتنسموا نسيم البادية، ويعرفوا عاداتها، ويخشوشنوا بخشونتها، ولا ينشئوا فى حلية المدينة، غير متعرضين لما تقتضيه الحياة من تحمل الأعباء، وما تفرضه مقتضياتها من شدائد ليكون منها الأشداء. 86- جاءت المراضع إلى مكة من بنى سعد بن بكر يردن الرضعاء يرضعنهم. وكان من عادة العرب ألا تأخذ المرضع أجرا على الرضاعة، وإن كن يقبلن من ال الطفل الهدايا والرعاية. فتسد بعض حاجاتهم، ويرين من العار أن يكون لهن أجر منتظم، وسرى بينهم المثل السائر «تموت الحرة، ولا تأكل من ثديها» . ومنهم كما جاء فى الروض الأنف من كن يقبلن الأجرة، إذا ألحت بهن الحاجة. ولقد كان محمد يتيما لم يترك أبوه شيئا يعد ثروة، فقد ترك خمسة جمال، وبعض الشياه، وأمة اسمها أم أيمن التى حضنته بعد وفاة أمه الكريمة فكان يتيما فقيرا. وقد حضرت المراضع ترجو أن يعهد إليهن بمن يرضعنه راجيات من هذه الرضاعة الهدايا أو رضخا من المال، لا أجرة يؤجرن بها أثداءهن، فإذا كن يرجون، فإنهن لا يرضعن إلا أولاد ذوى اليسار، ولذلك أعرضن عن اليتيم الفقير، وبذلك خرج كل المرضعات بطفل من ذوى اليسار، إلا حليمة بنت أبى ذؤيب، وكان زوجها معها، واسمه الحارث بن عبد العزى بن رفاعة. وكانت المرضعات كما قال الواقدى عشرا كلهن عاد بالأولاد إلا حليمة، فلما رأتهن جميعا أخذن أطفالا، ولم يبق إلا اليتيم الطاهر محمد بن عبد الله، أخذته راجية الخير، وإن لم ترج العطاء، ولنتركها تحدثنا كيف قبلته، فإنها تصور لنا طيب نفسها، وما أفاضه الله تعالى عليها من خير بسبب بركة اليتيم الكريم، فهى تقول:

87- «فى سنة شهباء لم تبق لنا شيئا خرجت على أتان لى قمراء معها شارف «1» . كانت والله ما تبض «2» . بقطرة، ولا ننام ليلتنا أجمع من صبينا الذى معنا من بكائه من الجوع، ما فى ثديى ما يغنيه، وما فى شارفنا ما يغذيه، ولكنا نرجو الغيث والفرج، فخرجت على أتانى تلك، فلقد أذمت «3» بالركب، حتى شق ذلك عليهم، حتى قدمنا مكة نلتمس الرضعاء فما معنا امرأة إلا وقد عرض عليها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فتأباه إذا قيل لها إنه يتيم، وذلك أننا إنما كنا نرجو المعروف من أبى الصبى، فكنا نقول ما عسى أن تصنع أمه وجده!! فما بقيت امرأة قدمت معى إلا أخذت رضيعا غيرى. فلما أجمعنا الانطلاق قلت لصاحبى: والله إنى لأكره أن أرجع من بين صواحبى ولم اخذ رضيعا، والله لأذهبن إلى ذلك اليتيم، فلاخذنه. قال: لا عليك أن تفعلى، عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة. قالت: فذهبت إليه فأخذته، وما حملنى على أخذه إلا أنى لم أجد غيره. فلما أخذته رجعت إلى رحلي، فلما وضعته فى حجرى أقبل عليه ثدياى بما شاء من لبن، فشرب حتى روى، وشرب معه أخوه حتى روى، حتى ناما، وما كنا ننام معه قبل ذلك. وقام زوجى إلى شارفنا فإذا إنها لحافل. فبتنا بخير ليلة، يقول صاحبى حين أصبحنا: تعلمى والله يا حليمة لقد أخذت نسمة مباركة. قلت: والله إنى لأرجو ذلك، ثم خرجنا، وركبت أتانى وحملته عليها معي، فو الله لقطعت بالركب ما يقدر على شيء من حميرهم، حتى أن صواحبى ليقلن: يا بنت أبى ذؤيب ويحك، اربعى علينا، أليست هذه أتانك التى كنت خرجت عليها. فأقول لهن: بلى والله إنها لهى. قالت: ثم قدمنا منازلنا من بنى سعد، ولا أعلم أرضا من أرض الله أجدب منها، فكانت والله، غنمى تروح عليّ حين قدمنا به معنا- شباعا لبنا، فنحلب ونشرب منها.. حتى كان الحاضرون من قومنا يقولون لرعيانهم، ويلكم اسرحوا حيث يسرح راعى بنت أبى ذؤيب، فتروح أغنامهم جياعا ما تبض بقطرة لبن، وتروح غنمى شباعا لبنا، فلم نزل نتعرف من الله الزيادة والخير.

_ (1) الأتان القمراء هى التى تميل إلى الخضرة، والشارف الناقة العجوز. (2) أى ما ترشح الناقة لنا بقطرة من اللبن نتغذى به لكبر سنها. (3) أى صارت مذمومة فى الركب.

88- إذا كان محمد قد أقدم باليمن والبركات على أهل مكة، يرد أبرهة وفيله، وجيش اليمن مدحورين، عادوا، فبركته بعد ولادته تسير معه حيث سار. لقد رضيت باليتيم، وصاحبها قبله، وكلاهما طيب النفس مطمئن القلب. مستعين بالله تعالى قانع بما يعطيه، فجزاها الله تعالى جزاء حسنا فأطعمهم من جوع، ودر عليهم الأثداء الجافة، فأضاف إلى لبنها لبنا كفاه هو وصبيها وأخصب كلؤهم بعد إجداب، وامتلأت أضراع غنمها، فكان الخير العميم والفضل العظيم. وقد يسأل سائل: لم كان هذا، ويستغرب، ولكن لا غرابة لمن يؤمن بالله تعالى فإن له تقديرا فوق تقدير العباد، ونظاما فوق نظامهم، ولماذا يستغرب من لا يؤمن إلا بالمحسوس، ويربط بين الأسباب العادية ومسبباتها. وإن الذى نقف عنده هو أن هذا الغلام الذى صنعه الله على عينه، ولد يتيما، ولكن لم يذق قهر اليتامي، ولا ذل اليتيم، بل كان بين أحضان من يحبونه، فأول حواضنه أم رؤم لم تر فى الوجود نورا إلا نوره، وغمرها حبه، وغمرته بعاطفتها، فكان كل حبها له، لم يشركه فيها زوج إذ فقدته فال حبه إليه، فكان له صفوا خالصا، لم يرنق بشركة، والتقى فى عاطفتها حب لزوج كريم لم تنعم برفقته، وابن حبيب محبب فيه كل ما فيه، وكانت الحاضنة الثانية أم أيمن التى كانت ميراثه من أبيه، أحبته كما تحب الأم ولدها وكانت له بعد أمه رفيقة به أضافت إليه من حنانها ما عوضه، وإن لم يكن العوض كالأصل، ولا البديل كالبدل. ثم كانت الحاضنة الغربية التى صارت برضاعه أما كأمه، خلق فيها رب العالمين محبته، وجعله يمنا وبركة لترى فى محبته حب الله، ولترى فى عاطفتها عليه رزق الله تعالى. والحواضن الطيبات الطاهرات هن اللائى يدر منهن العطف الإنسانى، فمنهن يتلقى العواطف الاجتماعية والأنس الإنسانى، ولذلك نشأ محمد عليه الصلاة والسلام إنسانا محبا يألفه كل من يعرفه. وإذا كان قد فقد الأب، فقد قيض له الجد، وإذا كان قد فقد الأم فى باكورته، فقد تغذى من عطف أم أيمن، واستقى منها أكرم العواطف، وهذا كله فوق ما أودعه الله إياه من خلق كريم عظيم. 89- أخذت حليمة ترضعه حولين كاملين، وهو فى حضنها مع ولدها لا يفترقان، لا تضن عليه بعطف ولا محبة، ولا تخص ابنها بفضل منهما بل هما على سواء. فما بلغ الحولين حتى استغنى عن اللبن وأخذ فى الغذاء حتى كان غلاما جفلا، أى قويا ممتلئا يستغنى بالطعام. ولم يذكر التاريخ أكانت تلتقى به أمه، أم تركته إلى البادية مطمئنة عليه!!، ولكن إذا كان

اخبار شق الصدر

التاريخ لم يذكر أنها رأته، فلنفرض أنها كانت تراه من وقت بعد اخر، وإذا كان التاريخ لم يذكر الرؤية، فإن أقصى ذلك أنه لم يثبتها، ولم ينفها، فالفطرة والحنان يوجبانه، وهما أصدق خبرا، ولذلك نقرر أنها لابد كانت تراه من حين لاخر «1» . وأنه بعد أن استغنى عن الرضاعة، وبلغ فيها حولين كاملين، يكون من الحق على المرضع أن ترده إلى أهله، وإذا كانوا يرون أن يبقى عندها فإنه يكون برجاء منها، ورضا منهم، وهذا ما فعلته، فقد قالت: قدمنا به على أمه، ونحن أضن شيء به مما رأينا فيه من البركة، فلما رأته أمه، قلت لها: دعينا نرجع بابننا هذه السنة الاخرى، فإننا نخشى عليه وباء مكة. فو الله مازلنا بها، حتى قالت: نعم. رأت الخير بين يديه، فأرادت أن تبقيه ليبقى الخير، ولأنه قد نال محبتها، وأصبحت لا تستطيع فراقه كأنها التى حملته، ولم ترض الأم التى حملت به أن تتركه لشوقها إليه، ولتضمه أحضانها، فلم تسلمها ولدها لأول طلب، بل مازالت بها حتى قبلت، ولعل قبولها سببه ما ذكرته من أنها تخشى عليه وباء مكة، وتريده أن يكون مستمتعا بجو الصحراء الصافى من حمل الأسقام والأوباء فهى قد رضيت إيثارا ومحبة. اخبار شق الصدر 90- عادت حليمة فرحة ببقاء الخير والبركة ببقاء محمد فى حضانتها، وإذا كانت من قبل مرضعا وحاضنة فهى الان حاضنة، وإن ذلك يحملها عبئا اخر، وهو صيانته وحفظه، إذ كان من قبل يلازم حجرها، أو يكاد، أما الان فإنه لا يلازم حجرها، بل يغادره ليلعب، ليروح ويغدو، هنا وهناك، وإن ذلك يحتاج إلى صيانة. وكانت تتبعه وقد خرجت مرة لتبحث عنه مع أخته من الرضاعة، وكان الحر شديدا، فتقيل كلاهما، (أى استرخى فى القيلولة) فقالت الفتاة، إنه لا يحس بحر، لأن غمامة تسير حيث يسير، وتقف حيث لا تتركه. ونقف وقفة قصيرة عند الأخبار الواردة فى شق صدره عليه الصلاة والسلام، فقد رويت فى ذلك أخبار بعضها فى خبر قصير، وبعضها فى خبر طويل، ولا تخلو من زيادة فى بعض، ونقص فى اخر، وإن كان المعنى الأصلى متفقا فى الجميع.

_ (1) الاكتفاء ص 171- ج 1 «وسيرة ابن هشام» .

ولنذكر واحدا منها، وهو ماروى وثبت فى صحيح مسلم عن طريق حماد وابن سلمة عن ثابت عن أنس بن مالك «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتاه جبريل عليه السلام، وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه وصرعه، فشق عن قلبه فاستخرج القلب، واستخرج منه علقه سوداء، فقال: هذا حظ الشيطان، ثم غسله فى طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه، ثم أعاده فى مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه يعنى، ظئره، فقالوا: إن محمدا قد قتل، فاستقبلوه، وهو ممتقع اللون. قال أنس: وقد كنت أرى ذلك الخيط فى صدره» وإننا نلاحظ فى ذلك الخبر أمرين: أولهما: أن الخبر فيه أنه غسله بماء من زمزم، ويلاحظ أن الواقعة إن صحت كانت فى البادية فى مكان ناء عن زمزم، وإذا كان من ماء مع جبريل، فمن أين علم أنه من زمزم. ثانيهما: أنه ذكر أنه كان يرى أثر الخيط فى صدره عليه الصلاة والسلام، وإذا صحت الواقعة فإن المعقول أنه عمل ملك، والملك لا يكون لعمله أثر محسوس. ونحن نرى أن الأخبار بالنسبة للشق لا تخلو من اضطراب. وعلى فرض أنها صحيحة، لا نقول أنها غير مقبولة، بل إنا نقبلها إن صحت، ولكن الاضطراب فى خبرها، يجعلنا نقف غير رادين، ولا مصادقين. ومهما يكن الأمر فى قصة شق البطن، فإن الغلام الطاهر كانت تحوطه أمور خارقه للعادة لم تكن لتحدث للغلمان فى سنه عادة. ولقد جاء فى الروض الأنف أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم عندما عادت به حليمة بعد أن حملت أمه على الرضا ببقائه عندها سنة أخرى أعادته بعد شهر أو ثلاثة خوفا عليه مما يجرى، ولقد ذكر الرواة حديث شق البطن، وأنها لما بلغها خافت على الغلام فردته إلى أمه. قال ابن إسحاق أنها رأت أن بعض النصارى رأوه، ورأوا ما به من علامات النبوة، فطلبوا إلى حليمة أن يأخذوه عندهم فارتابت فى ذلك حليمة فردته إلى أمه خائفة عليه، ولتخلى نفسها من التبعة، وسنزيد من بعد الخبر بيانا. 91- هذا الكلام يدل على أنه ال إلى أمه بعد شهرين أو ثلاثة أشهر من السنة الثالثة، وهو معقول لأنه لا رضاعة من بعد ذلك، والأحوال كانت توجب هذا، لما كان يصيب أمه الرضاعية من خوف عليه، بسبب الإرهاصات التى كانت تحوم حوله مما أفزعها. ولكن جاء فى الروض الأنف ما نصه:

«وكان رد حليمة إياه إلى أمه، وهو ابن خمس سنين وشهر فيما ذكر أبو عمرو، ثم لم تره بعد ذلك إلا مرتين إحداهما بعد تزوجه خديجة رضى الله تعالى عنها، جاءت إليه تشكو السنة، وإن قومها قد استنوا، فكلم لها خديجة فأعطتها عشرين رأسا من غنم وبكرين، والمرة الثانية يوم حنين» . وإن هذين بلا شك خبران متناقضان: أحدهما يفيد أن أمه تسلمته عند بلوغه سنتين وشهرين أو ثلاثا، والثانى يقرر أنها تسلمته بعد خمس سنين وأشهر. ولكن التوفيق بينهما ممكن بأن أخذها الأول لتضمه إليها، ويكون فى كنفها، ولا يمنع ذلك من أن تجئ حليمة إليه تأخذه عندها الفينة بعد الفينة، يستروح بنسيم الصحراء. وتتيمن به ظئره المخلصة العطوف، أما حد التسليم بخمس سنين، فهو عندما أخذته نهائيا أمه، ولم يذهب بعد إلى بنى سعد. ولذلك قرروا أنها لم تره بعد ذلك إلا بعد أن اكتملت رجولته بتزوجه، وبعد أن أبلغ رسالته، وتذاكرت الركبان بنصرته فى يوم حنين، فقد دامت من بعد إقامته عند أمه، ورحلت به إلى يثرب لتريه قبر أبيه، ولتزوره هى وفاء لرجلها الطاهر الأمين. لقد سلمته حليمة إلى أهله، وكان يتردد عليها برغبتها، وأجازه أهلها، وقد ذكر ابن إسحاق خبرين قد نوهنا إلى أحدهما، ولم نذكر الاخر، وقد كان السبب فى ألا يقيم عندها إقامة ممتدة، ولكن تأخذه الوقت بعد الاخر. أولهما أن ابن إسحاق قدر أنه زعم الناس فيما يتحدثون أن حليمة ظئره لما قدمت مكة به ضلت وهى مقبلة به نحو أهله، فالتمسته فلم تجده، فأمّت جده، فقالت له إنى قدمت بمحمد هذه الليلة، فلما كنت بأعلى مكة أضلنى الناس فو الله ما أدرى أين هو؟ فقام عبد المطلب يدعو الله أن يرده، فوجده ورقة ابن نوفل بن أسد، ورجل اخر من قريش فأتيا به عبد المطلب، فقالا له: هذا ابنك وجدناه بأعلى مكة، فأخذه عبد المطلب، فجعله على عنقه، وهو يطوف بالكعبة يعوذه ويدعو له، ثم أرسل به إلى أمه امنة. وقد ذكر هذا الخبر بن إسحاق، وصدره بكلمة زعموا مما يدل على شكه، ولكن لا موضع للشك فيه، فالخبر فى ذاته مقبول، وهو يدل على عظيم حدب جده عليه، وحرص حليمة، ومحبة قريش له. ولكن هل هذا كان فى تسليمها الأول، أو فى تسليمه فى المرات التى كان يتردد عندها، تيمنا لجواره وقربه منها، وقبول أمه لذلك ليستروح هواء البادية، وتتقى أسقامه بها.

سفر أمه به إلى يثرب:

الخبر الثانى قد أشرنا إليه من قبل، ورجحنا أنه السبب فى إعادته بعد شهرين من بلوغه حولين كاملين، وهذا نص كلام ابن إسحاق: «حدثنى بعض أهل العلم: أن مما هاج أمه السعدية على رده إلى أمه مع ما ذكرت لأمه مما أخبرتها عنه أن نفرا من الحبشة نصارى رأوه حين رجعت به بعد فطامه، فنظروا إليه وسألوها عنه، وقلبوه ثم قالوا لها: لنأخذن هذا الغلام، فلنذهبن به إلى ملكنا وبلدنا، فإن هذا غلام كائن له شأن، نحن نعرف أمره. فزعم الذى حدثنى أنها لم تكد تنفلت منهم حتى أرسلته إلى أمه» . سفر أمه به إلى يثرب: 92- كانت امنة مثالا للمرأة الكاملة، وهى بعد لم تتجاوز العشرين إلا بقليل، فقد رأت أن تزور يثرب وهو معها هو وأم أيمن حاضنته بعد أمه الكريمة، وذلك لأمرين: أولهما: أن تزور مع ولدها قبر أبيه، وفى ذلك أجل الوفاء، وأكرمه، وكأنها ترى زوجها وديعته التى أودعها إياها. وثانيهما- أن تعرفه بقرابته من ذوى الأرحام، وهم بنو النجار، إذ تزوج منهم جده هاشم، تزوج سلمى بنت زيد بن عمرو الذى ينتهى بنسبه إلى عدى من نبى النجار، وكان بالمدينة ذا شرف ومال. وقد تحقق لها ما أرادت، ولعل هناك باعثا اخر، وهو أنها كانت تخشى على وليدها العزيز جو مكة، ووباءه، فأرادت أن تخرج به من ذلك الجو المزدحم الأهل بالسكان، لقد كانت حليمة تأخذه من وقت لاخر، فينقى جسمه من جو مكة المتكاثف، وينال من جو البادية ما ينعش جسمه ونفسه، ويكون إرادته، ويكون فيه متصلا بالكون لا يحجبه عنه حاجب، ولا يحول دونه باب، بل هو متصل بالسماء وزرقتها والنجوم ومدارجها، والقمر وانبلاجه، فيرى الشمس سراج الوجود، والقمر منيره من غير استتار يمنعه، أو حاجز، يرى الشمس فى مشرقها، وضحاها، وأصيلها وغروبها، وشفق القمر إذ يضئ، فيشق ضوءه الظلمات وينبلج نوره، ويتغنى به الشعر، وفى ظله يتسامر المدركون لجمال منظره، ودلالته على الخلاق العليم. سافرت به أمه لتزور قبر أبيه، وأخواله، ولتخرج به من مزاحم مكة، ومحاجزها، وهى أحب أرض الله إليها، ولكنه الوفاء، ورعاية الوليد الطاهر فى جسمه ونفسه، وأهله، ولتريه ذوى رحمه كما رأى عصبته.

موت الطهور امنة:

والظاهر أنها خرجت به بعد أن أخذته من حاضنته ومرضعته بعد أن بلغ خمس سنين وأشهرا كما ذكرنا من قبل، أى أنه كان قد ابتدأ السادسة، وسار فيها أشهرا. وقد زار أولئك الصفوة من الأخيار قبر عبد الله أبيه، والزوج الحبيب زوج امنة فعبرت العيون وسكنت الأصوات، وتناجت الأرواح على مشهد من الغلام المحس المدرك، فعرف أباه، وقد أرمس فى التراب، ورأى رمسه بنظره، وأدرك محبته من عبرات أمه، فكان منظرا مطبوعا فى نفسه، وهمسا مس قلبه ومشاعره، ولعله أول حزن مس قلبه الغض البريء. أقام وأمه فى أطم بنى عدى بن النجار، وهو قصر بنى فى أكمة عالية كأنه الحصن، وقد كانت الأطم معروفة فى المدينة، ويظهر أن الإقامة لم تكن قصيرة، وربما كانت طويلة نسبيا، ومهما يكن فقد رسمت فى ذهن الغلام صورا وضحها الخيال ووسعها من غير مبالغة ولا إغراق عند ذكرها. فيروى أنه قال، وقد راها بعد أن حمل أعباء الرسالة: «كنت مع غلمان من أخوالى نطير طائرا يقع عليه» (أى على أطم بنى النجار) . وقال فى الدار التى نزل بها هو وأمه: «ها هنا نزلت بى أمى، وفى هذه الدار قبر أبى عبد الله بن عبد المطلب» . موت الطهور امنة: 93- أقامت امنة بدار بنى النجار ما طابت لها الإقامة، ولم ترد الاستمرار بعيدة عن بنى هاشم وعن الجد الطيب عبد المطلب كافله، فكان لابد من العودة، فأخذت فى السير إلى مكة، ولكنها وهى عائدة إليها أدركها الموت بمكان اسمه (الأبواء) ، وهو بين مكة والمدينة، وهو إلى المدينة أقرب، كما يقول صاحب الروض الأنف «1» . وبذلك صار محمد صلّى الله عليه وسلّم يتيما من أبويه إذ ادخره الله تعالى للإنسانية هاديا بالحق، داعيا إلى الرحمة، فكان نبى الرحمة، لأن الرحمة بالناس تنبع من الالام الذاتية التى تعترض فى أثناء الحياة، فإنه لا تنبعث الرحمة بالضعفاء إلا ممن ذاق مرارة الضعف، وأى ضعف أشد من اليتم، وإن القسوة فى كثير من الأحيان تكون من الذين ينشئون فى الحلية فاكهين فى نعيم الحياة. ولقد ماتت الأم الطاهرة، وهو يدرك الحياة، وقد ذاق حلاوة حنانها، ولطف عطفها، وهى التى كان هو لها كل الوجود، واستبشرت به، واتخذت حبه عوضا عن الحب الزوجى الذى فقدته فى باكورة زواجها، وإذا كان قد فقد أباه من قبل، فقد كان ذلك هو فى غيب الله المكنون، وقد عوضه جده

_ (1) يقول فيه صاحب الروض الأنف: وقيل سمى الأبواء، لأن السبل كان يبوء فيه.

عطف الأب فلم يحس بألم الفقد، لأنه لم يعلمه، واستقبل الحياة بهذه الحال، ولم يجعله جده عبد المطلب يحس بالفقد الذى لم يعه، أما الأم فقد فقدها وهو فى وعى، وبعد أن ذاق حلاوة حنان الأم، وإنه لا شئ يعوض عطف الأم الرؤم، وهو حرمان من شئ موجود شعر به، وأصابته لوعته، علمته الصبر وعوده أخضر. وزادت اللوعة، وزاد معها الصبر، أن الموت، وهما غريبان، وليس لهما إلا الصحراء، وطريق مدعثر، وشقة بعيدة، لابد من قطعها، فاجتمع ألم الغربة، وأ لم الفقد، وأ لم الانقطاع، وصار الركب فى رعاية الله تعالى الذى صنعه على عينه، وذلك ليحس مع الصبر واحتمال الالام كريم الرعاية الالهية، والعناية الربانية، ويكون له من هذا زاد نفسى يذكره عندما يلاقى الشدائد فى الدعوة إلى الحق، ومناوأة الشرك وتكاثف المشركين عليه، وتعرضه للأذى والتجائه إلى الله إذا أحس بالضعف. وإن الذى حلمه، وحل محل أمه فى حضانته جارية حبشية، وإذا كانت لم تعطه حنان الأم، وعزة العطف، فقد كلأته وحمته. وإن ارتباط حياته الطاهرة بأمة حبشية تزويد من الله تعالى له بزاد إنسانى. ليشعره بأن الناس سواسية، وأن كل الفضل فيمن يحسن فى عمله، لا فيمن يفاخر بنسبه، وإنها لحكمة عالية أن تكون الحاضنة التى لا يستغنى عنها محمد صلى الله عليه وسلم أمة حبشية، لأنه تربية ربانية على المساواة الإنسانية، وأنه لا شرف إلا بالنفع، والعاطفة. لذلك لم يكن غريبا من الذى حضنته جارية حبشية أذاقته حب الأمومة. وإن كان دون حبها، وأوصلته إلى جده محوطا بعناية الله وعطفها- أن يكون نصير الأرقاء، والمانع للرق الإنسانى، فليس غريبا أن يغضب أشد الغضب، عندما يسمع بعض صحابته يعير اخر بقوله «يا ابن السوداء» ويقول فى قوة: «لقد طفح الكيل، لقد طفح الكيل، لقد طفح الكيل، ليس لابن البيضاء على ابن السوداء فضل إلا بالتقوى فمحمد ابن البيضاء حضنته السوداء فكان ابنا لهما معا» . 94- ذاق حب الأم، وذاق لوعة فراقه، ولذلك زار قبرها، بعد أن بلغ أشده، وصار رجلا مكتملا سويا ورسولا نبيا، جاء فى الروض الأنف «وفى الحديث أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم زار قبر أمه بالأبواء. فبكى وأبكى» وهذا حديث صحيح، وفى الصحيح أيضا أنه قال: «استأذنت ربى فى زيارة قبر أمى، فأذن لى واستأذنته أن أستغفر لها فلم يأذن لى» وفى سند البزاز من حديث بريدة أنه صلى الله تعالى عليه وسلم حين أراد أن يستغفر لأمه ضرب جبريل عليه السلام فى صدره، وقال له: لا تستغفر لمن كان مشركا، فرجع وهو حزين. وفى حديث اخر ما يصححه، وهو أن رجلا قال له: يا رسول الله أين

أبى؟ فقال: فى النار، فلما ولى الرجل قال عليه السلام: إن أبى وأباك فى النار» وليس لنا أن نقول نحن هذا فى أبويه صلى الله تعالى عليه وسلم، لقوله عليه الصلاة والسلام «لا تؤذوا الأحياء بسبب الأموات» وإنما قال النبى عليه الصلاة والسلام لذلك الرجل ما قال، لأنه وجد فى نفسه، وقد قيل أنه قال أين أبوك أنت، فحينئذ قال، وقد رواه معمر بن راشد بغير هذا اللفظ، فلم يذكر أنه قال إنه قال إن أبى وأباك فى النار. ولا شك أن الخبر الذى يقول أن أبا محمد عليه الصلاة والسلام فى النار خبر غريب فى معناه، كما هو غريب فى سنده، لأن الله تعالى يقول: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا «1» وقد كان أبو محمد عليه الصلاة والسلام وأمه على فترة من الرسل، فكيف يعذبون؟!! إن هذا مخالف للحقائق الدينية، لقد مات أحدهما قبل أن يبرز الرسول إلى الوجود، وماتت الاخرى وهو غلام لم يبعث رسولا، ولذلك كان الخبر الذى يقول أنهما فى النار مردودا لغرابة سنده، أولا، ولبعد معناه عن الحقيقة ثانيا. ولعل نهى النبى عليه الصلاة والسلام عن الاستغفار، لأن الاستغفار لا موضع له، إذ أنه لم يكن خطاب بالتكليف من نبى مبعوث، وليس كاستغفار إبراهيم لأبيه الذى نهى عنه، لأن أبا إبراهيم قد خوطب برسالة إبراهيم فعلا، فهو مكلف أن يؤمن بالله، ويكفر بالأوثان. وفى الحق أنى ضرست فى سمعى وفهمى عندما تصورت أن عبد الله وامنة يتصور أن يدخلا النار؛ لأنه عبد الله الشاب الصبور الذى رضى بأن يذبح لنذر أبيه، وتقدم راضيا، ولما افتدته قريش استقبل الفداء راضيا، وهو الذى كان عيوفا عن اللهو والعبث، وهو الذى برزت إليه المرأة تقول هيت لك، فيقول لها أما الحرام فالممات دونه، ولماذا يعاقب بالنار، وهو لم تبلغه دعوة رسول، ونفى الله تعالى العذاب إلا بعد أن يرسل رسولا، ولما تكن الرسالة قد وجدت، ولم يكن الرسول قد بعث. وأما الأم الرؤوم الصبور التى لاقت الحرمان من زوجها فصبرت، ورأت ولدها يتيما فقيرا، فصبرت، وحملته صابرة راضية فى الذهاب إلى أخواله، أيتصور عاقل أن تدخل هذه النار من غير أن يكون ثمة رسالة تهديها ودعوة إلى الواحدانية توجهها. إنى ضرست لا لمحبتى للمصطفى الحبيب فقط وإن كانت كافية، ولكن لأن قصة امنة جعلتنى لا أستطيع أن أتصور هذه الصبور معذبة بالنار، وقد شبهتها بالبتول مريم العذراء لولا أن الملائكة لم تخاطبها. 95- ويظهر أن النبى صلى الله عليه سلم كان كلما مر بقبر أمه غلبت عبراته، ولا عيب فى ذلك، فقد قال عليه الصلاة والسلام أن البكاء من الرحمن والصراخ من الشيطان، ولقد ذكر الرواة أنه

_ (1) سورة الإسراء: 15.

بكى عندما مر بالأبواء، وبكى من معه لتذكر أمه، ولقد قال القرطبى فى تذكرته «جزم أبو بكر الخطيب فى كتاب السابق واللاحق، والناسخ والمنسوخ، وأبو حفص عمر بن شاهين بإسناديهما عن عائشة رضى الله عنها، قالت: حج بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع فمر على قبر أمه، وهو باك حزين مغتم، فبكيت لبكائه صلى الله تعالى عليه وسلم، ثم إنه نزل، فقال: يا حميراء استمسكى، فاستندت إلى بيت البعير، فمكث عنى طويلا، ثم عاد إلى وهو فرح مبتسم، فقلت: يأبى أنت وأمى يا رسول الله نزلت من عندى وأنت باك حزين مغتم، فبكيت لبكائك، ثم عدت وأنت فرح مبتسم، فيم ذا يا رسول الله، فقال «ذهبت لقبر امنة أمى، فسألت أن يحييها الله تعالى، فأحياها فامنت بى» . روى فى إحياء أمه وأبيه خبر مثل ذلك بسند فيه مجهولون. ونحن نرى أن توافر السند الصحيح فى هذه الأخبار غير ثابت، ولكن نقول ما قاله صاحب الروض الأنف- «الله قادر على كل شيء، ولا تعجز رحمته وقدرته عن أى شيء، ونبيه عليه الصلاة والسلام أهل أن يخصه بما شاء من فضله، وينعم عليه بما شاء من كرامته صلوات الله تعالى وسلامه عليه» . ولقد روى الحافظ ابن كثير أحاديث كثيرة فى هذا الباب، وذكر أن فيها غرابة، وذكر الخبر الذى سقناه عن عائشة رضى الله تبارك وتعالى عنها أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، سأل ربه أن يحيى أبويه فأحياهما وامنا به ثم قال فيه: «إنه حديث منكر جدا، وإن كان ممكنا بالنظر إلى قدرة الله تعالى- لكن الذى ثبت فى الصحيح يعارضه» «1» . وخلاصة القول، وهو ما انتهينا إليه بعد مراجعة الأخبار فى هذه المسألة أن أبوى محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فى فترة، وأنهما كانا قريبين إلى الهدى، وإلى الأخلاق الكريمة التى جاء به شرع ابنهما من بعد، وأنهما كانا على فترة من الرسل، ونعتقد أنه بمراجعة النصوص القرانية والأحاديث الصحيحة لا يمكن أن يكونا فى النار، فأمه المجاهدة الصبور، الحفية بولدها. لا تمسها النار. لأنه لا دليل على استحقاقها، بل الدليل قام على وجوب الثناء عليها هى وزوجها الذبيح الطاهر. وما انتهينا إلى هذا بحكم محبتنا لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وإن كنا نرجوها ونتمناها، ولكن بحكم العقل والمنطق والقانون الخلقى المستقيم، والأدلة الشرعية القويمة، ومقاصد الشريعة وغاياتها.

_ (1) البداية والنهاية ج 2 ص 281.

فى حضن عبد المطلب

فى حضن عبد المطلب 96- عادت أم أيمن بركة الحبشية إلى مكة وسلمت الغلام الطاهر إلى جده عبد المطلب، وقد بلغ السادسة من عمره الكريم العامر بالخير، وعمل الصالحات، فأدناه إليه وقربه. وفى البيت كان الصبية من أولاد عبد المطلب، والشباب من الرجال والنساء، كان فيه حمزة وكان فيه العباس، وكانت فيه هالة زوج عبد المطلب وابنة عم أمه، فهى ذات رحم، وما كان يمكن أن تنظر إليه، كما تنظر أزواج الاباء، إلى ذرية أزواجها، بل كانت تعد كخالته، لأنها ابنة عم أمه، وهى ربة البيت الراغبة لبيت زوجها الكريم، ولذريته الأطهار، فما كانت تنظر إليه شزرا، بل كانت تحبوه من عطفها ما تحبوه لولدها، فكان فى وسط مملوء بالعطف والصلاح، فما قهره يتمه، ولا أرهقه فقد أبويه، وإن لم يكن عزه كمثل عزهما، ولا عطفه كمثل عطفهما، ولكن من حواليه، لم يبقوا عطفا يستطيعونه إلا قدموه. وكان جده عبد المطلب يرى فيه أعلى صورة للغلمان، والتقت فيه محبتان من عبد المطلب، إحداهما محبة أبيه الذى اهتصره الموت، وعوده أخضر، ومحبة الغلام الطاهر فى ذاته، فكان يدنيه إليه، وإذا كان اليتم بطبيعته يوجد انفرادا نفسيا، واعتزالا، فإن الجد العظيم خشى أن يكون لذلك أثره فى قلب هذا الغلام الحبيب، فكان يبالغ فى تقريبه منه حتى يأنس به دائما، جاء فى السيرة لابن إسحاق: «كان يوضع لعبد المطلب فراش فى ظل الكعبة وكان بنوه يجلسون حول فراشه ذلك حتى يخرج إليه لا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالا له، فكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يأتى وهو غلام جفر حتى يجلس عليه، فيأخذه أعمامه ليؤخروه عنه، فيقول عبد المطلب إذا رأى ذلك منهم: «دعوا ابنى فو الله إن له لشأنا» ثم يجلسه معه على فراشه، ويمسح ظهره بيده، ويسره ما يراه يصنع» . حباه عبد المطلب بالعطف الأبوى، فكان ينسبه إليه مباشرة فلا يقول ابن عبد الله، ولكن يقول ابنى، ليأتنس به ويؤنسه، ويمنع عنه الإحساس بغربته بين أولاده، ولكيلا يحس بأنه دونهم، ويفضله عليهم فى المجلس. ليمنع قهر اليتم، فألقى الله سبحانه محبة منه عليه. إن أخشى ما يخشاه القوامون على اليتامى أن يحسوا بانفراد، فلا يألفوا الناس، فكان عبد المطلب الحكيم العطوف الكريم يبث روح الائتلاف فى هذا اليتيم. وكأن فطرة عبد المطلب السليمة، وفراسته كانا يلهمانه أنه سيكون له شأن، وبدت إرهاصات ذلك فى منامه الذى ارتاه، ثم فى أحواله التى شاهدها، ثم فى الأخبار التى جاءت عنه وهو فى البادية عند حليمة

فى كنف أبى طالب

وزوجها، ولذلك كان يبدو على لسانه ما يدل على أنه يتوقع له خيرا عظيما، كما جاء فى الخبر الذى سقناه، وقد قال أيضا ابن اسحاق، مرويا بسنده، «لما توفيت امنة قبضة إليه جده عبد المطلب، وضمه ورق عليه رقة لم يرقها على ولده، وكان يقربه منه ويدنيه، ويدخل عليه إذا خلا، وإذا نام، وكان يجلس على فراشه، فيقول عبد المطلب إذا رأى ذلك: «دعوا ابنى إنه يؤسس ملكا» «1» . وكان فى ذلك البيت قلب اخر منحه محبة الأم، ورأت فيه وجودها، تحنو عليه كأمه، وهى التى حضنته كأمه، واوت به من غربته وهى أم أيمن، وكان عبد المطلب يعتمد عليها إذا غاب عنه فى رعايته فكان يحثها على أن تبلغ أقصى الغاية فى العناية به، فيقول: لها «يا بركة لا تغافلى عن ابنى فإنى وجدته فى غلمان قريب من السدرة، وإن أهل الكتاب يزعمون أن ابنى نبى هذه الأمة» . ولكمال عطفه، وإيناسه، وتأليفه بكمال حنوه كان لا يأكل طعاما إلا يقول على بابنى، فيؤتى به، ولكن الله تعالى يختبر نفس الغلام بحرمان ثالث، فقد اختطف الموت أباه ولم تكتحل عيناه برؤيته، واختبره ثانيا بأن اهتصر الموت عود أمه، وقد أدرك معنى حنو الأمهات، وراها كالعود الأخضر، يذبل، ويذوى، ثم اختبره ثالثة، وقد رأى جده الكريم يتركه، فقد الأبوة القريبة، والأبوة البعيدة، وقد أحس بعظم ما فقد عند سمع المراثى فيه، وهى تعلن مكانته، ومحبته وأنه قد ابتدأت، وهو لا يزال حيا، ولكن الموت يدنو منه. وكانت الأشعار تجيء بالرثاء من بناته، ويقول ابن إسحاق «إنه لما أحس بذلك الموت أمر بناته أن يرثينه فكن يرثينه، وهو يسمع» . وهذا الرثاء هو أبلغ النواح، وإن ذلك الخبر يدل على أنه كان فى وعى كامل، ولم يصبه خرق الشيخوخة. فى كنف أبى طالب 97- كان اليتيم الكريم يعيش فى عزة وعطف، ورفق فى أحضان أمه الطاهرة، وحاضته البرة أم أيمن بركة هذا البيت، وكنف الشريف فى قومه السيد فى قبيلته، لم يحس بالمهانة أو القهر، بل أحس بالشرف والكرم والرفق والعطف، واستمرت هذه حاله الى أن بلغ الثمانية. وقد مات جده، وكافله فى الثامنة من عمره، ولكنه لم يفقد عطفه وهو يعالج سكرات الموت، بل استمر قائما بحقه عليه، ولذلك عندما أحس بالموت يدب فى جسمه دبيبا، أوصى أبا طالب بحفظ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وحياطته، وقد اختصه بهذه الوصية، لأنه كان فى قريش له مقام

_ (1) البداية والنهاية ج 2 ص 282.

المطلب بعد أبيه، ولأنه أقرب كل بنيه إليه، لأنه ابن شقيقه، إذ أمهما واحدة، وهى فاطمة بنت عمرو بن عائذ من بنى مخزوم. وقد قام أبو طالب بحق الوصية، فكان يرعاه حق الرعاية، فكان يصاحبه فى غدوه ورواحه ما أمكنت الصحبة. لأنه ابتدأ يتعود عادات الشباب، ولا يغنى عنه فى هذا الدور من حياته إلا الصحبة الموجهة، فكان يصحبه لهذا، ولمحبته الشديدة له، فكان يختصه بمحبة لا يحب أولاده بمثلها، فكان لا ينام إلا بجواره فى منامه، وقد لا حظ فيه يمنا لم يلاحظه من قبل، وكان مثله، كمثل حليمة وأولادهم، إذ حل فيهم فشبعوا بعد جوع، ودرت عليهم أخلاف ناقتهم بعد أن جفت. كان أبو طالب فى بعض الأزمة المادية، فكان عياله إذا أكلوا لم يشبعوا وإذا أكل معهم محمد الميمون شبعوا، فكان أبو طالب إذا أراد أن يغذيهم قال لهم كونوا كما أنتم حتى يجيء ولدى، وهو محمد عليه الصلاة والسلام، فإذا جاء أكلوا معه، فكان الطعام يفضل منهم، وإذا لم يكن معهم لم يشبعوا فيقول أبو طالب: «إنك لبار» هذا ما قصه ابن إسحاق فى سيرته «1» . وليس عندى ما يسوغ لنا أن ننقض ذلك الكلام، فهى قدرة الله تعالى على كل شيء، وإذا اختص الله بها محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم، فهى إرهاصات الرسالة وقد جرى على يديه وفى أحواله خوارق عادات أخري، أوضح وأظهر وأبين، فالضوء الذى صاحب ولادته، وارتجاس إيوان كسري، وتهدم غرفاته، وخمود نيران المجوس، والبركة التى حلت على حليمة وذريتها بقدومه، كلها أحوال خارقة للعادة هذا دونها فى الإرهاص. ولكن جاء عن الحسن بن عرفة ما قد يوميء بالتعارض الظاهرى. فإنه روى عن ابن عباس أنه قال: كان أبو طالب يقرب إلى الصبيان صفحتهم، فيجلسون وينتهبون، ويكف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فلا ينتهب معهم، فلما رأى ذلك عمه عزل له طعامه على حدة. وهذا قد يوهم التعارض، وبفحص الخبرين يتبين أنه لا تعارض لأن الأول يتبين منه أن الشبع وفضول الطعام يكونان إذا كان بينهم، وليس معنى ذلك أن ينتهب كما ينتهبون، إنما معناه أن يأكل وقد عزل له طعام خاص، حتى لا يتسابق معهم فى الالتهام، إذ نفسه العفوف تأبى عليه أن يزاحم فى مد الأيدى إلى الطعام، فذلك من تأديب الله تعالى له، وما منحه عن عفة وابتعاد عن الجشع فى الطعام وغيره، كما يبدو من صفحة حياته. وإنه يكفى أن يكون معهم فى الطعام لتكون البركة، ولعل البركة تزداد بهذا التخصيص الذى اختصه به أبو طالب فإن الله تعالى قابل ذلك التخصيص من عبده الكريم بفيض من فيضه العميم.

_ (1) البداية والنهاية ج 2 ص 282.

إلى العمل

إلى العمل 98- اتجه محمد صلى الله تعالى عليه وسلم إلى العمل، وقد شب عن الطوق، وإن كان لم يبلغ سن المراهقة، واتجه إلى العمل الذى يستدعى رفقا منه ورعاية، وفيه حنو على الضعفاء، اتجه إلى رعى الأغنام، وهو عمل فيه ثلاث مزايا: إحداها: أن فيه سياسة لحيوان ضعيف يقتضى عطفا ورفقا فى سياسته. والثانية: أنه يعاشر فيه الضعفاء من الغلمان الذين ليس فيهم استعلاء أهل الجاهلية الأولى الذين كانوا يستعلون بشرفهم. والثالثة: أن فيه كسبا ماديا من عمل اليد، وأفضل الكسب ما كان عمل اليد. وإنه كان يرعى الغنم فى بنى سعد، مع إخوته من الرضاعة أولاد حليمة، فكان يلهو معهم بذلك الرعى فى اخر أيام رضاعته، وأولى سنى حضانته، فكان لهوا مفيدا، وخير اللهو ما كان فيه مصلحة، وفائدة، وكان بلا شك ذلك النوع أجره فيه، إذ أنه لهو، وأجرته هى متعة اللهو الحلال المفيد. وثبت أنه رعى الغنم فى مكة، وقد كان فى سن شب فيها عن الطوق كما أشرنا، وقد اتجه إليه غير لاه به، ولكنه عامل فيه ليكتسب حلالا، ويأكل طيبا. ولقد ثبت فى الصحاح أنه كان يرعى الغنم فى مكة على قراريط، يأخذها من أهلها، والقراريط، هى حصته من اللبن فيما يظهر، فهو يرعاها على أن يكون له حصته من لبنها يناله، ولعله كان يتغذى بها مع أولاد أبى طالب، أو يأكل منها، ويتصدق، فينال خيرين: خير الكفاية، وخير الصدقة أو المودة. ويظهر أن رعاية الغنم من تربية الله للنبيين، إذ تعودهم على الرفق، والعطف على الضعفاء، وحسن قيادة النافر، وتأليفه وتقريبه، وإدنائه من قطيعه. ولقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم فيما ذكره ابن إسحاق بسنده: ما من نبى إلا وقد رعى الغنم، قيل: وأنت يا رسول الله! فقال نبى الرحمة: وأنا. وقد روى فى بعض الأخبار أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «بعث موسى عليه السلام وهو راعى غنم، وبعث داود عليه السلام وهو راعى غنم، وبعثت وأنا راعى غنم» .

حماية الله تعالى

وجاء فى الروض الأنف فى تعليل ذلك: «وإنما جعل الله تعالى هذا فى الأنبياء تقدمة لهم ليكونوا رعاة الخلق، ولتكون أمتهم رعاية لهم، وقد رأى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه ينزع عن قليب، وحوله غنم سود، وغنم عفر، قال ثم جاء أبو بكر رضى الله تعالى عنه فنزع نزعا ضعيفا، والله يغفر له، ثم جاء عمر، فاستحالت غربا، يعنى الدلو، فلم أر عبقريا يفرى فريه» فأولها الناس بالخلافة لأبى بكر وعمر رضى الله عنهما، ولولا ذكر الغنم السود والعفر لبعدت الرؤيا عنهما «1» . وإن هذه الرؤيا الصادقة أو مأت إلى الرعية، بأنها كالغنم العفر، للإشارة إلى أن الرعية يسوسها حاكمها بالرفق والعطف، والتوجيه من طلب الغذاء لها من غير إعنات، ينقلها من الخير إلى الخير من غير إرهاق ولا إكراه، ولا إيذاء، كما ينقل الراعى قطيعه من كلأ إلى كلأ، ومن ماء إلى ماء بالترغيب والتحبيب لا بالإيذاء والترهيب. حماية الله تعالى 99- حمى الله تعالى محمدا فى نشأته، فكفله محبوه، فلم ترهق أعصابه، ولم يرهق فى يتمه، فنبت نبتا حسنا محبوبا أليفا مألوفا، وحمى نفسه من أن تتردى فى مهاوى الانحراف. لقد كانت طبيعة العمل الذى اختاره الرسول، لأنه أسهل الأعمال إليه أن يختلط بصبيان من طبقات مختلفة أكثرهم من طبقات الفقراء والخدم والعبيد، فأولئك الذين كانوا يؤجرون لهذا العمل الذى لا يعد من معالى الأعمال بل يعد من صغارها، ومع أنه كان مع الخدم والعبيد والغلمان، لم تنزل نفسه عن عزتها من غير استعلاء، فكان يجذبه إلى العلا شرف نسبه وطيب محتده، وما يراه فى أسرته من سمو وعلو وسيادة، وما يكمن فى طبعه الكريم من حب لمكارم الأخلاق من غير غطرسة، ولا كبرياء، ولا استهانة أو استصغار للضعفاء، ويجذبه إلى التطامن والرضا بالقليل صغر العمل فى ذاته من غير نظر إلى ثمراته، وأثره فى تربية النفس على حسن المعاملة، والرفق بالناس. وكان الأحداث منهم خصوصا الذين انغمس ذووهم أو أولياؤهم فى الشهوات يستولى على قلوبهم حب اللهو البريء وغير البرىء، ومنهم ينزع إلى الشر من بعد، ويكون عنصر فساد فى المجتمع إذا شدا وترعرع وبلغ أشده، وإذا كان الضعف يثير الرحمة، ويدفع إلى الحب الخالص البريء، فهؤلاء يدفعون إلى المجون، والمجون يهدى إلى سيطرة الهوى وسيطرة الهوى تهدى إلى الفساد، والصحبة تجعل السقيم يعدى البرىء، وقد تعدى الصحاح مبارك الجرب، كما يقول الشاعر العربى الحكيم.

_ (1) الروض الأنف ج 1 ص 11 طبع المغرب.

إلى التجارة

فكان أشد ما يخشى على محمد عليه الصلاة والسلام فى صباه هو عدوى المجون، إذ هو محبب إلى نفوس الغلمان فى سن المراهقة، ومحمد عليه الصلاة والسلام كان مراهقا فى هذه السن، ولكنه تربية الله فجنبه ذلك، وأبعده، ويحكى عن نفسه عليه الصلاة والسلام والمجون يساوره، فيعصمه الله تعالى، فيقول، وهو الصادق الأمين ما روى البخارى عنه، أنه قال «ما هممت بشيء من أمر الجاهلية إلا مرتين» . وقد ذكر ابن إسحاق أن إحدى المرتين كان فى غنم يرعاها هو وغلام من قريش، فقال لصاحبه اكفنى أمر الغنم حتى اتى من مكة، وكان بها عرس فيه لهو وزمر، فلما دنا من الدار ليحضر ذلك ألقى عليه النوم، فنام حتى ضربته الشمس عصمة من الله تعالي. وفى المرة الاخرى قال لصاحبه مثل ذلك، وألقى عليه النوم كما ألقى فى المرة الأولى، وترى من هذا حماية الله تعالى له من الاسترسال فى الهوى، فهو فى الخطوة الأولى سد الطريق، لا بمجاهدة نفسية، لأن سنه لم تكن تقوى على المجاهدة النفسية، بل بأمر خارج عن إرادته، وهو النوم الغامر، وكان له نعمة، وتوالى ذلك النوم، حتى قويت إرادته، وكانت له عزيمة تمنع، وقوة إرادة، وبمقتضى النظام الفكرى، أنه لو لم يعصمه الله تعالى بالنعاس الذى منعه، ربما كان يسترسل فى اتباع الهوى، وبذلك تسيطر الشهوات، فكانت العصمة المانعة فى أول الخطوة، وأول الدفعة، وإنما الصبر عند الصدمة الأولى كما قال عليه الصلاة والسلام من بعد أن منحه الله تعالى الرسالة. إلى التجارة 100- اشتهرت قريش بين العرب بالتجارة، فكان سراتها تجارا، ذلك أنها لم تكن بلد زرع، بل كانت بواد غير ذى زرع ولم يكن فى العرب صناعة تكون موردا اقتصاديا، لأنها كانت مثابة أمن للناس بوجود البيت الحرام، فكان حجاح ذلك البيت يجيئون من كل فج عميق، وكانت الأسواق تقام فى الحج، كان فيها الاتجار، وفيها تعقد ندوات الشعر، والمسابقات البيانية، فكان مع تبادل البضائع تروج بضاعة البيان. وكان كسب أغنياء قريش من التجارة، وأوساطهم فى المال كانوا يتجرون كل على حسب طاقته، وعلى حسب ما عنده من المال، وكبار التجار منهم كالعباس بن عبد المطلب، والوليد بن المغيرة وأبى بكر، كانوا يتجرون فى الجلب من اليمن والشام.

سفره مع عمه

وكانوا ينقلون بضائع الفرس إلى الرومان عن طريق اليمن، وبضائع الرومان إلى الفرس عن طريق الشام، فكانت لهم رحلتان: إحداهما فى الصيف يذهبون فيها إلى الشام يجلبون إليها بضائع الفرس، ويحملون فيها بضائع الرومان، والاخرى فى الشتاء يحملون منها بضائع الفرس ويحملون إليها بضائع الرومان، فكانت التجارة الخارجية سبيل ثروة كبارهم، والتجارة الداخلية مرتزق أوساطهم، وأما فقراؤهم فكان مرتزقهم من النعم الإبل والبقر والغنم. ولذلك كان من مقتضى هذه الحياة التجارية أن يتجه محمد عليه الصلاة والسلام إلى التجارة، عمل الأغنياء ومرتزق الأوساط، وما من المعقول أن يستمر راعى أغنام، فإنها تناسبه وهو صغير السن، أما إذا كبر، فإنه لابد أن يتجه إلى التجارة الداخلية والخارجية، وأن يعرف الأسواق التى يكون منها الاستيراد، ويكون عن طريقها التصدير، ولابد حينئذ من أن يسافر، وقد ألهمه الله تعالى أن يطلب السفر مع قافلة قريش التى تحمل البضائع إلى الشام، وتجلب منها. سفره مع عمه 101- عندما بلغ سن المراهقة وشب عن الطوق كان لابد أن يتجه إلى مرتزق قومه وهو التجارة كما نوهنا من قبل، وجد القافلة وفيها كافله وولى نفسه، عمه أبو طالب، فابتغى أن يكون مع هذه القافلة، يسير بسيرها، ويجرب الحياة عن طريقها، ويدرس شئون التجارة التى يمارسها كبار التجار بمكة، ويتعرف الأحوال، ويكون على خبرة بالحياة وما يجرى فيها. ويظهر أن عمه كان يستصغر سنه، ويرى أن تلك الرحلة الشاقة فوق طاقته، فوق أنه لا منفعة له فيها، إذ ليس فى القافلة مال له، حتى يتعرف حاله. ولكن شدة رغبة النبى عليه الصلاة والسلام جعلته يستجيب لطلبه ولقد عبرت كتب السيرة عن رغبة محمد عليه الصلاة والسلام بقولها «صب به رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم- أى تعلق بالسفر- وأحب الصحبة فرق له أبو طالب وقال «لاخرجن به معى ولا يفارقنى، ولا أفارقه أبدا» . ونقف هنا وقفة قصيرة، لماذا كان التعلق الشديد بذلك السفر؟ قد بينا ما فيه الجواب عن ذلك، وهو تعرفه التجارة وشئونها معرفة عيان لا معرفة إخبار، وأن يمهد لنفسه ممارستها، والاتجاه إليها بدل الاقتصار على رعى الغنم.

ارهاص وبشارة بالنبوة:

أما امتناع أبى طالب ابتداء كما يوهم القول، فسببه الخشية عليه من وعثاء الطريق، ولخشية الضيعة، ولذا عندما نزل على إرادته قال «لا يفارقنى ولا أفارقه» . خرج محمد صلى الله تعالى عليه وسلم مع عمه للتجارة بالشام، فحلت القافلة بأرض مدينة بصرى، وبصرى كانت موطنا لصوامع الرهبان، يقيمون بها، منصرفين إلى عبادتهم، وتعرف الإنجيل والتوراة، وما يحتويان، فكان لهم مع الرهبنة والزهادة علم بالكتاب وإشارته، وتبشيراته. ارهاص وبشارة بالنبوة: 102- قامت هذه الرحلة مشتملة على إرهاص كبير معلم بنبوة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وفيها إعلان عن البشارة بهذه النبوة والإعلام بأماراتها. لقد كان ببصرى راهب فى صومعة، اسمه بحيرى، وكان على علم بالكتاب، وكان نزلاء هذه الصومعة ذوى علم بالتوراة والإنجيل، يتوارثون ذلك العلم كابرا عن كابر. وكان من طبيعة بحيرى كما هو طبيعة كل الرهبان ألا يخرجوا للقاء القوافل ولا تعرف أحوالها، ولا استضافة من فيها، لأن الرهبنة تتقاضاهم العزلة وهم لا يخرجون عن سنتها، ولا ينحرفون بأنفسهم عن أحكامها، ويظهر أن قوافل العرب تعودت هذا وتعودوها من هذا الراهب خاصة ألا يلقاهم، ولا يلقوه. ولكنه فى هذه المرة خرج من صومعته، إذ رأى من البينات ما يتفق وما عنده من التبشير برسول يأتى من بعد عيسى اسمه أحمد. فخرج من الصومعة ليلتقى بتلك القافلة ويعرف من تنطبق عليه تلك الأمارات، ويتحقق فيه التبشير. ذلك أنهم نزلوا قريبا من صومعته، وأنه رأى غمامة تظلهم تسير حيث يسيرون وتقف حيث يقفون، وأنهم إذا اووا إلى فيء شجرة، رأى أغصانها تتهصر، وتميل حتى تظل واحدا منهم هو رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وجد هذه العلامات، ويظهر أنه لم يتبين ذلك الصبى، أو تبينه وأراد أن يعرف أحواله، وبقية الأمارات الدالة على أنه المذكور فى الإنجيل. ولذلك أراد أن يزيد تعرفه بالقوم، فاتجه إلى إكرامهم، فأقام لهم وليمة عامة تشمل صغيرهم وكبيرهم، لا يتخلف منهم أحد، وأرسل إليهم يدعوهم، وقال فى رسالته لهم: «إنى صنعت لكم طعاما يا معشر قريش، فأنا أحب أن تحضروا كلكم، كبيركم وصغيركم، وعيدكم وحركم» . لم يكن العجب من الدعوة إلى الطعام، إنما كان العجب من أنه ترك صومعته، وخرج إليهم، ولذا قال رجل من قريش «والله إن لك يا بحيرى لشأنا اليوم، ما كنت تصنع هذا بنا، وقد كنا نمر بك كثيرا، فما شأنك اليوم» .

قال بحيرى: صدقت قد كان ما تقول، ولكنكم ضيف، وأحببت أن أكرمكم، وأصنع لكم طعاما تأكلون منه كلكم. فاجتمع القوم إليه، ولم يتخلف إلا محمد بن عبد الله رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لحداثة سنه، وبقى تحت الشجرة يرعى إبلهم ويحرسها، فلما راهم لم ير الصفة التى عرف بها الرسول المنتظر فى كتبهم، فذكر لهم أنه طلب ألا يتخلف أحد منهم عن طعامه، فقالوا: يا بحيرى ما تخلف أحد ينبغى له أن يأتى، إلا غلام وهو أحدثنا سنا، فتخلف فى رحالنا، قال: لا تفعلوا ادعوه، فليحضر هذا الطعام. فقال رجل من قريش مع القافلة: واللات والعزى إن كان للؤم منا أن يتخلف محمد بن عبد الله ابن عبد المطلب عن طعام من بيننا. حضر محمد صلى الله تعالى عليه وسلم الوليمة، واختصه الرجل بفضل من العناية فاحتضنه وأجلسه. أخذ بحيرى يلحظه لحظا شديدا، وينظر إلى أشياء من جسده، قد كان يجدها عنده من صفته. حتى إذا فرغ القوم من طعامهم، وتفرقوا قال له: يا غلام أسألك بحق اللات والعزى إلا أخبرتنى عما أسألك. وإنما قال بحيرى ذلك، لأنه سمع قومه يحلفون بهما. فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو غلام لم يبعث: لا تسألنى باللات والعزى شيئا، فو الله ما أبغضت شيئا قط بغضهما. عدل بحيرى عن استقسامه بهما، وقال: والله إلا أخبرتنى عما أسألك عنه، فقال عليه الصلاة والسلام: سلنى عما بدا لك. جعل بحيرى يسأله عن رحلته وهيئته وأموره، ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يخبره، ويقول ابن إسحاق: فوافق ذلك ما عند بحيرى من صفته. ثم نظر إلى ظهره، فرأى خاتم النبوة بين كتفيه، فى موضعه من صفته التى عنده. فلما فرغ أقبل على عمه أبى طالب، فقال: ما هذا الغلام منك، قال: ابنى!! قال بحيرى: ما هو بابنك، وما ينبغى لهذا الغلام أن يكون أبوه حيا. قال أبو طالب: فإنه ابن أخى. قال: فما فعل أبوه؟ قال: مات وأمه حبلى به، قال: صدقت، ارجع بابن أخيك إلى بلده، واحذر من اليهود، فو الله لئن رأوه، وعرفوا منه ما عرفت ليبغنه شرا، فإنه كائن لابن أخيك شأن عظيم فأسرع به إلى بلاده. فخرج به عمه أبو طالب سريعا، حتى أقدمه مكة، وأنجز تجارته «1» .

_ (1) البداية والنهاية لابن كثير، السيرة لابن هشام، الاكتفاء.

103- إن هذه رواية من الروايات التى رويت فى هذه الرحلة، والتقاء بحيرى الراهب. وليس فيما ذكره بحيرى، ولا فى أصل القصة غرابة؛ لأن التبشير بالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم ثابت عند أهل الكتاب، وقد أشرنا إلى ذلك فى مقدمة كتابنا، وليس فى القصة أمر يستحيل تصديقه، أو يتعذر تصديقه، بل إنه خبر يتفق مع ابتداء نشأة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وإظلال الغمامة له عليه الصلاة والسلام، ليس فيه غرابة أو ما يظن أنه غريب فى زعم الذين يجحدون، ومن طبيعتهم جحود ما ليس ماديا ولا محسوسا، ولكن يرد عليهم جحودهم بأن شواهد الصدق فى الخبر قائمة، فخاتم النبوة كان أمرا ظاهرا في جسم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، راه الراؤن ووصفه الواصفون فإذا كانوا لا يؤمنون إلا بالمادى، فهذا أمر مادى ظاهر، وقد وجد فيه، ولم يوجد فى أحد من غيره، فكيف يمترون؟ وهناك شاهد اخر بالصدق، وهو وجود هذه الأوصاف المعروفة فى التوراة والإنجيل حتى بعد أن أصابها التحريف، وإذا كانوا قد نسوا حظا مما ذكروا به، وأفسدوا الباقى، فالبشارات تلوح معلنة وجودها، رغم أنف الجاحدين المستكبرين، فلا مجال لا رتياب مرتاب. بقى فى كلام بحيرى أنه يخوف أبا طالب الكافل الكريم من اليهود، وفى بعض الروايات أنه يخوفه من الرومان لأنه يعرضه للأذى، والتخويف منهما معا جائز، وذلك لأن الرومان كانت الملكانية فى الطوائف المسيحية حريصة على معاداة العرب، وكل مذهب دينى غير الملكانية، ولذلك كانت العداوة شديدة اللدد بينهم وبين اليعقوبيين بمصر، وكان بينهما ما بين النصارى واليهود، بل كانوا أشد إيذاء، وحينما قربت العقيدة بين طائفتين كانت العداوة أحد، إذ كل حريص على أن يدمج الاخر فيه. وأما اليهود فمع أنهم كانوا فى البلاد العربية يستفتحون فى يثرب على الذين كفروا بالنبى الذى ان أوانه، كانوا يكرهون أن يكون من بنى إسماعيل، لأن حسدهم يجعلهم يستكثرون أن يكون نبى من غير ذرية إسحاق عليه الصلاة والسلام. وخاتم النبوة الذى كان فى ظهر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم هو لحم ناتيء بين كتفى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى نسق ليس فيه تشويه للمنظر، قيل إنه كتفاحة، وقيل إنه كرقبة العنزة، وإن كثرة التشبيهات ممن رأوه فى جسم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ليست اختلافا فى أصله، ولكنه اختلاف فى عبارة الذين رأوا، والتشبيه من حيث حجمه، ونظر الذى وصفه. والرواية التى ذكرناها، هى أقصر الروايات عبارات. وقد روى الترمذى رواية أخرى أطول، وقد جاء فيها أن بحيرى قال عندما أخذ بيد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم:

«هذا سيد العالمين، هذا رسول رب العالمين، يبعثه الله رحمة للعالمين. فقال أشياخ قريش: من أين علمك، قال إنكم حين أشرفتم لم يبق لشجر، ولا حجر إلا خر ساجدا، ولا تسجد إلا لنبى، وإنى أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه، ثم رجع فصنع لهم طعاما» «1» . 104- عاد محمد صلى الله تعالى عليه وسلم من تلك الرحلة التى يبدو من ثناياها أن محمدا (عليه الصلاة والسلام) أراد فيها أن يعرف الشام وأحواله، والتجارة، والصفق فى الأسواق، وبدت فيه تلك البشائر النبوية، وعلم الأشياخ من قريش مكانة ذلك الصبى، وهو المحبوب بينهم كثيرا كأبيه، حتى أنه لما نبههم بخيرى إلى أنه لم يكن بينهم ويجب أن يكون بينهم، تنبهوا، وقال قائلهم، إنه للؤم إذ لم يكن بيننا، وناداه واحتضنه، شعورا بالمحبة الشديدة المخلصة، وإشعارا بالندم على ما كان عندما رأوا هذه الحال. وأخذ عمه أبو طالب بنصيحة الراهب، وقفل به راجعا مسرعا، خشية عليه مما خشى الراهب، من أن يغتاله اليهود، أو الرومان، فعاد به إلى قومه. وإنه فى هذه الرحلة التجارية التى رغب فيها محمد صلّى الله عليه وسلّم واستجاب له أبو طالب شفقة ورقة وملاطفة، وهو يحسب أنها من رغبات الصبيان، وأجابه محبة وتدليلا، يحسب أنه لا جد فيها، ولا غاية، ولكن الصبى يظهر أنه كان يريد منها الجد، فيريد منها الاستعداد لعمل يعتمد فيه على نفسه، ولا يكون كلا على عمه المحدود فى الرزق، فهو يريد الكسب من عمل يده. وإذا كان اليتم لم يقهر محمدا صلّى الله عليه وسلّم فى نفسه، إذ أعزه الله تعالى، وأكرمه، ولم يمكن أحدا من قهره فكان اليتيم العزيز المحبوب، فإن محمدا صلّى الله عليه وسلّم استفاد من اليتم الجد فى طلب الرزق غير معتمد على أحد غير ربه، فنال من اليتم محاسنه، ولم ينل اليتم منه بمساوئه. ذلك أن الثابت أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ابتدأ الاعتماد على نفسه من بعد، وقد رأينا أنه ابتدأ يرعى الغنم صبيا، فلما تجاوز الصبا إلى المراهقة اتجه إلى صناعة أشراف مكة، وهى التجارة، ولم يذكر التاريخ فى أى سن ابتدأ التجارة، ولكن الأمارات تصور لنا أنه ابتدأ فى سن مبكرة. أولا- لأنه رغب رغبة شديدة فى أن يسافر إلى قافلة التجارة، ولا نفرض أنه طلب ذلك لمجرد متعة السفر، فإنه كان صبيا جادا، ولم يكن ممن يميلون إلى المتاع. وثانيا: لأنه كان لا يمكنه أن يعتمد على ثراء أحد. إذ كان كافله الذى كفله، وهو أبو طالب فقيرا.

_ (1) الروض الأنف ج 1 ص 219.

محمد التاجر:

محمد التاجر: 105- اتجه محمد صلى الله تعالى عليه وسلم إلى التجارة منذ بلغ البلوغ الطبيعى، وقد ثبت فى المصادر التاريخية أنه زاولها مع شريك أو شركاء، وقد ثبت أنه كان شريكا للسائب بنى أبى السائب، واستراح إلى شركته، ورأى فيه ما يمازج أخلاقه، وإن لم يسم إليها، ولكنه على أى حال رأى الشريك الأمين السمح فى معاملته، فكان التاجر لا يمارى ولا يجادل فى الشراء، ولا يخفى الخبيث من البضائع، ويظهر الطيب بلا مماراة فى تجارته. وقد التقى به النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عند فتح مكة، فرحب به، ووفى له بحق الرفقة القديمة فى الاتجار، وتلقاه مستبشرا مرحبا، وقال له مذكرا بماضيه ليؤنسه فى حاضره: «مرحبا بأخى وشريكى، كان لا يشارى ولا يمارى» . ولم يذكر فى التاريخ ما كان يتجر فيه، لأن كتاب السيرة لا يعنون فى حياة النبى صلّى الله عليه وسلّم الإنسانية بمقدار عنايتهم فيما يتعلق بالرسالة، وإرهاصات النبوة، وخوارق العادة الصادقة التى أحاطت بحياته فى حله وترحاله، ووجهتهم فى ذلك أنهم يجعلون موضع الاهتمام فى دراستهم هو ما امتاز به من يدرسون حياته، ومثلهم فى ذلك أن من يكتب فى حياة رجل من النبغاء يعنى بجهة نبوغه، وموضع النبوغ، ولا يعنى بالنواحى الاخرى إلا لتصوير شخصه. وكذلك الأمر بالنسبة لمحمد رسول الله تعالى، صلى الله تعالى عليه وسلم، وله عليه الصلاة والسلام المثل الأعلى للإنسانية، كانت عناية كتاب سيرته الشريفة، بما يتصل بالرسالة مما سبقها ولحقها، وقليل منهم ما يكون اتجاهه إلى نواحيه المتصلة به كإنسان إلا أن يكون لذلك اتصال بموضوع الرسالة. وقد كان محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، فى حياته الأولى راعيا للغنم، أو تاجرا مثالا للأمانة والصدق، وكان مرموقا من مكة، وأخص ما امتاز به فى حياته كلها الصدق والأمانة والوفاء بالعهد، ولطف العشرة وأنه موطأ الكنف يألف ويؤلف، يفتح قلبه لكل عمل كريم، ولا يضن على أحد بالمعونة إن لزمت. كذلك كان فى كل أعماله فى الحياة، وكذلك كان فى تجارته، حتى سمى الأمين، وصار هذا اللقب علما له مع اسمه، فإذا أطلقت كلمة الأمين، لا تنصرف إلا إليه، إذ هى لا تطلق إلا عليه، وإن كل من يعمل بأمانة، ويقول بصدق دونه فى الأمانة والصدق، وكان لذلك فى مكان يعلو به على كل من فى مكة المكرمة من غير استعلاء ولا استكبار.

مشاركته فى الأمور الجامعة

ولكن ما الذى كان يتجر فيه؟ ما زال هذا السؤال يلح علينا ما دمنا لم نذكر مادة تجارته فيما ذكرنا، ولكن يصح أن نسد الفراغ فى هذا الجزء من تاريخه، عليه الصلاة والسلام، بأنه يتجر فى البضائع التى تتبادل داخل مكة المكرمة، ولا تذهب إلى خارجها، لأنه لم يعرف أنه خرج من مكة المكرمة مع قافلة التجار إلى اليمن أو الشام، فكانت تجارته عليه الصلاة والسلام، مع شريكه مقصورة على ذلك النطاق فى داخل المدينة، وما يفد إليها، وقد كانت فيها أسواق تمتليء بالتجار فى موسم الحج، وكون الحجيج يفدون من أقصى أرض العرب إلى أدناها لابد أن يجعل فيها بضائع ترد إليها مع الحجيج، ويأخذ الحجيج من بضائع فى مكة المكرمة يعودون بها إلى ديارهم. وإذا كانت رحلة الشتاء والصيف لقريش فيها التجارة الخارجية التى ينقلون فيها بضائع الروم إلى الفرس وبضائع الفرس إلى الروم، فمكة المكرمة كان فيها الاتجار فى داخل البلاد العربية فى موسم الحج، ومنها بضائع الروم والفرس فى البلاد العربية، فكانت فيها الأسواق رائجة. مشاركته فى الأمور الجامعة 106- لم ينقطع محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، عن قومه فى أعمالهم الجماعية، إذا كانت تتعلق بالتعاون على خير يقومون به، فإذا كانوا على أمر جامع ذهب إليه، وشارك فيه ما وسعه المشاركة، من غير أن يرضى بباطل، أو لا يبشر بحق، بل كان دائما مع الحق يستبشر به، وضد الباطل، ينغض رأسه به، من غير صخب ولا شحناء، فما كانت الشحناء من شأنه، ولا المباغضة من خلقه، بل هو فى كل أحواله الودود الحليم، والنفس الطيبة، وكان يحضر دار الندوة إذا انعقدت، ويستمع إلى كبراء العرب، فما يرضيه من قول الحق يستشرف إليه، ويستبشر به، وما لا يكون حقا، يبدو نفوره منه، ولا يرتضيه. جاء فى كتاب زهر الاداب أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى صباه حضر ندوة قريش، وقد حضر من اليمن كبارهم فنظر إليه قيل من أقيالهم، ورأى فيه نظرات قوية أحيانا، وهادئة مستبشرة أحيانا أخرى، فقال: مالى أرى هذا الغلام تارة ينظر إليكم بعينى لبؤة، وأخرى بعينى عذراء خفرة، والله لو أن نظرته الأولى كانت سهاما لانتظمت أفئدتكم، فؤادا فؤادا، ولو أن نظرته الثانية كانت نسيما لأنشرت أموآتاكم. لم يكن منقطعا عن الحياة الجماعية، إذ أنه رسول الرحمة والمحبة وتأليف الجماعات، فلابد أن يكون بينهم فى الكريهة والرخاء، لا يفترق عنهم إلا إذا كان الإثم، فإنه يجانبه من غير مباغضة لأهله، بل

حرب الفجار

يهداهم إلى الحق واجتناب الاثام، فمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم، ليس من طبعه الاعتزال، بل من طبعه الاتصال بالناس، ليعرف مواطن الصحة ومواطن المرض، فاعتزال الحياة والأحياء ليس من الطبع القوى، بل هو من الضعف العصبى، إلا أن يكون لعبادة، فإنه إن اعتزل الناس استأنس بالله، فيقدم من بعد ذلك على الناس، وقد ادخر لنفسه قوة يسير بها فى الحياة. حرب الفجار 107- الفجار مصدر فاجر، فمصدر فاعل فعالا أو مفاعلة، كقتال ومقاتلة، ونقاش ومناقشة، والفجار معناه تبادل الفجور، أى وقع فيه كل من المتحاربين، وكان الفجور الذى تبادله الفريقان، هو أنهما أقدما على القتال فى الشهر الحرام، وابتداء القتال فيه كان حراما فى الجاهلية، ولعله بقية من بقايا إبراهيم عليه السلام، ولذلك جاء الإسلام بتحريم ابتداء القتال فيه أو السير بالقتال فيه إلا لضرورة، ولقد قال الله تعالى: «إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا فى كتاب الله يوم خلق السموات والأرض، منها أربعة حرم، ذلك الدين القيم، فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كافة، كما يقاتلونكم كافة، واعلموا أن الله مع المتقين» «1» . والأشهر الحرم كما روى عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم هى «ذو القعدة وذو الحجة، والمحرم، ورجب الذى بين جمادى وشعبان» وكان القتال فيها حراما ليكون الأمن والاطمئنان فى الحج إلى البيت والعودة منه، وكان رجب محرما فيه القتال، لأنه شهر عمرة مضر. وقصة هذه الحرب، التى انتهك فيها الشهر الحرام كما جاءت فى كتب السيرة، أن رجلا من بنى هوازن اسمه عروة الرجال أجار عيرا للنعمان بن المنذر فيها تجارة وطيب وحرير، ومعنى إجارتها منع أى أحد من أن يعتدى عليها، ويقال إنها فى جواره، وتسمى هذه العير اللطيمة. فلما كانت هذه الإجارة كبر على بعض رجال كنانة وهو البراض بن قيس، فقال غاضبا: أتجيرها على كنانة، فقال عروة: نعم وعلى الخلق كله. فسار الرجلان، وقد غافل البراض الكنانى عروة، وقتله، فقامت الحرب بين القبيلتين وانضمت قريش إلى كنانة، والتقت كنانة وقريش مع هوازن، واقتتلوا أربعة أيام، حضر النبى عليه الصلاة والسلام رابعها. وكان اليوم الذى حضره النبى صلى الله تعالى عليه وسلم هو أشدها.

_ (1) سورة التوبة: 36.

وقد توادع الفريقان على أن يستأنف القتال بينهما من العام القادم فى عكاظ. فلما توافقوا فى الميعاد ركب عتبة بن ربيعة جمله، ونادى: «يا معشر مضر علام تقاتلون؟ فقالت هوازن: ما تدعو إليه؟ قال: الصلح، قالوا: كيف؟ قال فدى قتلاكم (أى ندفع الدية عليها) ونرهنكم رهائن عليها، ونعفو عن دياتنا، قالوا: ومن لنا بذلك قال: أنا. قالوا: ومن أنت؟ قال: أنا عتبة بن ربيعة. فدفع الصلح على ذلك. وبعثوا إليهم أربعين رجلا، فيهم حكيم بن حزام، فلما رأوا الرهائن من الرجال بين أيديهم عفوا عن ديانهم، وانقضت حرب الفجار بصلح كريم» . 108- وهنا نسأل: ماذا كانت سن النبى صلّى الله عليه وسلّم فى هذه الحرب؟ وماذا كان عمله فيها؟ وما الذى حمله على الذهاب اليها؟ أما من ناحية سنه، فنقول: إن ابن هشام يقول فى سيرته: «إن سنه كانت بين الرابعة عشرة والخامسة عشرة» ويقول ابن إسحاق: إنه كان فى العشرين من عمره الكريم. ولا نجد لإحدى الروايتين ترجيحا على الاخرى، إلا أن يكون سند ابن إسحاق أقوى، فلقد قال الشافعى رضى الله عنه «الناس فى السيرة عيال على ابن إسحاق» ولعله يكون مما يقوى خبر ابن هشام من السيرة أن أعمام النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أخذوه فى هذا اليوم، فهذا يدل على أنه لا يزال حدثا، ومن بلغ العشرين يكون رجلا. ومهما يكن فإنا نرى أنه كان ابن عشرين، كما يدل على ذلك ما يجىء فى حلف الفضول. ومع أنه بلغ العشرين لم يقدم على القتال، لأنها ليست حربا عادلة، وفطرة محمد السليمة ما كانت لتسمح له بأن يقاتل فى حرب فاجرة انتهكت فيها الحرمات من الجانبين، فكلاهما اثم، فكيف يشترك الطاهر المطهر الذى رباه الله تعالى على عينه في حرب خالطها الإثم. فى سببها وفى زمانها، وفى وقائعها؟ لم يكن للنبى فى هذه الحرب إلا أنه شهدها بعد أن حمى وطيسها، وكان ذلك بسبب أعمامه الذين اشتركوا فيها، ولعله كان يود مشاهدتها، لأن له قلبا طاهرا، لا يسكن والناس فى كرب، فكان يشاهد، وإن لم يقم بعمل فيه حرب، ولقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم فى عمله الدافع للأذى، وليس فيه أحداث: «كنت أنبل على أعمامى» أى أمنع النبل عن أعمامى، فهو كان درعا واقية لأعمامه، فلم يغمس يده فى حرب إلا أن يكون واقيا لذوي رحمه كالئيه الذين رعوه حق الرعاية.

حلف الفضول

ومهما يكن الأمر فى شهوده تلك الحرب الاثمة، حتى فى نظر الذين أشعلوها، فقد كان من النظارة، ولم يشترك إلا أن يكون وقاية لذوى رحمه. حلف الفضول 109- عاش النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى مطلع حياته مع قومه يشاركهم وجدانهم، إذ كان يتجه إلى الخير، ويتجنب الشر ولا ينغمس، فهو يفعل ما يتفق مع الفطرة المستقيمة التى فطره الله تعالى عليها، والمنهاج القويم الذى هداه الله تعالى إليه وأدبه بأدبه. ومن ذلك حلف الفضول الذى قال فيه ابن كثير إنه كان أكرم حلف وأشرفه فى العرب وقد كان ذلك الحلف، والنبى عليه الصلاة والسلام قد بلغ العشرين، وقد أجمع الرواة على ذلك، وقالوا إنه كان بعد حرب الفجار. كان حلف الفضول فى شهر ذى القعدة، وكان الفجار قبله بأربعة أشهر، أى أن الفجار كان فى شهر رجب وهو من الأشهر الحرم، ولم يذكروا أن حرب الفجار كان والحج قائم، وشهر رجب ليس من أشهر الحج، وإن كان من الأشهر الحرم. وقالوا أن سببه أن رجلا من زبيدة قدم مكة ببضاعة، فاشتراها منه العاص بن وائل، فحبس عنه حقه، فاستعدى عليه بنى عبد الدار، ومخزوما وجمح، وغيرهم، فلما رأى الرجل أن حقه ضائع، وبدا القعود فيمن استعان بهم علا جبل أبى قبيس عند طلوع الشمس، وقريش فى أنديتهم حول الكعبة المشرفة فنادى بأعلى صوته منشدا: يا ال فهر لمظلوم بضاعته ... ببطن مكة نائى الدار والنفر ومحرم أشعث لم يقض عمرته ... يا للرجال، وبين الحجر والحجر إن الحرام لمن تمت كرامته ... ولا حرام لثوب التاجر الغدر فالرجل يثير فيهم الحمية بذكر الظلم الواقع عليه، وأنه واقع ببطن أرض الله، وبجوار البيت المقدس الذى لا تخطف فيه الأموال وتضيع الحقوق، وأن الظلم بين الحجر، وبين الحجر الأسود الذى يقدسونه، ويشير إلى أنه محرم للعمرة.... كان أول من استجاب لنداء الله، وتقدم لإغاثته بنو عبد المطلب، فقام فى ذلك الزبير بن عبد المطلب، وقال: ما لهذا مترك أى لا يصح أن يترك.

اجتمعت لهذا بطون بنى هاشم، وزهرة، وتيم بن مرة فى دار عبد الله بن جدعان، وكان جوادا، فصنع لهم طعاما، وكان ذلك فى ذى القعدة الشهر الحرام. تعاقدوا وتحالفوا ليكونن على الظالم، حتى يؤدى إليه حقه، ما بل بحر صوفة، وما رسا ثبير وحراء مكانهما، وعلى الناس فى المعاش، فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول «1» . وقد نفذ ذلك الحلف فور انعقاده، فقد مشى المتعاهدون إلى العاص بن وائل فانتزعوا منه سلعة الزبيدى فدفعوها إليه، وقد قال الزبير بن عبد المطلب معتزا به: إن الفضول تعاقدوا وتحالفوا ... ألا يقيم ببطن مكة ظالم أمر عليه تعاقدوا وتوافقوا ... فالجار والمعتر فيهم سالم ولقد سر النبى عليه الصلاة والسلام لشهوده ذلك الحلف، وأعلن أنه ينفذه فى الإسلام: «لقد شهدت فى دار عبد الله بن جدعان حلفا ولو دعى به فى الإسلام لأجبت تحالفوا على أن يردوا الفضول إلى أهلها» . وروى أنه عليه الصلاة والسلام قال: «ولقد شهدت فى دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لى به حمر النعم، ولو دعى به فى الإسلام لأجبت» . ولقد نفذ الحلف قبل بعثة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فيروى أن رجلا من خثعم قدم حاجا أو معتمرا ومعه ابنته من أوضأ الناس جمالا، فأخذها عنوة منه نبيه بن الحجاج وغيبها، فقال الخثعمى: من يعدينى على هذا الرجل؟ فقيل له: عليك بحلف الفضول، فوقف عند الكعبة المشرفة، ونادى: يا ال حلف الفضول، فإذا هم يفيضون إليه من كل جانب، وقد انتضوا أسيافهم يقولون جاءك الغوث، مالك، فقال إن نبيها ظلمنى فى بنتى، وانتزعها منى قسرا، فساروا معه، حتى وقفوا على باب داره، فخرج إليهم، وما زالوا به حتى عادت الفتاة إلى أبيها. وإن ذلك الحلف كان لازما، لأن مكة كانت بلد العرب، وثمرات العرب تجيء إليها فلا بد أن يستقر فيها الأمن، ويكون بلد الاطمئنان والمحافظة على الحقوق، ولا يكون فيها اعتداء حتى يجيء الناس إليها.

_ (1) قيبل إنما سمى حلف الفضول، لأنه أشبه حلفا تحالفته جرهم على مثل هذا من نصر المظلوم على ظالمه، وكان الداعى إليه ثلاثة من أشرفهم اسم كل واحد منهم فضل، وهم الفضل بن فضالة، والفضل بن الحارث، والفضل بن وداعة، وذكره ابن قتيبة، وقيل: سمى حلف الفضول، لأن أصحابه دخلوا فى فضل من الأمر التزموا به، وقيل إن الفضول معناها الحقوق، وتحالفوا على ردها.

الزواج

ولأنها يحج إليها الناس من كل فج عميق، فلا بد أن يتعاون أهلها على جعلها مكانا تقدس فيه الحقوق كما يقدس البيت، ولأنها أرض البيت الذى جعله الله تعالى مثابة للناس وأمنا، فلا يكون الأمن للأرواح فقط، بل يكون للأرواح، وللأموال، ولكل ما يحتاج اليه اطمئنان النفس. الزواج 110- بلغ محمد صلى الله تعالى عليه وسلم سن الزواج، ولكنه لم يتزوج فى سن مبكرة، كغيره من الشباب، بل استمر لا يتجه إلى الزواج، أو لا يفكر فيه، حتى بلغ الخامسة والعشرين، كما سنبين. ولماذا لم يعرف أنه فكر فى الزواج من قبل هذه السن، لقد كان عفا كريما، لم يقع منه فى طفولته ما يشين الكرام، وقد عصمه الله تعالى يوم هم، وهو طفل، أن يلهو بالوقوف عند عرس لا يغشى حراما، ولكن ربما يرى فيه حراما، فصانه الله تعالى بأن ضربه فنام، فنام الليلة كلها، حتى أيقظته الشمس فى ضحاها. وهو ليس حصورا، كما دلت على ذلك حياته من بعد، وما كان خاملا في قومه، بل هو الذى إذا خطب لا ترد خطبته، وكان فيه خلق قويم يجعل القلوب تهفو إليه، وفيه جمال يجعل الأنظار تتعلق به، وتشرئب الأعناق إليه، وقريش كلها تحبه، وترضاه صهرا. أكان فقيرا لا يجد ما يبوء به على أهله؟ نعم إنه لم يكن غنيا، ولكنه تعود منذ نعومة أظفاره أن يكون عاملا، فرعي الغنم، ثم اتجر، وإذا كان الاتجار لم يأته موفور يرفعه إلي الثراء، فقد كان فيه الاكتفاء، فلماذا إذن تأخر فى الزواج. إن الذى نلمسه من تاريخ حياته فى ابتدائها، حتى صار شابا ممتليء الشباب أنه ما كان يعير شهوات البدن اهتماما، فليس للنساء موضع فى تفكيره، إنما يشغل النساء والطعام القلب الفارغ، وما كان محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فى أى دور من أدوار حياته مما يشغل قلبه لذات الجسم، وشهوات النفس، لاعن ضعف فى النفس، ولكن عن قوة فيها، وهمة عالية تتجه إلى معالى الأمور، وعزيمة صادقة، وإرادة قوية، لا تجعل للهو سلطانا عليها، بل تجعل كل العواطف تحت سلطانها، والغايات العليا هى التى تجذبها، فلا تجذبه امرأة مهما يكن فيها من جمال، ولا تستولى على نفسه غاية يتغياها تتعلق بالبدن، ولا مطلب من مطالب الجسد، وإن لم يتجه إلى الحرمان فى ذاته.

خديجة:

وكأنه لا يعيش إلا فى حياة روحية من غير حرمان، فليست نفسه مثقلة بهموم الجسد، وإن شئت تقول أنه الملك المريد المكلف الذى لا يعصى الله، لأنه يريد ألا يعصى، فهو لا يعصى لا متناع المعصية عليه، بل لأنه يكف النفس عنها، فله فى الكف فضل، وليس كالملك يمتنع عليه العصيان. خديجة: 111- لم يعرف أن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم، يتكلم فى صغره، ولا فى باكورة شبابه فى أمر الزواج إلا بعد أن نبه إليه، وصار مطلوبا، ولم يكن طالبا، ولنذكر الأخبار كما جاءت فى كتب السيرة فيما يتعلق بزواجه من سيدة قريش، كيف ابتدأت بالمشاركة فى التجارة، ثم بالمشاركة فى الحياة. اشتهر محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، بالأمانة والخلق الكريم، وتحدثت بأمانته الجماعات المكية فى سمرها وفى مجالسها، وكان قد مارس التجارة فى دائرة محدودة فى داخل مكة على قدر طاقته، وما يملك، وإنه لقليل. وكان لخديجة مال كثير، حتى إن عيرها التى تحمل بضائعها، كانت تعادل عير قريش كلها فى حجمها، ونفاسة ما اشتملت عليه من بضائع التجار. وكانت حكيمة شريفة فى قومها، تحتفظ بجمال، وشباب، وكانت أرملة زوجا لرجلين قد ماتا، وما كانت تتولى تجارتها بنفسها، لأن ذلك لم يكن شأنا من شئون النساء، بل السفر والترحال للاتجار كان من شئون الرجال، لصعوبة السفر فى هذا الإبان، وكما وصف السفر عبد الله بن عباس: لولا الأثر لقلت إن العذاب قطعة من السفر وليس هو قطعة من العذاب. كانت خديجة مع قوة شخصيتها لهذه الاعتبارات لا تذهب بتجارتها إلى الشام، وكانت تسلك إحدى طريقتين- إحداهما- أن تؤجر ناسا يكونون وكلاء عنها فى التجارة على أجر معلوم تعطيهم إياه، على مقدار ما يبذلون من جهد فى الرحلة، يبيعون ويشترون باسمها، ولا شأن لهم فى كسب التجارة، وإنما لهم أجر معلوم يأخذونه كسدت التجارة أو ربحت، وأجرهم مقدر بالأمن أو بالعمل أو بهما معا. الثانية: طريقة المضاربة الشرعية، وذلك بأن يتجروا فى المال بعقد بينها وبينهم على أن يكون الربح بينها وبينهم، مقسوما بحصص شائعة كالربع أو الثمن أو السدس، أو نحو ذلك، وملكيتها قائمة، وإذا خسرت التجارة تكون الخسارة عليها واحدها، لأن المال باق على ملكيتها، ويسمى هذا العقد المضاربة أو القراض.

ولا شك أن الطريقتين كانتا تحتاجان إلى أمانة كاملة، فكانت تتحرى فى أولئك العاملين لها الأمانة، لأنهم فى عملهم ينوبون عنها، ولا تلقاهم إلا فى ذهابهم ومجيئهم وكانت مع ذلك ترسل من قبلها من يكون معهم كميسرة مولاها. ولما كان محمد صلى الله تعالى عليه وسلم يعمل فى تجارة محدودة، وقد بلغها أمانته، وشرفه، وعفته واستقامة نفسه، اتجهت إليه، وكان هو فى مطارح أنظارها، والظاهر أنه بمجرد أن خطر على خاطرها، لم ترض غيره بديلا، لأنه لم يكن له نظير بين العرب، فى أمانته وعفته وشرف نفسه، وخلقه الكريم، وبعده عن التدلى إلى مهوى الرذيلة. 112- بينما هى تفكر فى اختياره وكيلا عنها فى رحلة القافلة التى تحمل عيرها مع غيرها كان أبو طالب عم النبى عليه الصلاة والسلام يفكر فى أن يعرض محمدا، صلى الله تعالى عليه وسلم، عليها للعمل فى تجارتها وكيلا، ليبعد عن محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، جهد السنين الشديدة التى كانت فى الأسرة. ويظهر أنها كانت تبحث عمن تراه كفئا لحمل العبء، ويتهافت عليها الطالبون، فأشار أبو طالب على محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، القوى الأمين، بأن يعرض نفسه مسارعا إلى ذلك خشية أن يسبقه غيره، ولكن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم، يرى فى العرض ذلة لا يرضاها الكريم، ومثار اتهام لا يرضاه الأمين، فهو يريد عزة المطلوب، لا ذلة الطالب، ولننقل للقارئ الكريم المجاوبة التى كانت بين العم وابن الأخ: قال أبو طالب: يا ابن أخى أنا رجل لا مال لى، وقد اشتد الزمان علينا، وألحت علينا سنون منكرة، وليس لنا مادة ولا تجارة، وهذه عير قومك قد حضر خروجها إلى الشام، وخديجة بنت خويلد تبعث رجالا من قومك، يتجرون فى مالها، ويصيبون منافع، فلو جئتها لفضلتك على غيرك، لما يبلغها عنك من طهارتك، وإن كنت أكره أن تأتى إلى الشام، وأخاف عليك من يهود، ولكن لا نجد بدا من ذلك. فيقول محمد الأمين صلى الله تعالى عليه وسلم: لعلها ترسل إلى فى ذلك. فقال أبو طالب: أخاف أن تولى غيرك «1» .

_ (1) المناقشة فى شرح المواهب اللدنية.

ونرى من تلك المناقشة كيف لا يعرض شرفه وأمانته، وتكونان محل قبول أو رفض لأن الأمين حقا وصدقا، لا يجعل الأمانة ولا الشرف متجرا يتجر به، ولكن الشرف فى ذاته مطلوب، والأمانة سجية، لا يتخذها سبيلا للكسب، وليس هو غايتها، لا تطلب إلا له، ولكن تكون ثمرة طيبة، كما تثمر الأرض الطيبة، والشجرة اليانعة. قيل أنها بلغتها هذه المحاورة بين العم وابن الأخ فطلبته، وأنها كانت تعرف صدقه وأمانته وكرم أخلاقه. وأنها ما كانت تعلم أنه يريد هذا. وعندى أنها كانت تفكر فيه، وأن رغبتها تلاقت مع رغبة عمه سواء أعلمت بالمحاورة أم لم تعلم، وإذا أراد الله تعالى أمرا تهيأت أسبابه، وكان التوفيق بنجاحه. أرسلت خديجة إلى محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، تطلبه وقالت له: «دعانى إلى البعثة إليك ما بلغنى من صدق حديثك، وعظم أمانتك، وكرم أخلاقك، وأنا أعطيك ضعف ما أعطى رجلا من قومك» . إننا نلمح من ثنايا السطور أنها كانت راغبة فى أن تعهد إليه بتجارتها من ذات نفسها أو أنها لرغبتها أعطته ضعف ما كانت تعطى غيره، ولماذا ضاعفت الأجر؟ الجواب عن ذلك أنها وقع فى نفسها أن التجارة ستكون رابحة بفضل الأمانة، ولتشجعه على الحرص، وربما تكون رغبة خفية، جعلتها تعامله بما لم تعامل به غيره، وأخفت ما لا تبديه مما جرى من خير بعد ذلك. ولقد سارع محمد عليه الصلاة والسلام، إلى عمه الحبيب يخبره بما جرى، لأنه طلبته، فسر عمه، وقال له «إن هذا رزق ساقه الله تعالى إليك» .

ارهاصات الرحلة

ارهاصات الرحلة 113- فصلت العير، وفيها خير خلق الله تعالى، تكلؤها عنايته سبحانه وتعالى، ولم تكن سفرا قاصدا بل كان فيها مشقة، وإن لم يكن فيها عنت فوق الطاقة، وكانت عير خديجة واحدها، تبلغ عير قريش كما أشرنا، حتى بلغت سوق بصرى التى بلغتها القافلة الأولى التى كان فيها محمد صلّى الله عليه وسلّم مع عمه أبى طالب، وهو فى الثانية عشرة من عمره. وروى أنه وصل إلى سوق «حباشة» وهى أرض بتهامة، ولكن الرواية الأولى هى المشهورة وهى أقرب إلى التصديق، أو هى الصادقة، لأن تهامة من أرض العرب، والرحلة كانت إلى الشام، إذ كانت العير حاملة البضائع إلى الشام، لا إلى العرب. وكان معه ميسرة مولى خديجة، لا ليرقبه، فما كان يتصور منها ذلك بالنسبة للنبى عليه الصلاة والسلام، ولكن ليخدمه وليعينه فى حله وترحاله. وكان خروج العير أو وصولها لأربع عشرة بقيت من ذى الحجة «1» ، وله عليه الصلاة والسلام خمس وعشرون سنة. وكأن هذه العير خرجت بعد قيام الأسواق التى تقام فى مكة أيام الحج، عكاظ، وذى المجاز، ومجنة، وهذا يوميء إلى أنها حملت من بضائع هذه الأسواق التى تجيء من اليمن وسائر نواحى العرب، قاصيها ودانيها، وذهبت إلى الشام محملة بها، وكانت البضائع تباع فى مكة، لتنقل من بعد إلى الشام، أو إلى اليمن. ولما وصلت العير إلى بصرى كان السير قد بلغ منه الجهد فاوى إلى شجرة قريبة من صومعة راهب هو نسطورا، وهو غير راهب الرحلة التى كانت مع عمه، إذ الأول اسمه بحيرى، وهذا اسمه نسطورا وقد مضى على الأولى نحو ثلاث عشرة سنة، ربما يكون الأول قد مات، أو غير صومعته. التقى الراهب بميسرة غلام خديجة، الذى كان فى معونة محمد عليه الصلاة والسلام وخدمته، وقال له: من هذا الرجل الذى نزل تحت هذه الشجرة؟ قال: هذا رجل من قريش من أهل الحرم، قال الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة إلا نبى. وكأن هذه الشجرة منذ القدم هى منزل الأنبياء ينزلون فى ظلها وغيرهم ينصرفون، ولا يلوون عليها، وقد استبعد بعض كتاب السيرة هذا المعنى، لبعد العهد بين محمد عليه الصلاة والسلام، وعيسى عليه السلام، والشجرة فى نظر هؤلاء المستبعدين لا تعمر فى العادة هذا العمر الطويل، وليس من المعقول أن تخلو شجرة من أن ينزل فيها السيارة فى الطريق الطويل وفيه الظل

_ (1) المواهب اللدنية للعسقلانى وشرحها ج 1 ص 198.

الإملاك:

والحرور، اللهم الا إن يقال إن هذه خصوصية للأنبياء، ينصرف عن الإيواء إليها غيرهم، ويجيء إليها النبيون كأنهم مأمورون بالإيواء» . ولهذا الاستبعاد فسر الأكثرون كلام الراهب بأنه ما نزل الان فى هذه الساعة تحت هذه الشجرة إلا نبى فهو يخص محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم، بوصف النبوة باعتبار أنه هو الذى نزل الان، لأمارات عنده. وربما نميل إلى ذلك التفسير، لأنه لا دليل على تخصيص الأنبياء بشجر أو منزل أو نحو ذلك، وإنما التخصيص فى الإكرام الشخصى. والأمارات الظاهرة فيه. «1» وقد قيل فى هذه الرحلة إنه كلما اشتد الحر، كان ميسرة يرى ملكين يظلانه من الشمس، وبعيره يحمله. وليس لنا أن ننفى ذلك الخارق للعادة إذا روى بسند صحيح، لا مجال للريب فيه، ولكن فى رواية ذلك كلام. أقام محمد عليه الصلاة والسلام فى الشام حتى باع أحمال العير الخاص بخديجة، ثم بثمن ما باع اشترى بضائع من الشام، وقفل راجعا بها إلى مكة. والربح يتعرف بمقدار الثمن الذى تبيع به لينقله التجار فى قافلة تذهب إلى اليمن. وقد باع كل البضائع التى اشتراها فى مكة، فكان الثمن ضعف رأس المال الذى كانت المتاجر التى ذهب بها محمد صلّى الله عليه وسلّم فكأن الكسب كان مثل رأس المال. وإن ذلك بفضل أمانة محمد عليه الصلاة والسلام، وحرصه فى التجارة، وبفضل ما هو أعظم من ذلك وهو البركة التى فاضت على محمد صلّى الله عليه وسلّم فيما يعمل. الإملاك: 114- إن ميسرة مولى السيدة خديجة أخبرها بما رأى من طيب نفسه، ومن لطف عشرته، ومن حسن معاملته ومن سماحته، ومن أنه موطأ الكنف يألف ويؤلف، مع شرف محتده، ومكارم

_ (1) يروى أن الراهب لما راه دنا إليه وقبل رأسه وقدميه، وقال له: امنت بك وأشهد أنك الذى ذكره الله تعالى فى التوراة، فلما رأى الخاتم قبله، وقال: أشهد أنك رسول الله تعالى النبى الأمى الذى بشر بك عيسى.. إلى اخر ما قال. ويروى أنه فى أثناء تجارته اختلف على بعض معامليه فقال الرجل: أحلف باللات والعزى فقال: ما حلفت بهما، قال: القول قولك.

أخلاقه العامة والخاصة، ولعله أخبرها أيضا بما كان من لقاء الراهب، ومن إكرام الله تعالى فى الحر، وما حسبه ملكين يظلانه فى الحرور إذا اشتد، وغير ذلك من ارهاصات. ثم ما كانت ترى من مكانة له فى قريش، ومحبة غامرة له من كل من يلقاه، فهو المحبوب المألوف. كل هذا أوجد فيها طموحا لأن تكون زوجا له، وأن تكون أما لأطهر الأولاد من أطهر الرجال، ورغبت فى ذلك أشد الرغبة، وهى التى بعد هلاك زوجيها الأولين اللذين كان لها منهما الولد- كثر طلاب يدها من أشراف مكة، ولكنها العزوف العيوف التى ردت كل طلب مع كثرة من طلب، وعلو أقدارهم المادية فى نظر الناس، والنسبية فى نظر ذوى الأنساب. ولكنها وجدت فى الشاب الهاشمى محمد صلّى الله عليه وسلّم ما ليس فى الرجال شيبا وشبابا- فرغبت فى الإملاك منه فى غير عشق ولا هيام، ولا رعونة وطيش، ولكن فى إرادة مقدرة، وتفكير فى الماضى والحاضر والقابل، فقد علت خديجة عن حال العشاق، ولم يكن سنها، ولا شرفها، ولا مكانتها فى قريش لتسمح أن يغريها من الصفات ما يغرى الغريرات من النساء. ولكن محمدا (عليه الصلاة والسلام) هل طمع فى الزواج منها أو من غيرها؟ أو هل حدثته نفسه بمعنى من هذه المعانى، أو هاجسة من هذه الهواجس؟ إنه لم يثبت شيء من ذلك لأن محمدا عليه الصلاة والسلام ما خلب كبده أمر من أمور اللذائذ والشهوات وما يتصل بها، ولكنه إذا نبه يتنبه، فكان لابد من منبه. 115- أدركت بفطنتها وغريزتها أنه لابد من أن ينبه، فتولت هى ذلك الأمر وللنساء فيه قدرة، وإن كانت من مثل خديجة فيه مواجهة واحتشام من غير إسفاف. أرسلت نفيسة بنت منية لتنبه محمدا عليه الصلاة والسلام ولتجس نبضه. وقد فعلت، ولنترك الكلمة لها: قالت: كانت خديجة امرأة حازمة جلدة شريفة مع ما أراد الله بها من الكرامة والخير، وهى أوسط قريش نسبا، وأعظمهم شرفا، وأكثرهم مالا، وكل قومها كان حريصا على نكاحها، لو قدر على ذلك، طلبوها، وبذلوا لها الأموال ... فأرسلتنى دسيسا إلى محمد صلى الله تعالى عليه وسلم بعد أن رجع فى عيرها من الشام، فقلت: يا محمد- عليه الصلاة والسلام- ما يمنعك أن تتزوج.. قال: «ما بيدى ما أتزوج به، قلت: فإن كفيت ذلك ودعيت إلى المال والجمال والشرف والكفاءة، ألا تجيب. قال: فمن هى؟ قلت: خديجة. قال: وكيف لى بذلك، فذهبت فأخبرتها فأرسلت إليه أن ائت لساعة كذا» ذهب محمد عليه الصلاة والسلام للقائها، فواجهته بالأمر، وخاطبته بعد أن استوثقت من أنه لا يردها،

فقالت «يا ابن عم إنى قد رغبت فيك لقرابتك وسطتك «1» فى قومك، وأمانتك، وحسن خلقك، وصدق حديثك» وعند هذا العرض الكريم أعلن القبول، وإن لم يكن ذلك القبول فى عقد، بل هو خطبة. والسيدة الكريمة الحازمة لم تترك الأمر بينها وبينه، بل لابد من تلاقى الأسرتين بعد، وتلاقى الإرادتين، وتوافق الرغبتين، لأن الزواج اتصال أسرتين لا مجرد اتصال فردين. ولذا قالت لمحمد عليه الصلاة والسلام: اذهب إلى عمك، فقل له عجل إلينا بالغداة. جاء إليها أبو طالب، فقالت له: يا أبا طالب اذهب إلى عمى، فقل له: يزوجنى من ابن أخيك. فوافق أبو طالب على أصل الزواج، وعلى أن يقوم من جانبه، وقال: «هذا صنع الله» . 116- تمت الخطبة، وتراضت الأسرة، وكان يوم الزواج، وكان الصداق اثنتى عشرة أوقية من ذهب ونصف أوقية. اجتمع رؤساء مضر، وكبراء مكة وأشرافها لإتمام العقد، وكان وكيل الزوج عمها، وأبو طالب كان المتكلم باسم محمد عليه الصلاة والسلام، وقف أبو طالب خطيبا، وقال: الحمد لله الذى جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع إسماعيل، وضئضيء معد «2» وعنصر مضر، وجعلنا حضنة بيته، وسواس حرمه، وجعل لنا بيتا محجوجا، وحرما امنا، وجعلنا الحكام على الناس، ثم إن ابن أخى هذا محمد بن عبد الله- صلى الله عليه وسلم- لا يوزن برجل إلا رجح به، وإن كان فى المال قلا فإن المال ظل زائل، وأمر حائل، ومحمد صلى الله تعالى عليه وسلم- من قد عرفتم قرابته، وقد خطب خديجة بنت خويلد، وقد بذل لها من الصداق ما اجله وعاجله اثنتا عشرة أوقية ذهبا ونشا «3» ، وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم، وخطر جليل. وقد وقف بعد ذلك ورقة بن نوفل «4» ، ويظهر أنه كان له ما يسوغ أن يعقد من قبلها وخطب قائلا فقال: الحمد لله الذى جعلنا كما ذكرت، وفضلنا على ما عددت، فنحن سادة العرب وقادتها، وأنتم أهل ذلك كله لا تنكر العشيرة فضلكم، ولا يرد أحد من الناس فخركم ولا شرفكم، وقد رغبنا فى

_ (1) أى توسطك وكونك من أوسط قومك أى أعلاهم نسبا. (2) ضئضئ معناها أصل. (3) أى نصف أوقية. (4) كان ابن عمها.

الاتصال بحبلكم، وشرفكم، فاشهدوا يا معشر قريش بأنى قد زوجت خديجة بنت خويلد من محمد بن عبد الله- صلى الله تعالى عليه وسلم- ولكن أبا طالب أراد أن يتكلم عمها بالقبول، لأنه أقرب إليها من ورقة فقال: قد أحببت أن يشركك عمها» فقال عمها: «اشهدوا يا معاشر قريش أنى قد أنكحت محمد بن عبد الله- صلى الله تعالى عليه وسلم- خديجة بنت خويلد، وشهد على ذلك صناديد قريش» ، ومن هذا كله يتبين أن الذى تولى تزويجها عمها عمرو بن أسد، وشركه ابن عمه ورقة بن نوفل «1» . والمشهور بين العلماء وأصحاب السير والتاريخ أن سنه عليه الصلاة والسلام فى وقت الزواج كانت خمسا وعشرين سنة، وكانت هى فى الأربعين من عمرها. ولقد كانت أقوال أخرى فى سنهما عند الزواج، ولم يبلغ واحد منها مرتبة الشهرة، فقيل أن سنه عليه الصلاة والسلام كانت الحادية والعشرين، وقيل كانت التاسعة والعشرين، وقيل كانت الثلاثين، وقال ابن جريج كانت السابعة والثلاثين. وهذه أقوال ليس لها سند، والمشهور هو المعتمد، حتى يقوم الدليل على خلافه، وذلك فوق أن بعضها لا يتلاقى مع النسق التاريخى، ذلك أن المتفق عليه أن الزواج لم يكن فور حرب الفجار، بل كان بعده بمدة، ولو كان فى الحادية والعشرين، لكان فوره، والتقدير بالسابعة والثلاثين بعيد التصديق لأن مؤاده أن محمدا عليه الصلاة والسلام عاش راهبا إلى أن بلغ السابعة والثلاثين، وأن بناته غير فاطمة تزوجن قبل الهجرة، وبعضهن تزوجت وطلقت ثم تزوجت، ولو كان زواجه فى السابعة والثلاثين

_ (1) ننبه هنا إلى أمرين- أولهما- أننا اعتمدنا فى تقدير المهر على ما جاء فى خطبة أبى طالب، وجاء فى بعض كتب السيرة أنه أمهرها عشرين بكرا، أى أنه ذكر أن المهر كان بالنوق، وقد جمعوا بين التقديرين بأن الثانى كان قد زاده النبى عليه الصلاة والسلام، لأن الكرام يزيدون على ما هو مفروض. وقد يقال أن المذكور من الذهب هو تقدير للقيمة. الأمر الثانى- أن المشهور المعروف أن الذى زوجها هو عمها عمرو وهو المشهور. وقيل أخوها عمرو بن خويلد، والأول هو الذى عليه المعول، ولا التفات لغيره. وما ذكره ابن إسحاق من أن الذى زوجها أبوها خويلد غير صحيح، لأن خويلد قد مات قبل حرب الفجار، وذلك ثابت مشهور، ولأن الخبر الذى يقول أن الذى زوجها هو أبوها تضمن ما يدل على كذبه. فقد قال رواته أن أباها كان سكران من الخمر. وكلمه وهو سكران فألقت عليه حلة وضمخته بالطيب، فلما استفاق، قال: ما هذه الحلة والطيب، فقالت: قد أنكحت منى محمدا، فأنكر، ثم لما رأى محمدا- صلى الله تعالى عليه وسلم- وافق. وإن احتمال أن يعقد رجل من أشراف العرب عقد زواج وهو سكران يستنكره العرف والعقل، ولا يمكن أن يقدم عليه أبو طالب، وهو كبير ومسن، ووكيل للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى الزواج.

أغناه الله وواساه

ما كن بلغن سن الزواج قبل الهجرة، وخصوصا أنه ما كان أول أولاده من أم المؤمنين خديجة أنثى، بل ولده القاسم الذى كان يكنى به، ثم ابنه الطيب ثم الطاهر، وهكذا نرى أن السياق التاريخى لا يتسق إلا مع المشهور، وهو ذو السند، ولا سند لغيره. وأما سنها، فقد كان المشهور أربعين وقيل كانت فى الخامسة والثلاثين، وقيل كانت فى الخامسة والعشرين، ولا سند لهذه الأقوال، ولكن التاريخ يعتمد دائما على المشهور الذى له سند يعتمد عليه، ولا خلاف بين كتاب السيرة فى أن سنها رضى الله تعالى عنها، وجزاها عن الإسلام خيرا كانت أربعين، وغيرها أقوال منثورة لم يؤيدها كتاب السيرة والمحققون. ولسنا من الذين يتجهون إلى الإغراب، لأن الإغراب إن كان سائغا فى بعض العلوم، فهو لا يسوغ قط فى التاريخ، لأن تتبع الإغراب فى التاريخ إنكار لما اشتهر، وارتضاء بما لم يشتهر من غير سند. إن الحقائق هى الأمور المشهورة، ورد ما عداها، إلا إن قام الدليل المكذب للمشهور بما لا يقل عنه قوة، والله تعالى أعلم. أغناه الله وواساه 107- ولد محمد عليه الصلاة والسلام يتيما، وعاش يتيما، ثم اتاه الله تعالى اليسر العامل، وكفاه العيش الكادح، رعى الغنم ودبر التجارة، ثم بسط الله تعالى له الرزق، واتاه الزوج الوفية الرضية، فأكمل الله بها إنسانيته، وأكمل لها أمومتها، وتوافقا فى قطع فيافى هذا الوجود، وكمل كل منهما ما ينقصه بما عند الاخر، هى امرأة شريفة، ذات ثراء، وهو رجل مكتمل عامل قوى أمين، فأغناها بأمانته، وكفلها برجولته، ووجه مالها إلى الخير، بحسن نيته وطيب طويته. وقد كان يعمل لها فى المال من قبل بأجر مضاعف، تطيب به نفسها، ويكسب مالها على يديه أضعاف ما ينتج غيره، وكان عبدا شكورا، ولو استمر فى هذه الطريق يعمل فى مالها ومال غيرها، لأدر الله تعالى عليه أخلاف الرزق، ولو كان يبتغى المال وأعراض الدنيا هذه، لنال الشباب والمال معا. ولكنه رأى أن يعمل فى مالها بغير أجر، وأن يضاعفه بغير ثمن، وأن تكون أم ولده، لطيب عرقها وشرف نفسها، وقد تخير لنطفته، فاختار أكمل امرأة فى قريش، وأعلاها فى المكرمات كعبا، وقد اختارها الله تعالى لتكون له ردا فى شدائده، تواسيه بالكلام والعطف والحنان، فى وقت اشتد فيه

البلاء، وعظم الابتلاء، فأعنته المخالفون، وكان عزيزا عليه أن يعنتهم. فكان فى حاجة إلى من يأوى إليه، كما هو فى حاجة إلى من يذود عنه. وإذا كانت امرأة نوح وامرأة لوط قد تخاذلتا عن معاونة النبيين الصالحين، فامرأة محمد عليه الصلاة والسلام أعلت شأن النساء قاطبة، فكانت الزوج الملهمة المواسية، الودود العطوف الولود، يلقى قريشا وصدودها، وعداوتها وجفوتها، فإذا اوى إلى بيته وجد بردا وسلاما. وإذا كان قد فقد عطف الأم الرؤم فى صدر حياته فى وقت الحاجة، فقد عوضه الله تعالى فى خديجة زوجا وأما ورفيقة الحياة. 118- أغنى الله اليتيم، كان عائلا فأغنى، فهل طغى واستغنى، هل عبث وتلهى، هل اتخذ الحياة لهوا ولعبا، هل أخذ فى التكاثر، والمكاثرة! لا شيء من ذلك، إنما يفعل ذلك من اتخذ المال غاية، ولم يتخذه سبيلا للخير وعون الإنسان لأخيه الإنسان. ومحمد عليه الصلاة والسلام ما اتخذ المال بغية يبتغيها، ولا غاية يتطلع إليها، فما أراد التكاثر، وما عرفه فى أى دور من أدوار حياته. إنما اتخذه وسيلة للمكرمات يقوم بها، وللخير يسديه، فكان يطعم الكل، ويعين على نوائب الدهر، ولا يجد ذا حاجة إلى العون إلا أعانه، ولا ذا خصاصة إلا سدها، ولا ذا مسغبة إلا أشبعه، ولا ذا متربة إلا رفعه، كان يبحث عن مواضع الحاجة، فيرأب ثلمتها. تلفت فيمن حوله، فرأى كافله وحبيبه أبا طالب فى ضيق، وعيلة، فجاء إلى عمه العباس وكان ذا ثراء، وقال له: هلا أخذنا بعض ولد أبى طالب ليتخفف من ضيق، فعرضا عليه الأمر فقال اتركا لى عقيلا، وخذا من شئتما، فأخذ صلى الله تعالى عليه وسلم، عليا، وأخذ العباس جعفرا، فكان على ولده الذى تربى فى مهد النبوة. وكل من حول محمد صلى الله تعالى عليه وسلم كانوا ممدودين بعونه وفضله، وخلقه، فكأنه استولى على مال خديجة ليوزع فى الخير ثمراته وليكون خيره عميما، وفضله كثيرا. وبينما كانت قريش تكسب بالربا والبيع الحلال، وتشبه أحدهما بالاخر، فتقول البيع مثل الربا، كان محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، يتجر فى الحلال، ولا يكسب من إثم، ويعين ويغيث به الملهوف، والكسب مع ذلك وفير.

وهنا يسأل سؤال: لماذا ابتدأ بالقل وانتهى بالكثر! والجواب أن حياة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فيها قبل البعثة البشرية الكاملة فى كل أحوالها فى سرائها وضرائها، فى كريهتها، ومنشطها، فى ضيقها ورخائها، فلم يتربه الفقر ولم يذله القل، بل صبر عزيزا، وقنع كريما، وجد ليكسب قوته، وحاول أن يخرج من ضيق الفقر بقوة العمل، من ضنك العيش ببحبوحة النفس، وغناها، فكان الفقير العزيز الكريم العامل المكتسب المبين، فلم يقل فى فقره ربى أهانن، وعاش مع الضعفاء شاعرا بضعفهم، وبإحساسهم، لا يسير وراء الأمانى والأحلام. ثم اختبره الله تعالى بالمال، فكان الشاكر، الذى يفيض بالخير على غيره، ويعلم حق المال فى مورده، ومصرفه معا، فلا يكسب إلا من طيب، ولا ينفقه إلا فى طيب، وهو فى كسبه وإنفاقه لا يكون إلا نافعا، فكسبه طيب، وصرفه طيب. وثبت من النظر الاجتماعى أن الكسب الطيب هو الذى يكون بطريق فيها نفع عام، فالزراعة كسب طيب، لأن فيها تقديم الغذاء والكساء مما تخرج الأرض من زروع وأثمار، والعمل باليد فيه كسب طيب، لأن فيه نفعا عاما بالصناعات النافعة، والاتجار كسب طيب، لأن فيه الجلب للناس من أماكن لا يخرجون إليها وفيه توزيع خيرات الأرض على أهل الأرض لا يحرم منها إقليم ولا يستطيل بالقوة المادية فيها طاغ. وأخيرا محمد بن عبد الله (صلى الله تعالى عليه وسلم) ضرب للناس فى بشريته قبل البعثة أعلى مثل للفقير الصابر العامل فى فقره، والغنى الشاكر الذى عاش كالضعفاء فى غناه، فكان غنى النفس فى الحالين. 119- وإن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم، بعد أن استقامت لديه أسباب الرزق لم يتجه إلى اللذات يشتار عسلها ويترع منها، بل كان الزاهد فى غير الحلال المعروف الذى لا يتنافى مع المروءة ومكارم الأخلاق، بل كان زاهدا غير محروم، وطالبا للطيبات غير مبتغيها، لأن الابتغاء قد يدفع إلى اشتهائها. وهناك أمر اخر، كان يجعل المال غير ذى شأن إلا بالقدر الذى يعين على مكارم الأخلاق، والنفع لبنى الإنسان، وهو ابتعاده عن كل أوهام الجاهلية، وأحقادها، ومنازعاتها. وفى وسط بحبوحة العيش، ومن غير ترفه، قد أخذ يدرس الكون وما فيه ومن فيه، ما وراء الكون من أسرار الوجود، مبتعدا عن الوثنية، وما حولها، مستنكرا عبادتها، غير مستسلم لتوهم أن فيها تأثيرا فى الإنسان.

إعادة بناء الكعبة

فما سجد لصنم قط، وما أغواه شر قط بل كان الطيب الوادع الأمين. وكان قويا فى بدنه، غير مسترخ فى عضله، فهو يصارع ركامة أقوى أهل مكة فيصرعه من غير اعتداء، ما عرف عنه قبل البعثة أنه اعتدى على إنسان، وما تناول بيده مخلوقا قط، فما عرف أنه دخل فى شحناء، لأنها لم تكن من شأنه، وما أشر، وما تكبر، وما طغى. وإذا كان موسى القوى قد أثر أنه وكز مصريا اضطهد إسرائيليا فقتله، لاعتدائه على أحد من شيعته، ولم يكن ظالما، فما عرف عن محمد أنه تناول إنسانا عدوا أو وليا بأذى قط، ولكل فضل، وقد فضل الله تعالى بعض النبيين، فما كانت قوة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم على أحد، بل كانت قوته لله تعالى، وللإنسانية، ثم لقومه من غير اعتداء. إعادة بناء الكعبة 120- ما من أمر جامع فيه خير فى ذاته، وللناس كافة، إلا اشتراك فيه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بفضل من المال والعمل، وإن قريشا، بل العرب أجمعون كان يربطهم رباط لا يهى ولا ينقطع، لأنه يتجدد انا بعد ان، وهو يتكون من عنصرين: أحدهما الكعبة المكرمة التى بناها أبو الأنبياء الخليل إبراهيم صلى الله تعالى عليه وسلم، وهى أول بيت وضع للناس، والحج إليها، وإقامة المناسك فيها. ثانيهما- اعتقادهم أن الله سبحانه وتعالى خالق السموات والأرض، وقد كانوا حريصين على تلك الرابطة، لا يتركونها، ولا يقطعونها، وخصوصا قريشا، إذ وجدوا فيه عزهم الذى يعتزون، وشرفهم الذى يتنافرون به أمام العرب جميعا، ويجعل لهم سيادة وحكما، وحسبهم أن العرب يتقاتلون إلا فى أرضهم، فإذا جاؤا إليهم كانوا فى حرم امن، كما من الله سبحانه وتعالى عليهم، فقال تعالت كلماته: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً، وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ، أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ «1» . وقد أصاب الوهن بناء الكعبة المشرفة، فأرادت قريش أن تجدد بناءها، وكان ذلك بعد عشر سنين من تزوج محمد بن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم من أم المؤمنين خديجة رضى الله تعالى عنها وكان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد بلغ الخامسة والثلاثين، رجلا سويا. ولم يكن قبل تزوجه كما توهم بعض الرواة من غير سند صحيح. وبذلك كان بناء الكعبة المشرفة قبل مبعث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بخمس سنين إذ أن البعث كان فى الأربعين، وتجديد البناء كان فى الخامسة والثلاثين من عمره الشريف.

_ (1) سورة العنكبوت: 67.

وكان التجديد ليكون على ما بناه إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وإن قريشا أخذت لهذا البناء أهبته، واتفقت على ألا يكون البناء إلا من مال طيب لا خبث فيه، وأن يكون العمل بنية طيبة خالصة. وقد قال فى ذلك ابن كثير: «كانت الكعبة المشرفة حرزهم ومنعتهم من الناس، وشرفا لهم» لذلك أرادوا بناءها لما خشوا عليها من التهدم، وقد قال أحد كبراء بنى مخزوم، عندما هموا ببنائها: «يا معشر قريش لا تدخلوا فى بنائها من كسبكم إلا طيبا، لا يدخل فيها مهر بغى، ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس» «1» . 121- هذا السياق يدل على مدى تأثرهم بالكعبة المكرمة وتعظيمهم لها، ومكانتها عندهم، ويدل أيضا على أن الكعبة الشريفة واتصالها بالخليل إبراهيم جعلت حبلهم موصولا به، وأوجد ذلك فيهم نوعا من الوجدان الحى، كان هو النبت الذى صار زرع الإيمان والتوحيد من بعد ذلك. وإن ذلك يستدعينا أن نرجع إلى الخليل إبراهيم لنرى كيف كان البناء الأول للبيت، ثم تنزل من بعد ذلك إلى ما كان من بعد. إن إبراهيم أول من بنى البيت، ولا يذكر التاريخ الراجح الصدق ما يشير إلى أنها قد بنيت من قبل إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وقد قال فى ذلك ابن كثير رضى الله عنه: «لم يجيء فى خبر صحيح عن معصوم أن البيت كان مبنيا قبل الخليل عليه السلام، ومن تمسك بهذا بقوله تعالى «مكان البيت» ، فليس بناهض ولا ظاهر، لأن المراد مكانه المقدر له فى علم الله المقرر فى قدره المعظم عند الأنبياء موضعه من لدن ادم إلى زمان إبراهيم ... » . ثم يقول عما قيل من أن ادم عندما نزل إلى الأرض نصب قبته فيها، وأن الملائكة قد قالوا: طفنا قبلك بهذا البيت، وأن سفينة نوح طافت به أربعين يوما: «ولكن كل هذه الأخبار عن بنى إسرائيل، وقد قررنا أنها لا تصدق، ولا تكذب» وينتهى من هذا ابن كثير إلى أن التاريخ الإسلامى لا يعرف بانيا للكعبة قبل إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وإننا نقف حيث وقف ولا نسير وراء أوهام أو أساطير لم يوجد من التاريخ الصادق ما يوثقها، ولا من الكتب الدينية الثابتة الصحيحة ما يؤيدها، فلا نهيم فى ظنون وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً «2» .

_ (1) البداية والنهاية لابن كثير ج 2 ص 301. (2) سورة النجم: 28.

وقد بينّا أن البقعة فى ذاتها قبل البناء عليها كانت معروفة فى التواريخ القديمة، وقد أكد هذا المعنى ابن كثير، فقال إن بقعة البيت الحرام كانت معظمة من قبل بناء إبراهيم، فقال: «وكانت بقعته معظمة قبل ذلك معتنى بها، مشرفة فى سائر الأعصار والأوقات» . وإن ذلك كلام حق إذ أن نص القران الكريم يوميء إلى أن البيت كان له مكان مقدر قبل أن يبنيه خليل الله تعالى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم السلام، وقد قال تعالى: وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ «1» فكلمة بوأنا توميء إلى ان الله تعالى قدر لهذا البيت مكانا من قبل، وهدى إليه إبراهيم عليه الصلاة والسلام. وإننا إذ انتهينا إلى ما قرره ابن كثير وغيره من أن مكان البيت كان معتنى به، وكان معظما ومشرفا، قبل إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فإنا قد نحسب أن تكون بناية قد أقيمت حوله للعناية به، ولحفظه من أن يضيع فى غيره، ولكن من هم الذين بنوه، وما مدى ما فعلوا؟ إن ذلك هو المسكوت عنه، والبحث عنه من غير وسائل معرفة من كتاب معصوم، أو تاريخ وثيق، رجم بالغيب وتظنن فى غير مظنة. ولعل فضول العلم تجعلنا نتساءل أيهما بنى أولا، البيت الحرام أم المسجد الأقصي، فنجيب أنه من المؤكد أن البيت الحرام الذى بناه هو إبراهيم، وقيل إن الذى بنى بيت المقدس هو يعقوب حفيد إبراهيم، وقيل بنى من بعد ذلك، وقد ثبت فى الصحيحين عن أبى ذر: قلت: يا رسول الله، أى مسجد وضع أول: قال المسجد الحرام، قلت: ثم أى؟ قال: المسجد الأقصى» . ولابد أن نتصور أنه بعد أن بناه إبراهيم خليل الله تعالي، قد جرت فيه إصلاحات كثيرة، فما كان بناء إبراهيم عليه الصلاة والسلام ليستمر قائما غير قابل للتهدم أكثر من ألفى سنة، فلم يكن كالأهرام بناه فرعون الذى اغتصب كل القوى فى بنائه، ولكن بناه إبراهيم الخليل هو وابنه الذبيح من غير أن يجرى فيه غصب حجر أو مدر أو وبر، أو قوة أى إنسان.

_ (1) سورة الحج: 26.

بناء قريش

بناء قريش 122- اتجهت قريش بعزمة ماضية، وإن شئت فقل مخلصة طاهرة، إلى بناء البيت بجهود أبنائها، وأموالهم الطيبة التى لا خبث فيها، فليس فيها ثمن دم مغصوب، ولا ربا، ولا مهر بغى، ودخلوا غير متنازعين، ولا متخاصمين، ولا متخاذلين، أعدوا لذلك العمل الخطير فى معناه، وإن لم يكن البناء كبيرا فى ذاته بين الأبنية التى كانت تجرى فى إرم ذات العماد، وفرعون ذى الأوتاد، ولكنها أقدس ما بنى البشر، وما أقام أهل الحضر والمدر والوبر، لأنها الكعبة، أول بيت وضع للناس مباركا. تقدموا للهدم ثم البناء، ويظهر أن قدم العهد بالبناء والأحجار، قد جعل بعض الهوام يعيش على مقربة منه، فقد زعموا أنهم قد رأوا حية قد أحاطت بالبيت رأسها عند ذنبها، فأشفقوا منها إشفاقا شديدا وخشوا أن يكونوا قد وقعوا منها فى هلكة، ووقفوا حيارى لا يقدمون، فلما سقط فى أيديهم، والتبس عليهم الأمر، حسبوا أن يكون ذلك لتأثمهم عند البناء بإثم، أو ليس فى مالهم طهر، أو فى العمل الذى أعدوه خبث، أو أن فى النفوس شيئا، عندئذ وقف المغيرة المخزومى، ينصح لهم بعدم التحاسد والتشاجر، وأن يقتسموا، ثم جددوا العزيمة. وقد جاء فى تاريخ الحافظ ابن كثير أنهم لما عزموا ذهبت الحية، وتغيبت عنهم، ورأوا أن ذلك من الله عز وجل. وإن خبر الحية إن صح نقول إما أن تكون قد ركنت إلى بعض أحجار الكعبة، ويصح أن المولى جل جلاله سيرها إليهم لا من السماء، ولكن من مكان اخر، ليفزعوا، ولتتطهر قلوبهم من رجس الجاهلية عند بنائها، فهى بيت الله الذى بناه بأمر نبيه إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فلابد أن يا بنى بأطهار على الأقل فى ساعة بنائه، وقد قاموا بتطهير أنفسهم، وتطهير أموالهم، وتولوا بأنفسهم إقامة البناء. «اقتسموا البناء أرباعا، فكان الربع الأول الذى فيه شق الباب لبنى عبد مناف وزهرة، وبنو مخزوم لهم ما بين الركن الأسود والركن اليمانى، ومعهم بطون من قريش إنضموا إليهم، وظهر الكعبة لبنى جمح وسهم، وكان شق الحجر لبنى عبد الدار بن قصى وبنى أسد بن عبد العزى وبنى عدى، وهو الحطيم» «1» . وبعد أن قسموا هذا التقسيم، وارتضته القلوب كان يجب أن يبتدئ العمل بالهدم أولا، ثم البناء ثانيا، ولكن لهيبة الكعبة فى نفوسهم، ولعجزهم عن أن يعرفوا أهذه إرادة الله رب البيت وحاميه، أم هى أهواؤهم الدافعة إلى أن يفعلوا- هابوا أن يهدموا. عند هذا التردد والتلكؤ تقدم الوليد المخزومى، وحمل

_ (1) البداية والنهاية ج 3 ص 303.

المعول، وقال: أتقدمكم، وهو يقول: اللهم إنا لا نريد إلا الخير، ثم هدم ناحية من الركنين (الركن الأسود والركن اليمانى) وهما حصة بنى مخزوم، ومع ذلك لم يتقدم كل ذى حصة من حصته ليهدمها. أصبح الوليد معتزما من غداته متمما ما بدأ بمعوله، فأخذ يهدم الناس معه، كل يهدم ما فى حصته، وأخذوا يهدمون، حتى رأوا أساس البناء الذى وضعه خليل الله عليه الصلاة والسلام. ومن مقتضى الفطرة التى لم يأت بها رسول أن تجرى أوهام كثيرة، وأن تروى أخبار حول هذه الأوهام، وإنا نضرب عن كل ذلك صفحا. 123- وإنهم قد أخذوا من بعد ذلك فى إقامته، ويظهر أنه قد عاونهم فى الرسم والبناء رجل قبطى اسمه باقوم، فهو الذى وضع هندسة البناء، وكان مولى لبنى أمية. وقد قام كل فريق بحصته فى البناء، وقد اشترك النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وكان زميلا فى العمل لعمه العباس بن عبد المطلب، وقد روى الشيخان (البخارى ومسلم) فى ذلك عن جابر أنه لما بنيت ذهب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، والعباس ينقلان الحجارة، فقال العباس للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم: «اجعل إزارك على رقبتك يقيك من الحجارة ففعل فخر إلى الأرض، وطمحت عينه إلى السماء، ثم أفاق، فقال إزارى إزارى، فشد عليه إزاره، فما رؤى بعد ذلك عريانا» . هذا حديث صحيح، روى عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم سقناه لبيان أن محمدا عليه الصلاة والسلام اشترك فى أشرف عمل قامت له قريش، وهو فى شرخ الشباب، وحمل الحجارة، وأنه لم يأخذه الترف قط، وأنه لم يفكه فى نعيم المال، فكانت حياته حياة الأقوياء، وإن الخبر يدل على أن الله تعالى كان يرعاه، وقد رباه على عينه، فلما أخذ بنصيحة عمه العباس، ووضع بعض ثوبه على رقبته انكشف بعض عورته، فطمحت عينه إلى السماء وأصابته غشية اتصال بالملأ الأعلى، وسترت عورته، فقد كان فى حراسة الله سبحانه وتعالى، وحياطته. ولا نرد الخبر لما فيه من غرابة، فقد رواه الشيخان البخارى ومسلم بسند صحيح، وما يروى بسند صحيح لا يرد لمجرد غرابته على الحس والأسباب والمسببات، إنما يرد لوجود دليل يثبت أن ذلك مستحيل، والأمر فى قدرة الله سبحانه وتعالى خالق الأسباب والمسببات، ومانح كل ما فى الوجود نعمة الوجود.

لقد أتموا بناء البيت الحرام، وكان ارتفاعه الذى بنوه ثمانية عشر ذراعا وأخرجوا منه الحجر، وهو ستة أذرع، أو سبعة من ناحية الشام، لأنهم قد قصرت نفقتهم، فلم يتمكنوا أن يبنوه على قواعد إبراهيم. وقد يسأل سائل، إن المفروض أن قريشا كانوا من أغنياء العرب، وبجوارهم ثقيف، وهم أغنياء، وكان ممكن أن يعلنوا اكتتابا عاما يجمعون به ما يريدون، فكيف تقصر بهم النفقة عن البناء. والجواب عن ذلك أنهم لم يشركوا العرب فى بنائهم ليبقى لهم الاختصاص بسدانته وبشرفه، وبإنشائه، وفوق ذلك هم أرادوا ألا ينفقوا منه إلا بمال مكسوب من طيب حلال، وليس بمكسوب مما يجرى فيه كسب خبيث أو فيه شبهة خبث قط، ويظهر أن الطيب من المال عندهم لم يكن كثيرا، إذ كثر فيهم الربا والميسر، ومن الصعب إخراج الطيب، من بين هذا كله. ولقد جعلوا للكعبة بابا واحدا من ناحية الشرق، ويقول ابن كثير: جعلوه مرتفعا لئلا يدخل إليها كل أحد، فيدخلوا من شاؤا، ويمنعوا من شاؤا. وإن النبى عليه الصلاة والسلام كان يريد أن يعيد البيت إلى ما كان على بناء إبراهيم عليه الصلاة والسلام، لولا أنه يخشى عليه كثرة الهدم والبناء، فقد ثبت فى الصحيحين عن عائشة رضى الله تبارك وتعالى عنها أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال لها: «ألم ترى أن قومك قصرت بهم النفقة، ولولا حدثان قومك بكفر لنقضت الكعبة، وجعلت لها بابا شرقيا، وبابا غربيا وأدخلت فيها الحجر» . 124- تم بناء البيت الحرام، ولم يختلفوا فى شيء عند إقامته، لأن كل قسم منه اختصت به بطن من بطون قريش، ولكن أمرا لا يقبل القسمة اختلفوا فيه، وهو الحجر الأسود، اختلفوا فيمن الذى يضعه فى موضعه من هذه البنية. تجادلوا فيمن يضعه، وتخالفوا، وكان الخلاف شديدا، وكادت الدماء تسيل لتلغ فيها السيوف، أراد بنو عبد الدار أن يضعوه، بما أعطاهم من قبل قصى من سدانة البيت، وقربوا جفنة مملوءة دما، ثم تعاقدوا هم وبنو عدى بن كعب بن لؤى على الموت وأدخلوا أيديهم فى الدم المملوءة به الجفنة. ومكثت قريش على تلك الحال التى تأزمت حلقاتها أربع ليال سويا. ثم اجتمعوا بعدها فى المسجد الحرام، وتشاوروا فى هدأة، وأخفيت جفان الدم أو جفان الموت، وتناصفوا فى القول، وأخفوا نوازع الشر، أو استلوها من الأضغان، وأن القصد الطيب يكف فى كثير من الأحيان نوازع الشر، فيفتح فى وسط الخصام، نورا من الوئام، وقد كانت الجلسة الهادئة سبيل ذلك، ببركة بيت الله الحرام.

لقد وقف أسن قريش يدعوهم إلى السلام وإنهاء الخصام، فقال: «يا معشر قريش اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضى بينكم: فارتضوا ذلك، وعلموا أنه توفيق الله تعالى عندما ظهر أول داخل، فإذا هو محمد بن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال كبيرهم: هذا الأمين رضينا به حكما. وكان محمد صلى الله تعالى وسلم يسمى الأمين، وقد اختص بهذا الاسم، بحيث اذا أطلق لا ينصرف إلا إليه، وقد أشرنا إلى ذلك، وكلما مضى فى عمره الكريم زادوا استيثاقا من أمانته وصدقه وحكمته وعدالته. لذلك طابت نفوسهم جميعا عندما علموا أنه سيكون الحكم بينهم الذى يرد القضب إلى أجفانها. انتهى إليهم وأخبروه الخبر، فطابت نفسه وقرت عينه، إذ قرت به القلوب المضطربة وقال: هلم إلى ثوبا فأتى به، فأخذ الحجر فوضعه فيه بيده، ثم قال: «لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، ثم ارفعوه جميعا، ففعلوا، حتى اذا بلغوا موضعه، وضعه بيده الشريفة، ثم بنى عليه» «1» . هذه حكمة بالغة، انحل بها الخلاف، وانتهى إلى وفاق من أن تمشق السيوف، ويستعدوا للحتوف، وهكذا كانت النفحة المباركة من محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام وقد بدت بوادر النبوة، وظهرت إرهاصاتها. 125- قامت الكعبة الشريفة متجهة إلى السماء، واستمرت على ذلك فى عهد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وكان يود أن يعيدها عليه الصلاة والسلام إلى ما كانت عليه فى عهد إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ولكنه قدر أن قريشا قريبو عهد بكفر، فلم يزعجهم. وبعد عصر الراشدين، ثم عهد معاوية، ثم جاء عهد يزيد بن معاوية، وخرج عليه الخارجون من أهل الإيمان، وكان ممن خرج عليه عبد الله بن الزبير، وقد قوى أمره بعد أن قتل الإمام الحسين بن على، تلك القتلة الفاجرة، وقد بايع الكثيرون ابن الزبير. ثم تجرد له عبد الملك بن مروان، وكانت المغالبة، وحوصرت مكة التى كان بها ابن الزبير، ورميت الكعبة بالمنجنيق، وتهدمت، فاتجه ابن الزبير إلى إقامتها على قواعد إبراهيم، فأعاد طولها، وأدخل من الحجر الأذرع التى كانت قد نقصت منها لضيق المال الحلال الذى كان بيد قريش، وجعل لها بابا اخر، وكان قد سمع عن طريق خالته أم المؤمنين التى روت حديث النبى عليه الصلاة والسلام الذى ذكرناه انفا.

_ (1) سيرة ابن هشام.

الحمس:

لم يستمر الأمر لابن الزبير، بل قتل، واستمكن الأمر للحجاج بن يوسف الثقفى المسلط من قبل عبد الملك، فشاور عبد الملك فى الأمر الذى غيره عبد الله بن الزبير فى بناء الكعبة، وإعادتها إلى قواعد إبراهيم فكتب إليه: «أما ما زاده طولا، فأقره، وأما ما فى الحجر، فرده إلى بنائه، وسد بابه الذى فتحه، ففعل ذلك، ويروى أن عبد الملك ندم على ما أذن، ولعن الحجاج. ولقد فكر المهدى فى أن يعيد البناء على قواعد إبراهيم فناشده الإمام مالك، وقال: أخشى أن يصير ملعبة للملوك، فترك الأمر. الحمس: 126- من هذا نرى أن قريشا كانت حريصة على البيت الحرام، تعليه، لأنها ترى فيه علوها وشرفها، وشددت فى القيام عليه، وابتدعوا فى ذلك بدعة تخالف ما كان عليه إبراهيم فى قيامه بمناسك الحج، وعظموا الحرم تعظيما زائدا، حتى لفرط تحمسهم له التزموا ألا يخرجوا من جواره ليلة عرفة، ولذلك سموا الحمس. كانوا يقولون نحن أبناء الحرم، وقطان بيت الله، فكانوا لا يقفون بعرفات، مع علمهم أنها من مشاعر إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ويقول فى ذلك الحافظ ابن كثير فى تعليل فعلهم، وتكميل الكلام فيه: «حتى أنهم لا يخرجون عن نظام ما كانوا قرروه من البدعة الفاسدة، وكانوا لا يدخرون من اللبن أقطا ولا سمنا، ولا يسلون شحما وهم حرم، ولا يدخلون بيتا من شعر، ولا يستظلون إن استظلوا إلا ببيت من أدم، وكانوا يمنعون الحجيج والعمار ما داموا محرمين- أن يأكلوا إلا من طعام قريش، ولا يطوفون إلا فى ثياب قريش، فإن لم يجد أحد منهم ثوب أحد من الحمس وهم قريش وما ولدوا، ومن دخل معهم من كنانة وخزاعة طاف عريانا، ولو كانت امرأة؟؟ ولهذا كانت المرأة إذا اتفق طوافها لذلك وضعت يدها على فرجها، وتقول: «اليوم يبدو بعضه أو كله، وبعد هذا اليوم لا أحله» . فإن تكرم أحد ممن يجد ثوب أحمسى، فطاف فى ثياب نفسه، فعليه إذا فرغ من الطواف أن يلقيها فلا ينتفع بها بعد ذلك، وليس له ولا لغيره أن يمسها، وكانت العرب تسمى تلك الثياب «اللقى» «1» .

_ (1) البداية والنهاية ص 305.

127- هذا بعض مما كان يجرى من قريش تعصبا للبيت، فهم اعتبروا الحج عندهم هو زيارة البيت الحرام. وهذا من التعصب له، حتى نسوا شريعة إبراهيم فى الحج، وهو اعتبار الحج عرفة، والطواف ركنا من الأركان، وليس له وقت محدود طول السنة. وإنه لمن إرهاصات النبوة أن محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام قبل أن يبعث رسولا نبيا، كان لا يتمسك بتقاليد قريش وأعمالها، بل كان يقف بعرفة، وإن ذلك بلاريب، توفيق من الله تعالى، وإلهام الله تعالى له بأن يقيم الحج على ما كان يقيمه إبراهيم. ولم يسر على ما سار عليه العرب، بل كان يطوف بالبيت كما يطوف. ويلاحظ أن الناحية التجارية فى قريش قد بدت واضحة فى أمرين: أحدهما- أن الحجيج لا يأكلون من الطعام إلا ما يكون من قريش، فهو ترويج لتجارة قريش، وكذلك الأمر فى الثياب. وثانيهما- ما كان يقام من المتاجر فى الأسواق التى كانت تجاور مكة. وإنه بلا ريب كانت تلك التقاليد فيها فحش فى العمل، إذ كان بعض القبائل، إذا لم يجدوا ثيابا من ثياب الحمس، يطوفون عراة، وفيهم النساء، حتى أنهن كن يسترن عوراتهن الغليظة بأيديهن. وإن هذه الأحكام يحسبون أنهم مأمورون بها، ولقد أنكرها الإسلام، فقد قال الله تعالى: وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا، وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ، أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ. قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ، وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ، وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ. فَرِيقاً هَدى، وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ، إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ. يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ، وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ. قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ، وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ، قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ، كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ، وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ «1» .

_ (1) سورة الأعراف: 28- 33.

وإن محمدا عليه الصلاة والسلام من قبل أن ينزل جبريل عليه السلام كان ينفر من كل أرجاس الجاهلية، ولو كانوا يدعون أن الله تعالى أمر بها. لم يسجد لصنم قط، ولم يرتكب فحشاء ولا لهوا، ولم يترد فيما كان يتردى فيه شباب الجاهلية، ولم يتناول خمرا قط، ولم يلعب ميسرا. ولقد يستنكر فى صمت المؤمن بالحق، كل ما كانت تقع فيه قريش. وقبل أن نتقدم للمبعث المحمدى، وقد جاء إبانه، وحان حينه، إذ أنه عليه الصلاة والسلام كان قد بلغ الخامسة والثلاثين، وقارب البعث، فقارب الأربعين، وهى السن التى بعث فيها رحمة للعالمين. وقبل أن نتقدم لمقام الرسالة المقدس، والمبعث النبوى الأقدس، يجب أن نتكلم فى أمرين: أولهما: تكامل صفات الرسول، وبيان ما كان عليه من خلق كامل، هو مثال للأخلاق الإنسانية العالية، فهو قبل أن يكون رسولا مبعوثا من الله سبحانه وتعالى، كان كالملائكة فى أخلاقه، بيد أنه كانت له إرادة، وكان مكتمل الجسم الإنسانى، والحياة الإنسانية، وقد رباه الله سبحانه وتعالى ليكون النبى المختار الذى ولد فى الأميين، وكان منهم. ثانيهما: أحواله فى تأملاته، وعبادته قبل الرسالة، والله أعلم حيث يجعل رسالته «1» .

_ (1) سورة الأنعام: 124.

التكامل الإنسانى فى محمد صلى الله عليه وسلم

خاتم النبيين التكامل الإنسانى فى محمد صلّى الله عليه وسلّم

التكامل الإنسانى فى محمد [صلى الله عليه وسلم] 128- نتقدم بهذا الباب من القول بين يدى المبعث المحمدي، لنتعرف من اختاره الله تعالى من بين خلقه رسولا للعالمين، وكيف قد أدبه الله تعالى بتأديبه الكريم، وخلقه كاملا، لأن رسالته دعوة إلى الكمال، فهو الكمال المطلق فى التكوين البشري، ونحن نريد أن نقدم ما كان من خلق فطري، لم يكسبه من الوحى الإلهي، وإن كان متطابقا مع ما جاء به الوحي، وما أدبه به القران، حتى كان خلقه المتين. وكان كما قالت عائشة رضى الله تعالى عنها «خلقه القران» ، وما كان خلقيا بمقتضى التكوين كان متفقا مع ما جاء به الوحي، وما دعا إلى خلقه، وقاربوا فيه، ولم يصلوا إلى ما وصل إليه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. جاء فى كتاب الشفاء للقاضى عياض فى مقدمة كلامه فى أوصاف محمد بن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم إن خصال الجمال والكمال فى البشر نوعان: ضرورى دنيوى اقتضته الجبلة، وضرورة الحياة الدنيا، ومكتسب ديني، وهو ما يحمد فاعله، ويقرب إلى الله تعالى زلفي، ثم هى على فئتين أيضا، منها ما يتخلص لأحد الوصفين، وما يتمازج ويتداخل.. فأما الضرورى المحض، فما ليس للمرء فيه اختيار، ولا اكتساب، مثل ما كان فى جبلته عليه الصلاة والسلام من كمال خلقته، وجمال صورته، وقوة عقله، وصحة فهمه، وفصاحة لسانه، وكرم أرضه، ويلحق به ما تدعوه ضرورة حياته إليه من غذائه ونومه وملبسه ومسكنه ومنكحه وماله وجاهه. وأما المكتسبة الاخروية، فسائر الأخلاق العلية والفضائل الشرعية من الدين، والعلم والحلم، والصبر والشكر، والعدل، والزهد، والصمت والتؤدة والوقار والرحمة وحسن الخلق، والمعاشرة وأخواتها، وهى التى جماعها حسن الخلق» . ونرى من هذا أن القاضى عياض قد قسم الأوصاف التى تحلى بها النبى عليه الصلاة والسلام قسمين: أحدهما- كان بالفطرة الإنسانية وهى كمال الفطرة، ويلحق بها أوصافه الجسمية صلى الله تعالى عليه وسلم- وثانيهما ما اكتسبه بمقتضى التعاليم الشرعية، وذكر منها التواضع والحلم، والصبر والشكر، وحسن المعاملة. وبشكل عام ما يتعلق بحسن الأخلاق الذى هو جماع الفضائل الإنسانية، ويذكر أن من هذه الصفات المكتسبة بحكم الشرع الشريف والوحى إليه مما تلتقى فيه الفطرة المستقيمة مع الوحي، فالجود والتواضع والصبر والفصاحة، والتأني، وحسن التأتى للأمور، والرفق فى القول والعمل، ولين الجانب من غير ضعف، والقول الحق من غير عنف، كل هذه الصفات كانت فى محمد بن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم. كانت فيه بفطرته المستقيمة، وبتهيئة الله تعالي، قبل الرسالة، إعدادا لهذا المنصب الخطير، وهو رسالة الله تعالى إلى خلقه.

1 - وفور عقله

وإنا لنذكر فى هذا الباب من الكتاب، ما كان فيه بمقتضى الطبع الإنسانى السامى الذى فطره الله تعالى عليه. وما كان من صفات تتعلق بالمعاملات، والعلاقات الانسانية والمودة والرحمة والرفق، والفصاحة، وغيرها مما كانت مهيئة للرسالة، وتحمل الأعباء، والقيام بحق هذه الرسالة والدعوة إليها بما يزكيها وينميها، وإذا كانت قد استمرت فيه بعد البعثة، فإنها ثمرة الله فى غرسه، وتناول الناس أكله، وإذا كنا نستشهد على هذه الصفات بما جاء من أقوال أصحابه من بعد البعثة، فليس ذلك لأن البعثة هى التى أوجدتها، بل لأنها الأقوال الناطقة المؤيدة لذلك، فقد أوجدها فيه العلى القدير. وقدمناه على الرسالة لأن الله تعالى أعدها فيه ليكون كاملا، وليقوم بأعبائها. 1- وفور عقله 129- لم يتوافر العقل فى إنسان كما توافر فى محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام ولو لم ينزل عليه الوحى ويخاطب من السماء لكان عقله واحده كافيا لأن ينشيء دولة، ويقيم مجتمعا طيبا فاضلا. ولكن أتم الله تعالى عليه نعمته، فجعله نبيا مرسلا، فاجتمع له الكسب الذاتى بالإدراك بالفطرة الإنسانية العالية المكتملة بالتكوين الإنسانى والرسالة الإلهية الهادية المرشدة، وكانت الأولى مقدمة للثانية، وما كانت إحداهما لتغنى عن الاخرى. فما كانت الرسالة تجىء لغير عقل كامل، وفكر مدرك، وشخصية كريمة اختارها الله تعالى لموضع رسالته وحمل أمانته. وما كانت الكفاية العقلية فى أسمى علوها بمغنية عن الرسالة، لأن العقل لا يمكن أن يكون واحده كافيا فى تدبير الحاضر والقابل إلى يوم الدين، إنما العقل يدبر ما يحيط به، وهو من غير هداية الوحى لا يفكر فيما بين يديه، ولا يخترق الحجب والأستار إلى ماوراء ما لديه، فلابد من علم الله يمده بعلم القابل، وهو عالم الغيب والشهادة، فمهما تكن قوة العقل، فإنه لا يستطيع أن يصلح غير زمانه، وكل شيء عند ربك بمقدار. منذ نشأ محمد بن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم والعقل المكتمل حليته العليا التى سما بها على الغلمان أترابه، فمنذ استوى غلاما، والعقل يزينه، ولقد بدا ذلك لجده عبد المطلب الذى أخذه ليعوده أخلاق الرجال المكتملين. ولما ذهب إلى بيت عمه أبى طالب بعد وفاة جده القريب، كان الغلام الرزين المكتمل وسط أولاد أبى طالب، لا يسبق الأيدى إلى الطعام، ولا يدخل فى زحمة الاغتراف، بل يتريث غير نهم ولا جشع ولا طامع، بل الهاديء الرزين، قد يكتفى بالقليل أو ما دونه حتى يتنبه إليه عمه الشفيق فيقرب إليه ما يبعد، ويخصه بما يكفيه مئونة المزاحمة، حتى إذا بلغ قدرا يستطيع فيه الاكتساب عمل على رعى الأغنام ليأكل من عمل يده، ولينال من خير الدنيا بمقدار ما قدم فيه من نفع غير مؤثل ولا مقصر.

وعقله المدرك لمصيره بقابل حياته فى قابل عمره، فهو يعد نفسه للتجارة عمل قومه، ومكتسب أرزاقهم ومنشط قواهم، فألح على عمه أبى طالب أن يأخذه معه إلى الشام فى قافلة تجارة قريش، ليكون على خبرة بالصفق فى الأسواق، وليتعلم المصادر والموارد، وذلك وهو فى الثانية عشرة من عمره حتى إذا عاد من هذه الرحلة المباركة عاد وقد امتلأ عقله تجربة، فيمارس التجارة صغرت بضاعته أو كبرت، وهو على بينة من أمرها، عليم بأسواقها، والرائج منها والكاسد. ولكمال عقله كان الشاب التاجر يحضر مجتمعات قريش، فهو يحضر ندوتها فاحصا ما يقال فيها من حق يرضاه، وباطل يجفوه ولا يقره، ويحضر حلف الفضول، ويرى لعقله الكامل المدرك أنه لا يسره به حمر النعم، ولا يرى نصرة للحق أقوى منه، ولو دعى به فى الإسلام بعد أن عم الحق، لأجاب تكريما له وإعلاء لقدره. وهكذا نراه قد أوتى عقلا مدركا، وعمل على تغذيته بالتجارب والاتصال بالمجتمع ليعرف خيره وشره، ويعمل على علاج أدوائه، إن واتاه الله تعالى بفضل من عنده. وإننا ونحن نتكلم على قوته العقلية النافذة إلى الحقائق، لا إلى الظاهر نتعرض لنفوره من التقليد من غير دليل، فهو قد نفر من عادات الجاهلية التى كانت تحرم وتحلل من غير بينة ولا علم قائم على الحقائق المقررة الثابتة. فلم نره يسجد لصنم قط، لأن حكم العقل يتقاضاه ألا يسجد لمن لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، ويكره ذكر الأصنام، وعبادتها. فيستحلفه الراهب باللات والعزى فيقول الغلام: ما كرهت شيئا كما كرهتهما. ويختلف مع تاجر، فيستحلفه التاجر باللات والعزى، فيمتنع، فيسلم له التاجر بحقه من غير حلف لأمانته. وأى عقل أكمل من أن يرى قومه ينحرفون عن إبراهيم فى حجه، ويذهب فرط حرصهم واعتزازهم بالبيت ألا يقفوا بعرفات فيجيء الرجل العاقل المكتمل محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام ويتعرف مناسك إبراهيم، فيقف بعرفات فى ميقاته، إن ذلك كله لا يكون إلا من رجل عاقل يعمل عقله فى هدأة من غير مجادلة، لأن المجادلة تحدث المنازعة، وحيث كانت المنازعة كان الريب، وتبددت الحقائق بين المتنازعين. لقد علمت قريش كلها بكمال عقله، وقوة إدراكه، فرضيت به حكما، ساعة أن احتدم الجدل، وكادت السيوف تمتشق، والمعارك أن تنصب، فلما نادته القرعة أن أقدم، وافصل بين الناس بالحق، رضوا بحكمه، لأنه سيكون حكم العقل والحق، وأى شخص غير عاقل وحكيم كان يهتدى

إلى الحكم الذى يرضيهم جميعا، فيشركهم جميعا فى فضل حمل الحجر الأسود إلى موضعه من غير مشاحة ولا خصومة ولا تفاضل بينهم. ويحمله هو بيده ابتداء فلا ينازعونه لفضل عقله، ثم يحمله هو واحده انتهاء ويضعه فى موضعه بيديه الكريمتين، فيرضون ما يفعل. ولكمال عقله لم يخض مع الخائضين فى العصبية الجاهلية، فلم ينطق بها، ولم يجادل حولها، وكان يحب الوئام والسلام، ولا يحب الحرب والخصام، ولذلك لم يشارك فى حرب الفجار، إلا بتنضيل السهام عن أعمامه حماية لهم ورحمة بهم، بموجب الرحم الواصلة، لا بموجب الحرب التى أحلت فيها الحرمات والأشهر الحرم. وإنه من المؤكد أن محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام كبح جماح هواه طول حياته قبل البعثة، فلم يفعل ما يفعله الغلمان وهو غلام، ولا ما يفعله الشبان فى باكورة شبابه ولا بعد أن صار رجلا سويا. اكتملت أخلاقه كما اكتمل جسمه، فكان القوى الذى يسيطر على أهوائه، فلا ينحرف مع هوى ولا تجمح به شهوة، وأنه إذا ضعف سلطان الهوى قوى سلطان الحق، وإذا قلت حدة الشهوة، استقام حكم العقل، فالعقل حكمه يناقض حكم الهوى والشهوة، والعاقل السيد هو الذى يسيطر على أهوائه وشهواته ويكون عقله هو المسيطر، وما تضل العقول إلا إذا داخلت النفوس الأهواء وعكرت صفاءها، فمحمد بن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان أعقل قريش لأنه هو الذى لم يسيطر عليه هوى كسائر سادات مكة. وقد قال القاضى عياض فى فضل عقله عليه الصلاة والسلام، واثاره فى الإسلام: «وأما وفور عقله، وذكاء لبه، وقوة حواسه، وفصاحة لسانه، واعتدال حركاته، وحسن شمائله، فلا مرية أنه كان أعقل الناس وأذكاهم، ومن تأمل تدبيره أمر بواطن الخلق وظواهرهم، وسياسة العامة والخاصة، مع عجيب شمائله، وبديع سيره، فضلا عما أفاضه من العلم وقرره من الشرع، دون تعلم سبق، ولا ممارسة تقدمت، ولا مطالعة للكتب منه، لم يمتر فى رجحان عقله، وثقوب فهمه، لأول بديهة، وهذا مما لا يحتاج إلى تقريره لتحققه.. ولقد قال وهب بن منبه: قرأت فى أحد وسبعين كتابا، فوجدت فى جميعها أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أرجح الناس عقلا، وأفضلهم رأيا. وفى رواية أخرى: فوجدت فى جميعها أن الله لم يعط جميع الناس من بدء الدنيا إلى انقضائها من العقل فى جنب عقله صلى الله تعالى عليه وسلم إلا كحبة رمل من بين رمال الدنيا» «1» .

_ (1) الشفاء الجزء الأول ص 43، طبع الحلبى.

2 - بلاغته

ويقول ابن كثير: «معلوم لكل ذى لب أن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم من أعقل خلق الله تعالي، بل أعقلهم وأكملهم على الإطلاق فى نفس الأمر» «1» . وإن مظاهر عقله بدت واضحة بعد البعثة فى سياسة رعيته، فقد كان الله يوحى إليه بالأحكام الشرعية، وما يجب من الرفق بالرعية، والأخذ على يد الظالم، وحماية الحق من الباطل، ويترك الرسول عليه الصلاة والسلام أن ينفذ الحق فى رعيته، بالمسلك الذى يسلكه مختارا، مسددا، فإن تبين خطأ نبهه سبحانه وتعالى عليه إذا كان أمرا متصلا ببيان الشريعة وأحكامها. وإنه فى الأمر الذى تركه سبحانه وتعالى له بدا عقل النبى عليه الصلاة والسلام فى إحكام التدبير وكياسة الحكيم. اشتد أمر النفاق والمنافقين، وكثرت أضرارهم، فطلب عمر رضى الله تعالى عنه من محمد ابن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن يقتلهم، فقال عليه الصلاة والسلام «لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه» ثم اشتد النفاق، حتى هم أهل كل بيت فيه منافق أن يقتله، فقال عليه الصلاة والسلام: أين عمر، لو قتلتهم حين رأى قتلهم لأرعدت لهم أنوف هى اليوم تريد قتلهم. فبهذا العقل الحكيم استقبل رسالة ربه، وبهذا العقل الحكيم أدار المدينة الفاضلة التى قامت على حكم الله تعالى وأمره ونهيه، ونفذت فيها النظم الاسلامية. 2- بلاغته 130- كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قرشيا قد نشأ فى قريش، وهى أفصح اللهجات العربية، وكان يحضر أسواق مكة فى موسم الحج، ويتذوق ما ينشد فيها من شعر، وقد تفصح فى بنى سعد بهوازن، وهوازن من أفصح العرب، فالتقى فى بيانه لغة العقل والحضارة النسبية فى مكة المكرمة، وسذاجة البداوة مع حلاوة اللفظ وسهولته فى لهجة أفصح أهل البادية. ولذلك كان النبى محمد بن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم أفصح الناس منطقا، ينطق بالحكمة وفصل الخطاب، فهو إذا أرشد كانت ألفاظه كالجوهر تنثر بين الناس من غير بهرجة، وفيها جوامع الكلم وفصل الخطاب. وإذا تحدث فى معاملات الناس وفى سمرهم الذى لا مجون فيه كان كلامه النمير العذب يسرى فى النفوس سريان النسيم العليل، والماء العذب، ينعش القلوب، ويروى ظمأ النفوس.

_ (1) البداية والنهاية ج 6 ص 65.

وقد وصفت حديثه أم معبد بعد البعثة فقالت: «إذا صمت فعليه الوقار، وإذا تكلم سما وعلاه البهاء، حلو المنطق، فصل لا نزر ولا هذر، وكأن منطقه خرزات نظم يتحدرن» . هذا وصف لكلام النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بعد أن بعثه الله تعالي، وهو غاية ما كان منه قبل البعثة، فحال ما قبل البعثة ابتداء، وما بعدها هو الانتهاء، وهو اصطفاء الله تعالى ليكون موضع رسالته، ومبلغ وحيه، كان يجمع بين الإيجاز والوضوح، فألفاظه قليلة، ومعانيه كثيرة من غير تعقيد ولا اعظال، بل هو السهل الذى لا توعر فيه، ترى فى كلامه عليه الصلاة والسلام جمال الألفاظ من غير تكلف، وحلاوة اللفظ من غير تحسين ولا تزيين، فهو الجمال الطبعى الذى لا طراوة فيه، ولا جفوة، ولا خشونة. وكان فيه معانى الإلهام، وجمله الله تعالى بالصفاء، لأنه خرج من نفس صافية، وقلب مفعم بالإيمان والصدق، فكان صافيا كنفسه، خاليا من الشوائب خلو نفسه منها. وقد وصفه الجاحظ، فقال: «الكلام الذى قل عدد حروفه، وكثر عدد معانيه، وجل عن الصفة، ونزه عن التكلف، استعمل المبسوط فى موضع البسط، والمقصور فى موضع القصر، وهجر الغريب الوحشي، ورغب عن الهجين السوقي، فلم ينطق إلا عن ميراث حكمة، ولم يتكلم إلا بكلام حف بالعصمة، وشد بالتأييد، ويسر بالتوفيق، وهذا الكلام الذى ألقى الله تعالى المحبة عليه، وغشاه بالقبول، وجمع له بين المهابة والحلاوة، وبين حسن الإلهام، وقلة عدد الكلام، وهو مع استغنائه عن إعادته، وقلة حاجة السامع إلى معاودته. لم تسقط له كلمة، ولا زلت له قدم، ولا بارت له حجة، ولم يقم له خصم، ولا أفحمه خطيب، بل يبدأ الخطب الطوال بالكلام القصير، ولا يلتمس إسكات الخصم إلا بما يعرفه الخصم، ولا يحتج إلا بالصدق، ولا يطلب الفلج إلا بالحق، ولا يستعين بالخلابة، ولا يستعمل المواربة، ولا يهمز ولا يلمز، ولا يبطئ ولا يعجل ولا يهب، ولا يحصر، ثم لم يسمع الناس بكلام قط أتم نفعا، ولا أصدق لفظا، ولا أعدل وزنا، ولا أجمل مذهبا، ولا أكرم مطلبا، ولا أحسن موقعا، ولا أسهل مخرجا، ولا أفصح فى معناه، ولا أبين عن فحواه، من كلامه صلى الله تعالى عليه وسلم» . وإنه قد اجتمع له عليه الصلاة والسلام مع سلامة المعانى حسن اختيار الألفاظ المناسبة فى الحال المناسبة من غير أن يقرع الأسماع، بكلام له رنين، بل بكلام يدخل على القلوب فى أناة ورفق فينساب فيها انسياب النمير العذب، ويكون ثمة تناسق بين المعنى الكريم، واللفظ الجميل من غير إعنات للأفهام، ولا إرهاق للأسماع.

وكان فى منطقه حلاوة، فيخرج اللفظ من لسان واضح بين، تخرج الحروف من مخرجها، وتقع فى مواضعها، والسامع مشدوه من حلاوة الكلمة، وحلاوة اللفظ، والمعانى الأبكار، فى أسلوب لا توعر فيه، ولا تكلف. ولقد قالت عائشة رضى الله تعالى عنها فى وصف كلامه «ما كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يسرد الكلام كسردكم هذا «1» . ولكن كان يتكلم بكلام بين فصل يحفظه من جلس إليه» . فكان كلامه صلى الله تعالى عليه وسلم يكون بأناة، غير مندفع فى القول، ولا متابع له فى استعجال، حتى إن عائشة رضى الله تعالى عنها تروى أن حديثه لو عد السامع حروفه عدا لأحصاها. وإن ذلك هو أفصح النطق، وأبلغ الإلقاء، ذلك لأن الإمهال فى القول يجعل السامع يتذوق جمال الألفاظ، ويتأمل المعاني، ويستحفظ ما قال القائل، ويتابعه فى أفكاره من غير إعنات لنفسه، ولا ملال، وإن الملل يعترى السامع، إذا فاته تتبع المعانى، وإدراك المرامى والغايات. 131- ومنطق النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان خاليا من الفأفأة والتمتمة، وكل عيوب الكلام فى صوت هاديء عميق يجمله الصدق ويدخله فى مداخل النفس، ويوجه الرشد إلى الحق، ونغمات صوته هادئه قوية فى صوت غير أجش، ولا جفوة، ولكن التقى فيه عمق النغم الفطرى بجمال الصوت، وجهارته فى غير ضجيج ولا صخب. ولقد روى أن الحسن بن على أحد السبطين الكريمين قد سأل هند بن أبى هالة ربيب النبى عليه الصلاة والسلام من خديجة أم المؤمنين، وكان هند رجلا وصافا، سأله حب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: قلت صف لى منطقه، قال: «كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، متواصل الأحزان، دائم الفكر ليس له راحة، ولا يتكلم فى غير حاجة، طويل السكوت، يفتتح الكلام ويختتمه بأشداقه «2» . ويتكلم بجوامع الكلم، فضلا، لا فضول فيه، ولا تقصير، دمثا ليس بالجافى ولا المهين. يعظم النعمة وإن دقت، لا يذم شيئا، لم يكن يذم، ولا يمدحه، ولا يقام لغضبه إذا تعرض أحد للحق بشىء حتى ينتصر له، إذا أشار فبكفه كلها، وإذا تعجب قلبها، وإذا تحدث اتصل بها فضرب بإبهامه اليمنى راحته اليسري، وإذا غضب أعرض وأشاح، وإذا فرح غض طرفه، جل ضحكه التبسم، ويفتر عن مثل حب الغمام» .

_ (1) السرد هو متابعة الكلام من غير تمهل، بل على الولاء والاستعجال فلا يعطى السامع فرصة تذوق الألفاظ والمعانى. (2) أى يستعمل جميع فمه عند الكلام، فلا يتكلم بطرف اللسان، بل يقبل على القول إقبال المهتم به.

وإنه مهما يقل الرواة فى بلاغة كلمه، وفصاحة لفظه وجمال نطقه، لا نصل إلى حقيقة بلاغته، فإن المأثور الذى نقرؤه، نجد فيه العلم المجتمع، والعبارات التى يستطيبها كل مستمع، يجد فيها نفاذ الإلهام، وتناسق الألفاظ، وترى فيه الحكم، وحسن المأخذ، والجمع بين الأطراف فى لين ويسر، فلا لفظ جاف، ولا معنى مستخف بل كل الكلام فى معناه وخواطره، وماخذه، يدخل إلى القلوب، فيجد مساكنه، وإن المستشهد بقوله يردده أمام العامة، فليقفونه، وأمام الخاصة فيهضمونه، يفهمه كل إنسان مهما تكن طاقته، لا يتخير غريبا لغرابته ولا لفظا لحلاوته، ولكن كل ذلك يجىء فى رفق، بل هى السليقة الكاملة تنطق، والفصاحة الفطرية تتكلم، وليس ذلك قولنا للمحبة فقط، ولكن للحقيقة وحق علينا أن نقول مقالة الجاحظ بعد وصف كلامه، وخشى على نفسه أن يقال أنه انبعث من المحبة، فقد قال: ولعل من لم يتسع فى العلم، ولم يعرف مقادير الكلام يظن أننا تكلفنا له من الامتداح والتشريف ومن التزيين والتجويد ما ليس عنده، ولا يبلغه قدره، كلا والذى حرم التزيد عند العلماء، وقبح التكلف عند الحكماء، وبهرج الكذابين عند الفقهاء، لا يظن هذا إلا من ظل سعيه. كبرت كلمة من يقول أننا تجاوزنا الحد فى وصفنا لبلاغة خطاب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وكمال تحديثه، وبلوغه من البيان الإنسانى أعلى مراتبه الذى لا يبلغ شأوه أحد، بل هو الحق الذى لا امتراء فيه، إننا لم تتجاوز الحد، ولكن لم نبلغه ولم نصل إليه. 132- وأنه من الحق علينا أن ننقل إلى القارئ ما قاله القاضى عياض فى وصف فصاحة محمد عليه الصلاة والسلام وبلاغته، فقد قال رضى الله تعالى عنه: «وأما فصاحة اللسان وبلاغة القول، فقد كان صلى الله تعالى عليه وسلم من ذلك بالمحل الأفضل، والموضع الذى لا يجهل، سلامة طبع، وبراعة منزع، وإيجاز مقطع، ونصاعة لفظ، وجزالة قول، وصحة معان، وقلة تكلف، أوتى جوامع الكلم، وخص ببدائع الحكم، وعلم ألسنة العرب، فكان يخاطب كل أمة بلسانها، ويحاورها بلغتها، ويباريها فى منزع بلاغتها، حتى كان كثير من أصحابه يسألونه فى موطن عن شرح كلامه وتفسير قوله ... ومن تأمل حديثه وسيره علم ذلك وتحققه، وليس مع قريش والأنصار وأهل الحجاز، ونجد كلامه مع وطيفة الهندى وقطن بن حارثة العليمى والأشعث بن قيس، ووائل بن حجر الكندى وغيرهم من أقيال حمير، وملوك اليمن» «1» . وإن هذا يدل على أنه عليه الصلاة والسلام كان يعلم كل لهجات العرب، وقد أتاه ذلك من إقامته بمكة المكرمة التى كان يلتقى فيها بقبائل العرب، فى موسم الحج، مع حرص على تعرفها، وذكاء

_ (1) الشفاء ص 447.

مدرك لها، وتحصيل واع لكل ما يسمع، وحفظ لكل ما يجرى حوله. ولقد ذكر بعض الرواة أنه كان يعرف ألفاظا كثيرة من الفارسية، والرومانية، وإن لذلك شاهدا من كتبه للرومان، فقد جاء فى ذلك الكتاب: «أسلم تسلم، وإلا فعليك إثم البريسيين» ، وهذا لفظ رومانى استعمل فى معناه الدقيق، وهم العامة والزراع وغيرهم من الدهماء. وإن تعلمه لهجات العرب وفوارق لغاتهم يدل على أن الله تعالى كان يعده لهذه الرسالة الإلهية العامة، ولقد ساق القاضى عياض شواهد من كتبه عليه الصلاة والسلام إلى همذان، ووائل بن حجر، ووازنها بكلام قريش فى الصدقات. ثم يقول القاضى عياض فى الشفاء: «وأما كلامه المعتاد وفصاحته المعلومة، وحكمه المأثورة، فقد ألفت فيها الكتب، ومنها ما لا يوازى فصاحة، ولا يبارى بلاغة كقوله: «المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم» ، وقوله: «الناس كأسنان المشط» . «والمرء مع من أحب» . «ولا خير فى صحبة من لا يرى لك ما ترى له» ، «الناس معادن» «وما هلك امرؤ عرف قدره» . «والمستشار مؤتمن» .. «ورحم الله عبدا قال خيرا فغنم أو سكت فسلم» وقوله «أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين» وقوله: «إن أحبكم إلى وأقربكم منى مجالس يوم القيامة أحسنكم أخلاقا، الموطؤون أكنافا الذين يألفون ويؤلفون» . وقوله: «ولعله كان لا يتكلم بما لا يعنيه، ولا يبخل بما لا يغنيه» وقوله: «ذو الوجهين لا يكون عند الله وجيها» ، ونهيه عن قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال، ومنع وهات، وعقوق الأمهات، ووأد البنات» وقوله: «اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن» ، و «خير الأمور أوسطها» ، وقوله: «أحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يوما ما» وقوله: «الظلم ظلمات يوم القيامة» ، وقوله فى بعض دعائه: «اللهم إنى أسألك رحمة من عندك تهدى بها قلبى وتجمع بها أمرى، وتلم بها شعثى، وتصلح بها غائبي، وترفع بها شاهدى، وتزكى بها عملي، وتلهمنى بها رشدي، وترد بها ألفتي، وتعصمنى بها من كل سوء، اللهم إنى أسألك الفوز عند القضاء، ونزل الشهداء، وعيش السعداء، والنصر على الأعداء» . هذا ما روته الكافة عن الكافة من مقاماته ومحاضراته، وخطبه، وأدعيته ومخاطباته» «1» . ولقد ذكر من بعد ذلك القاضى عياض عهوده عليه الصلاة والسلام التى كان يعاهد بها القبائل، والهدنات التى يهادن بها، فإنها بلغت من إحكام المواثيق، ودقة الشروط ما لا يصل إليها تحرير كاتب، ولا توثيق معاقد، فإنها بلغت مرتبة لا يقاس عليها، ولا تحاكي، وسبق فيها سبقا بعيدا لا يقدر قدره.

_ (1) الشفاء ج 1 ص 46.

وذكر أن لمحمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام عبارات لم يسبق بها، فقال رضى الله تعالى عنه: وقد جمعت من كلماته التى لم يسبق إليها، ولا قدر أحد أن يفرغ فى قالبه عليها، كقوله: حمى الوطيس، ومات حتف أنفه، ولا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، السعيد من وعظ بغيره» «1» . وهكذا يثبت القاضى عياض فصاحة الكلم النبوي، والبلاغة المحمدية، بما ساق من عبارات جامعة، ومعان رائعة، وألفاظ ينبثق منها النور، وتضبط بها حقائق هذا الوجود. 133- وإننا إن تركنا أقوال الذين شاهدوا وعاينوا من صحابته والذين رووا المنقول فى سيرته، وعمدنا إلى الأحاديث المدونة الصادقة النسبة، والتى رواها العدول طبقة بعد طبقة، وأردنا أن نتعرف نسق بيانه من عباراتها، ومحكم معانيها من ألفاظها، لو جدنا من بعض ما يتبين فى ذلك النسق: (1) أن اللفظ يجيء سهلا، نجد فيه الجمال الطبعي، نجد الألفاظ متناسقة يأخذ بعضها بحجز بعض، مع الإيجاز، وإحكام المعني، والاتجاه إلى مقصد القول، وتصوره، أحيانا بالحقيقة، ويكون لها جمال كجمال الطبيعة، اقرأ إن شئت قوله عليه الصلاة والسلام، فى الدعوة إلى القناعة، والرضا بالقليل، وعدم اللجاجة التى تؤذى. «ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس» وقوله فى الدعوة إلى ضبط النفس: «ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد من يملك نفسه عند الغضب» وهكذا التعبير السهل العميق فى معناه يسرى فى كلام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى كل توجيهاته، ولذلك سرعان ما تحفظ، فهو كلام يقال ليحفظ. (ب) وإن من خصائص البلاغة النبوية أنها لا تعلو على العقول الفطرية، فهى تدركها فى أيسر كلفة مع جلال المعنى وعمقه وقوة نفوذه فى النفوس، والخاصة يجدون فيه علم ما لم يعلموا، انظر إلى قوله عليه الصلاة والسلام فى بيان واحدة الأمة الإسلامية وما ينبغى لتعاونها: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا» وقوله: «مثل المؤمنين فى توادهم وتراحمهم، كمثل الجسد إذا اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» واقرأ قوله عليه الصلاة والسلام فى المعاهدات التى تعهد والنفوس على أحقادها ولا تستل منها سخائمها: «هدنة على دخن» فإن كل إنسان يفهم أن القلوب فاسدة، وأن الصلح الظاهرى لا يصيب الأحقاد التى طويت عليها القلوب. ومثل قوله عليه الصلاة والسلام فى فضل العمل، وأن يكفى كل إنسان مئونة نفسه، ويستعد لمعونة غيره للاستعانة به «اليد العليا خير من

_ (1) الكتاب المذكور ص 46.

اليد السفلى» وقوله فى الأمر لا يختلف فيه «ولا ينطح فيه عنزان» وقوله عليه الصلاة والسلام فى توزيع خيرات الله تعالى فى أرض الله، كل أرض بحصتها من الرزق: «كل أرض بسمائها» وقوله فى الرفق بالنساء وقد سار السائق يسوق رحالهن بعنف: «رويدك رفقا بالقوارير» . وإن هذه التعابير جلها جديد فى العربية لم يسبق بها فى قول قائل، وهى واضحة المعنى بينة المقصد، لا تعلو على العامة، ولا تجفو عنها اذان الخاصة، بل كل الناس يجد فيها علما لم يكونوا به عالمين. (ج) أن كلامه عليه الصلاة والسلام من جوامع الكلم، فيه حكمة، وفيه ألفاظ قليلة ومعان جديدة لم تكن معروفة. انظر إلى قوله عليه الصلاة والسلام، وقد سئل: أنحاسب على ما تنطق به ألسنتنا. فقد قال عليه الصلاة والسلام مجيبا، «وهل يكب الناس على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم» وقوله فى صلة الرحم عند المنابذة والقطيعة: «ليس الواصل بالمكافيء، إنما الواصل من يصل رحمه عند القطيعة» ، ومثل قوله: «رحم الله عبدا قال فغنم أو سكت فسلم» . (د) وإنه من الظواهر العامة فى كلامه عليه الصلاة والسلام أنه يخاطب العقل والوجدان من غير استكراه للألفاظ أو تكلف فى المعاني، بل كل ذلك يجرى سهلا طيبا قيما. فيه إرشاد وتوجيه، اقرأ قوله عليه الصلاة والسلام يدعو المؤمنين إلى أن يكونوا إيجابيين فى أقوالهم وأفعالهم، لا يتبعون من غير تفكير: «لا يكن أحدكم إمعة يقول إن أحسن الناس أحسنت وإن أساؤا أسأت، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس تحسنوا، وإن أساؤا فتجنبوا الإساءة» . (هـ) خلو كلامه عليه الصلاة والسلام من الصناعة البديعية، فهو بديع فى ذاته من غير صناعة، وقد يجيء أحيانا فى كلام الرسول بعض السجع، ولكنه سجع غير مقصود، بل هو من إحكام القول، فمثلا قوله عليه الصلاة والسلام: «رحم الله عبدا قال فغنم أو سكت فسلم» لا شك أن فيه سجعا، أو ما يقرب منه، ولكن التكلف غير موجود، وإن كل لفظ منه موضوع فى معناه، لو أردت أن تغيره ما طاوعك المعني، فهل يمكن تغيير كلمة غنم مع ما فيها من ثروة فى المعانى بغيرها يؤدى مؤداها، ويكون فى إيجازها، ونسقها، وكذلك الأمر إذا أردت استبدال سلم مع ما يرمى إليه من سلامة العرض واللسان عن لغوه، وتوفير العقل، والابتعاد عن لجاجة القول، فهو عليه الصلاة والسلام، لا يقول إلا حكما، ولا ينطق إلا فصلا، وتلك غاية قوله، فإن كانت حلية، فهى الحلية التى لا تكلف فيها، ولا استكراه فى نسقها، أو محاولة الصناعة التى تغطى الكلام الفطري، وتغشاه بغواش من ضجيج الأوزان.

وإن الجمال الفطرى فى القول، والحسن اللفظى من غير تحسين، بل السجع الذى يكون كسجع الحمام. يأتى من غير إعمال ولا قصد إليه، حتى فى بيان الحقائق الشرعية، ودقيق المعانى الفقهية، ففى بيان الشروط الباطلة المقترنة بالعقود، وأساس البطلان فيها، يقول عليه الصلاة والسلام «ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست فى كتاب الله. ما كان من شرط ليس فى كتاب الله تعالى فهو باطل، وإن كان مائة شرط، قضاء الله حق، وشرط الله تعالى أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق» . ألا ترى أنه كلام جميل جاء فى نسق محكم، والحسن فيه باد من غير تحسين، والجمال فيه بارز من غير تجميل، وهو مع كل هذا فقه عميق، يدرك مغزاه الفقهاء، ويعرف معناه من لم يبلغوا فى الفقه شأوا. وإنه لواضح كل الوضوح أنه جاء عفو الخاطر، ولم يكن بإجهاد فكر، وتجميع ألفاظ وتنسيق كلمات، إنما كان المعنى الجيد القاصد فى اللفظ المحكم المصور الواضح. (و) وإنه أحيانا يجيء كلامه القصصى الذى يحكى قصة فى أسلوب تصويري، تنطق فيه حقائق القصة وأبواب العبرة فى كلام مرسل سهل، يمكن القارىء أو السامع من أن يصل إلى غايتها، ويدرك معانى هدفها الصادق من غير إسراف فى اللفظ، ولا نقص فى الأداء، ولكن وفاء وكمال فى غير حشو، ولا لغو، وإليك قصة أصحاب الغار، كما روى البخارى وغيره: «بينما ثلاثة نفر يمشون فأخذهم المطر، فاووا إلى غار فى جبل، فانحطت على فم غارهم صخرة من الجبل، فانطبقت عليهم، فقال بعضهم لبعض: انظروا أعمالا عملتموها صالحة لله، فادعوا الله تعالى بها لعل الله يفرجها عنكم، فقال أحدهم. اللهم إنه كان لى والدان شيخان كبيران، وامرأتي، ولى صبية صغار أرعى عليهم، فإذا رحت عليهم حلبت فبدأت بوالدىّ فسقيتهما قبل بني، وإنه نأى بى ذات يوم الشجر، فلم ات حتى أمسيت فوجدتهما قد ناما، فحلبت كما كنت أحلب فجئت بالحلاب، فقمت عند رؤسهما، أكره أن أوقظهما من نومهما، وأكره أن أسقى الصبية قبلهما والصبية يتضاغون عند قدمى، فلم يزل ذلك دأبى ودأبهم حتى طلع الفجر، فإن كنت تعلم أنى فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج لنا منها فرجة نرى منها السماء. ففرج الله منها فرجة، فرأوا منها السماء. وقال الاخر اللهم إنه كانت لى ابنة عم أحببتها كأشد ما يحب الرجال النساء، وطلبتها فأبت، حتى اتيها بمائة دينار فتعبت حتى جمعت لها مائة دينار فجئتها بها، فلما وقعت بين رجليها قالت يا عبد الله اتق

الله، ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فقمت عنها، فإن كنت تعلم أنى فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج لنا منها فرجة، ففرج لهم. وقال الثالث: اللهم إنى كنت استأجرت أجيرا بفرق أرز «1» ، فلما قضى قال أعطنى حقي، فعرضت عليه فرقه، فرغب عنه، فلم أزل أزرعه، حتى جمعت منه بقرا ورعاءها، فقال: اتق الله تعالي، ولا تظلمنى حقى. قلت: اذهب إلى تلك البقر ورعائها، فخذها، فقال: أتهزأ بي، اتق الله ولا تستهزىء بى فقلت انى لا أستهزيء بك خذ ذلك البقر ورعاءها، فأخذه فذهب. فإن كنت تعلم أنى فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فرج لنا ما بقي، ففرج الله ما بقي. وإننا نقف عند القصة الصادقة، فإنا نجد العبارات السهلة المستقيمة، وبجوارها التصوير للأفعال التى تنبعث من القلوب، ويقصد بها فاعلها وجه الله تعالي، والحديث واضح فيه مع صدق القصة العبر والمعانى التى ذكرها الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ومنها يبرز: أولا: أن الأعمال بالنيات، وأن الله تعالى لا يقبل إلا الطيب من الأعمال، ولا يكون العمل طيبا إلا إذا قصد به وجه الله، وابتغاء ما عنده لا يريد جاها، ولا شرفا ولا مالا، إنما يريد الله تعالي، كما قال عليه الصلاة والسلام: «لا يؤمن أحدكم، حتى يحب الشئ، لا يحبه إلا الله» . وثانيا: أن قدر الله تعالى يسير على نظام محكم فى عمله، وبحكمة بالغة يقدرها، وأنه سبحانه وتعالى ينزل الفرج، لمن يتجه إليه، وأنه يجيب دعوة المكروب، لخير قدمه، ولإخلاص قلبه، وابتغاء ما عند ربه، كما قال سبحانه وتعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ «2» : ويدل ثالثا: على أن الله سبحانه وتعالى يجازى المؤمن بالفعال التى يتجه فيها إلى العمل الإيجابى الذى ينفع الناس، وخصوصا الأقربين، كما رأيت فى الخبر الذى قدمه الرجل الأول، من إحسان إلى أبويه، وتقديمهما على أولاده الصبية الصغار، وتركهم يتضاغون، ولا يزعج أبويه، وأن ذلك الإيثار لأن الأولاد قطعة منه فتقديمهم تقديم لنفسه، فتقديمهم أثرة، وتقديم أبويه إيثار، فهو ممن ينطبق عليه قول الله تعالى وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ «3» .

_ (1) جاء فى القاموس المحيط: الفرق بسكون الراء وفتحها وفتح الفاء مكيال بالمدينة ثلاثة أوسق، ستة عشر رطلا، وجمعه فرقان، والخلاصة أنه وعاء لكيل الحب من أرز وغيره. (2) سورة الحشر: 96. (3) سورة الحشر: 9.

3 - الخلق الكامل

ويدل رابعا: على أن الكف عن الشر بعد أن تتوافر دواعيه وتهجم أسبابه هو من الأعمال الإيجابية التى يثاب عليها المرء، فالفضيلة إيجابية، وليست سلبية. ويدل خامسا: على أن الوفاء بالحق فضيلة الإسلام، وأنه ليس بقريب من الله من أكل حقوق غيره، وأقرب الناس من أعطى كل ذى حق حقه، وتدل القصة فى ضمن ذلك على أن أجر العامل يجب أن يوفي، وأن يعطى العامل أجره قبل أن يجف عرقه، فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا. (ز) هذا وإن إحكام القول ليبلغ فى الأخلاق والمعاهدات التى عقدها النبى عليه الصلاة والسلام أعلى البلاغة، فهو يعقد المعاهدات، لا يترك فيها حقا إلا سجله فى عبارات واضحة مانعة من الجهالة التى تفضى إلى نزاع فى فهمها، ولا يترك فيها واجبا عليه إلا دونه فى عبارات صريحة لا التواء فيها ولا تحيف، بل هى صريحة كاملة الشروط، لأن مقاطع الحقوق عند الشروط. ولو أن ساسة هذا العصر درسوا مخلصين وثائق المعاهدات التى أملاها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وأرادوا متجهين إلى الحق أن يحرروا معاهدات خالصة لوجه الحق، لا يجدون ثروة يأخذون منها إلا معاهدات النبى الأمى، وسيكون لذلك فضل من الكلام عند التعرض لسياسته إن شاء الله سبحانه وتعالى. 3- الخلق الكامل [أ] الرفق 134- قال الله سبحانه وتعالي لنبيه الكريم: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ولقد قال صلي الله تعالي عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد في مسنده: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» ولقد قال عليه الصلاة والسلام: «أدبنى ربى فأحسن تأديبى» . وكمال الخلق لفظ قصير يتناول في معناه كثيرا، فهو يشمل حب الفضيلة والتمسك بها والقيام بحقها، ويشمل حسن العشرة ولطف المودة، ويشمل صلة الرحم والإحسان إلي الجار القريب والبعيد، ويشمل حب الناس والرفق بهم، ويشمل التواضع، وتوطئة الكنف لهم، ويشمل البشر، ولقاء الناس به، ويشمل الأناة والحلم، ومنع الجفوة، ويشمل كظم النفس واجتناب الغيظ، ويشمل الحياء وإقراء السلام علي من عرف ومن لم يعرف، ويشمل الجود بما عنده، والزهد فيما ليس عنده، ويمنع الغلظ والفظاظة، ويشمل العفو عن المسىء، وإقالة عثرته، ويشمل الرد علي المسيء بالإحسان، ويشمل تخليص القلب من الإحن، ويشمل الإعراض عن الجاهلية، وترك المهاترة، والمماراة والمجادلة، ويشمل التيسير، وترك التعسير، والتبشير، دون التنفير.

[ب] العفو:

وفى الجملة الخلق الحسن يشمل تهذيب النفس، وتربية الوجدان، والتالف مع الناس، والقرب إليهم، وتوطيء الكنف لهم، والتواضع، والرفق بالضعفاء، والقرب منهم، والألم لالامهم، والسرور لسرورهم، والاندماج فيهم من غير تأثم، ولا تجانف لإثم. وإن الخلق الحسن يؤثر فى الدعوة إلى الحق، بما لا يؤثر البرهان وضروب الأقيسة. وإنه من أوصاف النبوة، ولقد قال الله تعالى فى ثمرات الخلق المحمدى فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ، وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ، فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ، فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ «1» . [ب] العفو: 135- ولقد هيأ الله تعالى محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم ليكون الهادى إلى الحق، وإلى صراط مستقيم، فوهبه الخلق الكامل، الذى يؤلف القلوب، ويجمع النفوس، إلا من طغى واستكبر، واثر الهوى على الحق، وكان قبل البعثة يحب العشير، ويقرب الصديق، ولا يعنت أحدا بعداوة، بل كان الملاك الطاهر بينهم، يعف عن قول الخنا وفعله، ويبتعد عن الهوى وجموحه، لا يعادى، ولا يصخب، ولا يفحش فى قول أو عمل، وهو الصادق، وهو الأمين، وهو الذى يعين الكل، ويغيث الضعيف، ويعين على نوائب الدهر، يعفو عمن ظلمه إلا أن يكون فى ذلك انتهاك لحرمة من حرمات الله، أو اعتداء على فضيلة. واذا كان المسيح عيسى بن مريم قد كان خلقه السماحة يعفو عن المسيء كذلك خلق النبيين عامة، وخلق محمد بن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم خاصة، وكان ذلك إيجابيا، وليس سلبيا، يفعل الخير ويجتنب الشر، وكان التاجر السمح الصبور، حتى إنه يروى بعض القرشيين أنه بايع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بياعة قبل البعثة، وبقى شيء لم يأخذه من محمد، فانتظره النبى عليه الصلاة والسلام ثلاث ليال، وكان يذهب فيقيم فى مكانه الذى غادره فيه، حتى لا يضل فلا يهتدى إليه، فيضيع حقه الثابت له. ولقد امتدت هذه الأخلاق إلى ما بعد النبوة، فكانت دعامة الدعوة، فسار بسنة العفو عن الإساءة، والإعراض عن الجاهلية استجابة لقوله سبحانه وتعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ «2» ، وقد كان ذلك الخلق يجذب الناس إلى الايمان من غير دليل ولا برهان، وإن كان الحق واضحا فى ذاته، وزاده وضوحا خلق النبى الكريم صلى الله تعالى عليه وسلم، ولنذكر واقعة كان العفو فيها داعية الإسلام.

_ (1) سورة ال عمران: 159. (2) سورة الأعراف: 199.

تصدى غورث بن الحارث ليفتك برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو نائم تحت شجرة قائلا، والناس قائلون، فلم ينتبه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلا وهو قائم، والسيف مصلت على رأسه فى يد الرجل، وهو يقول: من يمنعك منى؟. فقال عليه الصلاة والسلام بقلب مؤمن ولسان صادق: «الله» ، فسقط السيف من يد الرجل. فأخذه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وقال: «من يمنعك منى» ، قال: كن خير اخذ، فتركه وعفا عنه. فدنا قلب الرجل بعد نفور، وصار داعية لمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم بعد أن كان يريد قتله، فقد ذهب الرجل إلى قومه يحببهم فى محمد عليه الصلاة والسلام ودينه، يقول: «جئتكم من عند خير الناس» . ولقد قال فى مجمل أقواله هند بن أبى هالة، وهو ابن أم المؤمنين خديجة من غير النبي. كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «يخزن لسانه. إلا بما يعنيهم ويؤلفهم ولا ينفرهم، ويكرم كريم كل قوم، ويوليه عليهم، ويحذر الناس، ويحترس منهم، من غير أن يطوى عن أحد منهم بشره، ويتفقد أصحابه، ويسأل الناس عما فى الناس، وبحسن الحسن ويقويه، ويقبح القبح ويوهيه، معتدل الأمر غير مختلف، لا يغافل مخافة أن يغافلوا أو يميلوا، لكل حال عنده عتاد، لا يقصر عن الحق، ولا يجوزه، الذين يلونه من الناس خيارهم، أفضلهم عنده أعمهم نصيحة، وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة «1» . وقال هند هذا فى مجلسه: كان إذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهى به المجلس، ويأمر بذلك، ويعطى كل جلسائه نصيبه، لا يحسب جليسه أن أحدا أكرم عليه، من جالسه، أو قاوله فى حاجة، صابره، حتى يكون هو المنصرف. ومن سأله حاجة لم يرد إلا بها أو بميسور القول، وقد وسع الناس بسطه وخلقه، وصاروا عنده فى الحق سواء. مجلسه مجلس حكم وحياء وصبر وأمانة، لا ترفع فيه الأصوات، ولا تؤبن فيه الحرم، ولا تغشى فيه فلتاته، متعادلين يتفاضلون بالتقوى، متواضعين يوقرون فيه الكبير، ويرحمون الصغير، يؤثرون ذا الحاجة، ويحفظون الغريب «2» . ويقول: «كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، دائم البشر سهل الخلق لين الجانب ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخاب ولا فحاش ولا عياب ولا ممزاح، يتغافل عما لا نشتهى، ولا يوئس منه راجيه، ولا يخيب فيه. قد ترك نفسه من ثلاث: المراء والإكثار وما لا يعنيه، وترك الناس من ثلاث: كان لا يذم أحدا، ولا يعيره، ولا يطلب عورته، ولا يتكلم إلا فيما يرجو ثواب، إذا تكلم أطرق

_ (1) البداية والنهاية ج 6 ص 33. (2) البداية والنهاية ج 6 ص 33.

[ج] اخلاقه خارقة للعادة:

جلساؤه، كأنما على رؤوسهم الطير، فإذا سكت تكلموا ولا يتنازعون عنده، يضحك مما يضحكون منه، ويتعجب مما يتعجبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة فى منطقه ومسألته، حتى أن أصحابه يستحلمونه فى المنطق «1» . إذا رأيتم طالب حاجة فارفدوه، ولا يقبل الثناء إلا من مكافيء، ولا يقطع على أحد حديثه، حتى يجوز، فيقطعه بانتهاء أو قيام.. ويقول: كان سكوته على أربع: الحلم، والحذر، والتقدير، والتفكر. فأما تقديره، ففى تسويته النظر والاستماع بين الناس، وأما تفكره، ففيما يبقى ويفنى، وجمع له الحلم والصبر، فكان لا يغضبه شىء ولا يستفزه. [ج] اخلاقه خارقة للعادة: 136- ولنقف وقفة فى تجزئة ذلك القول البليغ، ودلالته على ما وراءه مما ينبغى أن تكون عليه أخلاق الداعى إلى الحق، وصاحب الرسالة التى حمله الله تعالى إياها، وأثر هذه فى الإجابة. لقد قال بعض الكتاب معددا الخوارق التى صاحبت الدعوة المحمدية، قال إن من أعظم الخوارق التى كانت لمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم أخلاقه، فكانت فى ذاتها أمرا خارقا للعادة بين بنى الإنسان، فهى أعلى من أخلاق الملائكة، لأن الملائكة حسنت أخلاقهم بمقتضى كونهم: «لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون» «2» وليس فيه روحانية عيسى عليه السلام المجردة بل كانت فيه الروحانية الإنسانية، بما فى الإنسان من مطالب الجسم، وتجرد الروح، فمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم بين الناس الإنسان الذى تتجلى فيه الإنسانية الكاملة، وفى طبعه روحانية إرادية، فكل ما فيه من أخلاق للتربية والإرادة دخل فى تكوينه، فهو ليس حصورا، ولكنه عفيف لم يتدل إلى خنا قط، ففضيلته كف الشر، وتجنب له، والعفة من حصور، ليست كالعفة ممن له شهوات تغالبه، وأهواء تعانده، وبمعركة بين القوتين تكون النصرة للعفة، والغلب للفضيلة، وما يكون الوصول إليه بغلاب يكون أعلى وأنفس، مما يجيء رخيصا سهلا. (1) وإن من أول صفات محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم الذى ذكره ربيبه هند، أنه يخزن لسانه، أى يكون لسانه كأنه فى خزانة قد ستر لا يظهر إلا لخير يرتجيه. فلا يشجع على نفرة، بل إنه لا ينطق إلا فيما يعنى الذين يخاطبهم، ويفيدهم، ويكون فيه تأليف لقلوبهم وتقريب لنفوسهم، وتأنيس غريبهم، ويأمر بإعطاء ذى الحق، ولا يتكلم فى مراء، ولا يذم أحدا ولا يكثر فى قول، خشية سقط اللسان، لا يعيب الحرمات، ولا يقطع على أحد حديثه حتى يشبع نهمة القول، فإذا تكلم هو كان كلامه فصلا، وكان قوله حكما.

_ (1) الكتاب المذكور.... وابن الحرم معناها إلمامه بها، لا يغشى فلتاته لا تستر. (2) سورة التحريم: 6.

وجملة القول فى ذلك أنه قد استولى على لسانه، فلا يتكلم إلا اذا لزم الكلام لرفع حق، أو خفض باطل، أو تأليف، أو زرع مودة، أو إسداء معروف، فلسانه ليس خارجا على إرادته، ولكنه مكملها، ويسير تحت سلطانها وإرادته للحق. (2) والصفة الثانية من أخلاقه أنه يتألف مع أصحابه، ويمتزج إحساسه الفاضل بإحساسهم لينساب إلى نفوسهم ويكرم كريمهم، ويرفع خسيسة صغيرهم، حتى يحس بأنه منه، ويوزع محبته بينهم، ويعطى نفسه لكل واحد منهم حتى أنه يظن كل واحد منهم أنه موضع الرعاية منه، وإذا رأى أمرا حسنا أعلن حسنه، وإن رأى قبيحا نبه إليه فى رفق الهادى الأمين الذى يؤلف، ولا ينفر، ويقرب، ولا يبعد، لا يسكت عن باطل. وهو بينهم اليقظ الذى لا يغافل مخافة أن يغافلوا أو يميلوا، لا يطوى نفسه لأحد على شر، وينقذهم، وكان حريصا يحذر من يتوهم منه شرا، ويحترس منه من غير تقطيب وجه، أو غلظة فى قول، بل هو فى كل أحواله الأليف المألوف. يقتح قلبه لهم، ليقول خيارهم ما تنطوى عليه نفوسهم، ويستحيى غيرهم من أن يظهر خبيئة نفسه، بل يبقى حبيسا لا يظهر، وربما خبا فيزول، ويستقيم أمره، فإن بعد الرذيلة عن النور والماء يذبلها، بل يذهبها. (3) والصفة الثالثة التواضع الكريم الذى لا ضعة فيه ولا ذلة، فهو إذا دخل على جماعة جلس حيث ينتهى المجلس وحث أصحابه على ذلك، ويتطامن لهم فى المجلس؛ ويمسهم بجناح الرحمة، ويسوى بينهم، وبشره مستمر، يلين جانبه لهم، ويغض الطرف عما لا يحسن إلا أن يكون فى السكوت ترك لواجب الإرشاد. وإن أرشد ففى رفق يكتفى بالإشارة. فإن لم يكف كان التعرض، فإن لم يكف كان التنبيه فى تعميم، فإذا رأى بعض الناس يسيء لا يواجهه بالإساءة، بل يقول: ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا، ولا شك أنه إذا كان التوبيخ فيه معنى العموم كان ألطف، وكان مع ذلك أفعل، وأبلغ أثرا. ولا يمزح إلا قليلا، وإن مزح فبعبارة فيها حكمة، ولا تخلو من بيان كقوله لعمته صفية: «لا يدخل الجنة عجوز» فبكت، فقال عليه الصلاة والسلام، تكنّ «كواعب أترابا» ألا ترى فى هذا مداعبة لطيفة تخبر عن حال من أحوال الاخرة. (4) الصفة الرابعة بعده عن الغلظة والجفوة، ليس بفظ ولا غليظ، ولا عياب، ولا متتبع العورات ولا صخاب ولا فحاش فى القول، وإن كان صادقا فإن النطق بهجر القول، ولو كان وصفا صادقا لمن يرمى به فإنه لا يصح النطق به إلا إذا ترتب عليه ضياع حق أو نصرة باطل، فإنه يذكر موضوعه، ومن غير تخير للفاحش.

(5) الصفة الخامسة: الامتناع عن الذم امتناعا مطلقا، إلا أن يضطره الحق اضطرارا، فإنه يتكلم بالكناية، ولا يرضى للعبارة سترا، وإبعادا عن الفحش فلا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه، وما يجلب خيرا للناس. (6) والصفة السادسة: التى يدل عليها هذا الكلام من ذكر أخلاقه، أنه عليه الصلاة والسلام كان يلتزم السكوت كما أشرنا، ولكن ليس سكوت العيىّ الحصر، بل سكوت من يفكر فى القول قبل أن ينطق، ومن يحذر من أن يشيع عنه ما لا يليق بمثله، وهو يقدر، وقد يكون سكوته حلما وعقلا وإغضاء وعفوا عمن يكون فى قوله سوء. (7) والصفة السابعة: أنه لا يغضب لشيء يتصل بذاته، ولا يستفزه شيء يتعلق به، بل لا يغضب إلا لله أن تنتهك حرماته، فإذا كان ذلك لا يسكت حتى يقام حد الله. 137- هذا ما وصفه به هند بن أبى هالة، وقد كان رجلا وصافا للرجال، لا تفوته اللمحات، ولا تخفى عليه النظرات، وتنكشف دخائل النفوس من العبارات، وقد لخصنا لك بعض ما تنبئ عنه الكلمات. ولننقل بعضا من قول من عاشروه وخالطوه، لتعرف كيف كان عشيرا، وفيا، وذا خلق هنيء، لا جفوة، ولا جفاء. لقد روى عروة بن الزبير عن خالته أم المؤمنين عائشة، وهى التى عاشرته، وهو يحمل أعباء الإنسانية كلها ويخوض الحروب ويتنقل بين ميادينها- أنها قالت فى أخلاق محمد صلى الله تعالى عليه وسلم: «ما ضرب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بيده خادما قط، ولا امرأة، ولا ضرب بيده شيئا إلا أن يكون إثما، ولا انتقم لنفسه من شىء يؤتى إليه، حتى تنتهك حرمات الله، فينتقم لله عز وجل» . ولقد وصف أبو هريرة صاحبه، فقال: كان يقبل جميعا، ويدبر جميعا، بأبى وأمى، لم يكن فاحشا ولا متفحشا، ولا صخابا فى الأسواق. وإن هذا الوصف لذلك الصحابى الجليل، ينبيء عما كان عليه الصلاة والسلام من معاملة للناس، وقد وصفه فى هذا بثلاث صفات: أولا: أنه فى لقائه يقبل بنفسه كلها على من يلقاه، فلا يلقاه لقاء جانبيا أو يكلمه بطرف من لسانه، أو يستقبل استقبال المستهين، بل هو واضح فى إقباله، كما هو واضح فى إدباره، فإن تركه لا يتركه إلا بعد أن يتم حديثه، وعندئذ يتركه، فلا يبقى حديثا لم يستمع إليه، ولم يستمع إليه وهو يولى مدبرا.

والصفة الثانية- أنه لم يكن يجبه الناس بفحش، أو بخروج القول عن جادته، وقد أشرنا إلى هذا فى وصف ربيبه هند بن أبى هالة. الصفة الثالثة- أنه لا يصخب، ولا يغاضب، ولا يجادل فى الأسواق، بل كان كل شيء فيه على سمت حسن وجلال. وقد أشرنا إلى أنه عليه الصلاة والسلام كان كما يستفاد من وصف ربيبه له متواضعا أبلغ ما يكون التواضع، ولقد خير عليه الصلاة والسلام بين أن يكون نبيا ملكا، أو نبيا عبدا، فاختار أن يكون نبيا عبدا. هذا هو النبى صلّى الله عليه وسلّم الذى بعثه الله تعالى رحمة للعالمين، وقد بعثه فى قوم شمس، فيهم عنجهية جاهلية وغطرسة نسبية، يخير نبيهم المبعوث لهم بين جبروت الملك، ورق العبد، فيختار رق العبد، لأنه يريد أن يقرب من النفوس، لا أن يعلو عليها، فالرشاد يجيء من القريب منهم، ويبتعد عمن يستعالى عليهم. روى أبو أمامة رضى الله تعالى عنه قال: «خرج علينا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم متوكئا على عصا، فقمنا له، فقال: لا تقوموا كما يقوم الأعاجم يعظم بعضهم بعضا، وقال: إنما أنا عبد اكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد» . وقد جاء فى كتاب الشفاء للقاضى عياض: وفى حديث عمر رضى الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «لا تطرونى كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله» . وعن أنس رضى الله عنه أن امرأة كان فى عقلها شيء، جاءته، فقالت: إن لى إليك حاجة. قال صلى الله عليه وسلم «اجلسى يا أم فلان فى أى طرق المدينة شئت أجلس إليك، حتى أقضى حاجتك» «1» . ولقد كان رسول الله عليه الصلاة والسلام فى أهله موطأ الكنف، يعين أهله فى مهنة البيت، ولا يستنكف، يغسل ثوبه ويحلب شاته، ويرقع ثوبه، ويخصف نعله، ويخدم نفسه، ويعقل البعير، ويعلف ناضحه، وبأكل مع الخادم، ويحمل بضاعته. وكانت الأمة من إماء المدينة إذا احتاجت إلى من يعينها من الرجال، ولقيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أعانها فى حاجتها، حتى تقضيها، ثم ينصرف عنها موفورا غير منقوص.

_ (1) الشفاء ج 1 ص 76.

هيبة:

هيبة: 138- ومع هذا التواضع الكريم غير الذليل، كانت هيبته فى القلوب أشد ما تكون هيبة الرجل الذى اختاره الله تعالى رسولا للعالمين، وما كان تواضعه إلا لما يعلمه من فرط هيبته، فيلطفها بذلك التواضع، بل إنهما نبعا من هيئة واحدة، فهما متاخيتان، بل إنه لا يتواضع هذا التواضع من غير إن يتضع، إلا من يكون قويا فى نفسه، لا يحس بأنه ينزل إلى المهانة فيما يفعل، وفيما يدع. ولقد وصف الواصفون مجلس النبى عليه الصلاة والسلام بين صحابته بما يدل على عظيم مهابته، وقوة وقاره، وسمته، فقد كان مجلسه عليه الصلاة والسلام يحفه الوقار، لا يتكلمون إلا إذا أذن فى القول، فإذا صمت صمتوا، لا يخرجون عن قوله، ولا يبعدون عن إرادته. ولكن فى تواضع واطمئنان. وقد كان أحيانا يحرص على أن ينزل ثم ينزل ليقرب منه الذين يحدثهم، ويريد هدايتهم، وأحيانا كان النساء يسترسلن فى القول فى مجلسه من غير أن يكون منه جفاف القول، وهو قادر على إسكاتهم بنظراته، ولكنه لا يرمضهن، ولا يمنعهن. وقد كان يرشد بعض النسوة، فكن يتسابقن فى سؤاله، فتصايحن عليه، فدخل عمر رضى الله تبارك وتعالى عنه، وهن يتصايحن فى تسابق إلى السؤال، فسكتن: فابتسم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حتى بدت سنه، فقال عمر: أضحك الله سنك يا رسول الله، ما الذى أضحكك؟ فقال الرسول الكريم الرؤف الرحيم: هؤلاء النسوة كن يتصايحن على، فلما رأينك سكتن، فقال عمر: أى عدوات أنفسهن أتهبننى ولا تهبن رسول الله. فقالت إحداهن: ولكنك أفظ وأغلظ. فأسكتها الرسول وقال القوى المهيب، نافيا الغلظة عن صاحبه: «لا، إن الشيطان لا يسير فى فج يسير فيه عمر «1» » . ولم يكن عمر أشد هيبة من النبى بل النبى المهيب المحبوب، ولكنه يتطامن ليصل إلى القلوب، وهو لا يترك هيبته ترهب، ولكنها هيبته ما كانت إلا لترشد، فالإرشاد غايته فى حاليه مهيبا ومتواضعا. وان أخبار هيبته فى مبدأ البعث لها صور ووقائع، ولكن ما كان عليه الصلاة والسلام يسلط هذه الهيبة التى تفرض صاحبها إلا نادرا، لتكون استجابة الدعوة عن الاقتناع المجرد الذى لا يدخله رهبة ولا ترغيب إلا ما يكون من رضا الله تعالى يوم القيامة.

_ (1) الشفاء ج 1 ص 76.

ولكن إن كانت المواجهة بينه وبين زعماء الشرك وجها لوجه، ورأى فيهم استهزاء مقيتا، وانفرد بهم، بيّن بأس الله تعالى عليهم، وقوته، وما وهبه الله تعالى من هيبة ربانية، ولنذكر من ذلك واقعتين. إحداهما- أنه يروى عمرو بن العاص أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان يطوف بالبيت، والملأ من قريش جالسون فى فنائه، فكلما مر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم غمزوا بالقول، فيبدو ذلك فى وجهه، وكرروا ذلك حتى أتم الطواف سبعا، ثم التفت إليهم، ووقف وقال لهم فى قوة المؤمن، وعزمة الصادق، وهيبة القائل: يا معشر قريش شاهت الوجوه، وأرغم الله هذه المعاطس؛ لقد جئتكم بالذبح، أو كما قال عليه الصلاة والسلام، فراعهم قوله وأفزعهم، فما كان منهم أحد إلا كان يرفوه بأحسن القول، ويقول: اذهب أبا القاسم موفورا. ما علمنا عليك شراقط. ولا شك أن الهيبة الإنسانية التى منحها إياه رب العالمين كانت هى الفاصلة فى هذا، وما كان النهديد الذى ساقه عليه الصلاة والسلام له الأثر النفسى، إلا لصدوره عن مهيب قوى. الثانية- أن أشد الناس طغيانا على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عمرو بن هشام الذى سماه التاريخ الإسلامى بحق أبا جهل فقد كان فاجرا، لا شرف فى القول يقيده، ولا خلق كريم يمنعه، بل كان الحقد الدفين يدفعه، وكان النبى عليه الصلاة والسلام يصابره ليثير عطف الناس على الدعوة المحمدية، يترك هذا الطاغوت فى اندفاعه إلى الشر وصبره له. ولقد كان لبعض العرب دين عليه، فماطله، ثم امتنع عن السداد فرأى أن يستعين ببعض زعماء مكة ممن هم على شاكلته ليستأدوه دينه، فأحالوه تهكما- على محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم- فذهب إليه الرجل يستعين به، فذهب النبى عليه الصلاة والسلام إلى بيت أبى جهل الطاغية، وطرق الباب، فخرج إليه، وفرائصه ترتعد، من هول العزمة المحمدية، فقال له النبى عليه الصلاة والسلام: أد للرجل دينه، فذل كبرياؤه كبرياء الجاهلية، وأحضر المال وسدد الدين صاغرا، وصار هو أضحوكة الجاهليين أشباهه. وكان عليه الصلاة والسلام يخفف من جأش من تناله هيبته عليه الصلاة والسلام. دخل عليه رجل، فأصابته من هيبته عليه الصلاة والسلام رعدة، فقال عليه الصلاة والسلام: «هون عليك، فإنى لست بملك، انا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد» . وروى أبو هريرة: دخلت السوق مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فاشترى سراويل، وقال للوزان: وأرجح أى (أوف الميزان) ، فيثب التاجر إلى يد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يقبلها، فجذب يده، وقال: هذا ما يفعله الأعاجم بملوكها، ولست بملك إنما أنا رجل منكم. ثم أخذ السراويل، فذهبت لأحملها، فقال صلى الله عليه وسلم: «صاحب الشيء إحق بشيئه أن يحمله» .

العفو والتسامح:

وقليل من الناس من يلتقى فيه التواضع والهيبة، وإن محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم قد وصل إلى أسمى درجات الهيبة، ونزل من التواضع إلى درجة يقرب فيها من كل ذى حاجة وذى ضعف، يأنس به الضعيف ويرجوه ذو الحاجة فى حاجته. إن أكثر الذين يستكبرون ممن يحسون يضعف فى نفوسهم، ولا يجدون فى أنفسهم قدرة شخصية تفرض هيبتهم فيستعينون بالكبرياء وغمط الناس والتسامى عليهم، ليعوضوا النقص، ويخففوا الضعف، أو يخلقوا هيبة صناعية: مصدرها مال، إن ذهب فقد ذهبوا، أو منصب يتعالون به إذا ألقوا عنه أصيبوا بالصغار والضياع، أما ذو الشخصية المهيبة بتكوين الله تعالى، وبما منحه الله تعالى من علم وفضيلة وقوة نفس. فإنها لا تحتاج إلى المهابة الصناعية والغطرسة والاستعلاء بها على الناس، والاستهانة بهم، واستصغار أمورهم. والمهابة الفطرية التكوينية المستمدة من العلم والخلق والفضيلة هى والتواضع صنوان ينبعان من معين واحد، فهما لا يفترقان، لأن المهابة الفطرية ليست فى حاجة إلى غذاء صناعى، بل إن المهابة توجب التواضع ليكون التالف والتكامل الجماعى. العفو والتسامح: 139- ينبعان من قلب سليم وخلق كريم، ولقد قالت عائشة رضى الله تبارك وتعالى عنها وعن أبيها فى خلق النبى صلى الله عليه وسلم: «كان خلقه القران» ، فهو يأخذ بهديه، ويتبع منهاجه من غير عوج، ولا التواء، والله تعالى يأمره بقوله: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ «1» واستمع إلى قوله تعالى: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ، ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ «2» . وقد هيأه الله تعالى قبل البعثة، ليكون العفوّ عن هفوات الناس، المتجاوز عن أخطائهم، وإن العفو والسماحة لا يسكنان إلا قلبا خاليا من الأحقاد والأضغان، ومن يعمل ليقود الخلق إلى الحق لابد أن يكون نظره إلى ما هو أمامه ولا ينظر إلى الوراء، والأحقاد والأضغان، ومحاسبة كل امريء عليه ما كان منه، إنما هى تشد صاحبها إلى الوراء، فلا يكون تفكيره إلى ما يجب عليه القيام به فى المستقبل، بل يكون تفكيره فى شفاء غيظ من أسقامه التى كانت فى الماضى، ومن يأتى برسالة داعيا إلى الحق، لا يكون دبرى النفس يشغله الماضى عن الحاضر، بل يكون عاملا للمستقبل.

_ (1) سورة الأعراف: 199. (2) سورة فصلت: 34.

محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام الذى أدبه ربه فأحسن تأديبه، والذى خلقه ليحمل أقوى رسالة، وأعظم هداية، رباه ربه على الصفح الجميل، ليكون قلبه متجها دائما إلى ما هيأه الله تعالى له، من حمل الدعوة إلى الحق، متفرغا لها، فما كان من إحن يضعها دبر أذنه، وما كان من واجب تفرغ له ليبلغ الرسالة على أكمل وجه، فلا يشغل نفسه حقد، ولا تملؤها إحن، فحسك الصدور يشغل عن العمل، ويفسد الصلات، ويغرى بالعداوة، ونبى الله تعالى فوق أن يشغله ضغن. ولقد كان النبى عليه الصلاة والسلام كذلك قبل أن يبعثه الله تعالى، فلم يعلم فى تاريخ حياته أنه شغل نفسه بأحقاد الجاهلية وما كانت تبثه من عداوات، بل إنه فى اخر الرسالة يعلن الصفح الكامل، فيقول في قوة ذى العزم من الرسل، «ألا إن دم الجاهلية موضوع، وأول دم أبدأ به دم عمى الحارث بن عبد المطلب» . ولقد كان بعد البعثة حريصا على سد كل مسام الأحقاد والأضغان، وذلك بمنع النميمة، ولو كان ما ينقل صدقا، فقد ثبت فى الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال «لا يبلغنى أحد عن أحد شيئا إنى أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر «1» » . ولمحبته للعفو الكريم والصفح الكريم ما كان يوجه لوما على عمل عمل مادام يخص نفسه، يقول أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «والله ما قال لى لشيء صنعته لم صنعت هكذا، ولا لشيء لم أصنعه لم لم تصنع» ويقول ذلك العشير الذى خدمه فى السفر والحضر: «كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من أحسن الناس خلقا، أرسلنى لحاجة، فقلت: - لا أذهب- وفى نفسى أن أذهب لما أمرنى به رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فخرجت حتى أمر على صبيان، وهم يلعبون فى السوق، فإذا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، قد قبض بقفاى من ورائى قال: فنظرت إليه وهو يضحك، فقال يا أنس، ذهبت حيث أمرتك؛. فقلت: نعم أنا أذهب يا رسول الله» ومضى أنس خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حيث أمره أو طلب إليه من حاجة «2» . هذا خبر يبدو صغيرا فى مقام أخبار النبوة المحمدية، ولكنه كبير فى مغزاه، وفى معناه، وقد بدت السماحة وسماحة الأخلاق، أولا- فى أنه عفا وسامح خادمه وهو يعانده، ويرد قوله ظاهرا، فما لامه، ولا عتب عليه، ولا احتسبها عليه، ولكنه تركه لتقديره، وقبل ألا يذهب إلا مختارا غير مأمور.

_ (1) البداية والنهاية ص 6 ص 26. (2) الكتاب المذكور.

وثانيا: تتبعه ليعرف ماذا أجدى الصفح الجميل، وعلاج شماس النفوس بالتسامح والتساهل، والإخاء من غير إعنات ولا استكراه فى إغلاق وإغضاب، أو مغاضبة. وثالثا: لم يكتف بألا يغضب، بل إنه يداعبه مع ذلك، فيقبض عليه من قفاه، ثم يناديه مداعبا ضاحكا يا أنيس، يد لله بتصغيره، وهو الذى عانده، ورد إرادته. ثم يقول معلنا انتصار السماحة والعفو، وعدم المؤاخذة على ظواهر الأفعال «ذهبت حيث أمرتك» هذا كمال النبوة وخلق النبى الذى يدعو النفوس الشاردة فيروضها على الحق، ويؤنسها فى عفو وسماحة، وصفح جميل، بل إن الإشارة لا تعلو قط، حتى تكون أمرا. وقال أنس هذا «كنت أمشى مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وعليه برد غليظ الحاشية، فأدركه أعرابى فجبذ بردائه جبذا شديدا، حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا به قد أثرت فيه حاشية البرد من شدة جبذته، ثم قال: «يا محمد مر لى من مال الله تعالى الذى عندك» فالتفت إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فضحك، ثم أمر له بعطاء» . وإن هذه السماحة، وذلك العفو خلقه قبل البعثة، وكان خلقه عندما اشتد الأذى، فهو يعالج عنف قريش بالرفق فى القول، ويعالج الإيذاء بالصفح الجميل، الذى لا يمن به، ولكنه يهدى به من شاء الله تعالى، ولو لم يكن العفو أساسا، لطلب من الله تعالى كما قال تعالى عن نبيه نوح: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ، دَيَّاراً. إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً «1» ولكن الله فضل بعض النبيين على بعض، ولكل أمة رسول تكون أخلاقه على ما يكون سبيلا لهدايتها ولإرشادها. روى أنه لما كذبت قريش النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وبالغت فى الأذى، ولما لجأ إلى ثقيف فى الطائف وأغروا سفهاءهم. أتاه جبريل عليه السلام فقال له: «إن الله تعالى قد سمع قول قومك لك، وما ردوا به عليك، وقد أمر ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم- فناداه ملك الجبال وسلم عليه وقال: مرنى بما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين (الجبلين اللذين يحيطان بمكة المكرمة) قال النبى السمح الكريم «الهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون» . وذكر ابن المنكدر أن جبريل عليه السلام قال للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم: «إن الله تعالى أمر السماء والأرض والجبال أن تطيعك، قال: أؤخر عن أمتى، فلعل الله تعالى أن يتوب عليهم» . وإن سماحته عليه الصلاة والسلام وعفوه ليبدوان فى عفوه عمن عادوه واذوه وقاتلوه، ولم يتركوا بابا من أبواب الأذى والقتل والقتال إلا سلكوه، وما تركوا كيدا إلا كادوه له، ثم ال الأمر إلى أن ينتصر عليهم نصرا مؤزرا.

_ (1) سورة نوح: 26، 27.

حياؤه:

عندما فتح الله تعالى له مكة المكرمة، نادى الملأ من قريش، ولم يفكر فيما كانوا يصنعون به وبأهل الإيمان إن كان لهم النصر، ولكنه فكر فيما ينبغى لمثله معهم، وتطييب قلوبهم، وإزالة الأحقاد من نفوسهم، فقد قال لهم فى ود راه فى موضعه: ما تظنون أنى فاعل بكم، قالوا أخ كريم وابن أخ كريم، ما نظن إلا خيرا. قال أقول لكم ما قاله أخى يوسف لإخوته: «لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم، وهو أرحم الراحمين» اذهبوا فأنتم الطلقاء، وبذلك أنهى الأحقاد، ووضعها دبر أذنه ليستقبلوا عهدا جديدا فى الإسلام. إن الداعى بدعاية الحق، يجب عليه أن يطهر نفسه من أمرين: أحدهما أدران التألم من الناس لأذى سبقوا به، أو لحسك الصدور، أو لفحش كان منهم، فإنه جاء لهدايتهم، لا لمقابلة إساءة بمثلها، ولا ليشغل نفسه بالنقمة بهم، وإن كانت حقا أو أخذ حق، ولا علاج لذلك إلا بأن يجعل نسيان الماضى، والتسامح، هو السبيل لهذا النسيان، والعفو عما سلف من سيئات هو الذى يمكن الداعى من الخلاص إلا من الحق. ثانيهما: أن يبعد الأثرة عن نفسه، فلا يفكر فى العمل لنفسه، وذلك يقتضى الإيثار، والفناء فى دعوته التى يدعو إليها، وإن تطهير النفس من الأثرة، إنما يكون بتغليب ترك الحقوق إذا لم يكن فى تركها إقامة لباطل، أو خفض لحق، أو سكوت عن حق عام، فالداعى ينسى حقوقه الشخصية، بل يهملها من غير تهاون، ولا يترك حقا عاما، ولا أمرا من موجبات دعايته فإن تساهل فى حقوقه، فلكى يتفرغ بكله للحقوق العامة. وإذا كان ذلك ما ينبغى أن يكون عليه دعاة الحق، والناصرون له من الناس، فكيف يكون الشأن ممن هو رسول لرب العالمين، إنه ينسى حقوق نفسه، فيعفو عنها، ويذكر حقوق الناس فلا يفرط فى أى جزء منها. ولقد قالت عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها فى وصف النبى صلى الله تعالى عليه وسلم «لم يكن فاحشا، ولا متفحشا، ولا صخابا فى الأسواق، ولا يجزى بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح» . وفى الجملة ما كان يحمل إلا الخير، وينفى عن نفسه كل ما يثيرها على أحد، فلا يكون منه إلا النفع، ولا يحمل نفسه عناء البغض والكراهة إلا أن يكون لله. حياؤه: 139- الحياء صفة نفسية يظهر أثرها فى العمل على ألا يفاجيء الشخص الناس بما ينفرهم، أو بما لا يألفون، لا يظهر منه ما يخالف الفضيلة، فلا يعلن رذيلة، ولا أمرا لا يتلقاه الناس بالقبول، ويعمل

على إرضاء النفس الجماعية ما لم يكن إثما، وهناك صفات تلتبس مع الحياء. أو يبدو بادى الرأى أنها تعارضه. فقد ظن بعض الناس أن الحياء ضعف نفسى، وأنه قد يكون السكوت فيه نوع من الرياء، وذلك باطل، لأن الحياء الحقيقى ليس ضعفا، ولا ينشأ عن ضعف، إنما ينشأ عن الكمال لأن من عنده الحياء لا يحب أن يظهر منه إلا ما هو كامل ذاته، وألا يظهر منه ما هو مرذول فى ذاته أو يعده الناس مرذولا، وذلك ليس ضعفا، ولكنه نقاء وصفاء للمجتمع من أن ترنقه مظاهر الانخلاع من القيود الاجتماعية، والتحلل من الروابط الإنسانية التى تربط الاحاد ربطا نفسيا. والشجاعة والحياء يتلاقيان، بل إن تلاقيهما هو ذروة الكمال، فإن قول الحق فى موضعه، وفى وقته المناسب يتلاءم مع الحياء، والسكوت عن النطق بالحق فى وقت الحاجة إليه، لا يعد حياء، بل إنه استخذاء، والحياء حماية للفضيلة، وتضييق على الرذيلة من أن تظهر، وإذا كان للحياء أثر فى شجاعة قول الحق، فانه يحمل القائل على الدعوة إليه فى رفق من غير عنف، فيكون أجدى، وأشد تثبيتا، وأهدى سبيلا، وإن اقتضى الحق مجاهرة به تأخذ وصف القوة، لا يمنعها الحياء. ولا يظن أحد أن فى الحياء رياء، إنما الحياء ألا تنطق إلا بالحق، أو لا تغمطه، أو تغمض العين على الباطل، إنما الحياء يمكن صاحبه من أن يسوس الحق سياسة المستمسك من غير هوادة إلا أن تكون رفقا. ولقد ذكر القاضى عياض فى الشفاء فى بيان الحياء: وأما الحياء والإغضاء، فالحياء رقة تعترى وجه الإنسان، عند فعل يتوقع كراهيته، أو ما يكون تركه خيرا من فعله، والإغضاء هو التغافل عما يكره الإنسان بطبيعته، وكان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أشد الناس حياء، وأكثرهم عن العورات إغضاء. قال الله تعالى إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ، فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ.. «1» الاية ... عن أبى سعيد الخدرى رضى الله تعالى عنه قال: «كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أشد حياء من العذراء فى خدرها» «2» وإن مظاهر حياء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم تبدو فى عامة أحواله، نذكر بعضا منها يدل على سائرها: (أ) أن بعض أصحابه كانوا لفرط كرمه يتناولون الطعام، ثم يأخذون فى الحديث، فكان هذا يؤذى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وقد يكون منه اضطراب فى بيته، وإقلاق لراحة أهله، وضيق فى ذات نفسه، ولكن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان يستحيى من أن يأمرهم بالخروج، أو يطلبه إليهم،

_ (1) سورة الأحزاب: 53 (2) الشفاء ج 1 ص 68.

أو يشير به بأي نوع من أنواع الإشارة، حتى تولى الله تعالى تعليم المؤمنين الأدب فى هذا المقام، وأعفى رسوله من أن يخالف قانون حيائه، فقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ، إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ، وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا، فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ، إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ، وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ، وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ، ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ، وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ، وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً «1» . (ب) ومن مظاهر حيائه، وعدم المجابهة من غير ضياع للحق، أنه إذا كان قد بلغه عن أحد ما يكرهه، لا يجابهه بأنه فعل ما يكره فى الشرع، ولا يجبه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، بل كان يقول: «ما بال أقوام يصنعون كذا أو يقولون كذا.» فينهى عن العمل ويستنكره ولا يسمى فاعله. وإن ذلك فوق أنه مظهر من مظاهر الحياء، فإنه أولا يجعل النهى عاما، والاستنكار شاملا لكل من يحتمل أن يقع منه هذا العمل، وفوق ذلك إن ذلك التعميم على قبح الفعل فى ذاته من غير تعلقه بشخص بعينه، فالاستنكار للفعل من غير نظر إلى فاعله، ومع كل هذا فإن ذلك هو الحكمة، لأن المجابهة للفعل فيه خزيه، وقد يجر تكرار اللوم إلى المجاهرة والاستمرار، وإن تكرار الخزى إعانة للشيطان، كما قال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لقوم قالوا لمحدود فى شرب خمر: أخزاك الله، فقال لهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم «لا تعينوا عليه الشيطان» . (ج) ومن مظاهر حيائه صلى الله تعالى عليه وسلم، أن الفعل إذا كان يندر وقوعه، فإذا وقع لا يجابه صاحبه بالنهي، بل يحث أصحابه على أن ينبهوه، دخل عليه مرة رجل عليه ثياب معصفرة زاهية تبهر الأنظار مما رأى أنه لا يليق أن يكون لبسة الكاملين، فلم ينبهه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، بل بعد أن خرج أمر بعض صحابته أن ينبهه، وقد دفع إلى ذلك حياء النبى عليه الصلاة والسلام أولا- والرفق بالرجل من مرارة الإعلان ثانيا، ومنعه من أن يقع عليه خزى ثالثا. (د) ومن مظاهر حيائه، ولطف مودته عليه الصلاة والسلام أنه كان إذا لقى الرجل بوجه لا يتجه بصفحة وجهه إلى جانب اخر، حتى يكون محدثه هو الذى ينصرف عنه روى أنس خادم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه كان إذا استقبل أحدا بوجهه لا يصرفه عنه حتى يكون الرجل ينصرف عنه. وروى أنس أيضا أنه كان إذا صافح الرجل أو صافحه لا ينزع يده منه، حتى يكون الرجل هو الذى ينزع يده، وإذا أراد رجل أن يسر إليه حديثا فى أذنه، فيحنى رأسه له، ويستمر حانيا رأسه، حتى يكون الرجل هو الذى ينحيه.

_ (1) سورة الأحزاب: 53.

وقد يقول قائل ما للحياء والشمائل النبوية التى من شأنها أن تسهل دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام، إنه أدب شخصى ليس له صلة بالدعاية أو تبليغ الرسالة؟!! ونقول إن خلق الداعى يجذب إلى موضوع الدعوة، فلو كان الداعى فحاشا، أو صخابا، أو يغلب عليه أن يلوم وتقرع عباراته لنفر منه الناس، وما استجاب له إلا أهل الحق الصرف الذين لا يهمهم لون الدعوة، بمقدار ما يهمهم لبها. وإذا كان الخلق الطيب يجذب النفوس، ويوجهها نحو الحق، فإن الحياء أشد الأخلاق اجتذابا للنفوس، فإن الحياء، يجعل صاحبه لا يفجأ الناس بما لا يسرهم، بل يجيء إليهم من جانب ما يألفون، فلا تنفر النفوس، ولا تنشعب عن الحق، وإن عنف الداعي، وتفحش قوله يعوق دعوته، ويكون استثقاله مؤديا إلى رده. وإذا كان مع الحياء لين فى الطبع من غير ضعف، وقوة فى الحق وصل إليه فى مداخل سهلة لينة، ولقد قال فى وصفه على بن أبى طالب أنه كان أوسع الناس صدرا، وأصدق الناس لهجة. وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة. ولقد كان لالتقاء الخلق الحسن اللطيف المعشر مع الحياء، والاستمساك بالحق مزيج من أخلاق كريمة، جعله لا يترك التنبيه إلى الحق فى رفق، وجعله يصل إلى ما يريد من إيغاله فى القلوب. ذكر بعض الذين أدركوه قصة تدل على جمع النبى عليه الصلاة والسلام بين لطف العشرة، والحياء، والتأديب اللطيف. قال ذلك العربي، وهو ابن جبير: نزلت مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مر الظهر، فخرجت من جناني، فإذا نسوة يتحدثن، فأعجبنني، فرجعت، فأخرجت حلة حبرة فلبستها، ثم جلست إليهن، وخرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من قبته، فقال: يا أبا عبد الله ما يجلسك إليهن، فهبت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، جمل لى شرود أبتغى له قيدا، قال: فمضى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وتبعته فألقى رداءه.... ودخل الأراك فقضى حاجته وتوضأ، ثم جاء فقال يا أبا عبد الله، ما فعل شراد جملك، ثم ارتحلنا، فجعل لا يلحقنى فى منزل إلا قال: لى السلام عليك يا عبد الله، ما فعل شراد جملك. فتعجلت إلى المدينة، فاجتنبت المسجد، ومجالسة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فلما طال ذلك تحينت ساعة خلو المسجد، فجعلت أصلي، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من بعض حجره، فجاء صلى

جوده عليه الصلاة والسلام:

الله تعالى عليه وسلم، فصلى ركعتين خفيفتين، ثم جاء فجلس، فطولت رجاء إن يذهب، ويدعني، فقال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: طول يا أبا عبد الله ما شئت فلست بقائم حتى تنصرف. فقلت والله لا عتذرت إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ولأبردن صدره، قال فانصرفت، فقال: السلام عليك يا أبا عبد الله، ما فعل شراد جملك، فقلت: يا رسول الله والذى بعثك بالحق ما شرد ذلك منذ أسلمت، فقال عليه الصلاة والسلام: رحمك الله مرتين أو ثلاثا، ثم أمسك عنى فلم يعد «1» . انظر أيها القاريء الكريم للتأديب النبوى لأصحابه من غير أن يكون فحشا، وفى حياء المؤمن، وأدب الهدى المحمدي، لقد لا حظ رجلا يرى جمعا من النسوة يعجبنه، فيلبس أحسن ثيابه، ويجلس إليهن، فيسأله فيكذب، فيراه يخطئ خطأين: أولهما- أن يخرق حجاب الحياء فيجلس فى مجلس النساء، وذلك خدش لحيائهن، وتهجم عليهن، واختراق لحجاب الحياء فى ذات نفسه، ثم يكذب على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ويلح النبى ويوميء من طرف خفى إلى أنه لم يقل الحقيقة. فيكرر له ما اعتذر به وقتا بعد اخر بأناة، وذلك ليحمله على التوبة والاستغفار، إنه يريده على التوبة عن أصل ما ارتكب ثم عن الكذب، فأخذ يكرر السؤال فى شبه مداعبة، وهو يقصد اللوم، إنه ما انتهى من تكرار القول. وهو يعرف مداه من القلب، حتى أقر بما ارتكب، وبأنه قد كذب على الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه، والإقرار بالذنب أول أبواب التوبة، وقد ندم على ما فعل بدليل تهربه من مواجهة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. جوده عليه الصلاة والسلام: 140- الجود إذا لم يقصد به التفاخر، كان بابا من أبواب الخير الذى يكون بالعطاء لذى الحاجة الذى لا يمتن فيه ولا يستكثر، بل يبذل سدا لحاجة محتاج، أو لإعانة مستعين، أو ليتصدق يرجو ما عند الله تعالى، لا يرجو من الناس جزاء ولا شكورا، وهو بهذا خلق جماعى يربط المودة بين احاد الجماعة، ولقد عد الحكماء أن الفضائل أربعة جعلوا منها الحكمة والشجاعة، والعفة والسخاء، فهو فضيلة عامة، لا تصدر إلا عمن يحس بحق الجماعة عليه. ولقد كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم جوادا يعطى ما فى يده ولو كان فى حاجة إليه، فهو علم المؤمنين أن يؤثروا على أنفسهم، ولو كان بهم خصاصة.

_ (1) الوفا بأخبار المصطفى لابن الجوزى ج 3 ص 449

ولقد ذكر ابن عباس فقال: «كان أجود الناس بالخير، وأجود ما يكون فى شهر رمضان، وكان إذا لقيه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة» . فالجود صفة ملازمة له تعلو ولا تنزل، تعلو فى رمضان، ويسمو علوها فى العشر الأخيرة من رمضان عندما يذاكره جبريل القران. وقد كان الجود خلقه قبل البعث، كما استمر من بعد البعث، إذ كل شيء فيه قد ازداد خيرا، ولقد قالت له خديجة رضى الله عنها: «إنك تحمل الكل، وتكسب المعدوم» . وقد جاء فى كتاب الشفاء أنه رد على هوازن سباياها، وكانت ستة الاف، وأعطى إليه العباس من الذهب ما لم يطق حمله، وحمل إليه تسعون ألف درهم، فوضعت على حصير، ثم قام إليها فقسمها. فكان من كرمه صلى الله تعالى عليه وسلم أن يوزع كل ما يجيء إليه من غنائم، ولا يبقى منها لنفسه شيئا، إلا ما يكفيه. وما كان يرد طالب حاجة قط، حتى كان يبلغ به الجود (أن يجود بالموجود كله) بل إنه إذا لم يكن الوجود حمل عبء الدين ليسد الحاجات، جاءه رجل يسأله حاجة، فقال: ما عندى شئ، ولكن ابتع على، فإذا جاءنا شيء قضيناه. ولقد قال عمر رضى الله تعالى عنه، وقد رأى محمد بن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم يتحمل ثمن البياعات، ليؤديه إذا لم يكن معه- قال له: «ما كلفك الله تعالى ما لا تقدر عليه» فكره النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من صاحبه ووزيره عمر الفاروق ذلك، لأنه لا يريد أن يحول أحد بينه وبين سجيته التى فطره الله تعالى عليها، والتى جعلته فوق الكرماء والأجواد. ولقد لاحظ ذلك أنصارى كان فى حضرة الرسول وصاحبه فقال يا رسول الله، أنفق ولا تخش من ذى العرش إقلالا، فتبسم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعد إذ كره، وعرف البشر فى وجهه، وقال: بهذا أمرت. وذكر الخبر الترمذى. ولقد كان جوده من فرط اعتماده على الله تعالى مع اتخاذ الأسباب، ولأنه يؤثر على نفسه، ولأنه حمل نفسه سد حاجة أى محتاج، فهو جود من قبيل تحمل الأعباء، لا من قبيل السخاء المجرد، لقد قال عليه الصلاة والسلام، وصدق فعله قوله «من ترك مالا فلورثته، ومن ترك عيالا فإلىّ وعلىّ» . فمال الناس لأنفسهم إلا ما يفرض من زكوات عليهم، وأما الذين لا يستطيعون أن يعولوا أنفسهم، فهم يكونون فى عياله، وعليه واحده تحمل أعبائهم، ذلك أن الفقراء عيال الله، ويحملهم رسول الله. يقول أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. «كان رسول الله لا يدخر شيئا» .

وعن أبى هريرة أن رجلا جاء يسأل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ولم يكن مع الرسول مال فاستلف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. وإن جود رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ليزيد؛ حتى إنه يخلع ثيابه لمن يطلبها، فقد روى الطبرانى عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم رأى صاحب بز، فاشترى منه قميصا بأربعة دراهم، فخرج وهو عليه فإذا رجل من الأنصار، يقول: يا رسول الله اكسنى قميصا، كساك الله تعالى من ثياب الجنة، فنزع القميص فكساه إياه، ثم رجع إلى صاحب الحانوت، فاشترى منه قميصا بأربعة دراهم، وبقى معه درهمان، فاذا بجارية فى الطريق تبكى، فقال: ما يبكيك فقالت يا رسول الله دفع إلى أهلى درهمين أشترى بهما دقيقا فهلكا، فدفع إليها رسول الله الدرهمين الباقيين ثم انقلب، فإذا هى تبكي، فدعاها، فقال لها ما يبكيك، وقد أخذت الدرهمين، فقالت أخاف أن يضربونى فمشى معها إلى أهلها، فسلم فعرفوا صوته ... ثم قالوا ما أشخصك بأبينا وأمنا، فقال: أشفقت هذه الجارية أن تضربوها، فقال صاحبها: هى حرة لوجه الله تعالى لمشاك معها، فبشرهم رسول الله بالخير والجنة. ولقد كانت عشرة دراهم مباركة ذكر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بركتها فقال: «لقد بارك الله تعالى فى العشرة كسا الله نبيه قميصا، ورجلا من الأنصار قميصا، وأعتق الله تعالى منها رقبة، وأحمد الله هو الذى رزقنا بقدرته» «1» . وكان عليه الصلاة والسلام ينفق ماله، ويحرض الناس على الإنفاق، وكان فى كرمه كثير الاعتماد على الله تعالى فى رزقه، فهو يقول لبلال «أنفق بلال. ولا تخش من ذى العرش إقلالا» ويقول عليه الصلاة والسلام «ما من يوم يصبح إلا وملكان يقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الاخر اللهم أعط ممسكا تلفا» . وإن ذلك الكرم لم يكن بعد البعثة المحمدية، بل كان قبلها، ويقول فى ذلك ابن كثير: «ثم كان قبل البعثة، وبعدها، وقبل هجرته ملجأ الفقراء والأيتام والضعفاء والمساكين» . وهنا نقول إن جود محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ليس جود من يعرض عن المال فلا يطلبه، أو جود من يجرد نفسه من أسباب الحياة، فلا يترك المال إذا جاء، بل يطلبه من أسبابه الحلال، الطيبة التى لا خبث فيه قط، ولكن ليمر على يده مرورا، ليصل إلى الضعفاء واليتامى والأرامل والمساكين، فهو يعبر من يده الطاهرة الأمينة إليهم. لقد كان تاجرا يكسب من التجارة لنفسه، ولزوجه الطاهرة الأمينة خديجة وتدر عليه الدر الوفير،

_ (1) راجع البداية والنهاية ج 6 ص 65، وقد ذكر أن فى بعض رواته من يضعفه بعض الرواة.

الشفقة والرأفة والرحمة:

وكان يستخدم كل خبرته التجارية التى أفادها من بيئة مكة التجارية، ولكنه ما كان يفعل ذلك لنفسه ولا لزوجه، ولكن ليعطى هو وهى الفقراء والضعفاء كسبهما الطيب الذى لا خبث فيه. لقد ذكر عن عيسى عليه السلام الزهادة فى المال، وأنه لم يعمل على كسبه، بل تجرد منه، ومحمد بن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان يعيش ويكسب ويتجر فى صدر حياته ليحصل على المال، وينفق ما حصل عليه على الضعفاء، فهو قد سخر نفسه عاملا ... وفى كل فضل، ولكن زهادة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم إيجابية، إذ أنها تكسب المال من الكسب الطيب، وذلك الكسب فيه نفع عام، لأنه إما زرع يأكل منه الإنسان، وإما عمل وكدح ينمى ثروة الجماعة، وإما نقل خيرات الأرض التى تفيض من إقليم إلى إقليم اخر بالتجارة، وفى ذلك نفع عميم. ثم إن الكسب لا يبقى فى يد الجواد، بل يفيض به على غيره، فهى زهادة إيجابية كادحة عاملة. الشفقة والرأفة والرحمة: 141- وصف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بأنه رؤف رحيم، والرأفة والشفقة متقاربتان فى المؤدى، وقد قال تعالى فى ذلك الوصف: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ، حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ «1» ، وقال تعالى وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ «2» ونحن فيما كتبنا من بحوث تتصل بهذا المقام قررنا أن الرحمة تكون اثارها عامة، وقد أشار إلى ذلك النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فقد كان صلى الله تعالى عليه وسلم يكثر من الحث على الرحمة، فقال بعض أصحابه: «يا رسول الله أكثرت من ذكر الرحمة ونحن نرحم أزواجنا وذرياتنا. فقال عليه الصلاة والسلام «ما هذا أريد، إنما أريد الرحمة بالكافة» . والشفقة وأختها الرأفة تكون فى النواحى الخاصة، والنبى عليه الصلاة والسلام كان فيه الرحمة بالكافة، وكان فيه الرأفة الخاصة ما لم تتعارض مع الرحمة بالكافة، وذلك يكون فى الرأفة بالاثمين الظالمين الذين يرتكبون ما يوجب حدا من حدود الله، ولذلك يقول سبحانه وتعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ، وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ «3» .

_ (1) سورة التوبة: 128 (2) سورة الأنبياء: 107 (3) سورة النور: 2.

وإنه عليه الصلاة والسلام كان يعالج النفوس الشاردة بالرأفة التى تؤنس هذه النفوس، فتقرب بعدها، وتستأنس بعد جفوتها. ويروى فى ذلك أن أعرابيا جاء يطلب منه شيئا، فأعطاه، ثم قال له أأحسنت إليك؟ قال الأعرابى: ولا أجملت. فغضب الحاضرون من المسلمين، وقاموا إليه، فأشار الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم اليهم أن كفوا، ثم قام عليه الصلاة والسلام ودخل منزله، وأرسل صلى الله تعالى عليه وسلم إلى الرجل، وزاد شيئا، ثم قال: أأحسنت إليك؟ قال: نعم فجزاك الله تعالى من أهل وعشيرة خيرا، فقال عليه الصلاة والسلام: إنك قلت ما قلت، وفى نفس أصحابى من ذلك شيء، فإن أحببت، فقل أمامهم ما قلته بين يدى، حتى يذهب ما فى صدورهم عليك. قال: نعم، فلما كان الغد أو العشى جاء فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: «إن هذا الأعرابى قال ما قال فزدناه، فزعم أنه رضى بذلك، قال الأعرابى نعم فجزاك الله تعالى من أهل وعشيرة خيرا» . فقال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم «مثلى ومثل هذا مثل رجل له ناقة شردت عليه، فاتبعها الناس فلم يزيدوها إلا نفورا، فناداهم صاحبها: خلوا بينى وبين ناقتي، فإنى أرفق بها منكم وأعلم، فتوجه لها بين يديها، فأخذها من قمام الأرض، فردها حتى جاءت إليه، واستناخت، وشد عليها رحلها، واستوى عليه. وإنى لو تركتكم، حيث قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار» «1» . إن ذلك الحديث، ينبيء عن حكمة الدعوة والإرشاد والهداية إلى الحق، يقرب الشارد، ولا يعاقبه، يدنيه إلى الحق، ولا يهلكه، وإنه يسوس النفوس ويتجه إلى الجادة من غير عنف. وفيه الشفقة الكاملة، وأنها علاج النفوس، وليس العنف علاجا، ولكنه قمع فى غلظة، وقد يؤدى إلى الإصرار على الشر، والامتناع عن الخروج عن دائرته. وفى ذلك كمال التبليغ للرسالة الإلهية، وتعليم الراعى كيف يسوس الرعية، ويأخذها إلى مواطن الحق، وحمايته. وإن شفقته الشخصية على المتصلين به لتبدو فى معاملته لأهله من أزواج وأقارب سواء أكانوا أقربين أم كانوا غير ذلك ممن لهم رحم موصولة. ولقد امتنع عليه النوم عندما أسر عمه العباس بن عبد المطلب فى غزوة بدر، فكان يبكى لأنينه، وهنا فى هذه القضية، يبدو أمران يظهران متناقضين- أولهما- ألمه لأن عمه وحبيبه العباس قد أسر، ويذوق مرارة الأسر يشفق عليه، ويشتد الأسى عليه- وثانيهما- العدالة المقررة الثابتة التى تسوى بين الناس فى النتائج، إذا تساووا فى الأسباب الموجبة لهذه النتائج المؤدية إليها، وإن الجمع بين دواعى الشفقة، وموجبات العدل عسير على محمد عليه الصلاة والسلام.

_ (1) الشفاء: ج 1 ص 72.

وإن الشفقة ودواعيها، والحرص على الواجب والعدل، ليتجلى فى أمر زوج ابنته، فإنه كان أسيرا فى غزوة، فلم يعفه من واجب الفداء ورفض أن يفك أسره إلا بفداء، فأرسلت زوجه زينب بنت محمد عليه الصلاة والسلام إلى أبيها تفدى زوجها بحلية عندها كانت أهدتها إليها فى عرسها أمها خديجة أعز النساء على محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، عندئذ التقت أمور كلها تؤثر فى القلب الشفيق فى الرجل العادل، ففيه الشفقة على ابنته، وفيه الذكرى، لأوفى النساء له وأبرهن به، وأحناهن عليه، وأعزهن عنده، وفيه ما يجب عليه من عدل غير مفرق بين أسير وأسير، فهنا التكليف الشاق، والإحساس القوى، فمحمد يبكى من فرط ما جاش فى نفسه من ذكري، وما يدعوه الواجب، فيجمع أصحاب الحق فى الفداء، وهم الغزاة المجاهدون، ويعرض عليهم النظر فى واجبه، والرفق بإحساسه، وما هو بالذى يفرض عليهم الرأى. فيكون الرأى من أصحاب الحق فيه أن يعيدوا الحلية إلى صاحبتها. وهنا نجد محمدا عليه الصلاة والسلام يجمع بين شفقة الأبوة وذكرى الزوج البارة، الحانية العطوف، والواجب العادل الذى عليه أن يؤديه. وإن شفقته الأبوية التى لا تتعارض مع الواجب، أولا يعارضها واجب من العدالة، والتسوية بين الناس لتبدو فى شفقته، على ابن زينب، وهو يحتضر، فقد أرسلت إلى أبيها نبى هذه الأمة، ولكن الرجل الشفيق خشى من ضعف الشفقة أن يرى حفيده يحتضر، فأرسل إليها عليه الصلاة والسلام يقول لها: «إن لله ما أخذ وما أعطي، وكل شيء عنده مسمي، فلنحتسب لنعتبر» ولكنها تصر على أن يحضر، وتقسم عليه، فقام إليها النبى، وقام معه من بحضرته من صحابته، فوضعه عليه الصلاة والسلام فى حجره، ونفسه تخرج، ففاضت عين محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام فقال له سعد بن أبى وقاص: «ما هذا يا رسول الله، قال الرسول: هذه رحمة وضعها الله فى قلوب من شاء من عباده، ولا يرحم الله من عباده إلا الرحماء» . ولقد كانت الشفقة مع القيام بالواجب، تتجلى فى موت ولده إبراهيم الذى وهبه الله تعالى على الكبر، ثم استرد الوديعة، فما رؤى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى حزن الأبوة، كما رؤى فى وفاة إبراهيم، إذ بكى من عبء ما أصيب به، كان ثقيلا، ولما رأى أسامة بن زيد محمدا صلى الله عليه وسلم يبكى صرخ، فنهاه صلى الله عليه وسلم وقال له يا أسامة: «البكاء من الرحمن، والصراخ من الشيطان» .

ولقد كان وهو يبكى يقول: «الموت حق. وإن القلب ليحزن، والعين لتدمع، وإنا لفراقك يا إبراهيم المحزونون» وفى هذا اليوم كسفت الشمس، فقال المحبون، إن الشمس كسفت لإبراهيم، ولكن نبى العقيدة الصحيحة البعيدة عن الأوهام، نسى حزنه، أو غلب واجبه على حزنه، كما هو شأنه دائما، فوقف خطيبا، وقال صلوات الله وسلامه عليه. «إن الشمس والقمر ايتان من ايات الله لا تكسفان لموت أحد، ولا لحياة أحد» . وأم الناس، وصلى بهم صلاة الكسوف. وهكذا كان محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم الشفيق الرفيق الودود المحب دائما، ولكن عاطفته الإنسانية لا تتغلب على واجبه، بل الواجب أولي، وأحرى بأن يؤثره على غيره. وإن شفقته تعم، فتكون رحمة، لا تختص بالاحاد، بل أحيانا يغضب ولا يغضب إلا للحق، ولكن قلبه التقى الخالى من كل سوء بالناس، تغلب عليه الرحمة العامة دائما، فيقول فى ضراعة لربه الرحيم: «اللهم إنى بشر من البشر، أغضب كما يغضب البشر، فأيما رجل دعوت عليه، فاجعل ذلك له زكاة ورحمة، وصلاة وطهورا، وقربة تقربه إليك، يوم القيامة» . وإن مظاهر حياته كلها شفقة، فامرأة فى عقلها شيء يقف معها فى جانب من الطريق يستمع إلى حاجتها، ويلقى فى قلبها الطمأنينة. وجارية يضيع منها ثمن دقيق، فيدفعه لها، وتبكى خشية أن يضربها مالكوها، فيسير معها إليهم ليمنعهم من ضربها، وأحد السبطين يركب على ظهره، وهو ساجد، فيطيل السجود، حتى لا يزعجه، ويستمر مرتحلا ظهر جده الرؤف الرحيم، حتى يتركه. وكان يسمع بكاء الطفل وهو يصلى فيخفف فى صلاته، ليكون بجوار الطفل من يرحم بكاءه، وهكذا. وقد يقول قائل: إن شفقة النبى عليه الصلاة والسلام أمر ثابت، وهل لهذه الشفقة صلة بالرسالة، وولايته لأمر المؤمنين. إن شفقة المسيح عليه السلام كانت لروحانيته، وأنه لم يكن منشيء دولة. ونقول فى الإجابة عن ذلك: إن عيسى عليه السلام كان صاحب رسالة، وكان من مقتضى هذه الرسالة أن يكون بالذين يدعوهم رؤفا، فالشفقة من مقتضيات الرسالة والدعوة فإن الدعوة من الشفيق الرفيق تكون مستجابة من القلوب الطيبة المؤمنة المطمئنة؟ إن الرحمة هى التى تجذب الناس إلى الداعى، وليست القسوة، إن النفوس التى تدعى إلى الحق منها ما يفتح الله قلبه للحق بقوة إيمان الداعى وشفقته،

صدقه وأمانته وعفته صلى الله عليه وسلم:

واجتذابه إليه بالحق ومنهم من يحتاج إلى البينات والأدلة، وهؤلاء هم أهل البرهان والدليل ومع الأنبياء معجزاتهم، ومنهم من يكون على قلوبهم غشاوة، وهؤلاء يدعون بالبرهان والحق، وتكرر الدعوة إليهم فإن اعتدوا رد كيدهم فى نحرهم. وإن من مقتضى الولاية الشفقة، ولقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الولاة إلى الرفق بالرعية، ودعا لهم إن رفقوا بها، وأشفقوا ولم يرمضوهم بقسوة أو ظلم أو استكراه، أو إضعاف للنفوس، ولقد قال عليه الصلاة والسلام فى ذلك: «اللهم من ولى من أمر أمتى شيئا فرفق بهم، فارفق به، ومن ولى من أمر أمتى شيئا فشق عليهم فاشقق عليه» . ولقد أدرك هذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه بهدى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم واتخاذه له قدوة فكان لا يولى إلا من يشعر منه بأنه يكون فى ولايته شفيقا رحيما إلا إذا وجب حد، فإنه لا شفقة، والرحمة بالكافة تقتضى إقامته. ولقد دخل على عمر رضى الله عنه رجل، وكان عمر قد اعتزم أن يوليه ولاية، فرأى عمر يقبل بعض ولده، فقال الرجل أو تقبل ولدك يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم، وأنت ألا تقبل ولدك؟ قال: لا، فقال الفاروق: وأنا لا أوليك، من لم يرحم ولده لا يرحم رعيته. صدقه وأمانته وعفته صلى الله عليه وسلم: إن حديث صدق الرسول عليه الصلاة والسلام يعد من نافلة القول فى هذا المقام، وكذلك أمانته وعفته، فهو الصادق الذى عرف بالصدق من منذ أن وعى إلى أن قبضه الله تعالى إليه، فما عرفت عليه كذبة قط فى حياته كلها صلى الله تعالى عليه وسلم. وإن الكذب لم يكن من أخلاق كبراء العرب، فإن الحرية التى كانت لهم بمقتضى قيامهم فى بلاد لا يسيطر فيها طاغ يتحكم فى عقولهم ونفوسهم، وألسنتهم وتفكيرهم، ولم يكن عندهم الملق الذى يجعلهم يدهنون فى القول رجاء خير يبتغونه، وإنه حيث يحكم الملك العضوض، وتسيطر أهواء الحكام توجد صفتان متلازمتان، إحداهما النفاق، وثانيتهما الكذب، لأن النفاق فى ذاته كذب، والكذب لازمة من لوازمه، ولذا أثر عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: «اية المنافق ثلاث إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان» ولم يظهر في العرب نفاق أو كذب إلا ما كان يصاقب حواضر البلاد التى يحكمها ملوك أو أمراء كالملوك أو حكام مستبدون بشكل عام، كأراضى العرب التى كانت تجاور النعمان، أو الغساسنة فى الشام، فإنه يجوز أن يكون فيها النفاق والكذب والملق، ووراءهما خيانة الأمانات.

وإن التاريخ ليروى أن أبا سفيان، وقد كان زعيم الشرك فى الوقت الذى جرى فيه حديث بينه وبين هرقل ملك الروم عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد سأله عن نسبه الكريم، فقال إنه من أوسطنا نسبا، وعمن يتبعونه، وعن أسئله كثيرة تتعلق بأخلاق النبى عليه الصلاة والسلام، أجابه بالصدق غير مائن فيما يقول، ولقد قال، وهو محنق من أثر الحقائق التى ذكرها لهرقل: «لولا أنى أخشى أن يحفظ عنى كذبة فى العرب لكذبت» . فعرب مكة والمدينة ووسط الصحراء لم يكن الكذب سائغا بينهم. وكذلك النفاق، ولم يعرف النفاق فى أوساط المسلمين الذين استجابوا إلا من اليهود ومن يجاورونهم من مشركى المدينة، فقد ظهر فيهم النفاق مقترنا بقوة المسلمين. إذن لم يكن غريبا أن يكون محمد صلى الله تعالى عليه وسلم صادقا بين الصادقين. ولكن صدق محمد صلى الله عليه وسلم ليس كصدق غيره من أهل مكة المكرمة ومن حولها، ولكنه صدق من أعده الله تعالى ليكون رسولا للعالمين، فأخلاقه صلى الله تعالى عليه وسلم كانت من إرهاصات النبوة. فلم يكن صلى الله تعالى عليه وسلم صادق القول فقط، بل كان صادق القول، وصادق الحس، وصادق النفس. ونقصد بصدق الحس بأن يكون نظره إلى الأشياء والأشخاص صادقا فى وصفها، مستبطنا من وراء الظاهر، ما يعرف حقائق استبطنها، ثم صادق فى النظر إلى نفسه، فيعرف مواضع الخير، فيفعلها، ويعرف مواضع الشر فيجتنبها، وهو صادق فى مقاصده، وصادق فى غاياته، يخلص فى إدراك الحقائق، والاتجاه اليها اتجاها مستقيما لا عوج فيه. فيستقيم إدراكه، ويصدق فى كل أمر يتصل بالقلب والضمير. ولأن الإيمان أساسه الإخلاص فى العمل والقول والإذعان، لا يتصور إيمان مع كذب، ولقد سئل من بعد نبوته، أيكون المؤمن جبانا، فقال عليه الصلاة والسلام يجوز، وسئل أيكون بخيلا قال قد يكون بخيلا، وسئل أيكون المؤمن كذابا: قال: لا يكون المؤمن كذابا، إذ الكذب والإخلاص فى الاتجاه والقول والعمل نقيضان لا يجتمعان. وأما الأمانة فحسبنا أن نعلم أن ذلك أمر رأته قريش كلها، وامنت به، حتى سمى بالأمين، كان يعرف بالأمانة، وينادى بالأمين، وإن الأمانة والصدق صنوان متلازمان، فلا أمانة من غير صدق، والصدق يقتضى كل الفضائل والكذب عش الرذائل.

الوفاء ورعاية العهد:

وعفة محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام كانت صيانة من الله تعالى صانه عن أن يلهو، ولا يمكن أن تكون الشهوات وانحرافها، إلا ومعها اللهو بكل ضروبه، وقد صانه الله لا عن الأهواء والشهوات المنحرفة، بل صانه عن مقدماتها، وعن أخذ أسبابها، فصانه عن اللهو ولو كان بريئا. وقد ذكرنا من قبل كيف انساق وهو غلام إلى الرغبة فى أن يحضر عرسا فيه لهو، فإنه عندما ذهب إليه ضرب الله سبحانه وتعالى على ذاته بنعاس أصابه من غير غم، وما استيقظ من نعاسه حتى أيقظته الشمس فى ضحاها، وكذلك كان الأمر فى ليلة أخرى، حين استوى عوده، وكانت له إرادة مسيطرة على نفسه، كان عزوفه عن اللهو بإرادة مهدية مدركة، ولم يكن بنوم يصيبه الله تعالى به، ولذلك استعصم، ولم يحدث منه قط ما يكون انسياقا وراء هوى جامح، أو شهوة مسيطرة. حتى كان الزواج، فكان الحلال الذى لا مرية فيه. الوفاء ورعاية العهد: 142- إنه يستدل على سجايا الرجل بمقدار رعايته لمن كان لهم به صلة، وممن كانوا معه على عشرة طيبة، فيوفى بحق هذه العشرة، يرعاها حق رعايتها، يصلها ولا يقطعها، يذكرها ولا ينكرها، فالوفاء خلة الرجل الكريم، وبمقدار وفائه يكون مقدار ما اتاه الله تعالى من خلق سمح، ونفس مؤمنة بالخير، معترفة به لأهله. وإن وفاء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لمن مضى من معاشريه يسترعى أنظار من قرأوا سيرته الطاهرة: (أ) وأوضح مثل، وفاؤه لأم المؤمنين خديجة، يود صديقاتها، ويصل صلاتها، يذكرها بالخير والاعتراف بالجميل، حيث جاء ذكرها، حتى إن أم المؤمنين عائشة حبّ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم تقول: «ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة، لما كنت أسمعه صلى الله تعالى عليه وسلم يذكرها، وإن كان ليذبح الشاة، فيهديها إلى خلائلها. استأذنت عليها أختها فارتاح إليها ودخلت عليه امرأة، فبش لها وأحسن السؤال عنها، فلما خرجت قال: إنها كانت تأتينا أيام خديجة» . وإن الوفاء لحسن العهد من الإيمان، وناهيك بأعظم من فى الوجود، فلابد أنه كان أوفاهم، ومما يتصل بوفائه لزوجه البارة خديجة أن عائشة من كثرة ثنائه عليها قالت له مرة: هل كانت إلا عجوزا بدلك الله خيرا منها» فقال عليه الصلاة والسلام: لا والله ما أبدلنى خيرا منها ... امنت بى إذ كفر الناس، وصدقتنى إذ كذبنى الناس، وواستنى بمالها إذ حرمنى الناس، ورزقنى الله منها الولد دون غيرها من النساء» .

وكان لفرط وفائه إذا رأى أحدا من أولادها من غيره فاض عليه بالعطف والحنان، إذ قد سمع صوت ابنها هالة قد جاء إليه، فخرج إليه مناديا فى لهفة فرح: هالة، هالة.. وأكرمه، وبالغ فى إكرامه. (ب) ومن أوضح وفائه عليه الصلاة والسلام وعرفانه للجميل ما روى عن أبى قتادة أنه لما جاء وفد النجاشى ملك الحبشة الذى اوى أهل الهجرة إلى الحبشة وأكرمهم- قام النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يخدمهم بنفسه، فقال له أصحابه: نكفيك يا رسول الله خدمتهم. فقال محمد صلى الله عليه وسلم الوفى العارف للجميل: «إنهم كانوا لأصحابنا مكرمين، وأحب أن أكافئهم» . نعم إن محمدا عليه الصلاة والسلام يجازى الإحسان بمثله، وإلا ضاع العرف بين الناس، وهو أسوتهم. (ج) ومن كريم وفائه، ولطف مودته وعدم نسيان من ارتبط معهم برباط من مودة وعشرة مهما يتباعد زمانها، فإن الكريم لا ينسى عشرة من عاشرهم ضعفوا أو علوا، قدم عهداهم، أو قرب، وقد وجد أختا له من الرضاع اسمها الشيماء من سبايا هوازن، فتعرفت له، فلما عرفها، بسط لها رادءه، وقال لها إن أحببت أقمت عندى مكرمة محببة، أو متعتك ورجعت إلى قومك، فاختارت قومها، فأرسلها. وعن عمرو بن السائب أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان جالسا يوما، فأقبل أبوه من الرضاعة فوضع له بعض ثوبه، فقعد عليه، ثم أقبلت أمه، فوضع لها شق ثوبه من الجانب الاخر فجلست عليه، ثم أقبل أخوه من الرضاعة، فقام صلى الله تعالى عليه وسلم فأجلسه بين يديه. (د) وأنه ليوفى حتى لمن فرح بولادته، فقد كانت جارية لأبى لهب قد أرضعت النبى عليه الصلاة والسلام أول ولادته، وخرجت فبشرت أبا لهب بالولادة، وأعتقها أبو لهب لهذه البشارة. فكان محمد صلى الله تعالى عليه وسلم يبعث إليها بصلة مستمرة موصولة ما كانت حية، فلما ماتت سأل عمن بقى من ذوى قرابتها، قيل: لا أحد. ولقد كان فى جملة أخلاقه أنه يصل رحمه، ولو لم يكونوا له نصراء وأولياء، فهو لا يصل رحمه مكافئا، ولكن يصلهم راحما، وقد روى أنه عليه الصلاة والسلام قال عن بعض ذوى رحمه: «ليسوا لى بأولياء غير أن لهم رحما سأبلها ببلالها» «1» .

_ (1) الشفاء ج 18 ص 74، 75.

العابد

العابد عبادته قبل البعثة: 143- تحير إبراهيم عليه الصلاة والسلام فى تعرف ربه الذى يستحق العبادة واحده ولا يشركه فى العبادة وثن، ولا شجر، ولا شيء من المخلوقات، وحكى الله تعالى حيرته فى كتابه الكريم، إذ حكى عنه أنه ابتداء أنكر أن تكون الأصنام الهة، واستنكر على أبيه عبادتها، وقال تعالى فى قصته: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ. وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ. فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ. فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ. فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي، هذا أَكْبَرُ، فَلَمَّا أَفَلَتْ، قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ. إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ «1» . ونرى من هذا أن الخليل عليه السلام ابتدأ فى الخروج من الضلال الذى كان فى قومه فبين أن الوثن لا يصلح ربا لأنه لا يضر ولا ينفع، وقام لديه الدليل بإزاله ما يعلق بها من أوهام، فحطمها،. وتأكد بتحطيمها أنها لم تضره، وأنها لا قوة فيها، لا ظاهرة ولا باطنة. ثم أخذ يختبر الالهة التى كانت شائعة بين أقوامه، فجاء إلى النجوم، وكان من سكان العراق الذين عرفهم من كان يعبد النجوم، فاتجه إلى النجوم يعرف سر كنهها عساه يجد قوة فيها تسوّغ تألهّها، فوجدها تأفل، فليس لها بقاء ذاتى مستمر. ومثلها لا تصلح للألوهية، ثم اتجه إلى القمر باعتباره كوكبا كبيرا، فوجده مثل سائر الكواكب، ثم اتجه إلى الشمس، وكان المصريون يزعمون أن فيها الهتهم، وقد زار مصر، ولكن وجدها لا تصلح للألوهية، لأنها أفلت، وهكذا نراه متحيرا، حتى هداه ربه، فكان أبا الأنبياء، فمن ذريته الأنبياء الذين جاؤا بعده، وذكرهم القران الكريم، ثم كانت الهداية بعد الحيرة، والاطمئنان واليقين، بعد الشك المحير. ونبينا محمد بن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم خطا خطوة إبراهيم الأولي، وهى إنكار عبادة الأوثان فقد أنكرها ابتداء، ولم يعترف لها بوجود، فما سجد لصنم قط، وما قدس صنما قط، وإذا استقسمه أحد، لا يقسم بها، ولما أراد بحيرى الراهب أن يستحلفه باللات رده، وقال أنه يكره ذكرها، وما كره ذكر شيء كما كره ذكرها، فأدرك محمد (عليه الصلاة والسلام) حفيد إبراهيم ما أدركه إبراهيم، وعلم بالعقل السليم وفطرة الله تعالى ما علمه جده الأكبر إبراهيم.

_ (1) سورة الأنعام: 74- 79.

ولكن الخطوات الاخرى التى خطاها إبراهيم فى معرفة ربه لم يخطها فلم يخط خطوة تعرف الله فى النجوم ولا فى الشمس، بل وقف عند عبادة الله، وإدراك عظيم قدرة الله سبحانه، واستحقاقه واحده للعبادة. والسبب فى أن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يخط الخطوات التى خطاها خليل الله إبراهيم، أن إبراهيم رأى فعلا من عبد مع الأوثان الكواكب، وعبد الشمس، ولم يكن فى الأقوام الذين بعث فيهم من يذكرون الله كثيرا، ولو على انحراف فى الاعتقاد، أما العرب، فكانوا يعرفون الله تعالى ببقايا ديانة إبراهيم، وكانوا يذكرون الله فى الحج بقية إبراهيم فى العبادة، فهم يعرفون الله على انحراف، لم يكونوا يجهلونه، بل كانوا فى مناسك الحج يذكرون الله كثيرا، فى تلبيتهم ووقوفهم فى مناسكه، والضلال فى إشراكهم بالله، بينما الظاهر من تاريخ الكلدان والمصريين، أنهم ما كانوا يذكرون الله تعالى فى عبادة قط، فلما نشأ محمد عليه الصلاة والسلام فى قوم يعرفون الله ويشركون معه فى العبادة أوثانهم، ترك ما ابتدعوه، وأنكره وبالغ فى إنكاره، وأبقى من بقايا إبراهيم الاعتراف بالله، ثم كان إيمانه بربوبيته واحده، واستحقاقه واحده للعبادة والألوهية. وقد يقول قائل: إن الله تعالى وصفه بأنه كان ضالا فهدى، إذ قال تعالي: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى. وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى «1» فإن هذا يدل على أنه كان ضالا فى العبادة، ومن يعرف الله تعالى لا يضل فى عبادته. ونقول فى الجواب عن ذلك: إن محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام كان يعرف الله تعالي، ويؤمن به، ويكفر بالأوثان، وينكر أن تكون مستحقة لأى نوع من التقديس لها، كما رأى جده الأكبر إبراهيم أنها لا تضر ولا تنفع. ولكنه كان حائرا فى الطريقة التى يعبد الله تعالى بها، فهو متجه باستقامة نفسه وقلبه إلى الله تعالي، وعبادته واحده، ويريد أن يقوم بحق الله، وكانت ديانة إبراهيم قد جهلت، ولا يعرف من طريقتها إلا قليلا، فكان لابد من أن تصيبه حيرة، حتى يهديه الله تعالى إلى شيء مما بقى من دين إبراهيم، وهذا هو مؤدى قوله تعالى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ، وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا «2» . 145- وإن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم نشأ عابدا منذ أدرك سن التمييز، فكان عقله فى الله تعالى يفكر كيف يعبده، ثم يجد فى التفكير فى خلق الله تعالى عبادة، وإذا كان إبراهيم عليه السلام قد أراه الله تعالى ملكوت السموات والأرض ليصل إلى إدراك ربه، فقد كان محمد بن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم منذ كان غلاما زكيا يرى فى خلق السموات والأرض والشمس والقمر، والنجوم المسخرات بين السماء والأرض عبادة، لا ينظر إلى السماء وأبراجها وزينتها، والشمس وضحاها، والليل إذا

_ (1) سورة الضحى: 3، 7. (2) سورة الشورى: 52.

يغشاها، لا ينظر إلى كل ذلك على أنها مناظر جميلة، وزينات باهرة، بل ينظر فى دلالتها على الخالق، ولا ينظر إليها متعرفا سر الإضاءة فى الشمس، وإنما يتعرف منها سر الدلالة على المنشيء، والأرض والماء والزرع، والشجر والثمار. كل ذلك كان يستغرق تفكيره لا ليعلم كيف خلق، ولكن ليعلم من الذى خلق، وكلما أمعن بفكره تعرفا للخالق، واستدلالا عليه ازداد إيمانا به، وطلبا لرضوانه، واطمئنانا لنفسه. اتجه إلى معرفة الخالق، وما يرضيه عاكفا على ذلك عكوف العابد فى صومعته، لا يطلب إلا إرضاء ربه، ولكنه لم يعلم ما يرضيه، ولا ما يكون نسكا له إلا ما توارثه العرب من حج البيت ومناسكه التى بقيت من عصر إبراهيم عليه السلام، ونزهت نفسه وقلبه ولسانه، حتى صار ربانيا بفطرته المستقيمة وقلبه السليم. وكانت كل أعماله لإرضاء الله تعالي، فهو يخالق الناس بخلق حسن، لا يكذب، ويتصدق ويقدم للناس الخير، لأنهم عيال الله، وقد صار كل شيء فيه لله تعالي، وقد صار قلبه المعلق بالله تعالى الخاضع الخانع، لا يرى فى الوجود إلا الله تعالي، ولا يحسب أنه إلا القانت له، الخاضع، ولكنه يجهل الشكل الذى يرتضيه لعبادته، فصار كله لعبادته، قلبا ولسانا وعملا وخلقا. وزهده فى الاختلاط كان يريه من الناس إفكا من عبادتهم للأوثان، ومن خمر يعاقرونها وميسر يلعبونه، وخصومات يفجرون فيها، وشحناء ليست من شأنه، ومجادلات ليست من غايته، وشعر يتبعه الغاوون، والكبر الأثيم الذى لا إثم فوقه، تقديسهم للأحجار، واتجاههم إلى تقديسها بدل تقديس الديان، كل هذا زهده فى الاختلاط. ولذلك كان محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام قبل أن يبعث عزوفا عن أن يغشى مجالس قريش فى سمرها، أو ما يزجون به فراغهم، إلا أن يكون جدا يوجب الخلق الكريم مشاركتهم فيه كما شاركهم فى بناء الكعبة المكرمة، وكما كان يحضر فى ندوتهم إذا جد الجد، وكما حضر حلف الفضول. والسبب فى عزوفه عنهم أنه يبتعد عن مواضع يعزب فيها عن ذكر الله ويبتعد عن التفكير فى ذاته تعالت عن الشبيه، وتنزهت عن المثيل، وأنه يريد أن ينصرف الفكر فيه، والتفكير فى ذاته وإرضائه، خيرا من عبادة الحركات والمظاهر، فكانت حياته كلها لله تعالى. ما كان يخرج من خلوته إلا لإسداء معروف، أو إطعام مسكين، أو إغاثة ملهوف، أو لإقراء ضيف عز عليه إقراء، وإن ذلك كله عبادة، لأنه ما يقصد إلا وجه الله تعالى، وإرضاءه لله تعالى، وأى عبادة أعلى من ذلك شأنا.

كل شيء فى الوجود يذكره بالله، فكلما رأى الخلق كان منه ما يدل على الخالق. كلما رأى النعم فى الوجود تذكر الخالق. ولقد دعا بعد بعثته إلى التفكير فى الله تعالي، فكان يقول «تفكروا فى الاء الله أى فى نعمه» وحكى عن ربه أنه قال: «كنت كنزا مخفيا، فأحببت أن أعرف، فخلقت الخلق. فبى عرفونى» ولقد كان محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام يعلن أن التفكير فى الله والائه وخلقه أساس العبادة، وأنه لا عبادة من غير معرفة الله سبحانه وتعالي، ولقد قال على بن أبى طالب صفى رسول الله، وحبيبه المجتبى: «سألت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن سنته (أى طريقته) فقال: المعرفة رأس مالى. والحب أساسي، والشوق مركبي، وذكر الله أنيسي، والثقة بالله كنزي، والحزن رفيقي، والعلم سلاحي، والصبر ردائي، والرضا غنيمتي، والعجز فخري، والزهد حرفتي، واليقين قوتي، والصدق شفيعي، والطاعة حسبي، والجهاد خلتي، وقرة عينى فى الصلاة» ورويت زيادة، وهى: «وثمرة فؤادى فى ذكره، وعملى لأجل أمتى، وشوقى إلى ربى عز وجل» «1» . 146- قد كان من أحوال محمد بن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم الاعتزال إلا فى مكرمة تؤثر، أو صلة رحم، أو إغاثة ملهوف، أو تحمل للكل. فعندئذ يتصل بالناس لينفعهم، ويتقرب منهم، ولا ينقطع حتى وهو فى عزلته، لأنه ما جاء إلا لخيرهم، فهى عزلة يسكن فيها إلى الله تعالى خالق الناس. وكلما كانت تتقدم به السن تزداد عزلته، ويزداد تفكيره فى إرضاء الله تعالي، وتعرف صفاته، والوصول إلى عمل ما يرضيه، ويرى فيه ما تقر به عينه، وتطمئن إليه نفسه، ولا يريد غير الله. وقد صارت العزلة خلوة يخلو فيها للعبادة، فقد ذكر الرواة أنه كان يتحنث (أى يتعبد) فى غار حراء، الليالى ذوات العدد، واستمر يزداد فى الخلوة والعبادة، وقال الرواة كان يتعبد شهرا كل عام، حتى كانت البعثة وهو فى خلوته فى غار حراء. وكان عليه الصلاة والسلام يتزود لذلك، ويمكث فيه الشهر للعبادة، وذكر الله تعالى وقد تكلم العلماء فى المنهاج الذى كان عليه الصلاة والسلام يتبعه فى عبادته، أكان على شريعة من الشرائع السماوية السابقة.

_ (1) الشفاء ج 1 ص 86.

جاء فى كتاب البداية والنهاية لابن كثير ما نصه: اختلف العلماء فى تعبده عليه الصلاة والسلام قبل البعثة، هل كان على شرع أم لا، وما ذلك الشرع، فقيل شرع نوح، وقيل شرع إبراهيم، وهو الأقوى، وقيل موسي، وقيل كل ما ثبت أنه شرع عنده اتبعه وعمل به «1» . هذا ما قاله ابن كثير، وقبل أن نأخذه مأخذ التسليم مع تردد الأقوال بين نوح وإبراهيم وموسى ننبه إلى أمرين من الضرورى التنبيه إليهما فى هذا المقام. أولهما- أن الثابت من سيرة النبى عليه الصلاة والسلام ومن تقرير القران أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان أميا لا يقرأ ولا يكتب، وأنه لم يكن على علم بكتب الديانات القديمة، فلم يعرف التوراة، ولا الإنجيل، وإن كانت فيهما بشارات برسول يأتى من بعدهما اسمه أحمد، ولم يكن بمكة المكرمة التى كانت محل إقامته مدارس للاهوت الموسوى أو المسيحيي. ولما ذكر القران أخبار اليهود والأنبياء السابقين قالوا يعلمه بشر هو شخص رومي، فرد الله تعالى عليهم بقوله تعالى: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ، وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ «2» . وبذلك يثبت أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن على علم بالشرائع السابقة، وذلك هو الحق، وهو يتفق مع إعجاز القران فى أنه أتى بالصادق من أخبار السابقين بوحى من الله تعالي، إذ لم يكن عنده علم بها. ثانيهما- أنه كان بمكة المكرمة نفر قليل أنكروا عبادة الأوثان، ولم يعبدوها، وسموا حنفاء، وقالوا إنهم كانوا يتعبدون على بقايا من ديانة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ولذلك سموا حنفاء. وروى أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يتحنف فى غار حراء- بدل يتحنث- وإنا نسوق ذلك لبيان أنه كانت هناك بقايا من ديانة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فقد بقى منها بيقين بقية فى الحج وبقاء جزء قد ينبيء عن إمكان تعرف ما جهل. وإنا لذلك نقرر أنه عرفت عقيدة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وربما تعرفت بعض الشرائع التفصيلية عنده من أركان الصلاة ونحوها. وإنا مع تقديرنا لهذا نرجح أن عبادة النبى عليه الصلاة والسلام كانت بإلهام من الله تعالى من غير وحى، وقد كان دائم التفكير دائم الخشوع دائم التأمل فى الكون، فهو ابتدأ العبادة الفكرية، وربما عرف بعضا من صلاة إبراهيم. كما عرفت بعض مناسكه.

_ (1) البداية والنهاية ج 3 ص 6. (2) سورة النحل: 103.

عبادته بعد البعثة:

هذا وإن محمدا عليه الصلاة والسلام كانت رؤياه صادقة كل الصدق، فقد قال عليه الصلاة والسلام إن أول الوحى كان بالرؤيا الصادقة، فكان إذا رأى رؤيا جاءت مثل فلق الصبح، أى أنها تكون واضحة، فلعله فى وسط تعرفه لصلاة إبراهيم جاءته رؤيا بها مثل فلق الصبح. ومهما يكن من الروايات، فإن الثابت المؤكد، أنه كان يتحنف فى غار حراء الليالى ذوات العدد، وكان يتزود بالزاد لخلوته هذه، وكانت الإلهامات تفيض عليه فى المدة التى كانت قبل البعثة، وأنه كان يرى الرؤيا مثل فلق الصبح، وأنه منذ بلغ سن إدراك المعانى الدينية كان دائم التفكير والتدبر لمعرفة الله تعالى ومحاولة إرضائه، ونرجح بهذا أنه كان يتعبد على ديانة إبراهيم، وأنه وصل إلى بعض أجزائها بالإلهام وبالرؤيا الصادقة وبالتعرف، وإنا نستبعد كل الاستبعاد أنه أخذ من التوراة والإنجيل، فما كان له علم بهما. عبادته بعد البعثة: 147- هذه صورة صادقة أو مقربة من عبادته عليه الصلاة والسلام قبل البعثة، وهى تدل على أنه كان قواما لله تعالى طالبا مرضاته، وإذا كان لم يعرف شريعة إبراهيم على وجه الكمال، فقد عرف ما يكفيه لأن يكون عابدا يطلب رضا الله تعالي، وقد صفت نفسه فأدركت، وخلص قلبه فألهم. وعلم أن ملة إبراهيم كانت الفطرة المستقيمة والحنيفية السمحة، فاختارها، وسلك سبيلها. فالعبادة المتجهة إلى الله تعالى كانت فى قلبه ونفسه، وكيانه وخلقه، قبل أن ينزل عليه كتاب هاد، قد أذهب حيرته، ووجد الكتاب ينير له السبيل، ويفصل الأحكام، ولا شك أنها تكون أهدى بعد هذا التنزيل، وأن العبادة فى الجاهلية قبل البعثة كانت فى قلبه بذرة صالحة نمت لأنها كانت فى أرض طاهرة خصبة، ولم يكن لها سقى ولا رعي، ومع ذلك اتت أكلها، فبعد البعثة المحمدية جاءها السقى والرعى فأربت ونمت، وازدهرت فى قلب مخلص مدرك، وصار قريبا من الله تعالى بقلبه الطيب المخلص، وبمعرفة شرعه تعالي، وباتصال الوحى به دوما من غير انقطاع، فكان بذلك أعبد خلق الله تعالي، وكلما ازداد علما بالله وشرعه، ازداد عبادة، وخوفا من الله، وإرضاء له، ولقد روى أبوذر عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: «إنى أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطّت السماء،. وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربعة أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدا لله، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيرا» . رواه الترمذى. ولقد سئلت أم المؤمنين عائشة رضى الله تبارك عنها عن عبادة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقالت الصديقة بنت الصديق: «كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يصوم، حتى نقول:

لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم، وكان لا تشاء تراه من الليل قائما إلا رأيته، ولا تشاء تراه نائما إلا رأيته» ، وقد روى فى الصحيحين البخارى ومسلم «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام حتى تورمت قدماه، فقيل له: أليس الله قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال عليه الصلاة والسلام: أفلا أكون عبدا شكورا» . ولقد ثبت فى الصحيحين عن أبى الدرداء أنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فى شهر رمضان فى حر شديد. وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وعبد الله بن رواحة، وفى الصحيحين أيضا عن علقمة قال: سألت عائشة هل كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يخص شيئا من الأيام، قالت: لا، وكان عمله ديمة وأيكم يستطيع ما كان رسول الله عليه الصلاة والسلام يستطيعه» . ومعنى الديمة فى الحديث أنه يحب الدوام على العبادة، ولا يحب الانقطاع عنها، وكان هو يستديم العبادة ولو كان فيها ما يشق، ولكنه لا يطلب من المؤمنين إلا الاستدامة فى العبادة، وإن قلت، ولذا يقول عليه الصلاة والسلام: «أحب الأعمال إلى الله أدومه، وإن قل» . وذلك لأن استدامة العبادة ولو قليلة تجعل المؤمن فى ذكر دائم لله تعالي، لا يغيب عنه سبحانه، فهو فى قلبه دائما، ويتحقق فيه قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: «إن الله تعالى يحب الديمة من الأعمال» . ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو المؤمنين إلى التخفيف من الصلاة، والقراءة، وأن يصلوا بصلاة أضعفهم، حتى لا يكون فى الصلاة إرهاق، ورأى بعض أصحابه يصلى بالناس فأطال القراءة، مما شق على الناس، فقال: «فتان أنت؟» لأن التطويل يؤدى إلى فتنة من لا طاقة لهم على الإطالة. ولكنه عليه الصلاة والسلام فى قيامه الليل كان يختار لنفسه الأشق، لأنه عليه الصلاة والسلام يطيق ما لا يطيقه عامة المؤمنين، فيختار لهم ما لا يشق عليهم، ولقد قال عوف بن مالك: «كنت مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فاستاك، ثم توضأ، ثم قام يصلي، فقمت معه، فاستفتح بالبقرة، فلا يمر باية رحمة، إلا وقف فسأل، ولا يمر باية عذاب إلا وقف فتعوذ، ثم ركع، فمكث بقدر قيامه، يقول: سبحان ذى الجبروت والملكوت، والكبرياء والعظمة. ثم سجد، وقال مثل ذلك» «1» . وهكذا نرى عبادته عليه الصلاة والسلام فيها ذكر دائم، وتلاوة للقران دائمة، وكان يحرض أصحابه على أن يقرأوا وهو يسمع، فإذا ذكروه بأن القران نزل على قلبه، قال لهم إنه يحب أن يسمعه من غيره.

_ (1) الشفاء ج 1 ص 85.

الزاهد

ومع دوامه على العبادة التى وصفها القران، ودعا إليها، وبينها عليه الصلاة والسلام، كان إذا سكت عن القيام بصلاة، أو إرشاد عام، دائم التفكير فى الاء الله، والتأمل فى خلقه، ليدرك عظمته، وكمال سلطانه. فلم ينقطع عن عبادة التفكير التى ابتدأ بها قبل أن يوحى إليه، ولقد قال هند بن أبى هالة ابن خديجة «كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم متواصل الأحزان دائم الفكرة ليست له راحة» وكان كثير الاستغفار، لأن الاستغفار عبادة فى ذاته، لأنه إحساس بوجوب الالتجاء إلى الله، وفيه إحساس بقصور ما يؤدى العبد من العبادة، واستصغار العمل إحساس بالحاجة إلى الله والقرب منه، وعظمته، وجلاله، وشعور بأن عمله مهما يكن كبيرا صغير بالنسبة لله تعالي، ومن يستكثر حسناته، كأنه يمن على الله تعالى فى هذه العبادة، وإن الشعور بالاستغفار والالتجاء إليه بعد عن المن، وإن الصوفية يمقتون الاستكثار ولو من الطائعين، ومنهم من يفضل المعصية التى تحدث ذلا وطلبا للاستغفار على الطاعة التى يصحبها الاستكثار، ويقول حكيمهم: «إن معصية أورثت ذلا وانكسارا خير من طاعة أورثت ذلا وافتخارا» «1» . ولقد كان سيد العابدين يحصن عبادته بالاستغفار، حتى لا يكون منه من الاستكثار، صلى الله تعالى عليه وسلم. الزاهد زهده قبل البعثة: 146- نشأ محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام يتيما فقيرا، واجه الحياة بيتمه وفقره، ماتت أمه بالأبواء، بعد أن ولد يتيما من أبيه فأودع جده عبد المطلب فكفله بالرعاية، ولم يكن فى سن من يتحمل التبعة، ويقدر لمستقبله وإن كان يحس بالفقر، وإذا كان جده قد كلأه، وكفاه حاجته، وأغدق عليه بما يستطيع من خير، وأفاض عليه بمحبته التى تغذى عاطفته، ويجعله يعيش موادا غير مباغض، ولكنه عاش معه أمدا قصيرا، إذ توفى بعد سنتين من كفالته. وبعد ذلك أخذ يواجه الحياة مع ضعف الصغر، ومع الفقر المرير، ذلك أن عمه أبا طالب الذى الت إليه كفالته كان ذا عيال، وكان مقترا عليه فى رزقه، وإن هذا الغلام الذى يعلو عقله على سنه، وإحساسه قوى يدرك ما حوله قد أدرك ما عليه حال عمه كافله ورفيقه وحبيبه، الذى أفاض عليه بمحبة غذت نفسه، فكان لابد أن يعمل عملا إن لم يغنه عن عمه، فإنه يعينه إلى حد.

_ (1) الشفاء ج 11 ص 85.

اتجه ابتداء إلى رعى الغنم الذى تعوده وراه وهو فى بنى سعد، فرعى الغنم لبعض أهل مكة على أجرة يأخذها من لبنها، قراريط معلومة كخمس ما قدر أو نحو ذلك، وبها يستعين ويعين. ثم كان من بعد ذلك يتجر فى قليل من المال، أو فى مال غيره حتى اشتهرت أمانته، ثم اتجر فى مال خديجة، وضاعفت له الأجر لما اشتهر به من أمانة وصدق، ولأن الربح تضاعف على يديه. ثم كان الزواج، وكان المال الوفير، ولكنه لم يكن جماعا للمال كانزا له، فلم يعرف أنه تكونت له ثروة قط تقدر رأس مال، بل كان ينفق ما يدخر فى أوجه الخير، من صلة رحم، وإعانة محتاج، وإغاثة ملهوف، ومشاركة لذوى الحاجات فى شدائدهم ومعاونتهم على نوائب الدهر. وبذلك يضرب محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام الأمثال فى الزهد الإيجابي، وليس الزهد السلبى الذى هو زهد المحرومين، بل زهده هو زهد القادرين الذين يتخذون أسباب الكسب الطيب، ثم يزهدون فى ادخار المال إلا لحاجة بعد جمعه. وبذلك سار قبل البعثة، على ما بعثه الله تعالى من بعد ذلك بالنسبة للمال. وبذلك نرى محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم لا ينسى العمل الصالح فى طلب الرزق الحلال وفيرا، ولكنه لا يلهو به ولا يلعب، ولا يكنز الذهب والفضة، ولا يتفاخر بالخيل المسومة والأنعام والحرث، ولكنه ينفقها فى مصارفها من غير عبث ولا استعلاء، ولا تكاثر. وإذا قيل أنه لم تعرف له أبواب النفقات فى حياته قبل البعثة نجيب عن ذلك بأن الكريم ينفق سرا، ولا ينفق علنا، وإن ذلك القدر المجمل عرف من ناحيتين: - إحداهما- قول خديجة أم المؤمنين فى خطابها له مطمئنة: «إنك تحمل الكل وتقرى الضيف، وتعين على نوائب الدهر، وتغيث الملهوف» وحسبنا ذلك لبيان هذا الإجمال. الثانية- أنه لم يعرف له مدخر قط مع الاستقامة، والبعد عن الزخارف، مع كثرة الكسب، وما يدر عليه من مال خديجة أجرا له على استغلاله فى التجارة. وإنه بهذا يتبين أن زهده قبل البعثة هو زهده من بعدها، طلب الكسب الحلال، لا ليدخر ويستكثر، بل لينفق منه فى مكارم الأخلاق، وإعانة الضعفاء، فهو يطلب ليعطى، ويكثر ليطعم غيره، وهو لا ينفق على نفسه وعلى أهله إلا القليل بالمعروف من غير خصاصة واضحة، ولا حرمان ظاهر، بل يتناول الحلال ويكتفى بأقله، ولا يحرم مما هو طيب حلال، وكذلك كانت الحال بعد أن بعثه الله تعالى نبيا.

زهده بعد البعثة:

149- إن زهد محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام الذى وصل إليه بفطرته السليمة فى وسط الجاهلية هو أعلى درجات الزهد، ولنستعرض بعض كلام الصوفية فى الزهد الصوفى لنتعرف مقام زهد محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام قبل أن ينزل كتاب يرشده ويهديه، لقد قال ابن عطاء الله السكندرى فى حكمه: «للزاهد فى الدنيا علامتان: علامة فى فقدها (أى أسباب الشهوات) وعلامة فى وجودها، فالعلامة التى فى وجودها الانصراف عنها، والعلامة التى فى فقدها وجود الراحة منها، فالإيثار شكر لنعمة الوجدان، ووجود الراحة منها شكر لنعمة الفقدان» . وزهد محمد صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، كان أعلى من إيثار غيره بها عند وجودها، والراحة من فقدها، لأنه كان زهد العامل للحصول على أسباب اللذائذ، فإذا حصل عليها لا يختص بها، بل يؤثر غيره بها، ولا يتأتى زهد فقدانها، لأنه لا ينتظرها وجودا وفقدا، ولكن يعمل لوجودها لينفق على الفقراء وليمتاع غيره، فهو زهد إيجابى عامل، كما نوهنا. فليس زهد الحرمان الذى جاء من فلسفة الهنود، ولكنه زهد الكاسب الذى يكسب لغيره.. ويبقى لنفسه القليل الذى يقيم أوده، ويمكنه من استمرار الكسب لغيره. ولقد رتب الإمام أحمد رضى الله تبارك وتعالى عنه مراتب الزهد أدنى مراتبه ترك الحرام، والمرتبة الثانية ترك فضول الحل، بل يفطم نفسه عن بعضه، فهو يمنع عن نفسه بعض الحلال من غير تحريم، ولكن ليعودها احتمال الحرمان إن لم يجد بعض الحلال، فهو تهذييب وتربية، والمرتبة الثالثة وهى العليا ألّا يشغل نفسه عن ذكر الله تعالى بالاشتغال بالدنيا، واستغراقها لنفسه، وهو زهد العارفين. ومحمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام قبل البعثة كان زهده أعلى من ذلك، لأنه كان مشغولا بذكره دائما فى كل عمل يعمله، وكل عبادة يؤديها، وكل فكرة يتفكر بها، وما كان يعمل لتعود ثمرة عمله على نفسه، بل لتعود على نفع غيره، فهو العابد فى كل حياته، ولا يعمل إلا الله، وإذا كان شغل النفس بذكر الله تعالى هو زهد العارفين، فزهد محمد صلى الله عليه وسلم أعلى منه. زهده بعد البعثة: 150- كان زهد محمد بن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم امتدادا لزهده قبل البعثة، ولكنه بعد البعثة أخذ صورة أجل وأعظم، لأنه حمل أعباء الرسالة، فكان زهدا فى الاستعلاء بالسلطان، وزهدا معروفا عند كافة المؤمنين، ليكون أسوة حسنة فيما يطيقونه من زهده عليه الصلاة والسلام، وكان زهد العامل الذى يعمل فى كل ميادين الحياة، لا زهد من يعكف فى الصوامع، وكان يبث ذلك فى المؤمنين ويدعو إليه.

ولعل أظهر مظهر للزهد رفضه أن يكون ملكا كداود وسليمان وبعض الأنبياء، فقد روى ابن عباس أن الله تعالى أرسل إلى نبيه ملكا من الملائكة معه جبريل، فقال الملك لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «إن الله يخيرك بين أن تكون عبدا نبيا، وبين أن تكون ملكا نبيا» فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: «بل أكون عبدا نبيا» (رواه البخارى) . وكانت أوامر القران تدعو إلى الزهد فى الحرام ومنعه عن أمته كلها، ولكن الخطاب كان موجها ابتداء إليه عليه الصلاة والسلام، ولقد جاء فى كتاب البداية والنهاية لابن كثير: «قال الله تعالى: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى «1» ، وقال تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ، وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا، وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا، وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً «2» وقال تعالى: فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا، وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا. ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ «3» وقال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ. لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ، وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ «4» والايات كثيرة.» . «5» . وإن هذه النصوص كلها الخطاب فيها للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ولكنه موجه إلى كل المؤمنين، ولا يختص به واحده، وهو يدل على أمرين: أولهما: الامتناع عن الحرام، وهذا زهد العوام ولذلك طولب به الناس جميعا. وثانيهما: أن الامتناع عن الحرام لا يكون بمجرد الامتناع المادى الواقعي، بل إنه لابد من البعد النفسى وتجنب أسبابه، ولذلك كان النهى متجها إلى الأسباب النفسية، فقال تعالت كلماته: لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وكأن الدعوة إلى ملازمة الذين ينصرفون عن الشهوات إلى الله سبحانه وتعالى والاتجاه إليه، وألا يخالط الذين يجترحون الشهوات، فقال تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ، يُرِيدُونَ وَجْهَهُ فعشرة الذين يتجهون إلى الله تعالى فى غدوهم ورواحهم، وفى غدوتهم وعشيتهم تربى فى النفس معنى الاستبعاد عن الحرام والاتجاه إليه سبحانه وتعالى. وإننا نجد زهد محمد عليه الصلاة والسلام يشتد كلما تمكن من المال، وكلما اتسع سلطانه، وكلما كثرت تكليفاته وكلما أقدم على الشدائد، لأنه يرى أن تحمل مصائب الحرب وشدائدها إنما يكون ابتداء بتربية للنفس وحملها على ترك اللذائذ، أو القدرة على تركها، وما كان يدعو أمته بذلك

_ (1) سورة طه: 131. (2) سورة الكهف: 28. (3) سورة النجم: 29، 30. (4) سورة الحجر: 87، 88. (5) البداية والنهاية ج 6 ص 48.

بلسان القول، بل كان يدعو بلسان الفعل، ولسان الفعل فى هذه الحال أجدى فإنه لا يصح أن تكون الدعوة إلى التقشف اتية ممن يرفل فى الدمقس والحرير، إذ تكون حاله مناقضة لمقاله، فلا يسمع له قول، ولا يقبل منه كلام. 151- إن النبى عليه الصلاة والسلام قبل الهجرة كان يحمل كل ضعفاء المؤمنين، فما يكون له من كسب من تجارته فى مال أم المؤمنين خديجة ينفقه على الضعفاء من المؤمنين، وهم أول من اتبع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد امتنع المشركون عن إطعام الضعفاء وخصوصا الذين يؤمنون، بل أرهقوهم عذابا وعسفا وهوانا، وكان يواسيهم بالعطاء وطلب الصبر، والفرج القريب إن شاء الله تعالى، لا يألو جهدا إلا بذله، وهو يكتفى بالقليل من العيش الذى يقيم أوده، ليتحمل عبء الدعوة، والقيام بحقها. ولما هاجر إلى المدينة، وانشغل بالإسلام عن التجارة التى كانت المرتزق له، ويظهر من مجرى التاريخ أنه قد أنهاها قبل الهجرة، وربما يكون قد صفاها بعد وفاة أم المؤمنين خديجة رضى الله تبارك وتعالى عنها، وصار رزقه من بيت المال الذى يعمل فيه، إذ هو العامل الأول، وله الاستيلاء على خمس الغنائم بمقتضى الولاية العامة الإسلامية كما قال تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ، فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ، وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى، وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ، وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ «1» . عندما صارت نفقته من بيت المال، أو من الغنائم، وإنها لتكون بأشق جهد يبذله وأعظمه. علا زهده عليه الصلاة والسلام فى المال والعيش الرغيد، ولولا قيام الأود، وأنه لابد من لقيمات يقمن صلبه، لزهد حتى فى اللقمة القفار. كان عليه الصلاة والسلام ينام على الحصير، حتى يؤثر فى بدنه الكريم، ويروى عن ابن مسعود أنه قال: «إنه عليه الصلاة والسلام نام على حصير، فأثر الحصير بجلده، فجعلت أمسحه، وأقول ألا اذنتنا فنبسط لك شيئا يقيك تنام عليه، فقال عليه الصلاة والسلام: «مالى وللدنيا، ما أنا والدنيا إلا كراكب استظل تحت ظل شجرة، ثم راح وتركها» . وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يتوسد بحشية من ليف، وراه عمر بن الخطاب، وهو على مثل هذه الحال، فبكي، فقال له النبى الزاهد: وما يبكيك؟ فقال عمر: ومالى لا أبكى، وكسرى وقيصر يعيشان فيما يعيشان فيه من الدنيا، وأنت على هذه الحال التى أرى، فقال محمد صلى الله عليه وسلم: يا عمر، أما ترضى أن تكون لهم الدنيا، ولنا الاخرة، قال: بلى، قال: هو كذلك.

_ (1) سورة الأنفال: 41.

قوت الزاهد:

قوت الزاهد: 152- فى الصحيحين البخارى ومسلم أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «اللهم اجعل رزق ال محمد قوتا» هذه دعوة محمد عليه الصلاة والسلام إلى ربه، ولا ندرى أهى دعوة الاستجابة لها توفير القوت لال محمد عليه الصلاة والسلام، أم هى دعوة للاقتصار على القوت الضروري، وتحمل ال محمد عليه الصلاة والسلام ذلك، والصبر عليه والرضا به، والقناعة الراضية الكافية التى لا يطلب معها غيرها؟ أجيب أن الاستجابة تكون بهما، أى بتوفير القوت الضرورى وأن يلقى الله تعالى فى قلوب ال محمد عليه الصلاة والسلام من الأزواج الطاهرات، ومن يلوذ به من أسرته الرضا به، والصبر عليه، وأن تكون الأسرة كلها فى زهد ربها، تحتمل ما يحتمل، وتصبر على ما يصبر، لتكون أسوة لغيرها، ولكيلا يكون من بعضهن من يطمع فى المال الذى يساق، ويكون تصرف رب هذه الأسرة الزاهد كذلك. ولقد كان كذلك، فقد روى الإمام أحمد أن أبا هريرة يقول: «ما شبع نبى الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأهله ثلاثة أيام تباعا من خبز حنطة، حتى فارق الدنيا» أى أن محمدا عليه الصلاة والسلام كان يرى أن من التنعم أن يأكل من خبز القمح ثلاثة أيام متتابعة، بل كان الشعير غالب طعامه عليه الصلاة والسلام، وقد يكون معه التمر. ولقد قالت أم المؤمنين عائشة: «ما شبع ال محمد عليه الصلاة والسلام من خبز، حتى قبض، وما رفع من مائدته كسرة قط» . ومن هذا الخبر يستفاد أنه ما كان يقدم له على مائدته إلا ما يكفى بلا زيادة تفضل عنه. ولقد كان لا ينفى عن الخبز نخالته، بل كان يأكله من غير نخل، فقد قالت الصديقة بنت الصديق: «والذى بعث محمدا بالحق: ما رأى منخلا، ولا أكل خبزا منخولا قط منذ بعثه الله تعالى عز وجل، إلى أن قبضه» . وما كانوا يأدمون الطعام دائما، بل كانوا يأكلون فى كثير من الأحيان الخبز قفارا غير مأدوم، وقد قالت أم المؤمنين عائشة: فيما رواه الشيخان البخارى ومسلم عن عروة بن الزبير أنها قالت: «إن كنا ال محمد ليمر بنا الهلال ما نوقد نارا، إنما هما الأسودان التمر والماء، إلا أنه كان حولنا أهل دور من الأنصار يبعثون إلى رسول الله بلبن منائحهم، فيشرب، ويسقينا من ذلك اللبن» . وهكذا نجد استجابة الله تعالى لرسوله الكريم محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فجعل رزقه واله قوتا، ولكنه من أدنى القوت ليكون قدوة للمسلمين، وليكون غذاء لفقرائهم، ولكيلا ترمض نفس بحرمان، ولكيلا يأسوا على ما يفوتهم من وفرة الرزق، وأسباب النعيم والعيش الرافغ فى هذه الحياة.

ولكن يلاحظ أنه لم يحرم على نفسه صنفا من فاكهة، أو طعاما من أطعمة أهل الترفه والنعيم، بل يقبل كل الحلال، ولكنه يكتفى بالأدنى دائما فاطما النفس عن أهوائها وملاذها، تقوية لها، ولتكون الإرادة الحاكمة بسلطان العقل هى المسيطرة، ولا تكون النفس أمة ذلولا للأهواء والشهوات بل تكون سيدة مطاعة، حاكمة عليها غير محكومة بها. 153- ومع هذه الزهادة التى التزمها، وأخذ نفسه بها ما كان يدعو الناس إليها، لأنهم لا يطيقونها، ولأنه الذى أمر المؤمنين بألا يفعلوا إلا ما يطيقون غير مسرفين على أنفسهم، إذ يقول: «إن هذا الدين لن يشاده أحد إلا غلبه ولكن سددوا وقاربوا» .. فهو عليه الصلاة والسلام يأخذ نفسه بزهد لا يأخذ به غيره لكيلا يرمض فقير بفقر، ولا ذو قل بقله. ولقد روى أبو داود فى سننه أن سائلا سأل بلالا مؤذن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قائلا: حدثنى كيف كانت نفقة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال: ما كان له شيء من ذلك إلا أنا الذى كنت ألى ذلك منه منذ بعثه الله تعالى إلى أن توفي، فكان إذا أتاه المسلم فراه عائلا يأمرنى فأنطلق، فأشترى له البردة، والشيء فأكسوه وأطعمه، حتى اعترضنى رجل من المشركين، فقال لى: «إن عندى سعة، فلا تقترض إلا منى ففعلت، فلما كان ذات يوم توضأت ثم قمت لأؤذن بالصلاة، فإذا المشرك فى عصابة من التجار، فلما رانى قال لى «يا حبشى» قلت: يا لبيه، فتجهمني، وقال قولا عظيما غليظا، وقال: أتدرى كم بينك وبين الشهر! قلت: قريب. قال إن بينك وبينه أربع ليال، فاخذك بالذى لى عليك، فإنى لم أعطك الذى أعطيتك من كرامتك، ولا من كرامة صاحبك، وإنما أعطيتك لتصير لى عبدا، فأذرك ترعى فى الغنم كما كنت قبل ذلك. قال بلال: فأخذنى فى نفسى ما يأخذ أنفس الناس، فانطلقت، فناديت بالصلاة حتى إذا صليت العتمة، ورجع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى أهله، فاستأذنت عليه فأذن لى فقلت يا رسول الله بأبى أنت وأمى، إن المشرك الذى ذكرت لك أنى كنت أتدين منه قال كذا وكذا، وليس ما يقضى عنى ولا عندى وهو فاضحي، فأذن لى أن اتى بعض هؤلاء الأحياء الذين قد أسلموا حتى يرزق الله تعالى رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم ما يقضى به عني، فخرجت حتى أتيت منزلى، فجعلت سيفى وحرابى ورمحى ونعلى عند رأسى، فاستقبلت وجهى الأفق، فكلما نمت انتبهت، فإذا رأيت رجلا نمت حتى اتسق عمود الصبح الأول. فأردت أن أنطلق، فإذا إنسان يدعوني، يا بلال أجب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فانطلقت حتى اتيه، فإذا أربع ركائب عليهن أحمالهن، فأتيت رسول الله عليه الصلاة والسلام فاستأذنت، فقال لى رسول الله: أبشر فقد جاءك الله بقضاء دينك فحمدت الله وقال: ألم تمر على الركائب المناخات الأربع قلت: بلي، قال: فإن لك رقابهن وما عليهن. فإذا عليها كسوة وطعام أهداهن إليه صاحب فدك، قال: فاقبضهن إليك، ثم اقض دينك، ففعلت فحططت أحمالهن، ثم علقتهن ثم عمدت إلى تأدية صلاة الصبح، حتى إذا صلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خرجت إلى البقيع، فجعلت أصبعى فى أذنى فقلت: من

كان يطلب من رسول الله عليه الصلاة والسلام دينا، فليحضر، فمازلت أبيع وأقضي، وأعرض حتى لم يبق على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم دين فى الأرض حتى فضل عندى أوقيتان، أو أوقية ونصف، ثم انطلقت إلى المسجد، وقد ذهب عامة النهار، فإذا رسول الله عليه الصلاة والسلام قاعد فى المسجد واحده، فسلمت عليه، فقال لى: ما فعل الله قبلك؟ قلت: لقد قضى الله كل شيء كان على رسول الله عليه الصلاة والسلام، فلم يبق شيء. قال: فضل شئ قلت نعم ديناران، قال: انظر أن تريحنى منهما، فلست بداخل على أحد من أهلى حتى تريحنى منهما فلم يأتنا أحد، وظل فى المسجد حتى اليوم التالي، حتى إذا كان اخر النهار جاء راكبان، فانطلقت بهما فكسوتهما، وأطعمتهما، حتى إذا صلى العتمة دعاني، فقال: ما فعل الله تعالى قبلك؟. قلت: قد أراحك الله تعالى منهما- فكبر وحمد الله تعالى شفقا من أن يدركه الموت وعنده ذلك، ثم اتبعته حتى جاء أزواجه فسلم على امرأة امرأة حتى أتى مبيته» «1» . 154- سقنا هذا الخبر مع طوله، لأنه يدل أولا: على زهادة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم المطلقة التى لا يدخر فيها فى بيته. ويدل ثانيا: على أن محمدا عليه الصلاة والسلام كان يحمل أعباء العائلين من صحابته، يعينهم حتى يبعد عنهم ذل الحاجة، ويحميهم من رق الدين، ويدل ثالثا على أنه إذا لم يستطع أن يعطى أمرهم بأن يستدينوا عليه. ويروى فى ذلك الترمذى بسنده أن رجلا جاء إلي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسأله أن يعطيه. فقال: ما عندي ما أعطيك، ولكن اذهب فابتع علي شيئا، فإذا جاءني شيء قضيته، فقال عمر بن الخطاب، يا رسول الله ما كلفك الله تعالي ما لا تقدر عليه، فكره النبي عليه الصلاة والسلام قول عمر. فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله أنفق، ولا تخش من ذي العرش إقلالا، فتبسم رسول الله صلي الله عليه وسلم وعرف التبسم في وجهه لقول الأنصارى. ولقد كان ما يجرى علي النبي عليه الصلاة والسلام يجرى على نسائه، فيتحملن راضيات فى أكثر الأحيان. ويروي أن امرأة من الأنصار دخلت علي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فرأت علي فراش رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم عباءة فانطلقت لتبعث إلي بفراش حشوه الصوف، فدخل عليها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: ما هذا يا عائشة؟ قلت: يا رسول الله فلانة الأنصارية دخلت علي فرأت فراشك، فذهبت، وبعثت بهذا، فقال: رديه، فلم أرده، وأعجبني أن يكون في بيتي، حتي قال ذلك ثلاث مرات قالت فقال: رديه يا عائشة فو الله لو شئت لأجري الله معى جبال الذهب والفضة.

_ (1) تاريخ الحافظ ابن كثير نقلا عن الشمائل لأبى داود ص 56 ج 6.

ولم يكن عليه الصلاة والسلام يدخر لغده شيئا يسارع إليه الفساد، وقد روى الإمام أحمد أنه أهديت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم هدية فأطعم خادمه طائرا، والظاهر أنه أكل هو طائرا، وبقى طائر، فلما جاء الغد أتى به، فقال لأنس خادمه: «ألم أنهك أن تبقى شيئا لغد» . ولما أفاء الله على رسوله نخيل بنى النضير، كان يدخر منها فكان يعزل لأهله من تمرها، ما يكفى سنة، ثم يكون الباقى مما ينفق فى الخيل والجمال مما يعد للحرب، وفى السلاح الباقي، صلى الله تعالى عليه وسلم. وكان عليه الصلاة والسلام لا يدخر ذهبا ولا فضة حتى أنه كان وهو مريض مرض الموت عنده سبعة دنانير أو ستة، فما زال بأهله حتى تخلص منها. وروى أنه كان له فى مرض موته قطعة ذهب صغيرة عبروا عنها بأنها ذهبية، فتصدق بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، حتى يخرج من الدنيا، وليس له شيء، ولا عليه شيء، ولذا قال عليه الصلاة والسلام: «نحن معشر الأنبياء لا نورث» . 155- كان ال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أزواجه يحملهن ما يحتمل، لأنهن اله، والسعة عليهن قد تعود بالسعة عليه، فسدا للذريعة كن يتحملن ما يتحمل. ولكن يظهر أنهن طالبنه مرة بما ليس عنده، وضاق بهن ذرعا، فالى عليهن بأن حلف ألا يدخل عليهن شهرا، واعتزل عنهن، وسكن علية من داره، فدخل عليه عمر، وإذا هو مضطجع على حصير، قد أثر فى جسمه عليه الصلاة والسلام، فهملت عينا عمر، فقال عليه الصلاة والسلام: مالك، فقال: أنت صفوة الله تعالى من خلقه وكسرى وقيصر فيما هما عليه، فجلس عليه الصلاة والسلام محمرا وجهه فقال: «أو فى شك أنت يا ابن الخطاب، أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم فى حياتهم الدنيا، أما ترضى أن تكون لهم الدنيا، ولنا الاخرة» وقد عتب الله تعالى على نبيه أن حرم عليه أزواجه شهرا، فقال تعالي: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ، وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ. وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً، فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ، فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ. إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما، وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ، وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ. عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً «1» .

_ (1) سورة التحريم: 1- 5.

الصابر المصابر

ولقد كانت شكواهن من أن محمدا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أخذهن بما أخذ به نفسه، وإن كان أخف ولكنه فى كلتا الحالتين دعا ربه أن يكون رزق ال محمد صلّى الله عليه وسلّم قوتا، لا يتجاوزه إلى رافغ الحياة وفاكهها، ولذلك حلف بما حلف تأديبا وتجربة، ومحبة أيضا، وبعد أن مضى الشهر الذى حلف ألا يقربهن فيه، لم يعد إليهن إلا بعد تخيير صريح يقبلن فيه أن يكون رزقهن قوتا لا نعيم فيه، إلا بالحلال، وبين أن يسرخهن بالمعروف، وذلك بأمر صريح من الله سبحانه وتعالى إذ قال سبحانه: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها، فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ، وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا. وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً. يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ، وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً. وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً، نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ، وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً. يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ، إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ، فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً. وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً. وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ، إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً «1» . نفذ محمد رسول الله صلى الله تعالى عليه أمر ربه بالتخيير ليخترن، وابتدأ بأحب نسائه إليه ابنة صديقه وصفيه أبى بكر الصديق رضى الله عنه، عائشة، فقال لها: إنى ذاكر أمرا، فلا عليك أن تعجلى حتى تستأمرى أبويك، وتلا عليها هذه الايات فقالت: أفى هذا أستأمر أبوىّ، فإنى أختار الله ورسوله والدار الاخرة، وكذلك قال سائر أزواجه عليه الصلاة والسلام، وبذلك اخترن عيشة النبى عليه الصلاة والسلام الزاهدة، فكن جديرات بمحمد صلّى الله عليه وسلّم خاتم النبيين، وسيد الزاهدين. الصابر المصابر 156- إن نشأة محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام الأولى من شأنها أن تربى فيه خصلة الصبر، وحاله فى شبابه الباكر تربى فيه الصبر واستمساكه بالفضائل فى وسط الرذائل التى كانت تكثر فى قومه لا يقوى عليه إلا بالصبر وضبط النفس، واجتنابه للأهواء والشهوات التى كانت تسيطر في مكة، لا يقوى عليه إلا الصابر الذى يقمع دواعى الشهوات بين جنبيه، ويقذعها عن متابعة الأهواء ومنازع

_ (1) سورة الأحزاب: 28- 34.

أقسام الصبر

الشيطان، إن ضبط النفس أقوى مظاهر الصبر، والناظر إلى حياة محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام يراه منذ نشأته إلى بلوغه سن الشباب، إلى اكتمال رجولته يرى فيه إصرارا على خلق واحد، وعقيدة واحدة، يتزلزل كل شيء حوله، ولا يتزلزل، ولا يكون ذلك إلا من صبور. لا تغريه جدة، ولا يجزعه فقر، لا يدفعه التكاثر حول تقديس الأوثان إلى الميل نحوها، ولا يحرضه التقليد للأقوياء على أن يخضع لصنم أو يقر له بسلطان، بل يدافع الاعتقاد فى الأصنام، يدافعه فى نفسه، ويدافعه فى مجتمعه، ويدافعه فى كل مظاهر حياته، غير متجانف لإثم، ولا راض عمن يخضعون به. إن كل ذلك يحتاج إلى ضبط نفس، وضبط فكر، واستقامة نظر، وصبر عميق يتغلغل فى أطواء النفس، وثنايا الفؤاد، وكل هذا لا يكون إلا من صابر مصابر، يغالب الأحداث بالصبر، ويغالب الأعداء بعدم الفزع، إن الصبر أقسام يختلف كل قسم باختلاف موضوعه، والصدمات التى يلقاها الصبور. [أقسام الصبر] أولها- الصبر على النوازل تنزل به، ومن نوازله نازلة الفقر، لا ترمض نفسه به، ولا يذل، ولا يخنع لذل الحاجة، بل يرضى بالقليل صابرا ساعيا جادا فى جلد ودأب حتى يمنعه الفقر من أن يتسرب لنفسه بالإحساس بالذل، أو بأن تذهب قوى النفس شعاعا من الاحتياج، وإن ذلك النوع من الصبر كان فى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فما ظهر منه ذل الاحتياج، بل كان حتى عندما تمد موائد الطعام، لا يكون أول من يمد ولا أكثر الغلمان تزاحما فيه، ولا تسابقا إليه، بل كان حريصا على ألا يفعل، ولو فاته الطعام. القسم الثانى: الصبر على الحرمان من الأهواء والشهوات وقمعها. وعلى دفع الخواطر الفاسدة، وعلى مقاومة ما تدعو إليه أحوال عبدة الأوثان لتحريم أمور حلال كتحريم السائبة والوصيلة والحامي، وكاستباحة المختنقة والموقوذة والنطيحة، وما كان منه شرب الخمر، وملاعبة بالميسر، واستقسام بالأزلام، فكل ذلك امتنع عنه محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، قبل أن يبعثه الله تعالي، وذلك من تحصين نفسه بالصبر، وما منحه الله تعالى من قوة احتمال. القسم الثالث: الصبر على ما ينزل من نوازل ، وقد جاء محمد صلّى الله عليه وسلّم فى الحياة ليكون صبورا وشكورا. أول ما أدرك الحياة مميزا ماتت أمه وحملته حاضنته الحبشية إلى جده، ثم لم يلبث أن فقد الجد، وقد بلغ سن التمييز الذى يعرف الحامي، وانتقل إلى بيت عمه، وكان محدود الرزق كثير العيال، فتعلم كيف يكون الصبر حيث التزاحم، فما كان يمد يده فى زحمة الغلمان على الطعام.

ثم كان الصابر فى رعى الغنم، ثم كان الصابر فى كسب القوت، وهكذا كان الصبر عدته التى يعدها لنوائب الدهر، وملمات الزمان، وأخذ يحمل واحده أعباء حياته جلدا صبورا. وإذا كان قد صابر النوازل والقل واحتمل، فقد احتمل نعمة الكثر من المال كما احتمل القل، فلم يطغ إذ جاءه المال الموفور عندما اتجر فى مال خديجة التى صارت من بعد زوجه وأم المؤمنين، فاحتمل النعمة كما احتمل النقمة، وضبط نفسه فى نعمته؛ كما ضبطها فى نقمته، فلم يكن فى الأولى جازعا؛ ولم يكن فى الثانية فرحا فخورا. وقد بين الله تعالى فى كتابه أن الذى لا ييأس فى الحرمان؛ ولا يطغى عند الجدة هو المؤمن الصابر، فقد قال سبحانه: وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً؛ ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ، إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ. وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ. إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ «1» . والصبر فى هذا المقام أجل أنواع الصبر، لأنه هو الذى يكون فى أعاظم الرجال الذين أوتوا القدرة على تحمل الأعباء. لا يأشرون ولا يبطرون فى سرائهم فيكونوا صابرين، ولا يجزعون ويهلعون فى شدائدهم فيذلوا. وكذلك كان محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام قبل أن يبعثه الله تعالى نبيا، فكان مهيأ لأعظم رسالة فى الوجود. 157- بهذا الخلق الصابر يختار الله تعالى محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام ليكون رسوله الذى يدعو الناس إلى التوحيد فى وسط قوم صلاب شداد غلاظ، فالدعوة فيهم تحتاج إلى عزم الأمور، والصبر من عزم الأمور، بل إن عزم الأمور يحتاج إلى صبر شاق مرير، لا يتحمله إلا أولو العزم من الرجال، وأولو العزم من الرسل، كما قال تعالى مخاطبا محمدا صلّى الله عليه وسلّم الصبور، والمكاره تحيط به إحاطة الدائرة بقطرها: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ، وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ، كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ، بَلاغٌ، فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ «2» . كان لابد بعد البعثة من أن يكون علاج الأمور كلها بالصبر، صبر على المشركين فى أوهامهم، وصبر عليهم فى دعوتهم منه إلى الحق، وقد أصروا على الباطل، وصبر على سفهائهم، وصبر على أذاهم المستمر، الذى أقدم عليه ذوو الحقد والعصبية، ولم يستنكره كبراؤهم، وصبر فى الدعوة إلى الإسلام، وما يكأد طريقها، ويعرقل سيرها. ولذلك جعل الله تعالى أقوى أوصاف المؤمنين الصبر. فقال تعالى وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ. الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ «3» .

_ (1) سورة هود: 9: 11. (2) سورة الأحقاف: 35. (3) سورة البقرة: 155، 156.

ولقد كان النبى عليه الصلاة والسلام الصابر حقا وصدقا ودعا إلى الصبر، فقد أثر عنه أنه قال: «ما من أحد تصيبه مصيبة، فيقول إنا لله وإنا إليه راجعون؛ أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة، وأولئك هم المهتدون، اللهم أجرنى فى مصيبتى، وأخلف لى خيرا منها، إلا اجره الله تعالى فى مصيبته وأخلف له خيرا منها» وإن فضيلة الصبر الجميل، وهو الصبر من غير تململ، بل فى ثبات جأش واطمئنان قلب وتحمل، هى قوة لصاحبه، فوق أن فيها تفويضا لله تعالى مع العمل من غير تخاذل، فالمفوض الصابر يؤمن بقدرة الله تعالى حق الإيمان، وأنه المغير، ولذلك طلب الرسول الصابر صلّى الله عليه وسلّم ممن يصاب أن يدعو الله تعالى، ويفوض إليه أمره، فإن ذلك يعطيه جلدا واحتمالا. ولقد قال ابن القيم فى علاج النفس بحملها على الصبر بالتفويض. «وهذه الكلمة أى التى قالها محمد عليه الصلاة والسلام فى العلاج بالصبر، وهذه الكلمة من أبلغ علاج المصاب وأنفعه فى عاجلته واجلته، فإنها تتضمن أمرين عظيمين إذا تحقق العبد بمعرفتها تسلى عن مصيبته. أحدهما أن العبد وأهله وماله ملك لله عز وجل حقيقة، وقد جعله عند العبد عارية، فإذا أخذه منه، فهو كالمعير يأخذ متاعه من المستعير، وأيضا فإنه محفوف بعدمين: عدم قبله، وعدم بعده، وملك العبد له منحة معارة فى زمن يسير، وأيضا فإنه أليس أوجده من عدمه حتى يكون ملكه حقيقة، ألا هو الذى يحفظه من الافات بعد وجوده، وألا يبقى عليه وجوده، فليس له فيه تأثير، ولا ملك حقيقي، وأيضا فإنه متصرف فيه بالأمر تصرف العبد المأمور المنهي، وتصرف الملاك، ولهذا لا يباح له من التصرفات فيه إلا ما وافق أمر مالكه الحقيقى ... » . والثانى: أن مصير العبد ومرجعه إلى الله تعالى مولاه الحق، ولابد أن يخلف الدنيا وراء ظهره، ويجيء ربه فردا، كما خلقه أول مرة بلا أهل ولا مال ولا عشيرة، ولكن بالحسنات والسيئات، فإذا كانت هذه بداية العبد وما حوله ونهايته، فكيف يفرح بموجود أو يأسى على مفقود، ففكره فى مبدئه ومعاده من أعظم علاج هذا الداء، ومن علاجه أن يعلم علم اليقين أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، قال تعالى: ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ. لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ، وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ «1» .

_ (1) زاد المعاد فى هدى خير العباد والايات من سورة الحديد: 22، 23.

158- كان محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام صبورا أبلغ ما يكون الصبور، فقد كان قبل البعثة الصابر فى المنشط والمكره، والصابر فى الفقر والغني، والصابر فى العجز والمقدرة، ثم كان بعد البعثة الصابر فى أداء الرسالة، وتبليغها والدعوة إليها، صابر المشركين عند الدعوة، صابر قومه الذين جفوه، ونكروه وهم يعرفونه، وكذبوه، وهو الصادق الأمين، ورموه بالسحر كذبا، والجنون افتراء، وقالوا ما قالوا فيه وفى رسالته، وقد وسع صبره كل افترائهم، فما وهن فى دعوته، ولا يئس من إجابته، وكان يرضى فى أن يصدع بأمر ربه وهو يصبر على إنكارهم من غير أن ييأس من إيمانهم، ويدعو عليهم، فلم يقل كما قال نوح: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً. إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ، وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً «1» بل قال: «إن قومى لا يعلمون» وقال: «إنى أرجو أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله» ، ولكل نبى من أنبياء الله تعالى فضل، وقد فضل بعض النبيين على بعض. ولقد اذوه، واذوا أصحابه، وهو القادر على أن يقمعهم، أو يدعو عليهم بالمقت، ويسخط عليهم، وإنزال غضب الله تعالى عليهم، بل إنه كان يتلقى كل ذلك بالرجاء والاطمئنان إلى أنه مبلغ رسالة ربه، غير وان ولا مقصر، مدركا أن الله تعالى بالغ أمره، وأن العاقبة للمتقين. كان طاغيتهم يلقى عليه فرث الجزور، وهو يصلي، فما يغضب، ولا يثور، لأن الغضب يفقد الحق قوته، والثورة تطيش حولها أحلام من يدعوهم، وهو حريص على أن يترك لهم حرية الاختيار، وتقدير الأمر فى أناة، وهدأة مدركة، والغضب يدفع إلى الملاحاة والمنازعة، وهو يريد أن ينزع من قلوبهم سخيمة الحقد الملاحي، بل يضع فى قلوبهم قوة الحقيقة تسرى فى قلوبهم، وتنساب فى نفوسهم، وهم مطمئنون من جانبه غير منزعجين. يصبر عليه الصلاة والسلام صبر الطبيب يعالج المريض، وقد هاج هياجه، وأرغى زبده، فيأخذه فى حكمة، عالما أن المقاومة من المرض ذاته، وأن غايته معافاة المريض، فليصبر، حتى يصل إلى هذه الغاية غير منزعج، ولا مخاصم، ولا معاند. ولقد صبر عليه الصلاة والسلام على استهزائهم وعلى سخريتهم، وهو اخذ نفسه بأنهم كلما سخروا منه زادت عنايته بالدعوة، وزادت قوته فى الاحتمال ورغبته فى المصابرة، غير متحمل ولا ييئس، فإن

_ (1) سورة نوح: 26، 27.

الصبر يبعد اليأس ويقرب الرجاء، ويهدى للتى هى أقوم، ويوقظ الضمائر إن كانت فيها قوة الحياة، وإن الصبر للذى تشمس نفسه يكون كالسقى والرعى يحيى ولا يميت، والملاحاة تشغل النفس عن الحق، وتوجب انحياز كل إلى جانبه، فلا يرى إلا ما عنده، ويعمى عما فى الجانب الاخر، فتكون النظرة الجانبية، والنظرة الجانبية لا تفيد صاحبها. وصبر عليه الصلاة والسلام على الأذى ينزل بجسمه، وبأهله، ألم تره صبر على الحرمان هو وبنو هاشم عندما قاطعتهم قريش ثلاث سنين دأبا. لاقوا فيها العنف من قومهم، فما أسلموا محمدا عليه الصلاة والسلام لأعدائه. فكان صبر محمد عليه الصلاة والسلام صبرين، صبر الداعى إلى الحق يحمل فى أثنائه ما يلاقى من جفوة قاطعة لما أمر الله تعالى به أن يوصل، وصبرا على أذى القريب الواصل الذى يرى أنه كان سببا فى أنه ذاق اله وأحبابه مرارة الحرمان والقطيعة. وصبر عليه الصلاة والسلام يوم ذهب إلى ثقيف يطلب منهم الإيمان، فاذوه، وأغروا به سفهاءهم وغلمانهم يقذفونه بالحجارة حتى أسالوا دمه الكريم، وكان الصابر الكريم عندما عرض عليه جبريل أو ملك الجبال أن يطبق الأخشبين عليهم، فطلب من ربه أن يستأنى بهم، ويقرر فى اطمئنان الصابر أنه لا يبغى إلا رضاه، فيقول لربه: إن لم يكن بك غضب علىّ فلا أبالى. 159- ولما رأى الأذى الشديد ينزل ببعض من أسلموا، أذن لهم فى الهجرة إلى الحبشة، وهو المقيم الصابر، لا يتخلى عن دعوته، ولا يفر ممن يدعوهم، بل يصابرهم، ويلقاهم بالرفق، ولطف المعاملة، وإن لم يقابلوه بمثلها، بل يجافونه ويعادونه. وإذا كان قد خرج من مكة المكرمة مهاجرا، فليس ذلك لأجل الخوف، أو نفاد الصبر، بل لأن الدعوة استوجبت الهجرة بعد أن استمكن لها فى يثرب، وهو إذ يخرج كان صابرا، إذ أنه يخرج من مكة المكرمة، وهى أحب أرض الله إليه، ولولا أن أهلها لم يستجيبوا واذوه ما خرج منها، فكان الصابر فى خروجه، ولم يكن خروجه جزعا وفرارا. ولما هاجر كان المجاهد الصبور، ولقد صابر وصبر فى ثلاثة ميادين من الجهاد. صابر فى محاربة الأهواء والشهوات، وسمى ذلك الجهاد الأكبر، ودعا المؤمنين إلى متابعته فيه.

وصابر فى ميدان الحرب، فكان المجاهد الثابت الذى لا تزلزله قوة، ولا يذهب تفكيره شعاعا ولو تألب عليه العرب جميعا، كما فى غزوة الأحزاب، وقد جاء المشركون من الخارج واليهود من الداخل إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا. هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً «1» ، ونجد النبى عليه الصلاة والسلام كان فى هذه المعركة، الصابر، المصابر، الذى لم يذهب ساعة من نهار الرجاء منه، وإن كانت الشديدة قد بلغت أقصاها. وصابر صلّى الله عليه وسلّم فى الداخل طوائف ثلاثا فأخذ بالرفق الضعفاء، فكان يبث فيهم روح الإيمان، وكان الضعف يبدو أحيانا منهم فى وقت يحتاج فيه إلى الجلد وقوة العزيمة، والثبات فى البأساء والضراء، وحين البأس. وصابر المنافقين الذين كانوا يظهرون الإيمان، ويبطنون الكفر، ويلقون باليأس والهزيمة، ويدعون إلى التردد فى صفوف المؤمنين، ويستجيب لهم بعض الضعفاء من المؤمنين، ويصبر عليه الصلاة والسلام على ما يثيرونه حول شخصه واله، كما خبوا ووضعوا فى الحديث الذى أشاعوه عن أم المؤمنين عائشة. ويشير عمر بقتل كبيرهم، فيرده محمد صلّى الله عليه وسلّم بأنه لا يريد أن يتحدث الناس أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم يقتل أصحابه، ويستمر صابرا حتى ينهى الشر نفسه. وكان اليهود فى المدينة، فكان يصابرهم حتى ينكشف فسادهم، فإذا انكشف أخذهم ببعض ذنوبهم صابرا مصابرا، وإن الصبر فى الشدائد هو صبر العافى المدرك بأن غايات الأمور لا تدرك إلا بالصبر المرير، وكان إذا ادلهم الأمر لا يجزع، ولا يفزع، بل يتأنى الأمور، ويصطبر لها، معالجا أمرها فى أناة وحكمة، ويقول عليه الصلاة والسلام: «إنما الصبر عند الصدمة الأولى» فإذا دهمه الأمر لا ينزعج ولا يضطرب، ولا يذهب لبه وتفكيره، بل يسيطر على نفسه، ويدبر الأمر من غير هلع ولا جزع، وكان يرى أن الصبر من الإيمان. وإن الشدائد النفسية تحتاج إلى الصبر أكثر من الشدائد المادية، وانظر إلى موقفه الصابر عندما أشاعوا قالة السوء عن حبّه أم المؤمنين عائشة، فقد تلقى الخبر، وساوره الظن، وبدا فى بعض عمله، وفى ملامح وجهه، ولكنه كان المثل الكامل فى الثبات، وتقدير الأمر، ودعا بعض خاصته للاستشارة فى هذا الإفك، وليتعرف مقدار الحق فيه، فمنهم من نفى الوقوع وأكد النفى كعمر رضى الله عنه، ومنهم من دعا إلى التحرى بسؤال جاريتها وهو علي، وقد رأى النبى صلّى الله عليه وسلّم فى هدأة الصابر أن ذلك هو الأسلم والأحزم،

_ (1) سورة الأحزاب: 10.

العادل

فسلكه فانتهى إلى البراءة، وما كان ذلك ليكون إلا من صبور حكيم متدبر يغلّب العقل والفكر فى وقت تطيش فيه الأفهام، وتجيش فيه العواطف، ولكن النفس، نفس محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، تسيطر عليها الحكمة دائما. وإن صبر النبى صلّى الله عليه وسلّم فى البأساء والضراء وحين البأس، كان صبر من يتوقع البلاء قبل أن يقع، فعبّد نفسه لقوة الاحتمال، وقد أخبره الله تعالى بما سينزل به وبالمؤمنين ليصبروا فقال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ. الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ «1» ولقد قال تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ «2» وقال تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ، وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ «3» . وقال سبحانه وتعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا، وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ «4» . فكان الصبر الاختيارى من غير شكوى ولا أنين عدته فى تبليغ رسالة ربه، وقد تربى عليها قبل البعثة، وكان قوته بعدها. العادل 160- الأمانة والعدل صنوان متلازمان، فلا يمكن أن يكون الأمين غير عادل، ولا أن يكون العادل غير أمين، لأن الأمانة مراعاة الإنسان لحق غيره، لا ينكره ولا يجحده، والعدالة، تبتديء من انتصاف الإنسان من نفسه، ولذلك قرن الله سبحانه وتعالى طلب أداء الأمانات بالعدالة فى الحكم، فقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها، وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ، إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ، إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً «5» .

_ (1) سورة بالبقرة: 155، 156. (2) سورة البقرة: 214. (3) سورة ال عمران: 143. (4) سورة ال عمران: 200. (5) سورة النساء: 58.

بعد البعثة:

ولقد اشتهر محمد بن عبد الله صلّى الله عليه وسلّم بالأمانة، حتى صار اسمه «الأمين» ولما حكّموا أول من يدخل البيت فى أمر الحجر الأسود، وكان هو الداخل الأول ارتضوه حكما، وفرحوا به، وقالوا إنه الأمين، وكان فى معاملاته كلها عدلا، لا يغبن، ولا يخدع، وكان ينتصف من نفسه فى كل ما يتعلق به، كان ذلك قبل البعثة. أهدت إليه أم المؤمنين خديجة قبل البعثة زيد بن حارثة، فكان مولى له، ولما عرفه أهله، وجاؤا إليه يريدون أن يفتدوه بثمنه، أعطاهم الرجل العدل، الحق فى أخذه، ولم يمارهم فى حقهم، بل إنه زاد فى العدل والإحسان، فقال: خذوه من غير ثمن إذا أراد الذهاب معكم، ولكن زيدا رفض أن يترك محمد بن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وقبل أن يبقى فى قربه مولى، ولم يقبل الذهاب مع أسرته، وهنا يتحرك العدل مرة أخرى فى قلب محمد بن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فيتخذه له ولدا، وقد كان سائغا عند العرب، كما كان سائغا عند الرومان، ويلحق المتبنى بنسب من تبناه، فكان يقال له زيد ابن محمد صلى الله عليه وسلم، وكان بمقتضى هذا الإلحاق قرشيا، وتزوج على أنه قرشى، حتى نزل من بعد البعثة تحريم التبنى، وعدم إلحاق الدعىّ بنسب من تبناه. وكان قد أراد محمد بن عبد الله العادل عليه الصلاة والسلام أن يعوضه عن ترك أسرته بذلك التعويض الكريم. ولقد كان الخصماء يتحاكمون إليه عليه الصلاة والسلام قبل بعثته، فقد روى أن الربيع بن خيثم كان يتحاكم إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى الجاهلية قبل الإسلام، وذلك لما عرف به من الصدق والأمانة والاستقامة، وكونه لا ينطق إلا بالحق، ولا يتجه إلى غيره، ولا يرضى بالباطل أبدا. بعد البعثة: 161- لقد كان عليه الصلاة والسلام يوزع الغنائم، فيعطى كل ذى حق حقه، لا يلتفت إلى ما وراء ذلك، فلا غاية يطلبها إلا تحقيق العدل وإرادته، يعطى الرجل من الغنيمة بمقدار جهاده، وقد يعطى من يريد تأليف قلبه، وقد أسلم على حرف، فهو يعطى لعاعة من المال لمن يريد أن يتألفه، كما كان يعطى بعض القرشيين الذين أسلموا عند الفتح تأليفا لقلوبهم وليستمروا على دينهم الذى دخلوه طوعا من غير إكراه، ولكن لكثرة معاندتهم من قبل تألفهم النبى ببعض من الصدقات.

ولقد حدث أن قال بعض الذين فى قلوبهم ضعف إيمان للرسول عليه الصلاة والسلام: اعدل، فرد عليه النبى عليه الصلاة والسلام «ويلك فمن ذا الذى يعدل عليك بعدى» ولنذكر الخبر، كما فى كتب الحديث، فقد روى قتادة أن رجلا من أهل البادية حديث عهد بالإسلام أتى النبى صلى الله عليه وسلم، وهو يقسم الغنائم فقال: «يا محمد، والله لئن أمرك الله أن تعدل ما عدلت، فقال النبى عليه الصلاة والسلام: ويلك، فمن ذا الذى يعدل عليك بعدى، ثم قال: نبى الله: احذروا هذا وأشباهه، فإن فى أمتى أشباه هذا يقرأون القران لا يتجاوز حناجرهم، فإن خرجوا فاقتلوهم، ثم إذا خرجوا فاقتلوهم» وروى مثل هذا فى الصحيحين مسلم والبخارى. وإن هذا الكلام يدل على عدالة النبى عليه الصلاة والسلام المطلقة فقد سمع القول من المعترض من غير أن يمنعه من الاعتراض، ولكن بين له أنه العادل، وأنه سيكون إرهاق من بعده، فمن عدل كعدله نجا، ومن لم يعدل فقد انحرف إلى الهاوية. ويدل ثانيا على أن أمثال هذا ممن يرون العدل غير عدل ويحكمون بهواهم، أو بنظرهم بادى الرأى سيكونون شوكة فى جنب الحكم الإسلامي، وأن سلامة الحكم فى ردعهم ولو بالقتل وتكراره، وذلك عقابهم إذا خرجوا على الحاكم العدل وإلا لا يقتلوا، كما قال على «من طلب الحق فأخطأه ليس كمن طلب الباطل فأصابه» . ثم إن النبى عليه الصلاة والسلام أردف فى هذه الواقعة ما يؤكد عدله المطلق القائم على أمانته، فقال: «والذى نفسى بيده ما أعطيكم شيئا، ولا أمنعكم إنما أنا خازن» . وإن النبى العادل كان ينفذ الحق فى نفسه، إن ظن أنه اعتدي، كان يقسم الغنائم مرة، وبعض أعراب المسلمين يلاحيه، فرده بعود فى يده، فشكا الألم فأعطاه الرسول الأمين العادل، ليقتص منه، فعفا الرجل، واستحيا أن يفعل. ولقد كان يخشى لفرط إحساسه بالعدالة، ألا يلقى الله خالصا من حقوق العباد، فقام، وهو مريض مرض الموت، وقد بلغ به الإعياء أشده وقال: «أيها الناس من كنت جلدت له ظهرا، فهذا ظهرى فليستقد منه، ومن كنت شتمت له عرضا، فهذا عرضى فليستقد منه، ومن أخذت منه مالا، فهذا مالي، فليأخذ منه، ولا يخش الشحناء فإنها ليست من شأنى، ألا وإن أحبكم إلى من أخذ منى حقا، إن كان له، أو حللنى، فلقيت ربى وأنا طيب النفس» . ولقد كان محمد عليه الصلاة والسلام ينهى عن الظلم بكل ضروبه، وأكل أموال الناس، وينهى عن معاونة الظالمين بكل أسباب المعاونة، وإنه يشدد فى ذلك، فهو يقول: «اتقوا دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب» وقال عليه الصلاة والسلام «من مشي مع ظالم فقد سعى إلى النار، أو كما قال عليه

الصلاة والسلام، ونهى المحكومين عن أن يسكتوا عن ظلم الحاكمين، لأنه معاونة، فقال عليه الصلاة والسلام: «لا يأخذ الله تعالى العامة بظلم الخاصة إلا إذا رأوا ولم ينكروا» وأوجب حمل الظالم على العدل، وحث على ذلك فى قوة، فقال عليه الصلاة والسلام: «والله لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يدى الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرا، أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض، ثم تدعون فلا يستجاب لكم» . وإن هذه الأحاديث تدل على أمرين عظيمين: أولهما- شدة تمسك النبى عليه الصلاة والسلام بالعدل والدعوة إليه والتشدد فيه، والاستمساك به، لأنه كمال فى ذاته، ويدل على استقامة النفس، حاكما كان أو محكوما، فهو الكمال المطلق إن كان- وثانيهما- أنه يدعو إلى العدل الجماعي، لأنه هو الذى يستقيم به أمر الجماعة، فلا يظلم الرجل أهله، ولا يظلم الزوج زوجه، ولا القريب قريبه، ولا الرئيس مرؤسه، ولا الحاكم محكومه، ولا المولى مولاه، وإنه عليه الصلاة والسلام يقول فى حديث قدسى عن ربه: «يا عبادى إنى كتبت العدل على نفسى فلا تظالموا» . 162- ولقد كان عليه الصلاة والسلام يتولى الفصل فى خصومات المسلمين فى خاصها وعامها، ويأتى فى فصله بحكم الله تعالى الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فكانت أقضيته تقصد القضاء بحكم الله تعالي، وتنفيذ ما أمر الله تعالى به من أمر وما نهى عنه، وكانت أحكامه عادلة، لا يحابى قويا، ولا يهضم حق ضعيف. ولما سرقت فاطمة المخزومية، وأهم قريشا أن يقطع محمد صلى الله عليه وسلم يدها ذهب إليه حبه أسامة بن زيد فتشفع له فى ألا يقيم الحد عليها بقطع يدها، فنهره عليه الصلاة والسلام قائلا له مستنكرا: أتشفع فى حد من حدود الله، ثم وقف خطيبا يقول: «ما بال أناس يشفعون فى حد من حدود الله، إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف قطعوه، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» . فكان العدل الذى لا يمارى ولا يحابى فى حكم من أحكام الله تعالى. وكان عليه الصلاة والسلام ينظر فى الأمر عند الاختصام إلى لب القضية، فيتعرف المعتدي، فيحكم عليه، ولا ينظر فقط إلى المظهر، ويروى فى الصحيحين (البخارى ومسلم) أن رجلا عض يد رجل اخر، فنزع المعضوض يده من فم الاخر، فوقعت ثناياه، فاختصموا إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ويظهر أن الذى رفع الأمر من عض أخاه، فقال النبى عليه الصلاة والسلام، منحيا باللائمة على العاض مهدرا دية أسنانه: «يعض أحدكم أخاه كما يعض الفحل لا دية لك» .

وهو بهذا ينظر نظر الأريب إلى موضوع القضية، ليتعرف موضوع الاعتداء، ومن الذى كان السبب، ثم فيه إشارة إلى من دفع عن نفسه الظلم، وتعين عليه ألا يدفع الظلم إلا بأذى ينزل بالاخر، فهو بريء مما يترتب على فعله، والمتسبب هو الذى يبوء بالاثم ولو كان هو الذى نزل به الأذى. وكان عليه الصلاة والسلام يلاحظ فى قضائه ثلاثة أمور: أولها- العدل بين الناس والمساواة بينهم فى تنفيذ أحكام الله تعالى لا فرق بين أمير وسوقة، ولا بين شريف وضعيف، بل الجميع أمام القانون سواء. وفى المأثور «الناس سواسية كأسنان المشط» . ثانيهما- أنه يلاحظ الأثر إلاجتماعى لحكمه، فهو يغلظ العقاب على من يكثر فساده، حماية للجماعة المسلمة من شره. ثالثها- أنه لفرط إيمانه بالعدل يخشى أن يقع منه ظلم لأحد، بسبب من يدلون بالحجة فى فصاحة منهم وعجز غيرهم، فقد قال عليه الصلاة والسلام وهو العدل الأمين: إنكم تختصمون إلى، ولعل بعضكم ألحن بحجته من الاخر، فمن قضيت له بحق أخيه، فإنما أقتطع له قطعة من النار» . وفى الحق أن النبى عليه الصلاة والسلام كان عدلا فى ذات نفسه، وعدلا فى كل ما يقوم به، وعدلا فى أحكامه، ويغلب المساواة فى كل شيء حتى فى الهدايا تهدى إليه باعتباره كبير المؤمنين، ويقول فى ذلك ابن القيم فى زاد المعاد فى هدى خير العباد. وقد جاء فى صحيح البخارى أن النبى عليه الصلاة والسلام أهديت إليه أقبية من ديباج مزررة بالذهب، فقسمها فى ناس من أصحابه، وعزل منها واحدا لمخرمة ابن نوفل، فجاء ومعه المسور ابنه، فاستقبله، وقال يا أبا المسور خبأت لك هذا. وهكذا نرى العدل يعم ولا يخص، وإنه كما ثبت من تاريخه قبل البعثة وبعدها لم يظلم، ولم يضيّع حقا لأحد، بل كان الحريص على حق غيره الحفيظ عليه. وكان يعوض من يهدى من أصحابه إن تمكن من التعويض، ويهادى من يهاديه، لأن الهدية محبة، وهو عليه الصلاة والسلام يبادل المحبة بالمحبة فهو عادل حتى فيما تبعثه العاطفة، ويدعو إليه الود.

الشجاع

الشجاع 163- يذكر بعض العلماء الشجاعة بأنها منبعثة من القوة الغضبية، ولكنها خاضعة لحكم العقل، وللحكمة، وللمعرفة، وهى السبيل إلى دفع الأذى، وإلى والنفع للجماعة، وليست مرادفة للتهور، وإن كان منبعثهما واحدا، وهى القوة الغضبية الدافعة عن النفس فى موقف التعرض للأذى، بيد أن التهور اندفاع غير محكوم بالعقل والحكمة، ولا خاضع للمعرفة، أما الشجاعة فإنها لا تصدر إلا عن تفكير سليم، ودواعى الحكمة المستقيمة. وليست الشجاعة منافية للحذر، بل إنه مسيطر عليها، فهو يدفعها، وهو يحكمها، وقد يكون الخوف مع الشجاعة، لأن الشجاع يتردد قبل أن يقدم فيوازن بين العمل ونتائجه، والإقدام وغاياته، وهل يتعين الضرب بالسيف، وإن ذلك كله قد يصحبه، فليس الشجاع هو الذى لا يخاف قط، إنما الشجاع من يتغلب على بواعث، ويتقدم فى تدبير محكم، وصبر وقوة احتمال، ولا تتصور الشجاعة إلا مع التدبر والصبر والإحكام وتعرف الغايات والمقاصد. والشجاعة قد تكون معنوية، وليس لها مظهر حسي، وقد تكون حسية بدافع معنوي، ورغبة فى رفع حق، وخفض باطل، والنبى عليه الصلاة والسلام قبل البعثة كان المثل الكامل للشجاعة المعنوية، التى لا تهاب المخالفة فى الحق، فقريش كلها كانت تسجد للصنم، ومحمد عليه الصلاة والسلام لم يسجد لصنم قط، وكان يجابه بذلك قريشا، ولا يبالي، وكانوا يحلفون باللات والعزى ومناة الثالثة إلى اخر الأسماء التى سموها، وما أنزل الله تعالى بها من سلطان، وكان هو يرد من يطلب منه الحلف بها، فيقول إنه يكرهها وما يكون ذلك إلا من شجاع قوى الإيمان بما يعتقد ويؤمن، فيختلف مع بائع فى الثمن، فيطلب منه الحلف باللات والعزي، فيرد محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام ردا قويا، بأنه يكره هذه الأسماء، فيقبل الرجل قوله من غير يمين لروعة إيمانه وشجاعته فى هذا الإيمان. وإنه فى رحلته إلى الشام وهو فى الخامسة والعشرين كان شجاعا فى نفسه وفكره وقلبه عندما منع رجال القافلة التى أعطته زمامها من أن يسابقوا رجال قافلة أخري، واجه من معه بذلك المنع غير هياب ولا وجل، ثم خالف طريق الاخري، وسار فى طريق أخرى ليمر بقبر أمه بالأبواء، ويستعبر عليه العبرات، إذ كان لأول مرة زاره، وكان فى وعى عند موتها، إذ كان فى السادسة من عمره، ومع ذلك وصل قبل القافلة، وكان قد اختار الطريق الذى ظنه من معه وعرا، وظنه هو مسلوكا، وكان مستقيما، لأنه وصل قبل القافلة المسرعة من غير مسابقة.

بعد البعثة

وإن هذا الخبر فى ذاته يدل على قدرة تدبير للأمور، وتعرف لأقرب الطرق للوصول إلى الهدف، ويدل على رفق بمن معه، والابتعاد عن المسابقات غير المثمرة إلا التعب، وعلى كمال الرفق بمن فى صحبته، كما يدل على شجاعة نادرة، وقوة احتمال كاملة. ولقد كان شجاعا فى أقصى درجات الشجاعة عندما قبل أن يكون الحكم بين قبائل العرب فى وضع الحجر الأسود، فقد تقدم وهو يعلم أن الحاكم لا يرضى كل من يحكمونه، ولكنه بتوفيق الله تعالى أرضاهم جميعا. وهكذا كان محمد عليه الصلاة والسلام شجاعا قبل البعثة يقول الحق ولا يخشى لومة لائم، ويجاهر به غير مستهين بمن يقاومه، بل راض بأن ينطق بالحق، وحسبه ذلك وكفى. بعد البعثة 164- بعد أن بعثه الله تعالى بدت شجاعته كاملة، والبعثة من أول أدوارها، وفى أثنائها، وفى نهايتها تحتاج إلى شجاعة، وعندما التقى عليه الصلاة والسلام بورقة بن نوفل ابن عم خديجة، قال له: «ما أتى أحد بمثل ما أتيت به إلا عودى» . ولقاء أعداء الفكرة يحتاج إلى شجاعة وثبات جأش، وقوة احتمال، «والله أعلم حيث يجعل رسالته» فما يختار رسولا خوارا، ولا رسولا ضجرا، ولا رسولا يعتريه اليأس فى أول الصدمة، بل يستمر مصابرا مستعدا للصدمات، واحدة بعد أخري، وأحيانا تجيء متكاثفة غير متفرقة، بل مجتمعة صلبة غير متكسرة، فكان لا يتلقاها إلا شجاع النفس ذو العزمة الصادقة فى هدأة المؤمن المطمئن القلب. لقد كان أبو جهل يرعد ويبرق، ويعمل فى إيذاء مستمر، عسى أن يجبن محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه عن دعوة الحق المستمرة غير الوانية، بل كلما اشتدت وسائل الإيذاء وتعددت وتجمعت، ازداد عليه الصلاة والسلام عملا، ما هاب وما مل، بل كان يصدع بالحق فى اطمئنان وشجاعة. ولقد كان من أعدائه ذو البطش الشديد فما هابه ولا خافه، وإن رفق إليه فى القول، فذلك شأنه والواجب عليه، ليقرب من القلوب ولكى لا يكون فظا غليظ القلب، فبنفض الناس من حوله. وعندما أقبل على المسلمين عمر بن الخطاب وكان جبارا مرهوبا فى دار الأرقم بن أبى الأرقم، وهو لا يزال على الشرك فزع المسلمون إلا رجلين- أحدهما- حمل سيفه ليقتله به إن أراد شرا وهو أسد الله تعالى وسيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ومحمد بن عبد الله رسول الله صلى الله تعالى عليه

وسلم فما فزع، بل رجا، وما اضطرب بل اطمأن، فقال: أدخلوه، فدخل والنبى الأمين ثابت مطمئن هاديء هدوء المؤمن الشجاع، فلبب عمر بقوة، حتى استكان ثم دعاه إلى الإسلام، فأسلم. ومحمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم كان شجاعا يستمر فى دعوته، وهو يعلم أن الملأ يأتمرون به ليقتلوه. فما وهن لائتمارهم وللأذى ينزل به، وبضعفاء صحابته. وكان الشجاع الثبت، وهو مهاجر، وقد اوى إلى غار ثور، والقوم قد أحاطوا به حاملين سيوفهم، بل كان الشجاع، وهو يقول لصاحبه الخائف على النبى صلى الله عليه وسلم لما عساه يصيبه: «لا تحزن إن الله معنا» . وعندما لاقى اليهود فى يثرب، وهو يعلم مكايد اليهود وإيذاءهم، ومكرهم الخبيث الذى لا يمتنعون فيه عن الغدر، وقد هموا به، وأرادوا قتله غيلة برمى حجر عليه من عل، وبدس السم فى طعامه، وما جبن، ولا سكت عن الدعوة، بل استمر يدعوهم إلى الحق وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ. وإن الشجاعة المعنوية بين المنافقين كانت سياسته، فهو يصدع بالحق بينهم، كما صدع به بين أصحابه، فهو فى معاملة المنافقين يسوسهم يريد عمر أن يقتل عبد الله بن أبي، فيمنعه فى قوة غير ابه لاعتراضه ومكانة عمر فى أهل الإيمان، ويقول له مرشدا، «لا أقتلهم حتى لا يتحدث العرب أن محمدا صلى الله عليه وسلم يقتل أصحابه» . وكان أبعد نظرا من عمر، لأنه بعد ذلك برم أهل كل منافق به واستأذنوا النبي عليه الصلاة والسلام فى قتل من فيهم من أهل النفاق، حتى طلب ابن عبد الله بن أبى من النبى عليه الصلاة والسلام أن يأذن له بقتله، فلم يأذن، وقال: «أين عمر، لو قتلتهم يوم طلب عمر أن أقتلهم، لأرعدت لهم أنوف تريد إليوم قتلهم» . وكان عليه الصلاة والسلام شجاعا كريما، عندما قبل أن يكتب صلح الحديبية كما أملى المشركون، وقد اشتد الأمر على المؤمنين، لما قالوا من يخرج من المشركين مسلما بغير رضا وليه ردوه، ومن خرج من عند محمد صلى الله عليه وسلم مرتدا إلى مكة المكرمة لا يردوه، وغضب عمر وكثرة من المؤمنين، وقال قائلهم: لماذا نقبل الدنية فى ديننا، واشتد غضبهم عندما جاء أحد المسلمين من قريش مكبلا بالحديد فرده. كان شجاعا وهو يعلم أنهم على خطا المخلصين، وردهم، ثم تبين بعد ذلك ما كان عليه النبى عليه الصلاة والسلام من حكمة، عندما طلبوا هم عدم التمسك بهذا الشرط، وإلغاءه، لأنه لم يرتد أحد

شجاعة النبى عليه الصلاة والسلام فى ميدان القتال:

من المسلمين، ومن خرجوا مسلمين من قريش، ولم يقبلهم ترصدوا المشركين فى متاجرهم، فأذاقوهم الويل والثبور، وقتلوا منهم، واستولوا على غنائم كثيرة من أموالهم على ما سنبين إن شاء الله تعالى. شجاعة النبى عليه الصلاة والسلام فى ميدان القتال: 165- كتب القتال على محمد عليه الصلاة والسلام ومن معه، وهو كره لهم، لأن الدعوة الإسلامية لابد أن تأخذ طريقها، وأن ترد الاعتداء حتى يكون الدين لله، وتستقيم القلوب، ولا تكون الفتنة، والإكراه على ترك الهداية، والوقوع فى الغواية، بعد أن من الله تعالى عليهم بالحق، والإيمان وما كان أهل الإيمان ليستخذوا ويستكينوا ويهنوا عن نصرته، ولذلك أذن لهم فى القتال، كما قال تعالي: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا، وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ. الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ، وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً، وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ «1» . كان لابد من القتال جهادا فى سبيل الله، ولنصرة الحق، وكان لابد أن يكون محمد عليه الصلاة والسلام الموجه له فى كل ميادينه، والموجه له فى كل نواحيه وضروبه، ما كان محمد عليه الصلاة والسلام القائد الذى يحارب بغيره، فيوجه إلى الميدان، ولا يتوجه هو إليه، بل كان يتجه هو إليه ليكون القدوة الحسنة فى كل أمر يدعو إليه، لا يضن بنفسه، ولا يستأثر بالراحة، ويترك غيره يعمل، بل يكون فى أول العاملين المتقين. وكان على رأس المجاهدين، جاء فى كتاب الشفاء للقاضى عياض ما نصه: «قد حضر عليه الصلاة والسلام المواقف الصعبة، وفر الكماة الأبطال عنه غير مرة، وهو ثابت لا يبرح، ومقبل لا يدبر، ولا يتزحزح، وما من شجاع إلا وقد أحصيت له فرة، وحفظت عنه جولة سواه عليه الصلاة والسلام» «2» . ولقد فهم بعض الناس من قوله تعالى: فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ «3» أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مأمور بأن يقاتل المشركين إذا واجهوه ولو كان واحده، وذلك الأمر الخاص به الذى كلفه، وقد فهمه أولئك المفسرون من قوله تعالى: لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ.

_ (1) سورة الحج: 40. (2) الشفاء ج 1 ص 66. (3) سورة النساء: 84.

ومهما تكن دلالة ذلك النص فإن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم حمل عبء الجهاد ودخول الميدان بنفسه من غير ضن بها وكان أصبر أصحابه فى الجهاد، فما فر قط من صفوف القتال، وما يختاره فى موضع أمن، ولو تولى عنه كل من حوله. ولقد روى عن فارس الإسلام على بن أبى طالب كرم الله وجهه أنه قال: «إنا كنا إذا حمى البأس، واحمرت الحدق اتقينا برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه، ولقد رأيتنى يوم بدر، ونحن نلوذ بالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم. وهو أقربنا إلى العدو، وكان من أشد الناس بأسا» وكان عليه الصلاة والسلام هو العلم الذى نهتدى به فى الميدان، أشجع المجاهدين وأصبرهم صلى الله تعالى عليه وسلم. ويقول عبد الله بن عمر الذى شاهد الحرب، ما رأيت أشجع ولا أنجد ولا أجود ولا أرضى من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو الشجاع الرضى الكريم الصبور، الذى يقف فى الهيجاء، ويحمل سيفه، ليجيب كل هيعة. وإنه عليه الصلاة والسلام كان قوى الاحتمال مع شجاعة، ورباطة جأش، لقد جرح فى يوم أحد، واشتدت جراحه، وأنزفت دمه، ومع ذلك دوام على الحرب، ولم يهن ولم يستكن. ولقد أريد قتله عليه الصلاة والسلام فى هيجاء أحد، واضطرابها، فجاء أبى بن خلف يريد قتله، وقد أعد لذلك عدته منذ بدر الكبرى، إذ كان فى الأسرى، فلما كان أحد، ولم يكن للمسلمين جاء وقد ادرع بالحديد، لا يرى منه إلا عينه، حتى لا يصيبه سيف أو رمح، وهو يقول: أين محمد صلى الله عليه وسلم؟ لا نجوت إن نجا محمد، فاعترضه رجال من المسلمين، فقال محمد صلى الله عليه وسلم الذى أنزف من دمه ما أنزف، خلوا طريقه، وتناول الحربة من الحارث بن الصمة، وحملها، وانتفض بها انتفاضة تطايروا تطاير الشعراء عن ظهر البعير إذا انتفض، فطعنه عليه الصلاة والسلام فى عنقه طعنة تدأدأ منها من فرسه مرارا، وقيل بل كسر ضلعا من أضلاعه، فرجع إلى قريش يقول: قتلنى محمد- صلى الله عليه وسلم- وهم يقولون: لا بأس عليك. فقال: لو كان يجمع الناس لقتلهم، أليس قد قال أنا أقتلك، والله لو بصق على لقتلنى، فمات فى سرف فى قفولهم إلى مكة المكرمة «1» . وإنه فى حرب هوازن ثبت واحده، وذلك كاف لبيان مدى شجاعته وصبره.

_ (1) الشفاء ج 1 ص 68.

الرجل

166- هذه شجاعته عليه الصلاة والسلام فى الجهاد بالسيف، وقد ذكرنا شجاعته المعنوية فى السلم، وكيف كان لا يخشى فى الحق لومة لائم، ولا يلاحظ فى أفعاله البيئة وتقاليدها، ولو كانت مستنكرة، ولو كان منشأ هذه التقاليد أنهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون، بل ما يكون معروفا يعرفه، وما يكون نكرا ينكره، وهو فى ذلك قبل البعثة وبعدها على حال واحدة، ولا يهاب الرجال، بل يهاب الله تعالى واحده، ويرفق بالرجال ما كان الرفق سبيلا للهداية، فهو الهادى المرشد الداعى إلى الحق فى كل أحواله. وهو يستجيب لداعى النجدة. حيث تكون الاستجابة واجبة، والنجدة لازمة، وحيث يكون ملهوف يغاث، لقد فزع أهل المدينة وتصايحوا لمخوف ألم، فانطلق ناس قبل الصوت، يتعرفون مكان الاستغاثة، وكل يعتقد أنه الذى سبق، ولكنهم وجدوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد سبقهم إلى الصوت، ولقوه قافلا وقد سبقهم، وقد سارع إلى الصوت على فرس لأبى طلحة ركبه النبى صلى الله عليه وسلم الشجاع القوى الأمين، والفرس عار، لا سرج عليه، وقد سبق عليه الصلاة والسلام والسيف فى عنقه، وقال لهم، وهو راجع: لن تراعوا» . وهكذا كانت شجاعة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كاملة فى كل ضروب الشجاعة. وإذا كان الحق يتكلم، ولا يجمجم، وفى الميدان يتقدم كل الصفوف، ولا يحجم، وفى النجدة هو السباق إلى مواطن الإغاثة فهو فى كل أحواله الشجاع، ولكن فى غير خيلاء، ولا مفاخرة، ولا استعلاء، بل هو فى هذه الداعى إلى الحق، وإلى صراط مستقيم. وقد روى عن أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: «فضلت الناس بشدة البطش» والمراد البطش بالظالم، وأخذه بالقوة بعد ألا تجدى الموعظة، ويخرج من طور الجاحد، المجرد إلى طور المعتدى الأثيم، الذى يحاول أن يفتن الناس فى دينهم والفتنة أشد من القتل. الرجل 167- إن سمات الرجال الخلقية والعقلية ينبيء عنها أو توميء إليها صفاتهم الجسمية، فأولئك الشواذ فى تكوينهم النفسى أو العقلى يبدو شذوذهم فى أجسامهم بضمور واضح مثلا فى عضلات الوجوه، أو اعوجاج فى بعض أجزاء جسومهم، واضطراب فى عيونهم، أو انحراف فى بعض الملامح، وإن ذلك يتضح كاملا، لأهل العلم بالأعصاب، والنفوس، والمتتبعين للمرضى من الشواذ. وإن اعتدال الجسم، وتناسب أجزائه يدل فى الجملة على استقامة العقول والنفوس، وإن المزاج النفسى يصحبه غالبا مزاج جسمى كامل، متناسق فى تركيبه الظاهر والداخل. فالعناصر المؤثره كلها متناسقة منسجمة انسجاما لا شذوذ فيه، ويكون معه انسجام نفسى كامل، وعقل كامل وخلق كامل.

ولقد وصف النبى صلى الله تعالى عليه وسلم النبيين فى حديث المعراج بما يدل على كمالهم الجسمى. وهو كمال فيه جمال. لا يكون ما يسوغ النفرة منهم أبدا. فقد روى سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وصف لأصحابه إبراهيم وموسى وعيسى. فقال: «أما إبراهيم فلم أر رجلا قط أشبه بصاحبكم. ولا صاحبكم أشبه به منه. وأما موسى فرجل ادم طويل ضرب جعد أقنى كأنه من رجال شنوءة «1» . وأما عيسى ابن مريم فرجل أحمر بين القصير والطويل سبط الشعر. كثير خيلان الوجه، كأنه خرج من ديماس. تخال رأسه يقطر ماء. وليس به ماء، أشبه رجالكم به عروة بن مسعود» . وإن هذه الأوصاف لأولئك الأنبياء الثلاثة، وهم من أولى العزم من الرسل، تدل على كمال التناسق الجسمى فيهم مع اختلاف فى الأوصاف الجزئية. واتفاقهم فى أصل التنسيق، وقد روى الدارقطنى من حديث أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن النبى عليه الصلاة والسلام قال: «ما بعث الله تعالى نبيا إلا حسن الوجه حسن الصوت. وكان نبيكم أحسنهم وجها وأحسنهم صوتا» (صلى الله تعالى عليه وسلم) . لم يكن بدعا من الأنبياء أن يكون كل ما عليه محمد، صلى الله تعالى عليه وسلم من الخلق والتكوين مسترعيا للأنظار، هو جميل فى جسمه، كما هو جميل فى خلقه، وإنه عندما تحدى قريشا بالقران الكريم، وعاب الهتهم، وبين بطلان عبادتها، ورأوا أبا طالب عمه فكلموه. وهو يحميه دونهم. أتوا بفتى نهد هو أجمل قريش فى زعمهم، ليكون ولدا لأبى طالب، ويسلم لهم محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام ليقتلوه، فرفض تلك المساومة على ابن أخيه، وقال فى تهكم لاذع «تعطونى ولدكم أغذوه لكم، وأعطيكم ولدى تقتلونه» وهذا الخبر يدل على أن محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم قد بلغ الكمال الجسمى، إذ سواه الله تعالى فأحسن خلقه. ولا شك أن ذلك التناسق الجسمى له أثره فى الدعوة، والاستجابة لها إذ كان مصحوبا بإشراق روحي، وإنه مما يروى فى ذلك أنه بعد أن تجاوبت الدعوة المحمدية فى الأصداء، وعرفت فى أرجاء الجزيرة العربية، وشاع خبر المكاذبين وهم الكثرة، كالشأن فى كل دعوة جديدة تجيء على لسان رجل يأتيهم بجديد لم يألفوه، فى هذه الأثناء قابل أعرابى محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام فراعه منظره، وإشراق وجهه، وتلألؤ النور فى جبينه، فسأله: من أنت؟ فقال: محمد بن عبد الله- صلى الله عليه

_ (1) الضرب الخفيف اللحم، والجعد المنكسر الشعر، والأقنى المرتفع قصبة الأنف، وشنوءة من الأزد، والادم ذو الحمرة المشرب بسمرة.

وسلم- فقال الرجل فى إيمان مدرك: أأنت الذى تقول عنه قريش إنه كذاب!! فقال الرسول الكريم: نعم. فقال الرجل: ليس هذا بوجه كذاب، ما الذى تدعو إليه؟ فذكر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم حقيقة الإسلام، فأعلن الأعرابى إيمانه. ولقد أكثر الواصفون لتكوين النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وجاء من طرق أنه كان فيه جمال يتلألأ وجهه إشراقا، ونختار من هذه الروايات وصفين جامعين: أحدهما وصف هند بن خديجة رضى الله تعالى عنه، وكان رجلا وصافا فيه دقة ملاحظة، وإدراك للصفات- وثانيهما- لأم معبد، ولنختر هذين الخبرين ففيهما الغناء. 168- حديث هند بن أبى هالة ربيب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم رواه الحسن بن على رضى الله عنهما، فقد قال الحسن أول سيدى شباب أهل الجنة: سألت خالى هند بن أبى هالة عن حلية رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وكان وصافا، وأنا أرجو أن يصف لى شيئا منه أتعلق به، فقال: «كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فخما مفخما يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر «1» أطول من الربوع «2» وأقصر من الشذب «3» ، عظيم الهامة، رجل «4» الشعر، إن انفرقت عقيقة «5» فرق، وإلا لا يجاوز شعره شحمة أذنه، ذا وفرة. أزهر «6» اللون، واسع الجبين، أزج الحواجب سوابغ فى غير قرن بينهما عرق يدره الغضب، أقنى «7» العرنين، له نور يعلوه يحسبه من لم يتأمله أشم، كث اللحية، سهل الخدين، ضليع «8» الفم أشنب، مفلج الأسنان، دقيق المسربة، كأن عنقه جيد دمية فى صفاء الفضة معتدل الخلق باديا متماسكا، سواء البطن والصدر، فسيح الصدر، بعيد ما بين المنكبين، ضخم الكراديس أبذر المتجرد، موصول ما بين اللبة والسرة بشعر يجرى كالخط، عارى الثديين والبطن مما سوى ذلك، أشعر الذراعين والمنكبين وأعالى الصدر، طويل الزندين، رحب الراحة شسن الكفين «9» والقدمين، سائل الأطراف سبط العضب خمصان «10»

_ (1) وخيلان جمع خال، وهو شام الوجه الذى يعطيه حسنا، فى الماء السائل. (2) أى أنه ربعة من الرجال أقرب إلى الطويل منه إلى القصير. (3) الشذب البائن الطول. (4) الشعر الرجل المرسل كأنه مشط. (5) العقيقة شعر الرأس. (6) الأزهر النير. (7) الأقنى السائل الأنف. (8) الضليع الواسع والمشنب رواق الأسنان، والمسربة، خيط الشعر بين الصدر والسرة، وسواء معناه سوى. (9) شسن الكفين والقدمين، أى أنهما ذواتا لحم، فليسا معروقين. والزندان عظما الذراعين، سائل الأطراف، أى أن أطرافه عليه الصلاة والسلام فخمة لا تعوج، بل إنها مستقيمة، ورحب الراحة أى واسع اليد. (10) خمصان الأخمصين: الأخمص وسط القدم الذى ينزل إلى الأرض، ولا تمسه، وخمصانهما أنه طويل، أى أنهما متباعدان.

الأخمصين، مسبح للقدمين، ينبو عنهما الماء. إذ زال تعلقا «1» ، ويخطو تكفؤا، ويمشي هونا، ذريع المشية، إذا مشى كأنما ينحط من صبب، وإذا التفت التفت جميعا، خافض الطرف، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، جل نظره الملاحظة، يسوق أصحابه، ويبدأ من لقيه بالسلام» . وإن هذا يدل على الجمال والكمال، جمال الرجولة، وكمال الإنسان، فكل ما فيه يسترعى الأنظار، ولا تنصرف عنه، ولذلك من لقيه ممن هو خالى الذهن، لا يتجه اليه بحقد أو حسد، أو ضغن يلتفت إليه، ويجد فيه مثلا كاملا للرجل، ومكانة عالية فى الخلق، والإشعار بالمودة، فهو لا يتقدم مباهيا، ولا يسبق معتزا، ولكن يسير وراءه متواضعا، متطامنا، ويلقى السلام على كل من يلقاه إشعارا له بالمودة والمحبة، حتى لا تسبق الجهامة، والمنافرة، فهو جميل التكوين والتنسيق فى جسمه مرضى اللقاء، بل محبوب اللقاء فى خلقه، وما قام بينه وبين أحد فى الجاهلية عداء، ولا كانت شحناء بينه وبين أحد منهم، ولا ملاحاة فى عصبية أو ما يشبهها من المشادات الجاهلية، بل كان الأليف المألوف، القريب إلى النفوس خصوصا النفوس المستقيمة التى لا التواء فيها ولا منافرة. وذلك فوق ما خصه الله تعالى به من جاذبية شديدة تعلن الطيبة، وتكشف عن خبيئة نفسه الطاهرة المسالمة التى لا تنافر ولا تغاضب، ولا تصخب. ولنقرأ وصفا، لامرأة مر عليها عابرا فى هجرته من مكة إلى المدينة، فقد قالت واصفة له. وقد سئلت عنه أم معبد: لقد مر محمد بن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم ومعه أبو بكر الصديق رضى الله تعالى عنه، ومولاه عامر بن فهيرة ودليلهم عبد الله بن أريقط الديلمي، فسألوها هل عندها لبن أو لحم يشترونه منها، فلم يجدوا عندها شيئا، وقالت: لو كان عندنا شيء ما أعوزكم القري، وكانوا ممحلين، فنظر عليه الصلاة والسلام إلى شاة فى كسر خيمتها فقال ما هذه الشاة يا أم معبد، فقالت: نحلها «2» الجهد، فقال عليه الصلاة والسلام أنأذنين لى أن أحلبها، فقالت إن كان بها حلب فاحلبها، فدعا بالشاة فمسحها، وذكر اسم الله، فكان فى حلبه منها ما كفاهم أجمعين، ثم حلبها، وترك عندها إناءها ملان. فلما جاء بعلها استنكر اللبن، وقال: من أين لك هذا يا أم معبد، ولا حلوبة فى البيت والشاء عازب!!. فقالت: لا، والله مر بنا رجل مبارك كان من حديثه كيت وكيت، فقال صفيه، فو الله إنى لأراه صاحب قريش الذى تطلب!!.

_ (1) التقلع، رفع الرجل بقوة، والتكفؤ، التزام طريقة الشئ، والقصد فيه، والهون الرفق. (2) المحل الجدب، ونحل يعنى ضعف وهزل.

أمور

فقالت: رأيت رجلا، ظاهر الوضاءة «1» حسن الخلق، مليح الوجه، لم تعبه ثلجة، ولم تزر به صلعة، قسيم وسيم، فى عينيه دعج، وفى أشفاره وطف، وفى صوته صحل، أحور أكحل، أزج أقرن فى عنقه سطح، وفى لحيته كثافة اذا صمت فعليه الوقار، واذا تكلم سما، وعلاه البهاء، حلو المنطق، فصل لا نزر ولا هذر، كأن منطقه خرزات نظم يتحدرن، أبهى الناس وأجملهم من بعيد، وأحلاهم وأحسنهم من قريب، ربعة لا تشنؤه عين من طول، ولا تقتحمه عين من قصر، غصن بين غصنين «2» ، فهو أنضر الثلاثة منظرا، وأحسنهم قدا، له رفقاء يحفون به، وإن قال استمعوا لقوله، وإن أمر تبادروا إلى أمره محفود، محشود، لا عابس ولا مفند «3» . 164- هذا وصف من رأوه، وهو يدل على ثلاثة أمور: [أمور] أولها: جمال تكوينه الجسمانى ، وكمال التنسيق بين أعضائه، حتى انه لو أراد مصور أن يضع صورة لرجل مكتمل الجسم، منسق الخلق، ما وجد خيرا من هذه الصورة التى يصورها من رأوها، وكان لها روعة عند كل من رأوها، يستوى فى ذلك من خالفه وعانده، ومن أطاعه وصدقه، فهى صفات لها أثرها عند الناظر إليه، وهى تزيدا لموافق تصديقا، وتثير الحقد والحسد، ومحبة الأذى عند من يعانده استكبارا، فإن المكابر يزداد إعناتا، كلما رأى عوامل التأييد لنقيض رأيه تزداد وضوحا وإعلاما، وخصوصا إذا كان صدقا ثابتا بالمعاينة، وليست خبرا يقبل الإنكار. وإن قريشا كانت تعلم فيه ذلك التكوين، ولذلك لما أرادت أن تعوض أبا طالب عن ابن أخيه قدمت له أنهد فتى فى قريش، ولكن أنى يكون من محمد بن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم نور الإنسانية ورسولها. الأمر الثانى- أن قلبه الطاهر كان يشع على وجهه بالنور ، فهو إذ يمشى يحف به النور الذى أضفاه الله تعالى عليه بتطهير قلبه، وتنوير نفسه بالخير، فكان كما قالت أم معبد «وضاء الجبين متلألئا بالنور، من غير استكبار ولا استعلاء، بل كان بين الناس متطامن النفس، دان إليهم، وهو فيهم كأحدهم، لولا فضل الرسالة، وما جعله الله تعالى له من مكان ليصل القول الطيب إلى أمته» . الأمر الثالث- شدة جاذبيته صلى الله تعالى عليه وسلم مع الهيبة التى تفرض قولها على الناس، ومع كمال المحبة واستشراف النفس المحبة إليه، أو النفس الخالية من ضغن أو حقد، أو إعنات فى المخالفة، فإن النفس التى تكون على هذه الشاكلة توجد فيها مقاومة للتأثير النفسى الذى يتجه إلى البراءة، وإنها

_ (1) الوضاءة الجمال، وأبلج الوجه معناه مشرق، والثلجة كبر البطن، والصعلة صغر الرأس، والقسيم والوسيم من سلامة التكوين، والدعج شدة سواد حبة العين، والوطف طول رمش العينين، والصحل بحة يسيرة تجعل للصوت تأثيرا. (2) غصنان هما الاثنان اللذان يحيطان به أبو بكر، والدليل. (3) محفود أى مخدوم، ومحشود معناه أن من معه يحيطون به، ومعنى عير مفند لا يجابه غيره بالتخطئة والمخالفة.

تكون مدنسة بالشر قد سكنها الشيطان وغلبت عليها وساوسه، فالقلب لا يصدق، ويكون ممن جحدوا بها، واستيقنتها أنفسهم، ولقد كان المشركون يعرفون قوة تأثيره الشخصية، فوق ما معه من حق وبينات تثبت صدق ما يأتي، ولذلك كانوا يسبقون إلى قبائل العرب ينفرونهم، لكيلا يؤثر فيهم بشخصه وقوله، وبينات الله تعالى التى أجراها على يديه، ونزل بها الوحى الإلهى. ومع كبر ما صنعوا، لم ينفر الناس من الاستماع إليه، والانعطاف، لأن الحق بين، والحجة قائمة، والداعى تنجذب إليه النفوس، وتصغى إليه أفئدة طلاب الحق الذى لا يمتارون فيه إن وجه إليهم ودعوا إليه. 170- وكان كل شيء فى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يعلن قوته وجماله وكماله، فكان فى شكله الشاب وقد تجاوز الستين من عمره، لم يكن فيه شيب. بل كان أسود الشعر، حتى عد الذين خالطوه من صحب وخدم شعرات شيبه فذكروا أنه لم يشب فى لحيته ورأسه إلا عشرون شعرة، وعدها خادمه أنس رضى الله عنه بأنها إحدى عشرة، حتى أنه كان يوصف بالشاب. وقد تجاوز الستين فى أصح الروايات عن سنه، وإذا كان تغيير فى بعض شعره ظن خضابا فإنه لم يكن خضابا، وإنما كان من كثرة ما يضمخ به شعره من مسك، فقد كان يحب الطيب، وقد روى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: «حبب إلى من دنياكم ثلاثة: النساء، والطيب، وجعلت قرة عينى فى الصلاة» . ونرى أنه عليه الصلاة والسلام جعل الصلاة من الدنيا، إذ وصفها مما حبب إليه من شئون الدنيا، لأن الصلاة مع جانبها الروحاني، ومع أن فيها ذكر الله تعالي، هى تصلح الدنيا، لأن الصلاة تربى الضمير، وترهف الوجدان، فتنهى عن الفحشاء والمنكر، وبذلك تصلح شئون الدنيا والاخرة معا. وإنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان حريصا على الطيب يتطيب به دائما، حتى أنه كان ينبعث عرف الطيب فى مجلسه، ولقائه، وفى مظاهر حسه، وكان إذا مس رأس طفل استمر العرف الطيب فى رأسه، وإنه ليعرف أن الرسول مر فلمس طفلا بالريح الطيب. ولا شك أن العرف الطيب تستروح به النفس، ويقبل معها الجليس، وتنجذب إليها النفوس، وإن الرائحة الكريهة تنفر، وتبعد. وكان عليه الصلاة والسلام يعنى بالنظافة فى المظهر، كما عنى بتطهير المخبر، كان يعنى بنظافة الحس، كما عنى بنظافة النفس، ولنترك الكلمة للقاضى عياض يبين ذلك.. فقد قال: وأما نظافة جسمه وطيب ريحه وعرفه، ونزاهته عن الأقذار، وعورات الجسد، فقد خصه الله تعالى بخصائص لم توجد فى غيره، ثم تممها بنظافة البشرة وخصال الفطرة وقال: «بنى الدين على النظافة..» عن أنس خادم رسول الله «ما شممت عنبرا قط، ولا مسكا ولا شيئا أطيب من ريح رسول الله

خاتم النبوة:

صلى الله تعالى عليه وسلم» . وعن جابر بن سمرة أنه صلى الله تعالى عليه وسلم مسح خده قال فوجدت ليده بردا وريحا، كأنما أخرجها من جونة عطار، قال غيره مسها بطيب. أولم يمسها.. يصافح المصافح فيظل يومه يجد ريحها، ويضع يده على رأس الصبى، فيعرف من بين الصبيان بريحها، ونام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى دار أنس، فعرق، فجاءت أمه بقارورة تجمع فيها عرقه، فسألها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن ذلك، فقالت نجعله فى طيبنا، وهو من أطيب الطيب. وذكر البخارى فى تاريخه الكبير عن جابر: لم يكن النبى عليه الصلاة والسلام يمر فى طريق، فيتبعه أحد، إلا عرف أنه سلكه من طيبه، وذكر إسحاق بن راهواه أن تلك كانت رائحته بلا طيب، صلى الله تعالى عليه وسلم، وروى المزنى عن جابر: «أردفنى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خلفه، فالتقمت خاتم النبوة بفمى، فكان ينم على مسكا» «1» . وهنا ننظر نظرة فيما رواه إسحاق بن راهواه، أو ذكره من غير رواية، وهو أن رائحته عليه الصلاة والسلام التى كانت طيبة كانت من غير تطييب، وإن ذلك بلا ريب جائز وممكن، فليست أمرا مستحيلا فى العقل ولا فى الشرع، فقد اختصه الله تعالى بخواص ليست فى كل الناس، والله أعلم حيث يجعل رسالته. ولكن ثبت بالرواية الصحيحة أنه عليه الصلاة والسلام كان يتضمخ بالطيب، وليس ذلك مما يعيبه، بل هو من المستحسن، وثبت أنه عليه الصلاة والسلام كان يقول أنه فيما حبب إليه من شئون الدنيا الطيب. ومهما يكن فإن محمدا عليه الصلاة والسلام كان حريصا على أن يكون ريحه طيبا، لكيلا يكون منه ما ينفر جليسه، بل يجذبه ويحببه. خاتم النبوة: 171- هذه الصفات الجسدية كلها صفات كمال وجمال، وقد يشاركه بعض الناس فى بعضها، ولكن لا يشاركونه فى كلها، فلديه صلى الله تعالى عليه وسلم صفة جسمية لا يشاركه فيها أحد، وهو جزء بارز بين كتفيه، وهو من نوع جسمه، وإن كان بارزا فيه، ويظهر من مجموع الروايات أنه كان صغيرا بحيث لا يظهر من وراء الثوب ناتئا نتوا واضحا، فقيل إنه كبيضة الحمام، وقيل إنه كالتفاحة، ولا بد أن يكون كالتفاحة الصغيرة، وقد قال سلمان الفارسي، أتيت النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فرأيت الخاتم بين كتفيه مثل بيضة الحمامة، وقد تكاثرت الروايات فى ذلك، حتى بلغ الخبر فى ذلك حد

_ (1) الشفاء ج 1 ص 40.

تقدمة صفات النبى صلى الله عليه وسلم.

المشهور المستفيض، وكأنه وصف جسدى معلم للرسالة، لا يمارى فيه من راه، ولله تعالى ايات فى خلقه. تقدمة صفات النبى صلّى الله عليه وسلّم. 172- المنهاج الذى يسلكه الكتاب فى السيرة العطرة، سيرة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم أن يكتبوا صفاته صلى الله تعالى عليه وسلم فى اخر سيرته الطاهرة، فلا يكتبوها قبل البعثة المباركة، ولكن يكتبونها بعد أن بلغ الرسالة، ومضى إلى لقائه الكريم. ونحن قد اخترنا أن نكتب تلك الصفات قبل تكليفه أداء الرسالة، لأنا رأينا- ونرجو من الله التوفيق أن نكتبها قبل البعثة، ليعلم القارىء من الذى كلفه الله أداء الرسالة، ومن الذى اختاره ليكون بشيرا ونذيرا للناس كافة عربهم وعجمهم، وليعلم الناس أنه لم يكن فى مجموع صفاته وكمالاته كسائر الناس، وإن كان من الناس، وأنه ليس ككل واحد من البشر بجموع أخلاقه وتكوينه؛ وإن كان منهم، فهو من الناس، ولكنه فى أعلى كمال الناس، وإذا كان ليس من الملائكة، فهو أعلى من الملائكة، أليق بالرسالة، وأجدر بها من الخلق أجمعين. وإنه بعد معرفة هذه الصفات وتعرفها، وانفراده بها من بين جيله، بل من بين الأجيال كلها، لا يستطيع أحد أن يقول: لماذا اختاره ربه دون عمرو بن هشام (أبى جهل) أو دون عمر بن الخطاب وهو من الأبرار، أو دون الصديق، وهو من الأطهار، أو دون علي، وهو من الأشداء الأبذال، لا يستطيع أحد أن يسأل: لم اختير دون هؤلاء أو غيرهم، لأن هذه الصفات الخلقية والجسمية لم تكن لأحد من هؤلاء، ولا من غيرهم، ولم يكن ذلك الإشراق المتلأليء الوضاء فى واحد منهم ولا من غيرهم، ولم يعرف لأحد من الناس الكمال فى الأخلاق إلا محمد بن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم. وإذا كانت تلك الصفات، وما اتاه الله تعالى من فضل، وما اختصه من رحمة هى التى جعلته مستأهلا لأن يحمل أمانة الرسالة دون غيره، فإنها تكون مقدمة للرسالة، ولا تكون نتيجة لها، والمقدمة بمقتضى المنطق والعقل تسبق النتيجة، وتمهد لها، والتمهيد لا يكون بعد المقصد، بل إنه يرشح له، وينيره، ويهدى إليه. وقد يقول قائل: إنك فى سبيل بيان صفاته الكريمة قد أتيت بأخبار عنها من بعد بعثه، واستشهدت له بعد إرساله رحمة للعالمين، وبذلك تقع فيما خالفته، وهو أنك ذكرت الصفات بعد البعثة، وموضعها قبلها على ما ذكرت من منطق!!

البشارات بالنبى المنتظر

ونقول فى الإجابة عن ذلك: «إننا استعنا بالأخبار التى وردت عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بعد الرسالة لأنها وضحت صفاته قبل الرسالة، ولأنها ذكرها من شاهد وعاين من بعد الرسالة، وهذه الصفات التى عاينها الذين آمنوا بمحمد صلوات الله وسلامه عليه، صفات ذاتية، لم تجيء بالرسالة، ولكنها كانت قائمة بذاته الطاهرة من قبلها، فما وصفه الجسدى حادثا بعد الرسالة، ولكنه كان من قبلها، واستمر بعدها، وما كان ما اتصف به من الأمانة والصدق، والعفة، والحلم، والعفو، بأخلاق عرضت له، ولكنها كانت ككل الملكات الذاتية لا تكون عارضة، ولكن تكون مستكنة تامة، وإن أخبار النبى عليه الصلاة والسلام ما كانت لتقوم عليها البينات النيرة الواضحة قبل الرسالة، وهو لم يكن له أصحاب يتبعون سيرته، ويدونون خليقته، ويهتمون بما كان عليه، وما كان من الممكن أن يتكشف للناس أمر هذه السجايا إلا بعد أن يختلط بهم، ويتقدم للدعوة لربه، ويلتقى بالقبائل، ويقرب المرافقين ويدنيهم، ويوجههم ويهداهم، ويصبر للمخالفين، ولا يلاحيهم، ويجادلهم بالتى هى أحسن، ويوطيء أكنافه لهم، وهو ليس فظا ولا غليظ القلب، فالأخبار التى استشهدنا بها لإثبات صفاته، وما كان عليه من خلق ذاتي، ما كانت الرسالة منشئة لها، ولكنها كاشفة الغطاء عنها، معرفة لها، وهى ذاتية قد هيأته لأن يكون المبعوث رحمة للعالمين، يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ «1» . البشارات بالنبى المنتظر 173- كان العالم يموج بفتن مادية، فالحرب كانت قائمة على قدم وساق بين الفرس والرومان، ومن قبل عصر نبوة عيسى انسابت الجيوش اليونانية بقيادة الإسكندر المقدونى وراء فارس، حتى وصلت إلى الصين، وقد كان العصر من بعد عيسى عصر الاضطهاد الديني، اضطهد النصارى ابتداء، ومكث اضطهادهم زهاء ثلاثة قرون لقوا فيها من الرومان واليهود أشد ما يلاقى ذو اعتقاد فى اعتقاده، وذو إيمان فى إيمانه، حتى أن نيرون أحد أباطرة الرومان كان يطليهم بالقار، ويشعل النار فيهم، ويسير فى موكبه تحيط به تلك المشاعل الإنسانية لهؤلاء المؤمنين الصادقين فى إيمانهم الذين لم يغيروا ولم يبدلوا، وقبلوا العذاب الهون، وتوقعوه، ورفضوا أن يغيروا فى سبيل دنيا يصيبونها، أو دفع عذاب ليتقوه. وكانت مصر من أول البلاد التى دخلت فى النصرانية الأولي، ولم يغيروا ولم يبدلوا، ولذلك كانوا أشد البلاد تعرضا لأذى الرومان الذين كان سلطانهم مفروضا عليها وعلى الشام، وجاء إليهم العذاب الشديد فى عهد دقلديانوس، وذبحت فيهم مذابح سجلها التاريخ، وأرخ بها التاريخ القبطى مسجلا تلك المذابح، يذكر الرومان بما يعود عليهم بالخزى والعار، ويذكر المصريين الأولين بالافتخار، ويذكر المتأخرين من الأقباط بالاعتبار.

_ (1) سورة ال عمران: 74.

ولما دخل قسطنطين إمبراطور روما فى النصرانية فى الثلث الأول من القرن الرابع، كان ذلك سبيلا لسيطرة الانحراف فيها، وانتقل الاضطهاد من النصارى إلى اليهود فأذيقوا من العذاب كئوسا وشربوا منه، ثم جاء من بعد ذلك لون اخر من الاضطهاد، ذلك أن كنيسة روما خالفت كنيسة مصر فى بعض جزئيات عقائد النصرانية بعد أن انحرفت من الواحدانية إلى التثليث وانقلب الاضطهاد إلى داخل النصارى أنفسهم، فكان منهم الملكانيون الذين تتمثل فيهم عقيدة روما، واليعقوبيون الذين تتمثل فيهم عقيدة المصريين. وكان ذلك الاضطراب فى العقيدة النصرانية التى حرفت، ثم انتهاؤه إلى أمر غير معقول فى ذاته، من قيل أن المسيح ابن الله، وأنه نزل إلى السموات العلا حيث الله أبوه، وتجسد إلى الأرض لتغفر خطيئة ادم لعصيانه ربه وأكله من الشجرة، فكان غريبا أن يكون تكفيرا للمعصية الأولى بالأكل بمعصية أشد وأوغل، هى قتلهم ولد الله فى زعمهم، والعقل لا يعلم ولا يدرك أن معصية أشد فى حق الله تكون تكفيرا لمعصية أقل، بل لخطأ جاء تضليلا من عدو أثيم. ومن غرائب تلك العقيدة أنها تحاول الجمع بين الواحدانية والتثليت فيصعب التصوير، ولكن مع ذلك يصدقون على ريب من مفكريهم، وتسليم من عوامهم. 174- والعرب كانوا فى حيرة أشد، وإن كانت حياتهم لا تمكنهم من التأملات فى العقائد، ولعلهم لو تأملوا، ولم يغلب الاتباع، وقولهم إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ، وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ «1» لكانوا قادرين على الوصول إلى الصواب، أو على الأقل منهم من يصل، كما فعل الحنفاء، وأنهم كانوا قبل البعثة عددا محدودا. لقد كانت حياتهم مضطربة بين توحيد جزئي، ووثنية جانبية، لقد كانوا يتبعون إبراهيم ويعتقدون أن الله واحده هو خالق الكون ومنشئه ومدبره، فاعترفوا بذلك بواحدانية الخلق والتكوين، ولكن مع ذلك أشركوا معه فى العبادة أحجارا لا تنفع ولا تضر، يزعمون أن العبادة لها تجعل منها شفعاء يشفعون. ثم كانت البشائر بأن نبيا سيبعث كان يتردد فى البلاد العربية، كان يجرى على ألسنة بعض العرب، كما يروى عن قس بن ساعدة الإيادى أنه ذكر فى إحدى خطبه أن نبيا قد أدركهم زمانه، وان اوانه. وأن البلاد العربية، وخصوصا الحجاز كانت يتجاوب فيها ذكر احتمال رسول مبعوث، تذاكره كثيرون ممن كانت لهم دراسات للديانات، مثل ما جاء على لسان قس بن ساعدة الانف الذكر، ولعله يوميء إلى أن له صلة بالنصرانية وخصوصا أنه ثبت فى القران، أن التبشير بالنبى محمد الأمى عليه الصلاة والسلام مذكور فى التوراة والإنجيل، كما قال الله تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ «2» .

_ (1) سورة الزخرف: 23. (2) سورة الأعراف: 157.

وقال تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ، رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً، سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ، ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ، وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ «1» . وقال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ، قالَ: أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي، قالُوا أَقْرَرْنا، قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ «2» . وقال تعالى فى بشارة عيسى عليه السلام بمحمد النبى الأمين صلّى الله عليه وسلّم: وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ، مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ، وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ «3» . وهكذا نجد النصوص القرانية الكثيرة التى جاء فيها أن محمدا عليه الصلاة والسلام ذكر فى التوراة والإنجيل، وقد أشرنا إلى ذكره فى كل الديانات القديمة قبل تحريفها، حتى البراهمة والزرادشتية قبل التغيير والتبديل فيها. ويهمنا أن نعرف ذكر التوراة لمحمد عليه الصلاة والسلام. 175- وقد وجدنا النصوص فى التوراة حتى بعد تحريفها، وبعد أن نسوا حظا مما ذكروا به توميء أو تشير بإشارة واضحة تكاد تكون عبارة لا إشارة- مبشرة بنبى الله تعالى محمد بن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وإليك ذلك النص الذى يكاد يكون صريحا، ولكنه نص فى دلالته، سواء أكان بالإشارة أم بالعبارة: «جاء الله من سينا، وأشرق من ساعير، واستعلن من فاران (أى مكة المكرمة) . وقد فسر ابن ظفر من كتاب المسلمين فى السيرة الطاهرة، معنى النص فقال: مجيئه من سينا تكليمه لموسي، وإشراقه من ساعير- وهى جبال فلسطين إنزاله الإنجيل على عيسي، وبالقرب من هذه الجبال قرية الناصرة، حيث ولد عيسى عليه الصلاة والسلام، واستعلن من جبال فاران وهى جبال مكة، إنزال القران «4» » .

_ (1) سورة الفتح: 29. (2) سورة ال عمران: 81. (3) سورة الصف: 6. (4) خبر البشر، لابن ظفر ص 9.

ونرى من هذا أن الرموز كانت للأماكن، وبتبيين الرسل الذين بعثوا فيها، ومجيء الرب بالبداهة هو مجيء رسالاته، فإن الله تعالى لا ينزل بذاته انما تنزل هدايته، ويجيء أمره ونهيه على ألسنة رسله، وقد ذكرت أماكن ثلاثة هى سينا، وقد جاء من طريقها كليم الله تعالى موسى عليه الصلاة والسلام ومجيء رسالة الله تعالى إلى فلسطين حيث ولد سيدنا عيسى عليه السلام بالناصرة، من فلسطين انبعث نور رسالته عليه السلام، ومجيء رسالة الله من فاران حيث مكة المكرمة زاد الله تعالى نبيها تشريفا وتعظيما. كانت هى ما نزل على محمد بن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم. ويقول صاحب كتاب خير البشر فى بيان تبشير التوراة بالنبى محمد عليه الصلاة والسلام: قرأت فى ترجمة للتوراة لموسى عليه السلام، جاء فيها، والله ربك مقيم نبيا من إخوتك، فاستمع له كالذى سمعت ربك فى حوريب يوم الاجتماع حين قلت: «لا أعود أسمع صوت ربى لئلا أموت، فقال الله تعالى لى. نعم ما قالوا. وسألتم لهم نبيا من إخوتهم، وأجعل كلامى فى فمه، فيقول لكم كل شيء امره به وأيما رجل لم يطع من تكلم باسمى فإنى أنتقم منه» . ونلاحظ هنا أنه ذكر أن الرسول سيكون من إخوة بنى إسرائيل، لا منهم، ولا تكون هذه الأخوة إلا من بنى إسماعيل، أخى إسحاق الأكبر، فإن هؤلاء هم الذين يقال لهم إخوة، وعيسى ومن قبله داود، وسليمان وغيرهما، لا يقال لهم إخوة بنى إسرائيل إنما يقال عنهم أبناء إسرائيل، لأنهم من يعقوب ابن إسحاق، ويقول صاحب كتاب (خير البشر) «قوله أجعل كلامى فى فمه، واضح فى أن المقصود به محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، لأن معناه أن الله تعالى يوحى إليه بكلامه (أى الله) فينطق به، أى يوحى إليه بالقران فينطق به» «1» . 176- وإذا كانت هذه الإشارات الواضحة في التوراة، فإن في الإنجيل مثلها، بل ما هو أكثر وضوحا منها، فقد ورد التبشير، بالبارقليط في الإنجيل، وإن الترجمة الحرفية لهذه الكلمة العبرية هي أحمد، فهو مطابقة من حيث المعني التبشيرى بأحمد، وقد جاء القران الكريم بالذي بشر به عيسي عليه السلام اسمه أحمد، إذ قال سبحانه: «ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد» وقد جاء في الأناجيل علي لسان عيسي عليه السلام: «إن أجبتموني فاحافظوا وصيتي، وأنا أطلب إلى أبي فيعطيكم بارقليط اخر يكون معكم الدهر كله» .

_ (1) راجع السيرة العطرة- للأستاذ عبد العزيز خير الدين، وخير البشر لابن ظفر ص 11.

فهذا النص يبين أن الله تعالى سيبعث من بعده رسولا هو أحمد، يقوم بتبليغ رسالة ربه، كما يقوم عيسى عليه السلام، وأن شريعته باقية مع الدهر، أى أنها خالدة لا شريعة بعدها، وأن صاحبها هو خاتم النبيين. والتعبير بالأب من تحريف النصارى لمعنى الله بعد أن غيروا وبدلوا فهو مأخوذ من الإنجيل بعد أن حرفت الديانة عن موضعها، ومع ذلك فإن كثيرين كانوا يفسرون البنوة بأنها بنوة النعمة والمحبة، كما يقول اليهود نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ «1» . وقد جاء فى الأناجيل بعد تحريف الديانة النصرانية «إن هذا القول الذى سمعتموه ليس هو لى بل للاب الذى أرسلنى لكم بهذا، وأنا معكم، فأما البارقليط روح القدس الذى يرسل أبى باسمى، فهو يعلمكم كل شيء، ويذكركم جميع ما أقول لكم» . ولعل الغرابة فى أن تسمى رسالة محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام أنها باسم المسيح، وأنها محرفة بلا ريب، ومهما يكن فليس المراد بالاسمية أن تكون دعوة محمد صلى الله عليه وسلم صورة كاملة لدعوة المسيح، إنما المراد الموافقة فيما يكون دعوة للمسيح بالواحدانية، وأن دعوة محمد عليه الصلاة والسلام، هى ما كان يدعو إليه، وما يتفق مع قوله، كما قال الله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ، ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ، وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ، وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ. كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ «2» وروى أن عيسى عليه السلام قال فى «البارقليط الذى أرسل إليكم من عند أبى روح الحق الذى يخرج من الأب فهو يشهد لى، وأنتم تشهدون لى أيضا لكينونتكم معى من أول أمرى» وهذا صريح فى أن محمدا عليه الصلاة والسلام يشهد الكتاب الذى أنزل عليه وهو القران بأنه مصدق لما بين يديه من التوراة والإنجيل، وقد سمى القران بحق روح الحق، وقد سمى كذلك كما قال الله تعالى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا «3» . وجاء فى الأناجيل أيضا: «البارقليط لا يجيئكم ما لم أذهب، فإذا جاء وبخ العالم على الخطيئة، ولا يقول من تلقاء نفسه، ولكنه يسمع ما يكلمهم به، ويسوسهم بالحق، ويخبرهم بالحوادث والغيوب «4» » .

_ (1) سورة المائدة: 81. (2) سورة الشورى: 13. (3) راجع السيرة العطرة ونهاية الأرب ج 16 ص 110، وخير البشر. ر الاية من سورة الشوري: 52. (4) نهاية الأرب، والسيرة العطرة.

وأن فى هذا النص وصفا للنبى عليه الصلاة والسلام بعينه من بين الرسل، وذلك الوصف هو قوله: «ويسوسهم بالحق» ولا شك أن رسالة محمد عليه الصلاة والسلام، لم تقتصر على بيان الحقائق الإلهية التى بعث بها عليه الصلاة والسلام، بل ساس الناس لتطبيقها، فأنشأ دولة، وطبق النظم القرانية تطبيقا دقيقا سليما، وإن هذه صفة كاملة لرسالة محمد عليه الصلاة والسلام، وعمله. وإن كلمة البارقليط التى جاءت فى هذه النصوص قال علماء العبرية أن ترجمتها الحرفية كما أسلفنا أحمد، وهى فى معناها الذى يعرف السر، والحكمة، وهو قد بلغ أقصى الحمد لهذا. 177- ولقد نقل بعض الكتاب الفضلاء «1» عبارات من كتب العهد القديم، عن الزبور الذى جاء به داود عليه السلام، وأشعياء، وشمعون، وحزقيل. (أ) ومما جاء فى مزامير داود «اللهم اجعل جاعل السنة يحيا» . وجاء فيه، «إنه اذا جاءت الرحمة على شفتيك من أجل ذلك أبارك عليك إلى الأبد، فتقلد السيف، فإن بهاءك وحمدك الغالب، واركب كلمة الحق، فإن شرائعك مقرونة بهيبة يمينك، والأمم يخرون تحتك» . ولا شك أن دلالة هذه النصوص على التبشير بمحمد عليه الصلاة والسلام وليست هذه الإشارة بينة، كبيانها فى النقول السابقة عن توراة موسى، وإنجيل عيسى عليهما السلام، ولكنها قد تدل بالاقتضاء، لا بالإشارة المجردة، لأن الذى أحيا السنة وهى عبادة الله تعالى واحده، إذ هى الطريقة القويمة هو محمد عليه الصلاة والسلام، بعد أن حرفت النصرانية، إلى انحراف التثليث. وفى النص كانت الدلالة بالتضمين أيضا، إذ وصف فيه من يباركه الله تعالى بأن شريعته تقرن بهيبة يمينه، وإن شريعة محمد عليه الصلاة والسلام تأمر بدفع الباطل بما تحمله اليمين وهو السيف، ولم تكن شريعة عيسى عليه السلام كذلك، إنما كان يغلب التسامح، ولم يحمل سيفا، ولم يدع الحواريين إلى حمل السيف، بل الذى حمل السيف الذى يشير إليه نبى الله داود، ووضع الباطل تحت الأقدام، وخر الجبابرة تحت الشريعة الإسلامية في عهده، وعهد الحواريين من أصحابه هو محمد عليه الصلاة والسلام. ولقد جاء فى الزبور عبارة لعلها أصرح من هذه العبارة فى سلطان شريعة محمد عليه الصلاة والسلام، وهذا نصها «فإذا جاز من البحر إلى البحر، ومن عند الأنهار إلى منقطع البر، وخر أهل الجزائر على وجوههم كبهم ولحس أعداؤه التراب، وجاءته الملوك بالقرابين، ودانت له الأمم بالطاعة، لأنه يخلص

_ (1) هو ابن ظفر فى كتابه خير البشر- ص 14 و 96.

ما كان يروج بين العرب من اخبار نبي يرسل

الضعيف المغلوب البائس، ويقوى الضعيف الذى لا ناصر له، ويرحم المساكين، ويصلى، ويبارك عليه فى كل وقت، ويدوم ذكره إلى الأبد» . وقد كان ذلك الكلام عن رجل يجيء فى المستقبل ولا شك أن هذه الأعمال لم يعملها بعد داود وسليمان إلا محمد سيد البشر عليه الصلاة والسلام، فهو ذكر هنا عليه الصلاة والسلام بالوصف، لا بالاسم كما جاء فى الإنجيل. 178- وجاء فى كتاب أشعياء عليه السلام قوله: «عبدى الذى سرت به نفسى أنزل عليه وحيى، فيظهر فى الأمم عدلى، ويوصيهم بالوصايا، لا يضحك، ولا يسمع صوته فى الأسواق، يفتح العيون العور، والاذان الصم، ويحيى القلوب الغلف، وما أعطيه لا أعطى أحدا مشقح «1» بحمد الله حمدا جديدا، يأتى من أقصى الأرض تفرح البرية وسكانها، يهللون الله على كل شرف، ويكررونه على كل رابية، لا يضعف ولا يغلب، ولا يميل إلى الهوى، ولا يذل الصالحين الذين هم كالقصبة الضعيفة، بل يقوى الصديقين، وهو نور الله الذى لا يطفأ، على كتفيه علامة النبوة» . ويلاحظ على هذه البشارة أن الوصف فيها يكاد يكون عينيا، لا فى شريعته فقط بل فى أخلاقه وسيرته عليه الصلاة والسلام، فهو يذكر أعمال النبى عليه الصلاة والسلام، وسجاياه، كأنه راها، ثم يصف جسمه فيذكر علامة النبوة بين كتفيه، وهو خاتم النبوة الذى ذكرناه انفا. ثم هو يذكر الاسم النبوى بما يقرب من البارقليط، فهو يقول مشقح، ومعناها محمد صلى الله عليه وسلم، كما أن معنى البارقليط أحمد وكلاهما من أسمائه عليه الصلاة والسلام. وجاء فى كتاب شمعون «جاء الله تعالى بالبينات من جبال فاران، وامتلأت السموات والأرض من تسبيحه وتسبيح أمته» وهنا تعيين له بالمكان، فجبال فاران هى جبال مكة، ولم يكن بعد إبراهيم فى مكة المكرمة وبين جبالها سوى محمد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو تعريف ليس بالاسم ولا بالوصف، ولكن بتعريف المكان. ما كان يروج بين العرب من اخبار نبي يرسل 179- راجت فى البلاد العربية، وخصوصا حول مكة المكرمة والمدينة المنورة أقوال تذكر أن نبيا يبعث فى هذا الزمان، وروج ذلك النصارى الذين كانوا منبثين فى الجزيرة العربية، ويقيم كثيرون منها فى أطرافها، وكانوا يتناقلونها من الشام فى رحلتهم إليها تجارا، إذ يرون الرهبان منبثين فى الأديرة، ويلتقون بهم الفينة بعد الفينة.

_ (1) المشقح فى لغة العبرانيين: الحمد.

واليهود فى المدينة كانوا يذكرون ذلك متحدين به الوثنيين الذين يجاورونهم، وكانوا يستفتحون به المشركين، زاعمين أنه سينصره عليهم، ويؤيد دينهم الذى يذكرون ذلك اخذيه من إشارات كتبهم. التى كانت مفسرة عندهم، حتى صارت علما توارثوه عن أسلافهم، وهو فى مطوى التركة التى أخذوها عنهم، مع أن اليهود عرفوا بأنهم يكتمون ما أنزل الله تعالى عليهم ليكون العلم حكرا عليهم، ويمكنهم من أن يكذبوا على الناس مدعين أنهم أبناء الله تعالى وأحباؤه، مع هذا يتناثر من أقوالهم ما يدل على أن نبيا من أبناء عمهم إسماعيل عليه السلام سيبعث. وإذا كانت الأثرة هى التى حملتهم على كتمان ما أنزل الله تعالى عن غيرهم، فالأثرة أيضا هى التى حملتهم على التحدث بخبر النبى المنتظر المكتوب عندهم فى التوراة، لأنهم كانوا فى حرب مع الأوس والخزرج الذين يجاورونهم، فكانوا يذكرون أمر النبى لهم لا ليعلنوا الحقائق، ولكن ليتغلبوا عليهم بما يسمى فى عصرنا الحرب النفسية التى تقارن الحرب المادية، لينالوا الفوز والغلب، وليتم لهم التعالى عليهم، وإعلان الاستهانة بهم ولإنذارهم بأن المستقبل معهم، وفى ذلك إلقاء بالرعب. وقد حكى القران الكريم عنهم ذكرهم لمن كانوا يجاورونهم أمر النبى المنتظر، فقال الله تعالى: وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا، فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ، فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ. بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ، فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ، وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ «1» . ولقد كانت نجران مملوءة بالنصارى ويظهر أنهم لم يكونوا كنصارى أوربا فى الماضى أو الحاضر، بل كانت فيهم بقية من نصرانية المسيح، ولقد كانوا بعد البعث المحمدى أقرب إلى المسلمين من اليهود والمشركين، فقد قال تعالى فيهم: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى، ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ. وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ، يَقُولُونَ: رَبَّنا آمَنَّا، فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ. وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ، وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ «2» . كان ينبعث من بين هؤلاء صوت قوى يخبر بأن نبيا قد ان أوانه، والناس يعيشون فى زمانه، ويظهر أنهم كانوا من بقايا المواحدين الذين لم يثلثوا، فإنه على تعاقب الأزمان كان ثمة مواحدون، وإن كانوا

_ (1) سورة البقرة: 89، 90. (2) سورة المائدة: 82- 84.

يتناقصون قرنا بعد قرن، إن عبارات القران الكريم تنبيء عن ذلك فى قصة النصارى الذين حكم سبحانه بأنهم أقرب الناس مودة للذين آمنوا بجوار العداوة المستحكمة التى أعلنها المشركون، واليهود الذين كانوا أعداء للناس جميعا. وإنه ليروى التاريخ فى أخباره المتضافرة، والسيرة الطيبة الطاهرة، أنه لما كان اضطهاد المشركين للمؤمنين عقب مجاهرة النبى عليه الصلاة والسلام بدعوة الحق كانت الهجرة إلى الحبشة. وقد لقى المسلمون ترحابا وإكراما من ملكها. ولقد ثبت أن النجاشى ملك الحبشة كان مواحدا، وأنه يرى فى عيسى ابن مريم وأمه، ما نص عليه القران الكريم، وأنهما لم يكونا إلهين من دون الله. 180- ولقد سرت فكرة التنبؤ برسول قريب زمانه إلى قريش وما حول مكة المكرمة، ولقد وجد أربعة من قريش أنكروا تأثير الأوثان بالنفع والضرر، واستنكروا عبادتها وثبت أن هؤلاء الأربعة، منهم ورقة بن نوفل وعبد الله بن جحش، وعثمان بن الحويرث، وزيد بن عمرو بن نفيل. وقد خلصوا نجيا من عبادة الأوثان، وقد قال بعضهم لبعض: «تعلموا والله، ما قومكم على شيء. لقد أخطأوا دين إبراهيم، ما حجر نطيف به، لا يسمع ولا يبصر، ولا يضر ولا ينفع، يا قوم التمسوا لأنفسكم دينا، فإنكم والله ما أنتم على شيء» . وقد دخل المسيحية اثنان منهم هما ورقة بن نوفل، وعثمان بن الحويرث، وقد قصد إلى قيصر فتنصر، وكانت له منزلة حسنة عنده. وأما عبد الله بن جحش، فقد بقى محيرا ملتبسا عليه، حتى جاء الإسلام. وزيد بن عمرو بن نفيل برم بمكة المكرمة وأهلها، وأخذ يتنقل فى بلاد العرب متعرفا دين إبراهيم، وأخيرا أخذ ينتظر النبى كما أخبره بعض النصارى، وفى سيرة ابن هشام ما نصه: «خرج (أى زيد بن عمرو) يطلب دين إبراهيم عليه السلام، ويسأل الرهبان والأحبار حتى بلغ الموصل والجزيرة كلها، ثم أقبل فجال الشام كله حتى انتهى إلى راهب بميفعة من أرض البلقاء «1» كان ينتهى إليه علم أهل النصرانية فيما يزعمون، فسأل عن الحنيفية، دين إبراهيم، فقال إنك لتطلب دينا ما أنت بواجد من يحملك عليه اليوم، ولكن قد أظل زمان نبى يخرج من بلادك التى خرجت منها يبعث بدين إبراهيم الحنيفية، فالحق بها، فإنه مبعوث الان، هذا زمانه، وقد كان شام اليهودية والنصرانية، فلم يرض شيئا منهما، فخرج سريعا حين قال له الراهب ما قال يريد مكة المكرمة، حتى إذا توسط بلاد لخم عدوا عليه فقتلوه.

_ (1) الميفعة: المرتفع من الأرض، والبلقاء كورة بجوار دمشق.

وقد رثاه رفيقه ورقة بن نوفل «1» بقصيدة جاء فيها: رشدت وأنعمت ابن عمرو وإنما ... تجنبت تنورا من النار حاميا بدينك ربا ليس رب كمثله ... وتركك أوثان الطواغى كما هيا وإدراكك الدين الحنيف، طلبته ... ولم تك عن توحيد ربك ساهيا فأصبحت فى دار كريم مقامها ... تعلل فيها بالكرامة لاهيا هذا بعض رثاء ورقة بن نوفل فى القصيدة المنسوبة إليه فى أصح الروايات، وهى تدل على أن ورقة وصاحبه كانا مع إنكار هما للوثنية يؤمنان بالبعث ويوم القيامة. 181- وإن ورقة بعد أن دخل فى النصرانية، وعلم علمها، وأسرار كتبها، ودرس الأديان، ووازن بين حقائقها كان يعرف أن الزمان الذى كان يعيش فيه هو زمن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، بل إنه حكم بأن محمدا صلى الله عليه وسلم هو النبى المنتظر، واستبطأ ظهوره. وقد روى فى ذلك ابن إسحاق أن خديجة بنت خويلد ذكرت لورقة بن نوفل الذى كان نصرانيا وكان قد تتبع الكتب، وعلم من علم الناس ما ذكر لها غلامها ميسرة من قول الراهب نسطورا الذى ذكر أن أوصاف النبى عليه الصلاة والسلام تبين أنه تبين أنه النبى المنتظر، فقال لها ورقة: لئن كان هذا حقا يا خديجة إن محمدا صلى الله عليه وسلم لنبى هذه الأمة، وقد عرفت أنه كان لهذه الأمة نبى ينتظر هذا زمانه، فجعل ورقة يستبطىء الأمر، ويقول: حتى متى؟ وقد قال فى ذلك قصيدة جاء فيها: لججت وكنت فى الذكرى لجوجا ... لهم طالما ما بعث النشيجا ووصف من خديجة بعد وصف ... فقد طال انتظارى يا خديجا سطن المكتين على رجائى ... حديثك أن أرى منه خروجا ويظهر فى البلاد ضياء نور ... يقوم به البرية أن تموجا فيلقى من يحاربه خسارا ... ويلقى من يسالمه فلوجا فيا ليتنى اذ ما كان ذاكم ... شهدت وكنت أولهم ولوجا «2» هذا كلام ورقة عندما خبرته ابنة عمه خديجة عن حال محمد بن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وكان ذلك عقب إخبار ميسرة غلامها عندما صاحبه فى رحلته إلى الشام فى التجارة فى

_ (1) سيرة ابن هشام ج 1 ص 232. (2) البداية والنهاية ح 2 ص، 297.

علم النبوة عند سلمان الفارسى قبل أن يلقاه:

مال خديجة. وكان ذلك قبل أن يتم الزواج بينهما، بل كان والزواج يساور فكرتها ولم يمتد إلى تفكيره هو إلا من بعد ذلك. علم النبوة عند سلمان الفارسى قبل أن يلقاه: 182- وإن ما تضافرت الصحاح عليه فى قصة إسلام سلمان الفارسى، وكيف علم بأمر بعث النبى عليه الصلاة والسلام قبل أن يلقاه، وكان إذ لقيه لا غاية له إلا أن يعرفه بالأوصاف التى ذكرت له قبل أن يلقاه، بل قبل أن يبعث صلى الله تعالى عليه وسلم، وخلاصة القصة كما جاءت فى الصحاح أن سلمان رضى الله تبارك وتعالى عنه كان فارسيا من أهالى أصبهان، كان أبوه دهقان القرية «1» ، وكان أثيرا عند أبيه حريصا عليه، وقد درس المجوسية حتى كان خادم نارها الذى يوقدها، ولا يتركها، وكان أبوه ذا ضيعة عظيمة ... ويقول رضى الله عنه: «فخرجت أريد ضيعته التى بعثنى إليها، فمررت بكنيسة من كنائس النصارى، فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون، وكنت لا أدرى ما أمر الناس، فلما سمعت أصواتهم دخلت عليهم أنظر ماذا يصنعون، فلما رأيتهم أعجبتنى صلاتهم، ورغبت فى أمرهم، وقلت: هذا والله خير من الدين الذى نحن فيه، فو الله ما برحتهم حتى غربت الشمس، وتركت ضيعة أبى، فلم أذهب إليها ثم قلت لهم: أين أصل هذا الدين؟ قالوا: بالشام، فرجعت إلى أبى وقد بعث فى طلبى، وشغلته عن عمله كله، فلما جئته قال: أى بنى أين كنت؟ فقلت له: يا أبت مررت بأناس يصلون فى كنيسة لهم، فأعجبنى ما رأيت من دينهم فو الله مازلت عندهم حتى غربت الشمس. قال: يا بنى، ليس فى ذلك الدين خير، ودينك ودين ابائك خير منه، قلت له: كلا والله إنه لخير من ديننا. قال فخافنى فوضع فى رجلى قيدا، ثم حبسنى فى بيته» ويظهر أن سلمان استطاع أن يخلص نجيا من قيده، فقد قال: «بعثت إلى النصارى، فقلت لهم إذ اقدم عليكم ركب من الشام، تجار من النصارى، فأخبرونى بهم إذا قضوا حوائجهم، وأرادوا الرجعة إلى بلادهم فاذنونى بهم، فلما أرادوا الرجعة ألقيت الحديد من رجلى، ثم خرجت معهم، حتى قدمت الشام، فلما قدمتها قلت: من أفضل أهل الدين علما؟ قالوا الأسقف فى الكنيسة. فجئت إليه فقلت له إنى قد رغبت فى هذا الدين فأحببت أن أكون معك، أخدمك فى كنيستك وأتعلم منك وأصلى معك، فدخلت. ويذكر سلمان أنه كان رجل سوء يأمر بالصدقة ويرغب فيها، ثم يكتنز ما يجمعه لنفسه ولا يعطيه المساكين، حتى جمع سبع قلال من الذهب، وأنه يبغضه بغضا شديدا لصنعه، ولما مات واجتمع النصارى ليدفنوه ذكر لهم سلمان ما صنع، ودلهم على مكان كنزه، فصلبوه، ورموه بالحجارة.

_ (1) الدهقان هو شيخ القرية العارف بأمور وأمور زراعها.

انتقل من بعد ذلك سلمان إلى خدمة أسقف صالح، كان يدأب على العبادة ليلا ونهارا، فأقام معه زمنا طويلا، ولما حضرته الوفاة استوصاه سلمان وقال له: «إلى من توصى بى، وبم تأمرنى؟ قال: بنى والله ما أعلم أحدا على ما كنت عليه فقد هلك الناس وبدلوا، وتركوا أكثر ما كانوا عليه إلا رجلا بالموصل فالحق به» . لحق سلمان بصاحبه بالموصل، فوجده على خير عظيم، ولما حضرته الوفاة قال له: «إلى من توصى بى وبم تأمرنى: قال: يا بنى والله ما أعلم رجلا على ما كنا عليه إلا رجلا بنصيبين «1» » . ولما ذهب إلى رجل نصيبين وحضرته الوفاة دله على رجل بعمورية سافر إليه، ووجده خير رجل وأقام عنده خير إقامة، واتجه إلى الاكتساب فاكتسب بقرات وغنما، ولما حضرته الوفاة قال له بمن توصى بى وبم تأمرنى. «قال أى بنى، والله ما أعلم أحدا أصلح على مثل ما كنا عليه من الناس امرك أن تأمنه ولكنه أظل زمان نبى، وهو مبعوث بدين إبراهيم عليه السلام، يخرج بأرض العرب، مهاجره إلى أرض بين حرتين «2» بينهما نخل به علامات لا تخفى، يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة، وبين كتفيه خاتم النبوة، فإن استطعت أن تلحق به بتلك البلاد فافعل» . وقد شد سلمان رحيله إلى وادى القرى، ثم إلى المدينة، إذ مر به نفر من تجار كلب، فقال لهم احملونى إلى أرض العرب، وأعطيكم بقراتى وغنيمتى هذه، فرضوا بهذه الصفقة، ولكنهم مكروا به وغدروا فما أن بلغوا به وادى القرى حتى ظلموه، وباعوه على أنه عبد إلى رجل يهودى، ولكنه أسلم نفسه لربه الذى طوف فى الافاق يبتغى الدين الحق الذى يريد أن يعبد الله تعالى على مقتضى شريعته، وترك العيش الرافغ فى ظل أبيه، وسار فى المهامه والقفار طالبا الهداية. رأى النخلات التى وصفها له أسقف عمورية، وفرح إذ بيع من اليهودى الذى اشتراه إلى عم له من بنى قريظة، فحمله إلى المدينة. وفى هذه الأثناء حيث كان يقيم هو بالمدينة كان محمد بن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد بعثه الله تعالى نبيا، وما كان يعلم سلمان رضى الله تعالى عنه من أمر ذلك شيئا، لأنه شغله الرق عن أن يتتبع أخبار من بشرت به الكتب، ونقله الأساقفة، وتحدث به الرهبان. وقد هاجر محمد بن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وبينا هو فى رأس عذق «3» لمالكه يعمل به بعض العمل، إذ أقبل ابن عم لهذا المالك فوقف عليه يسب أهل المدينة من الأوس والخزرج، ويقول: «والله إنهم الان لمجتمعون بقباء على رجل قدم عليهم من مكة المكرمة اليوم، يزعمون أنه نبى» «4» .

_ (1) مدينة فى طريق القوافل من الموصل إلى الشام. (2) الحرة أرض ذات حجارة سود من أثر احتراق بركانى. (3) العذق هو النخلة. (4) سيرة ابن هشام ج 1 ص 219

ويستمر سلمان فى قصته، فيذكر أنه أصابته رعدة حماسة للذهاب إلى قباء حيث سمع أن المجتمعين بقباء فيهم من يقول أنه نبى، وقد بين له أسقف عمورية أن مهاجر النبى المنتظر سيكون بهذه الأرض، فأخذ الأهبة، وذهب إلى قباء ومعه مال قليل، وهنا يلتقى العيان بالخبر، لقد أخبر فى غيبة محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام أنه نبى وسلك الفيافى والقفار ليلقاه وهو يعلم بنبئه، وجرى الحديث بينهما. يختبر به حاله، لقد رأى المكان، كما أخبر الأسقف، ولم يبق إلا أن يختبر، لقد قيل أنه يقبل الهدية ولا يقبل الصدقة، وأن بين كتفيه خاتما. عند اللقاء قال سلمان: «إنه قد بلغنى أنك رجل صالح، ومعك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة، وهذا شيء كان عندى للصدقة، فرأيتكم أحق بها من غيركم» . لم يأكل منها النبى صلى الله عليه وسلم، وقال لأصحابه، كلوا وأمسك يده «وبهذا تبين الوصف الذى علمه من قبل، وقال سلمان فى نفسه: هذا واحدة» فأراد أن يختبر أيقبل الهدية ليتكامل الوصف. جمع شيئا مما يهدى، وتحول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى المدينة، وجاءه، وقال له: «إنى قد رأيتك لا تأكل الصدقة، وهذه هدية أكرمتك بها» فأكل منها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وأكل معه أصحابه. قال سلمان فى نفسه: هذه الثانية. وسلمان علم من وصف أسقف عمورية، أن بين كتفى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خاتم النبوة، فأراد أن يعرفه ولم يبق إلا ذلك ليستوثق من تحقق الخبر مع الخبر. يقول رضى الله عنه: «سلمت عليه أى على الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ثم استدرت أنظر إلى ظهره، هل أرى الخاتم الذى وصف لى صاحبى، فلما رانى رسول الله عليه الصلاة والسلام استدبرته عرف أنى أستثبت من شيء، وصف لى، فألقى رداءه عن ظهره. فنظرت إلى الخاتم فعرفته فأقبلت عليه أقبله، وأبكى، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: تحول، فتحولت، فجلست بين يديه» «1» . كان سلمان فى الرق، فشغله عن أن يلازم النبى عليه الصلاة والسلام، حتى أنه لم يستطع أن يحضر غزوة بدر، وأشار عليه النبى من بعد بأن يعقد عقد مكاتبة مع مالك رقبته، أى يتعهد له بمال أو بمنفعة يقدمها فى نظير عتقه، ففعل، وعاونه الصحابة فى تنفيذ عقده، وصار من بعد حرا. 183- سقنا ذلك الخبر بعد اختصاره، وهو مع الاختصار طويل، سقناه لأمرين.

_ (1) الكتاب المذكور ص 220.

يهود تخبر عن النبى [صلى الله عليه وسلم] المنتظر:

أولهما- كيف يرضى طالب الحق بالتعب فى سبيل طلبه، هذا شاب صغير يكاد يكون غلاما، يعيش فى ظل أبيه فى عيش رافغ، وهناءة من الرزق، يرى كنيسة فيها عباد لا يعبدون النار الذى كان سادنا لها، فتستهواه عبادتهم، فيتقدم لأبيه برغبته فى أن يكون نصرانيا فيكبله أبوه بالحديد، فلا ينثنى، ويجتهد فى أن يفك أغلاله، ويلحق بهم فيكون له ما يريد، ثم يحمل نفسه عناء الانتقال من إقليم إلى إقليم حتى يصل إلى الحق الذى يريده، ويصاب بالرق فيصبر، ولا ينثنى عن غايته، ويقبل أن يعيش مظلوما فى قيد الرق صابرا محتسبا، حتى يصل إلى غايته، وهو التقاؤه بمن يطلبه حتى وجده، وكان العون من الله فى فك رقبته، إنه العابد الصابر حقا، من يوم فك قيود أبيه، فقد فك معها قيود عقله، ونفسه، وصار ديانا لله سبحانه وتعالى، لا يبغى إلا رضاه، وإذا كان قد غادر أباه فقد انتهى إلى حضن رسول الحق فاحتضنه هو، وقال عليه الصلاة والسلام: سلمان منا ال البيت. الأمر الثانى: وهو الجوهرى فى القضية أن أمر نبى منتظر كان معروفا بين العرب فى عصر النبى عليه الصلاة والسلام، وهو المقصد الأصلى من سوق القصة مع طولها، فالعرب كانت أسباب العلم برسالة النبى صلى الله عليه وسلم معلومة عندهم، علمها طلابها، والذين صفت نفوسهم وجهلها الأكثرون لعدم الاتجاه إلى تعرفها، ولم يكن عندهم الاتجاه الدينى ليعرفوا ما لم يعرفوا من شئون الدين فى قابل حياتهم، حتى جاءهم البشير النذير يقرع بالحجة القاطعة مسامعهم، ليكون من بعد ذلك العقاب أو الثواب، قال تعالى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ. يهود تخبر عن النبى [صلى الله عليه وسلم] المنتظر: 184- قد ذكرنا فيما مضى إشارة إلى أن اليهود كانوا يستفتحون على الذين كفروا من الوثنيين بنبى مرسل يكون لهم، ويكون على الوثنيين، ينصر اليهود، ذكرنا بالإشارة، ولكن فى هذا المقام لا تغنى الإشارة عن العبارة، فلابد من أن نذكر بعض الإيضاح ليتبين الباحثون من معرفة أن العصر كانت فيه البيانات الكافية التى تبين أن رسولا من قبل الله تعالى وشيك أن يظهره الله تعالى بينهم مصحوبا بحجته، مبينا باياته ودعوته. ولم يكن ذكر النبى عليه الصلاة والسلام لمن عاصروه من الأوس والخزرج فقط، بل كان من قبل أن تقع الحروب بين اليهود وبينهم. فقد ثبت فى التاريخ أن تبعا أبا كريب اليمنى جاء إلى يثرب وأحنقه أن بعض أهلها قتل رجلا من رجاله، فقاتلهم، وبينا تبع على ذلك من قتالهم إذ جاءه حبران من أحبار اليهود من بنى قريظة، وهما عالمان بأصول الديانة اليهودية ومصادرها، والمخبوء من وثائقها، وقالوا له:

«أيها الملك لا تفعل، فإنك إن أبيت إلا ما تريد، حيل بينك وبينها، ولم نأمن عليك العقوبة» فقال لهما: ولم ذلك: قالا: «هى مهاجر نبى يخرج من هذا الحرم من قريش تكون داره وقراره» «1» . ولقد كانت أخبار اليهود بنبى يجيء تشيع فى يثرب، وتنتقل إلى أهلها طبقة بعد طبقة، وكان من أسباب مسارعة الأنصار للاستجابة للنبى عليه الصلاة والسلام، وكان لهم بذلك علم بالكتاب أتى إليهم من اليهود، وقد ذكر قتادة عن رجال قومه، والسبب فى مسارعتهم إلى إجابة النبى عليه الصلاة والسلام إلى النصرة والإيمان فقال: «إن مما دعانا إلى الإسلام مع رحمة الله، وهداه لنا لما كنا نسمع عن رجال يهود، وكنا أهل شرك وأوثان، وكان عندهم علم ليس لنا، وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور، فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون، قالوا لنا إنه قد تقارب زمان نبى يبعث الان نقاتلكم معه قتل عاد وإرم، فكنا كثيرا ما نسمع ذلك منهم، فلما بعث الله رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم أجبناه حين دعانا إلى الله تعالى، وعرفنا مما كانوا يتوعدوننا به، فبادرناهم إليه، فامنا به وكفروا» «2» . ولم يكن اليهود يذكرون خبر النبى عليه الصلاة والسلام مقتصرين على الخبر، بل يذكر مع ذلك الإيمان باليوم الاخر، والجزاء بالنعيم المقيم، أو بالجحيم، ويظهر أنهم لم يكونوا من الذين ينكرون البعث، ففيهم من يصدقه، ومنهم من يكفر به. ولقد ذكر بعض من الأنصار، وهو سلمة بن سلام، فقال: «كان لنا جار من يهود بنى عبد الأشهل، فخرج علينا من بيته، حتى وقف على بنى عبد الأشهل؛ فذكر القيامة والبعث والحساب والميزان، والجنة والنار. فقالوا له: ويحك، أو ترى هذا كائنا: أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار، يجزون فيها بأعمالهم!! قال نعم، والذى يحلف به ... فقالوا له: ويحك، فما اية ذلك! قال: نبى مبعوث نحو هذه البلاد، وأشار بيده إلى مكة المكرمة واليمن، فقالوا: ومتى نراه، قال سلمة: فنظر إلى وأنا من أحدثهم سنا فقال: «إن يستنفد هذا الغلام عمره يدركه» «3» . قال سلمة: «فو الله ما ذهب الليل والنهار، حتى بعث الله محمدا رسول الله، صلى الله عليه وسلم وهو حى بين أظهرنا، فامنا به، وكفروا به بغيا وحسدا» . ولقد عرف بعض اليهود وصف النبى عليه الصلاة والسلام وفيه إنه يسبق حلمه جهله، فهو لا يحمق.

_ (1) البداية والنهاية ج 2 ص 164. (2) سيرة ابن هشام ج 1 ص 211. (3) سيرة ابن هشام ج 1 ص 211.

ولقد روى عن عبد الله بن سلام الصحابى أنه قال: لما أراد الله تعالى هدى زيد بن سمية، قال: لم يبق شيء من علامات النبوة إلا عرفتها فى وجهه صلى الله تعالى عليه وسلم حين نظرت إليه إلا اثنتين، لم أخبرهما منه، يسبق حلمه جهله، ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلما، فكنت أتلطف له لأن أخالطه، فأعرف حلمه وجهله» فذكر قصة إسلافه للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم مالا فى ثمرة. قال: فلما حل الأجل أتيته، فأخذت بمجامع قميصه وردائه، وهو فى جنازة مع أصحابه، ونظرت إليه بوجه غليظ، وقلت: يا محمد، ألا تقضينى حقى، فو الله علمتكم يا بنى عبد المطلب لمطل. فنظر إلى عمر، وعيناه تدوران فى وجهه كالفلك المستدير، ثم قال: يا عدو الله أتقول لرسول الله عليه الصلاة والسلام ما أسمع، وتفعل ما أرى، فو الذى بعثه بالحق لولا ما أحاذر لومه لضربت بسيفى رأسك، ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ينظر إلى عمر فى سكون وتؤدة، وتبسم ثم قال: أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا منك يا عمر: أن تأمرنى بحسن الأداء، وتأمره بحسن الطلب، اذهب به يا عمر، فاقضه حقه وزد عشرين صاعا من تمر، فأسلم» . 185- هذه نقول تاريخية ثابتة تبين أن العصر الذى بعث فيه عليه الصلاة والسلام كان عصرا يدور فيه كلام حول نبى يرسل، وقد كان لهذا الكلام مصدران: أولهما- ما كان يحاوله الذين أرادوا إحياء ملة إبراهيم عليه السلام، فقد كان بعض من أهل مكة المكرمة يؤمنون بضرورة إحياء ملة إبراهيم الحنيفية السمحة، وقد وجدوا بفطرتهم أن الله لا يدع ذربة إبراهيم بورا لا هادى يهداهم، ولا مرشد يرشدهم. وقد رأيت من خرجوا على أقوامهم، واطمأن بعضهم إلى النصرانية فدخلوها، وبعضهم أخذ يطوف فى الأرض حيث يبحث عن عقائد سليمة لا تدخلها الوثنية، ومات شهيدا فى طلب الحقيقة، وذكر محمد صلى الله عليه وسلم من بعد بعثته أن الله تعالى سيبعثه أمة واحده، فرضى الله تعالى عنه. ثانيهما- الكتب السابقة، وأقوال الأحبار والرهبان، وعلماء الأخبار من اليهود والنصارى، فبحيرى الراهب كان قد لقى محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم غلاما، وطبق الأوصاف التى لديه، ونسطورا الراهب قد لقيه وهو شاب، كانت أخبار اللقاءين تذيع وتشيع عند العرب، وفوق ذلك كان نصارى نجران وغيرهم يذكرون للناس ترقبهم لنبى منتظر، كانت أوصافه لديهم وكان محمد أكثر ذكرا، لا أنهم يريدون إعلان حقيقة، أو ابتغاء هداية، بل شفاء غيظهم، وإطفاء نار حقدهم أو التمادى فيه، فقد كانوا يعلنون ذلك عندما تحز فى أجسامهم سيوف الوثنيين، فيذكرون خبره، ويقولون: سنقتلكم معه، كما قتل عاد وإرم.

أخبار الكهان:

بهذا انتشر خبر مجيء النبى عليه الصلاة والسلام، وتوقع المفكرون مجيئه وأن زمانه قد حان، فجاء مصدقا لما بين يديه من الكتب التى لم تحرف، رحمة للعالمين، وهاديا للحق، ونصيرا له، وقد أيده الله تعالى بالحجة الباهرة. أخبار الكهان: 186- تذكر كتب السيرة أن الكهان قد بشروا بالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد كان فى نيتنا أن نعرض عن ذلك الكلام، لأنه فتح لباب الأوهام فى سيرة سيد الأنام، نبى الحق والعقل وبعث المدارك نحو الحقيقة، من غير أن يسيطر عليها وهم، أو يتغلغل فيها خرافة ليست قائمة على حكم العقل، أو الخبر الصادق المنقول باسناد صحيحة. ولأن هذه الأخبار عن الكهان ليست ثابتة بسند صحيح يطمأن إليه، ولأنه لم يثبت أن النبى عليه الصلاة والسلام قبل البعثة كان يلجأ إلى الكهان، أو يطمئن إلى أقوالهم، ولأنه إذا كان الكهان قد قالوا شيئا فى البشارة بالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم وكانت صادقة، فإن ذلك قد يكونون علموه من الكتب السابقة أو أصحابها، وقد كانوا قبل البعثة علماء العرب، وربما يكونون قد أخذوا يبثون ما عندهم فى شكل الكهانة، وفى سجع الكهان الذى نهى عنه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بعد بعثته. كنا نوينا ترك الكلام فى الكهانة، لأن الضرر فى ذكرها أكبر من نفعها. ولكنا حملنا على الكتابة فيها.. أولا- لأن بعض كتاب السيرة من المحدثين تعرضوا لها مصادقين، وأن المستشرقين قد اتخذوها ذريعة لربط الدعوة المحمدية بالكهان، وللربط بين القران المنزل رحمة للعالمين وسجعهم، ولأن بعض الكاتبين توهم تبعا لهم أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان يديم السماع للكهان قبل البعثة. فوجب التصدى. 187- ونبتديء من الكلام في أخبار الكهان بخبر نسب إلي سيف بن ذي يزن الحميري، وقيل إنه من هواتف الجان فقد جاء في كتاب هواتف الجان، وإليها تنسب كهانة الكهان، جاء في هذا الكتاب ما نصه بعد أن التقي بعبد المطلب: «أيهم المتكلم؟ قال: أنا عبد المطلب بن هاشم «1» قال: نعم. ادن مني، فأدناه ثم أقبل عليه وعلى القوم: قال «مرحبا وأهلا، وناقة ورحلا، ومستناما سهلا، وملكا ربجلا، يعطى عطاء أهل الليل والنهار، ولكم الكرامة ما أقمتم، والحباء اذا ظعنتم» .

_ (1) لأن أم عبد المطلب من بنى النجار وأصلهم من اليمن- الرحل كثير العطاء.

بعد هذا مكثوا شهرا لا يصلون إليه، ولا يأذن لهم بالانصراف، ثم انتبه انتباهة، فأرسل إلى عبد المطلب فأدنى مجلسه وأخلاه ثم قال: «يا عبد الله إنى مفض إليك من سر علمى ما لو يكون غيرك لم أبح به، ولكنى رأيتك معدنه، فأطلعتك طليعة، فليكن عندك مطويا، حتى يأذن الله تعالى فيه، فإن الله تعالى بالغ أمره. إنى أجد فى الكتاب المكنون، والعلم المخزون الذى اخترناه لأنفسنا، واحتجّناه دون غيرنا، خبرا عظيما، وخطرا جسيما، فيه شرف الحياة، وفضيلة الوفاء للناس عامة، ورهطك كافة ولك خاصة» . فقال عبد المطلب: مثلك سر وبر، فما هو فداؤك أهل الوبر زمرا بعد زمر. قال سيف بن ذى يزن ساجعا سجع الكهان: «إذا ولد بتهامة، غلام به علامة، بين كتفيه شامة، كانت له الإمامة وله به الزعامة إلى يوم القيامة» . قال عبد المطلب: - أبيت اللعن- لقد أتيت بخبر ما اب به وافده، ولولا هيبة الملك وإجلاله وإعظامه لسألته من بشارته إياى ما أزداد به سرورا. قال ابن ذى يزن.: «هذا حينه الذى يولد فيه، أوقد ولد. اسمه محمد صلّى الله عليه وسلّم يموت أبوه وأمه، ويكفله جده وعمه، وقد تاه مرارا؛ والله باعثه جهارا، وجاعل منا أنصارا يعزيهم أولياءه، ويذل بهم أعداءه، ويضرب بهم الناس من عرض، ويستبيح بهم كرائم الأرض، يكسر الأوثان، ويخمد النيران، يعبد الرحمن، ويدحر الشيطان، قوله فصل، وحكمه عدل، يأمر بالمعروف ويفعله، وينهى عن المنكر ويبطله. قال عبد المطلب: عز جدك وعلا كعبك، ودام ملكك، وطال عمرك، فهذا نجارى، فهل الملك سار لى بإفصاح، فقد أوضح لى بعض الإيضاح. قال ابن ذى يزن «والبيت ذى الحجب، والعلامات على النقب، إنك يا عبد المطلب لجده غير كذب» . فخر عبد المطلب ساجدا، فقال: ارفع رأسك، ثلج صدرك، وعلا أمرك، فهل أحسست شيئا مما ذكرت لك. قال عبد المطلب: كان لى ابن، وكنت به معجبا، وعليه رفيقا، فزوجته كريمة من كرائم قومه، امنة بنت وهب. فجاءت بغلام سميته محمدا، فمات أبوه وأمه، وكفلته أنا وعمه» . قال ابن ذى يزن: «إن الذى قلت لك كما قلت، فاحتفظ بابنك، واحذر عليه اليهود، فانهم له

أعداء، ولن يجعل الله لهم عليه سبيلا، واطو ما ذكرت لك دون هؤلاء الرهط الذين معك، فإنى لست امن أن تدخل عليهم النفاسة من أن تكون لكم الرياسة، فيطلبون الغوائل، وينصبون له الحبائل، فهم فاعلون أو أبناؤهم، ولولا أنى أعلم أن الموت مجتاحى قبل مبعثه، لسرت بخيلى ورجلى حتى أصير بيثرب دار مملكته، فإنى أجد فى الكتاب الناطق، والعلم السابق، أن بيثرب استحكام أمره، وأهل نصرته، وموضع قبره، ولولا أنى أقيه الافات وأحذر عليه العاهات لأعلنت على حداثة سنه أمره، ولأوطأت أسنان العرب عقبه، ولكنى صارف ذلك إليك عن غير تقصير لمن معك» «1» . 188- هذا كتاب ما فيه بلا ريب حق من حيث البشارة بالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم ولعله إن صدقت النسبة إلى سيف بن ذى يزن يكون مصدره ما وصل إليه من علم، فقد كان نصرانيا متعرفا، ولم يكن وثنيا أميا. ولا يمكننا أن نقول أن ابن ذى يزن من الكهان، وإن وجد الموضوع فى كتاب هواتف الجان، ويقال إن الكهان كانوا يخاطبون بهواتف الجان، ونقول إن فيه سجع الكهان، وإن لم يستغرقه، بل كان فيه بعضه، ولعل هذا من صنيع الكهان، وقد أرادو أن يجعلوه من الكهان بعبارات السجع فيه أولا، وجعله فى كتاب هواتف الجان ثانيا. وفى الواقع أن الحديث كما ذكر ممن له علم بالكتاب وكان مستفيضا مشهورا. ومن ذلك ما روى بالأسانيد الصحيحة عن بعض المضريين قال: شارفنا الشام، ونزلنا على غدير به شجرات، فسمع كلامنا راهب، فأشرف علينا فقال: «إن هذه لغة ما هى بلغة هذه البلاد، فقلنا: نعم. نحن قوم من مضر، قال: من أى مضر؟ قلنا: من خندف. قال: أما إنه سيبعث وشيكا نبى خاتم النبيين، فسارعوا إليه، وخذوا بحظكم منه ترشدوا، فقلنا ما اسمه، قال اسمه محمد صلّى الله عليه وسلّم «2» وإنه بلا ريب نرى هذا الخبر الذى سقناه يتلاقى مع خبر ابن ذى يزن، بيد أنه لا سجع فيه، ولا ينسب إلى هواتف الجان بل ينسب لراهب من الرهبان نسبه إلى ما عندهم من كتب، لا إلى هواتف من الجان. 189- فنحن إذا وجدنا فى عبارات الكهان ما يوميء إلى ذكر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فليس من هواتف الجان، أو من علم الكهان وليس مصدره الكهانة، ولكنهم علموه مما يجرى على ألسنة الرهبان، وما تنطق به كتبهم. وما عرف من علم.

_ (1) البداية والنهاية لابن كثير ج 2 ص 330. (2) الكتاب المذكور ص 331.

هل كان محمد عليه الصلاة والسلام يسمع اخبار الأحبار والرهبان والكهان

ومن ذلك مثلا قول سطيح الكاهن: إذا كثرت التلاوة، وغاضت بحيرة ساوة، وجاء صاحب الهراوة.... مع غيره. وقال ابن كثير إنه يعنى النبى عليه الصلاة والسلام، ونرى أولا- أن النبى ما جاء بالهراوة بل جاء برد اعتداء الباطل على الحق بالسيف لا بالهراوة، وثانيا- أنه على فرض أن المراد النبى عليه الصلاة والسلام فذلك مما شاع بين العرب من أنه سيكون نبى منتظر، وأن أهل الكتاب يذكرونه بينهم خاصة، ويعلنونه عند الاقتضاء للعامة، سواء فى ذلك اليهود والنصارى وإن كان إعلان النصر أوضح وأبين، واليهود يعلنونه عند الشديدة تنزل بهم فى حروبهم مع الوثنيين، يعلنون مجيء النبى عليه الصلاة والسلام كما جاء فى كتبهم تثبيتا لأنفسهم وتخذيلا لخصومهم وتعلقا بالرجاء، وتشفيا من الأعداء بالمستقبل، فكان السبق لأعدائهم، والتخلف لهم، فكان به المال لغيرهم والحال عليهم، وهم الأخسرون دائما إن شاء الله. هل كان محمد عليه الصلاة والسلام يسمع اخبار الأحبار والرهبان والكهان 189- إن محمدا عليه الصلاة والسلام كان يعيش فى مكة المكرمة وهى مدينة أمية لا تقرأ كتابا، ولا تتدارس علما، وكان كأهلها، لا يجلس إلى درس ولا إلى معلم، وإذا كان بعض أهله يعلم القراءة والكتابة، فما كان محمد صلي الله عليه وسلم يعلمها، وما يمتاز به على أهل مكة المكرمة هو خلقه وقوة إدراكه وابتعاده عن عبادة الأوثان واستنكارها، وكراهية الأوثان والحلف بها، من غير أن يكاره قومه، ويعلن بغضهم، بل ما كان يبغض غير قومه، بل كان الودود الألوف، وإن كان لا يسايرهم فيما يفعلون، بل كان ينكر ويستنكر، ولا يلاحى ولا يغاضب، ولا ينافر. وإن أقصى ما كان يريد معرفته من الديانات هو ديانة إبراهيم، لأن اثاره قائمة بينة؛ وبعض الديانة كان يتبع مع انحراف فى بعضها، وهو الحج، وكانوا يتفاخرون بانتسابهم إلى إبراهيم، وهو يعلم أنه جدهم ونبى مرسل، ويريد محمد صلى الله عليه وسلم مع تركه الأوثان أن يعرف ما كان يأمر به إبراهيم عن ربه، وقد علم هو أنه الواحد الأحد الفرد الصمد الذى ليس بوالد، ولا ولد. أما غيره من الأنبياء كموسى وعيسى وداود وسليمان، وخصوصا ما كان من دقائق علمهم كالنص على رسول يجيء من بعد موسى وعيسى، وكونه من جبال فاران، أى جبال مكة المكرمة، كما تعبر كتبهم، أو تشير إليه من غير إيضاح واضح، وخصوصا عندما عراها التحريف ونسوا حظا مما ذكروا به.

وإن النبى عليه الصلاة والسلام كان يتحدث عنه، ولا يتحدث هو معهم، وإنه عندما التقى ببحيرا الراهب صغيرا كان قومه يتحدثون عنه، ولم يعرف التاريخ أنهم ذكروا له ما حدث به الراهب. وكذلك الأمر فى رحلته الثانية بعد أن صار شابا سويا، كان الحديث عنه، ولم يثبت أن الحديث كان معه. وهكذا إذا كان يتلقى الكلام فى نبى منتظر، فإنه يتلقاه كما يتلقى قومه، ولم يعرف أنه كانت له عناية خاصة بتاريخ النصارى؛ ولا بأخبار اليهود ولا بشيء من ذلك، بل عنايته فى مطلع حياته بكسب الرزق؛ وفى شبابه الأول بالتجارة، ثم بعد أن توافر له الرزق انصرف إلى العبادة والتحنف الليالى والشهور، وفى كل أحواله كان كثير التأمل، يدرس الخالق من خلقته، والمنشيء مما أنشأه. ولكن كتاب الفرنجة يدعون أن محمدا عليه الصلاة والسلام كان قبل البعثة يتتبع أخبار اليهود، ويستمع إلى ما يحدث به أحبار اليهود، ورهبان النصارى، وأنهم يرمون بهذا إلى أمرين: أحدهما: إثبات أن محمدا عليه الصلاة والسلام ما وصل إلى ترك الأوثان إلا بتعاليم اليهود والنصارى، وأنه ما وصل إليها بمنطقه وفطرته وبقايا ديانة إبراهيم عليه السلام، وكأنهم يريدون أن يصوروا ما كان دون زيد بن نفيل وورقة بن نوفل، وقد ثبت أنه كان يكره اللات والعزى وهو فى الثانية عشرة من عمره، وقد ثبت ذلك فى أخبار بحيرا الراهب. وثانيهما: ادعاء أن القران الكريم أخذ أخبار النبيين وقصصهم من التوراة والإنجيل، وأن العلم بهذا علم تلق، وليس بوحى من الله تعالي، مع أنه من الثابت أن قصص الأنبياء فى القران هو الصادق الذى لا يمترى فيه، وغيره فيه الفساد والضلال كخبر سكر لوط، ومواقعته ابنتيه، وكزنى داود بامرأة قائد جيشه فهى أكاذيب ليست فى القران الكريم. وقد تبعهم بعض المغترين بهم من الكتاب عن نية حسنة، ولم يدركوا خبيئة نفوسهم، وخبث تفكيرهم. ألا فليتركوهم واستنباطهم، وليتتبعوا أخبار النبى عليه الصلاة والسلام من كتب السيرة الدقيقة البعيدة عن الأوهام، وليتركوا اتباع الاستنباط الفاسد، من غير خبر تاريخى يؤيده، ولا سند صادق يزكيه. وليعلموا أن النبى عليه الصلاة والسلام كان بعيدا عن الأحبار والرهبان، وما كان يصدق كهانة الكهان، ونهى بعد البعثة عن الاستماع إلى الكهان، وكان يستنكر سجع الكهان، ويستنكر تصرف من يحاكيهم.

البعثة المحمدية

خاتم النبيين البعثة المحمدية

التجلى الأعظم

التجلى الأعظم [التزام النبي ص بأمرين قبل أن يبعث] 191- كان محمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعثه الله رحمة للعالمين ملتزما أمرين: أولهما- أنه لم يكن صاحب لهو ولا عبث، كان كذلك غلاما، ثم شاديا، ثم بعد ذلك عاكفا زاهدا، منصرفا عن الناس إلا ما يوجبه حق المجتمع عليه، من عطاء يقدمه لمحتاج، أو معاونة لمستعين، أو إغاثة لملهوف، أو حمل لكل، أو قرى لضيف، أو صلة لرحم، وغير ذلك. فكان المتحمل للواجبات، المعتزل، الذى يؤثر العزلة عن الاندماج فى غمار الناس، حتى لا يصيبه شيء مما يخبثون به، لأنه الطاهر الذى أدبه ربه فأحسن تأديبه، فكانت حياته الأولى مرشحة لحياته الثانية، واية على أنه ذلك الرجل الذى يستنكر المنكر، ولا يفاحش أو يخاصم أو يجادل، اية على أنه الرسول المنتظر، والنبى المرتقب، وهو فى أحواله فى اختلائه واجتماعه- الأليف المحبوب، الذى قدرته قريش كلها حق قدره. الأمر الثانى- أنه قد اتخذ منسكا ينسك فيه، وهو غار حراء، بعد أن أكثر من العبادة، والعكوف على عبادة الله، وقد رأى قريشا يعكفون على أصنام لهم. وإن الظاهر من حال قريش الذين استمرؤا عبادة الأوثان أنه لم يكن فيهم غير الحنفاء- من يتفكرون فى عبادة، أو يختلون ليعبدوا أوثانهم، فإن ذلك لم يثبت تاريخيا، ولم تذكر واقعة له تنبئ عن ذلك، وإن ما يحيط بهم، وما يثبت من حالهم يدل على أنهم لم يعملوا التفكير فى أمر عبادة، بل كانوا يتبعون ما وجدوا عليه اباءهم من غير تفكير ولا تدبر، ولو أن بعضهم كان يعمد إلى الاختلاء والاعتزال لكان كثيرون منهم يخرجون عن عبادة الأوثان إلى عبادة الديان، إذ أن تأملا يسيرا كان يخرجهم من الظلمات إلى النور، ومن ضلال الوثنية إلى هداية الواحدانية، ولكنهم قوم ماديون، يقولون إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ «1» ، ويقولون: ما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ، وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ «2» . وإذا كان قد جرى على بعض الأقلام أن الاختلاء للعبادة كان نسكا عندهم يعبدون فيه الأوثان وينفردون لذلك، فإنما هو كلام من قوم لا يريدون بالإسلام إلا خبالا، ولا يريدون بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم علوا، ولا يذكرون فيه قول الحق خالصا، بل يموهون فيه ويلبسون الحق بالباطل.

_ (1) سورة المؤمنون: 37. (2) سورة الجاثية: 24.

192- كان محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم يجتهد فى العبادة، ومن وقت أن اطمأن إلى رزقه، ونظم تجارته فى مال خديجة بأن يعمل غيره تحت إشرافه، ولم يكن ثمة حاجة إلى خروجه بنفسه للتجارة، فلم يذكر أنه خرج بنفسه، بعد خروجه وهو فى الخامسة والعشرين من عمره. وكلما تقدمت به سن الشباب ازداد نسكا واختلاء وانصرافا عن الملاذ والشهوات فى غير تحريم الحلال، أو إبعاد لطيب من طيبات، بل كان يأكل ويشرب فى غير سرف ولا مخيلة، كما بيّن فى شريعته التى أرسل بها رحمة للعالمين. وقد اتخذ لنفسه شهرا من أشهر السنة يختلى فيه بغار حراء، وكان حراء نسكا للعرب فى جاهليتهم، كما جاء فى البداية والنهاية لابن كثير، فقد قال «وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يخرج إلى حراء فى كل عام شهرا ينسك فيه، وكان من نسك قريش فى الجاهلية» «1» أى أنه كان من الأماكن التى تعتبرها قريش من النسك فى الجاهلية، ولعلهم كانوا يضيفونها إلى نسك الحج، وقد رأى محمد صلى الله عليه وسلم أن هذا خير مكان لعبادته، لأنه لا يطرق طول العام، ولم يكن كالبيت الحرام، إذ يطاف بالكعبة المشرفة فيه كل يوم، ويظهر أنه بمضى الزمان قد هجر اتخاذه نسكا، ولعله كان مما أضيف إلى مناسك من غير شريعة إبراهيم عليه السلام، وليس بحث هذا ذا جداء فى موضوعنا. جاءت الصحاح بأنه كان عليه الصلاة والسلام يتحنث (أى يتعبد على الحنيفية السمحة) الليالى ذوات العدد، وكان يتخذ دائما شهر رمضان من كل عام يتزود لذلك، ويبتدى بالذهاب إلى البيت الحرام يطوف به، ويتصدق بالصدقات العظيمة ويطعم الطعام، ثم يذهب إلى غار فى جبل حراء، لم يكن فى سفحه، بل كان أعلى من ذلك. ولا يصل إليه قاصده إلا بمرتقى صعب، وليس بالسهل، والناظر إليه الان لا يجد الوصول إليه بغير شق النفس مما يدل على أن الله تعالى أعطى محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام بسطة فى الجسم، وقوة احتمال، ورغبة صادقة فى العبادة، لا يقوى عليها إلا أولو العزم من العباد. حتى إذا أتم الشهر وهو رمضان عاد إلى بيته، وقبل أن يأوى إليه يمر بالبيت الحرام، فيطوف، ويتصدق بما بقى معه من زاد، ويطعم الطعام مما بقى له، ثم يأوى إلى خديجة زوجته الطاهرة.

_ (1) البداية والنهاية ج 3 ص 5.

وإن السياق فى كل الصحاح من أخبار السيرة يستفاد منها أنه كان يتزود بالزاد، ويذهب منفردا ليتم له الاعتكاف بعيدا عن الأهل والصحاب، ولا يكون إلا فى حضرة الحبيب الذى لا شريك له وهو الله سبحانه وتعالى. هذا هو المستفاد من معنى الاختلاء والاعتكاف، ولأنه كان يصرح بأنه يغدو صادرا عن أهله فى الشهر، ويعود دائما إلى أهله بعد أن ينقضى الشهر. ولكن روى عن ابن إسحاق فى سيرته عبارة تفيد أنه كان يذهب إلى الغار بأهله، وإليك عبارة ابن إسحاق «كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يجاور ذلك الشهر من كل سنة، يطعم من جاءه من المساكين، فإذا قضى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم جواره من شهره ذلك كان أول ما يبدأ به إذا انصرف من جواره للكعبة الشريفة قبل أن يدخل بيته، فيطوف بها سبعا أو ما شاء الله تعالى من ذلك. ثم يرجع إلى بيته، حتى إذا كان الشهر الذى أراد الله تعالى به ما أراد من كرامته، من السنة التى بعثه الله تعالى فيها، وذلك الشهر شهر رمضان خرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى حراء كما كان يخرج لجواره ومعه أهله» «1» ، وإن هذا الكلام يدل على أن الإيحاء. وهو كان فى الليله التى كانت فيها البعثة النبوية- لم يكن أهله معه، وفيما قبل ذلك كان يكون أهله معه، إذ أنه يصرح بأنه كان يخرج لجواره، ومعه أهله، ولكن لا تجد هذه العبارة فى غير ما نقله ابن إسحاق بل إن معنى الاختلاء والاعتكاف ربما لا يكون متناسقا مع وجود أهله معه، إذ أن معنى الاعتكاف للعبادة يقتضى الابتعاد عن الأهل، والاتجاه إلى الله تعالى واحده. ولهذا نحن نميل إلى رد ما قاله ابن إسحاق، وإن لم يكن ثمة ما يسوغ لنا أن نقول أنه ربما كان يذهب مع أهله ولا يبقون معه، بل يذهبون فى صحبته، ثم يتركونه من بعد فى واحدته وعبادته. 193- والان نسوق الخبر، كما جاء فى صحيح البخارى وغيره من صحاح السنة. يروى البخارى عن عروة بن الزبير عن خالته أم المؤمنين عائشة رضى الله تبارك وتعالى عنها أنها قالت: «أول ما بديء به الوحى الرؤيا الصادقة فى النوم، وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، فكان يخلو بغار حراء، فيتحنث فيه الليالى ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة، فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو فى غار حراء» «2» .

_ (1) سيرة ابن هشام نقلا عن ابن إسحاق ج 1 ص 236. (2) البداية والنهاية: ج 3 ص 2.

وهذه الرواية التى ساقها البخارى عن حب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم للخلوة أقرب الروايات، وهى أرجحها وأصدقها، وهى تدل على أمور ثلاثة: أولها- أن الوحى جاء إليه وهو فى غار حراء، ولم يكن معه أهله، وأنه كان يتزود، ولم تذكر أنه كان يصاحبه أهله. وثانيها- أنه كانت تصفو نفسه وروحه.. وتخلص لله. وثالثها- أن صفاء النفس أدى إلى صدق رؤياه. وهنا يثار أمران: أولهما- من أى وقت ابتدأت ملازمة الخلوة شهرا من كل عام. ثانيهما- بأى شيء ابتدأ الوحى، ونزول الروح القدس عليه صلى الله تعالى عليه وسلم، أكانت مواجهته له صلى الله تعالى عليه وسلم بالرؤيا الصادقة أم المشاهدة فى الصحو، لا فى المنام، لذلك موضع من البيان، نوجزه ولا نفصله. أما أولهما- وهو من أى وقت ابتدأت خلوته صلى الله تعالى عليه وسلم. فإنا نقول فى ذلك أنه من المتفق عليه أنه صلى الله تعالى عليه وسلم نشأ وهو متجه إلى ربه لا يعبد سواه، وأنه التزم أن يكون عابدا من وقت أن بلغ سنا يدرك فيها معنى العبادة، ويعرف فيها حق الخالق على المخلوق، وقد كان يعبد الله تعالى بالتأمل فى خلقه، والتدبر فى ملكوته، واهتدى إليه، وأن يهتدى ابتداء إلى طريق عبادته، فإن ذلك فوق طاقة المعقول، ولابد فيه من المنقول، وقد أشرنا إلى أنه كان يحاول معرفة ديانة إبراهيم التى كانت بقاياها فى البلاد العربية، وخصوصا فى مكة المكرمة، حيث بيت الله الحرام الذى هو أول بيت وضع للناس، وبناه إبراهيم بمكة مباركا وهدى للعالمين فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ، وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً «1» . ورجحنا فى صدر كلامنا أن يكون قد وصل بالصفاء النفسى، وربما بالرؤيا الصادقة إلى صلاة إبراهيم، فلا عبادة من غير صلاة، فما دامت هناك عبادة لمحمد عليه الصلاة والسلام، صارت رتيبة له، فلابد أن يكون قد اهتدى لصلاة إبراهيم.

_ (1) سورة ال عمران: 97.

وإنه إذا كان قد سار فى طريق التأمل والعبادة، وفى وسط ذلك الديجور المظلم من عبادة الأوثان، لابد أن يختلى محمد صلى الله عليه وسلم عنهم لينصرف إلى ربه، ولكيلا يكون فى قلبه غيره، ولكى يعبده كأنه يراه، وقد وصل بقلبه المشرق إلى درجة الإحسان، فالاختلاء إذن كان أمرا لابد منه، ليكون لله واحده. ولكن ذلك النظام الرتيب الذى التزمه، بأن يعبد الله منفردا بعبادته طول العام، ثم يختلى خلوة العابد شهرا من كل عام، هو شهر رمضان، فى أى وقت ابتدأ؟ الظاهر من عبارات الصحاح من الأخبار أن ذلك لم يكن فقط عام البعث المحمدى، بل ذلك العام اختتم بأن الحق نزل عليه، وجاءه روح القدس رسولا من عند ربه، فلابد أن يكون قبل ذلك النظام الرتيب، ونحسب أنه قبله بأعوام، لا نستطيع أن نحدس بها، وإن كان يتسابق إلى عقولنا، أنها مدة لا تقل عن خمس سنين، من وقت تمام بناء البيت الحرام، ووضعه الحجر الأسود بيده الكريمة، وإن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين. 194- بقى أن ننظر فى الأمر الثانى، وهو بأى شيء ابتدأ الوحى، لقد قالت أم المؤمنين عائشة رضى الله تبارك وتعالى عنها «إن الوحى ابتدأ بالرؤيا الصادقة، فكان لا يرى الرؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح» وإن ذلك لا يدل على أن ابتداء إنباء الله تعالى لمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم كان بالرؤيا الصادقة. ولكنه يدل على أن ابتداء الإشراق الإلهى، والاتصال الربانى كان بالرؤيا الصادقة، والرؤيا الصادقة، وإن كانت جزا من الإلهام الإلهى، وليست هى الوحى الذى يقام عليه التكليف بالنسبة للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فقد قال عليه الصلاة والسلام: «الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزا من الوحى» فليست بالنسبة للنبى عليه الصلاة والسلام هى الوحى، وإن كانت بالنسبة لإبراهيم عليه السلام كانت وحيا كاملا، وبالبناء عليها هم بأن يذبح ولده إسماعيل عليه السلام، حتى هداه رب العالمين، كما قال تعالى: وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ «1» فكانت الرؤيا إنباء. إن المقرر لدى المؤرخين للسيرة الطاهرة أن الوحى ابتدأ بخطاب روح القدس جبريل عليه السلام، ولكن جاء فى سيرة ابن إسحاق أن أول خطاب لجبريل لمحمد عليه الصلاة والسلام كان برؤيا صادقة فى المنام، ثم صحا يحفظها عليه الصلاة والسلام. فقد جاء فى سيرة ابن هشام: «وجاء جبريل عليه السلام بأمر الله تعالى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءنى وأنا نائم بنمط «2» من ديباج فيه كتاب، فقال: اقرأ. قلت: ما أقرأ. قال: فغتنى به،

_ (1) سورة الصافات: 107. (2) النمط وعاء.

حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلنى، فقال اقرأ فقلت ماذا أقرأ، فغتنى به. حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلنى، فقال اقرأ قال فقلت ماذا أقرأ ما أقول ذلك الا افتداء لى أن يعود لى بمثل ما صنع بى. فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ. بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ «1» قال فقرأتها، ثم انتهى فانصرف عنى وهببت من نومى، فكأنما كتبت فى قلبى كتابا، فخرجت حتى إذا كنت فى وسط الجبل، سمعت صوتا من السماء يقول: يا محمد، أنت رسول الله، وأنا جبريل، قال: فوقفت أنظر إليه، وما أتقدم وما أتأخر، وجعلت أصرف عنه وجهى فى افاق السماء فلا أنظر فى ناحية فيها إلا رأيته كذلك، فمازلت واقفا ما أتقدم أمامى، وما أرجع ورائى، حتى بعثت خديجة رسلها فى طلبى، فبلغوا أعلى مكان، ورجعوا إليها وأنا فى مكانى ذلك، ثم انصرف عنى» . وإنه لا شك ثمة فرق جوهرى فى الخبرين: 195- فالخبر الذى جاءت به الصحاح يفيد بأن الالتقاء بالأمين جبريل عليه السلام كان فى صحو لا فى منام، والثانى يفيد أن الالتقاء كان فى المنام، لا فى الصحو، وإن كانت رؤيا كأنها الصحو، لأنه بعد أن استفاق من نومه تذكر كل ما قال لم ينس منه حرفا واحدا، فكان وحيا بلا ريب، والاختلاف بين الخبرين فى الرواية لا فى أصل المعنى، فهما متلاقيان غير متخالفين. ومع هذا التلاقى فى المعنى، فإن هناك اختلافا فى الواقعة، أكانت فى نوم، أم كانت فى يقظة، وإن الكثيرين من العلماء قالوا مادام المعنى واحدا فى الروايتين وليستا متعارضتين، فإن التوفيق يكون بتكرار الواقعة، وقعت فى النوم، ووقعت فى اليقظة، فهى قد ابتدأت اللقاات بين محمد صلى الله عليه وسلم وروح القدس فى المنام، ثم كانت فى اليقظة والمنام، كان تمهيدا للمجاهرة فى اليقظة. وقد وفق ذلك التوفيق ابن كثير فى البداية والنهاية وبناه على أن قول أم المؤمنين فى رواية للبخارى أول ما بديء به الوحى بالرؤيا الصادقة، فقد قال: «فقول أم المؤمنين عائشة أول ما بديء به الوحى الرؤيا الصادقة، فكان لا يروى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، يقوى ما ذكره ابن إسحاق: ابن يسار عن عبيد بن عمر الليثى أن النبى صلى الله تعالى عليه

_ (1) سورة العلق: 1- 5.

وسلم قال: «فجاءنى جبريل وأنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب، فقال اقرأ، فقلت ما أقرأ، فغتنى حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلنى وذكر نحو حديث عائشة سواء، فكان هذا كالتوطئة، لما يأتى بعده من اليقظة، وقد جاء مصرحا بهذا فى مغازى موسى بن عقبة عن الزهرى أنه رأى فى المنام، ثم جاءه الملك فى اليقظة. وقد جاء فى كتاب دلائل النبوة لأبى نعيم الأصبهانى أن ذلك شأن الأنبياء جميعا يأتيهم الوحى ابتداء فى المنام، حتى اذا تهيئوا للقاء الوحى عيانا، جاء إليهم. فقد نقل عن علقمة بن قيس أنه قال: «إن أول ما يؤتى به الأنبياء فى المنام، حتى تهدأ قلوبهم، ثم ينزل الوحى» «1» . وهكذا ننتهى إلى حقيقة ثابتة متفقة مع مجموع النقول، وتتلاقى مع العقول، وهى أن الالتقاء بالروح القدس ابتداء فى المنام، ثم لما ألف محمد عليه الصلاة والسلام الرؤيا المنامية الصادقة، ويظهر أنها فى وضوحها وجلائها تشبه رؤية اليقظة إذ كانت تجىء مثل فلق الصبح كما أخبرت أم المؤمنين عائشة، حتى إذا كان الأنس بروح القدس، وامتلاء النفس بالروحانية كانت المشاهدة فى اليقظة، لأن ذلك مقام خطير عظيم، لا تقوى عليه النفوس إلا بعد أن تصقل صقلا روحيا. وقد يقول قائل: إن كلام أم المؤمنين عائشة يستفاد منه أن الميل إلى الاختلاء للعبادة كان بعد الرؤيا الصادقة، وقد يوهم ما قلنا بأن الصفاء النفسى بالعبادة قد سبق الرؤيا الصادقة. ونقول فى الإجابة عن ذلك بأن الصفاء الروحى كان فى قلب النبى عليه الصلاة والسلام من يوم مولده، وهو فى المهد صبيا؛ فإذا كان عيسى عليه السلام تكلم فى المهد صبيا، فإن محمدا عليه الصلاة والسلام قد أدرك فى المهد صبيا، وإن الصفاء الروحى قد لازمه طول حياته، فقد كان فى صفاء ولابد أن يستمر إلى شبابه الباكر، ثم إلى ما بعده، فالرؤيا الصادقة كانت من إرهاصات الرسالة، وكانت من الوحى، ثم كانت فى المرحلة الأخيرة منها، وحيا بما يراه من خطاب الوحى بالأمين جبريل، وهى ما ذكره ابن إسحاق. وإذا كان لنا أن نستفيد من تقديم الرؤيا الصادقة على الخلاء، فكان تحبيب الخلاء له ثمرة لرؤيا صادقة تكررت حتى كان منه الاختلاء بنفسه. ولقد قلنا من قبل أنه كان يتعرف البقية من ديانة إبراهيم ليصلى، ونحن فى هذا الموضوع من بحثنا عثرنا على الضوء الذى نهتدى به فى تعرفه للصلاة على ديانة إبراهيم، وظننا من قبل احتمال أن يكون

_ (1) سيرة ابن هشام ج 1 ص 238.

التقى بالروح القدس:

ذلك بالرؤيا الصادقة، وظننا ذلك ظنا، والان ندركه راجحا رجحانا يقرب من اليقين، فصلى الله تعالى على محمد العابد صبيا وكهلا، ومن الصالحين. التقى بالروح القدس: 196- روح القدس هو جبريل عليه السلام، كما قال تعالى: وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ، وكما قال تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ «1» . لقد جاء إليه جبريل عليه السلام، وهو فى غار حراء «2» يتعبد الله تعالى، حيث علا قلبه إلى المقام القدسى، فارتفع من الأرض، إلى ملكوت الله تعالى، فصارت نفسه صالحة لتلقى نور السماء، فنزل رسول أمين من رب العالمين. إلى رسول الخلق أجمعين ليحمل رسالة ربه، ويبلغها للعالمين، من رب غفور، وقد توالى النزول. ولكن متى ابتدأ؟ قالوا إنه فى الأربعين من عمر محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وهى أشد العمر، وهى سن النضج فى الروح، وفى البدن، وفى العقل، فهى سن القدرة على الاحتمال، وقد قال الله تعالى فى هذه السن حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ، وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ، وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ «3» وإذ قد بلغ محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم هذه السن، فقد أوزعه الله سبحانه وتعالى إليه، وجعله له خالصا، وقد تهيأ لذلك، وأنشأه صفوة خلقه، وجعله نبيا رسولا.

_ (1) سورة الشعراء: 93، 94. (2) غار حراء كهف صغير بأعلى حراء، جبل فى الشمال الشرقى من مكة، يبعد عنها بما يقرب من ثلاثة أميال، وهذا ليس بذى زرع ولا غرس، بل هو مملوء بالصخور لا عمران فيه ولا يأوى الناس إليه، ولا يستأنسون به، يمشى الماشى فى طريق مدعثر، لا يصل إليه إلا فى مقدار من الزمن قد يسير فى طريق غير معبد إلى نحو الساعتين، فإذا وصل إلى سفح الجبل بعد هذه المدة لا يرتفع إلى الغار إلا فيما يقرب من ساعة، وإذا ارتفع وجده موحشا يحس فيه الداخل برهبة، وهو أعلى الجبل، فيزداد المقبل عليه عزلة عن الناس، بل عن الأرض وما فيها، ويكون الغار من وراء صخرتين كبيرتين تعترضان داخله، قد ضيق الله ما بينهما، وإذا تجاوزهما، ودخل الغار أحس بأنه قد صار معزولا عن العالم عزلة كاملة. وإن اختيار محمد بن عبد الله ذلك المكان، لأن فيه العزلة الكاملة عن الناس، والوحشة من كل شىء إلا الأنس بالله واحده، وكان اختياره بإلهام الله تعالى ليكون مقدمة جهاده، ويعيش فيه حياتين، أولاهما- رهبة، والثانية صعبة، وإن كانت نهايتها سعيدة. (3) سورة الأحقاف: 15.

قلق الزوجة الصالحة:

كان الالتقاء بالروح القدس على مرتين أولاهما تمهيد لاخراهما، كانت الأولى، وهى كاملة، وإن كانت فى منام هو كالصحو، إذ لا يقل عنه وضوحا، وقد تلقى فيه أول القران الكريم فوعى ما وعى، وحفظ ايات ربه الأولى، ولما ذهب عنه النوم الصافى كان يحفظ كل ما حفظ، لا ينسى منه شيئا. ولما رأى الوجود ببصره، كما كان فيه ببصيرته التقى بالذى راه فى منامه، راه وهو شهيد، وقد استأنس بالرؤيا التى صدقها، وخاطبه مرة أخرى فى عالم الشهادة، ولولا أنه قد استأنس به ابتداء فى الرؤيا الصادقة، لعظمت المشقة عليه، وهنا فى هذه المرة أدرك أنه ينادى بالرسالة من قبل الله تعالى، وأنه شرفه بها، وكان عليه الصلاة والسلام فى هذين اللقاءين محفوفا بالنور القدسى، وإن كان شديدا على النفس البشرية التى عاشت فى الأرض، ولو كانت بصفائها متطلعة إلى النور الربانى الذى يملأ أطوارها، ويحيط بثناياها. وفى هذا اللقاء النورانى نزل أول القران الكريم، وكانت ليلته ليلة القدر التى فرق فيها الأمر وأبرم برسالة محمد بن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم، كما قال سبحانه وتعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ. وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ. لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ. تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ. سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ «1» على كلام فى ذلك سنتصدى لبيانه. ويقول الرواة أن ذلك كان فى الليلة السابعة والعشرين من رمضان بعد أربعين سنة من عام الفيل، وقيل أنها كانت الرابعة والعشرين من ذلك الشهر المبارك، ومهما يكن اختلاف الرواة فى تعيينها فإنها كانت فى رمضان كما قال تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ، هُدىً لِلنَّاسِ، وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ «2» على كلام فى ذلك أيضا. قلق الزوجة الصالحة: 197- بإلهام المرأة الصالحة الذكية القلب، الطاهرة النفس أحست خديجة زوج محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم بما فيه زوجها من مشقة، فانزعجت عليه على غير عادة، وقد ألفت منه الغيبة فى شهر رمضان، وكانت هى التى تزوده بزاد المادة، والله تعالى يزوده بزاد التقوي، انزعجت، فأخذت تسأل عنه، وهى تعلم أنه فى غار حراء، لأنها أحست أنه فى جهاد روحى، جهاد من ينزع من الأرض، ليتصل بالسماء.

_ (1) سورة القدر كلها. (2) سورة البقرة: 85.

إلى ورقة بن نوفل:

وبينا هى قلقة مضطربة لغيبته على غير عادة إذ هو مقبل قد تغير لونه، يرجف فؤاده، فزال قلقها، وان استغربت حاله- وقالت: يا أبا القاسم، أين كنت، فو الله لقد بعثت رسلى فى طلبك، حتى بلغوا مكة المكرمة ورجعوا لى. وقد حدثها بما رأى فى رؤياه، وما شاهد فى عيانه، وفؤاده يرجف وهو يقول: «زملونى» فزملوه حتى ذهب منه الروع، وهو يقول «خشيت على نفسى» . وعندئذ جاء دور الزوجة الرفيقة الصالحة فى القول، فقالت بمنطق الفطرة، وهو أن من أحسن لا يجازى إلا إحسانا «كلا، والله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتقرى الضيف، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الدهر» رأت فى زوجها الأمين الطاهر كل هذا، وبإحساس الفطرة، رأت أنه لا يمكن أن يكون ثمر الطيب إلا طيبا. ويقول ابن إسحاق، إنها قالت بعد أن علمت الخبر، وقالت ما قالت: «أبشر يابن عم، واثبت فو الذى نفس خديجة بيده، إنى لأرجو أن تكون نبى هذه الأمة» وما قالت ذلك إلا وقد تواردت الأخبار بأن نبيا سيبعث فى هذا الزمان. إلى ورقة بن نوفل: 198- لا أدرى أهى فرحة بما توقعته من خير عظيم يجيء لزوجها ونور عميم ينبثق من بيتها، أم هى فرحة اللقاء دائما يدفع إلى الحركة، ومهما يكن فقد وجدت منها رغبة إلى العمل فى الموضوع الذى طرأ، وتوقعت منه أن يغير مجرى حياتها، قامت فجمعت ثيابها، ثم انطلقت مع محمد بن عبد الله عليه أفضل السلام وأتم السلام إلى ورقة بن نوفل، وكان من الحنفاء الذين هجروا عبادة الأوثان واختاروا أن يعبدوا الله. واختار النصرانية، إذ كان يعرف العبرانية، فدرسها منها، ودرس التوراة، فعلم الديانتين من الينابيع الأصلية، ويظهر أنه علمها ديانة واحدانية لا ديانة تثليث، لأنه دخيل عليها، ولأن نصرانية الشرق التى كانت فى العراق وأطراف الجزيرة العربية كانت تتبع نسطورس الذى أنكر أن يكون المسيح إلها أو ابن الله، إذ كان يعتقد أن عبارة الابن التى وردت فى بعض كتبهم أضلتهم، وإن ماضى حياته ما كانت تسمح لنا أن نقول أنه مثلث، لأنه ترك عبادة أحجار لا تضر ولا تنفع، فكيف يعتنق تثليثا غير متصور فى العقل. لقد بلغ علم الرجل بالعبرية أنه كان يكتب بها ويقرأ ويدرس، فكان على علم بالبشارات التى جاءت فى التوراة والإنجيل بالنبى عليه الصلاة والسلام. وهى تبشر برسول اسمه أحمد.

فترة غياب روح القدس:

وقد بلغ الشيخوخة فنضج فكره، وقد جاءت إليه ابنة عمه خديجة بنت خويلد. وكان بصره قد كف، قالت خديجة فى هذا اللقاء: يابن عم اسمع من ابن أخيك. فأخبر النبى عليه الصلاة والسلام ورقة بما رأى وعاين. قال ورقة: هذا الناموس الذى كان ينزل على موسى، يا ليتنى كنت فيها جذعا، ليتنى أكون حيا إذ يخرجك قومك، قال محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم متعجبا، كيف ينطق بالحق، ويخرجوه؟ قال: «أو مخرجى هم» . وتلك هى براءة الفطرة، قبل أن يمرسه الله تعالى بشدائد الدعوة، وقبل أن يلقى الباطل فى طغواته بالحق فى نوره. قال ورقة الذى علم أخبار النبيين، وما لقوا من بأساء وضراء وشدائد: «نعم (أى هم مخرجوك) لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودى، وإن يدركنى يومك هذا أنصرك نصرا مؤزرا» . إن هذه كلمة ورقة، وهى ثمرة الدراسة المبينة لتجارب الأنبياء. وهنا قد يسأل سائل: لماذا ذكر موسى عليه السلام، وهو التوراة، ولم يذكر الإنجيل الذى نزل على عيسى عليه السلام؟ والجواب عن ذلك أن التوراة كانت فيها شريعة قائمة عمل بها النبيون من بعد موسى عليه السلام،. وجاء عيسى لإحيائها بعد أن أهمل اليهود تعاليمها، ولم يطبقوها لغلظ رقابهم، فجاء عيسى لإعلان حقائقها، وروى عنه أنه قال: «جئت لإحياء الناموس» ، ولقد جاء النص فى كتب النصارى أنه يؤخذ بشريعة التوراة، ما لم يجيء نص فى الإنجيل يخالفها. ولم يكتب الله تعالى للشيخ ورقة بن نوفل أن يحضر المعركة التى قامت بين الحق والباطل، فلم يلبث أن توفى ولم يحضر الدعوة المحمدية، إذ أنه قد مكث مدة، حتى أمر محمد صلى الله عليه وسلم بتبليغ رسالة ربه، وأن يصدع بما يؤمر. فترة غياب روح القدس: 199- علم النبى عليه الصلاة والسلام أنه يحمل تكليفا كبيرا، وأنها منزلة كبيرة يعلو فيها بإنسانيته، فأصبح المرهوب محبوبا مرغوبا، بعد أن خشى من لقاء روح القدس، جبريل عليه السلام، صار يتمنى أن يلقاه. ليلقى أمر الله تعالى، ويستجيب له، ويحمل الأمانة التى اختاره الله تعالى لها. لقد كان يتوقع أنه سيراه بعد أن يعود إلى الغار، لكنه لم يجيء إليه وفتر عنه، فظن فى نفسه الظنون، ولعله ظن أن ما اعتراه من خوف فى اللقاء الأول نحى تكليفه القيام برسالة، ولقد كان حريصا على الاستجابة للدعوة إلى الحق، والحريص على القيام بأمر يستعجله، ويستبطيء غيابه، ولعله خشى أن يكون ما أخبره به العالم الخبير ورقة بن نوفل لم يصادف الحق، ولعله تكون الرؤيا التى راها، والمشاهدة التى عاينها

مدة الفترة:

تشبه ما يدعى للكهان، وهى أمر يبغضه، ويستنكره. لعل هذه الخواطر وغيرها أقلقته فاستبطأ الوحي، وتمناه، وعلم أنه لا يستقر مرة إلا إذا عاد الوحى إليه، شق ذلك الانقطاع على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، خشية على النعمة التى توقع أن ينعم الله تعالى به عليها. ويقول فى ذلك ابن إسحاق «ثم فتر الوحى فتر من ذلك، حتى شق عليه صلى الله تعالى عليه وسلم فأحزنه» . ذكر البخارى فى صحيحه أنه كان يذهب إلى غار حراء ينتظر حيث ينزل عليه الروح القدس جبريل ويقول فى ذلك «ثم فتر الوحى، حتى حزن النبى عليه الصلاة والسلام فيما بلغنا حزنا غدا منه مرارا كى يتردى من رؤس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة لكى يلقى نفسه تبدى له جبريل، فقال: يا محمد إنك رسول الله حقا، فيسكن جأشه، وتقر نفسه فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحى غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل، فقال مثل ذلك» وهكذا حتى انتهت فترة الانقطاع. وقد جاء فى الصحيحين عن جابر بن عبد الله «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: بينما أنا أمشى سمعت صوتا من السماء فرفعت بصرى، فإذا الملك الذى جاءنى بحراء قاعد على كرسى بين السماء والأرض فجنبت منه فرقا حتى هويت إلى الأرض، فجئت أهلى فقلت زملونى» فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ. وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ. وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ. وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ «1» ثم حمى الوحى وتتابع «2» . وإن هذا يدل على أن الفترة التى انقطع فيها جبريل عن محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام شوقا لأن يعود الوحى، وإن شوقه إلى تلقى الوحى بعد هذه الفترة جعله محبوبا مرهوبا، أو على الأقل لا يكون فزعه منه، كفزعه الأول الذى كان عقب الرؤيا بالمعاينة لجبريل عليه السلام. مدة الفترة: 200- لقد اختلفت الروايات فى مدة الفترة التى انقطع فيها الوحى، ما بين رواية تذكرها طويلة، وأخرى تذكرها قصيرة. فقد جاء فى المواهب اللدنية أنها بلغت ثلاث سنين، ولا شك أن هذه مدة طويلة نستبعدها، وإن كانت قد ذكرت فى كتب السيرة، والسبب فى استبعادنا لها- أنها لا تتفق مع كون النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان فى مشقة شديدة من تلك الغيبة حتى إنه كان يرتفع إلى شواهق الجبال ليتردى من أعلاها، وكان يتكرر ذلك، وإن الله تعالى أجل من أن يلقى بمن اختاره رحمة للعالمين

_ (1) سورة المدثر: 1- 5. (2) البداية والنهاية لابن كثير ج 3 ص 16.

يعيش فى ذلك القلق والاضطراب تلك المدة الطويلة من غير أن يعرف له غاية ينتهى عندها، وفوق ذلك، فإن الاستعداد لأمر خطير لا يستمر تلك المدة الطويلة، بل هى قد تحمل على النسيان بين اللقاءين، وإن المصادر الأصلية، والأحاديث لم تذكرها، فلم يذكرها ابن اسحاق، ولم يروها البخارى. ولقد قال السهيلى إن المدة سنتان ونصف، وقيل إنها سنتان، وقيل فيها مدد مختلفة أقلها ثلاثة أيام وأكثرها أربعون، وقد روى أن ابن إسحاق جزم بأن الذين قالوا ثلاث سنين أو سنتين قولهم وهم. وإن الذين قالوا إنها ثلاث سنين استندوا إلى ما جاء فى تاريخ الإمام أحمد، ويعقوب بن سفيان عن الشعبى أنه قال: «الفترة وهو ابن أربعين سنة، فقرن بنبوته إسرافيل ثلاث سنين، وكان يعلمه الكلمة» . وهذه الرواية لا نحسب أنها عالية مما يوجب الريب، فأولا: نذكر أن إسرافيل هو الذى كان يعلمه فى مدة ثلاث السنين، ولم يثبت ذلك، بل الثابت أنه من أول تلقى نور السماء اتصل به جبريل الأمين روح القدس، وثانيا: أن الشعبى تابعى ولم يذكر من الذى نقل له هذا من الصحابة، وقد أنكره كثير من الرواة، فقد قال الواقدى إنه لم يكن من الملائكة من قام بالاتصال بالنبى عليه الصلاة والسلام إلا جبريل عليه السلام. وفى الجملة أنه بعد ذلك البيان نرى أن تقدير مدة الفترة بالسنين أيا كان مقدارها غير معقول ولا مقبول، وليس له سند صحيح حتى يكون منقولا، حجته النقل. وإنما الذى نعتقده أن المدة لابد أن تكون فى دائرة الأشهر، ولعلها خمسة أشهر وبعض، على ما نشير من بعد. 201- إلى هنا ذكرنا اللقاء الأول للوحى النبوى، الذى أفاض الله به تعالى على محمد بن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ولكن لا ننتهى من هذا الجزء، وننتقل إلى ابتداء التبليغ، والقيام بعبء الدعوة، والجهاد فى سبيلها، من وقت أن صدع بأمرها، قبل أن نحقق الأمر، فى ثلاثة أمور تحدث العلماء فى أمرها: أولها: الشهر الذى نزل فيه الوحى، أهو رمضان، وهو ما ذكرته كتب السيرة وما رجحناه وانتهينا إليه، وسقنا سيرة الرسول عليه الصلاة والسلام الطاهرة عليه، وكان يصح ألا نذكر سواه، ولكن لم نرد أن نترك أمرا اختلف فيه العلماء من غير تمحيص، وبيان الصادق منها، وقد قيل إنه ربيع الأول، وقيل إنه رجب، فلابد من إزالة الشبه من حول الحق الصريح.

الشهر الذى نزل فيه الوحى:

ثانيها: أول نزول القران الكريم، أهى اية: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ «1» أم هى قوله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ «2» . وسننتهى ان شاء الله تعالى بالتوفيق. ثالثها: أنواع الوحى الذى خوطب به النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. الشهر الذى نزل فيه الوحى: 202- جاء فى كتاب (زاد المعاد فى هدى خير العباد) ، للإمام ابن القيم ما نصه: «لما كمل له أربعون أشرقت عليه أنوار النبوة، وأكرمه الله تعالى برسالته، وبعثه إلى خلقه، واختصه بكرامته، وجعله أمينه بينه وبين عباده، ولا خلاف أن مبعثه صلى الله تعالى عليه وسلم كان يوم الاثنين، واختلف فى شهر المبعث، فقيل لثمان مضين من ربيع الأول سنة إحدى وأربعين من عام الفيل، هذا قول الأكثرين، وقيل: بل كان ذلك فى رمضان؛ واحتج هؤلاء بقوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ «1» قالوا أول ما أكرمه الله تعالى بنبوته وأنزل عليه القران فى رمضان جملة واحدة فى ليلة القدر إلى بيت العزة، ثم أنزل منجما بحسب الوقائع فى ثلاث وعشرين سنة ... » . وإن هذا الكلام يستفاد منه بصريح اللفظ أن النبى عليه الصلاة والسلام بعث فى سنة 41 من عام الفيل عند الأكثرين، وإذا كان النبى عليه الصلاة والسلام قد ولد باتفاق المؤرخين فى عام الفيل، فيكون النبى عليه الصلاة والسلام قد بعث بعد أن بلغ الأربعين وتجاورها بسنة، ولكن يظهر أن أنوار النبوة كما قال ابن القيم أشرقت عليه قبل أن يبلغ الحادية والأربعين، وتكون أنوار النبوة سابقة على البعث، ببضعة أشهر، إذ أن كلامه يفيد بصريحه أن أنوار النبوة جاءت فى الأربعين، لا بعد مرور سنة الأربعين كاملة. والمشهور الذى عليه الجمهور هو أنه بعث فى سنة الأربعين فى رمضان فى اليوم السابع والعشرين من رمضان، وهذا هو المشهور، وهو الراجح، وقيل فى السابع، وقيل فى الرابعة والعشرين. وإننا نستطيع التوفيق بين هذه الروايات، فنقول: إن أول مجيء الوحى كان فى السابعة والعشرين من رمضان سنة 40، ولكن التكليف بالتبليغ كان فى شهر ربيع فى الثامن من ربيع، ويكون الفارق الزمنى بين الأمرين هو أربعة أشهر (شوال وذو

_ (1) سورة العلق. (2) سورة البقرة: 185.

أول ما نزل من القران الكريم:

القعدة وذو الحجة، والمحرم، وسبعة أيام من ربيع) ، أى أربعة أشهر وبعص الشهر، وإن ذلك يهدينا إلى مدة الفترة التى انقطع فيها الوحى النبوى، والتى كانت شاقة، وقد جاء هذا بالإشارة لا بالعبارة فى شرح المواهب اللدنية، فقد جاء فيها ما نصه: «وجمع بين النقلين» أى النقل بأنه بعث فى رمضان، والنقل الذى يقول إنه فى ربيع، بما ما فى ذلك حديث عائشة «أول ما بديء به الوحى الرؤيا الصادقة» فيكون نبيء فى شهر ربيع بالرؤيا الصادقة، ثم أتاه جبريل فى رمضان «1» . ونرى أن صاحب المواهب نقل عن ابن حجر فى فتح البارى ذلك التوفيق، ولكنا نوافقه فى أصل التوفيق، ونخالفه فى استنباطه فى القول بالرؤيا الصادقة كان فى ربيع سنة 41 ونزول جبريل كان فى رمضان سنة 41 أيضا، وذلك لأن الذين قالوا إن النزول كان فى رمضان، قالوا وقد بلغ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم الأربعين لا الحادية والأربعين، وللتوفيق الكامل نقول أنه كان فى رمضان سنة 40 كانت الرؤيا الصادقة، التى أعقبها لقاء جبريل، وقد ذكره بما رأى وكان تصديقه بالمعاينة ثم فتر الوحى من بعد ذلك فترة شقت على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وكان نزول القران الكريم وتتابعه، وهذا يعطينا بيان مدة الفترة، الذى ذكرناه ظنا، ونراه الان رواية صادقة، وأنه ملتقى الروايات التى يبدو فيها تضارب، ولكنه يتكشف بهذا أنه لا تضارب، بل تلاق بين النصوص. أول ما نزل من القران الكريم: 203- إن السياق الذى ذكرناه انفا وهو الذى أجمع عليه رواة السيرة، أن جبريل روح القدس عليه السلام خاطب محمد بن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعد رؤياه الصادقة بما جاء فى وحى الرؤية تماما، فقال له اقرأ، فقال لا أقرأ.. إلى اخر المذاكرة الروحية بينهما، التى انتهت بأن نقل عن ربه قوله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ ... «2» . وإذا كانت هذه من القران الكريم، ومن ينكر ذلك فعليه أن يتوب، فإنها بلا ريب أول القران الكريم نزولا، واذا كنا قد انتهينا إلى أن أول القران الكريم نزولا كان فى رمضان، وأن أول الوحى كان فى رمضان، فرمضان شهر القران الكريم، كما هو شهر الوحى، وكما قال الله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ «3» .

_ (1) شرح المواهب اللدنية ج 1 ص 207 (2) سورة العلق: 1- 5. (3) سورة البقرة: 185.

هذه حقائق سائغة، لا ريب فيها، ولا اختلاف، ولا تثير ريبا ولا خلافا. ولكن الروايات تجىء بما يفيد ظاهرها المعارضة بينها وبين ذلك الحق الصادق الذي لا ريب فيه، ولا مجال للريب فيه، ولنذكر بعض هذه الروايات لنبين أنه لا تعارض فى حقيقة الأمر. لقد ثبت فى الصحيحين البخارى ومسلم عن يحيى بن أبى كثير قال سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن: أى القران أنزل قبل غيره فقال: «يا أيها المدثر» فقلت: واقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ؟ فقال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: فنوديت فنظرت من بين يدى وخلفى وعن يمينى وعن شمالى، فلم أر شيئا، ثم نظرت إلى السماء، فإذا هو على العرش فى الهواء، فأخذتنى رعدة، أو قال وحشة، فأتيت خديجة، فأمرتهم فدثرونى فأنزل يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ. وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ. وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ وفى رواية أخرى ما يشير بأن هذه الاية ليست الأولى، وليس ما فيها أن رؤية جبريل روح القدس الأولى، فقد قالت: فإذا الملك الذى جاءنى بحراء جالس على كرسى بين السماء والأرض «1» فجنبت منه فرقا- إلخ، وهو ذكر لما تضمنه الضمير فى الرواية الأولى التى تقول: «فإذا هو على العرش فى الهواء» . وإن هذا يفيد بلا ريب أن الوحى جاء ابتداء فى غار حراء، وفيها نزل اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ثم جاء ثانيا وليس أولا كما توهم أبو سلمة نزول الوحى «يا أيها المدثر» . وإن نظرة فاحصة تبين لنا أن أول القران الكريم نزولا هو اقرأ، كما هو الأصل الذى لا مراء فيه، ولكن فترة الوحى هى خمسة أشهر وبعض الشهر، ثم جاء فيها الوحي: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ ... وقد انتهينا إلى أن الفترة ابتدأت بعد أن نزل قوله تعالى اقْرَأْ فى رمضان من سنة 40 هـ، وانتهت الفترة فى ربيع سنة 41 هـ من عام الفيل. والحق أن الروايات غير متضاربة للمتأمل البصير، فإن أول ما نزل بالقران الكريم لم يكن فيه الأمر بالتبليغ، بل كان فيه اللقاء بروح القدس، والإعلام بالقران الكريم، ويمغزاه الأول، وهو تعليم الخلق، وبيان الحق، وأنه كتاب الله تعالى، يقرأ باسمه ويعرف به ذكره، أما تكليف القيام بالتبليغ، فقد جاء فى قوله تعالي: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ. وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ. وإلى هذا أشار ابن كثير، فقال فى الرواية التى جاءت فى البخارى عن عبد الرحمن بن أبى سلمة: «لا ينفى هذا تقدم إيحاء جبريل إليه أولا: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ... ثم التقى به جبريل بعد نزول قوله تعالي: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ. وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ. وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ. وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ، ثم حمى الوحى وتتابع- أى تدارك شيئا بعد شيء- وقام حينئذ رسول الله صلى الله تعالى

_ (1) البداية والنهاية ج 3 ص 17.

مراتب الوحى وشكله:

عليه وسلم فى أداء الرسالة أتم القيام، وشمر عن ساق العزم، ودعا إلى الله تعالى القريب والبعيد، والأحرار والعبيد، فامن به حينئذ كل لبيب نجيب سعيد، واستمر على مخالفته وعصيانه كل جبار عنيد. مراتب الوحى وشكله: 204- نتكلم فى هذا الجزء من البحث عن الوحى الذى كان ينزل على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، والذى ابتدأ بالرؤيا الصادقة وتتابع، وجاء شيئا فشيئا، حتى تم القران الكريم نزولا، فى مدى ثلاث وعشرين سنة كاملة. لقد جاء النص القرانى بطرق خطاب الله تعالى لأنبيائه، فقال تعالى: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ، أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا «1» . ولا شك أن هذه طرق لحصر خطاب الله تعالى لمن يختارهم من خلقه لخطابه، فمن أى كان الخطاب لمحمد بن عبد الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم؟ ونجيب فى هذا المكان؛ لأننا فى مقام أول نزول الوحى، فلنسر فى مداه إلى نهايته. يذكر ابن القيم فى كتابه (زاد المعاد) أن للوحى سبع مراتب، فلنعرج على كل واحدة بكلمة موضحة فى إيجاز، وربما نجد المقسم لا يشمل ذلك العدد، لأن بعضها يدخل فى بعضه، فالحدود فى الأقسام غير فاصلة. المرتبة الأولى: الرؤيا الصادقة: وقد كانت تلك المرتبة قائمة عند النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، حتى إذا كان البعث المحمدى كانت الرؤيا الصادقة هى أول ما نزل به القران الكريم، كما جاء فى سيرة ابن إسحاق، ثم تأكدت الرؤيا بمخاطبة روح القدس جبريل عليه الصلاة والسلام، فكانت مصدقة بالخطاب. وقد كانت هذه الرؤيا توجب التكليف أحيانا، كما جاء فى قصة خليل الله تعالى إبراهيم عليه السلام فى قصة الفداء، إذ قال تعالى حكاية عن قول إبراهيم: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ. فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ. فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ، قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى، قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ، سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ. فَلَمَّا أَسْلَما، وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ. وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ. قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا، إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ. وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ «2» .

_ (1) سورة الشورى: 51. (2) سورة الصافات: 100- 107.

والمرتبة الثانية،

ونرى من هذا أن خليل الله تعالى إبراهيم عليه السلام، فهم من هذه الرؤيا تكليفه ذبح ابنه، فقبل التكليف صابرا، محتملا، وهو ابنه البكر، واستجابة دعوته عليه السلام، وكان ذلك البلاء المبين حقا، فقد استجاب للطلب إبراهيم، وقبل الاستجابة إسماعيل صابرا، فكانا من المحسنين، ونعم الصابرون. والمرتبة الثانية، عبر عنها ابن القيم بأنها ما كان يلقيه الملك فى روعه وقلبه، وهذا التعبير يستفاد منه أن الملك هو الوسط بين الله ورسوله، فهو ينفث فى روع الرسول، وبأمر الله تعالى، فكان بذلك وحيا، وكان بطريق الملك، ولقد مثل له ابن القيم بقوله عليه السلام: «إن روح القدس نفث فى روعى أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا فى الطلب» والفرق بين الوحى بهذا المعنى والوحى بلقاء جبريل وروح القدس، أن لقاء جبريل عيانا فى حال المخاطبة. إنما فى هذه الحال، فاللقاء فى النفس وفى القلب والعقل، وربما نعد حينئذ أن يكون هذا من إرسال رسول، ولو كان بإلهام الله تعالى المجرد، وهو ما نميل إليه إذا استيقن الرسول أن ذلك إلهام من الله تعالى، فإنه كلام الله تعالى بالوحى المجرد من غير توسط رسول. المرتبة الثالثة: مخاطبة الملك، حتى كان يتمثل رجلا، فيخاطبه حتى يعى عنه ما يقول له، فقد كان يأتيه متمثلا فى رجل يظنه النبى صلى الله عليه وسلم من الإنس لا من الملائكة. فقد كان يأتيه فى صورة دحية الكلبى، كما روى ذلك النسائى بسند صحيح من حديث ابن عمر، ولقد قيل أن مجيء جبريل على صورة دحية الكلبى كان بعد بدر، ويقول ابن القيم وكان دحية رجلا وسيما، إذا قدم لتجارة خرجت الظعن «1» لتراه، وإن مجيء جبريل فى صورة رجل، ليس معناه أن جبريل الأمين نزع من روحانيته، أو ذهبت عنه الروحانية، إنما هو لا يزال روحا، والذى ظهر به هو ظهور للروح فى صورة جسدية، ومعانى الملك لا تزال ثابتة قائمة، ولا يوجد ما يمنع عقلا أن تظهر الروح فى صورة إنسان له جسد. ودحية لا شأن له فى هذا التغير الصورى، بل هو حى فى جسده يأكل ويشرب، ويمارس الحياة الإنسانية كاملة. وكون روح القدس جبريل يظهر فى جسد لا يقتضى أن يتحول الجسد إلى ملك، ولا أن يتحول الملك إليه، وهى روح ليست حيوانية، ولا ثمرة للحيوية الإنسانية، حتى إذا تركت الجسد لا تفارقه الحياة، لأنها ليست أمرا عضويا، ولكنها روح ملك تفيض فى جسم يخلقه، أو تظهر فى جسم يخلقه الله تعالى، وهو الخلاق العليم، فإذا غاب الملك غاب معه الجسد الإنسانى.

_ (1) الظعن بضم الظاء والعين جمع ظعينة، وهى المرأة الجميلة.

المرتبة الرابعة:

المرتبة الرابعة: أنه كان روح القدس جبريل يأتيه مخاطبا له مثل صلصلة الجرس، ويقول ابن القبم كان أشده عليه، ويقول فى وصفه ابن القيم: «فيلتبس به الملك، حتى أن جبينه ليتفصد عرقا فى اليوم الشديد البرد، وحتى إن راحلته لتبرك به إلى الأرض، إذا كان راكبها، ولقد جاء الوحى مرة كذلك، وفخذه على فخذ زيد بن ثابت، فثقلت عليه، حتى كادت ترضها» . وقد روى البخارى عن زيد: أرسل الله على رسوله، وفخذه على فخذى، فثقلت علي، حتى خفت أن ترض فخذى. وقد جاء فى الصحيحين والموطأ عن عائشة أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: كيف يأتيك الوحى، قال: أحيانا يأتينى مثل صلصلة الجرس، وهو أشدها على، فيفصم عنى وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانا يتمثل لى الملك رجلا، ليكلمنى، فأعى ما يقول. قالت عائشة: ولقد رأيته ينزل عليه الملك فى اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه، وإن جبينه ليتفصد عرقا «1» ولا نريد أن نحاول توضيح هذه المرتبة، فإن تلك مراتب روحية لا نسمو إلى إدراك حقيقتها، ولكن نحاول أن نتصورها فقط، من غير تعرفها كاملا، فلا يعرفها إلا من عالجها، ولم يعالجها إلا المصطفون الأخيار الأبرار. إن الذى فهمناه من ذكر فى هذه الحال أن روح القدس الطاهر يختلط بالنبى عليه الصلاة والسلام ويمازج روحه وجسده، ويخاطبه بصوت قوى صارخ، فيه عنف كعنف صلصلة الجرس، يسمعه عليه الصلاة والسلام، ولا يسمعه غيره، ويحس فى نفسه، ولا يحس غيره، ويكلمه بكلام مفهوم، وإن كان فى صوت قوى، وكل ما فيه من خطاب قوى، ويكون باختلاطه بروح النبى، وبممازجته جسمه محدثا ثقلا جسميا ضاغطا على ما يكون رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم جالسا عليه، وإن الرسول ليعرف ما يقول، ويحفظه ويعيه ولا يجلهه، حتى إن انفصل عنه لا ينفصل إلا وقد وعى كل ما أراد أن يبلغه عن الله تعالت قدرته، وعظمت منته. وقد روى العسقلانى فى المواهب أحاديث موضحة وشاهدة لهذه المرتبة من الوحى. ومنها روى الطبرانى عن زيد بن ثابت قال كنت أكتب الوحى لرسول الله صلى تعالى عليه وسلم وكان إذا نزل عليه أخذته برحاء شديدة، وعرق عرقا شديدا مثل الجمان «2» ، ثم سرى عنه، وكنت أكتب، وهو يملى على، وربما وضع فخذه على فخذى حال الكتابة، فما أفرغ حتى تكاد رجلى تنكسر حتى أقول لا أمشى على رجلى، ولما نزلت عليه سورة المائدة كاد ينكسر عضد ناقته «3» .

_ (1) شرح المواهب اللدنية ج 1 ص 29. (2) الجمان: صغار اللؤلؤ، والبرحاء الحمى. (3) كان الكلام فى نزول اية: «اليوم أكملت لكم دينكم» لا فى سورة المائدة.

المرتبة الخامسة:

وذكرت الناقة هنا لأن النبى عليه الصلاة والسلام، خطب خطبة الوداع فى عرفة وهو واقف، ونزلت اية الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي، وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً «1» فى هذا اليوم، وكان راكبا على الناقة. المرتبة الخامسة: قال فيها ابن القيم: «أنه يرى الملك فى صورته التى خلق عليها، فيوحى إليه ما شاء أن يوحيه» وهذا وقع له مرتين كما ذكر الله تعالى فى سورة النجم. يشير إلى قوله تعالى: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى. ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى. وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى. عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى. ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى. وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى. ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى. فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى. فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى. ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى. أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى. وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى «2» فيفسر ابن القيم تلك الرؤية الروحية بأنها رؤية جبريل بحقيقته، وهى فيما أحسب رؤية بنور البصيرة، وبقوة الروح، لا بنور البصر، ولا بشكل جسمى، لأن جبريل روح، فكيف يراه إلا أن يكون محسوسا، وبذلك لا تفترق هذه الحال عن الرؤية المشخصة مع أنها غيرها. ولقد قال عبد الله بن مسعود: لم ير الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم جبريل على صورته التى خلق عليها إلا مرتين، أما واحدة فإنه سأله أن يريه نفسه، فسد الأفق، وأما الاخرى فليلة الإسراء عند سدرة المنتهى. المرتبة السادسة: ما أوحاه الله تعالى إليه وهو فوق السموات ليلة المعراج من فرض الصلاة وغيرها. ومؤدى كلام ابن القيم أن هذه المرتبة من الوحى هى التلقى عن الله سبحانه وتعالى مباشرة، لا بطريق الرؤيا الصادقة فى المنام، ولا يقتضى ذلك رؤية، لأنه قد يكون الله يكلم العبد المختار للرسالة من عباده من وراء حجاب، ليكون الكلام مع الله تعالى من غير رؤية لذاته العلية، فقد سئل عليه الصلاة والسلام: هل رأيت ربك، «فقال إنه نور، فأنّى أراه» وإن هذا التفسير الذى اخترناه يتلاقى مع المرتبة السابعة التى سنذكرها، وإذا أردنا التمييز فإننا نقول إن هذه هى من الله مباشرة من غير توسط، وهو ما كان ليلة المعراج، فالذى نتصور على مقدار ما يقرر ابن القيم، أنه ليس بكلام تكلمه رب العالمين، ولكن وحى مباشر. المرتبة السابعة: هى الكلام من وراء حجاب، وقد قال فيها ابن القيم: «كلام الله إليه أى الرسول صلى الله عليه وسلم بلا واسطة ملك، فكلم الله تعالى موسى بن عمران، وهذه المرتبة ثابتة

_ (1) سورة المائدة: 3. (2) سورة النجم: 1- 13.

دعوة الحق

لموسى قطعا بنص القران الكريم، وثبوتها لنبينا صلى الله تعالى عليه وسلم فى حديث الإسراء، وبهذا التفسير يتبين أن السابعة داخلة فى السادسة، وليست كل واحدة منهما مرتبة قائمة بذاتها «1» . وفى الحق فإن هذه المراتب متداخلة، والمراتب كلها مذكورة فى القران الكريم، فى قوله تعالى: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ... «2» . دعوة الحق 205- بعد أن فتر الوحى نحو ستة أشهر أو دون ذلك قليلا، جاء التكليف بالتبليغ،. وتحمل عبء الرسالة الإلهية إلى الخلق أجمعين ناداه ربه بالأمر بأن يرفع من ثيابه ما كان يجر، ولا يكتفى بالتعبد فى غار حراء، وإن كان ذلك كافيا لتهذيب نفسه، وتصفية روحه، وأن يكون متصلا بربه خفية وتضرعا. فإنه لا يكفى لرسول أمين، بل لابد أن يتكلم عن ربه أمام العالمين، وتكون معه العبادتان: العبادة الفردية بتهذيب ذاته وتقوية روحه، وتوجيه نفسه إلى الله واحده الذى لا يغيب عنه شيء فى السماء ولا فى الأرض، والعبادة الجماعية بأن يتقدم لدعوة الحق ودعوة الناس إلى الانصراف لعبادة الله واحده. وإصلاح الخلق، والسير بهم فى المحجة الواضحة التى ليلها كنهارها. وهذه غاية الرسالة الكبرى التى حملها خاتم النبيين محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام. أمره الله تعالى بعد أن ناداه النداء المؤكد: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ. وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ. وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ. وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ. وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ «3» . تضمنت هذه الايات الكريمات، الإنذار بالعذاب الشديد إن استمروا، وبالدعوة إلى عبادة الله تعالى، وتطهير الثياب ظاهرا وباطنا، وبترك الفساد وهجر الشر، وعبادة الله تعالى هى السبيل لدفع الشر، ومنع الأذى، وفى الجملة هذه الايات التى تعد أول طلب لتبليغ الدعوة تشتمل على ثلاثة أمور هى خلاصة الدعوة المحمدية، أو ترمز لكل نواحيها التكليفية. أولها- الإيمان بالعقاب والحساب، وقد أشار إليها سبحانه وتعالى بالأمر بالإنذار ففيه إشارة إلى اليوم الاخر وما يكون فيه من حساب وجزاء إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. والأمر الثانى تربية النفس الإنسانية بالعبادة والصبر، وتطهير القلوب بالخلوص لله سبحانه وتعالى، وتكبيره واحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وقد أشار إلى ذلك بقوله تعالى

_ (1) المراتب مذكورة فى زاد المعاد ج 1 ص 25، وفى المواهب اللدنية وشرحها ج 1 ص 225 وما بعدها. (2) سورة الشورى: 51. (3) سورة المدثر: 1- 7.

مراتب الدعوة:

وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ. وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ، والأمر الثالث- إماطة الأذى عن الجماعة التى يعيش فيها. ونفعها، وقد أشار سبحانه إلى ذلك بقوله: وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ، وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ. وبذلك يتبين أن الايات الكريمات رمزت إلى خلاصة الحقائق الإسلامية التى يقام عليها الإسلام، وهى الواحدانية والإيمان باليوم الاخر وتطهير النفوس ودفع الفساد، وجلب النفع. مراتب الدعوة: 206- ذكر ابن القيم فى زاد المعاد أن مراتب الدعوة خمس مراتب: الأولى النبوة: فلا يدعو إلى الحق الذى نزل من عند الله تعالى إلا نبى وقد اعتبرها ابن القيم المرتبة الأولى، ونحن لا نعتبرها كذلك، إنما نعتبرها كيان الدعوة، فلا دعوة إلى الإيمان برسالة إلا من نبى مرسل، فهى دعامة، وليست مرتبة يبتدأ بها، بل هى الأصل ولب الدعوة. المرتبة الثانية: إنذار العشيرة الأقربين ، وقد أمر الله تعالى بذلك فقال سبحانه وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ. وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ «1» وقد بدأ النبي عليه الصلاة والسلام دعوة عشيرته، فدعا بنى عبد مناف وقال لهم: أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادى تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقى؟ قالوا: ما علمنا منك كذبا، فقال عليه الصلاة والسلام: «إنى رسول الله إليكم بين يدى عذاب شديد، وإنها للجنة أبدا وللنار أبدا. أو كما قال صلى الله تعالى عليه وسلم. والمرتبة الثالثة: إنذار قومه ، وقد سلك محمد عليه الصلاة والسلام، ذلك المنهاج الذى انتقل فيه من الحيز الضيق إلى ما هو أوسع، ثم إلى ما هو أعم، فانتقل من إنذار عشيرته الأقربين إلى قومه من قريش قريبهم وبعيدهم. وقد أنذر عليه الصلاة والسلام فى هذه المرتبة سكان مكة المكرمة وما حولها. المرتبة الرابعة: عبر عنها ابن القيم بقوله، إنذار قوم ما أتاهم من نذير من قبله إلا كانوا به مؤمنين، وهؤلاء هم العرب فى الجزيرة العربية قاصيهم ودانيهم، سكان المدر منهم وسكان الوبر، وبذا عمت دعوة كل من ينطق بالعربية من غير تفرقة بين قريب وبعيد. والمرتبة الخامسة: تبليغ الدعوة إلى غير العرب من الرومان والفرس والشام ومصر والحبشة برسل أرسلهم وبكتب كتبها، ثم بث الدعاة، وجهز الجيوش التى تدافع من هجموا أو حاولوا

_ (1) سورة الشعراء: 214- 215.

الهجوم، أو حاجزوا بين الإسلام ودعوته، وحالوا بين الشعوب ومعرفته، فكان الجهاد ليتبين الرشد من الغىّ، والهدى من الضلال، ومن بعد ذلك يختارون عن بينة، فقد قال تعالى: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى، لَا انْفِصامَ لَها، وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ «1» . وقد سلك النبى عليه الصلاة والسلام تلك المراتب، وإن كانت التفرقة بين الرتبة الثانية والثالثة دقيقة إذ لا تكادان تنفصلان، والمرتبة الأولى لا تعد مرتبة للدعوة، ولكنها مرتبة التهيئة لها، ولعله يريد منها ما كان من نزول قوله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ... إلى اخر الايات الكريمات، التى نزلت فى أول لقاء النبى صلّى الله عليه وسلّم بروح القدس جبريل عليه الصلاة والسلام، إلى نهاية الفترة التى قدرناها بما دون ستة الأشهر وتنتهى عند نزول قوله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ. وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ. وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ «2» 207- وقد كانت الدعوة من بعد ذلك خفية، يلتقى بالأولياء والأصدقاء المقربين، والصفوة المختارة من الصحب الأبرار، وهذه هى المرتبة الثانية. وإنما كانت الدعوة ابتداء خفية لتتكون خلية الإسلام، وإن الخلايا يكون بذر البذور فيها بالكتمان لأن الجهر يبددها قبل أن تتكون حتى ينمو عودها وتتكون سوقها. فكل فكرة جديدة لابد أن يلتقى حولها قلوب مؤمنة بها ويتولى من بعد ذلك إعلانها والمجاهرة بها، ثم لابد من تكوين من يتقدمون الدعوة، ومثل الدعوة الخفية، كمثل تكوّن الجنين فى بطن أمه، فإنه لا يظهر للوجود حيا حياة كاملة، صالحا لأن يقاوم دواعى الفناء، والأخذ من عناصر البقاء والتغذى بكل أسباب القوة، فكذلك الدعوة إلى كل فكرة، تقتضى التدبير الخفى، ثم الإعلان الجلى. ولذلك كانت الدعوة الأولي، ثم كانت المراتب التى تليها. ولقد يقول الرواة إن الاستخفاء كان نحو ثلاث، كانوا يستخفون بها فى العبادة والمذاكرة، وقالوا إنها كانت فى دار الأرقم بن أبى الأرقم. ولكن يجب أن نعلم أن الاستخفاء فى هذه الفترة ليس الاستخفاء بالدعوة، فقد كان النبى عليه الصلاة والسلام يعلن ما جاء به من نذير، وما فى جعبته من تبشير، ولكن الذى يستخفى به هو إقامة العبادة التى دعا إليها رب العالمين، ولذلك كان اضطهاد المؤمنين من الضعفاء واضطهاد النبى عليه الصلاة والسلام قبل أن يسلم حمزة وعمر، وخروج المسلمين صفوفا معلنين الإسلام مجابهين المشركين متحدّين قوة الشرك بقوة الله تعالى وقوة الحق، والصبر المستعذب، وإن كان مريرا.

_ (1) سورة البقرة: 256. (2) سورة المدثر: 1- 4.

أول من أسلم

ثم من بعد ذلك كانت المجاهرة الكاملة التى تشق الصفوف المشركة بنور الحق، وإشراق الإخلاص، إذ أمر الله تعالى أمرا جازما قاطعا إذ قال تعالت كلماته فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ «1» . وقد أخذ عليه الصلاة والسلام من بعد نزول هذه الاية يجاهر المشركين، ويجادلهم بالقران الكريم، ويصابرهم فى اطمئنان المؤمن بالحق فيما يدعو إليه، يجادلهم بالقران الكريم يتلوه عليهم، ويتحداهم أن يأتوا بمثله، وهم يتهددونه وينذرونه وأهله، ويقاطعون بنى هاشم، إلى اخر ما سنقرر من بعد. وبنو هاشم ما عدا أبا لهب ومعهم بنو المطلب يسيرون معه صفا واحدا اعتبارا للقرابة عند الأكثرية منهم ولأجل الحق عند غيرهم. حتى إذا مات أبو طالب الذى كان عالى الصوت باسم القرابة والمحبة، أخذ محمد عليه الصلاة والسلام يدعو القبائل فى مواسم الحج، وفى وفودها، حتى إذا صار للإسلام الكلمة العليا فى الجزيرة العربية فاضت الواحدانية بالنور على من وراء البلاد العربية إلى الأقاليم التى تصاقبها إقليما بعد إقليم. أول من أسلم 308- اتجه محمد عليه الصلاة والسلام إلى تكوين الخلية الأولى للإسلام، فاتجه إلى الذين يعاشرونه ابتداء،. وكان يعاشره ثلاثة: أولهم أم المؤمنين خديجة، السكن، والمواسية، والحانية، والرقيقة، وأم أولاده، والرفيقة الرؤم، والثانى على بن أبى طالب، وقد كان فى كلاءة النبى عليه الصلاة والسلام وكفالته، وهو له المؤدب والمربي، ذلك أن أبا طالب كان كثير العيال قليل المال، وعند ابن أخيه محمد عليه الصلاة والسلام فضل يسار ومال من عمله فى التجارة فى مال خديجة، وعند العباس عمه مال وفير، إذ كان من أثرياء قريش. ولقوة إحساس محمد صلى الله عليه وسلم وصلة رحمه وما عنده من مودة فى القربى ذكر حال عمه للعباس واقترح أن يأخذ كل منهما ولدا من أولاد أبى طالب يكفله، فكان من نصيب محمد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على كرم الله وجهه، وعندما جاءت الدعوة الإسلامية، ونزل الوحى الإلهى كان على فى العاشرة. وثالث الثلاثة زيد بن حارثة بن شرحبيل، وكان عربيا من بنى كلب.

_ (1) سورة الحجر: 94.

كان الرق قد جرى عليه بالطريقة الجاهلية، إذ قد أخذته جماعة من الفرسان وهو ابن ثمانى سنوات، وباعوه فى سوق من الأسواق، وال أمره إلى خديجة أم المؤمنين، ثم وهبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان عبدا له على مقتضى ما كان عليه الناس إبان ذاك. وقد جزع أبوه عليه جزعا شديدا، وبكى لفقده، وقد قال فى ذلك شعرا جاء فيه: بكيت على زيد وما أدرى ما فعل ... أحى فيرجى أم أتى دونه الأجل فو الله ما أدرى وإنى لسائل ... أغالك بعدى السهل أم غالك الجبل ويا ليت شعرى هل لك الدهر أوبة ... فحسبى من الدنيا رجوعك لى بجل «1» تذكرنيه الشمس عند طلوعها ... وتعرض ذكراه إذا غربها أفل «2» وإن هبت الأرواح هيجن ذكره ... فياطول ما حزنى عليه وما وجل سأعمل نص العيس فى الأرض جاهدا ... ولا أسأم التطواف أو تسأم الإبل «3» حياتى أو تأتى على منيتى ... فكل امرئ فان وإن غره الأمل «4» أخذ يبحث عنه فى طول بلاد العرب، حتى عثر عليه عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قبل البعثة، ومحمد بن عبد الله صلّى الله عليه وسلّم عدو الرق بفطرته لم يرد أن يحتجنه عنده غير مختار، فخيره بين أبيه والمقام عنده، وقال: إن شئت فأقم عندي، وإن شئت فانطلق مع أبيك. ولكن الشاب قد اختار له، فاختار أن يقيم مع محمد صلى الله عليه وسلم وهو يلمح نور النبوة عن الحرية مع أبيه واله، ولكن أباه أخذ يلومه، فقال له: «يا زيد تختار العبودية على أبيك وأمك» فقال ابن الكريم. «إنى قد رأيت من هذا الرجل شيئا، وما أنا بالذى أفارقه أبدا» . عند ذلك الوفاء أخذ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بيده، وقام إلى الملأ من قريش، فقال: اشهدوا أن هذا ابنى وارثا ومورثا. رأى أبوه ذلك فطابت نفسه، وكان يدعى زيد بن محمد، فلما ألغى التبنى وقال تعالى فى المتبنين: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ، فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ «5» .

_ (1) بجل بمعني حسم أي حسم الشئ وأنهاه. (2) الأرواح جمع ريح، والوجل الخوف. (3) النص السير الكثير الشديد. (4) الشعر في سيرة ابن هشام ج 1 ص 248. (5) سورة الأحزاب: الاية 5.

الإسلام فى بيت النبوة:

الإسلام فى بيت النبوة: 209- كان أول الإسلام فى بيت النبوة، وأول الدعوة كانت فى بيت محمد عليه الصلاة والسلام، وقد كان الذين يكونونه، وبلغوا حد الإدراك المميز للحقائق الدينية فى الجملة، هم هؤلاء الثلاثة خديجة بنت خويلد الزوجة الطاهرة الوفية الأمينة الحانية على زوجها وثانيهم على بن أبى طالب الذى كان فارسا، وهو الذى رباه النبى عليه الصلاة والسلام، وثالثهم المولى المخلص الذى أزال محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم عنه الرق، ورفعه إلى شرفه من ذؤابة قريش، حتى كان يقال زيد بن محمد حتى ألغى الله تعالى التبني، ولكنه ألغاه وزيد شريف بالإسلام والإيمان، وشريف بحريته واحترام نسبه الأصلي، الذى لم يرنق برق. لقد امنت خديجة منذ أن التقى محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم بروح القدس، جبريل عليه السلام، وعاد إليها يرجف فؤاده، وأخبرها ورقة بن نوفل بمكانة محمد عليه الصلاة والسلام، وأنه رسول هذا الزمان، وأنه لا نبى بعده. امنت به منذ الابتداء، وكان إيمانها أمنا وسلاما، فقد كانت هى السكن الذى يأوى إلى ما فيه من رحمة وسط عنف المعارضة، وشدة المقاومة، وكما قال ابن هشام فى سيرته: «وازرته على أمره، وكانت أول من امن بالله وبرسوله، وصدق بما جاء به، فخفف الله تعالى بذلك عن نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم، لا يسمع شيئا مما يكرهه من رد عليه وتكذيب له، فيحزنه ذلك، إلا فرج الله تعالى عنه بها إذا رجع إليها، تثبته وتخفف عليه، وتصدقه وتهون عليه أمر الناس» رضى الله تبارك وتعالى عنها. وإنها بذلك صارت لها منزلة فوق منزلة نساء الأنبياء أجمعين، بل صارت لها منزلة فى الذروة بين نساء العالمين حتى صارت ثالثة بين فضليات النساء فى الخليقة، وهى مريم العذراء التى خاطبتها الملائكة من السماء، وبضعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبضعتها، فاطمة الزهراء. وقد أرسل الله تعالى لها تحية طيبة مباركة من السماء، فقد أمر الله تعالى نبيه أن يخبرها على لسان جبريل بأن الله تعالى يقرئها السلام، وروى عبد الله بن جعفر بن أبى طالب أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أمر بأن يبشر خديجة ببيت من قصب (والقصب هو اللؤلؤ المجوف) لا صخب فيه ولا نصب. إنها أقامت بيتا للنبى عليه الصلاة والسلام فيه الهدوء والبركة والأمن والسلام يلقى فى خارجه غبار الصخب، وعناء النصب، فكتب الله تعالى لها بيتا فيه الراحة التامة، وفيه الرونق، وفيه الجمال، فيلتقى فيه جمال المنظر، بلطف الهدوء بعد اللغوب.

إسلام على:

ولقد أحست بمنزلتها عند الله تعالي، وخصوصا عندما أقرأها السلام بذاته الكريمة فقد ردت التحية فقالت مقال المؤمنة «الله السلام، ومنه السلام، وعلى جبريل السلام» فالتقى الإيمان الصادق، بالتنزيه لله، فجعلت الرد على جبريل، أما الله فهو السلام، وهو واهب السلام، فتعالت ذاته، ويقول فى التعليق على ردها شارح المواهب اللدنية «هذا من وفور فقهها، حيث جعلت مكان رد السلام على الله تعالى الثناء عليه، ثم غايرت بين ما يليق وما لا يليق» ومع كون هذا إدراكا سليما أقول إنه إحساس عميق وإيمان صادق بالله. إسلام على: 210- كان على رضى الله تعالى عنه فى العاشرة من عمره، وقد تجاوز سن التمييز الأولى، وصار له إدراك فى المعانى الدينية. وذلك هو نظر علماء الإسلام من بعد. إذ أنهم اتفقوا على صحة إسلام الصبى المميز. واعتبار إسلامه وإن اختلفوا فى اعتبار ردته إذا تقرر إسلامه ابتداء. أو بوراثته للإسلام. كان على رضى الله تعالى عنه وكرم الله وجهه فى سن التمييز عند بعثة النبى عليه الصلاة والسلام. وفيه ذكاء يسبق به أقرانه ومن فى سنه، وهو فوق ذلك فى مهبط الوحي، ومنزل النبوة، وما لا يصل إليه بالإدراك يصل إليه بالمحاكاة والقدوة الصالحة، وقبس النبوة يهديه. ونورها يسطع فيما حوله. ولقد قالوا إنه ابتدأ نور الهداية باتخاذه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أسوة حسنة يقلدها ويحاكيها، ويتبع اثارها، ويقتفى مسالكه صلى الله تعالى عليه وسلم. قال ابن إسحاق: «ذكر بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان إذا حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مكة المكرمة. وخرج معه على بن أبى طالب مستخفيا من أبيه أبى طالب، ومن جميع أعمامه، وسائر قومه فيصليان الصلوات فيها، فإذا أمسيا رجعا، فمكثا كذلك ما شاء الله تعالى أن يمكثا. ولكن عين أبى طالب كانت تتلفت حول ابنه وابن أخيه وحبيبه محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، ولذلك؛ رمقتهما- وهما يصليان، فاتجه إلى محمد عليه الصلاة والسلام، فقال له: يابن أخى ما هذا الدين الذى أراك تدين به. فقال: أى عم هذا دين الله ودين ملائكته، ودين رسله، ودين أبينا إبراهيم بعثنى الله به رسولا إلى العباد، وأنت أى عم: أحق من بذلت له النصيحة، ودعوته إلى الهدى، وأحق من أجابنى إليه وأعاننى عليه» . دعاه محمد عليه الصلاة والسلام إلى أمرين: أولهما الإيمان بهذا الدين. وثانيهما إعانة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. وقد أجابه فى الثانية ولم يجبه فى الأولى فقد قال له: أى ابن أخي، إنى لا أستطيع أن أفارق دين ابائى وما كانوا عليه. ولكن والله لا يخلص إليك شىء تكرهه.

أول أسرة فى الإسلام:

هذا ما كان بينه وبين ابن أخيه. وهو ينبيء عن نخوة كريمة، وتعصب لما كان عليه اباؤه تعصبا غير حسن فى ذاته. ولا من مثله من كبر عقله، وقوة نفسه. ولكن ذلك ما أراد الله تعالى لحكمة، ليرى الناس مثلا من أقوياء الرجال، يكون عظيما فى ذاته، ويكون مع ذلك مشركا، فهو عال فى نفسه، ليس كبيرا فى اعتقاده. أما ما كان من أمره مع ابنه، فقد اتجه إليه يقول له: «أى بنى ما هذا الدين الذى أنت عليه. فقال له: يا أبت، امنت بالله وبرسول الله، وصدقت بما جاء به، وصليت معه لله واتبعته» . وهنا نجد أبا طالب الحر الكبير فى نفسه فى معاملة ابنه، كما رأيناه مع ابن أخيه، فقد قال غير مضيق ولا متزمت، ولا ضائق الصدر، أما إنه لم يدعك إلا إلى خير فالزمه. وروى ابن إسحاق مع ما ذكر رواية فيها زيادة إذ قال: «إن على بن أبى طالب رضى الله تبارك وتعالى عنه جاء بعد ذلك بيوم أو يومين وهما يصليان (أى خديجة والرسول) فقال: أيا محمد ما هذا! قال النبى عليه الصلاة والسلام: دين الله تعالى الذى اصطفى لنفسه بعث به رسله، فأدعوك إلى الله تعالى واحده لا شريك له، وإلى عبادته، وأن تكفر باللات والعزي، فقال على: هذا أمر لم أسمع به قبل اليوم، فلست بقاصد أمرا حتى أحدث به أبا طالب، فكره رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن يفشى عليه سره قبل أن يستعلن أمره، فقال عليه الصلاة والسلام له: «يا على إذا لم تسلم، فاكتم» فمكث على تلك الليلة، ثم إن الله أوقع فى قلب على الإسلام، فأصبح غاديا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، حتى جاءه، فقال: «ماذا عرضت على يا محمد» فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «تشهد ألاإله إلا الله واحده لا شريك له وتكفر باللات والعزى وتبرأ من الأنداد» ففعل على ذلك وأسلم، ويروى أنه كتم إيمانه عن أبى طالب، ولكنه لما علم قال له: «وازر ابن عمك وانصره» . هذه زيادة ذكرها ابن اسحاق فى رواية أخري، وهى لا تتعارض مع الرواية الأولي، ولكن تزيد عليها، فمؤداها أن على بن أبى طالب، كشأن من يكون فى سنه رأى أن يعرض الأمر على أبيه كالشأن فى كل أمر ذى شأن يعرضه الصبى على أبويه قبل أن يقدم عليه، ثم وقع فى قلبه الإيمان بما جاء به ابن عمه، طيب النفس رضيا، وكان أن تبعه فى صلاته فى شعاب مكة المكرمة. أول أسرة فى الإسلام: 211- أسلم من بعد ذلك أو مقارنا لذلك مقارنة زمنية «زيد بن حارثة، وهو الذى اختار محمد ابن عبد الله عليه الصلاة والسلام على أبيه واختار أن يعيش فى كنف محمد عليه الصلاة والسلام رقيقا،

النور يشرق من بيت النبوة

على أن يعيش فى أسرته حرا طليقا، فلابد أن يكون من أول الناس إسلاما، فانضم إلى الأسرة النبوية غير متلكيء، ولا متلعثم، ولا مضطرب، بل دخل مسرعا، غير متلوم. اجتمع شمل الأسرة الكريمة على الإيمان، ولازم محمد صلى الله عليه وسلم فى صلاته أم المؤمنين خديجة، وصفيه المجتبى على بن أبى طالب، ولقد جاء تاجر زائرا مكة المكرمة، ولنترك له الكلمة يقص ما رأى: عن يحيى بن عفيف قال: «جئت زمن الجاهلية إلى مكة، فنزلت على العباس بن عبد المطلب، فلما طلعت الشمس وحلقت فى السماء وأنا أنظر إلى الكعبة. أقبل شاب، فرمى ببصره إلى السماء. ثم استقبل الكعبة. فقام يستقبلها. فلم يلبث حتى جاء غلام فقام عن يمينه. فلم يلبث حتى جاءت امرأة. فقامت خلفهما، فخر الشاب ساجدا. فسجدا معه. فقلت: يا عباس. أمر عظيم. فقال: أتدرى من هذا؟ فقلت: لا. فقال: هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ابن أخى. أتدرى من هذا الغلام؟ قلت لا. قال: هذا على بن أبى طالب. أتدرى من هذه المرأة التى خلفهما؟ قلت: لا أدرى! قال: هذه خديجة زوج ابن أخى. وهذا حدثنى أن ربك رب السموات والأرض أمر بهذا الذى تراهم عليه. وأيم الله ما أعلم على ظهر الأرض كلها أحدا على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة، وكانوا الثلاثة المطهرين السابقين إلى الإسلام، ومعهم زيد بن حارثة فكان الرابع. ويلاحظ فى هذه الأخبار الصادقة أن أولئك أسلموا من غير أن يطالبوا بدليل، بل كانوا المصادقين لما عرفوا من الحق فى ذاته. فأى قلب خال من شوائب الهوى والغرض يسوى بين الإيمان بحجر لا ينفع ولا يضر والإيمان بالواحد الأحد الفرد الصمد، الذى ليس بوالد ولا ولد، ثم مع ذلك الحق الذى يدرك بأدنى تأمل من قلب سليم- ما عرف به الداعى من خلق صادق. وفضل كبير، وعقل مدرك سليم، ثم لا يكون فى كلامه ارتياب مرتاب. فالذى دفع إلى إيمان تلك الأسرة الطيبة إدراك للحق فى ذاته، وإيمان بصدق ربها، ومن بعد ذلك صفاء فى نفوس أهلها، وأنّى يكون قلب أصفى من قلب أم المؤمنين خديجة، وعلى بن أبى طالب. النور يشرق من بيت النبوة 212- فاض النور من بيت محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وانبثق البثق الكبير خارج البيت، ولكنه لم يكن بعيدا عن محمد عليه الصلاة والسلام، فقد ذهب يضيء قلوب أصدقائه، والذين وصلت نفوسهم بنفسه، وإن لم يكونوا له أقرباء قرابة بعيدة أو قريبة، ولكنهم كانوا من قبيله وقومه، ثم كانت

إسلام أبى بكر:

اية الله الكبرى أن عارضه أقرباؤه الأدنون، كأبى لهب، ولم يتبع دينه أولم يظهره حتى أحباؤه من ذوى قرباه كأبى طالب الذى رباه، وكان حبيبا إلى نفسه، وعمه العباس وغيره. وكانت تلك اية كبيرة تدل على نزاهة الإسلام من أن تقيمه عصبية، أو يتبع للعصبية، إنما هو دين الله جاء لمحو العصبية الجاهلية، ولم تكن عموم دعوته فيها أى استجابة لعصبية، أو موالاة قبلية كما سيتبين ذلك فى القصص النبوي، فلا يقال إن أسرة كانت تطمع فى السلطان. فاستعانت بسلطانها لنبوة كانت فيها. وخصوصا أن بنى هاشم كانت فيهم رياسات بالكعبة الشريفة توارثوها كابرا عن كابر، وكان اخرهم أبو طالب الذى عاصر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. وإذا كان بنو هاشم لم يكونوا أول الناس إسلاما، فقد كانوا بلا ريب أولهم نصرة، وكانوا نصراء النبى عليه الصلاة والسلام عصبية لا إسلاما، إذ كان ذلك عادة العرب يعيش كل شخص فى حماية عصبية، لا يسلمونه، ويعدون تسليمه ذلا، والتهاون فى نصرته قهرا وهوانا، وخصوصا أن محمدا عليه الصلاة والسلام كان معتدى عليه. وليس معتديا. والإيذاء ينصب عليه انصبابا. ومن أجل ثبوت أن معاونتهم له فى شدته كانت عصبية، أنهم لم يؤازروه بعد أن صار قويا، بل إن العباس عمه، وهو الذى كان يعد كبير بنى هاشم بعد أبى طالب خرج مقاتلا فى جيش المشركين فى بدر لجيش محمد عليه الصلاة والسلام ابن أخيه، وأسر من بين من أسر من المشركين، ولم يخرجه محمد عليه الصلاة والسلام، إلا بفدية افتدى بها نفسه. إسلام أبى بكر: 213- لا نريد أن نخوض فى أوليته، وسبقه فى الإسلام على ابن أبى طالب رضى الله عنه أو سبق على عليه. فتلك مسألة طائفية يثيرها الطائفيون فى الإسلام. فالشيعة يعدون عليا أسبق والأمويون والناصبيون «1» يخالفون، وما لنا أن نخوض فى ذلك. وكل فريق يذكر أن معه من الصحابة فريقا. وكان يمتاز من بين قريش، بأنه عالم بالأنساب، فكان نسابة العرب، وكان له علم بأخبار الأولين، وكان تاجرا معروفا بالأمانة والصدق، وإن لم يكن كمعرفة محمد عليه الصلاة والسلام بذلك، ولعل الأمانة قد سرت من صديقه محمد عليه الصلاة والسلام فقد كانا صديقين وتربين لتوافق مشاربهما فى الجملة، وإن كان أبو بكر لم تكن عنده نزاهة محمد عليه الصلاة والسلام حبيبه وخليله فى البعد عن الأوثان، فالفرق بينهما كالفرق بين من يصنعه الله تعالى على عينه ليكون رسولا نبيا، وبين من خلقه الله تعالى صاحبا برا تقيا.

_ (1) الناصبية والناصبيون الذين يناصبون عليا وأولاده العداوة.

وإنما الذى نقرره أن كليهما أسبق الذكور إلى الإسلام، أبو بكر وهو رجل مكتمل يقارب الأربعين. وعلى فى العاشرة من عمره، لم يبلغ حد المراهقة، ولكنه كان مميزا فاهما، أسلم متفكرا متدبرا مدركا، وقد ذكرنا أن فقهاء المسلمين يعتبرون إسلام الصبى المميز صحيحا وإن اختلفوا فى اعتبار ردته مستحقة للعقاب. بادر أبو بكر بالإسلام عندما علم بالبعثة المحمدية، واسمه عتيق، أو عبد الكعبة المكرمة، وسماه النبى عليه الصلاة والسلام عبد الله. وقالوا أن أمه كان لا يعيش لها أولاد ذكور، فلما رزقته وعاش سمته عتيقا لأنه عتق من الموت، وقيل سمته عبد الكعبة «المكرمة» لأنها نذرت أن تسميه عبد الكعبة. ثم اختار له صديقه محمد عليه الصلاة والسلام أن يكون عبد الله. كانت الصحبة تجعلهما كالمتعاشرين فى كمال الخلق، حتى أنه عندما بدت إرهاصات النبوة، وابتدأ البعث، كانت تسأله خديجة عن صاحبه إذا غاب وهو يحضر إليها عندما تقلق عليه، وتقول له: «يا عتيق أين ذهب» . يقول الرواة أن أبا بكر أسلم قبل أن يطلب إليه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. إذ أنه قد كان يتوقع ظهور نبوة صديقه محمد عليه الصلاة والسلام، لأنه قد سمع كلام ورقة، وعلم من خديجة حديثه لها، وكان يوما عند حكيم بن حزام، إذ جاءت مولاة له، فقالت: إن عمتك خديجة تقول فى هذا اليوم أن زوجها نبى مرسل مثل موسي، عندئذ أدرك أبو بكر أن ما توقعه قد وقع، وأن النور أشع، ولم يبق إلا أن يستضيء به ويعشو إليه، فانسل إلى النبى عليه الصلاة والسلام، فأسلم إذ طلب إليه النبى عليه الصلاة والسلام، وما كان طلبا لجاهل. بل كان طلبا ممن عرف ولم ينكر واستسلم وأذعن لله تعالى «1» . ولذلك روى ابن إسحاق فى سيرته أنه بلغه أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «ما دعوت أحدا إلى الإسلام، إلا كانت عنده كبوة، ونظر وتردد إلا ما كان من أبى بكر ما عكم «2» عنه حين ذكرت» . فنفس أبى بكر كانت سائغة إلى الإسلام قبل دعوته، لما رأى من إرهاصات النبوة، ولما علم من كلام ورقة، ولأنه كان الصديق الوفى والحبيب الولى لمحمد عليه الصلاة والسلام. ولقد كان لإشراق نفسه، ولصغوة فؤاده إلى الحق، والاتجاه إليه أنه كان يرى الرؤى التى يكون تأويلها تبشيره بالإيمان.

_ (1) شرح المواهب اللدنية ج 1 ص 240. (2) عكم عنه: أى تردد وفكر وانتظر.

تتابع المخلصين:

جاء فى الروض الأنف «من أسباب توفيق الله له (أى لأبى بكر) أنه رأى القمر نزل مكة المكرمة، ثم تفرق على جميع منازلها وبيوتها، فدخل فى كل بيت منه شعبة، ثم كان جمعه فى حجره، فقصها على بعض الكتابيين، فعبرها له بأن النبى المنتظر الذى قد أظل زمانه يتبعه فيكون أسعد الناس به، فلما دعاه صلى الله تعالى عليه وسلم أجاب» . دخل أبو بكر فى الإسلام فاستأنس به النبى عليه الصلاة والسلام بأبلغ مما كان واشتدت بينهما الصحبة، فبعد أن كانت الصحبة مبنية على مجرد الاستئناس النفسى والخلقي، صارت الأنسة بالإيمان بالله واحده، وبالمؤازرة فى شدائد الحياة، واتخذ محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام من مكانة أبى بكر، وأنس الناس ومكانته عندهم قوة لدعوة الحق يدعو بها، فوق ما كان له هو عليه الصلاة والسلام من قوة نفس، ومكانة عند الله وعند الناس. تتابع المخلصين: 214- بإسلام أبى بكر تجاوز الإسلام حجرات بيته، لقد كان فيها مقصورا على إسلام الثلاثة الذين يعاشرون النبى عليه الصلاة والسلام وهم زوجه الكريم، وربيبه الأمين علي، وعشيرة الوفى زيد، ولسنا نذكر فى ذلك ترتيبا، وإن كنا نؤكد فى غير تلبث ولا مواربة أن أولهم بإجماع المسلمين الطاهرة التى ازرت النبى عليه الصلاة والسلام قبل البعثة، ووقت انبلاج فجر البعثة، وبعد الأمر بالتبليغ، وكان فضلها عند الله عظيما. بعد إسلام أبى بكر تتابع الإسلام فى نفر ممن لهم بالنبى عليه الصلاة والسلام مودة سابقة، أو لهم بالصديق صداقة، وكان فيهم استعداد، كان أول من أسلم بعد بيت النبوة وأبى بكر عثمان بن عفان، وقد كانت له بالصديق صداقة، وله بالنبى محبة، ويريد أن يتصل به بنسب، كان يريد أن يكون له صهر، فإنه عندما بلغه أن محمدا صلى الله عليه وسلم أنكح ابنته رقية عتبة أصابته حسرة، ولنترك له الكلمة. فهو يقول: كنت بفناء الكعبة فقيل أن محمدا صلى الله عليه وسلم أنكح عتبة ابنته رقية فدخلتنى حسرة ألا أكون قد سبقته إليها فانصرفت إلى منزلي، لأجد سعدى بنت كريز، فأخبرتنى أن الله أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم ... وقال أنها حثته على اتباعه، وإن لم تكن قد ذكرت لمحمد صلى الله عليه وسلم إسلامها. ثم قال: «وكان لى مجلس من الصديق، فأصبته فيه واحده» (فحثه الصديق على الإيمان) قال ومر النبى صلى الله عليه وسلم، ثم أقبل على، فقال أجب الله تعالى إلى جنته، فإنى رسول الله تعالى إليك وإلى جميع خلقه، فو الله ما تمالكت حين سمعته أن أسلمت، ثم لم ألبث أن تزوجت رقية.

فرضية الصلاة

وكان زواجه برقية الأمنية التى كان يتمناها من قبل، وأصابته حسرة لسبق عتبة بن أبى لهب إليها، وذلك لأن أبا لهب بلغت به الجاهلية العمياء أن حمل ابنه على تطليق رقية عندما دعا محمد صلى الله عليه وسلم عشيرته للإسلام فوجد عثمان طلبته قد هيأها الله تعالى له، فاجتمع عنده الخير العظيم بالإسلام، وأعلنوا إسلامهم ومؤازرتهم. وأسلم من بعد هؤلاء أبو عبيدة عامر بن الجراح، وأبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد، وهو زوج أم سلمة التى تزوجها النبى عليه الصلاة والسلام بعد موته، والأرقم بن أبى الأرقم، وعثمان بن مظعون وأخواه قدامة وعبد الله، وعبيد بن الحارث بن المطلب وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل الذى كان أبوه من الحنيفيين الذين نفروا من عبادة الأوثان، وزوجه فاطمة ابنة الخطاب، وهكذا أخذ الجمع يكثر واحدا بعد اخر. وكانوا يستخفون فى صلاتهم، وقبل أن نسير فى بقية درجات الدعوة والاستجابة نسارع إلى الصلاة نبين وقت فرضيتها. فرضية الصلاة 215- عندما نزل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ. وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ. وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ. وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ. وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ. وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ «1» . كان التكليف لتبليغ الرسالة والدعوة إلى أمر الله ودينه، ولا دين بغير صلاة، بل لابد لكل دين من صلاة، لأنه لابد لكل دين من عبادة، ولا عبادة من غير الصلاة، فهى عمود الدين، وركنه الركين. ولذلك اقترن التبليغ بفرضية الصلاة اقترانا زمنيا، لأن الصلاة مقترنة بكل دين اقترانا عمليا. ولقد قال الرواة أن الصلاة فرضت ركعتين بمجرد البعثة المحمدية وكانت تصلى مرتين، أولاهما فى الصباح، والثانية فى المساء، وفرضت ركعتين فى كل منهما، ولقد قال فى ذلك المزنى من أصحاب الشافعى رضى الله عنه، إن الصلاة كانت مفروضة قبل الإسراء، كانت صلاة قبل غروب الشمس وصلاة قبل طلوعها، ويشهد لهذا قول الله تعالى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ «2» . ولقد قالت عائشة رضى الله تبارك وتعالى عنها فيما رواه ابن أختها عروة بن الزبير، فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، ثم أيد الله تعالى أنها فى الحضر أربع وأقرها على فرضها فى السفر ركعتين، وبهذا يتبين أن الصلاة كانت مفروضة من أول الإسلام، وظاهر المروى أنها فرضت ركعتين، وفى وقتين اثنين وهما فى العشى والإبكار، قبل طلوع الشمس وقبل غروبها.

_ (1) سورة المدثر: 1- 7. (2) غافر اية: 55.

هذا هو المفروض على الكافة ممن يسلمون، أما التطوع فبابه مفتوح والنبى مأمور بكثرة الصلاة، وقد قال تعالى مشيرا إلى طلب الصلاة الكثيرة من النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ. قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا. نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا. إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا. إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا. إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا «1» . وذكر الرواة أن جبريل روح القدس هو الذى علم النبى عليه الصلاة والسلام الوضوء، فقد ذكروا أن جبريل عليه السلام نزل عليه، وهو بأعلى مكة المكرمة فهمز له بعقبه فى ناحية الوادى، فنبع الماء، فتوضأ جبريل، وعلم النبى عليه الصلاة والسلام بذلك الوضوء قبل الصلاة. وقد روى كتاب السيرة ذلك الخبر بسند غير متصل، ولكن روى متصلا عن زيد بن حارثة رضى الله تعالى عنه. وبهذا يتبين أن الوضوء فرض لكل صلاة، وكانت فرضيته وهو عليه الصلاة والسلام فى مكة المكرمة، وقد استمر من بعد ذلك، وكان والصلاة ركعتان مرتين واستمر وقد صارت أربعا فى الظهر والعصر والعشاء، وثلاثا فى المغرب وركعتان فى الصبح، وذلك غير السنن على ما هو مبين فى فقه العبادات. ولكن ذكر العلماء أمرا لا جدوى فيه من حيث العمل، وهو أن فرضية الصلوات المكتوبة والتى فرضت فى المعراج قبل الهجرة بسنة على ما سنحقق إن شاء الله تعالى، فقالوا أن الصلوات المكتوبة قد نسخت الاكتفاء بصلاتين، وأن ذلك ثابت بعمل النبى عليه الصلاة والسلام عملا متواترا، وانعقد عليه الإجماع، وصار معلوما من الدين بالضرورة بحيث من ينكره يكون كافرا. وقد أشار القران الكريم إلى مواقيت هذه الصلوات الخمس، فقد قال تعالى: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى «2» ، وقد قالوا إن الصلاة الوسطى هى صلاة العصر، ولا يمنع أن يراد الصلاة المثلى. وقال تعالى مشيرا إلى أوقات الصلوات كلها: فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ. وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ «3» .

_ (1) سورة المزمل: 1- 7. (2) سورة البقرة 238. (3) سورة الروم: 17، 18.

وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين

فقد أتى بصلاة الصبح مشيرا بقوله تعالى حِينَ تُصْبِحُونَ وبصلاة العصر مشيرا بقوله تعالى حِينَ تُمْسُونَ وبصلاة المغرب والعشاء مشيرا بقوله تعالى وَعَشِيًّا فهما العشاان، حتى قال بعض الفقهاء إن وقت المغرب والعشاء واحد، يصلى أسبقهما أولا وثانيهما اخرا، وأتى بصلاة الظهر بعبارة تكاد تكون صريحة وهى قوله تعالى وَحِينَ تُظْهِرُونَ. وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين «1» 216- دخل عدد من كبار قريش الإسلام، وإن كان قليلا، ولكن تسامع الناس بالدعوة المحمدية التى جاءت برسالة إلهية، حتى كان علمها قد سرى سريان النور إلى داخل البيوت، حتى قيل ما من بيت من بيوت قريش إلا علم بالإسلام ودعوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وأنه يخاطب من السماء، فالأخبار فى خفاء وقد تعلم، وإن لم يكن دعا إليها، ولم يحرك ذلك عنادا، ولا خصاما ونزالا، لأنها ما أصابت اهتماما إلا ممن كان لهم صفاء نفسى لم يعكره تعصب، أو لجاجة فى عناد، فكان الأمر بين متبع وإن كان عدده قليلا، وغير مهتم، وإن كان كانوا الأكثرين. وفى هذه الأثناء دخل الضعفاء، وهم دائما نفوسهم أصفى وأكثر إنصافا، وإدراكا، لأنهم يحسون بالظلم، ويرجون التغيير، فإذا جاء نور يكونون أول من يعشو إليه، ويذهب فى استجابة ضارعة، مع رجاء الإنقاذ ولو فى المال، فما كانت حالهم صالحة لأن تبقى، ولا يمكن أن يرضى الحق بقاءها، لأن حالهم شقاء ولا يزيدهم إذا كان الخير مرجوا، وتغيير الباطل مأمولا، فصادق يفتح باب الأمل ويغلق باب اليأس، يكون فى رجاء التغيير سلوان وإن كانت الحال مؤلمة أسيفة. لذلك دخل الضعفاء والعبيد فى الإسلام أمثال عمار بن ياسر وأبيه وأمه وخباب بن الأرت، وبلال الحبشى وغيرهم كثير، والدعوة بينهم، يستطيبون سماعها، ويصدقون الاستجابة لها ويستعذبون كل عذاب فى سبيلها. وكانت الاستجابة للدعوة لا تعتمد على معجزة ولا دليل يتحدى به، بل يرون الحق سائغا، وهو يدعو إلى نفسه وما نزل من القران الكريم يستجيبون له، لأنهم يرونه الحق الواضح، وفى الداعى وهو محمد صلى الله عليه وسلم الصادق الأمين، وإنما يقدم الدليل للمرتاب، ويوضح إذا كان الحق يحتاج إلى مقدمات ونتائج، فإن النبى هو الأمين، وإن الذى يسمعون هو القران الكريم، وإن الذين استجابوا من الكبراء هم فضلاء الجماعة وأمناؤها.

_ (1) سورة الشعراء: 14، 15.

والدعوة تسرى سريان الماء العذب فى خفاء العشب الأخضر والزهر الأنضر، ولكن لابد أن تستعلن ليعلمها القريب، وتكشف فى وضح النهار المشرق، ويسرى علمها، فالخفاء مهما يكن لا يخلو من إبهام. ولذلك لما سرت الدعوة المختفية المتربية فى خلية نمائها، طلب الله تعالى إلى رسوله أن يعلنها، فقال امرا له وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ. وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ. وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ «1» . تقدم النبى محمد عليه الصلاة والسلام وجمع بنى هاشم وبنى عبد مناف، وغيرهم من بطون قريش، جمعهم فى الصفا، وقال لهم: أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادى تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقى؟ قالوا: نعم ما جربنا عليك كذبا، ثم ساق لهم ما يدعوهم إليه، ولنترك الكلمة لرواية البخارى فى صحيحه عن ابن عباس رضى الله عنهما، فقد قال: لما نزلت الايات وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ. وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ صعد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم على الصفا، فجعل ينادى، يا بنى فهر، يا بنى عدى، لبطون قريش حتى اجتمعوا فجعل الذى لم يستطع أن يخرج يرسل رسولا، لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش، فقال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادى تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقى؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك كذبا. قال: فإنى نذير لكم بين يدى عذاب شديد. فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا، فنزل قوله تعالى: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ. وهذا يدل على أن كبير المعارضة فى تلك الدعوة المباركة هو أبو لهب عم النبى عليه الصلاة والسلام، لكيلا يعلم الناس أنها عصبية أسرة أو بطن من قبيلة، إنما هى رسالة الله تعالى إلى خلقه. وروى مسلم عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزل عليه قوله تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ.. الايات وقف وقال: يا معشر قريش، اشتروا أنفسكم، لا أغنى عنكم من الله شيئا، يا بنى عبد المطلب لا أغنى عنكم من الله شيئا، يا صفية عمة رسول الله لا أغنى عنك من الله شيئا، يا فاطمة بنت رسول الله سلينى ما شئت من مال، لا أغنى عنك من الله شيئا. وهذا الحديث مخرج على شرط البخارى، وروى مثله الإمام أحمد فى مسنده. 217- ولقد جاء فى التاريخ الكبير لابن الأثير: لما أنزل الله تعالى على رسوله وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ اشتد ذلك على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وضاق ذرعا، فجلس فى بيته كالمريض،

_ (1) سورة الشعراء: 214- 217.

فأتته عماته يعدنه، فقال: ما اشتكيت شيئا، ولكن الله أمرنى أن أنذر عشيرتى، فقلن له: فادعهم ولا تدع أبا لهب فيهم، فإنه غير مجيبك. فدعاهم ومعهم نفر من بنى المطلب بن عبد مناف، فكانوا خمسة وأربعين. فبادرهم أبو لهب فقال: هؤلاء عمومتك، وبنو عمك، فتكلم ودع الصبأة، واعلم أنه ليس لقومك بالعرب قاطبة طاقة، وأنا أحق من أخذك فحبسك، وإن أقمت على ما أنت عليه فهو أيسر عليهم من أن يثب بك بطون قريش وتمدهم العرب، فما رأيت أحدا جاء على بنى أبيه بشر مما جئتهم به. فسكت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولم يتكلم فى هذا المجلس، وإن هذا من حكمة البيان، فقد بادر أبو لهب بخلق جو عنيف من الاعتراض الشديد، والإنذار والوعيد، وبذلك يشجع كل معارض، ولو كان فى الأصل مترددا، فزال التردد إلى حال معترضة، ولذا أجل قوله إلى مجلس اخر، حتى يزول غبار الاعتراض الذى أثاره أبو لهب. ويقول ابن الاثير: دعاهم مرة ثانية، ووقف فقال: «الحمد لله أحمده وأستعينه، وأثق به، وأتوكل عليه، وأشهد ألاإله إلا الله واحده لا شريك له» ثم قال: «إن الرائد لا يكذب أهله، والله الذى لا إله إلا هو إنى لرسول الله إليكم خاصة، وإلى الناس كافة، والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبن بما تعملون، وإنها للجنة أبدا، أو للنار أبدا» . وفى هذه المرة لم يبادر أبو لهب، بل بادر أبو طالب حبيب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وإن لم يتبع، فقال غير موافق، ولكن يعاون، وغير متبع ولكن من غير معاداة. قال أبو طالب: «ما أحب إلينا معاونتك، وأقبلنا لنصيحتك وأشد تصديقا لحديثك!!، وهؤلاء بنو أبيك مجتمعون، وإنما أنا أحدهم، غير أنى أسرعهم إلى ما تحب فامض لما أمرت به، فو الله لا أزال أحوطك وأنفعك، غير أن نفسى لا تطاوعنى على فراق دين عبد المطلب. ولم يسكت أبو لهب، (والباطل لجوج دائما) بل قال: هذه والله السوءة خذوا على يديه قبل أن يأخذه غيركم. فقال أبو طالب (مصرا) : والله لنمنعنه ما بقينا.

بين أبى طالب وأبى لهب:

بين أبى طالب وأبى لهب: 218- إن موقف أبى طالب لا يحتاج إلى تعليل، لأنه موقف الشفيق على من كفله ومن رباه، فقد كان كافله بعد جده عبد المطلب، واختاره عبد المطلب دون بقية بنيه، ولم يكن أسنهم، فكان يمنع النبى مستجيبا لداعى الشفقة والمحبة، ومستجيبا لوصية أبيه بأن يحفظه ويحوطه، فقام بحقها، حتى بعد أن صار محمد صلى الله عليه وسلم شابا سويا قويا، ووجد أن الحياطة تكبر بكبر الموصى به فتكون معاونة بعد أن كانت وصاية، وتكون مدافعة بعد أن كانت رعاية. إنما الذى يحتاج إلى تعليل هو موقف أبى لهب، فما أعلن ما توجبه القرابة بل ما توجبه العصبية التى تجعله مع محمد صلى الله عليه وسلم عصبته وقريبه القريب، وأن عليه أن يحميه، لم يفعل ذلك، ولم يسكت مفوضا الأمر إلى أبى طالب أخيه، كما سكت حمزة والعباس، ولم يكونا قد دخلا فى الإسلام، لم يفعل ذلك أبو لهب. ولعلنا لو أشرنا قليلا إلى طبيعته، وما أحيط به لسهل علينا تفسير موقفه، أو أدركنا فعله لهذا الموقف الذى عادى محمدا عليه الصلاة والسلام وخالف قرابته مسلمهم وكافرهم على سواء. لقد كان عبد العزى (أبو لهب) طبيعة غير طبيعة إخوته، فإخوته يطلبون السيادة والشرف والعزة بالخلق العربى الصميم، وهو يطلب المال والدنيا، وفيه أثرة، وحب الذات، ومن يكون كذلك يميل دائما إلى الابتعاد عما يثير المتاعب، ويؤثر فى المال ويوجد اضطرابا، وبذكائه الشديد أدرك أن دعوة محمد عليه الصلاة والسلام تقدمة لمتاعب لمن يعتنقها أو يحميها، فقاومها، وشدد فى المقاومة، وطبيعته المادية جعلته لا يفكر فى أى أمر معنوى، ولا فى رجاء لنصرتها، وطبيعة الأثرة فيه جعلته لا يفكر فى إحساس غيره، ولا فى معاونة من يحتاج إلى معاونة طويلة مديدة من أسرته. وتلك الطبيعة التى لا تريد إلا استقرارا لأجل المال، وما يتصل به من متاع تكره تغيير ما كان عليه الاباء، بل ترغب فى أن تسير الحياة نمطية، لا تغيير فيها ولا اضطراب. ولعل هذه الطبيعة هى التى جعلته لا يخرج مع قريش فى غزوة بدر الكبرى، وخرج العباس وإن كان كارها محرجا، وهناك عامل ثان، فوق ذلك العامل النفسى، وهو زوجه أم جميل الأموية أخت أبى سفيان، فقد كانت عاملا مذكيا لتلك الطبيعة المعاندة، كانت تكره رسول الله محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم، وتكره زوجه أم المؤمنين خديجة، والتقى كرههما فى قرن واحد من يوم زواجهما الميمون الطاهر، ولا ندرى أكان الزواج هو السبب أم كان غيره.

وبهذه الكراهة كانت تحرضه، وتوججه إذ تصورت أن نيران العداوة قد تطفئها القرابة، وعلو شأن محمد صلّى الله عليه وسلّم فى دعوته وجهاده، وذكر اسمه فى كل بلدان العرب، وتجاوز ذلك إلى البلدان المصاقبة، كالرومان والشام ومصر. ولقد كانت تتردد أخت أبى سفيان فى أن تقرض الشعر ذما للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وتسميه مذمما ولا تسميه محمدا، فقد قالت فى ذلك: مذمما قلينا ودينه أبينا وأمره عصينا ولقد تلقى شعرها هذا بالاستضحاك، وعد ذلك ليس شتما له، لأنها لم تذكر اسمه فى شتمها، فقال عليه الصلاة والسلام: «انظروا كيف يصرف الله تعالى عنى شتمهم ولعنهم، ويشتمون مذمما، ويلعنون مذمما، وأنا محمد» ، وكان فيها مع ذلك صفة السفيهات من النساء، إنها كانت تمشى بالنميمة. فتوقد نيران العداوة، وقد قال الله تبارك وتعالى فيها تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ. ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ. سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ. وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ. فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ «1» . هذا هو أبو لهب، وهذا هو السر فى عداوته للحق، ولمحمد عليه الصلاة والسلام مع قرب رحمه، ومع أنه سرّ لولادته وقت أن ولد. 219- هذا أبو لهب، وذلك موقفه من دعوة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم التى كرهته فيه بعد ود، أو إن شئت فقل محبته له فى صباه حتى بدا ما يتخالف فيه الطبعان، طبع العم المادى، وطبع ابن أخيه الروحى الذى لا يحرص على المال. أما أبو طالب، فلم يكن عدوا لدعوة محمد عليه الصلاة والسلام، وعباراته توميء بأنه لا يعاندها، وما عند أبى لهب من صفات تناقضها، صفات أبى طالب توافقها فى أصلها، فأبو طالب لم يكن أثرا يحب المال، بل كان فيما يبدو من خلق يجعله يميل إلى الإيثار بالمحبة، فاثر التعب على الراحة فى مناصرة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وبينما أبو لهب يؤثر الدعة والاستقرار على أى صورة كانت، كان أبو طالب شيخ البطحاء لا يؤثر الدعة والاستقرار مع الضيم، بل يقاوم الضيم راضيا بملاقاة أسباب الإرغام بقلب صابر قوى.

_ (1) سورة المسد كلها.

وبينما كان أبو لهب محبا للمال مؤثرا له على كل شيء من أسباب الحياة الكريمة كان أبو طالب يكتفى من المال بالقليل من غير أن يبذل مروءته فى سبيل طلبه، فالمروءة عنده أولى بالطلب من الاستكثار من المال، ولذلك كان محدودا، ولم يكن مجدودا، ولكل هذا قبل أبو طالب أن يكون لمحمد عليه الصلاة والسلام نصيرا، لأن الشفقة والمروءة، والمناصرة العربية الكريمة تقاضته، فاستجاب لسجيته له، وما وهن ولا استكان، ولا ولى، بل استمر مناصرا فى كل الشدائد، حتى قبضه الله تعالى. وليست الغرابة فى نصرته للنبى عليه الصلاة والسلام، إنما الغرابة فى أنه لم يدخل فيما يدعو إليه!! ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ «1» وقد ذكرنا من قبل أن ذلك دفع لوهم يقوله بعض الواهمين، إن دعوة محمد عليه الصلاة والسلام كانت عصبية جاهلية. ولقد ذكر ابن كثير أنه لو أسلم كما كان يظهر من لحن قوله أنه يميل إلى الإسلام، إذ يقول: لولا الملامة أو حذار مسبة ... لوجدتنى سمحا بذاك مبينا لو أسلم لكان المشركون له أعداء كما عادوا محمدا عليه الصلاة والسلام، وقد كان عندهم من قبل ذلك الأمين المحبوب الذى يسمع قوله ويطمأن إلى حكمه، ولكن أراد الله تعالى أن يبقى على دين قومه، لكى يكون ردا للنبى وعضدا فى وسط المدلهمات، وقال ابن كثير فى ذلك: «وكان رسول الله أحب خلق الله تعالى إاليه (أى إلى أبى طالب) ، وكان يحنو عليه، ويحسن إليه، ويدافع عنه، ويحامى، ويخالف قومه فى ذلك مع أنه على دينهم، وعلى خلتهم، إلا أن الله تعالى قد امتحن قلبه بحبه حبا طبيعيا لا شرعيا، وكان استمراره على دين قومه من حكمة الله تعالى، ومما صنعه لرسوله من الحماية، إذ لو أسلم أبو طالب، لما كان له عند مشركى قريش وجاهة، ولا كلمة، ولا كانوا يهابونه ويحترمونه، ولا جترؤا عليه، ولمدوا أيديهم وألسنتهم بالسوء إليه، وربك يخلق ما يشاء ويختار، وقد قسم خلقه أنواعا وأجناسا «2» . 220- كانت دعوة محمد صلى الله عليه وسلم ابتداء سرية يدعو من يعرف من أصدقائه وأوليائه الذين كانوا كنفسه، ثم يدعو كل من ذاق بشاشة الإسلام وخالطت نفسه من أصدقائه وأحبابه، فكانت تصغى إاليه الأفئدة طالبة الحق، بقوة المحبة للخل الوفى، وللحق البدى، من دعوة علنية، ولكن الأمر النورانى لا يخفى طويلا، فعلم وإن كان فى أضيق دائرة. وكان لابد أن يتولى النبى عليه الصلاة والسلام الإعلان، والجهر، وكما بدأ بدعوة أهل بيت النبوة، الذين أشرق الوحى عليه، وهو بينهم، فقد أخذ بأمر الله تعالى يعلنه بين ذوى قرابته يؤمن من يؤمن، ويكفر من يكفر.

_ (1) سورة يس 38. (2) البداية والنهاية ج 3 ص 41

فاصدع بما تؤمر

ولعله يبدو بادى الرأى واضحا جليا أن أكثرهم قد رد من عشيرته، ولم يستجب إلا بعض نساء العشيرة الطاهرة كصفية، وفاطمة امرأة أبى طالب، وكان من هذه العشيرة أول من جاهر بالعداوة، وهو قريبه القريب عمه أبو لهب، وفى هذا دليل مادى على أن الدعوة ما كانت من انبعاث قبلى، بل كانت استجابة لدعاء رباني. كان إعلان الدعوة للعشيرة الأقربين، إعلانا للعرب أجمعين، فقد كانت بأعلى الصفا، وتسامع بها الناس، وإذا كان الخطاب للعشيرة خاصة، فقد كان الإعلام لقريش، ثم إظهارا لنبى بعث رحمة للعالمين، تسامعت به الركبان، وتذاكر فى دعوته الذين يغشون مكة المكرمة من غير أهلها، وبذلك انتشرت الدعوة المحمدية بتبليغ رسالة ربه الذى كلفه بإبلاغها فى غير معاندة للمشركين، ولا مجابهة لهم، ولا تحد لملتهم. ولقد كانت تسير فى استخفاء، كما يسرى الماء العذب فى أرض مغطاة بالأعشاب، ولكنه يثمر، وينبت، وينمو ولو كان مستخفيا، وكان الذين ارتضوا الإسلام دينا يستخفون بعبادتهم ولا يظهرونها، ويذهبون إلى شعاب مكة المكرمة يصلون فيها، وما عرف أنهم كانوا يذهبون إلى الكعبة الشريفة مجاهرين متحدين، ولكن كانوا يستخفون بهذه العبادة. ولقد روى إسلام كثيرين فى ذلك وهم علية الصحابة الذين بنيت دعوة الإسلام عليهم، وكانوا الدعامة الأولى فى قواعد البلاغ المحمدى. فاصدع بما تؤمر 221- نزل فى تدرج الدعوة قوله تعالى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ. إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ. الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ. فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ. وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ. وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ «1» فكانت هذه الايات الكريمة دعوة إلى أن تبلغ الدعوة أقصى مراتبها، وأبعد تكليفاتها أثرا فى التكليف، وتأثيرا فى النفوس. ومن كتاب السيرة من يرى أن التكليف الكامل بدعوة الناس أجمعين قد ابتدأ من نزول قوله تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ومن هؤلاء ابن كثير، فقد قال فى نزول هذه الايات الكريمات ما نصه، بعنوان «أمر الله ورسوله عليه الصلاة والسلام بإبلاغ الرسالة.) قال الله تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ. وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا

_ (1) سورة الحجر: 94- 99.

تَعْمَلُونَ. وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ. الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ. وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ. إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وقال تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ «1» وقال تعالى: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ «2» أى أن الذى فرض عليك، وأوجب عليك تبليغ القران لرادك إلى دار الاخرة ليسألك عن ذلك، كما قال تعالى: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ «3» والايات والأحاديث فى هذا كثيرة جدا «4» . ونرى من هذا التقرير أن الإمام الحافظ ابن كثير لا يرى أن ثمة تدرجا فى الدعوة، وأنه من وقت أن أمر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بإنذار عشيرته الأقربين كانت الدعوة عامة، وأن الاقتصار فى الاية على ذكر العشيرة الأقربين لا يفيد قصر الدعوة فى هذه الاية عليهم، بل يفيد الابتداء بهم، أو مواجهتهم، مع مخاطبة غيرهم، ولا يفيد قصر الدعوة عليهم، لأن الرسالة المحمدية يخاطب بها الأحمر والأبيض والأسود والعبيد والأحرار. ونحن نوافق على عموم الرسالة المحمدية، وأنها ليست بمقصورة على قرابة قريبة أو بعيدة، ولكن هذا تدرج فى الدعوة والخطاب، وأن ذلك يتضمن دعوة غيره من المكلفين، بلا فرق بين قريب وبعيد، فالجميع مكلفون بالاستجابة من غير تفريق، ونحسب أن قوله تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الخطاب فيها مقصور على العشيرة، ولذلك لم يدع محمد عليه الصلاة والسلام إلى الاجتماع بهم الذى كان فى الصفا غيرهم، وليس من المعقول أن يكلف العامة بخطاب طائفة من الخاصة، بل لابد من توجيه الخطاب إليه، فجاء فى قوله تعالى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ. وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إلى اخر الايات. ويزكى هذا ما جاء عن ابن إسحاق، فقد جاء ما نصه: ثم أمر الله تعالى رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم بعد ثلاث سنين من البعثة أن يصدع بما أمر، وأن يصبر على أذى المشركين، وكان أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا صلوا ذهبوا فى الشعاب، واستخفوا بصلاتهم من قومهم، فبينا سعد بن أبى وقاص فى نفر يصلون فى شعاب مكة المكرمة، إذ ظهر عليهم بعض المشركين، فناكروهم، وعابوا عليهم ما يصنعون، حتى قاتلوهم، فضرب سعد رجلا من المشركين بلحى جمل فشجه، فكان أول دم أريق فى الإسلام «5» . وقد قال ابن إسحاق فى موضع قبل هذا:

_ (1) سورة الزخرف: 44. (2) سورة القصص: 85. (3) سورة الحجر: 92. (4) البداية والنهاية، ج 3 ص 38. (5) سيرة ابن هشام طبع الحلبى ج 1 ص 263.

دخل الناس فى الإسلام أرسالا من الرجال والنساء، حتى فشا ذكر الإسلام بمكة المكرمة، وتحدث به، ثم إن الله عز وجل أمر رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم أن يصدع بما جاء به، وأن يبادى الناس بأمره، وكانت المدة بين ما أخفى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم واستتر بها إلى أن أمره الله تعالى بإظهار دينه- ثلاث سنين فيما بلغنى من مبعثه، ثم قال تعالى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ. ومن ذلك نستطيع أن نقول إن الدعوة المحمدية في مدة ثلاث السنين تدرجات في ثلاث مراحل، أشار إليها من قبل الإمام ابن القيم في زاد المعاد إذ ابتدأت الدعوة من النبي عليه الصلاة والسلام، ومن بيت النبوة سرت إلى من يتصل بهم من أصدقاء وخلان، فكان من النبي عليه الصلاة والسلام إلي صديقه الأول أبي بكر عتيق بن أبي قحافة، ومن عتيق سرت إلى أصدقائه كعثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله، ومن بيت النبوة سرت إلى صفية والزبير، وغيرهم من عشيرة النبي عليه الصلاة والسلام وأقربائه الأدنين، وهذه هي مرتبة الدعوة الأولي التي أشار إليها ابن القيم فى ترتيب مراتب الدعوة. ثم كانت المرتبة الثالثة من بعد ذلك، وهي مرتبة الدعوة العامة في قريش ومجابهتهم بدعوة الحق، من غير أن تكون مقصورة علي بيت النبوة، أو علي أقرباء النبي عليه الصلاة والسلام. وهي في كل مرتبة لا تقف عند الحدود التي ابتدأت فيها، بل تسرى إلي غيرها، سريان النور إلي الظلام، وفى مرتبة العشيرة الأقربين خرجت إلى قريش كلها، فما كان يدعو عشيرته من ال عبد المطلب وبنى هاشم فى كن مستور من الأرض، بل كان يدعوهم جهرة فى غير مواربة. وقد يسأل سائل، ما الدليل الذى كان يسوقه النبى فى هذه الدعوة، فقد كان الذى نزل من القران الكريم قليلا، وتوالى نزوله بعد ذلك، ولم يذكر أن أحدا جادل حول القران الكريم، أو طلب دليلا واستدل به، فما الذى كان يهداهم إلى الاتباع من غير أن يعرفوا دليلا قدم، وبرهانا أقيم. والجواب عن ذلك أن الاستجابة كانت للحق فى ذاته، ولما عرف من تاريخ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إذ كان الصادق الذى لم يعرف كذبه قط، والأمين الذى لم يقترن عمل له بريبة قط، والصفى فى نفسه، والمحبوب لمكارمه، والعاقل الذى لم يعرف فيه انحراف فكرى، بل هو المدرك المستقيم الإدراك فى كل معاملاته، وكل ما اتصل به من أعمال.

أقسام القلوب

ثم كان هذا القران الكريم الذى ابتدأ يتلوه عليهم ببيانه الذى فاق كل بيان، وعلا عن أن يتسامى إليه أى إنسان، وإن إشراق نفوس هؤلاء، وحيرتهم فى الأوثان، إذ يرون الأوثان تفقد قوتها فى نفوسهم، وتنهار مكانتها فى قلوبهم، وبقايا الأديان السماوية تتورد على عقولهم، وبعض سنن إبراهيم وماثره يزاولونها فى حجهم، وبنسبته إليهم يعتزون ويفاخرون ولم تسبق إلى نفوسهم نزعة حسد، أو حقد، أو منافسة مقيتة، مما عوق غيرهم. كانت نفوس الذين اتبعوا الرسول والذين آمنوا معه نفوسا صافية، وما علاها من غبار الوثنية زال وشيكا، فكان الحق واحده هو الذى لمع نوره وجذبه إليهم، فوق ما كان مع محمد صلى الله تعالى عليه وسلم من بينات. [أقسام القلوب] ولقد قسم الباحثون فى أخلاق الناس القلوب عند تلقى الحق، إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: القريب إلى الهداية هو من يقتنع بالحق بمجرد بيانه، فبيانه واحده يهداهم إلى سواء الصراط، ولا يحتاجون إلى دليل غير سراج الحق المزهر، وأولئك هم الذين ينظرون إلى الحق، وقد خلت قلوبهم من هوى اللذات والشهوات، فأشرقت بالحكمة وصفت، فدخل نور الهدى فنطقوا به، وعملوا به، وساروا على منهاجه، وأولئك لا يطالبون حامل الحق الداعى إليه ببرهان يقدمه، فالحق واحده يحمل فى نفسه دليل صدقه، إذ اشرأبت إليه النفوس، ومن هذا القسم أولئك الذين اتبعوا محمدا صلى الله عليه وسلم فى أول الدعوة. القسم الثانى: قوم امتلأت عقولهم بمعلومات سابقة ، أو اختلطت فى نفوسهم نوازع الحق، ونوازع الباطل، وفيهم إدراك يميزون به بين الحق والباطل، وأولئك يحتاجون إلى دليل، لينفوا به خبث الفكر الذى خالط قلوبهم، وأثر فى نفوسهم، فالبرهان يعينهم، وينير السبيل لهم، وذات الحق لا يكفى بيانه لكى يستولى عليهم، ويسيرهم إلى الهدي، فلابد من دليل يرجح نوازع الهداية على غيره. والقسم الثالث قسم غلبت عليه الضلالة ، وغلبت عليه شقوته، فلا يتبع الحق لذات الحق، ولا يزهر فى قلبه، وليس له بصيرة مخلصة فى طلب الحق، وفى الوقت ذاته قد طمس على بصيرته، فختم على قلبه، وكان على إدراكه غشاوة، وهؤلاء هم المعاندون المكابرون الذين جعلهم الله أعداء للحق، وهؤلاء يكون موقفهم معاداة أصحابه، وموقف أصحابه مدافعته، فلا تكون العلاقة إلا ممانعة، يمنعون الحق من أن ينتشر، ويمانعهم هؤلاء ليدفعوا الأذى، ولذلك لا يكون بينهم إلا السيف. ولقد قال الغزالى إن قوله تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ، وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ، وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ، إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ «1» .

_ (1) سورة الحديد: 25.

استجابة محمد صلى الله عليه وسلم لأمر ربه

وكان المؤمنون الأولون خديجة وأبو بكر وعلى وزيد، وعثمان والزبير ومن معهم من السابقين الأولين من الصنف الأول، ثم جاء من بعدهم، من خاطبهم القران الكريم بالإعجاز وتحداهم، فمنهم من اهتدى وأبصر، ومنهم من ضل وغوى، فكان المعتدى الأثيم. وكان الجهاد، فكانوا أهل السبق، وما كان لصاحب دعوة خالدة أن يترك الشر يسيطر، والحق يستخذى. استجابة محمد صلى الله عليه وسلم لأمر ربه 222- استجاب محمد صلى الله عليه وسلم لأمر ربه، وبعد أن كان يدعو من يدعوه فى مناجاة، ثم اقتصرت الدعوة العلنية على عشيرته الأقربين، بعدئذ أخذ يدعو كل من يلقاه، وأخذ يغشى الأسواق التى حول مكة المكرمة يدعو إلى دينه، وتبليغ رسالة ربه، غير مدخر جهدا فى الدعوة إلى الحق والواحدانية بعبادة الله تعالى واحده، لا شريك له، ويقول فى ذلك ابن كثير: «المقصود أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم استمر يدعو إلى الله تعالى ليلا ونهارا، وسرا وجهارا، لا يصرفه عن ذلك صارف ولا يرده عن ذلك راد، ولا يصده عن ذلك صاد، يتبع الناس فى أنديتهم، ومجامعهم ومحافلهم، وفى المواسم ومواقف الحج، يدعو من لقيه من حر وعبد، وضعيف وقوى، وغنى وفقير، جميع الخلق فى ذلك شرع سواء، وتسلط عليه وعلى من اتبعه من احاد الناس من ضعفائهم الأشداء الأقوياء» «1» . وكان أشدهم إغلاظا عليه عمه عبد العزى (أبو لهب) ، وثانيهم عمرو بن هشام الذى لقبه التاريخ الإسلامى بحق بلقب أبى جهل، أما الأول فلم يكن منه أذى بدنى أو قولى للنبى عليه الصلاة والسلام، ولكن مبالغة فى مقاومة دعوته، ولا يكتفى بالقعود عن حمايته، وأما ثانيهما فقد كان فاجرا فكانت معاندته للنبى عليه الصلاة والسلام فجورا في القول والعمل، وللضعفاء إعناتا وبغيا، وسنخصه بالقول في حركة الاضطهاد، والبواعث التى دفعته إلى هذا الموقف الذى جره إلى ذلك البغى المرذول الذى لا يقع من كريم. وأبو لهب كان موقفه موقف محاربة الدعوة، فكان يتبع محمدا عليه الصلاة والسلام فى التقائه بالقبائل العربية فى موسم الحج، فكلما ذهب إلى محفل أو ندى يدعو فيه ناكره، ودعا السامعين إلى ألا يستجيبوا.

_ (1) البداية والنهاية لابن كثير ج 3 ص 40.

وروى الإمام أحمد عن أبى الزناد عن أبيه، قال: أخبر رجل يقال له ربيعة بن عباد قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فى سوق ذى المجاز، وهو يقول: «يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا» والناس مجتمعون عليه، ووراءه رجل وضيء الوجه يقول: إنه صابيء كاذب، يتبعه حيث ذهب، فسألت عنه، فقالوا: هذا عمه أبو لهب. وروى البيهقى مثل ذلك مع بعض الزيادة عن ربيعة هذا الذى ذكرناه أنه قال: رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بذى المجاز وهو يتبع الناس فى منازلهم يدعوهم إلى الله، ووراءه رجل أحول تقد وجنتاه، وهو يقول: «أيها الناس لا يغرنكم هذا عن دينكم ودين ابائكم، قلت: من هذا؟ قيل: أبو لهب عمه» . ونرى من هذا أن أبا لهب قبل أن يكون هو المثبط، ولعله اختار ذلك لنفسه أو اختاره المعارضون للدعوة المحمدية، فيكون أدعى إلى تصديقه، إذ هو قريبه القريب فمع أنه أقرب رحما كذبه، فهذا ترشيح لصدقه عليه الصلاة والسلام. وأنساه الحقد والضلال أن الحق ذاته له نور ساطع، لا يحاجز دونه هذا وأشباهه، ولكنه الأفن يتولد من ضيق العطن، وغلبة الهوى، وسيطرة المارب المادية. ومهما يكن فقد حمل محمد عليه الصلاة والسلام عبء الجهاد من حين نزل قوله تعالى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ، وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ «1» وتقدم بمن هداهم الله تعالى به من صحب كرام اشتروا الهدى بالضلال، والحق بالباطل، واشترى منهم أنفسهم، فكانوا السابقين، ولنشر بكلمة إلى من سبقوا، وإن كانوا عددا قليلا.

_ (1) سورة الحجر: 94.

السابقون السابقون

السابقون السابقون 230- أشرنا إلى سبق الأربعة الكرام خديجة أم المؤمنين، سكن الرسول التى جعلت بيته روضة الاطمئنان، ويسكن إليها بعد معاناة عداوة الأعداء، والمناضلة فى سبيل الله تعالى،. فيجد المواساة، ويجد القلب الحبيب الودود، وما أكرم الوداد، إذ يذهب ببرحاء العداء، ويجعل الروح والريحان بعد ملاقاة الكذب والبهتان. ثم ذكرنا أبا بكر الصديق الولى الوفى، والصديق الذى خلص قلبه لله تعالى، وإذا كان إبراهيم أبو الأنبياء خليل الله، فالصديق كبير المصادقين خليل محمد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد أشرنا إلى أنه ما عتم أن أسلم، بل إنه سعى إلى الإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام عندما علم من حكيم بن حزام بأمر ما جرى بين النبى عليه الصلاة والسلام وورقة بن نوفل وزوجه خديجة من مذاكرة فى أمر الرسالة المحمدية. وذكرنا إسلام على بن أبى طالب الذى صدق ابن عمه بعد تفكير وهو ابن عشر سنين، وكان قد هم باستشارة أبيه، ولكنه فكر وقدر واحده، فعاد إلى ابن عمه يعلمه بإيمانه، فكان المؤمن باقتناع مع الصغر وغضاضة الإهاب. وذكرنا إيمان زيد بن حارثة الذى اثر جوار محمد عليه الصلاة والسلام قبل أن يبعث على أن يعود إلى أبيه وأمه حرا، فاختار الرق مع محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم على الحرية مع أبويه، فجعله محمد صلى الله عليه وسلم الكريم ابنا له وحرا، فكان وارثا ومورثا. ثم إن إسلام أبى بكر جعل بعض أصدقائه ومن يألفونه يستأنسون بالإسلام، فقد كان ألوفا محبوبا. قال فيه محمد بن إسحاق: «كان أبو بكر مألفا لقومه، محبا سهلا، وكان أنسب قريش لقريش، وأعلم قريش بما كان فيها من خير وشر، وكان رجلا تاجرا ذا خلق معروف، وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر؛ لعلمه وتجارته وحسن مجالسته، فجعل يدعو إلى الإسلام من وثق به من قومه ممن يغشاه ويجلس إليه، فأسلم على يديه فيما بلغنى الزبير بن العوام، وعثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبى وقاص، وعبد الرحمن بن عوف رضى الله تعالى عنهم أجمعين» «1» . وقد قدم هؤلاء للنبى صلّى الله عليه وسلّم، وأخذ أبو بكر يبث الدعوة لأصدقائه وخلانه، وعارفيه، ثم ذهب بطائفة أخرى إلى النبى عليه الصلاة والسلام منهم عثمان بن مظعون، وأبو عبيدة عامر بن الجراح، وأبو سلمة بن عبد الأسد، والأرقم بن أبى الأرقم.

_ (1) سيرة ابن هشام. والبداية والنهاية ج 3 ص 29.

أخذ العدد ينمو بفضل الله، وإخلاص صفوة مختارة ممن صفت نفوسهم، واستقامت قلوبهم حتى بلغ العدد ثمانية وثلاثين، ومنهم نساء دخل الإسلام قلوبهن، ومنهم أم جميل أخت عمر بن الخطاب، وزوجها زيد بن نفيل كان من السابقين الأولين. وقد أراد أبو بكر أن يخرج المسلمون مجاهدين بالدعوة إلى الإسلام قبل أن يتكاثر الجمع، ولكن محمدا عليه الصلاة والسلام صاحب الدعوة والتبليغ رأى التريث، حتى يكون الجمع أوفر وأكثر عددا، لأنه مع العدد عزة الكثرة النسبية، وإن كانوا فى الحقيقة عددا قليلا، ولكن الصديق مازال بمحمد عليه الصلاة والسلام حتى قبل أن يخرجوا من الاستخفاء إلى الإعلان، ويظهر أن الدعوة قد أعلنت بإنذار العشيرة الأقربين، وتذاكر الناس أمرها، ولكن يندر فيهم من يتقبلها، ويكثر فيهم من يعارضها، ومنهم من لم يعرف لهم موافقة ولا مناوأة. ومهما يكن فقد خرج أبو بكر، ومحمد عليه الصلاة والسلام قام بعمل جليل قبل ذلك الخروج، فقد انبعث كل رجل إلى عشيرته يدعو إلى الإسلام فيها، وخرج محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ومعه أبو بكر إلى المسجد الحرام، ثم قام أبو بكر خطيبا، ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم جالس. وقال ابن كثير فى روايته ما نصه: كان أول خطيب دعا إلى الله وإلى رسوله (أى بعد النبى صلى الله عليه وسلم) ، وثار المشركون على أبى بكر وعلى المسلمين فضربوه فى نواحى المسجد ضربا شديدا، ووطيء أبو بكر، وضرب ضربا شديدا «1» . بعد ذلك، وخصوصا بعد إعلان الإسلام فى مخاطبة بنى هاشم، وبنى عبد المطلب عند الصفا، أخذ الإسلام ينتشر انتشار الضوء فى الظلام، فأسلم بنو مظعون من أولاد كعب بن لؤى، وأسلم عبيدة بن الحارث بن المطلب وسعيد بن زيد بن نوفل، وامرأته فاطمة، أخت عمر بن الخطاب، وعمير بن أبى وقاص، وعبد الله بن مسعود الهذلى، وأسماء بنت أبى بكر- وهكذا غيرهم من أهل مكة الأحرار، وإن لم يكونوا ذوى مال وذوى رياسة. ومن الضعفاء، وقد كانوا أسبق إلى الإسلام عامر بن فهيرة مولى أبى بكر الصديق، وهو مولى لأسد اشتراه أبو بكر رضى الله عنه. ومنهم صهيب بن سنان، ويقال أنه مولى عبد الله بن جدعان، ويقال أنه رومى، ونسب إلى الروم، لأنه كان أسيرا فى أرض الروم.

_ (1) البداية والنهاية لابن كثير ج 3 ص 30.

الاسلام يخرج إلى القبائل:

ومنهم بلال الحبشي، وكان مولى لبعض المشركين عذبوه، حتى اشتراه أبو بكر وأعتقه. ومنهم ياسر وعمار ابنه، وأمه، وقد كان ياسر من عرب قحطان من مذحج، وعمار ابنه كان مولى لبنى مخزوم، لأن أمه سمية كانت مولاة لهم، فولدته على الرق، والمولود على الرق يتبع أمه فى رقها، ولا يتبع أباه فى حريته، وكذلك كان نظام الرومان فى الرق الذى سرى إلى العرب. ومنهم خباب بن الأرت، وغيره من الضعفاء الذين سارعوا إلى الإسلام وقد سارعوا إلى خير الدنيا وخير الاخرة، وإذا كانوا قد أوذوا ابتداء، فقد نالوا الخير انتهاء، وكما قال الله تعالى وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ، وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ «1» . وقد دخل الإسلام بيوتا كثيرة فما من بيت إلا علم بأمر دعوة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وإذا كان العدد قليلا فى ذاته، فإنه ما خلا بيت من بيوت مكة المكرمة من مسلم، أو من قلب مال إليه، وأحس أهل الشرك بأن دولة الأوثان تؤتى من قواعدها، وأن الأحجار أخذت تفقد سيطرتها. ومن استمر متمسكا فعن أرب يريده باسمها، لا عن إيمان بها، فإنه كان يكفى أن يدعو محمد صلّى الله عليه وسلّم إلى الحى القيوم الذى لا شريك له، حتى تزايلت الأوثان عن مكانتها، وما هو إلا تفكير يسير حتى زالت الأوهام، وصارت أحجارا لا تتجاوز أنها أحجار، ومن تمسك بها فهو غير مؤمن أو سادر فى غلواثه. الاسلام يخرج إلى القبائل: 224- من وقت أن أمر الله نبيه بأن يصدع بأمر به، وقد أخذ يلتقى بالجموع، فيغشى الأسواق داعيا، ويدخل النوادى صادعا بأمر ربه، ويقف فى مناسك الحج داعيا القبائل عندما يجد سميعا، والاحاد يذاكرهم، يسألونه فيجيبهم بما يوحى به الله تعالى فى سماحة صاحب الدعوة، وبإشراق نور النبوة حتى أصبح حديث القبائل التى تفد إلى بيت الله تعالى حجيجا أو معتمرين، أو تجارا مضاربين، ووجد من القبائل من صغت أفئدتهم إلى الإسلام، يستمعون دعوته، ويؤمنون بواحدانيته، ولعل من أدلة وصول الدعوة إلى القبائل إسلام أبى ذر الغفارى، وإسلام ضماد من أزد شنوءة. روى البيهقى فى إسلام أبى ذر الغفارى أنه قال (أى أبو ذر) : أتيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقلت: السلام عليك يا رسول الله أشهد ألاإله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فرأيت الاستبشار فى وجه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.

_ (1) سورة القصص: 5.

ويظهر أن ذلك نتيجة لوقائع سابقة من مقتضاها أن خبر الإسلام سرى إلى بنى غفار، وأن دعوة النبى عليه الصلاة والسلام قومه قد وصلت إليهم فبعثت أبا ذر على البحث عنها، حتى عرف صدق النبى عليه الصلاة والسلام قبل أن يجيء إليه. وروى البخارى بإسناده عن ابن عباس قال: «لما بلغ أبا ذر مبعث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال لأخيه اركب إلى هذا الوادى فاعلم لى علم هذا الرجل الذى يزعم أنه نبى يأتيه الخبر من السماء، فاسمع من قوله، ثم ائتنى، فانطلق الاخر حتى قدمه وسمع من كلامه، ثم رجع إلى أبى ذر، فقال: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وكلاما ما هو بالشعر، فقال: ما شفيتنى، فأتى المسجد، والتمس رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو لا يعرفه، وكره أن يسأل عنه، حتى أدركه بعض الليل، فاضطجع، فراه على بن أبى طالب فعرف أنه غريب، فدعاه إلى ضيافته، فتبعه، ولم يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء حتى أصبح، ثم احتمل قربته وزاده إلى المسجد وظل ذلك اليوم، ولا يراه النبى حتى أمسى، فعاد إلى مضجعه، فمر به على فقال: أما ان للرجل أن يعلم منزله. فأقامه فذهب به معه لا يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء، حتى إذا كان اليوم الثالث، فعاد على مثل ذلك فأقام معه، فقال: ألا تحدثنى بالذى أقدمك، قال إن أعطيتنى عهدا وميثاقا لترشدنى قلت، فأخبره ... قال: فإنه حق، وإنه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فإذا أصبحت فاتبعنى، فإنى إن رأيت شيئا أخاف عليك قمت كأنى أريق الماء، وإن مضيت فاتبعنى، حتى تدخل مدخلى، ففعل فانطلق يقفوه، حتى دخل على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ودخل معه، وسمع من قوله وأسلم مكانه، فقال له النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: «ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمرى» فقال: والذى بعثك بالحق لأصرحن بها بين ظهرانيهم، فخرج حتى أتى فنادى بأعلى صوته: أشهد ألاإله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فضربوه، حتى أضجعوه «1» . فأتى العباس، فأكب عليه، فقال: ويلكم ألستم تعلمون أنه من غفار، وأنها طريق تجارتكم إلى الشام، فأنقذه منهم ثم عاد من الغد بمثلها فضربوه، وأثاروا عليه فأكب العباس ثانيا. ومن هذا نرى أن الإسلام قد أخذ يذيع نبؤه خارج مكة المكرمة، ويقول الرواة إن غفار أسلمت تابعة أبا ذر، ولم يكن أمر الإسلام ليصل فقط إلى من هم على مقربة من مكة المكرمة، بل وصل خبره إلى أزد شنوءة فأسلم رجل منهم اسمه ضماد كما أشرنا.

_ (1) البداية والنهاية لابن كثير ج 3 ص 34.

المناوأة

وضماد هذا كان رجلا يقول للعرب أنه يرقى من به مس من جنون أو سحر، فيشفى، فأراد سفهاء مكة المكرمة، أن يحسنوا النكاية بمحمد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فجاء سفهاء من مكة المكرمة، ودعوه ليعرضوا عليه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وقالوا له إنه مجنون. جاء ضماد فقال: أين هذا الرجل الذى تقولون عنه إنه مجنون لعل الله تعالى أن يشفيه على يدى. لقى محمدا صلى الله عليه وسلم فقال: له إنى أرقى من هذه الرياح، وإن الله يشفى على يدى من شاء فهلم إلى. فقال محمد صلى الله عليه وسلم: «إن الحمد لله نحمده ونستعينه، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، أشهد ألاإله إلا الله واحده لا شريك له» ثلاث مرات. قال ضماد متأثرا وقد فتح الله قلبه للإيمان «والله لقد سمعت قول الكهنة، وقول السحرة، وقول الشعراء، فما سمعت مثل هؤلاء الكلمات، فهلم يدك أبايعك على الإسلام» فبايعه على الإسلام، ويروى أنه عندما سمع كلام النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قال له «أعد علىّ كلماتك هؤلاء فقد بلغن السحر» . تلك كانت أحوال من يدخلون فى الإسلام، كانوا فرادى ولم يكونوا جماعات إلا ما قيل عن بنى غفار، وكانوا قليلا ولكنهم كانوا يزيدون ولا ينقصون، وكانوا من بيوت مختلفة، وشعب متفرقة، وتجاوزوا حجزات مكة المكرمة. فماذا تصنع قريش؟ المناوأة 225- توقع ورقة بن نوفل معركة تقوم بين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وقومه بسبب ما أوحى الله تعالى إليه والقيام بأداء الرسالة التى كلفه ربه أن يقوم بها، لأنه ما من أحد جاء قومه بمثل ما جاء به إلا عودى، وقد كان محمد صلى الله عليه وسلم كريما عند قومه، حبيبا إليهم يألفونه، ويثقون به الثقة المطلقة، حتى خاطبهم بما اتاه الله تعالى، فانقلب أكثر من بمكة المكرمة مخالفين، ثم مناوئين لدعوته، مستنكرين لها ابتداء، ومقاومين ومعادين، ومضطهدين فى الجملة لمن اتبعوه. وذلك لأنهم فوجئوا بهذه الدعوة إلى الحق، ولم يكونوا متوقعين لها، ومن محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، والمفاجأة بتغيير أمر مألوف تولد الإنكار ما لم يكن ثمة أمر متوقع يقع. وإن أمر رسول الله يجئ فى بنى إبراهيم وكان ذكره خارج مكة المكرمة، ولم يكن يتردد كثيرا بين أهلها، وأهلها قوم ماديون، لا يعنيهم إلا أمر التجارة، وأمر الحج، ولعل الحج لا يعنيهم إلا لما يعلون به من

شرف بين العرب، واستعلاء عليهم، وشعور بأن العرب لهم تبع، وهم السادة فى بلاد تصعب السيادة فيها، وبين أقوام لا يعترفون برياسة إلا ما يكون من قبل ذلك البيت المعظم، الذى كرمه الله تعالى، وجعله حرما امنا تجبى إليه ثمرات كل شيء. ولا يهمهم من جوار البيت إلا ذلك الشرف الذى يكتسبونه من الجوار وأنه محل تجارة العرب، كما هو محل نسكهم، وأمنهم، إذ الناس فى خوف وتقاتل، فكانوا بالإقامة فى البيت امنين من ناحية المال إذ هو سبيل تجارتهم، وهو مأمنهم، كما قال الله تعالى: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ. رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ. فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ. الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ، وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ «1» . وإذا كانت المفاجأة التى لم يكونوا متوقعين لها قد دفعتهم إلى المبادرة بالإنكار، فقد ساروا فى طريقه، وانتقلوا من الإنكار إلى الاستنكار، وهو مرتبة أعلى من الإنكار المجرد،، لأن الإنكار المجرد أمر سلبى، قد يجيء من بعده الإيمان إذا جاء الدليل، أما الاستنكار فهو عمل إيجابى معناه أنه ينكر الحق، ويستنكر الدعوة إليه، ثم اندفعوا من بعد الاستنكار إلى المناوأة، وكل ذلك من المفاجأة، وقد تدفع المناوأة إلى الجحود، ويدفع الجحود إلى الكفر ثم الايذاء. 226- والدعوة المحمدية التى فوجئوا بها هى تغيير لما هم عليه، ألفوا عبادة الأوثان من غير إيمان قوى بها، ولكن كانت عباراتهم تتلوى بتقديسها يتوهمون فيها أوهاما، وبسيطرة هذه الأوهام يشركونها فى عبادة الله تعالى، وهم يعلمون أن الله تعالى خالق السماوات والأرض. والذين يميلون إلى المال، ومجرد الاستعلاء بين الناس لا يحبون التغيير بل يحبون الحياة الرتيبة السهلة التى لا تبديل فيها، ولا انقلاب ولا تقلب فى المذاهب والأفكار، وليس فيهم شاغل بهذا، ولذلك كان جوابهم عندما يدعوهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ «2» ، ويحكى سبحانه وتعالى عنهم فيقول تعالت كلماته: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا، أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ «3» . ألفوا الشرك، ولم يألفوا التوحيد، ولو كان الحق ساطعا، والبرهان قائما، واستمسكوا بالأصنام، وهم لا يؤمنون بها، يحطمونها ويعبدونها، ويغيرون حجرا بحجر،. وإن كانت الأسماء لا تتغير، ولكنهم لا يتركونها إلى غير ما يألفون، ولقد توقعوا ما عرفوا من أخلاق محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام،

_ (1) سورة قريش: 1- 4. (2) سورة البقرة: 170. (3) سورة لقمان: 21.

ومن معاملاته أنه سيدعوهم إلى تحريم الخمر، وهم يعاقرونها، لأنه لم يذقها فى الجاهلية، وقد جاء القران الكريم بأنها ليست رزقا حسنا وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً «1» فجعل الرزق الحسن مقابلا للسكر، فكانت إشارة إلى قبحه، والربا كان جزا من تجارتهم، وعلموا من تجارة محمد صلى الله عليه وسلم أنه لا يزاوله ولا يرتضيه، والقران الكريم يتلى بينهم بالإشارة إلى تحريمه، إذ يقول سبحانه: وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ، وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ «2» . فدل هذا بصريح العبارة أن هذا الدين الجديد الذى جاء به محمد عليه الصلاة والسلام عليهم سيزعج الربويين الذين يستغلون أموالهم بالربا، يدفعونه دينا ويأكلون من ثمرات تجارة غيرهم ربا، وكان فيهم كبراء أثروا من هذا الباب، وحسبوه كالبيع، وقالوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا «3» . وهكذا حسبوا أن ذلك الدين سيقلب عامة أمورهم، فعاجلوه بالإنكار، ولقد صور هذا الحال جعفر بن أبى طالب فى حديثه مع النجاشى، وإليك القصة كما جاءت فى الصحاح فى المجاوبة بين مهاجرة الحبشة، ولسانهم الناطق جعفر. قال النجاشى: «ما دينكم؟ أنصارى أنتم؟ قالوا: لا. قال: أفيهود أنتم؟ قالوا: لا، قال: فعلى دين قومكم؟ قالوا: لا، قال: فما دينكم، قالوا الإسلام. قال. فما الإسلام؟ قالوا: نعبد الله لا نشرك به شيئا. قال. من جاءكم بهذا؟ قالوا جاءنا به رجل من أنفسنا، قد عرفنا وجهه ونسبه، بعثه الله تعالى إلينا كما بعث الرسل إلى من قبلنا، فأمرنا بالبر والصدق والوفاء وأداء الأمانة، ونهانا أن نعبد الأوثان، وأمرنا بعبادة الله تعالى واحده لا شريك له، فصدقناه وعرفنا كلام الله تعالى، وعلمنا أن الذى جاء به هو من عند الله، فلما فعلنا ذلك عادانا قومنا، وعادوا النبى الصادق وكذبوه، وأرادوا قتله، وأرادونا على عبادات الأوثان، ففررنا إليك بديننا ودمائنا من قومنا» . هذا الكلام يصور بعض التصوير التغيير الذى رأوه فى عاداتهم، فتجردوا لمناوأته، وأخذ الطريق عليه إن استطاعوا. ومما دفع إلى مبادرتهم بالإنكار غرابة الأمر فى ذاته عليهم، ما كانوا يؤمنون بأن هناك يوما اخر يحاسب فيه المحسن على إحسانه والمسيء على إساءته، وأنها للجنة أبدا أو للنار أبدا، ولقد أكد ذلك النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عندما وقف لينذر قومه بعد أن أمره ربه، فقد جاء فى تلك الخطبة تأكيد لليوم

_ (1) سورة النحل: 67. (2) سورة الروم: 39. (3) سورة البقرة: 275.

الاخر، لأنه عليه الصلاة والسلام يعلم أنهم عنه غافلون «والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتجزون بالإحسان إحسانا، وبالشر شرا، وإنها للجنة أبدا أو للنار أبدا، وإنكم لأول من أنذر بين يدى عذاب شديد» . إن المشركين من العرب كانوا قوما ماديين لا يؤمنون إلا بالحس، يعرفون الله، ولكن يصورون حجارة ليعبدوها فلا يعبدونه سبحانه، وهو غيب عنهم، فكان كل هذا غريبا، ومن يستغرب من غير دليل، ينكر، ثم يستنكر من غير دليل أيضا، ولقد حكى الله تعالى عنهم فى إنكار اليوم الاخر وما يكون: وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ، أَإِذا كُنَّا تُراباً، أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ. أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ، وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ، وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ «1» . ويقول سبحانه وتعالى فى استغرابهم الخلق من جديد: وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ «2» . ولجهلهم بالنبوات أثار عجبهم، والغرابة فى نفوسهم أن جاءهم بالرسالة عن الله تعالى رجل منهم يدعو إلى الله سبحانه، ولو كانوا يعلمون أن الرسول لا يكون إلا رجلا يمشى بين الناس ما ثار عجبهم لكونه رجلا، ولقد قال قائلهم فى الدعوة إلى التمسك بالحجارة: وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ، إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ. ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ، إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ. أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا، بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي، بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ «3» ، وهكذا كانت من أسباب غرابتهم بشرية الرسول، لأنهم أميون لم يعرفوا الرسالة، ولم يدركوها من قبل. ولقد قال الله تعالى عنهم: وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ، لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ، فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً. أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ، أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها، وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً «4» . فجهلهم بالنبوات والرسلات، وعدم وجود أنبياء بينهم علموا منهم رسالات الله تعالى إلى خلقه، وأن الرسل قوم من البشر، جعلهم يستغربون أن يكون الرسول بشرا سويا يأكل مما يأكلون، ويشرب مما يشربون، وإذا كان الأمر غريبا عليهم، فقد كان حقا عليهم أن يتعرفوا الحقائق لتزول الغرابة عنهم، ويستأنسوا بنور النبوة، ولكنهم عاندوا فلج بهم العناد، فكان منهم الجحود والكفران.

_ (1) سورة الرعد: 5. (2) سورة يس: 78. (3) سورة ص: 6، 7. (4) سورة الفرقان: 7، 8.

227- وإن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم بهذه الدعوة التى تسوى بين الغنى والفقير، وتوجب حقا للفقير فى مال الغنى- قد مس كبرياءهم وهز مراكزهم هزا عنيفا، وأحسوا بالأرض تميد من تحتهم إذ أن ذوى الأنساب منهم يستعلون بأنسابهم، ويحسبون أنهم الأشراف واحدهم، والناس دونهم، وهم الأعلون وغيرهم الأدنى، فكان لابد أن يقاوموا ذلك الداعى الجديد الذى يقول بلسان المقال وبلسان الفعال «لا فضل لعربى على أعجمى إلا بالتقوى، وأن الجنة لمن أطاع، ولو كان عبدا حبشيا، والنار لمن عصى، ولو كان شريفا قرشيا» فهو يأخذ بنواصى الأقوياء ليضعها بجوار رؤس الضعفاء، وقد لمحوا ذلك فى أتباعه، فقد رأوا أبا بكر نسابة العرب ومألف قريش، يكون بجوار بلال وعبيد أبى بكر نفسه، لا يفرق بينهما إلا فضل الإيمان، فهو مقياس الشرف والضعف، والإكبار والإصغار. بلا شك هذه مباديء اجتماعية لا يقبلها شرفاء مكة ورؤساؤها، ومحمد عليه الصلاة والسلام لابد منفذها، لأنه كان ينفذها قبل أن يكون نبيا رسولا، فكيف لا ينفذها، وقد نزل الوحى عليه، وجعلها هو نظاما واجب الاتباع، من لم ينفذه إن لم يعاقب اليوم فالنار الموقدة تلقاه يوم القيامة، ويلقى به فى السعير. وقد قوى هذا أن الضعفاء أقبلوا على ما يدعو إليه محمد صلى الله تعالى عليه وسلم غير نافرين منه، بل كانوا مستجيبين أشد الاستجابة، وابتدأ الأقوياء الذين دخلوا فى الإسلام يعاملون الرقيق، كما يعاملون الأحرار. إذن لابد من مقاومة ذلك التيار الذى جاء مع الدعوة، ولا يتركونه حتى ينمو، ويستغلظ ويستوى على سوقه، ويكون قوة تقوض ما تحت أيدى قريش من شرف وهمى، وسلطان استمدوه من ذلك الشرف الواهن فى بنيانه. ثم إنهم كانوا الرؤساء الأعلون، ولهم شبه سلطان، وإنه إذا ذاع دين محمد عليه الصلاة والسلام، وصار السلطان للحق واحده، وحكمت المساواة، وذهبت المنازعات القبلية، فمحمد ذو السلطان، ويسلب كل ما لهم من سلطان، وما بنوه من مجد طريف وتالد ينهدم بين أيديهم، لأنهم يبنون سلطانهم على أنهم ذرية إسماعيل وضئضيء إبراهيم وها هو ذا يدعوا إلى ديانة إبراهيم، ويقول فى غير عوجاء ولا لو جاء، هذه ملة إبراهيم حنيفا، وما كان من المشركين، فأنى يكون لهم من بعد ذلك، لابد إذن من اقتلاع دعوة محمد عليه الصلاة والسلام من جذورها، والقضاء عليها فى مهدها. ثم إن بعض الكبراء منهم كانوا ينفسون على محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، ويتسائلون لماذا كانت له تلك المنزلة علينا، ونحن أولى بها منه. وقد ذكر ذلك الوليد بن المغيرة، وادعى أنه أولى بالنبوة وأنه أكثر مالا وأعز نفرا، ومثل ذلك عروة ابن مسعود الثقفى، ونزل فيهما قوله تعالى: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ

الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ. أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ. وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ. وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ. وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ «1» . 228- وفوق ما ذكرنا كله- العصبية العربية الجاهلية التى كانت مستمكنة فى النفس العربية يتوارثونها جيلا بعد جيل، فالعرب تنفس على قريش مكانتها، وقريش تنفس على بنى قصى ما لهم من مكانة، وبنو قصى وغيرهم ينفسون على بنى عبد مناف، وبنو أمية ينفسون على بنى هاشم رياستهم للعرب، وكونهم فى المكانة العليا من سدانة البيت والقيام عليه، فهاشم ورث الرياسة من عبد مناف، وعبد المطلب أخذها عن هاشم، وأبو طالب ورثها عن عبد المطلب. فالدعوة الإسلامية تعرضت لعداوة من عادوا قصيا، وتعرضت لمن عادوا عبد مناف، ثم تعرضت لمن كانوا أعداء لبنى هاشم، ومن كل هؤلاء تكونت المقاومة، ولعل أمثل صورة لهذه العداوات مجتمعة هو عمرو بن هشام الذى اشتهر فى الإسلام باسم أبى جهل، وهو به جدير. فقد كان فرعون هذه الأمة، وإن لم يكن فرعون فى مثل سفهه وحنقه ورعونته. لعن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أبا جهل فناداه بكنيته أبا الحكم قائلا له: «هلم إلى الله وإلى رسوله أدعوك إلى، فقال أبو جهل: يا محمد، هل أنت منته عن سب الهتنا، هل تريد إلا أن نشهد أنك قد بلغت، فنحن نشهد أنك قد بلغت، فو الله لو أنى أعلم أن ما تقوله حق لا تبعتك» . مناقشة هادئة، كلها حكمة من محمد عليه الصلاة والسلام، إذ أنه يناديه بكنيته يا أبا الحكم، وهى عجرفة من جانب عمرو بن هشام (أبى جهل) فبينما النبى عليه الصلاة والسلام يناديه بكنيته، لا يناديه بمثلها، بل يقول فى جفوة يا محمد. وليس هذا هو المهم، إنما المهم أنه قال لمحدثه بعد انصراف النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. «والله إنى لأعلم أن ما يقول حق، لكن يمنعنى شيء، إن بنى قصى قالوا: فينا الحجابة، فقلنا: نعم، ثم قالوا: فينا السقاية، فقلنا: نعم، ثم قالوا: فينا الندوة، فقلنا نعم، ثم قالوا: فينا اللواء، فقلنا نعم، ثم أطعموا وأطعمنا، حتى إذا تحاكت الركب قالوا منا نبى، والله لا أقبل» «1» .

_ (1) البداية ج 3 ص 65.

كانت قبائل قريش تأخذ على بنى قصى أنهم جمعوا فى أيديهم الحجابة للبيت الحرام، والقيام على شئونه، وذلك شرف ليس فوقه شرف، وسقاية الحجيج، وذلك يذيع ذكرهم ويعلن اسمهم، والندوة، وهى شورى العرب، فكانوا بذلك رؤساءهم، وهم الذين يحملون لواء قريش، وهذا كله إثارة للعرب عليهم، ثم انحدرت هذه المنافسة إلى معاداة الحق الذى يأتى به أولاد قصي، وبنو هاشم على رأسهم، وقد ورثوا عنه بعض ما أخذه من قريش. وإذا كانت قريش كلها تنفس على بنى قصى ما أخذوا أو يحسدونهم فبنو عبد مناف كانوا من بينهم يختصون بالحقد عليهم لأنهم الذين ورثوا شرف قصى، وما كان معه، ولقد ظهر ذلك على لسان فرعون هذه الأمة أبى جهل. لقد سمعوا القران الكريم سرا، وكانوا هم الأعداء الذين قد أصيبوا بلدد الخصومة، ثم تذاكروا بعد السماع وقد تأثروا، وقد قال أحدهم لأبى جهل: يا أبا الحكم، ما رأيك فيما سمعت من محمد، فقال حانقا: «ماذا سمعت، تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا وأعطوا فأعطينا، حتى تحاذينا على الركب، وكنا كفرسى رهان، قالوا: منا نبى يأتيه الوحى من السماء، فمتى ندرك مثل هذه، والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه «1» . وإذا كان أبو جهل يمثل أعنف وأحمق معارضة للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فهو فى معارضته أوضح صورة للعصبية الجاهلية، التى تضع على البصائر غشاوة، فتعمى عن الحق، ولا تدركه، بل تدركه، ولا تذعن له، وترضى بالرديء الوبيء عن الحق الصادق المريء. نسوق هذه الأمور، لا لنبرر بها ذلك الموقف الجاهلى الذى وقفه أعداء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، أو إن شئت فقل خصومه الذين حاربوه وأعنتوه فى الخصومة والمعاندة، ثم عادوه، وكانوا شياطين الإنس الذين ذكروا فى القران الكريم على أن الله تعالى يجعل لكل نبى يبعثه عدوا من شياطين الإنس، ليكتب الله تعالى له ثواب الجهاد والمصابرة.. ولكن سقناه لنعلل الوقائع بأقرب أسبابها، ولكى تزول كل غرابة فى معاداتهم للحق، وقد بدا وضحه، وليعرف الباحث البواعث الحقيقية لتلك اللجاجة فى العداوة التى ذهبت بهم إلى الإيذاء، وأسرفوا بها فى القول، وأثاروا نيران البغضاء، والواقع أن البغضاء للدين كانت مستكنة فى نفوسهم، واستيقظت بقوة دعوة محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام.

_ (1) سيرة ابن هشام ح 1 ص 316 طبعة الحلبى.

تلقى الناس للدعوة

وإن إسناد الأمور لأسبابها لا يعد تبريرا لها، ولكن يكون تبيانا للوقائع، وإن الأسباب فى ذاتها إثم، والإثم لا يولد إلا إثما، واللجاجة لا تولد إلا فجورا واثاما. لقد يعجب الناس كيف يمارى أولئك وفيهم عقل فى الواحدانية، ويجادلون فى الله تعالى وهم يعلمونه، وهو شديد المحال، كيف يقف أمثال الوليد بن المغيرة وهو من أذكياء العرب، والنضر بن الحارث موقف المعارضة، وفيهم إدراك سليم، ولكن عميت عليهم الأمور بسبب ما ذكرنا فكانوا فى حيرة بين ماض ألفوه، وألفوا معه الدعة والمال والجاه والسيطرة، وحاضر قد أدركوه، ورأوا نور الحق الذى ساروا فيه، ولكن ما أن يبرق عليهم نوره ويمشوا فيه، حتى تكون غاشية المال، وغاشية الجاه، وغاشية الاستعلاء، وغاشية التعصب القبلى المردى. ومنهم من كان يرد النور إلى قلبه رويدا رويدا، فكان فى وسط ذلك الأتون من العداوة نور يهدى إلى التى هى أحسن، والله عليم بذات الصدور. تلقى الناس للدعوة 229- تلقى الناس فى مكة المكرمة دعوة النبى عليه الصلاة والسلام بعد أن أعلنها على الصفا، مخاطبا عشيرته الأقربين أولا، ثم مخاطبا العرب أجمعين ثانيا، حين صدع بأمر ربه، تلقوها مشدوهين لغرابة الجديد، فقسم صغى قلبه إليها، وأولئك السابقون الأولون الذين اصطفاهم الله تعالى لحمل دعوته، ومعاونة النبى عليه الصلاة والسلام فى تبليغ رسالته، ونشرها فى الأرض ومجاوزتها الأقطار من بعده. وكان من هؤلاء الضعفاء الذين حرموا السلطان ومتعة الحياة، ورأوا فى دعوة محمد صلى الله عليه وسلم أملا مرجى فى الاخرة وإذ لم يكونوا فى حال مرضية البقاء، بل هى مرجوة الإنهاء، فأوجد فيها الإسلام الأمل فى إنهائها، فسارعوا إليها، وذاقوا العذاب فى سبيلها، فصبروا من غير انزعاج أو ارتداد، بل مضوا فى الطريق حاملين البؤس والبأساء، فى جلد وصبر وإيمان، وقد مكن الله تعالى لهم، ووفاهم صبرهم وإِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ «1» . والقسم الثانى أعلن العداوة للنبى منذ ابتدائها، وشنوا غارة على الذين يؤمنون، وعلى رأس هؤلاء أبو لهب عم النبى عليه الصلاة والسلام، ومن هؤلاء من ذهبت غلواؤهم فى العداوة، ولجاجتهم فى الخصومة إلى إيذاء المؤمنين، وتعذيب الضعفاء من العبيد والفقراء، ومن لا حول لهم ولا طول من عشيرة تحميهم، وعزة من النفر يدافعون عنهم، وكثير ممن دخلوا فى الإسلام كانوا على ذلك النحو، إذ لم يجدوا جوارا من أحد يدفع عنهم الأذى وعلى رأس المؤذين أبو جهل.

_ (1) سورة الزمر: 10.

والقسم الثالث وسط بين هؤلاء، فلم يعتنق الإسلام، ولم يكن من السابقين الأولين، بل وقف وقفة المنتظر، أو وقفة من رد الدعوة من غير معاداة، ولا مناوأة، وكان من هؤلاء أكثر بنى هاشم، وبعض بنى أمية، وبعض القرشيين، وكان فى كل عشيرة بعض من هؤلاء، كما كان فى كل عشيرة بعض ممن أسلم. ومن هذا القسم من كان يشرح الله تعالى صدره للإسلام، فيدخل فى صفوف المسلمين مجاهدا صابرا، متحملا الأذى، وأقله السخرية والاستهزاء، فقد كان الإسلام ينمو من هؤلاء، بل إنه كان ينمو أيضا من المعذبين المؤذين، وحسبنا عمر بن الخطاب، كان من المؤذين، حتى هم فيما يقول الرواة بقتل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ولكن تداركته رحمة الله تعالى، فشرح الله تعالى صدره للإسلام، فكان له عزا، وكتب الله تعالى الحق على قلبه ولسانه. أخذ النبى عليه الصلاة والسلام يدعو، ولا ينى عن دعوته، ولا يلين ولا يخفف من دعوته الإعراض مهما يكن مقدار المعرضين ولا الأذى ينزل به وبكبراء صحابته، ولا الاضطهاد يشتد على ضعفاء أتباعه، ولكنه يأسى ويحزن على ما ينزل بهم ويواسيهم ويدعوهم إلى الصبر، ويصبر هو ليتأسوا به، ويعينهم بالمال إن احتاجوا، ويعينهم كبار الذين آمنوا على فك رقابهم. وكلما ازداد عدد المؤمنين، ازداد الأذى وازدادت المعارضة، فإنه كلما قوى الحق ونما أهله، يئس المخالفون من أن يطفئوا نور الله تعالى الذى انبثق فى مكة المكرمة. ولكن بوادر اليأس كانت تزيده حجة ولجاجة فى الباطل، وكل يسير فى طريق التمسك بالباطل، ففريق الذين ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا سوط عذاب يستمرون فى غيهم يعمهون، والذين ارتضوا المعارضة من غير إيذاء، والمقاومة من غير إعنات لمن جاؤا بالدين الجديد، ساروا فى طريقهم ومنهاجهم، يدعون النبى عليه الصلاة والسلام لأن يكف عن دعوته، ويجادلونه، ويعرضون عليه ما يرونه مغريا بالإعراض عن دعوته، على حسب تفكيرهم، وعلى مقتضى ما يسول لهم شيطان المادة. 230- ويذكر الأكثرون من الرواة أن النبى عليه الصلاة والسلام كان يلقى منهم مسالمة، ودفاعا عن عقائدهم بالتى هى أحسن، أو عدم اهتمام بعضهم بمقاومته عندما كان يدعو من غير أن يذكر الهتهم بسوء، أو يسفه أحلامهم، وأحلام ابائهم، فلما أخذ يسب الهتهم، ويسفه أحلامهم، انتقلوا إلى مقاومة عنيفة، أخذت صورة الإيذاء من بعضهم والاستنكار المرير من بعض اخر، ثم تطورت الأمور إلى العداوة والإغراء بالبغضاء وقطع الأرحام الموصولة.

وفى الحق أننا لا نرى فارقا زمنيا، بل نجد أن دعوة التوحيد وتحريم عبادة الأوثان، والإشراك بالله ابتدأت منذ جاء عليه الصلاة والسلام، ومنذ أعلن عشيرته باستنكار عبادة الأصنام، فقال عقب الإنذار بالبراءة منهم إن عصوا، فقال الله تعالي: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ. وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ. وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ «1» . وجاء مثل ذلك عند الأمر بالجهر بالدعوة، وإعلان قريش خاصة والعرب عامة، إذ قال الله تعالى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ. إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ. الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ «2» . وإذا كنا لا نجد فارقا زمنيا يحد ما بين الدعوتين، وإذا كانت الايات التى نزلت فى أول الدعوة بمكة المكرمة تتشابه فى معانيها من ناحية الأوثان مع الايات التى نزلت فى اخر مقامه عليه الصلاة والسلام بمكة المكرمة. فإن من الحق علينا أن نقول إننا لا نجد تفريقا بين حال لم تذكر فيها أوثانهم بسوء وحال قد ذكرت فيها بسوء. وإن الذى نجده أو نظنه ظنا أن مقاومتهم ابتدأت بحال دهشة مما فوجئوا به، وتساؤل فيما بينهم، ما شأن هذا الذى جاء به محمد عليه الصلاة والسلام وهم بين من علم أن محمدا عليه الصلاة والسلام دعا إلى هذه الدعوة، وبين متشكك فى نسبة القول إليه، وبينما هم يتسائلون كانت الدعوة تسرى فى الأوساط، وتجد لها من بينهم مصادقين ما بين سادة وعبيد، وأشراف وضعاف، فتنبهوا حينئذ للمقاومة، لأمر وجدوه جدا لا هزل فيه، وقويا لا ضعف يعتريه، وإذا كان الذين يتبعونه قليلا، فهم يزيدون وسيكونون كثيرا ولابد أن يأخذوا الأهبة لمدافعة هذا الواقع، وهو لا يزال نبتا، قبل أن يستغلظ سوقه. 231- وعلى ذلك نقرر أن المقاومة كانت تتزايد فى الشدة كلما تزايدت الدعوة عموما، وتكاثر المستجيبون لها، فهم كلما رأوها تنمو ولو قليلا يحسون بالخطر شديدا، وكلما أحسوا بالخطر ازدادوا لجاجة وعنفا، لأنهم يرون الخطر على سيادتهم، ونظمهم الاجتماعية، والأرض تنهار من تحتهم شيئا فشيئا، فتزداد المقاومة بصورها المختلفة، وكل يعمل على شاكلته، وعلى الطريقة التى يرضاها خلقه، ففريق بالايذاء، وفريق بالاستهزاء، وفريق بالشكوى لأبى طالب حاميه، ويتلاقى الجميع على أمر يكون متلاقيا مع كل طبائعهم ... هكذا.

_ (1) سورة الشعراء: 214- 217. (2) سورة الحجر: 94.

الذين استجابوا لله والرسول

وإن اعتراضهم أخذ ثلاث صور، الصورة الأولى محاولة حمل النبى عليه الصلاة والسلام على ترك الدعوة التى يقوم بها، وينشر الإسلام عن طريقها ويحارب الوثنية بكل ضروبها. الصورة الثانية- المجادلة ومحاولة إحراج النبى عليه الصلاة والسلام بمطالب هى غير معقولة فى ذاتها، بقصد تعجيزه، وإظهار عجزه أمام الناس أجمعين عسى أن يكون فى ذلك صد الناس عنه. الصورة الثالثة- الإيذاء فى صوره المختلفة، بالإيذاء الفعلى الاحادى للنبى عليه الصلاة والسلام خاصة، وللذين يؤمنون من الناس، ولم يخلص منهم كبراؤهم، ووقع شديد على ضعفائهم، ثم كان من ذلك إيذاء جماعى، أنزل من قريش كلها على بنى هاشم كلهم وإخوانهم بنى المطلب، وقد تلقوا جميعا مقاطعة قريش لهم، ولم يقبل دنية الافتراق عن أسرته إلا أبو لهب، أما الباقون فتحملوه صابرين مشاركين معاونين، واستوى فى ذلك مؤمنو بنى هاشم وبنى المطلب على سواء. وقد لوحظ أن الإيذاء كان يجعل الإيمان يذيع وينمو، لأن الناس تنفطر نفوسهم لألم المتألمين، ويدفع حمية الذين لهم صلة بمن يؤذون، فتدفع المروءة إلى مشاركتهم فى سبب الإيذاء تحديا ومقاومة لذلك الشر، فقد دفع الإيذاء للنبى عليه الصلاة والسلام حمزة بن عبد المطلب لأن يعلن إسلامه، ثم يعلن إيمانه، كما سنبين إن شاء الله تعالى فى إسلام حمزة. وقد يكون اندفاع المؤذى فى إيذائه مفرطا فيه دافعا لأن ينفطر قلبه، فيجد سبيلا للإيمان، كما كان الشأن فى إيمان عمر بن الخطاب، فقد كان الدم الذى انبثق من شج أخته إيذاء لها على إيمانها سببا فى أن فتح الله تعالى قلبه لأنه استمع إلى الايات التى تتلى، فرحمه الله تعالت كلماته بأن فتح صدره للإيمان فامن. وكان الإيذاء سببا فى الهجرة إلى الحبشة، وفى الهجرة إليها شاع اسم الإسلام فى ربوعها، وإن لم يتبعه إلا ملكها، وسنذكر بعون الله تعالى تلك الصور المختلفة للمقاومة بعد أن نتكلم فى درجات الدعوة، والجهر بها. الذين استجابوا لله والرسول 232- سرى الإسلام إلى النفوس من أول نزوله، وإذا كان الذين سارعوا إلى الدخول فيه عددا قليلا، فذلك شأن كل دعوة تعتمد على الحق المجرد، فإنها تدخل فى قلوب الجماعات فى ريث من غير تعجل، ولا انسياق من غير تفكر وتدبر، ولكنها صارت كالجبال.

وقد يقول قائل إن دعوة محمد عليه الصلاة والسلام كانت ثورة فكرية واعتقادية واجتماعية واقتصادية وإنسانية بشكل عام، ومن شأن الثورات أن تجتذب الجماهير فتندفع فى نصرتها والأخذ بها، ونقول فى الإجابة عن ذلك أن ما أتى به محمد عليه الصلاة والسلام كان فى نتيجته وغايته أعظم ثورة إنسانية راها التاريخ الإنسانى، فى نتيجتها وثمراتها وغاياتها، لا فى وقائعها وأشكالها، فإن الثورات الجامحة انفعالات للجماهير تكون كانفعال الأشخاص لا تلبث أن تنطفئ، إذ ذلك شأن الانفعالات دائما، لا فرق بين أن تكون فى الاحاد وأن تكون فى الجماعات، واعتبر ذلك بالثورات الأوربية، فأعظمها مظهرا الثورة الفرنسية، انفعلت بها فرنسا انفعالة شديدة، ثم لم تلبث حتى أخذت تأكل نفسها، وكثرت ثورات زعمائها على أنفسهم جماعة بعد جماعة حتى رسبت فى اخر الأمر فى حكم يشبه حكم القياصرة، كما كان فى عهد نابليون الذى نال الكمثرى فيها بعد أن نضجت. أما دعوة محمد عليه الصلاة والسلام، فقد كانت نابعة من أحكام المنطق وأحكام العقل، والإمداد الإلهى بروح القدس، وما كانت انفعالة، بل كانت نفوسا مطمئنة راضية مرضية امنت بالحق وأخذت به، دخلها الإيمان ولم يخرج منها. وهذا يكون من شأنه الدوام والاستقرار فى النفوس التى يدخلها، فإذا أشرق فيها إشراق لا ينطفيء، فلا يشبه نار الهش من الأحطاب الذى ينطفيء بأقل الرياح، بل يشبه الماء العميق البعيد الغور الذى لا تهزه الرياح، فلا تعبث به الأهواء. لذلك كان الذين يدخلون قليلا قليلا من غير طفرة، وانتقال انفعالى. 233- ولقد اختبرت قلوبهم من أول دخولهم- لقد ابتدأ الإسلام يسرى كالنور فى الظلام، فأشرقت به قلوب مؤمنة، فدخلها واستقر بها فى وسط لجاجة الشرك وعوجاء أهله، أسلم قوم مؤمنون، ولكن منعوا من أن يقيموا شعائر دينهم، فكانوا ابتداء لا يصلون فى المسجد الحرام، بل كانوا يذهبون للصلاة فى شعاب مكة المكرمة مستخفين بدينهم، لا يجهرون بقراءة القران الكريم بين ظهرانيهم، ولقد كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يفعل ذلك، ومكانته بين قريش مكانته، وجاء أبو جهل الذى اشتهر بذلك الاسم فى الإسلام واستحقه بعمله، وقال فى تبجح ظاهر للنبى عليه الصلاة والسلام: «ألم أنهك يا محمد عن الصلاة هنا» فلم يلتفت إليه النبى عليه الصلاة والسلام، لأنه يعلم أن أدب الإسلام أنه إذا مر باللغو مر كريما ولم يلتفت. وكان المسلمون الأولون لا يستطيعون أن يجتمعوا ليتعلموا من الرسول دينهم، بل كانوا يجتمعون خفية فى دار الأرقم بن أبى الأرقم، قالوا إنه يجتمع فى هذا البيت الطاهر نحو تسعة وثلاثين كانوا هم المجتمعين عندما أسلم عمر رضى الله تبارك وتعالى عنه، وليس معنى ذلك أن الذين أسلموا كانوا هذا العدد

فقط، فقد كان ثمة عبيد آمنوا، وكانوا فى مهنة مالكى رقابهم، ومنهم من كان يعذب العذاب الأليم ليفتن عن دينه، ويكره على الخروج منه. ومن المؤمنين من كان يؤمن، ويخفى إيمانه عن أهله. أبيه وأمه وأخيه فرارا بدينه من أن يمنى بملام أو تعذيب، فقد كان أهل كل بيت كان فيه من دخل فى الإسلام، يأخذ ذلك المسلم بالتأنيب واللوم الزاجر، ثم ينتقل الأمر من اللوم إلى التعذيب، إن استرسلوا فى غوايتهم، ولم يكن ما يمنعهم من رحم شفيقة، أو قوة عزيمة ممن منحه الله تعالى الإيمان، واعتصم ببرد اليقين. ولم يكن المسلمون يجهرون بقراءة القران الكريم خوف الأذى إلا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقد كانت دعوته وتبليغ رسالة ربه توجبان عليه أن يجهر مهما يكن الأذى الذى ينزل به. فإن الله تعالى عاصمه من الناس، وما كانت قريش تستطيع دفعه، بل إنهم كانوا يتناهون فيما بينهم أن يسمعوه، ولكنهم يذهبون خفية ليسمعوه، يذهب كل واحد مختفيا عن جماعته ثم يلتقون فى الاستماع إليه، وقد تناهوا، ولكن كل واحد خالف ما اتفق عليه معهم، ويحسب أنه المخالف واحده، وإذا هم جميعا مختلفون وإذا هم جميعا ناقضون لما اتفقوا. ويذكر الرواة أن أول من جهر بالقران الكريم بعد النبى عليه الصلاة والسلام، يروى ابن إسحاق عن عروة بن الزبير عن أبيه الزبير بن العوام أنه قال: كان أول من جهر بالقران الكريم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة المكرمة عبد الله بن مسعود رضى الله تعالى عنه قال: «اجتمع يوما أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقالوا: والله ما سمعت قريش هذا القران يجهر لها به قط، فمن رجل يسمعونه؟ قال عبد الله بن مسعود: أنا أسمعهم، قالوا إنا نخشاهم عليك، إنما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه من العدو إذا أرادوه. فقال: دعونى، فإن الله تعالى سيمنعنى، فعاد ابن مسعود حتى أتى المقام فى الضحى وقريش فى أنديتها، حتى قام عند المقام ثم قرأ رافعا صوته. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. الرَّحْمنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ. عَلَّمَهُ الْبَيانَ «1» ثم استقبلهم يقرؤها، قال فتأملوه فجعلوا يقولون ماذا قال ابن أم عبد، ثم قالوا إنه ليتلو بعض ما جاء به محمد. فقاموا إليه، فجعلوا يضربونه فى وجهه، وجعل يقرأ، حتى بلغ منها ما شاء الله تعالى أن يبلغ، ثم انصرف إلى أصحابه، وقد أثروا فى وجهه، فقالوا له: هذا الذى خشينا عليك، فقال: ما كان أعداء الله أهون على منهم الان، ولئن شئتم لأعاودنهم بمثلها غدا، قالوا: حسبك حسبك أسمعتهم ما يكرهون

_ (1) سورة الرحمن: 1- 4.

إسلام حمزة

234- وإن هذا كله يدل على ثلاثة أمور: أولها: الاستخفاء بالعبادة إلا ما كان من أمر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فقد كان حريصا على أن يجهر بصلاته ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وأن يجهر بالقران الكريم ما وسعه ذلك، غير ممتنع، ولا متردد، لأن الأمر جاء إليه بذلك، وهو يبلغ الرسالة، ويظهر إن المشركين، وإن كانوا يتضايقون من ذلك، لم يكونوا يمنعونه، وإن حاولوا المنع لم يجدوا مستجيبا لما يدعون، فكانوا يعمدون إلى الاستهزاء به انا وإيذائه انا، والإعراض عنه دائما، وفى كل وقت، لأنهم قد جعلوا فى قلوبهم وقرا، فلا يستمعون، وقد كان المشركون يشتدون فى أذاهم. الأمر الثانى: أن الأذى الذى كانوا ينزلونه بالمؤمنين لم ينهنه من عزمهم، ولم يضعف أنفسهم، فهذا عبد الله بن مسعود يضربونه، فيستمر فى قراءته، وهم يستمرون فى ضربه حتى يبلغ ما شاء الله تعالى أن يبلغه، غير ملق اهتماما إلى ضربهم. وإن حال الايذاء فى أثناء قراءته يصور حال المؤمنين مع إيذاء الكافرين، ومع الإيمان استمروا فى الإيذاء، واستمر الإسلام فى ازدياد. الأمر الثالث: أن المشركين حين كانوا يسمعون القران الكريم من النبى صلى الله عليه وسلم يتميز غيظهم، وإن كان الغيظ ثابتا، إذ يتبعه إيذاء أحيانا، ولكنهم يتميزون غيظا عندما يسمعونه من غيره، لأنهم بذلك يعلمون سريان الدعوة، وزيادة الأتباع حينا بعد حين، فليس غيظهم فقط من سماع القران الكريم، بل إنه منه، ومن نمو عدد المستجيبين، فالأمر إذا كان يزيد ولو بقدر ضئيل يبشر أصحابه ببلوغ الغاية، وينذر أعداءه بالعاقبة المريرة. إسلام حمزة 235- ويلاحظ أن الأذى لم يمنع الاستجابة للدعوة، بل زيادتها، ومن المؤمنين الذين كان لهم فى الإسلام قدم ثابتة من كان الإيذاء هو السبب الواضح فى إسلامهم. ولنذكر فى هذا المقام إسلام حمزة بن عبد المطلب، ولنذكر قصته كاملة كما رواها ابن إسحاق: قال ابن إسحاق: «حدثنى رجل من أسلم كان واعية أن أبا جهل مر برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عند الصفا فاذاه وشتمه، ونال منه ما يكره من العيب لدينه، والتضعيف لأمره، فلم يكلمه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ومولاة لعبد الله بن جدعان فى مسكن تسمع ذلك ... فلم يلبث أن أقبل حمزة متوشحا قوسه، راجعا من قنص له، وكان صاحب قنص يرميه، ويخرج له، وكان إذا رجع من

قنصه لم يصل إلى أهله حتى يطوف بالبيت، وكان إذا فعل ذلك لم يمر على ناد من قريش إلا وقف، وتحدث معهم، وكان أعز فتى فى قريش. وأشد شكيمة، فلما مر بالمولاة (التى سمعت سب أبى جهل) قالت له: يا أبا عمارة، لو رأيت ما لقى ابن أخيك محمد انفا من أبى الحكم بن هشام، وجده هاهنا جالسا، فأذاه وسبه، وبلغ منه ما يكره، ثم انصرف عنه، ولم يكلمه محمد صلى الله تعالى عليه وسلم. فاحتمل حمزة الغضب لما أراد الله به من كرامة. فخرج يسعى؛ ولم يقف على أحد عامدا لأبى جهل إذا لقيه أن يوقع به، فلما دخل المسجد نظر إليه جالسا فى القوم، فأقبل نحوه، حتى إذا قام على رأسه رفع القوس فضربه بها فشجه شجة منكرة، ثم قال: أتشتمه وأنا على دينه، أقول ما يقول، فرد ذلك على إن استطعت، فقام رجال من بنى مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل، فقال أبو جهل: دعوا أبا عمارة، فإنى والله قد سببت ابن أخيه سبا قبيحا، وتم حمزة على إسلامه، وعلى ما تابع عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم» «1» . وفيما ذكره ابن إسحاق هنا ما يوهم بأنه أعلن إسلامه، وكان ذلك الإعلان هو دخوله فى الإيمان، ولكن ذكر فى البداية عن ابن إسحاق أيضا أن حمزة إذ أعلن ذلك أنه أتبع محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام ما كان ينطق بها إلا عن حمية العصبية، ولكنه فكر بعد ذلك فى مخرج منها، أو سير فى طريق الإيمان، ولننقل لك حديثه فى نفسه كما جاء على لسانه، وكما نقل ابن إسحاق: «أقبل حمزة على نفسه، وقال ما صنعت، اللهم إن كان خيرا، فاجعل تصديقه في قلبى، وإلا فاجعل لى مما وقعت فيه مخرجا. فبات بليلة لم يبت بمثلها من وسوسة الشيطان، حتى أصبح، فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال يا ابن أخى، إنى قد وقعت فى أمر ولا أعرف المخرج منه، وإقامة مثلى على ما لا أدرى ما هو!! أرشد أم هو غىّ شديد، فحدثنى حديثا، فقد اشتهيت يا ابن أخي أن تحدثنى، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكره ووعظه، وخوفه وبشره، فألقى الله تعالى فى قلبه الإيمان بما قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال: أشهد أنك الصادق، فأظهر يا ابن أخى دينك، فو الله ما أحب أن لى ما أظلته السماء وأنى على دينى الأول. فكان حمزة ممن أعز به الدين. وروى البيهقى مثل ذلك «2» . ويظهر من هذا الكلام، وما قبله أن حمزة رضى الله تبارك وتعالى عنه كانت له نزعة دينية كانت على الباطل، ثم كانت على الحق. كان فى جاهليته، إذا جاء من صيده وقنصه لا يغشى ناديا إلا إذا طاف بالبيت، والمتدين فى طبعه إذا رأى وضح الحق سار فيه ولصدق إدراكه عندما أعلن الإسلام فى غضبة

_ (1) سيرة ابن هشام ج 1 س 292. (2) البداية ج 3 ص 33.

اسلام عمر

عنيفة قوية، أراد أن ينعم النظر فيما عرض له من حال؟ أيخرج منها، وما السبيل؟ أم يمضى، فاعترته حيرة، كانت هادية موجهة، إذ هداه الله تعالى إلى الإسلام. اسلام عمر 236- كان الإسلام ينمو ويزيد، وإذا كان قد ابتدأ بالضعفاء، وقل فيه الكبراء فقد أخذ عدد الأقوياء يكبر، وإن كان العدد فى ذاته لا يزال قليلا، فقد دخل أقوياء، يرفعون العبء قليلا عن الضعفاء. دخل أولا حمزة، ولأول مرة فى تاريخ الإسلام يضرب أبو جهل فوق رأسه حتى يشج، ويثور له بعض قبيله، فيتصدى لهم رجل قوى الشكيمة عزيز الجانب، حتى يتعلم أبو جهل الحكمة ساعة من زمان، فيدعوهم إلى أن يتركوا حمزة، ولعله دعاهم إلى أن يقوا أنفسهم شر ضربات حمزة. لم يذكر كتاب السيرة تاريخ إسلام حمزة، وإن ادعى بعضهم أنه كان قريبا من اسلام عمر أى أن إسلام عمر كان بعده بقليل، واسلام عمر كان فى السنة السادسة من البعثة! لأنه كان بعد الهجرة إلى الحبشة. وإن كتاب السيرة كانوا يعنون بذكر الوقائع بروايات صحيحة، وإن كانوا لا يذكرون تاريخها إلا إذا اقترنت بواقعة مشهورة، كما اقترنت واقعة خروج المؤمنين هاربين بدينهم إلى الحبشة بإيمان عمر بن الخطاب. كان عمر فاروق الإسلام شديدا علي المسلمين قبل إسلامه، لا يجد سبيلا لإيذائهم إلا سلكه، ولكنه في طبيعته إدراك صحيح إن ضل يرشده، وفيه طبع رحيم إن قسا، فظهر الألم يؤذيه ذلك كما يؤذي من نزل به. ولعل أقوى حادثة هزته، أنه رأى المؤمنين يهاجرون فرارا بدينهم من إيذائه هو وأشباهه، فلفتته هذه الهجرة عما كان فيه من غى، وما عليه المؤمنون من رشاد. روى ابن إسحاق عن بعض اللائى أخذن الأهبة للهجرة وهى أم عبد الله بن خثعمة أنه راها عمر بن الخطاب، فسألها عن مخرجها، فقال اسفا: إنه للانطلاق يا أم عبد الله. قالت: نعم والله لنخرجن فى أرض الله، اذيتمونا، وقهرتمونا، حتى يجعل الله لنا مخرجا، فقال.. صحبكم الله، قالت: ورأيت والله فيه رقة لم أكن أراها، ثم انصرف وقد أخذنا فيما رأى خروجنا، فجاء عامر ابنها، فقالت له: لو رأيت عمر انفا ورقته، وحزنه علينا، قال: أطمعت فى إسلامه قلت نعم، قال لا يسلم إلا اذا أسلم حمار الخطاب، وما قال ذلك إلا يأسا لما كان يرى من غلظته.

ومن هنا يستفاد أن عمر رضى الله عنه كلما رأى فريقا من قومه يخرج فارا بدينه من ظلمهم يناله ألم، والعدالة فى طبعه، وإن كان التعصب لما عليه اباؤه وأجداده فى جنب منه. ويظهر أن ذلك الألم من خروج بعض قومه مقهورين لم يمنعه من إنزال بعض الأذى لمن يعلم إسلامه من أهل بيته وذوى قرابته، ولقد هزته أخرى ففتحت قلبه للإسلام؟ وخلاصته أن فاطمة بنت الخطاب أخته قد أسلمت هى وزوجها، وأخفيا إسلامهما خشية بطشه، وبطش ذوى قرباهما، وقد أسلم أيضا نعيم بن عبد الله، وكان ثلاثتهم يستخفون، ويتلون القران الكريم فى منزل سعيد بن زيد زوج فاطمة، وكان خباب بن الأرت يجئ إليها ويقرئها القران الكريم فخرج عمر متوشحا سيفه يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورهطا من أصحابه، وهم قريب من أربعين ما بين رجال ونساء، فلقيه بعض قريش، فقال له أين تريد يا عمر؟ فقال له: أريد محمدا هذا الصابيء الذى فرق أمر قريش، وسفه أحلامها، وعاب دينها، وسب الهتها فأقتله، فقال له: والله لقد غرتك نفسك من نفسك يا عمر، أترى بنى عبد مناف تاركيك تمشى على الأرض وقد قتلت محمدا؟ أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم. قال: وأى أهل بيتى، قال ختنك ابن عمك سعيد بن زيد بن عمرو، وأختك فاطمة بنت الخطاب، فقد والله تابعا محمدا على دينه، فعليك بهما. ولا تناقض بين هذين الخبرين، خبر أم عبد الله، لأنه عندما رق للذين يهاجرون لم يكن رقة رغبة للإسلام، ولكن كان ألما لفراق قومه، وسولت له نفسه غير المؤمنة، بأن محمدا صلى الله عليه وسلم سبب ذلك الفراق، وكان يتنازعه حال من الإيمان، ووسوسة من الكفر. ذهب عمر إلى أخته، وكان يستخفى فى بيتها ثلاثة: صاحبها الذى امن وزوجها، وخباب يعلّم الجميع القران الكريم، ومعه صحيفة فيها سورة طه، فلما سمعوا صوت عمر، تغيب خباب فى مخدع لهم، أو فى بعض البيت، وأخذت فاطمة بنت الخطاب الصحيفة، فجعلتها تحت فخذها، وقد سمع عمر حين دنا إلى البيت قراءة خباب عليهما، فلما دخل قال ما هذه الهيمنة التى سمعت؟ قالا له: ما سمعت شيئا، قال بلى والله لقد أخبرت أنكما اتبعتما محمدا على دينه، وبطش بختنه سعيد بن زيد، فقامت إليه أخته فاطمة بنت الخطاب لتكفه عن زوجها، فضربها، فشجها، فلما فعل ذلك قالت له أخته وختنه: نعم قد أسلمنا، وامنا بالله ورسوله، فاصنع ما بدا لك. فلما رأى عمر ما بأخته من الدم ندم على ما صنع، فارعوى وقال لأخته: أعطينى هذه الصحيفة التى سمعتكم تقرأونها انفا أنظر ما هذا الذى جاء به

محمد. وكان عمر كاتبا. فلما قال ذلك قالت له أخته: إنا نخشاك عليها!! قال: لا تخافى، وحلف بالهته ليردنها إذا قرأها. فلما قال ذلك طمعت أخته فى إسلامه، فقالت له يا أخى إنك نجس على شركك، وإنه لا يمسها إلا الطاهر، فقام عمر فاغتسل فأعطته الصحيفة فقرأها، فلما قرأ منها صدرا قال ما أحسن هذا الكلام وأكرمه، فلما سمع ذلك خباب خرج إليه، فقال له: يا عمر، والله إنى لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم، فإنى سمعته أمس، وهو يقول: اللهم أيد الإسلام بأبى الحكم بن هشام، أو بعمر بن الخطاب، فالله الله يا عمر ... فقال عمر عند ذلك: فدلنى يا خباب على محمد صلّى الله عليه وسلّم حتى اتيه فأسلم. فقال له خباب: هو فى بيت عند الصفا فى نفر من أصحابه. فأخذ عمر سيفه فتوشحه، ثم ذهب إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه معه فضرب عليهم الباب، فلما سمعوا صوته قام رجل من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فنظر من خلل الباب، فراه متوشحا سيفه، فرجع إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو فزع، فقال يا رسول الله هذا عمر بن الخطاب متوشحا السيف. فقال حمزة بن عبد المطلب: فائذن له، فإن كان يريد خيرا بذلناه له، وإن كان يريد شرا قتلناه بسيفه، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ائذن له، فأذن له الرجل، ونهض إليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، حتى لقيه فى الحجرة، فأخذ حجزته أو بمجمع ردائه، ثم جبذه جبذه شديدة وقال: ما جاء بك يابن الخطاب، فو الله ما أدرى حتى ينزل الله بك قارعة. فقال عمر: يا رسول الله جئتك لأومن بالله وبرسوله، وبما جاء من عند الله، فكبر رسول الله تكبيرة عرف أهل البيت من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن عمر قد أسلم. وإنك لترى أن عمر بن الخطاب جاء إسلامه من نبع قلب يؤمن بالعدل، ويؤمن بالرحم، وإن كان قد غشاهما غشاء من مألوف الجاهلية وما كان عليه قومه، دفعته عصبيته قبل أن يدرك الإسلام لأن يناويء محمد بن عبد الله، إذ أنه توهم أن ذلك يفرق كلمتهم، ويذهب بمكانتهم عند العرب، وهو فى هذا مخطيء، فتفرق بسبب نور الحق بين مؤمن وكافر خير من إجماع على باطل، وذلك ما خفى على عمر ابتداء، وأشفق على الذين يخرجون من أرضهم من قومه، ثم كان التنبيه القارع عندما رأى الدم يسيل من أخته، فزالت عنه الغشاوة، فكان عمر الشفيق العدل المدرك إذ أزال الله تعالى عنه غشاوة الباطل.

بين عهدين

بين عهدين 237- كان إسلام حمزة، ومن بعده إسلام عمر ابتداء عهد جديد للإسلام. كان المسلمون فى الأول مستضعفين يرامون بالسوء، ولا يدفعون السيئة بمثلها ولا يستطيعون أن يدفعوا عن أنفسهم، ولا يرقب فيهم أعداؤهم ذماما، ولا مراعاة لحسن جوار، أو لمودة، أو لقربى، بل يسومونهم العذاب، ويريدونهم على الهوان من غير أن يتوقعوا دفعا، وذوو المروات من المشركين إن تابوا عن الأذى فلأنهم لا يريدون أن يرتكبوا نذلة فى إيذاء عبد أو ضعيف، أو من لا يملك ردا. ولما أسلم حمزة ابتدأ كبير الأنذال فيهم أبو جهل يحس بالضربات تقمع رأسه، وبالدم يسيل منه، فإن تخفف له نصراء من قومه خشى من المعركة، وأن يكون ابتداؤها هذا وهو يخاف نهايتها، كشأن كل من يكون ناقص المروءة، يستعدى على الضعفاء، ويخاف الأقوياء. فلما أسلم عمر، كانت الكارثة على الشرك، وتكامل كيان العهد الجديد، عهد الاعتزاز بالإسلام. واستعلانه بعد استخفائه. ووقوف المسلمين صفوفا مجتمعين، بعد أن كانوا فرادى متفرقين. التقى عمر عند إسلامه فى بيت الأرقم بن أبى الأرقم فى الصفا، وعدد المسلمين يقارب الأربعين، فقام عمر رضى الله عنه، فقال: يا رسول الله علام نخفى ديننا ونحن على الحق، ويظهرون دينهم، وهم على الباطل. قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إنا قليل وقد رأيت ما لقينا. قال عمر: والذى بعثك بالحق لا يبقى مجلس جلست فيه أنادى بالكفر، إلا أظهرت فيه الإيمان، ثم خرج فطاف بالبيت، ثم مر بقريش، وهى تنتظره، وقد تسامعوا بإسلامه، فقال أبو جهل: يزعم فلان أنك صبوت، فقال جاهرا: أشهد ألاإله إلا الله واحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، فوثب المشركون إليه يريدون أن يصرعوه، وكان على رأسهم عتبة بن ربيعة الذى كان إلبا على المسلمين وكان قد صرع أبا بكر وضربه، حتى أثخنه، فكأنه كان طلبة عمر، فوثب عمر عليه، وصرعه، وبرك عليه كما يبرك البكر الراغى وجعل يضربه، وأدخل اصبعه فى عينيه، فجعل عتبة يصيح، فتنحى الناس، فقام عمر عنه، فاشتفى للمسلمين عامة ولأبى بكر خاصة.

محاولة كفه عنهم بالاستمالة

وكان عمر رضى الله تعالى عنه حفيا بألا يضرب إلا أشراف قريش ليعرفوا حرارة الضربات فصك وجوههم صك الجندل، فما كان فى هذه المعركة التى أثارها يدنو منه شريف إلا أخذه بالضرب الشديد حتى أعجز الناس، ثم أتبع المجالس التى كان يجلس فيها، فيظهر الإيمان «1» ، فيلاقونه ويذيقهم من إسااتهم كؤوسا. عاد إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ومعه المسلمون يدعوهم إلى أن يظهروا مجتمعين، وألا يبقوا متفرقين، فتجمعوا وخرجوا ليصلوا فى الكعبة الشريفة مجتمعين، وساروا على صفين على رأس أحدهما حمزة أسد الله وسيد الشهداء، وعلى رأس الثانى عمر رضى الله تبارك وتعالى عنهم. وتحدوا بجموعهم قريشا أن تمنعهم، ولم يجدوا جوابا لهذا التحدى العملى، لأن أبا جهل داعية الشر تذكر قوس حمزة تقمع رأسه، وتذكر عتبة بن ربيعة صرع عمر، ووضع أصابعه فى عينيه. ظهر الإسلام، فظهر النور، وسارت الركبان، بما اعتز به الإسلام، وانخذل الشرك، وتحول الاضطهاد من الاحاد إلى الجماعات على ما سنبين فى الاضطهاد، الذى نؤجل الكلام فيه، لأنه استمر طول مدة الدعوة فى مكة المكرمة، وانتهى بالهجرة. وأخذ المشركون يسلكون ثلاثة مسالك مع الاضطهاد: أولها: محاولة استمالة النبى عليه الصلاة والسلام ليمنعوه من الجهر بدعوته. وثانيها: مجادلته لإعجازه أو إظهار ضعفه فى زعمهم. وثالثها: الشكوى منه لعمه أبى طالب. محاولة كفه عنهم بالاستمالة 238- يئس الكفار من النبى عليه الصلاة والسلام، اذوا أنصاره فثبتوا، واذوه وتهكموا به فما نالوا، وكلما زادوا إيذاء سرى الإيمان فى القلوب، فبإيذائهم للنبى صلى الله عليه وسلم هدى الله حمزة للإيمان فكان إلبا عليهم، وبسبب إيذاء عمر لختنه ولأخته، ولرؤيته المؤمنين يهاجرون رق قلبه، فامن، وكان إيمانه كارثة كرث الله سبحانه وتعالى بها الشرك وأهله، فكان القوة الفارقة بين استخفاء المسلمين، وإعلان الإسلام، والمجاهرة بالعبادة، وإظهار صوت الحق يرن فى جوف المسجد الحرام.

_ (1) البداية ج 3 ص 31، 79

وإذا كانوا هم يؤذون فالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم يسالم ويدعو بالحكمة والموعظة الحسنة، لا يقطع، ولا يكف عن الدعوة، بل إنه يألم لألمهم، ويواسيهم فى أزماتهم. حتى أنه نزل بأهل مكة المكرمة قحط، فدعا صلى الله تعالى عليه وسلم لهم بإنزال المطر، فنزل، ويظهر أن ذلك كان فى الفترة التى عاشها النبى عليه الصلاة والسلام بين أهل مكة المكرمة بعد وفاة أبى طالب إلى أن هاجر، ولذلك روى أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بعد أن استجابت دعوته ود لو كان أبو طالب حيا رجاء إيمانه، ورجاء أن يعلم أن دينه أى محمد صلى الله عليه وسلم خير لقومه، ويروى أن هذا الاستسقاء كان ومحمد عليه الصلاة والسلام بالمدينة، فقال: لو أدرك أبو طالب هذا الاستسقاء ونصره «1» . ولقد كان من المشركين من يعتريهم ما يفيد قبول ما جاء به محمد عليه الصلاة والسلام أو على الأقل عدم المبادرة بتكذيبه والتريث فى ذلك، حتى ينظر أتعم دعوته، وتستجاب، أم تضعف وترد. قال النضر بن الحارث: «يا معشر قريبش، إنه والله قد نزل بكم أمر ما أتيتم له بحيلة بعد، قد كان محمد فيكم غلاما حدثا- أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثا، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم فى صدغه الشيب وجاءكم بما جاءكم به، قلتم ساحر، والله ما هو بساحر، لقد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم، وقلتم كاهن، والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهنة وتخالجهم وسمعنا سجعهم. وقلتم شاعر: لا والله ما هو بشاعر، لقد رأينا الشعر، وسمعنا أصنافه كلها، هزجه ورجزه، وقلتم مجنون وما هو بمجنون، فما هو بخنقه، ولا وسوسته، ولا تخليطه. يا معشر قريش، فانظروا فى شأنكم، فإنه والله لقد نزل بكم أمر عظيم» «2» .

_ (1) المذكور في رؤية أبي طالب لاستسقاء النبي صلي الله تعالي عليه وسلم أنه راه في حياة عبد المطلب، روي أن رقية بنت أبي أصفي بن هاشم قالت: «تتابعت علي قريش سنو جدب، قد أقحلت الظلف، وأرقت العظم، فبينا أنا راقدة للهم ... إذا أنا بهاتف يصرخ بصوت صحل: يا معشر قريش إن هذا النبي المبعوث منكم، هذا إبان نجومه، فحيهلا بالحيا والخصب، ألا فانظروا منكم رجلا طوالا أبيض أشم العرنين ... ألا فليحضر هو وولده، وليدلف إليه من كل بطن رجل ... وليمسوا من الطيب، وليطوفوا بالبيت سبعا، وفيهم الطيب الطاهر لذاته، فليدع الرجل وليؤمن القوم ... قالت فأصبحت مذعورة قد قف جلدي ووله عقلي واقتصصت رؤياي ... فقالوا هو شيبة الحمد: وعبد المطلب، فتتابعت عنده قريش، وانفض إليه الناس من كل بطن رجل فمسوا واستلموا وطوفوا، ثم ارتقوا أبا قبيس، وطفق القوم يدقون حوله ما إن يدرك سعيهم. مهلة، حتي قروا بذروة الجبل، واستكفوا جنابيه فقام عبد المطلب، فاعتضد ابن ابنه محمدا صلي الله تعالي عليه وسلم فرفعه علي عاتقه وهو يومئذ غلام قد أيفع، ثم قال: «اللهم ساد الخلة، وكاشف الكربة، أنت عالم غير معلم، ومسئول غير مبخل وهذه عبداؤك وإماؤك.. يشكون إليك سنتهم، فاسمعن اللهم وأمطرن عليهم غيثا مغدقا، فما راموا حتي انفجرت السماء بمائها وكظ الوادي بثجيجه» هذا ما جاء في الروض الأنف، والله أعلم بصدق الرواية. (2) سيرة ابن هشام ج 1 ص 289.

لقاء أهل مكة المكرمة به لاستمالته:

لقاء أهل مكة المكرمة به لاستمالته: 239- عن جابر بن عبد الله فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر، فليأت هذا الرجل الذى فرق جماعتنا، وشتت أمرنا، وعاب ديننا، فليكلمه ولينظر ماذا يريد عليه، فقالوا فيما بينهم: ما نعلم أحدا غير عتبة بن ربيعة، فندبوه لذلك، وقالوا له أنت يا أبا الوليد، وكان بينهم سيدا حليما، ويروى أنه هو الذى عرض عليهم أن يذهب للقاء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال لهم: يا معشر قريش: ألا أقوم إلى هذا الرجل، فأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها، ويكف عنا؟ قالوا: بلى يا أبا الوليد. وسواء أكان هو الذى انتدب لهذا أم ندبوه فقد ذهب إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وعرض عليه ما يظنه كافا له عن متابعة الدعوة إلى الحق. قال عتبة: يا ابن أخى، إنك منا حيث قد علمت من السّطة فى العشيرة، والمكان فى النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت الهتهم ودينهم، وكفرت به من مضى من ابائهم، فاسمع منى حتى أعرض عليك أمورا تنظر فيها، لعلك تقبل منها بعضا. فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: قل يا أبا الوليد أسمع. قال ربيعة: يا ابن أخى. إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا، حتى تكون أكثرنا مالا. وإن كنت تريد شرفا سودناك علينا، حتى لا نقطع أمرا دونك. وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا. وإن كان هذا الذى يأتيك رئيا تراه، لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا، حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل، حتى يتداوى منه. فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعد أن فرغ عتبة: «أفرغت يا أبا الوليد» قال: نعم. قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: اسمع مني. قال: أفعل، فتلا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حم. تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ «1» ومضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقرؤها مرتلا تاليا.

_ (1) سورة فصلت: 1- 3.

لما سمع عتبة أنصت لها، وألقى بيديه خلف ظهره معتمدا عليها ليسمع منها، حتى انتهى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى اية السجدة فى السورة، فسجدها، ثم قال: سمعت يا أبا الوليد؟ قال: سمعت. قال الرسول: فأنت وذاك. ثم قام عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض: لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذى ذهب به، فلما جلسوا إليه قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد. قال عتبة: ورائى أنى والله قد سمعت قولا ما سمعت مثله قط، والله، ما هو بالشعر ولا بالكهانة يا معشر قريش أطيعونى، واجعلوها لى، خلوا بين هذا الرجل وما هو فيه واعتزلوه، فو الله ليكونن لقوله الذى سمعت نبأ فإن تصبه العرب، فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب، فملكه ملككم، وعزه عزكم. وكنتم أسعد الناس به. قالوا غير مجيبين نصيحته: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه. قال الناصح، وكان فى ذلك الوقت أمينا فى نصحه: «هذا رأيى، فاصنعوا ما بدالكم» «1» . 240- أعجزهم الإيذاء المستمر عن أن يحولوا محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن الإيمان، بل إن التعذيب الشديد، والإيلام المستمر كان يزيد المؤمنين إيمانا، واستمساكا بما يعتقدون، وترتب على الإيذاء أن امن مثل حمزة وعمر كما ذكرنا، وأخذ المؤمنون يردون الإيذاء بمثله. فعرف أبو جهل كيف يكون شج الرأس من القوى العادل لمثله الفاجر، والمهم عمر رضى الله عنه القوى، كيف يكون الضرب للشرير العصى. أخذوا يجربون من ذلك طريق العلاج باللين، وعرض ما يحسبون أنه يقرب النبى إليهم من غير أن يتقربوا هم من الإيمان، عرضوا عليه مايلين أمثالهم، وما هو منطقهم، وعرضوا عليه الشرف فيهم ليكون السيد المطاع، وعرضوا عليه الملك ليكون ملكهم، وعرضوا عليه الأموال ليكون أكثرهم مالا، فلما رفض كل هذا، ولا يحسبون أن يرفضه إلا من يكون قد إيف عقله، وذلك لمنطقهم المادى الذى لا يحسبون العلو فيه إلا بالمال والسيادة والملك، عرضوا عليه أن يعرضوه على نطس الأطباء ليعالجوه ولكنه بدل أن يجيب بلا أو نعم تلا عليهم القران الكريم ليعلموا أن ما عنده خير مما يقدمون، بل لا يعد ما يقدمونه شيئا مذكورا بجوار ما عنده وهو خير وأبقى.

_ (1) البداية والنهاية لابن كثير ج 3 ص 64.

جدلهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم

ضاقوا ذرعا بمحمد عليه الصلاة والسلام وأتباعه، وزيادتهم انا بعد ان، عالجوه بالاضطهاد فما أجدى، وعالجوه برشوة المال والسيادة فما أجدى، فماذا هم صانعون؟ لم يبق إلا أن يدخلوا معه فى جدل ليبين عجزه أمام الناس، فلا يزيد أتباعه. جدلهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم 241- أعادوا على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عرض ما عرضه عتبة، ولكنهم فى هذه المرة يعرضونه مجتمعين توثيقا لإرادتهم، ورغبة فى الإعذار ثم يجادلونه بعد الرفض. اجتمع الملأ من المعاندين له عليه الصلاة والسلام من بطون مختلفة، فكلما تكامل جمع منهم قال بعضهم لبعض ابعثوا إلى محمد فكلموه، وخاصموه حتى تعذروا فيه. فبعثوا إليه: إن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك. فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعا، وهو يظن أنه قد بدا لهم فى أمره بداء، وكان عليهم حريصا يحب رشدهم، ويعز عليه عنتهم، حتى جلس إليهم. قالوا: يا محمد إنا قد بعثنا إليك لنعذر فيك، وإنا والله ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الاباء، وعبت الدين، وسفهت الأحلام، وشتمت الالهة، وفرقت الجماعة، فما بقى من قبيح إلا وقد جئته فيما بيننا وبينك، فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت إنما تطلب الشرف فينا سودناك علينا، وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذى يأتيك رئيا من الجن، فربما كان ذلك، بذلنا أموالنا فى طلب الطب، حتى نبرئك منه أو نعذر فيك. قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «ما بى ما تقولون، ما جئتكم بما جئت أطلب أموالكم، والشرف فيكم؛ ولا الملك عليكم، ولكن بعثنى الله إليكم رسولا، وأنزل علىّ كتابا، وأمرنى أن أكون لكم بشيرا، ونذيرا، فبلغتكم رسالات ربى، ونصحت لكم، فإن تقبلوا منى ما جئتكم به، فهو حظكم فى الدنيا والاخرة. وإن تردوا علىّ أصبر لأمر الله، حتى يحكم الله بينى وبينكم» . قالوا: يا محمد، فإن كنت غير قابل ما عرضنا عليك، فقد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق منا بلادا، ولا أقل مالا ولا أشد عيشا، فاسأل لنا ربك الذى بعثك بما بعثك به، فليسير عنا هذه الجبال

التى قد ضيقت علينا، وليبسط لنا بلادنا؛ وليفجر فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق، وليبعث لنا من مضى من ابائنا، وليكن فيمن يبعث منهم قصى بن كلاب فإنه كان شيخا صدوقا، فنسألهم عما تقول أحق هو أم باطل، فإن فعلت ما سألناك وصدقوك صدقناك؛ وعرفنا منزلتك عند الله، وأنه بعثك رسولا، كما تقول. مؤدى هذا الكلام أنهم يطلبون ايات أخرى، والله عليم بالقلوب، فقد جاء عيسى لأمثالهم بما هو أشد من ذلك، من إحياء الموتى وإبراء الأكمه، والله سبحانه وتعالى هو الذى يختار أنبياءه وهو أعلم بمن يؤيد رسالته. قال لهم رسول الله رادا عليهم قولهم: ما بهذا بعثت، إنما جئتكم من عند الله بما بعثنى به، فقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم، فإن تقبلوه فهو حظكم فى الدنيا والاخرة، وإن تردوه على، أصبر حتى يحكم الله بينى وبينكم. قالوا: فإن لم تفعل هذا فخذ لنفسك، فسل ربك أن يبعث لنا ملكا يصدقك بما تقول، ويراجعنا عنك، وتسأله فيجعل لنا جنانا وكنوزا وقصورا من ذهب وفضة، ويغنيك عما نراك نبتغى، فإنك تقوم فى الأسواق، وتلتمس المعايش، كما نلتمس، حتى نعرف فضل منزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم. قال لهم الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم: ما أنا بفاعل، وما أنا بالذى يسأل ربه هذا، وما بعثت إليكم بهذا، ولكن الله تعالى بعثنى بشيرا ونذيرا، فإن تقبلوا ما جئتكم فهو حظكم فى الدنيا والاخرة، وإن تردوه على أصبر حتى يحكم الله بيننا. قالوا: فأسقط علينا كسفا من السماء، كما زعمت أن ربك إن شاء فعل، فإنا لا نؤمن بك إلا أن تفعل. قال لهم الرسول الصادق الأمين صلى الله تعالى عليه وسلم: «ذلك إلى ربى إن شاء فعل بكم ذلك» . قالوا: يا محمد ما علم ربك أننا سنجلس معك ونسألك عما سألناك ونطلب منك ما نطلب، فيقدم إليك، ويعلمك ما تراجعنا به، ويخبرك ما هو صانع فى ذلك بنا إذا لم نقبل ما جئتنا به، فقد بلغنا أنه إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له الرحمن، وإنا والله لا نؤمن بالرحمن أبدا، فقد أعذرنا إليك يا محمد، أما والله لا نتركك وما فعلت بنا، حتى نهلكك أو تهلكنا.

وقال قائل منهم: نحن نعبد الملائكة، وهى بنات الله، وقال قائل منهم: «لن نؤمن لك حتى تأتينا بالله والملائكة قبيلا» . تقاولوا طالبين ايات حسية، ومستعجلين العذاب، ثم قال عبد الله بن أبى أمية بن المغيرة ابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب «يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا، فلم تقبله، ثم سألوك أمورا ليعرفوا بها منزلتك من الله فلم تفعل، ثم سألوك أن تعجل ما تخوفهم من العذاب، فو الله لا أومن لك أبدا، حتى تتخذ إلى السماء سلما ثم ترقى منه وأنا أنظر، حتى تأتيها وتأتى معك بنسخة منشورة، ومعك أربعة من الملائكة يشهدون أنك كما تقول: «وأيم الله لو فعلت ذلك لظننت أنى لا أصدقك» «1» . 242- طلبوا ما طلبوا لا ليؤمنوا، ولكن ليحرجوا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وليعلنوا قوة جدالهم، وهم قوم خصمون كما قال الله تعالى، ولعل الذى يفضح حقيقة نياتهم قول الهاشمى ابن عاتكة بنت عبد المطلب: وأيم الله لو فعلت ذلك لظننت أنى لا أصدقك، فكأنه يصرح بأن التكذيب سابق للدليل، وأنه راكز فى النفوس لا يخرج منها، حتى بعد تلك الايات التى طلبوها، فلو استجيبت مازادوا إلا إعناتا، وكانوا كما حكى الله سبحانه وتعالى عنهم: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ. وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ. وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ «2» . ومطالبهم التى قدمت كانت للتعنت لا طلبا للدليل، فإن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم حق واضح فى ذاته، تبعه مؤمنون لما فيه من الحق، وقد صحبه الدليل الذى يثبت أنه من عند الله قرانا غير ذى عوج يهدى الضال، ويرشد السارى فى الظلام، وهو المصباح المزهر، الذى يعجز العرب وغير العرب عن أن يأتوا بمثله: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ، وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً «3» . وخلاصة هذه المطالب أنهم: 1- يطلبون أدلة مادية، طلبوا منه أن يوسع عليهم أرضهم، وأن يبعث أمواتهم. 2- وطلبوا أن يبعث لهم ملكا يشهد لنبوته.

_ (1) راجع ابن جرير فى تفسير سورة الإسراء، وابن كثير كذلك، وراجع سيرة ابن هشام، والبداية والنهاية لابن كثير. (2) سورة الأنعام: 109- 111. (3) سورة الإسراء: 88.

3- وطلبوا منه أن يجعل أرضهم القاحلة جنات، وفيها كنوز، وفيها قصور من ذهب وفضة، واتهموه كذبا بأنه يعلمه رجل من اليمامة. 4- وطلبوا أن يسقط عليهم من السماء كسفا. 5- وطلبوا منه أن يحضر سلما يرقى فيه إلى السماء، وأن ينزل ومعه كتاب فى قرطاس. طلبوا ذلك لا ليؤمنوا ولكن ليحرجوه عليه الصلاة والسلام، ولو كانوا طلاب إيمان ما طلبوا أن ينزل عليهم كسفا من السماء، لأن ذلك يبيدهم، ولا إيمان بعد هذا الإنزال. ولقد كان صادقا عبد الله بن أبى أمية بن المغيرة بن عمته عاتكة بعد أن طلب ما طلب أنه لم يعد بالإيمان إن جاء بما طلب، بل ختم القول بأنه لا يظن أنه سيصدق إن جاء. وإن النبى عليه الصلاة والسلام لم يطلب إلى الله تعالى أن يجيبهم فيما طلبوا، بل رد طلبهم لأنه سبحانه وتعالى يعلم أنهم إن أجيبوا ولم يؤمنوا، فالهلاك كما هلكت عاد وثمود، والنبى صلى الله عليه وسلم يعلم أن شريعته باقية خالدة، وأن لها معجزة خالدة باقية بخلودها، فلا تناسبها معجزة تحدث ثم تنتهى. وقد حدثوا أنهم لما سألوا النبى عليه الصلاة والسلام تلك الأسئلة وطلبوا تلك المطالب أوحى إليه «إن شئت أن تستأنى بهم وإن شئت أن تؤتيهم الذى سألوا، فإن كذبوا هلكوا كما أهلكت من قبلهم» فقال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: «بل أستأنى بهم» . ولقد روى أنهم قالوا للنبى عليه الصلاة والسلام، ادع ربك أن يجعل لنا الصفا ذهبا ونؤمن لك، قال عليه الصلاة والسلام: وتفعلون ذلك، قالوا: نعم، فدعا، فأتى جبريل فقال: «إن ربك يقرأ عليك السلام، ويقول لك إن شئت أصبح الصفا لهم ذهبا، فمن كفر منهم بعد ذلك أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين، وإن شئت فتحت لهم باب الرحمة والتوبة، قال الرؤف الرحيم صلوات الله وسلامه عليه: بل التوبةو الرحمة» . وإن مطالبهم والرد عليها قد سجلها القران الكريم فقد قال الله تعالى وهو أصدق القائلين: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً. أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ، فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً. أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً، أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا. أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ، أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ، وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ، قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا «1» .

_ (1) سورة الإسراء: 9- 93.

وقد أشار سبحانه وتعالى إلى هذه المطالب فى ايات أخرى، وبين أنهم لو جاءتهم لا يؤمنون فقال تعالت كلماته: وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ. فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ. أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ، مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ، وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً، وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ، فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ، وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ. وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ، لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ. وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ. وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا، وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ «1» . طلبوا كل هذا لا ليؤمنوا، فقد سبق القول بالكفر، وإذا سبق الاعتقاد الباطل فى أمر فإن كل الاتجاهات لإثبات هذا البطلان، بالسلب إذا لم يأت لهم الدليل الذى يريدونه، وبالإيجاب بالإنكار وعدم الإقرار، فإن التعنت لا تزيده قوة الدليل إلا إصرارا، وكثرة الأدلة إلا لجاجة فى الإنكار. وإن الله تعالى قد اختار لهم القران دليلا، ليعطيهم فرصة للتفكير، وهو يخاطبهم فى أمر الدعوة، وقد تتولد التوبة والغفران، أما الأدلة الحسية، فإنها تجيء دفعة، فإما العقاب وإما الإيمان، وفى الماضى عبرة فما جاءت اية من نوع ما يطلبون إلا كانت النتيجة هلاكا، ولم تكن إذعانا، لأنهم ما كانوا ليذعنوا بالحق، بل قد سبق التكذيب، وقد قال تعالى يشير إلى ذلك: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ، وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً، فَظَلَمُوا بِها، وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً «2» . 243- ما كانت هذه الأسئلة، إلا لإظهار النبى عليه الصلاة والسلام بمظهر العاجز، وإذا ظهر عجزه فى زعمهم اتخذوا من ذلك ذريعة لمنع الناس عن اتباعه، وللوقوف ضد ينبوع الإيمان الذى يسرى، ولا ينقطع، ولكن هل تحقق ما أرادوا، لقد ثبت بذلك صدقه، وأنه لا يريد إلا الحق، والأتباع يزيدون ولا ينقصون ولا يرتد أحد، بل يزدادون إيمانا. وإنهم يحيلون موضع الجدل ايات، والقضية توحيد أو تعدد. فهل يجادلون فى الله، وهو شديد المحال.

_ (1) سورة الأنعام: 4- 9. (2) سورة الإسراء: 59.

الاستعانة باهل الكتاب

الاستعانة باهل الكتاب 244- سبق المشركون إلى الإنكار، فكذبوا بالحق لما جاءهم وسدوا مداخل الإيمان إلى قلوبهم، والناس رجلان: رجل يدرك الحق بعقله وقلبه فيدركه بمجرد سماعه، وهذا يطلب الدليل ليطمئن قلبه، وليزداد إيمانا، فالدليل لا ينشيء الإيمان فى قلبه ولكنه يزيده تثبيتا. هؤلاء هم الذين قال الله تعالى فيهم: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً «1» . واخر يسارع إلى الكفر، ويسابق بالإنكار، فيكون قلبه أغلف قد سدت مداخل الإيمان إليه، وهم الذين قال الله تعالى فيهم: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ، وَعَلى سَمْعِهِمْ، وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ «2» ، وأولئك لا يطلبون الدليل ليسيروا فى نوره، بل يطلبونه ليعجزوا من يخاصمهم، وينحرف بهم القول، وانظر ما قاله تعالى فى شأن عتاة المشركين الذين كانوا يقاومون النبى عليه الصلاة والسلام،، فهو يقول تعالت كلماته: وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ. وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ «3» . أحس المشركون بعد المطالب التى قدموها أن أحدا لم يفقد الثقة بمحمد صلى الله عليه وسلم، بل كانت دليلا على حمقهم، وانهوائهم فى هاوية من التفكير ليس معها رشاد، إذ كيف الدليل الذى لو نفذ لماتوا قبل أن يستجيبوا، كإنزال مطر من حجارة أو عذاب أليم. عجزوا عن الاستدلال الذى كشف جهالتهم، فعمدوا إلى الاستدلال الإضافى بالاستعانة بأهل الكتاب عساهم أن يعينوهم، على وقف التيار العذب الذى يدخل به الناس فى الإيمان. 245- روى عن ابن عباس رضى الله عنهما أن قريشا بعثت النضر بن الحارث وعقبة بن أبى معيط إلى أحبار يهود بالمدينة فقالوا: سلوهم عن محمد صلى الله عليه وسلم، بعد أن تصفوا لهم صفته، وأخبراهم بقوله: إنهم أهل الكتاب الأول وعندهم ما ليس عندنا من علم الأنبياء. خرجا حتى قدما المدينة، فسألا أحبار يهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووصفا لهم أمره، وبعض قوله، وقالا: إنكم أهل التوراة، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا. فقالت لهم أحبار يهود: سلوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بهن فهو نبى مرسل، وإن لم يفعل فهو رجل متقول، فروا فيه رأيكم:

_ (1) سورة التوبة: 154. (2) سورة البقرة: 7. (3) سورة الأنفال: 32، 33.

(أ) سلوه عن فتية ذهبوا فى الدهر الأول ما كان أمرهم، فإنه قد كان لهم حديث عجيب. (ب) وسلوه عن رجل طواف: طاف مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه. (ج) وسلوه عن الروح ماهى. فإن أخبركم بذلك فاتبعوه، وإن لم يخبركم، فإنه رجل متقول، فاصنعوا فى أمره ما بدا لكم. فأقبل النضر وعقبة حتى قدما على قريش فقالا: يا معشر قريش قد جئناكم بما يفصل ما بينكم وبين محمد: قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور، فأخبراهم بها، فجاؤا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فسألوه عما أمر أحبار يهود. ويظهر أنهم ظنوا أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سيردهم بتكرار دعوة الحق لهم كما فعل أول الأمر. ولكن خاب ظنهم. فقد أمهلهم، ولم يردهم لأن ذلك مما يمكن أن تشمل معجزته الكبرى، وهى القران الكريم،. ولذا وعدهم بالإجابة إن أجلوه، لأنه يتكلم من عند الله، فلا علم له إلا من عند الله العلى القدير. فقال لهم: أخبركم غدا بما سألتم عنه، ولم يستثن أى لم يعلق الإجابة على مشيئته الله. انصرفوا عنه ومكث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خمس عشرة ليلة، لا يحدث له فى ذلك وحى، ولا يأتيه جبريل، حتى أرجف أهل مكة المكرمة وقالوا: وعدنا محمد غدا، واليوم خمسة عشر قد أصبحنا فيها لا يخبرنا فيها بشيء مما سألناه، وحتى أحزن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مكث الوحى عنه، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة المكرمة ثم جاء جبريل. لماذا تأخر الوحى هذه المدة، ونجيب عن ذلك بجوابين: أولهما: أنه لم يستثن عندما قرر أنه سيجيب غدا، فلم يقل إن شاء الله تعالى: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ «1» . وثانيهما: أن مجيء الإجابة بعد طول انتظارها، وإرجافهم نحوها، وإشاعتهم عجز محمد عليه الصلاة والسلام عن الإجابة، تكون للاجابة فائدة أنها تكون أوقع، إذ تكون فى وقت الحاجة إليها، فيكون فضل تمكين فى النفس، ويكون التحدى أشد تثبيتا فى النفس وأقوى لتكذيبهم ورد كيدهم فى نحرهم، إذ يكونون قد تقاولوا فى ذلك، فيكون ردهم قد علمه كل من أشاعوا بين يديه عجز محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، فتكون دعوة التصديق للنبى عليه الصلاة والسلام.

_ (1) سورة الكهف: 22، 23.

وفوق ما تقدم فى الأمرين أن التأخير يدل على أن محمدا عليه الصلاة والسلام لا يأتى بهذا الكتاب من عنده، وإنما يأتيه عن الله تعالى علام الغيوب الذى يعلم ما خلق وهو السميع البصير. 246- أجيبوا عن الأسئلة الثلاثة- أجيبوا عن السؤال الأول بأن أولئك الفتية هم أهل الكهف الذين ذكروا فى السورة التى سميت بأسمائهم- ولننقل جزا من هذه السورة، فقد قال تعالت كلماته: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً. إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً. فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً. ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً. نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً. وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً. هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ، فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً. وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ، وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ، وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً. وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ، وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ، ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً ... «1» إلى اخر القصة التى تختم بقوله تعالى: وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ، لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ، وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً. هذه إجابة السؤال الأول، وهو شطر من سورة الكهف، وتلاوته تسمعهم القران الكريم، وإسماعهم القران الكريم فى ذاته دعوة إلى الحق، وإلى صراط مستقيم، وبتلاوته يدركون معنى الإعجاز. وأما الإجابة عن السؤال الثانى، وهو الرجل الطواف، فقد جاءت فى اخر سورة الكهف، إذ يقول تعالت كلماته وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ، قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً. إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ، وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً. فَأَتْبَعَ سَبَباً. حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ، وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ، وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً، قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ، وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً. قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً. وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً، فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى، وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً.

_ (1) سورة الكهف: 9- 11.

إسماعهم القران الكريم

ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً. حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً. كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً. ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً. حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا إلى اخر القصة التى تختتم بقوله تعالى وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ، وَنُفِخَ فِي الصُّورِ، فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً «1» . وكانت الإجابة عن السؤال الثالث فى سورة الإسراء بقوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي، وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا «2» جاءت الردود ايات تتلى ويسمعها كل الذين أرجفوا بعجز محمد صلى الله عليه وسلم فى تحديهم، فقرأوها، أو سمعوها، فكانت تتلى فيهم فى ضمن ما يتلوه النبى عليه الصلاة والسلام عليهم، ولا شك أن لذلك أثرا قويا فيهم. وفيمن علم أمر المحاجة بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم، وفى مقدمة ما سرى فيهم من روح القران الكريم ودلائل إعجازه، فهل آمنوا؟ من المؤكد زادوا إيمانا بعد ذلك. إسماعهم القران الكريم 247- عندما ذهب عتبة بن ربيعة يتودد للنبي صلي الله عليه وسلم باسم قريش، وعرض عليه السيادة فيهم، أو الملك، أو المال الوفير، أو أن يحضروا له طبيبا يعالجه من الرئي إن كان عنده رئي، فقرأ عليه النبي عليه الصلاة والسلام بعد مجاوبة ترد ما يعرضون قوله تعالي: حم. تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إلى اخر الايات، فأتي أصحابه، فقال لهم: «يا قوم أطيعونى في هذا الأمر اليوم، واعصوني فيما بعد، فو الله لقد سمعت من هذا الرجل كلاما، ما سمعت أذناي كلاما مثله وما دريت ما أرد عليه» . كان المشركون حريصين علي أن يستمعوا للقران الكريم بعد أن عرفوا تأثيره، لا ليؤمنوا، ولكن ليعرفوه، وليعدوا العدة، ولأن بعضهم مع عناده، وجحوده وإصراره كان يخاف تهديده وإنذاره، بل كان يخاف مجرد تهديد من النبى صلى الله تعالي عليه وسلم. يروى أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قال لأبى جهل «يا أبا الحكم فو الله لتضحكن قليلا ولتبكين كثيرا» فأخذ التهديد قلبه المتحجر وألانه لحظة من الزمان، فقال متلطفا مع النبى صلى الله عليه وسلم: «بئسما تعدنى يابن أخى من نبوتك» .

_ (1) سورة الكهف: 83- 99. (2) سورة الإسراء: 85.

ونراه أحسن الخطاب بذكر رابطة وثيقة من القرب فى القبيلة، وذلك ما لم يؤلف من قبل. كان كبراء قريش يجذبهم القران الكريم لاستماعه، وإن لم يؤمنوا، لقد سمعه الوليد بن المغيرة، فقال لقريش فى وصفه «إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه ليعلو، ولا يعلى عليه، ما يقول هذا بشر» ولقد نفى أن يكون شعرا، ودفعته لجاجته فى الإنكار إلى أن يقول إنه سحر، وإن لم يرض بذلك الوصف القران الكريم ابتداء. وإذا كان المؤمنون قد جذبهم القران الكريم ومحبة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وإخلاصهم، وإشراق قلوبهم بالإيمان، فالمشركون لعلمهم ببليغ القول، وشغفهم به، قد شغفهم القران الكريم، ولكن حالت بينهم وبين الإيمان ظلمات اعترت قلوبهم، خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ «1» . ولقد شغفوا بسماع القران الكريم، لا فرق بين صغير وكبير، والصغير يؤمن والمتعنت لا يزيده السماع إلا كفرا وإعناتا، فإن قوة الدليل تملأ قلب المخلص إيمانا، وقلب الحقود الحسود كفرانا، ولجاجة، وكلما لج فى عناده زاد بغضا لمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوته، والمستجيبين لها. 248- ولقد روى ابن إسحاق عن ابن شهاب الزهرى أنه حدث أن أبا سفيان بن حرب وأبا جهل عمرو بن هشام والأخنس بن شريق بن وهب الثقفى حليف بنى زهرة خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو يصلى من الليل فى بيته، فأخذ كل رجل منهم مجلسا يستمع فيه كل لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق، فتلاوموا، وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا فلوراكم بعض سفهائكم لأوقعتم فى نفسه شيئا. ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه فباتوا يستمعون له. حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة ثم انصرفوا، حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى اذا كان الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض لا نبرح حتى نتعاهد ألا نعود. وقد تعاهدوا على ذلك، وقد قال الله فيهم: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ «2» . وكانوا بعد سماع القران الكريم يتذاكرون فيما بينهم ما سمعوا، فقد سأل الأخنس بن شريق الثقفى أبا سفيان عن رأيه فيما سمع، فقال: «أخبرنى أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد؟

_ (1) سورة البقرة: 7. (2) سورة فصلت: 26.

فقال: يا أبا ثعلبة، والله لقد سمعت أشياء أعرفها، وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياء ما عرفت معناها، ولا ما يراد بها. وقال الأخنس: وأنا كذلك، وذهب الأخنس من عند أبى سفيان، وأتى أبا جهل فقال: يا أبا الحكم، ما رأيك فيما سمعت من محمد، فقال: ماذا سمعت، تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشريف، أطعموا، فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتنى تحاذينا على الركب وكنا كفرسى رهان قالوا منا نبى يأتيه الوحى من السماء فمتى ندرك مثل هذا؟ والله لا نؤمن أبدا، ولا نصدقه» وقد نقلنا ذلك الجزء من قول أبى جهل. 249- والمقصود من ذلك الخبر أنهم كانوا ينجذبون نحو سماع القران الكريم، كما يتجه إلى السماع والتلاوة المؤمنون، بيد أن الفرق بينهما، كالفرق بين من يستمع طالبا الحق مذعنا له، ومن يطلب غير الحق، ولكن يجذبه إليه حلاوته وطلاوته. ولذلك ما كانوا يؤمنون، وكأن الله تعالى مقلب القلوب جذبهم إليه ليعرفوا البينات، والأدلة القائمة ليهتدوا، فإن كفروا من بعد ذلك فعن بينة وسماع، ومعرفة بالدليل، ثم الإعراض. وقد كان الإعراض شأن من كتب عليهم الضلال، ولا معذرة لهم لأنهم اشتروا الضلالة، ورغبوا عن الهداية، ومع أنهم كانوا يتهافتون على سماعه فى جنح الليل البهيم، وكلما تواعدوا ألا يفعلوا نكثوا فى عهودهم كان النبى عليه الصلاة والسلام إذا تلا عليهم القران الكريم جهارا نهارا استهزؤا، ولم ينصتوا خشية أن يكثر أتباع النبى عليه الصلاة والسلام، وكانت دعوته قذى فى عيونهم، وغصة فى حلوقهم. قال ابن إسحاق: كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا تلا عليهم القران الكريم ودعاهم إليه، قالوا يهزؤن: قلوبنا فى أكنة مما تدعونا إليه، وفى اذاننا وقر، ومن بيننا وبينك حجاب، فاعمل إننا عاملون. فحكى الله تعالى عنهم قولهم: وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً. وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ، وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً، وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً. نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ، وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً. انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا. وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً. قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً. أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ، فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ «1» .

_ (1) سورة الإسراء: 45- 51.

الايذاء والفتنة

وهذه الايات الكريمة مع ما ذكر من حرص عتاة الكفار على سماع القران الكريم تدل على ثلاثة أمور: أولها: أن القران الكريم كان يجذبهم إلى الاستماع إليه، لما فيه من بلاغة تجذب أهل البيان لاستماعه وتعرف منزلته، وبهذا يدركون الفرق بين كلامهم وكلامه، ويذكرون الفرق بين البيان البشرى، وكلام رب العالمين حجة الله تعالى البالغة إلى يوم الدين، وإذا كانت الايات الحسية تبهرهم وتقرع أسماعهم، فيراها أكثرهم بينة، فكذلك تلك الاية المعنوية تجذب قلوبهم وتسترعى أسماعهم، فيعلم بها الذين لم يدخل الإيمان قلوبهم، وبذلك تقوم الحجة، وتقوم البينة، ولا حجة لهم فى الجهل، ولا فى الاعتذار. ثانيها: أنهم مع عدم المطالبة بأن يأتوا بمثله قد أحسوا بالعجز عن أن يأتوا بمثله، كما رأوا فيه من بيان لا يصلون إليه، وروعة بلاغة لم يستمعوا إليها، حتى يقول قائلهم، وقد استمر على كفره وضلاله: «إنه يعلو ولا يعلى عليه، ما يقول هذا بشر» فهم أذعنوا لبلاغته، ولم يذعنوا لدعوته، فاستحبوا الكفر على الإيمان، مع قيام الدلائل. ثالثها: إن إنكارهم سبق الرغبة فى طلب الحقيقة، ومن كان كذلك لا يهديه دليل، ولا تقنعه حجة، لأنه حينئذ لا يطلب حقا، فلا يحاول أن يتعرف الطريق الذى يتأدى به إلى الإيمان، لأن من سلك طريقا معوجا غير موصل إلى المطلوب للحق، لا يصل إليه، وكلما أمعن فيه بعد عن الهداية كلما أوغل ازداد نكرا، ومهما يناده رائد الحق لا يستمع إليه، لأنه بعد عنه وإن يسمع لا يكن جواب من قلبه. ومن سلك الطريق المستقيم وصل إلى الحق، لأن الأمارات والظواهر هادية قائمة، والطريق المستقيم هو الإخلاص فى طلب الحق غير مربد قلبه بهوى أو شهوة، أو أثرة ما حقة للخير مغلقة على النفس أبوابه. الايذاء والفتنة 250- منذ جاءت الدعوة المحمدية، وقد حاول أهل العصبية الجاهلية الذين ينفسون على البيت الهاشمى مكانته، والذين من دأبهم أن يحسدوا الناس على ما اتاهم الله، والذين ألفوا رجس الجاهلية من عبادات، وتحريم الطيبات من الرزق، وقد حاول كل أولئك مجتمعين ومنفردين الوقوف فى وجهها، وهى تنمو وتزيد، تسعى قدما، ولا تتأخر. وإذا كان السير بطيئا، فهو متواصل من غير وناء ولا قصور، وكلما انبلج نوره واتسعت دائرته، ظنوا أنها دعوة قابلة للإنطفاء، فحاولوا إطفاءها بالحيلة والعرض الذى يشبه

ايذاء الضعفاء:

الرشوة، فما أجدى ذلك فتيلا، وحاولوا الإعجاز بالجدل فارتدوا على أدبارهم خاسئين وقامت الحجة عليهم وحاولوا أن يهوشوا على القران الكريم وهو يتلي، وتعاهدوا أن يلغوا فى القران الكريم والنبى صلى الله عليه وسلم يتلو. حاولوا كل هذا، ولم يجد شيء منه، والإسلام سائر فى طريقه، وإن كانت العقبات، فهى لا تعوق السير، وإن أبطأته، ولم يجدوا سبيلا الا إلى أمرين: أحدهما الإيذاء المستمر لمن لا حول له ولا قوة، ولمن اثر السلام والعافية، وهذب قلبه الإيمان فاعتقد أن الإيمان يوجب عليه الصبر على البلاء، وألا يقاوم السيئة بمثلها ولو قدر عليها، وعلى رأس هذا الفريق صاحب الرسالة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، ومعه صديقه أبو بكر، ومع هؤلاء العبيد والفقراء الذين لا يملكون سطوة ولا عشيرة لهم. ثانيهما: الاستعانة بمن يحسبون أن له سلطانا أدبيا على محمد عليه الصلاة والسلام وهو أبو طالب، لأنه عمه الذى كفله صغيرا وهو رأس بنى هاشم وهو الذى يحميه كبيرا. فلما لم يجدوا واحدا من الأمرين زادوا فى الإيذاء وجعلوه جماعيا، ولم يجعلوه أحاديا فقط، ووجدوا بنى هاشم مؤمنهم وكافرهم مع محمد عليه الصلاة والسلام يحميه بأنفة العشيرة، إلا من كتب الله تعالى عليه أن يكون لهبا فى جهنم وهو أبو لهب، فقد كفر بالله، وكفر بالقرابة، وكفر بالحمية، حمية العشيرة والنصرة، وأسلم ابن أخيه، فضلّ ضلالا بعيدا. ايذاء الضعفاء: 251- قال ابن اسحاق: أنهم عدوا على من أسلم، واتبع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من أصحابه فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين، فجعلوا يحسبونهم، ويعذبونهم بالضرب، وبرمضاء مكة المكرمة إذا اشتد الحر، ممن استضعفوا منهم يفتنونهم عن دينهم، فمنهم من يفتن من شدة البلاء الذى يصيبه، ومنهم من يثبت ويعصمه الله تعالى منهم. وقد كان المؤمنون الصادقون يعينون العبيد من المؤمنين الذين سارعوا إلى الإيمان فى أول الدعوة، ويعينون الفقراء ليصابروا الذين يؤذونهم، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد جعل كل ما كان يملكه من مال هو وزوجه خديجة لهؤلاء الضعفاء، وابتدأ محمد عليه الصلاة والسلام يخرج من المال والنشب، لكيلا يحاجزه عن الدعوة حاجز، وليكون ما عنده عونا لأهل الإيمان المستضعفين منهم. إذن لقى العبيد أشد العنت عندما اعتنقوا دين الحرية.

بلال رضى الله عنه واخوانه:

بلال رضى الله عنه واخوانه: 252- كان من أول الناس إسلاما بلال بن رباح، كان رقيقا عند أمية بن خلف، كان يخرجه عند الظهيرة فى الحر الشديد فيطرحه على ظهره فى بطحاء مكة المكرمة. ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره؛ ثم يقول له: لا تزال على ذلك حتى تموت أو تكفر بمحمد، وتعبد اللات والعزى، فيحتمل البلاء على أن يكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأن يعود إلى الشرك فيقول ملهوفا: أحد- أحد-؛ وتأويلها الله أحد. يلفظها فى عجلة لشدة البلاء وللمسارعة بإثبات الصبر، وعدم الاستجابة لما يطلبونه، ولو لاقى أشق البلاء. ولكن ذا المروءة المؤمن مر عليه وهو فى هذا العذاب، فكان له غوثا- وهو أبو بكر الصديق، عتيق النار ومعتق أهل الإيمان. فقال لأمية: ألا تتقى الله تعالى فى هذا المسكين، حتى متى؟. قال أمية: أنت الذى أفسدته فأنقذه مما ترى. قال الرجل الكريم أبو بكر: أفعل، عندى غلام أسود أجلد منه وأقوى على دينك أعطيكه به. قال أمية: قد قبلت. وحسب أن صفقته رابحة، لأنه أخذ عبدا قويا هو أملك لعنانه. وأخذ أبو بكر بلالا فرحا بما أعطاه الله تعالى وأعتقه، وكان مؤذن الإسلام من بعد. وقد أعتق أبو بكر مع بلال ستة اخرين. فكانت العدة سبعة. وهؤلاء الذين من الله تعالى عليهم بالحرية فداء لهم من العذاب على يد أبى بكر صديق هذه الأمة. عامر بن فهيرة الذى كان فى الجهاد فى غزوة بدر وغزوة أحد، وأم عبيس، وزنيرة النهدية وبنتها؛ وكانتا لامرأة من بنى عبد الدار فمر بهما وقد بعثتهما سيدتهما بطحين لها وهى تقول: والله لا أعتقكما أبدا. فقال أبو بكر رضى الله عنه: حلى (أى تحللى من يمينك) . فقالت له: حل أنت، أفسدتهما، فأعتقهما. قال: فبكم هما؟ قالت بكذا وكذا. قال أبو بكر قد أخذتهما، وهما حرتان، أرجعا إليها طحينها. قالتا رضى الله عنهما: أو نفرغ منه يا أبا بكر، ثم نرده إليها؟ قال الصديق: وذلك لكما إن شئتما.

ال ياسر رضى الله عنهم وغيرهم:

ومر بجارية وكان عمر فى أيام شركه معذبها لتترك الإسلام، فيضربها حتى يمل. فيتركها ملالة لا شفقة. فابتاعها أبو بكر وأعتقها «1» . ويروى أنه نزلت فيه هذه الايات: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى. وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى. وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى. وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى. وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى. إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى. وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى. فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى. لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى. الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى. وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى. الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى. وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى. إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى. وَلَسَوْفَ يَرْضى «1» . ال ياسر رضى الله عنهم وغيرهم: 253- هو بيت أسلم كله، وامن بالله سبحانه وتعالى، وفيه ضعف من المال والجاه وناله ضعف الرق. فرأس الأسرة ياسر، وهو أبو عمار، عذب، وأمه سمية، عذبت، وذهب الفجور بأبى جهل إلى أن يضربها برمح فى بطنها فماتت. فكانت أول شهيد فى الإسلام مات فداء لدينه. وحمل عمار أشد العذاب، وقبله طيبا راضيا، ولقد مر به النبى عليه الصلاة والسلام وهو يعذب، فقال: صبرا أبا اليقظان، ثم قال: اللهم لا تعذب أحدا من ال عمار بن ياسر. وكان ال مخزوم يعذبونهم اذا حميت الظهيرة، يعذبونهم برمضاء مكة المكرمة، وقد مر النبى عليه الصلاة والسلام بهم، وهم يعذبون، فقال عليه الصلاة والسلام: صبرا ال ياسر، فإن موعدكم الجنة. ولقد كانوا أحيانا ينالون منهم حتى يفتنوهم عند دينهم، فينطقون بكلمة الكفر تحت ضغط العذاب، ولقد شددوا العذاب على عمار، وما تركوه حتى نال من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وذكر ذلك لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم؛ فبين له عليه الصلاة والسلام ألامؤاخذة على من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان. ولقد ذكر سعيد بن جبير أنه سأل عبد الله بن عباس: أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما يعذرون به فى ترك دينهم، قال: نعم، إنهم كانوا يضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه حتى ما يقدر أن يستوى جالسا من شدة الضرب الذى نزل به حتى يعطيهم ما سألوه

_ (1) أخبار عتق هؤلاء بعمل الصديق أخذناه من سيرة ابن هشام ج 1 ص 317، 318، 319

التهديد بالتشنيع:

من الفتنة. وحتى يقولوا له اللات والعزى إلهان من دون الله. فيقول: نعم افتداء. منهم بما يبلغون من جهداهم. ويقول ابن كثير: «وفى مثل هذا أنزل الله تعالى: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ، إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ، وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً، فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ. أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ. لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ «1» فهؤلاء كانوا معذورين بما حصل لهم من الإهانة والعذاب البليغ، أجارنا الله تعالى من ذلك بحوله وقوته» «2» . التهديد بالتشنيع: 254- تفننوا فى الإيذاء، فمن لم يكن له من يحميه من أهل وعشيرة يؤذونه بالتعذيب، والضرب الشديد، ولقد بلغت النذلة بأبى جهل اللعين أن يضرب امرأة بالرمح فى موضع عفتها، حتى ماتت، من غير أى تحرج من أدب إنسانى، أو عروبة نبيلة، هذا شأن من لم تكن له عشيرة تذود عنه، أو تمنعه. ومن كان له عشيرة أخذوه بالتشنيع عليه، وكان يتولى ذلك أبو جهل سفيههم. وشيخ أراذلهم، وقد حكى ابن إسحاق فى سيرته ذلك، فقال: «كان أبو جهل الفاسق الذى يغرى بهم فى رجال قريش إذا سمع بالرجل قد أسلم له شرف ومنعة أنبه وأخزاه، وقال له: تركت دين أبيك، وهو خير منك، لنسفهن حلمك، ولنفيلن رأيك، ولنضعن شرفك، وإن كان تاجرا قال: والله لنكسدن تجارتك، ولنهلكن مالك، وإن كان ضعيفا ضربه وأغرى به» «3» . ولقد كان الكافرون من كبرائهم إن أسلم واحد منهم، لم يمنعوا أمثال أبى جهل من لومهم. وإن كانوا يمنعونه وأشباهه من قتلهم، حتى لا تأخذهم معرة عصبية جاهلية. لقد أسلم رجال، فأراد بنو مخزوم قبيل أبى جهل، أن يلوموهم على الطريقة التى أشرنا إليها من تسفيه أحلامهم ولكنهم خشوا شر قومهم فاستأذنوهم وأذنوا، قالوا إنا أردنا أن نعاتب هؤلاء الفتية على هذا الدين الذى أحدثوا، فإنا نأمن بذلك غيرهم.

_ (1) سورة النحل: 106- 109. (2) سيرة ابن هشام ج 1 ص 321. (3) سيرة ابن هشام ج 1 ص 321.

مصابرة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم:

قالوا ذلك لهشام بن الوليد حين أسلم أخوه فى النفر الذين أشرنا إليهم، فقال لهم: هذا لكم فعليكم به فعاتبوه، وإياكم ونفسه، احذروا على نفسه، فأقسم بالله لئن قتلتموه لأقتلن به أشرفكم رجلا، فقالوا فى أنفسهم اللهم العنه، فو الله لو أصيب فى أيدينا لقتل أشرفنا رجلا، فتركوه، ونزعوا عنه «1» . ومن كان له دين لا يعطونه، ويمطلونه إذا أسلم، بل لا يؤدون الدين. ومن هؤلاء خباب بن الأرت، كانوا يعذبونه، وينزلون به الأذي لأنه لم يكن ذا عشيرة تحميه، ومع ذلك كانوا يحاربونه في صناعته، فلا يعطونه أجر ما صنع. روى البخارى عن خباب بن الأرت قال «كنت رجلا قينا «2» . فعملت للعاص بن وائل سيفا فجئت أتقاضاه، فقال لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد، فقلت لا والله لا أكفر بمحمد، حتى تموت ثم تبعث، قال فإنى إذا مت ثم بعثت جئتنى ولى ثم مال وولد. فأعطيك، فأنزل الله تعالى: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا، وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً. أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً. كَلَّا سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا. وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً «3» . مصابرة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: 255- كان النبى عليه الصلاة والسلام يلقى فى قلوبهم ببيان أن الإيمان يوجب تحمل المشاق، وأن ثواب الاخرة ثمنه تحمل ما يقتضيه الحق فى الدنيا، وببيان أن الله تعالى ناصر عباده المؤمنين بعد أن يبلو إيمانهم ويظهر صبرهم. روى البخارى عن خباب بن الأرت أنه قال: «أتيت النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو متوسد ببردة وهو فى ظل الكعبة الشريفة، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلت: ألا تدعو الله؛ فقعد؛ وهو محمر وجهه. فقال: قد كان من قبلكم ليمشط بأمشاط الحديد مادون عظامه من لحم وعصب، ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه، فيشق باثنتين ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمن الله هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، ما يخاف إلا الله عز وجل ... ولكنكم تستعجلون» . شكا المؤمنون إلى النبى عليه الصلاة والسلام من حر الرمضاء، واستنصروا فطالبهم النبى صلى الله عليه وسلم بالصبر، فلا إيمان من غير صبر، وكأنه ينبئهم بما أنبأ القران الكريم من بعد، وهو أن الجنة جزاء الصبر، وأنه لابد من الابتلاء:

_ (1) سورة النحل: 106- 109. (2) القين الحداد. (3) سورة مريم: 77- 80.

الاذى ينزل بشخص النبى عليه الصلاة والسلام:

أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا، حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ، أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ «1» . هذا ولأن النبى صلى الله عليه وسلم لو دعا عليهم لا جتثهم الله تعالى من فوق الأرض، وما وجد للإسلام أحد يحمل دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام من بعدهم، ولذلك كانت إجابة النبى عليه الصلاة والسلام لما أخبره بأن الله يطبق عليهم الأخشبين (جبلى مكة) قال خاتم النبيين عليه الصلاة والسلام: «إنى لأرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله تعالى» وقد حقق الله تعالى رجاءه، فكان منهم من يعبد الله تعالي، بل كان منهم من حمل السيف مجاهدا فى سبيل الله، وكان من أصلابهم من حملوا النور، إلى مشارق الأرض ومغاربها. الاذى ينزل بشخص النبى عليه الصلاة والسلام: 256- لقد كان لأذى الضعفاء أنين، وشكوى، وسمع النبى عليه الصلاة والسلام أنينهم، فكان له ألما ممضا، وشكوا إليه فأشكاهم بالصبر وبشرهم بالجنة، وما كان ليكون نبى الرحمة إذا لم يذق من الكأس الدهاق من الالام التى يتجرعونها، وما كان ليدعو إلى المساواة فى السراء والضراء، إذا لم يشاركهم فيهما. كان بنو هاشم يمنعونه من أن يقتل، ولكنهم ما كانوا ليمنعوه من أن يسفه ويستهزأ به ويؤذى بغير القتل، بل كان يتجرأ على ذلك سفهاؤهم من أمثال أبى جهل، بل من أمثال عمه أبى لهب الذى سلط ابنه اللعين ابن اللعين من أن يتفل فى وجه النبى عليه الصلاة والسلام فى حضرة كبير البطحاء أبى طالب الكريم ابن الكريم. وإنه يروى البخارى بسنده عن عروة بن الزبير عن عمرو بن العاص، قال: بينما النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يصلى فى حجر الكعبة الشريفة إذ أقبل عقبة بن أبى معيط فوضع ثوبه على عنقه فخنقه خنقا شديدا فأقبل أبو بكر رضى الله عنه، حتى أخذ بمنكبيه ودفعه عن الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، وتلا قوله: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ، وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ، وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ، وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ، إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ «2» .

_ (1) سورة البقرة: 214. (2) سورة غافر: 28.

مهابة محمد عليه الصلاة والسلام:

بل إن أبا جهل لعنه الله ليرمى فرث الجزور عليه، وهو يصلى صلوات الله تعالى وسلامه عليه، والنبى ساجد فتجيء فاطمة الزهراء وهى صغيرة، فتلقيه عن ظهر أبيها وهى تلعنهم. وإن الفجر ليصل بأبى جهل اللعين إلى أن يهم بقتل النبى عليه الصلاة والسلام غير عابيء بأن يتحرك بنو هاشم للأخذ بثأره، وأنه لن ينجو من يد أبى طالب وسيف الله حمزة، فيجتمعوا فى ثأره، وإن تفرقوا فى اتباعه فى دينه، ولكنه الحقد الدفين يعمى ويصم، فلا يفكر الأحمق فى مغبة عمله، ولكن يفكر فقط فى شفاء غيظ نفسه الذى لا يكظمه. حدث ابن إسحاق بسنده أن أبا جهل شيخ السفهاء من قريش وقف بينهم يقول: يا معشر قريش، إن محمدا أبى إلا ما ترون من عيب ديننا، وشتم ابائنا، وتسفيه أحلامنا، وسب الهتنا؛ وإنى أعاهد الله لأجلسن له غدا بحجر فإذا سجد فى صلاته فضخت به رأسه، فليصنع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم. فلما أصبح أبو جهل لعنه الله أخذ حجرا ثم جلس لرسول الله ينتظره، وغدا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ... فقام يصلى، وقد غدت قريش فجلسوا فى أنديتهم. فلما سجد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم احتمل أبو جهل الحجر، ثم أقبل نحوه، حتى إذا دنا منه رجع منبهتا ممتقعا لونه مرعوبا قد يبست يداه على حجره، حتى قذف الحجر من يده ... وقام إليه رجال من قريش فقالوا: ما بك يا أبا الحكم، قال: قمت لأفعل ما قلت لكم البارحة، فلما دنوت منه عرض لى دونه فحل من الإبل، والله ما رأيت مثل هامته، ولا قصرته، ولا أنيابه لفحل قط؛ فهم أن يأكلنى» «1» . وقد روى مثل ذلك البيهقى والإمام أحمد. وإن كان ما روى عن أحمد موجزا عن ذلك. مهابة محمد عليه الصلاة والسلام: 257- هذا بعض ايذاء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من المشركين، دع استهزاءهم إذا سار أو تكلم، ودع رميهم له بأنه ساحر ومجنون، ودع معاندتهم له، وهو يدعو القبائل إلى الاسلام، فهل كان ذلك سببه أن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم لم يكن المهيب، وأنه كان الهزيل الذى يجترأ عليه؟ والجواب عن ذلك أن محمدا عليه الصلاة والسلام كان المهيب فى شخصه، والقوى فى ذات نفسه، والذى اتاه الله تعالى القوة الإنسانية الكاملة، فهو المرهوب المحبوب الذى لم يرد أن يكون مرهوبا، وإن أراد الرهبة كانت، والله تعالى يعصمه من الناس؛ ولكن الحمقى والسفهاء يغرون بالكرماء، وكان محمد عليه الصلاة والسلام كريما، ولم يرد أن يكون مخوفا مفزعا، بل أراد أن يكون أليفا قريبا دانيا، ليستطيع أن يتألف الناس ولا يرهبهم.

_ (1) الهامة الرأس والقصرة الرقبة- راجع الخبر فى البداية والنهاية لابن كثير ج 3 ص 43

وقد كان عليه الصلاة والسلام يفرض الرهبة فى قلوب المشركين إن كان لذلك موضع، ولنذكر موضعين كانت فيهما مهابة الرسول فاصلة، قاطعة حاسمة: أولهما: ما روى عن عبد الله بن عمرو بن العاص، أنه قال: «رأيتهم وقد اجتمع أشرافعهم يوما فى الحجر، فذكروا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل قط، سفه أحلامنا وشتم اباءنا، وعاب ديننا، وفرق جماعتنا، وسب الهتنا، وصرنا منه على أمر عظيم. فبينما هم في ذلك، إذ طلع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأقبل يمشى، حتى استلم الركن، ثم مر بهم طائفا بالبيت فغمزوه ببعض القول فعرفت ذلك فى وجه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فمضى، فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها، فعرفتها فى وجهه، فمر بهم الثالثة، فغمزوه بمثلها فقال لهم: أتسمعون معشر قريش، أما والذى نفسى بيده لقد جئتكم بالذبح. فأخذت القوم كلمته، حتى ما منهم من رجل إلا وكأنما على رأسه طائر وقع، حتى إن أشدهم فيه قبل ذلك ليرفوه، حتى إنه ليقول: انصرف يا أبا القاسم راشدا فما كنت بجهول. إن هذا الذى أفزعهم عزمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أخذتهم الدهشة، وأرعبتهم الهيبة، وإذا كانوا بعد ذلك تكاتفوا واعتزموا أن يؤذوه فى مكانه هذا، فإن هذا لا يمنع تأثير مهابته فيهم، وما استطاعوا لها ردا إلا بعد طول مؤامرة ومجاوبة، وإصرار على مقاومة الهيبة، ولو أرادها فى الثانية لكان أفزع لهم، وأروع، ولكنه كان يميل إلى اللين دائما. الثانى: ما كان فى قصة الأراشى، فقد قدم رجل من أراش بإبل له إلى مكة المكرمة، فابتاعها منه أبو جهل فمطله بأثمانها، فأقبل الأراشى، حتى وقف ينادى فى قريش، ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم جالس فى ناحية المسجد، فقال الأراشي: «يا معشر قريش من رجل يعدينى على أبى الحكم بن هشام، فإنى غريب وابن سبيل، وقد غلبنى على حقى» . فقال من بالمجلس من قريش مستهزئين بالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم: ترى ذلك الجالس، مشيرين إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لما يعلمون من عداوة أبى جهل للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم: «اذهب إليه فهو يعديك عليه» . أقبل الأراشى حتى وقف على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: فذكر له ذلك، فقام محمد صلى الله عليه وسلم العظيم معتزما إنصاف الغريب، ولا سلطان معه إلا شخصه، وعون الله تعالى. فلما رأى المجلس القرشى المشرك قالوا لرجل ممن معهم اتبعه فانظر ماذا يصنع.

لماذا لم يرهبهم صلى الله عليه وسلم بهيبته:

خرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حتى جاء إلى دار أبى جهل، فطرق الباب طرقة من اعتزم أن يملى إرادته على هذا الطاغوت الفاجر. قال: من هذا؟ قال: محمد (صلى الله عليه وسلم) ، فاخرج. خرج إليه وما فى وجهه قطرة دم، وقد امتقع لونه. قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم بعزمة مرهبة لمثل أبى جهل: أعط هذا الرجل حقه. قال الطاغوت المتخاذل: لا تبرح حتى أعطيه الذى له، فدخل فخرج إليه بحقه، فدفعه إليه. انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أحق الله الحق، بهيبة محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام، وقال للأراشى: الحق لشأنك. وأقبل الأراشى على المجلس الذى وقف يدعو ناديه لينصروه، فقال عن النبى عليه الصلاة والسلام: جزاه الله خيرا فقد أخذت الذى لى. وقال الرجل الذى أرسلوه مراقبا للواقعة: «رأيت عجبا، والله ما هو إلا أن ضرب عليه بابه فخرج وما معه روحه» . جاء أبو جهل فقالوا له: «ويلك مالك، فو الله ما رأينا مثل ما صنعت؟ فقال: ويحكم، والله ما إن طرق على بابى، وسمعت صوته، فملئت رعبا، ثم خرجت إليه، وإن فوق رأسه لفحلا من الإبل ما رأيت مثل هامته، ولا قصرته وأنيابه لفحل قط، فو الله لو أبيت لأكلنى» . لماذا لم يرهبهم صلى الله عليه وسلم بهيبته: 258- لقد كان المشركون يريدون بأذاهم المؤمنين، ويختصون من لهم حلم ومروءة، ولا عنف فيهم، ولا يتوقعون مقاومة كأبى بكر وعثمان وجعفر بن أبى طالب، وعلى رأس هؤلاء محمد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وينالون الضعفاء الذين لا حول لهم ولا قوة يقاومون بها. ولكن لم يعرف أنهم نالوا من عنده قوة بطش، ويذيقهم الكأس أكؤسا، فلم يعرف أنهم نالوا بالأذى حمزة بن عبد المطلب، لأنهم يتوقعون منه المقاومة، ولا يأمنون مغبتها، فقد علم ذلك أبو جهل اللئيم بموضعها من رأسه، ولم ينالوا بالأذى عمر بن الخطاب الذى شوه وجوههم، وأرغم معاطسهم، وطاح بهم مجتمعين، ولم ينالوه بالأذى لذلك، فقد كانوا يخافونه ويرهبونه. وما كان محمد عليه الصلاة والسلام، دون عمر مهابة، بل أعلى من ذلك كثيرا، ولا دون حمزة قوة نفس، ولا قوة بدن ولكنهم نالوا منه، فلماذا لم يستخدم مهابته وقوة نفسه وشخصه، مثل ما أجازه

لعمر وعمه حمزة، إذن لارعوى مثل أبى جهل فى نذلته، ولكنه لم يفعل، وتحمل الأذى فى سبيل الدعوة ولم يرهب ولم يفرغ، بل رضى بالبلاء ينزل به وبأصحابه الضعفاء. وإن ذلك هو عمل النبوة، إنه عليه الصلاة والسلام ما جاء مسيطرا، ولكن جاء مبلغا، وما جاء متحكما، ولكن جاء داعيا مقنعا، فلو استخدم هيبته وأظهر الرهبة لتبعه الناس خائفين غير مقتنعين بذات الحجة، ولبدا النفاق فى الذين يجيبون دعوته، وليس الدين بقائم على المنافقين غير المؤمنين. إن الرسول الأمين يريد مؤمنين يدخلون فى الإسلام رغبا لا رهبا، ولا يكون عن خوف أيا كانت صورة الخوف. إن الإسلام الذى جاء به محمد صلى الله تعالى عليه وسلم جاء ليحمله الذين شاهدوا وعاينوا إلى الأخلاف من بعده، لأنه دين الخليقة كلها لا دين جيل من أجيالها، فلابد أن يحمله مؤمنون لا مجرد تابعين. ولا يكون ذلك إلا إذا كان الإيمان القوى الذى يصبر صاحبه ويصابر فى حضرة النبى عليه الصلاة والسلام، وينزل به البلاء فى حضرته فيحس عليه الصلاة والسلام بقوة احتمالهم، ليطمئن من بعده بقوة التبليغ بالرسالة فى مشارق الأرض ومغاربها. إن الذين يدخلون فى الإسلام بهيبة النبى عليه الصلاة والسلام سرعان ما يتركونه إذا غاب عنهم، واعتبر ذلك بحال المؤمنين فى المدينة فإنه لم يكن فيهم نفاق، حتى صار لأهل الايمان قوة يسيطرون بها، فكان النفاق، والذين دخلوا فى الإسلام تابعين غير مؤمنين إيمان الصابرين المصابرين. وكان من المسلمين بالاتباع بالإيمان المجاهد الصابر، وكان منهم الأعراب الذين ساروا مع القوى، وقال فيهم الله تعالي: الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً، وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ «1» وهم الذين ارتدوا بعد موت محمد صلى الله عليه وسلم، إن الله تعالى أمر رسوله بالدعوة بالحكمة، فقال تعالي: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ «2» وإن ذلك يقتضى أن يكون موطأ الكنف وديعا فى دعوته متطامنا لمن يخاطبهم، ليس فظا ولا غليظ القلب، ولا مرهبا ولا مفزعا. وإن تطامن النبى عليه الصلاة والسلام كما جرأ عليه الأقوياء الذين يؤذون الحق إذا بدا وضحه المبين، قد قرب إليه الضعفاء وبهم كانت الدعوة الأولى وقوة الحق من غير سيطرة ولا تحكم. وإن تطامن النبى عليه الصلاة والسلام والاعتداء عليه قرب بعض الأقوياء ولم يبعدهم. ألم تر أن كثيرين كانوا يسلمون لأنهم يرون أن محمدا عليه الصلاة والسلام بماضيه الكريم، وحاضره العظيم

_ (1) سورة التوبة: 97. (2) سورة النحل: 125.

الهجرة إلى الحبشة

ما كان ليسمح لأحد أن يؤذيه إلا لطيب نفسه، فيكون الإيذاء جاذبا للأنظار مسترعيا للذين يعرفون ما ينبغى للأحرار، فيدعوهم ذلك إلى التفكير فى الذى يدعو إليه من غير تمييز لهم، ويكفى ذلك للدخول فى الإسلام مناصرا غير محارب ولا مجاهل. من أجل ذلك، ولأن الله أعلم حيث يجعل رسالته، وحيث يثبتها وينشرها ويذيعها اختار لنبيه عليه الصلاة والسلام أن يتأتى للأمور بيسر وبرفق من غير عنف أو رهبة، ولو كان بقوة النفس لا بقوة السيف. الهجرة إلى الحبشة 259- عدد الذين اتبعوا محمدا صلى الله عليه وسلم، وتابعوه فى الصبر على الأذى يزيد ويكثر، ولم يقتصر على الضعفاء. بل دخل فيهم أشراف من مكة المكرمة، وبتزايد العدد يتزايد الاضطهاد ويكثر ويتنوع. فمن إيذاء بالأيدى والسياط، والإلقاء فى الرمضاء فى الحرور، ومن أفعال لا تصدر إلا عن السفهاء الأنذال. كما فعل أبو جهل مع النبى عليه الصلاة والسلام وغيره، ومن استهزاء وسخرية، ومن منع من العبادة. ويجدون فى ذوى الكرامات مرتعا خصيبا للنيل من كراماتهم. أصبح الإيذاء عاما ولا مناص من التخلص منه، وهم بمكة المكرمة وما حولها فلابد من الهجرة، وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً «1» وإلى أى أرض يهاجرون. لابد من أرض تتوافر فيها الحرية، وتكون بعيدة عن سطوة مكة ومن فيها قريش. ولهم مكانة فى القبائل، وتكون تحت سلطان حاكم فيه طيبة لا يؤذى ولا يمكن أحدا من الإيذاء. حتى يكونوا فى بعد عن الاضطهاد واحتماله. وذلك فى أرض الحبشة. فهى بعيدة عن سطوة قريش. وهى لا تدين لقريش بالاتباع كغيرها من قبائل. وفيها حاكم طيب عرف بذلك واشتهر، فأشار النبى عليه الصلاة والسلام بالهجرة إليه. وقال عليه الصلاة والسلام لأصحابه وقد رأى البلاء ينزل بهم. وهو لا يقدر على منعه عنهم: «لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد، وهى أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه» . كانت أول زمرة من الهجرة إلى الحبشة فى السنة الخامسة من مبعث النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. ولا شك أن الهجرة لها ثمرة أخرى غير دفع الأذى، والاعتصام منه ومنع الفتنة التى أرهقوا بها عسرا، وهذه الثمرة هى التعريف بالإسلام، وبالمباديء الإسلامية، فقد وقف جعفر بن أبى طالب

_ (1) سورة النساء: 100.

المتحدث باسم المهاجرين أمام النجاشى يبين الحقائق الإسلامية، وما يدعو إليه دين الواحدانية من صلة الأرحام، والحث على مكارم الأخلاق، وما يمنعه من فساد الجاهلية والعصبية المغرقة. وقد نقلنا ذلك من قبل. وهناك ثمرة أخرى أن الهجرة إلى الحبشة تعرف النصارى بالإسلام، وما قاله فى عيسى عليه السلام. فهى تزرع الإسلام فى أرض غير أرض مكة وتباينها، كما أن الهجرة من بعد ذلك إلى المدينة كان فيها تعريف اليهود بالإسلام ودعوتهم إليه. فأسلم من أسلم وكفر وقاوم وعاند من كفر: فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ، وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها «1» . وقد هاجروا زمرا، وكان فى أول زمرة عثمان بن عفان ومعه رقية بنت محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، والتى تزوجها ذو النورين عثمان بن عفان بعد أن تركها وأختها ابنا أبى لهب اللعين، وكانت عدة الزمرة الأولى نحو عشرة من الرجال والنساء. ثم توالت الهجرة بعد ذلك. ويقول ابن إسحاق: كان جميع من لحق بأرض الحبشة وهاجر إليها من المسلمين سوى أبنائهم الذين خرجوا بهم صغارا، أو ولدوا بها ثلاثة وثمانين» «2» . وقد ناقش هذا الرقم ابن كثير، وانتهى إلى أن الشك فى كون الزائد عن الثمانين ثلاثة وروى عن الإمام أحمد عن ابن مسعود أنه قال: «بعثنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ونحن نبلغ نحوا من ثمانين» «3» . 260- وأبو بكر لم يكن من الذين هاجروا، ولكن قدر الله تعالى شرف الهجرة فى صحبة أكرم خلق الله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وذلك أنه كما روى ابن إسحاق والبخارى عن عروة بن الزبير عن عائشة قالت «حين ضاقت عليه (أبى بكر) مكة، وأصابه فيها الأذى، ورأى تظاهر قريش على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه ما رأى استأذن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى الهجرة فأذن له، فخرج رضى الله تعالى عنه مهاجرا إلى الحبشة، حتى إذا سار من مكة يوما- أو يومين- لقيه ابن الدغنة أخو بنى الحارث بن أبى بكر، وهو سيد الأحابيش، فقال: إلى أين يا أبا بكر؟ قال: أخرجنى قومى، واذونى وضيقوا على. قال: ولم؟ فو الله إنك لتزين العشيرة، وتعين على النوائب، وتفعل المعروف، وتكسب المعدوم، ارجع فإنك فى جوارى. فرجع معه، حتى إذا دخل

_ (1) سورة الإسراء: 16 (2) البداية والنهاية ج 3 ص 69. (3) روى هذا الخبر البخارى فى صحيحه.

متابعة الأولياء ومتابعة الأعداء:

مكة قام معه ابن الدغنة، فقال: يا معشر قريش إنى قد أجرت ابن أبى قحافة، فلا يعرض له أحد إلا بخير، فكفوا عنه. أقام أبو بكر فى منزله، وكان له مسجد عند باب داره فكان يصلى فيه، وكان رقيقا، إذا قرأ القران استبكى، فيقف عليه الصبيان، والعبيد والنساء يعجبون لما يرون من هيبته، فيمشى رجال قريش إلى ابن الدغنة، فقالوا: يا ابن الدغنة إنك لم تجر هذا الرجل ليؤذينا، إنه رجل إذا صلى وقرأ ما جاء به محمد يرق وله هيبة، ونحن نتخوف منه على صبياننا ونسائنا وضعفائنا أن يفتنهم فأته فمره بأن يدخل بيته فليصنع ما شاء، فمشى ابن الدغنة إليه، فقال يا أبا بكر إنى لم أجرك لتؤذى قومك، وقد كرهوا مكانك الذى أنت به وتأذوا بذلك منك فادخل بيتك فاصنع فيه ما أحببت. قال أبو بكر: أو أرد عليك جوارك وأرضى بجوار الله. قال: فاردد على جوارى. قال: قد رددته عليك. فقام ابن الدغنة. فقال: يا معشر قريش، إن ابن أبى قحافة قد رد على جوارى، فشأنكم بصاحبكم» «1» . رضى أبو بكر بالبقاء فى العذاب أو الإيذاء، وهو يصلى مجاهرا بصلاته أمام داره، أو فى فنائها غير معتمد إلا على الله تعالى، ورضى بأن يكون قريبا من النبى متعرضا لما يتعرض له عليه الصلاة والسلام، مطمئنا إلى الأذى راضيا بذلك الجوار الكريم. متابعة الأولياء ومتابعة الأعداء: 261- سافر أولئك المهاجرون إلى أرض الحبشة فرارا بدينهم من أن يفتنوا فيه، وفرارا بأنفسهم من المهانة والاستهزاء والسخرية، فوجدوا حاكما طيبا، أكرم مثواهم، وتركهم فى أرضه أحرارا مطمئنين، ولقد رق أبو طالب لفراق ابنه جعفر، وما نزل بالمسلمين من أبناء مكة حتى فروا فأرسل إلى النجاشى يوصيه بهم. والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم أرسل إليه كتابا يشير فيه إلى البر بهم ويأمر بالإسلام معا، وهذا نص كتابه عليه الصلاة والسلام كما جاء فى رواية البيهقى. بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى النجاشى الأصحم ملك الحبشة: «سلام عليك، فإنى أحمد إليك الله الملك القدوس المؤمن المهيمن، وأشهد أن عيسى روح «2» الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطاهرة الطيبة الحصينة فحملت بعيسى، فخلقه الله من روحه ونفخته، كما خلق ادم بيده ونفخه.

_ (1) روى هذا الخبر النحاس في صحيحة. (2) كان خلقه بنفخة من روح القدس جبريل، وولد بكلمته.

وإنى أدعوك إلى الله واحده لا شريك له، والموالاة على طاعته، وأن تتبعنى فتؤمن بى وبالذى جاءنى، فإنى رسول الله، وقد بعثت إليك ابن عمى جعفرا، ومعه نفر من المسلمين، فإذا جاؤك فأقرهم، ودع التجبر، وإنى أدعوك وجنودك إلى الله عز وجل، وقد بلغت ونصحت، فاقبلوا نصيحته والسلام على من اتبع الهدى» . هذا كتاب فيه متابعة لأمرين: أولهما- أنه يدعو إلى الإسلام، فهو يتابع دعوته حيث تجد المناسبة والرجل المناسب، وقد وجد فيه قلبا مفتوحا يدخل فيه الحق مزدلفا، لأن العادل يستمع إلى الحق، وهو يكون ممن يستمعون إلى الحق فيتبعون أحسنه، وقد استجاب لدعائه، وامن بمحمد صلى الله عليه وسلم ورسالته، وقد أجاب دعوة النبى عليه الصلاة والسلام إلى الإسلام وكتب إليه عليه الصلاة والسلام يقول: بسم الله الرحمن الرحيم إلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم من النجاشى الأصحم بن أبجر سلام عليك يا نبى الله من الله، ورحمة الله وبركاته، لا إله إلا هو الذى هدانى إلى الإسلام فقد بلغنى كتابك يا رسول الله، فيما ذكرت من أمر عيسى، فو رب السماء والأرض إن عيسى عليه السلام ما يزيد على ما ذكرت، وقد عرفنا ما بعثت به إلينا، وقربنا ابن عمك وأصحابه، فأشهد أنك رسول الله صدقا ومصدقا، وقد بايعتك، وبايعت ابن عمك، وأسلمت على يديه لله رب العالمين، وأرسلت إليك بأريحا بن الأصحم ابن أبجر، فإنى لا أملك إلا نفسى، وإن شئت أن اتيك فعلت يا رسول الله، فإنى أشهد أن ما تقول حق» . ونرى من هذا أنه أرسل ابنه فى وفد من الحبشة للالتقاء بالنبى عليه الصلاة والسلام، وبيان الخضوع لطاعة الله ورسوله. الأمر الثانى- هو متابعته العطف على الذين هاجروا، فقد دعاه عليه الصلاة والسلام إلى الإحسان إليهم فى إقامتهم وألا يرهقهم بتجبر ذوى السلطان. وإنه لفرط محبته عليه الصلاة والسلام للذين هاجروا، ولإحساسه بوجوب الوفاء، وشكر من يستحق الثناء، والمقابلة الحسنة بمثلها على الأقل فإن النبى عليه الصلاة والسلام عندما جاء الوفد الذى بعثه، كان عليه الصلاة والسلام يقوم بخدمته بنفسه، فقد روى البيهقى بسنده عن أبى أمامة قال: «قدم وفد النجاشى على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقام يخدمهم عليه الصلاة والسلام، فقال أصحابه: نحن نكفيك يا رسول الله، فقال إنهم كانوا لأصحابى مكرمين، وإنى أحب أن أكافئهم» .

262- هذه متابعة لأصحابه الذين هاجروا إلى النجاشى، وهى متابعة الرحيم الحانى الذى يريد الاطمئنان على أصحابه الذين هاجروا إلى تلك الأرض النائية، ومازال بملكهما حتى صار فى صفهم، وطابت إقامتهم، وكرمهم تكريم الإخوة، لا تكريم العادل فقط. هذه متابعة الأولياء، أما متابعة الأعداء، فقد كانت على النقيض من ذلك، لم يكتفوا بأن أخرجوهم من ديارهم وأموالهم، بل أرادوا النكاية بهم، وأن يجعلوا المهجر يلفظهم، كما لفظوهم لأنهم رأوهم ينشرون الإسلام ويمدون ظلاله الوارفة، فدفعتهم العصبية الجاهلية لأن يفسدوا عليهم طيب الإقامة، والقرار، واستقامة أمورهم، فأرسلوا من يحاول إفساد النجاشى عليهم. قال ابن إسحاق: لما رأت قريش أن أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد استقروا واطمأنوا بأرض الحبشة، وأنهم قد أصابوا بها دارا وقرارا ائتمروا بينهم أن يبعثوا فيهم منهم رجلين من قريش جلدين إلى النجاشى فيردهم عليهم، ليفتنوهم فى دينهم، ويخرجوهم من الأرض التى اطمأنوا بها، وآمنوا فيها، فأرسلوا عبد الله بن أبى ربيعة وعمرو بن العاص «1» ، وأرسلوا معهم هدايا يدفعونها للنجاشى ليغروه بها. ولقد أزعج المهاجرين الأبرار. روى عن أم سلمة أنها قالت: لما نزلنا أرض الحبشة، جاورنا بها خير جار النجاشى أمينا على ديننا، وعبدنا الله تعالى، ولا نسمع شيئا نكرهه، فلما بلغ ذلك قريشا ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشى فينا رجلين منهم جلدين، وأن يهدوا النجاشى هدايا مما يستطرف من متاع مكة ... فجمعوا أدما كثيرا، ولم يتركوا من بطارقته بطريقا إلا أهدوا له هدية، ثم بعثوا بذلك عبد الله بن ربيعة وعمرو بن العاص، أمروهما بأمرهم، وقالوا لهما: ادفعا إلى كل بطريق هديته، قبل أن تكلما النجاشى فيهم، ثم قدما إلى النجاشى هداياه، ثم سلاه أن يسلمهم إليكما قبل أن يكلمهم ... فخرجا حتى قدما على النجاشى ونحن عنده بخير دار، عند خير جار «1» . لقد نفذ الرسولان ما أوصاهما به قومهما، وقدموا لكل بطريق هديته وذكروا عند إعطاء كل واحد هديته، أنه جاء إليهم غلمان من سفهائهم فى زعمهم، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا فى دينكم، وجاؤا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم ليردوهم، فإذا تكلم الملك فيهم فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا ولا يكلمهم، فإن قومهم أعلى بهم عينا، وأعلم بما عابوا عليهم، فوعدهم البطارقة بما طلبوا. مهدوا للقاء الملك ذلك التمهيد القائم على رشوة البطارقة، ثم التقوا بالنجاشى، وقدموا هداياهم قبل أن يتكلموا، ثم تكلموا فى غيبة المهاجرين، فقالوا:

_ (1) سيرة ابن هشام ج 1 ص 334.

«أيها الملك انه قد ضوى «1» إلى بلدك منا سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا فى دينك، وجاؤا بدين ابتدعوه، لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من ابائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم، فهم أعلى «2» بهم عينا، وأعلم بما عابوا عليهم، وعاتبوهم فيه. عندئذ تكلم البطارقة، وحركت الهدايا لهواتهم، فقالوا: صدقا، أيها الملك، قومهم أعلى بهم عينا وأعلم بما عابوا عليهم، فأسلمهم إليهما، ليرداهم إلى بلادهم. أحس النجاشى بالحملة الباطلة، فرد الكيد ردا حاسما وقال: لا أسلمهم إليهم ولا يكاد قوم جاورونى، ونزلوا بلادى واختارونى على من سواى، حتى أدعوهم فأسألهم عما يقول هذا فى أمرهم، فإن كانوا كما يقولون أسلمتهم إليهما ورددتهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما، وأحسنت جوارهم ما جاورونى. ذلك هو القول الحق من حاكم عادل، ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله ليواجههم الرجلان، جاؤا، ودعا الأساقفة. قال لهم: ما هذا الدين الذى فارقتم به فيه قومكم، ولم تدخلوا به فى دينى (وكان لا يزال نصرانيا) ولا فى دين أحد من هذه الملل؟. فرد عليه جعفر بن أبى طالب قائلا: أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأتى الفواحش ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوى منا الضعيف، فكنا على ذلك، حتى بعث الله إلينا رسولا نعرف نسبه وصدقه، وأمانته، وعفافه، فدعانا إلى الله لنواحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن واباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور ... فعدد عليه أمور الإسلام. ثم قال: فصدقناه وامنا به، واتبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا الله واحده، فلم نشرك به شيئا وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان ... وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك، ورغبنا فى جوارك، ورجونا ألا نظلم عندك. قال النجاشى- متعرفا دارسا-: هل معك مما جاء به عن الله شيء «3» .

_ (1) ضوي معناها لجأ. (2) أي أبصر بهم (3) الخبر بطوله روته أم المؤمنين أم سلمة، وقد تصرفنا في بعض الكلمات تصرفا لا يخرج الخبر عن ألفاظه.

قال له جعفر: نعم. فقال له النجاشى: هات ما عندك. فقرأ عليه صدرا من كهيعص. تأثر النجاشى من وضوح الحقائق بين يديه، وكان فيما قرأه خبر زكريا وما وهبه الله تعالى من يحيى، ثم جاء فى حمل مريم إذ جاء الملك، وقال لها إنى رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا ... ثم ولادة عيسى عليه السلام.. إن النجاشى كان مؤمنا يدرك الحق إذا ألقى عليه، وكان عادلا، وكان صادق النظر لإيمانه وعدله. فبكى من فرط تأثره، وإدراكه الحق حتي اخضلت لحيته، وقالوا إن أساقفته وافقته ابتداء حين سمعوا ما تلي عليهم. قال النجاشي: إنه والذي جاء به عيسي ليخرج من مشكاة واحدة. ثم قال للاثنين اللذين بعثهما القرشيون: انطلقا، فو الله لا أسلمهم إليكما ولا يكادون. 263- هذه هي الجولة الأولي في الكيد الذي يكيد الباطل لأهل الحق، وقد كانت النتيجة إحقاق الحق، ولكن عمرو بن العاص لا يقف عند الهزيمة الأولي في الكيد، فهو واسع الباع فيه، فكانت المجاوبة بينه وبين صاحبه الذي هو أنقي نفسا. قال عمرو لصاحبه: والله لاتينه غدا بما أستأصل به خضراءهم. فقال له صاحبه: لا تفعل، فإن لهم أرحاما، وإن كانوا قد خالفونا. قال عمرو الماكر: والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبد. جاء الغد، والتقى عمرو بالنجاشى، ومعه صاحبه عبد الله بن ربيعة. قال عمرو: أيها الملك، إنهم يقولون فى عيسى بن مريم قولا عظيما، فأرسل إليهم، فسلهم عما يقولون فيه. فأرسل إليهم وقد وقعوا فى حيرة وخوف، فقال بعضهم: ما تقولون فى عيسى بن مريم، ولكن الذين تحملوا أذى قومهم على استعداد لأن يتحملوا غيره، ولذا قالوا مصممين: نقول والله ما قال نبينا كائنا فى ذلك ما هو كائن، فلما دخلوا على النجاشى قال لهم: ماذا تقولون فى عيسى بن مريم؟. قال جعفر: نقول فيه الذى جاءنا به نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم يقول هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول.

عندما سمع النجاشى هذا ضرب بيده على الأرض، فأخذ منها عودا، ثم قال: والله ما عدا عيسى ابن مريم مما قلت هذا العود. والبطارقة حاضرون فتنافروا حوله حين قال ما قال: فقال: وإن نخرتم. ثم التفت إلى المسلمين من أصحاب محمد بن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال ما معناه: اذهبوا فأنتم الامنون، من سبكم غرم، من سبكم غرم، من سبكم غرم، ما أحب أن لى جبلا من ذهب وأنى اذيت رجلا منكم. انتصر النجاشى الهمام للحق وأهله- ودخل فى الإسلام- كما تدل على ذلك مكاتبته للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم التى نقلناها من قبل، وقد رد على قريش هديتها، كما رد مكيدتها فى قومها وعشيرتها. ولكن الهدية فعلت فعلها فى البطارقة، ويظهر أنهم بعد إسلامه تامروا مع بعض رجال الحبشة، فخرج عليه رجل منهم فكان المسلمون فى فزع، وتقول السيدة أم المؤمنين أم سلمة: «فو الله ما علمنا حزنا أحزننا قط كان أشد علينا من حزن حزناه عند ذلك تخوفا أن يظهر ذلك الرجل على النجاشى، فيأتى رجل لا يعرف من حقنا ما كان النجاشى يعرفه» . وقد أخرجت أم سلمة والزبير بن العوام الذى كان من المهاجرين، وقد عاد الزبير يحمل البشرى بانتصار النجاشى على خصمه، ففرح المهاجرون فرحة ما فرحوا مثلها. 264- استقام الأمر للمهاجرين فى الحبشة، ولم يذكر التاريخ أكانوا يتولون عملا فيها أم كانوا فى ضيافة النجاشى، لم يذكر التاريخ شيئا من ذلك، لأن مؤرخى السيرة النبوية الطاهرة ما كانوا يعنون إلا بحال المسلمين. وحال الإسلام، وتحمل المسلمين للأذى فى سبيل عقيدتهم، يفصلون فى ذلك ما يشاء طالب الحقيقة أن يعرفه، ولكنهم ما كانوا يعنون بالأعمال المادية من صناعة ومكاسب! ولكن أردنا أن نعرف ما طواه التاريخ ولم يذكره، نتعرفه من صور الرجال الذين هاجروا، فلابد أن نتصور من صورهم أحوالهم. لقد كان من بينهم ذو النورين عثمان التقى الطاهر، وهو مع ذلك التاجر الماهر، وقد خرج ومعه بعض ماله غالبا، وما كان ليترك عمله فى التجارة حتى تأكل النفقة ماله، ولم يثبت فى التاريخ أنهم كانوا فى ضيافة النجاشى، لأنهم كانوا يتزايدون فى الهجرة ولا ينقصون، وإذا كان لابد من فرض فى هذا، فهو أننا نتصور أنه كان يعينهم ليتمكنوا من أعمالهم الكاسبة التى تدر عليهم ما يكفيهم بالمعروف من غير إسراف، ولا تقتير.

خديعة:

ونتصور حينئذ أمرين نفرضهما فرضا: أولهما- أن يكونوا قد قاموا بما يكسبهم القوت، ولا يعيشون كلا على غيرهم فليس ذلك من مكارم الأخلاق فى الإسلام. ثانيهما- أن نفرض التعاون الكامل بينهم، يعين غنيهم فقيرهم، والقادر منهم العاجز، وإذا كانت المؤاخاة قد نظمت العلاقات بين المهاجرين والأنصار، وبين الأوس والخزرج بما فعله النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. فإن التعاون أو المؤاخاة الطبيعية فرضت نفسها فى أرض الحبشة بحكم الاغتراب أولا، وبحكم الحاجة إليه ثانيا، وبحكم الخلق الإسلامى الذى يوجب التراحم والتعاطف ثالثا، وقد كان التعاطف امتدادا لما كان فى مكة من حماية ضعفاء المسلمين من أقويائهم، كما يفعل أبو بكر من شراء العبيد المسلمين وإعتاقهم من غير منّ ولا أذى. خديعة: 265- خديعة أو انخداع على حسب تقدير الأسباب. لقد فشل الرسولان اللذان ذهبا إلى النجاشى ليحرضاه بالهدية الراشية، وبالقول المعسول، وبالإيقاع المفسد فى أن يحملاه على إخراج من حلوا فى داره، واستظلوا بعدالته، وخرجا مذمومين مدحورين. ولكن أحدهما عمرو بن العاص داهية قريش وماكرها، أشاع الشائعات بأن قريشا امنت بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وأن هذه الشائعات تجاوبت أصداؤها، حتى وصلت إلى المؤمنين فى هجرتهم بالحبشة، فاطمأن إلى صدقها بعض المهاجرين، وطاهر القلب ينخدع، وقد خدع إبليس من قبل أبانا ادم الطاهر. عاد من عاد منهم حاسبين صدق الشائعة، وكانت عدتهم نحو ثلاثة وثلاثين، ولكنهم ما إن شارفوا مكة حتى وجدوا الأذى والاستهزاء والسخرية تستقبلهم، فمنهم من دخل فى جوار بعض كبراء المشركين، ومنهم من استقبل الأذى صابرا، ومنهم من حسبه ذوو قرابته. واستطاع الماكرون بذلك أن يعيدوا بعض المهاجرين إليهم ليتحكموا فيهم، ولكن لم تتم بغيتهم، لأنه بقيت الكثرة فى أرض الحبشة لم تغتر بهذه الشائعة الكاذبة التى دفعتها فرية خبيثة ماكرة. وقد يقول قائل: هل لك من سند يؤيد فرض الشائعة، وخصوصا أنه تذكر أسباب لهذه الشائعة غير ما ذكرت وبينت، وهى قصة المشركين مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عندما مجد اللات والعزى كما يزعمون وكما جاء فى صحيح البخارى.

ونحن نجيب عن ذلك بما تقتضيه الفروض التاريخية من تعليل لأسباب الوقائع باقترانها بالوقائع الزمنية التى قارنتها، لقد كانت تلك الشائعة الغريبة وكانت فى أعقاب واقعة حقيقية ثبتت، وهى طرد النجاشى الرسولين اللذين جاا ليحملاه على الإيقاع بالمؤمنين ليخرجهم، ويستمكنوا من رقابهم، وحرياتهم، وليفتنوهم عن دينهم، ويفسدوا رجال محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، والعقل بلا ريب يربط بروابط منطقية بين الأمرين، كما اقترنا فى الزمن. ولا يمكننا أن نفرض السبب الذى يذكره مؤرخو السيرة، وهو سجود النبى عليه الصلاة والسلام للات والعزى ومناة الثالثة الاخرى، ولابد أن نعرج عليه بالقول، ولو كانت الرواية فى كتب الحديث، ونبين استحالة قبوله. جاء فى كتاب البداية والنهاية لابن كثير ما نصه فى بيان سبب الشائعة: «كان له سبب، وهو ما ثبت فى الصحيح وغيره أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حبس يوما مع المشركين، وأنزل الله تعالى عليه: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى. ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى «1» يقرؤها عليهم، حتى ختمها وسجد، وسجد من هناك من المسلمين والمشركين والجن والإنس، وكان لذلك سبب ذكره المفسرون عند قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ، فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ، ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ «2» وذكروا قصة الغرانيق، وقد أحببنا الإضراب عن ذكرها صفحا. لئلا يسمعها من لا يضعها فى مواضعها إلا أن أصل القصة فى الصحيح. قال البخارى: «حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث، حدثنا أيوب عن عكرمة عن ابن عباس قال: سجد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بالنجم، وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس» . انفرد به البخارى دون مسلم، وقال البخارى حدثنا محمد بن بشار حدثنا غندر، حدثنا شعبة عن أبى إسحاق سمعت الأسود عن عبد الله قال قرأ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، والنجم بمكة، فسجد فيها وسجد من معه غير شيخ أخذ كفا من حصى أو تراب فرفعه إلى جبهته، وقال: يكفينى هذا ... رواه مسلم «وأبو داود، والنسائي، وروى مثله أحمد فى سنده» «3» . إننا نقرر أن تلك القصة مكذوبة على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وذلك لما يأتى:

_ (1) سورة النجم: 1، 2. (2) سورة الحج: 52. (3) البداية والنهاية ج 3 ص 90.

أولا: أن مقتضاه أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو يقرأ قوله تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى. وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى زاد بتأثير الشيطان «تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى» فلما أتم السورة تلاوة ووصل إلى قوله تعالى: أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ. وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ. وَأَنْتُمْ سامِدُونَ. فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا سجد سجدة التلاوة فسجدوا معه. وذلك باطل بلا ريب ومستحيل أن يقع لأن الشيطان لا يتسلط على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وفى شأن التنزيل والقران الكريم، وإلا جاء الشك الباطل فى شأن القران الكريم، وجوز الفاسقون على مقتضاه أن يكون القران قد اعتراه التغيير والتبديل، والزيادة، وتجويز أن يكون النبى صلى الله عليه وسلم وهو مبلغ الرسالة قد اعتراه خرف، وابتعاد عن مؤداه، وذلك باطل فما يؤدى إليه باطل بلا ريب. وثانيا: أن هذه الأخبار لم يسند فيها القول إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ولكن كلها مرسلات، فلا يلتفت إليها. وثالثا: أن الذين يقولون هذا القول يسندونه إلى تفسير قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ، ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ «1» فزعموا أنه ألقى فى أمنيته صلى الله تعالى عليه وسلم زيادة تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى، ثم نسخت تلك الزيادة التى ألقاها الشيطان فى أمنيته وأحكم الايات، وذلك من شأنه أن يشكك فى أصل القران الكريم، ويا بنى عليه المفترون قولهم أن فى القران الكريم زيادة ونقصا، وذلك قول قائله كافر، لأنه ينكر ما جاء به القران الكريم من أنه محفوظ إلى يوم القيامة تصديقا لقوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ، وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ «2» . وقد يقول قائل، وكيف نفسر قوله تعالي: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ، وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ، ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ «3» ... نقول إن التمنى هو ما يتعلق بما يتمناه الإنسان بمقتضى غريزته، فالأنبياء ليسوا معصومين بمجرد غريزتهم من التمني، ولكن الشيطان يجيء من جهة الأمانى، ويزين الأهواء ويحسنها، فينسخ الله

_ (1) سورة الحج: 52 (2) سورة الحجر: 9. (3) سورة الحجر: 52.

تعالى أى يزيله من قلب النبى عليه الصلاة والسلام ويحكم سبحانه وتعالى آياته الظاهرة والباطنة على النبوة والرسالة والحق، وبذلك تنزه قلوبهم. وقد يقال: وماذا نصنع فى الروايات التى قد رويت عن البخارى كما ذكر ابن الأثير؟ ونحن نقول أنها رواية أمر يستحيل على الله تعالى وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم الأمين، ومثل هذه الرواية ترد مهما يكن الراوى، أنقول أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم سحر، وزاد فى القران ما يكون شركا، والرواية مهما تكن رواية احاد، ولو طبقنا قاعدة الشافعى الذى يقرر فيها أن من ينكر حديث خبر الاحاد، أو خبر الخاصة لا يقال له تب أى لا يكفر، فكان المؤدى أن نكون بين أمرين أحدهما أن ننكره ولا نكفر، والثانى أن نقول ما يشكك فى الرسالة والقران الكريم فنكفر! إن الاحتياط لديننا، ولقران ربنا، وعصمة نبينا أن ننكر نسبة تلك الأخبار لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وصحتها، ونؤمن بالقران الكريم والنبى عليه الصلاة والسلام بل أن نؤمن بالله تعالى. وإننا ننتهى من هذا إلى أن نقرر أن سبب إشاعة إسلام أهل مكة المكرمة ليس هو تلك الرواية غير الصادقة التى تفتن الناس عن دينهم، وتشككهم فى القران الكريم والنبى صلى الله عليه وسلم. إنما لسبب مما استنبطناه من سياق التاريخ وارتباط وقائعه واقترانها وهو إشاعة إسلام أهل مكة المكرمة ليعود الذين فروا بدينهم، فينالهم المشركون بأيديهم وألسنتهم.

النبي صلي الله عليه وسلم يناضل ويصابر فى مكة المكرمة

النبي صلي الله عليه وسلم يناضل ويصابر فى مكة المكرمة 266- نعود إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لنرى جهاده بالمصابرة ولنرى ما تفعله قريش معه، ومع بنى هاشم الذين أبت مروءتهم أن يسلموا محمدا لقريش يؤذونه أو يقتلونه أو يحبسونه، وأبو طالب كبيرهم واقف كالطود يحمى محمدا صلى الله عليه وسلم، ويأبى أن يتركه، وخديجة فى البيت تواسيه، فيعود إليها مكدودا من قومه، ويخرج من عندها مجددا عزمه، وقد خلع وعثاء النضال ليجدد النضال، ويتقدم ثابت القدم قوى الإرادة، وقد تزود منها ومن عمه بزاد الإيناس بالتأييد: ومن الله تعالى بالنصرة. وقريش قد بالغت فى الإيذاء ولكنها تحس بأن الأرض تميد من تحتها، وقد ازداد عنادها وازدادت لجاجتها وعنفوانها كلما رأوا دعوة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم تجد مستجيبا، وخصوصا أن بعض الأقوياء ذوى الشكيمة قد دخلوا فى الدين الجديد، فقد دخل عمر فى السنة التى كانت فيها الهجرة إلى الحبشة. وهم فى هذه الشديدة التى وضعوا أنفسهم فيها عدوانا وظلما أرادوا أن يسكتوا محمدا عليه الصلاة والسلام عن طريق عمه الذى لا يزال على دينهم وهو شيخ البطحاء، ولهم عليه حق الرعاية، كما لابن أخيه عليه حق الحماية. لقاؤهم بأبى طالب: 287- دبروا أمرهم، وجمعوا ممن لهم مكانة فيهم وفدا ذهب إلى أبى طالب بعد أن رأوا أنه لا يجيبهم فرادى فأرادوا أن يذهبوا إليه جماعة، والرسول سائر فى طريقه، لا يعوقه عائق من أذى أو استهزاء أو سفاهة حمقاهم، فهو ماض فى الطريق الذى رسمه الله تعالى له يدعو بالتى هي أحسن، من غير أن ينكص على عقبيه، لذلك تركوه مليا فلم يجادلوه، وإن كان الأذى مستمرا؟ ذهب وفدهم إلى أبى طالب، فقال قائلهم: يا أبا طالب، إن ابن أخيك قد سب الهتنا، وعاب ديننا، وسفه وضلل أحلامنا، فإما أن تكفه عنا، وإما أن تخلى بيننا وبينه، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه، فنكفيكه. فقال لهم أبو طالب الكيس قولا رقيقا، وردهم ردا جميلا، فانصرفوا عنه. ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ماض على ما هو عليه، ويظهر دين الله تعالى من غير مواناة ولا تقصير، والمسلمون يزيدون، ولا يقلون، والأمر قد خرج إلى القبائل وإلى الحبشة.

ازداد غيظهم، واشتد الأمر عليهم بسبب حقدهم، وتضاغنوا فيما بينهم، وتذمروا، وتحاضوا على وجوب إيذائهم، ورأى أهل الروية منهم أن يذهبوا إلى أبى طالب مرة أخرى، ولكن بوجه أعنف، وبلسان أجف. اجتمعوا فقال قائلهم: «يا أبا طالب إن لك سنا ومنزلة وشرفا فينا، وإنا قد استأنيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر علي هذا من شتم ابائنا وتسفيه أحلامنا، وعيب الهتنا حتى تكفه عنا أو ننازله وإياك فى ذلك، حتى يهلك أحد الفريقين. فى هذه المرة كان التهديد لأبى طالب بإعلان عداوتهم، وقد أزالوا كل الحجز فى القول، ولم يراعوا سنا ولا شيخوخة، ولا شرف منزلة كما ذكروا فى الأولى، ولا شك أن تغير لهجة القول كان له أثر فى نفس أبى طالب، وأحس بضيق فى الأمر، وإن لم يتبرم من حماية حبيبه ابن أخيه محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، ولكنه أراد أن يعرض عليه ما أصابه من ضيق، ويشركه فى أمر قومه الذى تفاقم، فقال له: يابن أخى إن قومك قد جاؤنى، فقالوا كذا وكذا فأبق على وعلى نفسك، ولا تحملنى من الأمر مالا أطيق. لم تضعف عزيمة محمد صلى الله عليه وسلم المؤيد من الله تعالى والذى لا يرجو النصرة إلا منه، وإن كان يرغب فى أن يشعر بأنه فى عزة من أهله، تألم، لا خوفا من الأذى، ولكن لظنه تخلف عمه الحبيب عن نصرته، وهو فى ميدان الجهاد والمناضلة إذ ظن أنه خاذله ومسلمه، وعلم أنه ضعف عن نصرته. عندئذ قال مقالة أولى العزم من الرسل: «يا عم والله لو وضعوا الشمس فى يمينى والقمر فى يسارى على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله تعالى أو أهلك فيه ما تركته» ثم استعبر فبكى ثم قام، وما كان استعباره ضعفا، ولكن لأنه يرجو من عمه وحبيبه ألا يسلمه ولا يخذله. أدرك أبو طالب الكريم أنه أسرف على ابن أخيه فى ذكر ما كان من قول وفد قريش، وأنه كرثه بذلك. فلما ولى ناداه: أقبل يا ابن أخي، فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو طالب العظيم: «اذهب يا ابن أخى، فقل ما أحببت، فو الله لا أسلمك لشيء أبدا» . تواردت الأخبار على قريش، وعلموا أنه لا سبيل لأن يصلوا إلى محمد عليه الصلاة والسلام ليقتلوه أو يحبسوه أو يخرجوه وأبو طالب مانعه، ولكن حيلتهم لم تنته، والرغبة ولو اثمة لا تسكت عند الصدام، ففكروا، وانتهوا إلى أمر غريب، وإن لم يكن ظاهر الغرابة عند العرب فى جاهليتهم.

ذلك أن التبنى بكل ضروبه كان أمرا معروفا عند العرب، أخذوه من جيرانهم الرومان، فكان من الممكن تبادل الأبناء، ويمكن تبادل الإخوة، وأبناء الإخوة فى نظرهم. ذهبوا إلى أبى طالب يعرضون عليه أن يسلمهم ابن أخيه فى نظير أن يعطوه فتى من قريش يكون ابن أخيه بدل محمد عليه الصلاة والسلام، وكأن المحبة سلعة تقبل المبادلة، والانتقال من شخص ليحل محله شخص اخر. قال قائلهم لأبى طالب الجليل: يا أبا طالب، هذا عمارة بن الوليد، أنهد فتى فى قريش، وأجمله، فخذه، فلك عقله ونصره «1» ، واتخذه ولدا فهو لك، وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذى قد خالف دينك ودين ابائك، وفرق جماعة قومك وسفه أحلامنا، ونقتله، فإنما هو رجل برجل. لا شك أنها فكرة سخيفة يعطيهم ابن أخيه ليقتلوه، ويأخذ ولدهم ليحميه، وقد سارع إليهم الرجل العظيم ليبدى سخفها. قال لهم أبو طالب: والله لبئس ما تسوموننى، أتعطونى ابنكم أغذوه لكم. وأعطيكم ابن أخى لتقتلوه، هذا والله ما لا يكون أبدا. قال المطعم بن عدى من بني عبد مناف: والله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك، وجاهدوا على التخلص. فقال: أبو طالب للمطعم لائما أو عاتبا: يا مطعم، والله ما أنصفونى، ولكنك قد أجمعت خذلانى، ومظاهرة القوم على، فاصنع ما بدا لك. وإن القوم قد اشتدوا فى ذلك، وكما قال ابن كثير: حقب الأمر، وحميت الحرب، وتنابذ القوم، ونادى بعضهم بعضا «2» . 268- لقد صار أبو طالب فى أمر مرير، وشدة من قومه، وهو لا يريد أن يتخلى عن ابن أخيه مهما تكن الأحوال، ومهما تكن الشديدة، فشيخ البطحاء ابن عبد المطلب يتحمل كل شيء فى سبيل مروءته وهمته، وعزمته الهاشمية، ولقد أدنى ذلك مؤقتا أبا لهب إلى أخيه رحمة به وشفقة عليه، فغضب على قريش لأنها أحرجت شيخها، وجعلته من الأمر فى عسر، وخصوصا أنه أراد أن يجعل ابن أخته أبا سلمة فى جواره، كما أن محمدا فى حمايته، فقالوا: يا أبا طالب، أنت منعت ابن أخيك محمدا (عليه

_ (1) العقل دفع الدية أى يدفع عنك الدية، وتدفع عنه، وينصرك وتنصره. (2) البداية والنهاية لابن كثير ج 3 ص 48

المقاطعة

الصلاة والسلام) فمالك ولصاحبك (أى أبى سلمة) تمنعه، فقال: إنه استجار بى، وهو ابن أختى، وإن أنا لم أمنع ابن أختى لا أمنع ابن أخى. أخذت الحمية أبا لهب من طول المضايقة لأخيه فقال مهددا: يا معشر قريش، أكثرتم على هذا الشيخ، ما تزالون تتواثبون عليه فى جواره من بين قومه، والله لتنتهن أو لنقومن معه فى كل ما قام فيه، حتى يبلغ ما أراد. كان أبو لهب فى صفهم، وخشوا أن ينحاز إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم كما انحاز أخ له من قبل فدخل فى الإسلام وهو حمزة بسبب ما فعله أبو جهل مع محمد عليه الصلاة والسلام. ولذا سارعوا إلى إرضائه فقالوا: بل ننصرف عما تكره يا أبا عتبة. وكان لهم وليا وناصرا. بهذه الوقفة القوية طمع أبو طالب أن يكون معه فى نصرته لمحمد عليه الصلاة والسلام، لتكون الأسرة كلها فى حماية أفضلها وأكرمها، ولكن هذه الوثبة كانت ومضة برق لم تلبث أن انطفأت، أو كانت كقدر من الماء لا يكفى لانطفاء الحقد والغيظ، واستمر أبو لهب فى لهب، فقد استمر فى عداوته للنبى عليه الصلاة والسلام، وموالاته لأعدائه، يشترك فى فتنهم وإيذائهم، لا تحركه مروءة، ولا شفقة على ابن أخيه، ولا أخيه الشيخ. المقاطعة 269- برمت قريش بالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وبرمت ببنى هاشم الذين يحمونه، ويدافعونهم عن نفسه أن ينالوا منها، وخصوصا أبا طالب الذى ضاعت عنده الحيل والتهديدات، وهو مرتفع شامخ كالطود تنسال عنده التهديدات، ولا تقف عنده، لا يضعف ولا يهن، ولا يصيبه خور فى عزمته. ولما وصل بهم الأمر إلى هذا الحد، اعتزموا الشطط، وأن يركبوا مركبا صعبا، وهو قتل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ولا يبالون أبا طالب، وبنى هاشم معه. علم أبو طالب بما بيتوا وما دبروا فنادى بنى عبد مناف أن يناصروه فى منع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ولم يجبه من بنى عبد مناف إلا بنو المطلب الذين كانوا مع بنى هاشم جاهلية وإسلاما، وبنو هاشم مع أبى طالب إلا أبا لهب الذى أبى إلا أن يكون مع قريش فى غلوائها وفيما أرادت ابن أخيه، ولنترك الكلمة لما روى عن الزهرى:

الأرضة تمنع اسم الله تعالى من مواثيقهم:

«إن المشركين اشتدوا على المسلمين أشد ما كانوا، حتى بلغ المسلمين الجهد، واشتد عليهم البلاء، وجمعت قريش فى مكرها أن يقتلوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم علانية. فلما رأى أبو طالب جمع بنى المطلب وهاشم، وأمرهم أن يدخلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم شعبهم، وأن يمنعوه ممن أرادوا قتله.. فاجتمع على ذلك مسلمهم وكافرهم، فمنهم من فعله حمية، ومنهم من فعله إيمانا ويقينا. فلما عرفت قريش أن القوم قد منعوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأجمعوا على ذلك اجتمع المشركون من قريش، فأجمعوا ألا يجالسوهم، ولا يبايعوهم، ولا يدخلوا بيوتهم حتى يسلموا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.. وكتبوا فى مكرهم صحيفة، وعهودا ومواثيق، ألا يقبلوا من بنى هاشم صلحا أبدا، ولا يأخذهم بهم رأفة حتى يسلموه للقتل» . «لبث بنو هاشم فى شعبهم ثلاث سنين واشتد عليهم البلاء والجهد، وقطعوا عنهم الأسواق، فلا يتركوا لهم طعاما يقدم مكة المكرمة، ولا بيعا إلا بادروهم إليه فاشتروه، يريدون بذلك أن يدركوا سفك دم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم» . «وكان أبو طالب إذا أخذ الناس مضاجعهم- أمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فاضطجع على فراشه، حتى يرى ذلك من أراد به مكرا واغتيالا له» . «وكان أحيانا يأمر أحد بنيه أو إخوته أو بنى عمه، فاضجعوا على فراش رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأن يأتى بعض فرشهم فينام عليه» . وهكذا كان العم العظيم يحتاط للغيلة أن يصيبوا بها محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم فينيمه فى منامته، متعرضا للغيلة بدله وهو الشيخ الفانى. ويغير مكان الرسول من وقت لاخر، فيجعل مكانه بعض بنيه هو أو إخوته أو بنى عمه من بنى المطلب أو غيره، وبدون ذلك كان يفى للعصبية، ولكنها الشفقة والمحبة والرأفة التى ألقاها الله تعالى فى قلب أبى طالب العظيم. اشتد البلاء على المؤمنين، وبنى هاشم وبنى المطلب، حتى كان الأطفال يتضاغون من شدة الجوع، وقد كانت المقاطعة كما روى ابن إسحاق كاملة، فقد كانت تشمل المناكحة، لا ينكحونهم، ولا ينكحون منهم. الأرضة تمنع اسم الله تعالى من مواثيقهم: 270- مكث بنو هاشم وبنو المطلب وعلى رأسهم أبو طالب، والنبى عليه الصلاة والسلام معهم فى هذه القطيعة ثلاث سنين دأبا، وهم يرون صبيانهم يعضهم الجوع، ولكن الكبار لا يذهب بهم

الفزع، فيستجيروا لأنفسهم أو أن يسلموا محمدا صلى الله عليه وسلم ليقتلوه، فألقى الله تعالى بالصبر فى قلب المؤمن والكافر معا ولقد أظهر الله تعالى آياته فى أمرين: أولهما: أن الأرضة جاءت وأكلت كل كلمة فيها اسم الله تعالى أو صفاته التى عاهدوا الله تعالى عليه أن تكون القطيعة دائمة، وكأن الله تعالى ألهم الأرضة أن تعلمهم أن اسم الله تعالى لا يصح أن يكون فى وثيقة ظلم وفسق عن أمر ربهم، وقد أطلع الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم الصادق المصدق على ما فعلته الأرضة بإلهام من رب العالمين، تعالت قدرته، وعظمت منته. الأمر الثانى: أنه تشققت الرحمة من قلوب هؤلاء الذين تعاهدوا على الظلم والعدوان، كما تنفجر الأنهار من بعض الأحجار، فإنه على رأس السنين الثلاث التى مرت ببنى هاشم تلاوم رجال من بطون قريش، من بنى عبد مناف، وقصى، ورجال من قريش، قد ولدوا من نساء من بنى هاشم، رأوا أنهم قد قطعوا الرحم، واستخفوا بالحق، واجتمع أمرهم على نقض الصحيفة، والبراءة مما جاء فيها، وقيل أنها كانت معلقة بسقف البيت. بينا هذا التفكير قد سيطر على الملأ من قريش ذهب أبو طالب إليهم يخبرهم بأن الأرضة أخلت من صحيفتهم اسم الله، وأبقت فيها الظلم والفسق الذى دونوه، وتعاهدوا عليه. انطلق الرجل العظيم أبو طالب، ومعه العصبة من بنى عبد المطلب، فقال فى جمع حافل من قريش: قد حدثت أمور بينكم نذكرها لكم، فأتوا بصحيفتكم التى تعاهدتم عليها فعلّه أن يكون بيننا وبينكم صلح. فطمعوا أن يسلم بنو هاشم محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم، فأتوا بالصحيفة معجبين بها، لا يشكون أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سيدفع إليهم، فوضعوها بين أيديهم، وقال قائلهم: قد ان لكم أن تقبلوا وترجعوا إلى أمر يجمع قومكم، فإنما قطع بيننا وبينكم رجل واحد، جعلتموه خطرا لهلكة قومكم. فقال أبو طالب: إنما أتيتكم لأعطيكم أمرا لكم فيه نصف، إن ابن أخى أخبرنى، ولم يكذبنى أن الله بريء من هذه الصحيفة، ومحا كل اسم هو له فيها، وترك غدركم، وقضيتكم إيانا، وتظاهركم علينا بالظلم، فإن كان الحديث الذى قال ابن أخى كما قال، فأفيقوا، فو الله لا نسلمه أبدا، حتى يموت من عندنا اخرنا، وإن كان الذى قاله باطلا رفعناه إليكم، فقتلتموه أو استحييتم. قالوا: رضينا بالذى تقول. وكأنهم فهموا أن النتيجة أن يسلمهم لوثوقهم من صحيفتهم.

فتحوا الصحيفة فوجدوها كما قال الصادق المصدق، وسنبين بعض الصحيفة من البيان، ومن دعا إليه ولم يذعنوا للحق إذ جاءتهم بيناته، بل أصروا على الكفر والعناد، وقالوا مقالة الكفر، وقالوا إن هذا إلا سحر من صاحبكم، وارتكسوا، وعادوا بشر مما كانوا عليه من كفرهم والشدة على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فزادتهم الاية كفرا. فقال قائل للنفر من بنى عبد المطلب الذين كانوا فى صحبة أبى طالب: إن غيرنا أولى بالكذب والسحر، فكيف ترون، فإنا نعلم أن الذى اجتمعتم عليه من قطيعتنا أقرب إلى الجبت والسحر، ولولا أنكم اجتمعتم على السحر لم تفسد صحيفتكم، وهى فى أيديكم، طمس ما كان فيها من الحنث، وما كان من اسم الله، أفنحن السحرة أم أنتم؟ كانت كلمات أبى طالب ومن معه من أسرته ان لم تكن قد شقت قلوبهم لقبول الحق، فقد شقت صفوفهم التى كانت مجمعة بالباطل. فظهر النفر من بنى قصى وبنى عبد مناف، وغيرهما وكانوا قد تلاوموا من قبل على الصحيفة وأمرها، وفيهم من كانت الصحيفة عنده، وجاهروا بما فى نفوسهم وقالوا حاسمين قاطعين، غير مترددين، ولا ناكصين. قالوا فى حزم: نحن براء مما فى هذه الصحيفة. وقال أبو جهل الخبيث فى ذات نفسه، والضال فى فكره وعقله: وهذا أمر قضى بليل «1» . 271- كان النتيجة التى تستخلص من هذه القصة أن قريشا بلغت بهم لجاجة الكفر أن يحاولوا قتل محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وأن يندفعوا فى ذلك، لا ينظرون فيه إلى عاقبة من تصدى بنى هاشم لهم، للأخذ بثأره منهم، ولعله كان قد ابتدأ التفكير عندهم فى تفرق دمه فى القبائل، بحيث يضربونه ضربة رجل واحد، فلا يكون لبنى هاشم قبل بالثأر فيقبلوا وتتم الراحة لهم فى زعمهم، إذ يستأصلون الدعوة من جذورها، إذ يقتلون صاحبها، ومحمد صلى الله عليه وسلم يستقبل ذلك التدبير اللئيم استقبال من يستعين بالله، ولا يستعين بغيره. ولكن عمه العظيم يحمل العبء، ويتحمل الأذى، ويحاول وقاء محمد عليه الصلاة والسلام بكل الأسباب، حتى أنه ينيمه فى مضجعه متحملا ما وراء ذلك ويستعد لفدائه بنفسه، وهو لا يزال على دينهم. ولم يخرج إلى الدين الجديد، وإن كان يظهر أنه فى دخيلة نفسه كان يعتقد صحته وقد بدا ذلك فى بعض شعره.

_ (1) أخذ ملخص القصة من كتاب سيرة بن هشام، ج 1 ومن كتاب البداية والنهاية ج 3 ص 84، 85 وما فيها.

الرسول صلى الله عليه وسلم مستمر فى دعوته

وإنه يبدو من نهاية القصة أنه كان فى قريش من تألم من الأمر الذى نزل بإخوانهم، ولعله كان فيهم ميل لتصديق محمد عليه الصلاة والسلام، ولذلك دخل الأكثرون منهم من بعد فى الإسلام. وإن نهاية الخبر تدل على أن بعض قريش، وإن دخلوا فى الحلف طائعين كانوا لنتائجه كارهين، فلم يستطيعوا تحمل نتائج ما عقدوا عليه حلفهم بعد أن رأوه واقعا، وأنهم كانوا يرونه تهديدا، ولا يرونه أمرا صالحا للنفاذ، وقد عظم عليهم عندما رأوه نافذا. ولقد كان منهم من يرسل الطعام سرا، ومن يعلم ذلك من ذوى الصلة منهم لا يستنكره. يروى فى ذلك أن حكيم بن حزام بن خويلد، ابن أخى خديجة ذهب ومعه غلام يحمل قمحا يريد عمته خديجة بنت خويلد وهى عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى الشعب، فتعلق به أبو جهل، وقال: أتذهب إلى بنى هاشم، والله لا تذهب أنت وطعامك، حتى أفضحك بمكة. عندما قال أبو جهل ذلك تعرض له أبو البخترى بن هشام بن الحارث بن أسد وقال له: مالك وله؟ فقال: يحمل الطعام إلى بنى هاشم. فقال له أبو البخترى منكرا عليه فعله: طعام كان لعمته عنده بعثت به إليه أتمنعه؟ رجل يأتيها بطعامها، خل سبيل الرجل. أبى أبو جهل أن يخلى سبيل حكيم بن حزام وتلاعنا، ونال كل من صاحبه، ولم يكن لأبى جهل أن يعامل إلا بالضرب، فأخذ أبو البخترى لحى بعير، فضربه وشجه، ووطأه وطئا شديدا. وحمزة بن عبد المطلب يرى، وهم يكرهون أن يبلغ ذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وبنى هاشم فيشمتون بهم، وهكذا كانت الأطعمة تذهب إليهم. وكان من كتاب الصحيفة من لم يرض بتنفيذها، وكان يرجو إنهاءها، ولكن ذلك لم يمنع المشقة الشديدة التى لقيها بنو هاشم وبنو المطلب من قومهم، والرسول صلى الله عليه وسلم أشدهم مشقة واحتمالا. الرسول صلّى الله عليه وسلّم مستمر فى دعوته 272- إذا كانت المقاطعة قد ضيقت على الرسول عليه الصلاة والسلام وأسرته أسباب العيش السهل، وضيقت عليهم السبل فى الرزق، فإنها لم تمنعه من دعوته، فهو قائم بالليل، والإقامة فى ضيق الرزق، ولكنه ليس برما ولا متململا، مادام يستجيب لأمر الله تعالى فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ فأعرض عنهم واستمر فى دعايته، والله تعالى يمده بالعون والتأييد بنصره، فهو فى أنس من ربه، وإن كان فى وحشة من قومه، ولكن شعاره دائما: «اللهم اغفر لقومى، فإنهم لا يعلمون» «وإنى أرجو أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله تعالى» . والجدل مستمر بينه وبين احادهم يدعوهم إلى الحق، فيصدون بالباطل.

ولقد وصل التهافت بأبى جهل أن يكفر بملته كلها، فيسب الله تعالى، وفى ديانتهم أن الله هو خالق السموات والأرض وإن كانوا يشركون الأنداد معه، لقد قالوا للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم «لتتركن سب الهتنا أو لنسبن إلهك» ولأن أبا جهل ومن على شاكلته لا دين لهم إلا العصبية الجاهلية، ولا يؤمنون بشيء لا يتوقع منه أن يسب الله تعالى ولكنه سبه فنزل النهى عن سب الأحجار والأوثان، وتكون الدعوة إلى التوحيد المجرد، وبطلان عبادة الأوثان، فقال تعالى: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ. ولقد كان منهم من يحسب أنه يحاكى القران الكريم، فيأتى بقصص من أخبار الفرس وحروبهم يسلى الناس عن القران الكريم ويبعدهم، ثم يقول للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم: يا قوم والله ما محمد بأحسن حديثا منى، وما حديثه إلا أساطير الأولين، أكتبها، كما اكتتبها، فيحكى عنهم رب العالمين قولهم، ويرده عليهم بالقران الكريم يتلي، فيقول الله تعالى: وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ، اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا. قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً. وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً «1» . هم يكذبون القران الكريم، ويعبثون بحقائقه، وهم الذين يفرون من سماعه، فإذا تهكموا عليه انتظروا ما يقال فى تهكمهم فيهجم القران الكريم على مسامعهم، ولا يستطيعون منه فرارا، ولا ينفكون عن سماعه. ومنهم من كان يحسب أنه يناقض معانى القران الكريم بحقائق من الأديان السابقة أو بما حسبه كذلك. ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يجلس بينهم، ويتلقى مجادلتهم، ويدعوهم بالتى هى أحسن، غير مدخر بابا من أبواب الإقناع بالحق إلا سلكه، يروى ابن إسحاق فى السيرة ما يأتى: جلس رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فيما بلغنا يوما مع الوليد بن المغيرة فى المسجد، فجاء النضر بن الحارث، حتى جلس معهم، وفى المجلس غير واحد من رجال قريش، فتكلم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فعرض له النضر بن الحارث، فكلمه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حتى أفحمه، ثم تلا قوله تعالى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ. لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ. لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ «2» .

_ (1) سورة الفرقان: 5- 7. (2) سورة الأنبياء: 98- 100.

ثم قام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وأقبل عبد الله بن الزبعرى السهمى حتى جلس، فقال الوليد بن المغيرة: والله ما قام النضر بن الحارث وما قعد، وقد زعم محمد أنا وما نعبد من الهتنا هذه حصب جهنم. فقال عبد الله بن الزبعرى؛ أما والله لو وجدته فخصمته، فسلوا محمدا أكل من نعبد من دون الله حصب جهنم مع من عبده، فنحن نعبد الملائكة، واليهود تعبد عزيرا، والنصارى تعبد عيسى، فعجب الوليد ومن كان معه في المجلس من قول ابن الزبعرى، ورأوا أنه قد احتج وخصم، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال النبى صلى الله عليه وسلم الحكيم: كل من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده فى النار.. فنزل قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى، أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ. لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها، وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ «1» أى عيسى وعزير ومن عبد الأحبار والرهبان الذين مضوا على طاعة الله تعالى. ونزل فيما يذكرون أنهم يعبدون الملائكة، وأنها بنات الله تعالى: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ. لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ. يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ. وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ «2» . وقال تعالى فى إعجاب المشركين بقول ابن الزبعري: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا، إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ. وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ، ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ. 273- إن هذه الأخبار التى كان فى القران الكريم رد عليها، تدل على أمور ثلاثة: أولها: أن هؤلاء كانوا يجادلون النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وأنهم كانوا يستعينون بما عند غيرهم من علوم، كانوا يذهبون إلى اليهود يستعينون بهم يسألونهم أن يدلوا بشيء يحتجون به على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد لقنوهم الأسئلة عن أهل الكهف وعن الروح، وعن ذى القرنين، ونزل القران الكريم بما فيه إشباع النفوس طالبة الحق المريدة له، ولكنهم لم يؤمنوا، بل أصروا إصرارا، وأنغضوا رؤسهم علوا واستكبارا. وها هم أولاء الان يدرسون أخبارا من الديانات، مع أنهم أميون، لم يكن لهم كتاب يقرؤنه ولا علم دونوه، ومع ذلك حاولوا أن يعرفوا شيئا مما عند اليهود والنصارى، لا ليؤمنوا به، أو ليستعينوا به لمعرفة الحق والوصول إليه، بل ليجادلوا ويختصموا النبى عليه الصلاة والسلام، ولذلك كشف الله تعالى حالهم. يقول

_ (1) سورة الأنبياء: 101، 102. (2) سورة الأنبياء: 26- 29.

تعالت كلماته مبينا أنهم لا يريدون إيمانا بل يريدون إعناتا، فقال تعالي: وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ، ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا، بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ أى يريدون أن يلتمسوا الحجة من أى ناحية. ثانيها: أنهم كانوا يعتقدون فى ذات أنفسهم أن محمدا صلى الله عليه وسلم على الحق، وأن القران الكريم هو الذى لا يحاكى، ولكنهم يمارون فى الحق بعد ظهوره، ولذلك ما كانوا يسكتون، عند إفحامهم، أو إفحام بعضهم بل إنهم إذا أفحموا بحثوا عما هو أشد لجاجة، وأقوى محاجة فى الظاهر، ولذلك لما أفحم النضر بن الحارث بين أيديهم لم يسلموا بالحق، وقد بدت بيناته، بل قالوا معاندين: وما قام وما قعد. حتى جاء ابن الزبعرى، فأتى بما يظنه مفحما لمحمد عليه الصلاة والسلام، بل كان سبيلا لمعرفة الحق، إن أرادوا رشادا، ولكن ما أرادوه. ثالثها: أنه فى أثناء الحصار والمقاطعة والقطيعة، ما ونى محمد عليه الصلاة والسلام عن دعوته حتى يئسوا هم، ولم ييأس هو ومن معه من المؤمنين الأشداء الأقوياء، ولو كانوا المعذبين المضطهدين. وإنه فى أثناء ذلك ما ونى، وما ضعف ولا استكان، ولا وهنت نفسه. وإن ابن إسحاق قد أتى بأخبار كثيرة عن النبى عليه الصلاة والسلام مع قومه، وقد أفرغوا من الأذى كل ما فى جعبتهم من سهام مريشة، ممزقة جارحة، ولقد قال ابن كثير فى تاريخه بعد ذكر أخبار المجادلة: كل هذه القصص ذكرها ابن إسحاق معترضا بها بين تعاقد قريش على بنى هاشم، وبنى المطلب، وكتابتهم عليهم الصحيفة الظالمة، وحصرهم إياهم فى الشعب، وبين نقض الصحيفة، وما كان من أمرها وهى أمور مناسبة لهذا الوقت، ولهذا قال الشافعى رحمه الله تعالى: «من أراد المغازى فهو عيال على ابن إسحاق» . إذن، فالنبى عليه الصلاة والسلام، مواصل دعوته، صادع بأمر ربه لا ينى ولا يقصر، فما نهنهت من عزمته المقاطعة، ولا إرادة الجوع والعرى، بل استمر، وهو يقول فى قوة وعزم: «أنا النذير العريان» . واذا كانت قريش قد بلغت أقصى الإيذاء، وانتقلت من الإيذاء الأحادى إلى الإيذاء الجماعى، ومن إيذاء المؤمنين واحدهم، إلى إيذائهم مع من يوالونهم من أقارب، وأولياء ونصراء، إذا كانت قد بلغت ذلك، فمحمد عليه الصلاة والسلام لم يعبأ، لأنه مؤيد من رب العالمين.

سعى فى نقض الصحيفة

سعى فى نقض الصحيفة 274- أقصى درجات الشدة قد يفضى إلى نوع من الشفقة، فإن المظلوم الصابر الداعى إلى الحق الذى لا يوجد سبب لإنزال الظلم الصارخ به قد يفتح ينابيع من الشفقة، وقد تنفتح هذه الينابيع من نفس الظالم أو من باشر الظلم. لقد ظلمات قريش أبناء عمومتها من بنى هاشم وبنى المطلب الذين ارتضوا أن يقاسموا بنى عمومتهم من ذرية هاشم ضراءهم، لأنه كان ينالهم شرفهم، فألزموا أنفسهم بمقاسمتهم الضر، كما انتفعوا من شرف هذه العمومة. وإننا لا نفرض أن قريشا كلها قد أجمعت على القطيعة من مداخل شعورها، فما انقطعت كل المودات، ومازالت كل الصلات، وإذا كان قد دعا داع فى وقت المباغضة، والمخالفة والحفاظ المخطيء على ما كان عليه الاباء، فاستجابوا أو جلهم تحت تأثير الحمية الوثنية حمية الجاهلية، فليس معنى ذلك أنهم صغت قلوبهم جميعا إلى الداعى الأثيم، بل ربما أجاب من أجاب بظاهر من القول، أو تحت تأثير فورة قد تتبدد، ويبقى الصافى بعدها، أو فى حال نسيان لأصل المودة الموصولة، والمحبة الرابطة، وإن اختلفت النحلة، وتباعد الاعتقاد، فالصلات تقرب البعيد، وتمنع الجفوة المستمرة. وإن تلك القطيعة فطرت قلوبا مشفقة نحو الإسلام، وأوضحت ظلم الباطل لأهل الحق، وأنهم إذا أعياهم البرهان، بالغوا فى الإعنات، وإن الناس فى البلاد العربية إذ يتسامعون بهذه القطيعة سيتعرفون سببها، ويتذاكرون أمرها، ويحكمون بالشطط على مرتكبيها، فتشيع حقيقة الإسلام ويفشو بين الناس، والنبى عليه الصلاة والسلام لا ينى عن بيان، وتلاوة القران الكريم المشرق بنوره وحججه، وشرف نسبته إلى الله تعالى الذى يخاطب به الخليقة وينادى به الفطرة المستقيمة. لذلك لابد من نقض الصحيفة، لأنها لم تؤد إلى غرض مقصود، ولو كان مثل غرض أبى جهل، ولم تمنع الدعوة من أن تذيع بين العرب الأدنين منهم والبعيدين عنهم، فكلما كانت محاولة كتم الدعوة، كان بزوغها وظهورها، وانبثاق معينها، وإشراق نورها. 275- أشرنا إلى أنه يبدو من حقائق الأمور، ودخائل النفوس، وبعض مظاهرها أنه لم تكن الموافقة على القطيعة الجماعية كاملة، وإذا كانت بظاهر من العمل، فالقلوب لا تؤيدها، ولا تعاضدها. وقد قصصنا عليك أيها القارئ الكريم قصة حكيم بن حزام الذى كان يذهب بالبر إلى عمته خديجة وزوجها الطاهر ومن معه من بنى هاشم، واعتراض أبى جهل عليه، وتصدى أبى البخترى لأبى جهل يلومه على أن منع حكيما من أن يوصل القمح لعمته، فتلاحيا، وأخذ أبو البخترى لحى بعير وأعمله فى رأس أبى جهل حتى شجه.

ويظهر أنه كان يقع ذلك من القرشيين، انعطافا على المظلومين، وإكراما للقرابة، ويقول فى ذلك ابن إسحاق: «ولم يبل أحد أحسن من بلاء هشام بن عمرو بن الحارث ... وكان ذا شرف فى قومه، فكان فيما بلغنى يأتى بالبعير، وبنو هاشم وبنو المطلب فى الشعب- ليلا قد أوقره طعاما، حتى إذا بلغ فم الشعب خلع خطامه من رأسه، ثم ضربه على جنبيه فدخل الشعب، ثم يأتى به قد أوقره، فيفعل مثل ذلك» . وهكذا يتكرر منه العمل، ويتكرر منه التزويد، وهذا لا يدل على خيانة عهد، فليس للاثمين عهد يراعى، ولكنه كان استجابة لصلة القرابة، وإحساسا بظلم تلك الفعلة التى فعلها قومه. وإذا كان لهشام هذا ذلك الشرف الذى كان يعاون به المحاصرين من قومه، فإنه صاحب الفضل الأول فى ترتيب نقض الصحيفة، من جانب المشركين، وقد ذكرنا من قبل كيف أخبر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بأن الأرضة أكلت ما فيه اسم الله وعهده، وأبقت لهم إثمهم البغيض، وكيف انتهت بنقضها، ولكن الان نبين كيف ابتدأ الانتقاص فى جموعهم. تولى هذا العمل ابتداء هشام بن عمرو بن الحارث، ولنذكر ترتيبه الحكيم، كما جاء فى البداية والنهاية. مشى هشام إلى زهير بن أمية بن المغيرة، وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب، فقال له: أقد رضيت أن تأكل الطعام، وتلبس الثياب، وتنكح النساء، وأخوالك حيث علمت لا يبتاعون، ولا يبتاع منهم، ولا ينكحون ولا ينكح إليهم، أما إنى أحلف بالله لو كانوا أخوال أبى الحكم بن هشام (أى أبى جهل) ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليه منهم، ما أجابك إليه أبدا. قال زهير: ويحك يا هشام، فماذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد، والله لو كان معى رجل اخر لقمت فى نقضها. قال هشام: لقد وجدت رجلا. قال من هو؟ قال: أنا، قال هشام: ابغنا ثالثا. ذهب هشام الكريم إلى المطعم بن عدى، فقال: يا مطعم أقد رضيت أن يهلك بطنان من بنى عبد مناف، وأنت شاهد على ذلك موافق لقريش فيه، أما والله لئن أمكنتموهم من هذا لتجدنهم إليها منكم سراعا. قال: ويحك فماذا أصنع إنما أنا رجل واحد. قال قد وجدت ثانيا. قال فمن هو؟ قال أنا، قال ابغنا ثالثا. قال قد فعلت. قال من هو؟ قال زهير بن أبى أمية، قال: أبغنا رابعا. فذهب هشام إلى أبى البخترى (صاحب اللحى التى ضرب بها أبا جهل) ابن هشام، فقال نحو ما قال للمطعم بن عدى، فقال

وهل تجد أحدا يعين على هذا؟ قال: نعم. قال: من هو؟ قال زهير بن أبى أمية، والمطعم بن عدى وأنا معك. قال: ابغنا خامسا. ذهب هشام إلى زمعة بن الأسود. فكلمه وذكر له قرابتهم وحقهم. فقال له: وهل على هذا الأمر الذى تدعو إليه من أحد. قال: نعم. اجتمع أولئك الخمسة الكرام، واتعدوا بأعلى مكة. وتعاقدوا على الدعوة لنقض الصحيفة، ووقف زهير، فكان أول المتكلمين كما كان أول الداعين. طاف بالبيت سبعا ثم قال وقد أقبل على الناس: يا أهل مكة أنأكل الطعام ونلبس الثياب، وبنو هاشم هلكى لا يبتاعون ولا يبتاع منهم، والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة. قال أبو جهل: والله لا تشق. قال زمعة بن الأسود: أنت والله أكذب، ما رضينا كتابتها، حين كتبت. قال أبو البخترى: صدق زمعة ما نرضى ما كتب فيها ولا نقربه. قال المطعم بن عدى: صدقتما وكذب من قال غير ذلك، نبرأ إلى الله منها، ومما كتب فيها. قال أبو جهل: هذا أمر قد قضى بليل تشوور فيه بغير هذا المكان. 276- من هذا الكلام يستفاد أن كبار الذين لا ضغن عندهم على بنى هاشم، وإن لم يذعنوا لدعوة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لم يكونوا راضين بهذه القطيعة التى لم يكن لها جدوى إلا إثارة العطف على محمد عليه الصلاة والسلام وعشيرته ودعوته وإنما كانوا مورطين. ولقد جرت هذه المناقشة وأبو طالب العظيم مستمع وجالس فى ناحية من المسجد، كأن القول لا يهمه، وكأنه المعنى بالأذى.. هو وعشير من أمثال اللئيم أبى جهل، والمعنى بالمودة من كرام قومه. ولكنه عندما وجد القوم قد اعتزم خيارهم الأمر، وأرادوا قطعها، قال لهم مقالة الحق التى أخبره بها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. يا معشر قريش إن ابن أخى قد أخبرنى بأن الأرضة أكلت الظلم والقطيعة والبهتان، ولم تدع فيها اسما لله إلا أثبتته فهلم إلى صحيفتكم، فإن كانت كما قال، فانتهوا عن قطيعتنا، وانزلوا عندها، وإن كان كاذبا دفعت إليكم ابن أخى. عندئذ نقضت قريش الصحيفة رغم أنف أبى جهل وأشباهه.

نقض الصحيفة فعلا

نقض الصحيفة فعلا 277- نقضت الصحيفة المشئومة، ولا شك أنه فى وسط الجاهلية العمياء وجد بصر رجح داعى المروءة، وصلة الرحم، وأكثرهم كانوا ذوى نسب أو صهر بنى هاشم أو قرب نسب من البطون، أو سبب الأنكحة، ومنهم من حركتهم المروءة والنخوة، واحترام الأرومة، وترجيح الشرف مع اختلاف الدين على الضعف بسببه. وقاوموا نذلة أبى جهل، ودقوا أنفه، وقال قائلهم: لو كان فيهم ذو رحم بأبى جهل ما ارتضى تلك القطيعة. وقد قدر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لذوى المروات مروءتهم، وأكثرهم دخل فى الإسلام وحسن إسلامه، وكان خيرا فى جاهليته وخيرا فى إسلامه فاجتمعت له الحسنيان، ونال الشرفين شرف الهمة والمروءة وشرف الإيمان. ومنهم من لم يدخل فى الإسلام، ولكن محمدا عليه الصلاة والسلام عرف له مروءته، وقدرها له حق قدرها. ومن هؤلاء أبو البخترى فهو الذى ضرب أبا جهل بلحى البعير ووطأه وطئا شديدا عندما منع حكيم ابن حزام من توصيل القمح لخديجة وزوجها خاصة وبنى هاشم عامة. وأبو البخترى هذا كان أحد الخمسة الذين نادوا حول الكعبة الشريفة بوجوب خرق الصحيفة ونقض ما فيها، وأصر على ذلك إصرارا جعل أبا جهل وأشباهه يخرجون مذمومين مدحورين. عرف النبى صلى الله تعالى عليه وسلم تلك السابقة المكرمة، ومحمد عليه الصلاة والسلام لا ينسى السابقات المكرمات، واعتزم أن يجزيه على موقفه الجزاء الموفور، فالوفاء خلق محمد عليه الصلاة والسلام، وخلق الإسلام. ولقد كان يتمنى عليه الصلاة والسلام أن يسلم، ليكون كإخوانه الذين أسلموا، ونالوا الحسنيين ولكنه لم يسلم، بل استمر على شركه، وبلغه عليه الصلاة والسلام أنه خرج مقاتلا فى صفوف المشركين فى غزوة بدر الكبرى، فأوصى المسلمين ألا يقتله أحد منهم إذا لقيه وتمكن منه. فلقيه أحد المجاهدين ومعه صاحب له من المشركين، فذكر له وصية النبى عليه الصلاة والسلام، فدفعته مروءته أيضا إلى ألا ينفرد بالنجاة، ويقتل صاحبه، فقال إما نقتل معا، وإما أن ننجو معا، فقتلهما المجاهد معا، وليته لم يفعل.

انطلاق الدعوة الاسلامية:

إنى أحسب أنه خالف وصية النبى صلى الله عليه وسلم، فهو أمر ألا يتعرض له وألا يقتله وما كان ثمة من مانع من أن ينجيهما، بل إنى أحسب أنه كان من المستحسن أن ينجيهما؛ لأن الإسلام ينهى عن القتل إلا للضرورة وقد كانت مندوجة، ونحسب أنه لو عاش لكان من المؤمنين، فخيار قريش فى الجاهلية خيارهم فى الإسلام إن آمنوا، وإن فى نفسى حسكة تشك قلبى إذا تذكرت أن أبا البخترى قتلته السيوف الإسلامية بغير إرادة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. انطلاق الدعوة الاسلامية: 278- كانت تلك القطيعة التى أحدثتها النفس الوثنية الحانقة سببا فى ذيوع الإسلام، وأمر دعوة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم. فقد رأى العرب مقاطعة قريش لذؤابتها من بنى هاشم، وهم يجيئون إلى مكة المكرمة حاجين ومعتمرين ومتجرين يغشون الأسواق ويجدون سادة العرب ممنوعين من غشيانها، والدعوة إلى مقاطعتهم قائمة على قدم وساق، فلابد أن يسألوا لم كان هذا، وأن يتعرفوا دعوة الحق، وما ينادى به محمد عليه الصلاة والسلام، فتصل إلى أسماعهم، فمنهم من يؤمن، ومنهم من يستمر فى ضلاله. ولذلك كانت هذه المقاطعة سببا فى أن تسامع العرب بالإسلام ودعوته، وأن تصل الدعوة المحمدية إلى القبائل فى أماكنهم، فمن اهتدى فقد اهتدى لنفسه، ودعا غيره بالهداية، ومن لم يؤمن تحدث مع غيره بما كفر به، فتكون الدعوة قد علم بها من ارتضاها، ومن لم يرتضها، لقد حملها جميعهم، ورب حامل فقه لا فقه له، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه. جاء الناس إلى مكة المكرمة يستمعون إلى النبى صلى الله عليه وسلم، ممن صفت قلوبهم للإيمان، وقريش لهم بالمرصاد يحاولون أن يصدوهم عن سبيل الله تعالى، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا. وأولئك الذين وضع الله تعالى فى قلوبهم الميل إلى الإسلام يسيرون إلى الحق لا يعوقهم عائق، ولا يردهم راد، ولنذكر لك قصة رجل حاول أن يدخل فى الإسلام بناء على ما سمع فى القبائل من أخبار محمد عليه الصلاة والسلام ودعوته إلى الواحدانية، وما معه من كتاب أوحى به يتلوه عليهم، ويرونه عجبا لم يكونوا قد سمعوا مثله، ولا قريبا منه، وقريش تترصد الرجل وأمثاله الذين يجيئون إلى الرسول يستمعون إليه، وتحاول تنفيرهم منه، فلا ينفرون، بل يزيدون رغبة وإمعانا فى الطلب. وهذا الرجل الطفيل بن عمرو الدوسى، وكان سيدا مطاعا شريفا فى قبيلة دوس، وكان قد قدم مكة المكرمة، فاجتمع به كبراء المشركين من قريش، وحذروه من النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ونهوه أن يجتمع به ويستمع إليه.

وما زالوا به حتى اقتنع بألا يستمع، وحشا أذنه قطنا لكيلا يسمع، ولكنه غدا إلى الكعبة الشريفة، فرأى على البغتة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وحاول لما أوصاه رجال قريش ألا يسمع، ولكنه بما وهب الله تعالى رسوله الأمين من طيبة ظاهرة تجذب إليه القلوب الصافية أبى إلا أن يسمع بعض ما يقرأ به عليه الصلاة والسلام، ولنترك الكلمة للرجل ليخبر عن نفسه، فالقول قوله فى شأنها، والإخبار عنها، قال رضى الله عنه: قلت فى نفسى، واثكل أمى، والله إنى لرجل لبيب شاعر، ما يخفى على الحسن من القبيح، فما يمنعنى أن أسمع من هذا الرجل ما يقول، فإن كان الذى يأتى به حسنا قبلته، وإن كان قبيحا تركته، فمكثت حتى انصرف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى بيته، فدخلت عليه، فقلت: يا محمد (صلى الله عليه وسلم) إن قومك قالوا: لى كذا وكذا. فو الله ما برحوا يخوفوننى أمرك حتى سدوا أذنى بكرسف (قطن) لئلا أسمع قولك، ثم أبى الله تعالى إلا أن يسمعنى قولا حسنا، فاعرض على أمرك، فعرض علىّ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الاسلام، وتلا علىّ القران الكريم، فلا والله ما سمعت قولا أحسن منه، ولا أمرا أعدل، فأسلمت وشهدت شهادة الحق. وكان الطفيل هذا رجلا مسموع الكلمة فى قومه شريفا بينهم لم يعرف بقول الزور ولا الباطل فدعاهم إلى الإسلام، فأسلموا طائعين، وكانت دوس على الإسلام إلى أن جاء عصر الجهاد بالسيف، فجاهدت مع المجاهدين وحاربت المشركين فى عصر النبى صلى الله عليه وسلم، وحاربت المرتدين من بعده، وكان لها قدم ثابتة فى الإسلام. ولم يجد منع قريش، فالنور لا يقع فى قبضة أحد، بل إنه يسرى شعاعا مضيئا هاديا مهما تكن الظلمات المتكاثفة، هذا الرجل الأول الذى جعلناه مثلا لشيوع أمر الرسالة المحمدية بعد القطيعة وفى أثنائها، فكان كل ما عمل ضد محمد عليه الصلاة والسلام، وما قام به يكون فى نتيجته خيرا لدعوة التوحيد، ونداء الحق البين. من هذه القصة وأشباهها، وإنها لكثيرة نجد أن الإسلام أخذ يسرى إلى الجزيرة العربية قاصيها ودانيها، والنبى عليه الصلاة والسلام قطب دعوة التوحيد مقيم فى مكة المكرمة مثوى العرب أجمعين، لا يسكت ولا ينى، بل يستمر فى دعوة الحق، يستمع إليه الضعفاء وبعض الأقوياء بينهم بصلواته يجهر بها ولا يخافت، والمشركون يستهزئون ظاهرا، وهم مأخوذون بها باطنا، بقدر حملتها على الشرك الذى يستمسكون به ويلاحون عنه بظاهر من عصبية، وحقدا وحسدا، لا إيمانا ويقينا، ولكنهم قوم فى ذات أنفسهم مترددون، والمترددون يثير حنقهم وغضبهم المستيقنون المؤمنون، وكذلك كانت المعركة بين حق لائح مبين، وباطل متردد فى ذاته.

عام الحزن

عام الحزن 279- هذه تسمية رسول الله صلى الله عليه وسلم للعام الذى توفى فيه شيخ البطحاء أبو طالب ابن عبد المطلب، وأم المؤمنين خديجة رضى الله تعالى عنها، وقد كانت أبر زوج لأكرم زوج، فسمى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك العام عام الحزن، لأنه فقد فيه حبيبين، ولم ير بعد موتهما من يعوضه عنهما من ذوى قرابته وصهره. فقد كانا يواسيانه، ويشدان أزره، ويمنعان عنه الأذى أن يؤثر فى نفسه، ويرى فيهما المثابة إلى الاطمئنان والسكن، فأبو طالب ينصره، ويذود عنه، ويتحمل الأذى فى سبيل مرضاته، ويعمل على أن تقر عينه دائما، وقريش تضايق العم الشيخ فيتحمل ضيق قومه على أن يكون منه ما يجعل ابن أخيه فى ضيق، ويتحمل الملامة هو على أن توجه ملامة لابن أخيه، وأشهد ويشهد كل قارئ لسيرة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم أنه ما وجد أب أحنى على ولده من أبى طالب على ابن أخيه، وهو يخالفه فيما يدعو إليه، ولا يستجيب لما ينادى به، كما يقولون خشية سبة قريش، وإن ذلك الأمر يعلمه الله تعالى، وهو فى جملته يتعلق بالدعوة المحمدية المواحدة، وتخفيف الأذى عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ومن امن معه. ونحسب أن أبا طالب لو امن بالدعوة المحمدية كما امن حمزة، وعلى وعثمان، وغيرهم من بنى عبد مناف ما استطاع أن يذود عن محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه، كما ذاد عنهم، ولا أن يصد قريشا كما صدهم، إذ أنهم يدخلونه فى ضمن من يناوئون، وحينئذ يفقد سلطانه الكامل على البطحاء إذ ينكرون سيادته، فلا يستطيع أن يكفكف حدتهم، ولا أن يكون الدرع الواقية، كما كان الأمر فى ذلك وهو على دينهم ظاهرا، أما الباطن فعلمه عند الله تعالى. ولو أن لنا أن نأخذ بالقرائن أو بالأمارات على ما يستكن فى القلوب، لقلنا إنه مؤمن، وليس بكافر، ولكن يعارض هذه الظواهر أنه دعى إلى الإيمان بالقول فلم يستجب، ومهما يكن فهو فى الحالين عظيم حتى فى شركه. هذه إشارات إلى ما كان من أبى طالب فى حمايته للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، حتى أنه عليه الصلاة والسلام ليقول: إن قريشا ما نالت منى فى حياة أبى طالب ما نالته من بعده. وأما خديجة أم المؤمنين، والزوجة الحانية كالأم أو أشد، فقد كانت السكن إذا ادلهمت الأمور، ولقى من مناوأة قومه أشد ما يلاقى داع إلى الحق، يشتد الكفر وتشتد العداوة، ثم يعود إلى بيته مجهودا

أبو طالب، وإيمانه

مشنوا، فيلاقى الزوج البرة، ولسان حالها يقول له، كما قالت أولا: «والله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم وتحمل الكل، وتعين على نوائب الدهر، فيطمئن فؤاده، وتسكن جوارحه، وتقر نفسه الجائشة» . وإن عاطفة الزوج المخلصة تلهمها بأطيب القول وأحكمه فى أشد الأوقات التى تتضافر فيها أسباب الضيق النفسى والقلق، وهى بحق التى تسمى السكن، وكما قال الله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً «1» . هذا العام كان قبل الهجرة بثلاث سنين، كما يحقق الرواة، وهو قبل فرض الصلوات الخمس، كما يقول المحققون، وهو بناء على ذلك قبل الإسراء والمعراج، ولذلك ذكرنا عام الحزن قبلهما، للترتيب الزمنى أولا- ولأن الإسراء والمعراج، كانا لمواساة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وأنسه بربه، ولأنهما فيما يظهر لنا فيهما إذهاب للوحشة التى نالت قلب الرسول عليه الصلاة والسلام الكريم بفقد حبيبين. فبين الله تعالى بهذا الإسراء أن الله هو الحبيب الأعظم، وهو الحامي واحده ولا حماية لأحد تقارب أو تدانى حمايته. وإن الأكثرين ممن كتبوا فى السيرة النبوية يقدسون الكلام فى الإسراء والمعراج، لأن فيهما تكميلا لبيان الفرائض الإسلامية التى تتعلق بالتوحيد وهى الصلاة. ويقول فى ذلك ابن كثير فى تاريخه الكبير: «قال البيهقى، وزعم الواقدى أن خديجة وأبا طالب ماتا قبل الهجرة بثلاث سنين، عام خرجوا من الشعب، وأن خديجة توفيت قبل أبى طالب بخمس وثلاثين ليلة. وروى عن الزهرى أنه قال: توفيت خديجة بمكة المكرمة قبل خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة وقيل قبل أن تفرض الصلاة ... قلت: مرادهم قبل أن تفرض الصلوات الخمس ليلة الإسراء، وكان الأنسب أن نذكر وفاة أبى طالب وخديجة قبل الإسراء كما ذكر البيهقى وغير واحد. أبو طالب، وإيمانه 280- مما لا شك فيه، ولا يمارى فيه مؤمن أن أبا طالب كان له موقف فى الدعوة الإسلامية، وهو موقف من يحمى الحق ويدافع عنه، ويتحمل الضيق فى سبيله، وقد رضى أن يعيش ممنوعا، هو وبنو هاشم وبنو المطلب، مضيقا عليهم فى الرزق، وكل أسباب الحياة، وذلك عندما قاطعه قومه هو وبنى هاشم، ومن انضم إليهم من بنى عبد مناف، واستوى فى ذلك مؤمنهم وكافرهم، وعلى رأسهم كبيرهم أبو طالب، وقد كان المحرك لهم.

_ (1) سورة الروم: 21.

وكما كان منه هذا الموقف المشرف الرافع للحق لم يدخل فى دين الله، أو على الأقل لم يدخل فى دين الله ظاهرا، واستمر على ذلك، لا يدخل فيما يدعو إليه محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يمتنع عن الدفاع. والقارئ لسيرته يعتقد أن ذلك لمجرد العصبية الجاهلية، ولفرط محبته لمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وأن المحبة كانت هى الدافع لا للعصبية واحدها. فما كان ليرضى أن يغضب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ولا أن يكون منه مالا تقر به عين حبيبه وابن أخيه محمد صلى الله تعالى عليه وسلم. وهنا يرد سؤال، وهو: أمات أبو طالب بعد هذا البلاء فى حماية الدعوة الإسلامية على الشرك، ولم يخالط الإيمان بشاشة قلبه؟ يقول إخواننا الشيعة إنه مات مؤمنا، وأن الله تعالى أجرى على لسانه كلمة الحق: لا إله إلا الله محمد رسول الله.. ولهم فى ذلك روايات أسندت إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. ويقول جماعة أهل السنة، ومعهم الكثرة الكاثرة من علماء الفقه والحديث أنه مات على الشرك، وأنه من أهل النار، وأن الله تعالى يخفف عنه عذاب جهنم، فيكون فى ضحضاح من النار. ويردون كلام الأولين بأنه من فرط التشيع لعلى، فقد جرهم هذا التشيع لعلى إلى أن يحكموا بإيمان أبيه أبى طالب، ثم يذكرون ضعفا فى إسناد الأخبار التى روت إسلامه، ونطقه بالشهادتين، ويذكرون أن الأخبار الصحاح ذكرت أنه ما نطق بشهادة ألاإله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويذكرون أنه فى الخبر الذى صح عندهم عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ذكر أنه يكون فى ضحضاح من النار، وأن ذلك استجابة لدعوة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بالتخفيف عنه. لما كان له من مناصرة له عليه الصلاة والسلام. وإنه من الحق علينا أن نذكر أمره عندما حضرته الوفاة. 281- ونقول أن كتب الصحاح من السنة كما تذكر أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان فى خوف من نتيجة مرضه، كان مشركو قريش فى فزع من موته، لأنه كما كان حاميا للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان كهفا لقريش يشكون أمر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إليه، ليرجو أن يخفف عنهم، ولنترك الكلمة للمؤرخ المحدث الحافظ بن كثير فى كتابه البداية والنهاية «1» .

_ (1) البداية والنهاية ج 3 ص 127- بتصرف قليل فيه تقديم وتأخير مناسب، ليتسق المنقول.

«قال ابن إسحاق: ولما اشتكى أبو طالب، وبلغ قريشا ثقله قالت قريش بعضها لبعض: إن حمزة وعمر قد أسلما وقد فشا أمر محمد فى القبائل فانطلقوا بنا إلى أبى طالب، فليأخذ لنا على ابن أخيه، وليعظه، فإنا والله لا نأمن أن يبتزونا أمرنا. قال ابن إسحاق: وحدثنا العباس عن عبد الله بن معبد، عن بعض أهله عن ابن عباس قال: لما مشوا إلى أبى طالب وكلموه، وهم أشراف قومه: عتبة بن ربيعة، وشيبة ابن ربيعة، وعمرو بن هشام (أبو جهل) وأمية بن خلف، وأبو سفيان بن حرب، فى رجال من أشرافهم فقالوا: يا أبا طالب، إنك منا حيث قد علمت، وقد حضرك ما ترى، وتخوفنا عليك، وقد علمت الذى بيننا وبين ابن أخيك فادعه، فخذ لنا، وخذ له منا، ليكف عنا، ولنكف عنه، وليدعنا وديننا، ولندعه ودينه. فبعث إليه أبو طالب فجاءه، فقال: يا بن أخى، هؤلاء أشراف قومك قد اجتمعوا إليك، ليعطوك وليأخذوا. فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: يا عم، كلمة واحدة تعطونها تملكون بها العرب، وتدين لكم بها العجم. فقال عمرو بن هشام (أبو جهل) : نعم وأبيك وعشر كلمات. ثم قال: تقولون لا إله إلا الله، وتخلعون ما تعبدون من دونه. فصفقوا بأيديهم، ثم قالوا: يا محمد، تريد أن تجعل الالهة إلها واحدا. إن أمرك لعجب، ثم قال بعضهم لبعض، إنه والله ما هذا الرجل بمعطيكم شيئا مما تريدون، فانطلقوا وامضوا على دين ابائكم، حتى يحكم الله بينكم وبينه، ثم تفرقوا. فقال أبو طالب: والله يابن أخى ما رأيتك سألتهم شططا، فطمع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فيه، فجعل يقول له: «أى عم، فقلها أستحل لك بها الشفاعة يوم القيامة» فلما رأى حرص رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: يا ابن أخى، والله لولا مخافة السبة عليك، وعلى بنى أبيك من بعدى، وأن تظن قريش أنى قلتها جزعا من الموت لقلتها، لا أقولها إلا لأسرك بها، فلما تقارب من أبى طالب الموت نظر العباس إليه يحرك شفتيه، فأصغى إليه بأذنه ... قال العباس: يابن أخى، لقد قال أخى الكلمة التى أمرته أن يقولها. فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «لم أسمع» «1» . هذا الخبر، يدل على ثلاثة أمور: أولها: أن قريشا ترى فى بقاء أبى طالب ضمانا لأمنهم، واتصالهم بالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم للتأثير فيه بعمه شيخ مكة المكرمة.

_ (1) ج 2 ص 123.

ثانيها: عظم محبة أبى طالب صلى الله تعالى عليه وسلم، إذ أنه ينطق بها محبة للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم. ثالثها: أن الرواية تدل على أنه يصدق دعوة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وذلك من ناحيتين: أولاهما: أنه قال: «ما رأيتك سألتهم شططا» أى أنه سألهم معقولا، وهو: لا إله إلا الله. والثانية: أنها تدل على أن أبا طالب نطق بكلمة الإيمان، كما قال العباس. وقد رد الذين أنكروا إيمان أبى طالب: أولا: بأن السند فيه تجهيل، لأنه قال عن بعض أهله، فلم يعرف من الراوي، وما حاله. وثانيا: بأن الإمام أحمد روى هذا السياق، ولم يذكر كلمة العباس، وكذلك الترمذى والنسائى وابن جرير. وروى البخارى فى سياق هذا الخبر أن عمرو بن هشام (أبا جهل) وعبد الله بن أمية، عندما سأل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عمه أن يقول لا إله إلا الله، قالا له: يا أبا طالب أترغب عن ملة: عبد المطلب؟ فلم يزالا يكلمانه، حتى قال اخر ما تكلم به: «على ملة عبد المطلب» . وهكذا غيرها من روايات الصحاح تدل على أنه لم يقلها، وأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «لأستغفرن لك ما لم أنه عنك» . 282- وإن الذى ننتهى إليه أن هناك أمورا ثلاثة، تحققت منها اثنتان، والثالثة موضع نظر: الأولى: أن أبا طالب حامى على الإسلام، بالدفاع عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وبالدفاع عن المسلمين، وما قاله من المدح لدعوة النبى صلى الله عليه وسلم والثناء عليها، وما أظهره له ولأصحابه من المودة والمحبة والشفقة فى أشعاره، وما تضمنه كلامه من العيب والتنقيص لمن خالف وكذبه بتلك العبارات الفصيحة البليغة الهاشمية المطلبية التى لا تدانى ولا تسامى، ولا يمكن عربيا مقاربتها ولا معارضتها، وهو فى ذلك كله يعلم أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم صادق راشد «1» . الثانية- ثبت أنه عندما حضرته الوفاة كان يزكى مطالب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وأنه ما عرف عنه بعد الدعوة المحمدية أن زكى الأوثان قط، ولا فضل تقديسهم عن دعوة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وأنه تحمل الأذى مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.

_ (1) البداية والنهاية لابن كثير ج 3 ص 126.

ويضاف إلى ذلك هذه المحبة الظاهرة، والشفقة الواضحة التى كانت للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم. الثالثة- النطق بكلمة «لا إله إلا الله محمد رسول الله» فقد جاءت رواية بأنه نطق بها، وقالها، وهذه رويت عن العباس، وتطاول بعضهم على مقامه، فقال إنه قالها قبل أن يسلم، وكأن القائل يرمى العباس بالكذب، قبل الإسلام، ومعاذ الله أن يكذب العباس بن عبد المطلب، ولو قبل إسلامه، لأنه من ذؤابة قريش وأشرافهم، والعربى لا يكذب، وانظر إلى ما رواه البخارى عن محادثة هرقل ملك الروم مع أبى سفيان، فقد صدقه القول عن النبى عليه الصلاة والسلام وبينهما عداوة قال: «لولا أنى أخشى أن تحفظ عنى كذبة فى العرب لكذبت» فهل يعد العباس أقل من أبى سفيان شرفا وهمة؟ كلا إنه القرشى الهاشمى، وعم النبى عليه الصلاة والسلام قبل الإسلام وبعده. 283- وإننا ننتهى من هذا العرض الذى تحرينا فيه صدق التلخيص أن أبا طالب لم يكن مكذبا للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ولم يكن مقاوما معاندا، فهل كان من المسلمين؟. ويقول ابن كثير فى هذا: «وهو فى هذا كله يعلم أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم صادق راشد، ولكن مع هذا لم يؤمن قلبه، وفرق بين علم القلب وتصديقه» «1» . وكأنه بهذا يشبهه بعلم اليهود بالنبى صلى الله عليه وسلم إذ كانوا كما قال الله تبارك وتعالى عنهم: «يعرفونه كما يعرفون أبناءهم» «2» ولكنهم لم يذعنوا لما يقضى علمهم، فهم يعلمون ولا يذعنون. وإنى أسمح لنفسى أن أخالف الحافظ بن كثير فى قوله هذا، أو انطباقه على أبى طالب، وأحسبه هو قد وجد فارقا بين معرفته لله تعالى ولدعوة الرسول عليه الصلاة والسلام واليهود، وأقول أن علم أبى طالب قد صحبه ما يدل على التصديق والإذعان، فهو علم مقترن باليقين والإذعان، كما دلت عباراته، وكما دافع عن الإسلام، فإذا كان ثمة نقص بالنسبة لأبى طالب. فهو أنه لم ينطق بموجب التصديق والاذعان، وإنى لذلك أقول أنه لا يمكن أن يكون مشركا قط. أولا: لأنه استنكر أقوال قريش وأيد دعوة التوحيد. وثانيا: لأنه دافع عن التوحيد وأهله، وتلقى الأذى كما تلقى المؤمنون الصادقون. وثالثا: لأنه صرح بأن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم صادق راشد.

_ (1) البداية والنهاية ج 3 ص 126 الكتاب المذكور ص 127. (2) البقرة: 146.

خديجة رضي الله عنها

وإن وجد من يتردد فى إدخاله فى زمرة المسلمين، ولو كانوا ضعافا، فإننا لا نتردد فى إخراجه من زمرة المشركين، وإذا كان قد نسب إليه، أنه قال وهو فى سكرات الموت: على ملة عبد المطلب استجابة لأحد الأشياخ من قريش، فإنا لا نحسب أن هذه الكلمة تعارض كل ما كان منه من دفاع عن الإسلام، وتصريحات كثيرة له بأن دعوة محمد عليه الصلاة والسلام صادقة راشدة قالها وهو صحيح معافى. ونختم كلامنا فى هذا بما قاله الحافظ بن كثير فى أبى طالب فقد قال رضى الله عنه: «أبو طالب كان يصد الناس عن أذية رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وعن أصحابه بكل ما يقدر عليه من فعال ومقال، ونفس ومال، ولكن مع هذا لم يقدر الله تعالى له الإيمان، لما له تعالى فى ذلك من الحكمة العظيمة، والحجة القاطعة البالغة الدامغة التى يجب الإيمان بها والتسليم لها، ولولا ما نهانا الله تعالى عنه من الاستغفار للمشركين، لاستغفرنا لأبى طالب وترحمنا عليه» «1» . ونحن نقول فيما استنبطنا، إنه ليس بمشرك قط، لأن المشرك من يعبد الأصنام، ويشركها مع الله تعالي، وأفعاله وأقواله، ومواقفه تدل على أنه يرى عبادة الأصنام أمرا باطلا، ولذلك أميل إلى أن أستغفر له، إن كنت من أهل هذا المقام، وأرى أنه ليس بكافر أصلا، والله سبحانه وتعالى هو العليم بذات الصدور، وما تخفى الأنفس. خديجة رضي الله عنها 284- كانت خديجة هى الفقيد الثانية التى أدخل موتها الحزن فى قلب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وكان قطعة من نفسها، وهى التى أذهبت عنه الرعب يوم جاءها يرجف فؤاده من أول لقاء بالوحى الإلهى، وهى التى كانت تأسو جراح قلبه، كلما لقى من قومه صدودا وأذى، وهى التى شاركته فى حمل ضرائه، وكانت لها المنزلة الأولى بين نسائه. ولمكانتها فى نفسه لم يتزوج فى حياتها غيرها قط معها، ولكن تزوج من بعدها، وعدد الأزواج، وكان الحل لمقاصد، ليس منها الشهوة، بل ليؤلف بينه وبين قبائل العرب وليولى أصحابه المحبة، ويدنيهم منه وليؤدى أزواج من يموتون من أصحابه. أو يقتلون، ويتركون أزواجهم من غير عائل يعولهم ليحقق بالعمل قوله عليه الصلاة والسلام: «من ترك مالا فلورثته، ومن ترك ضياعا، فإلى، وعلى» . وإنها لعظم منزلتها من النبى عليه الصلاة والسلام، وفى الاسلام، بشرت ببيت فى الجنة من قصب.

_ (1) البداية والنهاية 126 ج 3.

روى البخارى بسنده عن أبى هريرة قال: «أتى جبريل إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، هذه خديجة قد أتت بإناء، فيه إدام- أو طعام أو شراب- فإذا هى أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها، ومنى، وبشرها ببيت فى الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب» والقصب المراد به اللؤلؤ. وقد قال السهيلى «إنما بشرها ببيت فى الجنة من قصب يعنى قصب اللؤلؤ، لأنها حازت قصب السبق إلى الإيمان، ولا صخب فيه ولا نصب، لأنها لم ترفع صوتها على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ولم تتعبه فى الدهر، فلم تصخب عليه يوما، ولا اذته أبدا» . ولقد كان يذكرها دائما بالخير، يحب من كانت تحبه، ويواد من كانت توده، حتى كان ذكرها الدائم يثير غيرة بعض نسائه، حتى لقد قالت أم المؤمنين عائشة: «ما غرت من امرأة للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ما غرت من خديجة، لما كنت أسمعه يذكرها، وأمره الله تعالى أن يبشرها ببيت فى الجنة من قصب، وإن كان ليذبح الشاة فيهدى فى خلائلها منها ما يسعهن «1» » . وكان مع ذكرها يكرم ذكراها، ومن يذكره بها، ولقد استأذنت عليه هالة بنت خويلد أختها، فعرف استئذان خديجة، فارتاح، فقال: «اللهم هالة» . وروى الإمام أحمد عن عائشة رضى الله تعالى عنها قالت: «كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إذ ذكر خديجة أثنى عليها بأحسن الثناء فغرت يوما، فقلت: «ما أكثر ما تذكرها حمراء الشدقين، قد أبدلك الله خيرا منها» قال: ما أبدلنى خيرا منها، وقد امنت بى إذ كفر بى الناس، وصدقتنى إذ كذبنى الناس، واستنى بمالها، إذ حرمنى الناس، ورزقنى الله ولدها إذ حرمنى أولاد النساء» . وواضح أن ذلك قبل أن يهب الله تعالى له إبراهيم من مارية القبطية. وإننا نرى من هذا الكلام كله مكانة أم المؤمنين خديجة فى نفس النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وكيف كانت المواسى، إذا ادلهمت الأمور، واشتد البلاء، وكيف كانت المؤنس إذا استوحش من الناس، وكيف كانت الهدأة والسكن إذا ارتاع من هول ما يفعل الناس، فكان حقا عليه الصلاة والسلام أن يسمى عام وفاتها ووفاة عمه الكريم عام الحزن، وقد فقد فيه الحبيبين، الحامى المكافح، والمؤنس المواسى. وقد مات أبو طالب قبل خديجة على أصح الروايات، وقيل: كانت وفاته قبلها بثلاث ليال. ويذكر بعض الرواة أن وفاتها كانت قبل وفاته بنحو من خمس وثلاثين ليلة وأن الراجح أن وفاته كانت قبل وفاتها، ومهما يكن الأمر فى المقدم والمؤخر، فإن وفاتهما أورثت حزنا شديدا للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم.

_ (1) البخارى- البداية والنهاية ص 18 ج 3.

ما كان بعد موت أبى طالب

ما كان بعد موت أبى طالب 285- قال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم «ما نالت منى قريش شيئا أكرهه، حتى مات أبو طالب» ولقد لزم محمد صلى الله تعالى عليه وسلم الحبيبين، الحامى المكافح، والمؤنس المواسى. ثم لما خرج وباشر الدعوة وبلغ رسالة ربه، كلبت عليه قريش، حتى كانوا يؤذونه فى بيته، فكان جيرانه جيران سوء، ومنهم أبو جهل، والحكم بن أبى العاص بن أمية، وعقبة بن معيط وعدى بن الحمراء، وابن الأصداء الهذلى، وكان أحدهم يطرح عليه رحم الشاة وهو يصلى. وقد روى مسلم عن ابن مسعود قال. «بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى عند البيت، وأبو جهل وأصحابه جلوس، وقد نحرت جزور بالأمس، فقال أبو جهل: أيكم يقوم إلى سلا «1» جزور بنى فلان، فيأخذه فيضعه بين كتفى محمد إذا سجد، فانبعث أشقى القوم. فأخذه، فلما سجد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وضعه بين كتفيه فاستضحكوا، وجعل بعضهم يميل على بعض، وأنا نائم أنظر والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم ساجد ما يرفع رأسه.. حتى ذهب إنسان فأخبر فاطمة، فجاءت، وهى جويرية فطرحت عنه، ثم أقبلت عليهم تشتمهم، فلما قضى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم صلاته، رفع رأسه، ثم دعا عليهم، وكان إذا دعا، دعا ثلاثا وإذا سأل، سأل ثلاثا، ثم قال. اللهم عليك بقريش ثلاث مرات، فلما سمعوا صوته ذهب عنهم الضحك، وخافوا دعوته، ثم قال: اللهم بأبى جهل ابن هشام، عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عقبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبى معيط، فو الذى بعث محمدا عليه الصلاة والسلام بالحق، لقد رأيت الذين سمى صرعى يوم بدر» . اشتد أذى قريش للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ويظهر أن أكثر الأذى الذى نال شخص النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان بعد وفاة أبى طالب. ولقد قال ابن كثير فى ذلك: «وعندى أن غالب ما روى مما تقدم من طرحهم سلا الجزور بين كتفيه، وهو يصلى كما رواه ابن مسعود.. وكذلك ما أخبر به عبد الله بن عمرو بن العاص من خنقهم له صلى الله تعالى عليه وسلم خنقا شديدا وكذلك عزم أبى جهل.. لعنه الله على أن يطأ عنقه وهو يصلى فحيل بينه وبين ذلك، وما أشبه ذلك- ذلك كله كان بعد وفاة أبى طالب والله أعلم، فذكره هاهنا أشبه وأنسب» .

_ (1) السلا، أحشاء وخلاص الناقة، وهى الجزور.

حماية الله تعالي

وإن هذا الكلام له وجاهته، وعلى ذلك نذكر أن أذى المشركين أخذ دورين. الدور الأول: ما كان قبل وفاة أبى طالب، وقد كان أذى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان بالاستهزاء والسخرية والسب، ولا ينالون منه بغير ألسنتهم، ويقوم بذلك سفهاؤهم كأبى الحكم بن هشام (أبى جهل) وعقبة بن أبى معيط، وغيرهما من سفهاء القوم. وكان مع ذلك التعذيب والإيذاء البدنى للضعفاء، وغير النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مما أدى إلى الهجرة إلى الحبشة مرتين، وكان فيهم كبراء كجعفر بن أبى طالب، وعثمان بن عفان، ولعل هجرتهم كانت لأذى القول والسخرية والاستهزاء. الدور الثانى: كان بعد وفاة أبى طالب، وهنا اشتد الأذى، وكان الاعتداء بالقول والفعل حتى اضطر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى أن يطلب الجوار ليدخل مكة المكرمة، فأجاره مطعم بن عدى. وإذا كان قد فقد حماية أبى طالب، فقد عوضه الله تعالى بحمايته. حماية الله تعالي 286- روى البخارى بسنده عن ابن عباس، قال: «مر أبو جهل بالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم وهو يصلى، فقال: ألم أنهك أن تصلى يا محمد لقد علمت ما بها أحد أكثر ناديا منى، فانتهره النبى صلى الله عليه وسلم، فنزل قوله الله تعالى: فَلْيَدْعُ نادِيَهُ. سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ «1» ، والله لو دعا ناديه لأخذته زبانيه العذاب. وروى ابن جرير الطبرى بسنده عن أبى هريرة: هل يعفر محمد عليه الصلاة والسلام وجهه بين أظهركم؟ قالوا: نعم: قال: فو اللات والعزى عندما رأيته يصلى كذلك لأطأن على رقبته، ولأعفرن وجهه بالتراب، فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يصلى ليطأ على رقبته، فما فجأهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه، ويتقى بيديه فقيل له: مالك!! قال إن بينى وبينه خندقا من نار وهولا وأجنحة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم. «لو دنا منى لا ختطفته الملائكة» . ولقد حدث عكرمة عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه جرت بين النبى صلى الله عليه وسلم ومشركى مكة المكرمة، والرسول عليه الصلاة والسلام يدعوهم إلى الله تعالى، ويبين لهم أن الأحجار لا تنفع ولا تضر، وأنها لا تغنى من الله تعالى شيئا، ثم غادر مكانهم، فقام أبو جهل بن هشام فقال:

_ (1) سورة العلق: 18.

المهابة مع المحبة

«يا معشر قريش، إنه قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا، وشتم ابائنا، وتسفيه أحلامنا وسب الهتنا، وإنى أعاهد الله لأجلسن له غدا بحجر، فإذا سجد فى صلاته، فضخت به رأسه فليصنع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم. فلما أصبح أبو جهل أخذ حجرا، ثم جلس لرسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظر، وغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت قبلته للشام، فكان إذا صلى، صلى بين الركنين الأسود واليمانى، فجعل الكعبة الشريفة بينه وبين الشام فقام يصلي. وقد غدت قريش فجلسوا فى أنديتهم ينتظرون، فلما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم احتمل، ثم أقبل نحوه، حتى إذا دنا منه رجع منبهتا ممتقعا لونه، مرعوبا، قد يبست يداه على حجره، حتى قذف الحجر من يديه. رأى رجال قريش الذين غدوا ليروا ما يفعل وما كان به، فقالوا له: ما بك يا أبا الحكم!! فقال: قمت إليه لأفعل ما قلت لكم البارحة، فلما دنوت منه عرض لى دونه فحل من الإبل، والله ما رأيت مثل هامته ولا قصرته ولا أنيابه لفحل قط، فهم أن يأكلني» . هذه أخبار رواة ثقات بأسناد صحيحة قوية، وإذا كان فى بعض أسنادها ضعف فالقوى يرفع الضعيف، وحسبنا رواية القوى. ونحن نرجح ما راه ابن كثير من أن ذلك بعد وفاة أبى طالب، وإن كتب السيرة والأحاديث التى رويت بأسناد صحيحة لا تذكر زمان الوقائع، ولكن تعنى بصدق الوقائع بروايتها عن ثقات أثبات، وإذا كان الزمان غير ثابت، فمن حق المؤرخ الفاحص أن يذكر الأحداث مرتبطة بما يناسبها، وهو الوقت الذى خلا فيه النبى صلى الله عليه وسلم من نصرة النسيب القريب الذى الهمه الله تعالى المحبة والذود عن نبيه، ولو كان فى أكثر حياته لم يعلن اتباع النبى صلى الله عليه وسلم، حتى إذا قبضه الله تعالى إليه، كانت النصرة لله تعالى واحده الذى لم يضيع عبده ورسوله ساعة من زمان. المهابة مع المحبة 287- كانت حماية الله تعالى لرسالته التى بلغها محمد صلى الله تعالى عليه وسلم قد اقترنت بما أفاض الله عليه من مهابة كانت تظهر فى أوقاتها حيث كان الأذى يشتد، والاستهزاء يكثر، فيذكرهم الله تعالى بأنه لم يترك نبيه لسخريتهم واستهزائهم، فتظهر المهابة الرادعة القاطعة فى وسط سخريتهم، وتطاولهم على مقام النبوة.

ولنذكر فى ذلك واقعتين تبينت فيهما مهابة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم التى ألقاها الله تعالى عليه مع محبته ورحمته. الأولى: قصة الأراشى، وخلاصتها كما روى محمد بن إسحاق بسنده عن عبد الملك بن أبى سفيان الثقفى قال: قدم رجل من أراش بإبل له إلى مكة المكرمة، فابتاعها أبو جهل بن هشام فمطله بأثمانها، فأقبل الأراش حتى وقف على نادى قريش، ورسول الله عليه الصلاة والسلام جالس فى ناحية المسجد فقال: يا معشر قريش هل من رجل يعدينى على أبى الحكم بن هشام، فإنى غريب وابن سبيل، وقد غلبنى على حقي؟ فقال أهل المجلس: ترى ذلك. ويشيرون إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، يهزؤن به لما يعلمون ما بينه وبين أبى جهل من العداوة. اذهب إليه فهو يعديك عليه. فأقبل الأراشى، حتى وقف على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فذكر ذلك. فقام معه، فلما رأوه قام معه قالوا لرجل ممن معهم: اتبعه فانظر ماذا يصنع. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءه فضرب عليه بابه. فقال: من هذا؟ قال: محمد فاخرج، فخرج إليه، وما فى وجهه قطرة دم، وقد امتقع لونه، فقال له عليه الصلاة والسلام: أعط الرجل حقه. قال: لا تبرح حتى أعطيه الذى له،، فخرج إليه بحقه فدفعه إليه، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال للرجل: ارحل لشأنك. فأقبل الأراشى حتى وقف على ذلك المجلس، فقال: جزاه الله خيرا، قد أخذت الذى لى. جاؤا إلى الرجل الذى بعثوه معه فقالوا: ويحك ماذا رأيت؟ قال: عجبا من العجب، والله ما هو أن ضرب عليه بابه، فخرج وما معه روحه، فقال: أعط هذا الرجل حقه، فقال: نعم لا تبرح حتى أخرج إليه حقه، فدخل فأخرج إليه حقه. لم يلبث أن جاء أبو جهل إلى المجلس، فقالوا: ويلك، والله ما رأينا مثل ما صنعت. فقال: ويحكم، والله ما هو أن ضرب على بابى، وسمعت صوته، فملئت رعبا، فخرجت إليه، وإن فوق رأسه لفحلا من الإبل ما رأيت مثل هامته ولا قصرته، ولا أنيابه لفحل قط، فو الله لئن أبيت لأكلنى» . وإن هذه الواقعة تدل أولا على هيبة النبى صلى الله عليه وسلم يستعين بها إذا أراد فى إقامة حق وخفض باطل، ولا يستعين بها فى الدعوة إلى الله تعالى دائما، حتى يكون دائما رؤفا رحيما، والرأفة تلين

القلوب، والهيبة إذا استخدمت باستمرار أرهقتها، وأرهبتها، والرسالة تستدعى تأليف القلوب دائما واللين دائما، ولقد قال الله تعالى فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ، وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ «1» . وتدل ثانيا: على أن أشد الناس سفها، وتهجما على الناس، واستهانة بحقوقهم، وهو فى وسط الجموع هو أشدهم خوفا، وهلعا وفزعا إذا انفرد فهو جبان رعديد، إذا لاقى خصمه وجها لوجه، وإنك لترى الذين يبالغون فى الإيذاء من الحكام وغيرهم أشدهم فزعا، إذا أحسوا بأنهم مرام مقصود، وانفردوا. فالتهجم من فرط الاندفاع، وهو لا يتنافى مع الجبن، بل إنه يلازمه إذا لاقى الأقوياء. هذه هى الواقعة الأولى التى أردناها. أما الواقعة الثانية: فهى ما رواه البيهقى بسنده عن عروة بن الزبير قال: قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص: ما أكثر ما رأيت من قريش وما أصابت النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فيما كانت تظهره من عداوة؟ فقال: رأيتهم، وقد اجتمع أشرافهم يوما فى الحجر، فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل قط، سفه أحلامنا، وشتم اباءنا، وعاب ديننا، وفرق جماعتنا، وسب الهتنا، وصرنا معه على أمر عظيم. قال: فبينما هم فى ذلك طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل يمشى حتى استلم الركن. ثم مر بهم طائفا بالبيت، فغمزوه ببعض القول، فعرفت ذلك فى وجه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فمضى، فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها، فعرفتها فى وجهه صلى الله تعالى عليه وسلم، فمضى فمر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها. فقال: «أتستمعون يا معشر قريش، أما والذى نفسى بيده، لقد جئتكم بالذبح» . فأخذت القوم كلمته، حتى ما منهم من رجل إلا وكأنه على رأسه طائر وقع، حتى إن أشدهم فيه قبل ذلك ليرفؤه، حتى إنه ليقول: «انصرف أبا القاسم راشدا فما كنت بجهول» انصرف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، حتى إذا كان الغد اجتمعوا فى الحجر، وأنا معهم (أى عبد الله بن عمرو) قال بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم، وما بلغكم عنه، حتى إذا بدأكم بما تكرهون تركتموه. فبينما هم على ذلك طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم فوثبوا إليه وثبة رجل واحد، فأحاطوا به يقولون: أنت الذى تقول كذا، وكذا، وكذا، لما كان يبلغهم من عيب الهتهم ودينهم، فيقول رسول الله

_ (1) سورة ال عمران: 159.

محمد عليه الصلاة والسلام فى الطائف

صلّى الله عليه وسلّم «نعم أنا الذى أقول ذلك» ولقد رأيت رجلا منهم أخذ بمجامع ردائه، وقام أبو بكر دونه ويقول: «ويلكم أتقتلون رجلا أن يقول ربى الله» ثم انصرفوا عنه، فإن ذلك لأكبر ما رأيت قريشا بلغت منه قط «1» . وإن هذه الواقعة تدل أيضا على هيبة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وطاقته النفسية، ولا ينافى هذه الهيبة ما ارتكبوه بعد ذلك من إثم، فإن الهيبة تفرض نفسها عند أول الصدمة، ولا تتنافى مع التدبير لمقاومتها، فقد لقوه فى المرة الأولى. وواجههم بما يكف ألسنتهم عن الغمز والاستهزاء، ويلقى فى قلوبهم الرعب، فأثمر ذلك في نفوسهم، ولما استرجعوا أنفاسهم، واستردوا تفكيرهم الاثم بعد الصدمة التي أوجدتها الهيبة دبروا أمرهم، ثم كانت تلك الحركة التى أخذ فيها بعضهم بمجامع ردائه، وإن ذلك لا ينافى الهيبة التى كانت للنبى صلى الله عليه وسلم عندما يعتزم القول وإلقاء المجابهة فى القلب. ولننزل عن مقام النبى صلى الله عليه وسلم إلى من دونه. فقد كان عمر رضى الله عنه من ذوى الهيبة، ولم تمنع هيبته تدبير اغتياله، وعلى كان على قدر من الهيبة عظيم، بل كان المهوب المرهوب، ولذلك لما دبروا قتله. انتدب له اثنان أنفسهما، وغذى السيف بالسم شهرا ومع ذلك لم تمنع هذه الهيبة، وتلك الرهبة، التدبير والإقدام. وهكذا نرى أن النبى صلى الله عليه وسلم قد حماه ربه من قريش بما منع به شر الأشرار، وبما منحه الله تعالى من قوة نفس، وعزم وصدق. محمد عليه الصلاة والسلام فى الطائف 288- ذاق محمد صلى الله عليه وسلم ما ذاق من أهل مكة المكرمة من صد عن سبيل الله ومقاومة، وإيذاء له ولأصحابه، وقد بلغ الدعوة فيهم، وكلبوا عليه، ولكن دعوته عامة، وليست لقريش واحدهم بل هى للناس أجمعين، وقد علمها أهل مكة المكرمة، وقاوموها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، ولله فى ذلك حكمة، ولو كانوا أول من يطيعه لقيل أنهم يريدون بذلك السلطان على الناس. لقد اتجه النبى صلى الله عليه وسلم فى سبيل توسيع نطاق الدعوة إلى الطائف التى تقرب من مكة المكرمة، ولها من القوة والسلطان والثروة من الثمار والتجارة ما لمكة المكرمة، وربما يرى فيهم نصرة لم يرها من قريش. وله فى الطائف نوع رحم، لأنه رضع فى بنى سعد، وهم قريبون من الطائف، ففيهم مراضعه، وحواضنه، وذلك فوق القرب النسبى، فقد كان الطائف بينها وبين مكة المكرمة نحو 120 (عشرين ومائة) ميلا، وذلك ليس ببعيد فى الشقة فى عرف أهل البلاد الصحراوية.

_ (1) البداية والنهاية لابن كثير ج 3 ص 46.

ذهب إلى الطائف فى أخريات شوال من السنة العاشرة، ذهب إلى الطائف ليس لمجرد اشتداد قربه منه كما تذكر كتب السيرة، ولكن ذلك قد يكون بعض الأسباب، وليس أقواها، وإنما لذلك، ولأنه اعتراه ما يشبه اليأس من إيمان قريش، أو من بقى منهم، وما كان له أن يضرب فى حديد بارد، أو أن يقصر دعوته عليهم، وقد غلب عليهم الجدل بالباطل من غير أن يتجهوا إلى الاقتناع، فلا يشغل نفسه بهم، واتجه إلى بلد غير بعيد، وهو الطائف، يرجو منهم الاتباع ومن وراء الاتباع النصرة. ذهب صلى الله عليه وسلم إلى الطائف سعيا على قدميه مع أن المسافة كما قلنا تبلغ نحو عشرين ومائة ميل، ولم يكن معه إلا مولاه زيد بن حارثة الذى أعتقه من قبل، وقد صار له حبيبا ودودا، فلم يكن له خادما، بل كان معينا، وقد ذهب راجلا كما ذكر، قيل لأنه لم يرد أن يعلم أحد بذهابه، وقد يكون ذلك بعض السبب، ولكن نقول إنه كان يجاهد فى سبيل الدعوة، ويبلغ به الجهد والجهاد أقصاهما. قال ابن إسحاق فى سيرته بسنده لما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف عمد إلى نفر من ثقيف هم يومئذ سادة ثقيف وأشرفهم، وهم إخوة ثلاثة. عبد ياليل بن عمرو بن عمير، ومسعود بن عمرو بن عمير وحبيب بن عمرو بن عمير، وابن عوف بن عقدة بن عوف بن ثقيف» «1» . التقى بهؤلاء الذين كانوا يعدون من أشرافهم، لمكانة أبيهم فى ثقيف. وقد كانت هذه الرحلة النبوية إلى ثقيف غير محققة الاستجابة، ولكنها كانت جهادا فى سبيل الدعوة من صاحبها.. ولنذكر لك المجاوبة التى كانت بين النبى عليه الصلاة والسلام ومن تحدث إليهم من أولاد عمرو بن عمير. جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أولاد عمرو بن عمير، فدعاهم إلى الله تعالى، وبما جاءهم له من نصرته عليه الصلاة والسلام، والقيام معه على من خالفه من قومه، فأجابوه بنكر من القول. قال أحدهم: وهو يمرط ثياب الكعبة الشريفة، (أى أنه ينزع كساء الكعبة) إن كان الله تعالى أرسل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ينزع ثياب الكعبة الشريفة. وكأنه يسخر بالرسول عليه الصلاة والسلام، ويعلق علي إرسال النبى صلى الله عليه وسلم من الله تعالى أن ينزع هو ثياب الكعبة الشريفة، وذلك مستحيل لقدسيتها. وقال الثانى: أما وجد الله أحدا يرسله غيرك!! وكأنه يستنكر أن يكون هو الرسول عليه الصلاة والسلام.

_ (1) سيرة ابن هشام ج 1، 2 ص 419.

عداس والنبى صلى الله عليه وسلم:

وقال ثالثهم: لئن كنت رسولا من الله، كما تقول لأنت أعظم خطرا من أن أرد عليك، وإن كنت تكذب على الله ما ينبغى لى أن أكلمك. كان الرد كله تهكما واستهزاء، فرأى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أنه لا استجابة منهم، ويئس منهم وأنهم اشتروا الضلالة بالهدى. وإذا كانوا غير مستجيبين لدعوة الله تعالى فإنه قد يكون فيهم مروءة. فرأى عليه الصلاة والسلام أن يخفوا مجيئه إليهم، وكره أن يبلغ قومه فيدثرهم أى يثيرهم، ولكنهم للؤمهم لم يخفوا أمره، بل أعلنوه، بل أغروا بالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم سفهاءهم، وعبيدهم، يسبونه ويتصيحون به، حتى اجتمع الناس عليه. وقد روى موسى بن عقبة أنه قعد له أهل الطائف صفين على طريقه، فلما مر جعلوا لا يرفع رجليه ولا يضعهما إلا رضخوهما بالحجارة، حتى أدموه، فمضى، وهما يسيلان دما» «1» . عاد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من تلك الرحلة الشاقة لقوم لئام، لم يذوقوا معنى المروءة، ولم يعرفوا الكرامة الإنسانية فى أى صورة من الصور الادمية. أشد البلاء ما يثير عطف العدو اللدود، وقد أثار ما فعل أولئك اللئام عطف ابنى ربيعة عتبة وشيبة اللذين اشتركا من قبل فى إيذاء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. فقد كان لهما بستان قريب من الطائف، قد اوى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى ظل شجرة من أشجاره. لقد تحركت الرحم فى ابنى ربيعة، فبعثا غلاما لهما يقال له عداس بقطف من العنب للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ليتبلغ به، وذلك من الكرم القرشى. عداس والنبى صلى الله عليه وسلم: 289- كان عداس نصرانيا، فذهب بالقطف الذى كان فى طبق، وقدمه للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم فابتدأ صلى الله تعالى عليه وسلم أكله بقوله: «باسم الله» فنظر إليه عداس، وتفحص فى وجهه ثم قال: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد. فقال له النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: ومن أى البلاد أنت عداس وما دينك؟ قال: نصرانى، ومن أهل نينوى، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: من قرية الرجل الصالح يونس بن متى. فقال عداس: وما يدريك ما يونس بن متى!؟ فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ذلك أخى، كان نبيا وأنا نبى.

_ (1) البداية والنهاية ج 3 ص 136.

دعاء، وعفو، وإجارة:

أكب عداس بن مالك على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقبل رأسه ويديه وقدميه. رأى ابنا ربيعة ما كان من الفتى النصرانى. فلم يلن ذلك قلبهما للإسلام، فقال أحدهما لصاحبه: أما غلامك فقد أفسده عليك. لما عاد إليهما عداس قالا له: ويلك يا عداس، مالك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه؟! قال: يا سيدى، ما فى الأرض شيء خير من هذا، لقد أخبرنى بأمر لا يعلمه إلا نبى. قالا له: ويحك يا عداس لا يصرفنك عن دينك، فدينك خير من دينه. كانت العاطفة الكريمة، ومعها ذلك الضلال المبين، وإن كان الحق واضحا، جحدوا بها واستيقنتها أنفسهم، فكان الطغيان، وكان الكفران وكان الضلال. دعاء، وعفو، وإجارة: 290- أحس الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم بالجفوة، ومرارة الأذى من هؤلاء اللؤماء، وبما أرادوا له من مهانة، فلم يجد مثابة إلا فى أن يلجأ إلى ربه ضارعا، فقال دعاءه لربه وكان بعد أن غادر ابنى ربيعة، ورأى ما رأي من عداس بن مالك، واطمأن قال: «اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهوانى على الناس يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربى، إلى من تكلني، إلى بعيد يتجهمنى، أم إلى عدو ملكته أمرى، إن لم يكن بك غضب على فلا أبالى، ولكن عافيتك هى أوسع لى، أعوذ بنور وجهك الذى أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والاخرة من أن تنزل بى غضبك، أو يحل على سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك» . دعاء منبعث من نفس مكلومة ولكنها راضية، لأنها تقوم بأعظم دعوة فى الوجود، فيهون فى سبيلها كل أمر مهما يكن عنيفا، وكل شديدة مهما تكن بالغة، فهو يقبل ما قدره الله تعالى وما يرضاه، ولا يهمه إلا غضب الله تعالى عليه وما دونه يهون. استجاب الله تعالى لدعائه عليه الصلاة والسلام، وبين له أنه معه، وقد ثبت فى الصحيحين أن أم المؤمنين عائشة حدثت أنها قالت لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد؟ قال: ما لقيت من قومك ... إذ عرضت نفسى على ابن عبد ياليل.. فلم يجبنى إلى ما أردت، فانطلقت، وأنا مهموم، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسى، فإذا أنا بسحابة قد أظلتنى، فنظرت، فإذا فيها جبريل عليه السلام فنادانى، فقال. «إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا به

سماع الجن له:

عليك، وقد بعث لك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، ثم نادانى ملك الجبال، فسلم على ثم قال: يا محمد- صلى الله عليه وسلم- قد بعثنى الله، إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال قد بعثنى إليك ربك لتأمرنى ما شئت، إن شئت فأطبق عليهم الأخشبين (جبلين بمكة المكرمة) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله» «1» . استجاب الله تعالى لدعاء نبيه، وقد ذكر فى دعائه ضعف قوته، فبين الله تعالي بأنه يضع في يده كل القوى، وأنه لا يمكن أن يهون عند الناس، والله تعالى معه، وأنه لم يتركه لعدو، ولا ولى، بل إن أمره عليه الصلاة والسلام إلى الله سبحانه. وهو القاهر فوق عباده. فمن كان مع الله تعالى لا يهون أبدا. سماع الجن له: 291- كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم حفيا بأن يتبع الناس دعوة الحق، ويؤمنوا بالله ورسوله ويتركوا عبادة الأوثان، وكما قال الله تعالى مخاطبا نبيه الكريم لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ «2» ولقد شكا أن قومه لا يتبعون، وأن غيرهم كمثلهم، فبين الله تعالى أنه إذا كان الذين اتبعوه من قومه عددا قليلا، فإن له أتباعا من الجن، فبين الله تعالى أن بعض الجن قد استمعوا، واستجابوا ولم يكفروا فقال تعالى مخبرا عن سماعهم فيما يروى الرواة بعد خروجه من الطائف، وما نزل به، قال الله سبحانه وتعالى: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ. قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ. يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ. وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ، وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ «3» . وقال الله تعالى فى سورة الجن: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً. يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً. وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً. وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً. وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً. وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً «4» .

_ (1) البداية والنهاية: 3 ص 137. (2) سورة الشعراء: 3. (3) سورة الأحقاف: 29- 32. (4) سورة الجن: 1- 6.

والجن كما تدل ظواهر القران الكريم وما روى من أخبار عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم جنس يقابل الإنسان، فليس الجن من الأناسى، ولا يتفق مع القران الكريم قول من يقول إنهم طائفة من الناس غيبوا فى الأرض، أو بعدوا فيها. ولقد أخطأ وجانب الصواب من يقول أنهم الأنصار فذلك كلام باطل بالبداهة، ولكن تبع الغربيين بعض الذين ليس لهم استقلال فكرى أمام ما يقوله الغربيون، وليست عندهم طاقة يستطيعون بها تمييز ما هو حق وما هو باطل، وما هو خطأ وما هو صواب. إن كل عبارات القران الكريم تصرح بأنهم جنس مقابل للإنس، وايات الكتاب الكريم فى ذلك كثيرة، من ذلك قوله الله تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً، يا مَعْشَرَ الْجِنِّ، قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ، رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ، وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا، قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ، إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ. وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ. يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي، وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا، قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ «1» . وإن هذه الايات الكريمات تدل بصريحها على أن الجن جنس، والإنس جنس اخر. ويقول الله تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ، وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً «2» . واقرأ قوله الله تعالى: يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا، لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ «3» . وإننا نأخذ من صريح هذه النصوص اختلاف الجنسين، فليس الإنس من الجن، ولا الجن من الإنس، وإن الواجب أن نأخذ بظواهر الألفاظ إلا إذا قام الدليل على أن الكلام على ظاهره مناقض لحقيقة شرعية قد علمت من الدين بالضرورة، أو أمر عقلى مستحيل مخالفته. وأولئك الذين يريدون أن يخرجوا لفظ الجن عن ظاهره فى القران الكريم هم من أولئك الذين لا يفكرون فى غير المحسوس، فلا يؤمنون إلا بالمادة، ولا يؤمنون بالغيب، وهو الركن الأول للإيمان، ولذلك كان أول وصف للمؤمنين هو الإيمان بالغيب، إذ يقول الله سبحانه وتعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وفيصل التفرقة بين الإيمان والزندقة الإيمان بالغيب. وبعد ذلك نتساءل: ما حقيقة الجن؟ والجواب عن ذلك أننا نميل إلى ما يقرره المسلمون. وهو أن الجن من نار، واعتمدوا فى ذلك على نص القران الكريم، لا على الأوهام، وذلك لأن الله تعالى قال

_ (1) سورة الأنعام: 128- 130. (2) سورة الإسراء: 88. (3) سورة الرحمن: 33.

فى جوار المطعم بن عدى

عن إبليس اللعين كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ولما أبى واستكبر ولم يسجد لادم، قال فيما حكى الله سبحانه وتعالى عنه: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ «1» وبالتقاء النصين الكريمين يثبت أن إبليس بصريح اللفظ كان من الجن، وأن الجن خلق من نار. هذا كما يدل عليه صريح القران الكريم. وإن سماع الجن وإيمان بعضهم تسلية للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، إذ فيه بيان أنه إذا كان قد بطؤت الإجابة فى الإنس فقد سارعت الجن إلى الإجابة فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ «2» . فى جوار المطعم بن عدى 292- كان لابد أن يعود النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى مكة المكرمة مهبط الوحى، ومجتمع العرب فى موسم الحج، لأن الخطة التى رسمها وابتدأ بها فى الطائف تقتضى العودة إلى مكة المكرمة، وتلك الخطة أن يتصل بالقبائل العربية فى أثناء اجتماع وفود القبائل فى الحج إلى بيت الله الحرام. هم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بالرجوع إلى مكة المكرمة، وهو عند حراء، وكان معه زيد بن حارثة الذى صحبه فى هذه السفرة فخشى على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وطلب بألا يرجع إلا فى جوار أحد من سادة مكة المكرمة المشركين، حتى لا يضار. فنزل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عند مشورته، فأرسل إلى الأخنس بن شريق أن يجيره بمكة المكرمة. فقال إنه حليف قريش لا يجير على صحيحها. ثم بعث الرسول عليه الصلاة والسلام إلى سهيل بن عمرو ليجيره، فقال: إن بنى عامر بن لؤى لا تجير على كعب بن لؤى. ثم بعث الرسول عليه الصلاة والسلام إلى المطعم بن عدى ليجيره، فقال للرسول: نعم، قل له فليأت، فذهب إليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فبات عنده تلك الليلة. ثم لما أصبح خرج معه وبنوه ستة- أو سبعة- على اختلاف الرواية- متقلدو السيوف جميعا، فدخلوا المسجد، فقال لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: طف. واحتبى هو وأولاده بحبائل سيوفهم فى المطاف. كان ذلك إعلانا قويا بهذا الجوار الكريم، فجاء أبو سفيان بن أمية بن عبد مناف، وأقبل على مطعم بن عدى فقال: أمجير أم تابع؟ قال: بل مجير، فقال: إذن لا تخف.

_ (1) سورة الأعراف: 12. (2) سورة المائدة: 26.

انشقاق القمر

وكأن أبا سفيان بهذا السؤال يشير إلى أنه إن كان تابعا فهو حرب مع النبى عليه الصلاة والسلام ينال ما نال أتباع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وإن كان مجيرا فإنه تحفظ ذمته، لأنه منهم، ولا يفرضون فيه العداوة أو الخصومة. ومن هذا تعرف رحمة الله تعالى فى أن أبا طالب لم يعلن إسلامه مع حمايته للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، إذ أنه لو أعلن الإسلام لحاربوه مع من اذوا من أتباع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم الذين لم يرعوا فيهم إلا ولا ذمة. انشقاق القمر 294- قلنا إن الأمور التى كانت بعد الدعاء المحمدى كانت استجابة لهذا الدعاء وإبعادا للوحشة عن قلبه الطاهر، فمجيء ملك الجبال كان لإشعاره عليه الصلاة والسلام بالقوة، وقد شكا ضعف قوته، وسماع الجن للقران الكريم وإيمان بعضهم كان لإيناسه عليه الصلاة والسلام بكثرة الأتباع، ثم كان تسهيل الجوار ليدخل مكة المكرمة ويكمل دعوته، فيه إثبات سعة الحيلة للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، هداه الله تعالى إليها لكى يذهب بقلة حيلته التى شكاها رسول الله عليه الصلاة والسلام. وكانت من بعد ذلك الايات الحسية، التى كان منها انشقاق القمر، والإسراء والمعراج. لبيان أن الله تعالى لم يتركه ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى «1» . وقد ذكرنا أن كتاب السيرة لم يذكروا الأخبار مرتبة بترتيب الوقائع، وقد ذكروا انشقاق القمر بعد الإسراء والمعراج، ونحن قد رجحنا كما رجح ابن كثير أن الإسراء كان بعد وفاة أبى طالب وخديجة أم المؤمنين رضى الله عنهما، إذ أنها توفيت قبل أن تفرض الصلوات الخمس والصلوات لم تفرض خمسا إلا فى المعراج. وقد ذكر بعد المعراج انشقاق القمر، وإن المناسبة تزكى ذلك الترتيب فإن ذلك تقوية للاستدلال على صحة الرسالة، وإن كان القران الكريم هو المعجزة الكبرى التى تحدى بها النبى صلى الله تعالى عليه سلم، وعده عليه الصلاة والسلام المعجزة. ولندخل من بعد للموضوع، وهو انشقاق القمر. لقد قال الله تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ «2» ، ويقول فى ذلك ابن كثير: «وقد أجمع المسلمون على وقوع ذلك فى زمنه عليه

_ (1) سورة الضحى: 3. (2) سورة القمر: 1.

الصلاة والسلام، وجاءت بذلك الأحاديث المتواترة من طرق متعددة تفيد القطع عند من أحاط بها ونظر فيها، ونحن نذكر من ذلك ما تيسر إن شاء الله تعالى، وبه الثقة وعليه التكلان، ويذكر من بعد ذلك الحافظ الحجة ابن كثير الأخبار الصحاح الواردة فى ذلك. وقبل أن نختار من هذه الصحاح ما نراه أوضح من غيره دلالة، نقول إن انشقاق القمر ثبت بلفظ الماضى مما يدل على حكاية الواقع، لا ذكر المتوقع، فإن اللفظ القرانى يؤخذ بظاهره ما لم توجد قرينة من حقيقة ثبتت بالإجماع والعلم الضرورى، أو من قضايا العقل المبثوثة التى لا مجال للريب فيها، أما تأويل القران الكريم، وإخراجه عن ظاهره باستبعاد بعض ذوى العقول المأفونة أو المتأثرة بالمألوف بين الناس، وتنكر ما عداه، ولا تعلم أن هناك قوة مغيرة محدثة منشئة هى قدرة الله تعالى وإرادته التى توجب الإيمان بالله تعالى فعالا لما يريد، مختارا فيما يفعل، وأنه واحده خالق كل شيء، خلق الأسباب والمسببات، لا توجب إرادته أسبابا عادية لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ «1» . وعلى ذلك نقرر أنه وقع فى الماضى فى عصر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، لأن قول الله تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ عبر عن انشقاق القمر بلفظ الماضى الدال على الوقوع فى زمن مضي، وتخريجها على أن الماضى أريد به المضارع، وأنه سينشق، تخريج للفظ بغير ظاهره الذى دل عليه القران الكريم بظاهره، لابد له من مسوغ يوجب ذلك التخريج، ويكون قرينة دالة على أن اللفظ أريد به غير ظاهره. 294- هذا ما يدل عليه ظاهر القران الكريم، وهو فى ذاته حجة دالة على الوقوع لا يحتاج إلى حجة أخرى تؤيده فهو يؤيد غيره، ولا يستمد التأييد من غيره، ولكن السنة تبين لنا كيف وقع لا أصل الوقوع، فنحن نرجع إلى السنة لبيان شكل الوقوع. لقد ذكر الحافظ ابن كثير أن الوقوع، أو شكل الوقوع يثبت بعدة طرق عن كثيرين من الصحابة، فروى عن أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وجبير بن مطعم، وحذيفة، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس رضى الله تعالى عنهم أجمعين. روى البخارى ومسلم أن أهل مكة المكرمة سألوا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم اية فانشق القمر، فانشق القمر بمكة مرتين، وفى رواية لمسلم عن قتادة عن أنس بن مالك أن أهل مكة المكرمة سألوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن يريهم اية فأراهم القمر شقتين، رواه البخارى، وزادت روايته حتى رأوا حراء بينهما. وبذلك تفسر كلمة مرتين بأنه صار فرقتين.

_ (1) سورة الأنبياء: 23.

وروى الإمام أحمد عن جبير بن مطعم قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله تعالي عليه وسلم، فصار فرقتين، فرقة على هذا الجبل، وفرقة على هذا الجبل، فقالوا: سحرنا محمد، وقالوا إن كان سحرنا، فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم. وروى البخارى عن ابن عباس، قال إن القمر انشق فى زمان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد قال البخارى قد مضى ذلك كان قبل الهجرة انشق القمر، حتى رأوا شقيه. ويقول ابن عباس فيما روى عنه أبو نعيم بسنده: «اجتمع المشركون إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم منهم الوليد بن المغيرة وأبو جهل بن هشام، والعاص بن وائل، والعاص بن هشام ... ونظراؤهم فقالوا للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم: إن كنت صادقا فشق لنا القمر فرقتين، نصفا على أبى قبيس، ونصفا على قيقعان، فقال لهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم تؤمنون؟ قالوا نعم، فسأل الله عز وجل أن يعطيه ما سألوا، وكانت ليلة بدر، فأمسى القمر قد شق نصفا على أبى قبيس، ونصفا على قيقعان» . وهكذا تضافرت الروايات، وهذا بعضها يدل على أن القمر شق، وكان شقين، وكان القمر بدرا، وعينت بعض الروايات أنه كان فى الليلة الرابعة عشرة، وليس لأحد أن يشك في هذه الروايات التى يسند بعضها بعضا، حتى ادعى ابن كثير أن أخبار انشقاق القمر فى عصر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بلغت حد التواتر، وأنه لم يعد ثمة مساغ لمستريب، ولا مجال للتكذيب، وخصوصا أن الأصل ثابت بظاهر القران الكريم الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولكن الذين ينكرون يستغربون ثم يؤولون، إن كان للإيمان بالقران بقية فى قلوبهم. 295- إن الذين يستغربون، ثم ينكرون، ويؤولون إن كانوا مسلمين يردون أن ذلك لو حصل وهو أمر كونى لكان مرئيا فى كل بقاع العالم. ولم يختص العرب برؤيته، بل تعم ولا تخص، وقد ردد ذلك النصارى من كتاب المشرقيات ونقله عنهم الذين يتعرفون أمور الإسلام من هؤلاء. ونقول لعلماء الغرب الذين يشككون فى القران الكريم: لقد صدقتم ما هو أشد من ذلك غرابة، فإن الأناجيل التى يصدقونها، ويؤمنون بكل ما فيها يقولون فى ميلاد المسيح عليه السلام أنه علم ميلاده عند المجوس بنجم أعلمهم، وأنهم جاؤا من بلادهم، والنجم يسير أمامهم، حتى علموا مكانه عن طريق النجوم، فهل كان الناس كلهم قد رأوا ذلك، كما تطالبون المسلمين بأن يثبتوا أن الناس جميعا قد رأوا انشقاق القمر، وإلا فهم فى حل من أن يكذبوا القران الكريم: كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ، إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً «1» .

_ (1) سورة الكهف: 5.

ومع ذلك فإننا نقبل الاعتراض، وإن كانوا غير مخلصين، ولا مؤمنين بما يقولون. ونقول فى رده إن العرب المشركين عندما رأوا القمر قد انشق، لم يؤمنوا وقالوا: سحرنا محمد- وحكى الله تعالى عنهم ذلك، فقد قال الله تعالى في واقعة انشقاق القمر: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ. وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا، وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ «1» . وبعضهم أراد أن يتعرف، وانتهى تعرفه بأن الناس الذين علموا أمره من غير المقيمين قد رأوه منشقا. فقد روى الإمام أحمد، والشيخان البخارى ومسلم عن ابن مسعود قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقالت قريش: هذا سحر ابن أبى كبشة، فقالوا: انظروا ما يأتيكم به السفار، فإن محمدا لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم. وروى البيهقى مثل ذلك عن عبد الله بن مسعود أيضا، فقد قال: انشق القمر بمكة المكرمة حتى صار فرقتين، فقال كفار قريش لأهل مكة المكرمة: هذا سحر سحركم به ابن أبى كبشة، انظروا السفار، إن كانوا رأوا ما رأيتم فقد صدق، وإن كانوا لم يروا مثل ما رأيتم، فهو سحر سحركم به، قال فسئل السفار ومن قدموا من كل وجهة، فقالوا: رأينا. من هذه الصحاح يتبين أن الرؤية كانت عامة، ولم تكن مختصة بإقليم ولا ببلد، وقد تحرى أهل الفحص والنظر فرأوا أن قد رؤى فى كل الأماكن التى كانت تجاورهم. أو أتى فيهم السفر بخبره، فدل هذا على أن الرؤية كانت عامة، والقران الكريم صادق وأخبار النبى صلى الله تعالى عليه وسلم صادقة من كل الوجوه ولا سبيل لإنكارهم بتوهم متوهم، أو استغراب مستغرب، فأمارات الصدق قائمة بينة، ولا يرد الأمر البين بتوهم واهم، أو استغراب مستغرب، أو إنكار كافر جحود. وفوق ذلك، فإنه جاءت الأخبار بأن انشقاق القمر قد رؤى فى الهند، قال المؤرخ ابن كثير: ومع ذلك فقد شوهد ذلك فى كثير من بقاع الأرض. ويقال: إنه أرخ بذلك فى بعض بلاد الهند. وبنى بناء فى تلك الليلة، وأرخ بليلة انشقاق القمر «2» .

_ (1) سورة القمر: 1، 2. (2) البداية والنهاية لابن كثير ج 3 ص 120.

الإسراء والمعراج

الإسراء والمعراج 296- كان الإسراء فى السنة التى كانت قبل الهجرة، وروى البيهقى عن ابن شهاب الزهرى أنه كان فى السنة التى قبل الهجرة، وروى الحاكم أن الإسراء كان قبل الهجرة بستة عشر شهرا. واختلف على ذلك فى الشهر الذى أسرى به فيه، فالسدى قال أنه فى ذى القعدة، والزهرى قال فى ربيع الأول. وروى عن جابر وابن عباس أنهما قالا: ولد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ليلة الاثنين الثانى عشر من شهر ربيع الأول، وفيه بعث، وفيه عرج إلى السماء، وفيه هاجر، وفيه مات. وفى رواية أن الإسراء كان فى ليلة السابعة والعشرين من شهر رجب، ويقول ابن كثير: «وقد اختاره الحافظ بن سرور المقدسى، وقد أورد حديثا لا يصح سنده كما ذكرنا فى فضائل شهر رجب، وأن الإسراء كان فى ليلة السابعة والعشرين من رجب والله أعلم. ومن الناس من يزعم أن الإسراء كان فى أول ليلة جمعة من شهر رجب، وهى ليلة الرغائب التى أحدثت فيها الصلاة المشهورة، ولا أصل لذلك، والله أعلم. وقد جاء في نهاية الأرب أن الإسراء كان في ليلة السبت، ليلة سبع عشرة من رمضان، قبل الهجرة بثمانية عشر شهرا، وقد أسرى صلى الله عليه وسلم به وسنه إحدى وخمسون سنة وتسعة أشهر!! وننتهي من هذا إلى أن علماء السيرة النبوية مختلفون في تعيين اليوم الذي كان فيه الإسراء، ولكن الواقعة ثابتة. وقد اتفقوا علي أنها كانت بعد ذهاب النبي صلي الله عليه وسلم إلى الطائف، وردهم له الرد المنكر، وأن كونها فى ليلة السابع والعشرين من رجب ثبتت بخبر لم يصح سنده في نظر الحافظ المحدث ابن كثير، وقال من بعد ذكره: والله سبحانه وتعالى أعلم. وقد وجدنا الناس قبلوا ذلك التاريخ، أو تلقوه بالقبول، وما يتلقاه الناس بالقبول ليس لنا أن نرده، بل نقبله، ولكن من غير قطع ومن غير جزم ويقين. واتفقت الروايات أيضا علي أن الإسراء كان قبل الهجرة بسنة على الأقل، ويظهر أنها كانت فى السنة التى قبل الهجرة فى ثلثها الأول أو الأخير. والله سبحانه وتعالى أعلم.

ومن سياق التاريخ ومناسبات الحوادث نرى أن الإسراء كان بعد انشقاق القمر. 297- وهنا قد يسأل السائل: ما المناسبة لمسألة الإسراء والمعراج، وتعيين الله تعالى لزمانها، والله سبحانه وتعالى حكيم عليم، يضع الأمور بموازينها وفى أوقاتها، وأجلها المعلوم، ولنا أن نتعرف حكمة الله تعالى من غير أن نقطع بأن هذا هو مراد الله تعالي، فهو العليم الخبير الذى لا تخفى عليه صغيرة أو كبيرة فى السماء أو فى الأرض. ونجيب عن هذا التساؤل بما قررنا، وهو أن الله سبحانه وتعالى استجاب لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم فى ضراعته بالدعاء الذى دعا ربه عقب خروجه من الطائف، وشكا ضعف قوته، أمده الله تعالى بالقوة، وقلة الحيلة فأمده بحسن التدبير لدخول مكة المكرمة امنا مطمئنا، وأيده باية حسية من نوع ما يطلبون، وإذا كانوا لم يستجيبوا لداعى الله تعالى، فلأن المعاند لا يقنعه الدليل، ولو كان حسيا، فقالوا: سحرنا، مع أن انشقاق القمر رأته الركبان فى أسفارها، ثم كان من بعد ذلك الأنس بلقاء الله تعالى فى المعراج، سواء أقلنا أن لقاءه بالله تعالى، كان بالروح فى الرؤيا، أم كان بما هو أكثر من الرؤيا «1» ؟. لقد أحس النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بالوحشة بعد وفاة الحبيبين، خديجة العطوف، وأبى طالب الشفيق. فقال الله تعالى له بالفعل: أنس الله أكبر، ورحمته أعظم، وحياطته أكرم، وإن عنايته بك وبرسالتك هى التى ستبلغك أمرك، وتحقق لك شأوك، وتصل بك إلى غايتك، وهو المهيمن الرؤف الرحيم، لذلك كان الإسراء، ومن بعده عروجه إلى السماء. 298- والان ننتقل إلى الايات الكريمات التى صرحت بالإسراء، ثم كانت الإشارة الواضحة إلى المعراج، قال الله تعالي: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا. إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ «2» . ففى هذا النص ذكر الإسراء صريحا، وكانت الإشارة إلى المعراج بقوله تعالى: لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا. وقال الله تعالى: وَإِذْ قُلْنا لَكَ: إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ، وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ، وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً «3» فقد ذكر المفسرون أن الرؤيا هى المعراج. وقال الله تعالى فى سورة النجم: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى. ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى. وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى. عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى. ذُو مِرَّةٍ

_ (1) السيرة العطرة للأستاذ عبد العزيز خير الدين، ونهاية الأرب ج 16 ص 283، 284. (2) سورة الإسراء: 1. (3) سورة الإسراء: 60.

الإسراء بالجسم:

فَاسْتَوى. وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى. ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى. فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى. فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى. ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى. أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى، وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى. عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى. إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى. ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى. لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى «1» . ولقد قرر المفسرون أن هذه الايات نزلت فى المعراج، وإن ذلك لواضح، وإذا كانت العبارات السابقة لم تصرح بالعروج إلى السموات العلا فإن الإشارات واضحة تكاد تكون تصريحا، والإشارات الواضحة فى قوة الدلالة تكون كالألفاظ الصريحة. وقد قال بعض علماء السيرة أن الإسراء بالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم ابتدأ من شعب أبى طالب، وإن كان السند فى ذلك صحيحا، فإنه يشير إلى أن أبا طالب قد مات، وأن مهمته قد انتهت، وأن الله تعالى وهو الباقى الدائم. الأول الاخر والظاهر والباطن به تكون النصرة الدائمة المتجددة فى الشدائد ولكن الثابت فى البخارى أنه ابتدأ من الحطيم بالمسجد الحرام. الإسراء بالجسم: 299- إن ظاهر الاية القرانية التى أثبتت الإسراء وهى قوله تعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أن الإسراء كان بالجسد والروح، وذلك لأنه سبحانه وتعالى قال أسرى بعبده، والعبد هو الروح والجسد، ومادام الظاهر لا دليل يناقضه من عقل أو نقل، فإنه يجب الأخذ به فإنه من المقررات أن الألفاظ تفسر بظاهرها إلا إذا لم يمكن حملها على الظاهر للمعارض، ولا معارض. وفوق ذلك فإن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عندما أعلن خبر الإسراء بين قريش ففتن بعض الذين أسلموا وارتد من ارتد، ويقول فى ذلك ابن كثير فيما رواه عن قتادة «انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة المكرمة، فأصبح يخبر قريشا بذلك، فذكر أنه كذبه أكثر الناس. وارتدت طائفة بعد إسلامها، وبادر الصديق إلى التصديق، وذكر أن الصديق سأله عن صفة بيت المقدس، وقال إنى لأصدقه فى خبر السماء بكرة وعشيا، أفلا أصدقه فى بيت المقدس، فيومئذ سمى أبو بكر الصديق. وأنه روى أنه عند مروره صلى الله تعالى عليه وسلم على عير لقريش فند بعير لهم نافرا، فأرشدهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى مكانه، وقد أخبروا أهل مكة المكرمة بذلك «2» » . وانه روى أن أهل مكة المكرمة الذين ردوا القول استوصفوه عيرا لهم فوصفها، وقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم فى إخبارهم، والاستدلال على صدقه: «واية ذلك أنى مررت بعير بنى فلان بوادى كذا وكذا، فأنفرهم حس الدابة «3» فند لهم بعير، فدللتهم عليه، وأنا متوجه إلى الشام، ثم أقبلت، حتى

_ (1) سورة النجم: 1- 18. (2) الروض الأنف ح 1 ص 244. (3) هى البراق الذى سنذكر الروايات عنه من بعد.

إذا كنت بضحنان مررت بعير بنى فلان، فوجدت القوم نياما، ولهم إناء فيه ماء، قد غطوا عليه بشيء، فكشفت غطاءه، وشربت ما فيه، ثم غطيت عليه كما كان، واية ذلك أن عيرهم تصوب الان من ثنية التنعيم «1» البيضاء يقدمهم جبل أورق عليه غرارتان، إحداهما سوداء، والاخرى برقاء، فابتدر القوم الثنية.. وسألوهم عن الإناء وعن العير فأخبروهم، كما ذكر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. وإن هذا كله يدل على أن الإسراء كان بالروح والجسد، فإنه تلاقى مع المارين بين مكة المكرمة والشام وأخبر عن التلاقى، وصدق خبره عليه الصلاة والسلام، وإذا كانت بعض هذه الروايات فى إسنادها كلام، فإن بعضها يقوى الاخر، ونص القران الكريم ظاهر فى تأييد الدعوى، بل لا يدل على غيرها حتى يقوم الدليل. ولو كان الإسراء بالروح أو الرؤيا الصادقة ما كانت ثمة غرابة تمنع التصديق، ولبادر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بإخبارهم أن ذلك رؤيا فى المنام، أو هذا وحى أوحى به إليه. ولقد كان بجوار هذا القول الذى تنطق به الاية الكريمة قول اخر، روى عن أم المؤمنين عائشة رضى الله تبارك وتعالى عنها وعن أبيها الصديق رضى الله عنه، وروى أيضا عن معاوية بن أبى سفيان، وقد كان إبان ذلك هو وأبوه من المكاذبين الذين يناوئون الدعوة، ولكن لعله نقل عن غيره ممن شاهدوا، وعاينوا، كما نقلت عائشة عن غيرها، وما كانت فى ذلك الإبان قد زفت إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. وقد كان معاوية مسلما من بعد أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها وعن أبيها الصديق، واحتج بقول عائشة هذا، وقد أثر عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أنه أمر بأن يؤخذ الدين عن عائشة. ولكن الخبر عنها يحمل فى نفسه ما يوهم عدم صدقه عنها، ففيه: أنها قالت: «لم تفقد بدنه» وأن ذلك يوهم أنها كانت معه فى مبيت واحد، مع إجماع المؤرخين والمحدثين على أنه لم يبن بها إلا فى المدينة. وقد استدل أصحاب هذا القول بما روى الحسن البصرى عن أن قول الله تعالى: وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ «2» وقالوا إن الرؤيا هى ما كان فى ليلة المعراج، والرؤيا هى ما يكون فى المنام، كما حكى عن سيدنا يعقوب: أنه قال لابنه يوسف بعد أن قص عليه ما راه فى المنام: لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ.

_ (1) هو مكان فى مدخل مكة. (2) سورة الإسراء: 60.

وجاء فى كتاب البصائر للفيروزبادى: «الرؤيا ما رأيته فى منامك، والجمع رؤى كهدى، وقد تخفف الهمزة من الرؤيا، فيقال بالواو» «1» وهذا وغيره نصوص صريحة فى أن الرؤيا منامية. ولكن أهى كانت فى الإسراء أم كانت فى المعراج؟ إن رواية الحسن رضى الله عنه تقول: هى ما كان فى ليلة المعراج، نعم أن الليلة كانت واحدة، ولكن النص على ليلة المعراج يدل على أن كلام الحسن ومن معه فى المعراج لا فى الإسراء. ويستدل أصحاب هذا القول، وهو أن الإسراء كان بالروح بحديث البخارى عن أنس بن مالك قال: ليلة أسرى برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من مسجد الكعبة جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه، وهو نائم فى المسجد الحرام. فقال أولهم أيهم هو، قال أوسطهم هذا، وهو خيرهم، فقال اخرهم: خذوا خيرهم ... فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى فيما يرى قلبه، وتنام عينه ولا ينام قلبه، وكذلك الأنبياء تنام أعينهم، ولا تنام قلوبهم، ولم يكلموه حتى احتملوا فوضعوه عند زمزم، فتولاه منهم جبريل ... والحديث طويل وقال فى اخره واستيقظ وهو فى المسجد الحرام، ويرى صاحب الروض الأنف أنه نص لا إشكال فيه. ونرى أن فيه إشكالا، لأنه نص فيه على أنه كان قبل أن يوحى إليه، ونرى أنه لم يتعرض لذكر الإسراء والمعراج، ولعلها كانت إذا صحت الرواية فى موضوع اخر. ويرى صاحب الروض الأنف أن الأدلة قد تعارضت بالنسبة للإسراء وأنه يوفق بينها بأن الإسراء كان مرتين: إحداهما بالروح والاخرى بالجسد والروح. ونحن نرى أن الأدلة لم تتعارض، بل الأدلة على أن الإسراء كان بالجسد والروح هى التى لا ريب فيها، ولا يمكن أن يعارض الضعيف القوى. ولذا نرى أن الإسراء كان بالجسد والروح، ولا نجد فيما استدل به ما يدل على أنه كان بالروح فقط، وإن الاية: وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ لا نرى أن موضوعها هو الإسراء، بل إن موضوعها هو المعراج. ولا غرابة فى أن ينقل الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم من مكة المكرمة إلى بيت المقدس وأن يعود به فى ليلة واحدة، فإن هذا ليس ببعيد على الله سبحانه وتعالى، لأن المسافات فى الزمان والمكان، إنما هى بالنسبة للعبيد، لا تكون قط بالنسبة لله سبحانه وتعالى وهو القادر على كل شيء، وهو خالق الأماكن والأزمان.

_ (1) بصائر ذوى التمييز فى لطائف الكتاب العزيز 3 ص 177.

المعراج بالروح

المعراج بالروح 300- إن الأكثرين من العلماء على أن المعراج كالإسراء كان بالجسد والروح، وأخذوا ذلك من ظواهر الأحاديث الصحيحة التى روتها السنة، ففيها التصريح بأنه لقى ادم فى سماء، وإبراهيم فى مثلها، وإدريس وعيسى ويحيى وموسى، وهذه الظواهر اثروا الأخذ بها. ولكن أولئك الأكثرين وقفوا عند رؤية الله سبحانه وتعالى، فقال فريق منهم أنه رأى ربه وخاطبه، وكان ذلك تكريما له لمخاطبة الله سبحانه وتعالى اختص به محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم تعظيما وتقريبا له، وهو فوق المذكور فى قول الله سبحانه وتعالي وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا «1» وليس من هذه الثلاثة رؤية الله سبحانه وتعالى، وتلقى الرسول منه مباشرة من غير حجاب. وقد رأى ذلك الرأى الامام أحمد بن حنبل وقاله أيضا أبو الحسن الأشعرى وقالت طائفة أخرى لم يقع ذلك لحديث مسلم عن أبى ذر رضى الله تبارك وتعالى عنه: «قلت يا رسول الله هل رأيت ربك، فقال عليه الصلاة والسلام إنه نور أنى أراه» وفى رواية رأيت نورا. والذين قالوا إن الإسراء كان بالروح وفى رؤيا صادقة قالوا ذلك فى المعراج، بل هو أولى، فالرحلة كلها كانت رؤيا صادقة. وقد بينا القول فى أدلة هذا الرأى بالنسبة للإسراء من قبل. وقد انضم إليهم غيرهم ممن يرون ان الإسراء كان بالجسد والروح، فمنهم من قال إن المعراج كان بالروح وليس فى الموضوع نص قرانى يدل بظاهره على أنه كان بالجسد والروح، حتى لا يكون مناص من اتباعه أو تأويله، بل نجد الألفاظ تقبل أن يكون المعراج بالروح، وبالظاهر المتبادل، لا بالتأويل المنتزع انتزاعا. ولننظر فى الايات الكريمات الدالة على المعراج: دلالة اية الإسراء على المعراج بالإشارة لا بالعبارة، وذلك فى قوله سبحانه وتعالى لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا فتلك الايات التى أراها الله عبده هى المعراج وإمامة الأنبياء السابقين. والايات الاخرى التى دلت على المعراج، كانت ألفاظها لا تدل على المعراج إلا بالإشارات البيانية، ولننظر فيها عبارة عبارة، وكلها من السمو البيانى فى السماك الأعزل الذى لا يصل إليه بيان قط. عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى. ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى «2» فقد قالوا إنه جبريل عليه السلام، وإذا كان سبحانه وتعالى، فتعليمه لا يكون بالتلقين بل يكون بالإرشاد والإيحاء.

_ (1) سورة الشورى: 51. (2) سورة النجم: 5- 6.

وقوله سبحانه وتعالى: وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى يراد جبريل عليه السلام ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى أى نزل وقرب من النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى عن طريق جبريل، وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى وهو جبريل أيضا وقوله سبحانه وتعالى ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى توميء إلى أن الايات الكبرى التى راها كانت بفؤاده لا ببصره، وقوله سبحانه وتعالى: ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى أى ما كل وما تجاوز حده، والنفى فيه ما قد يكون لأنه لم تكن رؤية بالبصر. حتى يكل المبصر أو يتجاوز حده، وقد يكون لبيان أن البصر لم يتجاوز حده ليطغى، ويحاول أن يرى ما لا يمكن أن يراه، ويزيغ بأن يكل ويمل، ويلقى فى النفس ما لم ير. وإننا عند هذا النظر الفاحص ننتهى إلى أن الإسراء إذا كان بالجسد والروح، فإن المعراج كان بالروح فقط، وأنه كان رؤيا صادقة، وقد اتجهنا إلى ترجيح ذلك لما يأتي: (أ) أنه ذكر فى المعراج أنه التقى بالأنبياء ادم وإبراهيم وموسى ويحيى، وغيرهم، والباقى منهم هو أرواحهم، وأجسامهم سيبعثها الله تعالى يوم البعث والنشور، وفرض أنه بعثها ثم أفناها فرض بعيد لم يذكر فى حديث من الأحاديث، ولا خبر من الأخبار، ولو ضعيفا، وكل فرض فى أمر غيبى لا دليل عليه من المنقول فهو رد على قائله إلا أن يكون أمرا يؤدى إليه البرهان العقلى، ولا يوجد شيء من المنقول ولا المعقول يقرر إعادة أجسام الأنبياء الكرام أحياء، ثم إعادتها إلى الفناء. (ب) إن العبارات القرانية الكريمة الواردة فى المعراج توميء بل تصرح بأن الأمر فى هذه الرحلة السماوية كان روحيا وأن الإدراك لم يكن بالحس، بل كان بالقلب والفؤاد، فالله تعالى يقول: ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى. أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى فالحديث القرانى كله كان فى إثبات رؤية الفؤاد، وأنه لا تجوز المماراة فيما رأى الفؤاد الذى لا يكذب، وذلك لا يتحقق إلا بأن تكون الرؤية روحية، لأن رؤية القلب لا تكون إلا روحية، وأنه عندما ذكرت حاسة البصر ذكرت بالنفي، لا بالإيجاب، وقد بينا مؤدى النفى فى هذا. (ج) أن أخبار المعراج تصرح بأنه رأى ربه، والرؤية القلبية ممكنة باستحضار عظمته، وبالسبحات الروحية المتجهة إلى الله سبحانه وتعالى وأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد قرر أنه لم ير ربه فى حديث أبى ذر الغفارى، فقد قال عليه الصلاة والسلام فى إجابة سؤال الصحابى الجليل أبى ذر: «إنه نور، فأنى أراه» . وإننا لا نتعرض فى ذلك لكون رؤية الله تعالى يوم القيامة ممكنة، أو غير ممكنة، فذلك يوم القيامة بعد البعث والنشور، وذهاب أهل الجنة إليها، وإبقاء أهل النار فيها، فإن الكلام فيها غير الكلام فى الدنيا، ونحن نحس ونرى، فإن كانت رؤية الله تعالى الان فهى بالعين الفانية، ورؤية أهل الجنة عند من يثبتونها تكون بالعين الباقية، والله أعلم كيف يرى.

الاسراء والمعراج فى صحاح السنة

وننتهى من هذا إلى تقرير حقيقتين نراهما: الأولى: أن الإسراء كان بالجسد والروح بظواهر النصوص المثبتة، ولا معارض لها. الثانية: أن المعراج كان بالروح فقط لعدم وجود الأدلة المثبتة أنه كان بالجسد والروح من القران الكريم، ولوجود المعارض من النقل والعقل. والان نعود إلى قصة الإسراء والمعراج كما هى فى الصحاح على أن نفسر الألفاظ على ضوء هاتين الحقيقتين اللتين قررناهما. الاسراء والمعراج فى صحاح السنة 301- كان من الممكن أن نقف بالنسبة للإسراء والمعراج عند هذا الذى قررناه، ولكن يجب أن نستأنس بالمنقول عن الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم على أساس أن كل ما ذكر فى المعراج أنه بالروح. وقد رويت روايات مختلفة تتعلق بواقعة الإسراء ثم العروج، نختار منها رواية البخارى. روى البخارى بسنده عن أنس بن مالك، عن مالك بن صعصعة، أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم حدثهم عن ليلة أسرى به قال: «بينما أنا فى الحطيم، وربما قال فى الحجر- مضطجعا إذ أتانى ات، وسمعته يقول: فشق ما بين هذه إلى هذه، فقلت (أى الراوى) للجارود وهو إلى جنبى ماذا يعنى به، قال من نقرة شعره إلى شعرته، وسمعته يقول من قصة إلى شعرته. فاستخرج قلبى، ثم أتيت بطشت من ذهب مملوء إيمانا فغسل قلبى، ثم حشى، ثم أعيد ... ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار أبيض، فقال الجارود، وهو البراق: قال أنس: نعم. يضع خطوه عند أقصى طرفه، فحملت عليه، فانطلق بى جبرائيل، حتى أتى السماء الدنيا، فاستفتح قيل من هذا؟ قال جبرائيل قال ومن معك! قال محمد قيل أوقد أرسل إليه؟ قال نعم قيل مرحبا به. فنعم المجيء جاء. ففتح، فلما خلصت فإذا ادم، فقال هذا أبوك ادم، فسلم عليه فرد السلام فقال مرحبا بالابن الصالح، والنبى الصالح، ثم صعد بى إلى السماء الثانية، فاستفتح، قيل من هذا قال جبرائيل، قيل ومن معك؟ قال محمد، قيل أوقد أرسل إليه قال نعم قيل مرحبا به، فنعم المجيء جاء. ففتح، فلما خلصت، إذا بيحيى وعيسى وهما ابنا خالة، قال هذا يحيى وعيسى فسلم عليهما فسلمت عليهما فردا ثم قالا: مرحبا بالأخ الصالح والنبى الصالح.

ثم صعد بى إلى السماء الثالثة. فاستفتح جبرائيل، قيل من هذا؟ قال جبرائيل. قال ومن معك؟ قال محمد، قيل أوقد أرسل إليه! قال نعم قيل مرحبا به فنعم المجيء، ففتح، فلما خلصت إذا يوسف. قال هذا يوسف فسلم عليه، فسلمت عليه فرد، ثم قال مرحبا بالأخ الصالح والنبى الصالح. ثم صعد بى إلى السماء الرابعة فاستفتح، قيل من هذا؟ قال جبرائيل قال ومن معك؟ قال محمد، قيل أوقد أرسل إليه قال نعم قيل مرحبا به فنعم المجيء جاء فلما خلصت إذا إدريس، قيل فسلم عليه، فسلمت عليه فرد، ثم قال مرحبا، بالأخ الصالح والنبى الصالح. ثم صعد بى حتى أتى السماء الخامسة فاستفتح، قيل من هذا؟ قال جبرائيل، قيل ومن معك قال محمد، قيل أوقد أرسل إليه! قال نعم، قيل مرحبا به، فنعم المجيء جاء، فلما خلصت إذا بهارون، قال هذا هارون فسلم عليه فسلمت عليه، ثم قال مرحبا بالأخ الصالح، والنبى الصالح. ثم صعد بى حتى أتى السماء السادسة، فاستفتح، فقيل من هذا؟ قال جبرائيل، قيل ومن معك؟ قال محمد. قيل أوقد أرسل إليه؟ قال نعم، قيل مرحبا به فنعم المجىء جاء، فلما خلصت إذا موسى، قال هذا موسى فسلم عليه، فسلمت عليه فرد ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبى الصالح، فلما تجاوزت بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال أبكى، لأن غلاما بعث بعدى يدخل الجنة من أمته أكثر ممن دخلها من أمتى. ثم صعد بى إلى السماء السابعة، فاستفتح جبرائيل، قيل من هذا؟ قال جبرائيل. قيل ومن معك؟ قال محمد، قيل أوقد بعث إليه؟ قال نعم. قيل مرحبا به فنعم المجيء جاء، فلما خلصت، إذا إبراهيم قال هذا أبوك إبراهيم فسلم عليه، فسلمت عليه، فرد، ثم قال: مرحبا بالابن الصالح والنبى الصالح. ثم رفعت إلى سدرة المنتهى، وإذا أربعة أنهار، نهران ظاهران، ونهران باطنان، فقلت ما هذا يا جبرائيل؟ قال أما الباطنان فنهران فى الجنة وأما الظاهران، فالنيل والفرات، ثم رفع لى البيت المعمور. يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ثم أتيت بإناء من خمر، وإناء من لبن، وإناء من عسل، فأخذت اللبن. قال هى الفطرة التى أنت عليها وأمتك. ثم فرض على الصلوات، خمسون صلاة كل يوم، فرجعت فمررت على موسى، فقال بم، أمرت؟ قلت أمرت بخمسين صلاة كل يوم قال إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم، وإنى والله قد جربت الناس قبلك، وعالجت بنى إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك، فسله التخفيف لأمتك فرجعت، فوضع عنى عشرا، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فوضع عنى عشرا، فرجعت إلى موسى، فقال مثله، فرجعت فأمرت بعشر صلوات كل يوم، فقال مثله، فرجعت فأمرت بخمس

صلوات كل يوم، فرجعت إلى موسى، فقال بم أمرت، فقلت بخمس صلوات كل يوم. قال أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم، وإنى قد جربت الناس قبلك، وعالجت بنى إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك، قال: سألت ربى حتى استحييت، ولكنى أرضى وأسلم، قال فلما جاوزت نادانى مناد: أمضيت فريضتى وخففت عن عبادى» . وفى رواية البخارى فى كتاب التوحيد أنه بعد أن راجع ربه بمشورة موسى عليه الصلاة والسلام، وجاء فى مراجعة الخامسة أنه قال لربه: «يا رب إن أمتى ضعفاء، وأجسادهم وقلوبهم وأسماعهم وأبصارهم واذانهم، فخفف عنا، فقال الجبار تبارك وتعالى: يا محمد، قال: لبيك وسعديك. قال: إنه لا يبدل القول لدى، كما فرضت عليك فى أم الكتاب لكل حسنة بعشر أمثالها. فهى خمسون فى أم الكتاب هى خمس عليك» «1» . وإنه من المتفق عليه بين العلماء أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أمّ الأنبياء أجمعين، وعلى مقتضى الذين قالوا إن الإسراء كان بالروح تكون الإمامة روحية ثبتت بالرؤيا الصالحة، وكذلك يرى الذين قالوا إن المعراج كان روحيا. ولكن من الرواة ما يدل سياق روايته على أن صلاة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بالأنبياء إماما كانت عند مقدمه إلى المسجد الأقصى، ومن الرواة ما يدل سياق الرواية على أن الإمامة كانت وهو يعرج إلى السموات العلا. واختار ابن كثير فى تاريخه أن إمامته عليه الصلاة والسلام للأنبياء كانت بعد أن نزل من العروج، ويقول فى ذلك: «وهبط رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس، والظاهر أن الأنبياء هبطوا معه تكريما له وتعظيما، عند رجوعه من الحضرة الإلهية العظيمة، كما هى عادة الوافدين، لا يجتمعون بأحد قبل الذين طلبوه إليه، ولهذا كان كلما سأل على واحد منهم يقول له جبريل: هذا فلان فسلم عليه، فلو كان قد اجتمع بهم قبل صعوده ما احتاج إلى تعرفه بهم مرة ثانية، ومما يدل على ذلك أنه قال عليه الصلاة والسلام «فلما حانت الصلاة أممتهم، ولم يجيء وقت إذ ذاك إلا صلاة الفجر، فتقدمهم إماما بهم عن أمر جبريل فيما يرويه عن ربه عز وجل» «2» .

_ (1) البداية والنهاية ج 3 والتفسير لابن كثير أول سورة الإسراء. (2) البداية والنهاية ج 3 ص 13.

انتشار الاسلام في البلاد العربية

وإن هذا الكلام يدل على أن إمامة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم للأنبياء كانت بعد أن تنزل من الأفق الأعلي، وأن المعراج كما انتهينا كان بالروح، وكانت رؤيا صادقة. هذه قصة الإسراء والمعراج، كما نص عليها فى القران الكريم، وكما جاءت بها السنة الصحيحة، وقد ذكرناها بشيء من الإطناب، لكثرة الكلام حولها، ولاختلاف الروايات، فكان لابد من أن نصفى القول فيها. وخصوصا أنها وانشقاق القمر أعظم خوارق العادات الحسية التى كانت فى حياة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ومع ذلك لم يتحد بها كما تحدى بالقران الكريم لأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إنما تحدى بما يتناسب وخلود شريعته، ودوام رسالته وهو ما يبقى مخاطبا الأجيال كلها إلى يوم الدين، وهو القران الكريم. انتشار الاسلام في البلاد العربية 203- اختار الله سبحانه وتعالى أن تكون مكة المكرمة مهبط الوحى، ومنزل الدعوة الإسلامية الأولى، لأنها مطمح أنظار العرب، ولأنها مثابة الناس وأمنهم، تعد مصدر المعرفة العربية على قدر ما عند العرب، وبها حج بيت الله الحرام، وبها ملتقى العرب فى موسمهم وبها أسواق الأدب والمتاع، ففى موسم الحج يلتقى العرب من كل فج عميق، وفى الأسواق التى تقام فى الموسم يتبارى الشعراء والخطباء فى عكاظ، وذى مجاز ومجنة. وإذا كانت مكة المكرمة لها تلك المكانة فى بلاد العرب، فإن كل ما يكون فيها من أحداث تنتقل أخباره إلى بلاد العرب، فإذا كانت الأحداث منها رسالة رسول يدعو إلى هدم الأوثان وعبادة الله سبحانه وتعالى واحده، فإنه لابد أن يسير بخبرها الركبان. ومن العرب من لا يعيرها اهتماما، ومنهم من يلتفت إليها، ويهتم لها، معاندا مع العاندين، أو طالبا للحق، فيبتغيه. وكذلك كان الأمر، فإن أخبار النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ودعوته إلى الحق، وإلى صراط مستقيم كانت تتجاوب أصداؤها فى البلاد العربية، ومن العرب من كان يجيء إلى مكة المكرمة متعرفا أمر ذلك الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، ومنهم من يرسل إليه من يتعرف دعوته، ويدرسها، كما فعل أكثم بن صيفى حكيم العرب، إذ أرسل بنيه إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يتعرف ما يدعو إليه، فلما حضروا وسألوا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم تلا عليهم قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ

وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ «1» فلما بلغه ما تلا عليهم الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم. قال: إنه إن لم يكن دينا فهو فى خلق الناس أمر حسن، يا بنى كونوا فى هذا الأمر أولا، ولا تكونوا اخرا. وقد أسلم أبو ذر الغفارى بهذا العلم العام الذى شهرت به دعوة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم. وكذلك أسلم على هذا النحو الطفيل بن عمرو، فقد أسلم إذ جاءه الخبر بدعوة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وكان رجلا شريفا شاكرا، وقد حضر إلى مكة المكرمة ليتعرف خبره وما يدعو إليه، ولنتركه يقص علينا قصة إيمانه، إذ يحدث أنه قدم مكة المكرمة، فمشى إليه رجال من قريش فقالوا: يا طفيل إنك قدمت بلادنا، وهذا الرجل بين أظهرنا قد أعضل بنا (أى ظلمنا) ، وقد فرق جماعتنا وشتت أمرنا، وإنما قوله سحر، يفرق بين الرجل وبين بنيه، وبين الرجل وبين أخيه، وبين الرجل وبين زوجته، وإننا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا، فلا تكلمنه ولا تسمعن منه شيئا. ويقول الطفيل: «فو الله ما زالوا حتى أجمعت ألا أسمع منه شيئا ولا أكلمه حتى حشوت فى أذنى حين غدوت إلى المسجد كرسفا خوفا من أن يبلغنى شيء من قوله، وأنا لا أريد أن أسمعه، فغدوت إلى المسجد. فإذا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قائم يصلى عند الكعبة الشريفة، فقمت منه قريبا. فأبى الله تعالى إلا أن يسمعنى بعض قوله، فسمعت كلاما حسنا. فقلت فى نفسى: واثكل أمى! والله إنى لرجل لبيب شاعر ما يخفى على الحسن من القبيح، فما يمنعنى أن أسمع من هذا الرجل ما يقول، فإن كان الذى يأتى به حسنا قبلته، وإن كان قبيحا تركته. ولما انصرف النبى عليه الصلاة والسلام من صلاته إلى بيته تبعه الطفيل وقد مال إلى الإسلام فدخل على النبى عليه الصلاة والسلام وقال له: «يا محمد، إن قومك قد قالوا كذا وكذا، فو الله ما برحوا يخوفوننى أمرك حتى سددت أذنى بكرسف لئلا أسمع، ثم أبى الله تعالى إلا أن يسمعنى قولك، فسمعته قولا حسنا فاعرض على أمرك. قال فعرض على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وتلا على القران الكريم، فو الله ما سمعت قولا قط أحسن منه، ولا أمرا أعدل منه، فأسلمت وشهدت شهادة الحق، وقلت: يا رسول الله إنى امرؤ مطاع

_ (1) سورة النحل: 9.

وفد نصارى نجران:

فى قومى، وأنا راجع إليهم وداعيهم إلى الإسلام، فادع الله أن يجعل لى اية تكون لى عونا عليهم فيما أدعوهم إليه. عاد طفيل إلى قومه يدعوهم إلى الإسلام الذى انبعث نوره من مكة المكرمة، زاد الله البيت الحرام تكريما وتعظيما» . وفد نصارى نجران: 303- وممن أسلموا عندما علموا دعوة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وفد نجران وهم عشرون رجلا، أو قريب من ذلك، من النصارى، عندما علموا أمر الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم من الحبشة، ولنترك الكلمة لابن إسحاق فهو يقول: قدم على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو بمكة المكرمة عشرون رجلا أو قريب من ذلك من النصارى حين بلغهم خبره من الحبشة، فوجدوه فى المسجد فجلسوا إليه وكلموه وسألوه، ورجال من قريش فى أنديتهم حول الكعبة الشريفة، فلما فرغوا من مساءلة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عما أرادوا دعاهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى الله عز وجل، وتلا عليهم القران الكريم، فلما سمعوا القران الكريم فاضت أعينهم من الدمع، ثم استجابوا لله وآمنوا به وصدقوه، وعرفوا منه ما كان يوصف لهم فى كتابهم من أمره. لما قاموا عنه مؤمنين اعترضهم أبو جهل فى نفر من قريش فقالوا قولا اثما، قالوا لهم: خيبكم الله من ركب، بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتدون لهم لتأتوهم بخبر الرجل، فلم تطمئن مجالسكم عنده، حتى فارقتم دينكم، وصدقتموه فيما قال، ما نعلم ركبا أحمق منكم، أو كما قالوا «فقالوا لهم سلام عليكم لا نجاهلكم، لنا ما نحن عليه، ولكم ما أنتم عليه، لم نأل أنفسنا خيرا» . وقد ذكر الله سبحانه وتعالي خبر هؤلاء في القران الكريم مبينا له بالإشارة في وصف عام لبعض أهل الكتاب، فقال الله تعالي: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ. وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ، إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا، إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ. أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ. وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ. إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ، وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ «1» .

_ (1) سورة القصص: 52- 56.

عرض الرسول عليه الصلاة والسلام نفسه على القبائل

وقد رجح الأكثرون أن هذه الايات نزلت في نصاري نجران الذين ذكرنا لك الخبر عنهم، ولم تكن الايات في النجاشي وأتباعه، ويقول ابن إسحاق إن الذى نزل في النجاشي وأصحابه من النصاري هو ما جاء في سورة المائدة، إذ يقول الله سبحانه وتعالي: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا، وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى، ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً، وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ. وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ، يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ. وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ. فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ «1» عرض الرسول عليه الصلاة والسلام نفسه على القبائل 304- يئس الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم من أن يؤمن قومه فى هذا الوقت، ورحمة الله تعالى قد تحملهم على الإيمان، ولكن بعد أدوار من الزمان والأحوال، فإذا كان قد يئس من إيمانهم فى ذلك الوقت، فهو لم ييأس من إيمانهم بعد تعاقب الأحداث، لأن الله تعالى لم يقل له، كما قال لنوح عليه السلام: أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ «2» . وإذا كان محمد صلى الله تعالى عليه وسلم لم يجد من قومه إلا الأذى فى هذه الجولة، فإنه وجد فى بعض الذين يفدون إلى الحج، أو يفدون إليه من يجد قول الحق إلى قلوبهم سبيلا، وقد رأينا كيف كان نور الإسلام ينبعث خارج مكة المكرمة فيجيء احاد من القبائل العربية، ويستمعون القران الكريم وهم ممن يستمعون القول، فيتبعون أحسنه، فإذا تلى عليهم القران الكريم خروا لله ساجدين، ثم يدعون من بعد أقوامهم. وقد رأى النبى صلى الله تعالي عليه وسلم أن يقدم إلى القبائل فى موسم الحج يدعوهم فى منازلهم التى ينزلونها فى منى يذهب إليهم قبيلة قبيلة، يدعوهم إلى الحق، ويتلو عليهم القران الكريم، وقد أحست قريش بذلك، فانبرى الذين يلجون فى عداوة الحق ليصدوا عن سبيل الله، وعلى رأسهم أبو جهل، وأبو لهب، فكانا يتحريان أن يتبعاها، وإذ يدعو النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى الله تعالى

_ (1) سورة المائدة: 82- 85. (2) سورة هود: 36.

جماعات تقبل الواحدانية:

بقوله: «يا أيها الناس، قولوا لا إله إلا الله تفلحوا» يتصدى أبو جهل وأبو لهب وهما يتناوبان فيقول: «يا بنى فلان، إن هذا إنما يدعوكم إلى أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم، إلى ما جاء من البدعة والضلالة، فلا تطيعوه، ولا تسمعوا منه» . وهكذا كانت الدعوة المحمدية تأخذ طريقها، والذين يصدون عن سبيل الله يدعثرونها، ولكن نور الحق لا تطفئه الضلالة، ولا تعمى عنه الأبصار، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم دائب على الدعوة، اتبعوه أو فارقوه، وربما وجد غفلة عن اتباعه، فانتهزها. ومهما يكن مقدار الاستجابة، فإن إعلام الناس بعقيدة التوحيد ينبه الأذهان إلى التفكير فى الأوثان، ومجرد التفكير فيها يحبطها. ولقد روى عن ابن شهاب الزهرى أنه قال: «كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يعرض نفسه على قبائل العرب فى كل موسم، ويخاطب أشرافهم، ويكلم كل شريف قوم، لا يسألهم مع ذلك إلا أن يؤووه ويمنعوه، ويقول «لا أكره أحدا على شيء، من رضى منكم بالذى أدعو إليه، فذلك، ومن كره، لم أكرهه، إنما أريد أن تحرزونى (أى تمنعونى) فيما يراد لى من القتل، حتى أبلغ رسالة ربى، وحتى يقضى الله تعالى لى، ولمن صحبنى بما شاء» . ونرى من هذا أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يدعوهم بالحكمة، فهو يأتيهم من قبل ما شهر عن العرب بحبهم للنجدة، ولا يأتيهم ابتداء بمحاربة تدينهم، كما قال الله تعالى ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ «1» . وكان أكثر الجماعات لا يحبون دعوة الحق، ومنهم من يحسن الرد، ومنهم من كان يقول: الحق بقومك. ولكن بعض الاحاد كانت تصغى أفئدتهم، وإن لم يستطع الكثيرون أن يخرجوا من ربقة ما هم عليه دفعة واحدة. جماعات تقبل الواحدانية: 305- ومع الصدود من الجماعات، والصد من بعض الاحاد، والميل من اخر كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ماشيا فى الاتجاه إلى القبائل فى موسم الحج، وهو يتوسم الناس، ويتعرف الوجوه والأشراف ومعه أبو بكر الصديق، وهو من أعلم الناس بأحوال العرب. وكان بجوار القبائل التى أعرضت، كانت جماعات قد أقبلت على الاستماع، وبدت منها الاستجابة، حتى كانت قبيلتا الأوس والخزرج، على ما سنبين، ولنذكر لك خبرا عن بعض الجماعات

_ (1) سورة النحل: 125.

التى مالت ابتداء، قبل اللقاء بأهل يثرب، وسنجد فى كلامهم مجاوبة تدل على قدرتهم على المنعة، وقوة تفكيرهم. روى أبو نعيم أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم صحب فى إحدى مرات عرضه نفسه الكريمة على القبائل على بن أبى طالب وأبا بكر رضى الله تعالى عنهما، وكان بين أبى بكر، وبين قبيلة من شيبان بن ثعلبة صلة ومودة، ثم جرى بينهم وبين النبى صلى الله تعالى عليه وسلم حديث طويل. قال أبو بكر مخاطبا القوم: ممن القوم؟ قالوا: من بنى شيبان بن ثعلبة. فالتفت إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقال: بأبى أنت وأمى ليس بعد هؤلاء من عز فى قومهم، وهؤلاء غرر فى قومهم، وغرر الناس، وكان فى القوم مفروق بن عمرو، وهانيء بن قبيصة؛ والمثنى بن حارثة، والنعمان بن شريك، وكان أقرب الناس إلى أبى بكر مجلسا مفروق بن عمرو وكان قد غلب عليهم بيانا ولسانا فقال له أبو بكر: كيف العدد فيكم؟ فقال له مفروق بن عمرو: إنا لنزيد على ألف، ولن نغلب من قلة. فقال له أبو بكر: فكيف المنعة فيكم؟ فقال مفروق: علينا الجهد، ولكل قوم جد. فقال أبو بكر: فكيف الحرب بينكم وبين عدوكم، فقال مفروق: إنا أشد ما نكون لقاء حين نغضب، وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد، والسلاح على اللقاح، والنصر من عند الله يديلنا مرة ويديل علينا، لعلك أخو قريش (أى النبى صلى الله عليه وسلم) . فقال أبو بكر: إن كان قد بلغكم أنه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فها هو ذا. فقال مفروق: بلغنا أنه يقول ذلك. ثم التفت إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مخاطبا له، فجلس، وقام أبو بكر يظله بثوبه. فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أدعوكم إلى شهادة ألاإله إلا الله واحده لا شريك له، وأنى رسول الله وأن تؤوونى وتنصرونى حتى أؤدى عن الله تعالى الذى أمرنى به، فإن قريشا تظاهرت على أمر الله، وكذبت رسوله، واستغنت بالباطل عن الحق، والله هو الغنى الحميد.

فقال مفروق: وإلام أيضا يا أخا قريش. فتلا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قول الله تعالى: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً، وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً، وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ، وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ، وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ، لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ، وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ، لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها، وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا، وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى، وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا، ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ، ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ «1» . فقال مفروق، وإلام تدعو أيضا يا أخا قريش؟ فو الله ما هذا من كلام أهل الأرض، ولو كان كلامهم لعرفناه. فتلا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قول الله تعالي: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى، وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ «2» . فقال مفروق: دعوت والله يا أخا قريش إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، ولقد أساء قوم كذبوك، وظاهروا عليك. وكأنه أحب أن يشركه فى الكلام هانيء بن قبيصة، فقال: وهذا هانيء بن قبيصة شيخنا وصاحب ديننا. فقال هانيء: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، وصدقت قولك. وإنى أرى إن تركنا ديننا، واتبعناك على دينك لمجلس جلسته إلينا.. لم نتفكر فى أمرك، وننظر فى عاقبة ما تدعو إليه- زلة فى الرأى، وطيشة فى العقل، وقلة نظر فى العاقبة، وإنما تكون الذلة فى العجلة، وإن من ورائنا قوما نكره أن نعقد عليهم عقدا، ولكن نرجع وترجع، وننظر وتنظر. وكأنه أحب أن يشركه فى الكلام المثنى بن حارثة، فقال: وهذا المثنى شيخنا وصاحب حربنا. فقال المثنى: قد سمعت مقالتك، واستحسنت قولك يا أخا قريش، وأعجبنى ما تكلمات به، والجواب هو جواب هانيء بن قبيصة. وتركنا ديننا واتباعنا إياك لمجلس جلسته إلينا، وإنا إنما نزلنا بين حيزين: أحدهما اليمامة، والاخر السماوة.

_ (1) سورة الأنعام: 151- 153. (2) سورة النحل: 90.

فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: وما هذان الحيزان. فقال له المثنى: أما أحدهما فطفوف البر، وأرض العرب، وأما الاخر فأرض فارس وأنهار كسرى، وإنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى: لا نحدث حدثا ولا نؤوى محدثا، ولعل الأمر الذى تدعونا إليه مما يكرهه الملوك. فأما ما كان مما يلى العرب، فذنب صاحبه مغفور، وعذره مقبول، وأما ما كان يلى بلاد فارس، فذنب صاحبه غير مغفور، وعذره غير مقبول؛ فإن أردت أن تنصرف ونمنعك مما يلى العرب فعلنا. فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ما أسأتم الرد، إذ أفصحتم بالصدق، إنه لا يقوم بدين الله إلا من حاطه من جميع جوانبه. ثم قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: مخاطبا: «أرأيتم، إن لم تلبثوا، إلا يسيرا، حتى يمنحكم الله بلادهم وأموالهم، ويغريكم بهم أتسبحون الله وتقدسونه؟ فقال النعمان بن شريك: «اللهم إن ذلك لك يا أخا قريش» . فتلا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قول الله تعالي: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً. وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ، وَسِراجاً مُنِيراً «1» . ثم نهض رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قابضا على يدى أبى بكر. يقول ابن كثير فى البداية والنهاية بعد أن ساق الخبر: هذا حديث غريب جدا، كتبناه لما فيه من دلائل النبوة، ومحاسن الأخلاق ومكارم الشيم، وفصاحة العرب» «2» . وفى الخبر أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم تنبأ لهم أنهم سينصرون على فارس قريبا، وقد انتصروا فعلا، وأعلن ذلك النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فقد قال لأصحابه: «احمدوا الله كثيرا، فقد ظفر أبناء ربيعة بأهل فارس» وإن هذا الخبر الطويل يدل على أمور: (أ) منها أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان دائبا على بث الدعوة بين القبائل فى موسم الحج، سواء أكانوا من القبائل المتاخمة لفارس، أم المتاخمة للروم فى الشام، وأنه كان يلقى تأييدا على حسب البعد. (ب) ومنها- أنه كما كان يلقى صدودا، كان يلقى أيضا حسن تفهم، وإن كان ثمة تمرد، ومنشؤه أنهم لا يريدون أن يتركوا ما هم عليه ليغيروا بمجرد مجلس.

_ (1) سورة الأحزاب: 45، 46. (2) البداية والنهاية لابن كثير ج 3 ص 144، 145.

ما بين الروم والفرس:

ومنها- أن المنافسة وحب السيطرة بالشرف، هى التى أضلت قريشا وحيث لا تكون منافسة يكون التدبر والتفكير. ومنها تنبؤ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بما يكون بإذن الله تعالى وعلمه. ما بين الروم والفرس: 306- ولمناسبة ما تنبأ به النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من هزيمة الفرس فى جوار البلاد العربية، ووقوع الأمر كالنبأ نذكر تنبؤ القران الكريم المنزل من رب العالمين من غلبة الفرس للروم، وأن الفرس سيغلبون من بعد فى قول الله تعالى: «الم. غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ، وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ. فِي بِضْعِ سِنِينَ، لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ، وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ «1» . ولقد ذكر علماء السيرة والمؤرخون أن كسرى قاد الفرس إلى قتال الروم، فانتصروا عليهم، وهم من عبدة النار؛ فهم كعبدة الأوثان، ويصدران عن ضلال واحد، فكان المشركون يعتزون بهذا النصر، أنهم لا محالة سينتصرون على المسلمين، لأنهم أميون، وليسوا أهل كتاب، والمسلمون أهل كتاب، والنصارى أهل كتاب، فكانت المفاخرة ممن يقاربونهم، ويستطيلون بهم للإيهام بأنهم سينتصرون على المسلمين، فنزل قول الله تعالي الم. غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ، وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ إلى اخر الايات الكريمات. وقد قال بعض المشركين إن الروم لن يغلبوا، وقال له أبو بكر الصديق: سيغلبون فى بضع سنين فتراهنا على عدد من الإبل، فى تسع سنين، إن انتصر الروم فيها خسر الشرك الرهان، وإن لم ينصر الروم فيها كان أبو بكر عليه أن يدفع ما تراهنا عليه. وقد انتصر الروم فى هذه المدة، فكان الرهان لأبى بكر، ويظهر أن ذلك النصر كان بعد أن هاجر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى المدينة. والحافظ ابن كثير يذكر فى هذه ذلك الخبر، فيقول: «المشهور أن كسرى غزاه (أى هرقل) بنفسه فى بلاده، فنهره، وكسره، حتى لم يبق معه (أى هرقل) إلا مدينة القسطنطينية، فحاصرها كسرى مدة طويلة، حتى ضاقت عليه.. ولم يقدر على فتح البلد. لحصانتها، لأن نصفها من ناحية البر ونصفها الاخر من ناحية البحر، فكانت تأتيهم (أى

_ (1) سورة الروم: 1- 5.

الروم) الميرة من هناك، فلما طال الأمر، دبر قيصر مكيدة فطلب من كسرى أن يقلع من بلاده، على مال يصالحه عليه، وبشترط ما شاء فأجابه إلى ذلك وطلب منه أموالا عظيمة لا يقدر عليها أحد من ملوك الدنيا، من ذهب، وجواهر، وأقمشة، وجوار؛ وخدام، وأصناف كثيرة، فطاوعه قيصر، وأوهمه أن عنده جميع ما طلبه! وسأل كسرى أن يمكنه من الخروج إلى بلاد الشام، وأقاليم مملكته، ليسعى فى تحصيل ذلك من ذخائره وحواصله. فخرج من القسطنطينية فى جيش متوسط ... وكسرى مخيم على القسطنطينية ينتظره ليرجع، فذهب قيصر من فوره وسار مسرعا، حتى انتهى إلى بلاد فارس فعاث فيها فسادا وقتلا فى رجالها، ومن كان بها من المقاتلة، وقد كان أكثرهم مع كسرى ... ولم يزل يقتل، حتى انتهى إلى المدائن، وفيها كرسى مملكة كسرى، فقتل من بها، وأخذ جميع حواصله وأمواله، وأسر نساءه، وحلق رأس ولده، وأركبه على حمار، وبعث الأساورة من قومه فى غاية الهوان والذلة، وكتب إلى كسرى يقول: هذا ما طلبت فخذه.... أصاب العمى كسرى، واشتد حنقه على البلد (القسطنطينية) فجد فى حصارهم فلم يقدر على شيء. عاد كسرى إلى بلده بعد أن حزب بمكيدة قيصر مكيدة بعد مكيدة، وبذلك غلب الفرس فى أدنى الأرض كما غلبوا الروم من قبل، ولله الأمر من قبل ومن بعد «1» . وقد ذكر ذلك الخبر فى هذا المقام، لأن ذكره امتداد لما انتصر به بنو شيبان على كسرى، كما تنبأ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ولسنا مقحمين له فى غير موضعه، لأن وقائعه كانت قبل الهجرة، وامتدت إلى ما بعدها، ولأنه إيذان بنصر الإسلام فى فارس من بعد. ولنعد بعد ذلك إلى التقاء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بالقبائل، وما كان قبل الهجرة من تمهيد لها.

_ (1) تفسير ابن كثير ج 2 ص 424، و 425.

التقاؤه صلى الله عليه وسلم بالأوس والخزرج

التقاؤه صلى الله عليه وسلم بالأوس والخزرج 307- أخذ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل كما أسلفنا من القول، وما علم فى موسم الحج أن ملأ من قبيل قد جاء إلى مكة المكرمة إلا عرض عليه الدعوة الإسلامية، وإلى التوحيد، والإيمان بالله، وبأنه صلى الله تعالي عليه وسلم رسول الله. وما علم بوجود كبير فى قومه يقول فيتبع إلا عرض الإسلام عليه. وقد التقى بكثيرين من شمال البلاد العربية وجنوبها ممن جاوروا الروم، وممن جاوروا الفرس، وعقب أن لقى من ربيعة التى تجاور فارس من رأى فيهم من أشراف العرب من كان فيهم نخوة، ومعرفة وإدراك الواجب التقى ببعض رجال من يثرب. التقى أولا بجماعات منهم، ثم كان الاتفاق على التأييد والنصرة بعد الاتباع على الإيمان، وهدى من الله سبحانه وتعالى. وكانت يثرب بأحوالها، وما فيها الأرض التى تقبل الدعوة المحمدية، ذلك لأن أهلها كان اليهود يحاربونهم ولم يكونوا معهم على وفاق، كشأن اليهود حيثما كانوا، وأينما ثقفوا، وكان أهل المدينة وثنيين، واليهود أهل كتاب، فكانو يذكرون لهم أنه الان نبى مبعوث ينصر اليهود على الوثنيين، وكما قال الله تعالى: وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ، فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ «1» وبذلك كانت بين أيديهم معرفة للنبوة، وإدراك للبعثة المحمدية. وفوق ذلك كان أهل يثرب ينتمون إلى قبيلتى الأوس والخزرج، وكان الخلاف بينهم شديدا، وكانوا يتقاتلون، وربما كان خلافهم بعمل يهودى، كشأنهم فى تفريق الجماعات، وإلقاء بذور الفتن فى أى مجتمع يعيشون فى ظله. فكان التنافر بين الأوس والخزرج قبيلتى يثرب مستمرا، والحرب تقع من وقت لاخر، وفيهم من يهم بالاستنصار بقريش على الاخرين، فكانوا فى حاجة أو نصرة من الخارج، ولتوالى التناحر، وكانوا يرحبون بمن يؤلف بينهم، فكان محمد صلى الله تعالى عليه وسلم هو الجامع بينهم، والله تعالى المؤلف بين قلوبهم، كما قال تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً، فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ، فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً، وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها.

_ (1) سورة البقرة: 89.

ابتداء الاتصال بأهل يثرب:

ابتداء الاتصال بأهل يثرب: 308- ابتدأ الاتصال بأهل يثرب من الأوس والخزرج بالاحاد، ثم سار فى طريق النمو، حتى صار الاتصال بالجماعات، ثم كانت البيعة، وتكررت مرتين. يروى ابن إسحاق أنه قدم سويد بن الصامت وهو من بنى عوف مكة المكرمة حاجا، وكان رجلا شريفا، ونسبه رفيعا يسمى فى قومه الكامل، لجلده وشرفه، وكان شاعرا وله صوت مسموع فى قومه. فتصدى له النبى صلى الله تعالى عليه وسلم حين سمع به، فالتقى به ودعاه إلى الإسلام. فكانت بينهما مجاوبة لأنه لم يكن أعرابيا ليس على علم، بل كان على علم يمهد له العلم بالنبوات. دعاه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال سويد: فلعل الذى معك مثل الذى معى. فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: وما الذى معك؟ قال مجلة لقمان- يعنى حكمة لقمان- فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: اعرضها على. فعرضها عليه، فقال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: «إن هذا الكلام حسن: والذى معى أفضل منه، هذا قران أنزله الله تعالى على هدى ونور، ثم تلا صلى الله تعالى عليه وسلم القران الكريم، ودعاه إلى الإسلام، فلم يبعد منه وقال: إن هذا القول حسن. ثم انصرف عنه إلى المدينة، وقدم على قومه فلم يلبث أن قتله الخزرج. وكان قتله قبل واقعة بعاث التى كانت بين الأوس والخزرج. ولقد كان رجال من قومه يقولون إنا لنراه قتل مسلما، وإن مقدمات الإسلام كانت معه فى لقائه بالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، إذ قال فى القران الكريم: «إن هذا القول حسن» وهذا يدل على أن قلبه قد فتح للإيمان، وإن كان وصف القران الكريم أعلى من ذلك، ولقد جاء من بعد ذلك جماعات من الأوس على رأسهم أنس بن رافع، يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج، أى ليعقدوا حلفا مع قريش لينصروهم من الخزرج. سمع بهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأتاهم، فجلس إليهم، فقال: هل لكم فى خير مما جئتم له؟ قالوا: وما ذاك؟ فقال: «أنا رسول الله تعالى إلى العباد، أدعوهم إلى أن يعبدوا الله، ولا يشركوا به شيئا، وأنزل على الكتاب» ثم ذكر لهم الإسلام، وتلا عليهم القران الكريم. وكان فيهم شاب مدرك وهو إياس بن معاذ، فقال لهم: يا قوم هذا والله خير مما جئتم له. فنهره رئيس الجماعة وقال له: دعنا عنك، فلعمرى لقد جئنا لغير هذا. فصمت إياس بن معاذ، وعادوا إلى

يوم بعاث:

المدينة، ثم مات إياس، وقد قال من حضر موته من قومه إنهم لم يزالوا يسمعونه يهلل لله ويكبره ويسبحه ويحمده، فما كانوا يشكون فى أنه مات مسلما، وإن الله تعالى قد أنار بصيرته، وأعطاه الله نفسا طيبة تدرك الحق عند أول سماعه، وتؤمن به إذ خلصت لله تعالى. يوم بعاث: 309- بعاث موضع بالمدينة المنورة، تقاتل فيه الأوس والخزرج، وكانت بينهم مقتلة عظيمة، قتل فيها خلق كثير من أشراف الأوس والخزرج وكبرائهم، ولم يبق كما يقول ابن كثير من شيوخهم إلا القليل، فعضتهم الحرب عضا شديدا بنابها، وكان ذلك غب عودة الأوس من مكة المكرمة، وعرض النبى صلى الله تعالى عليه وسلم نفسه عليهم، وأجابه شاب منهم، ونهره رئيس الوفد. وإن الشدة فى كثير من الأحيان توجد فى القلب نورا، وكأن الأحياء فى تناحرهم يحدث من التحامهم نور يضيء كالنور الذى يحدث من احتكاك شيئين أحدهما موجب والاخر سالب. فقد كانت واقعة بعاث هذه بعد دعوة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم داعية أهل يثرب للتفكير فيما جاء به عليه الصلاة والسلام، وعندهم معرفة عارضة ببعثه صلى الله تعالى عليه وسلم، فإنه كان ابتداء لدخول الناس من يثرب فيه جماعات، بعد أن كانوا يدخلون احادا. وقد روى البخارى فى صحيحه بسنده عن عائشة أم المؤمنين رضى الله تعالى عنها، أنها قالت: «كان يوم بعاث يوما قدمه الله تعالى لرسوله» . قدم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى المدينة المنورة، وقد افترق ملؤهم، وقتل سراتهم. لقد اكتووا بنار الحرب، ومن اكتوى بها، طلب برد السلام والاطمئنان، وفتح قلبه لنعمة الله تعالى. بدء إسلام الأنصار 310- قلنا إن دخول الإسلام يثرب بالاحاد، يدخلون فيه فرادى ثم جاء من بعد ذلك من يدخلون فى دين الله تعالى أفواجا أفواجا. وإن أولئك الاحاد كانوا يذكرون نعمة الإسلام فى عشائرهم، فيستأنسون به، ولم تكن لهم بأسرة النبى عليه الصلاة والسلام عداوة، حجبتها المنافسة، أو الحسد، أو أثارها الحقد على بيته الكريم صلى الله تعالى عليه وسلم، فوجدت بينهم معرفة الحق، وموجبات اتباعه، من غير أن تكون الموانع التى تصد عن

سبيل الله تعالى، والتى تغلف القلوب بغلاف من العداوة والبغضاء، فتمنع نور الحق من أن يدخل إليها، فينيرها. فى الموسم الذى كان عقب بعاث والنبى عليه الصلاة والسلام يعرض الإسلام على القبائل بمنى، يذهب إلى منازلهم بها، فى هذا الموسم التقى برهط من الخزرج، قال ابن إسحاق فى سيرته: «فقال لهم: من أنتم. قالوا: نفر من الخزرج، قال: أمن موالى يهود؟ قالوا لا، قال أفلا تجلسون أكلمكم؟ قالوا بلى، فجلسوا فدعاهم إلى الله تعالى، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم، القران الكريم، وكان مما صنع الله تعالى بهم فى الإسلام أن يهود كانت معهم فى بلادهم، وكانوا أهل كتاب وعلم، وكانوا هم أهل شرك أصحاب أوثان، وكانوا غزوهم ببلادهم فكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا إن نبيا مبعوثا الان، قد أظل زمانه، نتبعه، فنقتلكم مثل قتل عاد وإرم، وكان عندهم علم بذلك كما قرر القران الكريم. وإن النفر الذين جاؤا من قبل، وذاقوا بشاشة الإسلام، قد أوجدوا بينهم الفكرة الإسلامية، فلما كلم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك الرهط ودعاهم إلى الله، تذاكروا فيما بينهم كلام اليهود. قال بعضهم لبعض: «يا قوم: تعلمون والله أنه النبى الذى توعدكم به يهود فلا يسبقنكم إليه» . لذلك أجابوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فيما دعاهم إليه، وصدقوا به، وأرادوا أن يسود الإسلام بينهم، وأن يستبق الحق قومهم، وأن يكون الإسلام طريق الخير لهم، فقالوا للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم: «إنا تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، ولعل أن يجمعهم الله تعالى عليك، فلا رجل أعز منك» وهكذا أجابوا داعى الله، وقد ذكرت كتب السيرة أسماء هذا الرهط من الخزرج «1» . واختلفت الروايات، أكانوا ستة أم كانوا ثمانية، وكلهم من الخزرج، ولكن من الروايات ما ذكر فيها أنه كان من الأوس أبو الهيثم. ومهما يكن، فقد كان أولئك وفد الخير والحق والصدق، فما أن انصرفوا عائدين إلى يثرب، حتى أخذوا يذكرون رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ويدعون بدعوته، حتى عمت وفشت، وتذاكر بها أهل يثرب، ومنهم من استجابوا لدعوة الحق، لمجرد ذكرها، ولم يطلبوا برهانا، لأنها دعوة إلى التوحيد، وهى فى ذاتها صادقة، وكانوا يعلمون بها، إذ يؤمنون بأن الله تعالى خالق السموات والأرض

_ (1) هذا السياق التاريخى فى السيرة لابن هشام، والبداية والنهاية لابن كثير، والسهيلى وابن نعيم وصحاح السنة.

العقبة الأولى أو البيعة الأولى

واحده، وما كانوا جاهلين بالله تعالى، بل كان فيهم بقية من ملة إبراهيم، واليهود بينهم يذكرون لهم أن رسولا فى مكة المكرمة قد بعث، فكانت الدعوة إلى الله تعالى مستجابة لا مراء فيها. فشا الإسلام فى المدينة، قبل أن يقدم إليها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وقبل أن يرسل مبعوثا، يعلمهم الإسلام، ويتلو عليهم القران الكريم، حتى أن ابن إسحاق يقول بسنده المتصل، لم يبق من دور الأنصار دار إلا وفيها ذكر لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فعلموه جميعا: علموا دعوته إجمالا، وتهيئوا للبيعة. العقبة الأولى أو البيعة الأولى 311- تجاوبت أصداء الدعوة المحمدية فى ربوع يثرب وتذاكروها مذاكرة من لا يتنازعون فى شرف تمسه أو عصبية جاهلية ينصرونها، ولكن تجاوب من يطلبون الحق، ومن صغت أفئدتهم إليه، ومن يرجون من الاستجابة زوال الفرقة التى تقسمهم، وتجعلهم فى حرب مستمرة، وفوق كل ذلك يريدون أن يستعلوا بها على اليهود الذى كانوا يستفتحون عليهم بأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم سيكون مع أهل الكتاب عليهم، فهم يسارعون إليه، لأنهم يسارعون فى الحق، ولا يبغون سواه. فلما كان موسم الحج الذى أعقب موسم اللقاء الأول، وكان التفاهم الذى رجوا فيه الخير والأمن والسلام فى حضرة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فى هذا الموسم جاء اثنا عشر نقيبا من الأوس والخزرج، لا لأداء الحج فقط بل لهذا، وللقاء محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، مستجيبين له، لما قد عاقدوا العهد على لقائه، وإعطائه به المواثيق عن أنفسهم ومن وراءهم ممن بعثوهم نقباء، يتحدثون باسمهم، ويقدمون العهود والمواثيق عنهم. وقد روى عن عبادة بن الصامت أنه قال: «كنت فيمن حضر العقبة الأولى، وكنا اثنى عشر رجلا ليبايعنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم» وكانت هذه البيعة بيانا للشرع الإسلامى فى العلاقات الاجتماعية، والأسرية، وأخذ العهد عليهم أن يقوموا بحقها، وهى جزء من الإسلام على عقيدة التوحيد، والعبادات، على أساس هذه العقيدة. وقد ذكر عبادة بن الصامت نص هذه المبايعة، فقال: «بايعنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ليلة العقبة الأولى على ألا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق ولا نزنى، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتى ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه فى معروف، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإن وفيتم فلكم الجنة،

مصعب بن عمير:

وإن غشيتم شيئا فأخذتم بحده فى الدنيا فهو كفارة له، وإن سترتم عليه إلى يوم القيامة، فأمركم إلى الله تعالى، إن شاء عذب وإن شاء غفر. ولقد قال الحافظ ابن كثير، إن هذا الحديث مخرج فى الصحيحين وغيرهما من طرق عن ابن شهاب الزهرى. ونرى أن هذه المبايعة كانت لبيان بعض التكليفات الإسلامية التى لا اختلاف فيها، وما كانت للإيواء والنصرة، لأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لم يكن قد قرر الهجرة إليهم، ولم يكن قد جاءه الأمر بذلك، أو الإيحاء به، ولأنه لا يأخذ بعهد النصرة، قبل عهد الإيمان، فما كان عهداهم عهد جوار، ولكن عهد تأييد، ومحاربة دون الإسلام، ولا تكون إلا بعد توثيق كلمة الإيمان، وحقها. وقد سمى كثيرون من كتاب السيرة هذه البيعة بيعة النساء، وما كانت هذه التسمية فيما نحسب فى وقت البيعة، إنما كانت بعد ذلك لمشابهتها لما ذكره القران الكريم من مبايعة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم للنساء فى أحكامها، وإن اختلف وقتها، واختلف موضوعها، فتلك كانت مع النساء، أما هذه فكانت مع الرجال، وهى للرجال وللنساء على سواء. وهذا نص بيعة النساء كما جاء بها القران الكريم، فقد قال الله تعالى فى سورة الممتحنة: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً، وَلا يَسْرِقْنَ، وَلا يَزْنِينَ، وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ، وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ، فَبايِعْهُنَّ، وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ «1» بيعة النساء بعد الهجرة. مصعب بن عمير: 312- انصرف القوم إلى يثرب تحفهم بركة الله، ونعمة الإيمان، فبعث معهم مصعب بن عمير الذى يلتقى فى النسب مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى قصى بن حكيم، فهو كما جاء فى نسبه مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصى. وقد أرسله إليهم، ليدعو إلى الله تعالى من لم يؤمن، وليعلمهم، ويفقههم فى الدين، ويقرأ عليهم القران الكريم. ويذكر البيهقى بسنده عن عمرو بن قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما بعث إليهم مصعبا حين كتبوا إليه أن يبعثه إليهم، وهو الذى يذكره موسى بن عقبة «2» .

_ (1) سورة الممتحنة: 13. (2) البداية والنهاية لابن كثير ج 3 ص 151.

أول جمعة أقيمت بالمدينة المنورة:

وإنا ترجح أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم هو الذى اختار لهم مصعبا، وأنه قرر أن يبعثه إليهم ليعلمهم الإسلام ويتلو عليهم، فما كان من المعقول أن يتركهم صاحب الرسالة، وقد استجابوا لله وللرسول من غير أن يرسل إليهم من يعلمهم، ولعلهم قد كتبوا إلى الرسول أيضا، فالتقت رغبتهم مع ما قرره النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. ذهب إليه مصعب بن عمير، ومعه علم الإسلام، وعلم القران الكريم، فأخذ يعلمهم مباديء الإسلام، وعباداته ويقرئهم القران الكريم، ولذلك سمى فى المدينة (المقريء) . وقد نزل عندما قدم المدينة عند أسعد بن زرارة. وكان يؤم المسلمين بالمدينة المنورة فى الصلاة، لأنه أعلمهم بالقران الكريم وبالإسلام، إذ جاء ليعلمهم، فهم منه بمقام التلميذ من الأستاذ، ولأنه رسول رسول الله عليه الصلاة والسلام صاحب الرسالة، فهو نائبه، والنائب يستمد ممن أنابه السلطان، ويضيف الرواة سببا اخر مستمدا من العصبية الأولى، وهو أن الأوس كرهوا أن يؤمهم خزرجى، والخزرج كرهوا أن يؤمهم أوسى، فكان الوفاق على أن يؤمهم مصعب، ونرى أن السببين الأولين كافيان وهما الأليق برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وروى أنه كان يتبادل الإمامة مع مصعب، أسعد بن زرارة. أول جمعة أقيمت بالمدينة المنورة: 313- هذا عنوان أخذناه من سيرة ابن هشام، رواه عن ابن إسحاق، ونقول فيه: إن هذه البيعة والاتصال بقبائل يثرب كان بعد الإسراء والمعراج، حيث فرضت الصلوات الخمس، والجمعة قائمة مقام صلاة الظهر وهى إحدى الخمس. وكان لابد أن تقام الجمعة فى المدينة المنورة بعد أن فشا الاسلام، وسارت فى الطريق، لتكون مدينة إسلامية، يأمن فيها المسلم على نفسه وعلى دينه، والجمعة تقوم حيث الأمن، واستقرار الأمور على الوجه الإسلامى الذى يبتغيه محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه. لقد أخذ أسعد بن زرارة الذى نزل عنده مصعب بن عمير رضى الله عنهما وذهبا إلى جبل هزم النبيت من حرة بنى بياضة فى بقيع يقال له بقيع الخضمات وكانت عدتهم يومئذ أربعين رجلا. روى ابن إسحاق بسنده عن أبى الشامة عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك حين ذهب بصره قال: كنت إذا خرجت به إلى الجمعة، فسمع الأذان صلى على أبى أمامة، أسعد بن زرارة، فمكثت حينا على ذلك لا يسمع الأذان لجمعة إلا صلي عليه واستغفر له، فقلت فى نفسى، والله إن

هذا بى لعجز، ألا أسأله ماله إذا سمع أذان الجمعة صلى على أبى أمامة أسعد بن زرارة، فخرجت به فى يوم جمعة، كما كنت أخرج، فلما سمع الأذان للجمعة صلى عليه، واستغفر له، فقلت: «يا أبت مالك إذا سمعت الجمعة صليت على أبى أمامة، فقال: أى بنى كان أول من جمع بنا فى المدينة فى هزم النبيت من حرة بنى بياضة فى مكان يقال له بقيع الخضمات، قلت: وكم أنتم يومئذ؟ قال: أربعون رجلا «1» . ولم يكن عمل مصعب وأسعد بن زرارة من بنى النجار مقصورا على إقامة الصلوات، بل أخذا يدعوان إلى الإسلام فى يثرب. فقد جاء فى السيرة لابن إسحاق وفى البداية والنهاية لابن كثير. أنهما أخذا يدعوان إلى الإسلام بنى عبد الأشهل، وبنى ظفر، وهما من أقوى الأنصار صوتا، وأبعدهم ذكرا. وإليك ما جاء فى البداية والنهاية: كان سعد بن معاذ ابن خالة أسعد بن زرارة، فدخل به حائطا من حوائط بنى ظفر فجلسا فى الحائط (البستان) واجتمع إليهما رجال ممن أسلموا، وسعد بن معاذ، وأسيد بن الحضير يومئذ من بنى عبد الأشهل، كلاهما مشرك على دين قومه. فقال سعد لأسيد: لا أبالك انطلق إلى هذين الرجلين اللذين قد أتيا دارينا ليسفها ضعفاءنا فازجرهما، وانههما أن يأتيا دارينا ... فأخذ أسيد بن حضير حربته، ثم أقبل إليهما. فلما راه أسعد بن زرارة قال لمصعب: هذا سيد قومه، قد جاءك، فاصدق الله فيه ... فوقف عليهما أسيد متشمتا، ثم قال: ما جاء بكما إلينا، تسفهان ضعفاءنا؟ اعتزلانى، إن كان لكما بأنفسكما حاجة، وقال غلام: أتيتنا فى دارنا رعديد الغريب لتسفه ضعفاءنا بالباطل، وتدعوهم إليه. فقال مصعب لأسيد: أو تجلس فتسمع، فإن رضيت أمرا قبلته، وإن كرهته كف عنك ما تكره. قال: أنصت. ثم ركز حربته وجلس، فكلمه مصعب بالإسلام، وقرأ عليه القران الكريم. فقال مصعب وأسيد، والله لعرفنا الإسلام فى وجهه، فى إشراقه وتسهله، قبل أن يتكلم. فقال: ما أحسن هذا الكلام وأجمله، كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا فى هذا الدين، قالا له: تغتسل فتطهر، وتطهر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلى ... ففعل ما طلب إليه، ثم قال لهما: إن ورائى رجلا إن اتبعكما لم يتخلف أحد من قومه، وسأرسله إليكما، سعد بن معاذ. ثم أخذ حربته وانصرف إلى سعد وقومه وهم جلوس فى ناديهم، فلما نظر إليه سعد بن معاذ مقبلا قال: أحلف بالله، لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذى ذهب به من عندكم.

_ (1) سيرة ابن هشام ج 21 ص 415 والبداية والنهاية لابن كثير ص 152 ج 3.

فلما وقف على النادى، قال سعد: ما فعلت. قال كلمات الرجلين، فو الله ما رأيت بهما بأسا. وقد نهيتهما فقالا: نفعل ما أحببت، وقد حدثت أن بنى حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه، وذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك، ليحقروك. فقام سعد مغضبا مبادرا، مخوفا للذى ذكر له من بنى حارثة، وأخذ الحربة فى يده، ثم قال: والله ما أراك أغنيت شيئا. ثم خرج إليهما سعد، فلما راهما مطمئنين عرف أن أسيدا، إنما أراد أن يسمع منهما فوقف متشمتا، ثم قال سعد بن معاذ: والله يا أبا أمامة لولا ما بينى وبينك من القرابة، ما رمت هذا منى، أتغشانا فى دارنا بما نكره. قال أسعد لمصعب: جاءك والله سيد من ورائه قومه إن يتبعك لا يتخلف منهم اثنان. قال مصعب: أو تقعد فتسمع، فإن رضيت أمرا رغبت فيه قبلته، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره. قال سعد: أنصفت، ثم ركز الحربة وجلس. وعرض عليه الإسلام، وقرأ عليه القران الكريم، وذكر موسى بن عقبة أنه قرأ عليه أول سورة الزخرف حم. وَالْكِتابِ الْمُبِينِ. إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ. أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ. وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ فعرفنا فى وجهه الإسلام قبل أن يتكلم فى إشراقه وتسهله. ثم قال سعد لهما: كيف تصنعون إذا أنتم دخلتم فى هذا الدين، قالا: تغتسل فتطهر، وتطهر ثوبيك ثم تشهد شهادة الحق، ... وقد أخذ حربته بعد أن فعل ما أشار به، فأقبل عائدا إلى نادى قومه، فلما راه قومه مقبلا، قالوا: نحلف بالله لقد عاد اليكم سعد بغير الوجه الذى ذهب به من عندكم، فلما وقف عليهم، وقف داعيا للإسلام، ويقول: يا بنى عبد الأشهل، كيف تعلمون أمرى فيكم؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا رأيا، وأيماننا نقيبة، قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم على حرام، حتى تؤمنوا بالله ورسوله «1» . اجتمع مصعب وأسعد بن زرارة وسعد بن معاذ فى منزل أسعد، وأخذوا يدعون إلى الإسلام حتى فشا فى يثرب فأسلم بنو عبد الأشهل رجالا ونساء. وقد فصلنا القول فى دعاية مصعب بن عمير، وأسعد بن زرارة، ونقلنا لك المجاوبة التى جرت بين الزعماء والكبراء، فإن الاستماع إلى كلمات الرجال، كما جرت على أفواههم تصور حالهم ونفوسهم.

_ (1) البداية والنهاية لابن كثير ج 3 ص، 152، 153

العقبة الثانية

لقد كانوا ينتهون من المجاوبة إلى الإصغاء إلى دعوة الحق واتباعها من غير تلكؤ، وإن هذا يدل على صفاء نفوسهم، وحيث خلت النفوس من المنازعات بالشرف، والمنافسة فى الفخر، فإنها تتجه إلى الحق بقلب سليم، فتسارع إلى الدخول فيه، وقد أحسوا أن فى الاتباع منجاة لهم من التفرق والنزاع الذى أداهم إلى الحرب، وعضتهم بنابها، وفوق ذلك كانت وصلتهم إرهاصات بذكر النبوة المحمدية كان يستفتح بها اليهود عليهم. العقبة الثانية 314- جاءت العقبة الأولى بعد اللقاء الأول بين النبى صلى الله تعالى عليه وسلم والخزرج وبهم انتقل خبر الإسلام إلى يثرب التى أعدها الله تعالى لتكون المدينة الفاضلة، مدينة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، ثم كان فى العقبة الأولى التعريف بمباديء الإسلام والبيعة بها، على أن تكون هذه البيعة الميثاق الذى أخذه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وكانت البيعة الثانية فى العقبة بعد أن فشا الإسلام، وكانت تمهيدا للانتقال إلى المدينة والهجرة، ويظهر أنها كانت فى اخر موسم حضره النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بالمدينة المنورة، والعقبة الأولى كانت فى الموسم الذى قبله، ولذلك كانت البيعة فيها بالإيواء والنصرة، كما يتبين ذلك. ويظهر أن خبر اتصال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان يتسرب إلى قريش، ويحاولون أن يأخذوا حذرهم، إذ رأوا أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان يعرض نفسه على القبائل، وهم يتوجسون خيفة من أن تخرج الدعوة إلى التوحيد من بين ظهرانيهم إلى العرب، وإنهم يتوقعون منهم الاستجابة، ليستعين بهم، ويتخذ منهم قوة عليهم. وقد رأينا كيف يتعقبه أبو جهل وأبو لهب، ويتناوبان. لذلك عندما جاء مصعب من يثرب هو وأسعد بن زرارة، ومعهم جماعات من الأوس والخزرج، قد أسلموا، وقد كان معهم من سكان يثرب من كانوا لا يزالون على وثنيتهم، ولم يذوقوا بعد بشاشة الإسلام، ومنهم من تتجافي قلوبهم دونه مثل عبد الله بن أبى بن سلول الذى أكله بغض الإسلام والمسلمين، حتى صار رأس النفاق فى المدينة المنورة من بعد، وكان يضع الفتنة ويبنيها، ويثيرها حيثما وجد إلى ذلك سبيلا. ولقد أخذ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم حذره من ناحيتين، من ناحية قريش الذين احتسبوا بأن أمرا يدبر من ورائهم، ولقد كان يرى عيونهم تبث من حوله، حتى أن الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم

ليقول لوفد الأوس والخزرج عندما التقى بهم فى العقبة: «ليتكلم متكلمكم، ولا يطل الخطبة، فإن عليكم من المشركين عينا، وإن يعلموا بكم يفضحوكم» . والناحية الثانية من أولئك المشركين الذين صحبوا المسلمين من الأوس والخزرج، ولعله صلى الله تعالى عليه وسلم فيما حذر من عيون المشركين، كان كلامه يعم الفريقين، فريق قريش، وفريق المشركين الذين صحبوا وفد الإيمان. ولهذا لم يلتق فى أول حضورهم، بل ضرب لهم موعدا فى أيام منى، فلم يأخذ عليهم البيعة فى أول لقاء. فروى ابن إسحاق بسنده عن كعب بن مالك، قال «خرجنا إلى الحج وواعدنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بالعقبة من أواسط أيام التشريق فلما فرغنا من الحج، وكانت الليلة التى واعدنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ... وكنا نكتم من معنا من قومنا من المشركين. ويقول كعب فى هذه الرواية: فنمنا تلك الليلة فى قومنا فى رحالنا حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم نتسلل تسلل القطا مستخفين، حتى اجتمعنا عند العقبة ونحن ثلاث وسبعون رجلا، ومعنا امرأتان. هذه رواية كعب بن مالك، وروى أنهم كانوا سبعين، ومعهم امرأتان. التقى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فى الميقات المحدود، والمكان المعين وقد صحبه فى هذا اللقاء عمه العباس بن عبد المطلب، وهو على دين قومه وإنما صحبه ليتوثق له، ويطمئن على نصرته، وقد قال فى هذا اللقاء: «يا معشر الخزرج «1» ، إن محمدا منا، حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا، ممن هم على مثل رأينا فيه فهو فى عز من قومه، ومنعة فى بلده، وإنه قد أبى إلا الانحياز إليكم، واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه، وما نعوه من خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج إليكم، فمن الان فدعوه، فإنه فى عزة ومنعة من قومه وبلده. عندئذ قال قائل الأوس والخزرج: قد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله، فخذ لنفسك ولربك ما أحببت. فتكلم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ودعا إلى الله تعالى، ورغب فى الإسلام. وقد طلب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن يختاروا من بينهم اثنى عشر نقيبا ففعلوا.

_ (1) قال ابن هشام: كانت العرب يسمون هذا الحى الخزرج، خزرجها وأوسها، ولعل ذلك لأنهم كانوا أكثر أو أظهر عند قريش.

البيعة:

البيعة: 315- هذه هى البيعة الثانية، كما جاءت بذلك الروايات المتضافرة وقد انقسمت البيعة إلى قسمين: أحدهما- لتوثيق مباديء الإسلام؛ وقد روى الإمام أحمد فى هذا القسم: أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قال فيه: «تبايعون على السمع والطاعة فى النشاط والكسل، والنفقة فى العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر. وأن تقولوا فى الله لا تخافون لومة لائم» . والقسم الثانى- خاص بنصرته صلى الله تعالى عليه وسلم. وأن يمنعوه. ويروى ابن إسحاق عن أبى أمامة أسعد بن زرارة أنه قال للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم: سل يا محمد لربك ما شئت، ثم سل لنفسك ما شئت، ثم أخبرنا مالنا من الثواب على الله وعليكم إذا فعلنا، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «أسئلكم لربى أن تعبدوه، ولا تشركوا به شيئا، وأسئلكم لنفسى وأصحابى أن تؤوونا وتنصرونا، وتمنعونا مما تمنعون منه أنفسكم» . وروى الإمام أحمد أيضا عن عبادة بن الصامت أنه قال: إنا بايعنا رسول الله على السمع والطاعة فى النشاط والكسل، والنفقة فى العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وعلى أن نقول فى الله، لا تأخذنا فيه لومة لائم، وعلى أن ننصر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا قدم علينا يثرب، مما نمنع به أنفسنا وأزواجنا وأبناءنا، ولنا الجنة. هذه روايات متعددة فى ألفاظ البيعة ومعانيها، ولا تخالف بينها، بل يكمل بعضها بعضا، وإذا كانت نقصت بعض العبارات من رواية، فإن الرواية الاخرى تكملها. ولقد قال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى نتيجة البيعة «أخذت وأعطيت» أخذ عليهم العهد لله بالتوحيد والطاعة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وأعطاهم الوعد بالجنة. ولقد أعطوا الوعد بالنصر والإيواء عن بينة من ربهم، فقد بين بعضهم لبعض ما فى الوعد بالنصر من تبعات، سيتحملونها، ولنذكر لك بعض ما تذاكروه قبل أن يصفقوا بالبيعة، أو فى عنفها. قال العباس بن عبادة بن فضلة الأنصارى أحد بنى سالم بن عوف: هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ قالو: نعم. قال: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس، فإن كنتم ترون أنكم إذا أنهكت أموالكم مصيبة وأشرافكم قتلا أسلمتموه فمن الان، فهو والله إن فعلتم خزى الدنيا والاخرة، وإن كنتم ترون أنكم

علم قريش بالبيعة:

وافون له بما دعوتموه إليه، على نهكة المال وقتل الأشراف فخذوه، فهو والله خير الدنيا والاخرة، قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال، وقتل الأشراف. ولقد قال البراء بن معرور أحد النقباء مجيبا قول النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عندما طلب أن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم. قال رضى الله تعالى عنه: نعم، فو الذى بعثك بالحق لنمنعك مما نمنع أزرنا. فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أبناء الحروب ورثناها كابرا من كابر. واعترض أبو الهيثم بن التيهان فقال: «يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال حبالا- وإنا قاطعوها- يعنى اليهود- فهل عسيت إن قبلنا ذلك، ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا. فتبسم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ثم قال: بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم، وأنتم منى، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم. ولقد قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعد أن تمت البيعة: «أنتم بما فيهم كفلاء ككفالة الحواريين بعيسى ابن مريم، وأنا كفيل على مدتى» . بهذا تمت البيعة الثانية، وكانت إيذانا بالهجرة، وكان أساس قيامها ما يكون من حماية للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم. وقد كانت حماسة الأنصار لهذه البيعة شديدة، وبعضهم أراد تنفيذها؛ ومحاربة قريش فى عقر دارهم، لقد قال العباس بن فضلة الذى نقلنا كلامه انفا: يا رسول الله، والذى بعثك بالحق؛ إن شئت لنميلن على أهل منى عذابا بأسيافنا، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم. علم قريش بالبيعة: 316- كان حذر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من أن يعلم المشركون بالبيعة قبل أن تتم فى موضعه، لأنهم كانوا يبثون العيون لمعرفة أخبار الخزرج والأوس، إذ كانوا يتوجسون منهم خيفة. لقد رجع أهل البيعة إلى منازلهم فلما أضحوا غدا عليهم ناس من جلة قريش، حتى جاؤا إلى منازلهم.

قالوا: يا معشر الخزرج، إنه قد بلغنا أنكم جئتم إلى صاحبنا تستخرجونه من بين أظهرنا وتبايعونه على حربنا وإنه والله ما من حى من العرب أبغض إلينا من أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم. وقد كان من بين أهل يثرب مشركون مثلهم، وقد اجتهد الذين مال قلبهم للإيمان وأسلموا أن يخفوا عنهم أمر البيعة وما يتصل بها. لذلك انبعث من أولئك المشركين من يحلفون ما كان من هذا شيء وما علمنا، فصدق القرشيون مقالتهم. وقد روى ابن إسحاق أن القرشيين أتوا عبد الله بن أبى بن سلول الذى صار من بعد رأس المنافقين، وكان من المشركين، فسألوه عن أمر البيعة، فقال لهم: إن هذا الأمر جسيم، ما كان قومى ليتفرقوا على مثل هذا، وما علمته. كان الأمر بالنسبة لقريش أول الأمر ظنا ظنوه، ولم يكونوا قد استوثقوا من صدقه، فكان التكذيب كافيا، لإزالة الظنة، ولكن لم يطمئنوا. لذلك أخذوا يتحرون صدق الخبر، ليطمئنوا، فلما نفر الناس من منى، وجدوا أن البيعة قد تمت، أو أن ما ظنوه ظنا قد وقع. راعهم ذلك، فخرجوا فى طلب القوم الذين بايعوا، فلم يلحقوا بهم، ولكن أدركوا منهم سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو، وكان كلاهما من النقباء، وقد استطاع المنذر ألا يمكنهم منه، فأعجزهم اتباعه. وأما سعد بن عبادة فأخذوه فربطوا يديه إلى عنقه، ثم أقبلوا به حتى أدخلوه مكة المكرمة يضربونه، ويجذبونه بجمته «1» ، وكان ذا شعر كثيف. ولقد حكى سعد حاله، فقال: «فو الله إنى لفى أيديهم، إذ طلع على نفر من قريش فيهم رجل وضئ الوجه شعشاع، خلو من الرجال، فقلت فى نفسى إن يك عند أحد من القوم خير، فعند هذا، فلما دنا منى كلمنى كلمة شديدة، فقلت فى نفسى: «لا والله، ما عندهم بعد هذا من خير» فو الله إنى لفى أيديهم، إذ أدلى لى رجل ممن معهم، فقال: ويحك أما بينك وبين أحد من قريش جوار، ولا عهد. قلت: بلى والله، لقد كنت أجير لجبير بن مطعم.. تجارة، وأمنعهم ممن أراد ظلمهم ببلادى، وللحارث بن حرب بن أمية.. قال: ويحك.. وخرج ذلك الرجل إليهما فوجدهما فى المسجد عند الكعبة الشريفة، فقال لهما: إن رجلا من الخزرج يضرب بالأبطح، ويذكر أن بينكما وبينه جوارا، قالا: ومن هو؟ قال: سعد بن عبادة، قالا: صدق والله! إنه كان ليجير تجارنا، ويمنعهم من أن يظلموا ببلده، فجاا فخلصا سعدا.

_ (1) الجمة مجتمع شعر الرأس من مقدمه.

ابتداء الهجرة

ذكرنا هذه القصة بطولها. ليتبين أن قريشا أحنقهم، أن استجيب طلب محمد عليه الصلاة والسلام أن يجد المأوى لدعوته فى يثرب وظهر غضبهم فى تتبع القوم وفى الأذى الذى أنزلوه بسعد بن عبادة، وهو الذى أدركوه، وغيره قد اجتازوا الطريق، ورحلوا، قبل أن يصلوا، ولو أدركوهم فوق السبعين لا يعلم إلا الله تعالى كيف تكون العاقبة. ولعلها تكون أول موقعة بين المشركين والمسلمين، بل لعل هذه المطاردة ذاتها أول معركة بين قوة الإسلام ولو قليلة وقوة الشرك، وإن كانت كثيرة، ولعل المشركين أدركوا بأن عهد الاستضعاف أو شك على نهايته، والله ولى الصابرين. ابتداء الهجرة 317- وجد المسلمون أنه صار لهم مأوى ينقلون إليه، وشعر المشركون أن الإسلام خرج نقيا طاهرا ظاهرا قويا من أرضهم ليكيل لهم الضربة بمثلها، والإيذاء بدفعه، وأن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم قد صار له قوة تناوئهم إن أرادوا به كيدا، وأنه قد تلتف عليه قبائل العرب، قبيلة قبيلة، وما شعروا بالندم على أن حاربوه، ولم يمكنوه من الدعوة، بل لاقوه هو وصحبه بالأذى والاستهزاء، ولكن الندم لم يعرهم، لأنهم سادرون فى غيهم. وقد استولت عليهم العداوة، ومن استولى عليه العداء، وسيطرت البغضاء، لا يرعوى، ولا يتجه إلى الرجوع عما هو فيه، وكلما ازداد قوة ازداد حدة. ولا ندم من الحدة، لأن الندم شعور بسلطان الحق. وليس للحق سلطان فى قلوب المشركين الذين استمكن الشرك والتعصب فى قلوبهم، فلا تزيدهم مظاهر القوة فى الحق إلا عتوا واستكبارا، ولا ننسى أن المنافسة بين العشائر، والتنازع بين الشرف هى الأصل فى الإعراض، وتثبيت الكفر فى القلوب، وكلما ازدادت قوة الدعوة، حسبوا أن ذلك زيادة لشرف بنى هاشم أهل الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه. ولذلك اشتد كلبهم على المسلمين الذين بين ظهرانيهم، لما رأوهم يخرجون إلى القوة يتجمعون بها، ولم يخرجوا فارين بدينهم، كما خرجوا فى هجرة الحبشة مرتين، بل هم فى هذه المرة يخرجون ليجمعوا قوة يستعصمون بها بتوفيق الله تعالى، وهدايته. وذلك هو الفرق الواضح بين هجرتى الحبشة، وهجرة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ولذلك لم ترعهم هجرتا الحبشة، بل أثارت إشفاق بعض قريش كعمر بن الخطاب، كما ذكرنا، أما الهجرة إلى يثرب، فلقد أزعجتهم، وأثارت غضبهم، وإن كان ثمة إشفاق، فعلى أنفسهم لا على غيرهم. هذا شعور المشركين من قريش عندما بايع أهل يثرب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، أما شعور المؤمنين الصابرين فقد ابتدأوا يحسون بنصر الله تعالى لهم، وأنهم صار لهم قوة، تدفع عنهم وبهم ذل

النبى صلى الله عليه وسلم يحرض المؤمنين على الهجرة:

الاستضعاف والاستهزاء، كما قال الله تعالى: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ. النبى صلى الله عليه وسلم يحرض المؤمنين على الهجرة: 318- أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعد البيعة الثانية- يحرض المؤمنين على الهجرة إلى يثرب. وأهل يثرب من الأوس والخزرج يدعون إلى دين الله تعالى، وينشرونه بين أهليهم وإخوانهم، حتى صاروا كثرة كاثرة فى المدينة، وصاروا هم أنصار رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وأصبحوا كالحواريين لعيسى عليه السلام، بيد أن الحواريين لم يكونوا عددا كثيرا، وكان الأنصار عددا كثيرا من بعد. روى البخارى ومسلم بطرق مختلفة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: «رأيت فى المنام أنى أهاجر إلى أرض بها نخل، وذهب وهمى إلى أنها اليمامة أو هجر، فإذا هى يثرب» وروى الزهرى عن عروة بن الزبير عن أم المؤمنين عائشة أنها قالت قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو يومئذ بمكة المكرمة للمسلمين: «قد أريت دار هجرتكم، أريت سبخة ذات نخل بين لابتين» فهاجر من هاجر قبل المدينة حين ذكر ذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ورجع إلى المدينة من كان هاجر إلى الحبشة من المسلمين. ويذكر ابن إسحاق في سيرة النبي صلّى الله عليه وسلّم بروآياته أن الإذن بالهجرة أو الأمر بها ذكره الله سبحانه وتعالي في قوله تعالت كلماته: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا، وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ. الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ، وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ، وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً، وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ، إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ. الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ «1» . ونري أن هذه الايات الكريمات نزلت بالمدينة، لأن سورة الحج مدنية، ولأن الايات تنبيء عن أنهم أخرجوا بالهجرة من ديارهم وأن الإذن من الله بالخروج والإخراج قبل الهجرة، والسبب مقدم علي المسبب وأن الأمر فيها إذن بالقتال، وهو بعد الهجرة، بعد أن صارت قوة متجمعة في يثرب التي صارت مدينة الرسول.

_ (1) سورة الحج: 39- 41.

الإذن للمؤمنين بالهجرة.

الإذن للمؤمنين بالهجرة. 319- أذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وبين لهم أن فى يثرب الإيواء والنصرة وقال صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله تعالى قد جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون بها» . بعد هذا الإذن الصريح الذى يكاد يكون أمرا، خرج المسلمون مهاجرين أرسالا، احادا وجماعات، ولم يجد المهاجرون السبيل ذللا سهلا، بل كانوا يجدون معوقين من قريش، لأن هؤلاء بعد أن علموا ببيعة الأنصار أدركوا أن المسلمين بمكة المكرمة يتجمعون بإخوانهم فى يثرب التى صارت مدينة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخذوا يترصدون كل من هاجر، فإن استطاعوا منعه منعوه، فحاولوا أن يمنعوا أم سلمة وزوجها، وتركوه يهاجر دونها، وهى بإرادة مؤمنة صبرت وهاجرت واحدها، حتى وجدت من أهل المروءة من عاونها على هجرتها. وأحيانا كانوا يتحايلون على المهاجرين بالكذب حتى يردوهم ثم يعذبوهم غير موفين بعهد أو ذمة، ولنضرب لذلك مثلا، بأحد المهاجرين وهو عياش بن أبى ربيعة. يروى أن عياشا هذا عندما هم بالهجرة خرج إليه أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام، وكان ابن عمهما وأخاهما لأمهما، فتتبعاه، حتى قدم المدينة المنورة، والنبى صلّى الله عليه وسلّم لم يكن قد هاجر بعد، بل كان لا يزال بمكة المكرمة وقالا له: إن أمك قد نذرت ألا يمس رأسها مشط حتى تراك، ولا تستظل من شمس حتى تراك، فرق لها، فقال له عمر وكان معه: «يا عياش إنه والله، إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك فاحذرهم، فو الله لو اذى أمك القمل لا متشطت، ولو اشتد عليها حر مكة لاستظلت، فقال، وهو مخدوع: أبر أمي، ولى هناك مال فاخذه. قال له عمر: والله إنك لتعلم أنى لمن أكثر قريش مالا، فلك نصف مالى ولا تذهب معهما. فلما أبى ذلك قال عمر الرفيق الشفيق، أما إذ فعلت ما فعلت، فخذ ناقتى هذه، فإنها ناقة نجيبة ذلول، فالزم ظهرها، فإن رابك من أمر القوم ريب، فانج عليها، فخرج عليها معهما، حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال له أبو جهل: يا أخي، والله لقد استغلظت بعيرى هذا، أفلا تعقبنى على ناقتك هذه. قال: بلي، فأناخ وأناخها ليتحولا عليها، فلما استووا بالأرض عدوا عليه، فأوثقاه رباطا، ثم دخلا به مكة المكرمة، ففتناه فافتتن، وخرج من الإسلام مكرها، وقلبه مطمئن بالإيمان. وكان صاحب عمر فى الهجرة، ومعهما صاحب ثالث، وهو هشام بن العاص أدركه أهله قبل أن يصل إلى المدينة المنورة ففتنوه عن دينه ففتن. قال عمر صاحب الرواية كلها، وكان قد صحبهما فى الهجرة، «كنا نقول لا يقبل الله ممن افتتن» وفى رواية عبد الله بن عمر عن أبيه قوله «ما الله بقابل ممن افتتن صرفا ولا عدلا، ولا توبة؛ قوم عرفوا الله، ثم رجعوا إلى الكفر لبلاء أصابهم» وكانوا يقولون هم لأنفسهم ذلك.

ولعل هذا الاعتقاد الذى سكن قلب عمر الفاروق، وسكن قلوب أولئك المؤمنين الأولين، إنما هو لكى يتحملوا أقصى ما يمكن من البلاء، وليكون صبرهم تحريضا لغيرهم، فقوة الإيمان تسرى من أقوياء النفوس إلى ضعفائها، وإن الماء العالى يهبط إلى السافل، لتتوازن النفوس كالسوائل. لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة المنورة أنزل الله تعالى: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ، لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً. إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ، ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ. وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً، وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ «1» . لما نزلت هذه الاية لم ينس عمر الكريم صاحبيه اللذين كانا على نية مرافقته، ورافقه أحدهما، ثم افتتن فى دينه وافتتن الاخر قبل أن يسافرا، ولأنه لم ينسهما أرسل إليهما فى صحيفة هذه الاية الكريمة، أرسلها إلى هشام بن العاص الذى افتتن أولا- فلما قرأها فهمها بعد أن استعصى عليه فهم ما يقصد عمر من كتابتها إليه، وعرف أنها أنزلت فيه وفى أمثاله، ممن كانوا قد قنطوا من رحمة الله تعالى. وهناك رواية أخرى تقول: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو بالمدينة المنورة، قال: من لى بعياش بن أبى ربيعة، وهشام بن العاص، فقال الوليد بن الوليد بن المغيرة: أنا لك يا رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) بهما، فخرج إلى مكة المكرمة مستخفيا فلقى امرأة تحمل طعاما، فقال لها: أين تريدين يا أمة الله؟ قالت: أريد هذين المحبوسين (تعنيهما) ، فتبعها حتى عرف موضعهما، وكانا محبوسين فى بيت لا سقف له، فلما أمسى تسور عليهما، ثم أخذ ردة (أى خنجرا) فوضعها تحت قيديهما، ثم ضربهما بسيفه، فحل القيدان، ثم حملهما على بعيره. 320- من أجل هذا التتبع الشديد من المشركين، كان المؤمنون يتسللون فى هجرتهم لواذا استخفاء من ظلم قريش، الذى انبعث من خوف تجمع المؤمنين بيثرب لينقضوا عليهم، ويمنعوهم من فتنة الناس فى دينهم، وكان الأقوياء منهم يختارون التستر ليظفروا بالهجرة فى أمان من الأذي، إلا عمر بن الخطاب الذى أبى إلا أن يجهر بالإيمان فى كل موطن من مواطن مكة المكرمة، وأبى الاستخفاء، فهو فى الهجرة أيضا أبى الاستخفاء، وخرج مجاهرا بالهجرة متحديا من يقف فى سبيله. روى على بن أبى طالب كرم الله تعالى وجهه فى الجنة أنه قال: «ما علمت أحدا من المهاجرين هاجر إلا مختفيا إلا عمر بن الخطاب (رضى الله تعالى عنه) فإنه لما هم بالهجرة تقلد سيفه،

_ (1) سورة الزمر: 53- 55.

وتنكب قوسه، وانتضى فى يديه أسهما، واختصر عنزته، ومضى قبل الكعبة الشريفة، والملأ من قريش بفنائها، فطاف بالبيت سبعا، ثم أتى المقام، فصلى ركعتين، ثم وقف على الحلق واحدة واحدة فقال: شاهت الوجوه، لا يرغم الله إلا هذه المعاطس، من أراد أن تثكله أمه، أو ييتم ولده، أو ترمل امرأته، فليلقنى وراء هذا الوادى «1» . وقد يسأل سائل: إن المشهور أن عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه صحب فى رحلته عياش ابن أبى ربيعة. وكان فى عزمته أن يصحبهما هشام بن العاص، فكيف نوفق بين هذه الرواية المشهورة ورواية على كرم الله وجهه؟ ونقول فى الجواب عن ذلك، إن الجمع بين الروايتين ممكن، ومتى أمكن الجمع يتعين تصديق الروايتين، إذ لا ترد إحداهما إلا إذا تعذر التوفيق بينهما. والتوفيق ممكن وظاهر، إذ أن الصحبة كانت فى السفر، وواضح أن السفر يكون بعد اعتزام النية والإصرار، وقد كان متفقا معهما على أن يلتقيا معه فى مكان يقال له التناضب، من أضاة بنى غفار. والواقعة التى رواها على كرم الله وجهه كانت وهو لا يزال بمكة المكرمة، وقد أعلن الهجرة، فهو قد قال ما قال معلنا هجرته، متحديا قريشا، ثم أخذ طريقه إلى المكان الذى اتعدوا فيه، فوجد عياشا، وتخلف عنهما هشام، إذ افتتن فى دينه، واستجاب لهم وقلبه مطمئن بالإيمان. كانت هجرة المهاجرين سرا، أو على استخفاء من قريش. وكانوا ينزلون فى مهجرهم على الأنصار، فينزلون معهم فى بيوتهم، فعمر بن الخطاب حين انتقل إلى المدينة المنورة ولحق به أهله وأخوه زيد بن الخطاب، وعمرو بن سراقة وغيرهم، نزلوا على رفاعة بن عبد المنذور بن زهير فى بنى عمرو بن عوف فى قباء. ونزل طلحة بن عبيد الله، وصهيب بن سنان، على خبيب بن أصاف، وهكذا غيرهم نزل فى منازل الذين اووا ونصروا، وكانوا يرحبون بهم، وكأنهم بين أهليهم وذويهم، لأن الإيمان الصادق جمعهم، ومحبة الله ورسوله عليه الصلاة والسلام فاضت عليهم، فجعلتهم أحبابا على مائدة الرحمن، وقد علموا فضل إخوانهم المهاجرين الذين صبروا عند الصدمة الأولي، وأوذوا فى أنفسهم وأخرجوا من ديارهم وأموالهم، فجعل الله تعالى من خوفهم أمنا، ومن ذل ضعفائهم عزة، إذ اعتزوا بعزة الله تعالي، وكان بهم بتوفيق الله أن صارت كلمة الله تعالى هى العليا، وقد قال الله تعالى فى المهاجرين والأنصار: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً، وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ. وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ

_ (1) راجع في هذا أشهر مشاهير الإسلام للمرحوم رفيق العظم طبعة 1972 الناشر (دار الفكر العربي) .

هجرة النبى صلى الله عليه وسلم

مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ، وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ، وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ، وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ «1» . ويقول الله سبحانه تعالت كلماته: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ، وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ، وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ، خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ «2» . فالسابقون الأولون هم الذين هاجروا فارين بدينهم، مجتمعين فى ظل الله تعالي، ولا ظل غيره، والأنصار الذين ولو هم فى السبق، وفتحوا لهم ديارهم، إذ فتحوا لهم قلوبهم، واثروهم على أنفسهم، أولئك لهم الفضل الأول فى السبق إلى اتباع الرسول عليه الصلاة والسلام، والذين دونهم اتبعوهم بإحسان؛ فهؤلاء لهم فضل السبق، والاخرون لهم فضل الاتباع. هجرة النبى صلّى الله عليه وسلّم 321- أخذ المسلمون يهاجرون زرافات وواحدانا مستخفين، وقليل منهم من هاجر معلنا، كما فعل عمر رضى الله تعالى عنه، فقد أعلن هجرته وتحداهم أن يمنعوه، وعلى كرم الله وجهه يخص عمر بأنه الذى أعلن وتحدي، ولعل ما انفرد به عمر رضى الله عنه هو هذا التحدى. ولا شك أن من الأقوياء من يعلن ولا يختفى، كسيد الشهداء حمزة بن المطلب، فما كان لمثل حمزة فى قوته وبأسه وإيمانه أن يختفى، وفوق ذلك فإن عشيرته من بنى هاشم وعلى رأسهم العباس بن عبد المطلب لا يرضون أن يرهقوا حمزة فى إرادته، أو لا يوافقوه على هجرته، وقد رضى العباس بهجرة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، كما تدل على ذلك خطبته فى العقبة الثانية، حيث كانت البيعة الثانية على الإيواء والنصرة، بل لو سايرنا التصور العقلى المنطقى لقلنا أن العباس كان يرحب بهجرة حمزة ليكون بجوار ابن أخيه، ينصره مع الناصرين. ما بقى من المؤمنين من يثبت أنهم لم يهاجروا قبل النبى صلّى الله عليه وسلّم إلا على وأبو بكر، فأما على فهو مع النبى صلّى الله عليه وسلّم وقد ثبت أنه هاجر بعد النبى بأمر منه صلى الله تعالى عليه وسلم بأن يبقى من بعده ليرد الودائع، أما أبو بكر رضى الله تعالى عنه فقد كان يهم بالهجرة، والنبى صلّى الله عليه وسلّم يستبقيه، ويشير إليه بمعاريض القول بأنه قد يكون صاحبه، ثانى اثنين.

_ (1) سورة الحشر: 8، 9. (2) سورة التوبة: 100.

ما اقترن بالهجرة المحمدية:

لقد قال ابن إسحاق فى السيرة: «أقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمكة المكرمة بعد أصحابه من المهاجرين ينتظر أن يؤذن له فى الهجرة، ولم يتخلف معه بمكة المكرمة أحد من المهاجرين، إلا من حبس أو فتن إلا على بن أبى طالب، وأبو بكر بن أبى قحافة الصديق رضى الله عنهما، وكان أبو بكر كثيرا ما استأذن النبى صلّى الله عليه وسلّم فى الهجرة، فيقول له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا تعجل لعل الله تعالى يجعل لك صاحبا، فيطمع أبو بكر أن يكونه. كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يستعد للهجرة منذ البيعة الأولى عندما التقى بالأوس والخزرج، بدليل هذه المبايعة، ثم كانت البيعة الثانية بيعة الإيواء والنصرة دليلا على أنه اعتزم الهجرة وأرادها، ثم من بعدها أذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أو أمرهم بأن يهاجروا، فهاجروا زرافات وواحدانا، مستخفين فى الأكثر، معلنين فى الأقل، فكانت الهجرة ترتيبا للدعوة، وخروجا من موطن لا قوة للإسلام فيه إلى بلد يكون للإسلام فيه قوة، ويكون له فيها السلطان لانشاء دولة إسلامية، فما كان من المعقول أن ينفذ النبى صلّى الله عليه وسلّم مباديء الإسلام فى مكة المكرمة، وهى فى ظل الوثنية، ويحكمها مشركون، فالزكاة لا يمكن جمعها إلا فى ظل سلطان عادل يجمعها من الأغنياء، ويردها على الفقراء، وتنفيذ مباديء المساواة والإخاء، ودعوة المسلمين إلى التراحم ليكونوا أشداء على الكفار رحماء بينهم، وما كان يمكن أن يقيم الحدود الزاجرة، لبناء دولة فاضلة، ولا القصاص العادل، ولا لينظم المعاملات بين الناس على أساس من الرضا والعدل، وما كان ليحارب الربا الجاهلي، ما كان يمكن شيء من ذلك إلا فى ظل الله تعالي، وبدولة إسلامية تنفذ أوامر الله تعالي، وتبعد الناس عن نواهيه، وما كان يمكنه عليه الصلاة والسلام أن يقيم رأيا عاما فاضلا، يقوم المنحرف، ويرشد المسترشد، ويكافيء المحسن إلا فى ظل دعائم الإسلام، ولتثبت أركانه، وتعم فى الوجود الإنسانى دعوته، وليست الهجرة جاءت بسبب حادث وقع، أو خوف لأمر متوقع. ما اقترن بالهجرة المحمدية: 322- اقترنت الهجرة بواقعة وقعت من قريش، فظن كثير من كتاب السيرة أن هذه الواقعة هى سبب الهجرة، وأن الهجرة كانت أمرا مسببا لها، ولكن الهجرة كانت أمرا مقررا، وتنظيما محكما. يقول الله تبارك وتعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ، وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ، وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ «1» فهم يدبرون من جانبهم، والله تعالى يدبر أمرا، قد وجه النبى صلّى الله عليه وسلّم إليه، وهو الهجرة، والأمر الذى مكروا به وتامروا عليه خلاصته ما ذكرته الاية الشريفة.

_ (1) سورة الأنفال: 30.

رأى المشركون أن مكة المكرمة قد خرج منها الذين اتبعوا محمدا عليه الصلاة والسلام، ليتجمعوا، وليكونوا مع أهل يثرب قوة تقاوم الشرك وتنقض على المشركين، وأنهم بلا ريب أشد أعداء محمد عليه الصلاة والسلام وأتباعه، فلابد أن تكون تلك القوة عليهم، وأن عليهم أن يتداركوا الأمر قبل أن يستفحل، وأن تتحقق المارب. وإذا كان الأتباع قد هاجروا، ولم يبق إلا ضعيف أو عبد، فإن محمدا عليه الصلاة والسلام لا يزال بين ظهرانيهم، وهو الرأس وغيره أتباع، فإذا نالوا منه، فقد تحقق مأربهم. قال ابن إسحاق فى سيرته: لما رأت قريش أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قد صار له شيعة وأصحاب من غيرهم، وغير بلدهم، ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم- عرفوا أنهم أصابوا دارا وأصابوا منهم منعة، فحذروا خروج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليهم، وعرفوا أنه قد أجمع لحربهم. اجتمعوا فى دار الندوة، وهى دار قصى بن كلاب، وكانت مجتمع أمر قريش، لا يقضون أمرا ذا بال إلا فيها، اجتمع فى الندوة كبراء قريش، ودلف عليهم رجل من نجد، حضر جمعهم، قيل إنه إبليس، وإن لم يكن هو فهو مثله خبثا. تشاوروا فى أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم، وقال بعضهم لبعض إن هذا الرجل قد كان من أمره ما قد رأيتم، فإنا والله ما نأمنه على الوثوب علينا فيمن قد اتبعه من غيرنا فأجمعوا فيه رأيا. فقال قائل منهم: احبسوه فى الحديد، وأغلقوا عليه بابا، ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذى كانوا قبله، ومن مضى منهم من هذا الموت. قال الشيخ النجدي: ما هذا لكم برأي، ولئن حبستموه كما تقولون ليخرجن أمره من وراء الباب الذى أغلقتم دونه إلى أصحابه، فلأوشكوا أن يثبوا إليكم، لينزعوه من أيديكم، ثم يكاثروكم به، حتى يغلبوكم على أمركم، ما هذا لكم برأى فانظروا فى غيره. فقال قائل منهم: نخرجه من بين أظهرنا، فننفيه من بلادنا، فإذا أخرج عنا، فو الله ما نبالى أين ذهب، ولا حيث وقع، إن غاب عنا، وفرغنا منه، فأصلحنا أمرنا وألفتنا كما كانت. فقال الشيخ النجدى: لا والله ما هذا لكم برأي، ألم تروا حسن حديثه وحلاوة منطقه، وغلبته على قلوب الرجال بما يأتى به، فو الله لو فعلتم ما أمنتم أن يحل على حى من العرب، فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه حتى يتابعوه عليه، ثم يسير بهم إليكم، حتى يطأكم بهم فى بلادكم، فيأخذ أمركم من أيديكم، ثم يفعل بكم ما أراد، فروا فيه رأيا غير هذا.

تنفيذ المؤامرة:

فقال أبو جهل بن هشام، والله إن لى فيه لرأيا ما أراكم وقعتم عليه بعد، قالوا: وما هو يا أبا الحكم؟ قال: أري أن نأخذ من كل قبيلة فتى شابا نسيبا وسيطا فتيا، ثم نعطى كل واحد منهم سيفا صارما، ثم يعمدوا إليه، فيضربوه ضربة رجل واحد، فيقتلوه، فنستريح منه، فإنهم اذا فعلوا ذلك تفرق دمه فى القبائل جميعا، فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا، فيرضوا منه بالعقل (أى الدية) فعقلناه لهم. قال الشيخ النجدى: القول ما قال هذا الرجل، هذا الرأى الذى لا رأى غيره. انتهوا إلى ذلك فأعلم الله تعالى نبيه بما دبروا، وأمره ألا ينام الليلة على فراشه. تنفيذ المؤامرة: 323- إن القوم ائتمروا بالنبى صلّى الله عليه وسلّم ليقتلوه، ولكن الله تعالى أعلم النبى صلّى الله عليه وسلّم وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ ولقد روى الإمام أحمد بن حنبل بسنده عن ابن عباس أن أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالهجرة كان فى ذلك الوقت، ونزل قوله تعالى: وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ، وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ، وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً «1» وأن دخول الصدق كان بدخول المدينة المنورة، والخروج مخرج صدق كان بالهجرة من مكة المكرمة، كما فسر قتادة، وهكذا كان خروجه من مكة المكرمة وهى أحب أرض الله تعالى إليه لدعوة الحق ولنصرته وإعزازه، وكان دخوله المدينة المنورة صدقا، لأنه بسبب إرادة نصرة الحق، وإعلاء شأنه، فخروجه صدق، ودخوله صدق، وكلاهما حق. إن قريشا فى عتمة الليل الذى بيتوا فيه تنفيذ مؤامرتهم بقتل محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أحاطوا بداره، ليقتلوه إذ يخرج إليهم، ولم يحاولوا أن يدخلوا إلى منامه، وقال السهيلى فى تعليل ذلك. وذكر بعض أهل التفسير السبب المانع لهم من التقحم عليه فى الدار، مع قصر الجدار، وأنهم إنما جاؤا لقتله، فذكر فى الخبر أنهم هموا بالولوج عليه فصاحت امرأة من الدار، فقال بعضهم لبعض: والله إنها للسبة فى العرب أن يتحدث عنا أننا تسورنا الحيطان على بنات العم، وهتكنا سر حرمتنا. فهذا هو الذى أقامهم بالباب، وأصبحوا ينتظرون خروجه. عندما أعلم الله نبيه صلّى الله عليه وسلّم بأمرهم كان محملا أمانات من القوم، فكانت عنده ودائع الناس، وليس بمكة المكرمة أحد عنده شيء يخشى عليه إلا وضعه عند النبى صلّى الله عليه وسلّم، لما يعلم من صدقه وأمانته، وكان ذلك مع شدة العداوة والمناوأة من كبرياء المشركين.

_ (1) سورة الإسراء: 80.

اجتمع المشركون فى العتمة:

ولذلك خلف عليا رضى الله تعالى عنه، وكرم الله تعالى وجهه فى الجنة، وجعله ينام فى مكان نومه صلّى الله عليه وسلّم، وقال لعلى كرم الله وجهه: نم على فراشي، وتسجّ ببردى هذا الحضرمي، فنم فيه، فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم، فنام على المؤمن المصدق لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو الشجاع الجلد القوى الذى لا يهاب الموت فى سبيل الله، وكان إذ ذاك فى نحو الثالثة والعشرين، أو الثانية والعشرين. اجتمع المشركون فى العتمة: روى ابن إسحاق بسنده عن كعب القرظى أنهم لما اجتمعوا له عليه الصلاة والسلام، وفيهم أبو جهل قال أبو جهل؛ وهم على بابه: إن محمدا يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم، ثم بعثتم من بعد موتكم فجعلت لكم جنان كجنان الأردن، وإن لم تفعلوا كان فيكم ذبح، ثم بعثتم بعد موتكم، ثم جعلت لكم نارا تحرقون فيها. فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأخذ حفنة من تراب، ثم قال: نعم أقول ذلك وأنت أحدهم، وأخذ الله تعالى على أبصارهم عنه، فجعل ينثر ذلك التراب على رؤسهم، وهو يتلو: يس. وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ. إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ. لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ، فَهُمْ غافِلُونَ. لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ. وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا، وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا، فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ «1» . مر بهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهم لم يروه، وقرأ عليهم هذه الايات، وسواء أصحت الرواية التى تقول، أنه خاطبهم أم لم تصح، فإنها لم تغير من اللب شيئا، بل الحقيقة أنه مر عليهم، وتلا عليهم تلك الايات البينات، وحثا التراب فى وجوههم، وانصرف النبى صلّى الله عليه وسلّم إلى حيث كان على موعد مع صاحبه الصديق. أما المشركون المؤتمرون الذين كانوا يريدون قتل الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فإنهم استمروا فى موقفهم منتظرين النبى صلّى الله عليه وسلّم أن يخرج ليقتلوه، حتى أتاهم ات ممن لم يكن معهم، ويظهر أنه قد رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد خرج. فقال لهم: ما تنتظرون ها هنا؟ فقالوا: محمدا، فقال: خيبكم الله، والله قد خرج محمد عليكم ثم ما ترك منكم رجلا إلا وقد وضع على رأسه ترابا، ثم مضى لحاجته، أما ترون ما بكم، فوضع كل رجل منهم يده على رأسه، فإذا عليه تراب، ولكنهم مع ذلك لم يصدقوا هذا الرجل الذى أتاهم، فجعلوا يتطلعون، فيرون عليا فى الفراش، متسجيا ببرد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فيقولون: والله إن هذا لمحمد نائما عليه برده، فلم يبرحوا كذلك، حتى أصبحوا، فقام على من الفراش، فقالوا: والله لقد صدقنا الذى حدثنا.

_ (1) سورة يس: 1- 9.

النبى صلى الله عليه وسلم مع صاحبه إلي الهجرة وطريقهما:

النبى صلّى الله عليه وسلّم مع صاحبه إلي الهجرة وطريقهما: 324- كان أبو بكر يريد الهجرة كما هاجر أصحاب النبى صلّى الله عليه وسلّم، فكلما هم بالهجرة قال له النبى صلّى الله عليه وسلّم لا تعجل. ويقول ابن إسحاق: استأذن أبو بكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى الهجرة، فى الهجرة، فقال له: «لا تعجل لعل الله أن يجعل لك صاحبا» وقد طمع أبو بكر أن يكون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، إنما يعنى نفسه، ولقد عظم ذلك الظن فى نفسه، فابتاع راحلتين، فحبسهما فى داره، يعلفهما إعدادا لذلك، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأتى كل يوم إلى بيت أبى بكر فى طرفى النهار إما بكرة، وإما عشية، كما تروى عائشة رضى الله تعالى عنها، وتقول: حتى إذا كان اليوم الذى أذن فيه للنبى بالهجرة، والخروج من مكة المكرمة من بين ظهرى قومه أتانا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالهاجرة فى ساعة كان لا يأتى فيها، فلما راه أبو بكر، قال: ما جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى هذه الساعة إلا لأمر حدث.... قال الرسول صلّى الله عليه وسلّم لأبى بكر: إن الله قد أذن لى فى الخروج والهجرة، فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله، قال رسول الله: الصحبة» . قالت راوية الخبر: فو الله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحدا يبكى من الفرح، حتى رأيت أبا بكر يومئذ يبكي، ثم قال: يا نبى الله، إن هاتين راحلتان كنت أعددتهما لهذا. كان هذا فى الليلة التى أعلم الله نبيه صلّى الله عليه وسلّم بما يأتمر به القوم، وأذن لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلما خرج، وقد غشى الله تعالى على أبصارهم كانت الرحلة الشاقة، وكانت الهجرة المباركة، وقد أخذت لها الأهبة، وأعدت لها العدة. عندما أخبر الرسول صلّى الله عليه وسلّم أبا بكر بإذن ربه له بالهجرة، وأخبره عليه الصلاة والسلام بالصحبة تجمعهما، قال الصديق: «يا نبى الله إن هاتين راحلتان كنت أعددتهما لهذا» وقد استأجر أبو بكر عبد الله بن أريقط، وكان لا يزال على الشرك، وأبوه من بنى بكر، وأمه من بنى سهم بن عمرو، قد استأجره أبو بكر ليكون دليلهما فى الرحلة، وقد دفع إليه أبو بكر الراحلتين، فكانتا عنده يعدهما ويرعاهما حتى يحل ميعاد الخروج عليهما، ويروى أنه أهدى فضلاهما لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فسأله الرسول عليه الصلاة والسلام عن ثمنها، فذكره، وقال هى لك. وكان الميعاد بينهما وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو وأبو بكر، خرج من خوخة لأبى بكر فى ظهر بيته. وذلك للإمعان فى الاستخفاء حتى لا تتبعهما قريش، وتمنعهما من تلك الرحلة المباركة، وقد اتعدا مع الدليل على أن يلقاهما فى غار ثور بعد ثلاث ليال.

فى غار ثور:

وقد دعا النبى صلّى الله عليه وسلّم فيما روى ابن نعيم قائلا: «الحمد لله الذى خلقني، ولم أك شيئا، اللهم أعنى على هول الدنيا، وبوائق الدهر، ومصائب الليالى والأيام، اللهم اصحبنى فى سفري، واخلفنى فى أهلي، وبارك لى فيما رزقتنى، ولك فأذلني، وعلى صالح خلقى فقومني، وإليك ربى فحببني، وإلى الناس فلا تكلني، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، أعوذ بوجهك الكريم الذى أشرقت له السماوات والأرض وكشفت به الظلمات، وصلح عليه أمر الأولين والاخرين أن تحل على غضبك، وتنزل بى سخطك، أعوذ بك من زوال نعمتك، وفجأة نقمتك، وتحول عافيتك، لك العتبى عندى خير ما استطعت، ولا حول ولا قوة الا بك» . ومن قوله عليه الصلاة والسلام حين خرج من مكة المكرمة، ونظر إلى البيت «إنك لأحب أرض الله إلى الله، ولولا أن أهلك أخرجونى منك ما خرجت» وإخراجهم كان بالأذى ومنع الدعوة. بهذا الدعاء الضارع ابتدأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رحلته المباركة التى اتت أكلها للإنسانية كلها، لأنها كانت ابتداء عموم الدعوة. وقد كانت فكرة الهجرة بعد العقبة الثانية وفى عامها، فقد انتهى الحج، وابتدأ التفكير فى الهجرة النبوية، وقد هاجر المؤمنون قبله، وقالوا إن هجرته عليه الصلاة والسلام لم تكن فى المحرم ولا فى صفر، ولكن قد ابتدأت، ولعلها ابتدأت مع ابتدائه، وقد وصلوا إلى المدينة المنورة فى الثانى عشر من ربيع الأول على أصح الروايات، وكانت فى يوم الاثنين. ولقد روى الإمام أحمد عن ابن عباس قال: «ولد نبيكم يوم الاثنين، ونبيء يوم الاثنين، وخرج من مكة يوم الاثنين، ودخل المدينة يوم الاثنين، وتوفى يوم الاثنين» . فى غار ثور: 325- كانت الهجرة هى النصر الأول، بل هى أعظم النصر، لأن النصر الذى جاء من بعدها كان ثمرة لها، فهى باب للفتح، ولقد عدها الله سبحانه وتعالى النصر الأول، وذكر محمدا صلّى الله عليه وسلّم وصاحبه فى غار ثور هذا، إذ قال الله تعالت كلماته: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ، إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ، إِذْ هُما فِي الْغارِ، إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ، إِنَّ اللَّهَ مَعَنا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ، وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها، وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى، وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا، وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ «1» .

_ (1) سورة التوبة: 40.

خرج النبى صلّى الله عليه وسلّم إلى غار ثور، وهو على مسافة من مكة المكرمة بأسفله، وسار هو وصاحبه الصديق فجعل أبو بكر يكون أمام النبى صلّى الله عليه وسلّم مرة، وخلفه مرة، فسأله النبى صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك، فقال: إذا كنت خلفك خشيت أن تؤتى من أمامك وإذا كنت أمامك خشيت أن تؤتى من خلفك. ويروى أنه قال إذا كنت أمامك خشيت الطلب، وإذا كنت خلفك خشيت الرصد. وروى البيهقى عن عمر بن الخطاب قال: «لقد خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة انطلق إلى الغار، ومعه أبو بكر، فجعل يمشى ساعة بين يديه وساعة خلفه، حتى فطن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «يا أبا بكر مالك تمشى ساعة خلفي، وساعة بين يدي، فقال: يا رسول الله أذكر الطلب، فأمشى خلفك، ثم أذكر الرصد فأمشى بين يديك، فقال النبى صلّى الله عليه وسلّم: يا أبا بكر، لو كان شيء لأحببت أن يكون بك دوني. قال: نعم، والذى بعثك بالحق، فلما انتهيا إلى الغار. قال أبو بكر: مكانك يا رسول الله حتى أستبريء لك الغار فدخل حتى إذا كان ذكر أنه لم يستبريء الجحر، فقال: مكانك يا رسول الله حتى أستبريء، فدخل فاستبرأ، ثم قال: انزل يا رسول الله، فنزل، قال عمر: والذى نفسى بيده، لتلك الليلة خير من ال عمر» «1» مكث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مطمئنا إلى وعد الله تعالي، راضيا بالمشقة فى سبيل الدعوة، وتبليغ الرسالة، وقد رضى أن يفارق مكة المكرمة، وهى أحب بلاد الله تعالى فى سبيل اقامة الدولة الإسلامية، التى لم يمكنه أهلها من الدعوة، وحاولوا قتله، وكانت هذه المحاولة مع عنادهم، وكفرهم، وجحودهم بالايات سببا فى أن يخرج يريد أرضا لدولة الإسلام فى غيرها. علم المشركون، أو العتاة منهم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرج، وأن الذى نام مكانه علي، وأنهم ترصدوا عليا، وهم يحسبون أنهم يترصدون النبى عليه الصلاة والسلام ليقتلوه، حاولوا أن يعرفوا من على أين ذهب النبى صلّى الله عليه وسلّم، فلم يجدوا عنده ما يطلبون، فأخذوا يتقصون أثره، ويتأثرون خطاه ليعرفوا أين يكون، وأطلقوا فى الأسواق والأماكن من يأتى به حيا أو ميتا وقد اقتفوا أثره، وتتبعوه، حتى وصل بهم الأمر إلى جبل ثور الذى بغاره الصاحبان، ولكن اية الله تعالى أن جعلت العنكبوت ينسج نسيجه، وكأنه من سنين، وأن حمامتين عششتا على بابه، فكانت اية حسية من خوارق العادات، ولكن النبى صلّى الله عليه وسلّم لم يتحدث لإثبات نبوته إلا بالقران الكريم، لأنه المعجزه الكبرى الباقية إلى يوم الدين. وهو حجة على الخليقة فى كل الأجيال، ولكل الأجناس. جاء رجال قريش يطلبون النبى صلّى الله عليه وسلّم، وقد انتهى بهم الأثر الى الغار، ولكنهم، وجدوا ما وجدوا وقالوا إذ رأوا نسج العنكبوت: لم يدخل أحد. وهم لو ألقوا بأنظارهم إلى داخله لرأوا الرسول وصاحبه، ولكن

_ (1) البداية والنهاية لابن كثير ج 4 ص 180.

سراقة والسير إلى المدينة المنورة:

صرف الله تعالى أنظارهم، والنبى صلّى الله عليه وسلّم أمن مطمئن، ولذا كان قائما يصلي، وأبو بكر يرتقب، فلما أتم النبى صلّى الله عليه وسلّم صلاته، قال أبو بكر خائفا على النبى عليه الصلاة والسلام «إن قومك يطلبونك أما والله أنى لأئل «1» على نفسي، ولكن مخافة أن أرى فيك ما أكره» ، فقال له النبى صلّى الله عليه وسلّم: «لا تخف إن الله معنا» . هذا ما كان من القوم، وما كان يجرى داخل الغار، وكان أبو بكر قد دبر الأمر بالنسبة للرسول صلّى الله عليه وسلّم، لقد كلف ابنه عبد الله أن يأتيهما وهما فى الغار بأخبار قريش، وما تدبر من أمرها، وهو غلام شاب ثقف مدرك لقن، فيدلج من عندهما فيصبح مع قريش بمكة المكرمة، ولا يسمع أمرا يكيدون به لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصاحبه، حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، وأمر مولاه عامر بن فهيرة أن يرعى غنمه، فيريحها عليهما وهما فى الغار، وذلك فى ساعة العشاء، فيبيتان وأرسال لبن الغنم تصل إليهما، حتى إذا جاء الغلس، أخذ عامر بن فهيرة الغنم، وعاد إلى مكة المكرمة، فيكون من اللبن غذاء، ويذهب سير الغنم باثار من يجيئون إلى الغار، حاملين أخبارا، أو حاملين طعاما. وكانت أسماء بنت أبى بكر تعد لهما سفرة من الطعام فى جراب، ولما لم تجد ما تربط به قطعت نطاقها، فربطت بقطعة منه على فم الجراب، ولذلك سميت ذات النطاقين، وكانت تذهب بالطعام لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصاحبه كل يوم، أو كلما أمكنتها الفرصة. سراقة والسير إلى المدينة المنورة: 326- مكث النبى صلّى الله عليه وسلّم فى الغار ثلاث ليال، حتى يسكن طلب قريش، ويئسوا من أن يصلوا إليه، صلّى الله عليه وسلّم، وبعدها خرجا قاصدين إلى المدينة المنورة، ومعهما دليلهما المشرك، ولكنه كان أمينا عليهما، غير مدلس ولا مماليء؛ فسلك بهما طريق الساحل، حتى لا يتبعهم أحد من قريش، لأنهم لا يتصورون أنه يسلك هذا الطريق وهم يتتبعونه، ويقتفون طريقه، وقد جعلوا لمن يعود به حيا أو ميتا مائة ناقة كما أشرنا من قبل. وقد طمع سراقة بن مالك بن جعشم فى أن ينالها، وقد روى ابن إسحاق عنه أنه قال: «لما خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مكة المكرمة مهاجرا، جعلت قريش فيه مائة ناقة لمن رده عليهم. فبينما أنا جالس فى نادى قومي، إذ أقبل رجل منا.. فقال: والله لقد رأيت ركبة ثلاثة مروا على انفا، إنى لأراهم محمدا وأصحابه، فأومأت إليه بعينى أن اسكت، ثم مكثت قليلا ... ثم أمرت بفرسى.. وأمرت بسلاحى. ثم أخذت قداحى أستقسم بها، ثم انطلقت فلبست لأمتى «2» ، فاستقسمت،

_ (1) هى من أل المريض أو الحزين بمعنى رفع صوته وصرخ عند نازلة تنزل به. (2) الدرع.

الركب يسير فى طريق وعر:

فخرج السهم الذى أكره، وكنت أرجو أن أرده على قريش، فاخذ مائة الناقة،. فركبت على أثره، فبينما فرسى يشتد عثر بي، فسقطت عنه، فقلت: ما هذا، ثم أخرجت القداح فاستقسمت بها، فخرج السهم الذى أكره، فأبيت إلا أن أتبعه، فركبت فى أثره فبينما فرسى يشتد عثر بي، فسقطت عنه فقلت ما هذا ثم أخرجت قداحى فاستقسمت بها، فركبت فى أثره، فلما بدا القوم ورأيتهم عثر بى فرسي، فذهبت يداه فى الأرض، وسقطت عنه، ثم انتزع يداه من الأرض وتبعهما دخان كالإعصار، فعرفت حين رأيت ذلك أنه قد منع عني، وأنه ظاهر، فناديت القوم، فقلت: أنا سراقة بن جعشم، أنظرونى أكلمكم، فو الله لا أريبكم، ولا يأتيكم مني شيء تكرهونه. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: وماذا تبغي منا؟ قلت: تكتب كتابا يكون بينى وبينك» . يلاحظ أنه ذكر له ما كان يسعى إليه، ولكنه عندما رأى ما رأى، وعلم اليقين فى الرسالة، استوثق من أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم منصور بأمر الله تعالي. فكتب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتابا، ثم ألقاه إليه. وقد استمر سراقة حافظا لهذا الكتاب، حتى جاء الفتح المبين بفتح مكة المكرمة، ثم فرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من حنين والطائف ذهب سراقة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالكتاب، ويقول فى ذلك «دنوت من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فرفعت يدى بالكتاب، وقلت يا رسول الله، هذا كتابك لى، أنا سراقة بن جعشم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «هذا يوم وفاء» . أعلن سراقة إسلامه، ويظهر أنه كان مؤمنا بصدق النبى صلّى الله عليه وسلّم من يوم أن رأى ما رأى، ولذلك أراد أن يأخذ هذا الكتاب. وقد سأل النبى صلّى الله عليه وسلّم عن سقى الإبل الضالة قائلا: الضالة من الابل يغشى حياضى، وقد ملأتها الإبل هل لى من أجر فى أن أسقيها؟ قال الرسول عليه الصلاة والسلام الرحيم: «نعم فى كل ذات كبد حرى أجر» . ولقد حسن إسلامه فرجع إلى قومه، وساق إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صدقته. الركب يسير فى طريق وعر: 327- لم تكن الرحلة المباركة سهلة، لأن الطريق فى الصحراء، ليس سهلا فى ذاته، بل هو طريق وعث تجتاز فيه الرمال والوهاد والاكام، وقد اختار الدليل طريقا هو أشد طرق الصحراء وعورة، وذلك لكيلا تتبعهم قريش إذا سار فى الطريق الذى ألفوا السير فيه، وقد يكون معبدا إلى حد مناسب للصحراء.

أم معبد:

لقد سلك بهم طريق الساحل، ولم يكن مألوفا فى الوصول إلى يثرب منه، ولنترك الكلمة لابن إسحاق فى سيرته يذكر الأماكن التى مر بها فهو يقول: «لما خرج بهما دليلهما عبد الله بن أرقط (أريقط) سلك بهما أسفل مكة المكرمة، ثم مضى بهما (النبى صلّى الله عليه وسلّم وأبى بكر) على الساحل حتى عارض الطريق أسفل من عسفان، ثم سلك بهما على أسفل أمج، ثم استجار بهما حتى عارض بهما الطريق، بعد أن أجاز قديدا، ثم أجاز بهما من مكانه ذلك، فسلك بهما الخرار ثم سلك بهما ثنية المرة، ثم سلك بهما لقفا، ثم أجاز بهما مدلجة لقف، ثم استبطن بهما مدلجة محاج «1» ، ويقال له مجاج، ثم سلك بهما مرجع مجاج، ثم تبطن بهما مرجع ذى العضوين، ثم بطن ذى كشر، ثم أخذ بهما على الجداجد، ثم على الأجرد، ثم سلك بهما سلم، من بطن أعداد مدلجة تعهن (وزن فعلل) اسم عين ماء، ثم على العبابيد.. ثم أجاز بهما الفاحة» . قال ابن هشام: «ثم هبط بهما العرج، وقد أبطأ عليهما بعض ظهرهما. فحمل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، رجل من أسلم يقال له أوس بن حجر، على جمل له يقال له ابن الرداء- إلى المدينة، وبعث معه غلاما له يقال له مسعود بن هنيدة، ثم خرج بهما دليلهما من العرج فسلك بهما ثنية الفا عن يمين ركوبه، حتى هبط بهما بطن رئم، ثم قدم بهما قباء لاثنتى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول يوم الاثنين، حين اشتد الضحاء، وكادت الشمس تعتدل» «2» . هذا هو البيان الذى ذكرت فيه أسماء الأماكن التى مر بها ذلك الركب المبارك، فما ذكر كله أسماء أماكن فى الصحراء العربية، وهى مجاهل فيها، ما كان ليعلمها إلا خبير بها، وهو ذلك الدليل الذى كان عليما بها، وكان أمينا على من معه مع بقائه على الشرك. وهذا البيان يدل على مقدار صعوبة الرحلة، حتى أجهدت الرواحل، واضطر النبى صلّى الله عليه وسلّم إلي تغيير الراحلة. أم معبد: 328- هذا خبر عن امرأة نقية طاهرة مخلصة، التقى بها النبى صلّى الله عليه وسلّم فى القديد فى أثناء رحلته، وقد ظهر فى لقائه بها عليه الصلاة والسلام من خوارق العادات، مما يضاف إلى خارقة خروجه عليه الصلاة والسلام، وقد وضع الله تعالى على بصرهم غشاوة، فلم يروه، ويضاف نسج العنكبوت فى الغار، وإلى تعشيش الحمام عليه، وإلى غوص قوائم فرس سراقة، وعثرته عدة مرات.

_ (1) في معجم البلدان لياقوت (مجاج) (2) سيرة ابن هشام ج 1: 2 ص 491. 492.

فإن كل هذه خوارق عادات حسية، لا تقل عن معجزات موسى وعيسى الحسية، ولكن النبى صلّى الله عليه وسلّم لم يتحد قريشا بها، ولم يتحد الوجود الإنسانى بها، بل تحداه بالقران الكريم المعجزة الكبرى. والخارق الذى بدا فى المرور على أم معبد، هو أن اللبن در من شاة عجفاء حائل لا لبن فيها، وسقى جميع الركب، وتكرر السقى، وشاركهم أهل المنزل الذى نزل فيه النبى صلّى الله عليه وسلّم، وإليك القصة كما رواها البيهقى بسنده عن أبى معبد الخزاعى: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرج ليلة هاجر من مكة إلى المدينة هو وأبو بكر، وعامر بن فهيرة مولى أبى بكر، ودليلهم عبد الله بن أريقط الليثى، فمروا بخيمتى أم معبد الخزاعية، وكانت أم معبد امرأة برزة جلدة، تحتبى بفناء الخيمة فسألوها هل عندها لحم أو لبن، يشترونه منها، فلم يجدوا عندها شيئا من ذلك، وقالت: لو كان عندنا شيء ما أعوزكم القرى، وإذ القوم مرملون مسنتون (أى فى سنة جدب) . فنظر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإذا شاة فى كسر خيمتها، فقال عليه الصلاة والسلام: «ما هذه الشاة يا أم معبد؟ فقالت: هى شاة خلفها الجهد عن الغنم، قال عليه الصلاة والسلام: فهل بها من لبن؟ فقالت هى أجهد من ذلك. قال عليه الصلاة والسلام: تأذنين لى أن أحلبها؟ قالت: إن كان بها حلب فاحلبها، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالشاة فمسح ضرعها، وذكر اسم الله تعالي، ودعا بإناء لها يريض الرهط «1» ، فتفاجت واجترت فحلب منها ثجا حتى ملأه، وأرسله إليها، فسقاها، وسقى أصحابه فشربوا عللا بعد نهل «2» ، حتنى اذا أرووا شرب (أى عليه الصلاة والسلام) اخرهم، وقال: ساقى القوم اخرهم، ثم حلب فيه ثانيا عودا على بدء، فغادروه عندها، ثم ارتحلوا. فما لبث أن جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزات عجفا يتساوكن هزلا لا نقى بهن «3» ، فلما رأى اللبن عجب، وقال: من أين هذا اللبن يا أم معبد، ولا حلوبة فى البيت، والشاة عازب؟ فقالت: لا، والله إنه مر بنا رجل مبارك كان من حديثه كيت، وكيت، فقال: صفيه، فو الله إنى لأراه صاحب قريش الذى تطلبه، فقالت: رأيت رجلا ظاهر الوضاءة، حسن الخلق، مليح الوجه، لم تعبه تجلة، ولم تزر به صعلة «4» ، قسيم وسيم، فى عينيه دعج، وفى أشفاره وطف، وفى صوته صحل، أكحل، أزج، أقرن (أى سيد) فى عنقه سطع، وفى لحيته كثافة، إذا صمت فعليه الوقار وإذا تكلم سما، وعلاه البهاء، حلو المنطق، فصل لا نزر، ولا هذر، كأن منطقه خرزات نظم

_ (1) أى يشبع الجماعة، وتفاجت معناها فرجت بين رجليها. (2) النهل الشرب الأول، والعلل الشرب الثانى. (3) النقى: المخ. (4) التجلة: ضخامة البطن، والصعلة: صغر الرأس والوطف: كثرة الشعر.

خوارق أخرى:

يتحدرن، أبهى الناس وأحلمهم من بعيد، وأحسنهم من قريب، ربعة، لا تشنؤه عين من طول، ولا تقتحمه عين من قصر، غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظرا، وأحسنهم قدا، له رفقاء يحفون به، إن قال استمعوا لقوله، وإن أمر تبادروا لأمره، محفود، محسود، لا عابس ولا مفند. فقال بعلها: هذا والله صاحب قريش الذى تطلب، ولو صادفته لألتمسن أن أصحبه، ولأجهدن إن وجدت إلى ذلك سبيلا. هذه قصة أم معبد. وهذه أقوالها، وقد أشرنا إلى ذلك فى صفات النبى صلّى الله عليه وسلّم، واسمها كما جاء فى كتب السيرة عاتكة بنت خلف بن معد بن ربيعة بن أضرم. وأبو معبد زوجها- اسمه أكثم بن العزى ابن معبد بن ربيعة بن أضرم، فهو من أبناء عمومتها، وقيل أنه أسلم، وهاجر. خوارق أخرى: 329- سار الرائد الذى سلك بالنبى عليه الصلاة والسلام وصاحبه غير الطريق الجاد، وسار فى طريق غير مطروق، مر بأماكن كثيرة وقد حدثت فى هذه الطريق خوارق للنبى صلّى الله عليه وسلّم، وكلها يتعلق بمسير السائر فى الصحراء، وحاجته إلى الزاده والماء، فكانت الخوارق تجيء مناسبة لذلك. وقد روى البيهقى بسند عن قيس بن النعمان قال: «لما انطلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأبو بكر رضى الله تعالى عنه مستخفين، مروا بعبد يرعى غنما، فاستسقياه اللبن فقال ما عندى شاة تحلب، غير أن هناك عناقا حملت أول الشتاء وقد أخدجت «1» ، وما بقى لها من لبن، فقال عليه الصلاة والسلام: ادع بها، فدعا بها، فاعتقلها النبى صلّى الله عليه وسلّم، ومسح ضرعها، ودعا حتى أنزلت، وجاء أبو بكر بوعاء فحلب، فسقى عليه الصلاة والسلام أبا بكر، ثم حلب، فسقى الراعى، ثم حلب، فشرب صلّى الله عليه وسلّم. أخذ العجب الراعى فقال: من أنت، فو الله ما رأيت مثلك قط، قال عليه الصلاة والسلام: «وتراك تكتم على حتى أخبرك؟ قال نعم، قال النبى صلّى الله عليه وسلّم فإنى محمد رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) . فقال الراعى المخلص: أنت الذى تزعم قريش أنه صابيء!! قال إنهم ليقولون ذلك، قال فإنى أشهد أنك نبى، وأشهد أن ما جئت به حق، وأنه لا يفعل ما فعلت إلا نبى، وأنا متبعك، قال النبى صلّى الله عليه وسلّم: «إنك لا تستطيع ذلك يومك هذا فإذا بلغك أنى قد ظهرت فأتنا» . وقد روى هذا أيضا أبو يعلى.

_ (1) أي ألقت ولدها بعد أن صار تام الخلق ولكن نزل قبل أوانه ويقال أيضا إذا ولدته قبل تمام الحمل ناقص الخلق.

وصول النبى صلى الله عليه وسلم إلى قباء

وروى أبو نعيم بسنده عن عبد الله بن مسعود أنه قال: «كنت غلاما يافعا أرعى غنما لعتبة بن أبى معيط بمكة، فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأبو بكر، وقد فرا من المشركين، فقال صلّى الله عليه وسلّم «يا غلام عندك لبن تسقينا» فقلت: إنى مؤتمن، ولست بساقيكما فقال: هل عندك من جذعة لم ينز عليها الفحل بعد؟ قلت: نعم، فأتيتهما بها، وأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الضرع، فدعا، فحفل الضرع. وجاء أبو بكر بصخرة منقعرة، فحلب فيها، ثم شرب هو وأبو بكر، وسقيانى، ثم قال للضرع أقلص فقلص، فلما كان بعد أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقلت: علمنى من هذا القول الطيب: يعنى القران الكريم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنك غلام معلم، فأخذت من فيه سبعين سورة ما ينازعنى فيها أحد» . وهذه القصة لعلماء السيرة فيها كلام، وذلك أن ابن مسعود رضى الله عنه كان من المسلمين الذين أسلموا قبل الهجرة، وأوذوا فى سبيل الله، وهاجر إلى الحبشة، والقصة توهم أنه كان إسلامه فى أثناء رحلة النبى صلّى الله عليه وسلّم. وكلام علماء السيرة، لا يمنع أصل القصة، ولب الخوارق للعادة، فإن ذلك ثابت فى الصحاح، وربما كان الكلام منصبا على السياق، لا على أصل الواقعة وغيره ثابت بلا ريب. وقد سقنا ذلك الكلام، وليس فيه تطويل، لأنه صدق، ولا تطويل فى نقل الصادق من الأخبار. وإن هذا كله يدل على أن سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد جاء على يديه من الخوارق الحسية ما يزيد على التسع التى اختص بها موسى عليه السلام، إذ أحيا الموتى باذن الله، وإذ أخرجها من قبورها بإذن الله، واختلاف النوع لا يدل على ضعف الروحانية فى خوارق محمد صلّى الله عليه وسلّم، فالإسراء والمعراج خارق للعادة مادى روحى، وغوص فرس سراقة، ونبع اللبن بين أصابعه وتكرره يدل على قوة روحية لا تقل عن إحياء الموتى، ومع ذلك لم يتحد النبى صلّى الله عليه وسلّم إلا بالقران الكريم أنزله عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً. وصول النبى صلّى الله عليه وسلّم إلى قباء استمر الركب المبارك محمد صلّى الله عليه وسلّم وصاحبه سائرا فى طريق وعر فى وعثاء الصحراء، وقد استطال فرارا من الطلب، وايات الله تتبعها اية، وكثرت فى الطريق، وتوالت، ليعلم النبى صلّى الله عليه وسلّم بالواقع أن الله سبحانه وتعالى معه حيث حل وحيث ارتحل، كما علم من قبل بعين الإيمان، إذ قال لصاحبه وهو بالغار، لا تحزن إن الله معنا. فأراه الله تعالى الايات فى رحلته، كما أراه الايات فى نبوته. وقد انتهت شدة الرحلة بالوصول إلى قباء، حيث المنعة والنصرة، وحيث لقاء أهل الإيمان الذين كانوا يترقبون شخصه، ويستشرفون لحلوله بينهم. يقرر ابن إسحاق بسنده فى هذا عن عبد الرحمن بن عويمر بن ساعدة، قال: حدثنى رجال من قومى من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قالوا: لما سمعنا بمخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مكة المكرمة وتوقعنا

قدومه، كنا نخرج إذا صلينا الصبح إلى ظاهر حرتنا ننظر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فو الله ما يبرح حتى تعلينا الشمس على الظلال، فإذا لم نجد ظلا دخلنا، وذلك فى أيام حارة، حتى إذا كان اليوم الذى قدم فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، جلسنا كما كنا نجلس حتى إذا لم يبق ظل دخلنا بيوتنا ... وقدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين دخلنا البيوت، فكان أول من راه رجل يهودى، وقد رأى ما كنا نصنع، وأن ننظر قدوم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- علينا. فصرخ بأعلى صوته يا بنى قيلة (الأنصار) هذا جدكم قد جاء، فخرجنا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو فى ظل نخلة، ومعه أبو بكر رضى الله عنه فى مثل سنه، وأكثرنا لم يكن رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وركبه الناس أى (ازدحموا) عليه وما يعرفونه من أبى بكر، حتى زال الظل عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقام أبو بكر، فأظله بردائه، فعرفناه عند ذلك. نزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فيما يذكر علماء السيرة الطاهرة على كلثوم بن هند، وبعض العلماء يقول أنه نزل عند سعد بن خيثمة، وقد وفق ابن إسحاق وغيره بين الخبرين، فقال إنه صلّى الله عليه وسلّم نزل عند كلثوم، ولكنه كان إذا خرج للناس وجلسوا إليه، كان ذلك فى بيت سعد. ولقد جاءت عبارات تفيد أنه كان يختار الجلوس فى بيت سعد، لأنه كان عزبا لا أهل له، وكان منزله منزل الأعزاب من المهاجرين. ونزل صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبو بكر على خبيب بن أساف. وفى قباء التقى علي بن أبى طالب برسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذ مكث ثلاث ليال وأيامها بمكة المكرمة بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لرد الودائع، ثم أخذ سمته إلى يثرب، وكأنه أقام فى مكة المكرمة بعد الرسول عليه الصلاة والسلام المدة التى مكثها النبى وصاحبه فى الغار إذ أنهما مكثا فى الغار ثلاث ليال. ونزل على كرم الله وجهه فى المنزل الذى نزل فيه النبى صلّى الله عليه وسلّم، وهو منزل كلثوم بن هند، ويظهر أن حضوره إلى قباء كان بعد حضور النبى صلّى الله عليه وسلّم بليلة على الأقل، لأنه أقام بقباء ليلة أو ليلتين، وقد ذكر ابن إسحاق أنه أقام فى قباء أربعة أيام بلياليها، فذكر أنه أقام يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، وفى هذه المدة التى أقامها بقباء أنشأ مسجدها، وهو الذى أشار الله تعالى إليه فى قوله تعالى:.. لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ، فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا، وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ «1» ، فهو مسجد أسس على التقوى من أول يوم أقام فيه النبى صلّى الله عليه وسلّم، وهو جدير بأن يسمى مسجد الهجرة، وأنه مسجد الذين يحبون أن يتطهروا فى عبادتهم غير مرائين ولا منافقين. ولقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصل فى اليوم الثانى عشر من شهر ربيع الأول، وكان يوم الاثنين، وقيل فى اليوم التالى، والأول هو الذى يرجحه الرواة.

_ (1) سورة التوبة: 108.

دخول المدينة

دخول المدينة 331- كان دخول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة يوما مباركا على أهل المدينة المنورة، وعلى الأخلاف، وعلى الخليقة كلها، لأنه اليوم الذى انتقل فيه الإسلام من الدعوة فى مكة المكرمة وما حولها، غير معلم بنظام ثابت مقرر عام بل كانت الدعوة فى دائرة العقيدة، وبيانها، وبيان ما يتعلق بها، من غير أن تكون نظاما مفروضا يتبع وينفذ، انتقل الإسلام من ذلك الحيز إلى عموم الدعوة فعلا، للبلاد العربية، فى كل صقع من أصقاعها، ثم تجاوز حيز العرب، إلى الدول المجاورة، ومنها انساب إلى ما وراءها من إقليم إلى إقليم. ولقد أحس أهل المدينة المنورة بما حباهم الله به من فضل، وبما اختص المدينة من شرف، إذ صارت موطن الإيواء والنصرة أولا، وموطن النظام الإسلامى ثانيا، والمكان الذى يأرز إليه الإسلام ثالثا، وأحست بأن الوثنية اذنت بأفول، وأن اليهود فيها صاروا لا يتطاولون بعلم علموه، أو كتاب سبقوهم به. ولذا خرج الناس مهللين مكبرين بمقدم النبى صلّى الله عليه وسلّم يستقبلون من يرونه فيه الهداية فرحين واجدين فى مقدمه العزة والكرامة، والإخلاص والطهر من الوثنية. روى الشيخان البخارى ومسلم بالسند المتصل عن أبى بكر رضى الله تعالى عنه أنه قال: «خرج الناس حين قدمنا المدينة فى الطريق، وعلى البيوت الغلمان والخدم يقولون: «الله أكبر جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، الله أكبر جاء محمد، الله أكبر جاء محمد، الله أكبر جاء رسول الله، فلما أصبح انطلق، وذهب حيث أمر» . وروى البيهقى فى دلائل النبوة، وأبو بكر المقرى فى الشمائل، والطبرى فى الرياض، عن ابن عائشة، واسمه عبيد الله بن محمد بن حفص، وأمه عائشة بنت طلحة، أنه صعدت ذوات الخدور تعلن تهنئة له حال دخوله: طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع أيها المبعوث فينا ... جئت بالأمر المطاع «1» روى هذا الخبر فى سنن الترمذى والنسائى عن السائب بن يزيد.

_ (1) يقول ابن القيم إن هذا الدعاء قيل عند عودة النبي صلي الله تعالي عليه وسلم من غزوة تبوك، ويحذف البيت الأخير من الأبيات الثلاثة، والسبب في قوله أنه أرجف المرجفون في المدينة عن النبي في غزوة تبوك مما جعل المؤمنين يستبشرون ويفرحون بمجيئه، فخرج الغلمان والنساء يقولون، وإن ثنية الوداع في مدخل المدينة من قبل الشام، لا من قبل مكة، ويقول في ذلك ابن القيم: لما دنا رسول صلّى الله عليه وسلّم من المدينة، خرج الناس لتلقيه، وخرج النساء والصبيان والولائد تعلن طلع البدر علينا. من ثنيات الوداع، وجب الشكر علينا. ما دعا لله داع، وبعض الرواة يقول. إنما كان ذلك عند مقدمه من مكة إلى المدينة وهو وهم لأن ثنيات الوداع إنما هي من ناحية الشام، ولا يراها القادم من مكة إلي المدينة ولا يمر بها إلا إذا توجه إلي الشام.

خطب لرسول الله صلي الله عليه وسلم

هذا استقبال رائع- صحبه تكبير أهل المدينة لمقدم النبى صلّى الله عليه وسلّم، فقد كان هناك استقبال عملى أروع فى معناه، وهو تزاحم أهل كل بطون الأوس والخزرج، فى أن يأخذ بناقة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لتكون إقامته بينهم. جاء رجال من بنى سالم، فقالوا: يا رسول الله أقم عندنا فينا العدد والعدة والمنعة، وأخذوا بزمام الناقة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «خلوا سبيلها فإنها مأمورة» . وجاء رجال من بنى بياضة. فقالوا: يا رسول الله هلم إلينا إلى العدد والعدة والمنعة، قال عليه الصلاة والسلام: خلوا سبيلها فإنها مأمورة، فخلوا سبيلها، فانطلقت حتى إذا مرت بدار بنى ساعدة، اعترضه سعد ابن عبادة والمنذر بن عمرو فى رجال من بنى ساعدة، فقالوا: يا رسول الله هلم إلينا إلى العدد والمنعة، فقال عليه الصلاة والسلام: خلوا سبيلها، فإنها مأمورة، فخلوا سبيلها، فانطلقت حتى إذا وازت دار بنى الحارث بن الخزرج اعترضه معاذ بن ربيعة، وخارجة بن زيد، وعبد الله بن رواحة، فى رجال من بنى الحارث بن الخزرج، فقالوا: يا رسول الله هلم إلى أخوالك، ومنهم أم عبد المطلب جد النبى صلّى الله عليه وسلّم قالوا: هلم إلى العدد، والعدة، والمنعة، فقال عليه الصلاة والسلام: خلوا سبيلها، فإنها مأمورة، فخلوا سبيلها. فانطلقت حتى إذا أتت دار بنى مالك بن النجار بركت، وكان ذلك عند دار أبى أيوب الأنصارى، ويقول ابن إسحاق: لما بركت لم ينزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنها، حتى وثبت، فسارت غير بعيد، ورسول الله، واضع لها زمامها لا يثنيها به، ثم التفتت خلفها، فرجعت إلى مبركها أول مرة، فبركت فيه. ثم نزل عنها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاحتمل أبو أيوب خالد بن زيد رحله فوضعه فى بيته، ونزل عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى بنى المسجد، وبنى له دارا. خطب لرسول الله صلي الله عليه وسلم 332- تدل هذه الأخبار التى سقناها، على أن الأنصار الذين دخلوا فى الإسلام كانوا يرحبون بالنبى صلّى الله عليه وسلّم فى بيوتهم فرادى، وجماعات، وأنهم بيوتا وبطونا كانوا يستعدون بعددهم، ويعطون العهد، على المنعة والحرب معه، من غير تحفظ ولا شرط. ويظهر أن ذلك كان يثير غضب المشركين فيهم، وخصوصا الذين صاروا من بعد منافقين، يبطنون ما لا يظهرون أو يخفون مالا يبدون، ولقد روى أنه ما مر بأهل بيت إلا أعلنوا التأييد وأبدوا الترحيب إلا عبد الله بن أبى الذى صار من بعد زعيم النفاق فى المدينة الطاهرة.

الخطبة التى رواها ابن جرير:

ولقد ذكر موسى بن عقبة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، مر فى طريقه بعبد الله بن أبى بن سلول، ينتظر أن يدعوه إلى المنزل، وهو يومئذ سيد الخزرج فى أنفسهم، فقال: عبد الله انظر الى الذين دعوك فانزل عليهم، فذكر ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لنفر من الأنصار، فقال سعد بن عبادة يعتذر عنه: لقد من الله علينا بك يا رسول الله وإنا نريد أن نعقد على رأسه التاج، ونملكه علينا. اتجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من بعد نزوله فى دار أبى أيوب الأنصارى إلى ثلاثة أمور: أولها: صلاة الجمعة فقد صلاها فى بنى سالم بن عمرو بن عوف، ويظهر أنه صلاها فى أرض فضاء، لأنه لم يكن قد بنى مسجده فيها، ومادام النبى صلّى الله عليه وسلّم قد اختارها لإقامة الجمعة، فهى مسجد تقام فيه الصلوات، وخصوصا أنه ولى أمر المسلمين. الأمر الثانى الخطبة: وقد قالوا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خطب الجمعة، وقد روى فى نصها روايتان: إحداهما- رواية ابن جرير الطبرى، والخطبة فى هذه الرواية طويلة نسبيا، ورواها البيهقى، وروايته أقصر، ولم ينص على أنها خطبة واحدة، بل روى أخرى بعدها على أنها خطبة أخرى، ولنذكر الخطب الثلاث، وإن كان فى بعض رواتها كلام، ولكنها أشبه بكلام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومواعظه. الخطبة التى رواها ابن جرير: «الحمد لله أحمده وأستعينه، وأستغفره، وأستهديه، وأومن به ولا أكفره، وأعادى من يكفره، وأشهد ألاإله إلا الله واحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق، والنور والموعظة على فترة من الرسل، وقلة من العلم، وضلالة من الناس، وانقطاع من الزمان، ودنو من الساعة، وقرب من الأجل، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى وفرط، وضل ضلالا بعيدا، وأوصيكم بتقوى الله. فإنه خير ما أوصى به المسلم أن يحضه على الاخرة، وأن يأمره بتقوى الله تعالى فاحذروا ما حذركم الله من نفسه، ولا أفضل من ذلك نصيحة، ولا أفضل من ذلك ذكرى. وإن تقوى الله تعالى ذخر لمن عمل على وجل ومخافة، وعون صدق على ما تبتغون من أمر الاخرة، ومن يصلح الذى بينه وبين الله من أمر السر والعلانية، لا ينوى بذلك إلا وجه الله تعالى يكن له ذكرا فى عاجل أمره، وذخرا فيما بعد الموت، حين يفتقر المرء إلى ما قدم، وما سوى ذلك يود لو أن بينه وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه والله رؤف بالعباد، والذى صدق قوله، وأنجز وعده، لا خلف لذلك، فإنه يقول تعالى: ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ، وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ. واتقوا الله فى عاجل أمركم، واجله فى السر والعلانية، فإنه من يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا، ومن يتق الله فقد فاز فوزا عظيما، وإن تقوى الله تعالى توقى مقته

وتوقى سخطه، وإن تقوى الله تبيض الوجه، وترضى الرب، وترفع الدرجة، خذوا بحظكم ولا تفرطوا فى جنب الله، قد علمكم الله كتابه، ونهج لكم سبيله، ليعلم الذين صدقوا، وليعلم الكاذبين، فأحسنوا كما أحسن الله تعالى إليكم، وعادوا أعداءه، وجاهدوا فى الله حق جهاده هو اجتباكم، وسماكم المسلمين، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حى عن بينة، ولا قوة إلا بالله، فأكثروا من ذكر الله، واعلموا لما بعد الموت، فإنه من أصلح ما بينه وبين الله يكفيه ما بينه وبين الناس، ذلك بأن الله يقضى على الناس، ولا يقضون عليه، ويملك من الناس، ولا يملكون منه، الله أكبر، ولا قوة إلا بالله العلى العظيم» . هذه الخطبة كما رواها ابن جرير، ولولا أن الحافظ ابن كثير رواها ما أقدمنا على نقلها، ولكن قال الحافظ: هكذا أورد ابن جرير، وفى السند إرسال. ونحن نقرر ما قررنا أن ما اشتملت عليه أشبه بمواعظ النبى صلّى الله عليه وسلّم، ولكن نلاحظ أنها أطول من أكثر خطب النبى صلّى الله عليه وسلّم، ونلاحظ أن فيها تكرارا لم يعهد فى خطب النبى صلّى الله عليه وسلّم، وأن فيها ايات قرانية من الايات المدنية، مما يدل على أنها نزلت بعد هذه الخطبة، والله أعلم. هذا ما نراه بالنسبة للخطبة التى رواها ابن جرير، وقد روى البيهقى خطبتين: أولاهما: ما رواه عن عبد الرحمن بن عوف قال: كانت أول خطبة خطبها النبى صلّى الله عليه وسلّم فى المدينة المنورة أن قام فيهم فحمد الله تعالى، وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: «أيها الناس قدموا لأنفسكم، تعلمن، والله ليصعقن أحدكم، ثم ليدعن غنمه ليس لها راع ثم ليقولن له ربه، ليس له ترجمان ولا حاجب يحجبه دونه: ألم يأتك رسولى فبلغك، واتيتك مالا فأفضلت عليك، فما قدمت لنفسك، فينظر يمينا وشمالا، فلا يرى شيئا، ثم ينظر قدامه، فلا يرى غير جهنم، فمن استطاع أن يقى وجهه من النار، ولو بشق تمرة، فليفعل، ومن لم يجد فكلمة طيبة، فإن بها تجزى الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته» . والثانية أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الحمد لله أحمده، وأستعينه، نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله، فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد ألاإله إلا الله واحده لا شريك له، إن أحسن الحديث كتاب الله، قد أفلح من زينه الله فى قلبه، واختاره على ما سواه من أحاديث الناس، إنه أحسن الحديث وأبلغه، أحبوا من أحب الله، أحبوا الله من كل قلوبكم، فإنه من يختاره الله ويصطفيه فقد سماه خيرته من الأعمال، وخيرته من العباد، والصالح من الحديث، ومن كل ما أوتى من الناس من الحلال والحرام، فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، واتقوه حق تقاته، وأصدقوا الله صالح ما تقولون بأفواهكم، وتحابوا بروح الله بينكم، إن الله يغضب أن ينكث فى عهده، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته» .

بناء مسجده عليه الصلاة والسلام

وقد قال ابن كثير فى رواية هذه الخطبة أن طريقها مرسلة إلا أنها مقوية لما قبلها، وإن اختلفت الألفاظ. كانت هذه الخطب على ما فى متن أولاها من نقد، وعلى أنها مرسلة، بيد أنها فى جملتها على منهاج النبى صلّى الله عليه وسلّم فى دعوة المؤمنين لتقوية إيمانهم، وتغذيته بتقوى الله تعالى، كما دلت أقوال النبى قبل الهجرة على منهاجه فى دعوة المشركين إلى التوحيد. بناء مسجده عليه الصلاة والسلام 333- هذا هو الأمر الثالث الذى ابتدأ به النبى صلّى الله عليه وسلّم إقامته فى المدينة المنورة. لقد ابتدأ صلّى الله عليه وسلّم ببناء مسجد فى قباء، وهو المسجد الذى ذكر الله سبحانه وقال فيه.. لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ «1» وأنه يجىء إليه الذين يحبون أن يتطهروا، والله يحب المطهرين، ولما نزل فى بيت أبى أيوب اتجه تفكيره إلى إنشاء مسجد بالمدينة المنورة الذى هو أحد المساجد الثلاثة التى تشد إليها الرحال وهى: المسجد الحرام، ومسجد بيت المقدس (المسجد الأقصى) ، وهذا المسجد، أو كما قال عليه الصلاة والسلام (مسجدى هذا) . روى عن ابن شهاب الزهرى أنه قال: بركت ناقة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى موضع مسجده، وهو يصلى فيه رجال من المسلمين، فكان مصلى لهم قبل أن يا بنى صلّى الله عليه وسلّم فيه مسجده. ولقد كان ذلك الموضع الذى بركت فيه الناقة مربدا لغلامين يتيمين فى المدينة المنورة من أولاد الأنصار، وكان اليتيمان فى كفالة أسعد بن زرارة الذى كان أول داع للإسلام فى المدينة المنورة قبل هجرة النبى صلّى الله عليه وسلّم إليها. ساوم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الغلامين، أو وصيهما أو هما بحضرة وصيهما، فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله، ولكن الرسول عليه الصلاة والسلام أبى إلا أن يكون بالثمن، فابتاعه منهما بعشرة دنانير. وكان قبل شراء رسول الله عليه الصلاة والسلام جدارا لا سقف له، وكان يصلى فيه، ويقيم الجماعات والجمعة أسعد بن زرارة، قبل مقدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو بمكة المكرمة وقد جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فجعل ذلك المصلى مسجده كما أشرنا. وقد جعله صلّى الله عليه وسلّم بناء مربعا، طول كل بعد من أبعاده مائة ذراع، وقد قال ابن القيم رضى الله عنه، جعل أساسه قريبا من ثلاثة أذرع، وتم بناؤه باللبن، وبعضهم قال إن بعضه كان بالحجر المنصنود.

_ (1) التوبة: 108.

وقد اشترك فى بنائه كل من حضر البناء من المهاجرين والأنصار، والنبى صلّى الله عليه وسلّم كان يعمل فى بنائه، وكان ينقل اللبن والحجارة بنفسه، ويقول راجزا. اللهم لا عيش إلا عيش الاخرة ... فاغفر للأنصار والمهاجرة. ولقد جعلوا يرتجزون، وينقلون اللبن ويقول بعضهم فى رجزه مستحثا الهمم: لئن قعدنا والرسول يعمل ... لذاك منا العمل المضلل. وجعل عليه الصلاة والسلام قبلته إلى بيت المقدس، وجعل له ثلاثة أبواب، بابا فى مؤخره، وبابا يقال له باب الرحمة، والباب الذى يدخل منه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وجعل عمده بالجذوع، وذكر السهيلى أنها جذوع نخل، وسقف بالجريد، وجعلت قبلته من اللبن، وقيل من الحجارة منضودة بعضها على بعض. وقد نخرت عمده فى خلافة الإمام عمر فجردها، واستبدل بها، ولما كانت خلافة عثمان ذى النورين رضى الله عنه بناها بالحجارة المقوسة، وسقفه بالساج، وجعل قبلته من الحجارة، وهذه رواية واحدة، وفى عهد عبد الملك بن مروان أضيفت حجرات نسائه، وكانت تسعا. ولما كانت أيام بنى العباس، بناه المهدى ثالث ملوكهم، ووسعه وزاد فيه، وذلك فى سنة ستين ومائة، ثم زاد فيه عبد الله المأمون، وأتقن بنيانه. ونخلص من هذا الى أن سنة النبى صلّى الله عليه وسلّم فى بناء مسجده، ومسجد قباء كانت بأقل كلفة لتشجيع بناء المسجد. وكما كان مسجده الطاهر الذى هو أحد المساجد التى تشد إليها الرحال كان أيضا مسكنه، وكانت بيوته عليه الصلاة والسلام تسعا، بعضها من جريد مطين بالطين، وسقفها جريد، وبعضها من حجارة مرصوصة بعضها فوق بعض، وسقف أيضا بالجريد، ولم يكن سقفه عاليا. وكان سريره عليه الصلاة والسلام خشبات مشدودة بالليف، فهل من معتبر، فذلك نبى الخليقة، فهل من الناس من يتسامى إلى حياة كحياته!! تم بحمد الله المجلد الأول ويحوي الجزء الأول ويليه المجلد الثانى ويحوي الجزء الثاني

الجزء الثانى بناء الدولة الإسلامية- معاهدة جوار مع اليهود- نقضهم لها- إجلاؤهم من المدينة- المنافقون- الإذن بالجهاد- الغزوات والسرايا- غزوة بدر- غزوة أحد- غزوة الأحزاب- الأحكام الشرعية التى شرعت.

الجزء الثانى

[مقدمة] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الحمد لله الذى هدانا لهذا وما كنا لنهتدى لولا أن هدانا الله. والصلاة والسلام على سيدنا محمد خير خلق الله، وعلى أصحابه الذين اتبعوا هداه. أما بعد، فهذا هو الجزء الثانى من السيرة الطاهرة سيرة خاتم النبيين وسيد المرسلين محمد صلى الله تعالى عليه وسلم. وفيه ابتداء قيام الدولة الإسلامية التى منّ الله تعالى بها على عباده المؤمنين الذين استضعفوا، ثم مكن الله تعالى لهم فيها، وصاروا الأئمة والهداة، وبدلهم بها من الضعف قوة ومن الذلة عزة بعزة الله، وقد أذن فيها بالجهاد، وتعددت ضروبه، فجهاد للنفس، وجهاد للشرك، وجهاد لليهود، وجهاد للنفاق، وجعل الله تعالى كلمة الله والحق هى العليا. وإنه ينتهى بانتهاء الجهاد مع المشركين ووقف أذى قريش، والصلح معهم في الحديبية الذى عده الله تعالى فتحا مبينا. والله تعالى هو الموفق والهادى إلى طيب القول وصراط العزيز الحميد.. كتب الله لنا التوفيق. محمد أبو زهرة

إنشاء دولة الإسلام

إنشاء دولة الإسلام 334- هاجر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وخرج من مكة المكرمة، وهى أحب أرض الله تعالى إليه، لأن بها البيت الحرام، ولأنها منزل الوحي، ولأن بها الأهل والأقربين، وأن بها ماثر إبراهيم، ولكنه انتقل مع كل هذا إلى المدينة المنورة، وما كان ذلك إلا لأنه بأمر ربه أنشأ دولة، ولأنه ما جاء لرهبانية أو روحانية مجردة، أو لتهذيب النفوس فقط، بل بعث رحمة للعالمين ولا بد من أن تقوم دولة تقيم الحق، وتخفض الباطل، وتمنع الظلم، وتجمع الإنسانية، وتنشر التعاون بين الناس، وتمحو كل الفوارق التى تجعل بعض بنى الإنسان يتحكم في الآخر، وتمنع الفساد في الأرض. ولذلك هاجر عليه الصلاة والسلام حيث يستطيع إقامة الدولة المؤمنة التى تتناهى عن الشر، وتتعاون على الخير، وكذلك كل رسول يأتى بشريعة تقوم عليها دولة، كما فعل موسي، إذ خرج من أرض فرعون، لينشيء من قومه قوة ترفع الحق، وحاول ذلك مع بنى إسرائيل، وحاول أن يربى فيهم روح العزة والكرامة، وهما لا يسكنان في قلب إلا إذا سكن معهما حب الإنصاف، وحب الرحمة والمؤاخاة، والرفق، فالعزيز الكريم هو الذى ينصف ويرحم، ويرفق، واللئيم هو الذي يظلم، ويشق على الناس، ولا ينزل بهم رحمة، بل عداوة وبغضاء، حاول موسى عليه السلام أن يبث فيهم البأس بعد البؤس والخنوع، فقالوا له، وهو يريد بهم العزة والدفاع عن أنفسهم فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا، إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (24- المائدة) . وعيسى عليه السلام الذى أثر عنه قوله «دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله» لم يشن حربا، ولم يقم دولة، وإن دعا إلى الفضيلة والمحبة، والروحانية في وسط الغلظة المادية التى آل إليها اليهود، فكانوا متنابذين مع الإنسانية، ولكن خاضعون خانعون للدولة الرومانية، لا يتمردون، ولا يلاحون، ولكن يرضون بالمنزل الهون، كما قال الله تعالى ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ (112- آل عمران) ، فعيسى لم يحاول أن يكوّن دولة، ولكن كان داعى رحمة ومحبة، ورفق ومؤاخاة في قوم غلاظ الرقاب يثيرون العداوة والبغضاء، مع من لا قوة لهم، ويخضعون في ذلك للقوي، ويعيشون بالسعاية والإفساد. جاء محمد عليه الصلاة والسلام على فترة من الرسل لإقامة الدولة الفاضلة لأنه خاتم النبيين، ولأنه آخر صرح في بناء النبوة الإلهية، فكان لا بد من أن تودع رحمته في جماعة مؤمنة، وأن تكون هى حاملة تبليغ الرسالة من بعده، تقاوم في سبيلها، وتسالم في الدعوة إليها ومد مبادئها، وتنتقل الرسالة في الأجيال مع هذه الأمة التى حملت الأمانة، ومع دولة تحميها.

وإن قيام الدولة الفاضلة، بعمل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم في حياته والحواريين من بعده فيه تطبيق عملى للفضيلة والعدالة والمساواة. وإذهاب روح التفاوت والعنصرية، وبث الإيمان والفداء، ورجاء ما عند الله تعالى. ويكون ذلك حجة في الأرض على الذين يدّعون، أن قيام دولة فاضلة على مبادئ الأخلاق ليس حلما لا يتأتى تطبيقه، ولكنه عمل ثبت تحقيقه، وقامت في الوجود أعلامه، وأن الذين يفرطون في حقوق الإنسانية، يسرفون على الناس في ظلمهم زاعمين أن الفضيلة والأخلاق علاقات شخصية، ولا تصلح أن تكون أساسا للعلاقات الاجتماعية والإنسانية عامة. وأن قيام الدولة الإسلامية حجة قائمة على الذين يزعمون أن الدين علاقة بين العبد وربه. وأنه مقصور على المساجد والكنائس والصوامع، لأنه لو كان الدين كذلك ما هاجر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ولارتضى البقاء في مكة المكرمة، واكتفى أن يطلب من المشركين أن يتركوه وما يعبد، وأن يتركهم وما يعبدون، ولعلهم كانوا يرتضون بذلك، وخصوصا أنهم كانوا يعلمون فيه الأخلاق الفاضلة، والصدق وشرف المحتد، والنسب الرفيع. ولكن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كانت رسالته أبعد من ذلك أثرا، وأعم من ذلك عملا، وإنا نقول مقالة الذين يقولون أن الدين هو العلاقة بين العبد وربه، ولكنا نعمم العلاقة بين العبد وربه، فنجعلها عامة شاملة، وليست خاصة بالصلاة والصوم، إنما علاقة العبد بربه تقتضى الرحمة بعباده، والعدل بينهم أيا كان جنسهم، وأيا كان لونهم، كما قال صلى الله تعالى عليه وسلم «لا يؤمن أحدكم، حتى يحب الشيء لا يحبه إلا لله» وأن كل عمل خير فيه صلاح الجماعة من عدل يقام، وظلم يخفض، وإعلان مساواة ورفق بالناس، كل هذا عبادة إذا قصد به وجه الله، ولا يمكن أن يكون مصلح قادرا على الإصلاح، إلا إذا أخلص النية لله تعالى، وأراد نفع الناس مرضاة لله تعالى العلى القدير، فالذين يفصلون بين عبادة الله تعالى وحده، وحسن المعاملة، وتنظيم المعاملات بين الناس، يفصلون بين الدين ولازمه، والحقيقة وما يترتب عليها، والمقدمة والنتيجة. 335- وإن العرب كانوا أصلح الناس لتجربة الدولة الفاضلة التى وضع الله تعالى في الكتاب الكريم وعلى لسان رسوله الأمين، دعائمها وأسس إقامتها، وقد سن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم السنن العملية لتطبيق أحكام الله تعالى، فبين العبادات المفروضة من صلاة وصوم، وحج وزكاة، وإن كانت الصلاة قد ابتدأت في آخر أيامه صلى الله تعالى عليه وسلم في مكة المكرمة، عند الإسراء والمعراج.

الأهداف الاجتماعية والدولية للدولة الإسلامية

ووضع سبحانه وتعالى لهذه الدولة أسس تكوين المجتمع من الأسرة إلى الجماعة إلى العلاقات الإنسانية في السلم والحرب، ويصح لنا في هذا المقام أن نشير إلى الأهداف الاجتماعية والدولية للدولة الإسلامية بكلمات موجزات لا تغنى الإشارة فيها عن العبارة ولا الإجمال عن التفصيل. [الأهداف الاجتماعية والدولية للدولة الإسلامية] [تهذيب النفس] أ- أول الأهداف الاجتماعية تهذيب الآحاد ليكون منهم وحدات متلائمة يتكون منها مجتمع، ولهذا شرعت العبادات ونفذت أحكامها، تطهيرا للمجتمع من آثامه، وتوقيا للأخيار من شرور الأشرار، فكانت الصلاة، التى قال تعالى في بيان غايتها وثمرتها إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ (45- العنكبوت) . وشرع الصوم لتطهر النفس وتسيطر عليها الروح، وتقوى الإرادة ولا يكون الواحد من المؤمنين خاضعا للهوى، بل يسيطر عقله على شهوته، فتكون له أمة ذلولا، ولا تكون سيدا مطاعا. وشرع الحج للتعارف الإنسانى. وتهذيب الوجدان بالإقامة في ضيافة الرحمن. وشرعت الزكاة ليعين الغنى الفقير وليعيش الناس في وئام. فكان تطهير المجتمع إيجابيا بتزكية الروح وتطهيرها. وتنمية العلاقات الاجتماعية وبث روح الرحمة في القلوب، والتعاون بين الناس. وقد شرعت الكفارات تطهيرا للنفوس إذا أثمت، وفتحا لباب التوبة عمليا ونفسيا. وجعل الصدقة تطهيرا من كل إثم كما قال صلى الله تعالى عليه وسلم: «الصدقة تطفيء المعصية، كما يطفيء الماء النار» إذ كل معصية مهما تضؤل فيها اعتداء على الناس. فكان تكفيرها بمعاونة الناس. [تكوين الأسرة] ب- واتجه الإسلام إلى تكوين الأسرة الفاضلة. لأن الأسرة نواة البناء الاجتماعى. وهى الوحدة الأولى في إقامة دعائمه. ولذلك عنى القرآن الكريم ببيان أحكامها. وشرح الواجبات والحقوق فيها بين الزوجين. وبين الآباء والأبناء. وإن كل الأحكام الشرعية الخاصة بالعبادات والتعامل جاءت مجملة. وبين النبى صلى الله تعالى عليه وسلم تفصيلها بالعمل. لا بالقول فقط، إلا أحكام الأسرة، فقد تولى الله سبحانه وتعالى بيانها تفصيلا في كتابه الكريم، بين التزامات الزوجية والعلاقات الأسرية، وعلاجها إذا أصابتها آفة، وبين أحكام الميراث تفصيلا لا إجمال فيه، وأحوال الطلاق وما يتصل به. وإن ذلك كله حجة قائمة على الذين يريدون أن يحرفوا الشرع عن مواضعه، ويجعلوا للأسرة نظاما لم يأت به كتاب الله تعالى. وهو عند الله منكر، لأنه تقليد للذين لا يعرفون مكانة الأسرة، ولا حريتها.

رأى عام

رأى عام ج- وقامت الدولة الإسلامية التى أقامها النبي صلى الله تعالى عليه وسلم تنفيذا لحكم الله على تكوين رأى عام فاضل. ولذلك حث الإسلام على الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، واعتبرهما عنوانا للأمة الفاضلة، وإذا كان الرأى العام الذى قام في مكة المكرمة كان وثنيا، ولذلك حارب الوحدانية وأباح الخبائث. فالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم بهداية القرآن الكريم والوصايا الإلهية اتجه إلى تكوين رأى عام فاضل يقوم المعوج، ويمنع الخبائث، ولقد قال تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ (110- آل عمران) ، وبين أن اللعنة تكون على الذين يفسدون الرأى العام فيها فقال تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ، وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ. كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ، لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (78، 79- المائدة) . وفي سبيل تكوين رأى عام فاضل، أوجب على كل مؤمن أن يستنكر الشر، ويستهجنه، ولا يقره ويستحسنه، وإلا اضطربت أمور الجماعة، وهوت سفينة الحياة. ولذا قال صلى الله تعالى عليه وسلم: «مثل المدهن في حدود الله مثل قوم استهموا في سفينة، فصار بعضهم في أسفلها، وبعضهم في أعلاها، فكان الذى في أسفلها يمر بالماء على الذى في أعلاها، فتأذوا به، فأخذ فأسا ينقر به أسفل السفينة، فأتوه، فقالوا: مالك؟ قال تأذيتم ولا بد لى من الماء، فإن أخذوا على يديه أنجوه، ونجوا بأنفسهم، وإن تركوه أهلكوه، وأهلكوا أنفسهم» . وإن الرأى العام الفاضل الذى أراد الإسلام أن يتكون هو الذى يمنع الظلم، ويقيم العدل، ولذلك يقول النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: «لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يدى الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرا، أو ليضربن بقلوب بعضكم على بعض، ثم تدعون فلا يستجاب لكم» . وإن الرأى العام الفاضل تسوده الفضيلة، وتقتل فيه الرذيلة، فلا تظهر، ولذلك يحث النبى صلى الله تعالى عليه وسلم على الحياء الذى يجعل صاحبه لا يظهر أمام الناس إلا بالخير. فيقول عليه الصلاة والسلام «الحياء خير كله» ويقول عليه الصلاة والسلام «لكل دين خلق، وخلق الإسلام الحياء» . وإن الجماعات الإنسانية التى انحرفت، وسادتها الرذيلة، أول مظاهرها فقدان الحياء، وكذلك يدعو المسرفون على أنفسهم، وعلى أقوامهم، إلى هجر الحياء وإظهار الرذيلة، ويسمون ذلك بأسماء ما أنزل الله تعالى بها من سلطان.

الكرامة

الكرامة وإن دولة الإسلام التى ألفها النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في المدينة المنورة تدعو إلى تكريم الإنسان. لأنه إنسان لا لكونه شريفا نسيبا، ولا لكونه أبيض أو أسود، ولا لكونه مسلما، بل للإنسانية فيه، ولقد قال الله تعالى في ذلك، لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ، وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ، وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا. وكرم الله تعالى الرقيق، ودعا القرآن الكريم إلى عتقهم، ومنع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يذل المالك من يملكه، أو يرهقه بأن يكلفه ما لا يطيق، وروى الإمام أحمد أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قال «من لطم عبده، فكفارته عتقه» وقد سوى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بين نفس الحر، ونفس العبد، بل سوى بين نفس العبد، ونفس مالكه. فقال عليه الصلاة والسلام «من جوع عبده جوعناه، ومن قتله قتلناه» . العدالة (د) وأوجب القرآن الكريم العدالة بكل ضروبها، وعدها عنوان الإسلام، ويروى في ذلك أن أكثم بن صيفى لما بلغته دعوة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أرسل بنيه ليعرفوا دعوته عليه الصلاة والسلام، فتلا عليهم قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى، وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90- النحل) . وإن العداله مطلوبة على الولى والعدو على سواء، ولذلك قال الله تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا، اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى (8- المائدة) . فالعدل حتى مع العدو المشنوء أقرب للتقوى. والعدالة في مضمونها تشمل ما يسمى العدالة القانونية، وهى أن يكون القانون الذى يحكم به الناس واحدا، وأن يكون تطبيقه على الجميع واحدا، فلا يضار الفقير في تطبيقه، ولا يحابى الغنى في معاملته، وأساسه المساواة في التطبيق. ولذا قال صلى الله تعالى عليه وسلم: «كلكم لآدم وآدم من تراب لا فضل لعربى على أعجمى إلا بالتقوى» . ولقد تأسى بهدى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، أبو بكر إذ قال: «القوى منكم ضعيف، حتى آخذ الحق منه، والضعيف منكم قوى حتى آخذ الحق له» . وتشمل العدالة في مضمونها العدالة الاجتماعية بأن يمكن لكل إنسان من أن يعيش عيشة كريمة غير مقطوع ولا ممنوع، وأن يمكن من استغلال مواهبه فيما يفيد شخصه، وجماعته، وأن تهيأ الفرص لكل إنسان أن يعمل بطاقته جسمية كانت أو عقلية.

التعاون

وليس معنى العدالة الاجتماعية محو الفقر وإذابته، فإن الفقر والغنى حقيقتان ثابتتان في الوجود، لا يمكن محو أحدهما، أو إذابته، كما جاء التعبير على لسان بعض الناس. إنما العدالة الاجتماعية، تقتضى محو التفرقة بين الطبقات، وأن يسيطر ناس بحكم الطبقية، وأن يستطيل غنى على فقير بحكم غناه، ولا نسيب على ضعيف بحكم نسبه، إنما الجميع سواء أمام القانون الإسلامى السامى في معناه، وتطبيقه. ولا بد أن تتوافر العيشة الكريمة لكل مؤمن، والدولة الإسلامية المباركة تتكفل بالعاجزين، عملا بقوله صلى الله تعالى عليه وسلم «من ترك مالا فلورثته، ومن ترك ضياعا، فإلىّ وعلىّ» . ويشمل مضمون العدالة الدولية، وهى تقوم على ثلاثة مباديء متقررة في حكم القرآن الكريم، وبعمل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وهى الوفاء بالعهد، والمعاملة بالمثل من غير أن يجارى الأعداء في انتهاكهم لحرمة الفضيلة، فإذا قتلوا النساء والذرية لا نجاريهم، وإذا انتهكوا حرمات الفضيلة لا ننتهكها، لأن دين العدل والفضيلة لا يجارى الناس في ماثمهم. وثالث الأمور في العدالة الدولية أن الأساس في علاقة المسلمين بغيرهم هو السلم، حتى يكون اعتداء أو استعداد للاعتداء، أو محاربة لحرية الاعتقاد ووقوف ضد الدعوة الإسلامية التى تدعو إلى أن يكون الدين كله لله تعالى، بحيث لا يفتن مؤمن، ولا يعتدى على اعتقاد. التعاون هـ- وقامت الدولة الإسلامية على أساس التعاون، فقال الله تعالى: وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى، وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وإن كل جماعة نظمها الإسلام تقوم على أساس من التعاون، فالتعاون في الأسرة هو قوامها، فالمرأة هى السكن: وهو الحمى، والآباء والأبناء يتعاونون في شدائد الحياة، ويشتركون في سرائها. وإذا تجاوزنا الأسرة إلى المجتمع الصغير المكون من الجيران وأهل الحى وأهل القرية، وجدنا التعاون قوام الترابط بينهم. وقد أوصى صلى الله تعالى عليه وسلم بالجيران، وأمر القرآن الكريم بالإحسان إلى الجار ذى القربى، والجار الجنب، والجار في العمل، والجار في السفر. وإذا تجاوزنا المجتمع الصغير من الجيران وأهل الحى أو القرية واتجهنا إلى مجتمع الأمة أو الشعب، وجدنا التعاون دعامة بنيانه، تتعاون كل طوائفها في جهودها المختلفة في رفع شأنها، وكأن تلك الجهود أنهار مختلفة تلتقى عند مصب واحد، لا يذهب فيه الماء هدرا، بل ينتج الخصب وأطيب الثمار. فكل طائفة قوة في ذاتها، فمهرة الصناع قوة، ومهرة الزراع قوة متعاونة، والعلماء يمدون الجميع بالمعارف، فتعمل كل القوى متعاونة متضافرة.

مع اليهود

والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم أقام الدولة الإسلامية بالتعاون والتازر، وجاء القرآن مقررا ذلك المبدأ الكريم بأدق معانيه، وكانت الدولة الإسلامية التى أوصى بها القرآن الكريم، ونفذها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد أتت بمبدأ لم يسبق إليه سابق، ولم يلحقها فيه لاحق، وهو سداد دين المدينين الذين استدانوا في غير فساد أو سرف، وعجزوا عن سداد الدين، فإن ذلك مصرف من مصارف الزكاة. وبينما كان القانون الرومانى في بعض أدواره أجاز للدائن أن يسترق المدين كانت الدولة الإسلامية التى أنشأها محمد صلى الله تعالى عليه وسلم بإذن الله تعالى تعمل على سد الدين عن المدينين. ولئن انتقلنا من الأمة إلى الجماعة الإنسانية نجد أن القرآن الكريم والسنة المحمدية يوجبان أن يكون التعاون أساس العلاقات الإنسانية عامة، ويعمل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم في الدولة التى أقامها على التعاون الإنسانى العام استجابة لقوله تعالى يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ (الحجرات- 13) وإن القرآن الكريم فى سبيل دعم التعاون يقرر أن الإنسانية أمة واحدة، وتنتهى في نسبها إلى نفس واحدة، فقد قال الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ، وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها، وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً، وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ، إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (النساء- 1) . مع اليهود ولقد نفذ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم في أوّل إقامته بالمدينة المنورة مبدأ الاتحاد الدولى والتعايش السلمى: فعقد المعاهدة مع اليهود ومع كثير من القبائل العربية. وقد يقول قائل: ألا يتعارض مبدأ التعاون مع الحرب؟ ونحن نقول: لو كان الناس جميعا أخيارا، ولم يكن قانون الغابة مسيطرا على بعض الدول، لكانت الحرب مناقضة لمبدأ التعاون، ولكن في الدول أشرار، كما في الآحاد أشرار، وإذا كان الأشرار يمنعون من الشر بالعقوبات الرادعة، فأشرار الدول يمنعون من شرهم بالحرب المانعة، ولذلك قال سبحانه وتعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (البقرة- 251) . فكانت حرب الأشرار من قبيل التعاون على الخير، ودفع الإثم والعدوان، وكذلك كانت حروب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لدفع الأشرار، ومنع الملوك الغاشمين من أن يرهقوا شعوبهم بمنع حرياتهم.

الرحمة والمودة

الرحمة والمودة ووقيام دولة الإسلام على أساس الرحمة الشاملة والمودة المقربة، ومنع البغضاء المنفرة، ولقد قامت الدولة الإسلامية على أساس الرحمة والمودة، أما الرحمة فأساسها الرحمة بالأخيار، لا بالأشرار، فليست الرحمة في الإسلام: مجرد انفعال نفسى، بل هى الرحمة بالكافة، ولقد قال بعض الصحابة للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم: «يا رسول الله أكثرت من ذكر الرحمة ونحن نرحم أزواجنا وذرياتنا، فقال عليه الصلاة والسلام: ما هذا أريد، إنما أريد الرحمة بالكافة» . ولذلك شرعت العقوبات الزاجرة رحمة بالكافة، فقد قال عليه الصلاة والسلام «من لا يرحم لا يرحم» وإن بعض أنواع الرأفة يشمل في أطوائه أشد أنواع القسوة، وهى الرأفة بالمجرم، ولذلك نهى القرآن الكريم عن الرأفة بالزناة، فقال الله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي، فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ، وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ (النور- 2) فكان من قانون الرحمة العادل أن يعاقب المذنبون. وإن الرحمة العادلة التى تكون للآحاد، إنما تكون على الضعفاء من العبيد، والفقراء واليتامى، كما قال صلى الله تعالى عليه وسلم: «أبغونى في ضعفائكم، إنما تنصرون وترزقون، بضعفائكم» ، ولذلك أوصى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم برحمة المرأة الضعيفة، وأوصى بالرحمة بالعبيد، وأوصى برحمة اليتامى بإصلاح أحوالهم، ورعاية أموالهم. هذه إشارات إلى مباديء الرحمة في الدولة الإسلامية التى كونها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بأمر القرآن الكريم. أما المودة فهى قوام الروابط الإنسانية دعا إليها الآحاد والجماعات، ولذلك عد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إفشاء السلام الذى هو مظهر المودة، وإطعام الطعام الذى هو إدامها، عدهما أحسن الإسلام، فقال عليه الصلاة والسلام: «وأحسن الإسلام أن تطعم الطعام، وأن تقرأ السلام على من عرفت، ومن لم تعرف» . نعم كان الأمر بالمودة، وجعلها قوام الأسرة، كما قال الله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً (الروم- 21) . وأوجب صلة الرحم مودة في القربى، فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: «من أراد منكم أن يبارك له في رزقه، وينسأ له في أثره فليصل رحمه» ، ويقول عليه الصلاة والسلام: «ليس الواصل بالمكافىء، إنما الواصل من يصل رحمه عند القطيعة» .

رعاية المصلحة الاجتماعية بضوابط قرآنية

وإن المودة ليست واجبة بالنسبة لأبناء الأمة الإسلامية وحدهم، بل هى واجبة حتى للمخالفين فى الدين ما داموا لم يعادوا المسلمين أو لم يعتدوا عليهم، ولقد بين الله سبحانه وتعالى تلك الحقيقة، وهى القانون الشامل في معاملة المسلمين لغيرهم، فقال الله تعالى: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ، وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ، وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (الممتحنة 8- 9) . وقال الله تعالى: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ (المجادلة- 22) . ويروى أنه في مدة الحديبية بلغ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن قريشا نزلت بهم جائحة فأرسل مع حاطب بن أبى بلتعة خمسمائة دينار ليشترى بها برا، ويوزعها على فقراء قريش. بل إنه في أثناء الحرب، لا تنقطع المودة مع شعوب الدولة المحاربة من غير المقاتلين، ولا تنقطع المودة إلا مع المقاتلين أو من يشتركون في القتال بالعقل والتدبير، والترتيب والتنظيم، فأولئك هم الذين يحادون الله ورسوله. والخلاصة أن الإسلام لا يقطع المودة، بل يصلها دائما، ويعد القاطعين لها في غير الدائرة المذكورة يقطعون ما أمر الله به أن يوصل. [رعاية المصلحة الاجتماعية بضوابط قرآنية] ز- المصلحة ودفع الفساد، وقد قامت الدولة الإسلامية التى بينت أسسها في القرآن الكريم، وطبقها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وأرسى قواعدها عمليا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، قامت على رعاية مصالح العباد في الدنيا والآخرة على القاعدة التى ذكرت في القرآن الكريم: وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ، وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا، وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (القصص- 77) . وهكذا كانت المصلحة الجماعية هى من غايات الإسلام. على أنه يجب ملاحظة أمرين: أولهما: [المنفعة العامة والمنفعة الخاصة] أن الاعتبار في المنفعة منفعة المجموع أولا، وبأوفر حظ، وأن مصلحة الآحاد غير مسلوبة، بل هى تكون في مصلحة المجموع، وتنفرد عن مصلحة المجموع، إن لم يترتب عليها ضرر عام، فإن الضرر يزال، ومنفعة العامة مقدمة على منفعة الخاصة إن لم يمكن الجمع بينهما، ولذلك شرع

الأمر الثانى: المصلحة امعنوية

الجهاد، وحث النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عليه، ولو كان فيه ضرر لآلام تنزل بالمجاهدين، ولكن تركه يؤدى إلى تهلكة الجماعة، وغلبة الشر على الخير. الأمر الثانى: [المصلحة امعنوية] أن المصلحة المعنوية بأداء الواجب والتزام الحقوق، وتهذيب النفس- مطلوبة كالمصلحة المادية، بل هى أشد طلبا، وأكثر رعاية في الإسلام، والمصلحة الأصلية تلاحظ قبل المصلحة العاجلة، ولذلك كانت ملاحظة العبادة قبل ملاحظة المعاش، إن الدنيا سبيل الخير في الآخرة، وإن النظر إلى الآخرة خير مالا وغاية وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (العنكبوت- 64) . وإن الإسلام لا يدعو إلى الزهد في الحياة، ولكن يدعو إلى أن يطلب المؤمن الحياة من حلالها، ويجتنب محرماتها، وما كان تجنب المحرمات إلا لأن تناولها يفوت المصالح الحقيقية التى عدها الإسلام مصالح، وما من مصلحة مضيعة، إلا ومعها تناول محرم حرمه الله تعالى لأن المحرم اعتداء على غيره. وإن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان يتناول المباحات، وينهى عن تحريم ما أحل الله تعالى من طيبات في هذه الدنيا، ولقد استنكر الله تعالى على الذين يحرمون الطيبات ما يصنعون، فقال الله تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ، قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ، كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ، وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (الأعراف- 32، 33) ويقول الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ، وَلا تَعْتَدُوا، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ. وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً، وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (المائدة- 87، 88) . وهكذا نجد أن دولة الفضيلة لا تقوم على الحرمان، بل الحرمان المجرد نقيضها، وقد منع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بأمر الله أن يحرم مؤمن على نفسه ما أحل الله، ولقد روى الإمام أحمد رضى الله تعالى عنه أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «كلوا واشربوا والبسوا في غير سرف ولا مخيلة» . ولقد روى أن الإمام أحمد رضى الله عنه سئل عن الورع، فقال رضى الله تعالى عنه: «الورع طلب الحلال» ، فليس في الدولة الإسلامية الفاضلة زهادة لمجرد الحرمان، وإذا كان زهد، فهو لتعويد النفس القدرة على فطمها عن الشهوات عند ما يلج داعيها.

وإن المصلحة في دولة الإسلام تقوم على المحافظة على النفس والدين والعقل، والنسل، والمال، ولذلك أوجب الله العقوبات على من يعتدى على مصلحة من هذه المصالح بمقدار اعتدائه، فإن كان الاعتداء على أمر لا تتحقق الحياة إلا به، فإن العقوبة تكون بقدر الاعتداء، وإن كان الاعتداء على أمر تتحقق الحياة به مع الاعتداء ولكن بمشقة، فإن العقوبة تكون دون السابقة، وإن كان الاعتداء على أمر ترفيهى أو كمالى، فالعقوبة دون العقوبة فيما سبق. وهكذا كانت العقوبات من حدود وقصاص، لأجل مصلحة العباد، وهى كما ذكرنا رحمة بهم. وهكذا كانت الدولة الإسلامية رحمة للعباد، ومصلحة لهم، ويتحقق فيها قوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ

أول أعمال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم

أول أعمال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم 336- استطردنا إلى الكلام في الدولة المحمدية التى أقامها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بأمر ربه، مشيرين إلى دعائم هذه الدولة، غير مفصلين النظم، ولا الأحكام، ولكن نبين مقاصدها وغاياتها بالإشارة الموجزة المبينة، لا بالعبارة المفصلة الموضحة، ليعلم الناس أمرين: أولهما: أن المبادئ التى تقوم هذه الدولة عليها مبادئ تقبلها العقول السليمة التى لم تسيطر عليها الأهواء، ولم تتحكم فيها منازع التقليد من غير تفكير، ولا اتباع للهوى في ذاته، وإن جعلها مستمدة من أحكام القرآن الكريم والسنة المحمدية بوحى من الله تعالى لا يجعلها مضطربة، ولا مزلزلة بأهواء الناس، وهى متفقة مع مصالح الناس، ولقد سئل أعرابى: لماذا آمنت بمحمد عليه الصلاة والسلام؟ فقال الأعرابى المستقيم الفكر والنفس: «ما رأيت محمدا يقول في أمر افعل، والعقل يقول لا تفعل، وما رأيت محمدا يقول في أمر لا تفعل، والعقل يقول افعل» . الأمر الثانى الذى جعلنا نشير إلى هذه الدولة لرد أقوال الذين يقولون على الله تعالى بغير الحق، إن الدين للعبادة، أما الدنيا فإن الناس ينظمون أمرها، فبينا أن العبادة لله تعم كل طاعاته، ومن طاعاته اتباع ما أحل وما حرم، وما نظم. ولقد كانت التجارب الإنسانية تؤيد إقامة دولة إسلامية تمنع الظلم وتقيم الحق والعدل بين الناس. ولقد رأينا من أقدم العصور دولا تقوم، وأخرى تهبط، والرعايا ضائعون بين الحكام المتغالبين، وبمقدار استعلاء الحكام يكون الظلم المستمر الذى يعم ولا يخص، فمن عهد الرومان والرعايا هم فرائس لمغالبة المتحكمين. وإن القرآن الكريم الذى نظم الحكم في الإسلام يدعو إلى أن تحكم الشعوب نفسها بنفسها. وأن الحاكم مسئول أمام الله تعالى ينفذ أحكامه أولا. وأمام الشعوب لا يرهقهم ولا يظلمهم، ولا يشق عليهم ثانيا. إلا أن يكون في المشقة تنفيذ حكم الله تعالى. الإخاء 337- وقد ابتدأ عمله صلى الله تعالى عليه وسلم في المدينة المنورة بإيجاد الروابط التى تربط آحاد الجماعة الإسلامية، وتكون وحدة تضم بها العناصر المختلفة الأنساب والأماكن. وأن يجعل من ذلك المجتمع المختلف أنسابا وقبائل مجتمعا مؤتلفا في شعوره، تمحى فيه الفوارق، والأمور التى تفرق ولا تجمع.

وجد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مهاجرين من بطون مختلفة، ووجد أنصارا آووا ونصروا، ولكن الدماء لم تكن قد جفت بينهم فجاء إلى ذلك الجمع الذى كان متنافرا، ليؤلف بين قلوبهم، والأمم إنما تتكون بتأليف القلوب المتنافرة، وجمعها على الحق، وأشد ما يجمع توثيقا- الإيمان بالله والخضوع لأحكامه، فى ظل أطهر من في الوجود وهو محمد صلى الله تعالى عليه وسلم. قال السهيلى في كتابه الروض الأنف: «آخى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بين أصحابه حين نزلوا بالمدينة المنورة، ليذهب عنهم وحشة الغربة، ويؤنسهم من مفارقة الأهل والعشيرة ويشد أزر بعضهم ببعض» . وعندى أن ذلك أحد أغراض المؤاخاة، ولكن المؤاخاة أولا وبالذات تتجه إلى تكوين وحدة الجماعة المؤمنة، ولذلك كانت المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار أولا، وكانت بين المهاجرين بعضهم مع بعض ثانيا، وبين الأنصار بعضهم مع بعض ثالثا، أوسهم مع خزرجهم، ليقضى الرسول عليه الصلاة والسلام على الثغرة السابقة بالألفة التى تجمع القلوب، وتزيل نفارها. فالمؤاخاة كانت لتكون الأخوة هى العلاقة بين النسيب الشريف والمولى الضعيف، لذلك كانت المؤاخاة جاعلة: حمزة بن عبد المطلب أخا لزيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. فالمؤاخاة كانت لتكون الجماعة كما ذكرنا، ولوضع مبدأ المساواة عمليا، ولنترك الكلمة لابن إسحاق يشرح ما كان فيه. يقول ابن إسحاق في سيرته بسنده: «آخى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بين أصحابه من المهاجرين والأنصار، فقال فيما بلغنا، ونعوذ بالله تعالى أن نقول عليه ما لم يقل. «تاخوا في الله أخوين أخوين» ثم أخذ بيد على بن أبى طالب، فقال: هذا أخى، فكان رسول الله سيد المرسلين، وإمام المتقين، ورسول رب العالمين، الذى ليس له خطير ولا نظير من العباد، وعلى بن أبى طالب رضى الله تعالى عنه أخوين، وكان حمزة بن عبد المطلب أسد الله تعالى، وأسد رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، وزيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أخوين، وإليه أوصى حمزة يوم أحد حين حضروا القتال إذا حدث به حادث الموت، وجعفر بن أبى طالب ذو الجناحين، الطيار في الجنة ومعاذ بن جبل أخو بنى سلمة أخوين (وكان جعفر بن أبى طالب يومئذ غائبا بأرض الحبشة) . وكان أبو بكر الصديق رضى الله تعالى عنه، وخارجة بن زهير.. أخوين.

وهكذا أخذ يحصى الأخوة بهذا التاخى بين المهاجرين والأنصار، فذكر المؤاخاة بين بلال مؤذن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مع أبى رويحة.. وقد استمرت الأخوة بينهما لا تنقطع، كالشأن في كل من آخى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بينهم. ولما دون أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الدواوين بالشام، وكان بلال قد خرج إلى الشام، وأقام بها مجاهدا، قال له عمر: إلى من تجعل ديوانك، فقال: مع أبى رويحة، لا أفارقه أبدا، للأخوة التى كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد عقدها بينه وبينى، فضم إليه. وقد أنكر ابن القيم مؤاخاة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لعلى بن أبى طالب كرم الله تعالى وجهه، وقال في ذلك: «وقد آخى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار» وذكر ما نقلناه عن محمد بن إسحاق، ثم قال: «وقد قيل إن نبيه آخى بين المهاجرين بعضهم مع بعض مؤاخاة ثانية، واتخذ فيها عليا أخا لنفسه» . والثابت الأوّل «أن المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار فقط» والمهاجرون كانوا مستغنين بأخوة الإسلام وأخوة الدار وقرابة النسب عن عقد مؤاخاة بخلاف المهاجرين مع الأنصار، ولو آخى بين المهاجرين، كان أحق الناس بأخوته أحب الخلق إليه، ورفيقه في الهجرة، وأنيسه في الغار، وأفضل الصحابة، وأكرمهم عليه، أبو بكر الصديق، وقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم: «لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا، لا تخذت أبا بكر خليلا» . وهكذا نرى الإمام ابن القيم ينكر الرواية لمجرد الاستبعاد، ولم يتعرض للطعن في الرواية، ويقصر المؤاخاة والباعث عليها على ما كان بين المهاجرين والأنصار، لأجل توثيق الإيواء، وحاجة المهاجرين إليه، ولا يحتاج إليه المهاجرون بعضهم لبعض، ولا الأنصار بعضهم لبعض. ولقد وافق ابن القيم في هذا ابن كثير فقال فيما نقله ابن إسحاق: «وفي بعض ما ذكره نظر، أما مؤاخاة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فمن العلماء من ينكر ذلك، ويمنع صحته، ومستنده في ذلك أن هذه المؤاخاة إنما شرعت لأجل ارتفاق بعضهم من بعض ولتتألف قلوب بعضهم على بعض، فلا معنى لمؤاخاة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لأحد منهم، ولا لمهاجرى آخر، كما ذكره من مؤاخاة حمزة وزيد بن حارثة، اللهم إلا أن يكون النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لم يجعل مصلحة على إلى غيره، فإنه كان ممن ينفق عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لم يجعل مصلحة على إلى غيره، فإنه كان ممن ينفق عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من صغره في حياة أبيه أبى طالب وكذلك يكون حمزة قد التزم بمصالح مولاه زيد بن حارثة فاخاه بهذا الاعتبار، والله تعالى أعلم» «1»

_ (1) البداية والنهاية للحافظ ابن كثير ج 2 ص 237.

أولا: عقد الألفة بين الضعيف والقوي

وما ينكره ابن القيم نحن نثبته، ونرجح أن المؤاخاة بين المهاجرين بعضهم مع بعض والأنصار بعضهم مع بعض نقررها؛ وذلك لأن الحافظ ابن كثير لم يتكلم في صحة هذه الرواية المثبتة، ولأن قصر الباعث في المؤاخاة مجرد تمكين المهاجرين من الارتفاق من إخوانهم الأنصار قصر لا دليل عليه، بل هو أخذ من ظاهر الهجرة، والإيواء والنصرة، كما صرح بذلك القرآن الكريم. إن المؤاخاة ليس المقصود منها فيما نحسب هذا الارتفاق فقط، ولكن آثار غير ذلك منها: أولا: عقد الألفة بين الضعيف والقوي ، وتمكين الصحبة بين المؤمنين وألا يتعالى مؤمن على مؤمن، وناهيك بمؤاخاة حمزة الشريف النسيب مع زيد بن حارثة المولى الذى كان عبدا، ومن عليه صلى الله تعالى عليه وسلم بالعتق، وكان قد أعلاه، وجعله ابنا له، حتى حرم الله تعالى الأدعياء وقال سبحانه: وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ (الأحزاب- 4) فكان من حكمة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن جعله أخا لابن عبد المطلب. وثانيا: [تطهير النفس من العصبية الجاهلية] أن المهاجرين كانوا من قبائل مختلفة، والقرشيون منهم من كانوا من بيوت متنافسة، فكان لا بد من محو العصبية والدمج بينهم بحكم أخوة الإسلام. ثالثا: [نسيان الضغائن والأحقاد السابقة] أن الأنصار لم يكونوا متالفين فيما بينهم، فكانت على مقربة من هدايتهم العداوة المستعرة الأوار بينهم، بين الأوس والخزرج، فكان لا بد من العمل على نسيانها، وذلك بالمؤاخاة المحمدية. رابعا: [تشريع نظام يبني وحدة المسلمين] أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عند ما عقد المؤاخاة كان يشرع للأمة من بعده هذا النظام الذى يجمع المسلمين، ولم يكن حكما لحادثة واقعة، ولا علاجا مقصورا على ما بين المهاجرين والأنصار، بل هو تأليف للمؤمنين ونظام متبع، وربما تكون الحاجة إليه من بعد أشد وأكبر، ولذلك كان ولاء الموالاة الذى تقرر أنه لم ينسخ، وأنه بين العرب وغيرهم من الأعاجم الذين يدخلون في الإسلام من بعد. 338- وقد أثمرت المؤاخاة ثمرتها، وربطت بالمودة على قلوب المؤمنين، روى البخارى، ومسلم والإمام أحمد عن أنس: أن عبد الرحمن بن عوف قدم المدينة، فاخى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري، فقال له سعد: أنت أخي، أنا أكثر أهل المدينة مالا، فانظر شطر مالى، فخذه وتحتى امرأتان، فانظر أيهما أعجب لك حتى أطلقها، فقال عبد الرحمن: «باراك الله في أهلك ومالك، دلونى على السوق، فدلوه، فذهب، فاشترى وباع، فربح، فجاء بشىء من أقط وسمن، ثم لبث ما شاء الله تعالى أن يلبث فجاء وعليه ودك من زعفران، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم:

الألفة بين سكان المدينة المنورة

مهيم «1» ؟ فقال: يا رسول الله تزوجت امرأة، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ما أصدقتها، قال: وزن نواة من ذهب. قال عليه الصلاة والسلام: أو لم ولو بشاة» . وقد كان المهاجرون غير طامعين في غير الإيواء والكفاف، يروى البخارى عن أبى هريرة «قالت الأنصار للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم: أقسم بيننا وبين إخواننا النخيل، قال عليه الصلاة والسلام: لا ويشركوكم في الثمرة، قالوا: سمعنا وأطعنا ... ولقد كان المهاجرون رضى الله تعالى عنهم يستكثرون ما منّ به إخوانهم الأنصار عليهم من أموال، فروى الإمام أحمد عن أنس أن المهاجرين قالوا: يا رسول الله «ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساة في قليل، ولا أحسن بذلا من كثير، لقد كفونا المئونة، وأشركونا في المهنأ، حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله» قال عليه الصلاة والسلام: لا ما أثنيتم عليهم ودعوتم الله تعالى لهم» . وإن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد جعل المهاجرين يعملون ليستفيد الأنصار منهم كما آووهم ونصروهم، فإنه يروى أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال مخاطبا الأنصار: «إن إخوانكم قد تركوا الأموال والأولاد، وخرجوا إليكم، فقال الأنصار: أموالنا بيننا قطائع، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «أو غير ذلك، قالوا وما زال رسول الله يثنى عليهم حتى قال هم قوم لا يعرفون العمل، فتكفونهم، وتقاسمونهم الثمر» . فالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم: «أبى إلا أن يعمل المهاجرون مع الأنصار، ويكون الثمر بينهم قسمة عادلة للأرض حصتها، وللعمل حصته» . الألفة بين سكان المدينة المنورة 339- كانت المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، والمهاجرين بعضهم مع بعض، والأنصار بعضهم مع بعض، تأليفا من الآحاد. وتعاونا بينهم. وهو عقد أواصر المودة الشخصية. وهى أساس للألفة الاجتماعية. والروابط الجماعية. ولكن كان لا بد أن يكون بجوار ذلك تنظيم للعلاقات القبلية أو الأسرية. والتعاون بين البطون والقبائل، بعد التعاون بين الآحاد بالإخاء. أن يكون الاتصال بينها على أساس التعاون على الخير. ودفع الإثم بينهم، وأن يكونوا جميعا فيما بينهم متماسكين في رفعة الخير. ودفع الشر. ولذلك اتجه النبى صلى الله عليه وسلم إلى تأليف الجماعات التى كانت تسكن المدينة المنورة من مهاجرين وأنصار ويهود بل مشركين ممن بقوا على وثنيتهم.

_ (1) الودك الدهن، ولعل دهن الزعفران نوع من العطر، ومهيم، استفهام عن الحال، أى ما هذه الحال التى أنت عليها.

وقد قال الحافظ ابن كثير في تاريخه (البداية والنهاية) : كان بها- أى يثرب- من أحياء اليهود بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة، وكان نزولهم بالحجاز قبل الأوس والخزرج، وقد نزلوا به أيام بختنصر حين دوخ بلاد المقدس فيما ذكره الطبرى. ثم لما كان سيل العرم، وتفرقت اليمن شذر مذر نزل الأوس والخزرج بالمدينة عند اليهود، فحالفوهم، وصاروا يتشبهون بهم لما يرون لهم عليهم من فضل العلم بالمأثور عن الأنبياء. وبعد الهجرة قد صار اليهود حانقين على المؤمنين الذين آمنوا، وعلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم؛ لأنه مبعوث من بين أولاد إسماعيل، لا أولاد إسحاق، مع أنهم كانوا يستفتحون على الذين أشركوا به، ويرجون النصرة في بعثه، فلما جاء ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الظالمين. ويقول ابن القيم إنه بعد الهجرة صارت المدينة المنورة بها أنواع من النفوس، فكان فيها المؤمنون من المهاجرين والأنصار. وكان فيها اليهود من بنى قينقاع، وبنى النضير، وبنى قريظة. وفيها المشركون، وكان من خارجها من يناصبونه العداء. وقد قال رضى الله تبارك وتعالى عنه في ذلك: «لما قدم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم المدينة- صار الكفار معه ثلاثة أقسام، قسم صالحهم وواعدهم على ألا يحاربوه ولا يظاهروا عليه، ولا يوالوا عليه عدوه، وهم على كفرهم آمنون على دمائهم وأموالهم، وقسم حاربوه، ونصبوا له العداوة. وقسم تركوه، فلم يصالحوه، ولم يحاربوه، بل انتظروا ما يئول إليه أمره، وأمر أعوانه، ثم من هؤلاء من كان يحب ظهوره، وانتصاره في الباطن، ومنهم من كان يحب ظهور عدوه عليه، وانتصارهم، ومنهم من دخل معه في الظاهر، وهو مع عدوه في الباطن ليأمن الفريقين: وهؤلاء هم المنافقون، فعامل كل طائفة من هذه الطوائف بما أمره ربه تبارك وتعالى» . كان قدوم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم المدينة المنورة في هذه الطوائف، ولكن لم تظهر هذه الأقسام في وقت واحد، فالنفاق فيما أحسب وكما تدل الوقائع التاريخية لم يظهر إلا بعد النصر في غزوة بدر الكبرى، وكما سنبين، ولما شرق بنو قينقاع بهذا النصر، وأبدوا العداوة، واعتزموا الشر، فقوتلوا حتى أخلوا، عندئذ ظهر النفاق، وإعلان الإسلام من بعض أعداء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ومهما يكن من أمر تاريخ ظهور بعض الطوائف، فإنه من المؤكد أنه كان أمام النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مشركو قريش الذين ناصبوه العداء، وأخرجوه من داره، وإن كان الإخراج أمرا مقدورا، وأن الهجرة كانت أمرا لا بد منه كما أشرنا، وكان أمامه اليهود، وهم يساكنون أهل يثرب ولهم المقام معهم، يدنيهم المكان والجوار، ويبعدهم الاعتقاد، وأمامه الذين اعتزلوا المؤمنين، فلم يقاتلوه، ولم يمالئوا عليه أعداءه.

التكليف الاجتماعى والاقتصادى والسياسى والحربى

وما كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يتكشف القلوب ممن يريدون ظهوره على أعدائه، ومن يريدون ظهور أعدائه عليه، فالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم ينفذ شريعة تحكم بما ظهر، وتترك لله ما بطن، وإن كانت تأمر بالاحتياط والحذر فالله تعالى منزل هذه الشريعة. يقول تبارك وتعالى في كتابه العزيز: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ (النساء- 71) . التكليف الاجتماعى والاقتصادى والسياسى والحربى 340- كتب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كتابا هو بالنسبة للمؤمنين أمر من الله تعالى بتنظيم مجتمعهم، وتعاونهم الاجتماعى والاقتصادى وتنظيم لشئون السياسة بينهم، وتأليف بين بطونهم، وقبائلهم، وتعاون على إقامة الخير، ودفع الشر، وبيان حكم الإسلام في العمل على منع الظلم والتظالم بينهم آحادا وجماعات. وجعل ما يسرى على المؤمنين في شعوبهم وقبائلهم يسرى على اليهود وغيرهم، على أن يكون لهم ما للمؤمنين، وعليهم ما عليهم، لا يضارون في دينهم، ولا يعتدى عليهم في اعتقادهم، وعلى أن تكون الرياسة الكبرى للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم. ولذلك كان هذا الكتاب بالنسبة لليهود عهدا عاهدهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد آن لنا أن ننشر الكتاب كما رواه ابن إسحاق، وكما روته صحاح السنة، وإليك الكتاب الشريف: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من محمد النبى الأمى صلى الله تعالى عليه وسلم بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم فلحق بهم، وجاهد معهم: بأنهم أمة واحدة من دون الناس. المهاجرون من قريش على ربعتهم (الحال التى هم عليها يتعاقلون) «1» ، وهم يفدون عانيهم «2» بالمعروف، والقسط بين المؤمنين. وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، كل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو ساعدة على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

_ (1) أى يدفعون دياتهم بعضهم مع بعض. (2) المعانى الأسير.

وبنو الحارث على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو جشم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو النجار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولي، وكل طائفة منهم تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو النبيت على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وأن المؤمنين لا يتركون مفرجا «1» بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل. وألا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه «2» وأن المؤمنين المتقين على من بغى منهم، أو ابتغى وسيعة «3» ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين، وأن أيديهم عليه جميعا ولو كان ولد أحدهم. ولا يقتل مؤمن في كافر، ولا ينصر كافر على مسلم. وأن ذمة الله تعالى واحدة يجير عليهم أدناهم. وأن المؤمنين بعضهم موالى بعض دون الناس. وأن من تبعنا من يهود، فإن له النصر والأسوة غير مظلومين، ولا متناصرين عليهم. وأن سلم المؤمنين واحدة، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله، إلا على سواء وعدل بينهم، وأن كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضا. وأن المؤمنين يبيء بعضهم على بعض بما نال وباءهم في سبيل الله تعالى. وأن المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه.

_ (1) المفرج المثقل بالدين والكثرة في العيال. (2) معناه ألا يكون بين مؤمن وآخر ولاء، فيجىء مؤمن ويأخذ الولاء، لأنه لحمة كلحمة النسب. (3) الوسيعة: العظيمة.

عهد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم على اليهود

وأنه لا يجير مشرك ما لا لقريش، ولا نفسا، ولا يحول دونه على مؤمن. وأنه من اعتبط «1» مؤمنا قتلا عن بينة فإنه قود إلا أن يرضى ولى المقتول، وأن المؤمنين عليه كافة، ولا يحل لهم إلا قيام عليه. وأنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة، وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثا، ولا يؤويه، وأن من نصره أو آواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل. وأنكم مهما اختلفتم فيه من شيء، فإن مرده إلى الله عز وجل، وإلى محمد (صلى الله عليه وسلم) . هذا كله بالنسبة للمؤمنين، وقد عاهدهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم على كل ما فيها، أما ما جاء بالصحيفة خاصا باليهود فقد كان عهدا عاهدهم عليه، وعلى طرفيه الوفاء به، وقد جاء في الصحيفة بهذا النص: عهد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم على اليهود 341- أن اليهود يتفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين، وأن يهود بنى عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوقع «2» إلا نفسه وأهل بيته. وأن ليهود بنى النجار مثل ما ليهود بنى عوف، وأن ليهود بنى الحارث مثل ما ليهود بنى عوف، وأن ليهود بنى ساعدة مثل ما ليهود بنى عوف، وأن ليهود بنى جشم مثل ما ليهود بنى عوف، وأن ليهود بنى الأوس مثل ما ليهود بنى عوف، وأن ليهود بنى ثعلبة مثل ما ليهود بنى عوف، إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوقع إلا نفسه وأهل بيته. وأن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم. وأن ليهود الشطيبة مثل ما ليهود بنى عوف، وأن البر دون الإثم. وأن موالى ثعلبة كأنفسهم، وأن بطانة يهود كأنفسهم. وأنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه لا ينحجز على ثار جرح، وأن من فتك فبنفسه فتك وبأهل بيته إلا من ظلم، وأن الله على أيد هذا (أى على الرضا به) .

_ (1) اعتبط معناها: قتله من غير أى مبرر. (2) يوقع: يهلك.

نظرة في هذه الوثيقة:

وأن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم. وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة، والبر دون الإثم، وأنه لا يأثم امرؤ بحليفه، وأن النصر للمظلوم، وأن اليهود يتفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين. وأن يثرب حرام صد لأهل هذه الصحيفة. وأن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم، وأنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها. وأنه ما كان من أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله عز وجل، وإلى محمد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. وأن الله تعالى على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره. وأنه لا تجار قريش، ولا من نصرها. وأن بينهم النصر على من دهم يثرب. وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبونه، وإنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين إلا من حارب في الدين. على كل أناس حصتهم من جانبهم الذى قبلهم. وأن يهود الأوس مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة، وأن البر دون الإثم لا يكسب كاسب إلا على نفسه، وأن الله تعالى على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره، وأنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم وآثم، وأنه من خرج آمن، ومن قعد آمن، إلا من ظلم أو أثم، وإن الله جار لمن بر واتقى، ومحمد رسول الله (صلى الله تعالى عليه وسلم) . نظرة في هذه الوثيقة: 342- هذه وثيقة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم التى نظم بها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم المجتمع الجديد لسكان المدينة المنورة لا فرق بين مهاجرين وأنصار، ولا فرق بين مؤمنين ويهود. ويلاحظ فيها: (أ) أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بحكم النظام الجديد الذى أنشأه في المدينة المنورة صار هو الرئيس الأوّل لتنفيذ ما اشتملت عليه الوثيقة، ولذلك لم يبح لطائفة من اليهود أن تخرج في حرب إلا بإذنه، حتى لا تتورط في أمر يضطرب به أمر هذا المجتمع الذى أريد له أن يقوم على أساس التعاون في جلب الخير، ودفع الشر، يتصادقون ويتوادون ولا يتعاونون على إثم أو عدوان.

(ب) أنه بمقتضى هذه الوثيقة يصير اليهود الذين يقيمون بيثرب رعية واحدة، فلا تكون لهم أحكام خاصة بهم لا تسرى على غيرهم، ولا يختصون بنظم لا تنطبق على غيرهم، وذلك مع الاحتفاظ بدينهم، تراعى فيه حرمة العقيدة، وألا يكون لأحد عليهم سبيل فيها، وأن عليهم حكم الله تعالى، وللنبى صلى الله تعالى عليه وسلم ألا يحكم بينهم إذا وجد مصلحة، ويبين هذا قوله تعالى في شأنهم: فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ، أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ، وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً، وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (المائدة- 42) . وإن هذا يدل على أنهم كانوا خاضعين فيما يتعلق بالنظام العام كحرمة الدماء، والظلم، ولكن شئونهم الخاصة لا يحكم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فيها بينهم إلا إذا جاؤا إليه، فله أن يحكم، وله أن يعرض. ولذا لا نستطيع أن نقول إنهم كالذميين تماما في الأحكام، ولكنهم من جهة كالذميين، ومن جهة ثانية جيران، يستمتعون بحقهم في المعاملات الخاصة من غير إثم. (ج) أن العهد كان أساسه التعاون بين العشائر بحيث تحمى كل عشيرة ضعيفها، وتعطى الفضيلة بينها وتفك أسر أسيرها، وتدفع ديات قتلاها، وذلك يشير إلى حرمة كل شخص على أهله في دائرة البر لا في دائرة الاعتداء أو الانتقام. (د) أنه مع التعاون بين العشيرة، هناك تعاون عام بحيث يتضافر المؤمنون جميعا بل الجماعة في عون المظلوم، ولذلك عند ما كان النص على القود أوجب على المؤمنين جميعا معاونة أولياء المقتول في القصاص، وتتعاون الجماعة كلها في دفع أذى كل من يحدث حدثا أو اشتجارا، أو ما يثير العداوة والبغضاء، وأنه بهذا التعاون الفاضل تستقر الأمور على خير الجماعة، وما يجلب لها النفع، ويدفع عنها الضر، وأنه لو نفذ هذا العهد بكل ما فيه لتكونت من المؤمنين وجيرانهم مدينة فاضلة. وأن الحلف يوجب أن يكون عدو النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عدوا لليهود، فلا يجار قرشى، ولا من يناصر قريشا، فعلى اليهود ألا يوالوا المشركين؛ لأنهم أعداء الله تعالى، وأعداؤهم، وذلك لأن الميثاق يجعل أهل المدينة المنورة مسلمين ويهودا أهل ولاء واحد، عدوهم واحد، ومناصرتهم واحدة، وذلك ليكون أمن الجميع واحدا، فمن هاجم فريقا من أهل المدينة المنورة فقد هاجم المدينة كلها، وذلك بلا ريب يلزم اليهود، لأن الوثيقة أعطتهم حقوقا، وأوجبت عليهم واجبات، فإذا أخلوا بما يجب عليهم، فقد أسقطوا ما لهم من حقوق، لأن الحقوق والواجبات متقابلة. وما دام الولاء واحدا، فإنه لا يصح أن يتعاون

الأذان

اليهود وأعداء محمد صلى الله تعالى عليه وسلم على شيء دون ما نص عليه، وقد وفي النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بهذا العهد. فهل وفي اليهود؟!!، إن الأمور التى تجرى كفيلة بالجواب، مع ملاحظة أن الأمر يوجب الوفاء من الجانبين، وإن أخل أحدهما ذهبت الحقوق التى تضمنتها الوثيقة له، وإذا كان الإخلال فيما يتعلق بالأمور الخارجية، وهى موالاة اليهود للمشركين على المؤمنين، فإنه في هذه الحالة تزول صفة الجوار، ويكون من الواجب على من ينكث أن يترك الجوار، ويتخلى عن الإقامة في المدينة، وحل للطرف الآخر أن يخرجه طوعا أو كرها، فإن لم يفعل كان يحل له أن يحمى ظهره، ولو بقتله، لأنه صار عدوا له، وأصبح كالثعبان يكون في بطانة الرجل، فيجب أن يبعده، ولو بقتله، لأن الأمر إما سلم فيها الأمن، وإما حرب فيها الخوف. الأذان 343- تكونت جماعة الإسلام، ووضع صلى الله تعالى عليه وسلم نظم هذا الاجتماع، وألف القلوب فيه، بالإخاء بين المؤمنين. ووضع النظم للتأليف بين من يدخلون في الإسلام من بعد. ثم كان عقد الوثيقة التى ألفت بين الجماعات في المدينة المنورة كما ألفت الإخاء بين الآحاد، وبين الواجب على كل جماعة ثم عقد العهد مع اليهود على أن يكون لهم ما للمؤمنين في الشئون العامة، ولهم شئونهم الخاصة، يتحاكمون فيها فيما بينهم، وإن احتكموا إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فله أن يحكم بينهم بما أنزل الله تعالى في القرآن الكريم. وبعد هذا التأليف وذاك التكوين بيّن ما يربط جماعة المؤمنين قلبيا، بعد أن سن ما ألف بين قلوبهم اجتماعيا، وذلك بتنظيم الجماعات في الصلاة والتنبيه العام بمواقيتها، والدعوة إليها، لتؤدى جماعة في أوقاتها، وذلك بالأذان، فكان شرعه في هذا الإبان. يقول في ذلك ابن إسحاق: «فلما اطمأن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بالمدينة المنورة، واجتمع إليه إخوانه من المهاجرين، واجتمع إليه أمر الأنصار، استحكم أمر الإسلام فقامت الصلاة وفرضت الزكاة والصوم وقامت الحدود، وفرض الحلال والحرام، وتبوأ الإسلام بين أظهرهم، وكان هذا الحى من الأنصار هم الذين تبوؤا الدار والإيمان.. وقد كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حين قدمها، إنما يجتمع الناس إليه للصلاة لحين مواقيتها بغير دعوة، فهمّ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن

يجعل بوقا كبوق يهود الذى يدعون به لصلاتهم، ثم كرهه، ثم أمر بالناقوس، فنحت ليضرب به للمسلمين» . ويلاحظ على هذا الكلام أمران: أولهما: أن ما ذكره من قيام الصلاة وفرضية الزكاة والصوم، وإقامة الحدود وفرض الحلال والحرام إنما كان في أوقات مختلفة من بعد ذلك، وبعضها كان قبل الهجرة، وهو فرض الصلاة، فقد فرضت في الإسراء والمعراج، كما هو مذكور في موضعه، ولعل الذى جد في المدينة المنورة هو قيامها جماعة في أمن واطمئنان، وعبارة ابن إسحاق قد توميء لذلك. الأمر الثانى: أن كلام ابن إسحاق فيه أن خاطر البوق اليهودى خطر للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وكذلك ناقوس النصارى. ولكن روى ابن ماجه عن سالم بن عبد الله عن أبيه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم استشار الناس لما يهمهم من الصلاة، فذكروا البوق، فكرهه من أجل اليهود، ثم ذكروا الناقوس، فكرهه من أجل النصارى. وهذا الخبر يخالف ما قاله ابن إسحاق في روايته من جهتين: أولاهما: فى أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم هو الذى هم بالبوق، والرسول في الرواية الثانية قد استشار، وكره عليه الصلاة والسلام ما أشاروا به. الثانية: أن رواية ابن إسحاق فيها ما يفيد أنه أخذ في تنفيذ فكرة الناقوس، مع أن الرواية الأولى تقول أنه كرهه، ونحن نرى أن هذه الرواية الأخيرة هى الأليق بمقام الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، وهى الأنسب، فهى عندى أصح، والله أعلم. ويسترسل ابن إسحاق في أمر الأذان، فيقول: «فبينما هم على ذلك إذ رأى عبد الله بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه «النداء» فأتى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال: يا رسول الله: «إنه طاف بى هذه الليلة طائف: مربى رجل عليه ثوبان أخضران يحمل ناقوسا في يده، فقلت له: يا عبد الله أتبيع هذا الناقوس؟ قال: وما تصنع به! قلت ندعو به إلى الصلاة. قال: أفلا أدلك على خير من ذلك! قلت: وما هو؟ قال: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حى على الصلاة، حى على الصلاة، حى على الفلاح، حى على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله» . فلما أخبر بها رسول الله

صلى الله تعالى عليه وسلم قال إنها لرؤيا حق إن شاء الله. فقم على بلال فألقها عليه، فإنه أندى صوتا منك، فلما أذن بلال سمعها عمر بن الخطاب. وهو في بيته. فخرج إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو يجر رداءه، ويقول: «يا نبى الله، والذى بعثك بالحق، لقد رأيت مثل الذى رأى» فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: فلله الحمد على ذلك. هذا سياق ابن إسحاق في هذا الاهتداء إلى صيغة الأذان. وأن ذلك كان برؤيا رآها بنصّه اثنان من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وأن هذا نتيجة لرواية الشورى التى استشار بها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أصحابه. وأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أقر الرؤيا فكان الأذان على ذلك شرعا بإقرار النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وذلك على أن إقرار النبى صلى الله تعالى عليه وسلم هو الذى شرع الأذان لا الرؤى والأحلام. ولكن علق ابن هشام في سيرته على رواية ابن إسحاق بأن الوحى قد نزل بالأذان، وصيغته، فقال: «ذكر ابن جريج قال: قال لى عطاء: سمعت عبيد الله بن عمير الليثى يقول: «ائتمر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه بالناقوس للاجتماع للصلاة، فبينما عمر بن الخطاب يريد أن يشترى خشبتين للناقوس إذ رأى في المنام: «لا تجعلوا الناقوس، بل أذنوا للصلاة، فذهب عمر إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ليخبره بالذى رأى وقد جاء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم الوحى بذلك، فما راع عمر إلا بلال يؤذن، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حين أخبره بذلك، قد سبقك بذلك الوحى» وإن هذه الرواية تصرح بأن الوحى نزل على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وفيه تفصيل الأذان بأركانه وهى ليست رؤيا عبد الله بن ثعلبة بن ربيعة. وإنا نميل إلى هذه الرواية، وذلك، لأن الأذان شعار من شعائر الإسلام، وأنه تعرف به الجماعات الإسلامية، وما يكون كذلك من العبادات لا يكون من الأمور التى تكون بشورى الناس، وقد تكون الشورى ابتداء لمعرفة طريق الإعلام، فجاء الوحى بهذا الطريق الذى يعتبر سنة، وما كانت السنة تعرف بطريق رؤى الآحاد، إنما تكون بوحى من الله تعالى، وإن الأذان لكل صلاة سنة مؤكدة، وكثيرون من العلماء يقولون إنه بالنسبة للجماعات فرض كفاية تأثم الجماعة كلها إذا تركته.

الإذن بالقتال

وإن تفصيل الأذان وبيان أجزائه التى لا يمكن أن يجزى الأذان إلا بها لا تكون إلا بأمر من الله تعالى، لأن الأذان عبادة، ولا تعرف أجزاء العبادة إلا بوحى من الله تعالى لنبيه، لا برؤيا لغيره مهما تكن مكانته في الإسلام. الإذن بالقتال 344- بعد أن استقر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم اتجه إلى تعميم الدعوة وحماية الضعفاء من المؤمنين الذين كانوا يفتنون في دينهم، ويؤذون في اعتقادهم، وكان لا بد أن يكون ذلك بقتال المشركين الذين يؤذون المؤمنين، ولا بد من استنقاذ البيت الحرام من عبادة الأوثان، وأن تحطم الأوثان التى تحيط به. ولذلك شرع الله تعالى القتال، فقال تعالى في كتابه المبين: إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ. أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا، وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ. الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ، وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً، وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ، إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ. الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (الحج- 38: 41) . كان الإذن بالقتال، وفتح باب الجهاد، وفي هذا النص الكريم بيان الباعث عليه، والنتيجة التى ينتهى إليها، وإنها لخير، ووسائل الخير تكون خيرا ولو كانت أمرا كريها، ما دام قد تعين ما هو الطريق، وإنه إذا تعين كان خيرا، ولذلك قال تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ، وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ، وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (البقرة- 216) . والآية التى كان فيها الإذن بالقتال فيها إشارات بيانية تليق بالقرآن الكريم أبلغ كلام في هذا الوجود الإنسانى. أولاها: أن فيها الإذن بالقتال، ولكنه لم يصرح بها، إذ أنه صرح بأشد ما يبعث عليه، وهو أن القتال من جانب الأعداء قد وقع فعلا، لأنه سبحانه وتعالى عبر بقوله «يقاتلون» بالبناء للمجهول، أى أن المشركين قاتلوا المؤمنين فعلا، فقد آذوهم وحاولوا أن يفتنوهم عن دينهم، والفتنة أشد من القتل كما قال الله تعالى، وحاولوا قتل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وحاولوا أن يقتلوا المبايعين في بيعة

العقبة الثانية، فكان التعبير بالبناء للمفعول دليلا على أن قتال المؤمنين في مقابل أنهم ابتدأوا، وهو دفع للأذى، وللفساد في الأرض، كما قال تعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ، وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (البقرة- 251) . الإشارة البيانية الثانية أن الله تعالى صرح بأن القتال دفع للظلم أو منع لاستمراره. الثالثة: أن أهل الإيمان هم أهل الحق، فإن قاتلوا فهو دفاع عنه وعن التوحيد، والإيمان به، فهو قتال يحمل في باعثه، وفي ذاته، الدعوة إلى الله تعالى. الرابعة: أن القتال الذى يكون جهادا في سبيله هو دفع الباطل، وإلا كان الفساد في الأرض، وألا يعبد الله تعالى فتهدم بيع وصلوات، ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا. فالقتال نصرة الله تعالى. وحماية للحق، وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ، إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (الحج- 40) . الخامسة: أن القتال فيه تمكين للحقائق الإسلامية، فنتيجة القتال تمكين للذين يقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، فالقتال من نتيجته أنه يمكّن أهل الحق من الدعوة إليه بالقول وبالعمل، وبذلك تقوم شريعة الله سبحانه. وفي هذا إشارة إلى أن غاية القتال بعد دفع الاعتداء ومنع الظلم، هى التمكين للدعوة الإسلامية، وأن يدخل الناس في دين الله تعالى مختارين من غير فتنة، ومن غير إرهاق لهم في عقائدهم. وبذلك نأخذ من الآية الكريمة أن الباعث على الجهاد في الإسلام أمران: أولهما: دفع الظلم ومنع الفتنة- كما قال تعالى: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ، وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ، فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (البقرة- 193) . وأن الاعتداء يرد بمثله، فمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم الذى جاء بالحق لا يدفع إرادة الأذى بالسكوت عليه واستمراره، بل يدفع الاعتداء بمثله، كما قال تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ، وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (البقرة- 190) . الأمر الثانى: هو التمكين للدعوة الإسلامية، بأن تزال المحاجزات التى يقيمها الملوك والحكام الظالمون بين دعوة الإسلام والاستجابة لدين الحق أو أن يعوقوه، وليس معنى ذلك حمل الشعوب على الدخول في الإسلام كرها بقوة السيف، بل إن مؤداه أن يعرفوا الإسلام، ويتمكنوا من تلقى الدعوة الإسلامية، فإذا عرفوها فقد تبين الرشد من الغى، والحق من الباطل، فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر، ولذلك قال تعالى: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ، قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ، فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ، فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى، لَا انْفِصامَ لَها، وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256- البقرة) .

أول القتال

أول القتال 345- أخرج المشركون من قريش المؤمنين من مكة المكرمة، وجردوهم من أموالهم، وفتنوهم فى دينهم، فكان لابد من أن يضايقوهم كما ضايقوا المؤمنين ويردوهم عن غيهم، ويعلموهم أن الباطل لا بقاء له، بل إن للحق قوة، وأنه أبلج، ابتدأ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بإرسال السرايا، وهى طوائف صغيرة من الجيش على رأسها قائد من القواد، فهى تشبه كتيبة يرسلها القائد الأكبر، لتحارب، أو لتمنع الطريق عن قوم من الأعداء، أو كسرية الجيوش في هذه الأيام، وقد فهم بعض الكتاب من ذلك أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ابتدأ بالسرايا تصادر عير قريش، أو طائفة من تجار المشركين، وأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ابتدأ بالحصار الاقتصادى، ونحن نفهم من الحصار الاقتصادى الحصار الذى يفرض على موارد الجماعة كلها من رزق، أى أن الحصار يفرض على قريش كلها. ونحسب أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ما كان يريد أن تصاب قريش كلها بمجاعة، فما كانت قريش كلها على طريقة أبى جهل وأبى سفيان ومن على شاكلتهما من الذين ناوؤا الدعوة ابتداء، واستمروا على غيهم إلى أن كان الفتح المبين، وكان منهم الساكتون الذين لم يعادوا، ولم يناوئوا، وإن لم يؤمنوا، وليس من شأن المباديء الإسلامية أن يؤخذ المطيع بظلم العاصى أو المعتزل بظلم الذى يرتكب الشر، وفي قريش من كان مكرها غير مختار ومظلوما مأسورا. ومنهم من كان يربطه بالمؤمنين مودة وصلة، بل بالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم. والحصار الاقتصادى يعم ولا يخص؛ إذ يعم من بلغوا أقصى غايات الشر، ومن سكتوا، ومن توادوا وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (فاطر- 18) . ولكن هذه السرايا كانت لمناهضة زعماء قريش، إذ كانوا أصحاب المتاجر التى تحملها العير وقتا لآخر، ولأن أولئك الزعماء أخرجوا المؤمنين من ديارهم وأموالهم، فكان حقا على هؤلاء أن يضايقوا الذين أخرجوهم من أموالهم معاملة بالمثل، وليأخذوا مقابلا لبعض ما أخذ منهم، وليذيقوا أولئك الزعماء وبال ما صنعوا.

أول السرايا

أول السرايا سرية حمزة رضى الله عنه: 346- فى السنة الأولى من الهجرة، ابتدأت السرايا، وهى عدد ليس بكثيف من المجاهدين يعترضون رجالا من قريش يتجهون إلى الشام بأموال لهم. ليمنعوهم من الذهاب إلى الشام، ويستولوا على ما معهم من المال أو يقاتلوهم. ويلاحظ أن هذه السرايا كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يختار رجالها من قريش، وليس معهم من الأنصار أحد، وأوّل سرية كان قد عقدها صلى الله تعالى عليه وسلم لحمزة بن عبد المطلب، وخرج حمزة في رمضان على رأس سبعة أشهر من الهجرة على سيف البحر، وكانت عدة هذه السرية ثلاثين رجلا من المهاجرين، وكذلك كانت سرايا هذه السنة، وكان لواؤها أبيض، وقد اعترضوا طريقا لعير لقريش، وكانت لكبرائهم، وكانت عدة من تعرض لهم حمزة ثلاثمائة، على رأسهم عمرو بن هشام (أبو جهل) . تقابل الفريقان المؤمنون بقيادة أسد الإسلام حمزة، والثانية بقيادة لئيم قريش وخبيثها أبى جهل، ولكن تحاجز الفريقان عن القتال، وذلك لتوسط رجل من العرب كان موادعا الفريقين اسمه ابن عمرو الجهنى ولذلك لم يحدث قتال. سرية عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب: 347- وفي شوال من هذه السنة عقد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لعبيدة بن الحارث لواء أبيض، وأمره بالسير إلى بطن رابغ، فى ستين من المهاجرين ليس فيهم أنصارى. التقت هذه السرية بمشركى قريش وكانت عدتهم مائتين، عليهم أبو سفيان صخر بن حرب. وقد كان اللقاء عند ماء يقال له الأخياء حيث كان المشركون، والمؤمنون قد بلغوا ثنية المرة ولم يكن بينهم قتال، ولكن كان بينهم رمى بالسهام. ولقد رمى سعد بن أبى وقاص الذى كان في هذه السرية وإن لم يكن قائدها فقد رمى بسهم، فكان أوّل سهم رمى به في الإسلام. هذا هو الترتيب الذى ذكره الواقدى في ترتيب السرايا، فذكر أن سرية حمزة كانت أولا، وأنها كانت أوّل سرية، وتليها سرية عبيدة بن الحارث.

سرية سعد بن أبى وقاص:

ولكن ابن إسحاق يذكر أن أوّل راية السرية كانت سرية عبيدة بن الحارث، لا سرية حمزة، ويقول في ذلك: (وبعض الناس يقول راية حمزة أوّل راية عقدها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لأحد من المسلمين، ذلك أن بعثة حمزة وبعثة عبيدة كانتا معا فشبه ذلك على الناس) . هذا ما ذكره ابن إسحاق، ولكن الواقدى لا يذكر أنهما كانا معا، بل يذكر أن واحدة كانت في الشهر السابع بعد الهجرة، وهى سرية حمزة، والثانية كانت في الشهر الثامن بعدها وهى بعثة عبيدة. وهناك اختلاف آخر بين رواية الواقدى ورواية ابن إسحاق، فالواقدى يقول إن حمزة التقى بأبى جهل، وابن إسحاق يقول، إنه التقى بعكرمة بن أبى جهل. وابن كثير يظهر من لحن قوله أنه يرى رواية الواقدى أثبت على ما سنبين إن شاء الله تعالى. سرية سعد بن أبى وقاص: 348- وفي ذى القعدة من سنة الهجرة- أى على رأس عشرة شهور من الهجرة- أرسل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم سعد بن أبى وقاص في سرية؛ لأنه علم عليه الصلاة والسلام أن عيرا لقريش ستمر بها، فأرسل سعدا في عشرين من المهاجرين ساروا إلى مكان اسمه الخزار، وقد عينه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم على ألا يتجاوزوه، ويقول سعد رضى الله تعالى عنه: «خرجت في عشرين رجلا على أقدامنا، فكنا نكمن النهار ونسير الليل حتى صبحنا الخزار صبح خامسة، وكان رسول الله عليه الصلاة والسلام قد عهد إلى ألا أجاوز الخزار، وكانت العير قد سبقتنا قبل ذلك اليوم» وعلى ذلك لم يلق سعد أحدا من قريش، ولم يأمره النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بمتابعتهم؛ لأنه يظهر أنه عليه الصلاة والسلام كان يريد مباغتتهم في الطريق، والمفاجأة تفزع العدو فينال منه، والملاحقة لا تكون فيها هذه المفاجأة، ولأنهم كانوا راجلين، فلا يوغلون في الصحراء حيث لا مركب لهم. والواقدى يذكر في روايته أن سرية سعد كانت عدتها عشرين أو واحدا وعشرين، كما نقل عن سعد رضى الله عنه، ولكن ابن إسحاق يقول: إنه خرج ومعه ستمائة من المهاجرين. ولعل رواية الواقدى أوضح وأقرب إلى المعقول، لأنه ثبت أن العير كان بها نحو ستين رجلا ويناسبهم عشرون وأنهم راجلون. 349- والسرايا الثلاث على كلام الواقدى كانت في السنة الأولي، وقد حدد مواقيتها، فالأولى كانت في رمضان، والثانية كانت في شوال، والثالثة كانت في ذى القعدة.

خروج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم للجهاد

ولكن قال أبو جعفر بن جرير رضى الله عنه في تاريخه، وعند ابن إسحاق أن هذه السرايا الثلاث كانت في السنة الثانية من الهجرة. ونلاحظ أن ابن إسحاق لم يعين أكان في السنة الثانية أم كان في الأولي، ولكن قد يفهم ذلك لأنه ذكرها بعد غزو النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أولى غزواته، وكانت في ودان، وهى كانت في صفر من السنة الثانية، وقد صرح بذلك ابن إسحاق، وذكر بعدها السرايا الثلاث، وإذا كانت الأحداث ترتب في الذكر بترتيب زمنها، فإنه تكون هذه السرايا في السنة الثانية، ولكن نلاحظ أن ابن إسحاق في سيرته يتكلم في بعض الوقائع في غير وقت وقوعها. لمناسبة اقتضت ذكرها في غير أوانها. وعلى فرض أن ابن إسحاق يعد هذه السرايا في السنة الثانية، فإن الحافظ ابن كثير رجح ما قاله الواقدى، ويقول: «والواقدى رحمه الله عنده زيادات حسنة، وتاريخ محرر غالبا، فإنه من أئمة هذا الشأن الكبار، وهو صدوق في نفسه، كما بسطنا القول في عدالته وجرحه في كتابنا الموسوم بالتكميل في معرفة الثقات والضعفاء والمجاهيل، ولله الحمد والمنة» 350- وهناك ملاحظة أخرى غير ملاحظة الزمن، والروايات فيه، وهى تتعلق بقريش، ومقدار استمساكها في اعتقادها. ذلك أن الذين كانوا يخرجون لحماية عيرهم كان منهم من هو مؤمن، ولكن يكتم إيمانه، وكانوا يخرجون في متاجر قريش عساهم يجدون سبيلا لأن يلحقوا بالمؤمنين إذا كانت الهجرة قد فاتتهم عند خروج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فإنها لن تفوتهم من بعد، فإنه قد حدث عند التقاء سرية عبيدة ابن الحارث بن عبد المطلب بعير قريش، التى انصرف الفريقان فيها، ولم يتقاتلا، فر من قريش إلى المسلمين ابن عمرو البهرانى حليف بنى زهرة، وعتبة بن غزوان بن جابر المازنى حليف بنى نوفل بن عبد مناف، وكانا مسلمين ولكنهما توصلا بالكفار إلى المسلمين، فوصلا إلى المسلمين بطريق المشركين ليأمنا الإيذاء والشر. خروج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم للجهاد 351- أذن للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم بالقتال، كما تلونا في الآية الصريحة بالإذن وهى قوله تعالى أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا، وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ إلى آخر هذه الآيات التى تلوناها من قبل.

عندئذ أخذ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم الأهبة، وأخذ يرسل السرايا سرية بعد سرية، ثم كانت الغزوات، ونرى في اصطلاح مؤرخى السيرة أنهم يطلقون السرية على كل بعث يبعثه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بعدد من المؤمنين قل أو كثر. (وفي الغالب لا يكون كثيرا) إلى لقاء المشركين، ولم يخرج عليه الصلاة والسلام مع ذلك الجيش، أما الغزوة فإنه صلى الله تعالى عليه وسلم يخرج فيها مجاهدا بنفسه، سواء أقاتل بالفعل أم لم يقاتل. وإن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ابتدأ الجهاد بالسرايا الثلاث التى بعثها في رمضان وشوال وذى القعدة، وهى سرية حمزة بن عبد المطلب، وسرية عبيدة بن الحارث، وسرية سعد بن أبى وقاص. ثم ابتدأت الغزوات في السنة الثانية. وقد اختلف المؤرخون في عدد غزوات النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وما كان اختلافهم في أصل الوقائع أو عددها، إنما كان سبب الاختلاف هو اختلافهم في خروج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مع الجيش أو عدم خروجه أيعد غزوة أو سرية. وعند التحقيق نجدهم متفقين على العدد، واختلفوا قليلا في وصف الخروج، وكلمة مغازى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عامة تشتمل على الغزوات والسرايا. وعدتهم كما روى الإمام أحمد في مسنده ثلاث وأربعون، فقد روى عن قتادة أن مغازى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثلاث وأربعون، أربع وعشرون بعثا، وتسع عشرة غزوة، خرج في ثمان منها بنفسه، بدر وأحد والأحزاب، والمريسيع، وخيبر، وفتح مكة المكرمة، وحنين. وروى عن الزهرى في هذه الغزوات الثمانى أنه قال: هذه مغازى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، قاتل فيها يوم بدر في رمضان سنة ثنتين، ثم قاتل يوم أحد في شوال سنة ثلاث، ثم قاتل بنى المصطلق وبنى لحيان في شعبان سنة خمس، ثم قاتل يوم خيبر سنة ست، ثم قاتل يوم الفتح في رمضان سنة ثمان، ثم قاتل يوم حنين، وحاصر أهل الطائف في شوال سنة ثمان، ثم حج أبو بكر سنة تسع، ثم حج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حجة الوداع سنة عشر. ومن هذا السياق التاريخى يتبين أن الغزوات تسع عشرة، والبعوث أربع وعشرون، وأن الغزوات منها ما كان فيه قتال بين المؤمنين والمشركين، ومنها ما لم يكن فيه قتال، أو جاء شبه الانهزام لخطأ كان من المقاتلين، وقد يكون انتصار للمؤمنين بغير قتال، بل كان برعب وريح، كما كان في الخندق فإنه لا يعد فيها قتال، ولو كانت الهزيمة للمشركين، وإنما كان القتل والقتال في بنى قريظة، وقد كانت هناك

الحرب الفاضلة أو حرب النبوة

غزوات لا قتال فيها، وأولى غزوات النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لم يكن فيها قتال، ومنها الأبواء، والعشيرة، وغطفان، وبدر الأولى، ومن أعظم الغزوات التى لم يقاتل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فيها الحديبية فقد كانت فتحا لابتداء سلام بين النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وقريش، ولذلك قال الله تعالى فيها: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً. لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ، وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً. وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً (الفتح- 1: 3) . الحرب الفاضلة أو حرب النبوة 352- لم يكن في السرايا التى بعث بها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قتال، بل كانت نتيجتها سلما، وما كان الفريقان يلتقيان إلا ليفترقا في سلام، وإن لم يكن ذلك دائما، إلا ما كان من رمية رماها سعد بن أبى وقاص في سرية عبيدة بن الحارث. ومع أنه لم يكن في هذه السرايا قتل ولا قتال كانت ذات فائدة، لأنها أعلمت قريشا أن الإسلام صارت له قوة، فإما أن يسارعوا إليه، ولا يكونوا آخر الناس، وإما أن يسارع القصاص، والرد على ما سبقوا به من الاعتداء. أو من جهة أخرى يشعرون بأن قوة الإسلام ستنقذ المؤمنين الذين لا يزالون يفتنونهم عن دينهم الذى ارتضوه والفتنة أشد من القتل. كما ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم. ومن جهة ثالثة يحسون بأن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم سيضايقهم بالحق كما ضايقوه بباطلهم. وكما يضايقون أصحابه من المستضعفين في ديارهم، وذلك بمصادرة أموالهم كفاء لما أخرجوا المسلمين من ديارهم وأموالهم. فكانت هذه السرايا الأولى في السنة الأولى من الهجرة إشعارا لهم بأن الإسلام قد أمده الله تعالى بالقوة، ليرهبوه ما داموا لم يسالموه، بل إنهم لم يرغبوه. وكانت كذلك غزوات النبى صلى الله تعالى عليه وسلم الأولى في الأبواء والعشيرة، وغطفان، وبدر الأولى، فقد كانت خالية من القتل والقتال، بل كانت لهذا الإشعار. حتى إذا شعرت قريش بهذه القوة المؤمنة، وكونوا جيشا كثيفا، وساروا به ولم يسبق عيرا، وبدا أنهم يرومون الحرب، إذ استعدوا لها، وأرادوا الاعتداء بها، كان القتال، لأنهم كانوا المهاجمين، وما كان محمد عليه الصلاة والسلام لينتظر حتى يغزوا المدينة المنورة بجيشهم، بل لابد أن يلقاهم، لأنه ما غزى قوم في عقر دارهم إلا ذلوا، كما قال بطل الجهاد على كرم الله وجهه الذى رباه محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وعلمه الحكمة وفصل الخطاب.

ولكن قد يسأل سائل: لماذا كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم محاربا. ونقول في الجواب عن ذلك إنه لم يكن بدعا من الرسل في ذلك، لأن موسى وهو من أولى العزم من الرسل حارب، ودعا بنى إسرائيل إلى الإيمان، ولكنهم ارتدوا على أدبارهم فانقلبوا خاسرين، وقالوا وحال الذلة والجبن تدفعهم فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (المائدة- 24) . والمذكور في التوراة التى بأيديهم أن موسى عليه السلام حارب ملوكا، واخترق بجيشه ديارهم، وداود عليه السلام حارب وقاتل. وكذلك ابنه سليمان. وإذا كان عيسى عليه السلام لم يقاتل، فلأنه ما شرع له القتال، وكأنه كان تمهيدا للبعث المحمدى إذ أن بينهما مدة ليست كبيرة، تبلغ نحو ستمائة سنة أو تزيد قليلا. وأن رسالة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم كانت للناس كافة، للأحمر والأسود والأبيض، فكانت لابد أن تجتاز الأقطار، وتصل الدعوة قوية إلى الأمصار، وأن ذلك لا يكون إلا بالاستعداد للقتال. إذ أن العالم كان محكوما بالملوك الغاشمين، والرؤساء الظالمين. وإن شريعة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم جاءت بمباديء هى ضد الحاكم، وقد قاتلوه عليها، فكان لا بد أن تكون قوة مانعة من الظلم دافعة بالحق، فكان لا بد من الحرب أو الاستعداد لها. وإن الناس لا يستقيم أمرهم إذا لم تكن للمبادئ العادلة قوة تحميها بالحق من غير اعتداء، وفضيلة الإسلام ليست فضيلة خانعة ضعيفة مستسلمة، ولكنها فضيلة قوية دافعة للشر، حاملة على الخير، فليس فيه «من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر» ، وإنما فيه فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ (البقرة- 194) . وفيه العفو والصبر، إذ يقول سبحانه وتعالى فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا (البقرة- 109) والعفو لا يكون إلا بعد أن يكون الأمر للإسلام، فلا عفو إلا عن مقدرة، ويكون عزا ولا يكون استسلاما، فقد قال عليه الصلاة والسلام: «ما زاد عبد بعفو إلا عزا» وأمر سبحانه وتعالى بالصبر، فقال سبحانه وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ، وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (النحل- 126) وإن الصبر يوجب ألا يندفع الجيش إلى القتال، بل يصابر، عسى أن يكون الصلح، وألا تخرج السيوف من أغمادها. كما كان يفعل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وكان يوصى جيوشه بذلك. وإن الصفح الجميل عمن آذوا أهل الإيمان يحتاج إلى صبر وقوة نفس، فليس الصبر فقط في لقاء الأعداء، إنما يكون في ذلك، وفي فطم النفس عن شهوة الانتقام.

الفضيلة في الحرب

وإن حرب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، كما سنرى حرب فاضلة فيها الرفق وفيها الفضيلة، وإن اشتجرت السيوف، وتلاقى الناس بالحتوف، فهى تعلم الناس كيف تكون الفضيلة، والسيوف تقطر دما، وكيف تكون المرحمة في الحرب، وهى في أصلها أمر مكروه في ذاته، فإذا دخلتها الرحمة، فإنها تكون كالنسيم العليل في الحر اللافح، وكالظل في الحرور. وقبل أن نتكلم في غزوات النبى صلى الله تعالى عليه وسلم نتكلم في بيان الفضيلة فيها، وإنا نأخذ ذلك من أوامر القرآن الكريم للمجاهدين وعمل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم في سيرها وفي انتهائها، وفي وصاياه عليه الصلاة والسلام لجيوشه. وقد كان أصحابه من بعده يتبعونها ويحكمونها غير منحرفين عنها. الفضيلة في الحرب 353- إن الرحمة من الفضائل الإنسانية العالية، ورحمة الإسلام ليست انفعالا نفسيا وقتيا. ولا شفقة أو رأفة شخصية تكون على الفاضل والآثم، والبر والفاجر، بل إن رحمة الإسلام هى الرحمة بالعامة وقد تكون الحرب رحمة بالعامة، بل إنها يجب أن تكون كذلك ما دامت حربا فاضلة، كما تلونا من قبل قوله تعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ، وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ. فالشفقة على الظالم والامتناع عن الاقتصاص منه ليست من الرحمة في شيء، لأنها تخفى في ثناياها قسوة على المظلوم، ولذلك قال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: «من لا يرحم لا يرحم» . فالحرب الإسلامية شرعتها الرحمة، وأظلتها الرحمة، وأنهتها الرحمة، وإذا كان من الرحمة بجسم الإنسان أن تقطع بعض الأجزاء المئوفة، حتى لا تفسد الجسم، فإن من الرحمة بالناس أن تقطع عناصر الفساد، لأنها تئوف الجماعة، وأن يرد الاعتداء بقطع عناصره لسلامة الناس، وأن يعيشوا آمنين، وكلمة الحق تسرى بينهم ولا محاجزات تحول دون النطق بها. ولنتكلم في حرب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، معتمدين على كتاب الله تعالى، وعلى السنة النبوية. فالباعث عليها. كما نص القرآن الكريم رد الاعتداء على المسلمين، فقد قال تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وقال تعالى: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ، وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (البقرة- 193) وبين سبحانه أن يعامل المعتدون بمثل اعتدائهم. قال تعالى: فَمَنِ

اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ، وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ وذلك بعد قوله تعالى الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ (البقرة- 194) . ونجد من هذه النصوص أن ابتداء الاعتداء كان من المشركين، وأنه كان لاعتداء المشركين على الحرية الدينية وفتنة المؤمنين في عقائدهم ليحملوهم على تركها. وإننا إذا أمرنا برد الاعتداء بمثله، طلب منا مع ذلك طلبان جليان آخران وهما: النهى عن الاعتداء، فنهينا عن الاعتداء، والاعتداء بأن نقاتل من لم يبدأنا بالقتال، ولم يمنع الدعوة الإسلامية من السير في طريقها، والطلب الثانى أمرنا بالتقوى، وهو التزام الفضيلة، فإن كانوا يعتدون على الأعراض لا نجاريهم، وإن كانوا يمثلون بالقتلى لا نمثل بقتلاهم كما سنبين إن شاء الله تعالى. لقد علمنا مما قصصنا من السيرة الطاهرة أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مكث يدعو إلى الإسلام ثلاث عشرة سنة توالى فيها الأذى على المؤمنين، وخصوصا ضعفاءهم، ولم يسلم من أذاهم إلا من يكون ذا بطش يخشى بطشه كعمر بن الخطاب وحمزة بن عبد المطلب، ومع ذلك لم يسلموا من الأذى تماما، بل كانت سلامتهم نسبية. ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لم يسلم من آذاهم، حتى رموا عليه وهو ساجد فرث جزور، حتى لقد هموا بقتله عليه الصلاة والسلام، ليلة الهجرة، وقد هاجر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وهاجر من كان عنده قدرة على الهجرة. ترك المهاجرون ديارهم وأموالهم فرارا بدينهم الذى ارتضوا، والمشركون سادرون في غيهم. وترك النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ضعفاء، لا قدرة عندهم على الهجرة، وهم يعذبون أشد العذاب، فهل من مقتضى الرحمة أن يترك هؤلاء يعذبون، ويلقى بهم في المحابس، إنه لا بد من أن يذوق الذين يؤذونهم وبال أمرهم. وننتهى من هذا ومن النصوص السابقة إلى أن الباعث على الحرب دفع الاعتداء، ومنع الأذى المستمر، وعقوبة الظالمين، وتأمين الدعوة الإسلامية حتى لا تكون فتنة في الدين، ويتبع الناس الدليل، ولم يتبعوا الحكام الذين يرهقونهم ويسومونهم الخسف والهوان. هذا هو أمر القتال في شبه الجزيرة العربية، الذى ابتدأ في قريش. ثم عمم أجزاءها عند ما اجتمعت القبائل على حربه في غزوة الأحزاب، أو غزوة الخندق، وأرادوا اقتلاع الإسلام من قصبته في المدينة الطاهرة، فنزل قوله تعالى: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً (التوبة- 36) .

قبل المعركة:

أما بالنسبة لغير من كانوا في الجزيرة العربية، فقد أرسل إلى الملوك والرؤساء الكتب على أيدى رسل من حكماء أصحابه، أرسل إلى هرقل، وإلى عظيم مصر، وإلى كسرى وغيرهم من الملوك. وبعض أمراء البلاد النائية من البلاد العربية. ولكن لم يجب إلى الإسلام من غير العرب أحد، ومنهم من أساء الرد، ومنهم من أحسن في الإجابة، ولكن لم يجب داعى الله تعالى إلى الإسلام، ومنهم من لم يرد بالقول، ورد بالعمل، وأعلن برده العداء كالمشركين، فكسرى همّ بأن يرسل إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من يقتله، وهرقل قتل واليه على الشام من أسلم من أهل الشام. ولذلك اتجه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى الشام، فكانت غزوة مؤتة، ثم غزوة تبوك، ثم وصيته بإنفاذ جيش أسامة بن زيد إلى الشام. وبهذا نرى أن الباعث لحرب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم هو دفع الأذى، وتمكين الدعوة، ولم يكن ثمة إكراه على الدين، لأن الله تعالى يقول: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ولم يثبت أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أكره أحدا على الدين، بل ثبت أنه أراد بعض الأنصار أن يكره ولده على الإسلام، فنهاه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عن ذلك. قبل المعركة: 354- وكانت الفضيلة تتجلى في حرب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عند ما أخذ يرسل الجيوش إلى الجهات النائية، فقد كان عليه الصلاة والسلام يأمر جيشه بالتأنى قبل أن يتقدم للقتال، وكان يدعو المؤمنين إلى ألا يتمنوا القتال، لأنه امتحان القلوب وهدم الأجسام، فكان عليه الصلاة والسلام يقول: «لا تتمنوا لقاء العدو، وإذا لقيتموهم فاصبروا» . وإذ تعين القتال خيّرهم بين الإسلام، أو أن يعاهدوه، ليأمن الاعتداء من جانبهم، وذلك ما يشبه فى العصر الحاضر ميثاق عدم الاعتداء، أو أن يكون القتال، وأنهم إذا قبلوا العهد أمن جانبهم، وأمن أن تسير الدعوة في طريقها، وأن يخلو له وجه الناس، ويقنعهم بالحق، فمن اهتدى فلنفسه، ومن أساء فعليها. وإننا إذ نتجه إلى ذلك الوادى المقدس يسترعى انتباهنا دعاء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عند القتال الذى يدل على شعوره صلى الله تعالى عليه وسلم بوحدة الإنسانية ووحدة الخالق، فهو يقول في دعائه عليه الصلاة والسلام «اللهم إنا عبادك وهم عبادك، نواصينا ونواصيهم بيدك، اللهم اهزمهم، وانصرنا عليهم» ، وما كان ذلك الجزء الأخير إلا لأنهم معتدون على الحق، وعلى الحرية الدينية بفتنتهم الناس عن

فى المعركة:

دينهم، وجحود بالحق. ولقد كان صلى الله تعالى عليه وسلم حريصا على منع القتال حتى عند أخذ الأهبة، فهو يقول لمعاذ بن جبل وقد أرسله إلى اليمن قائدا: «لا تقتلوهم حتى تدعوهم، فإن أبوا فلا تقاتلوهم، حتى يبدأوكم، فإن بدأوكم، فلا تقاتلوهم حتى يقتلوا منكم قتيلا ثم أروهم ذلك، وقولوا لهم: هل إلى خير من هذا سبيل، فلأن يهدى الله على يديك رجلا واحدا خير مما طلعت عليه الشمس وغربت» . ونجد من هذه الوصية أن نية السلم قائمة والجيشان قد تلاقيا، فالقائد المسلم لا يقاتلهم إلا بعد أن يدعوهم إلى العهد الذى يكون فيه تأمين حرية الدعوة، ثم هو لا يبدأ القتال، بل يتركهم يبدأون القتال، وحتى بعد هذا البدء لا يقاتلهم حتى يقتلوا فعلا ثم يبين لهم العبرة في ذلك الدم الذى أراقوه ظلما وعدوانا، فإن لم يعتبروا لم يبق إلا السيف ليحكم بأمر الله بينه وبينهم والله خير الفاصلين. فى المعركة: 355- والرفق ملازم المعركة ذاتها، كما كان في ابتدائها، ذلك أنها حرب نبوة، وليست مغالبة ولا تناحرا، ولقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم في وصف دعوته وحربه: «أنا نبى المرحمة، وأنا نبى الملحمة» ، وفي الحق أن المرحمة والملحمة متلاقيتان، فما كانت الملحمة إلا لأجل المرحمة، إذ الرحمة الحقيقية في هذا العالم هى في قطع الفساد ومنع الشر، وإذا كانت الملحمة فقد تعينت سبيلا للمرحمة. وإنه كان يصاحب حرب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عند ابتداء المعركة العمل على تأليف القلوب حتى وقد اشتجرت السيوف؛ ولذلك يوصى عليه الصلاة والسلام جنده وقد أرسلهم للقتال بقوله: «تألفوا الناس وتأنوا بهم ولا تغيروا عليهم حتى تدعوهم فما على الأرض من أهل مدر أو وبر أن تأتونى بهم مسلمين أحب إلى من أن تأتونى بأبنائهم ونسائهم وتقتلوا رجالهم» . هى حرب رفيقة تتسم بالتأليف، لا بالتقتيل، وبالمحافظة على الأنفس والرجال إلا أن تكون ضرورة ملجئة، فقد كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يوصى بألا يقوم الجيش بإتلاف زرع أو قطع شجر أو قتل الضعاف من الذرية والنساء، والرجال الذين ليس لهم رأى في الحرب، ولم يشتركوا فيها بأى نوع، ومن ذلك قوله في إحدى وصاياه:

«انطلقوا باسم الله وعلى بركة الله لا تقتلوا شيخا فانيا ولا طفلا، ولا امرأة، ولا تغلوا، وضموا غنائمكم «1» ، وأصلحوا وأحسنوا إن الله تعالى يحب المحسنين» . وفي معنى هذه الوصية وصية أخرى، وهى قوله عليه الصلاة والسلام «سيروا باسم الله في سبيل الله تعالى، وقاتلوا أعداء الله ولا تغلوا (تخونوا) ولا تغدروا، ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا» . ويقول عليه الصلاة والسلام لخالد بن الوليد: «لا تقتل ذرية ولا عسيفا» (أى عاملا) . وبهذه الوصايا يتبين أن الحرب النبوية الفاضلة لا يصح أن تكون إتلافا وإفسادا، وتحللا من القيود الإنسانية، ولذلك لا يباح في القتال كل شيء، ولا يفعل ما يفعله القواد في هذه الأيام من إهلاك الحرث، والنسل، وإفساد الزرع وإلقاء السم فيه ليتسمم الأحياء. وإن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم شدد في منع قتل الأطفال والشيوخ الذين لا يحاربون وليس لهم رأى في الحرب، والنساء، لأن القتال الذى كان من المسلمين إنما كان لدفع الاعتداء والقصاص من المعتدين ماداموا مستمرين أو على نية الاعتداء، وأولئك ما كانوا يقاتلون ولا يعتدون، وليس في طاقتهم أن يقفوا محاربين الدعوة الإسلامية أن تسير في طريقها. وقد مر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم على القتلى فرأى امرأة مقتولة، فقال عليه الصلاة والسلام: ما كانت هذه لتقاتل. وأرسل إلى خالد بن الوليد يأمره بألا يقتل عسيفا ولا ذرية. ولقد كان عليه الصلاة والسلام يغضب إذا بلغه أن جنده قتلوا صبيانا، ولقد بلغه أن بعض الأطفال قتلهم جند المسلمين، فوقف عليه الصلاة والسلام يقول لجنده: «ما بال أقوام تجاوز بهم القتل حتى قتلوا الذرية، ألا لا تقتلوا الذرية ... ألا لا تقتلوا الذرية» . وكان عليه الصلاة والسلام يمنع قتل العمال، وكرر منع قتل العسفاء وهم العمال الذين يستأجرون للعمل، لأن حربه عليه الصلاة والسلام لم تكن لقتل الأقوياء القادرين، إنما كانت لمنع اعتداء الذين يحملون السلاح، أو يدبرون الاعتداء، والعمال ليسوا كذلك، إذا لم يكن عملهم لتهيئة أسباب القتال.

_ (1) وضم: القوم تجمعوا وتقاربوا، والوضم: كل ما يوضع عليه اللحم يوقى به من الأرض، وفي هذا والله أعلم إشارة إلى المحافظة على الغنائم أنفسا كانت أو غير أنفس.

الفضيلة:

وكان عليه الصلاة والسلام ينهى عن التخريب، فكان يمنع قطع الشجر لأنه لا ضرورة توجب قطعه إلا أن يتخذه العدو مستترا له، ليجعل منه كمينا يكمن فيه لجيش المسلمين، فما كانت حرب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم تسمح بالتخريب. الفضيلة: 356- ليست حرب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كحرب الأنذال اللؤماء الذين يضعون السيف في موضع البرء وموضع السقم، إنما هى حرب الخلق القوى الذى لا يضع السيف إلا حيث يكمن الداء، ويستقر، ليقتلع الشر من مكمنه، فلا يقتل إلا من اعتدى وحمل السيف، أو دبر الأمر لمن يحمله. ولذلك كانت الفضيلة هى المسيطرة في كل أدوارها في ابتدائها وسيرها وانتهائها، وإنها إذ كانت لرد الاعتداء بمثله، فهى مقيدة بالفضيلة لما ذكرنا من أن الله تعالى أمرنا بالتقوى عند رد الاعتداء، فالمعاملة بالمثل مع التقيد بالتقوى توجب على جيش الإيمان ألا ينتهك حرمات الفضيلة لأجل المعاملة بالمثل، فإذا تعارضت الفضيلة مع المعاملة بالمثل كان الواجب مراعاة الفضيلة لأنها المبدأ الذى لا يقبل التخلف كيفما كانت الحال. وقد يعجب بعض الناس من الفضيلة تحكم في وسط السيوف، وحيث تستباح النفوس، فإنها حيث استبيحت لا يبقى شيء يحترم، ولكنا نقول إنها حرب النبوة المقيدة بقانون السماء، قام بها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ليعلمها للناس، فإنه مادامت الحرب في نظام الوجود الإنسانى، فإنه لا بد من أن تقيد بالفضيلة، وأن يتولى تعليمها خاتم النبيين محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو آخر صرح في نبوة السماء، وأن حرب النبوة هى حرب الفضيلة التى تدفع الرذيلة دفعا. وليس من المعقول أن يكون الباعث عليها الدفاع عن الحق والفضيلة، وتنتهك الحرمات من أهلها في الميدان مجاراة لأراذل المعتدين، فإذا كان العدو منطلقا من كل القيود الخلقية فجيش الفضيلة مقيد بالفضيلة، فإذا كان العدو يهتك الأعراض إن استمكن، أو يقتل النساء والولدان والشيوخ الذين لا يستطيعون حيلة، فإن جيش الإسلام المؤمن لا يجاريهم لأنه مقيد بالفضيلة والخلق القوى. وإذا كان العدو يمثل بالقتلى، ويشوه أجسامهم بعد القتل، فإن جيش الفضيلة لا يفعل لقول القائد الأعظم المعلم الأوّل للحروب الفاضلة: «إياكم والمثلة»

احترام الكرامة الإنسانية:

ولقد قتل المشركون في غزوة أحد حمزة بن عبد المطلب عم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وحبيبه، وأدنى قرابته إليه، وسيد الشهداء كما سماه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ومثلوا بجسمه الطاهر، ومع منزلته منه عليه الصلاة والسلام لم يفكر بأن يمثل بأحد من قتلاهم فيما جد من بعد ذلك. وإذا كان الأعداء يجيعون الأسرى، أو يقتلوهم بالعطش، فإن جيش المسلمين يعد من أقرب القربات إطعام الأسير، تحقيقا لقوله تعالى في وصف المؤمنين الصادقين في إيمانهم: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (الإنسان- 8) . احترام الكرامة الإنسانية: 357- وإذا كانت الفضيلة لابد من احترامها في أثناء الحرب، للأمر بتقوى الله تعالى عند رد الاعتداء بمثله، فمن الفضيلة المحافظة على الكرامة، بقوله تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ، وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا (الإسراء- 70) ، فكرامة العدو محترمة ككرامة الولى على سواء، وقد يعد بعض الناس ذلك أمرا غريبا، حيث كانت السيوف متشابكة، إذ أن هذا ليس وقت التكريم، بل هو وقت التقتيل، ولكن لا غرابة، فهى ليست حرب انتقام، ولكنها قمع للشر، ومنع لاستمراره، ولا استمرار يتصور من مقتول. ولذلك أمر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بدفن قتلى قريش، لم يترك جثثهم نهبا لوحوش الأرض وسباع الطير، أمر عليه الصلاة والسلام بوضع جثث القتلى من قريش في القليب وهو بئر جافة. ولقد نهى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن الإجهاز على جريح، كما نهى عن تعذيب القتلى، إذ ضعفت قوة الجريح عن أن يقاوم، وذلك كله لاحترام الإنسانية، ولأن القتال ليس القصد منه إلا إضعاف قوة الطغاة، ودفع الاعتداء وليس منها الانتقام. وأن المعاملة بالمثل التى تفرضها قوانين الحرب، والتى تفرض بحكم رد الاعتداء به لا يسير به المسلم إلى أقصى مداه ولو انتهكت الفضيلة والكرامة الإنسانية، بل إن المسلم بأمر الله تعالى مأمور بالتقوى عند رد الاعتداء، وكانت حرب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم هى المثل السامى في تنفيذ ذلك لأنه الذى يتعلم منه الإنسان إن حارب أخاه الإنسان، فعندئذ يكون قانون الأخلاق هو الذى يحكم لا قانون الغابة.

انتهاء الحرب

انتهاء الحرب 358- كانت حرب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم تنتهى بأحد أمور ثلاثة: أولها- الموادعة- وقد كانت عهود الموادعة التى كان يبرمها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مرغوبا فيها منه صلى الله تعالى عليه وسلم استجابة لقول الله سبحانه وتعالى: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ (الأنفال: 61) ولقول الله سبحانه وتعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً (البقرة: 208) ولأن الأصل في العلاقة هو السلم، والحرب لا تكون إلا إذا دفعت إليها ضرورة رد الاعتداء بمثله مع التزام الفضيلة كما ذكرنا، وإذا كانت الموادعة فقد زالت ضرورة الحرب، والضرورة تقدر بقدرها. وقد عقد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم موادعات، كما عقد صلحا، وعقد من بعده صاحباه أبو بكر وعمر رضى الله تعالى عنهما معاهدات صلح آخذين بهديه، مقتبسين من نوره، وكلها كانت تبدو فيها الرغبة في الصلح من جانب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وما كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يدخل في الحرب إلا بعد عرض الصلح، حتى تتحقق ضرورة الحرب. وإن الموادعة لا يفرضها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بحكم القوة، إن كان هو الغالب، بل يفرضها بالسماحة وإدناء القلوب النافرة. ولعل أوضح الأمثال في الدلالة على ذلك صلح الحديبية، فقد ذهب إلى مكة المكرمة ومعه جيش كثيف في عدده، قوى في رجاله، مستعد في عدته، ليحج بيت الله الحرام، ولكن ما إن عرضت فكرة المهادنة، حتى سارع عليه الصلاة والسلام إليها وقبل من الشروط ما لا يقبله إلا السمح الكريم، وفيها كما يدل ظاهرها من الإجحاف بالمسلمين ما كان لغير نبى أن يقبله، ولكنه قبله راضيا. ولنذكر الخبر فيها، كما روته الصحاح في السنة: روى البخارى أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خرج في ذى القعدة من العام السادس ليحج إلى بيت الله الحرام. على ألا يقاتل إلا إذا منع، فلما بلغ قريشا عزمه عليه الصلاة والسلام، ومجيئه مع أصحابه، جمعوا له الجموع ليصدوه، ومن معه، فلما علم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك، وقد لبس لباس الحج ونواه ومعه الجيش الكبير- جمع أصحابه، وقال: «أشيروا على» ، فقال أبو بكر: «يا رسول الله خرجت قاصدا البيت، لا تريد قتل أحد، ولا حرب أحد. فمن صدنا عنه قاتلناه» فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: «امضوا على بركة الله» حتى إذا أشرف على مكة المكرمة قال: «والله لا يسألوننى خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها» .

ولما جاءت رسلهم إليه صلى الله تعالى عليه وسلم قال لهم: «إنا لم نجيء لقتال، ولكنا جئنا معتمرين، وإن قريشا قد نهكتهم الحرب، وأخذت بهم. فإن شاؤا ما رد لهم، وأخلوا بينى وبينهم» . عرض عليه الصلاة والسلام الموادعة، وهو القوى بجيشه، وبنصر الله الذى هو فوق كل شيء، فقبلوا المهادنة بشروط كان جلها كما يرغبون: أولها- أن يعود ولا يحج في عامه هذا، وأن توضع الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض، وأن يعتمر الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه في العام القابل. وثانيها- أن من قدم المدينة المنورة من قريش مجتازا إلى الشام فهو آمن على دمه وماله. وثالثها- أن من أتى محمدا عليه الصلاة والسلام من مكة المكرمة مسلما من غير إذن وليه رده عليهم. ورابعها- أن من جاء ممن مع محمد عليه الصلاة والسلام مرتدا عن دينه لم يردوه إليه. هذه كلها شروط كتبت برغبة قريش. وهناك شرط واحد لمصلحة الدعوة الإسلامية، وهى غاية الغايات، وذلك الشرط أن من قدم مكة المكرمة من أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام حاجا أو يبتغى الرزق فهو آمن على دمه وماله. وهناك شرط أساسى لمصلحة الطرفين، وهو أن من أراد أن يدخل في عقد مع محمد عليه الصلاة والسلام دخل، ومن أراد أن يدخل في عقد قريش دخل. وربما تكلمنا عن تفصيل لهذا الكلام عليها في موضعها. الأمر الثانى الذى تنتهى به الحرب- هو الصلح بإنهاء القتال، لا بالموادعة المجردة فيه، والصلح حينئذ يكون على أساس العدالة والوفاء بكل ما يلتزم كلا الطرفين فيه من حقوق، ويكون ذلك عهدا يجب الوفاء فيه بكل الشروط الجائزة شرعا، وأن العهد الذى لا يكون فيه الدخول في الإسلام تكون قبل الحرب عند التخيير بين الإسلام أو العهد أو الحرب، فيكون مانعا للحرب من أن تقع، لا أن يكون منهيا لها بعد وقوعها. أما الصلح المنهى للحرب بعد وقوعها، فيكون بإعلان الإسلام في ربوع الديار التى كان النصر فيها للمؤمنين.

معاملة المهزومين

والأمر الثالث الذى ينهى الحرب هو الانتصار للمؤمنين، والاستسلام من الكافرين، وهو النوع الثالث من الصلح الذى ذكرناه آنفا. معاملة المهزومين 359- تبدو السماحة المحمدية، والرفق على أهله في الحرب النبوية عند هزيمة العدو واستسلامه، ويلاحظ أنه في حرب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، لم يهزم المؤمنون هزيمة فيها استسلام قط، إذ أنه لم ينتصر خصوم الإسلام انتصارا ساحقا قط في عصر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، والراشدين من بعده. وإنه لما هزم المسلمون في غزوة أحد لم يستسلموا، لأن الاستسلام فيه ذلة، والإسلام دين العزة والكرامة، فلا يمكن أن يستسلم المؤمنون بقيادة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، بل إنه عليه الصلاة والسلام جمع متفرق الجيش، وأراد أن يتبع به المشركين، فلما علموا هم بذلك مضوا في طريقهم قافلين، ورضوا من الغنيمة بالإياب، إذ علموا أنه مؤيد من عند الله، وأنه يجاهد في سبيله. وإذا كانت الحرب تنتهى باستسلام العدو فمحمد عليه الصلاة والسلام في حرب النبوة لا يقول مقالة الغاشمين، ويل للمغلوب، بل تكون العدالة، وتكون السماحة والرفق المحمدى. كانت آخر حرب للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم مع قريش هى التى انتهت بفتح مكة المكرمة للإسلام والمسلمين، وهنا يلتقى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مع من آذوه، وأعنتوا أصحابه، وساموهم سوء العذاب، ومنهم من مات من شدة التعذيب، وقد هموا بقتله صلى الله تعالى عليه وسلم، ولكنهم كانوا يمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين. التقى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بهم، وبكبير حرب الشرك أبى سفيان، فنشر عليه الصلاة والسلام، وهو الغالب والمسيطر، راية الأمان عليهم، فنادى مناديه عليه الصلاة والسلام: «من دخل دار أبى سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن، ومن دخل داره فهو آمن» . وهكذا كان انتصار النبى عليه الصلاة والسلام الرفيق الرؤف الرحيم نشرا للأمان في ربوع مكة المكرمة حول بيت الله سبحانه وتعالى الحرام. ولما التقى بالملأ من قريش، قال لهم: «ما تظنون أنى فاعل بكم؟! قالوا: خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم، قال لهم: أقول ما قاله أخى يوسف: لا تثريب عليكم اليوم، يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين، اذهبوا فأنتم الطلقاء» . أى حرب تنتهى بهذه السماحة وذلك

الأسرى

الرفق غير حرب النبوة التى قام بها محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وللناس في رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أسوة حسنة. الأسرى 360- لعل أبلغ ما يدل على أن الحرب النبوية التى دافع بها صلى الله تعالى عليه وسلم عن المؤمنين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، هى حرب لتعليم الناس أن الخلق الكريم يلازمها، وأن الفضيلة تظلها في كل أدوارها، هو معاملة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم للأسرى، لقد كان رفيقا بالأسرى لا يهدر آدميتهم، ولا يعرف تاريخ الإنسانية محاربا كان رفيقا بأسراه كمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم، فقد كان صلى الله تعالى عليه وسلم يوصى بالأسرى، ولما أسر من أسر في غزوة بدر، نزلوا في بيوت الأنصار، وكأنهم في ضيافة لا في أسر، وذلك لقول النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: «استوصوا بالأسرى خيرا» ولماذا كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يوصى بالأسرى، ويبالغ في الإيصاء بهم؟ والجواب عن ذلك أنهم يؤسرون ونيران الحرب مستعرة، وربما كان بعضهم من قتل الكثير من جيش المسلمين فيكون الاعتداء عليه متوقعا وغليظا لشدة الغيظ، وانبعاث الرغبة في الانتقام، كما فعل الأوربيون والأمريكان فيمن سموهم مجرمى الحرب، فالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو يضرب الأمثال السامية في تلك الحرب النبوية منع إيذاء الأسرى وأمر بإكرامهم منعا لتلك الروح الانتقامية الغليظة. وقد أخذ المسلمون في أسرى بدر بتلك الوصية الكريمة، حتى إن الذين قد نزلوا في ديارهم كانوا يؤثرونهم على أنفسهم وأولادهم بالطعام. وإن أولئك الكرام كانوا في جهادين: أولهما جهاد السيف ونيران الحرب ملتهبة، حتى إذا انطفأت كان الجهاد الثانى، وهو ضبط النفس لتكظم الغيظ، لئلا يكون منها ما لا يرضاه الله سبحانه وتعالى بالنسبة للمغلوبين، وخصوصا الأسرى. لقد تلونا فيما مضى من قولنا قول الله سبحانه وتعالى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً، وَيَتِيماً وَأَسِيراً (الإنسان: 8) وإن الإسلام يوجب بالنسبة للأسير أمرين: أولهما: أنه ليس لجيش الإسلام أن يأسر حتى يثخن في الأرض بأن يثقل جيش العدو بالجراح، ولا تكون له قدرة على مواصلة القتال، وقد قال الله سبحانه وتعالى: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ، تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ، وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (الأنفال- 67) .

حرب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عبادة

الأمر الثانى: أن القرآن الكريم الذى كان ينفذه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ويبينه كما قال سبحانه وتعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ أن هذا القرآن الكريم يذكر بالنسبة للأسرى أمرين لا ثالث لهما، وهما إما المن عليهم بإطلاق سراحهم، وإما الفداء بالمال أو الرجال، فقد قال الله سبحانه وتعالى: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ، حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ، فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ، وَإِمَّا فِداءً، حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها (محمد- 4) . وكما أشرنا: أن الفداء قد يكون بالرؤوس، فيطلق من أسارى المسلمين في نظير أن يطلق المسلمون من أسرى الأعداء. وقد يكون بالمال. وإذا كان الأسير فقيرا ولا مال له، فإنه يتعين تسريحه، ويكون ذلك من الصفح الجميل الذى أمر الله سبحانه وتعالى نبيه به بقوله: فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (الحجر: 87) ، وعن أخذ الأمور بالعفو كما قال الله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (الأعراف- 199) . حرب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عبادة 361- أعظم العبادات الجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى، وإذا كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد علم المؤمنين الصلاة، وقال: «صلوا كما رأيتمونى أصلى» فقد علمهم الحرب الفاضلة أيضا، بل علم الإنسانية كلها الحرب الفاضلة، ولسان حاله عليه الصلاة والسلام يقول: «حاربوا في سبيل الفضيلة وبالفضيلة كما رأيتمونى أحارب» فحرب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد أدت مقصدها، وهو جعل كلمة الله سبحانه وتعالى هى العليا وكلمة الذين كفروا السفلى، ولا تزال المثل السامية التى صورتها الحرب المحمدية قائمة تهدى وترشد العالمين، ولقد عد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أعلى درجات الزهادة والعبادة الجهاد، ولذلك قال صلى الله تعالى عليه وسلم: «الجهاد سنام الدين» . وقد منع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الرهبانية. وقال «لا رهبانية في الإسلام» وبين أن رهبانية الإسلام هى الجهاد، فقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم: «فى كل أمة رهبانية، ورهبانية هذه الأمة الجهاد» ، وقد علل ذلك الإمام السرخسى بأن فيه العشرة مع الناس، والتفرغ عن عمل الدنيا والاشتغال بما فيه سنام الدين، وفيه أمر بالمعروف، ونهى عن المنكر، وهو صفة هذه الأمة. وأنه يتشابه المجاهد مع الراهب في ثلاثة أمور، ويختلفان في أمر. أما الأمور المتشابهة فهى:

أولا- اعتزال الناس جملة، والخروج عن الحياة التى يحياها الناس لأنفسهم آكلين شاربين متمتعين بحلاوة الحياة وما فيها. وثانيا- أن الراهب يعتزل النساء، والمجاهد التقى الذى نال شرف الجهاد ومعناه يعتزل النساء وينقطع عن الأولاد في مدة الجهاد، وهم فلذات كبده. وثالثا- أن كليهما قد قدم نفسه لله سبحانه وتعالى- الراهب بالعبادة ليسمو في نظره إلى الروحانية التى تقربه من الله سبحانه وتعالى في زعمه. والمجاهد قد قدم نفسه فعلا لله سبحانه وتعالى ليحمى الحق الذى أمر الله بنصرته، وترى أن المشابهة قائمة، وإن اختلف القصد في كليهما. ومن هنا كان موضع الافتراق، فالراهب يعتزل الناس لأجل نفسه وعبادته الانفرادية، أما المجاهد فيعتزل الناس، ليحمى الناس، وينفذ أمر ربه، فالأوّل عبادته في دائرة وجوده الشخصى لا تعدوه، والثانى عبادته في دائرة النفع العام. والأوّل لا تخلو عبادته من أثرة، والثانى عبادته كلها إيثار. وإن الإسلام منع الرهبنة، لأنها فرار من الحياة ومتاعبها، ولذلك تعتبر القوانين الأوربية الرهبان في حكم الأموات، والرهبنة موت اختيارى، والإسلام لا يريد للمتعبد هذا الموت ولا ذلك الفرار، ولكنه يريد المؤمن نافعا للناس، حيا في وسط الأحياء، حاميا لهم من المضار، جالبا لهم المنافع، إذ ليست العبادات الإسلامية سلبية، بل هى إيجابية، هى المشاركة في رفعة النوع الإنسانى، ولذلك يعد كل نفع للأحياء صدقة، فقد قال عليه الصلاة والسلام: «ما من مسلم يغرس غرسا، أو يزرع زرعا، فيأكل منه إنسان أو دابة إلا كتب له به صدقة» وإنه ليس معنى ذلك أن الروحانية في الإسلام لا وجود لها، بل إن لها المقام الأوّل، ففى الصوم والصلاة والحج روحانية، بل كلها روحانيه، وفي الاعتكاف روحانية، ولكن روحانية الإسلام ليست انقطاعا عن الحياة والأحياء، بل هى مع ما فيها من سمو نفسى، وتجرد من الجسم وأهوائه وشهواته، هى لتحسين العلاقات الإنسانية، وأن يكون المؤمن مألفا يألف الناس، ويألفونه.

الخلاصة

الخلاصة 362- هذه كلمة تقدمنا بها عند الكلام في حرب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لنرد بها قول الذين يتقولون الأقاويل في حرب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، ويزعمون أن الحروب والدمار ليست من أعمال النبيين، وهى فرية افتروها، فإنه مادام الإنسان ابن الإنسان، فإنه لا بد من مغالبة. ومن وقت أن امتنع إبليس عن السجود لآدم استكبارا أو استعلاء، والمعركة بين الخير والشر قائمة، والعداوة مستحكمة بين الرذيلة تعتدى والفضيلة تدفع، ومن وقت أن نزل آدم وذريته إلى الأرض، وإبليس الذى قال لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (ص- 82، 83) ، من هذا الوقت وقد تحقق قول الله سبحانه وتعالى: اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً، بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ (طه: 123) والنزاع بين الخير والشر قائم. وليس من الفضيلة أن يترك الشر يرتع ولا يدفع، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ، وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (البقرة- 251) . وإن أولئك الذين يعترضون على قتال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، لا يتصورون الحرب إلا مغالبة بشرية كما تتغالب الوحوش على فريسة تأكلها، أو على غابة تحتلها. ولا يتصورون لفرط ماديتهم أن الحرب تكون لإعلاء الحق وخفض الباطل، وكذلك كانت حروب النبيين موسى وداود، وسليمان، وغيرهم من الأنبياء، وما كان قتالهم شرها إلى الدماء، فمعاذ الله وتنزهت ذاته الكريمة فلا يرسل إلا ملكا كريما. وننتهى من هذا إلى تقرير هذه الحقائق التى بدت من البحث واضحة نيرة: الحقيقة الأولى: أن حرب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، كانت أمرا لا بد منه، ليقيم الحق ويخفض الباطل، وما كانت رسالته تدعو إلى استخذاء الخير أمام الشر، وما كانت دعوتهم لتسير في مسارها إلا إذا أزالت الحواجز التى كانت تحاجز دونها، ليتم التبليغ. والناس بعد ذلك يختارون الهداية أو يستمرون على الغواية: فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (الزمر: 41) . الحقيقة الثانية: أن حرب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كانت حربا فاضلة مثالية تعلم الإنسان أنه قد يكون محاربا وهو فاضل، وأن الإنسانية تحترم، والسيوف مشتجارة. الحقيقة الثالثة: أن حرب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ومن يتبعونه في هديه، ويتخذونه

أدوار الحرب المحمدية

أسوة في حربه وفي سلمه هى عبادة، لأن رفع الحق، والحرب لرفعه هو في ذاته عبادة، فليست عبادة الإسلام عكوفا في الصوامع من غير عمل نافع، بل كل عمل نافع فيه عبادة إذا نواها المؤمن: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امريء ما نوى..» . أدوار الحرب المحمدية 363- كان لا بد قبل أن نخوض في حروب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وأدوارها، والمعارك التى خاضها- من أن نسبق بالقول في أوصاف حرب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فإن ذكر الحرب قد يفزع، ويرهب، فكان من الضرورى أن نعرف القارئين بأنها ليست كحرب الناس تستمد أحكامها من الغلب بالمخلب والناب، وأنها حرب نبوة تدفع إليها الفضائل الإنسانية، ويظلها الحق والخلق الكريم في الباعث عليها، وفي ابتدائها، وفي سيرها، وفي الانتهاء منها، وفي معاملة المغلوبين، ليتميز الخبيث من الطيب، ولكيلا يتطاول ملحد في دين الله على مقام الرسالة، ومكان الهداية، ويقع في القول بغير حق ويفترى بالباطل، فنضع الحقائق بين يديه، فإن شاء استنار بها، وإن طمس الله تعالى على بصيرته فما له من هاد، ويكون كما قال الشاعر: كناطح صخرة يوما ليوهنها ... فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل وبعد هذه التقدمة نقول أن حرب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد أخذت أدوارا ثلاثة: الدور الأوّل: توجه عليه الصلاة والسلام للتصدى لمتاجر قريش ليشعرهم بقوة الحق، وليحملهم على منع الفتنة في الدين، وليدركوا نور الحق بعد أن تبين نوره قويا وهاجا، وليعلموا أنه لا ملجأ لهم من الله سبحانه وتعالى إلا إليه. والدور الثانى: تلقيه لمن يهاجمون المدينة المنورة لينالوا من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ومن معه. ظانين أنهم بذلك يقتلعون الإسلام من جذوره ولينالوا منه نيلا، قد ابتدأوه في مكة المكرمة، وحاولوا أن يقطعوا شجرته في المدينة المنورة، حاسبين أنه قد استغلظ سوقها. وفي هذا الدور كانت بدر الكبرى، وأحد، والخندق أو الأحزاب، ومعها كان إجلاء بنى قينقاع، وبنى النضير، وبنى قريظة. الدور الثالث: كان في الخروج إلى العرب الذين قاتلوه كافة، فكان حقا عليه أن يقاتلهم كافة، كما أمره الله سبحانه وتعالى بقوله: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً، كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (التوبة- 36) وفي تلك الغزوات كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يعمم

الدور الأول

الدعوة إلى الإسلام، لأنه عليه الصلاة والسلام كان يخيرهم بين الإسلام، ويبين حقيقته وأركانه، وبين القتال، وإذا اختاروا السلم كان، وإن اختاروا الحرب، وهزموا، وجدوا في رفق المعاملة ولين القوى وعطفه ما لم يحتسبوا، فيألفونه، ويدخل الإيمان في قلوبهم. وإنه في هذا الدور قد أخذت الحرب تنتقل من جزيرة العرب إلى خارجها، لأن الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم أخذ يدعو الملوك ورؤساء الدول إلى الإسلام، أو أن يفتحوا الطريق أما الدعوة الإسلامية، فما آمن منهم إلا النجاشى ملك الحبشة، ومنهم من لم يجب، ومنهم من أساء في الرد، ومنهم من أجاب جوابا رقيقا ولكنه لم يؤمن. وحدث أن ملك الروم قد قتلت جيوشه من أسلم من أهل الشام، فتعرض المسلمون لفتنة دينية كالتى كانت في مكة المكرمة، وأمر الله سبحانه وتعالى بالقتال لأجلها، فقال الله سبحانه وتعالى: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ، وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ، فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (البقرة- 193) ، ولذلك كانت غزوة مؤتة، وغزوة تبوك من بعدها. وقد تجمع اليهود الذين أجلاهم من المدينة المنورة في خيبر، لينقضوا على المدينة المنورة، فكان لابد أن يساورهم، قبل أن يساوروا المدينة المنورة. وهكذا ... الدور الأوّل 364- وإن هذا الدور يصح أن نقسمه إلى قسمين: أحدهما لم يلق فيه حربا، ولا قتالا، بل كان اللقاء ينتهى بالمسالمة، وكان فيه تأليف للقلوب النافرة. وتقريب الإسلام من العقول والنفوس، وفيه بيان لقريش أن الإسلام قد أعزه الله سبحانه وتعالي، وأن المسلمين صاروا فوق منالهم، والناس يستقبلونه، وقد أرادوا أن يحولوا بين النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وبينهم. والقسم الثانى كان فيه قتل وقتال. وفي القسم الأوّل كانت غزوات أربع خرج فيها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قبل غزوة بدر الكبرى التى هى ابتداء القسم الثانى من هذا الدور. وتلك الغزوات التى لم يكن فيها قتال هى غزوة الأبواء، وتسمى ودان وغزوة بواط، وغزوة العشيرة وغزوة بدر الأولى، وكانت بينهما سرية عبد الله بن جحش. والغزوات الثلاث الأولى كانت في الطريق بين المدينة المنورة ومكة المكرمة، وأما بدر فكانت قرب المدينة المنورة، وإن كانت على هذا الطريق.

غزوة ودان: [الأبواء]

غزوة ودان: [الأبواء] وأما ودان فقد كانت في صفر في السنة الثانية، وودان قرية كبيرة من أمهات القرى، وقريب منها الأبواء. وكانت الغزوة بينهما، ولذا صح أن تسمى بكل واحدة منهما. وهما على مقربة من الجحفة، وبين المدينة المنورة، وتبعد عن المدينة المنورة بنحو ثلاثة وعشرين فرسخا. وقد كان خروج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم في جمع من المهاجرين ليس فيهم أنصارى وسبب الخروج أنه علم أن عيرا لقريش قد خرجت، فترصد لها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، لكن وصل بعد فصل العير عنها، ولقى بنى ضمرة، فتوادع معهم على أن ينصروا المسلمين إذا دعوهم إلى النصرة وأنهم آمنون على أموالهم وأنفسهم، وأن على المسلمين نصرهم على من يعتدى عليهم. وكان الذى تولى العقد عن بنى ضمرة مخشى بن عمر «1» الضمرى وكان سيدا في قومه فى زمانه، وقد خلف النبى صلى الله تعالى عليه وسلم سعد بن عبادة على المدينة المنورة. وقد أقام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بقية صفر، وكانت غيبته عن المدينة المنورة خمس عشرة ليلة «2» . غزوة بواط: 365- فى ربيع الأوّل بلغ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن عيرا لقريش مقبلة من الشام، أميرها أمية بن خلف فيها مائة رجل، ومعها ألفا بعير وخمسمائة، فخرج إليهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في جمع مائة من المهاجرين وخلف عنه في المدينة المنورة سعد بن معاذ، وحمل لواءه سعد ابن أبى وقاص، وبواط- بفتح الواو- جبل من جبال جهينة من ناحية رضوى. ولكن الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم عند ما وصل إلى هذا المكان لم يلق كيدا. غزوة العشيرة «3» : 366- فى جمادى الأولى من هذه (السنة) علم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن عيرا لقريش ذاهبة إلى الشام، فخرج عليه الصلاة والسلام لملاقاتها، فنزل تحت شجرة ببطحاء ابن أزهر يقال

_ (1) عند ابن هشام وغيره عمرو- المراجع. (2) نهاية الأرب للنويرى ج 17 ص 4. (3) يقال عنها العسيرة والعشيرة بالمهملة، وبحذف التاء فيهما.

لها ذات السباق، فصلى عندها فكانت مسجده، وصنع للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم طعام فأكل وأكل أصحابه، ثم استقى له من ماء يقال له المشيرب، وأخذ يتابع البحث عن تلك الشعاب المتعرجة، ثم اعتدل في الطريق حتى نزل العشيرة من بطن ينبع فأقام بها، جمادى الأولى، وليالى من جمادى الآخرة. ولكن العير قد سبقت ولم يدركها، فلم يلق حربا، ولكنه عاد بتأليف القلوب، فوادع بنى مدلج ومن معهم من حلفاء لهم، فإذا كان لم يدرك العير، ولم يكسب منها مالا، فقد كسب قلوبا، وألفها، وذلك هو أوّل أعمال الرسالة المحمدية. وقد خلف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على المدينة المنورة أبا سلمة الأسدي، وحمل لواءه حمزة بن عبد المطلب، ويذكر ابن إسحاق أنه في هذه الخرجة، كنى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم على بن أبى طالب كرم الله وجهه بكنية (أبو تراب) فيقول: ويومئذ قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، (لعلى- أبو تراب) قال: فحدثنى يزيد بن خيثم ... عن عمار بن ياسر، قال كنت أنا وعلى بن أبى طالب رفيقين في غزوة العشيرة من بطن ينبع، فلما نزل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أقام بها شهرا، فصالح بنى مدلج وحلفاءهم من بنى ضمرة، فوادعهم فقال لى على بن أبى طالب رضى الله عنه: هل لك يا أبا اليقظان أن هؤلاء النفر من بنى مدلج يعملون في عين لهم ننظر كيف يعملون، فأتيناهم، فنظر إليهم ساعة، فغشينا النوم، فعمدنا إلى صور من النخل في دقعاء من الأرض، فنمنا فيه، فو الله ما أهبّنا إلا ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يحركنا بقدمه، فجلسنا. وقد تتربنا من تلك الدقعاء، فيومئذ قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لعلى: يا أبا تراب، لما عليه من التراب، فأخبرنا بما كان من أمرنا، فقال: ألا أخبركم بأشقى رجلين؟ قلنا: بلى يا رسول فقال عليه الصلاة والسلام: أحيمر ثمود الذى عقر الناقة، والذى يضربك يا على، على هذه، ووضع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم- يده على لحيته» . وقد علق على ذلك الخبر ابن كثير، فقال: «وهذا حديث غريب من هذا الوجه، له شاهد من وجه آخر في تسمية على أبا تراب، كما في صحيح البخارى: أن عليا خرج مغاضبا فاطمة، فجاء المسجد، فنام فيه، فدخل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فسأل عنه، فقالت: خرج مغاضبا، فجاء عليه الصلاة والسلام إلى المسجد فأيقظه، وجعل يمسح التراب عنه، ويقول: «قم يا أبا تراب» . ونستطرد في ذكر هذه الكنية النبوية الشريفة، فنقول أنها كانت أحب كنية إلى على كرم الله وجهه في الجنة، لأنها تسمية من حبيبه وكافله محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، ولأنها اقترنت

بدر الأولى:

بمسحه بيده الكريمة التى أزال بها التراب عن بدنه، كما أزال الغبار عن الحقائق الإنسانية بالشرع الذى حمله وبلغه للخلق. والخبران متلاقيان كما ذكر الحافظ ابن كثير. فإنهما يدلان على أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ناداه بذلك النداء الحبيب إليه في عدة مواطن. ولقد فسق ناس عن أمر ربهم، فأذاعوا بين من تبعوهم على غيهم أن هذه الكنية تدل على الحط من مكانة على عند النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فساء قولهم كما ساء فعلهم. وفي هذه الغزوة كما أشرنا وادع بنى مدلج وحلفاءهم بنى ضمرة، وقد ذكر السهيلى في الروض كتاب الموادعة بين النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وبنى ضمرة، وهذا نصه كما جاء فيه: كانت نسخة الموادعة فيما ذكر غير ابن إسحاق «بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله لبنى ضمرة، فإنهم آمنون على أموالهم وأنفسهم، وأن لهم النصر على من رامهم إلا أن يحاربوا في دين الله ما بل بحر صوفة- وأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إذا دعاهم لنصرة أجابوه. عليهم بذلك طاعة الله تعالى وذمة رسوله، ولهم النصر على من بر منهم واتقى» . بدر الأولى: 367- أقام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في العشيرة ليالى من جمادى الأولي، وبعض ليال من جمادى الآخرة كما ذكرنا، ثم عاد إلى المدينة المنورة، ولكنه لم يقم فيها إلا ليالى قلائل حتى أحس بشبه غارة أزمعتها قريش على المدينة المنورة لتوهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أنه لا تزال عندهم همة للقتال ولم تكفكف عزيمتهم تلك الإنذارات التى قام بها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ومن أرسله، فقد أغار كرز بن فهر القرشى على سرح المدينة المنورة أى على فنائها فخرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إليه واستعمل على المدينة المنورة زيد بن حارثة، وسار رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، حتى بلغ واديا يقال له صفوان من ناحية بدر، ولكن كرزا ومن معه نجوا بأنفسهم، فلم يدركهم جيش الإيمان والفضيلة، ثم رجع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى المدينة المنورة فأقام بها بقية جمادى ورجب وشعبان، وتسمى هذه الغزوة التى لم يلق رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قتالا فيها بغزوة بدر الأولى، وهى في مقابل غزوة بدر الكبرى التى سماها الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم يوم الفرقان، إذ جعل الله تعالى فيه الكلمة العليا لله والحق والإيمان، والكلمة السفلى للشيطان والكفر، ولقد كان حامل لوائه في بدر الأولى سيف الله على بن أبى طالب.

سرية عبد الله بن جحش:

سرية عبد الله بن جحش: 368- قد علمت أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عند ما جاء إلى المدينة المنورة سالم الذين يقيمون فيها، وعقد معهم الأحلاف البرة من جانبه عليه الصلاة والسلام، وقد رأيت أن غزواته صلى الله تعالى عليه وسلم الأولى لم يكن فيها قتال ولكن كان فيها سلم ومواثيق تؤخذ، وتأليف بين القلوب النافرة ولو استمرت على كفرها، إذ أن وراء التأليف أن تخلص النفوس بطلب الحق، فتشرق من غير أن يدخلها ظلام النفرة. ومن القبائل من كانت تجيء إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم تلقى بالمودة من غير نفاق ولا ريبة، ومنهم قبيلة جهينة فقد روى الإمام أحمد بسنده عن سعد بن أبى وقاص، أنه قال: «لما قدم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم المدينة المنورة جاءته جهينة، فقالوا: إنك قد نزلت بين أظهرنا، فأوثق حتى نأتيك وقومنا، فأوثق لهم فأسلموا فبعثنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في رجب، وكنا مائة، وأمرنا أن نغير على حى من بنى كنانة إلى جنب جهينة فأغرنا عليهم، وكانوا كثيرا، فلجأنا إلى جهينة، فمنعونا وقالوا لم تقاتلون في الشهر الحرام؟ فقلنا إنما نقاتل من أخرجنا من البلد الحرام في الشهر الحرام، فقال بعضنا لبعض ما ترون، فقال بعضنا: نأتى نبى الله فنخبره، وقال قوم: بل نقيم هاهنا، وقلت أنا (عبد الله بن جحش) فى أناس معى، لا بل نأتى عير قريش، فنقتطعها، وكان الفيء إذ ذاك من أخذ شيئا فهو له، فانطلقنا إلى العير، وانطلق أصحابنا إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فأخبروه الخبر، فقام غضبان محمر الوجه، فقال: أذهبتم من عندى جميعا، ورجعتم متفرقين، إنما أهلك من كان قبلكم الفرقة لأبعثن عليكم رجلا ليس بخير كم أصبركم على الجوع والعطش» . هذه رواية عند الإمام أحمد، وليس في سنده من عرف الطعن فيه، وقد روى مثله مع بعض زيادة فى السند البيهقى في دلائل النبوة، وزاد في متن الحديث أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم استنكر القتال في الشهر الحرام. والحديث برواية الإمامين أحمد والبيهقى يدل على ثلاثة أمور: أولها- ما جاء من أن جهينة آمنت إذ بدت البينات، واستعدت لنصرة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. وثانيا- أن المسلمين لم يقاتلوا فعلا، وإن هموا بالقتال، وترددوا عند ما نبهوا إلى الشهر الحرام.

والأمر الثالث- أنه كانت ثمة عير لقريش على أهبة القدوم، ولعل هذا هو الباعث على السرية، ومهما يكن من أمر هذه الرواية التى اتفق عليها إمامان من أئمة الحديث، فإن الأمر الذى أشارت إليه تلك الرواية هو أن السرية سارت بإمرة عبد الله بن جحش، ولكن الذين كانوا فيها على رواية ابن إسحاق كانوا ثمانية ولم يكونوا مائة، وقد عدهم بأسمائهم، وكانوا من المهاجرين، ولم يكن أحد من الأنصار، كشأن كل البعوث والغزوات التى سبق ذكرها، ولعل هذا العدد المحدود. قد قرره النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بعد أن رأى الاختلاف، ولعل عدد المائة كان من أسبابه، وكلما قل العدد بعد الاختلاف، وفي الفرقة الهلاك كما قرر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. على أن النص لا يدل على قصر العدد على ثمانية، إنما يدل على أن فيهم هؤلاء المذكورين مع عدد ليس بالقليل، وقد ذكر ابن إسحاق أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كتب كتابا لعبد الله بن جحش أمير السرية وأمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين، ثم ينظر فيه، فلما ساربهم يومين فتح الكتاب، فإذا فيه: إذا نظرت في كتابى. فامض حتى تنزل نخلة بين مكة المكرمة والطائف فترصد بها قريشا، وتعلم من الناس أخبارهم، فلما نظر في الكتاب، قال: سمعا وطاعة، وأخبر أصحابه بما في الكتاب، وقال قد نهانى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن أستكره أحدا منكم، فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق معي، ومن كره ذلك فليرجع، فأما أنا فماض. وإن هذا التخيير يدل على أن العدد لم يكن ثمانية، وإلا ما كان ذلك التخيير، فإنه لا يكون إلا في عدد كبير ولو نسبيا، ولا يمكن في العادة أن يكون في ثمانية. ولعل ذلك التخيير، ما كان من قبل الافتراق، إذ قد يكون سببه وهنا في بعض القلوب، فأراد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ألا يسير إلا من اعتزم وأراد، واستولى على قلبه، وذهب عنه الوهن أو احتماله. سارت السرية بإمرة أميرها، سالكة طريق الحجاز. ولكن ضل عنهم سعد بن أبى وقاص وعتبة بن غزوان وكانا من الثمانية المقدمين، وكان معهما بعير يعتقبان في ركوبه «1» . ولكن القافلة سارت، وكان رجاء في أن يهتديا إليها. مضى عبد الله مع من بقى من أصحابه، حتى وجد عيرا فيها من قريش ومواليهم الحضرمى ابن عبد الله بن عباد، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة المخزومى، وأخوه نوفل، والحكم بن كيسان مولى المغيرة بن شعبة.

_ (1) هنا كلام ناقص ولعله سقط في الطبع أثبته من كتب السيرة «فند، فتخلفا في طلبه ثم لحقا بالقافلة» ... المراجع

القتال في الشهر الحرام:

لما رأى السرية أصحاب العير، هابوا لقاءهم، ولكنهم رأوا عكاشة بن محصن من سرية النبوة قد حلق رأسه فأمنوا وقالوا عمّار «أى ناوون العمرة، لا بأس عليكم منهم» . تشاور الصحابة من أهل السرية، وقد كانوا في آخر رجب، وهو رابع الأشهر الحرم التى بينها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بأنها ذو القعدة وذو الحجة، والمحرم، ورجب الذى بين جمادى وشعبان. ترددوا أيقاتلون في الشهر الحرام، أم يتركونهم، هذه الليلة، وحينئذ يدخلون الحرم، فيمتنعون عليهم، ولا يمكن انتظارهم هذه الليلة الباقية، من رجب الحرام. وانتهت الشورى بالإجماع على القتال، فرمى أحد السرية عمرو بن الحضرمى فقتله. وأسروا عثمان بن عبد الله بن المغيرة والحكم بن كيسان، وأفلت من القوم، نوفل بن عبد الله. وعادت السرية بالعير والأسيرين حتى قدموا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. القتال في الشهر الحرام: 369- قدمت السرية إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بالعير والأسيرين، ولكن مع ذلك كان قتال في الشهر الحرام ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الحريص على احترام الحرمات قد تأثم من ذلك، فقال لهم عليه الصلاة والسلام: «ما أمرتكم بالقتال في الشهر الحرام» ، ووقف توزيع العير، وحبس الأسيرين، فأسقط في أيدى القوم، وظنوا أنهم قد هلكوا، وكان الكلام اللائم من إخوانهم الذين لم يشتركوا في القتال، ولم يبلوا بلاءهم. أما الأسيران فوقف عليه الصلاة والسلام إطلاقهما حتى يعود سعد بن أبى وقاص وصاحبه، فلما عادا أطلقهما. وقد قامت قائمة من التشنيع على محمد عليه الصلاة والسلام، جاهر بها المشركون من قريش، وما حركهم احترام الحرمات، والمناسك، وإنما حركهم العير التى أخذت في مقابل ما أخذوا من أموال المهاجرين، وحركهم الغيظ من أن يكون لمحمد عليه الصلاة والسلام قوة تتولى تأديبهم والقصاص منهم، وأنه قد ابتدأ أمر جديد قد انبلج فجره، فظهروا بمظهر المدافعين عن الحرمات، وأن محمدا عليه الصلاة والسلام ينتهكها وهم يصونونها، ونسوا أنهم هم الذين فتنوا المسلمين عن دينهم، وانتهكوا حرمات البيت الحرام، ونسوا أنه حرم الله سبحانه وتعالى الآمن غير مفرقين في هذا الإيذاء بين شهر حرام وشهر حلال.

لماذا كانت هذه الغزوات:

واليهود قد وجدوها فرصة لائحة تشفى غيظهم، فأخذوا ينثرون من أفواههم ما تنغر به قلوبهم من إحن وعداوة للإسلام أخفوها ابتداء، ولكن بدت من أفواههم رغم أنوفهم. وما تخفى صدورهم أكبر. حدث هذا، والمجاهدون الأطهار تكاد نفوسهم تذهب حسرات حتى نزل قول الله سبحانه وتعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ، قِتالٍ فِيهِ، قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ، وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ، وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ، وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ، وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا (البقرة- 217) . كانت هذه الآيات الكريمات بردا وسلاما للمؤمنين، وردا قاطعا حاسما للكافرين، وإنه ليس لأولئك الذين انتهكوا الحرمات، من كفر بالله وبالمسجد الحرام وصد عن سبيل الله سبحانه وتعالى، وقتل فى البيت الحرام- أن يتكلموا في انتهاك الأشهر الحرم. على أنه يجب أن يعلم أن الذين ابتدأوا بالقتال هم المشركون، فقد أغاروا ابتداء على فناء المدينة المنورة، نعم إنهم لم ينالوا مأربا، وفروا فرارا، فهل كان لأهل الإيمان أن يتركوهم ليعيدوا الكرة عليهم، لا يمكن أن يتركوهم ليغزوهم في عقر دارهم. ومهما يكن من الأمر، فقد كانت هذه الغزوة إرهاصا لبدر الكبرى، فقد كانت العير هى التى استولى عليها المؤمنون. لماذا كانت هذه الغزوات: 370- قد خرجت غزوات النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ثلاث مرات، وخرجت أربع سريات لم يحصل قتال في السرايا، ولا في الغزوات إلا سهما أرسله سعد بن أبى وقاص في سرية عبيدة ابن الحارث بن عبد المطلب، وسهما قتل ابن الحضرمى في سرية عبد الله بن جحش، وكانت سهما عائرة، لأخذ العير، ولا يمكن أن يسمى ذلك قتالا، إنما يسمى محاولة لأخذ مال هو من بين ما اغتصبه المشركون من المؤمنين، إذ أخرجوا من ديارهم وأموالهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله. إذا لم يكن قتال بمعنى كلمة قتال التى تكون مفاعلة من الجانبين، فلماذا كلف النبى صلى الله تعالى عليه وسلم نفسه ورجاله مئونة هذا الخروج؟ ونقول في الإجابة عن ذلك: أ- أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم خرج من مكة المكرمة، وهو هضيم، أو شبه مطرود في ظاهر الأمر، وما هو إلا ليجمع قوة الحق، فكان لابد أن يعمل على إظهار ما أيده الله سبحانه وتعالى به من قوة، تستطيع أن تشعر الظالمين بأن للحق شوكة، وأنهم إذا لم يتركوا الدعوة في طريقها رغبا، فإنهم لا بد أن

يتركوها رهبا، ولا بد للحق في هذه من صولة تكف أذى الباطل، أو على الأقل تجعل الباطل يتردد عند إنزال أذاه، وأنه إن لم يخش صوت الضمير، فإنه يخشى صلصلة السيوف. فكانت هذه السرايا، وتلك الغزوات مظاهر من صولة الحق ليتركوا الدعوة إلى الحق تسير في سبيلها، ولتستيقظ ضمائر كانت نائمة، فمن الضمائر ما لا يستمع لصوت الحق الوادع الرفيق، ولكنه يستيقظ إذا رأى جلجلة القوة، فيخفف من حدة الأذى، ويتبع ذلك أن يسير في طريق الهداية إن لم يكن الضلال قد كتب عليه. ب- وإنه إذا لم يكن قتال، فقد كان هنا دراسة للمؤمنين في البلاد العربية يتعرفون وهادها، وجبالها، ويدرسون مجاهلها، فيعرفها من لم يكن يعرفها، ويلتقون فيها بالأعراب في أخبيتهم، ومساكنهم، وفي ذلك إعلان الدعوة لمن لم يكن يعلمها، وتوجيه العقول إليها وتوضيحها وبيانها. وإن في هذه الجولات التى كان يجولها أولئك المؤمنون في السرايا التى بعث بها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم تعرفا لمساير عير قريش، وما كانت إلا للتجار الأغنياء فيهم، فما كان للشعب فيها إلا النزر اليسير، وما كانت تلك البعوث التى تتبع عير قريش لأخذها، إلا ليكون هذا بدل ما اغتصبوا، وقد قلت من قبل، إن ذلك لم يكن حصارا اقتصاديا، كما يجرى في عبارات الكاتبين والمحاربين والسياسيين في هذا الحصار. كالذى تجرى كلماته في عصرنا يقصد به التضييق على الأمة التى يعادونها في موارد رزقها، فلا يرسل إليها طعام، ولا المواد الضرورية للحياة والعمران، بحيث يعم الضيق الشعب كله، وما كان ذلك في سرايا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ولا في غزواته إنما كان الاتجاه إلى محاربة التجار الذين كانوا يقومون بالتجارة، وجلهم أو كلهم ممن حاربوا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم واشتركوا في إيذاء أصحابه، وإخراجهم من أموالهم وديارهم، فما كان فعله عليه الصلاة والسلام حربا اقتصادية تعم البرىء والسقيم، بل هو مصادرة لمال ظالم اغتصب أموال المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله كما تلونا الآيات من قبل ذلك. ج- وإن غزوات النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مع ما فيها من نشر الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى بالحكمة والموعظة الحسنة كان فيها تأليف للقلوب، ففيها عقدت اتفاقات على النصرة والإيواء، ففى غزوة الأبواء (ودان) اتفق عليه الصلاة والسلام مع بنى ضمرة على أن ينصروه إذا دعاهم إلى النصرة وينصرهم إذا دعوه. وفي غزوة العشيرة عقد مع بنى مدلج، وحلفائهم من بنى ضمرة اتفاقا على المناصرة بينه عليه الصلاة والسلام وبينهم ووثقه بكتاب كتب، كما نقلناه من قبل من الروض الأنف للسهيلى.

وإذا كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لم يغز لحرب، فقد غزا قلوبا، وألفها لتكون قوة لأهل الحق، وليدخل الإيمان إلى قلوبهم، لأن تالف القلوب هو السبيل إلى دخول الحق إليها لكيلا تنفر، فتعمى. ويلاحظ أن هذه البعوث كلها كان جنودها من المهاجرين، فأمراؤها من المهاجرين، وغزوات النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان الجنود فيها من المهاجرين، ولم يكن فيهم من الأنصار أحد، فلم يندب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أحدا من الأنصار إلا في بدر، ولماذا كان ذلك! لا بد أنه كان مقصودا منه صلى الله تعالى عليه وسلم، ولم يجيء إذا اتفاقيا من غير قصد له بالذات. والجواب عن ذلك: أولا: إن المهاجرين هم الذين أوذوا في أبدانهم وكراماتهم من أولئك المشركين، فهم أشد الناس رغبة في القصاص ممن آذوهم والقصاص شريعة لحكمهم، فكانوا أولى بلقاء قريش من غيرهم، ولأنهم هم الذين استضعفوا وأراد المشركون إذلالهم، فكانوا في لقائهم بالمشركين وفرارهم منهم أشد تبيينا لبيان أن الحق قد علا، وأنهم مكن لهم في الأرض، وإن ذلك يكون أروع وأوقع، وماذا تكون حال الصناديد من قريش إذا رأوا عمار بن ياسر وقد أوذى هو وأبوه وماتت أمه تحت حر العذاب، حتى قال لهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «اصبروا آل ياسر فإن موعدكم الجنة» ، فماذا يكون وقع ذلك في نفوس الغلاظ إذا رأوا عمارا العملاق واقفا لهم بتمكين الله سبحانه وتعالى. ثانيا: إن الذين أخرجوا من أموالهم وديارهم هم المهاجرون، فكانوا أحق الناس بأن يطالبوا بمالهم الذى اغتصب، وديارهم التى خربت، وأن يكفوا عن أهليهم وضعفائهم الذين لم يهاجروا شر أولئك العتاة أو يعطوهم وبال أمرهم جزاء بما اكتسبوا. ثالثا: وهو عمدة الأسباب وقوتها- أن عهد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان على الإيواء والنصرة وأن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم ونساءهم وذرياتهم، ولم يكن في ذلك النص على أن يخرجوا معه في حرب، وإن فهم ضمنا أنهم يكونون معه في الحرب والسلم، فلم يرد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يخرجوا معه في غير ما نص عليه العقد نصا صريحا لا تأويل فيه، ولذا لم يدعهم إلى الخروج معه في هذه الغزوات وتلك السرايا، وكان في المهاجرين غناء بالنسبة لهذا الغزو المحدود. ولذلك لما جد الجد، وجاء جيش كثيف من المشركين عدته تجاوزت الألف استشارهم، لتكون الإجابة رضا بأن يشتركوا في الحرب، وتلك الاستشارة كانت عند الإقدام من قريش برجلها وعتادها وفرسها، فكانوا عند رجاء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فيهم، وعلى ما دفعهم إليه إيمانهم، وهو أوثق العهود.

تحويل القبلة وفرض الصوم

تحويل القبلة وفرض الصوم 371- لم يكن عمل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم الحرب وإرسال البعوث، وعقد المعاهدات، وتنظيم شئون المدينة المنورة وما حولها. لم يكن ذلك عمل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فقط، بل كان عمل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مع ذلك تنظيم الدولة بوحى من الله سبحانه وتعالى، فما كان ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحى يوحى، فأصل الجهاد بوحى من الله سبحانه وتعالى، ولكن الترتيبات الجزئية والترتيبات التنفيذية، وكل ذلك إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ليقوم بمثله من بعده عند انقطاع الوحى، وله في رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أسوة حسنة، ولم يكن تنظيم الدولة فقط، بل كانت التكليفات التى يتلقاها عن الله سبحانه وتعالى من العبادات، والتكليفات الاجتماعية التى من شأنها أن تربى روحا قوية لتجعل من أتباع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قوة متحدة، فى نظام اجتماعى متماسك قوى تربطه أشد عناصر الترابط الاجتماعى الذى يكون مجتمعا متكافلا. ولذلك كانت الفترة ما بين جمادى الآخرة، أو بالأحرى ما بين رجب ورمضان، أو الشطر الأكبر منه كانت تلك الفترة زمان شرعية أمور من العبادة، تتصل بتقوية النفس وتقوية المجتمع. وفي هذه الفترة شرع تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة الشريفة، وفي هذه الفترة فرض صوم رمضان، وفرض مع صوم رمضان صدقة الفطر، وهما فرضان اجتماعيان كما سنبين. وتحويل القبلة إيذان من الله سبحانه وتعالى بإزالة الأصنام، أو الأخذ في أسباب هذه الإزالة. تحويل القبلة إلى الكعبة الشريفة 372- عند ما فرضت الصلاة بعد الإسراء والمعراج على أنها خمس صلوات، وإن كان لها ثواب خمسين صلاة، إن أقيمت على وجهها، كانت قبلة المسلمين إلى الشام إلى بيت المقدس، ولكن تتوسط الكعبة الشريفة، فيكون الاتجاه إلى الكعبة الشريفة على ناحية بيت المقدس، فكان المصلى يجمع في صلاته بين القبلتين بأمر ربه. ولما هاجر إلى المدينة المنورة لم يكن الجمع ممكنا، بل لا بد من استدبار إحدى القبلتين، وقد ترك النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مكة المكرمة، والكعبة الشريفة تحيط بها الأوثان، ولم يكن ثمة ما يؤذن من الأمور بزوالها، فكان استقبالها لا يخلو من استقبال الأوثان المحيطة بها، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان حريصا على أن تكون الكعبة الشريفة هى القبلة، وحريصا على أن تزول الأصنام عنها.

وقد أمره الله سبحانه وتعالى بأن تكون القبلة إلى بيت المقدس مؤقتا، لأن الله سبحانه وتعالى لم يؤذن بأن تخرج الكعبة الشريفة عما هى عليه، ولعل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم علم بأمر ربه رأى أن استقبال بيت المقدس، واستدبار الكعبة الشريفة أمر مؤقت وأن النهاية إلى الكعبة الشريفة، وأن الاتجاه إليها إيذان بذهاب دولة الأوثان، وطهارة البيت الحرام. ولذلك كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يضرع إلى الله سبحانه وتعالى أن يقرب الوقت الموعود بالعودة إلى الكعبة الشريفة، لأن العودة إلى الكعبة الشريفة عودة إلى كعبة إبراهيم أبى الأنبياء، ولأن الاتجاه إليها إيذان بنصر الله سبحانه وتعالى، وإيذان بإزالة الأوثان بعد زمن طال أو قصر، وإن كان في عمر السنين والحساب ليس كثيرا. وفي هذا الوقت كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يضرع إلى الله سبحانه وتعالى أن يقرب البعيد، وكان اليهود يتوهمون أن جعل القبلة إلى بيت المقدس معناه أن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم لا يكون خارجا عن أنبياء بنى إسرائيل، وهو وهم باطل سكن في نفوسهم التى تتخيل ثم تخال ثم تعتقد، كشأن أصحاب الديانات الذين لا يؤمنون بالديانة إلا على أن تكون أمانى لهم أو تتفق مع أمانيهم. قبيل بدر كان الإيذان بزوال دولة الأوثان التى كان يومها يوم الفرقان، قد أذن الله سبحانه وتعالى بتحويل القبلة إلى الكعبة الشريفة، أو بالأحرى إعادة القبلة إلى الكعبة الشريفة، إذ نزل قول الله سبحانه وتعالى: «سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها، قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ، يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ، وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً، وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ، وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ، وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ، إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ. قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ، فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها، فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ، وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ، وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ، وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ. وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ، وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ، وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ» (البقرة- 142: 145) . كان تحويل القبلة إلى الكعبة الشريفة، بهذا النص وهو يدل على أمرين:

أحدهما: أن أهل الكتاب هم الذين كانوا يقولون: ما ولاهم عن قبلتهم التى كانوا عليها، وأنهم كانوا فرحين، إذ أن المؤمنين كانوا يتبعون قبلة بيت المقدس. ثانيهما: أن نص الآية يشير إلى أن جعل القبلة إلى بيت المقدس كان حكما مؤقتا يزول بزوال سببه، ولذلك لا نعتقد أنه نسخ، ولكنه انتهاء حكم مؤقت بانتهاء وقته المعلوم، وقد بين الله سبحانه وتعالى ذلك. بقى أن تعرف الميقات الذى كان فيه التحويل!! لقد رويت في هذا روايات ظاهرها الاختلاف، ولكن الاتفاق على أنها كانت بعد جمادى الآخرة، والاختلاف أكان ذلك التحويل في رجب أم كان فى شعبان فروى عن قتادة وزيد بن أسلم وعبد الله بن عباس أن ذلك كان في رجب، وروى أنه كان في شعبان، وكلام ابن إسحاق يوميء إلى ذلك، إذ يقول إنها كانت بعد سرية عبد الله بن جحش، وما كانت في آخر رجب ويقول في هذا المقام: «قال ابن إسحاق كانت بعد غزوة عبد الله بن جحش، ويقال صرفت القبلة في شعبان على رأس ثمانية عشر شهرا من مقدم رسول الله، صلى الله تعالى عليه وسلم. وحكى هذا القول ابن جرير عن ابن عباس، وناس من الصحابة.. قال الجمهور الأعظم: إنما حولت في النصف من شعبان، على رأس ثمانية عشر شهرا من الهجرة.. وعن محمد بن سعد الواقدى أنها حولت يوم الثلاثاء في النصف من شعبان. ومهما يكن فقد ذكر الحافظ ابن كثير، أنه يميل إلى هذه الرواية التى تقول إنها في النصف من شعبان وذلك لأنه رأى الجمهور الأعظم، كما يقرر ابن كثير، وما كان الجمهور ليتجه إلى رواية إلا إذا ثبتت لديه صحتها، ورأينا دائما أن ما يتلقاه الناس وفيهم العلماء بالقبول لا يرد إلا إذا ثبت بدليل قاطع أو راجح بطلانه. وإننا قد رأينا أن نصف شعبان يحتفل به المسلمون على أساس أنه يوم مبارك، والاحتفال به يتفق مع كونه اليوم الذى تحولت فيه القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة الشريفة، وكلاهما مقدس، إذ هو فرحة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. وعلى أننا نلاحظ أن ابن كثير قدر المدة بين الهجرة، أو مقدم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بثمانية عشر شهرا، وإنه باستقراء عدد الأشهر من وقت مقدم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى منتصف شعبان لا يكون قد مضى ثمانية عشر شهرا، ذلك أن الهجرة كانت في ليلة الثانى عشر من ربيع الأوّل، فإذا احتسبنا ربيع الثانى وجمادى الأولى والآخرة، ورجبا يكون سبعة عشر شهرا وأياما.

صوم رمضان

صوم رمضان 373- هذا ما يتعلق بالقبلة، أما فريضة صوم رمضان، فقد روى ابن جرير أن ذلك كان في شعبان كما كان فيه تحويل القبلة إلى الكعبة الشريفة، فهو شهر مبارك. وقد روى أن فريضة الصوم أخذت ثلاثة أدوار: الدور الأوّل: كانت عند ما قدم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم المدينة المنورة، فقد وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فسألهم عنه، فقالوا: هذا يوم نجى الله سبحانه وتعالى فيه موسى، فقال عليه الصلاة والسلام: نحن أحق بموسى منكم، فصامه، وأمر الناس بصيامه. هذا هو الدور الأوّل، وقد يفهم منه أن ذلك كان باجتهاد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ونحن لا بد أن نقدر مع ذلك وحى الله سبحانه وتعالى، وإلا ما كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ليأمر الناس بعبادة إن لم يكن قد نزل وحى الله سبحانه وتعالى بذلك. الدور الثانى: عند ما نزل قول الله سبحانه وتعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ، كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ، فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ، فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ، وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (البقرة- 183، 184) . وقد قال ابن كثير في هذا الدور أنه كان المؤمن بخيار بين أن يصوم، وبين أن يفطر، وهذا نص قوله في هذا الدور، فكان من شاء صام، ومن شاء أطعم مسكينا، فأجزأ عنه. وفي ذلك نظر سنبديه، إن شاء الله تعالى بعد ذكر الدور الثالث. الدور الثالث: هو فريضة الصيام في شهر رمضان، فقد قال الله سبحانه وتعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ، وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ، فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ، وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ، فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ، وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ، وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ، وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (البقرة- 185) . ويذكر ابن كثير في هذا الدور حالين: إحداهما: أنهم كانوا يأكلون ويشربون حتى يناموا، فإذا ناموا امتنعوا.

والحال الثانية: وهى الأخيرة أن الله سبحانه وتعالى أباح لهم الرفث إلى نسائهم وأن يأكلوا ويشربوا حتى يتبين لهم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، وقد بين الله سبحانه وتعالى هذه الحال الأخيرة بقوله سبحانه وتعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ، هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ، وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ، عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ، وَعَفا عَنْكُمْ، فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ، وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا، حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ، ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ، وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ، تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها، كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (البقرة- 187) . ولنا أن ننظر في كلام الحافظ ابن كثير من نواح عدة: الأولى: أنه ذكر أنه عند فريضة الصوم كان المؤمن مخيرا بين أن يصوم، وأن يفطر، ويقدم فدية طعام مسكين، ولعله فهم هذا من قول الله سبحانه وتعالى: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ ونحن نرى متبعين للسلف أو على الأقل لبعضهم أنه لم يكن تخيير بين الصوم والإفطار- أولا، لأن ذلك ينافى الفريضة، وقد ثبتت الفريضة مؤكدة في قول الله سبحانه وتعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ، كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ (البقرة: 183، 184) . فقد تأكدت الفريضة بالتعبير عنها «بكتب» وبيان أن فريضة الصيام شريعة أزلية، دائمة كتبت على المؤمنين، كما كتبت على غيرهم، ثم أفاد كلام الله سبحانه وتعالى أنها ذريعة إلى تقوى الله، وتقوى الله مطلوبة في كل الأحوال. الثانية: أن الله سبحانه وتعالى فرض على المترخص بالسفر أو المريض أن يصوم في أيام أخر، فدل على أن الأيام محدودة معلوم وقتها، وعلى أنها لا تفوت وتترك إذا كانت أعذار، بل يجب أن تقضي، ولو كان ثمة تخيير لذكر التخيير هنا وما وجب القضاء في أيام أخر، ويكون ذلك للمسافر أو المريض المقيم. والثالثة: أن آية كتب عليكم الصيام، فى سياقها شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ (البقرة: 185) فلا يعقل أن تكون آيتان في نص واحد، إحداهما ناسخة والآخرى منسوخة، بل المعنى المتسق هو أن يكون قول الله سبحانه وتعالى شهر رمضان بيانا للأيام المعدودة. والرابعة: أن قول الله سبحانه وتعالى: «يطيقونه» ، معناها الذين يبلغون أقصى الطاقة في الصوم، ولا قبل لهم بالإعادة من بعد، فإن عليهم الفدية، وقد روى أن هذا النص ينطبق على الشيخ والشيخة

فريضة زكاة الفطر

اللذين يبلغان أقصى الطاقة في الصوم، وقد روى ذلك عن ابن عباس، ومثلهما الزمن والمريض بمرض لا رجاء في البرء منه. والخامسة: أن قول الله سبحانه وتعالى: فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ (البقرة: 184) لا تدل على التخيير، لأن الواضح منها هو صوم التطوع، لا صوم الفريضة. بقى أن ننظر نظرة فاحصة فيما ذكره من أنه بعد الفريضة، كان الفرض أن يمنع الأكل والشرب، والرفث إلى أزواجهم بعد النوم، وأنه من بعد ذلك أبيح إلى الفجر، ونقول في ذلك إنه لم يثبت من نص قرآنى، ولا من حديث نبوى أنه بمجرد النوم تنتهى إباحة الأكل والشرب، وغيرهما، بل الثابت أنهم فعلوا ذلك، أو أن بعضهم على التحقيق فعل ذلك، أكان هذا من فهم فهموه، أم من نص أدركوه، وإذا كنا نبحث عن النص المروى في ذلك عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فلا نجده فإن الراجح أن يكون ذلك من فهمهم لفرط تورعهم، ويرشح لهذا المعنى قول الله سبحانه وتعالى: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ (البقرة: 187) والمعنى أنكم تريدون صيانة أنفسكم، وقد فسر الراغب الأصفهانى الاختيان بأنه مرارة الخيانة، وإنى أرى أن خيانة النفس بتكليفها ما لا تطيق. ولهذا أرى أن ذلك فهم فهموه، فصحح القرآن الكريم الأمر ووضحه وبينه فلم تكن هذه حالا جديدة. وإنى أعتقد مؤمنا أن الآيات الكريمة من أوّل فريضة الصيام إلى آخر الآيات الكريمة المتعلقة به نسق واحد، ليس فيها ناسخ ومنسوخ، والله أعلم. فريضة زكاة الفطر 374- وفي هذه السنة فرض الله سبحانه وتعالى زكاة الفطر، ويبدو من سياق الحوادث أنها كانت تابعة لفريضة الصوم، ولذلك روى أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم خطب بفرض صدقة الفطر، قبل الإفطار في رمضان هذه السنة بيوم أو يومين، وقال الحافظ ابن كثير: وفيها أى في السنة الثانية صلى النبى عليه الصلاة والسلام صلاة العيد، وخرج بالناس فصلى بالناس إلى المصلى، فكانت أوّل صلاة عيد، وخرج بالناس إلى المصلى وصلاها، وخرجوا بين يديه بالحربة، وكانت للزبير وهبها له النجاشي، فكانت تحمل بين يدى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في الأعياد. وكان حملها بين يدى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في مجتمع الأعياد الجامع، إشعارا بالوحدة الجماعية التى تقوم بالعبادة، وأنها قوية عزيزة بعون الله سبحانه وتعالى لا ذلة فيها، بل فيها العزة والكرامة.

وأن زكاة الفطر يبدو من السياق التاريخى أنها شرعت بعد واقعة بدر الكبرى، لأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم خطب بها قبل عيد الفطر بيوم أو يومين. أما الصوم، فمن المؤكد أنه فرض قبل يوم الفرقان في شعبان على الأرجح. وأن من الرواة المتأخرين من يقول: إن الزكاة التى تفرض في المال، وتسمى زكاة المال قد فرضت فى هذه السنة، فيقول: وفي هذه السنة- أى السنة الثانية- فرضت الزكاة ذات النصب كما ذكر غير واحد من المتأخرين. وقبل أن ننهى الكلام في رمضان وصدقة الفطر نذكر أمرين جديرين بالنظر: أولهما: أن صريح الأحاديث الواردة في صدقة الفطر يفيد بأنها فرض، ليست سنة مؤكدة، ولا واجبة وجوبا دون الفرض، كما يقرر الحنفية، ولقد روى الترمذى بسنده أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بعث مناديا في حجاج مكة المكرمة «ألا إن صدقة الفطر واجبة على كل مسلم ذكر وأنثى، حر وعبد، صغير أو كبير» أى أنه يجب على الغنى أن يدفع زكاة كل واحد من هؤلاء لأنه يمونهم. ولقد قال ابن القيم: «وكان من هديه صلى الله تعالى عليه وسلم تخصيص المساكين بصدقة الفطر، ولم يكن يقسمها على الأصناف الثمانية أى المذكورة في قوله سبحانه وتعالى: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ (التوبة- 60) ولا أمر بذلك، ولا فعله أحد من أصحابه، ولا من بعدهم، بل أحد القولين عندنا (أى الحنابلة) أنه لا يجوز إخراجها إلا على المساكين عامة، وهذا القول أرجح. وإن هذه الصدقة فيها معنى إشراك المساكين في أفراح العيد بأن يغنوهم عن السؤال في هذا اليوم، كما ورد عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. ثانى الأمرين اللّذين يجب التنبيه إليهما: أن الصيام فرض قبل غزوة بدر يوم الفرقان، لأن الصوم، يربى ضبط النفس وينمى روح الصبر، ويعلى الإرادة، وهذه هى أدوات الجهاد النفسية، فإن عدة الجهاد هو الصبر. فكان فرضه تمهيدا لما يجىء من بعد، وهو يوم الفرقان.

يوم الفرقان بدر العظمى

يوم الفرقان بدر العظمى 375- كانت الغزوات التى قام بها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم في أوّل العام الثانى من الهجرة، والسرايا التى قام بها أصحابه بأمر منه، لإشعار قريش بأن الإسلام صارت له قوى تناويء من آذوا أهله. وحاولوا فتنة الضعفاء عن دينهم، فأرهقوهم ليحولوهم عن اعتقادهم، فلم ينالوا خيرا. وكانت ليتعرف النبى صلى الله تعالى عليه وسلم داخل البلاد العربية، ويشعرهم بوجود الإسلام، ويتألف قلوبهم ليجمعهم من بعد على كلمة الحق، وقد عقد عليه الصلاة والسلام مع بعضهم مواثيق عدم اعتداء، والنصرة لهم وبهم. وكان من بعد ذلك أن يلاقى صلى الله تعالى عليه وسلم قريشا لا بسرية يرسلها، ولكن بغزوة يغزوها بنفسه، وقد مهدت الأسباب، وعلم المشركون أنه صار للمسلمين قوة يقدرون معها عواقب أمرهم. وأنه عليه الصلاة والسلام قاطع عليهم طريق تجارتهم، فقد صارت الحرب قائمة بعد أن أخرجوا المؤمنين من ديارهم، وبعد أن هموا بقتله، وأخذوا العدة، فما أن علم بتجارة لهم ذاهبة إلى الشام أو عائدة، حتى يبادر إليها. ولما قتل عبد الله بن جحش في سريته ابن الحضرمى كما أسلفنا، وأسر المسلمون من أسروا أحس المشركون من قريش فكانوا يحصنون تجارتهم بحراس. خرجت قريش بتجارة عليها نحو أربعين مقاتلا، وسارع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قبل سرية ابن جحش ليدركها، ولكنها أفلتت، وكانت فيها أموال ذوى المال من قريش، فأخذ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يترصدها عند عودتها من الشام، وتتبع أخبار قريش وأخبارها. العير: 376- علم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن عير قريش قافلة راجعة من الشام، وفيها ثلاثون أو أربعون رجلا، فندب المسلمين إليهم، وقال عليه الصلاة والسلام: «هذه عير قريش فيها أموالهم، فاخرجوا إليها، لعل الله سبحانه وتعالى ينفلكموها» .

فخف بعضهم استجابة لنداء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وثقل بعضهم، وإن كان على استعداد، لأنهم لم يتوقعوا قتالا، كما كان في السرايا والغزوات السابقة، فإنهم لم يلتقوا بالمشركين، ولم يكن قتال. وإن أبا سفيان الذى كان على رأس العير التى حمولتها ألف بعير، كان يتخوف من أن يلقاه المسلمون فيأخذوه، كما أخذوا عير ابن الحضرمى وقتلوه، ولذلك كان يتحسس أخبار النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه، ويتعرف حركاتهم. فكان يسأل من يلقى من الركبان، حتى أصاب خبرا، بأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم استنفر أصحابه للقاء أبى سفيان، وعيره، وتأكد أن المصير الذى سيلقاه هو والعير هو ما لقيه ابن الحضرمى وعيره. وقد دفع به الحرص على عير قريش إلى أمرين: أحدهما- أنه مال عن طريق بدر، ونجا بعيره، وجاء محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ومن معه من المهاجرين فوجدوا العير قد أفلتت منهم، ولم ينالوا منها، وعلموا أن وراءها القتال. الأمر الثانى: أنه أرسل إلى قريش يستغيث بها لتحمى عيرها التى معه، وليعمل على أمن الطريق من محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وعلى أصحابه وليجهز جيشا يقضى على محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وعلى أصحابه. أرسل ضمضم بن عمرو الغفارى يبين ما تتعرض له العير، وأن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم وصحبه يتعرضون لها، فذهب ضمضم يصرخ ببطن الوادى، واقفا على بعيره وقد جدعه وحول رحله، وشق قميصه ليسترعى الناس، وينبههم إلى ما يقول، ثم قال: «يا معشر قريش اللطيمة اللطيمة «1» أموالكم مع أبى سفيان، قد عرض لها محمد في أصحابه، لا أرى أن تدركوها، الغوث، الغوث» . كانت تلك الكلمات الحارة مع المظهر الذى ظهر به دافعة القوم إلى أن يندفعوا معتزمين الدفاع عن أموالهم، وإنقاذها، فكانت قريش ما بين رجلين، رجل اعتزم أن يخرج بنفسه، وآخر ينيب عنه من يدافع عن ماله، ومال قريش كلهم، وبينما هم قد تجهزوا وأعدوا العدة بلغهم أن العير قد نجا بها أبو سفيان إذ غير الطريق كما أشرنا، فأرسل إلى قريش يبشرهم بنجاة العير، إذ قال لهم «إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم، ورجالكم وأموالكم فقد نجاها الله، فارجعوا» .

_ (1) اللطيمة: الإبل التى تحمل الحرير والطيب وغيرهما

وبذلك ذهب السبب الذى كان من أجله الخروج، ولكن لأجل الحقد والعنف في قلوب بعض المشركين، وعلى رأسهم أبو جهل أبى إلا المضى إلى بدر، فقال: «والله لا نرجع حتى نرد بدرا» . فرد كلامه بعض حلفاء بنى زهرة، وقال وهم بالجحفة: «يا بنى زهرة قد نجى الله أموالكم، وخلص لكم صاحبكم مخرمة ابن نوفل (وكان في حماة العير) وإنما كفرتم بنعمته وماله، فاجعلوا لى جبنها وارجعوا، فإنه لا حاجة لكم بأن تخرجوا على غير ضيعة، لا ما يقول هذا الرجل (أى أبو جهل) فلم يشهدها زهرى واحد» . ولم يكن بقى من قريش بطن إلا وقد نفر منهم ناس، وبنو عدى بن كعب لم يخرج منهم. وكانت محاورات في صفوف الذين خرجوا للقتال من شأنها أن توجد ترددا في الخروج، وقد قال بعضهم في محاورة لطالب بن أبى طالب، وقد استعد للخروج «لقد عرفنا يا بنى هاشم، وإن خرجتم معنا أن هواكم لمع محمد» فغضب لذلك طالب. ورجع مع من رجع. كان هذا التردد والرجوع من بعضهم بعد أن خرجت رجالات قريش للدفاع عن العير، ولا شك أن من بقى مصرا على القتال قد نهنه من عزمته ذلك الخلاف، مع رجوع بعضهم، وخصوصا أن سبب الخروج قد زال. ومهما يكن من أمر ذلك التردد فقد خرجت قريش على الصعب والذلول في خمسين وتسعمائة مقاتل معهم مائتا فرس يقودونها، وأعداد من الإبل تجاوزت الحسبة، ومعهم القيان يضربن بالدفوف، ويغنين بهجاء المسلمين. 377- لنترك هؤلاء وعيرهم وجيشهم وقيانهم، ولنذكر العطر من أخبار رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. لقد خرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بنحو تسعة وثلاثمائة أو حول هذا العدد، وكان في هذه المرة من المهاجرين والأنصار قاصدين بدرا، ليلقوا العير هنالك، فلم يدركوها، وفربها أبو سفيان مخالفا طريق بدر جاعلا بدرا على يساره، وبذلك نجا العير ومن معه. وعلم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مما تحسس من أخبار أن قريشا قد خرجت في هذا العدد بجيش لجب فيه الأفراس والإبل، وأنه إذ فر منه العير فقد لقى النفير، وإنها الحرب لا محالة. ولذلك أخذ يجمع قلوب جنده، بعد أن جمع عددا وإن كان قليلا في عدده فهو قوى في إيمانه، إنه واثق من المهاجرين والأنصار، ولكن خشى أن يفهم الأنصار أن العهد لا يلزمهم أن يخرجوا معه، بل يلزمهم العهد إن دهم في المدينة المنورة وأن ليس عليهم أن يسيروا معه لقتال عدو لم يجيء إلى بلدهم.

ذلك أن صيغة العهد أنهم قالوا: يا رسول الله- عليه الصلاة والسلام- إنا براء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع به أبناءنا ونساءنا. وربما توهم بعضهم أن هذا العهد لا يلزمهم بالخروج ولا بد من اليقين عند الحروب، لذلك أراد أن يتعرف ما في قلوب أولئك الذين آووا، وهل ينصرونه في هذا الموطن، وقد خرجوا للعير، لا للنفير. استشار رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أصحابه ليظفر بمشورة رجل حسن المشورة، وليتعرف حال جنده مهاجرين وأنصارا بصفة خاصة. استشار رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال أبو بكر وأحسن القول، وقال عمر بن الخطاب فأحسن القول، وما كان يريد قول عمر وأبى بكر، فهو مستيقن بإيمانهما وإقدامهما، ولكنه يريد من وراءهم. فقام المقداد بن عمرو واقفا وقال: يا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «امض لما أراك الله، فنحن، والله لا نقول لك، كما قالت بنو إسرائيل لموسى: «اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون» ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا معكما مقاتلون، فو الذى بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك، من دونه، حتى تبلغه» فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خيرا، ودعا له. وهنا استيقن من المهاجرين، وبقى أن يطمئن إلى الأنصار الذين قد يتوهمون أن العهد الأوّل لا يلزمهم بالخروج، فقال: أشيروا على أيها الناس (يريد الأنصار) . قال سعد بن معاذ: «والله لكأنك تريدنا يا رسول الله» قال عليه الصلاة والسلام: «أجل» . قال سعد: «لقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لما أردت، فنحن معك، فو الذى بعثك بالحق، لو استعرضت بنا هذا البحر، فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا، إنا لصبر في الحرب، صدق عند اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله» . عندئذ آمن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن الله سبحانه وتعالى قد صدق وعده، وأن معه جيشا يؤمن بالله وبالحق، وأنه لا يتردد، ولذلك سر عليه الصلاة والسلام بقول سعد، ونشطه

الجيشان

قوله، فقال عليه الصلاة والسلام: «سيروا وأبشروا، فإن الله قد وعدنى إحدى الطائفتين، والله لكأنى أنظر إلى مصارع القوم» . هذا هو جيش النبى صلى الله عليه وسلم عقد العزم، وتؤيده قوة الله سبحانه وتعالى. الجيشان 378- رأيت الجيش النبوى قد ربط نفسه وقلبه بالحق، ولكن عدده قليل، وعدته ناقصة، فلم يكن فيه إلا فرسان وأربعون بعيرا لأكثر من ثلاثمائة مجاهد، فكانوا يعتقبون البعير، يتبادله أكثر من أربعة، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم يعتقب معهم، حتى إذا كان سيره أرادوا إعفاء النبى صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: لست أقل منكم قوة، ولا أقل منكم طلبا للأجر. وجيش الشر كان خمسين وتسعمائة كما ذكرنا، وكان معهم سبعون فرسا، وكان معهم العدد الكثير الذى يركبونه والذى يذبحونه في مأكلهم، ولكنه تنقصه العزيمة والإيمان، بل الرغبة القاطعة في القتال، فالتردد فيه قد كان من كثيرين منهم، ومنهم من تورط في القتال، ولم يكن له فيه إرادة. (أ) إنهم خرجوا من أجل حماية عيرهم، ودفعتهم الرغبة في حماية حماها. إلى أن يتقدموا على الصعب والذلول لحمايتها. وإنهم إن لم يفعلوا فقدوا المال ومعه النعمة، ونالتهم المهانة في العرب، وقد أرسل إليهم أبو سفيان يذكر لهم أنه نجا بالعير، وقال: «إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم، فقد نجاها الله فارجعوا» . وإذا زال السبب فليس لهم ما يبعث حميتهم لقتال، ولكن الحقد الدفين، والحسد لبنى هاشم حرك أبا جهل، فدفعهم إلى المضى في القتال حقدا وحسدا، واندفع معه من هو على شاكلته. (ب) وجاء بنو زهرة فتخلفوا جميعا لهذا السبب، وقال قائلهم، لا حاجة لكم بأن تخرجوا في غير ضيعة، ورموا أبا جهل بالحمق والجهل. (ج) إن بعض القرشيين الأقوياء الذين لهم مكانة في قومهم ترددوا في الخروج كأمية بن خلف، فإنه امتنع عن الخروج، جاء في سيرة ابن إسحاق أن أمية بن خلف، كان قد أجمع القعود، وكان شيخا جليلا جسيما فأتاه عقبة بن أبى معيط وهو جالس في المسجد بين ظهرانى قومه بمجمرة يحملها نارا ومجمرا (أى بخورا) حتى وضعها بين يديه. ثم قال: يا أبا على استجمر فإنما أنت من النساء.

قال أمية: قبحك الله، وقبح ما جئت به- وتجهز ذلك الرجل ذو المكانة من غير حماسة، ولكن خشية الملامة، وأبو لهب الذى كان يخذل الوفود العربية في الحج عن متابعة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، امتنع عن أن يذهب إلى القتال بنفسه وأناب عنه العاصى بن هشام بن المغيرة في نظير تركه دينا له كان قد أفلس به، فجعله في نظير خروجه. ولم يذهب طالب بن أبى طالب، لأنه كما قال بعض القرشيين: كان هوى بنى هاشم مع محمد الهاشمى صلى الله تعالى عليه وسلم. وكان خروج العباس، وهو الهاشمى الأوّل غريبا لأنه كان يذهب مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عند لقائه مع الأوس والخزرج في العقبة الثانية، ويطمئن على حمايتهم للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ويبين لهم أنه في منعة من قومه، وأنهم إن لم يمنعوه، فليتركوه في حماية قومه، فما كان ليخرج ويقاتل جيش ابن أخيه. وهو يريد هزيمته، بل خرج ليدرأ عن نفسه ملامة قريش الذى يعد من كبرائها، وليكون له دائما السلطان فيهم، ولا يكون فردا ما بينهم. وإنا نحسب أن أبا سفيان نفسه لم يكن مؤمنا بضرورة هذه الحرب بدليل رسالته التى أرسلها إلى قريش. (د) وإن قريشا في جملتها خافت من الحرب، ذلك أنهم بعد أن فرغوا من جهازهم وأجمعوا المسير، ذكروا ما كان بينهم وبين بنى بكر بن عبد مناة بن كنانة من الحرب، فخشوا أن يأتوهم من ورائهم، وقال قائلهم إنا نخشى أن يأتونا من خلفنا. ونراهم قد فزعوا من الحرب، وظنوا أن ما وراءهم من عورات أكثر مما يستقبلهم من حروب، فما كانوا مؤمنين بالحرب، ولا معتزمين لها إلا ما كان ممن أعماهم الحقد والجهل والحسد- وهم أيضا كانوا يرهبون المؤمنين، ويخافونهم، وكان من بعضهم عند ما التقى الجمعان أو أوشكا على اللقاء في وقت يثبط عن القتال، وقد صار قاب قوسين أو أدنى، ولعله كان يثبط لحقن الدماء، وقد بدا من كلامه ما يدل على أنه يريد الرحم لا الحرب مع الاختلاف في العقيدة. روى ابن إسحاق بسنده، أنه لما اطمأن القوم (أى المشركون) بعثوا عمير بن وهب الجمحى فقالوا: أحزروا لنا أصحاب محمد. فاستجال بفرسه حول العسكر، ثم رجع إليهم، فقال: ثلاثمائة رجل يزيدون قليلا، أو ينقصون، ولكن أمهلونى حتى أنظر للقوم كمينا أو مددا فضرب في الوادى حتى أبعد، فلم ير شيئا، فقال: ما وجدت شيئا- ولكنه بين رهبة الموقف وأن العبرة ليست بالعدد، ولكن بقوة النفس وإرادة الموت، فقال مخاطبا الجيش، وهو على أهبة القتال:

«يا معشر قريش، البلايا تحمل المنايا، نواضح «1» يثرب تحمل الموت الناقع، قوم ليس لهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم، والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجل منكم، فإن أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك، فروا رأيكم» . سمع حكيم بن حزام ذلك القول، ومشى في الناس، فذهب إلى عتبة بن ربيعة فقال له: يا أبا الوليد إنك كبير قريش وسيدها والمطاع فيها، هل إلى أمر لا تزال تذكر فيها بخير إلى آخر الدهر، قال: وما ذاك يا حكيم، قال: ترجع بالناس، وتحمل أمر حليفك عمرو بن الحضرمى (أى الذى قتل في سرية عبد الله بن جحش) قال: قد فعلت أنت على بذلك. إنما هو حليفى، فعلى عقله. بعد ذلك مباشرة قام عتبة بن ربيعة خطيبا، وقال: يا معشر قريش، إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمدا وأصحابه شيئا، والله لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر في وجه أخيه يكره النظر إليه، قتل ابن عمه أو ابن خاله أو رجلا من عشيرته، فارجعوا وخلوا بين محمد وبين سائر العرب، فإن أصابوه فذلك الذى أردتم، وإن كان غير ذلك ألقاكم، ولم تتعرضوا منه ما يريدون. تسامع الجيش بذلك، ولكن كان أبو جهل حامل الحطب يريدها ويدفعه الحسد، فحرض عامر ابن الحضرمى أخا عمرو الذى قتله أصحاب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم على المناداة بثأره فصرخ واعمراه. فحميت النفوس واشتد الناس واجتمعوا على ما هم عليه من الشر. وننتهى من هذا إلى أن إرادة الحرب كانت ضعيفة مترددة عند قريش وفي جيشها، إذ زال باعثها وداعيها وتردد ذوو الرأى فيهم، ومنهم من تنادى بالرحم ومنهم من أفزعه حال أصحاب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وإرادتهم الموت في سبيل الله سبحانه وتعالى. فكانت إرادة القتال غير ثابتة، وقوة الجيش تبتديء بالعزمة والإرادة، وما كان من بعضهم إلا انفعالة الحقد، وهى إن أجدت في الابتداء والتحريض لا تستمر عند اللقاء، وعند ما تعض الحرب بنابها، هذه حال جيش الباطل يبدو التخاذل في صفوفه، ووراء التخاذل والتردد الهزيمة لا محالة. وإنا نقول إن رحمة الله سبحانه وتعالى بأهل الإيمان أن جعل جيش الباطل يحمل في نفسه ذرائع انهزامه، وعوامل خذلانه.

_ (1) النواضح: الإبل التى يستقى بها الماء، أو تحمله.

379- ولننتقل إلى الجانب الفاضل. وهو جيش محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فقد أجمع القتال، ولم يكن الباعث عليه ما لا يبتغونه، ولا عرضا من أعراض الدنيا يريدونه، ولكنه عدو الله قد جاء إليهم، فلا بد لهم من أن يخوضوا استجابة لله سبحانه وتعالى ولرسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، وإن لهم إحدى الحسنيين، إما الغنم وإما الشهادة وكلاهما غنيمة في ذات نفسه. عند ما رأى المشركون المؤمنين بعين المتحسس منهم هالهم حالهم فاسترهبوهم، وهم القلة الذين بلغوا نحو ثلاثمائة وازدادوا تسعة، وقال ابن كثير: إنهم كانوا ثلاثة عشر وثلاثمائة عدا. وعلى ذلك أرى الله سبحانه وتعالى المؤمنين المشركين قلة يستهان بها، ولا تهولهم حالها، وقد رأى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك بالرؤيا الصادقة، ورأوهم كذلك رأى العين، وقد قال الله سبحانه وتعالى في ذلك: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا، وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ، وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ، وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ، وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا، وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا، وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (الأنفال 43- 44) . ونرى من هذا أن المشركين كانوا يهلعون من اللقاء، ويترددون ساعته إلا من ركبت الحماقة رؤوسهم، بينما المؤمنون في بشرى من الله سبحانه وتعالى، يستصغرون شأنهم، ويتقدمون غير راهبين، ولا يستنيثون إلا بالله، والله سبحانه وتعالى يلقى في نفوسهم الطمأنينة، والروحانية تظلهم والله سبحانه وتعالى يعينهم، ويمدهم في ذات أنفسهم بالملائكة وفي قلوبهم بالأمن والدعة، وهم ينامون مطمئنين واثقين بالنصر راجين ما عند الله سبحانه وتعالى ولا يستعينون إلا بذاته الكريمة، ولقد قال الله سبحانه وتعالى في حالهم، وهم مقبلون على المعركة: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ، فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ. وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ، وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً، لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ، وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ، وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ، وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ. إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ، فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا، سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ، فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (الأنفال: 9: 13) . ثم يقول سبحانه: ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (الأنفال- 18) .

جيشان قد تلاقيا أحدهما كثير العدد، والعدة، ولكنه فاقد الإيمان، حتى بالحرب التى أقدم عليها، فقد أوهن الله سبحانه وتعالى كيده وتدبيره، أوهنه بإزالة الباعث على القتال، وأوهنه بالتردد في بعض كبرائهم، وأوهنه بانفصال بعض بطونهم، وأوهنهم بإثارة الأرحام التى قطعوها، وألقى الله سبحانه وتعالى في قلوبهم الرعب عند ما التقى الجمعان. هذه حالهم، أما حال المؤمنين فإرادة مؤمنة مجمعة، وبشرى من الله سبحانه وتعالى بالملائكة وإيحاء إلى الملائكة بتثبيت المسلمين وإلقاء الطمأنينة في قلوبهم، حتى غشاهم النعاس أمنة، وأرسل لهم المطر خفيفا لتثبت الأرض تحت أقدامهم، واستبدلوا بطلب العير طلب العزة، فقد أرادوا المال ابتداء، ثم أرادوا إعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى، كانوا يودون المال، وبعزة الله سبحانه وتعالى أرادوا القوة والعلياء، كما قال الله سبحانه وتعالى: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ، وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ (الأنفال- 7) ، جيشان درع أحدهما بالعدد والعدة مع الوهن، والثانى درع بالعزيمة والإيمان والصبر، والرغبة في الشهادة، وإنها إحدى الحسنيين، فإما نالوها، وإما نالوا النصر، وفي كليهما الغنم الكثير. فهل هما متكافئان؟ أقول إن أهل الخبرة في الحروب يقولون إنهما غير متكافئين، ذلك أن قواد الحروب في القرنين الحاضر والسابق قدروا أثر القوة الحربية المادية بالنسبة للقوة المعنوية بواحد إلى ثلاثة أى أن نتائج النصر أو الهزيمة يكون للقوة المادية فيها الربع. وللقوة المعنوية الروحية ثلاثة الأرباع، وإذا كان عدد المشركين ألفا فهو ألف، أما عدد المؤمنين في ميزان القوة فهو مائتان وألف على الأقل فوق تأييد الله سبحانه وتعالى بالملائكة إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا (الأنفال: 12) ، وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى (الأنفال- 17) . وإن تقدير النسبة بين قوة المادية إلى قوة الروح بواحد إلى ثلاثة هو تقدير أهل الخبرة، وهم يخطئون ويصيبون، أما تقدير الله سبحانه وتعالى فهو أعلى من ذلك إذ قدر الواحد من أهل الإيمان في حال القوة التى لا ضعف معها، بعشرة من أهل الكفر، فقال الله سبحانه وتعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ، وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ، إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ، وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ. الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ، وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً، فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ، وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ، وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (الأنفال- 64، 65) .

التقاء الجمعين يوم الفرقان

ونرى من هذا النص أن القوة المعنوية عشرة أمثال القوة المادية إذا لم يكن في أوساط المؤمنين ضعاف الإيمان، الذين يخالطون المؤمنين الصادقين خصوصا عند ما كان في المسلمين منافقون. لا يريدون بأهل الإيمان إلا خبالا كما قال الله سبحانه وتعالى فيهم: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ، يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ، وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ. لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ. هذا هو الضعف في الصفوف، وقد ظهر في غزوة أحد، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم يسوى الصفوف للقتال. كما قال الله سبحانه وتعالى: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ. هذه هى النسبة في حال قوة الإيمان. وألا يخالط المؤمنين نفاق قط. وهى قوة الواحد بعشرة فإذا خالط المؤمنين منافقون مع مرضى القلوب كان هناك ضعف فيكون الواحد من المؤمنين يقابل اثنين من المنافقين، فالنسبة الكبرى في حال قوة الإيمان الخالص، والنسبة الثانية إذا كان مرضى القلوب في صفوف المؤمنين، فلا ناسخ ولا منسوخ. كما يقال إن الثانية نسخت الأولى. التقاء الجمعين يوم الفرقان 380- ذهب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى بدر ليدرك العير، فلم يدركها، وأدركه النفير فلم يكن من القتال بد، وقد أقبلت قريش بخيلائها وفخرها، فتعرف النبى صلى الله تعالى عليه وسلم العدو، فقدره بين تسعمائة وألف، مما كانوا يعقرون من إبل، فقد قيل له، وقد سأل عن عددهم، فقال المسئول: إنهم كثير لا يحصون، فسأله عما ينحرون من إبل، فقال: يوم تسع، ويوم عشر. فقال: هم بين تسعمائة وألف، فكانوا خمسين وتسعمائة. وسأل عن أشراف رجالاتهم، فذكروا عتبة بن ربيعة وأخاه شيبة، وغيرهم من أشرافها، فقال عليه الصلاة والسلام لمن معه من جند المسلمين ليحثهم على القتال ويحرضهم: «هذه قريش قد ألقت إليكم أفلاذ أكبادها» . وقد نزلوا من بدر بالعدوة القصوى، وهى كثيب من الرمل مرتفع، بعيد عن بدر، ونزل أهل الإيمان بالعدوة الدنيا من بدر، وهذا ما ذكره الله سبحانه وتعالى بقوله: وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا، وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ، وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا. لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ، وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ (الأنفال- 41، 42)

كان اختيار المكان بتوفيق الله سبحانه وتعالى، لا بإرادة أحد، ولو كان بإرادتهم وأمرهم لاختلفوا في المكان والزمان، ولكن الله سبحانه وتعالى دبر الميقات، فجعله في هذا الزمان، ودبر المكان فكان هذا المكان، وكان منزل المؤمنين دهسا رمالا يعوق السير، فأنزل الله سبحانه وتعالى مطرا خفيفا لبّد الأرض، وجعلها معبدة يسهل السير فيها، وأنزل أمامهم على قريش مطرا كثيرا عوق سيرهم. روى النسائى عن مجاهد: أنزل الله سبحانه وتعالى عليهم المطر، فأطفأ الغبار، وتلبدت الأرض، وطابت به أنفسهم. جاء رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، بجيش الإيمان، فنزل على أقرب ماء من بدر، وعرض الأمر على الصحابة فجاء إليه الحباب بن منذر بن الجموح وقال: يا رسول الله أرأيت هذا المنزل، أمنزلا أنزلكه الله تعالى، ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخره، أم هو الرأى والحرب والمكيدة؟ قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: بل هو الرأى والحرب والمكيدة. قال: يا رسول الله هذا ليس بمنزل، فامض بالناس، حتى تأتى أدنى ماء من القوم، فتنزله ثم تغور «1» ما وراءه من القلب، ثم تبنى عليه حوضا فتملؤه ماء، ثم تقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون. اختار النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ذلك المنزل، وأخذ برأى الحباب بن المنذر كاملا، وبنى الحوض على البئر التى اختارها، وامتلأت ماء لأنه آل إليها كل ماء الآبار التى غورت، ورأى المشركون ذلك فأحسوا بأنها المكيدة التى تحرمهم من الماء. وقد تواجهت الفئتان وتقابل الفريقان، وحضر الخصمان، واستغاث برب العالمين سيد الأنبياء. وقد ابتدأت المناوشات بأن رجلا شرسا من بنى مخزوم أحس بمكيدة الماء، وظن أنه يستطيع أن يهدم على المؤمنين الحوض الذى بنوه، فقال: لأشربن من حوضهم، أو لأهدمنه، أو لأموتن دونه «2» ، فخرج إليه وانقض حمزة بن عبد المطلب أسد الله فانقض عليه، فلما التقيا قطع حمزة بسيفه رجله إلى نصف ساقه، ولكنه لحرصه على أن ينفذ ما أقسم عليه حبا إلى الحوض، فضربه حمزة حتى قتله. كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في الجيش كسائر جنده، ولكنه رأى أن يكون في مكان مرتفع ليشرف على حركة جنده، فاتخذ له عريشا على مرتفع من الأرض، ويروى أن سعد بن معاذ هو الذى أشار به على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. يروى ابن إسحاق بسنده أن سعد بن

_ (1) رويت في هذه الكلمة بحرف الغين، المعجمة، ومعناها تغوير ما حولها ليذهب ماؤها، ورويت بالعين ومعنى تعويرها إفسادها بما يشبه ردمها فينحصر الماء في القليب المختار. (2) هو الأسود بين عبد الأسد المخزومى.

معاذ قال: يا نبى الله، ألا نبنى لك عريشا تكون فيه ونعد عندك ركائبك، ثم نلقى عدونا، فإن أعزنا الله تعالى وأظهرنا على عدونا ذلك ما أحببنا، وإن كانت الآخرى جلست على ركائبك، فلحقت بمن وراءنا، فقد تخلف عنك أقوام يا رسول الله، ما نحن بأشد حبا لك منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حربا، ما تخلفوا عنك، يمنعك الله بهم، يناصحونك ويجاهدون معك، فأثنى عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ودعا له بخير. بنى له عليه الصلاة والسلام العريش، وكان فيه فائدة، وهو الرقابة على حركة الجند وعمله، وليكون مع الجند كله ببصره، لا مع فريق منه، فهو يراقبهم، ويعرف أعمالهم. ولا شك أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان بوجدانه وشعور العطف والرحمة بجيشه يغلب عليه الإشفاق، فعندما رأى جيش قريش ضرع إلى ربه داعيا قائلا: «اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها، تحادك وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذى وعدتنى، اللهم أحنهم «1» الغداة» . وكان أبو بكر مع رسول الله في العريش، ومعاذ بن جبل في نفر من الأنصار يطوفون حوله، والرسول صلى الله تعالى عليه وسلم دائم الدعاء والضراعة إلى ربه يقول فوق ما روينا ما رواه على بن أبى طالب رضى الله عنه: كان رسول الله يكثر الابتهال والتضرع والدعاء، ويقول فيما يدعو «اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعدها في الأرض» وجعل يهتف بربه عز وجل ويقول: «اللهم أنجز لى ما وعدتنى، اللهم نصرك» ويرفع يديه إلى السماء حتى سقط الرداء عن منكبيه، وجعل أبو بكر يلتزمه من ورائه، ويسوى عليه رداءه، ويقول مشفقا عليه من كثرة الابتهال، يا رسول الله: «بعض مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك» . وهكذا كان القائد الرشيد الحكيم لمحبته لجيشه، ولكل رجل من رجاله، ولحرصه على الأمر الباعث على الجهاد، وهو حماية الوحدانية، والقضاء على الوثنية، كان يشتد في الابتهال إلى الله سبحانه وتعالى. وبجوار ذلك كان يجتهد في بث العزيمة على القتال في جيشه الحبيب إليه، فهو يلجأ إلى جنده ليأخذ الأهبة، ويعمل على النصر، ثم يضرع إلى ربه متوكلا عليه مستغيثا، لتجتمع له ولجيشه قوة العمل، وقوة الاعتماد على الله سبحانه وتعالى الذى لا يغير أمر إلا بأمره.

_ (1) أحنهم: من الحين والهلاك.

القيادة والتنظيم

ولقد أخذ صلى الله تعالى عليه وسلم يحرض على القتال استجابة لقول الله سبحانه وتعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ (الأنفال: 65) فقال عليه الصلاة والسلام: والذى نفس محمد بيده، لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا غير مدبر إلا دخل الجنة. هذا بعض تحريض رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. وتحريض الله تعالى كان أقوى من ناحية التحذير فقد قال الله سبحانه وتعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً، فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ. وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ، فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (الأنفال- 15، 16) . وإذا كان تحريض النبى صلى الله تعالى عليه وسلم تبشيرا، فتحريض الله سبحانه وتعالى كان تحذيرا، فالأوّل بين عاقبة الخير إن أقدموا. وكلام الله سبحانه وتعالى يبين العاقبة السوء إذا فروا أو أحجموا. القيادة والتنظيم 381- كانت القيادة حكيمة، وكانت رحيمة، وكانت حازمة، وكانت قوية، فكان عليه الصلاة والسلام أسوة حسنة لقائد الحرب العادلة، كما هو أسوة حسنة للمؤمنين في عمله وخلقه وسننه وقد قال الله سبحانه وتعالى لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ (الأحزاب- 21) . (أ) وأوّل مظاهر قيادته الحكيمة المرشدة، أنه كان وسط الجند في القتال، فلم يكن بعيدا عنهم، بل كان يشرف عليهم ويوجههم، ويشترك في شدائد الحرب، كما يشترك في ثمراتها، سواء أكانت حلوة أم كانت مرة. روى عن على رضى الله تبارك وتعالى عنه أنه قال: «كنا إذا اشتد الخطب، وحمى الوطيس واحمرت الحدق اتقينا برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه، ولقد رأيتنى يوم بدر، ونحن نلوذ برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو أقرب إلى العدو» ، فالنبى القائد كان في المعركة ولم يكن بمنأى عنها، بنى له أصحابه عريشا، ويظهر أنه لم يستقر فيه إلا بالقدر الذى أشرف به على الجيش، وحرك الجند، ليتبعوا نظامه. ولقد رأينا من بعد قوادا مسلمين اتبعوا هديه، كصلاح الدين الأيوبى الذى كان يعيش في جيشه، وقطز الذى كان جنديا مع الجنود. فكان النصر.

وخالف طريقه ناس سموا أنفسهم قوادا كانوا يديرون دفة الحرب، وهم في قصور مشيدة، فكانت الهزيمة، وذهب جند الله بإهمالهم. (ب) وثانى مظاهر قيادة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، المساواة بينه وبين جنده، فقد كان يشعر كل جندى أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بجواره، ويتساوى معه في الحقوق والواجبات الجندية، وليس أدل على ذلك من أنه كان يتعاقب مع على بن أبى طالب ومرثد في جمل واحد، فلما جاءت نوبته في السير أرادا أن يعفياه، فرفض، وقال: لستم أقوى منى، ولا أنا أغنى عن الأجر منكم. وازن بين هذا، وبين جيوش المسلمين، وخصوصا المصريين في العصر الأخير، والأمور المفرقة التى تجعل فريقا يكتوى بنيران الحرب، والآخر ينعم بالخيرات، وينال الفخر إن كان انتصار، ولا شرف يناله الذين اكتووا بنارها، ولذلك كانت الهزيمة تتلوها أختها. (ج) وثالث مظاهر القيادة النبوية، إشعار الجند بأنهم يعملون مختارين، ولا يعملون مسخرين، وأنهم يطلبون الثواب بحربهم، وأنهم إن انتصروا بهدى الله تعالى نالوا نصرا لأنفسهم، وللحق الذى يدافعون عنه. وإن قتلوا نالوا شرف الشهادة وجنة رضوان، وما بينهم وبين دخول الجنة إلا أن يقاتلوا ويقتلوا، فهم ينالون إحدى الحسنيين، فهم يقاتلون مختارين لله وللحق، ولأنفسهم، فهم في صفقة رابحة اختاروها ولم يسخروا لها، كما قال الله سبحانه وتعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ، يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ، وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ، وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ، فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ، وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (التوبة- 111) . فالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم أودع قلب كل مؤمن من الجند بأنه يقاتل مختارا لنفسه، لا لدنيا يصيبها، ولكن لله وللحق في ذات الحق، فلم يكن أى واحد من جند الله بهداية الإيمان، وقيادة النبى عليه الصلاة والسلام مسخرا أو مجندا، ولكن كان جنديا مختارا. (د) ورابع الأمور التى لوحظت في قيادة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أنها كانت لينة مع حزمه وقوة تنظيمه، فقد كان رفيقا سهلا لينا في قيادته، لا سيطرة، ولكن قيادة رفيقة هادئة هادية مرشدة من غير إعنات ولا غلظة، فكانت القلوب مستجيبة، والأجسام لها تبع، فالتفوا حول القائد الحكيم، يفدونه، ويفدون معه الحق طوعا واختيارا، لا كرها واضطرارا، ولقد كان ذلك من رحمة النبوة، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى في قيادة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ، وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ، فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ، فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ (آل عمران- 159) .

التنظيم:

(هـ) والأمر الخامس الذى لوحظ في قيادة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم حرصه على جنده، وإشفاقه عليهم، وإعظامه لأمر آحادهم وجماعتهم، كما ثبت في ضراعته لربه، وخوفه عليهم، فلم يكن الجند معه إلا الأحباب والأولياء، ودعاة الحق وهداته، وأنهم عصابة الله إن هلكوا لا يعبد الله في الأرض، فتتربى فيهم عزة، ويحسون بأنهم موضع المحبة. وإذا أحسوا بذلك باعوا أنفسهم لله، فلم ينظر إليهم القائد الحكيم كما ينظر بعض قواد المسلمين اليوم، على أنهم أدوات للحرب، كالاتها. (و) وسادس الأمور التى لوحظت في قيادة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إشراكهم معه فى تحمل التبعة بالشورى يقيمها فيهم، كأمر الله سبحانه وتعالى بقوله فيما تلونا «وشاورهم في الأمر» إن الشورى مع الجند، تجعل الجندى يحس بتحمل التبعة، وأنه ذو رأى في توجيهاته، وذلك يوجد فيه عزة الجندى المتحمل للتبعة وليس كالآلة المتحركة، وفوق ذلك يشارك في تدبير القتال، فيزداد قوة نفس، ومن قوة النفس تكون الإرادة الحازمة الراغبة غير المترددة. بهذه القيادة الحكيمة اللينة الحازمة، الرقيقة الرحيمة، تربى جند الله تعالى. فكان النصر والغلب. التنظيم: 382- أول ما اتجه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في تنظيم جيشه جعله صفوفا متتالية أمام العدو، وذلك كقول الله سبحانه وتعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (الصف- 4) . فهذا توجيه من الله تعالى في القيادة إلى أن يصف الجنود صفوفا، وإن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم هو الذى يبين القرآن الكريم بعمله، وقوله، إن احتاج القرآن الكريم إلى بيان. وأوّل معركة في الحرب النبوية كانت بدرا الكبرى، فطبق نظام الصف الذى يحبه الله سبحانه وتعالى. روى ابن إسحاق بسنده أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عدل صفوف أصحابه، وفي يده قدح يعدل به القوم، فمر بسواد بن غزية، وهو مستنتل «1» من الصف، فطعن عليه الصلاة والسلام فى بطنه بالقدح قائلا: استويا سواد، فقال: يا رسول الله أوجعتنى، وقد بعثك الله تعالى بالحق والعدل، فأقدنى «2» . فكشف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن بطنه، وقال: استقد قال: فاعتنقه فقبل

_ (1) مستنتل: معناها متقدم في الصف، وفي رواية مستنصل ومعناها خارج من الصف. (2) أي مكني من القصاص.

بطنه!! فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ما حملك على هذا يا سواد؟ قال: يا رسول الله، حضر ما ترى، فأردت أن يكون آخر العهد بك يمس جلدى جلدك، فدعا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم له بخير. وأصدر أمره إلى جيشه جيش الإيمان ألا يحمل على العدو إلا عند ما يصدر إليهم الأمر بذلك. وأمرهم أن ينضحوهم، فلا يقاتلون مهاجمين حتى يصدر أمره عليه الصلاة والسلام، لكى يهجموا هجمة رجل واحد غير متفرقين، ولا مانع من أن يكون النبل، فرادى، ومع ذلك كانت أوامره ألا يسرفوا في النبل، بل يتخيرون من يرمونه، ليكون ذلك أنكى للعدو، وأبقى للعدة. روى ابن إسحاق بسنده أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أمر أصحابه ألا يحملوا حتى يأمرهم، وقال إن اكتنفكم القوم، فانضحوهم عنكم بالنبل. وفي صحيح البخارى عن أبى أسيد قال لنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يوم بدر إذا أكثبوكم فارموهم، واستبقوا نبلكم. وأمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن تقطع الأجراس من أعناق الإبل لئلا يشغل الناس بها. وقد جعل شعار الصحابة في هذه الحرب العادلة «أحد أحد.. وشعار المهاجرين يابنى عبد الرحمن، وشعار الخزرج يا بنى عبد الله، وشعار الأوس يا بنى عبد الله» . وكانت عدة المؤمنين كما ذكرنا (313) ثلاثة عشر وثلاثمائة، وكانت عدة المهاجرين نيفا وستين على رواية البخارى، وعند الإمام أحمد ستة وسبعين. وقد أعطى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم اللواء لمصعب بن عمير، وكان أبيض، وأعطى راية المهاجرين وكانت سوداء لعلى بن أبى طالب، وراية الأنصار وكانت سوداء أيضا لسعد بن معاذ، وروى أن راية الأنصار كانت مع الحباب بن المنذر. وجعل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قيس بن أبى صعصعة معه. هذا تنظيم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، جعل على المهاجرين رجلا منهم، وهو من صناديد الإسلام، وجعل على الأنصار رجلا منهم، لا للتفريق بين المهاجر والأنصارى، ولكن ليأنس كل فريق بصاحبه، وليكون الجهاد الذى يراه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم والناس، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.

المعركة

المعركة 383- بعد ذلك التنظيم الذى لم يكن للعرب عهد به كان لابد من اللقاء، بين جيشين أحدهما قوى الإيمان وقد عقد العزم، والثانى غير مؤمن بالله، ولا عزيمة عنده كما بينا في حال الفريقين، وينطبق عليهما قول الله سبحانه وتعالى: هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ، فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ. يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ إلى آخر الآيات الكريمات (الحج- 19، 20) . وإنها إذا كانت الآية فيما يلقاه الكافرون يوم القيامة ففى لفظها ما يوميء إلى حالهم في المعركة. ابتدأ القتال بالمبارزة، طلبها بعض كبار المشركين، فأجيبوا إليها، وجندلوا بسيفى أسد الله ورسوله حمزة بن عبد المطلب، وفارس الإسلام على بن أبى طالب. خرج عتبة بن ربيعة، ومعه أخوه شيبة بن ربيعة، وابنه الوليد يطلبون المبارزة فخرج إليهم ثلاثة من الأنصار، فقالوا: ما لنا بكم من حاجة، ولكن نريد أكفاءنا من قومنا، ثم نادى مناديهم: يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا، فاختار لهم الأكفاء من ذوى قرابته الأقربين عمه وابنى عمه، وقد آثرهم بالجهاد والعمل، ولم يرض لهم القعود. أخرج عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب، وحمزة، وعليا، فلما رأوهم سألوهم عن أنفسهم، ويظهر أنهم قد تقنعوا بالسلاح، فلم يعرفوهم فعرفوهم بأنفسهم، فقالوا: أكفاء كرام، فبارز عبيدة عتبة، وبارز حمزة شيبة، وبارز على الوليد، فقتل كل من حمزة وعلى صاحبه، أما عبيدة وعتبة، فاختلفا ضربتين كلاهما أصاب صاحبه، فكر حمزة وعلى بأسيافهما على عتبة فأجهزا عليه. بعد ذلك أخذ النبل يرمى من الجانبين، وأصيب به بعض المسلمين، ورمى الجيش المحمدى نبلهم بمهارة متخيرا كبارهم، متصيدا زعماءهم، والرمى يمكن التصيد فيه، أما الملاقاة بالسيف، فلا تخير فيها، ولكن اللقاء هو الذى يحدها. عند ما رأى المشركون ذلك هجموا، فكان لا بد من ملاقاتهم. وعندئذ تقدم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يأمر جيشه بأن يحمل على المشركين حملة رجل واحد، وأخذ حفنة من تراب، فاستقبل بها قريشا، وقال: شاهت الوجوه، ولفحهم بها فلم يكن منهم إلا أصيب منها، ثم قال لأصحابه: شدوا. فالتحم الجيشان والنبى عليه الصلاة والسلام ينظر من فوق العريش، وهو يحس بأن الله تعالى أنجز وعده، وهزم قريشا وحده وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ، وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى (الأنفال: 17) .

وسعد بن معاذ قائم على باب العريش، متوشح بالسيف في نفر من الأنصار يحرسون رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، يخافون كرة العدو. وقد أخذ الجيش المحمدى في تقتيل صناديد قريش وزعماء الشرك الذين كانوا يفتنون الناس عن دينهم، ويأسرون فريقا. وقد اشتدت النازلة بالمشركين، وعلموا أن كلمة الله تعالى العليا. 384- هذا ويجب أن نلاحظ أمرين جديرين بالنظر: - أولهما- أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لم ينس رحمه وواجب الوفاء وأن يكون جزاء الإحسان لبنى هاشم الذين ذاقوا مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ما ذاقوا، وقريش تقاطعهم في شعبهم، وهم على مثل قومهم من الشرك، فما كان من الوفاء بالعهد، وجزاء المعروف بمعروف مثله أن يقتلهم في الميدان وقد خرجوا لحربه كارهين، وكان من بعض رجالات قريش من لم يؤذ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، بل من سعى سعيه في منع حصار بنى هاشم وبنى عبد المطلب، فكان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم الوفى الأمين، لن ينسى إحسان محسن، والله سبحانه وتعالى يقول: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ (الرحمن- 60) . وهذا العباس بن عبد المطلب الذى كان يذهب مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم في بيعة الأوس والخزرج ليستوثق من منعة يثرب للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فهل يتركه تعتوره السيوف. ولذلك قال لجيشه في رواية ابن عباس: «إنى عرفت أن رجالا من بنى هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرها، لا حاجة لنا بقتالهم، فمن لقى منكم أحدا من بنى هاشم، فلا يقتله، ومن لقى أبا البختري «1» فلا يقتله، ومن لقى العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فلا يقتله» . فقال بعض من قتل ذووه، وهو أبو حذيفة، (ويظهر أن قوله لم يكن في حضرة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم) ، أنقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا، ونترك العباس، والله لئن لقيته لألجمنه السيف، فبلغت هذه المقالة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فأثرت في نفسه، فقال لعمر بن الخطاب آسيا: يا أبا حفص: أيضرب وجه عم رسول الله عليه الصلاة والسلام بالسيف. وفي ذلك إشارة الى موقف العباس في العطف على رسول الله عليه الصلاة والسلام، والفرق بينه وبين أبى لهب. ولقد ندم أبو حذيفة (ولعله قالها لقتل أبيه) «2» أشد الندم، فكان يقول: ما أنا بامن من تلك الكلمة التى قلت يومئذ، ولا أزال منها خائفا إلا أن تكفرها عنى الشهادة، فقتل يوم اليمامة شهيدا.

_ (1) عند ابن هشام: بالحاء وليس بالخاء. (2) هذا التعليل وقع سهوا وما نظنه مقصودا فإن أباه قد قتل في أحد وليس في بدر.

هذا وإن الذين حضروا الموقعة من بنى هاشم لم تمسهم السيوف استجابة لطلب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، لرحمه، ولحدبهم عليه ولمشاركتهم له في الضراء، وما كان القتال لأجل الكفر، بل كان للاعتداء. أما أبو البخترى وله مقام مشهود في نقض الصحيفة، وقد عرفها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم له فى شديدته كما كانت منه المعونة في الشديدة، فقد لقيه المجذر بن زياد البلوى حليف الأنصار، فقال لأبى البخترى: إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد نهانا عن قتلك. وكان أبو البخترى له زميل قد خرج معه من مكة المكرمة، فجمعتهما رفقة السفر ولعله كانت بينهما مودة موصولة، فطلب ألا يقتل صاحبه، فقال المجذر: «والله ما نحن بتاركى زميلك، ما أمرنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلا بك وحدك» . فقال أبو البخترى: لا والله، إذن لأموتن أنا وهو جميعا، ولا تتحدث عنى نساء مكة أنى تركت زميلى حرصا على الحياة. فتنازلا، ولم يسلم أبو البخترى سيفه إلا أن يكون مقتولا، وقال في ذلك: لن يسلم ابن حرة زميله ... حتى يموت أو يرى سبيله هذا وفاء محمد عليه الصلاة والسلام في ميدان القتال، والبلاء بلاء. الملاحظة الثانية: أن الشرك وإن فرق النفوس، قد كانت المودة بين بعض الرجال ما زالت موصولة، لقد كان أمية بن خلف صديقا ودودا لعبد الرحمن بن عوف، فلقيه في بدر فلم يرد أن يقتله بل أراد أن ينقذه، لقد رآه وابنه عليا، وإنه ليقودهما بدل أن يقتلهما- إذ رآه بلال الذى كان عبدا لأمية، وكان يعذبه ليترك الإسلام، فيخرجه إلى رمضاء مكة المكرمة إذا حميت فيضجعه على ظهره، ثم يأتى بالصخرة العظيمة، فتوضع على صدره، ثم يقول: لا تزال هكذا أو تفارق دين محمد، فيقول بلال: أحد أحد. وجدها بلال الفرصة التى يقتص فيها منه جزاء ما فتنه في دينه، فقال رضى الله تعالى عنه: رأس الكفر أمية بن خلف لا نجوت إن نجا، ثم صرخ بأعلى صوته: يا أنصار الله رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا، فأحاطوا به، وعبد الرحمن بن عوف يذب عنه، ولكنه قتل هو وابنه.

القتل والأسر:

القتل والأسر: 385- كان الجيش الإسلامى يقتل ويأسر، لأنه في حال حرب، ولكن سعد بن معاذ الذى كان يحوط عريش رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، كان يكره الأسر، ولا يريد إلا القتل، وأن يثخن فيهم. يقول ابن إسحاق: رأى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في وجه سعد بن معاذ الكراهية لما يصنع الناس، فقال له رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «والله لكأنك يا سعد تكره ما يصنع القوم!!» قال: «أجل يا رسول الله كانت أوّل واقعة أوقعها الله تعالى بأهل الشرك، فكان الإثخان في القتل بأهل الشرك أحب إلى من استبقاء أحد» . ونرى من هذا أن القرآن الكريم نزل بموافقة سعد إذ قال الله سبحانه وتعالى: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ. نتائج المعركة وأعقابها 386- هذه المعركة اكتفينا في ذكرها بالإجمال لضيق وقتها، فلم تمكث إلا يوما واحدا من صبيحة الليلة السابعة عشرة من رمضان في السنة الثانية، وكان شهرا مباركا، وهو يوم بدر، وفيه آخر فتح بإزالة الأوثان وتطهير بيت الله الحرام. وإذا كنا ذكرنا المعركة بإيجاز، لأنها في وقت قصير، فقد كانت نتائجها بعيدة الأثر في حياة المسلمين، ذلك أن زعماء الشرك الذين ما كان يرجى فيهم خير، قد قتلوا، ومنهم من كان يؤذى النبى عليه الصلاة والسلام والمؤمنين، ولا يألو في ذلك ولا يقصر، ومنهم أشد مشعليها، ومؤججيها. وكان عدة من قتل من المشركين سبعين، وأسر منهم سبعون، وكان ممن أسر: النضر بن الحارث الذى كان شريك أبى جهل في إيذاء المسلمين والمبالغة في الأذى، وعقبة بن أبى معيط الذى كان يقف ضد كل داعية للسلام، حتى أشعلت الحرب، فوقف ضد ابنه، وعيره بأنه رضى أن يعيش كالنساء، والحرب قد قامت أسبابها، فقتل النضر على بن أبى طالب، وروى أنه هو أيضا الذى قتل الثانى. وفي غب «1» المعركة كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم حريصا على أن يعرف مال أبى جهل الذى سمى فرعون هذه الأمة، فإذا أدال الله سبحانه وتعالى منه، فقد أدال من فرعون. يروى ابن إسحاق أنه لما فرغ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من عدوه أمر بأبى جهل أن يلتمس في القتلى، وقد كان هو مقصودا في القتال، لأنه رأس الفتنة، ولقد أحيط بمن يدفعون عنه إن

_ (1) غب: آخر.. وغب الشىء عاقبته وآخره.

أريد قتله، فكان معه عكرمة وبعض سفهاء القوم، وكان أوّل من لقيه بضربة معاذ بن عمرو بن الجموح أخو بنى مسلمة، فقال: رأيته كالحرجة (أى كالشجرة الكبيرة) وهم يقولون لا يخلص إليه أحد. فضربته ضربة أطنت قدمه إلى نصف ساقه (أى قطعتها) وضربنى عكرمة على عاتقى فطرح يدى. لم يستطع معاذ الإجهاز عليه، حتى جاء معوذ بن عفراء، فأثبته، ولكن لم يقض عليه أيضا، وإن منعه الحركة حتى جاء عبد الله بن مسعود، وبه رمق فوضع رجله على عنقه، وكان قد آذاه، ثم قال له: أخزاك الله يا عدو الله، ثم حز رأسه، وذهب إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. انتهى أمر زعماء الشرك، والذين بقوا منهم كانوا أقل عداء وإيذاء وإن كان قتل ذويهم قد أرث قلوبهم بالأحقاد. وإنه في هذه المعركة لم يستشهد من المؤمنين إلا أربعة عشر، أى نحو خمس من قتل من المشركين، وإذا أضيف المأسورون، يكون ما أصيب من المسلمين عشر ما أصيب من المشركين، ولقد كانت هذه المعركة شفاء لغيظ المؤمنين الذين أوذوا في الحق وأخرجوا من ديارهم كما قال الله سبحانه وتعالى: قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ، وَيُخْزِهِمْ، وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ، وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ. وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ، وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ (التوبة 14، 15) . وإن الأمور الأربعة التى ذكرها الله سبحانه وتعالى قد كانت، فقد عذبهم الله سبحانه وتعالى بأيدى الذين عذبوهم، وأخزاهم الله بالهزيمة، وشفى الله قلوب المؤمنين، وأذهب غيظهم، وكانت المعركة سبيلا لأن يذهب غرور بعض الناس، ويفكروا من جديد في دعوة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وهى دعوة الحق. ويقول ابن كثير في تاريخه في قتل أبى جهل: «كان قتل أبى جهل على يد شاب من الأنصار، ثم بعد ذلك وقف عليه عبد الله بن مسعود وأمسك بلحيته، وصعد على صدره، حتى قال له: لقد رقيت مرتقى صعبا يا رويعى الغنم. ثم قعد هذا حز رأسه وحمله حتى وضعه بين يدى رسول الله عليه الصلاة والسلام، فشفى الله تعالى به قلوب المؤمنين، وكان هذا أبلغ من أن تأتيه صاعقة، أو أن يسقط عليه سقف منزل أو يموت حتف أنفه- والله أعلم. وقد ذكر مؤرخو السيرة أنه فيمن خرج يوم بدر بعض المسلمين الذين شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ولكنهم بقوا في مكة المكرمة، وهم مؤمنون فخرجوا مع المشركين تقية، كما خرج بعض بنى هاشم وهواهم مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وإن لم يكونوا قد آمنوا من بعد. ومن هذه الجماعة المسلمة الحارث بن زمعة بن الأسود، وأبو قيس بن الفاكه، وأبو قيس بن

الكرامة الإنسانية في أعقاب المعركة:

الوليد بن المغيرة، وعلى بن أمية بن خلف، والعاص بن منبه بن الحجاج. وقد قتل هؤلاء يوم بدر.... قال ابن إسحاق، وفي هؤلاء نزل قول الله سبحانه وتعالى إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ، قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ، قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ، قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها، فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً. إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا. فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ، وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً (النساء 97- 99) . وسواء أصح أن تكون حال هؤلاء هى سبب النزول أم لم يصح، فإن الآية توجب على كل مؤمن يقيم في أرض الكفر أن يخرج مهاجرا إلى الله حيث يكون قوة للإسلام، ولا يتخذ قوة للكفر، وإن ثبت أن النزول كان لذلك السبب، فإن الآية عامة، وكما يقول علماء الأصول إذ العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب. الكرامة الإنسانية في أعقاب المعركة: 387- قلنا إن حرب الإسلام هى حرب الفضيلة- لا يستباح فيها إلا الدماء، ولا تباح فيها المثلة تكريما للإنسان، ولا يترك فيها أشلاء الإنسان تنهشها الذئاب والغربان، بل إنها تدفن تكريما للإنسان، وذلك لقول الله سبحانه وتعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ، وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا (الإسراء- 70) وإن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كرم الإنسان حيا وميتا، والقتل في الميدان عند الاعتداء، لا يتنافى مع تكريم الإنسان، لأنه العدل، والعدل فيه تكريم الإنسانية دائما، ففيه تكريم الإنسان الفاضل بأخذ الحق له، وتقويم الفاسد بأخذ العدل منه. ومن هذا المبدأ السامى لم يترك النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قتلى بدر من المشركين تنوش جثثهم سباع الحيوان، ولا تنقرها الغربان جيفا ملقاة في الأرض، كما فعلت جيوش في قتلاها أنفسهم، لا في قتلى أعدائهم فقط. بل إن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد جاء إلى حيث القتلى من قريش في هذه المعركة المباركة فدفنهم في القليب، وهو بئر جافة، وتقول عائشة فيما رواه عنها ابن إسحاق: «أمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بالقليب فطرحوا فيه، إلا ما كان من أمية بن خلف، فإنه انتفخ في درعه،

الأسرى

فملأها، فذهبوا ليخرجوه فتزايل لحمه. فأقره، وألقوا عليه ما غيبه من التراب والحجارة. وهكذا، فعل ليوارى سوآتهم، وليحمى أجسامهم من سباع البهائم، وسباع الطير. قال ابن إسحاق: حدثنى بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال مخاطبا جثث القتلى: «يا أهل القليب، بئس عشيرة كنتم لنبيكم، كذبتمونى، وصدقنى الناس، وأخرجتمونى، وآوانى الناس، وقاتلتمونى، ونصرنى الناس، هل وجدتم ما وعد ربكم حقا، فإنى قد وجدت ما وعدنى ربى حقا» . ويروى أنه نادى طائفة من زعماء الشر فيهم، أو كبراءهم، فقد روى أنه كان يقول: «يا عتبة ابن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة، ويا أمية بن خلف، ويا أبا جهل بن هشام- فعدد من كان منهم بالقليب هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا، فإنى قد وجدت ما وعدنى ربى حقا» ويظهر أن الواقعة قد تعددت. فقال الحاضرون: يا رسول الله، أتنادى قوما قد جيفوا، فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوا» . ومعنى أسمع: أعلم بحقيقة ما أقول، لأن السمع الحقيقى يحتاج إلى جارحة السمع، وقد فقدوها بالقتل، ولأن الله سبحانه وتعالى يقول: وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (فاطر- 22) وفي رواية عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: «لقد علموا ما أقول» . والعبرة في هذه المسألة أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد عمل على كرامة الإنسان بمواراة سوآت هؤلاء، وليبين للأحياء المسلمين الاعتبار في هذه المعركة، وهو أن الله صدق وعده، ونصر عبده، وهزم عدو الله سبحانه وتعالى وعدوهم. الأسرى 388- أسر من المشركين سبعون، وقد علمت أن سعد بن معاذ رضى الله تبارك وتعالى عنه كان يكره الأسر، ويريد القتل، حتى يثخن المشركين، وذكر للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم رأيه، وأنه كره الأسر، ولكن سياسة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كانت تتجه إلى الاستبقاء بدل القتل، عسى أن يسلموا، ويكونوا قوة للإسلام ولأن يكونوا مؤمنين ولو مالا، خير من أن يقتلوا كفارا في عجلة الحرب. والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم لا يعمل عملا إلا بمشورة أصحابه، مادام الوحى لم ينزل بأمر، فهو يجتهد فيما يفعل، لا فيما يشرع، وإذا اجتهد في عمل، فالشورى روح العمل، وقوة الجماعة.

قال الإمام أحمد في مسنده بروايته: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ما تقولون في هؤلاء الأسرى، فقال أبو بكر: يا رسول الله قومك وأهلك، استبقهم، واستأنهم، لعل الله أن يتوب عليهم. وقال عمر: يا رسول الله، أخرجوك وكذبوك، قربهم فاضرب أعناقهم؟ وقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله انظر واديا كثير الحطب، فأدخلهم ثم أضرمه عليهم نارا. استمع إليهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقد ابتدأ الرأى رفيقا ثم اشتد حتى صار حريقا، فدخل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وتركهم مليا، ليتدبروا مغبة كل قول، ثم خرج عليهم. فقال عليه الصلاة والسلام: «إن الله ليلين قلوب رجال، حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله سبحانه وتعالى ليشد قلوب رجال، حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم، قال: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي، وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (إبراهيم- 36) . ومثلك يا أبا بكر كمثل عيسى، قال: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ، فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ، وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ، فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. وإن مثلك يا عمر كمثل نوح، قال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (نوح: 26) . وإن مثلك يا عمر، كمثل موسي، قال: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ، وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ، فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (يونس- 88) . انتهت الاستشارة بأن أبدى رأيان، أحدهما رفيق مؤلف، لا جفوة فيه وهو رأى الصديق رضى الله تعالى عنه، والثانى رأى عنيف، وهو رأى الفاروق عمر بن الخطاب، رضى الله تبارك وتعالى عنه، ويتبع ذلك فى عنفه بأشد في طريقته، وهو رأى عبد الله بن رواحة، إذ كان رأيه القتل بالحرق. وقد رأى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يأخذ بمبدأ الفداء، إذ فيه رفق أبى بكر، ونفع لجماعة المسلمين، وقد كانوا في غير غنى، ورخص في غير ذلك، فرخص لنفسه في القتل، ورخص لنفسه في المن من غير فداء، وإن كان الأكثر كان الفداء، وكان يسير في الفداء على مقدار الثروة للأسير، وفي العفو بالمن على مبدأ من كان يظن أنه أسلم، وخرج تقية، ويمن أيضا على من يرى في المن عليه كسبا للمسلمين. وأنه يلاحظ أنه لم يمن على أحد من بنى هاشم مع أنه نهى عن قتلهم، وأنه يعلم أنهم خرجوا مستكرهين ولم يخرجوا محاربين. وكيفما كانت حالهم من منّ أو فداء فقد أوصى بهم خيرا، وقد نزلوا عند الأنصار، وكأنهم في

ضيافة، لا في أسر، حتى إن الأنصارى كان يفضل الأسير في الطعام على أهله وعياله، وكان يرى الأسير ذلك، فيتعفف، فيشدد عليه الأنصارى، فكانوا يؤثرون على أنفسهم، ولو كان بهم خصاصة. 389- لقد أمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بقتل عقبة بن أبى معيط، والنضر بن الحارث؛ لأنهما كانا قائدى الشرك في المعركة، ولأن عقبة هو الذى كان يحرض على القتال بعد أن نجت العير، وأراد بعض كبراء قريش أن يكتفوا بذلك، ولا يقاتلوا حفظا للرحم، كأمية بن خلف، وعتبة ابن ربيعة. وروى الشعبى أنه لما أمر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بقتل عقبة قال: أتقتلنى يا محمد من بين قريش؟ قال: نعم، ثم التفت النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى أصحابه، وقال: أتدرون ما فعل هذا بى؟ لقد جاء وأنا ساجد خلف المقام فوضع رجله على عنقى، وغمزها فما دفعها حتى ظننت أن عينى تدوران. وجاء مرة أخرى بسلا شاة فألقاها على رأسى وأنا ساجد، فجاءت فاطمة، فنسلت عن رأسى. وكان مثل ذلك النضر بن الحارث، وكان حامل لواء المشركين. فكان قتله لما قدم من أذى، ولما فيه من إذلال الشرك وأهله. وقد أخذ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الفداء من ذوى الثراء من بنى هاشم، بل شدد فى الأخذ منهم ولم يقبل منهم إلا الفداء. ولعل أدل شيء على شدته في أخذ الفداء من بنى هاشم مجاوبته مع عمه العباس بن عبد المطلب الذى كان يحبه، وكان يألم لأسره، والشد عليه بالوثاق. ادعى العباس أنه أسلم من قبل، ومعنى ذلك أنه ليس عليه فداء، لأنه جاء مكرها لا محاربا. فقال له النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: أما ظاهرك فكان علينا، والله أعلم بإسلامك، وسيجزيك خيرا. فادعى أنه لا مال عنده يفدى به نفسه، ومن معه من بنى هاشم عقيل ونوفل ولدى أخيه، فقال له رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: فأين المال الذى أودعت أنت وأم الفضل، وقلت: لو أصبت في سفرى هذا فهذا لبنى الفضل وعبد الله وقثم، فقال العباس رضى الله تعالى عنه: والله إنى لأعلم أنك رسول الله، إن هذا شيء ما علمه إلا أنا وأم الفضل. وقد أخذ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مائة أوقية من ذهب فداء له ولا بنى أخيه عقيل ونوفل، وعن حليف له هو عتبة بن عمرو أحد بنى الحارث بن فهر.

وهكذا أخذ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الفداء، لاينى عن ثرى، ولا يعفو إلا عمن يرجى منه خير للإسلام، أو من يمن عليه في نظير أن يمن على مسلم أخذوه عنوة من غير حرب، كما فعل أبو سفيان في معتمر من أصحاب الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم أخذه، حتى يفك أسار ابن له، ففك النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إساره لذلك. وكان صلى الله تعالى عليه وسلم يقبل من الفداء نوعا معنويا، وهو تعليم الأميين من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فإذا كان الأسير ليس له مال يفدى به نفسه، ولكن له علم بالقراءة، فإنه يكون فداؤه أن يعلم بعض الأميين من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم القراءة. وقد من النبى صلى الله تعالى عليه وسلم على ناس من الأسرى، منهم من كان يظن فيه الإسلام، وقد شهد عبد الله بن مسعود لسهيل بن بيضاء بالإسلام، فقد قال سمعته يذكر الإسلام. فقبل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم شهادته، ومن عليه. وممن من عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أبو العاص بن الربيع الأموى زوج زينب بنت الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، فكان زوجا بارا مكرما لزوجه غير مضار لها. وقد أرادت قريش أن تحمله على طلاقها كما طلق ابن أبى لهب ابنة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فتأبى عن ذلك. فقد كانت زينب رضى الله تعالى عنها بمكة المكرمة فأرسلت فداء لزوجها البار الطيب وبعثت في ضمن الفداء قلادة لها، كانت أم المؤمنين خديجة قد أدخلتها بها على أبى العاص حين بنى بها، فلما رآها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، أثارت ذكريات الزوج الرفيقة الشفيقة والرحم، فرق لذلك رقة شديدة. وكان للرسول الأمين أن يطلق سراحه، كما أطلق سراح غيره من بنى مخزوم وغيرهم، ولكن لكيلا يكون في نفس أحد ضيق أو حديث نفس، ولتطيب النفوس كلها جعل إطلاق سراحه للصحابة، فقال: «إن رأيتم أن تطلقوا أسيرها، وتردوا عليها الذى لها» ففعلوا. ويجب أن ننبه هنا لأمرين: أولهما- أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم رأى ألا تبقى من بعد في مكة المكرمة، وألا تكون في فراش العاص من بعد، فأخذ عليه عهدا أن يخلى سبيلها رضى الله عنها، بأن تهاجر إلى المدينة المنورة، فوفى أبو العاص بذلك. ثانيهما- أنه لم يكن قد نزل التفريق بين المسلم وغير المسلم، لأنها لا تحل له، إذ أن ذلك نزل عند الحديبية في سورة الممتحنة، فقد قال الله سبحانه وتعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ

الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ، فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ، فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ، فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ، لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ، وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ، وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا، وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ، وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ، وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا، ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (الممتحنة- 10) . ويلاحظ هنا أن الله سبحانه وتعالى أشار إلى سبب التحريم وهو الكفر، إذ قال الله سبحانه وتعالى: فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ ولم يقل إلى المشركين، والكفر يشمل الشرك وما عليه النصارى واليهود الذين كفروا بمحمد عليه الصلاة والسلام، وآمنوا بالتثليث، وألوهية المسيح، كما قال الله سبحانه وتعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وقال الله سبحانه وتعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ. وهكذا منّ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على أناس كان يرى خيرا في المن عليهم، أو يرى فيهم عجزا عن أن يقدموا فداء. فمنّ على المطلب بن حنطب بن الحارث من بنى مخزوم، ومنّ على صيفى بن أبى رفاعة ابن عائذ من بنى مخزوم، وممن منّ عليه أبو عزة عمرو بن عبد الله بن عثمان، وكان محتاجا ذا عيال فمن عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأخذ عليه عهدا ألا يظاهر عليه أحدا، وكان شاعرا، ولكنه نقض ما عاهد عليه الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، ولعب المشركون بعقله، فرجع إليهم بعد أن قرب من الإسلام أو دخل فيه، فقد قال مادحا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، إذ من عليه من غير فداء في قصيدة: من مبلغ عنى الرسول محمدا ... فإنك حق والمليك حميد فلما كان يوم أحد أسر أيضا، فطلب أن يمن عليه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال له النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: «لا أدعك تمسح عارضيك، وتقول خدعت محمدا مرتين» ويروى أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قال فيه «لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين» . وهكذا فوض النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يتصرف في الأسرى بما يكون خيرا في ذاته وللمؤمنين، فقتل من قتل منهم، وفدى كثيرين، ومنّ على بعضهم.

بيان الله تعالى لخطأ الأسر

بيان الله تعالى لخطأ الأسر 390- نزل القرآن الكريم من بعد القيام بما اتجهت إليه الشورى بالنسبة للأسرى ببيان الخطأ فى أن المسلمين أسروا قبل أن يثخنوا، وهو ما كان يميل إليه سعد بن معاذ الأنصارى رضى الله تبارك وتعالى عنه، ولقد ذكر الخبر كما رواه ابن إسحاق «أنه لما وضع القوم أيديهم يأسرون رأى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في وجه سعد بن معاذ، فقال له: كأنى بك يا سعد تكره ما يصنع القوم. قال: أجل والله يا رسول الله كانت أوّل وقعة أوقعها الله تعالى بأهل الشرك، فكان الإثخان في القتل أحب إليّ من استبقاء الرجال» ولقد قال الله سبحانه وتعالى بعد إنهاء ما أشار إليه الشورى: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا، وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ، وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى، إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً، يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ، وَيَغْفِرْ لَكُمْ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (الأنفال- 76: 70) . إذن كان الخطأ، لا في أنهم فدوهم، ولا في أنهم منوا عليهم، ولكن في أنهم أخذوا الأسرى قبل الإثخان، أى قبل أن يثقلوهم بالجراح، حتى لا يستطيعوا أن يثيروا عليهم معركة أخرى، أو تكون صعبة عليهم لكثرة القتلى، ومن بعد ذلك يكون الأسر، ويكون المن أو الفداء، كما قال الله سبحانه وتعالى: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ، حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ، فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ، وَإِمَّا فِداءً، حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها (محمد- 4) . ويجب أن نذكر هنا ثلاثة أمور: أولها- فى معنى قول الله سبحانه وتعالى: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ فإن الكتاب الذى قرره الله سبحانه وتعالى، هو أنه لا عقوبة إلا بنص على المنع، ولم يكن ثمة نص على منع أخذ الأسرى، قبل الإثخان، وإن ما فعله النبى صلى الله تعالى عليه وسلم اجتهاد، ولا عقوبة على الاجتهاد في الخطأ. ثانيا- أن كثيرين ممن كتبوا في الماضى- وتبعهم أهل الحاضر- أن القرآن الكريم نزل موافقا لرأى الإمام الفاروق عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه، فى الأسرى، ونحن نرى أن ما جاء به القرآن الكريم لا يوافق رأى الفاروق، لأن ما جاء به القرآن الكريم، إنما كان معارضة لأصل الأسر قبل الإثخان، ولم يعترض الفاروق على الأسر قبل الإثخان.

إنما الذى كره الأسر قبل الإثخان في القتل سعد بن معاذ رضى الله تبارك وتعالى عنه، فإذا كان ثمة فضل في نزول القرآن الكريم موافقا لما كره سعد، فله في هذا الفضل، يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ (آل عمران- 74) . ثالثا- وهو الأمر الجدير بالاعتبار عند أهل الاعتبار، وهو أن الله سبحانه وتعالى وحده يعلم الغيب، ويعلم السر وأخفى، وهو سبحانه وتعالى يعلم أن أخذ الأسرى قبل إثخان العدو، خطأ، فلماذا ترك النبى- رسوله وحبيبه- ومعه صحابته يخطئون، وقد كان وحده هو الذى يعلم الصواب. والجواب عن ذلك أن هذا فيه عظة وعبرة، ذلك أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم الذى يوحى إليه، والذى علمه ربه وأدبه فأحسن تأديبه، إذا ترك يتصرف باجتهاده فقد يخطئ، ولا ينزه عن الخطأ أحد ولو كان نبيا، إلا أن يعلمه الله سبحانه وتعالى، فهو وحده العليم الحكيم الذى يعلم المستقبل كالحاضر والماضى، وفي ذلك توجيه للذين يستبدون، وبيان أنهم يخطئون، وليس لهم أن يدفعهم الغرور، فيحسبوا أن آراءهم منزهة عن الخطأ فيتردون بأممهم في أفسد النتائج. إن ترك محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو الذى يوحى إليه، ثم هو في ذاته أعقل الرجال، إذ كانوا قبل البعثة يهتدون برأيه- يخطيء في رأيه، ثم ينبه إلى الصواب، فيه عبرتان لأولى الأبصار: -. أولهما- لأنه لا يصح لأحد أن يغتر برأيه، فيحسبه الصواب الذى لا يقبل الخطأ، ويعتقد فى نفسه العلم، وفي غيره الجهل. الثانية- أنه ليس لأحد أن يستبد في تفكيره الذى يعمل فيه للجماعة، فلا يقول ما قاله فرعون. ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى، وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ (غافر- 29) . فعلينا معشر المؤمنين أن نتأدب بأدب الله سبحانه وتعالى، وهو ألا ندلى أنفسنا وجماعتنا بالغرور، فتكون السوءى، فى حاضر الأمة ومستقبلها، وعلينا أن يكون لنا في رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أسوة حسنة، ولا يكون لنا من فرعون، متبوع يتبع، فالحق أحق أن يتبع. ولقد رأينا في عصرنا إخوان فرعون يطلبون أن يتلى ما يكتب لهم كأنه تنزيل من التنزيل وقد بوؤا بهذا الغرور عنهم، والخنوع من غيرهم- أمتهم سوء الدار، وبئس القرار، ولا حول ولا قوة إلا بالله، إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37- ق) .

الأنفال

الأنفال 391- كان المشركون يحاربون في غير ديارهم وأرضهم، وكان المؤمنون كذلك، ولكن كانوا على مقربة من ديارهم، وكانت الهزيمة قد نزلت بالمشركين، فكانوا شبه فارين بعد المعركة لا يلوون على شيء إلا ما يمكنهم من أن يعودوا إلى ديارهم راضين بإياب بعضهم سالمين. فكان لا بد أن يغنم المسلمون منهم غنائم، وكانت هذه الغنائم أوّل ما غنمه المسلمون في الحروب، لأنها كانت أوّل حرب كان الاتجاه فيها إلى المنازلة، وأخذ الغنم نتيجة لهذه المنازلة، ولم تكن عيرا مصادرة بل كانت حربا شعواء. ولذلك اختلف المقاتلون في الأنفال، وهى الغنائم التى تكون قبل القسمة، ولم يكونوا على علم بقسمتها، والمقسطون منهم سألوا عما يفعلون بشأنها، وبعض القاسطين ظنوها لمن أخذها. وذلك أن المجاهدين كانوا ثلاثة أقسام: قسم واجه العدو كعلى، وحمزة، وغيرهم، وقسم كان من ورائهم، وأولئك جمعوا الغنائم، وقسم حاط العريش الذى كان به الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم. ويقول في ذلك عبادة بن الصامت وهو من البدريين، «خرجنا مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فشهدت معه بدرا، فالتقى الناس، فهزم الله تعالى العدو، فانطلقت طائفة وراءهم يهزمون ويقتلون، وأكبت طائفة على المغنم يحوزونه ويجمعونه، وأحدقت طائفة برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حتى لا يصيب أحد منه غرة، حتى إذا كان الليل، وفاء الناس بعضهم إلى بعض، قال الذين جمعوا الغنائم: نحن حويناه وليس لأحد فيها نصيب. وقال الذين خرجوا في طلب العدو: لستم بأحق بها منا، فنحن نفينا منها العدو، وهزمناهم. وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: خفنا أن يصيب العدو منه غرة، فاشتغلنا به. كان هذا الخلاف، وكان معه تساؤل: لمن تكون الغنائم؟ فنزل قول الله سبحانه وتعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ، وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (الأنفال- 1) . كانت هذه المناقشة في الغنائم قبل أن ترفع إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فذكر الله سبحانه وتعالى ما يحسم الخلاف، ويقطع مادة النزاع، وهو أن يكون أمرها إلى الله تعالى، وما يحكم به سبحانه وتعالى وإلى الرسول عليه الصلاة والسلام الذى ينفذ حكم الله سبحانه وتعالى، فليس لهم أن يقتسموا

أثر المعركة في المدينة المنورة

بأنفسهم، بل الأمر لغيرهم فليصلحوا ذات بينهم، ولا يصح أن تكون المادة مفرقة بينهم، وقد جمعهم الحق وجمعهم الجهاد في سبيله.. وما الذى اتبعه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم في قسمة الأنفال، فقال بعض الرواة إنه قسمها بين المجاهدين بالسوية، إذ لم يكن حكم تخميس الغنائم قد نزل في قول الله سبحانه وتعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ، وَلِلرَّسُولِ، وَلِذِي الْقُرْبى، وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ، وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (الأنفال- 41) . فالنبى عليه الصلاة والسلام على رواية هؤلاء وزع بالسوية بين كل المجاهدين، لأنه لم يكن ما يوجب التفاوت، ولا دليل يرجح طائفة على أخرى. ويرى ابن كثير أن التوزيع كان حسب التخميس الذى نص عليه قول الله سبحانه وتعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ الآية، لأنها متصلة الواقعة، فالأمر في التوزيع كان إلى الله سبحانه وتعالى، وإلى رسوله عليه الصلاة والسلام على حسب هذا الحكم الذى شرعه الله تعالى، فاية الغنائم متصلة بأول السورة التى أشارت إلى التوزيع، وفوق ذلك فإن الآية تشير إلى أن ذلك ما أنزله الله سبحانه وتعالى يوم التقى الجمعان يوم الفرقان. ولقد روى أن عليا ذكر أن الناقتين اللتين نحرهما عمه حمزة، وهو شارب كانتا من خمسه في الغنائم، ونحن نميل إلى ما اختاره الحافظ ابن كثير. أثر المعركة في المدينة المنورة 392- كان أثر المعركة في العرب عامة بعيد المدى، فقد سارت الركبان في الصحراء العربية بهزيمة قريش على يد طريدها الذى أخرجته وأصحابه من ديارهم وأموالهم، لأنه ينكر الوثنية، ويدعو إلى الوحدانية ويقول إنه يوحى إليه من عند الله سبحانه وتعالى، فكان ذلك النصر منبها للعرب بحقيقة الدعوة المحمدية وسلامتها وقوتها، فوهنت العقيدة الوثنية بين العرب، وأخذت عقول تدرك الحقائق وتطرح الأوهام التى نسجها الخيال الضال حول الأحجار، وبذلك صارت كلمة الله سبحانه وتعالى هى العليا، وكلمة الشرك هى السفلى، وكان يوم الغزوة بحق يوم الفرقان، إذ فرق فيه الناس وانتقل المسلمون من مستضعفين في الأرض إلى أقوياء يكاثرون الناس بقوتهم، كما قال الله سبحانه وتعالى:

وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ، فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ، وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (الأنفال- 26) . هذه إشارة إلى أثر ذلك النصر المبين في البلاد العربية، لقد نظر إليه العرب على أن الإسلام هو القوة الحقيقية في البلاد العربية، وكان من ذلك أن أخذ الناس يفكرون. هذا أثره بشكل عام في الجزيرة العربية، أما أثره في المدينة المنورة وما حولها، فقد صار القوة المرهوبة فيها، وكان فيها أخلاط من الوثنيين الذين بقوا على وثنيتهم من الأوس والخزرج، وكانوا يظهرون عقائدهم ولا يخفونها، وكان فيهم يهود، قد أكل الحقد قلوبهم وإن أخفوه، وإن كانوا يعرفون في لحن القول وفي استهزائهم بالمؤمنين أحيانا. فلما ظهرت قوة المسلمين في بدر، وجد في الفريقين منافقون يظهرون الإسلام بألسنتهم، ويخفون الكفر، ويقولون ما لا يفعلون، وينطقون بما لا يعتقدون، ولقد نزلت فيهم سورة كاملة، وأولها قوله الله سبحانه وتعالى: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ، وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ. اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا، فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (المنافقون- 1: 3) . فالقوة الإسلامية التى ظهرت في بدر، هى التى جعلت هؤلاء من المشركين واليهود، يتخذون مظهرهم الإسلامى جنة يتقون بها قوة أهل الإسلام ويشيعون الخبال في صفوف المسلمين، ويخدعون الذين في قلوبهم ضعف. إن قوة المسلمين جعلت من لا يؤمن بالله سبحانه وتعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام يخضع ببدنه ولا يؤمن بقلبه. كان ذلك في السنة الثانية التى كانت فيها غزوة بدر. قال ابن كثير «وفيها خضع المشركون من أهل المدينة المنورة واليهود الذين هم بها من بنى قينقاع، وبنى النضير، وبنى قريظة، ويهود بنى حارثة، وصانعوا المسلمين، وأظهر الإسلام طائفة كثيرة من المشركين واليهود، وهم في الباطن منافقون، منهم من هو على ما كان عليه، ومنهم من انحل بالكلية فبقى مذبذبا، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، كما وصفهم الله تعالى في كتابه» . وهو بهذا يشير إلى قول الله سبحانه وتعالى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ، وَهُوَ خادِعُهُمْ، وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى، يُراؤُنَ النَّاسَ، وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا. مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ، لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (النساء- 112: 143) .

اليهود

وإنه يتبين من هذا الكلام أنه بعد أن أظهر الله سبحانه وتعالى قوة المسلمين وأعلى كلمة الدين، صار الذين يخالفونه، ويعاشرون المؤمنين بالجوار على ثلاثة أقسام: أولهم الذين نطقوا بكلمة الإسلام والكفر يسكن قلوبهم، ويستولى عليها وهؤلاء هم الذين قال الله سبحانه وتعالى فيهم وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا، وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ، إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ. اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ، وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (البقرة- 14، 15) فهؤلاء بقوا على كفرهم، وأمد الله تعالى في طغيانهم، لأن مظهرهم كان غير مخبرهم، وقد استمرؤا ذلك حتى زادوا عتوا وفسادا. والقسم الثانى قوم ضعفت نفوسهم، وانحل تفكيرهم، فهم منافقون، فى إظهارهم الإسلام، ولا عقيدة لهم يؤمنون بها، وإن كانوا إلى عقيدتهم الأولى أميل، ولكن قد انحلت بالتعارض، بين ما يظهرون وما يبطنون، فقد خدعوا المؤمنين وأوغلوا في الخديعة، حتى خدعوا أنفسهم، وهم الذين قال الله سبحانه وتعالى فيهم: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ، لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ، وقد وصف النبى صلى الله تعالى عليه وسلم هذا النوع من المنافقين بقوله عليه الصلاة والسلام: «مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين غنمين لا تدرى إلى أيهما تذهب» . والقسم الثالث وهم أكثر اليهود الذين ثبتوا على دينهم من بنى قينقاع، وبنى النضير، وبنى قريظة وبنى الحارث، وأولئك ثبت أكثرهم على اعتقادهم وجاهدوا بالبقاء عليه، والاعتراض الدينى على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ولكنهم نافقوا في أنهم لم يخلصوا في العهد الذين عاهدهم عليه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، بل يخفون الخيانة، ويتربصون بالمسلمين الدوائر، ويكاتبون أعداء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ويحرضونهم عليه، ويسرفون على أنفسهم، فينافقون المشركين، ويقولون إن ما هم عليه من شرك خير مما يدعو إليه النبى من توحيد. وفي الجملة ظهر النفاق بعد النصر المحمدى من أعداء هذا الدين. ولنخص اليهود، ومن والاهم بكلمة موجزة موضحة: اليهود 393- عقد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم حلفا مع اليهود، جعل فيه له ما لهم، وعليه ما عليهم، وتعاهد معهم على البر والتقوى، لا على التعاون على الإثم، وأنهم في أحيائهم متعاونون على دفع الإثم، وعقل الجانى الذى يجب عليه الدية، وفي الجملة أعطاهم الحرية والحماية، وعقد معهم جماعة،

وأحياء متفرقة عقدا ملزما، ولكن الحسد كان يسكن قلوبهم من أن الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم الذى بعث كانوا يتمنون أن يكون من ولد إسحق لا من ولد إسماعيل، وقد كانوا يعرفون أن نبيا سيبعث، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به حسدا من عند أنفسهم، وكلما استيقنوا أنه النبى المبشر به في التوراة ازدادوا ضيقا وغضبا وكفرا، وكلما وجدوا آيات النبوة زادتهم طغيانا وضلالا، وعتوا وفسادا في الأرض، وكأنهم وحدهم سلالة قابيل الذى قتل أخاه، لأنهما قربا قربانا فتقبل من أحدهما، ولم يتقبل من الآخر (قابيل) . ولننقل شهادة أم المؤمنين صفية بنت حيى بن أخطب، قالت رضى الله تبارك وتعالى عنها: عند ما قدم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم المدينة المنورة، ونزل قباء في بنى عمرو بن عوف، غدا عليه أبى حيى بن أخطب، وعمى أبو ياسر بن أخطب مغلسين (أى في غلس) قلت لم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس، فأتيا ساقطين يمشيان الهوينى، قالت فهششت إليهما كما كنت أصنع، فو الله ما التفت إلى واحد منهما، مع ما بهما من الغم، وسمعت عمى أبا ياسر، وهو يقول لأبى حيى بن أخطب: أهو هو..؟ قال: نعم والله، قال أتعرفه وتثبته؟ قال: نعم، قال ما في نفسك منه؟ قال: عداوته والله ما بقيت. تلك شهادة صادقة من سيدة برة على أبيها، فما جعلته الآية المثبتة لرسالة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم مؤمنا مصدقا بل جعلته عدوا لجوجا في عداوته، وذلك فعل الحسد الذى كان من قابيل على أخيه هابيل إذ تقبل منه الإيمان وحده، والله تعالى يختص برحمته من يشاء. وحيى بن أخطب وأخوه صورة نفسية لكل يهودى ممن كان بجوار المسلمين بالمدينة المنورة، وبهذه العداوة كانوا يتحركون، وطويت قلوبهم على الضغينة المستكنة. فلما انتصر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ازدادوا ضيقا، وظنوا أن الدائرة من بعد ستدور عليهم، فأرادوا بغريزة حب البقاء أن يعملوا عملا يظنون فيه بقاءهم، لكيلا يجد المسلمون السبيل لإخراجهم، واتحدوا مع المشركين ممن بقوا في المدينة المنورة، وحملوا أولئك على أن يظهروا الإيمان، ويخفوا الكفران إذ أو عزوا إليهم بخلقهم، الذى اشتهروا به في ماضى أمرهم ونفذوه في حاضرهم. ولقد انضاف بذلك إلى اليهود بإغرائهم من كانوا قد بقوا على الوثنية من الأوس والخزرج، وإن لم يكونوا الكثرة، ولكنهم بما أظهروا من إيمان يبثون الوهن في قلوب المؤمنين، ويلقون بأسباب الفشل وقد ظهرت رؤوسهم فيما ظهر بعد بدر من الغزوات.

إخراجهم من المسجد:

وقد ذكر ابن إسحاق كثيرين ممن نافقوا من اليهود الذين أظهروا الإسلام، وأخفوا عقيدتهم، وأكنوا الأذى للمسلمين، والكيد للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم. كما ذكر من الأوس والخزرج من لف لف اليهود، وأظهر الإسلام، وكان كثيرون منهم من الخزرج، وعلى رأسهم عبد الله بن أبى سلول، وإليه كانوا يجتمعون، وهو الذى قال: لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ (المنافقون- 8) فى غزوة بنى المصطلق. والنفر من منافقى الخزرج، وعلى رأسهم عبد الله بن أبى بن سلول هم يمالئون بنى النضير، ويدسون إليهم أنهم معهم عند ما خافوا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فنكثوا في أيمانهم وعهدهم الذى عاهدوه، وأرادوا معاونة المشركين، فقد أرسل إليهم ابن سلول وشيعته أنهم إن خرجوا يخرجوا معهم، عند ما حاصرهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم في حصونهم، وأخذوا يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدى المؤمنين، لقد قال ابن أبى والنفر معه: اثبتوا لئن أخرجتم لنخرجن معكم، ولا نطيع فيكم أحدا أبدا، وإن قوتلتم لننصرنكم، وقد أنزل الله سبحانه وتعالى فيهم أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ، وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ، وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ، وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ، وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ. لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ ... إلى أن قال الله سبحانه وتعالى في وصف ابن أبى ومن معه: كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ، فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ، إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (الحشر- 11: 16) . وكان المنافقون من بقية الأوس والخزرج واليهود يحضرون مسجد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فيستمعون أحاديث المسلمين ويسخرون ويستهزئون، ويبثون الشك في قلوب المؤمنين بأوهام يذكرونها، وبأسئلة مشككة يستجوبون بها. إخراجهم من المسجد: 394- يقول ابن إسحاق: اجتمع يوما بالمسجد من المنافقين أناس فرآهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يتحدثون بينهم خافضى صوتهم، قد لصق بعضهم ببعض، فأمر بهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فأخرجوا من المسجد إخراجا عنيفا. فكان المؤمن يأخذ برجل المنافق، فيسحبه سحبا، وأحيانا يجذب المؤمن المنافق، وينتره نترا شديدا ويلطم وجهه وهو يشيعه باللعنات قائلا له: «أف لك منافقا خبيثا، اخرج يا منافق من مسجد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم» .

إفساد اليهود بين المسلمين

وأحيانا يجيء المؤمن إلى ذى اللحية الطويلة منهم، فيأخذ بلحيته، ويقوده منها قودا عنيفا، حتى يخرجه من المسجد، وأحيانا يأخذ المؤمن بجمة المنافق ذى الجمة «فيسحبه منها سحبا عنيفا» . وذلك العنف في الفعل يصحبه عنف في القول، ومن مثل «لا تقربن مسجد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فإنك نجس، وقول بعضهم غلب عليك الشيطان وأمره» . وذلك غير الذين كانوا يدفعون من أقفيتهم. وكانوا هم والذين بقوا على يهوديتهم من يهود أشد الناس أذى للنبى عليه الصلاة والسلام وأصحابه، فالمنافقون كانوا يبثون في المسلمين روح التردد والهزيمة، وفي المسلمين سماعون لهم، كما قال الله سبحانه وتعالي: وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً، وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ، فَثَبَّطَهُمْ، وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ. لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا، وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ، وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ. لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ، وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ، حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ، وَهُمْ كارِهُونَ (التوبة- 46: 48) . واليهود من وراء المنافقين يتعاونون معهم، ويكيدون معهم، ويمكرون، ويمكر الله سبحانه وتعالى بإفساد تدبيرهم، وكان اليهود يلقون الشك في قلوب المؤمنين يظهرون الإيمان، ثم يعلنون الردة ليشجعوا المسلمين على الردة وليكونوا لهم مثلا لمن يخرج من الإسلام بعد الدخول فيه، وهؤلاء الذين قال الله سبحانه وتعالى فيهم: وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ، وَاكْفُرُوا آخِرَهُ، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ. وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ، قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ، أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ، أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ، قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ، وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (آل عمران- 72، 73) . وهكذا كان الإفساد اليهودى، ينافقون، ويدعون الوثنيين إلى النفاق، ويبثون بنفاقهم روح الفرقة بين المسلمين، ويستهزئون ويسخرون من أهل الإيمان، ويجعلون من أنفسهم مثلا لمن يخرج عن الإسلام، كما عبر القرآن الكريم عنهم. إفساد اليهود بين المسلمين 395- كانت الحرب بين الأوس والخزرج قائمة بين الفريقين، حتى جمع الله سبحانه وتعالى بينهما بالإسلام، وألف بين قلوبهم، فكانت القوة، ولكن اليهود كانوا يعلمون بأنباء العداوة السابقة، فكانوا يبثون فيهم ما يحيى نار العداوة بعد موتها، ويثيرون نارها بعد إطفائها، وفي كل فريق من يسمع لضعف في إيمانه، أو لبقايا العصبية، أو لترات بقيت بعد الحرب.

لقد كان رجل من شيوخ اليهود، وذوى الضغن والحسد اسمه شماس بن قيس، قد هاله أمر محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وما أكرمه الله سبحانه وتعالى به من نصر في بدر، وهاله أن الأوس والخزرج اجتمعوا، وكانوا يعيشون على الفرقة بينهم، فيوالون فريقا على فريق، ويتخذون ممن يوالونهم قوة يثبتون بها أقدامهم، فلما رأوا اجتماعهم بالإسلام، فقال شماس: هكذا اجتمع بنو قيلة بهذه البلاد والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم من قرار. قدر ذلك الشيخ الخبيث ودبر، فوجد أن يثير الخلاف القديم جذعا، فأثار ما كان يوم بعاث، وهو الذى كان بين الأوس والخزرج، وانتصر فيه الأوس، وكانت بيعة العقبة الأولى، ثم الثانية. أثار الأمر في هذا اليوم بين الأنصار رضى الله تبارك وتعالى عنهم، وفيهم ضعاف العقول يستطارون فتكلم هؤلاء وتنازعوا، وتفاخروا، واشتدت المجاوبة فتواثب رجلان من الحيين، واحد من الأوس والآخر من الخزرج، وقال أحدهما لصاحبه: إن شئتم رددناها الآن جذعة، فغضب الحاضرون من الفريقين، واتفقوا على مكان يكون فيه اللقاء، وقالوا: موعدكم الظاهرة. بلغ ذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فعلم أنها فتنة يهودية، وخرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين حتى جاءهم، فقال: «يا معشر المسلمين، الله الله، أبدعوى الجاهلية، وأنا بين أظهركم، بعد أن هداكم الله تعالى للإسلام، وأكرمكم به، وقطع عنكم به أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألف بين قلوبكم» . أدرك أنصار الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم أنها نزغة من الشيطان، وكيد من عدوهم، فبكوا، وعانق بعضهم بعضا- ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سامعين مطيعين موفورين. ورد الله سبحانه وتعالى كيد الكافرين من اليهود في نحورهم. وأنزل الله سبحانه وتعالى في اليهود قول الله سبحانه وتعالى: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً، وَأَنْتُمْ شُهَداءُ، وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (آل عمران- 99) . وأنزل الله سبحانه وتعالى في المسلمين الذين انساقوا وراء شر اليهود: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ. وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ، وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ

ليسوا سواء

مُسْتَقِيمٍ. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ، وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ. وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا، وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ، فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً، وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها، كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ. وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ، وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا، وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (آل عمران- 100: 105) . ففى هذا النص الكريم تحذير للمؤمنين من اليهود الذين يفرقون جمعهم، وتذكير بما كانت عليه حالهم من قبل، وبيان الطريق لأن يمنعوا الأشرار من الدخول بينهم، وذلك بالتواصى بالخير بينهم، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، فمن يقع في الغواية منهم يرشده ذو العقل والحكمة فيهم. وإن التفرق بعد البينات إثم كبير، وله عذاب عظيم. ليسوا سواء 396- إذا كان ما ذكرناه صادقا على اليهود الذين كانوا بالمدينة المنورة عند ما هاجر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إليها، فالحكم فيه بنى على الغالب الكثير، لا على الجميع، فمنهم ناس اختاروا الإسلام دينا، وآمنوا بالله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم حق الإيمان، كما قال الله سبحانه وتعالى: ... مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ. يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ، وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (آل عمران- 113: 115) فهؤلاء من أهل الكتاب، وأهل الإيمان بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وسيجزون أجرهم مرتين. ونذكر من هؤلاء اثنين كان كلاهما من أحبار اليهود: وهما عبد الله بن سلام، ومخيرق. وجاء من أخبار السيرة في إسلام عبد الله أنه قال: لما سمعت برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عرفت صفته واسمه وزمانه الذى كنا نتوكف له، أى نترقبه، فكنت أسر ذلك صامتا له، حتى قدم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم المدينة المنورة.

فهو قد عرف النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قبل قدومه المدينة المنورة وتعرف صفات النبوة فيه التى بشر بها في التوراة، وخاطب بذلك بعض أهل بيته، إذ كان فرحا بقدومه ولم يوافقه ابتداء من عرف من أهل بيته، حتى قالت له عمته في فرحته: «والله لو كنت سمعت بموسى بن عمران قادما مازدت، فقال لها المؤمن المخلص الذى لم يشب إخلاصه تعصب لنحلة سابقة: أى عمة هو والله أخو موسى بن عمران، وعلى دينه بعث، ولم تلبث أن وافقته» . وإذا كان عبد الله بن سلام الحبر اليهودى المخلص قد عرف الحق، وأدرك فقد عرف قومه من اليهود وأدرك انحرافهم، وأنهم اتخذوا آلهتهم هواهم، وهواهم هو شهوة التحيز، حتى جعلوا الدين عنصرا، وليس اعتقادا خالصا فأراد أن يكشف حالهم. ذهب إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعد إذ آمن، ولم يعلن إيمانه، فقال له: يا رسول الله إن يهود قوم بهت (أى يبهتون ويكذبون بالباطل) ، وإنى أحب أن تدخلنى في بعض بيوتك، وتغيا بنى عنهم، ثم تسألهم عني، حتى يخبروك كيف أنا فيهم قبل أن يعلموا بإسلامى فإنهم إن علموا بهتونى، وعابونى. وأدخلنى الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم في بعض بيوته، فدخلوا عليه وكلموه، وسألوه ثم سألهم: أين الحصين «1» بن سلام، فقالوا سيدنا وابن سيدنا، وخيرنا وعالمنا. فلما فرغوا من قولهم خرج عليهم، فقال لهم: «يا معشر يهود، اتقوا الله، واقبلوا ما جاءكم به، والله إنكم لتعلمون أنه لرسول الله، تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة باسمه وصفته فإنى أشهد أنه رسول الله، وأومن به وأصدقه وأعرفه، فقالوا: كذبت. فقلت لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ألم أخبرك أنهم قوم بهت، أهل غدر وكذب، وفجور، فأظهرت إسلامى وإسلام أهل بيتى جميعا. ولقد كانوا يكثرون من الطعون فيه، ويقولون: إنه من الأشرار عندنا. وهو الذى ذكروا أنه من خيرهم وأعلمهم وأعدلهم، ولكنهم يكفرون بما يعلمون، ويكتمون ما عندهم. وأما الثانى وهو مخيرق، فقد كان علما من أعلامهم، وحبرا من أحبارهم. وكان رجلا ذا مال أعطاه الله تعالى بسطة من العلم والمال، وكان يعرف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بصفته في التوراة.

_ (1) وكان اسمه هذا قبل الإسلام.

الغيرة:

ولم يكن ممن يجعلون الاعتقاد عنصرية، بل كان ممن يؤمنون بالحق، ويعلمون أن الحق أحق أن يتبع، ويقول ابن إسحاق «غلب عليه إلف دينه، حتى إذا كان يوم أحد، قال: يا معشر يهود، والله إنكم لتعلمون أن نصر محمد عليكم لحق» . ثم أخذ سلاحه، فخرج حتى أتى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بأحد، ودخل في جنده وعهد إلى من وراءه من أهله، فقال: إن قتلت هذا اليوم، فأموالى لمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم يصنع فيها ما أراه الله سبحانه وتعالى. فقاتل حتى قتل، فكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: «مخيرق خير يهود» وقد أسلم في ساعته الشديدة، يوم جاءت قريش تريد أن تغزو المدينة المنورة ثأرا وانتقاما، فأبى إلا أن يكون مع المؤمنين، فاستشهد في سبيل الله تعالى، فكان خيرا في ذاته، وكان خير من في اليهود. الغيرة: 397- صدق الله سبحانه وتعالى إذ يقول في شأن أهل الكتاب عامة، واليهود خاصة، ... مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ. (المائدة- 66) ، ولكن الكثرة هى التى كان لها لجب وصخب، وهى التى ظهرت بلجاجتها، وعنفها في الكراهية وحسد الناس، وهؤلاء هم الذين ظهروا، وهم الذين ظهر زبدهم، واستمر ظاهرا، فهم يكرهون الناس، أينما كانوا، وحينما ثقفوا. وقد ذكرنا حالهم بعد غزوة بدر، وأعمالهم التى كانت أثرا لانتصار أهل الإيمان، فإن الخير يجيء إلى المحسود، فيزيد الحاسد بغضا وضراوة. لقد سكتوا في السنة الأولى عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم على إثر المعاهدة التى عقدها، والموالاة التى أولاهم بها، ليكون منهم جماعة مندمجة معه، وهى على دينها، ولسان حاله يقول لهم لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ وليس بيننا وبينكم من بعد إلا التواد، والتعاون على البر والتقوى، والتناصر على أعداء المدينة المنورة الذين يهاجمونها. كان ذلك، والحسد للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وللذين آمنوا يملأ قلوبهم، والضغن يأكل صدورهم، فإذا كان المؤمنون قد أخلصوا في ولائهم فأولئك قد أضمروا البغض. ولما كان الانتصار، كان أولى ثمرات الانتصار في قلوبهم المدنفة بالحسد أن تحركوا لإفساد أهل الإيمان وتعاونوا في ذلك مع المشركين.

اجتذبوهم إلى النفاق، فانجذبوا إليه، وكان منهم منافقون، والنفاق يسكن القلوب الحاقدة الحاسدة الضعيفة المستكينة، فكان أوّل أثر مرير من آثار تلك الغزوة المباركة أن ظهر النفاق ناتئا برأسه، ويفت في جماعات المسلمين، ويعملون على تفريق صفوفهم ويشتد أثر النفاق في مدة الحروب، حيث تشتجر السيوف، وتلتحم الأجسام. ففى غزوة أحد التى كانت في السنة الثالثة، كانوا يبثون في جيش المسلمين روح التمرد والهزيمة، ويأخذون قلوب الضعفاء من المؤمنين يبثون فيها الذعر والخوف، حتى همت طائفتان من جيش الإسلام أن تفشلا، كما قال تعالى: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ، تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ، وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا، وَاللَّهُ وَلِيُّهُما، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ، وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (آل عمران 121: 123) . وهاتان الطائفتان كانتا من المنافقين، وضعاف الإيمان، فإذا كان المؤمنون في غزوة بدر قد دخلوا وقلوبهم مستبشرة، فقد دخلوا في غزوة أحد، والمنافقون يبثون فيهم روح التردد والعجز، ولكن الله سبحانه وتعالى عليه نصر المؤمنين إن لم يأخذوا في أسباب الهزيمة، وإن استقاموا على الطريقة، ولم يخالفوا، وأنه إذا كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يعيش في المدينة المنورة والمؤمنون من أصحابه يحيط بهم أولئك المنافقون والمفتونون والحاسدون، فإنه يجب عليه الحذر منهم، وقد نفذ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك بأمر ربه، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا، وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ، قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ. ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ، وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا، وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ، قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ. إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ، وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها، وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً، إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (آل عمران 118: 120) ، وهكذا نجد حقد اليهود وصدهم قد أفسد النفوس، وفرق ما بينهم وبين أهل الإيمان. ولم يقفوا عند حد العمل على إفساد العلاقات الاجتماعية بين الناس، ومحاولة إضعاف الإيمان، وإغراء غير المؤمنين بالنفاق، حتى شاركوهم، بل كانوا يحاولون التشكيك في قلوب المؤمنين، لأنهم يودون أن يكفروا حسدا من عند أنفسهم.

ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتى هى أحسن

وكانوا في سبيل ذلك يسألون النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أسئلة معنتة لا لتتبين نبوته صلى الله تعالى عليه وسلم، بل يرجون من توجيه هذه الأسئلة ألا يجيب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عن بعضها، فيتخذوا ذلك ذريعة للتشكيك، وإلقاء الريب في قلوب المؤمنين، ولنذكر شيئا من هذه المحاولة. ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتى هى أحسن 398- جادلهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بالتى هى أحسن، وهو يعلم أنهم يريدون الكيد بالمسلمين وإلقاء الرعب في قلوبهم، رجاء أن يجدوا ثغرة في الرسالة يطيرون بها فرحا، ولكن الله سبحانه وتعالى أمر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بأن يجادلهم، فقال الله سبحانه وتعالى وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (النحل- 125) . لأن ذلك سبيل من سبل الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة. كانوا يسألون، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم يجيبهم بما آتاه الله سبحانه وتعالى من علم القرآن الكريم والحكمة، فيرد كيدهم في نحرهم، وتثبت الرسالة المحمدية، ويذهب ريب كل مرتاب. لقد سألوه متى تقوم الساعة، وهم يعلمون من علم الكتاب أن الساعة لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالي، ولكنهم سألوا السؤال، وهم يعلمون الإجابة، فيشككون في أمر البعث الذى يجادل فيه المشركون، وقد حكى الله سبحانه وتعالى السؤال والجواب الحكيم الصادق، فقال الله سبحانه وتعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ، أَيَّانَ مُرْساها، قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ، ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً، يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها، قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (الأعراف- 187) . ولقد كانت صيغة السؤال من بعضهم توميء بالتشكيك في الرسالة، فقد قال قائلهم: أخبرنا متى تقوم الساعة، إن كنت نبيا كما تقول. فأمره الله سبحانه وتعالى بأن يجيب ذلك الجواب الصادق، ولو كان السؤال ممن لا يؤمن لأن ذلك هو الحق، والحق أحق أن يتبع. وسألوه عن الروح، ليعنتوه أيضا، وليلقوا بالريب في نفوس المؤمنين فأمره الله سبحانه وتعالى بأن يقول أنها من أسرار هذا الوجود الذى لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالي، فقال الله سبحانه وتعالى في السؤال والجواب وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ، قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي، وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (الإسراء- 85) .

وإن حقيقة الروح لا تزال سرا من أمر الله لا يعلمها أحد سواه، نرى مظاهر وجودها، ولا نعرف حقيقة أمرها، لقد عرف ابن الانسان الكون وظواهره، وأدرك بالاستقراء الأفلاك، وأبراجها وارتفع ابن الأرض إلى السماء، ووصل إلى القمر، بأسباب المادة، لكنه إلى الآن لا يعرف حقيقة الروح ولا كنهها، وإن كان يعرف بعض ظواهرها، وأعراضها. 399- وسألوه عن ذى القرنين ما هو وما كان أمره، وما فعله، فذكر الله سبحانه وتعالى السؤال، وأعلم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بالجواب في قول الله سبحانه وتعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ، قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً. إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً. فَأَتْبَعَ سَبَباً. حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ، وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً، قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ، إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ، وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً. قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ، ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً. وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً، فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى، وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً. ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً. حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً. كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً. ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً. حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا. قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ، فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً، عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا. قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ، فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً. آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ، حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ، قالَ انْفُخُوا، حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً، قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً. فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ، وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً. قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي، فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ، وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا. (سورة الكهف: 83: 98) هذا سؤال قصد به الإعجاز، وإذا عجز محمد عليه الصلاة والسلام عن الإجابة طاروا فرحا، وألقوا بالريب في النفوس، وذلك ما يقصدون، وإليه يهدفون. ولكن الإجابة كانت علما غزيرا، وتتبعا دقيقا لسيرة ذى القرنين، وما كان له من أعمال لها أثر وذكر ولسان صدق، وكان ذلك البيان العجيب الصادق مسترعيا لعقول وقلوب الذين يستمعون إليه، فكان أثر الإجابة حجة لأهل الإيمان مثبتا لدينهم الذى ارتضوا.

وقد سألوا سؤالا آخر عن القرآن الكريم ليشككوا في أمره، وهو حجة الرسالة المحمدية، ودليلها الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. قالوا: أحق يا محمد، إن هذا الذى جئت به الحق من عند الله، فإنا لا نراه منسقا، كما تنسق التوراة. فقال لهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «إنكم لتعرفون أنه من عند الله، تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة، ولو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله ما جاؤا به» . فوجهوا السؤال إلى ناحية أخري، لأن اعتراضهم واهن، إذ أن نسق القرآن الكريم لا يمكن أن يوزن به نسق التوراة، ولو كانت هى الألواح العشر التى نزلت على موسي، فلكل نبى معجزته وآياته. حولوا السؤال إلى ناحية أخرى قد توجد شكا. قالوا: يا محمد. أما يعلمك هذا إنس ولا جن؟ قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «والله إنكم لتعلمون أنه من عند الله، وإنى لرسول الله تجدون ذلك مكتوبا عندكم في التوراة» . قالوا في لجاجة: يا محمد، فإن الله يصنع لرسوله إذا بعثه ما يشاء، ويقدر منه على ما أراد، فأنزل علينا كتابا نقرؤه، وإلا جئناك بمثله. يذكرون بهذا أنهم يستطيعون أن يأتوا بمثله، فيقول الله سبحانه وتعالى على لسان نبيه: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ، وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (الإسراء- 88) . ولسان الحال يقول: ائتوا إن استطعتم، ولكنكم لا تستطيعون، وفيصل الأمر أن تأتوا، ليتبين أمركم، وينكشف خبىء مكركم وضلالكم، إذ تسفهون في أنفسكم بما لم يسفه به المشركون. ويسألون سؤالا آخر يدل على عقليتهم المادية، وعلى عدم معرفتهم الله سبحانه وتعالى، وصفاته العلية الذى ليس كمثله شيء وهو العزيز الحكيم. وذلك أنهم كانوا متأثرين بالفلسفة اليونانية التى كانت تؤمن بالأسباب والمسببات، ولا تؤمن بغيرها. فالأسباب العادية جعلوها قانون الوجود، فكل شيء نشأ بالعلية، فالوجود الإنسانى والخلق كله معلول لعلة، والعلة سبب عن آخر، وبهذا أخذت الفلسفة اليونانية، فيحسبون أن العالم كله نشأ بقانون العلية، عن الأوّل، وهو علة لما قبله، وبذلك يكون التسلسل لما لا نهاية.

أرادوا أن يظهر عجز النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بسؤال من هذا النوع، وتناسوا أن الله سبحانه وتعالى هو الفاعل المختار، الفعال لما يريد، وأن إنشاءه للكون، ليس بالسببية أو العلية، بل أنشأه بإرادته المختارة، وهذا سؤالهم الذى دل على كفرهم. قالوا للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم: «يا محمد، هذا الله خلق الخلق، فمن خلق الله؟» فغضب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم حتى انتقع لونه، ثم ساورهم غضبا لربه. ولقد كان غضب الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، لأن هذا السؤال كان من اليهود، وهم أهل كتاب مفروض أنهم يعرفون الله سبحانه وتعالى ويعرفون صفاته، وأنه الأوّل والآخر والظاهر والباطن، وأنه الفاعل المختار، القادر على كل شيء، وليس فوقه شيء، وهو مبدع الوجود، بديع السموات والأرض. ولم يقع من العرب مثل هذا السؤال، فهم كانوا يعرفون أن الله سبحانه وتعالى وحده خالق الوجود، وأنه ليس فوقه أحد، وإنما شركهم في أنهم كانوا يعبدون مع الله الأوثان التى ابتدعوها، وما أنزل الله تعالى بها من سلطان، فغضب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، لأن اليهود أهل الكتاب أسفوا في التفكير إلى ما لم ينزل إليه المشركون أهل الأوثان، وهكذا تذهب اللجاجة في التعصب إلى أن قالوا ما لا يعقلون. ويقول راوى هذا الخبر، وهو سعيد بن جبير: فجاءه جبريل عليه السلام، وهو غضبان أسفا، فسكنه وقال له: خفض عليك يا محمد- صلى الله عليه وسلم- وجاءه بجواب ما سألوه عنه: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ. كان هذا تنبيها لهم إلى ما أسفوا فيه، ولكنهم نزلوا مرة ثانية عن مرتبة الوثنيين من العرب، وظنوا الله تعالى مادة كالأحياء، وتلك بقية من نزعتهم المادية. قالوا: «فصف يا محمد، كيف خلقه؟ ذراعه، كيف عضده؟» . فغضب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كغضبته الأولي، وساورهم، فأتاه جبريل الأمين وجاءه بجواب من الله سبحانه وتعالى عما سألوه، وهو قول الله سبحانه وتعالى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ، وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ، وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ، سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (الزمر- 67) . هذه بعض مجاوبات بين اليهود الذين لا يتقيدون بفكر ولا منطق ولا علم بكتاب، ولا إيمان بالله الواحد الأحد، الفرد الصمد الذى ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير، والنبى صلى الله تعالى

فى الفترة بين بدر وأحد

عليه وسلم يجادلهم بالتى هى أحسن، مع سوء قصدهم، إطاعة لقوله سبحانه وتعالى: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (العنكبوت- 46) . نترك الآن اليهود وأثر الانتصار المحمدى النبوى عليهم، وكيف نافقوا واتجهوا إلى الإيذاء النفسى بكل ضروبه، والنبى عليه الصلاة والسلام والمؤمنون الذين صابروا في ميدان القتال، صابروا اليهود وعلموا شرهم في ميدان الدس، والنميمة والخيانة، والفت في العضد أو ما يسمى بلغة عصرنا الحرب الباردة، فصبروا وانتصروا في الحالين، وكان النصر مؤزرا له ما بعده في تاريخ الإسلام. فى الفترة بين بدر وأحد 400- كانت فيما بين الغزوتين اللتين كان فيهما تعليم للمسلمين في الحروب، فالأولى علمتهم أسباب النصر، والثانية أرتهم أسباب الهزيمة، وأن طاعة القائد الحكيم فيها النصر، والتقاء القلوب، وكان الظفر المؤزر من بعد ذلك، وإذا لم يكن انتصار حاسم في بعض المواقع كحنين في ابتدائها، وكبعض الغزوات مع الروم، فلم يكن انهزام، ولم يكن خذلان. وإنه في هذه الفترة بعد الانتهاء من الأولي، والابتداء في الثانية قد كانت شرائع الإصلاح الاجتماعى بتنظيم التعامل بين الناس، والإصلاح الاجتماعي، هو الذى يقيم الجماعة الإسلامية على التعاون الجماعى فوق التعاون الآحادى. إذا كان الإخاء الذى كونه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم تأليفا آحاديا، فقد شرع الله سبحانه وتعالى بعد غزوة بدر الزكاة وهى التعاون الاجتماعى. لقد شرع الله سبحانه وتعالى قبيل غزوة بدر صدقة الفطر، وهى معاونة من الغنى للفقير والمسكين، ولا يتجاوز المصرف فيها الفقراء والمساكين، على ما حققه الأكثرون من الفقهاء، ومنهم ابن القيم، كما ذكرنا، وأنه لا تصرف في كل مصارف الزكاة على ما سنشير من بعد، ولأنه ورد في الأثر أن الواجب في صدقة الفطر، هو إغناء المساكين عن الحاجة في ذلك اليوم الذى هو فرحة المسلمين جميعا، وهو فرحة عيد الفطر، فيعم الفرح بهذه الصدقة المفروضة على رأى الأكثرين. وأما الزكاة، فإنها تعاون اجتماعى عام يشمل الفقير والمسكين ذوى الخصاصة، ويشمل غيرهما ممن يكونون في حاجة اجتماعية وإن لم تكن خصاصة.

ولقد بين الله سبحانه وتعالى المصارف بقوله الله سبحانه وتعالى: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها، وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ، وَالْغارِمِينَ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ، فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (التوبة- 60) . فهنا نجد أصنافا ثمانية تصرف لها الزكاة التى يجمعها ولى الأمر في كل إقليم من الأقاليم، كما قال عليه الصلاة والسلام «خذها من أغنيائهم وردها على فقرائهم» . والمصرفان الأولان الفقراء والمساكين، وخلاصة ما انتهى إليه الفقهاء من التفرقة بين الفقير والمسكين، أن الفقير هو المحتاج، ولو كان له كسب، ولكن لا يتكافأ مع حاجاته، أما المسكين فهو العاجز عن الكسب لعاهة أو لشيخوخة أو لمرض مزمن أو نحو ذلك من الأسباب التى تعجز صاحبها عن الكسب قليلا كان أو كثيرا، فكلاهما يستحق، وإن كان المسكين أشد استحقاقا، فإن ضاق بيت المال عن الإنفاق عليهما معا كان المقدم المسكين. والصنف الثالث من الأصناف الثمانية العاملون عليها، أى الجامعون لها من الأغنياء الذين يجب عليهم أداؤها، والذين ينفقونها على مستحقيها، من بقية الأصناف الثمانية، وإن ذكر العاملين لجمع الزكاة وصرفها في ضمن المصارف يدل على أن الزكاة تكون لها حصيلة مالية قائمة بذاتها توزن فيها مواردها بمصارفها، وتكون جزآ منفصلا عن ميزانية الدولة، ولذلك جعل لها المنظمون لبيوت المال بيت مال للزكاة قائما بذاته. والصنف الرابع المؤلفة قلوبهم، وهم يدخلون في الإسلام، وتؤلف قلوبهم بقدر من المال تثبيتا لإيمانهم وليدعوا إلى الإسلام قبائلهم، ويدنوهم إلى الإسلام. وهذا مبدأ لم يلغ، وكذب ما ادعاه بعض الناس من أن عمر رضى الله عنه قد ألغاه، وإنما كان عمل الفاروق أنه لم يعطه لناس كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد أعطاهم، وفعل أبو بكر ما فعل الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، فجاء عمر رضى الله عنه ومنعهم، لكيلا يكون حقا مكتسبا، وليس عطاء لمقصد، وأجمع الفقهاء على أنه إذ وجد ما يوجبه وجب صرفه. ويصح أن يصرف في الدعوة إلى الإسلام، كما يصح الصرف من حصة المؤلفة قلوبهم على الذين يدخلون في الإسلام فيقطعون من ذويهم، ويضيق عليهم في أسباب رزقهم، فيجب أن يعطوا تأليفا لقلوبهم، وتثبيتا لإيمانهم، ومعاونة لمن يستحق المعاونة. والصنف الخامس إعتاق الرقيق، وذلك لأن الإسلام دين الحرية ودين الكرامة والإنسانية ودين العدالة الحقيقية، ودين الإخاء، فلا يمكن أن يرضى عن أن يكون إنسانا مملوكا لغيره، وإذا كانت المدينة فى عهد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم والراشدين من بعده هى الصورة الاجتماعية العالية التى تنفذ فيها

أحكام الإسلام كاملة موفورة، فإن الزكاة قد بينت أحكامها في السنة الثانية، وأخذ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ينفذ في المجتمع الأحكام الاجتماعية العادلة التى تحمى المجتمع من آفاته، وأن إعتاق العبيد يكون بمعاونة المكاتبين وهم الذين عقدوا مع مالكيهم عقدا على أن يسددوا لهم قيمتهم المالية في سبيل تحرير رقابهم، فهؤلاء يعانون من الزكاة بما يمكنهم من سداد ما عليهم من المال، وقد قال الله سبحانه وتعالى: وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً، وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ (النور- 33) . ويكون منه إعتاق من في الرقاب بشرائهم وعتقهم، وقد كان السلف الصالح يفعلون ذلك، يروى أنه في عهد الحاكم العادل عمر بن عبد العزيز كتب إليه والى الصدقات في أفريقية يشكو من أن بيت المال قد اكتظ، ولا يجد فقيرا يعطيه، فأرسل الحاكم العادل أن سدد الدين عن المدينين. فسددها، وأرسل إليه يشكو من اكتظاظ بيت مال الصدقات، فأرسل إليه اشتر عبيدا من عبيد المسلمين وأعتقهم، وبهذا تلاقى الأحرار على نصرة الإسلام، فى عهد سيد الأنام محمد عليه الصلاة والسلام. والمصرف السادس الغارمون وهم الذين أثقلتهم الديون، وكانوا استدانوا في غير معصية وأنفقوا في غير سرف إذا عجزوا عن سداد الدين، فإن بيت مال الصدقات يسدد الدين عنهم، رفعا لخسيسهم، وكذلك يسدد الدين عمن استدانوا لأمر اجتماعى كالإصلاح بين متخاصمين، أو تحملوا ديات بين المتنازعين في الدماء، فإن بيت المال يعاونهم على سداد ما عليهم من ديون، ولو لم يكونوا عاجزين، لكى يتقدم أهل المروءة لإصلاح ذات البين، ولتخفف عنهم المغارم، فى هذا السبيل. وإنه يجب المقارنة في هذا بين شريعة الله تعالى التى نزلت على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وقانون الرومان الذى كان يعاصر نزولها، فإنه بينما كان ذلك القانون يبيح في بعض عصوره أن يسترق الدائن المدين إذا عجز عن السداد، جاءت الشريعة بمعاونة المدين في سداد دينه، وذلك فرق ما بين شريعة الله وشريعة الإنسان. والمصرف السابع- هو معاونة ابن السبيل، وهو من كان غريبا لا مال في يده، وإن كان له مال فى بلده، فإنه يعان من بيت مال الصدقات، حتى يثوب، ويصح لبيت المال أن يعينه بالمال، دينا عليه، حتى يعود إلى أهله إذا كان ذا مال يستطيع السداد منه من غير إرهاق ولا مشقة، والأصل أن تكون المعونة تمليكا لا أن تكون دينا. والمصرف الثامن هو الإنفاق في سبيل الله تعالى، وهو الإنفاق في الجهاد، فللجهاد قدر في مال الزكاة يعادل الثمن أو أكثر على حسب حاجة الجند في عتادهم والإنفاق عليهم.

المعاقل والديات

وبعض العلماء يقول إن كلمة في سبيل الله تشمل كل ما يكون من المنافع العامة، مثل إنشاء الجسور وتعبيد الطرق، وقد قال ذلك القفال الشاسي، على أن يدخل ذلك في المصرف الثامن، لا أن تدخل فيه كل المصارف السابقة، كما فهم بعض الذين يحاولون تعطيل تلك الفريضة الشرعية وهى فريضة الزكاة. المعاقل والديات 401- ذكرنا أنه في الفترة بين الغزوتين الكبيرتين كان إصلاح اجتماعى عملى واسع النطاق، قبل غزوة بدر كان الإصلاح النفسى بالصلاة والصوم، والاجتماعى المحدود، بصدقة الفطر، وما كان الإصلاح النفسى إلا لتتألف النفوس بالقرب من الله سبحانه وتعالي، والشعور بجلاله وعظمته، فمن قرب من الله رحم عباد الله، ومن رحم عباد الله ائتلف معهم، وكان معهم قوة مصلحة، رافعة دعائم الحق والخير. وكانت الزكاة من بعد ذلك إصلاحا عمليا يؤخذ بقوة الحاكم الذى يستمد السلطان من الله سبحانه وتعالى لا بمجرد الرغبة والاختيار، وإن الثواب على مقدارهما. وكانت هذه الفريضة من دعائم المدينة الفاضلة. ولكن المدينة الفاضلة يجب أن تكون فيها الزواجر الاجتماعية التى تحمى الفضيلة، لأن فضيلة الإسلام إيجابية، فيجب أن يكون لها من القوة ما تدفع به الرذائل. وكما أن القوة الحربية في الدولة لحمايتها من الاعتداء، فالزواجر الاجتماعية من الحدود والقصاص هى القوة التى تحارب بها الرذائل. ولقد ذكر ابن جرير الطبرى أنه في السنة الثانية من الهجرة شرعت المعاقل أى الديات، وإذا كانت الديات والمعاقل قد شرعت، فإنه قد شرع القصاص في النفس وفي الأطراف- وذلك لأن الديات قصاص معنوي، عند عدم استيفاء القصاص صورة، ومعنى بالقتل قصاصا أو قطع الأطراف. فالقصاص قد شرع وجوبه في السنة الثانية، إذ نزل قول الله سبحانه وتعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى، الْحُرُّ بِالْحُرِّ، وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ، وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى، فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ، وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ، فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ. وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ، يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (البقرة- 178: 179) .

بناء على بن أبى طالب بفاطمة رضى الله عنهما:

وإن ذلك بلا ريب إصلاح اجتماعى خطير، لأنه يحمى الإنسان من أخيه الإنسان ولأنه بقيام القصاص تكون حياة كريمة آمنة لا اعتداء فيها ولا إفساد؛ ولأن ذلك إبطال للعادات الجاهلية التى كان يقتل فيها الألف بالواحد، ولا يقتل قاتل الكبير، بل يقتل من يرى أهله أو قبيله قتله ممن يحسبون أن يكون له كفئا، ولا يرضون أن تكون النفس بالنفس. ولقد كان في القصاص قتل الروح الحسد والحقد في النفس، أو تخفيف لآثار الحسد، أو حمل للحسود على أن يضبط نفسه، إذ يرى العقاب يترصده، ولقد قال الله سبحانه وتعالى عن أثر الحسد الذى حمل قابيل على أن يقتل هابيل أخاه التقى الذى تقبل الله سبحانه وتعالى قربانه: مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ، فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً، وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً (المائدة- 32) . وإن أحكام الديات بأنواعها كما ذكرنا تابعة لأصل الحكم بالقصاص في هذه الآية، وقد بينت آية القصاص في التوراة أن شريعة النبيين في التوراة القصاص، واستمرت في الإسلام، فقال الله سبحانه وتعالى فى سورة المائدة وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ، وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ، وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ، وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ، وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ، فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (المائدة- 45) . وبهذا يتبين أنه في الفترة بين الغزوتين كان الإصلاح الاجتماعى بإقامة العدل بين الناس، وسن سنة القصاص، وبيان الديات، حيث لا تتوافر شروط القصاص، أو حيث لا يمكن، والله سبحانه وتعالى أعلم. بناء على بن أبى طالب بفاطمة رضى الله عنهما: 402- فى هذه السنة بعد غزوة بدر بنى على بن أبى طالب كرم الله وجهه بفاطمة الزهراء رضى الله تبارك وتعالى عنها وصلى الله وسلم على أبيها سيد الخلق أجمعين. وقد روى البخارى بسنده في ذلك عن على بن أبى طالب رضى الله عنه: قال: كان لى شارف من نصيبى من المغنم يوم بدر، إذ كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد أعطانى شارفين مما أفاء الله من الخمس يومئذ- فلما أردت أن أبنى بفاطمة بنت النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، واعدت رجلا صواغا من بنى قينقاع أن يرتحل معى فنأتى بأذخر (نبات نفيس بالصحراء) فأردت أن أبيعه من الصواغين، فأستعين به في وليمة عرسى فبينا أنا أجمع لشارفى من الأقتاب والغرائر والحبال، وشارفاى مناخان إلى جنب حجرة رجل من الأنصار، حتى جمعت ما جمعت فإذا بشارفى قد أخبت (أى قطعت)

أسنمتها، وبقرت خواصرها وأخذ من أكبادها فلم أملك عينى حين رأيت المنظر، فقلت: من فعل هذا؟ قالوا: فعله حمزة بن عبد المطلب وهو في هذا البيت في شرب من الأنصار، وعنده قينته وهى تغنيه، وجاء في غنائها «ألا يا خمر للشرف النواء ... » فانطلقت حتى دخلت على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وعنده زيد بن حارثة.. فقلت: يا رسول الله ما رأيت كاليوم، عدا حمزة على ناقتى فأجب أسنمتها، وبقر خواصرها، وها هو ذا في البيت مع شرب (أى ندامى يشربون الخمر) ، فدعا إلى ردائه، فارتداه، ثم انطلق يمشى، واتبعته أنا وزيد بن حارثة حتى جاء البيت الذى فيه حمزة، فاستأذن، فأذن له، فطفق النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، يلوم حمزة فيما فعل، فإذا حمزة ثمل محمرة عينه فنظر إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ثم صعد النظر فنظر إلى ركبتيه، ثم صعد النظر، فنظر إلى وجهه، ثم قال: وهل أنتم إلا عبيد لأبى، فعرف النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أنه ثمل، فنكص على عقبيه القهقرى، فخرج وخرجنا معه. هذا لفظ البخارى في روايته. سقنا هذا الخبر لأن فيه خبرا عن زواج فارس الإسلام على بن أبى طالب وقد كان يناهز الرابعة والعشرين من عمره، وإنا نتيمن دائما بذكر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وآله الأبرار. والخبر يدل فوق ذلك على أمور: أولها: أن عليا المجاهد العظيم، ما كان عنده مال لعرسه، فخرج يجمع المال من جوف الصحراء ليستعين بجهده على ذلك، وهو ابن عمه، وربيبه الذى رباه. ثانيا: أنه يصرح بأن الناقتين من نصيبه في الخمس الذى كان للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم وآله، فدل هذا على أن أنفال بدر خمست ولم توزع بالتساوى، كما ادعى أبو عبيد في كتابه الأموال. وثالثها: أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم في هذا الوقت المثير، لم ينس الاستئذان، فاستأذن على الشرب. ورابعها: ما تفعله الخمر في النفوس، فمحال أن يصدر عن أسد الله حمزة في صحوه ما صدر عنه. وخامسا: أن الخمر لم تكن حرمت تحريما قاطعا، ولم يكن قد تبين حكمها بيانا شافيا. وأنها تغرى بالعداوة والبغضاء، وكادت توجد العداوة بين على وحمزة، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم وحمزة، لولا أنهم الحكماء الأبرار.

حروب في الفترة بين الغزوتين الكبيرتين

حروب في الفترة بين الغزوتين الكبيرتين 403- بعد غزوة بدر الكبرى كان الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم يتعرف ما حوله من القبائل، ويسير إليهم، فبعد سبع ليال من قفوله إلى المدينة المنورة كما قال ابن إسحاق اتجه إلى بنى سليم، فذهب إليهم، وبلغ ماء من مياههم اسمه المكدر، فأقام ثلاث ليال متعرفا أحوالهم وبيئتهم ثم عاد، ولم يلق كيدا وأقام بالمدينة المنورة، وكان ذلك في شوال من السنة الثانية للهجرة، وتسمى غزوة المكدر. وقد كانت من جولات النبى صلى الله تعالى عليه وسلم في القبائل يتعرف أحوالهم، ويعرف من يلقاه بالدعوة الإسلامية، فهذه تسميتها بالغزوة هى وأشباهها، لا يعنى الحرب، ولكن هى نشر الدعوة، والاستعداد لما يكون من بعد. وكان كلما خرج خرجة من هذا النوع وغيره، أقام في المدينة المنورة من يخلفه عليها، ولا يختص أحدا دون غيره. غزوة السويق 404- فى ذى الحجة كانت غزوة السويق: وسببها أن رجوع فلول جيش قريش المهزوم قد أرث حقد كبراء قريش الذين بقوا من معاندى النبوة ومحاربى الدعوة المحمدية إلى التوحيد، وهجر الأوثان، وعبادة الرحمن وحده. وأخص من تألم منهم أبو سفيان الذى آلت إليه زعامة الشرك بعد أبى جهل، وعقبة بن أبى معيط، وقد كان أظهر قواد المشركين في بدر. نذر أبو سفيان ألا يمس الماء رأسه من جنابة حتى يغزو محمدا عليه الصلاة والسلام، وقد كانت رهبة من المسلمين شديدة إثر الهزيمة المنكرة التى منى بها قومه، وقتل الأشياخ منهم، فأورثهم ذلك فزعا وخوفا مع الرغبة الشديدة في الانتقام. ومع هذه الحال أراد التحلة من يمينه، فخرج في مائتى راكب من قريش، فسلك الطرق النجدية، فنزل بصدر قناة إلى جبل يقال له «يثب» يقرب من المدينة المنورة ثلاثة فراسخ، ولكنه لم يتجه إلى أحد من المسلمين حتى يتصل بيهود بنى النضير الذين كانوا يجاورون النبى صلى الله تعالى عليه وسلم في المدينة المنورة، وقد علم ما كان يسكن نفوسهم من إحن وبغض للمسلمين مع العقد الذى بينهم، ويظهر أنهم كانوا معهم على مودة كونتها عداوة المسلمين عامة، وعداوة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم خاصة.

غزوة ذى أمر

التقى أبو سفيان ببنى النضير، تحت الليل، فأتى حيى بن أخطب فضرب عليه بابه، فلم يفتح له، ودفعه الحرص ألا يعاونه، فانصرف إلى سلام بن مشكم، وكان السيد على بنى النضير في زمانه. وصاحب كنزهم الذى اكتنزوه، فقرى أبا سفيان، وأخبره ما كان خفيا عليه من أخبار المؤمنين. خرج أبو سفيان من المدينة المنورة بعد أن عرف من أسرار المسلمين ما كان يعلمه بنو النضير، فأرسل رجالا ممن معه حتى أتوا ناحية من المدينة المنورة يقال لها العريض، فحرقوا النخيل، وخربوا، ثم وجدوا بها رجلا من الأنصار، وحليفا في حرث يزرعونه، فقتلوهما، وانصرفوا راجعين هاربين، غير مقاتلين، وتخففوا مما يحملون، حتى يسهل الهرب، وتركوا أزوادا مما تزودوا بها. علم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وكان أشد حرصا وسبقا إلى الفزع والهيعة إذا تنادوا بها فخرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وأقام على المدينة المنورة أبا لبابة. فسار حتى بلغ المكدر، ولكن كان أبو سفيان ومن معه قد أمعنوا في الهرب فلم يدركوه، ولكن وجدوا زاد جيشه الذى كان يبلغ نحو المائتين. وكان أكثر مما تركوا سويقا من أزوادهم، فأخذ المسلمون سويقا كثيرا، وجدوا فيه غذاء طيبا. ولذا سميت الغزوة ذات السويق. وقد كانت نتيجة هذه الغزوة إرهابا شديدا للمشركين، وإشعار أولئك الأعداء باليقظة من جانب أهل الإيمان، والحذر من ألا يؤخذوا على غرة. وكان من نتيجتها أيضا أن علم المشركون أن ليس الطريق لهم ولما لهم غير الهزيمة، وأحسوا بذلك أن الإسلام صار قوة للحق لا ينال منه بغرة، وإذا كانوا قد قتلوا اثنين في حرثهما، فما كان ذلك منالا لأبطال. غزوة ذى أمر 405- أقام النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بعد غزوة السويق بالمدينة المنورة بقية شهر ذى الحجة يدبر أمر المسلمين وينفذ أحكام القرآن الكريم. ولم يلبث إلا قليلا حتى اتجه إلى تعرف أحوال البلاد العربية، واتجه إلى نجد التى كان قد أتى من طريقها جيش أبى سفيان الذى فاز بقتلى الحرث، ولم يظفر بمقاتل، فكان مخربا لا محاربا، ثم فر هاربا.

غزا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم نجدا يريد غطفان، وخلف على المدينة عثمان بن عفان رضى الله تعالى عنه. ولقد ذكر الواقدى في تاريخه، فقال: «بلغ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن جمعا من غطفان من بنى ثعلبة تجمعوا بذى أمر يريدون حربه، فخرج إليهم من المدينة المنورة يوم الخميس لثنتى عشرة ليلة خلت من ربيع الأوّل من العام الثالث، واستعمل على المدينة المنورة عثمان بن عفان. وكان معه أربعمائة وخمسون رجلا وهربت الأعراب في رؤوس الجبال حتى بلغ ماء يقال له ذو أمر فعسكر به، ولم يمكث في هذه الغزوة أكثر من أحد عشر يوما وعاد. ويذكر الواقدى في هذه الغزوة أن المسلمين أصابهم مطر كثير، ابتلت منه أثواب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فنزل تحت شجرة نشر عليها ثيابه لتجفف على مرأى من المشركين الذين شغلهم خوفهم وهربهم. ولكن رجلا مندفعا منهم يقال له غورث بن الحارث أغروه بأن يقتل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وهو في أمنه، فيأخذه على غرة. فذهب ذلك الرجل إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ومعه سيف صقيل، حتى قام على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم شاهرا السيف عليه، وقال: «يا محمد من يمنعك منى؟ قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: الله، فوقع السيف من يده، فأخذه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وقال: من يمنعك منى؟ قال: لا أحد، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، والله لا أكثر عليك جمعا أبدا» . ذكر هذه القصة الواقدى في تلك الغزوة وهى غزوة ذى أمر، ولكن البيهقى ذكر في غزوة ذات الرقاع قصة تشبه هذه، وحمل السيف منسوب إلى غورث. وبعضهم يقول إنهما قصتان، ولكن يلاحظ ابن كثير أن غورث المنسوب إليه حمل السيف واحد في الروايتين، فلا يمكن أن تكون ثمة واقعتان إلا إذا فرضنا أن غورث هذا لم يسلم، ولم يعط عهدا للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم بأن لا يكثر عليه جمعا أبدا. والله تعالى أعلم بالحق في الأمر.

غزوة الفروع من بحران

غزوة الفروع من بحران 406- كانت قريش لا تريد أن يعيش محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ومن معه من المؤمنين فى أمن، وما كان يمنعهم من الإغارة على المدينة المنورة إلا أنهم في غب هزيمة، وهى توجد الفزع، فكان الخوف يردهم عن غاياتهم. والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم يعمل على تتبع أحوالهم، وتقصى أخبارهم، ونقص الأرض من أطرافها، وهو يريد بهذا مع تخويفهم أن يتعرف أحوال قبائل العرب، وينشر نور الإسلام متنقلا في أحياء العرب وقبائلهم في منتجعاتهم، ومتعرفا أرضهم. لذلك خرج من المدينة المنورة تاركا عليها ابن أم مكتوم، وسار يريد قريشا، حتى بلغ بحران، وهو معدن من ناحية مكان يقال له الفروع. ذهب إلى ذلك المكان فأقام به شهر ربيع الآخر، وجمادى الأولى، وهو في هذه المدة يدرس حال القبائل ويتعرف حالها، ويدعو إلى الإسلام في ربوعها، غير وان ولا مقصر، فذلك عمله الذى بعث له. فما كان مبعوثا لأجل الحرب، وإنما كان مبعوثا لأجل الهداية، والحرب كانت لحماية الدعوة من الأذى، ولمنع الفتنة في الدين، ولفتح الطريق لها. ولذلك لا يصح لأحد أن يعترض فيقول إذا كان لم يلق كيدا، ولا حربا ولا عيرا ولا نفيرا فلماذا يترك المدينة المنورة تلك المدة التى ليست قصيرة، لأن الغاية نشر الإسلام، لا مكيدة حرب ولا مصادرة مال، فالغاية هى نشر دعوة التوحيد. تكشف الوجه اليهودى في قينقاع 407- ذكرنا بإيجاز ما كان يقوم به اليهود، من إثارة للريب في قلوب المسلمين، وما كانوا يحاولون له أن يثيروا روح التردد والهزيمة في المجاهدين، وما ملأ قلوبهم من غيظ بعد غزوة بدر الكبري، وكيف علموا الوثنيين الحقد وسبقوهم إليه، وكيف أخرج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم المنافقين من المسجد، عند ما رآهم يهمزون ويلمزون، ذكرنا ذلك، ولكن طائفة منهم تكشف غيظها، ولم تحف أمرها، لأنها كانت تعيش في وسط المدينة المنورة مع المسلمين، ولم تكن في أطرافها، وأولئك هم بنو قينقاع.

ولقد كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم حريصا على أن يدعوهم إلى الحق بالحكمة والموعظة الحسنة، تاركا ما يعرف من أن قلوبهم تنضح بالحقد يبدو على ألسنتهم، فالداعى إلى الحق لا ينى عن الدعوة إليه، ولو كان من يدعوه يهوديا لا يؤمن بشىء، ولا يرضى إلا بالخبال للمؤمنين. التقى بهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بسوق قينقاع فحدثهم حديث الجار لجاره الذى عاهده يدعوه إلى الرشد، قال عليه الصلاة والسلام لهم: «يا معشر يهود، احذروا من الله مثل ما نزل بقريش من النقمة، وأسلموا، فإنكم قد عرفتم أنى نبى مرسل، تجدون ذلك في كتابكم، وعهد الله تعالى إليكم» فأجابوا هذا الحديث الرشيد الودود بكلام فيه جفوة وحدة قائلين: يا محمد، إنك ترى أنا قومك، لا يغرنك أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب، فأصبت منهم فرصة، وإنا والله لئن حاربناك لتعلمن أننا الناس. لقى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك الجواب المرعد المنذر بالإغضاء، فما كان يحارب المعتدى بالقول، ولكن كان يحارب الفعال. وذكر ابن إسحاق أن الله تعالى قد أجاب عنه بقوله سبحانه وتعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ. قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (آل عمران- 13) . وهذه الرؤية المضاعفة كانت حال اللقاء في الحرب، إذ كانوا يرون أنفسهم رأى أعينهم مثل المؤمنين، والله تعالى هو الذى يؤيد بنصره من يشاء قلة كانوا أو كثرة، وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله.. ولكن بنى قينقاع لم يقفوا عند حد القول، فى بث روح التفرقة والشك في أنفسهم، بل انتقلوا من الإساءة بالقول إلى الإساءة بالفعل، وهم على كثب من المسلمين، وكانوا يجاهرون بنقض العهد وأنهم لا يحترمونه، ويتناولون النبى صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنين بالذم، والأذى. ولقد قال ابن إسحاق: إن امرأة من المسلمين قدمت تبيع في سوق بنى قينقاع، وجلست إلى صائغ، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوءتها فضحكوا بها، فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ الماجن فقتله، وكان يهوديا، وشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود فغضب المسلمون، فكان الشر بينهم وبين بنى قينقاع.

موقعة بنى قينقاع:

عندئذ كان لا بد من الحرب دفاعا عن الفضيلة وعفة النفس، وقد نقضوا العهد بأقبح طريقة. موقعة بنى قينقاع: 408- أخذ بنو قينقاع من قبل ما حدث مع المرأة، وما كان من تهديد يتطاولون على المسلمين بالسب والأذى، والتحامل، وعدم صون لسانهم عن المسلمين والإسلام، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم يصابرهم ويوفى بعهدهم، حتى كان منهم القتل. حاصرهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم في ديارهم، وأقام على المدينة المنورة في أثناء محاصرته لهم التى دامت خمس عشر ليلة بشير بن عبد المنذر وهو أبو لبابة. ولما اشتد الحصار عليهم واستطال، نزلوا على حكم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. فأجلاهم، ولم يقتلهم، وقد كانوا حلفاء الخزرج الذين منهم رأس المنافقين عبد الله بن أبي، كما كان منهم عبادة ابن الصامت، وقد ناصرهم ابن أبى، وتعرض للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم فقال رأس النفاق: يا محمد أحسن في موالى. فأبطأ عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال: يا محمد أحسن في موالى. فأبطأ عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال: يا محمد أحسن في موالى. ومع تبجحه فى نداء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من غير وصف الرسالة، إذ غلبه النفاق في النداء، فبدا في لحن قولهم، كما قال الله سبحانه وتعالى: وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ (محمد- 30) مع هذا التبجح تجرأ فوضع يده في جيب درع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أرسلنى، وغضب حتى رأوا لوجهه ظللا، ثم قال: ويحك أرسلنى، قال المنافق: «والله لا أرسلك حتى تحسن في موالى. أربعمائة حاسر «1» ، وثلاثمائة دارع «2» قد منعونى من الأحمر والأسود، تحصدهم في غداة واحدة، إنى والله امرؤ أخشى الدوائر» وكأنه حسب أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم سيقتلهم، والنبى عليه الصلاة والسلام أراد إجلاءهم. ولم يرد قتلهم، فقال له: هم لك، أى أنه يجليهم، ولا يقتلهم، لأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم دفع شرهم بأقل ضرر ينزله بهم. هذا موقف رأس النفاق، أما موقف المؤمن عبادة بن الصامت، وهو حليفهم مثله، فإنه قال: «أتولى الله ورسوله والمؤمنين، وأبرأ من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم» . ذانكم رجلان: مؤمن ومنافق.

_ (1) الحاسر: الذى لا درع له. (2) الدارع: لابس الدرع

سرية زيد بن حارثة

يقول ابن إسحاق: إن في ابن أبى وعبادة نزل قول الله سبحانه وتعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ، وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ، إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ، يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ، فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ، فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ. وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ، حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ، فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ، ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ، وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ. إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ، وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ، وَهُمْ راكِعُونَ. وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (المائدة- 51: 56) . وإذا صح أن الآيات الكريمات نزلت لمناسبة موقف رئيس المنافقين، ورجل مؤمن من المؤمنين، فإن الآيات فيها وصف عام لمن يكون ولاؤهم لله ومن يكون ولاؤهم لغيره. وإن أمر بنى قينقاع قد انتهى بإجلائهم، وطهرت المدينة المنورة من أرجاسهم، وما كان ذلك اعتداء من النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، بل كان ذلك لرد اعتدائهم، ولنقضهم للعهد، ولأنهم صاروا جيران سوء، يحق إجلاؤهم ليسلم الناس من فسادهم. سرية زيد بن حارثة 409- بعد غزوة بدر، وما أصاب قريشا فيها، خافوا طريق المدينة المنورة في وصولهم بمتاجرهم إلى الشام فاختاروا طريقا حسبوه أسلم من هذا الطريق وإن كان أطول، فاختاروا طريق العراق وهو طريق مع بعده لم يكونوا من قبل يسلكونه، فلم يعرفوا مسالكه، فاستأجروا رجلا من بنى بكر بن وائل حليف بنى سهم ليكون لهم دليلا، وليستمدوا من حلفه أمنا لهم. ولكن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم الذى كان يتعرف الصحراء وطرائقها علم بمسلكهم، فبعث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إليهم زيد بن حارثة، يتتبع مسالكهم، فلم يفلتوا منه، ولقيهم على ماء يقال له ماء القردة، وهم يستسقون، فأصاب العير، فأحضرها إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وقسمت غنائم، ولكن الرجال الذين كانوا يصحبون العير قد نجوا بأنفسهم فارين.

كعب بن الأشرف اليهودى

ويقول الواقدى في تاريخ هذه السرية، والعلم بالعير «كان خروج زيد بن حارثة في هذه السرية في مستهل جمادى الأولى على رأس ثمانية وعشرين شهرا من الهجرة (فى السنة الثالثة) وكان رئيس العير صفوان بن أمية، وكان سبب بعثة زيد بن حارثة أن نعيم بن مسعود قدم المدينة المنورة ومعه خبر هذه العير، وهو على دين قومه، واجتمع بكنانة بن أبى الحقيق في بنى النضير، ومعهم سليط بن النعمان، فشربوا فتحدثوا بشأن العير ... فخرج سليط من ساعته، فأعلم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فبعث من وقته زيد بن حارثة، فلقوهم فأخذوا الأموال، وأعجزهم الرجال وإنما أسروا رجلا أو رجلين، وقدموا بالعير، فخمسها، فبلغ خمسها عشرين ألفا، وقسم أربعة أخماسها على السرية. وكان فيمن أسر الدليل فرات ابن حيان، فأسلم رضى الله عنه، وأن هذا الخبر، يعين الوقت، ويذكر طريق العلم بهذه العير. وإنى أرى خبر نعيم الذى وصل إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم في حينه كان من أحد طرق المعرفة، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقظا عالما بما تفعل قريش من أوقات متاجرهم وخروجها إلى الشام، وميقاته، وخروجها إلى اليمن وميقاته، فقد كانوا يألفون مواعيد معلومة يعدون فيها المتاجر، والله سبحانه وتعالى قد أعلم بما يألف قريش، فقال: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ. رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ. فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ. الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (سورة قريش) . فالنبى لابد أن يكون بفراسة المؤمن يعلم أنهم سيخرجون في ذلك الوقت وأنهم إذا لم يمروا به، فإنهم لابد أن يمروا بطريق آخر، وهو طريق العراق، فجاء الخبر متفقا مع ما نحسب أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد حسبه والله أعلم. كعب بن الأشرف اليهودى 410- هذه حال فردية ولكنها ذات صلة بسير الحروب، بين أهل مكة المشركين والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وما كان يقوم به اليهود في هذه المعارك آحادا وجماعات من تحريض للمشركين وتخذيل للمؤمنين، وبث روح التردد والهزيمة في أهل المدينة المنورة، وإثارة الحروب في مكة المكرمة، وكلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله سبحانه وتعالى. وكان كعب بن الأشرف يقوم في ذلك بأعمال خطيرة، تؤجج النيران ضد المؤمنين، وكعب من طييء، وأمه من بنى النضير، وظاهر حاله أنه لم يدخل في عهد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ولم يقف من النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ولا المؤمنين موقف المسالة، أو يعتزل، فلم يكن مع هؤلاء وأولئك، بل أظهر العداوة، وعمل تحت سلطانها، وبدا ذلك فيما يأتى:

(أ) أنه لما علم بمقتل المشركين من أهل بدر، أعلن غضبه على المؤمنين، قال: «لئن كان محمد أصاب هؤلاء القوم لبطن الأرض خير من ظهرها» ، وبذلك أعلن العداوة المكنونة في نفسه، وماذا يصنع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مع عدو أظهر عداوته، ولم يكن له عهد مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. (ب) أنه كان يهجو النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ويشدد في الهجاء، غير ملاحظ كرامة، ولا حرمة، بل كان منخلعا من كل عهد، ومن كل فضيلة، وكان كالذين آذوا موسى من إخوانه اليهود، وهو متحلل من كل مروءة. (ج) أنه قدم المدينة المنورة يعلن عداوته للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم ويجاهر بها، ويحرض اليهود على المؤمنين، ويلقى بالشر والفتنة بين المؤمنين من غير حريجة من خلق أو دين أو عهد، وجعل يشبب بنساء المؤمنين، ويشيع قالة السوء عن فضليات هؤلاء النساء. (د) وكان يحرض يهود على أن تنقض عهدها مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وأنه كان بأفعاله يجرئ كل من لم يؤمن بمحمد عليه الصلاة والسلام على الخروج عليه، وشن الحرب، ولم يترك بابا من أبواب الكيد إلا دخل إليه، وليس له أهل يرد عليهم فيمنعوه، بل هو منفرد بأعماله مقيم فى حصن، لا ينتمى إلى بنى النضير إلا من جهة أمه، ولا تسرى عليه عهودهم. (هـ) أنه لم يقف عمله عند العداوة والبغضاء، وإشاعة الفساد، وتحريض يهود، بل إنه تجاوز ذلك، إذ ذهب إلى مكة المكرمة، واستعدى قريشا، فنزل على الذين أوذوا في غزوة بدر، وأخذ يحرضهم على قتال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وربط حباله بحبالهم، ونفسه بنفوسهم، حتى لقد قال له أبو سفيان من فرط ما امتزجت نفوسهم به: «أناشدك أديننا أحب إلى الله أم دين محمد وأصحابه، وأينا أهدى في رأيك، وأقرب إلى الحق، إننا نطعم الجزور الكوماء، ونسقى اللبن على الماء، ونطعم ما هبت الشمال» فقال له كعب اليهودى الكتابى: أنتم أهدى سبيلا، وقال الله سبحانه وتعالى في كتابه: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ، وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا. أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ، وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً. أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ، فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً. أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ، فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ، وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (النساء- 51: 54) . وهكذا قد بدت العداوة من أفواههم، والتحريض من أعمالهم، وإرادة الفساد، وإشاعة الفاحشة بين المؤمنين من تصرفاتهم، وكان كعب المثل الواضح في ذلك، وكان يقول القصائد محرضا المشركين على المؤمنين ويقول في شعره محرضا قريشا:

طحنت رحى بدر لمهلك أهله ... ولمثل بدر تستهل وتدمع ويقول في التحريض من هذه القصيدة: ويقول أقوام أسر بسخطهم ... إن ابن أشرف- قل- كعبا يفزع نبئت أن بني المغيرة كلهم ... خشعوا لقتل أبي الحكيم وجدعوا وابنا ربيعة عنده ومنبه ... ما نال مثل المهلكين وتبع نبئت أن الحارث بن هشامهم ... في الناس يا بني الصالحات ويجمع ليزور يثرب بالجموع وإنما ... يحمى على الحسب الكريم الأروع وهكذا يحرض على القتال، ويرثى القتلى بعبارات تؤجج نيران الحقد ليدفعها إلى الثأر. 411- هذا ما يفعله الرجل اليهودى المنطلق من كل العهود والمواثيق، أيسكت النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وهو المحارب الحذر الذى يهجم على مداخل الأذى قبل أن يلج منها العدو، أم يعلنها على قومه أو من ينتمى إليهم من بنى النضير، وأكثرهم لم ينالوا المؤمنين بمثل ما نال، ولا تزر وازرة وزر أخري، والنبى عليه الصلاة والسلام لا يعلن الحرب إلا على من أعلنها، ولما يعلنوها. أم يسكت ويترك الشر يستشري، ويحاكيه في أفعاله بقية يهود، لا شك أن آخر الدواء الكي، إنه لابد أن يجتث الداء في موضعه، ولا يتركه حتى يفسد الجسم كله، ولا منجاة حينئذ، لم يبق إلا أن يقتل كعبا حسما لمادة الفساد، وما السبيل لدفع شره غير القتل، إنه لا سبيل إلا هو، وأن يقضى على الداء، أن يعلن عليه النبى عليه الصلاة والسلام الحرب، وهل تعلن الحرب على واحد، لقد قلنا أن من ينتمى إليهم لم يكن منه مثل ما فعل. فلم يبق إلا أن يقتل، وأن يدعو النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من يتولى قتله في مأمنه، وقد اتخذ حصنا يأوى إليه، فحرض عليه الصلاة والسلام من يقتله من غير ضجة، ولا إزعاج لأحد من الآمنين، ولقد انتدب لذلك من رأى في نفسه القدرة من الصحابة، واستأذنوا الرسول في أن يخدعوه بالقول فأذن. ولقد وجدنا من الغربيين الذين يكتبون في تاريخ الإسلام من أثاروا زوبعة حول النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. وكيف يأمر بالقتل غيلة، وهو نبى مرسل، قالوا ذلك، ونسوا أنه نبى محارب لا يدعو إلى الاستسلام للشر، بل يقاومه، ويحتاج لحماية الناس من الضرر، وأنه بمقتضى حكمة النبوة يجب أن يدفع الضرر الكثير بالضرر القليل، وإنه في سبيل أن تحقن الدماء في القتال يجب منع أسبابها، وأن

الذى كان يثير الحرب جذعا هو واحد وقتل واحد شرير خير من قتل جماعة في ميدان الحرب، فهو كان يحرض على الحرب. قالوا إن القتل كان غيلة، ونحن نقول في ذلك إن الرجل جاهر بالعداوة، وشبب بنساء المسلمين، وحرض اليهود على الانقضاض على المؤمنين ونكث العهود. ولم يكتف بذلك، بل ذهب إلى مكة المكرمة، وأثار الأحقاد ودعا إلى أن يقاتلوا محمدا عليه الصلاة والسلام. فعل كل ذلك جهارا نهارا، فإذا لم يتوقع من محمد صلى الله تعالى عليه وسلم أنه يتربص به الدوائر الدائرة، وأنه يريد أن يقضى عليه، لأنه مادة الشر ولسانه، إذا لم يقدر ذلك فهو أبله، ولم يكن كذلك فمحمد عليه الصلاة والسلام أمر بقتله في وقت كان هو يتوقع ذلك، أو ينبغى أن يتوقع ذلك ولا يعد القتل غيلة لمن يتوقع القتل، إن قتل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يشبه من يعلن عن شرير بأنه ارتكب آثاما كثيرة، وأن من أحضره حيا أو ميتا، فله جزاء. إننا فرضنا أن الحكمة والعدالة والأخلاق توجب التخلص منه، وإذا لم يجز التخلص منه بالطريقة التى حدثت وهى الخديعة، فكيف كان يمكن التخلص، أيحضره من ينتمى إليهم فيقدمونه للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، إنهم لا يفعلون ذلك، ولم يوجد من يتحمل تبعة عمله وما يفعل، وإذا لم يكن ذلك أيأمر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بإحضاره بين يديه والحكم عليه بالقتل ويتولى قتله، وما الفرق بين هذا، وبين ما كان من حيث المعنى. إن قتله كان أمرا لابد منه لما قام به، ويقوم به رئيس الدولة العادلة التى يحكمها ذلك الحاكم العادل، فإنه لا سبيل لدفع فساده وإفساده إلا بقتله بأى طريق كان القتل، وكل ما فعله النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أنه أباح دمه، جزاء ما ارتكب، ومنعا لاستمراره في غيه، فقد كان يقوم بجريمة مستمرة غير متحرج، فالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان مخيرا بين أمرين إما أن يقتله، وإما أن يتركه يرتع في جريمته، فاختار أسلم الأمرين، اللذين لا مناص من اختيار أحدهما. وإن أولئك الذين يثيرون الشك حول أعمال محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وحول رسالته السماوية التى كانت رحمة للعالمين- يقولون إن الرسالة السماوية تتنافى مع القتل غيلة، بل تتنافى مع أصل القتل، كما كان من عيسى عليه السلام الذى يروون أنه قال: «من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر» .

ونقول في الجواب عن ذلك، إن قمع أعداء الدعوة الدينية لا يتنافى مع الرسالة، فموسى عليه السلام وهو من أولى العزم من الرسل، قد قتل بيده، وقاتل، ودعا بنى إسرائيل إلى القتال، وما تنافى ذلك مع رسالته الإلهية التى نزلت بها التوراة، وهى كتب العهد القديم المقدسة عند اليهود والنصارى معا. ويحسبون أن الرحمة النبوية تمنع القتل والقتال، ونقول في ذلك إن القتل المشروع يكون بباعث من الرحمة، فليست رحمة النبوة انفعالة رعناء تكون على موضع البرء والسقم، إنما رحمة النبوة تكون بالكافة، ومن الرحمة بالكافة أخذ المذنب بذنبه، ومنع الفساد في الأرض، قال الله سبحانه وتعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ، وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (البقرة- 251) والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: «أنا نبى المرحمة، وأنا نبى الملحمة» ، وملحمته نابعة من مرحمته، وكثير من العفو يكون مشتملا على أقسى العذاب، وهو العفو عن الجانى الذى لا رجاء في صلاحه. والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد اشتملت شريعته على العفو في الأمور التى لا يعود العفو فيها بالشر على الجماعة، كما قال الله سبحانه وتعالى: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (النحل- 126) . فالصبر عن أخذ الجانى بجريمته إنما يكون في الاعتداء على الآحاد الذى لا يتعدى الأمر فيه إلى الجماعة، وقول الله سبحانه وتعالى: خُذِ الْعَفْوَ، وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ، وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ إنما هو في الأمور الشخصية التى لا يعود ضررها على الكافة، يقول الله سبحانه وتعالى: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ، ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ. وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا، وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ. وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (فصلت- 34: 36) وهذا واضح أنه في الأمور التى تمس الشخص ولا تصل إلى الجماعة، وكلام النصارى الذى ينسبونه إلى المسيح عليه السلام إنما هو في الأمور التى لا تمس إلا الشخص. وإذا فهموه على أوسع من ذلك، فلكل شرعة ومنهاج، والله ولى الرشاد.

غزوة أحد

غزوة أحد 412- أهمت قريشا هزيمة بدر الكبري، إذ كانت حقا يوم الفرقان بين الحق والباطل، وقوة المؤمنين وضعفهم، وكانت أوّل هزيمة تنالهم من جيش محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، فكانت مرارة الهزيمة شديدة، لأنها نالت أشياخهم، والزعماء فيهم الذين كانوا يجعلونهم بحكم الجاهلية لا تعدلهم قبائل، وما من بيت من بيوت كبرائهم إلا كان فيه جرح كبير قد ولد ترة شديدة. وفوق ذلك قد أحسوا بأن دولة الشرك التى كانوا يستمسكون بها قد أخذت تنهار، وقد كانوا يعتبرونها عقيدة آبائهم، وكانوا يقولون: بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا، أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (البقرة- 170) . وقد وجدوا من بعد ذلك أن مكانتهم في العرب، وشرفهم أخذ ينهار، ولو توالت هذه الحال لزال شرفهم ولزالت مكانتهم، وظنوا أن الأعراب الذين كانوا يخضعون لشرفهم سيخرجون من بعد عن نفوذهم، وأن القبائل العربية، تتسنم مكانهم إن استطاعوا. ورأوا متاجرهم تساق إلى محمد صلى الله تعالى عليه وسلم غنائم تقسم بين أصحابه، وأنهم لا قبل لهم بأن ينفذوا بمتاجرهم إلى الشام ليتوردوا ويستوردوا، وتستقيم لهم رحلة الشتاء والصيف. رأوا كل هذا وحاولوا أن ينالوا من محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فلم ينالوا، فأغاروا غارة السويق، فما استفادوا كثيرا، بل لم يستفيدوا قليلا. رأوا كل هذه الدنايا، فهل يسكتون، وإن سكتوا عن متاجرهم، فلن يسكتوا عن شرفهم الذى ثلم، ولن يسكتوا عن الثارات التى ولدتها المقتلة في أشياخهم، ومن كانوا في موطن الزعامة فيهم. القوة بدل العير 413- مشى عبد الله بن أبى ربيعة، وعكرمة بن أبى جهل، وصفوان بن أمية في رجال من قريش ممن أصيب آباؤهم وأبناؤهم يوم بدر فكلموا أبا سفيان بن حرب ليقودهم إلى المعركة الجديدة، وكانت قيادة المعركة التى هزموا فيها بين أبى جهل، وعقبة بن أبى معيط، فأرادوا توحيد القيادة هذه المرة، وأبو سفيان بقية رجالهم، أو من هو في مكان الزعامة منهم، وأبو سفيان هو الذى نجا بعيرهم، ويريدون أن تكون العير الناجية فداء لثأرهم. قال هذا الوفد الذى ذهب إلى أبى سفيان، وخاطب أصحاب العير قائلا:

يا معشر قريش: «إن محمدا قد وتركم، وقتل خياركم فأعينونا بهذا المال على حربه، لعلنا ندرك منه ثأرا» . فنزلوا عن المال، ليكون مادة القتال، وأخذوا الأهبة من الرجال، وأدوات الحرب، لأنهم علموا أنها الذلة والخزى والعار، إن لم يستردوا مكانتهم. اجتمعت كل بيوتات قريش وبطونهم، ولم يبق أحد منهم الا أخذ الأهبة واستعد للقتال، وأن يضربوا المدينة المنورة ضربة قاصمة، وإن لم يقتلعوا الإسلام منها، فإنهم ينالون مأربا وثأرا، ويستردون شرفا ويدفعون عارا. وضموا إليهم كنانة وتهامة، وأحباشا كثيرة ممن لهم دربة في القتال بالرماح، وكان منهم وحشى قاتل أسد الله حمزة الذى منى بالعتق إذا قتل حمزة الذى كان سيفه البتار يهد قريشا هدا، فما ذهب ليقاتل، ولكن ذهب ليترصد حمزة، لا ليواجه الجيش، فكأنه ذهب للاغتيال، لا للقتال. ولم يكتفوا بمن استعانوا بهم من قبائل حول مكة المكرمة وأحباش، بل استعانوا ببعض المشركين من الأوس في يثرب لأن لهم أحقادا كأحقادهم، ولم يرضوا النفاق أو لم يظهروا به، فقد روى قتادة أن أبا عامر بن صيفى أخا بنى ثعلبة، وكان قد خرج من مكة المكرمة مباعدا لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ومعه خمسون من غلمان الأوس، وكان قبل قدوم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وتوهمت قريش أو أوهمها أنه إن لقى قومه، لم يختلف عليه أحد. وقد اجتمع بذلك نحو ثلاثة آلاف، ومعهم مائتا فرس عليها مائتا فارس وكان خالد بن الوليد على مائة جعلها يمين الخيل، وعكرمة بن أى جهل على مائة جعلها على ميسرة الخيل، وإنهم رأوا أن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم، إنما يقاتل بحمية الدين، ومؤيدا بروح معنوية تفوق قوة العدد والعدة وتتغلب على الصعاب، فرأوا أن يكون معهم المحرض المعنوى، وهو أن يكون نساؤهم معهم، بحيث يستحون أن يفروا أمامهن، وأن يؤخذن سبايا. فخرج أبو سفيان بن حرب، وهو القائد بزوجه هند بنت عتبة، وكان لها ثأرات، قتل ابنها وأخوها وأبوها، وخرج عكرمة بن أبى جهل ومعه زوجه أم حكيم بنت الحارث بن هشام بن المغيرة ... وهكذا كثيرات من عقائل القوم، وذوات الشرف في قريش، ليكون خروجهن محرضا على الجلاد، ومانعا من الفرار، وجملة القول في ذلك أنهم تزودوا بالعدد، وبالسلاح والكراع، وبالمحرضات كلها، لأنهم يعلمون أنهم أمام خصم مزود بكل قوى النفس والإيمان الذى فقدوه.

لقاء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لهم

وجاؤا معهم بالشعراء والخطباء ليحرضوا، وليدفعوا في الجند روح البأس والقوة وحب النضال، ولم يتركوا بابا من أبواب الإعداد إلا دخلوا منه. وكان ممن اشترك في التحريض على القتال أبو عزة عمرو بن عبد الله الجمحى، وكان قد أسر ببدر الكبرى، فمن عليه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بغير فداء، لأنه فقير كثير العيال، على ألا يظاهر عليه، وبالتالى لا يكون لسانه للتحريض على قتال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. ولكن المشركين مازالوا به حتى أخرجوه عن عهده للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فقد قال له صفوان بن أمية: يا أبا عزة إنك امرؤ شاعر، فأعنا بلسانك، فاخرج معنا، فقال: إن محمد قد منّ على، فلا أريد أن أظاهر عليه، قال: بلي، فأعنا بنفسك، فلك عهد الله على إن رجعت أن أعينك في بناتك وإن أصبت أن أجعل بناتك مع بناتى، يصيبهن ما أصابهن من عسر ويسر. خرج أبو عزة وأخذ يحرض بنى كنانة هو وغيره على أن ينضموا إلى جيش قريش ومن معهم فى قتال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. ويظهر أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد علم بمخرجهم، وفي كثير من الروايات أن العباس ابن عبد المطلب الذى لم يشترك في هذه الحملة أرسل إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يخبره. وأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان له فوق ذلك العيون يبثها ويتعرف أخبارهم، فيعرف عيرهم وبالأولى يعرف نفيرهم، ولكنه انتظر حتى يقع ما توقع، ويكون أمامهم وجها لوجه، وما كان له أن يلقاهم قبل ذلك في غير مأمنه، وحيث مستقره. وقد سار جيش قريش سيرته، حتى وصل إلى المدينة المنورة، وانساب في مزارعها، تأكل وتعبث أفراس المشركين وإبلهم، متحدّين مهاجمين. لقاء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لهم 414- كان قدوم ذلك الجيش اللجب إلى المدينة المنورة في أوّل شوال من السنة الثالثة، وكانت الغزوة في منتصفه، وروى أنها كانت في الحادى عشر منه. وقد أخذ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم الأهبة للقاء لا بكثرة العدد والعدة، ولكن بقوة الإيمان والحق وقوة الشورى، وبث روح التعاون، والاندماج النفسى بالشورى، فإن الشورى بين المخلصين تجعل نفوسهم تندمج، وتحس كل نفس بأنها جزء من الأنفس. وقف عليه الصلاة والسلام بعد الصلاة بين المسلمين، وقد عاينوا، وأحس المؤمنون منهم بأن الأمر خطر، أخذ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يستشير المسلمين قبل المعركة.

وكان محور الشورى يدور على أمرين: أيخرج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بجيش الإيمان، ويقاتلهم حيث يكون خير مكان للقتال، أم أنه يبقى في المدينة المنورة، فإن أقاموا أقاموا في أسوأ مقام، وقد ينفد منهم الزاد والراحلة، وإن يدخلوا إلى المدينة المنورة ولها مسالكها المبنية بالحجارة والآجر، وكأنها حصن وهم لا يعرفون مداخله. كانت الشورى في أى الأمرين أنكى للعدو، وأقرب إلى النصر، لقد كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يكره الخروج، وروى أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «امكثوا واجعلوا الذرارى في الآطام فإن دخل علينا القوم في الأزقة قاتلناهم، ورموا من فوق البيوت» ، وروى ابن إسحاق أنه عليه الصلاة والسلام قال: «إن رأيتم أن تقيموا بالمدينة، وتدعوهم حيث نزلوا فإن أقاموا أقاموا بشر مقام، وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها» . وإنه مما يسترعى الأنظار أن عبد الله بن أبى ابن سلول كان على هذا الرأى، ولعله جبن اللقاء منه، ولكيلا ينكشف النفاق، أو لأنه يرى أن بعض مواليه اليهود قد يجدها فرصة للانقضاض. ومهما يكن من مقصده، والله أعلم بذات الصدور، فإنه قد قال: يا رسول الله، أقم بالمدينة لا تخرج إليهم، فو الله ما خرجنا منها إلى عدولنا قط إلا أصاب منا، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه، فدعهم يا رسول الله، فإن أقاموا أقاموا بشر محبس، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجههم، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاؤا. وقد خالف ذلك الرأى- مع أنه رأى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم- كثيرون من المجاهدين، وكانوا صنفين، صنف من أهل النجدة والبأس والقوة لم يجدوا في الانتظار ما يتفق مع ما عندهم من إقدام، وأنه لابد أن يلاقوهم ولا ينتظروهم ومن هؤلاء حمزة بن عبد المطلب أسد الله، فقد قال في قوة: «والذى أنزل عليك الكتاب لنجالدنهم» . وقال رجال من الأنصار الأشداء: ومتى تقاتلهم يا رسول الله إذا لم تقاتلهم عند شعبنا. والصنف الثانى من الذين لم يحضروا بدرا، وأرادوا أن يكون لهم في هذه الموقعة شرف مثل شرفها، وقالوا: كنا نتمنى مثل هذا اليوم، وندعو الله، فقد ساقه إلينا، وقرب المسير. وبذلك انتهى الرأى بالخروج، لتكاثر الذين أرادوه، وكثرة الذين أرادوا أن يستعيضوا عن شرف الجهاد في بدر بشرف الجهاد في أحد. وما كان لمحمد عليه الصلاة والسلام الذى جاء بالشورى، وأمر بها إلا أن يستجيب لحكم الكثرة، ولا يفرض فيه الخطأ، كما يفعل ويروج المستبدون في هذا العصر، إذ يفرضون في أنفسهم

النبى عليه الصلاة والسلام يعد المؤمنين للقتال:

الصواب الذى لا يحتمل الخطأ، وفي تفكير غيرهم الخطأ الذى لا يحتمل الصواب، وتردت بهم الجماعات في مهوى سحيق. النبى عليه الصلاة والسلام يعد المؤمنين للقتال: 415- أخذ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يتعرف خبر الأماكن التى يلقى فيها العدو المكاثر المكابر، وأنه لكى يختار لجيشه لابد أن يعرف أماكن جيش العدو ويمر في غير ممرهم. قال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كما روى في الصحيحين: هل من رجل يخرج بنا على القوم من كثب، من طريق لا يمر بنا عليهم، فقال أبو خيثمة: أنا يا رسول الله، فأخذ يسير، فنفذ في حرة بنى حارثة، وبين أموالهم، حتى سلك بهم في مال لمربع بن قيظى، وكان رجلا منافقا ضريرا، فلما سمع حس رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ومن معه من المسلمين، فقام يحثى في وجوههم التراب، ويقول: إن كنت رسول الله فإنى لا أحل لك أن تدخل في حائطى، وأخذ حفنة من التراب في يده، ثم قال: والله لو أنى أعلم أنى لا أصيب بها غيرك يا محمد لضربت بها وجهك، فابتدره القوم ليقتلوه فقال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: لا تقتلوه، فهذا الأعمى أعمى القلب، أعمى البصر. ولكن قبل هذا النهى ضربه بعض القوم بالقوس فشج رأسه. كان هذا الاتجاه من النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بعد أن نزل على رأى الكثرة ممن استشارهم من المؤمنين. وقبل أن يخوض بهم المعركة نبههم إلى أنه نزل على آرائهم، فلبس لأمة الحرب، واتخذ درعه استعدادا للميدان، وأخذ يضع الجيش مواضعه. أحس بعض المؤمنين أنهم استكرهوا الرسول عليه الصلاة والسلام، وقالوا أمرنا رسول الله أن نمكث بالمدينة المنورة، وهو أعلم بالله تعالى وما يريد، ويأتيه الوحى من السماء. حسبوا أن الأمر من النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بالبقاء يتصل بالوحى وأمر الله فيه، وظنوا لفرط إيمانهم، ولو كان الأمر كذلك ما أخذ فيه رأى أحد، فلا رأى في أمر الله تعالى ونهيه، ولكن كان من الرسول عليه الصلاة والسلام الرأى في الحرب والمكيدة، ولهذا عرض الأمر عليهم، واختار رأى الكثرة، لأنه الشورى.

المنافقون:

ويظهر أنهم رجعوا عن رأيهم على حسب الزعم الذى زعموه، ولكن الشورى ليس معناها التردد، فإن مع التردد الهزيمة، إذ التردد يترتب عليه عدم العزيمة، والعزيمة من قوة الجيش. ولقد نبههم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى منع التردد، وقال في حكمة النبوة «ما ينبغى لنبى لبس لأمة الحرب وأذن بالخروج إلى العدو أن يرجع، حتى يقاتل، وقد دعوتكم إلى البقاء، فأبيتم إلا الخروج فعليكم بتقوى الله تعالى، والصبر عند البأس، إذا لقيتم العدو، وانظروا ماذا أمركم الله» . مضى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بجيشه من المؤمنين، وكان عدة المشركين نحو ثلاثة آلاف كما ذكرنا، بينما كان عدة المسلمين، وفيهم مرضى القلوب ألفا، وأراد بعض الأنصار أن يستعينوا بحلفاء لهم من اليهود، فقد ذكر الزهرى أن الأنصار استأذنوا الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم فى الاستعانة بحلفائهم من المدينة المنورة، فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: لا حاجة لنا فيهم، لأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أراد أن يكون جيشه ممن يريدون القتال دفاعا عن عقيدتهم، ولأن الله سبحانه وتعالى يقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا وَدُّوا ما عَنِتُّمْ، قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ (آل عمران- 118) . وما كان له أن يستعين باليهود في نصرته، وقد كان بينه وبين بنى قينقاع ما كان مما اضطره لأن يخرجهم، وكتب الله عليهم الجلاء. المنافقون: 416- نقى الله تعالى الجيش الإسلامى من المنافقين فخرج من الألف نحو ثلث الجيش من أتباع عبد الله بن أبى، وأظهر أنه خرج مغاضبا، لأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لم يأخذ برأيه، وكذلك كل مستبد يريد أن يفرض رأيه على غيره، فهو لا يخلو من نفاق، وقد يبلغ في نفاقه ما بلغه منه عبد الله بن أبى رأس النفاق بين المسلمين، وكان خروجه ومن معه إعلاما لأهل الإيمان بنفاقهم، ولقد قال: أطاعهم وعصانى. ولقد كان من أثر دعوته إلى الخروج أن لامه بعض المخلصين، وهمّ باتباعه بعض المؤمنين فكان ممن لامه ومن معه عمرو بن حزام، وهو يقول له ولمن معه: «يا قوم أذكر كم الله ألا تخذلوا قومكم ونبيكم، عند ما حضر من عدوكم» . فكان من نفاقهم أن قالوا والعدو يساور المدينة المنورة: «لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم ولكنا لا نرى أن يكون قتال» فقال الرجل المؤمن عند ما استعصوا عليه: أبعدكم الله أعداء الله، فسيغنى الله تعالى عنكم نبيه.

مقاعد القتال:

وقد كان رجوعه سببا في اضطراب بعض المسلمين من المترددين، وإن لم يكونوا من المنافقين، فقد همت طائفتان من المسلمين أن تفشلا والله وليهما. وهمّ بنو سلمة، وبنو حارثة أن يعودوا مع من عاد مع عبد الله بن أبي، وكان ذلك من فرط جزعهم من لقاء عدد يفوقهم أضعافا، وهو مزود بزاد الضغن والعدة، وقد أثر النفاق في نفوسهم وإن لم يكونوا منافقين. وهؤلاء هم الذين قال الله سبحانه وتعالى فيهم: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ، وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (آل عمران- 121: 122) . وقد فرح رجال هاتين الطائفتين لقول الله سبحانه وتعالى: وَاللَّهُ وَلِيُّهُما إذ اطمأنوا إلى أنهم لم يكونوا منافقين وإن كانوا مترددين، لأن الله تعالى ولى المؤمنين، والمنافقون وليهم الشيطان. وإنه إذ خرج هؤلاء كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يعرض عليه صغار المؤمنين الذين لم يبلغوا الخامسة عشرة، ولم تكن فيهم مهارة في الرماية ولا قوة بدنية تغنى غناء الرجال، فقد ثبت في الصحيحين أن عبد الله بن عمر عرض على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم في أحد فرده، وكذلك رد يومئذ أسامة بن زيد، وزيد بن ثابت، والبراء بن عازب ... وغيرهم. وقد همّ برد رافع بن خديج وكان في مثل هذه السن، فقيل له: إنه يحسن الرماية، فأجازه، لأنها لا تحتاج إلى قوة في البدن، ولكن إلى مهارة في إصابة الهدف. وكان سمرة بن جندب قد تقدم أيضا في قريب من هذه السنة فهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يرده، فقيل: إنه يصرع رافعا، ويظهر أنه رآه أقوى منه، فأجازه. مقاعد القتال: 417- أخذ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يبويء المؤمنين مقاعد القتال، وقد صفى الله تعالى الجيش من المنافقين، وثبّت المترددين، فقد قال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم داعيا إلى التقوى والصبر، وأن الله تعالى ناصرهم، كما نصرهم ببدر وهم أذلة، ومبشرهم به إن صبروا، فقال الله سبحانه وتعالى حاكيا عن نبيه عليه الصلاة والسلام في تثبيتهم في ذلك اليوم وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ

رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ. بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ. وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ، وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ. لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، أَوْ يَكْبِتَهُمْ، فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (آل عمران- 123: 127) ثبت الله سبحانه وتعالى قلب المؤمنين بهذه البشرى، وهى الإمداد الروحى بالملائكة، إن صبروا في الميدان وثبتوا، وذكروا الله تعالى، وأنه فوق كل القوى، وصبرت نفوسهم، فلم تنحرف عن القتال والإيغال وراء العدو، ولم تشغل بالغنيمة عن النصر، وإن صبروا فلم يخالفوا القائد المدرك الذى يدعوهم إلى الرشاد، وإلى أن يتعاونوا جميعا في الميدان، وعلموا أنهم يؤلفون جيشا متعاونا وليسوا فرقا متفرقة تتنافس في الغنائم، ولا تتنافس فى النصر. تقدم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ومضى حتى نزل الشعب من أحد في عدوة الوادى إلى الجبل، فجعل ظهر عسكره عنده لكيلا يتمكن المشركون. وصف الصفوف، كما فعل في بدر، وقلده المشركون في هذا فصفوا الصفوف أيضا وجعل الرماة وعددهم خمسون راميا، وراء ظهر الجيش، وجعل عليهم عبد الله بن جبير أميرا، وأوصاه بأن ينضح عن المسلمين الخيل، وقال له: «انضح الخيل عنا بالنبل، لا يأتونا من خلفنا فاثبت مكانك لا نؤتين من قبلك» . ولبس رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لأمته، وشدد الوصية للرماة، وذلك ليمنع التفاف جيش المشركين حول جيش المسلمين، وعدد المشركين كبير، وجيشهم كثيف. وبعد أن صف النبى صلى الله تعالى عليه وسلم جيشه أمره بألا يقاتل، حتى يأمره بالقتال، ليتقدم الجيش على قلب رجل واحد، وظهورهم في حماية الرماة. وذلك تنظيم حربى لم يعرفوه، ولو أن الرماة أطاعوا ما اضطرب جيش المسلمين، ولا أصابهم قرح في هذه الغزوة، وقد كان أمام جيش الإيمان جيش الشرك يفاخر بكثرته وعدته، وقد اتخذ الأفراس التى تجاوزت مائتين، والإبل مزارع المدينة المنورة مسترادا، ومذهبا، وذلك مما أثار حمية أهل المدينة للقتال حتى قد قال قائلهم، والنبى عليه الصلاة والسلام يشاورهم في الخروج إلى المشركين: أترعى زروع بنى قيلة الأوس والخزرج ولما تضار.

الجيشان

الجيشان 418- التقى الجيشان، ولكن لم تبدأ المعركة ولابد أن نذكر الأوصاف الظاهرة والنفسية للجيشين قبل أن يخوضا المعركة، لأن الحال لهما تنبيء عن المال، والله ولى المؤمنين. كان جيش المشركين مزودا بكل أسباب القوة المادية فعددهم أضعاف مضاعفة لعدد المؤمنين، ومن ناحية الدوافع النفسية كان يدفعهم إلى القتال أولا الثأر، ومحاولة استرداد مكانتهم في العرب، والخشية على تجارتهم التى كانت مصدر ثروتهم، وقد تهددتها قوة المسلمين، وقد أخذوا عليهم كل مرصد، فوجد الدافع إلى القتال والاستماتة فيه من النفس والنفيس، وأدركوا أن الأمر بينهم وبين النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أمر حياة عزيزة كريمة يتفاخرون فيها، أو موت ذليل فيه العار والثبور. ولقد أخذوا يعدون العدة الحربية في التنظيم آخذين مما صنع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وهو تنظيم الصفوف، فالمحارب مأخوذ بنظام محاربه تسرى إليه بالمحاكاة والمدافعة نظمه ومسالكه. ولقد أخذوا نساءهم معهم، وكلهن موتورات محنقات، فأرادوا أن يثبتوا بهن، وألا يرتكبن عار الفرار أمامهن، ويسلموهن للسبى. وكل ذلك لتقوى الروح المعنوية، ولا يفرون يوم الزحف، وقد رأوا محمدا صلى الله تعالى عليه سلم وصحبه يثبتون عند الحرب ولا يفرون يوم الزحف. ولقد روى أنه لما التقى الناس ودنا بعضهم من بعض قامت هند بنت عتبة في النسوة اللائى معها، وأخذن يضربن بالدفوف ويحرضن على القتال، وكان اللواء في بنى عبد الدار فقالت محرضة لهن: ويها بنى عبد الدار، ويها حماة الأدبار، ضربا بكل بتار. إن تقبلوا نعانق ... ونفرش النمارق أو تدبروا نفارق ... فراق غير وامق ولقد كان أبو سفيان حريصا على بث الروح الدافعة إلى القتال في جنوده إلى آخر لحظة قبل القتال، لقد كان اللواء لبنى عبد الدار، وروى أبو إسحاق أن أبا سفيان قال لهم يحرضهم على القتال: يا بنى عبد الدار، قد وليتم لواء يوم بدر، فأصابنا ما قد رأيتم، وإنما يؤتى الناس من قبل راياتهم، إذا زالت زالوا، فإما أن تكفونا لواءنا، وإما أن تخلوا بيننا وبينه فنكفيكموه فهموا به وتواعدوه وقالوا نحن نسلم إليك لواءنا ستعلم غدا إذا التقينا، كيف نصنع!!

419- هذا جيش قوى بالعدد، وقوى بالعدة، وبثوا فيه روح القوة وأثاروا فيه الحمية، فكانوا المجتمعين على باطلهم، جمعهم الشر والحقد والثأر. ولنتجه إلى جيش المؤمنين، ولا يمكن أن نقول أنه في إيمانه وقوة روحه كان أقل من قوة المشركين المدافعة، فإذا كان أولئك يدفعهم الحقد والضغينة والترات، فإن جيش الإيمان يدفعه إيمان قوى راسخ كالرواسى، وحب في الشهادة، وإرادة من عند الله سبحانه وتعالى ومعهم أعظم قواد الأرض إيمانا وروحا، وللمؤمنين فيه أسوة حسنة، ولكن يجب أن نذكر بعض الملاحظات: (أولاها) أن بعض الذين لم يحضروا بدرا، ورأوا غنائمها، ربما كان من المحرض لهم على القتال والخروج للأعداء- رجاء أن ينالوا من الغنائم أو الأنفال ما ناله إخوانهم من قبل، وإن كان ذلك مع الإيمان والرغبة في أن يفدوا الإسلام بأنفسهم، وجانب المال إن كان بعض الهدف ربما دفع إلى طلبه، فغلب عند ظن النصر، ومن أجل ذلك كان المنع من الأسر قبل أن يثخن المسلمون في العدو، وإذا كان الأسر ممنوعا، فالجرى وراء الغنائم أشد منعا قبل أن يثبت النصر، ويستقر. (الثانية) أن بعض المقاتلين من جيش المؤمنين بعد تصفيته، وتنقيته من المنافقين كان لا يزال فيه بعض المترددين الذين لم يعقدوا العزم قويا ثابتا، فالطائفتان اللتان همتا بأن تفشلا، لا أستطيع أن أقول أن كل آحادهما عقد العزم، وأصر على القتال وأراد النصر، وأنه لا يذهب بقوة الجيش إلا التردد، فإن كان من بعض آحاده، نقصت القوة بمقدار تردده. (الثالثة) أن اليهود كانوا حول المدينة المنورة، ولهم ترات، وقد انضم إليهم المنافقون، وهؤلاء يكونون عورة من وراء الجيش المقاتل. ولكن قيادة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد ذهبت بكل عوامل الضعف، واختفت كل عناصر التردد ابتداء ولم يحدث النزوع إلى الغنائم الذى كان مستكنا في بعض النفوس إلا عند ما لمع بريق الغنيمة، وظهرت بوادر النصر، فلم يكن التتبع للفلول المهزومة من قوات المشركين. هذا بإنصاف حال الجيشين المقاتلين، وكلمة الله سبحانه وتعالى أعلى، وله وحده العزة، وأنه ناصر جنده إن استقام على الطريقة، واتخذ الصبر في الزحف، والصبر بضبط النفس عدة له، فإن ذلك هو القوة بعد توفيق الله سبحانه وتعالى. وإن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد أخذ الأهبة وقوى النفوس، وشحذ العزائم وحقق قول الله سبحانه وتعالى فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ.

المعركة

المعركة 420- بوأ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لجنده مقاعد للقتال، وقد عنى بأمرين عناية شديدة أولهما بالرماة، فقد شدد عليهم الوصية بألا يبرحوا مكانهم، ومما قاله لهم في ذلك، «احموا لنا ظهورنا إننا نخاف أن يجيئوا من ورائنا، والزموا أماكنكم لا تبرحوا منها، وإن رأيتمونا نقتل فلا تعينونا ولا تدفعوا عنا، وإنما عليكم أن ترشقوا خيلهم بالنبل، فإن الخيل لا تقدم على النبل» . الأمر الثانى جعل في صفوفه الأولى الأشداء من جند المؤمنين الذين أبلوا بلاء حسنا في غزوة بدر كأسد الله تعالى حمزة بن عبد المطلب، وفارس الإسلام على بن أبى طالب والزبير بن العوام الذين يذكرهم وجودهم بهزيمة بدر فيكون ذلك إرهابا لهم وإيقانا بأن الليلة كالبارحة، ولأنهم يدقون صفوف المشركين دقا، فيفتحون الطريق لمن وراءهم، ويزيلون الرهبة من لقاء أهل الشرك، ولو كثر عددهم، ونهاهم عن أن يقدموا إلا بأمره، ويستأنوا. وقد أخذ يتفرس الوجوه، ويحرض الأبطال، ويدفع الصناديد إلى البأس، فحمل سيفا ودعا المؤمنين إلى أن يحملوه، ويحموه. روى الإمام أحمد بسنده أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أخذ سيفا يوم أحد، فقال: من يأخذ هذا السيف بحقه، فجعلوا ينظرون إليه، فقال: من يأخذه بحقه ... فقال أبو دجانة (سماك) أنا آخذه بحقه. فأخذه ففلق به هام المشركين. قال ابن إسحق: وكان أبو دجانة رجلا شجاعا يختال عند الحرب، وكانت له عصابة حمراء يعلم بها عند الحرب يعتصب بها، فيعلم أنه سيقاتل، فلما أخذ السيف من يد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ثم جعل يتبختر بين الصفين بعد أن اعتصب بعصابته. فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حين رأى أبا دجانة يتبختر: إنها لمشية يبغضها الله إلا في هذا الموطن. كان لواء المشركين مع طلحة بن أبى طلحة، ثم عثمان بن أبى طلحة، وكان حملة اللواء جميعا من بنى عبد الدار. والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم أعطى لواء جيش الإسلام على بن أبى طالب، فلما رأى عليه الصلاة والسلام حامل لواء المشركين من بنى عبد الدار طلحة بن أبى طلحة أخذ اللواء من على كرم الله وجهه في الجنة، وأعطاه مصعب بن عمير من بنى عبد الدار.

ابتداء القتال:

ابتداء القتال: 421- ابتدأ القتال من قبل المشركين أبو عامر بن صيفى وهو أوسى، كان يسمى الراهب، وسماه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم الفاسق عند ما خرج إلى قريش يحرضهم على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وكان قبل قدوم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم المدينة المنورة ذا مكانة في قومه. فدفعوه ليتقدم جيش الشرك، وكان في نحو خمسين، وظنوا أن ذلك يوهن من قوة الأنصار، ويبعث على التردد، ولذا قال عند ما تقدم ونادى: يا معشر الأوس، فقالوا له: «لا أنعم الله بك عينا» فطاش سهمه ومن معه وخاب فألهم، وقال لما سمع ردهم: «لقد أصاب قومى بعدى شر» . أذن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بالقتال، وكانت كلمة التعرف بين المؤمنين أمت أمت، اندفع الصناديد من جيش المسلمين يقتلون في جيش الشرك يضربون، فاندفع أبو دجانة يفلق الهام بسيف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، لأنه تعهد لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن يأخذه بحقه حتى إنه ليضرب الرجل على رأسه بالسيف، فيفرقه فرقتين. وكان النساء قد خرجن في القتال ملثمات، أو ظاهرات بمظهر رجال، فلقى أبو دجانة امرأة قيل إنها هند امرأة أبى سفيان بنت عتبة، فرفع السيف عنها، ولم يجد من كرامة سيف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن يقتل به امرأة، ولو كانت تقاتل. وحمزة بن عبد المطلب يدق جيش المشركين بسيفه دقا، وأوغل بسيفه البتار في جيش المشركين، وهم يفرون منه فرارا، كأنها النعاج تفر من الأسد الهصور. وحامل لواء الشرك طلحة بن أبى طلحة يطلب المبارزة، فلا يقدم على مبارزته إلا على بن أبى طالب، وما هى إلا جولة من جولات على إلا كانت بعدها الضربة القاصمة التى وصفها المؤرخون بأن ضربات على كانت أبكارا أى لا يضرب إلا ضربة واحدة تكون بكرا منفردة. الخسارة الفادحة- مقتل حمزة مع المضاء في القتال: 422- كانت الجولة للمسلمين، حتى إن المشركين يفرون فرارا أمام سيوف الله تعالى التى سلها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على الشرك وأهله، وأمام الذين اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله، فيقتلون ويقتلون، فما تقدموا حريصين على الحياة الدنيا، إنما يحرصون على ما عند الله في الآخرة.

قتل حامل اللواء الإسلامى مصعب بن عمير، فحمل اللواء على رضى الله عنه، فما سقط اللواء، ولكن الخسارة الكبرى كانت في مقتل حمزة. لقد قتل غيلة، ما قتل في مبارزة، ولا في مواجهة فما كان بنو هاشم ليقتلوا إلا غيلة خيانة وجبنا. لقد تواصت هند، وغيرها من قريش مع وحشى العبد الحبشى الذى يجيد القذف بالرمح، ولا يجيد الضرب بالسيف وما كان يجديه لو أجاده أمام أسد الله تعالى حمزة. كان حمزة يجندل الأبطال، وما تقدم نحوه أحد إلا جعله يعض التراب مستهزئا به، ساخرا منه، وهو يتبختر، ويدل بمواقفه في القتال. وقد كان يتربص به العبد الذى جعل سيده جبير بن مطعم قتل حمزة عم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ثمن عتقه، كما قتل حمزة عمه. كان وحشى يختبيء وراء الأشجار لتسنح له فرصة يرمى فيها رميته، وحمزة، كما قال العبد، يحمل سيفه كالجمل الأورق يهد به الجيش هدا، فرماه بحربته التى لم تخطيء، ونال حريته. فقتل عم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وسيد الشهداء. كما قال صلى الله تعالى عليه وسلم «سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قال كلمة حق أمام سلطان جائر فقتله» . وإذا كان ذلك قد أرضى جبير بن مطعم، وأرضى هند بنت عتبة، فإنه لم يرض الشرف والمروءة، وأرضى النذلة والخيانة، وأنى يكون هذا من فعل أبى دجانة، وقد رأى امرأة محاربة فتركها تنزيها لسيف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن يقتل به امرأة تقاتل. ولكن ما وهن جيش الإسلام، ولا ضعف، وإن ذهبت منه قوة ليس من السهل أن تعوض إذ استشهد منه رجل كان كألف من الرجال الأشداء. بل استمر جيش الحق في تتبعه لأعداء الله تعالى، فلم يهن، وإن حزن بل مضى في طريقه، وكان هو الغالب، والمشركون يتساقط من بين أيديهم لواؤهم حاملا بعد حامل. قتل حامل اللواء طلحة بن أبى طلحة، فحمله أخوه عثمان بن أبى طلحة، ثم حمله من بعده أخوه أبو سعد وقد طلب المبارزة من على متحديا، فتصدى له على الذى لم يفر من مبارز، ولم يبارز أحدا إلا نال منه، فبارز حامل لواء المشركين، وهو الذى آل إليه لواء المؤمنين بعد مصعب بن عمير، فاختلفا ضربتين فنبت ضربة ابن أبى طلحة، وضربه على فصرعه، ثم انصرف عنه، ولم يجهز عليه، ولعله لم يجهز عليه، لأن فارس الإسلام لا يقتل مصروعا، بل يقتل من يقف أمامه، وقال على رضى الله تعالى

الغنائم القاتلة:

عنه عند ما قال له بعض أصحابه: أفلا أجهزت عليه، قال: إنه استقبلنى بعورته، فعطفنى عليه الرحم، وعلمت أن الله قد قتله. لا نقول قابلوا بين على ومن حرض العبد، فإن تلك بطولة على، وهذه أخلاق العبيد. توالى القتلى من حملة لواء المشركين، حتى حملته امرأة. وصناديد الجيش الإسلامى حتى بعد مقتل حمزة بالخيانة والغيلة والغدر مستمرون في الضرب فى اهتداء، وقد شقوا صفوفهم، كما تشق السكين الكمثرى، وأداروها رحى في صفوفهم، وهم يفرون تاركين أموالهم وعتادهم ومع كثير مما يغنم. الغنائم القاتلة: 423- تفرق معسكر الشرك، وفر من فر منهم، ولم تغن عنهم كثرتهم شيئا، ولم ينالوا خيرا، ولكنهم لم يسحقوا، ولم يثخنوا وكانوا يفرون فرارا، والعدد لجب كبير، وفيهم قوة الخيل قوة خالد بن الوليد، وقوة عكرمة بن أبى جهل، ومع كل منهم مائة فارس، قد أعدوا العدة، لينقضوا إن وجدوا الفرصة، وكلاهما ذو بصر أريب يدفعه الثأر والحمية. غر الأمر طلاب الغنائم، وبينما على والزبير، وسعد بن أبى وقاص، وصناديد الأنصار يقصمون ظهور المشركين، حتى حملوهم على أن يتركوا متاعهم، أخذ هؤلاء من وراء أولئك يجمعون الغنائم، ويأخذون الأسلاب، ويتركون أبا دجانة يفلق الهام، ولا يحمون ظهور المؤمنين، والطمع يغرى بالطمع، والمال يغوى ويضل. ولقد وصف ابن إسحاق المعركة قبل التسابق على الغنائم فقال: أنزل الله نصره على المسلمين وصدقهم وعده، وحسوهم بالسيوف حتى كشفوهم عن العسكر، وكانت الهزيمة لا شك فيها. ويقول البطل الزبير بن العوام: «ولقد رأيتنى أنظر إلى خدم هند وصواحبها مشمرات هوارب ما دون أخذهن قليل ولا كثير» . أخذ ناس يجمعون الغنائم، ورأى الرماة الغنائم تكثر، ويتسابق إليها من يريدونها، فتركوا حماية ظهور المؤمنين، ونضح الخيل بالنبال، وأمر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، بألا يتركوا أماكنهم سواء أكان القتل للمؤمنين أم كان على المؤمنين، لأنه لا يريد أن يحيط جيش المشركين الكثير بجيش المؤمنين الذى لم يصل في العدد إلى ربعه.

زايلوا أماكنهم، وعين خالد وعكرمة تترقبهم، ويريدون فرصة ينتهزونها لفعل الخيل، فانقضوا على مواطن الرماة، وأخذوا جيش الإيمان من ظهره. والجزء الأكبر من جيش قريش يسير في انكسار، ولا يتوقع إلا الهزيمة حتى أخذ ينادى خالد ابن الوليد جيش قريشا بأنه أخذ يضرب جيش محمد صلى الله تعالى عليه وسلم من ظهورهم، فعادوا كلبين على جيش المسلمين يريدون أن ينالوا منالا، وأرادوا محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم ليقتلوه، وإذا كانوا قد أحاطوا بجيش الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم فالله سبحانه وتعالى من ورائهم محيط. قال ابن إسحاق: انكشف المسلمون فأصاب فيهم العدو، وكان يوم بلاء وتمحيص، أكرم الله سبحانه وتعالى من أكرم من المسلمين بالشهادة، حتى خلص العدو إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فرمى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بالحجارة، حتى وقع، فأصيبت رباعيته وشج في وجهه، وكلمات شفته. وهكذا وصل جيش المشركين إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ودخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته الطاهرة، ووقع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في حفرة من الحفر. وكان أبو عامر الأوسى، قد حفرها ليتردى فيها المسلمون عند هجومهم، فأخذ على بن أبى طالب بيد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ورفعه طلحة بن عبيد الله حتى استوى قائما. وأخذ الصحابة يزيلون وضر الجروح عن وجهه، ونزع أبو عبيدة عامر بن الجراح إحدى الحلقتين من وجهه، نزعها بأسنانه، فسقطت ثنية أبى عبيدة، ثم نزع الآخرى، فسقطت ثنية أخرى. كان جيش الشرك لا يريد إلا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ظانين أنهم إن قتلوه، انتهى الأمر، ولذلك أحاط به الصناديد من المؤمنين الذين كانوا في صدر الجبهة، وأخذوا يذودون عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، والسيوف تعتورهم، ومنهم كثيرون ذهبوا فداء لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وكان منهم من يخصه بالحماية غير مبال بشىء. وفي ذلك الوقت اشتدت الحماسة في الدفاع عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وكان بجواره مصعب بن عمير حامل اللواء يذود فقتله من يريد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ونادى فى قريش أن محمدا قتل، وقد أعطى اللواء لعلى.

وقد اتجهوا إلى النبل يصوبونها على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم واتخذ أبو دجانة من نفسه ترسا لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقع النبل في ظهره وهو منحن عليه، حتى كثر النبل، وبينما أبو دجانة يترس دون رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، كان سعد يرمى المشركين بالنبل ليبعدهم عن الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه، والرسول عليه الصلاة والسلام يناوله ما يرمى به، ويقول له: ارم فداك أبى وأمى. لنترك الذين حول رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وما أصاب الرسول، ولنتجه إلى ما جرى في جيش الإيمان بعد الإحاطة بهم. لقد شاع في المشركين أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد قتل، فأيأس الخبر الجميع، ويئس الضعفاء وتحمس الكثيرون، وصاح فيهم أنس بن النضر: «ماذا تصنعون بالحياة بعده، قوموا وموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم» واستجاب الناس لندائه، وقاتل حتى قتل. ثم جاء البشير من بعد فترة بأن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يقتل، فنهضوا، ونهض معهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من الشعب الذى كان به بجوار أحد، ومعه أبو بكر، وعمر، وعلى، وطلحة، والزبير، وغيرهم من أقوياء المسلمين يستردون الموقف بعد المباغتة التى بلغ الاضطراب فيها أن قتل بعضهم بعضا وقد صارت الأمور لأهل الإيمان فوضى. وكان أبو سفيان قد أشرف بمن معه على المسلمين، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو في هذه الشدة، لا يعلونا، اللهم إن تقتل هذه العصابة لا تعبد في هذه الأرض. وندب من أصحابه من أنزلوهم، واستقتل المسلمون في ذلك حتى أزاحوهم عن الجبل، وشقوا طريق قريش، وإن كان الجيش كليلا مكلوما، ولكنها قوة الإيمان المستيقظة في قلوب رجال بدر الكبرى، وبقية سيوفها، وبقية السيف أبقى عددا، كما قال على بطل بدر وأحد. نهنه ذلك من عزيمة قريش، إذ كانت الحجارة ترمى من الجبل على فرسان خالد الذى أخرجهم من الهزيمة الساحقة، وإن لم يأخذهم إلى نصر حاسم. وألقى اليأس في قلوبهم من نصر حاسم حالق لقوى المسلمين ما جاء به البشير من أن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم حى، يدبر لهم، ويكيد. عادت القيادة إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعد أن اضطربت أمور الجيش، وحمّل رسول الله اللواء على بن أبى طالب، بعد أن سقط حامله مصعب بن عمير، وإنه بعد أن حمل اللواء

على، وهو الذى يهجم ويضرب، فلا يهمه أيقع الموت عليه أم يقع على عدوه، وبعد أن استولى المسلمون على الهضبة أخذوا يقاتلون، ولم يغن المشركين، إذ استمر خالد في هجومه، فقام المسلمون، وكانت الصفوة المختارة من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ومن أمثال أبى دجانة والزبير، وطلحة، وحامل اللواء على فقابلوه بهجوم مضاد وصدوه، بعنف الجبال. ومضى بريق النصر لقريش عند ما اضطرب جيش المسلمين، وكثر الفتك فيه، وليس عددا كثيرا بجوار عدد المشركين، وعند ما شاع بينهم أن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم قد قتل فحسبوا أنهم منتصرون ساحقون لجيش النبى عليه الصلاة والسلام، جيش الإيمان، ولكن ذهب البرق الذى خطف أبصارهم عند ما علا جيش المسلمين إلى الهضبة، وصد هجمات خالد ومن معه، وحمل اللواء على، واللواء حامل النصر، وإن تخاذل خذل من وراءه، وعلى لا يتخاذل، وقد علموا سيفه في بدر وأحد، وكما قال أبو سفيان: يؤتى الجيش من حامل لوائه. ولا ننسى أن جيش قريش قد أصابته جراح الحرب ابتداء، فالأمل هو الذى داوى جرحه فهجم، وسط اضطراب جيش الإيمان، فلما استقام له الأمر، نغرت جراحهم، وخافوا العقبى، ويئسوا من النصر الساحق، إذ رأوهم وقفوا أمامهم، وقد ذاقوا من قبل وبال الأمر من هجومهم، وإن كانوا قليلا. عندئذ رأوا أن ينهوا القتال، وقد فرحوا بهذا النصر المؤقت، وخشوا أن يضيع منهم وإنه لابد ضائع، لقياسهم القابل على الماضى، والحاضر لحظة ستصير ماضيا. 424- هذه غزوة أحد التى يقول فيها المؤرخون إن الهزيمة فيها كانت على جيش النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ولكنى أرى أن تسمية ما أصاب المسلمين هزيمة ليست تسمية تنطبق على الواقع تمام الانطباق، إنما تكون الهزيمة إذا كان جيش الإيمان قد فر فرارا، والآخر قد تبعه في فراره، حتى داهم المدينة المنورة، وكان ما يكون بعد ذلك. إنما الذى أنهى القتال هم المهاجمون، وكأنما اكتفوا بأن أصابوا مقتلة من المسلمين، ورضوا بذلك لأنهم لا طاقة لهم فيما وراء ذلك، وقد رأوا السيوف الإسلامية تبرق، وذاقوها مرتين، ولذا تتبعهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. وإذا كان ما في أحد لا يسمى هزيمة، فإنه لا يسمى نصرا أيضا لأحد الفريقين. وقد يسمى جراحا للمسلمين، كما سماها القرآن الكريم، إذ سماها قرحا، وسماها إصابة، فقد قال الله سبحانه وتعالى: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ، فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ، وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ

النَّاسِ، وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ، وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ. وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ. أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ، وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ. وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ، فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ، وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ. وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ، وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً، وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (آل عمران- 140: 144) . 425- وقبل أن نترك الكلام في الموقعة التى أنهاها المشركون، ولم ينهها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ولم يعترف بانتهائها بإنهائهم، بل سار وراءهم حتى فرواهم فرارا. لابد أن نشير إلى أمور ثلاثة: أولها: أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد قتل مشركا بيده في هذه الغزوة، ذلك أن أبى ابن خلف قد أراد أن يقتل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وقد اعتزم ذلك الآثم وهو في مكة المكرمة، فلما كان يوم أحد أقبل أبى مقنعا بالحديد، وهو يقول: لا نجوت إن نجا محمد، فاستقبله مصعب بن عمير فقتله ولكن قيل أن مصعب بن عمير، قتل غيره، وكان على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن يرده بنفسه، فأخذ الرمح وأبصر عليه الصلاة والسلام ترقوة أبى بن خلف من فرجة بين سابغة الدرع، والبيضة الحديد، فصوب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى الترقوة من بين الحديد، فطعنه بالحربة، فوقع إلى الأرض عن فرسه، ولم يخرج من طعنته دم، كما يقول الرواة، فأتاه أصحابه، وهو يخور خوار الثور، فقالوا له: ما أجزعك!! إنما هو خدش، فقال: والذى نفسى بيده لو كان الذى بى بأهل ذى المجاز لماتوا أجمعين. فمات إلى النار فسحقا لأصحاب السعير. ويقول ابن إسحاق في وصف قتل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم له وقد جاء إليه قال: دعوه فلما دنا منه تناول رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، الحربة من الحارث بن الصمة، فقال بعض القوم، كما ذكر لى، فلما أخذها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم انتفض انتفاضة تطايرنا عنه تطاير الشعر عن ظهر البعير إذا انتفض، ثم استقبله رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فطعنه في عنقه طعنة تدأدأ بها عن فرسه مرارا. وإن هذا يدل على قوة بأس النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وإن كان لا يقتل بيده. الأمر الثانى: أن النساء كن يخرجن في جيش النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يحملن الماء للمجاهدين ويداوين الجرحى إن أمكن ذلك، وقد يضربن بالسيف، إن كانت ضرورة لذلك، يروى أن أم عمارة نسيبة المازنية قد خرجت مع الجيش تحمل سقاء فيه ماء، لتسقى الجيش. وكانت تشد أزر

المجاهدين، فلما أحدق المشركون وأحست بأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يتعرض للمشركين، وقد جعلوه هدفا مقصودا. استلت السيف، وأخذت تذود عنه صلى الله تعالى عليه وسلم مع الذائدين، وترمى بالقوس، حتى نزلت بها جراح شديدة وأصاب عاتقها جرح أجوف له غور. ولقد كانت فاطمة بنت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم تغسل الدم عن وجه أبيها الكريم، وتداوى جرحه. روى البخارى عن سهل بن سعد أنه قال: «أما والله إنى لا أعرف من كان يغسل جرح النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ومن كان يسكب الماء وبما دووى، كانت فاطمة بنت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم تغسله، وعلى يسكب الماء بالمجن، فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة من حصير فأحرقتها وألصقتها» . والظاهر من هذا الخبر أن فاطمة الطاهرة بنت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد خرجت مع المجاهدين، فداوت جرح أبيها عليه الصلاة والسلام، أو أن يكون الدم استمر يسيل حتى عاد إلى داره، والله تعالى أعلم. الأمر الثالث: ما فعله المشركون بالقتلى، وخصوصا الجثمان الطاهر، جثمان حمزة رضى الله عنه، وأقرنه بما فعل على رضى الله عنه عند ما صرع مبارزه ابن أبى طلحة، فقد بدت عورته، فرفع على سيفه وأخذته المروءة والرحم، ولكن أنى تكون امرأة أبى سفيان وأبو سفيان، وعلى البطل الذى يقرع الأقوام في وجوههم، ولا يقرعهم مدبرين. سلط المشركون النساء على القتلى يمثلن بهم بقيادة هند بنت عتبة زوج أبى سفيان، وأم معاوية، وذكر ابن إسحاق أنه وقعت هند بنت عتبة، والنسوة اللائى معها يمثلن بالقتلى من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يجدعن الآذان والأنوف، حتى اتخذت هند من آذان الرجال وأنوفهم خلاخل، وقلائد، وقد أعطت قلائدها الحقيقية وخدمها وأقراطها وحشيا الذى اغتال حمزة غدرا وخيانة وجبنا، وبقرت بطن حمزة، وأخذت كبده فلاكتها ولم تسغها، فلفظتها ثم علت على صخرة مشرفة. وأنشدت تقول: نحن جزيناكم بيوم بدر ... والحرب بعد الحرب ذات سعر ما كان عن عتبة لي من صبر ... ولا أخي وعمه وبكرى شفيت نفسى وقضيت نذرى ... شفيت وحشى غليل صدرى فشكر وحشى على عمرى ... حتى ترم أعظمى في قبرى

من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه

من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه 426- مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ. وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا. لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (الأحزاب- 23، 24) . وإن النص السامى الكريم ينطبق على الذين ثبتوا من رجال المؤمنين في أحد، سواء أنزلت الآية فيهم أم كانت عامة، تعم كل رجال الجهاد من المؤمنين. فقد كان في هذه الغزوة رجال كانوا صادقين في حربهم، وصادقين في إيمانهم منهم سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب الذى كان يدق جيش الشرك دقا، ومنهم أبو دجانة الذى كان يفلق الهام بسيف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وأعطى السيف حقه، ومنهم مصعب بن عمير، ومنهم بطل الأبطال على بن أبى طالب الذى حمل اللواء في الشديدة، فكان إعطاء اللواء له إرهابا للشرك، ومنهم طلحة بن عبيد الله، الذى كان له الفضل الأوّل في تحويل الحرب من هزيمة متوقعة للمؤمنين إلى نصر متوقع للمؤمنين، ومن بعده أنهى المشركون القتال خشية أن تكون العاقبة عليهم، لا لهم. وذلك عند ما طلب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من صحابته الأبطال الذين يحوطونه أن يعلوا إلى الجبل، حتى لا يكون أبو سفيان في علو عليهم. ولنترك البيهقى يتكلم في دلائل النبوة «انهزم الناس عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وبقى معه أحد عشر رجلا من الأنصار، وطلحة بن عبيد الله وهو يصعد في الجبل فلحقهم المشركون، فقال: ألا أحد لهؤلاء، فقال طلحة: أنا يا رسول الله، فقال عليه الصلاة والسلام كما أنت، فقال رجل من الأنصار فأنا يا رسول الله فقاتل عنه، وصعد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ومن بقى معه، ثم قتل الأنصارى فلحقوه، فقال: ألا رجل لهؤلاء، فقال طلحة مثل قوله، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مثل قوله، فقال: رجل من الأنصار فأنا يا رسول الله، فقاتل، وأصحابه يصعدون، ثم قتل فلحقوه، فلم يزل يقول مثل قوله الأوّل، ويقول طلحة أنا يا رسول الله فيستأذنه رجل من الأنصار للقتال، فيأذن له، فيقاتل مثل من كان قبله، حتى لم يبق معه أحد إلا طلحة، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من لهؤلاء؟ فقال طلحة أنا يا رسول الله، فقاتل مثل قتال جميع من كان قبله، وأصيبت أنامله، ثم صعد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى أصحابه وهم مجتمعون، وقال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: ذلك يوم كان لطلحة.

فرحة أبى سفيان بالنصر القريب

وإن صعود جيش المسلمين إلى الجبل بعد أن أبعدهم المشركون فيصل بين الاضطراب في جيش المؤمنين، وبين إعادة الخطة، والسير على المنهاج من غير اضطراب، وحامل اللواء على كرم الله وجهه، ولذا أخذوا يضربون أقوى في المشركين بقيادة خالد بن الوليد، وينتصفون منهم، وقد زال عنهم وعث الجروح، وانتظم جيش النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ولذلك أنهوا القتال وشيكا، ولم يستمروا خشية أن تدور عليهم الدائرة كما ابتدأ المسلمون يحسونهم بإذنه. فرحة أبى سفيان بالنصر القريب 427- أنهى أبو سفيان الحرب فرحا، راضيا بما وصل إليه، وإن لم يكن نصرا لهم وسحقا للمسلمين، ولكنه أدرك الثأر وكفى، والوقائع أقنعته بأن يكتفى بذلك، حتى لا يضيع من يده ما أخذ، وهو أنه ثأر، وأخذ ترته، وكفاه ذلك، ولم يقتلع المدينة المنورة، ولم يستطع أن يمنع أسباب مصادرة ماله وعيره، ولكن وقف يفاخر بما وصل إليه، وينادى المؤمنين، يقول: أفى الجيش محمد؟ أفى القوم محمد؟ أفى القوم محمد؟ نادى ثلاثا، فنهاهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن يجيبوه، ثم قال: أفى القوم ابن أبى قحافة؟ أفى القوم ابن أبى قحافة؟ ثم قال: أفى القوم ابن الخطاب، ثم أقبل على أصحابه، قال: أما هؤلاء فقد قتلوا وقد كفيتموهم فما ملك عمر نفسه فقال: كذبت والله يا عدو الله، إن هؤلاء لأحياء كلهم، وقد بقى لك ما يسوءك. فقال: يوم بيوم بدر والحرب سجال، إنكم ستجدون في القوم مثلة لم آمر بها، ولم تسؤنى. ثم أخذ يرتجز فرحا: اعل هبل، اعل هبل. فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ألا تجيبونه؟ قالوا: يا رسول الله وما نقول؟ قال قولوا: الله أعلى وأجل، قال إن لنا العزى، ولا عزى لكم. قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ألا تجيبونه؟! قالوا يا رسول الله فما نقول؟ قال قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم. وصف المعركة في القرآن الكريم 428- وصف القرآن الكريم المعركة وصفا دقيقا، ووصف نفوس جيش النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وخصوصا الذين كانوا يطلبون المال في المعركة، وآثارهم فيها، فقال الله سبحانه وتعالى: «هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ. وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ. وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها

بَيْنَ النَّاسِ، وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ. وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا، وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ. أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ. وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ، فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ. وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ، قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ، أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ، وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً، وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ. وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا، وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها، وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (آل عمران- 138: 145) . هذه الآيات الكريمات تصور النتيجة التى انتهت إليها المعركة بالنسبة لما أصاب المسلمين من قرح، وأنه كان اختبارا للمؤمنين ليتميز المجاهدون الصابرون من الضعفاء المترددين، كما أشرنا في وصف الجيش. وفي النص الكريم ما يشير إلى حقائق ثابتة، ومنها أن الإصابة مرة لا يصح أن تحدث الوهن والحزن، فهما يولدان اليأس من رحمة الله، وليس اليأس من شأن أهل الإيمان، فإنه لا يبأس من روح الله إلا القوم الكافرون. ومنها أن القياس بالمماثلة بين ما أصابهم في الماضى، وما أصاب المؤمنين يريح النفوس، وقانون الحياة الذى سنه الله تعالى في الوجود المداولة، حتى يكون النصر النهائى، وما النصر إلا من عند الله العلى الحكيم. ومنها بيان أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وإن كان صاحب الرسالة لا يصح أن يكون موته أو قتله منهيا لدعوته، بل على المؤمنين من بعده ألا ينقلبوا خاسرين، وعليهم أن يتحملوا الرسالة ويبلغوها للناس ويجاهدوا في سبيلها غير وانين ولا مقصرين. هذه حال المسلمين في أعقاب المعركة والعبرة فيها. ولقد وصف الله سبحانه وتعالى المعركة في ابتدائها، ووسطها وما أصاب النفس المحاربة، إن كانت مترددة، والنفس إن كانت مجاهدة، وبين سبحانه وتعالى سبب العجز، فقال تعالت كلماته: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ، حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ، وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ، وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ، مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا، وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ، ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ، وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ، وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ، فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ، لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ، وَلا ما أَصابَكُمْ، وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ. ثُمَّ أَنْزَلَ

عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ، وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ، يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ، يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ، يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا، قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ، وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ، وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ. إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ، يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا، وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (آل عمران- 152: 155) . ونرى في هذه الآيات الكريمات وصفا دقيقا للمعركة، ووصفا للنفوس بينه العالم بما في الصدور. ونرى الآيات تبين ابتداء المعركة، وقد كان فيها جيش الإيمان يحس الشرك بأن يصيب حسه، وإصابة الحس قتل الأنفس. وإزالة عنصر الحياة فيها، بإزالة الحس الذى هو مظهر. ويجيء من بعد ذلك الخلاف حول الغنائم، بسبب التردد بين أخذها وبين تركها، وفي الأولى عصيان القائد الأعظم، وفي الثانية عصيان النفس، وطاعة القائد هو أولى بها، وإن كل تنازع عجز، ولذا بين القرآن الكريم أن ذلك فشل ذريع، ثم غلب بعد ذلك العصيان. وانبثق في هذا الخلاف ما تكن النفوس، فكان منها من يريد الدنيا، وهم الذين تبعوا الغنائم، وأخلوا بالصفوف، وصرف الله تعالى جيشه الذى كان موحدا في الظاهر، لتكون تلك الجراح، والمقتلة التى أصابت المسلمين. وصور الله تعالى المعركة في انتصارها وكبوتها، إذ هم يصعدون، والرسول عليه الصلاة والسلام يدعوهم في أخراهم. ثم من بعد ذلك كانت الحسرة، فلم ينالوا مالا، ولم يحافظوا نفسا، وأصابهم غم شديد، بل أصابهم غمان. غم بسبب ضياع الأنفس وضياع المال إذ تعجلوا قبل ميقاته، وغم إذ نالهم، وأحسوا بما كان منهم، فلا يحزنون على مال فاتهم، ولا جروح أصابتهم، إنما هو الغم والغم إنزال غمة بالنفس، تكون منها في ظلام لا يرى ما وراءه، ويصيب النفس بالإعياء المرهق كدا وحسرة. وإن ذلك كان عاما لمن كان يريد الدنيا، ومن كان يريد ما عند الله، وقد خص الذين يريدون ما عند الله تعالى بعد الغم المتوالى، غما بعد غم، كان الاطمئنان والرضا بما كان مستفيدين من العبر، وكان مظهر هذا الاطمئنان النعاس الذى لا يكون إلا من قرار نفس، واطمئنان حاضر، ورضا بما قدر الله تعالى،

تمام المعركة

وقد بذلوا في جهادهم كل الأسباب، وقد فاتهم النصر الحاسم كمن كان الشيطان قد استزلهم بأن أوقعهم في الزلل، بما كسبت قلوبهم من طلب للمال. والآخرون الذين لم ينلهم الاطمئنان لأنهم الذين باشروا سبب الفزع والاضطراب الذى أصاب الجيش قد أهمتهم أنفسهم، فكانوا في هم دائم، لأنهم فقدوا المال الذى كانوا يريدونه، وأصابتهم حسرة من الجراح التى نزلت بهم، وبالمؤمنين، ولأنهم لم يطيعوا. ولقد حدث من بعضهم أنه بعد الانكسار المؤقت الذى أصاب الجيش فكر بعضهم في أن يكتب إلى عبد الله بن أبى رأس المنافقين، يؤمنون أنفسهم عنده، ويظهرون له الطاعة بعد العصيان. فقد جاء في تاريخ الحافظ ابن كثير أن بعض الذين كانوا قد هموا بالفشل أنهم قالوا «ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبى فيأخذ لنا أمنة من أبى سفيان، يا قوم إن محمدا قد قتل، فارجعوا إلى قومكم قبل أن يأتوكم فيقتلوكم، فقال أنس بن النضر: يا قوم إن كان محمد قد قتل، فإن رب محمد لم يقتل، فقاتلوا على ما قاتل عليه محمد، اللهم إنى أعتذر إليك مما يقول هؤلاء، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء، ثم شد بسيفه فقاتل حتى قتل» . وقد أشرنا إلى ذلك من قبل، نذكره هنا بيانا لما نشير إليه، فهؤلاء هم الذين أهمتهم أنفسهم، وقد جرهم الشيطان إلى الزلل بسبب ما كسبت نفوسهم من تردد، ومرض نفسى، فكان زللهم نكبة للجيش، وإن لم تؤد إلى هزيمة، وإن هذا يزكى ما قلنا في أوّل القول عند ما وصفنا جيش المسلمين، بأن فيه بعض المترددين دعاة الهزيمة إذا وجدت أسبابها، وأنهم ما جاؤا إلا للغنائم، وأنهم نفسوا على أهل بدر ما نالوا من أنفال، فلم يريدوا القتال إلا لينالوا مثل ما نال الذين سبقوا بالجهاد حقا وصدقا. تمام المعركة 429- قلنا إن غزوة أحد لم تكن فيها هزيمة على المؤمنين، وإنما الذين أنهوها هم المشركون ولم تكن قد انتهت من قبل المؤمنين. نعم إنه كانت جراحات في المؤمنين، ولكن لم تثخنهم، وكانت جراحات في المشركين دون جراحات في المؤمنين، ولم يكن عمل المشركين إلا أن جاؤا فأخذوا ببعض ثأراتهم، ولم يأخذوا بها كاملة، فهل نالوا من على نيلا؟ وهل نالوا من الزبير؟ وهل نالوا من أبى دجانة؟ وهل نالوا من طلحة بن عبيد الله؟ فإن كانوا قد نالوا من حمزة، فإن الذين وتروهم كانوا لهم بالمرصاد.

خروج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم:

وإذا كان المشركون قد أنهوا الحرب، بما يشبه الفرار عند ما استرد المسلمون جأشهم، واستقاموا لجهادهم، وأخذوا يكيلون لهم، وخافوا على أنفسهم من عودة الوثبة، وأن يحسوهم بإذن الله تعالى كما ابتدأوا، لم ينه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم الحرب، ولذا تبعهم بالجند المؤمنين، ولا يجدد الجيش، بل يذهب إليهم بمن كانوا معه، وإذا كان قد فقد من جيشه نحو السبعين، فإنه بقى له فوق ستمائة، وإذا كانوا قد أصابتهم جراحهم، ولكنها لم تثقلهم، وهم بقية السيف وبقية السيف كما قال بطل الجهاد على بن أبى طالب، أبقى عددا. خروج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: 430- بعد أن عاد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى المدينة المنورة من المعركة التى كانت يوم السبت 15 من شوال سنة ثلاث، وكان يوم الأحد في الغداة يدعو جنده للذهاب إلى تتبع المشركين، ورأى صلى الله تعالى عليه وسلم ألا يخرج معه إلا من كان من رجاله في أحد، وقد عرض عليه عبد الله بن أبى ومن رجعوا أن يخرجوا معه، فرفض رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن يخرجوا، وقد فرح المؤمنون بخروجهم وقد قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم «لا يخرجن معى إلا من شهد القتال» فاستجاب الذين أخلصوا دينهم لله قرحى على ما أصابهم من جروح وبلاء، وقد روى أن الله سبحانه وتعالى قال فيهم: الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ، لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (آل عمران- 172) .. هذا جانب الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم خرج ليتمم المعركة، بطلب العدو الذى أنهى هو الحرب، ورحاها دائرة، ولم يتركوها رحمة، بل لمجرد الرضا بما وصلوا إليه من ثارات غير كاملة، فالأبطال الذين جندلوا مشايخهم ببدر كأبى دجانة وعلى والزبير ما زالت سيوفهم مشهورة عليهم. والمشركون من بعد أن أنهوا القتال شبه فارين من نهايته، فإنه روى أنهم أخذوا يتلاومون ويقول بعضهم لبعض: لم تصنعوا شيئا، أصبتم شوكة القوم وحدهم، ثم تركتموهم، ولم تبتروهم بل منهم رؤوس يجمعون لكم. ذلك قولهم بأفواههم، والحق أن رجالات محمد عليه الصلاة والسلام ما زالت فيهم البقية المرهبة، وما زال الإيمان بنصر الله يملأ قلوبهم. ولقد هم المشركون أن يرجعوا لولا أنهم علموا الوثبة الإسلامية بقيادة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد ابتدأت العودة إليهم عند ما علا النبى عليه الصلاة والسلام بجيشه فوق الهزيمة، وأخذ يذيقهم وبال أمرهم، فانتهوا لما علموا ذلك ورجعوا عن عزمتهم ورضوا بما نالوا.

خرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى حمراء الأسد، وهى تبعد عن المدينة المنورة بنحو ثمانية أميال، وأقام على المدينة المنورة ابن أم مكتوم، وقد لقيه بعض بنى خزاعة، وكانوا يميلون إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مسلمهم وكافرهم فقال قائلهم للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم يا محمد إنا والله لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك، ولوددنا أن الله تعالى عافاك فيهم، وقائل هذا القول هو معبد بن أبى معبد الخزاعى. ذهب من ذلك معبد إلى الروحاء وفيها أبو سفيان بن حرب، وقيل أنهم كانوا أجمعوا إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ولكن من غير إقدام، بل على خوف ووجل، ولذلك جبنوا لما علموا بخروج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم للقائهم. سأل أبو سفيان معبدا قائلا: ما وراءك يا معبد. قال معبد: محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط، يتحرقون عليكم تحرقا، قد أجمع معه من كان تخلف عنه في يومكم، وندموا على ما صنعوا، فيهم من الحنق عليكم شيء لم أر مثله قط. قال أبو سفيان: ويلك ما تقول؟ والله ما أراك ترتحل، حتى ترى نواصى الخيل، وو الله لقد اجتمعنا للكرة عليهم، حتى نستأصل شأفتهم. قال معبد: فإنى أنهاك عن ذلك. نهنه من عزمتهم، وقلل من شوكتهم كلام معبد، وقد كانوا على وجل من اللقاء، ولكنهم أرادوا أن يمنعوا محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم من اللحوق بهم، فكلفوا بعض عبد القيس بأن يفزعوا النبى كما فزعوهم فركب عبد القيس النقى بالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم وهو بحمراء الأسد، فأخبره بأن أبا سفيان قد أجمع على السير إليه ليستأصل بقيتهم. فلم يفزع محمد صلى الله تعالى عليه وسلم كما فزع هو بل قال: حسبنا الله ونعم الوكيل، وقد قال البخارى: إنه أنزل في هذا قول الله سبحانه وتعالى: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ، فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً، وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173- آل عمران) وأخيرا ارتد المشركون على أعقابهم خاسئين، ورضوا بما لقوا. والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان يتبعهم، فهل كان المسلمون بعد ذلك في واقعة أحد مهزومين؟ لقد أصابهم قرح والجروح تصيب المقاتلين ولا تعد في قانون الحرب هزيمة، إنما الهزيمة أن يولوا الأدبار ويفروا فرارا.

رحمة النبى القائد صلى الله تعالى عليه وسلم

رحمة النبى القائد صلى الله تعالى عليه وسلم 431- إن القائد الذى يسير وراءه الجيش، ويقدم روحه بين يديه، ويقدم معه على مواقع الردى غير هياب ولا وجل، هو القائد الرحيم الذى يحمى الجند من ورائه بأن يحنو عليهم كما يحنو الأب على أبنائه، فإذا قدمهم للاستشهاد فلمقصد أسمى، يقدم نفسه فيه أمامهم. وليس القائد المظفر هو الذى يقدم جيشه إلى الميدان، كما يقدم أدوات الحرب، ومعدات القتال، من غير قلب يرحم، وينسى أن الجيوش قلوب تقدم، وأرواح تتقدم فداء للمعنى الإنسانى العالى الذى تقاتل من أجله، وتخوض له مشتجر السيوف، وتلقى بالحتوف نصرا له، وتأييدا لكلمة الحق، إن هذا النوع من القواد الجامدين الذين يحسبون الحرب تخطيطا وليست رحمة، أو تلابسها رحمة لا ينتصر، وإن انتصر مرة، لا يعاوده النصر مرة أخرى، لأنه لا يجد جندا ينصرونه، ولقد رأينا ممن يحسبون أنفسهم قواد الحرب من يرى صرعى جيشه في الصحراء، ولحومهم تنهشها ذئابها، ويقول غير حزين: هكذا الحرب. ولذلك توالت هزائمه. ولقد كان بونابرت قائدا مظفرا حتى عاد إلى فرنسا، وترك جنده في روسيا يأكلهم الثلج، وقد أذاقهم لباس الجوع، فكان ذلك مفتاح هزيمته، وما انتصر من بعد ذلك انتصارا حاسما. وإن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم كان المثل السامى لرحمة القائد بجنده، كأنهم قطع من نفسه، ولقد زكى الله سبحانه وتعالى هذه الرحمة المحمدية النبوية، فقال الله سبحانه وتعالى: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ، وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ، لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ، فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ، وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ، فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (آل عمران- 159) . وقد بدت رحمة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بجنده في أحد وعقب الجروح التى أصابت الجيش الإسلامى، فما وجه لوما لأحد، وما جال بخاطره أن يحاكم المقاتلين لأخطاء وقعت، بل كل همه في الميدان أن يسترد الموقف لأصحابه، وأن يقفوا، ولا يخروا صرعى أمام أعدائهم، بل ارتقى بهم إلى الهضبة وأعطى الراية من يحملها بحقها، وناضل، وقاوم، حتى أيأس المشركين من أن يستأصلوا المؤمنين، بل خافوا منهم، وأنهوا القتال وإن لم يكونوا مدحورين، خشية أن يندحروا، إذ رأوا جند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد اشتد بأسهم في القتال مع هذه الجراح التى جرحوها. وعفا عنهم، ليستبقى نخوتهم وبأسهم لما يأتى، وإن لم يكن ما وقع لا يسر، بل كان يضر، ولم يكتف عليه الصلاة والسلام بالعفو، بل استغفر لهم بأمر ربه.

ولعل شوراهم هى التى جعلتهم يواجهون المشركين، وقد كانوا بمنجاة عن ذلك، لو أخذوا برأى الرسول، ولكن الشورى لم تكن سبب الجراح، إنما عصيان القائد، والخروج عما رسم من نظام كان هو السبب المباشر، ولذلك أمره الله سبحانه وتعالى أن يستمر في الشورى، فخطأ الشورى دائما إلى صواب، لأنه يقوى إرادة الأمة، وصواب الاستبداد دائما إلى خطأ، لأنه يضعف إرادة الأمة، وضعف الإرادة يضعف العزيمة ويفسد النفس، وذلك في ذاته خطأ. ولقد أخذت الرحمة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بالشهداء من الصحابة، فأمر بأن يدفنوا بدل أن يرسلوا إلى أهليهم، ومن أخذه أهله رده إلى الموطن الذى استشهد فيه، وذلك لكيلا تتبعثر أبدانهم الطاهرة، ولكيلا تثير رؤية ذويهم لهم ألما وحزنا، ولكيلا يتصايح أهلوهم بالندب والنواح، فكانت رحمة الله تعالى بهم أن يدفنوا حيث هم، ليعرف الناس فضلهم، ولقد كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من بعد يزور مصارعهم، وسلك ذلك أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، رضى الله تعالى عنهم جميعا، وعلى كان يكرم ذرية أهل بدر وأهل أحد، فيزيد في الصلاة عليهم تكبيرات في صلاة جنازتهم. ولقد كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يدفن الشهداء، ويجمع في القبر أكثر من واحد، ويختار من كانوا ذوى صحبة بينهم، فيدفنهم في قبر واحد، وكان يقدم في الدفن الأقرأ فالأقرأ، وكلهم شهداء ذوو فضل عظيم ومقام كريم في الإسلام. وقد كان عليه الصلاة والسلام لا يمنع أن يبكى أهل الشهيد من بكاء عليه حزنا، وإن كان قد فاز بالشهادة، وكان يقول عليه الصلاة والسلام: «البكاء من الرحمن والصراخ من الشيطان» . وكان يبكى بكاء شديدا على عمه حمزة أسد الله تعالى، حتى إنه رأى نساء الأنصار يبكين قتلاهم فقال صلى الله تعالى عليه وسلم حزينا باكيا، «وحمزة ... لا بواكى لحمزة» . ومن رحمته عليه الصلاة والسلام بأهل الميت أنه منع السيدة العظيمة عمته صفية من أن ترى أخاها حمزة مقتولا، وقد عبثت العابثات من نساء المشركين بجثمانه الطاهر، ومثلوا به. قال ابن إسحاق: قد أقبلت صفية بنت عبد المطلب لتنظر إليه (حمزة) وكان أخاها لأبيها وأمها، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم للزبير: الحقها فأرجعها، لا ترى ما بأخيها، فقال لها الزبير، ارجعى يا أمه، إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يأمرك أن ترجعى. قالت: ولم وقد بلغنى أنه قد مثل بأخى، وذلك من الله فما أرضانا بما كان من ذلك، لأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله، فلما جاء الزبير إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأخبره بذلك قال: خل سبيلها، فأتته فنظرت إليه واسترجعت واستغفرت.

العدد والحساب

ولقد دفن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عمه سيد الشهداء حمزة مع ابن أخته عبد الله ابن جحش، وقد مثل به، كما مثل بخاله حمزة. وهكذا كان النبى عليه الصلاة والسلام القائد الرحيم يعيش بعد الجراح مع الأسر المجروحة يواسيها ولكن مواساة النبوة. والحقيقة: أن قتلاهم شهداء، وأنهم أحياء يرزقون، كما قال سبحانه وتعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً، بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (آل عمران- 169) . وأنهم قد نالوا خير الحسنيين، وأنهم يتمنون لو يعودون ليقتلوا في سبيل الله شهداء كما قتلوا، ولكن كتب الله أن الذين يموتون لا يرجعون، ولكن يبعثون في يوم الميقات المعلوم. العدد والحساب 432- وقف أبو سفيان بن حرب الذى كان قائد الشرك مفاخرا قائلا «يوم بيوم بدر، والحرب سجال» زاعما أنهما يومان متقابلان تساويا في الخسارة، فخسارة المسلمين يوم أحد كخسارة المشركين يوم بدر، فهل هما متساويان؟ العدد والحساب فيهما الحكم والإجابة، لقد كان القتلى من المشركين في بدر سبعين، والأسرى مثلهم وفروا يومها منهزمين مدحورين، والسيوف الإسلامية تعمل في أقفيتهم، فهل كانت هذه حال المسلمين: كان القتلى من المسلمين في أحد سبعين، أربعة من المهاجرين، وأكثر من خمسة وستين من الأنصار، ولم يكن من المسلمين أسر قط، وكان القتلى من المشركين في غزوة أحد اثنين وعشرين، وأسير هو أبو عزة الجمحى الذى أسر يوم بدر، وخان العهد الذى أعطاه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم على ألا يظاهر عليه، فظاهر على المسلمين وجاء مقاتلا، فأسر، وطلب أن يمن عليه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لفقره، ولبناته، فقال له النبى صلى الله عليه وسلم الذى يجازى الإحسان بالإحسان، والإساءة بعقابها. قال له: لا أدعك تمسح عارضيك، وتقول خدعت محمدا مرتين، لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين. وأمر به فقتل. ولم يكن من المؤمنين أسير، ولم يفروا ولم ينهزموا مدحورين، ولم تعمل السيوف في أقفيتهم إذ لم يولوا مدبرين، وإذا كان قد أحيط بهم في الدورة الثانية من أدوار القتال، فقد شقوا طريقهم وارتفعوا عليهم، واختاروا لأنفسهم المكان الملائم، وأخذوا يسلبون نتائج المعركة من أيديهم حتى حسبوها ستفلت من أيديهم بهذا القتال، وتتبعهم المسلمون في اليوم التالى، وإن كانوا مجروحين لم ينهزموا لأنهم يقاتلون فى سبيل الله، فهم ليسوا مع المؤمنين على سواء، ونتيجة الحساب بالمعادلة تنتج أن عند المسلمين زيادة في الغلب.

العبرة فيما أصاب المسلمين:

وإن الجروح التى أصابت جيش الإسلام لا تعد هزيمة. وكما قال صديقنا القائد العظيم اللواء ركن محمود شيت خطاب، إن فقد عشرة في المائة من الجيش مع بقائهم ثابتين، ومع أنهم شقوا الطريق إلى النصر، لا يعد هزيمة بحال من الأحوال. إنما هو جرح، كما قال الله سبحانه وتعالى: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ، وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ آل عمران. فما كانت المداولة بين الناس في الانتصار والانهزام، بل كان في القرح الذى مسهم مثله فكانت الهزيمة لهم ابتداء، ولم يستطيعوا أن ينزلوا بالمسلمين هزيمة مثلها، بل فروا في النتيجة فرارا.. العبرة فيما أصاب المسلمين: 433- ولكن مع ذلك دروس، ففى أحد عبر وأغلاط، هى التى جعلت المسلمين يمسسهم قرح، كما مس المشركين قرح أولا- وقرحهم أشد، لأنه صحبته هزيمة. وأن الجرح الذى أصاب المسلمين له أسباب: أولها: أن جيش المسلمين كان فيه من يطلب الغنيمة، لأنه حسب أن النصر مفروغ منه بالقياس على ما كان في بدر، وقد ظهرت نيات هؤلاء قبل المعركة، إذ همت طائفتان أن تفشلا والله وليهما، وظهرت في أثناء المعركة، فقال سبحانه وتعالى: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا، وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ والذين يريدون الدنيا سارعوا إلى الغنائم، وعصوا أمر الرسول. وظهر الذين يريدون الدنيا بعد المعركة، فقد أهمتهم أنفسهم، وندموا على الخروج لأنهم لم يصيبوا مالا وأصابتهم جراح، ولم يعرفوا أن شأن القتال اتباع مناهجه، فإن خرجوا عنها وخالفوا أمر القائد، ينلهم الثبور، وأنهم إن أطاعوا، وسلكوا المنهج المستقيم نصرهم الله تعالى بتوفيقه. ولقد كان هؤلاء يثيرون التردد في الجهاد في قلوب أهل الإيمان، وقال الله سبحانه وتعالى فيهم: أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا، قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ، إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ، فَبِإِذْنِ اللَّهِ، وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ. وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا، وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا، قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ، هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ، يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (آل عمران- 165: 167) .

دعاء الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم في أحد:

وثانيها: أن بعض الجيش الإسلامى بتأثير الذين يريدون الدنيا قد شغلوا بالغنائم، ولم يطاردوا المشركين بعد أن اضطربت صفوفهم بضربات المؤمنين الصادقين أولى البأس من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يتبعوا المشركين حتى يثخنوهم، ويعجزوهم عن أن يحيطوا بهم، ويضربوا فيهم. وثالثها: عصيان القائد، وذلك من الذين يريدون الدنيا، وقد عارضهم الذين يريدون الآخرة، ولكن الأولين كشفوا ظهر المسلمين. ولقد كانت نتيجة هذه الجراح عبرة ولم تكن هزيمة، وهى أن الله تعالى محص الذين آمنوا بالله وطلبوا الآخرة من الذين يريدون الدنيا، ولا يفكرون فيما عند الله تعالى في الآخرة. فإنه في الوقت الذى كان يجرى فيه هؤلاء وراء الغنائم التى كانت وبالا- كان المخلصون الذين يريدون الآخرة قد أحاطوا بالرسول يتلقون عنه ضربات السيوف وينضحون النبل، ويرمون، ويأتمرون بأمر القائد الأعظم، بأمر الرسول عليه الصلاة والسلام، وقد باعوا أنفسهم لله تعالى يقاتلون، فيقتلون ويقتلون حتى شقوا الطريق، وعلوا إلى الهضبة، وأخذوا يكيلون الضربات، حتى أيئسوهم من نصر، وأن يلحقوا بالمسلمين هزيمة، ولقد قال الله سبحانه وتعالى وقد تبين المجاهدون الذين أشرنا إليهم، والذين استردوا الموقف، بعد أن خرج بعمل الذين يريدون الحياة الدنيا وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ. أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ. وقد تبين المجاهدون الصابرون، وكان منهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلا، وإن غزوة أحد مهما تكن نتيجتها قرر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أنها جرح أصيب به المسلمون من الشرك، فقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم: «لا يصيب المشركون منا مثلها، حتى يفتح الله علينا» . دعاء الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم في أحد: 434- رأينا أن نتيمن بذكر دعاء الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم في أعقاب المعركة في شدتها على أهل الإيمان، روى الإمام أحمد رضى الله تعالى عنه في مسنده، وبالسند المتصل أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لما كان يوم أحد، وانكفأ المشركون، قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم «استووا حتى أثنى على ربى عز وجل، فصاروا خلفه صفوفا، فقال اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادى لما أضللت، ولا مضل لمن هديت،

أعقاب أحد

ولا معطى لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرب لما باعدت، ولا مبعد لما قربت، اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك، اللهم إنى أسألك النعيم المقيم الذى لا يحول ولا يزول، اللهم إنى أسألك النعيم يوم العيلة، والأمن يوم الخوف، اللهم إنى عائذ بك من شر ما أعطيتنا، وشر ما منعتنا، اللهم حبب إلينا الإيمان، وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، اللهم توفنا مسلمين، وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا، ولا مفتونين، اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك ويصدون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك، اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب، إنه الحق» . هذا الدعاء الذى رواه الإمام أحمد، قد رواه النسائى أيضا في سننه. وهكذا دخل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم هو وأصحابه الذين يريدون الحق متجهين إلى الله تعالى لا يرضون إلا رضاه في جهادهم، واستشهادهم ورغبتهم فيما عنده، وخرج بهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، واتجاههم إلى الله تعالى، واستووا وراءه صفوفا حامدين شاكرين، غير ناكصين، زادتهم المحنة إيمانا وتسليما، وإذعانا وتفويضا، فما ارتابوا، بل ازدادوا إيمانا ويقينا، رغبة في حمية دينية، وقوة ربانية، وما ضعفوا ولا استكانوا. وبذلك كان التمحيص بهذه الشدة، فنفت الأخباث، وبقى الجوهر، وصقل. وبينما المؤمنون يدعون مع النبى صلى الله عليه وسلم ذلك الدعاء كان الذين أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية، «يقولون هل لنا من الأمر من شيء ... يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا» . ويقول لهم المنافقون الذين رأوا ضعفهم، وضعضعة نفوسهم، لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا، قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. أعقاب أحد 435- بينا أن الجيش الإسلامى لم يهزم في أحد، ولم ندع أنه انتصر، لأنهم خرجوا من القتال، ولم يمكنوا المسلمين من أن يضربوهم الضربة القاصمة، بل إنهم خرجوا راضين بالجراح في شبه اختلاس لا لقاء ولما ركبوا إبلهم تأكد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أنهم عائدون، فعاد إلى المدينة المنورة، حتى يداوى الجيش جروحه، ثم خرج إليهم في حمراء الأسد، عساه يدركهم لينال جيش الإيمان منهم.

ولكن عبد الله بن عباس رضى الله عنه يرى أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم نصره الله تعالى فى أحد، فقد أثر عنه أنه قال: ما نصر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في موطن نصره في يوم أحد، فأنكر عليه ذلك، فقال بينى وبينكم كتاب الله تعالى، إن الله سبحانه وتعالى يقول: «ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه» والحس القتل، ولقد كان لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولأصحابه أول النهار حتى قتل من أصحاب لواء المشركين سبعة أو تسعة. وإذا قتل أصحاب اللواء كان دليلا على عظم كفة المسلمين. فإن الكفة راجحة، وكفتهم غير راجحة، فقد قتل كل حملة لوائهم، حتى رفعته امرأة. أما المؤمنون، فكان لواؤهم مع مصعب بن عمير، وأخذ يقاتل منافحا عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فقتل، واستطاع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يشق إلى الهضبة ويحمل اللواء على بن أبى طالب، فانحسروا دون لواء المسلمين، ولم ينالوا خيرا. ومع أن المسلمين لم يهزموا، وجيش الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم لم يسقط لواؤه، قد تشايع بين اليهود والمنافقين أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم هزم وجيشه، وسموا الجراح التى أصابت المسلمين هزيمة وانتهزوها فرصة لإظهار الشماتة والتهكم، حتى قال قائلهم لو كان نبيا ما هزم، وأخذوا يعيرون إخوانهم أو من ليسوا لهم إخوانا، بأنهم لو كانوا معهم ما قتلوا وما أصيبوا. ولقد بلغ بهم التهكم أن كبير المنافقين عبد الله بن أبى صارح بالتهكم، ووقف كعادته يظهر أنه يؤيد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو في قوله يسخر، كما كان يسخر من قبل. قال ابن إسحاق في سيرته «كان عبد الله بن أبى له مقام يقومه كل جمعة، لا ينكر له شرف فى نفسه وفي قومه، وكان فيهم شريفا، إذا جلس رسول الله يوم الجمعة وهو يخطب قام فقال: أيها الناس هذا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بين أظهركم، أكرمكم الله تعالى به، وأعزكم به، فانصروه وعزروه واسمعوا له، وأطيعوا» ثم يجلس. وما كان ذلك منه إلا نفاقا، إذ كان يستر كفره بهذه الكلمات، ويبث الكفر والنفاق والتردد في نفوس المؤمنين. وقد رآه المؤمنون يبث روح التردد والهزيمة في جيش الإيمان، ثم ينسحب ليفت في العضد، ويبث روح التردد، حتى همت طائفتان أن تفشلا.

اليهود:

ولكنه كان دائبا على إظهار مالا يخفيه، فقد وقف كذلك، والجيش الإسلامى قد عاد جريحا، ولم يكن مهزوما، وقد وقف كما كان يقف كل جمعة، فأدرك المؤمنون تهكمه، وأخذوه بثيابه، وقالوا: اجلس أى عدو الله والله لست لذلك بأهل، وقد صنعت ما صنعت. فخرج يتخطى رقاب الناس وهو يقول: «والله لكأنما قلت هجرا أن قمت أشدد أمره.. فوثب إليّ رجال يجبذوننى» . قال له رجال من الأنصار: ارجع يستغفر لك النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، قال: والله ما أبغى أن يستغفر لى، إنه يقول يريد الشماتة، وكما قال سبحانه وتعالى فيه وفي أصحابه، ومرضى القلوب: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ. وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ. وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (محمد- 31) .. أصابت المنافقين فرحة شديدة، قد بدت البغضاء من أفواههم، وكما قال سبحانه وتعالى: إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ، وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها، وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً، إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (آل عمران- 120) . هذا ما كان من أهل النفاق اليهود: 436- كانت فرحة اليهود شديدة، وأوجدت فيهم طمعا، إنهم موتورون من المسلمين بما كان لبنى قينقاع جزاء ما اقترفوا، وكانوا يتوقعون أن ينزل بهم ما نزل بهم، فلما كانت أحد طمعوا بدل أن يستمر خوفهم، وظنوها فرصة سنحت، وكانوا يتربصون بالمؤمنين الدوائر. ولا شك أن فرحتهم كانت عظيمة، وخصوصا أنه كان منهم من قاتل مع المشركين، وهو أبو عمار الراهب، وحسب أن مجيئه يخذل أهل يثرب عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. ولقد بدت البغضاء من أقوالهم، وأفعالهم، حتى ليهمون أن يقتلوا النبى صلى الله عليه وسلم غيلة بأن يرموا عليه صلى الله تعالى عليه وسلم حجرا من سطح بعض بيوتهم، ومعه أصحابه أبو بكر، وعمر، وعلى، رضى الله تعالى عنهم جميعا، ولكن الله تعالى نجاه منهم. وقد كان المسلمون يظنون بهم الظنون لفرط ما كان من عداوتهم سرا وجهرا، وظاهرا وباطنا.

ويجب أن نقول هنا ما قاله الله سبحانه وتعالى فيهم لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (آل عمران: 113) . وإن أولئك هم الذين أسلموا من اليهود عند حضور النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى المدينة المنورة كعبد الله بن سلام، وفريقه الذين آمنوا بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم فله جزاء- الحسنيان. ومعهم عدد قليل أسلموا مخلصين في شدة أحد، ويذكر التاريخ منهم مخيرق، قال فيه ابن إسحاق: كان ممن قتل يوم أحد، مخيرق، وكان أحد بنى ثعلبة، فلما كان يوم أحد قال: يا معشر يهود، والله لقد علمتم أن قصد محمد عليكم لحق، قالوا: إن اليوم يوم السبت، قال: لا سبت لكم، فأخذ سيفه وعدته، وقال: إن أصبت فمالى إلى محمد صلى الله تعالى عليه وسلم يصنع به ما شاء، ثم غدا فقاتل مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حتى قتل، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: مخيرق خير يهود. وقد روى السهيلى أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم جعل أموال مخيرق وكانت سبع حوائط، أى حدائق- أوقافا في المدينة المنورة. ويظهر أنها كانت أوّل أوقاف سنها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وهى حجة للذين أجازوا الأحباس ولم يمنعوها، فهى عمل نبوى ثابت إلى يوم القيامة. ولقد دخل بعض أهل يثرب ممن لم يكونوا دخلوا في الإسلام حرب أحد، فأسلموا وقتها، ومن هؤلاء أصرم بن عبد الأشهل عمرو بن ثابت بن وقش. أخذته الحمية عند ما جاءت قريش، ومعها الأحابيش وغيرهم يغيرون على المدينة المنورة في أحد، فخرج مع المحاربين وقد دخل الإيمان قلبه، وكان من قبل يأبى الإسلام على نفسه ويستنكره من قومه، فلما كان يوم أحد حمل سيفه، ودخل في عرض الناس، فقاتل، حتى أثبتته الجراح، وبينما رجال من بنى عبد الأشهل يلتمسون قتلاهم في المعركة إذا هم به، فقالوا: إن هذا للأصيرم، وما جاء به ولقد تركناه وإنه لمنكر، فسألوه فقالوا ما جاء بك يا عمرو أحدب على قومك أم رغبة في الإسلام؟ فقال رغبة في الإسلام، آمنت بالله ورسوله وأسلمت، ثم أخذت سيفى، وغزوت مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقاتلت حتى أصابنى ما أصابني، فلم يلبث أن مات. وقد أسلم وهو داخل المعركة، وآمن بالله ورسوله، ولم يكن وقت بين إسلامه وتقدمه للصلاة ومقتله، وقد شهد له رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بالجنة.

الأحكام المستفادة مما أتبعه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم في أحد

روى أبو هريرة عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: «حدثونى عن رجل دخل الجنة لم يصل قط، فسألوه من هو؟ فقال: أصيرم بن عبد الأشهل عمرو بن ثابت» . هذه أمور قد أحاطت أحدا، وأعقبتها في داخل المدينة المنورة، وما حولها، أما أثرها في بلاد العرب، والقبائل المصاقبة في المدينة المنورة، وما تحمله النبى صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنون في أعقابها، فنتركه إلى الكلام في سرايا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وغزواته من بعدها. الأحكام المستفادة مما أتبعه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم في أحد 437- كانت غزوة بدر الكبرى إيذانا بشرعية القتال دفاعا عن النفس، ودفعا للاعتداء. وحماية للدعوة، كما صرح بذلك القرآن الكريم، فى قوله تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا، وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (الحج- 39) . وفي قوله تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (البقرة- 190) . وفي قوله تعالى: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ، وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ (البقرة- 193) وقوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ، وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ، وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (البقرة- 216) . وهكذا نزلت آيات كثيرة في إباحة القتال، بل وجوبه دفعا للفساد، كما قال تعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ، وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ. (البقرة- 251) . كان هذا لمناسبة أوّل قتال، أما في أحد، فقد شرعت أحكام تفصيلية في الجهاد من عمل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من تكوينه لجيشه، ومن استقباله لعدوه: (أ) ومن هذه الأحكام التى ثبتت في هذه الغزوة أنه لا يخرج إلى الجهاد من لم يبلغ الخامسة عشرة إلا إذا كان قوى الجسم، كقوة الشبان البالغين، أو كانت له مهارة فنية في الحروب، كالرمى بالنبل، فقد أجاز اثنين ممن دون الخامسة عشرة بقليل لمهارة أحدهما في الرمى، ولقوة الثانى في المصارعة. وقد أجاز صلى الله تعالى عليه وسلم خروج النساء في الغزو، يسقين الغزاة، ويداوين الجرحى،

والقتال إن تعين القتال عليهن، كتلك التى كانت تناضل مع المناضلين عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقد أحاط به المشركون يحاولون قتله، فردهم الله تعالى بغيظهم لم ينالوا منه عليه الصلاة والسلام شيئا. ولذلك أجاز الفقهاء خروج المرأة مع الجيش مداوية ومقاتلة، وقال بعضهم: لا يحل لها ركوب الخيل إلا أن تكون محاربة. (ب) ومنها أنه إذا أخذت الأهبة للجهاد لا يجوز أن يترددوا، فإن التردد يلقى بالخذلان في النفوس، والاختلاف والتدابر، ولذلك لما لبس النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لأمة الحرب، وغير المجاهدون رأيهم، قال صلى الله تعالى عليه وسلم «ما كان لنبى لبس لأمة الحرب أن يخلعها» وكذلك الأمر في كل أمر ينتهى بالشورى لا يصح أن يكون موضع تردد حسما للأمور وفضا للنزاع. (ج) ومنها أنه يجوز للمجاهدين مجتمعين أن يأخذوا طريقهم، ولو في أرض مملوكة ملكا خاصا، كما اجتاز النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بجيشه بعض الحدائق، ولم يلتفت إلى اعتراض المعترضين، لأن الملك الخاص له حق الصيانة، إلا إذا ترتب على الحقوق الخاصة ضرر عام، فإذا لم يكن للجيش طريق إلا الملك الخاص، لم يمنع من سلوكه مهما يكن اعتراض صاحبه، ولذلك لم يلتفت النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى اعتراض الأعمى صاحب الحديقة، وقال إنه أعمى البصر والبصيرة. (د) ومنها جواز أن يتمنى المجاهد في سبيل الله الشهادة من غير مواناة ولا استسلام بل في حزم وعزة وقوة. وتمنى الموت منهى عنه في غير هذا المقام كما قال عبد الله بن جحش عند ما تقدم للجهاد «اللهم لقنى من المشركين رجلا عظيما كفره، شديدا حرده، فأقاتله، فيقتلنى ويسلبنى ثم يجدع أنفى وأذنى، فإذا لقيتك فقلت: يا عبد الله بن جحش، فيم جدعت!! قلت: فيك يا رب» . ويظهر أن ذلك الدعاء بعد أن رأى المشركين يمثلون بالقتلى. (هـ) ومنها أن المسلم إذا قتل نفسه أثم، ودخل النار، ولو كان ذلك من جراح شديدة، وذلك أن مسلما اسمه قزمان أبلى يوم أحد بلاء شديدا حتى أثخن بالجراح، فلما اشتدت به نحر نفسه، فأثمه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، لأنه يئس من روح الله تعالى وبأنه: لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (يوسف- 87) . (و) ومنها أن السنة في الشهداء ألا يغسلوا ولا يكفنوا في غير ثيابهم التى كانوا يجاهدون بها، بل يدفن فيه بدمه وكلومه إلا أن يسلبها فيكفن في غيرها.

(ز) ومنها أن السنة في الشهداء أن يدفنوا في مصارعهم، ولا ينقلوا إلى مكان آخر، وذلك لتكون زيارة قبورهم فيها عبرتان: عبرة الاستشهاد والجهاد، وعبرة رؤية المكان الذى صارعوا فيه وجاهدوا حتى نالوا أعلى الحسنيين. وقد حصل في أحد أن بعض الصحابة نقلوا قتلاهم إلى المدينة المنورة، فنادى منادى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم برد القتلى إلى مصارعهم، قال جابر بن عبد الله بينما أنا في النظارة، إذ جاءت عمتى بأبى وخالى، كما دلّتهما على ناضح فدخلت بهما المدينة لتدفنهما في مقابرنا، وجاء رجل ينادى: ألا إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يأمركم أن ترجعوا القتلى فتدفنوهم في مصارعهم حيث قتلت، فرجعنا بهما، حيث دفناهما في القتلى حيث قتلا. وبعمل الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم صارت السنة في الشهداء أن يدفنوا في مصارعهم. (ح) ومنها جواز أن يدفن الرجلان والثلاثة في قبر واحد فإن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، كان يدفن الرجلين والثلاثة في القبر، ويقول أيهم أكثر أخذا في القرآن؟ فإذا أشاروا إلى رجل قدمه في اللحد وإذا كان رجلان بينهما محبة في الدنيا دفنهما معا في قبر واحد لما كان بينهما من المحبة فدفن عبد الله بن عمرو بن حزم، وعمرو بن الجموح في قبر واحد لما كان بينهما من المحبة. (ط) ولقد حدث عند ما كان الاضطراب في جيش المؤمنين بسبب المفاجأة أن قتل بعض المؤمنين مؤمنا يحسبه كافرا، فإنه لا يذهب دم المقتول هدرا، بل تكون ديته في بيت المال، كما فعل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فودى الذين قتلوا خطأ من المؤمنين، لأنه بقيادته صلى الله تعالى عليه وسلم وهو ولى أمر المؤمنين. (ى) ومنها أن ذوى الأعذار يرفع عنهم واجب الجهاد، ولكنهم إن خرجوا مجاهدين كان لهم ثواب الجهاد، وإن قتلوا كانوا شهداء، فرخصة التخلف لعذرهم رخصة ترفيه، لا تسقط الواجب، ولكن تسوغ التخلف، كمن يصوم وهو صاحب رخصة كمرض أو سفر، فإن الصوم يجزى عنه إذا صام، وإن أفطر فعدة من أيام أخر. وقد خرج عمرو بن الجموح وهو أعرج، وليس على الأعرج حرج، فلم يمنعه النبى من أن يجاهد، فجاهد حتى استشهد، وتولى دفنه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مع شهيد كان له معه صحبة ومحبة.

(ك) ومنها أن العدو إذا طرق الديار لا يجب على المؤمنين أن يخرجوا لقتاله، ولا يجب عليهم أن ينتظروا حتى يدخل عليهم الديار، بل ينظرون إلى ما يكون المصلحة والمكيدة في الحرب، فإن كان الأوّل أشد نكاية اتبع وإن كان الآخر التزم كما فعل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. (ل) ومنها وجوب الشورى، كما استشار النبى صلى الله تعالى عليه وسلم جند المؤمنين، ليدخل الجند مطمئنين، آمنين راضين، غير مرهقين في نفوسهم، ولا في تفكيرهم، فيكون ذلك أرجى للنصر. (م) ومنها ألا يصلى على الشهيد، فإنه ثبت أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لم يصل على شهداء أحد، ولم يصل على شهيد مات في المعركة في أى غزوة من الغزوات، لأن شهادته تغنيه عن دعاء الأحياء، وصلاة الجنازة دعاء وتضرع واستغفار. (ن) وقد قال ابن القيم أنه يجوز للمجروح أن يصلى قاعدا، ولو كان إماما. ويقول في ذلك: إن الإمام إذا أصابته جراحة صلى بهم قاعدا، وصلوا وراءه قعودا، كما فعل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في هذه الغزوة واستمرت على ذلك سنته إلى حين وفاته. ولكن، هل يجوز أن يصلى المأموم واقفا وراء الإمام الذى يصلى قاعدا! إن ذلك موضع خلاف بين الفقهاء، ليس هذا موضعه. هذه الأمور التى ذكرناها كلها كانت من النبى صلى الله تعالى عليه وسلم في هذه الغزوة، وما يعمله يكون بيانا لحكم شرعى يتبع، ولا شك أن بعض هذه الأحكام تدخل تحت أنواع ثلاثة من الأحكام التكليفية، فمنها ما يدخل تحت حكم الجواز، والمصلحة ترجحه أو توجبه، كما رأينا في خروج النساء في الحرب والجهاد، فإنه جائز أو مباح، وقد يكون مستحبا إذا كان في الرجال كفاية وفي النساءعون. وقد يكون واجبا إذا كان الجرحى يحتاجون إلى عدد كبير من المداوين. وكما رأينا في الذى خرج وعنده عذر فإن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أجازه، فإنه يكتفى بالجواز، ابتداء، ولكن إن كان ذا بأس وشدة مع عذره، فإن الأولى الخروج مع رخصة القعود. وهو في الحالين شهيد إن استشهد، له جزاء الشهداء، ومجاهد إن نجا، له جزاء المجاهدين ... والله أعلم.

صدى أحد وسرايا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم

صدى أحد وسرايا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم 438- تسايرت الركبان بموقعة أحد، وقريش تدعى أنها هزمت محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم، وتنشد بذلك شعرا والشعر في البلاد العربية كان أداة النشر، وطريق الإعلام، فإن حدثا يذكر فى قصيدة جدير بأن تعلم به القبائل العربية في قاصيها ودانيها، ولما كانت النفوس مستشرفة لأن تعرف ما بين النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وقريش أخرجوه من مكة، أو خرج بأمر ربه، وصارت بينه وبينهم مغالبة شديدة هم يغالبون بجاهليتهم وغطرستهم، وهو يجاهد بالحق ويدفع به الباطل. وقد رأوا الحق يدفع الباطل يوم الفرقان، وذاع في البقاع أمر الهزيمة التى فروا فيها فرارا، فذلت أنوفهم أو كادت، وزلزلت هيبتهم، وقد كانوا شرف العرب ومحتدهم. فكان لا بد أن يشيعوا أنهم أخذوا ثاراتهم. ونالوا مأربهم ليستردوا هيبتهم، ويستعيدوا شرفهم الذى مزق محمد صلى الله تعالى عليه وسلم رايته. إذا كانت بدر قد هزت مكانة قريش في العرب، وحركت عليهم من كانوا ينفسون عليهم مكانتهم، فكان لا بد أن يشيعوا ما زعموه هزيمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم في أحد، وأن يملئوا بها الأجواء، وأن يرددوها في كل مكان، وقد صارت المعركة بين مكة والطائف وما حولهما، ومدينة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. تحركوا لمناوأة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، والأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله، طمعت قبائل في المسلمين، بعد أن كبتهم الله ببدر، وتحركت عوامل محرضة على أهل الإيمان مجزئة عليهم، ونشر الأخبار عما زعموه هزيمة يؤلب على المؤمنين، ويثير الأضغان من عبدة الأوثان عليهم، فكثر الغدر والخيانة من قبائل العرب، وكثرت مداهنة قريش. والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه يصابرون ويجاهدون. وبمقدار ما كانت قريش تزدهى كان يعتريها أمران: أحدهما: أنهم لم يشتفوا من أعدائهم رجال الإيمان، فما زال من عملوا سيوفهم في رقاب المشركين في بدر من صناديد المؤمنين أحياء وسيوفهم مشهورة ينتظرون الأمر لتضرب، فإذا كانوا قد نالوا من حمزة، فأمامهم على بن أبى طالب، والزبير بن العوام، وسعد بن أبى وقاص، وأبو عبيدة عامر بن

سرية لبنى أسد

الجراح، وأمامهم وزيرا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أبو بكر وعمر، وأمامهم نور الله ورسوله يسطع فتغشى أبصارهم. ثانيهما: أنهم يتوجسون خيفة من جولة لأهل الإيمان تجتالهم وخصوصا أنهم يتربصون بهم حتى يؤمنوا، فما داموا على شركهم، واعتدائهم فسيوف الحق من ورائهم. لذلك كانوا يتبعون أخبار المؤمنين، ويعملون على تحريض القبائل على أهل المدينة، ويعطون العطايا لمن يأتونهم برجل من أهل الإيمان أو رجال، ويشترون منهم من يتمكنون منهم من رجال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، والأعراب أشد كفرا ونفاقا يسايرونهم، ويتمنون الأمانى منهم، وإنك لتراهم يعملون الغدر والخيانة لينالوا مأربهم. ولذلك نرى سرايا للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم ينالونها بالغدر والخيانة عن طريق أولئك الأعراب. والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم يحترس ويعلم خبايا الأمور، ويتعرف الأخبار، ويحاول أن يقعد لهم في كل مرصد. ويرسل السرايا التى سماها صديقنا اللواء شيت خطاب دوريات تتعرف ما في البلاد والقبائل، ومنها من يعود بالغنائم، ومنها من يترصده الأعراب ليقدموه قربانا للمشركين، ومنهم من يظهر الميل إلى الإسلام فيبعث النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من يهداهم، فإذا بهم يخونون ويغدرون، فيقتلونهم قربا للمشركين أو يبيعونهم لهم ليأخذوا منهم تراتهم. سرية لبنى أسد 439- جمع طليحة الأسدى وأخوه سلمة ابنا خويلد عددا كبيرا من بنى أسد ليقصدوا حرب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم رجاء أن ينالوا عند زعماء مكة منالا، وقد ظنوا أن المدينة أصبحت ترام منهم، وممن على شاكلتهم بعد أن أشاعت قريش خبر هزيمة مزعومة. فعلم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بما تمالئوا عليه وما أرادوا، وما كان ليتركهم حتى ينفذوا ما يريدون، وإن كان فوق طاقتهم. فأرسل أبا سلمة في خمسين ومائة من المهاجرين والأنصار وأوصاه بتقوى الله، وبمن معه من المسلمين خيرا. سار حتى وصل إلى قطن وهو ماء لبنى أسد.

يوم الرجيع

ويظهر أنهم مع ما كانوا قد أزمعوه من حرب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فوجئوا، فأذهلتهم المفاجأة، فتفرقوا مذعورين، وتركوا نعما كثيرة لهم من الإبل والغنم. غنم ذلك كله أبو سلمة، وأسر منهم ثلاثة مماليك، وقفل راجعا إلى المدينة ومعه هذه الغنائم، وقد أخذ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم خمس الغنائم، وكان فيها عبد، وقد وزع خمسه وقسم أبو سلمة خمسه بين أصحابه كما شرع الله تعالى في الغنيمة، فقد قال تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ، وَلِلرَّسُولِ، وَلِذِي الْقُرْبى، وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ، إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ (الأنفال- 41) . وإن أبا سلمة رضى الله تعالى عنه قد أخرجه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم في هذه السرية في المحرم من السنة الرابعة أى بعد خمسة وثلاثين شهرا من الهجرة. ولقد مكث فيها نحو بضع عشرة ليلة ومات بعدها، لجرح أصابه في أحد، ولقد قال ابنه عمرو «كان الذى جرح أبى أبو أسامة الجشمي، فمكث شهرا يداويه فبرأ، فلما برأ بعثه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في المحرم (يعنى من سنة أربع) فغاب بضع عشرة ليلة، فلما دخل المدينة انتقض به جرحه فمات لثلاث بقين من جمادى الأولى» . وهكذا أدى ذلك الشهيد واجبه مرتين إحداهما في أحد، وقد جرح جرحا قاتلا، وكرمه رسول الله تعالى بأن أرسله في سرية إلى بنى أسد، ثم تحرك الجرح فمات شهيدا، ولكن بين أهله. ولعل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم اختاره ليرسله إلى بنى أسد، لأنه منهم، إذ هو أبو سلمة بن عبد الأسد أبى طلحة الأسدى. فيرسل عليه السلام الرجل المؤمن على رأس المقاتلين من المؤمنين ليقاتل المشركين من قومه، فتكون الفائدة من ناحيتين، إحداهما- تأديب المشرك لحمله على الإيمان، والثانية التأكيد في محو العصبية الجاهلية، وإحياء الوحدة الإسلامية. يوم الرجيع 440- الرجيع مكان على ثمانية أميال من عسفان، وقد قال ابن كثير تابعا للواقدى (غزوة الرجيع) وما ارتضينا ذلك العنوان، إلا لأنه كان الأمر فيه أمر خيانة وغدر من بعض المشركين بتحريض من قريش، لينالوا بعض ما بقى من ثأرهم، وإنه لا يزال كثيرا كما ذكرنا، فأكثر الذين وتروهم من شجعان المسلمين لا يزالون يحملون السيوف، ليخوضوا بها في صفوف المشركين مرة أخرى أو مرات. وقصة الرجيع كما روتها السيرة وصحاح السنة، هى قصة غدر ولؤم بتحريض من المشركين.

قدم على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعد غزوة أحد رهط من عضل والقارة، وهما بطنان من الهون بن خزيمة بن مدركة. قالوا: يا رسول الله إن فينا إسلاما، فابعث معنا نفرا من أصحابك يفهموننا الدين، ويقرئوننا القرآن، ويعلموننا شرائع الإسلام. فبعث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم نفرا من أصحابه. قال ابن إسحاق بسنده أن عدتهم ستة، وقال البخارى بسنده في صحيحه أن عدتهم عشرة، وقال ابن إسحاق إن الذى أمره رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على وفد الإيمان والدعوة هو مرثد بن أبى مرثد الغنوى الذى كان أخا لحمزة بن عبد المطلب سيد الشهداء في المؤاخاة التى آخى بها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار. وفي رواية البخارى أن الذى أمره عليهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم هو عاصم بن ثابت ابن الأفلح «1» ، وأن رواة الحديث والأخبار يرجحون رواية البخارى. ويؤيد رواية البخارى الواقدى. انطلق ذلك الوفد المؤمن مغادر المدينة متجها إلى عضل والقارة دعاة هداية، وليسوا محاربين، وما كانوا يعلمون أن القوم يأتمرون في غدر وخيانة وكذب لم يعرف في أشراف العرب. حتى إذا كان الرجيع بين عسفان ومكة المكرمة، وهو بالهذيل غدروا بهم ونادوا مستصرخين وفوجيء وفد الهداية إلى الإسلام برجال بأيديهم السيوف قد غشوهم. وأرادوا أن يأخذوهم بالغش والخديعة كما استنفروهم بها. فقالوا لهم: إنا والله ما نريد قتلكم ولكن نريد أن نصيب شيئا من أهل مكة المكرمة. وربما كانوا صادقين، وإن ذلك من انخداع العرب بما زعمه المشركون من نصر نالوه، وقد قالوا في خديعتهم: «لكم علينا عهد وميثاق ألا نقتلكم» . فترت بذلك عزيمة بعض المؤمنين بعد أن أخذوا سيوفهم ليقاتلوا ويموتوا مجاهدين، ولا يموتوا مستسلمين. قال عاصم بن ثابت، ومرثد بن أبى مرثد، وخالد بن بكير من العشرة الكرام أو الستة على اختلاف العدد، لا نقبل من مشرك عهدا ولا عقدا أبدا.

_ (1) فى ابن هشام: ابن الأقلع.

وقد كانوا على حق، لأنهم ابتدؤا بالغدر والخيانة أو تسليط الغادرين الخائنين، وعلى فرض أنهم صادقون فيما يعاهدون عليه من أنهم لا يقاتلونهم فإنهم سيسلمونهم لأهل مكة المكرمة ليصيبوا منهم شيئا، ولا شك أن أهل مكة المكرمة سينزلون بهم أذى، القتل أقله. ولذلك قاتل أولئك الثلاثة، وقتلوا، فاختاروا أن يقتلوا مجاهدين من أن يقتلوا مستسلمين، أما إخوانهم فلم يرتضوا ذلك الموقف الشجاع الذى كانت نهايته شهادة في غير استسلام واستخذاء، بل في قوة وإيمان وجهاد. استسلم الباقون ظانين أن لهم عهودا، وقد ذكر منهم ابن إسحاق ثلاثة وهم: زيد بن الدثنة، وخبيب بن عدى، وعبد الله بن طارق. ولنذكر بعض ما فعلوه بعاصم بن ثابت الذى أصاب من قريش في ميدان القتال، فقد أصاب فى أحد ابنى امرأة من قريش فنذرت إن تمكنت منه أن تشرب الخمر في قحفة عاصم، فلما قتل طلبت رأسه، وقد قيل، عند ما أرادت ذلك، نبه رجل أبا سفيان بن حرب كيف يصنع برأس ابن عمه فلم يستخف ولم يلم، وماذا ينتظر من أبى سفيان زوج هند التى فعلت ما فعلت، فلم ينكر، ولكن الله تعالى حمى رأس المؤمن التقى من أن يمسها الأنجاس فحامت حولها الزنابير لتحميها. ولنتجه من بعد إلى الذين رضوا بمواثيق المشركين، ولم يتنبهوا إلى قول الله تعالى: لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً. لقد أسروهم، ثم خرجوا بهم إلى مكة المكرمة ليبيعوهم بها، حتى إذا كانوا بالظهران، وهو واد قرب مكة المكرمة، استطاع أن يفك أحد الثلاثة عبد الله بن طارق يده من رباطها، وأخذ سيفه، فاستأخر عنه القوم، وباعدوه حينا من لقاء سيفه، ولكن رموه بالحجارة حتى قتلوه، فمات غير مستسلم، وإن كان قد وثق بعهدهم الذى عاهدوا عليه. وأما الآخران خبيب بن عدى، وزيد بن الدثنة فقد باعوهما من قريش بأسيرين من هذيل كانا بمكة المكرمة. فابتاع خبيبا بنو الحارث بن عمار بن نوفل، وكان خبيب هو الذي قتل أباهم الحارث يوم بدر فمكث عندهم أسيرا، يسومونه الخسف والهوان، ولكنه كان في سعة نفس من إيمانه، ومهما يروموه من إهانة، فنفس المؤمن لا تهون، وكأنه وثق بعهدهم ليرى الله تعالى الناس المؤمن إذا خدع، وصبره إذا أوذى ليرتفع إلى درجات المجاهدين بالصبر، كما هو مجاهد في ميدان القتال،

قدموه ليقتلوه صلبا، فاستأذنهم حتي يصلي ركعتين فصلاهما، ثم أقبل عليهم مستبشرا يقول للجلادين: أما والله لولا أن تظنوا أنى إنما طولت جزعا من الموت، لاستكثرت من الصلاة. ولقد علم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بصلاته عند القتل مستشهدا فأقره، فكانت سنة نبوية بإقراره عليه الصلاة والسلام. رفعوه من بعد صلاته إلى خشبة الصلب، فلما أوثقوه قال: اللهم إنا قد بلغنا رسالة رسولك فبلغه الغداة ما يصنع بنا، اللهم أحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تغادر منهم أحدا. وهكذا مات خبيب بطلا في ميدان الجهاد النفسى، كما مات أصحابه عاصم ومن معه في جهاد مستشهدين، ولم يلقوا سيوفهم. وهكذا قتلوا خبيبا صلبا وهو يقول صابرا: ولست أبالى حين أقتل مسلما ... على أى شق كان في الله مصرعى وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع وفي اليوم الذى صلب فيه خبيب صلب فيه أيضا زيد بن الدثنة. وكان صابرا راضيا مطمئنا، فى سعة من الإيمان، قال له عند صلبه زعيم الشرك أبو سفيان بن حرب: أنشدك الله يا زيد أتحب أن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم عندنا الآن في مكانك نضرب عنقه، وإنك في أهلك، قال: والله ما أحب أن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم في مكانه الذى هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه، وإنى جالس في أهلى. وعندئذ قال زعيم الطاغوت: ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد (صلى الله تعالى عليه وسلم) محمدا، ثم قتل الشهيد الصابر. وإن يوم الرجيع يدل على أمور ثلاثة: أولها: ما كان من تحريض قريش من غدر وخيانة واستخدام أخس أنواع الخيانة. وثانيها: أن قريشا لم يشتفوا لثاراتهم من بدر، وأنهم أنهوا الحرب في أحد غير مختارين، والا لبقوا حتى يأخذوا بكل ثاراتهم، وأنه قد جدت لهم في أحد ثارات أخرى. وثالثها: أن العرب بسبب الدعاية التى قامت بها قريش من إشاعة أن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم قد هزم قد وجد فيهم من يعمل لحسابها، ويرجو رضاها، ولم يكن شىء من ذلك بين بدر وأحد، ولكنه كان بعد أحد لإشاعة الهزيمة الكاذبة. والله أعلم.

سرية عمرو بن أمية ويوم بئر معونة

سرية عمرو بن أمية ويوم بئر معونة 441- هذا يوم آخر بعد يوم الرجيع لاحق به، ويتجلى فيه الغدر، كما يتجلى فيه العمل من القبائل لحساب قريش، ويذهب في هذا اليوم نتيجة الغدر نحو أربعين من المؤمنين لا ستة ولا عشرة. وإن هذا الغدر كان يبيت في مكة المكرمة، ويدبر أمره في قريش، وقبل يوم بئر معونة نذكر ما نواه أبو سفيان من غدر بالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم ومحاربته له. وهذا الخبر هو كما قال الواقدى: كان أبو سفيان بن حرب قد قال لنفر من قريش بمكة المكرمة، ما أحد يغتال محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم، فإنه يمشى في الأسواق، فيدرك ثأرنا، ومؤدى هذا أنهم إلى الآن لم يدركوا ثأرهم، وأنى يدر كونه؟ فأتاه رجل، وقال له: إن أنت وفيتنى خرجت له حتى أغتاله، فإنى هادى الطريق خريت، معى خنجر مثل خافية النسر، قال أبو سفيان: أنت صاحبنا وتفقه، وقال له: اطو أمرك، فإنى لا آمن أن يسمع أحد، فينميه إلى محمد، لا يعلمه أحد. سار الرجل خمس ليال حتى وصل إلى المدينة فسأل عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فوجده في جماعة من أصحابه يحدث في مسجده، فلما رآه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أدرك بفراسة المؤمن وبإعلام الله أن هذا الرجل يريد غدرا، قال الرجل: أيكم ابن عبد المطلب. فقال الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم: أنا ابن عبد المطلب. ذهب الرجل ينفذ ما دبر مع أبى سفيان ينحنى على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كأنه يساره، فتنبه بعض الصحابة وجذبه أسيد بن حضير وقال له: تنح عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وجذب داخل إزاره، فإذا الخنجر، فقال: يا رسول الله هذا غادر، فأسقط في يد الأعرابى، وقال دمى، دمى يا محمد، وأخذ أسيد بن حضير بلببه. قال له النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: أصدقنى ما أنت وما أقدمك، فإن صدقتنى نفعك الصدق وإن كذبتنى فقد اطلعت على ما هممت به. قال الأعرابي: فأنا آمن؟ قال عليه الصلاة والسلام: وأنت آمن، فأخبره بخبر أبى سفيان، فوضعه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عند أسيد بن حضير فلما جاء الغد قال له: قد أمنتك، فاذهب حيث شئت، أو خير لك من هذا؟ قال: وما هو؟ قال: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأنى رسول الله، فشهد الرجل الشهادة.

بئر معونة:

علم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ما يدبر له في مكة، وما يريدونه منه، وقد انتقلوا من الحرب إلى الاغتيال، وبدا ذلك يوم الرجيع، ثم تبين أنه يبيت لشخصه الكريم في مكة. فأرسل سرية لتعرف ما في مكة، وتفعل مع أبى سفيان ما كان سيفعله بالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ، فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ (البقرة- 194) . أرسل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري، وكان فارسا فاتكا من فتاك العرب، قد آمن وحسن إسلامه، وسلمة بن أسلم، ليتعرفا أحوال مكة المكرمة، وليصيبا من أبى سفيان. ذهبا إلى مكة المكرمة وصليا وطافا بالبيت. وقد علم أهل مكة المكرمة بهما، وكان عمرو كما ذكرنا فاتكا في الجاهلية يخشى بأسه، فتجمعت الجموع لملاقاته، ولكنه تركهم، وقد عرف حالهم وما يدبرون، ولم يتمكن من أحد، وعاد وصاحبه، وقد تمكن هو من قتل الذين كانوا يتبعونه فرادى، فقتل بعضهم، وأسر بعضهم، وأتى بمن أسر للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وكان قد سبقه سلمة بن أسلم. بئر معونة: 442- فى نفس هذا الشهر وهو صفر في السنة الرابعة من الهجرة وكان أمر هذه السرية أن أبا براء عامر بن مالك بن جعفر ملاعب الأسنة قدم المدينة، فعرض عليه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم الإسلام ودعاه إليه، ويقول ابن إسحاق «فلم يسلم ولم يبعد عن الإسلام، قال لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لو بعثت رجالا من أصحابك إلى أهل نجد تدعوهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك. فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إنى أخشى عليهم أهل نجد. قال أبو براء: أنا لهم جار، فابعثهم فليدعوا الناس إلى أمرك. اطمأن النبى الكريم الحريص على تبليغ رسالة ربه، حينما وجد موطنا من موطن التبليغ، وخصوصا عند ما أعلن أبو البراء أنهم في جواره. اختار النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لإمرتهم المنذر بن عمرو أخا بنى ساعدة، وكانوا كما روى ابن إسحاق أربعين، وكما روى البخارى سبعين. ولنترك الكلمة للبخارى:

قال: بعث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سبعين رجلا لحاجة يقال لهم القراء، فعرض لهم حيان من بنى سليم، رعل وذكوان عند بئر يقال له بئر معونة فقالوا: والله ما إياكم أردنا وإنما نحن مجتازون في حاجة للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فقتلوهم. ويقول البخارى بروايته في أوصافهم وبيان أنهم طلبوا من النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يمدهم بمن يعلمهم وإن رعلا وذكوان وعصية وبنى سليم استمدوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على عدد فأمدهم بسبعين من الأنصار، كنا نسميهم القراء في زمانهم، كانوا يحتطبون بالنهار، ويصلون بالليل، حتى إذا كانوا ببئر معونة قتلوهم وغرروا بهم، فبلغ ذلك النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فقنت شهرا يدعو في الصباح على أحياء العرب من رعل وذكوان وعصية. ولقد روى أنهم قالوا وقد عملت السيوف فيهم «بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضى عنا وأرضانا» كانوا يعلمون الناس الإسلام، وقد بعثهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لذلك، ولذا نرجح أنهم ما كانوا مقاتلين، ولم يستمدوا على العدو، كما يفهم من الرواية الأولى للبخارى. ولننظر من بعد ذلك إلى تفصيل الرحلة التى انتهت بالغدر المقيت عند الله وعند كل كريم. ذهبوا كما أمرهم الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم هداة مرشدين كما طلب أبو البراء، وأرسل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مع المنذر بن عمرو كتابا إلى عامر بن الطفيل يبين فيه أنهم مبلغون لا محاربون، ولكنه إبان ذاك كان عدوا للمؤمنين، فلم يرع جوار ولا ذمة صاحبه في الشرك أبى براء الذى ما زال بالنبى حتى أرسل من أرسل وكان كارها ابتداء، ولكنه التبليغ الذى حمله سهل إرسال هؤلاء، ولم يكن الغدر متوقعا. ولذلك قتل من أعطاه الكتاب. ولقد ذكر البخارى في أخبار عامر بن الطفيل، أنه حسب النبوة ملكا، فخير النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بين ثلاث خصال بثلاث يكون للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم أهل السهل، وله أهل المدر، أى يكون للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم الوبر في الصحراء، وله هو أهل القرى، أو أن يكون خليفة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، أو أن يغزو النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بغطفان. كانت هذه حال عامر بن الطفيل إبان ذاك، وقد علم بالجوار. ولم يكتف بذلك، بل استصرخ بنى عامر على أولئك المؤمنين، وقد علموا بجوار أبى البراء، فامتنعوا وقالوا: لن نخفر جوار أبى البراء وقد عقد لهم عقدا وجوارا.

فاستصرخ عليهم قبائل من بنى سليم عصية وذكوان ورعل فأجابوه إلى ذلك الغدر اللئيم، فخرجوا حتى غشوا المؤمنين، فأحاطوا بهم في رحالهم، فلما رأوهم حملوا سيوفهم، وقاتلوا، ولكنهم كانوا يقاتلون من أحاطوا بهم حتى قتلوا عن آخرهم كما ذكر. ولم ينج منهم إلا كعب بن زيد أخو زيد بن النجار، فإنهم تركوه وبه رمق، فحسبوا أنه مات، وكان عمرو بن أمية الضمرى في سرح القوم ورجل من الأنصار. وفرا من القتل، فأخبرا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. فقنت ثلاثين يوما لما أصاب رسله، صلى الله تعالى عليه وسلم. 443- تلك قصة بئر معونة في صفر، وبئر معونة بين مكة المكرمة والمدينة المنورة. ونلاحظ في هذه القصة بعض أمور: أولها: أن أبا براء ما كان مسلما، وربما له ميل إلى الإسلام ولكنه زعيم في قومه، ويريد أن يكون مع قومه، فلا يكرههم حتى لا ينفروا ولكن يريد الدعوة إليهم، حتى إذا استأنس بإسلامهم أعلن إسلامه واكتفى بأن جعل الدعاة إلى جواره. ثانيها: أن الغادر عامر بن طفيل كان يعمل لحساب الشرك أو لحساب مكة، وما كان ليفعل لولا أنه وجد في قريش قوة، وهى ما أشاعوها من هزيمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم. وثالثها: أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد أرسل إليهم مبلغين حفظة عبادا يحتطبون نهارا، ويقومون ليلا، ولم يرسل معهم أبطال حرب كالزبير وسعد بن أبى وقاص وعلى بن أبى طالب، وإن كان هؤلاء في عبادتهم وزهادتهم لا يقلون عن الأولين، لأنهم أسود فوارس بالنهار قوامون بالليل. رابعها: أن هذه ثانى غدرة برسل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، مبلغين ليغدر بهم، وكانت الأولى في يوم الرجيع، وهذه في بئر معونة. فهل كان خدع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو قائد الأمة سهلا بهذا الشكل، فنقول: لم يكن الخدع بعيدا عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو بشر كسائر البشر، يحتاط، وكفاه، وقد فرض الله سبحانه أن يخدع، والكريم المخلص يخدع، والخب اللئيم الذى يفرض الشر لا يسهل خدعه كالكريم الطيب الذى يفرض في الناس الخير، وقال سبحانه وتعالى في ذلك: وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ، فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ. وَأَلَّفَ بَيْنَ

قُلُوبِهِمْ، لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ، إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (الأنفال: 64- 63) . ففرض أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد يخدع من الخب الغادر اللئيم. وأن الرجل المؤمن الحكيم، - وقد أوتى محمد صلى الله تعالى عليه وسلم الحكمة وعلمها الناس-، يخدع من ناحية ما يريد وما هييء له. وقد أحب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم تبليغ رسالة ربه وهداية العرب إلى الوحدانية، وعبادة الله سبحانه وتعالى وحده لا شريك له، وذلك عمله الذى بعثه الله تعالى له، وما كان قتاله إلا دفاعا. فالقتال لحماية الدعوة من الاعتداء، ولم يكن هدفا مقصودا لذاته، فإذا جاء من سهل له الدعوة استجاب، والحر الأبى لا يفرض الغدر ابتداء، ولكن يفرض الغدر حتما إذا كان الأمر من غادر. وفي الحق أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم خدع في المرة الأولى لأنه رسول يريد تبليغ أمر ربه، قال تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ (المائدة- 67) فما كان له أن يتردد في إجابة من دعوه ليعلمهم الإسلام، وليقضى الله أمرا كان مفعولا. هذا في يوم الرجيع، أما يوم بئر معونة، فما كان مخدوعا، بل كان يقظا، وخشى على من أرسلهم من خشونة أهل نجد، وجفوتهم، وأنهم أعراب غلاظ، وما وافق حتى عقد عهدا بالجوار، وكان مكتوبا بدليل أنه قدمه رسول النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى عامر بن الطفيل فمزقه بسيفه، وبدليل أن بنى عامر رفضوا أن يصرخوا ابن الطفيل إذ استصرخهم حفظا للجوار. ولكن الغدر والخيانة جعلاه يستصرخ بغيرهم، كما أصرخوه، وكان ما كان من قتل الأطهار العباد الزهاد الذين يحتطبون بالنهار، ويقومون بالليل. ولقد أدرك النبى صلى الله تعالى عليه وسلم غدر الغادرين، وربما ظن بقلبه الطاهر الربانى أنه لم يكن حريصا في إرسالهم، فقنت ثلاثين يوما استغفارا لربه، فما كان غير حريص، ولا مخدوعا في هذا. وإنه مهما يكن الأمر في هذا، فإنه من المؤكد أن مسارعة عامر بن الطفيل لهذا الغدر، ما كانت إلا لإشاعة أن المؤمنين هزموا في أحد، فتكشفت قلوب الغادرين والمداهنين لقريش، الذين ظنوا فيهم القوة، والله ولى المؤمنين.

غزوة بنى النضير

غزوة بنى النضير 444- أشرنا إلى أن غزوة أحد، والظن بأن المسلمين هزموا فيها أظهر حقدا دفينا، فى المنافقين واليهود، وما كانوا يترددون في إعلانه رهبة وخوفا أظهروه حقدا وطمعا. ولما توالى الغدر بالمؤمنين لم يكن ليكف اليهود والمنافقين عن أن يقوموا بدورهم في الغدر، وهم على مقربة من المؤمنين، فهم أقدر، وغدرهم أنكى، لذلك أخذ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم حذره منهم، وكان يترصد حركاتهم، وغدر غيرهم كان إرهاصا بغدرهم، وإظهار ما تنطوى عليه نفوسهم، وبدا غيظهم في أفواههم وغدرهم ظهر في بعض أعمالهم. قتل عمرو بن أمية الضمرى اثنين قد أعطاهما الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم جواره، وكان القتل خطأ، فقال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لأدينّهما، أى لأدفعن إلى أهلهما الدية. وكان الاتفاق الذى تم العهد عليه عند ما قدم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى المدينة المنورة أن يتعاونا في أداء الديات. ذهب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى يهود بنى النضير، ومعه أبو بكر وعمر وعلى ليستأدى ما وجب عليهم من المعاونة في دية هذين القتيلين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمرى خطأ. فلانوا في القول، ولكنهم استخفوا غدرا، قالوا له: نعم يا أبا القاسم نعينك على ما أحببت مما استعنت بنا عليه. ولاحظ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أنه خلا بعضهم إلى بعض، وتساروا في القول، وفراسة المؤمن مدركة يقظة، وكان الذى تناجوا به غدرا، وقال بعضهم لبعض: لن تجدوا الرجل على مثل هذه الحال. وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم هو ومن معه من كبار أصحابه، قالوا: فمن رجل يعلو على هذا البيت، فيلقى عليه صخرة فيريحنا منه، فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب، وقال: أنا لذلك، وصعد ليلقى الصخرة. رأى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خلوتهم بعضهم ببعض وحركاتهم المريبة فأدرك أن في هذا شيئا يبيتونه، وقد رأى الغدر في يوم الرجيع وبئر معونة، فلا بد أن يكون قد تسارع ظن الغدر إليه صلى الله تعالى عليه وسلم، وخصوصا أن حركاتهم كثرت، وتأخروا عن الإجابة، وقد أعلم الله تعالى نبيه بما أرادوا من غدر، والله يكتب ما يبيتون.

إجلاؤهم:

والصحابة قد استطالوا الزمن، وركبتهم ظنون الغدر، وكما قال ابن إسحاق: استلبثوا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، أى اعتقدوا أنه لبث زمنا طويلا، فسألوا عنه رجلا مقبلا من المدينة المنورة داخلا المدينة. أقبل أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حتى انتهوا إليه، فأخبرهم صلى الله عليه وسلم بحركاتهم، وبما كانوا قد أرادوا من الغدر. إجلاؤهم: 445- لم يجيبوا داعيه إلى المعاونة التى يفرضها عليهم العهد الذى عاهدوا عليه، وأعطوه كلاما لينا، ودبروا تدبيرا خبيثا، وكان ذلك غدرا في العهد ابتداء، وما كان ليرضى أن يعيشوا معه، وهم ينقضون الميثاق الذى وثقه عليهم، ووفى به من جانبه صلى الله تعالى عليه وسلم، والمواثيق عهود فيها واجبات وحقوق متبادلة تلزم كل فريق، بمقدار ما يلزم الآخر، ولا يمكن أن يكون جوار حسن من غير عهود توفى، ومواثيق تربط بالمودة، أو بالوفاء، فكان الجلاء أمرا لا بد منه، وفوق ما علمه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من إرادة الغدر به، والقضاء عليه، فلم يكن لبقاء الجوار مكان، وكان على أخفهم حملا، وأقلهم عددا أن يرحل، ويترك الأرض لأهلها، يعيشون في أمن واستقرار فلا يعيش الثعبان بين ظهورهم. بعث رسول الله يأمرهم بالخروج من جواره لنقضهم العهد أولا، إذ لم يعينوا في دية الرجلين ولأنهم هموا بالغدر ثانيا، وإذا كانوا يدعون أنهم لم يفعلوا مع علم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم اليقينى بذلك فإنهم يكفيهم نقض الميثاق في المعاونة، ولا سبيل لإقامتهم معه من غير وفاء بعهد وثقوه. أرسل لهم محمد بن مسلمة أن يخرجوا، وأرسل إليهم عبد الله بن أبى بن سلول ينهاهم عن الخروج، وأنهم معهم، ولئن قوتلوا ليقاتلن معهم. ويقول ابن كثير في تاريخه: بعث إليهم أهل النفاق يثبتونهم، ويحرضونهم على المقام، ويعدونهم النصر، فقويت عند ذلك نفوسهم، وحمى حيى بن أخطب، وبعثوا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ونابذوه بنقض اليهود. أعلنوا بهذا نقض الميثاق جملة لا الجزء الخاص بالاستعانة في الديات، فكان هذا إعلانا للحرب من جانبهم. وما كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ليتركهم ينقضون العهد، ويهمون بالغدر في غير اكتراث بعهد ولا حسن جوار ويهمون بالقتال ولا يقاتلهم.

أمر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بالخروج إليهم، مهما يؤيدهم المنافقون سرا أو علنا، فجعل على المدينة ابن أم مكتوم، وكان ذلك في شهر ربيع الأوّل. سار بمن معه من المهاجرين والأنصار فنزل بساحتهم فحاصرهم وتحصنوا بحصونهم، وقد أوهمهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أنه سيقطع نخيلهم ويحرقها فنادوه: أن يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد وتعيب من صنعه، فما بال قطع النخيل وتحريقها. ويظهر أنهم توهموا ذلك، أو أوهموا لتضعف نفوسهم، ويهون عليهم الاستسلام، ولم يقطع ولم يحرق كما تدل الآية الكريمة التى بينت مالهم في سورة الحشر، وهى سورة جلائهم. وقد ذكرنا أن المنافقين وعلى رأسهم عبد الله بن أبى قد بعثوا إليهم ابتداء بأنهم معهم ليثبتوا ويتمنعوا، فثبتوا وتمنعوا، وكان الحصار، وقد استمروا في غيهم، وقالوا لهم: لن نسلمكم، إن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم. تربص اليهود ذلك من المنافقين، وصدقوهم، وتوقعوا أن ينصروهم، وهم بين المسلمين، فما فعلوا شيئا، فاضطرب أمر اليهود وانزعجوا، وقذف الله تعالى في قلوبهم الرعب. عندئذ اضطروا لأن يعودوا ويقبلوا الجلاء الذى طلبه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من غير حرب ولا حصار، وإعنات، ولكن لم يرضوا بسبب تحريض أهل النفاق. عادوا وطلبوا من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن يجليهم، ويكف عن دمائهم، على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم. أجابهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فاحتملوا من أموالهم ما استقلت به الإبل، فكان الرجل منهم يأخذ من بيته ما يخلع به بابه، فيضعه على ظهر بعيره، فينطلق به. خرجوا إلى خيبر، حيث تجمعوا في حصونها مع بنى قينقاع، ومنهم من ذهب إلى الشام، فكان من أشرافهم الذين ذهبوا إلى خيبر ابن أبى الحقيق، وحيى بن أخطب، فكانوا لهم سادة، ودانوا لهم بالطاعة. وقد نزل في بنى النضير، وما كان من النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وما أمر الله تعالى نزل أكثر سورة الحشر، قال الله تعالى: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ، لِأَوَّلِ الْحَشْرِ، ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ، فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي

أحكام شرعية اقترنت بغزوة بنى النضير

الْمُؤْمِنِينَ، فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ. وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا، وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ، فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ. ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ، وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ وقد حاصرهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأجلاهم في ست عشرة ليلة. أحكام شرعية اقترنت بغزوة بنى النضير 446- أحكام شرعية ثلاثة اقترنت بغزوة بنى النضير، أو شرعت بعدها: أولها منع التخريب: وذلك أن النبي صلي الله تعالى عليه وسلم كان منه ما توهموا أنه سيقطع نخلهم بعد أن استطال حصارهم، فاحتجوا عليه صلي الله تعالى عليه وسلم بأنه نهي عن التخريب وعيبه، وكيف يقطع النخل مع هذا؟. والحقيقة أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لم يقطعه وإن هم بقطع النخل إفزاعا لهم، وتخويفا ليسارعوا بالاستسلام، وقد كانوا تحصنوا بحصونهم، ويرمون الحجارة من فوقها، وكان لا بد أن ينزلهم من صياصيهم، وهي الحصون، والآية الكريمة صريحة في أنه أمر بقطع الثمار، لا بقطع الأصول بل أبقي ما أبقى قائما علي أصوله كصريح الآية، ولو كان صلي الله تعالى عليه وسلم قد قطع الأصول ما بقي نخيل تقوم عليها ثمار. ولبيان الموضوع كاملا نذكر الفقه فيه، وأساسه هذه الآيات التي تلوناها في واقعة الجلاء، أن النهي عن قطع النخيل والتخريب بشكل عام قد جاء في وصية أبي بكر الصديق لبعض جنده، وما كان أبو بكر إلا متبعا للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وها هى ذى: - روى الإمام أحمد في مسنده أن أبا بكر بعث الجيوش، وبعث يزيد بن أبي سفيان أميرا، فقال وهو يمشى ويزيد راكب: إما أن تركب، وإما أن أنزل، فقال الصديق: ما أنا براكب، وما أنت بنازل، إني أحتسب خطاى هذه في سبيل الله، إنك ستجد قوما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم في الصوامع فدعهم وما زعموا، وستجد قوما قد فحصوا أوساط رؤوسهم من الشعر، وتركوا منها أمثال العصائب، فاضربوا ما فحصوا بالسيف، وإني موصيك بعشر: لا تقتلن امرأة، ولا صبيا، ولا كبيرا هرما، ولا تقطعن شجرا مثمرا ولا نخلا ولا تحرقها، ولا تخربن عامرا، ولا تعقرن شاة أو بقرة إلا لمأكلة، ولا تجبن ولا تغل» .

هذه توصية أبى بكر الصديق خليفة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولا بد أن تكون بهدى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ولذلك ننفى أن يكون النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد قطع نخيل بنى النضير، فمحال أن يكون النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أمر في موضع، وأبو بكر ينهى بإطلاق، ولأن القرآن الذى نزل في واقعة الجلاء لم يذكر قطع النخيل، وهى الأصول بل الذى فيه أنه قطعت ثمار، وبقيت أخرى على أصولها قائمة. ولكن مع ذلك لما اشتدت لجاجة الحروب بين المسلمين والمشركين أو الكفار بشكل عام اختلفت الفقهاء في جواز التخريب في أرض العدو من قطع أشجار، وتهديم بنيان، وذبح الحيوان لغير مأكلة، أو إهلاكه بشكل عام. فكثيرون من الفقهاء أجازوه، لأن الحرب لا تبقى ولا تذر، ولأنه إذا أبيحت الأنفس، فكيف يصان ما عداها وهو دونها، ويستندون في ذلك إلى أخبار نسبت للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم في غزواته. أولها: وهو في قصة بنى النضير أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أمر بتخريب بنى النضير، وقال الله تعالى في ذلك يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ، فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ. ثانيها: أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أمر بأن يحرق قصر مالك بن عوف، وقد كان أميرا لجيش المشركين في الطائف، ورمى بالمنجنيق حصنا للطائف. ثالثها: أنه عليه الصلاة والسلام أمر بقطع كروم العنب لثقيف في الطائف، وقد ذكر في المغازى أنهم عجبوا عند إرادة قطعها، وقالوا: «كيف نعيش بعد قطعها» . هذه حجج الأكثرين من الفقهاء الذين قالوا ما قالوا تحت سلطان لجاجة الحروب وشدتها، وعدم تحرجها من قبل المشركين. أما الفريق الآخر من الفقهاء وإن لم يكونوا الأكثر فقد تمسكوا بقول الصديق الذى لا يمكن أن يخرج عن قول النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ولا عن عمله، فمنعوا التخريب، وعلى رأس هذا الفريق فقيه الشام الأوزاعى، فقد قرر أنه لا يجوز التخريب إلا إذا ألجأت إليه ضرورة حربية، كأن يتحصن المحاربون بحصن ولا يمكن الوصول إليهم إلا بهدمه، أو تكون الأشجار غابة كثيفة، قد اتخذوها مستترا يكمنون للمسلمين فيها، وينقضون عليهم من مساترها.

وإن الناظر إلى أدلة الذين أباحوا التخريب في غير ضرورة ملجئة، لا يجدها منتجة لإباحته بإطلاق فإن تخريب النبى لبيوت بنى النضير، لأنهم اتخذوها حصونا يقذفون منها الحجارة على المؤمنين، فكان لا بد أن تزال تلك الحصون دفعا للأذي، فكانت الضرورة ملجئة لذلك، وقد قرر الجميع أن الضرورة تقدر بقدرها. وإن قصر عوف بن مالك كان قد اتخذه حصنا، وكذلك الحصون التى رميت بالمنجنيق في ثقيف، فما كان رميها إلا لضرورة حربية، لا للتخريب والإفساد. أما ما هم به النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من قطع كروم العنب لثقيف؛ فلأنهم كانوا يتخذون منها الخمر، والخمر حرام، ويظهر أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لم يقطع، وإنما أمر فقط بالقطع، أو قطع قليلا لإفزاعهم، وذلك ليحملهم على التسليم بدل الاستمرار على القتال، وبذلك تحقن الدماء، ولذلك سلموا بمجرد أن رأوا المسلمين يعتزمون قطعها. وإنه بمراجعة الشريعة في مصادرها من كتاب وسنة وآثار للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم وصحابته الكرام نجد أنها لا تدل على جواز التخريب، بل تمنعه. ولنقف عند الآيات الكريمة التى تلوناها في قصة إجلاء بنى النضير، فنجد أن الآيات لا تبيح التخريب بإطلاق وفي كل الأحوال، وأن القطع الذى ذكره القرآن إنما هو في قطع الثمار لا في قطع الأشجار، وذلك في قوله تعالى: ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها، فَبِإِذْنِ اللَّهِ (الحشر: 5) إلى آخر الآيات الكريمات التى تلوناها. وذلك لأن اللينة المراد بها الثمرة، والمعاجم في اللغة تؤيد ذلك. لأن كلمة لينة جمعها لون وهو بالاتفاق نوع من ثمر النخل، ولأن الآية تخير بين قطع اللينة أو بقائها على أصولها. وذلك يقتضى أن تكون ثمرة قائمة على الأصول تبقى أو تقطع، والأصول النخيل، فلم يذكر في القرآن إباحة قطعها، ولأن الآثار الواردة في غزوة بنى النضير التى هى موضوع الآيات الكريمات تفيد أن الصحابة ما كانوا يقطعون النخيل، بل كانوا يقطعون الثمر. فقد روى أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم استعمل أبا ليلى المازنى وعبد الله بن سلام على نخيل بنى النضير قبل إجلائهم، فكان أبو ليلى يقطع العجوة، وهى تمر جيد، وابن سلام يقطع اللون وهو تمر ردىء، فقيل لأبى ليلى: لم قطعت العجوة؟ قال: لأنها أغيظ لهم، وقيل لابن سلام: لم قطعت اللون؟ قال لأنى علمت أن الله تعالى مظهر نبيه ومغنمه أموالهم، فأحببت إبقاء العجوة، وهى خيار أموالهم، وإن قطع الثمار لا يعد تخريبا، لأنه سيكون مأكلة.

غنائم بنى النضير والحكم العام في الغنائم كلها

والذى ننتهى إليه بالنسبة لما يكون في الحرب من هدم وتحريق وتخريب أنه يستفاد من مصادر الشريعة وأعمال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فى حروبه: - أولا: أن الأصل هو عدم قطع الشجر وعدم تخريب البناء، لأن الهدف من الحرب ليس إيذاء الرعية، ولكن دفع أذى الراعى الظالم. وبذلك وردت الآثار. ثانيا: أنه إذا تبين أن قطع الشجر وهدم البناء توجبه ضرورة حربية لا مناص منها، كأن يستتر العدو به ويتخذه وسيلة لإيذاء جيش المؤمنين، فإنه لا مناص من قطع الأشجار، وهدم البناء، على أنه ضرورة من ضرورات القتال، كما فعل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم في حصن ثقيف. ثالثا: أن كلام الفقهاء الذين أجازوا الهدم والقطع يجب أن يخرج، على أساس هذه الضرورات، لا على أساس إيذاء العدو والإفساد المجرد، فالعدو ليس هو الشعب إنما العدو هم الذين يحملون السلاح ليقاتلوا. غنائم بنى النضير والحكم العام في الغنائم كلها 447- كانت غنائم بنى النضير هى أوّل غنائم من أهل القرى من أرض، ونخيل، وحصون، فهى التى سنت ما يتخذ من حكم الاستيلاء على الأراضى: أوزع على المحاربين أم تكون محبوسة على مصالح المسلمين، فيكون لهم غلاتها، وتبقى تحت أيدى أصحابها، على ألا تكون أيديهم أيدى ملاك رقبة، بل ملاك منفعة على خراج يؤدونه. ويقول الفقهاء: إن ذلك الخراج هو بمثابة أجرة للأرض قد استأجروها به، وإليك النص الذى جاء في هذه الأراضى: قال الله تعالى عقب إجلاء بنى النضير، وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ، فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ، وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ، وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ، وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ، وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا، وَاتَّقُوا اللَّهَ، إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ. لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً، وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ. وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ، وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ، وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ، فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.

وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ، وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (الحشر- 6: 10) . ونجد هذا النص الكريم قسم ما أفاء الله تعالى به على رسوله والمؤمنين معه قسمين: أحدهما مالا يعد شيئا ثابتا أو أرضا، بل هو مال غير ثابت فالأمر فيه إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يوزعه كما شرع الله تعالى له، وقد أشار إلى ذلك بقوله سبحانه وتعالى: وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ ويوزعه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بمقتضى أمره في قوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ، فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ (الأنفال- 41) إلى آخر الآية الكريمة. والقسم الثانى هو ما أفاء الله تعالى به من أهل القرى، وهو الأموال الثابتة من نخيل قائم وأرض زراعية. وهذه قد جعلها الله تعالى لله وللرسول ولذى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل. وهنا يجيء البحث فيه: أتقسم الأراضى بين الغانمين وتخمس كما تخمس الغنائم، فيكون لله وللرسول وذى القربى واليتامى والمساكين الخمس، وأربعة الأخماس للمجاهدين. رأى بعض الصحابة- وكان بلال أشدهم أن تقسم الأرض قسمة الغنائم، ورأى عمر وعلى وجمع من الصحابة أن تكون محبوسة غلاتها على مصالح المسلمين، وقد بدا ذلك الخلاف عند الاستيلاء على أرض سواد العراق، وقد جمع عمر الصحابة خارج المدينة المنورة، وأخذ يجادلهم ويجادلونه ثلاث ليال سويا، هو يحتج بألا يكون المال دولة بين الأغنياء، وقال إن الله سيفتح فارس ومصر والشام، فلو قسمت فماذا يبقى لسد الثغور وماذا يبقى للذرية. وهم يعارضون بأنها غنائمهم، وأشد من يعارضه بلال وصحب له، فكان عمر الفاروق يقول: اللهم اكفنى بلالا وصحبه. وبعد ثلاث ليال أراد أن يحكم بينه وبين مخالفيه طائفة من الأنصار خمسة من الأوس وخمسة من الخزرج، فلما التقوا به ذكر لهم أنه ما أزعجهم إلا ليحكموا بينه وبين مخالفيه، وبعد أن عرض وجهة نظره من الوجهة المصلحية الاجتماعية، ذكر لهم أنه وجد قوله تعالى: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى إلى آخر الآيات، وفصل القول ووزع الأقسام التى تشتمل عليها الآية، وذكر أن الغلات أولا للمهاجرين، ثم للذين آووا ونصروا ثم للذين اتبعوهم ثم للذين جاؤا من بعدهم، يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا، وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ.

تحريم الخمر

ولما تلا عليهم الآيات انقطع الخلاف. وصار الإجماع على أن تكون الأرض محبوسة لمنافع المسلمين بحكم هذه الآية.. ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى، فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ ... وأن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أعطى ثمرات أرض بنى النضير للمهاجرين ليرفع بذلك مؤنتهم عن الأنصار، إذ كانوا قد ساهموهم في الأموال والديار، ولم يعط مع المهاجرين من الأنصار إلا أبا دجانة وسهل بن حنيف لحاجتهما. ومؤدى ذلك أنه وزع الأموال والثمرات على ذوى الحاجة وذوى القربى واليتامى والمساكين وفعل ذلك مع الذين اتبعوا من مهاجرين وأنصار، ثم من جاؤا بعدهم، والله سبحانه وتعالى أعلم. تحريم الخمر 448- جاء تحريم الخمر في أعقاب غزوة بنى النضير، كما جاء في سيرة ابن إسحاق وصحاح السنة. وظاهر القول أن ذلك التحريم هو البيان الشافى لحقيقة الخمر الذى طالما دعا ربه إليه الرجل الذى ينظر بنور الله تعالى عمر بن الخطاب رضى الله تبارك وتعالى عنه، وهو قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ، فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (المائدة: 90، 91) وبذلك كان التحريم القاطع. وإن القرآن الكريم والنبى الأمين عليه الصلاة والسلام لم يكن منهما ما أقر الخمر أو أباحها، إنما كانت موضع عفو قبل إعلان التحريم القاطع، فكل أمر يسكت القرآن الكريم عنه، وهو يتنافى مع معانى الإسلام، فإنه يكون محل عفو الله تعالى، ويقال: إنه عفو، ولا يقال: إنه مباح، فمرتبة العفو تقتضى أن يكون الأمر غير مستحسن في ذاته، ولا يرضى عنه الإسلام، ولا الخلق الإسلامى، ولكن لم يجيء النص بالتحريم فيكون موضع عفو حتى يجيء النص المحرم. وتحريم الخمر قد جاء في القرآن الكريم على أربع مراتب. أولها: بيان أنه أمر غير حسن في ذاته، وقد أشار سبحانه وتعالى إلى ذلك في قوله: وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً (النحل- 67) . أى تتخذون منه مسكرا، وفي مقابل المسكر رزق حسن، ولا يمكن أن يكون مقابل الرزق الحسن حسنا مثله، فهذا النص يشير إلى استنكار الخمر، وأنها ليست أمرا حسنا.

الثانية: بيان أنها إثم ضار، وإذا كان فيها نفع فإثمها أكبر من نفعها. ولذلك جاء الاستنكار المؤيد بالسبب، فقال تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ، وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما (البقرة- 219) . ومن المقررات في الشرائع والعقول أن الأمر الذى يكون ضرره أكبر من نفعه يكون محرما، إذ أن التحريم والإباحة والندب تناط بالضرر والنفع، فما يكون نفعه أكبر يكون مطلوبا، وما يكون ضرره أكبر، يكون ممنوعا، وإن الله سبحانه وتعالى خلق الأمور وقد اختلط نفعها وضررها، فلا يوجد ما هو نافع نفعا محضا، ولا يوجد ما هو ضار ضررا محضا، والعبرة بالكثرة والقلة، ويتفاوت الطلب بتفاوت المصلحة، ويتفاوت النهى بتفاوت المضرة. فكان هذا النص دالا على التحريم، لكن بغير دلالة صريحة شافية، ولذلك كان الفاروق رضى الله تعالى عنه يقول: «اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا» . المرتبة الثالثة: التربية على الامتناع من الخمر، بأن تتعود النفس التى مردت عليها التخلى عنها طول النهار وأطراف الليل، فإذا جاء التحريم القاطع الحاسم الشافى تكون النفس المؤمنة قد تربت على أن تنفطم عنها، فتنفطم بالأمر القاطع. وذلك بقول الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ (النساء- 43) إن الصلاة ركن الدين وعمود اليقين، ولا بد أن يقيموها، وهى مفرقة في أوقات النهار وزلفا من الليل. فإذا كان الصباح لا يشربون حتى يقربوا صلاة الصبح وهم في صحو كامل، فيمرنون على ترك صبوح الخمر. والنهار عمل لا لهو فيه، ولا خمر، بل أمر جد، وإذا جاء الزوال لا يقربون من الخمر، لأنهم يقربون من الصلاة، فلا يشربون حتى لا يقربوا صلاة الظهر وهم سكارى لا يعلمون، وكذلك العصر، وكذلك صلاة العشاءين، وبذلك يفوت عليهم شرب الخمر مساء فيفوت عليهم الغبوق كما فات عليهم الصبوح. ولا يكون لهم إلا ما بعد العشاء، وإن بعد العشاء يكون النوم بعد الكد واللغوب. المرتبة الرابعة: التحريم القاطع بعد أن أدركوا أنها شيء غير حسن. وبعد أن أدركوا أن ضررها أكبر من نفعها، وبعد أن مرنوا على الاستغناء عنها بعد أن ألفوها. وصارت خلب أكبادهم، ونبع نفوسهم،

أثر غزو بنى النضير في يهود

ولذلك نزل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (المائدة- 90) وقد كان التحريم مشددا ذاكرا سبحانه وتعالى حكمته بأنها توقع العداوة والبغضاء، وقد ذكرنا ما كان بين على وعمه حمزة، لولا أنهما من بيت النبوة وكنفها، وأنها تصد عن ذكر الله لأنها تضعف صوت الضمير، وتجعله في غفوة، فلا يدرك الخير، وهى تصد عن الصلاة، وحسبها هذه الأمور شرا. وهنا نلاحظ أنه كان ذلك الإصلاح الاجتماعى بعد الحرب، لأن المجتمع الفاضل يجب أن يحمى نفسه من العدو والمهاجم المردي، ويحمى نفسه من الماثم الداخلية، فكان جهاد النفس في محاربة الخمر وإجلاء شيطانها بعد محاربة اليهود، وإجلائهم، فاجتمع الجهادان. أثر غزو بنى النضير في يهود 449- ذكرنا بنى النضير، وكيف أظهروا ما كمن في نفوسهم من شر، وهموا بقتل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، حتى اضطر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لإجلائهم، لأنه لا يعيش والحيات والأفاعى بجواره، ينقضون العهود والمواثيق، ويريدون فرصة للانقضاض عليه، لينتهزوها. وإن اليهود في ماضيهم وحاضرهم لا يؤمنون إلا بالقوة، فإن رأوها خضعوا وذلوا، ونافقوا، وربما يكون منهم من تهديه صدمة القوة إلى الحق. ولم يكن بالمدينة المنورة من اليهود إلا بنو قريظة، فأرعدوا في أنفسهم، وكان منهم من يفكر في الرجوع إلى الذى يعرفونه كما يعرفون أبناءهم. كان منهم رجل ديان باليهودية، وهو عمر بن سعدى القرظي، فأقبل على أرض بنى النضير بعد جلائهم، فلما طاف بمنازلهم ورأى خرابها، وقد صارت يبابا ليس بها داع ولا مجيب. فهداه ما رأى عليه حال إخوانه إلى أن ينظر في التوراة، وما فيها من صفة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ومال قلبه لأن يعلن ما كتموه، وأن يظهر ما أخفوه، وقد بدت العبر. التقى بقومه من بنى قريظة وقال لهم: رأيت اليوم عبرا، قد عبرنا بها، ورأيت منازل إخواننا خالية بعد ذلك العز والمجد والشرف الفاضل، والعقل البارع، قد تركوا أموالهم، وملكها غيرهم، وخرجوا خروجا ذليلا ... وأوقع ببنى قينقاع، فأجلاهم وهم أهل عدة وسلاح ونجدة، فحصرهم، فلم يخرج إنسان منهم وأسر باقوهم، حتى سباهم، وكلم فيهم، فتركهم على أن أجلاهم من يثرب.

غزوة ذات الرقاع

يا قوم: قد رأيتم ما رأيتم، فأطيعوني، وتعالوا نتبع محمدا، والله إنكم لتعلمون أنه نبى قد بشرنا به ... فأسكت القوم، ولم يتكلم أحد إلا كعب بن أسد. قال له: ما يمنعك يا أبا عبد الرحمن من اتباعه؟ قال: أنت يا كعب. قال: فلم وما حلت بينك وبينه قط؟!. وقال بعض اليهود الحاضرين: «بل أنت صاحب عهدنا وعقدنا، فإن اتبعته اتبعناه، وإن أبيت أبينا» كان ذلك التفاؤل من اليهود بعد أن رأوا ما كان لبنى النضير، ثم ما كان من قبل لبنى قينقاع، فهز ذلك أعصابهم، وحملهم على التفكير فيما بين أيديهم، وما عندهم من كتاب، أصابتهم حيرة بلا شك، فأمامهم حق عرفوه، وإن لم يذعنوا له، وما عليهم من تعصب ينأى بهم عن الحق، وما يحسبون أو يرجون في أعدائه من أن يكون لهم غلب، وبذلك يجزيء عنهم، ويأمنون جانبه، ثم ما أفزعهم مما رأوا فى إخوانهم من بنى قينقاع وبنى النضير. جعلهم حب الذات، وهو ديدنهم أن يفكروا ويعتبروا بما كان، وما من طمع بأن يكفيه أمره غيرهم فيكونوا نظارة يرون ما يسرهم من غير أن يضاروا، وذلك شأنهم دائما، يتقون الأذى بسيوف غيرهم، ولا يحملون هم السيوف ما وجدوا إلى ذلك سبيلا. ولقد انتهى ترددهم بأن أصروا على كفرهم. وألقوا حبالهم مع المشركين من كفار قريش. وكانت التدبيرات معهم. وقد ظهر ذلك أشد ظهور في معركة الخندق. إذ تحالفوا مع المنافقين والمشركين، على أن يضربوا من الأمام بأيدى المشركين ومن الخلف بأيدى اليهود. وفي الوسط اليهودى يوهنون ويفسدون ويدلون على عورات المؤمنين، ولنترك القصص للحوادث يتبع بعضها بعضا. غزوة ذات الرقاع 450- ذات الرقاع بقعة فيها نخل، وقيل سميت ذات الرقاع، لأن الألوية كان فيها رقاع، وقيل غير ذلك، فقيل أنهم كانوا يربطون على أرجلهم الخرق والرقاع من شدة الرياح. كانت هذه الغزوة في آخر جمادى من السنة الثالثة. وكان الاتجاه في هذه الغزوة إلى بنى محارب، وبنى ثعلبة من غطفان، وخرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في أربعمائة مقاتل.

صلاة الخوف

وذلك لما كان من عامر بن الطفيل، وقتل أكثر من سبعين والقراء من المؤمنين خديعة وغدرا مما يدل على الاستهانة بالرسول وجيشه بعد غزوة أحد التى ادعى فيها بغير الحق هزيمة المؤمنين وإشاعة ذلك فى الصحراء ليستردوا هيبتهم، ويحرضوا العرب على محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ومن معه من المؤمنين. وكان لا بد للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم من أن يعلن قوة الإيمان، وأن يقتص من الذين قتلوا الأبرار الأتقياء من أصحابه غدرا وخيانة. خرج إليهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في أربعمائة رجل كما ذكرنا، فوجد جمعا عظيما من غطفان، فلما تراءى الجمعان تهيب كل صاحبه، ويقول ابن إسحاق خاف الناس بعضهم بعضا، ولم يكن قتال، فلم ينل محمد صلى الله تعالى عليه وسلم منهم، ولم يقتص لأولئك الأبرار الذين قتلوا خيانة وغدرا. ولكنهم إذا كانوا لم يقتصوا منهم لكثافة عددهم وكانوا عددا كبيرا وبعد الشقة بين موضع القتال والمدينة، فإن النبى عليه الصلاة والسلام قد أرهبهم، واسترد ما كان للجيش الإسلامى من هيبة، وذهبت سورة ما أنشأته قريش لنفسها.. وفوق ذلك، ارتاد البلاد العربية، وتعرف مداخلها، ثم أشار لقريش إلى أنه يرصدهم كل مرصد، ويتتبع متاجرهم إن أراد، وما كان الدخول في معركة يشك في نتيجتها خيرا من أن يصل إلى الأمور من غير حرب، وأما القصاص لأولئك الأبرياء الذين ذهبوا في غدر دنيء، وخفر للعهد لا يرضى عنه عربي، ولا يقبله من له مروءة، فإن أمر ذلك إلى الله، والمستقبل القريب، وإن ربك لبالمرصاد، وما كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لينتقم إذا استجابوا لله وآمنوا بما أنزل على الرسول. صلاة الخوف 451- كانت الأهبة للحرب من جانبهم عنيفة شديدة، وإن كان الله تعالى قد ألقى في قلوبهم الرعب، وكان على المؤمنين أن يحذروهم، ولقد كان المشركون يتفاهمون فيما بينهم على أن ينقضوا على المسلمين إذا حان وقت صلاتهم، وهم يعلمون، وجرى على ألسنتهم أن الصلاة أحب إليهم من كل شيء، فكانوا يطمعون أن يصيبوا منهم غرة وقت صلاتهم، ولكن الله تعالى قد علم جنده الحذر، فقال عز من قائل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ (النساء- 71) .

ولذلك شرعت صلاة الخوف لمثل هذه الحال، ونزلت آية شرعيتها في هذه الغزوة، فقال تعالت كلماته: وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا، إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً. وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ، فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ، وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ، وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا، فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ، وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ، وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ، فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ، وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً. فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً، وَعَلى جُنُوبِكُمْ، فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ، فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ، إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً. وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ، إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ، وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ، وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (النساء- 104) . ويظهر أن الآيات الكريمات قد نزلت في وقت ذلك اللقاء بين المؤمنين والمشركين الذى كان فيه الحذر من الجانبين، وهذه الآيات تدل على أحكام شرعية. أولها: قصر الصلاة الرباعية لأجل السفر أو الخوف ودل على ذلك قوله تعالى: وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ. وثانيها: أنها ثبتت صلاة الخوف بها، وظاهرها الذى تدل عليه أنه يصلى ركعتين، وليحرم الجميع بالصلاة معه، ولكن تجيء طائفة منهم النبى بأسلحتها، ولتصل معهم ركعة، والطائفة الآخرى تحرس المصلين مع تسلح المصلين أنفسهم، فإذا أتم الركعة مع هذه الطائفة، تأتى الطائفة الآخرى، مع أسلحتها، ولتأخذ حذرها، ويصلى صلى الله تعالى عليه وسلم الركعة الثانية مع الطائفة الآخري، ويسلم صلى الله تعالى عليه وسلم عند كمال صلاته. ومن بعد ذلك تصلى كل طائفة الركعة الباقية لها مع بقاء الآخرى حارسة، فالطائفة التى ابتدأت الصلاة مع النبى تكون ركعتها لاحقة لأنها الثانية، والطائفة الآخرى التى جاءت الأولى تصلى مسبوقة، لأن مافاتها هو الركعة الأولى. ونلاحظ في صلاة الخوف: أولا- أنها ركعتان، وروى أنها كانت الأربع في حال الخوف من غير سفر، وأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وكذلك كل إمام يقسم المسلمين فرقتين إحداهما تحرس، وقد أحرمت للصلاة، ويصلى بالآخرى- وإن ذلك يقتضى الحراسة الدائمة، مع عدم الانقطاع عن الصلاة.

وثانيا: أن الصلاة تكون بإمامة القائد، أو من يقوم مقامه ليكون الجمع بين الصلاة والإمامة أى تكون الصلاة جماعة. وثالثا: أن ينتفع الجميع بفضل الجماعة فإن فضل الجماعة ينالها الملاحق، وهو الذى يقطع الصلاة بعد الدخول فيها، ثم يتمها، والمسبوق، وهو يتأخر دخوله فيها، ثم يعيد ما سبق به. وله فضل الجماعة. وقد روى ابن هشام عدة روايات في صلاة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم في الخوف وقد تعددت هذه الصلاة في مواطن كثيرة، ولبها واحد. فقد روى عن جابر بن عبد الله قال: «صلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بطائفة ركعتين ثم سلم، وطائفة مقبلون على العدو، جاؤا فصلى بهم ركعتين أخريين» . والآية تنطبق على هذه الرواية ولا تخرج عما قلنا، بيد أن الرواية تدل على أن النبى صلى بهم أربعا، وكل صلى ما فاته. وروى عن جابر أيضا قال: صلى بنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فركع بنا جميعا، ثم سجد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وسجد معه الصف الأوّل فلما رفعوا سجد الذين يلونهم بأنفسهم، ثم تأخر الصف الأوّل، وتقدم الصف الثانى حتى قاموا مقامهم، ثم ركع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بهم جميعا، ثم سجد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وسجد الذين يلونه معه، فلما رفعوا رؤوسهم سجد الآخرون بأنفسهم فركع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بهم جميعا، وسجد كل واحد منهم بأنفسهم سجدتين. وإننا نرى في عبارة هذه الرواية اضطرابا، ولا نرى أن الآية تنطبق عليها، والأولى أحق بالأخذ، وعليها الفقهاء الأربعة. وتدل الآيات السابقة على أن الصلاة لا تسقط في سفر أو حضر، ولا أمن ولا خوف. وأنها في الخوف والسفر قد تقصر، أو تكون بالإيماء، ولكن لا تسقط، لأنها ذكر الله، ويجب أن يكون العبد قائما به في كل حال، ولو على الجنوب. وإنه إذا كان الأمن والاطمئنان يجب أن تقام الصلاة كاملة مقومة على وجهها بركوعها وسجودها. والائتمام الكامل والجماعة الكاملة كما قال تعالى: فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ، إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (النساء- 103) أى معينا في مواقيته، لا يجوز التخلف عنها في أى حال، ولا عذر في تركها، لأنها مخاطبة العبد لربه، وذلك هو الدين القيم.

فى ذات الرقاع:

فى ذات الرقاع: 452- إذا كانوا قد غدروا بالسبعين قارئا، وقد أمنوهم، فقتلوهم وقد جاؤا بأمان مكتوب فمزقوه وفجروا بقتلهم، ولم يرعوا إلا ولا ذمة، إذا كانوا قد فعلوا ذلك، فقد كان منهم من أراد أن يرتكب ما هو أشد من ذلك غدرا، وأبعد أثرا، وأفجر فعلا. فقد روى ابن إسحاق بسنده أن رجلا اسمه غورث بن الحارث من بنى محارب، قال لقومه: ألا أقتل لكم محمدا؟ قالوا: وكيف تقتله؟ قال: أفتك به، فأقره الغادرون، وأعادوا غدرهم جذعا، وكانوا الغادرين في العرب، ولم يكونوا الشجعان الأبطال. أقبل الرجل إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو جالس آمن وسيفه في حجره، فقال الرجل: يا محمد انظر إلى سيفك هذا؟ فجعل الرجل يهز السيف، ويهم به، فكبته الله، ثم قال: يا محمد، أما تخافنى؟ قال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: لا، يمنعنى الله تعالى منك. هذه رواية ابن إسحاق، وفي الصحيحين عن جابر أنه غزا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم غزوة نجد، أى ذات الرقاع، فلما قفل راجعا أدركته القافلة في واد كثير العضاة، فتفرق الناس يستظلون، وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم تحت ظل شجرة، فعلق بها سيفه، قال جابر فنمنا نومة، فإذا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يدعونا، فأجبناه، وإذا عنده أعرابي، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «إن هذا اخترط سيفي، وأنا نائم، فقال من يمنعك منى قلت الله، فشام السيف وجلس، ولم يعاقبه» . وفي رواية مسلم زيادة، وهى عن جابر: «أقبلنا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، حتى إذا كنا بذات الرقاع، وكنا إذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فجاءه رجل من المشركين وسيف رسول الله معلق على شجرة، فأخذه فاخترطه، وقال لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «تخافنى؟ قال: لا، قال: فما يمنعك منى؟ قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: الله يمنعنى منك. ويروى أن السيف سقط من يد الرجل فأخذه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وقال: من يمنعك منى فقال الرجل خاضعا: كن خير آخذ، قال تشهد أن لا إله إلا الله، قال: لا، ولكن أعاهدك على ألا أقاتلك، ولا أقاتل من يقاتلونك، فخلى سبيله، فأتى أصحابه، وقال: جئتكم من عند خير الناس.

وتعدد الروايات لا يمنع صدقها، وهى يتمم بعضها بعضا، ولا اختلاف بينها، وكلها يذكر أنها كانت في ذات الرقاع. وإذا كانت قد ذكرت في غيرها، فإن ذلك دليل على تكرارها، ولا تنافى بين الروايات. وقد ذكرنا هذه القصة لأمرين: أولهما: ما انحدر إليه بعض المشركين من أخلاق تتنافى مع مراعاة الجوار والمروءة، وفيها إرادة الغدر والقتل من غير مواجهة، وكيف استباحوا ذلك بالنسبة للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم كفرا وفسوقا وعنادا. ثانيها: أن ذلك بلا ريب فيه أمر خارق للعادة، لأن السيف تنقبض عليه اليد في وقت إرادة الضرب ثم يسقط من يده على غير إرادة منه، وقد اعتزم الشر وبيته ودبره، فلما حانت ساعته، خانته يده، وقد كان ذلك من النبى صلى الله تعالى عليه وسلم في أمور كثيرة، ولكن لم يجعلها دليل نبوته، ولم يتحد بها العرب، بل تحدى بالقرآن وحده، لأنه ما جاء بالخوارق الحسية، كعصا موسى وإبراء الأكمه والأبرص وغير ذلك من الحوادث التى تنقضى بمجرد وقوعها، بل كانت معجزته باقية، لأن رسالته باقية، لا تنقضى بزمانها، وهى القرآن الباقى الخالد الذى يتحدى الناس في كل جيل وفي كل مكان. قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (الإسراء- 88) .

النبى بين أصحابه

النبى بين أصحابه 453- شغلتنا أخبار الغزوات والسرايا عن النواحى الأدبية التى كانت بين النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وصحابته والتى كانت تربط القلوب بالمودة الراحمة، فقد كان رؤفا رحيما، يعين المحتاج ويواسى الضعيف، وما كان ليخرج بهم إلى ميادين القتال، إلا وهم يشعرون برحمته، ومودته فكان نبى المرحمة ونبى الملحمة، ولا بد قبل الملحمة من المرحمة، فإن النصر وسيلته الرحمة بالجند والرعية، ورعاية العشير لعشرائه. رأى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم جابر بن عبد الله قد تأخر عن الرفاق، إذ هم يمضون وهو متخلف عنهم، وكان سبب تخلفه عن الركب أن جمله ضعيف، فسأله مالك؟: قال يا رسول الله أبطأ بى جملى هذا، فقال له محمد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنخه، وقطع جابر عصا من شجرة بأمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فأخذها ونخسه بها نخسات ثم قال لجابر: اركب، فركبه، وقال جابر: والذى بعثك بالحق يواهق ناقته مواهقة، أى يسارعها ولا يبطؤ. هكذا كانت مراعاة القائد لجنده، يتتبع الضعيف فيقويه، والمتخلف فلا يتركه حتى يسير معه ببركة الله، وما سقنا الخبر لذلك فقط، بل سقناه لهذا، ولأنها بركة بأمر خارق للعادة. وإن حديث الجمل لا ينتهى بذلك، بل إن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يبتاع الجمل، فيريد أن يهبه له جابر، فيأبى إلا الشراء، ثم يساومه، طلبه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بدرهم فأبي، فزاده إلى درهمين فأبي، فما زال يزيده حتى جعل ثمنه أوقية من ذهب، ولكنه يهبه للرسول، بعد أن ساوم هذه المساومة. وإذا كان قد تعرف حال صاحبه وهو في السفر، فلا بد أن يؤنسه ويعينه، ويتعرف حاله. فسأله رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قائلا: يا جابر، هل تزوجت؟ قال: نعم يا رسول الله. قال عليه الصلاة والسلام أثيبا أم بكرا، قال: لا بل ثيبا. قال عليه الصلاة والسلام أفلا جارية تلاعبها وتلاعبك. قال جابر: يا رسول الله إن أبى أصيب يوم أحد، وترك بنات له سبعا، فنكحت امرأة جامعة، تجمع رؤسهن وتقوم عليهن، قال له الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم العطوف الألوف: أصبت إن شاء الله. ولكن الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم لا يكتفى بذلك الود الراحم، بل إنه يقيم الوليمة لزواج صاحبه، فإذا وصل إلى مكان يبعد عن المدينة بنحو ثلاثة أميال اسمه صرار، نحر جزورا، يأكل هو وأهله. كان ذلك والجمل في يد جابر.

غزوة بدر الآخرة

فرأى إزاء تلك المحبة والمودة أن يرسل الجمل إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد وهبه له، فرده النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إليه، وأرسل معه ثمنه، وهو الأوقية من الذهب التى ارتضاها ثمنا له. ولننقل كلام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لنرطب به أسماعنا، ونملأ به قلوبنا. لما رأى الجمل قال: ما هذا؟ قالوا: هذا جمل جابر، فقال: أين جابر، فذهب إليه فقال الرسول الكريم صلى الله تعالى عليه وسلم: «يا ابن أخى خذ برأس جملك فهو لك» ودعا بلالا فقال له: اذهب بجابر. وأعطه أوقية ذهب. ذكرنا هذه القصة لنعرف مودة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ورأفته بهم، وملاحظته وإدخال السرور على نفوسهم، وإذهاب العنت عنهم، لتكون منهم قوة في الأرض، فليست القوة، بالفظاظة والتحكم، إنما القوة بالمحبة والتراحم والتودد. غزوة بدر الآخرة 454- فى نهاية غزوة أحد من قبل المشركين نادى أبو سفيان مهددا، أو واعدا بأن موعدكم بدر من العام المقبل. وما كان أصحاب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ليخافوا اللقاء، وقد أدوه في أعقاب قفول قريش. ولذلك خرج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى بدر في شهر شعبان من السنة الرابعة فيلقاهم بمنى ولينتصف لجرحى أحد وشهداء المسلمين، وخصوصا سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب عمه وأخاه في الرضاعة. خرج في ذلك الميقات. وأقام على المدينة المنورة عبد الله بن عبد الله بن أبى بن سلول، أى ابن رئيس المنافقين ولم يكن كأبيه، بل كان برا تقيا، ومؤمنا صادقا. حتى إنه لما اشتد أمر النفاق، قال لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: دعنى أقتل عبد الله بن أبى حتى لا يقتله مؤمن فيحنقنى. اختاره رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على المدينة، لمكانته في الإيمان وأهله، ولتبرأ نفسه من سقامها. وفي الوقت الذى كان يقيم فيه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عبد الله بن عبد الله بن أبى مقامه على المدينة، كان أبوه عبد الله بن أبى يثبط المسلمين عن الخروج للقاء قريش، فيروى عروة بن الزبير أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم استنفر الناس لموعد أبى سفيان، وانبعث المنافقون يثبطونهم،

فسلم الله تعالى أولياءه، وخرج المسلمون وصحبه إلى بدر. وأخذوا معهم بضائع، وقالوا: إن وجدنا أبا سفيان، وإلا اشترينا من بضائع موسم بدر. خرج المسلمون كما ترى يتمنون أن يكسروا أنف الشرك. خرج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى بدر ومعه نحو خمسمائة وألف، وقد خرج على نية لقاء العدو حتى نزل وانتظر ثمانى ليال، عساه يلقى قريشا بقيادة أبى سفيان كما وعد أو توعد، ولكنه لم يجيء في الميقات. وأبو سفيان كان قد أراد الخروج على تردد، فخرج في أهل مكة، حتى نزل مجنة من ناحية الظهران، ولكنه مع خروجه ووصوله إلى ذلك المكان كان التردد لا يزال يسيطر عليه، خشية العاقبة، ولذا بدا له أن يعود من حيث نزح، وقال في سبب نكوصه لقومه: «يا معشر قريش إنه لا يصلحكم إلا عام خصيب ترعون فيه الشجر، وتشربون اللبن، فإن عامكم هذا عام جدب وإنى راجع فارجعوا» ... فكان أهل مكة المكرمة يسمون الجيش الذى خرج بقيادة أبى سفيان ثم عاد جيش السويق يقولون إنما خرجتم تشربون السويق. ولعل هذه النظرة وذلك القول فيه لوم وتهكم، لأنهم خرجوا للقتال وعادوا من غير لقاء أو قرب منه. وإن هذا يدل على أن أبا سفيان تخاذل عن اللقاء، والسبب الذى استحله للعودة وهو الجدب كان قائما وقت الخروج فكان أولى أن يمنع الخروج، لا أن يوجبه. ولكنه فكر وقدر الهزيمة، وقد ذاق مرارتها في بدر، فاثر العافية، ورضى من الغنيمة بالإياب. وأتى إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وهو بماء بدر بعض بنى ضمرة الذين كان قد وادهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم في غزوة ودان التى غزاها، وقال للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم: يا محمد أجئت للقاء قريش، وقد يوهم سؤاله أنه مال مع المائلين لقريش بعد أحد، وإشاعة قريش أن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم هزم، وما كانت هزيمة. قال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: «نعم أخا بنى ضمرة وإن شئت رددنا- أى ما كان بيننا وبينك من موادعة- وجالدناك حتى يحكم الله بيننا وبينك» . قال: لا، والله يا محمد ما لنا بذلك من حاجة. رجع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى المدينة، ولم يلق حربا، وكان النكوص من جانبهم وإن ذلك بلا ريب يزيل ما كانوا يرجونه من إشاعة الهزيمة ليوهنوا شأن النبى والمؤمنين في بلاد العرب، ويعلو شأنهم فيتهيبهم الناس دونه.

غزوة دومة الجندل

ولقد قال الواقدى إن جيش المؤمنين في مدة إقامته الليالى الثماني، اتجروا، إذ لم يجدوا قتالا، وكانت سوق تعقد في ثمانية أيام، فرجعوا في وفر مالي، وقد ربحوا من الدرهم درهمين، أى أنهم باعوا واشتروا وكسبوا فزاد رأس مالهم ضعفين. وهذا كما قال الله تعالى: فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ، وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (آل عمران- 174) . غزوة دومة الجندل 455- وهى مكان يبعد عن المدينة بمسيرة نحو خمس عشرة ليلة من ناحية الشام. وقد كانت سرايا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وغزواته، أكثرها في ناحية مكة المكرمة وما حولها، ونجد وما يقاربها. وفي هذه الغزوة اتجه ناحية الشام، ليكون ذلك إعلاما لقيصر الروم الذى كان يحكم الشام. بأمر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وهذا الدين الجديد فيتعرف الحال والمال، فيكون ذلك تنبيها له ما بعده، كما سيجيء الأمر في الغزوات التى اتجهت إلى لقاء الرومان في حياة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. لذلك اتجه صلى الله تعالى عليه وسلم إلى دومة الجندل ليدنو إلى أدنى الشام من الصحراء العربية، ولأن دومة الجندل كان بها جمع كبير، وأنهم كانوا يشبهون قطاع الطريق. فيسرقون من يمر بهم وينتهبونه. ومع ذلك كان فيه سوق عظيمة. فكان لابد أن يغزوها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من المدينة المنورة في شهر ربيع الأوّل من السنة الخامسة، واستعمل على المدينة سباع بن عرفطة الغفارى. ونرى من هذا أنه ما كان يخص نوعا، معينا من الرجال باستعماله في المدينة وهو غائب عنها، وفي ذلك إشعار للمؤمنين بأن الولاية حق لكل مؤمن من غير نظر إلى قبيل أو نوع من الرجال. ندب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الناس، وخرج في ألف من المسلمين، وكان يسير بالليل. ويكمن بالنهار. ولعل الوقت كان صيفا، فكان السير ليلا أخف وأيسر، وعلى أى حال، فهو كتمان للمسير. والحرب خدعة، وكان يسير ومعه دليل من بنى عذرة، وهو هاد خريت. لما دنا من دومة الجندل، وقد وصل الخبر إليهم، فتفرقوا فنزل بساحتهم، فلم يجد أحدا فأقام بها أياما، وبث سراياه، داعية إلى الإسلام بين الأقوام متعرفة فاحصة وقد أسلم على يديه من أسلم، ثم عاد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعد شهر من خروجه.

النبى في المدينة

النبى في المدينة 456- كانت غزوة بدر الآخرة في شعبان من السنة الرابعة، ثم كانت من بعد غزوة دومة الجندل في ربيع الأوّل من السنة الخامسة؛ فمكث الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم من غير غزو نحو ستة أشهر أو تزيد، فماذا كان يعمل؟ ونقول في ذلك: كان يقوم بحق التبليغ للرسالة، فما بعث محمد صلى الله تعالى عليه وسلم للقتال، ولكن بعث لتبليغ رسالة ربه، وما كان القتال إلا دفعا للذين يقفون في سبيل الدعوة، أو يكيدون للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وللمؤمنين، أو يريدون أن يفتنوا الناس عن الإسلام، فالقتال كان لحماية الدعوة، وهى الأصل، وبيان أحكام الله تعالى للعباد، هى تبليغ الرسالة والله تعالى يقول في كتابه العزيز: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ، وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ (المائدة- 67) . كانت إقامة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم في المدينة في الفترات التى تكون بين الغزوات لبيان حقائق الرسالة المحمدية، والأحكام الشرعية، وتعليم المؤمنين ما يدعو إليه ربهم، وتحفيظهم ما يتيسر لهم من حفظ القرآن بحيث يحفظه مجموعهم، ويحفظ بعضهم كله كزيد بن ثابت. فكان عمله عليه السلام في فترات السلم تبليغ ما أمره الله تعالى به، وبيان الطريق لتنفيذه وتطبيقه، وتعليم الناس ما لا يمكن معرفته إلا بالتدريب عليه. لقد رأينا بعد غزوة بنى النضير نزول القرآن بتحريم الخمر، فالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، يتولى تنفيذ ذلك التحريم، ببيان العقوبات الزاجرة المانعة من الشرب، فقد جيء له بشارب، فضربه بالنعال أربعين بنعلين، فكانت ثمانين، فاعتبر كثيرون من الصحابة حد الخمر ثمانين، وشدد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم في المنع، فقال في شارب الخمر: إذا شرب، فاضربوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد فاقتلوه. وجاء قوم يقولون إنا بأرض برد نستدفيء بالخمر، فنهى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عن شربها، فقالوا إنهم لا يمتنعون، قال: فقاتلوهم. وبذلك بين لهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أحكام الشرع، ودربهم على تنفيذ ما أمر الله به، وما نهاهم عنه، ويقيم الحدود التى شرعها الله تعالى، ويحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه بما أنزل الله تعالى. وقد بين لهم صلى الله تعالى عليه وسلم أحكام الزواج، وشرح لهم المحرمات، وعلمهم الفرق بين ما هو سفاح، وما هو نكاح، وما للرجل على امرأته، وما عليه من حقوق، وبين أحكام الملكية

الخاصة، وبجوارها الملكية العامة، وما على الآحاد من الناس من حقوق، وما عليه من واجبات، ويتلقى الذين جاؤا إليه ليتعلموا الإسلام. ويرسل إلى كل عشيرة أو قبيلة من يعلمها أمر دينها، ويتحقق بذلك قوله تعالى: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ (التوبة- 122) . فهو يرشد ويهدى بنفسه من يجيئون إليه. ومن هم قريبون منه، ويرسل رجاله إلى من يرشدونهم ويتلقى القرآن، من لدن حكيم عليم، ويأمر من بحضرته ممن يحسنون الكتابة أن يكتبوا ما ينزل به الروح الأمين. ويعلمهم صلى الله تعالى عليه وسلم أحكام البيوع والشروط، والمعاملات والديون وما يتعلق بها، وغير ذلك من الأحكام التى تنظم الجماعة الإسلامية وتكون منها المدينة الفاضلة، وهو في هذا يبلغ رسالة ربه.

غزوة الخندق

غزوة الخندق 457- كانت غزوة دومة الجندل في ربيع الأوّل من السنة الخامسة، وبعدها بستة أشهر كانت غزوة الخندق، إذ كانت في شوال من السنة الخامسة، وفي هذه الأشهر الستة كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يبلغ الدعوة، ويعلم المؤمنين مباديء الإسلام في المجتمع والفضيلة. والمعاملات المالية، وغير المالية، ويبث دعاته في البلاد العربية، وأخبارها تتجاوزها إلى ما وراء تلك البلاد، تسرى فيها كما يسرى النور، وهو آمن مطمئن، لم يزعجه غاز يغزو مدينته، ولا غادر يغدر به في دعوته الحق، يجيئه المؤمنون به فرادى من كل القبائل، ينضمون إلى صفوفه، أو يعودون دعاة إلى أقوامهم إن وجدوا فيهم. وكان اليهود من بنى خزاعة بجواره، قد يكيدون له، وإن كانوا لا يظهرون، يمالئون الأعداء، ويتضافرون مع المشركين ممن يرسلونهم من بنى النضير الذين أجلوا، فهم جميعا ملة واحدة في الكيد للمسلمين وإرادة اقتلاعهم، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم يسالمهم، ويحذرهم، يخادعونه، والله خادعهم. ونوجه الأنظار إلى أن الغزوات المحمدية ما كانت تتجاوز شهرا في سيرها، وذلك قليل في عمر الدعوة الإسلامية. وهى كأمر يعرض فيدفع، ثم ينصرف النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى تبليغ رسالة ربه. وبيان شرعه والدفاع بالحجة والبرهان عن العقيدة والرسالة أمام اليهود، وأمام المشركين لا يألو جاهدا، فهو يجادل ويبلغ ويعلم، ويحفظهم القرآن ويعلمهم الحكمة، فيرددون أحاديثه، وينقلون أعماله، والرسالة يتكامل تبليغها. كيف كانت غزوة الخندق وأسبابها: 458- إن السياق التاريخى للوقائع يشير إلى أن القرشيين تضعضعت نفوسهم ويظهر أنهم ما كانوا ليقدموا على حرب وحدهم، خشية من محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ومن معه من جند أشداء فقد مكثوا لا يقاتلونه ولا يذهبون سنتين كاملتين. وإن كانوا يشجعون عليه غيرهم من غطفان وغيرهم، ممن غدروا وخانوا، وهم كانوا يهابون لقاء المؤمنين الأشداء الذين يطلبون الحياة من وراء الموت، ولا يضنون بنفوسهم على الاستشهاد. كل قبيلة من الأعداء كانت تخاف المؤمنين وحدها، وإذا كانوا قد اجتمعوا على الشرك والكفر فإنهم أرادوا أن يجتمعوا على القتال، ينتفضون على المؤمنين مجتمعين، ويقتلعونهم من المدينة لتعود كما كانت دار شرك ويهود كما كانت أولا.

وإذا كانت الحاجة إلى نصر الشرك تدعوهم إلى الاجتماع، فقد أخذ كبار اليهود الذين طردوا من المدينة يدبرون لهم، ويدخلون في صفهم، فاجتمع ناس من بنى قينقاع، وبنى النضير، بالمشركين يحرضونهم على الاجتماع، وأن يكونوا معهم، والمنافقون يرونهم، وبنو قريظة من ورائهم، فكان اليهود مدبرين، أو مشتركين في التدبير. قال ابن إسحاق بسنده «إنه كان من حديث الخندق أن نفرا من اليهود منهم سلام بن أبى الحقيق النضري، وحيى بن أخطب النضري، وكنانة بن الربيع بن أبى الحقيق، وهوذة بن قيس الوائلي، وأبو عمار الوائلى في نفر من بنى النضير، وبنى وائل.... وهم الذين حزبوا الأحزاب على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، خرجوا حتى قدموا على قريش بمكة، فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وقالوا إنا سنكون معكم عليه، حتى نستأصله. قالت لهم قريش: يا معشر يهود، إنكم أهل الكتاب الأوّل، والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، أفديننا خير أم دينه، قال اليهود أهل الكتاب الذين يدعون أنهم يتبعون التوراة: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحق. وهكذا نرى حقدهم وعنادهم دفعهم إلى الكفر في دينهم، ولقد نزل فيهم قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ، وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا. أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ، وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (النساء- 51، 52) . ولم يكتف هؤلاء اليهود بتحريض قريش الذين لم يكونوا محتاجين إلى تحريض، ولكن يحتاجون إلى من يؤازرهم، بل إن أولئك النفر من اليهود خرجوا إلى غطفان من قيس بن غيلان فدعوهم إلى حرب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وأخبروهم أنهم يكونون معهم، وأن قريشا قد تابعوهم. اجتمعت الأرض كلها، واجتمعت قريش، وغطفان، اجتمع هؤلاء ومعهم اليهود وغيرهم فخرجت قريش بقيادة أبى سفيان بن حرب. وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصن، وكان في بنى فزارة. وبنو مرة وقائدهم الحارث بن عوف المرى. وغير هؤلاء من القواد الذين كانوا يقودون جماعات. اجتمع هؤلاء ومعهم قبائل من العرب، ليغزوا المدينة، وقد أمر الله تعالى نبيه بأن يقاتلهم كافة، وإنه لناصره كما قال تعالى: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (التوبة- 36) .

سمع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بمسيرهم، وجاءه الخبر بكثرة الجموع، وما دبروا، وما استحصدوا له. وروى أن أبا سفيان أرسل مرعدا مهددا بهذه الجموع التى جمعها، وكتب إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كتابا هذا نصه: أما بعد ... فإنك قد قتلت أبطالنا، وأيتمت الأطفال، وأرملت النساء والآن قد اجتمعت القبائل والعشائر يطلبون قتالك، وقلع آثارك، وقد جئنا إليك نريد نصف نخل المدينة، فإن أجبتنا إلى ذلك، وإلا أبشر بخراب الديار وقلع الآثار. تجاوبت القبائل من فزار ... لنصر اللات في بيت الحرام وأقبلت الضراغم من قريش ... على خيل مسومة ضرام وقد نقل هذا الكتاب في كتاب السيرة لابن جرير الطبرى. وقد أكد هذا الكتاب ما وصل إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من أخبار ولم يجد تهديده لاعتماد النبى والمؤمنين على الله. ورد عليه الصلاة والسلام كتابه قائلا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم وصل كتاب أهل الشرك والنفاق، والكفر والشقاق، وفهمت مقالتكم، فو الله ما لكم عندى جواب إلا أطراف الرماح وأشفار الصفاح، فارجعوا ويلكم عن عبادة الأصنام، وأبشروا بضرب الحسام وبغلق الهام وخراب الديار، وقلع الآثار، والسلام على من اتبع الهدى. ونشك في نسبة هذا الكتاب إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لما فيه من السجع. ومهما تكن قيمة الرواية، فإن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مضى في الاستعداد. فجمع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم صحابته، واستشارهم فيما يصنع مع هذه الجموع، لقد كانوا أكثر من أن يخرجوا إليهم، ولا أن يتركوهم يدخلون المدينة، وخصوصا أن بنى قريظة على مقربة من المؤمنين يدلونهم على عورات المسلمين، لا هذا ولا ذاك يصلحان للعمل، ولا بد من عمل يكون وقاية حتى يجىء نصر الله تعالى، وقد وعد به، فقال تعالى: كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (الروم: 47)

حفر الخندق:

استشار أصحابه، فتقدم سلمان الفارسي، وأشار بالخندق، لأن ذلك كان يصنعه الفرس في حروبهم ليحولوا بينهم وبين القوى المهاجمة، وكان في زمن موسى عليه السلام. اختار الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك الرأي، وهو جديد في العرب، قد تروعهم فكرته، ويفزعهم أمره، فأخذ في تنفيذه. فجمع المسلمين ليحفروه، حتى إذا جاءت الأحزاب وجدوه حائلا بينهم وبين مأربهم. حفر الخندق: 459- كان على أهل المدينة أجمعين أن يشتركوا في حفر الخندق، والنكبة في ذلك الهجوم العام تعم أهل المدينة أجمعين ولا تخص، فإن الشر إذا طم لا يفرق. ولكن المنافقين يستأذنون في التخلف، ويعتذرون بالضعف، وما كان ضعف الأجسام، فالعذر فيه، إنما كان عذرهم في ضعف الإيمان. ومنهم من استجابوا للدعوة، ولكنهم عند ما اشتدت الشديدة، أخذوا يتسللون لواذا، لأنهم لا يريدون أن يشتركوا في نصرة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، ولو كان في ذلك إنقاذ للمدينة التى تؤويهم من أن تخرب بيد المشركين، ولقد قال سبحانه وتعالى فيهم: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ، إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ، وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً، قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً، فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (النور- 62، 63) ومع ذلك تخلفت طائفة من المنافقين ابتداء. وذهبت أخري، ولكنها كانت أشد نكاية من الأولى لأنها كانت تخذل وتوهن قوة العاملين، إذ كانت تتسلل لواذا غير عاملة تثير الإحساس بالشدة. وليشجعوا من يمكن أن تخور عزائمهم، والأمر صعب شديد. تقدم المؤمنون الصادقون لحفر الخندق، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم معهم، يحفر ويشتد في الحفر، حتى يستر التراب جلد جسمه صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو لا ينى عن العمل بجد لاغب، ولا يقبل أن يعفيه المؤمنون، ولسان حاله يقول أنه ليس أقل منهم في طلب الجزاء، ولا أضعفهم.

كان حفر الخندق في ذاته عملا شاقا مجهدا، وقد أقبل عليه المؤمنون ببشر وترحاب، وكانوا ينشدون الرجز: والنبى يشاركهم بأن يقول معهم آخر كلمات الرجز الذى ينشدونه وكان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يقول ما يناسبه مما يثير همة المؤمنين بالدعاء لهم. فيروى أنه كان يقول: اللهم إن العيش عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة وذلك تشجيع للعمل، وترنم بما يرجو المؤمنون. وهم ينشدون: نحن الذين بايعوا محمدا ... على الإسلام ما بقينا أبدا وينشدون أيضا: والله لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا إن الأولى قد بغوا علينا ... إذا أرادوا فتنة أبينا كانوا ينشدون هذه الأشعار، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم لا ينشد الأشعار، ولا ينبغى الشعر له. فما كان يتابعهم في البيت من الأبيات، ولكنه كان يجهر بالقافية معهم مشاركة في الوجدان والإحساس من غير أن يقول ما لا ينبغى له أن يقوله. وهكذا كان شأنه صلى الله تعالى عليه وسلم في كل ما كانوا ينشدونه يشاركهم في النشيد باخر القوافى. 460- ولقد اقترن حفر الخندق بمشقة شديدة إذ ابتدأ في غداة يوم شديد البرودة. وقد قسم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما يحفر من الخندق بين صحابته من الأنصار والمهاجرين فكان يجعل لكل عشرة من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أربعين ذراعا. وقد اختلف الصحابة فيمن يكون سلمان الفارسى منهم. لأنه صاحب الفكرة التى هداه الله تعالى إليها. ولقد قال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: سلمان منا آل البيت. ولقد كان العمل شاقا، ولم يكن القوت كافيا، لأن كثيرين من الصحابة قد انقطعوا عن موارد أرزاقهم، فاجتمع لديهم شدة العمل وقسوته والجوع. ولكن الإيمان كان يخفف كل شدة، والصبر يوجد قوة احتمال، ورعاية الله تعالى فوق كل شدة.

وقد ذكر ابن إسحاق وغيره من الرواة أنه قد حدثت خوارق كثيرة على يدى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم في تلك الشدة التى اشترك فيها كل أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. وهو على رأسهم. قال ابن إسحاق: وكان في حفر الخندق أحاديث بلغتنى فيها من الله عبرة في تصديق رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وتحقيق نبوته، عاين ذلك المسلمون. منها- معجزة الكدية (وهى صخرة شديدة صلبة) فكان مما بلغنى أن جابر بن عبد الله كان يحدث أنه اشتدت عليهم في بعض الخندق كدية، فشكوها إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأتى بإناء من ماء فتفل فيه ثم دعا بما شاء الله تعالى أن يدعو به، ثم نضح ذلك الماء على تلك الكدية فو الذى بعثه بالحق نبيا لا نهالت حتى عادت كالكثيب» . هذا كلام ابن إسحاق: وقد رويت مسألة الكدية بروايات أخرى، ذكر الثانية ابن إسحاق كما ذكر الأولي، وقد ذكرت الثانية في كتب السنة الصحاح الآخرى. قال ابن إسحاق في الرواية الآخرى، وحدث عن سلمان الفارسى أنه قال ضربت في ناحية من الخندق، فغلظت على صخرة، ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قريب مني، فلما رآني أضرب، ورأى شدة المكان عليّ فأخذ المعول من يدي، فضرب ضربة لمعت تحت المعول برقة ثم ضرب به أخرى فلمعت تحته برقة أخرى، ثم ضرب به الثالثة، فلمعت تحته برقة أخرى. قلت (أى سلمان) بأبى أنت وأمى ما هذا الذى رأيت لمع تحت المعول وأنت تضرب؟ قال: أوقد رأيت ذلك يا سلمان، قلت نعم، قال: أما الأولى فإنه قد فتح علينا اليمن، وأما الثانية فإنه قد فتح علينا الشام والمغرب، وأما الثالثة فإن الله تعالى قد فتح علينا بها المشرق. هذه رواية تخالف الآخري، ولا مانع من أن يكون الأمران قد وقعا، وخصوصا أن الأولى رواها جابر والثانية رواها سلمان الفارسي، ولكل رواية واقعة، وفي كل واحدة منهما خارق للعادة، ففى الأولى كانت نضحة الماء الذى فيه تفل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد أذابت الصخر فجعلته ككثيب الرمال. والخارق في الثانية أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد أجرى الله تعالى على يديه ما كشف له به أنه سيفتح الله تعالى أمة اليمن وما وراءها والشام وما وراءها إلى المغرب، والمشرق، وهو يمتد إلى الهند والصين.

الجوع والطعام:

ونحن لا ننكر خوارق العادات، ولا يمكن أن ننكرها قط على نبينا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، ولكن يجب أن نؤكد هنا، ما أكدناه من قبل، وهو أن هذه الخوارق التى أجراها الله تعالى على يد رسوله محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ليست هى معجزته التى تحدى فيها الناس أن يأتوا بمثلها، إنما المعجزة الكبرى هى القرآن الذى تحدى العالمين أن يأتوا بمثله، ولا يمكن أن يأتوا بمثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا. الجوع والطعام: 461- قلنا إن حفر الخندق اقترن بمشقة شديدة في الحفر ذاته، وبمشقة أشد في الجوع للبعد عن قلب المدينة، ولانقطاع المؤمنين عن العمل للرزق، بالانصراف للحفر، غير مدخرين أى جهد لغيره، وحتى ما يقوم به الأود، وإن الجهاد في سبيل الله غذاء النفوس يقبلون عليه ولو تعبت في سبيله الأبدان، وأرهقت الأجساد؛ لأنهم يريدون ما عند الله، وعنده الفوز العظيم. وإن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم هو الأسوة الحسنة في الصبر وضبط النفس، والجلادة وتحمل الجوع، حتى إنه صلى الله تعالى عليه وسلم ليشد الحجر على بطنه حيث لا يجد ما يذوقه. لقد عرض البخارى حديث جابر عن الكدية، وجاء فيه «إنا يوم الخندق نحفر حفرة، فعرضت كدية شديدة، فجاؤا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق. فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أنا نازل، ثم قام وبطنه معصوب بحجر، ولبثنا ثلاثة أيام، لا نذوق ذواقا» . تلك صورة للجوع الذى كانوا فيه، وهم يجالدون، ويبذلون ما لا يبذله إلا أقوياء الرجال في دينهم ونفوسهم، وهنا نجد الخوارق تكون في بركة الطعام القليل الذى يتغذى منه العدد الكثير. ويذكر ابن إسحاق في ذلك روايتين في بركة الطعام. أولاهما: البركة في تمر ابنة بشير: ذكر ابن إسحاق بسنده «أن ابنة لبشير بن سعد أخت النعمان بن بشير حدثت فقالت: دعتنى أمى عمرة بنت رواحة أخت عبد الله بن رواحة الشاعر الأنصارى فأعطتنى حفنة من تمر في ثوبي، ثم قالت: أى بنية اذهبى إلى أبيك وخالك عبد الله بن رواحة بغذائهما فأخذتها، فانطلقت بها، فمررت برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأنا ألتمس أبى وخالي، فقال عليه الصلاة والسلام: «تعالى يابنية ما هذا الذى معك» فقلت: يا رسول الله هذا تمر بعثتنى به أمى إلى أبى بشير بن سعد وخالى عبد الله بن رواحة يتغذيانه.

قال صلى الله تعالى عليه وسلم: هاته. فصببت في كفى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فما ملأهما ثم أمر بثوب فبسط له، ثم دعا بالتمر عليه، فتبدد فوق الثوب، ثم قال لإنسان عنده اصرخ في أهل الخندق أن هلمّ إلى الغداء فاجتمع أهل الخندق، فجعلوا يأكلون منه، وجعل يزيد، حتى صدر أهل الخندق عنه، وإنه ليسقط من أطراف الثوب. الثانية: وهى تشبه هذه. وإن كان قد اختلف موضوعها، ذكر ابن إسحاق عن جابر بن عبد الله أنه قال: عملنا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في الخندق، وكانت عندى شويهة ليست جد سمينة، فقلت: لو صنعناها لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فأمرت امرأتى فطحنت لنا شيئا من الشعير، صنعت لنا منه خبزا، وذبحت تلك الشاة، فشويناها لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. فلما أمسينا وأراد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الانصراف من الخندق، قلت: يا رسول الله إنى قد صنعت لك شويهة كانت عندنا، فأحب أن تنصرف معى إلى منزلي، وإنما أريد أن ينصرف معى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وحده، فلما قلت له ذلك قال نعم، ثم أمر فصرخ صارخ أن انصرفوا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى بيت جابر بن عبد الله. قلت: إنا لله وإنا إليه راجعون. أقبل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأقبل الناس معه، فجلس وأخرجناها إليه فبرك وسمي، ثم أكل، وتواردها الناس، وكلما فرغ قوم قاموا وجاء ناس، حتى صدر أهل الخندق عنها، أى أن الشاة غير السمينة كفتهم جميعا. ولا شك أن هذين الخبرين بهاتين المسألتين يدلان على خارق للعادة جرى على يدى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وكم للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم في ذلك من خوارق، منه ما ذكرنا، فى لقائه عليه الصلاة والسلام، وغذائه في بيت أم معبد وهو في طريقه إلى الهجرة. وإن الخبر يدل فوق ذلك على الجهد الشديد الذى أصاب الصحابة ومعهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من قلة الطعام. ويدل على أمر سام، وهو فضل التعاون، وهو أنه كان لا ينفرد أحدهم بطعام عن الباقين بإرادة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وهديه وحكمته.

اللقاء

اللقاء 462- أقبلت قريش ومن معها من كنانة وتهامة والأحباش وكانوا في عدد كبير بلغ آلافا منهم وممن معهم ونزلوا في أسيال رومة بين مكانين أحدهما اسمه الجرف، والآخر اسمه زغابة، وأقبلت غطفان ومن تبعهم من أهل نجد، ونزلوا عند أحد. وكان عدد قريش أربعة آلاف، وعدد من معهم ستة آلاف، وكانت لهم قيادات مختلفة، فكان يقود قريشا أبو سفيان بن حرب، وكانت غطفان بقيادة عيينة بن حصن وكان ثمة قواد يقودون أعدادا ليست بالكبيرة نسبيا، فكانت أشجع بقيادة مسعود ابن رخيلة وعددهم أربعمائة، وكانت سليم يقودهم سفيان بن عبد شمس، وعددهم سبعمائة. لم تكن لهؤلاء قيادة موحدة ترسم الخطة، ويتبعها الجميع، وإن جعل كل قيادة علي قومها يتولي القوم رجل منهم، وقد يكون ذلك مفيدا في ذاته، ولكن يجب أن تكون ثمة قيادة عامة ترسم للجميع. ومهما يكن فهم لم يختلفوا لأنهم جاؤا إلي المدينة، فلم يجدوا ما يمكنهم من الهجوم جميعا أو متفرقين، وما كان سبب الهزيمة التى منوا بها بنصر الله للمؤمنين بالريح والرعب. ولقد جاؤا إلي المدينة يحسبون أنهم يغيرون عليها، وليفرقوا أو يقضوا عليهم ويسبوا نساءها، لقد جاؤا بعد ما تم حفر الخندق. فوجئوا بأنهم لا قبل لهم بأن يدخلوا المدينة، فوجئوا بالخندق يحول بينهم وبين أن يقتحموا جند المؤمنين، ولم يكن لهم عهد بمثله، ورأوا كيدا لم يكن بتدبير عربي، بل بعقل آخر، وبذلك لم يروا أن مهمة القضاء علي محمد وأصحابه سهلة، إنها تحتاج إلي تدبير آخر غير ما دبروا، وأن يدخلوا إلي المدينة من غير هذا المكان. فإنه لا يمكن أن يدخل منه جند كثيف كعددهم. عندئذ تحرك حيي بن أخطب الذي جمع متفرقهم، وإن لم يكونوا مندمجين موحدين في قيادتهم، وإنه إذا نجح في تحريضهم، لا يمكن أن يتخاذل عن أن يضم إليهم بنى قريظة، وقد كانوا يتمنون الغوائل للمؤمنين. ويريدون الوبال لهم، وربما كان لهم سعي في الحركة، وإن لم يكن ظاهرا، تسلل إليهم حيي ليكونوا وراء المؤمنين، وقد يحيط الجميع بهم، وليجدوا منفذا إلي المدينة عن طريقهم، ويعملوا معهم، ويكون المشركون من فوقهم، وبنو قريظة من أسفلهم. لم يكن بنو قريظة ممن يغامرون وكانوا حريصين علي الحياة كشأن اليهود كما قال تعالى فيهم «وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ» (البقرة- 96) . دخل حيي بن أخطب علي كبيرهم كعب بن أسد القرظي، الذي وادع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم علي قومه وعاهده، وقد رده ابتداء ردا عنيفا، وقال له: إنك امرؤ مشئوم، وإني قد عاهدت محمدا، فلست بناقض ما بيني وبينه، ولم أر منه إلا وفاء وصدقا، وبعد أن عرض بشجاعته، فتح له الباب.

ولننقل لك الحديث لتعرف ما كانت تجري به الأمور، وما كان يسري في النفوس. قال حيي: ويحك يا كعب، جئتك بعز الدهر، وببحر طام، جئتك بقريش علي قادتها وسادتها حتي أنزلتهم بمجتمع الأسيال من رومة، وبغطفان علي قادتها وسادتها حتي أنزلتهم علي جانب أحد، قد عاهدونى وعاقدوني علي ألا يبرحوا حتى يستأصلوا محمدا ومن معه. قال له كعب: جئتني والله بذل الدهر، وبجهام قد هراق ماؤه (أي بسحاب قد نزل ماؤها) فإني لم أر من محمد إلا وفاء وصدقا. فلم يزل حيي يتحايل بالقول، ويفتل بالذروة والغارب حتي سمع له واستجاب لما يطلب، وبذلك كشف طبع اليهودي، فهو لا يفي بعهد شرفا وكرامة ولكن يفي مضطرا خوف الذل والمهانة، ولذلك وافق عند ما أقنعه بأن القوة مع قريش، وأمنه علي مستقبله، فأعطاه عهدا وأعطاه ميثاقا قائلا له: لئن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمدا أن أدخل معك في حصنك، حتي يصيا بني ما أصابك. اطمأن كعب، فنقض العهد. وهو من شيمته، وما كان التمسك إلا حرصا منه علي نفسه، وخوفا عليها، فأتاه الشيطان من ناحية نفسه، فاقتنع، والعداوة فيه أصيلة. ولذلك سرعان ما انضمت قريظة إلي الأحزاب التي جاءت من المدينة وكان ذلك فيما بينهم وبين حيي، وعمل علي أن يبلغه لقريش ومن معهم. ولكن وصل الخبر إلي النبي صلي الله تعالى عليه وسلم، وهو الحذر الحريص الذي لا يؤتي من غفلة صلى الله تعالى عليه وسلم. أراد النبي صلي الله تعالى عليه وسلم أن يستوثق ليكون الخبر كالعيان فأرسل إلي بني قريظة سيد الأوس سعد بن معاذ، وسيد الخزرج سعد بن عبادة ومعهما عبد الله بن رواحة. وقال لهم: انطلقوا حتي تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا، فإن كان حقا فالحنوا إليّ لحنا أعرفه ولا تفتوا في أعضاد الناس، وإن كانوا علي الوفاء فيما بيننا فاجهروا به أمام الناس. ذهبوا إليهم فوجدوهم علي أخبث حال، نالوا من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وأنكروا العهد وقالوا: لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد، وقالوا منكرين من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فلم يطق سعد بن معاذ صبرا فشاتمهم وشاتموه، وقال له سعد بن عبادة: دع عنك مشاتمتهم، فما بيننا وبينهم أدني من المشاتمة.

عاد السعدان إلي رسول الله صلي الله تعالى عليه وسلم، وذكرا لرسول الله صلي الله تعالى عليه وسلم غدرهم، ولكن بلحن القول، لا بصريحه حتى لا يفت ذلك في أعضاد المسلمين. 463- جاء المشركون من أعلي واليهود من أسفل، والمنافقون في داخل المسلمين يقولون ويوهنون العزائم، ويضعون في النفوس روح التردد والهزيمة والنفاق، وزلزلت قلوب ضعفاء المؤمنين، وظنوا بالله الظنون، حتي قال بعض ضعفاء الإيمان قول غير المؤمنين: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن علي نفسه أن يذهب إلي الغائط، ووجد من يستأذن في التخلف من أولئك الضعاف في إيمانهم، حتى قال بعضهم: يا رسول الله، إن بيوتنا عورة من العدو، وذلك علي ملأ من رجال قومه، فأذن لنا أن نرجع إلي دارنا. وإن أبلغ التصوير للنفوس في هذا الهول هو كلام الله تعالى عن الأحزاب وآثارهم، فيصف ما في الأنفس العليم بذات الصدور، يقول سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً. إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ، وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا. هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً. وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً. وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ، يا أَهْلَ يَثْرِبَ، لا مُقامَ لَكُمْ، فَارْجِعُوا، وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ، يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ، وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ، إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً. وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها، وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً. وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا. قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ، وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا. قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً، وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً. قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ، وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا. أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ، فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ، أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ، أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً. يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ، وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا. لَقَدْ

كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً. وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً. مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا. لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ، إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً. وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً، وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً. وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ، وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً. وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها، وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (الأحزاب- 9: 27) . هذا أدق وصف لحال النفوس في ذلك الهول، فهل وهنت إرادة النبي صلي الله تعالى عليه وسلم أوضعفت عزيمته، بل كان يؤمن بنصر الله تعالى ويدبر الأمور، ويأخذ الأهبة بعزم الرسول، وهو من أولي العزم من الرسل، فضرب المثل لمن معه من المؤمنين. 464- تقدم للميدان بثلاثة آلاف من المقاتلين، وأمر بالذراري والنساء أن تكون في أطم، أي مبان متينة تكون كالحصون لكيلا يكونوا تحت عين بني قريظة، ولكيلا يكون المجاهدون في فزع علي نسائهم وذريتهم ولكيلا يصيبوا منهم غرة. وإن النبي صلي الله تعالى عليه وسلم وضع حراسة علي المدينة خشية أن ينقضوا عليها، فأقام سلمة بن أسلم علي مائة من الرجال، وأقام زيد بن حارثة علي ثلاثمائة أخري لحراسة المؤمنين من اليهود. وذلك كله حذرا من المشركين، وكان لا بد من اتخاذ المكيدة، والحرب مكيدة وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (الأنفال- 30) . فأراد عليه الصلاة والسلام أن يخذل المشركين بعضهم عن بعض بإثارة الطمع في بعضهم، فيتخلون عن باقيهم، فأراد أن يطمع غطفان ومن معها من نجد، فأرسل إلي عيينة بن حصن وإلي الحارث بن عوف بن أبي حارثة من قوادهم، فطلب إليهما المصالحة علي أن يأخذوا ثلث ثمار المدينة، فقبلوا ذلك طمعا منهم، وأن يعودوا، وكتبوا الكتاب من جانبهم ولم يكن من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم شهادة ولا عزيمة صلح، لأنه لا يمكنه أن يعزم ذلك من غير مشورة أهل الثمار، فلما عرض عليهم من بعد أن جاء الكتاب، وكان ذلك العرض أن بعث إلى سعد بن معاذ سيد الأوس وسعد بن عبادة سيد الخزرج، فذكر لهما ذلك، واستشارهما.

قالا له: يا رسول الله، أمر تحبه فتصنعه أم شيء أمرك الله به لا بد لنا من العمل به؟ قال صلي الله تعالي عليه وسلم: بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك، إلا لأنني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم شوكتهم إلي أمر ما. قال سعد بن معاذ: يا رسول الله قد كنا نحن وهؤلاء علي الشرك بالله، وعبادة الأوثان لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا شراء أو بيعا، أفحين أكرمنا الله تعالى بالإسلام، وهدانا إليه، وأعزنا به وبك تعطيهم أموالنا، والله ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم. قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: فأنت وذاك. فتناول سعد الصحيفة فمحا ما فيها من الكتاب، وبذلك انتهت إرادة الصلح، إن كانت. وقد أفاد عرض الصلح أمرين عظيمين. أولهما: أن النبي صلي الله تعالى عليه وسلم علم عزمة أصحابه، وأنهم يريدون لقاءهم. ثانيهما: أن ذلك أطمع غطفان ومن معها من القبائل، والطمع إذا سكن حل العزيمة وقد ترتب علي ذلك الإطماع، أنهم تململوا بطول الحصار وجري بينهم وبين القرشيين خلاف، وهموا أن يعودوا من حيث جاؤا من غير أن ينالوا شيئا. 465- بهذا العرض خذل النبي صلي الله تعالى عليه وسلم بين قريش وبين من جاؤا بهم من الأعراب، وبقي أن يخذل بين اليهود وبين المشركين، وساق الله تعالى إليه من رضي بأن يكون لسان ذلك التخذيل. فقد أتي رجل من غطفان هو نعيم بن مسعود وقال: يا رسول الله إني قد أسلمت، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت، فقال صلي الله تعالى عليه وسلم: إنما أنت فينا رجل واحد فخذل عنا إن استطعت، فإن الحرب خدعة. خرج نعيم بن مسعود حتى أتي بني قريظة وكان لهم نديما في الجاهلية فقال: يا بني قريظة قد عرفتم ودي إياكم وخاصة ما بيني وبينكم، إن قريشا وغطفان ليسوا كأنتم، البلد بلدكم فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، لا تقدرون علي أن تجلوا منه إلي غيره، وإن قريشا وغطفان قد جاؤا لحرب محمد وأصحابه وقد ظاهرتموهم عليه، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره، فإن رأوا نهزة أصابوها وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم، وخلوا بينكم وبين الرجل، ولا طاقة لكم به إن خلا بكم، فلا تقاتلوا مع القوم،

حتي تأخذوا منهم رهناء من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم علي أن تقاتلوا معهم محمدا حتى تناجزوه. قالوا: لقد أشرت بالرأى. كان هذا تنبيه صدق لبني قريظة، وإن كان القصد تخذيلهم عن قريش، ولم يكن كاذبا. ذهب من بعد إلي أبي سفيان بن حرب قائد قريش، وقال: عرفتم ودى لكم، وفراقي محمدا، وإنه قد بلغني أمر قد رأيت عليّ حقا أن أبلغكموه نصحا لكم، فاكتموا عني! فقالوا: نفعل، قال: تعلموا أن معشر يهود قد ندموا علي ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد، وأرسلوا إليه، إنا قد ندمنا علي ما فعلنا، فهل يرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين من قريش وغطفان رجالا من أشرافهم فنعطيكهم، فتضرب أعناقهم، ثم نكون معك علي ما يبقي فنستأصلهم، فأرسل إليهم أن نعم، فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون منكم رهنا، فلا تدفعوا إليهم منكم رجلا واحدا. ثم خرج إلي غطفان فقال لهم مثل ما قال لقريش. بعد هذا التحذير من ذلك المسلم التقي المدرك، أرسل أبو سفيان عكرمة بن أبي جهل يستنهض قريظة للقتال وقال لهم: إنا لسنا بدار مقام، قد هلك منا الخف والحافر، فاغدوا للقتال حتي نناجز محمدا ونفرغ مما بيننا وبينه، وكان اليوم يوم سبت، فاعتذروا، وقالوا: لا نعمل فيه شيئا، وكان بعضنا قد أحدث فيه حدثا، فأصابه ما لم يخف عليكم ... ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم محمدا، حتي تعطونا رهنا من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا، حتي نناجز محمدا، فإنا نخشي إن ضرستكم الحرب واشتد عليكم القتال، أن تتشمروا إلي بلادكم وتتركونا، والرجل في بلدنا لا طاقة لنا به، ولا طاقة لنا بذلك منه. هكذا أدركت قريش أن بني قريظة تريد أن تأخذ لنفسها أمانا من الرجعة فيما تقول، وهي تريد قتلهم، وأدركت قريظة أنهم لا يريدون تأمينها. وبذلك تم ما أريد من التخذيل بينهم، وأشد التخذيل ما يكون بفقد الثقة وأن يتظنن كل فريق. ولكن الفريقين مع ذلك استمروا في غيهم، فكانوا يبثون العيون علي أطم المسلمين التي بها الذراري والنساء، لينقضوا عليهم، وينالوا من النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه. فإذا كان للتخذيل أثر، ففي فقد الثقة بين الفريقين، ولكن عداوة النبي صلي الله تعالى عليه وسلم ما زالت تجمع بينهما، فلم تنخلع قريظة عن الإيذاء وإرادة الانقضاض علي بيوت المؤمنين.

عين من اليهود حول أطم آل النبى:

عين من اليهود حول أطم آل النبى: 466- كانت صفية بنت عبد المطلب عمة النبي صلي الله تعالى عليه وسلم في أطم (حصن) لحسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه، ولم يكن محاربا، فكان من الصبيان والنساء، ولم يكن الحجاب قد نزل، قالت صفية، فمر بنا رجل من يهود، فجعل يطيف بالحصن، وقد حاربت قريظة، وقطعت ما بينها وبين رسول الله صلي الله تعالى عليه وسلم، فعلمت ابنة عبد المطلب من أنه يطيف بمساكن الذراري والنساء، ومن أن قريظة قطعت ما بينها وبين النبي صلي الله تعالى عليه وسلم، أن هذا الرجل عين علي المسلمين، ويريد عورات النبي صلي الله تعالى عليه وسلم. قالت السيدة صفية لحسان الشاعر، ليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنا، ورسول الله صلي الله تعالى عليه وسلم والمسلمون في نحور عدوهم لا يستطيعون أن ينصرفوا عنهم إلينا، إن أتانا آت، وإن هذا اليهودي يطيف بالحصن، وإني والله ما آمنه أن يدل علي عورتنا من وراءنا من يهود، وقد شغل عنا رسول الله صلي الله تعالى عليه وسلم، وأصحابه، فانزل إليه فاقتله: قال حسان: يغفر الله لك يا بنة عبد المطلب، والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا. ولما لم أر عنده شيئا احتجزت (أي شدت وسطها) ثم أخذت عمودا، ثم نزلت من الحصن إليه فضربته بالعمود، حتي قتلته، فلما فرغت منه ورجعت إلي الحصن، فقلت: يا حسان انزل إليه فاسلبه، فإنه لم يمنعني من سلبه إلا أنه رجل، فقال: مالى بسلبه من حاجة يا بنة عبد المطلب. وقد ذكرنا هذه القصة لا لنثبت شجاعة أخت حمزة أسد الله، ولا لحال حسان رضي الله عنه، ولكن ذكرناها، لنعلم منها كيف كان اليهود حريصين علي أن يأتوا دور النبي والصحابة في غيبتهم. الجيشان: 467- تلاقي الجيشان: يعتز جيش الشرك بكثرة العدد وكثرة العدة، وأنه من جميع العرب، ويعتز بأنه استطاع بمحالفته لبني قريظة أن يحيط بالمدينة، وأنه يستطيع الانقضاض عليها من طريق حلفائه، ولكن لم يتنبه بأن فيه ضعفا، بتفرق كلمته، إذ أن تعدد القواد، لا يوجد كلمة قيادة موحدة تحسن الهجوم الموحد، وبذلك لا تغني عنهم كثرتهم شيئا، لأن الكثرة المتفرقة خير منها القلة المتحدة، المتالفة المتازرة، وهذا عيب ذاتي في أصل تكوين الجيش من أحزاب.

اجتياز الخندق

وفوق ذلك ما كان من إطماع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لغطفان وعدتهم ستة آلاف في صلح يأخذون فيه ثلث ثمار المدينة، وإن ذلك يثير طمعهم، ويفت في عضدهم، وإن كان أمر الصلح لم يبت فيه، ولكن بابه مفتوح لم يغلق. ثم فوق هذا وذاك فقد الثقة بينهم وبين قريظة الذى لم يجعل ثمة فائدة في التحالف معهم، وإن كانوا قد عملوا في إيجاد الذعر بين المؤمنين، وربما كان منهم من حاول الهجوم على دور النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وآل بيته الكرام، وقد رأينا عيونهم تنبث في المدينة. هذا جيش المشركين ومن معهم، أما جيش أهل الإيمان، فقد خلصته الشدة من المنافقين فيه وضعفاء الإيمان من الذين زلزلوا، وكان خالصا صافيا، وليس فيه إلا من قال الله فيهم: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ، وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (الأحزاب- 23) . اجتياز الخندق 468- فوجيء المتجمعون من المشركين بالخندق، إذ لم يكونوا يعرفونه فلم يكونوا أهل حروب جماعية، فعرفوا تدبيرها ومكايدها كما أشرنا من قبل، ورأوه سدا يحول بينهم وبين أن ينقضوا جمعا متكاتفا على المدينة، فيقتلعوا الإسلام منها اقتلاعا، وبذلك طاش أوّل هدف لهم. ولكن بعضهم وجدوا ثغرة منه فقد استطاع بعض فرسانهم أن يقتحمها ومنهم عكرمة بن أبى جهل، وبعض بنى مخزوم، وعمرو بن عبد ود العامرى العربى المرهوب الذى حضر بدرا وأثخن بالجراح، ولم يحضر يوم أحد لجراحه، وقد خرج يوم الخندق معلما ليرى مكانه، ويعلم أنه جاء لشفاء غيظه. وقد خرج مناديا للمبارزة، وأراد على أن يخرج له فرده النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مرتين حتى عير المسلمين، فعندئذ خرج على إليه ولم يمنعه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. فلما التقيا قال له على داعيا إلى الهدى: يا عمرو، إنك قد كنت عاهدت الله ألا يدعوك رجل من قريش إلى إحدى خلتين إلا أخذت منه خيرهما. قال عمرو: أجل. قال على: فإنى أدعوك إلى الله ورسوله وإلى الإسلام. قال: لا حاجة لى بذلك.

الهجوم على بيوت المؤمنين

قال على: فإنى أدعوك إلى النزال. فقال له: لم يابن أخى، فو الله ما أحب أن أقتلك، قال له على: لكنى والله أحب أن أقتلك، فحمى عمرو عند ذلك واقتحم عن فرسه، وعقره. ونزل للقاء على، ويظهر أن عليا كان راجلا، فأبى أن يقاتل عليا إلا راجلا. ثم أقبل على على، فتجاولا وضرب ضربة تلقاها على بدرقته، ولكنها اخترقتها وجرحت رأس على، فضربه على ضربة في ترقوته فقتلته، وكانت ضربات على أبكارا: عندئذ كبر المسلمون، فعلم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن عليا رضى عنه قد قتله. أقبل على نحو رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ووجهه يتهلل، فقال له عمر بن الخطاب: هل استلبته درعه، فإنه ليس للعرب درع خير منها، قال على: ضربته، فاتقانى بسوءته، فاستحييت ابن عمى أن أسلبه. ويظهر أنه كان عظيما بين المشركين يعزونه فأرسلوا يطلبون جثمانه بمال يقدمونه، فأعطاهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إياه، وقال: هو لكم لأننا لا نأكل ثمن الموتى. كان أولئك الذين قد اجتازوا الخندق وفيهم عكرمة، وغيره، وفي بعض الروايات فيهم خالد بن الوليد، قد رأوا ما كان بين على وعمرو بن عبد ود الذى كان كما قيل لم يهزم في مبارزة قط، ولم يلبثوا من بعد مقتله إلا أن يجتازوا الخندق كما بدأوا، وما تقدم أحد منهم لعلى بعد أن قتل عمرو بن عبدود. وقد ذكر ابن جرير في تاريخه أن نوفل بن عبد الله بن المغيرة تورط في الخندق، ورماه المؤمنون بالحجارة وجعل يقول: قتلة أحسن من هذه، فنزل إليه على وقتله، وروى أن الذى قتله الزبير بن العوام، وطلبت قريش جثته بعد قتله في نظير مال، فأعطاه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من غير مال، وقال لا نأكل ثمن الموتى. الهجوم على بيوت المؤمنين 469- استمر الحصار قائما بعد الهجمة التى هجمها الذين اجتازوا الخندق من مكان ضيق غير مرتفع، وقد قتل اثنان من المشركين فيه، وهما نوفل المخزومى، وعمرو بن عبد ود العامرى، ثم الرهبة بعد ذلك من اجتيازه، وكان النبل من الجيش منهمرا كالسيل، والمسلمون ينالونهم بالرمى أيضا، وقد قتل منهم واحد بالنبل، وقتل من المسلمين خمسة، أصيبوا فقتلوا والسادس كان هو سعد بن معاذ الصحابى الجليل الذى كان ثانى اثنين ذهبا إلى بنى قريظة، ورأوا خيانتهم للعهد في وقت الشديدة، وسعد رضى الله عنه كان قد خرج إلى الميدان بدرع غير سابغة، فذراعاه كانتا عاريتين، وأصابه سهم في

أكحله، أثبته، ولكنه دعا الله تعالى ألا يموت إلا بعد أن يرى في بنى قريظة جزاء غدرهم فعاش رضى الله تعالى عنه، حتى كان هو الحاكم فيهم ثم قبضه الله تعالى إليه راضيا مرضيا. كانت المناوشة إذا بين النبى صلى الله تعالى عليه وسلم والمشركين، إذ عجزوا عن أن يصلوا إلى المؤمنين والخندق أمامهم، والمؤمنون الصادقون من على وإخوانه من ورائه، ومعهم سيوف تبرق. فلم يكن لهم إلا الهجوم على بيت النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من أسفل المدينة، وإن ذلك كما يظهر من جانب قريظة، فهو الجانب الذى يمكن أن يجيء الشرك إلى المدينة من جانبه، وإن الظن أن بنى قريظة هم الذين قاموا به تأييدا لحلفائهم الذين نقضوا الميثاق من أجلهم، وليشفوا غيظهم، ولينالوا ثأر بنى النضير وبنى قينقاع من إخوانهم، وإن كان ما أصابهم إنما هو بالاعتداء ونقض العهد، وغدرهم برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. يقول ابن كثير في تاريخه نقلا عن عقبة بن موسى «وجهوا نحو منزل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كتيبة فقاوموهم يوما إلى الليل، فلما حانت صلاة العصر رجعت الكتيبة فلم يقدر النبى ولا أحد من أصحابه الذين كانوا معه، أن يصلوا الصلاة على نحو ما أرادوا، فانكفأت الكتيبة مع الليل، وروى أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: شغلونا عن الصلاة ملأ الله بطونهم وقلوبهم وقبورهم نارا» . وإن هذا الخبر يفيد أن الذين كانوا على حراسة المؤمنين من خيانة بنى قريظة هم الذين قاتلوهم، وأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لحق بأولئك المجاهدين الأبرار، وردوهم فلم ينالوا شيئا من بيوت المؤمنين، وأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إذ لحق بأولئك المجاهدين ترك حراسة الخندق للمجاهدين من المؤمنين الذين صدقوا ما عاهدوا الله تعالى عليه، وما بدلوا تبديلا. وإن كانوا لم ينالوا منالهم، فقد أزعجوا البيوت في المدينة، وتلك هى الجريمة الكبرى التى ارتكبها القرظيون بنقضهم للميثاق كشأن أسلافهم وأعقابهم من بعدهم، وإن ذلك أمارة اشتداد البلاء، وأن الجمع بين صلاة العصر والمغرب في وقت المغرب قد ثبت في صحاح السنة في هذه الموقعة. فقد رواه البخارى ومسلم والترمذى والنسائى، وصيغته كما في البخارى عن جابر بن عبد الله أن عمر بن الخطاب جاء يوم الخندق بعد ما غربت الشمس فجعل يسب كفار قريش، وقال: يا رسول الله ما كدت أصلى حتى كادت الشمس تغرب، قال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم «والله ما صليتها» فنزلنا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فتوضأ للصلاة، وتوضأنا، فصلى العصر بعد ما غربت الشمس. ثم صلى بعدها المغرب.

دعاء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم واستجابته

وإن هذا يدل على جواز الجمع بين الصلاتين جمع تأخير لعذر الحرب، وأجازه أحمد لعذر الحرب ولغيره. دعاء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم واستجابته 470- أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ، وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا، حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (البقرة- 214) . اشتد البلاء على الرسول والذين معه، فقد كانوا محاصرين نحو عشرين ليلة، وكان من القرظيين تلك الخيانة، وإن هموا بكتيبة غليظة أن يغزوا بيت النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. نعم إنه لم تكن الشديدة على المؤمنين وحدهم، بل كان جيش الشرك في ليال برد شديدة البرودة، وقد قل الزاد، وجف الحافر- وأصابهم سوء الظن بعضهم ببعض حتى قال أبو سفيان متكلمهم إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع والخف، وأخلفتنا بنو قريظة. كانت حال المؤمنين قابلة للصبر بالإيمان، أما غيرهم فلا إيمان يعزيهم، ولا رجاء فيما عند الله يشجعهم، وأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم دائم الاتجاه إلى ربه، ورويت عنه في هذه الواقعة عدة أدعية نبوية مفوضة ضارعة، تكررت فكانت الاستجابة كما قال تعالى: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ. وكان من دعائه في هذه الشدة ما رواه الإمام أحمد أنه قال: «اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا» ، ومن دعائه ما رواه الإمامان مسلم والبخارى «اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب اهزم الأعداء، اللهم اهزمهم وزلزلهم وانصرنا عليهم» . ومن دعائه ما رواه البخارى عن أبى هريرة أنه كان يقول: «لا إله إلا الله وحده، أعز جنده، وأعز عبده، وغلب الأحزاب وحده، فلا شيء بعده» . وقد استجاب الله تعالى لرسوله، ومن أحق بالاستجابة من الرسول، والدعاء عبادة، وأى عبادة أطهر وأنقى وأخلص من عبادة الرسول. أرسل الله عليهم ريحا صرصرا عاتية في يوم برد شديد البرودة، وأرواح الله الطاهرة تبث الرعب في نفوسهم، وفسد ما بينهم وبين أنفسهم، فتخاذلت غطفان عن قريش، وتظننت قريظة فيها وتظننوا فيها بل روى أنهم أرسلوا إلى الرسول يطلبون إليه الصلح على أن يرد بنى النضير إلى أرضهم.

جاءهم الخوف وقد سكن قلوبهم، وجاءت الريح تزعجهم، حتى أن أبا سفيان يقول: لقينا من شدة الريح ما ترون! ما تطمئن لنا قدر، ولا تقوم لنا نار، ولا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا، فإنى مرتحل. ارتحلوا مذعورين مخذولين، وتركوا من ورائهم متاعهم. وما نالوا من المؤمنين، فقد قتلوا بالنبال من المؤمنين ستة، وقتل المؤمنون منهم ثلاثة فيهم عمرو بن عبدود، الذى كان يعد بالعدد من الرجال، ولا يعد بالواحد، قتله فارس الإسلام على بن أبى طالب ولننقل ما ذكر الله تعالى في بيان ختام الواقعة، ونكرر التلاوة إذ تلوناه من قبل: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً، وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ، وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (الأحزاب- 25) . قال الله تعالى في أثناء وصف القصة، وبيان نتائجها: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها، وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً. وبذلك انتهت معركة الأحزاب، التى اهتزت لها الجزيرة العربية كلها، ونادت بالويل والثبور، وأنها مقتلعة الإسلام من موطنه، فباؤا بخسران مبين، منهزمين في الميدان، ومضطربين في نفوسهم، وقد رأوا من آيات ربهم الكبرى ما رأوا. فقد جاء في كتاب مغازى الواقدي: لما ملت قريش كتب أبو سفيان كتابا وبعثه مع أبى سلمة الخشنى. جاء فيه: باسمك اللهم، فإنى أحلف باللات والعزى وأساف ونائلة وهبل، لقد سرت إليك في جمعنا، وإنا لا نريد ألا نعود إليك أبدا، حتى نستأصلكم، فرأيناك قد كرهت لقاءنا، فجعلت مضايق وخنادق، ليت شعرى من علمك هذا، فإن نرجع عنكم، فلكم منا يوم كيوم أحد تنتصر فيه النساء. فكتب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: من محمد رسول الله إلى أبى سفيان بن حرب. أما بعد فقد أتانى كتابك، وقد غرك بالله الغرور. أما ما ذكرت أنك سرت إلينا في جمعكم، وأنك لا تريد أن تعود حتى تستأصلنا، فذلك أمر الله يحول بينك وبينه، ويجعله لنا حتى لا تذكر اللات والعزى، وأما قولك من علمنا الذى صنعنا من ذلك، فإن الله ألهمنى ذلك، لما أراد من غيظك، وغيظ أصحابك، وليأتين عليك يوم أكسر فيه اللات والعزى، وأساف ونائلة وهبل حتى أذكرك ذلك.

نتائج غزوة الخندق

نتائج غزوة الخندق 471- كانت لهذه الغزوة نتائج طيبة: (أ) إذ رد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا، وقد بذلوا أقصى ما يستطيعون فيها، جمعوا العرب ليغزوا المدينة فما رجعوا إلا بستة من القتلى يقابلهم ثلاثة فيهم فارسهم وقد قتله فارس المسلمين على كرم الله وجهه. وإن أثر هذا أن ألقى اليأس في قلوبهم من أن ينالوا من النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وما كانوا ليستطيعوا أن يقوموا بمثل ما قاموا به، فكان لسان حالهم يقول، لا نستطيع لمحمد سبيلا، ولقد قال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم «لا تغزوكم قريش بعد عامكم هذا. ولكنكم تغزونهم» ، ولقد أشار القرآن الكريم بذلك، فقال تعالى وهو أصدق القائلين وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ. (ب) وإن العرب الذين كانوا قد طمعوا في المؤمنين بعد غزوة أحد التى أشاع المشركون فيها أن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم وصحبه قد هزموا، قد استكانوا، ولم يعودوا طامعين في نصر، بل نأى بهم الخوف عن أن ينالوا منالا، أو يدبروا أمرا، فلا يفكروا في اعتداء أو غدر، أو ممالأة، وإن ذلك اليأس قد يدفعهم إلى التفكير فيما يدعو إليه محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، ولذلك كثر الذين يجيئون إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم داخلين في الإسلام أفواجا وفرادى، إذ أن الغواشى قد زالت، ومن ذلك كانت وفود القبائل العربية يجيئون يتعرفون الإسلام. (ج) وأن الآيات المادية قد تؤثر في أولئك الماديين الحسيين، وخصوصا إذا كانت في موطن الفزع، فإنها إذا جاءت من غير سبب يألفونه ويعرفونه، فإنها قد تأخذ عقولهم إلى التفكير السليم وتخلعها من الوثنية، إذ يدخل إليها نور الحق شيئا فشيئا، والنور كلما دخل أشرق، وإذا أشرق اتجهوا إلى الحق وطلبوه وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. (د) وإن اليهود قد ظهرت نياتهم لمرأى العين، وانكشفت وصار ما تخفيه صدورهم أمرا معروفا. فقد كانت هذه الشديدة، التى ادلهمت مبينة ما يبيته اليهود للمؤمنين، بل تكشفت الوجوه ولم تسترها همزة النفاق، وصاروا وجها لوجه أمام النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. (هـ) وقد بينت واقعة الخندق أن أهل الباطل جمعهم متفرق، فقد اجتمعوا، ولكن سرعان ما اختلفت نوازغهم بين المشركين أنفسهم، بما أبداه غطفان من الميل للصلح والعودة، وبما كان بين المغيرين والقرظيين.

غزوة بنى قريظة

غزوة بنى قريظة 472- إن هذه الغزوة إحدى نتائج الفشل الذريع الذى منيت به غزوة قريش ومن معهم للمدينة. وحيلولة الخندق بينهم وبين أن يدخلوها. فإن بنى قريظة قد ارتضوا نكث العهد، أو نقض الميثاق الذى كان بينهم وبين النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد حاولوا أن ينقضوا على عورات النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. لقد حسبوها فرصة للقضاء على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وأن تكون المدينة لهم بدل أن يكونوا في عهد معه وسلم وأمان، ويكون لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين. وقد مالئوا وعاونوا، وأقدموا على مهاجمة بيت النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ومن معه من المؤمنين، ولما رد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال، أدركوا أن الفرصة قد أفلتت من أيديهم وكانت عاقبة أمرهم خسرا. أولئك المشركون رجعوا إلى ديارهم، ورضوا أن يثوبوا، وعادوا إلى ديارهم لا يغير عليهم مغير، ولا يأخذ منهم أحد جزاء ما اقترفوا، أما بنو قريظة، فإنهم سيؤدون الحساب على ما ظاهروا عليه المشركين، وعلى نقضهم العهد الموثق. لذلك كله امتلأت قلوبهم رعبا، وكانت النتيجة كما قال الله تعالى: وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً. وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ، وَدِيارَهُمْ، وَأَمْوالَهُمْ، وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً. كان بين يدى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أحد أمور ثلاثة: إما أن يعفو عنهم، ويتركهم آمنين في ديارهم، وهم بجوار المؤمنين الذين خانوهم، وإن ذلك غير ممكن؛ لأن العفو لا يكون إلا لمن يرجى منه خير، وكيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلّا ولا ذمة. وإما أن يخرجهم من ديارهم كما أخرج بنى النضير من ديارهم، ولكن لا تكون ثمة عدالة، ولا مساواة بينهم وبين بنى النضير، لأن بنى النضير نقضوا الميثاق بما دون ذلك، ولأنهم لم يهاجموا بيوت النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد أوتيت من فوقها ومن أسفل منها، وأحيطت بكتائبهم، وكتائب الشرك، فكانوا إحدى الكوارث، أو أشدها فاعلية بعد أن حال الخندق بين النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وبين أعدائه.

أمر الله:

هذان أمران ليس من المعقول تطبيق أحدهما أو هما، وليس من العدل تطبيق الثاني. لم يبق إذن إلا القتال، وعندئذ تقول الحقيقة ويل للخائن المغلوب، وإنه إذا كان قتال، فإن نتيجته معروفة من قبل وقوعه، إذ أنهم سيبادون عن آخرهم، ويكون ذلك شفاء لقلوب المؤمنين الذين زاغت منهم الحناجر بسبب انضمامهم للمشركين. أرادوا أن يخرجوا كما خرج بنو النضير، فلم يرض النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، لعدم التساوى بين حالهم، وحال بين النضير، فاختار النبى صلى الله تعالى عليه وسلم القتال بأمر ربه ولكنهم استسلموا. أمر الله: 473- جاء أمر الله تعالى بأن يخرج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لقتال بنى قريظة، فروى أن جبريل أمين الوحى جاء يقول للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم: وقد وضعت السلاح يا محمد؟ قال: نعم، فقال جبريل: فما وضعت الملائكة السلاح. إن الله عز وجل يأمرك يا محمد بالمسير إلى بنى قريظة. سار النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى بنى قريظة بأمر الله، وإن منطق الحرب يدعو إلى ذلك، والحذر الذى أمر الله به يوجب ذلك. أمر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مستجيبا لأمر ربه فأذن في الناس من كان سامعا مطيعا، فلا يصلين العصر إلا في بنى قريظة. استعمل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم في المدينة ابن أم مكتوم. أعطى الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم الراية لعلى بن أبى طالب. سار على رضى الله تعالى عنه، حتى إذا دنا من حصونهم سمع منهم مقالة قبيحة في رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وكأنهم مستمرون على غيهم. فرجع حتى لقى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وظن الرسول أنهم قالوا فيه وعلى لا يريد أن يسمع منهم أذى لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. دنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من حصونهم، وقال لهم: «يا إخوان القردة. هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته؟ قالوا: يا أبا القاسم ما كنت جهولا» .

مضى إليهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعد أن اجتمع جيشه، والراية مع على حتى نزل على بئر من آبارهم؟ وكان من بين أصحابه من لم يصل العصر إلا في وقت العشاء، لأنهم انتظروه إلى العشاء، وقد قال: لا يصلين أحد العصر إلا في بنى قريظة، فينتظرونه حتى يصلى بهم العصر، فصلوا العصر بها في وقت العشاء فما عابهم صلى الله تعالى عليه وسلم. حاصرهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لقتالهم، وهو ما أمر الله به، وهو الأمر بالمعقول فى ذاته كما ذكرنا من قبل، ولكنهم لم يخرجوا لقتال. حاصرهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خمسا وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار، وكان معهم في حصن كعب بن أسد حيى بن أخطب الذى حرضهم على نقض العهد ووعد كعبا أن يكون في حصنه يصيبه ما يصيبه إذا لم يصب المشركون من محمد شيئا، فوفى بما وعد. لما أيقنوا أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم غير تاركهم حتى يناجزهم القتال، تقدم إليهم كعب ابن أسد، وقد رأوا أنه لابد من الحرب، خيرهم بين ثلاثة: أحدها- الإيمان بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وقال في ذلك: نبايع الرجل ونصدقه فو الله لقد تبين لكم أنه لنبى مرسل، وأنه الذى تجدونه في كتابكم فتأمنون على أموالكم وأبنائكم ونسائكم، قالوا: لا نفارق حكم التوارة أبدا، ولا نستبدل به غيره. والثانية أن يقاتلوا منفردين عن الأولاد والنساء بعد فشلهم، فرفضوا. والثالثة أن يصيبوا غرة من محمد يوم السبت إذ ربما لا يكون مستعدا لقتالهم، لأنه يعلم أنهم لا يقاتلون يوم السبت. رضوا أخيرا بالاستسلام، ولكنهم لا يعرفون النتيجة، فأرسلوا إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يرسل إليهم أبا لبابة، فلما رأوه قام إليه الرجال وجهش إليه النساء والصبيان يشكون في وجهه، فرق لذلك، ولما سألوه أترى أن ننزل عن حكم محمد، قال: نعم، وأشار بيده إلى حلقه بأنه الذبح، قال أبو لبابة، والله فما زالت قدماى عن مكانها، حتى عرفت أنى قد خنت الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، ثم انطلق أبو لبابة على وجهه، ولم يأت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حتى ارتبط في المسجد إلى عمود من عمده، وقال: لا أبرح مكانى هذا، حتى يتوب الله على بما صنعت. وذلك هو الضمير المؤمن القوى، وقد استبطأه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ثم علم أمره.

نزولهم على حكم سعد بن معاذ:

ولنؤجل قصة أبى لبابة وتوبة الله تعالى عليه إلى ما بعد ما آل إليه أمر بنى قريظة الذى استحقوه عدلا وصدقا- فقد غدروا، ونقضوا الميثاق، وحاولوا آثمين إزالة دولة الإسلام، ولكن قضى الله أمرا كان مفعولا. نزولهم على حكم سعد بن معاذ: 474- نزلوا على حكم سعد بن معاذ، وقد كان من الأوس من يطمع في أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم سيجليهم عن المدينة، كما فعل مع بنى قينقاع، وبنى النضير، مع تفاوت الجرائم التى وقعت من هؤلاء، وأن الأولين لم يمالئوا على من جاؤا لاقتلاع الإسلام من المدينة كما فعل هؤلاء، والأولون لم يكونوا مقاتلين، بل كانوا غادرين ناقضين للميثاق فقط، فكان المنطق الاكتفاء بجلائهم، إذ لا يبقون من غير ميثاق محترم. أما بنو قريظة فقد نقضوا وقاتلوا، وهاجموا بيت النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فوجب أن يعاملوا معاملة مقاتلين، وبمثل ما عاملوا به المؤمنين، وبمثل ما كان ينتظر أن يعاملوا به المؤمنين، لو كان الأمر قد تم للأحزاب كما يريدون. نزلوا على حكم سعد بن معاذ الأوسى، وقد جيء به راكبا، إذ لم يكن يستطيع المسير للجرح الذى أصابه من السهم وأثبته، بل أثخنه، وبعض قومه من الأوس قالوا له مشفقين على بنى قريظة: يا أبا عمرو أحسن في مواليك، فإن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، إنما ولاك لتحسن فيهم. فلما أكثروا عليه قال: «لقد آن بسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم» . عند ما قابل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم سعدا، التفت إلى أصحابه، وقال: قوموا إلى سيدكم، فقاموا إليه، وقال الأنصار: إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولاك أمر مواليك لتحكم فيهم، فقال سعد: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه ... ثم بعد كلام أصدر الحكم، وهذا نصه: إنى أحكم فيكم أن تقتل الرجال، وتقسم الأموال، وتسبى الذرارى والنساء. هذا هو الحكم، وقد أيده رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بقوله: «ولقد حكمت بحكم الله من فوق سبع سموات» ، نفذ فيهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حكم معاذ وأثبت قبل التنفيذ أنه حكم الله تعالى فيهم، فقتل الرجال إلا بعضا قليلا أعطاهم بعض الصحابة أمانا ليد سابقة قدموها لهم. وقسم أموالهم غنيمة بين المسلمين، وبها تبين تقسيم الغنائم، وسبى النساء.

نظرة في الحكم:

نظرة في الحكم: 475- لا شك أن الحكم شديد، ولكنه عادل، والنظر لا من ناحية أنه عادل، ولكن أما كان موضع للتخفيف، ونقول في ذلك: إنهم مقاتلون، واستمرت لهم صفة المقاتلين إلى آخر لحظة، وعلى بن أبى طالب، عند ما تقدم لهم خاطبهم على أنهم مقاتلون، وقال رضى الله عنه، وهو يهاجمهم، لأذوقن ما ذاق حمزة، ولأفتحن حصنهم، فلما رأوا العزيمة في على ومعه الزبير، وأنهم مغلوبون لا محالة، وطلبوا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ، فهم ارتضوا ما ينفذ فيهم قبل أن ينزل الحكم فيهم، فهم الذين نفذوا الحكم فيهم إذ ارتضوا المحكم فيهم، ومن المقررات القانونية أن من ارتضى محكمين ليحكموا فيه، فقد فوض لهم، ولهم بهذا التفويض أن يحكموا بما يرونه عدلا، ولقد حكم، وهو الذى ذهب إليهم ليحول بينهم وبين تنفيذ نقض الميثاق فردوه ردا نكرا، وعرف أنهم يريدون اقتلاع الإسلام، وقتل أهله. ولقد خضع المدبرون منهم لحكمه، وأدركوا أنه بما قدمت أيديهم، حتى لقد روى أن حيى ابن أخطب عند ما قدم للقصاص قال لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: والله ما لمت نفسى في عداوتك، ولكن من يخذل الله يخذله، ثم أقبل على الناس، فقال: أيها الناس، إنه لا يأس بأمر الله كتاب وقدر، وملحمة كتبها، ثم تقدم لضرب عنقه. وهكذا كانوا يحسون بأن ما نزل بهم قصاص، وما للناس يقولون كان على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، أن يشفق عليهم. ومع ذلك إذا لم يقتل رجالهم، فماذا يصنع معهم، أيعفو عنهم، ولو تمكنوا لقتلوه وقتلوا الإسلام، وشردوا أهل المدينة. إن العفو عن الجانى ظلم في ذاته، أم يخرجهم من أرضهم ويجردهم من أموالهم، وذلك لا يخلو من عفو، وقد قلنا إنه في هذا المقام ظلم، ثم ماذا يكون إذا خرجوا، وفيهم أكثر من سبعمائة مقاتل، ألا يكونون حربا عليه، ويتجمعوا يؤلبون يهود الجزيرة العربية، ويكون قد أشفق عليهم لينقضوا عليه إن وأتتهم الفرصة، كمن يشفق على اللصوص ليجمعوا أمرهم، ويستلبوه ما يعتز به، ويأخذوا ما عنده. إنه لم يكن إلا القتل، كفاء ما صنعوا، وهم الذين قتلوا أنفسهم بما دبروا وبما فعلوا، قد يقال أنهم قد صاروا أسري، والأسرى لا يقتلون، ونقول في الجواب عن ذلك: إن المسلمين والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم لم يشدوا الوثاق، لأنهم منهيون عن ذلك بحكم آية الأسرى إذ يقول سبحانه وتعالى: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ، تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا، وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (الأنفال- 67) .

أحكام شرعية

فما كان للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يشد الوثاق وهو لم يثخن فيهم جراحا، ولم ينل منهم نيلا، بل إنهم هم الذين ارتضوا حكما معينا، والقتال من جانب المسلمين قائم، لم تعد السيوف إلى أجفانها ولا القلوب إلى جنوبها. بل إن قتالهم امتداد لقتال الأحزاب الذين مالئوهم لم ينته، وإذا كان المشركون قد ألقى الله في قلوبهم الرعب، ففروا، فأولئك قد بقوا، وكان حقا عليهم أن يقاتلوا فما قاتلوا. وقد يقول قائل: إن النبيين رحماء، ونقول لهم إن العدالة رحمة والقصاص حياة، ورحمة الإسلام دفع الظلم، واقتلاعه عن أساسه، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم قال: أنا نبى المرحمة، وأنا نبى الملحمة، والله سبحانه وتعالى عزيز حكيم. أحكام شرعية 476- قد كانت أحكام شرعية خاصة بالصلاة قد ثبتت عمليا في غزوة الأحزاب وبنى قريظة، كما كانت أحكام شرعية قد ثبتت في توزيع الغنائم بالنسبة لتقسيم أموال بنى قريظة، ولعلها أكبر أموال وزعت من الغنائم إلى هذا الوقت من الغزوات. وبالنسبة للصلاة في غزوة الخندق عند ما هو جمت بيوت النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أخرت صلاة العصر، إلى ما بعد الغروب، فجمع صلى الله تعالى عليه وسلم بين العصر والمغرب جمع تأخير. وقد قال الذين اتبعوا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن عذر الحرب مسوغ للجمع، وكثيرون من الفقهاء الذين اتبعوا ذلك جوزوا الجمع في كل عذر، وتكون الصلاة المؤخرة أداء لا قضاء. وفي غزوة بنى قريظة، كان الجمع بين العصر والمغرب، ذلك أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في دعوتهم إلى اللحاق ببنى قريظة قال: ألا لا تصلوا العصر إلا في بنى قريظة، فقال بعضهم عزم علينا ألا نصلى حتى نأتى بنى قريظة. فإنما نحن في عزيمة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فليس علينا إثم، وأخروا إلى وقت المساء فجمعوا بين العصر والمغرب في وقت المغرب. وطائفة من الناس صلوا احتسابا. ولم يلم أحدا من الطائفتين، وهذا يدل على جواز الجمع جمع تأخير، ويدل على أن الخطأ مرفوع عنه الإثم، كما قال صلى الله تعالى عليه وسلم: «رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» ، وكان ذلك استجابة لدعاء المؤمنين الذى حكاه الله تعالى عنهم بقوله تعالى: رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا

توزيع الغنائم:

إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا، رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا، رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا، أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (البقرة- 286) . ولا شك أن إحدى الطائفتين مخطئة فيما عملت، ولكنها اجتهدت. توزيع الغنائم: 477- كان ما استولى عليه في بنى النضير أموالا ثابتة، وما غنم في الوقائع السابقة؛ لم يكن كثيرا، أما ما كان في غزوة بنى قريظة فكان أموالا كثيرة بالنسبة لما سبقها، وخصوصا في الأموال المنقولة، ولذلك كان التوزيع فيها تطبيقا للنص القرآنى، وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ، وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ (الأنفال- 41) . وقد قال ابن إسحاق في ذلك ما نصه: قسم أموال بنى قريظة ونساءهم، وأبناءهم على المسلمين، وأعلم في ذلك سهمان الخيل وسهمان الرجال، وأخرج منها الخمس (أى خمس الله ورسوله وذى القربى) وكان (من بعد الخمس) فى أربعة الأخماس، فكان للفارس ثلاثة أسهم للفرس سهمان، ولفارسه سهم، وللراجل (من ليس له فرس) سهم، وكانت الخيل يوم بنى قريظة ستا وثلاثين، وكان أوّل فيء وقع فيه السهمان، وأخرج منهما الخمس، فعلى سنتها وما مضى من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقعت المقاسم، ومضت السنة في المغازى. ونقول إن هذا التقسيم لم يكن أوّل تقسيم بالأسهم، فقد سبق أن اخترنا ما قرره الحافظ ابن كثير فى تاريخه أن آية وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ قد نزلت قبل تقسيم أنفال بدر، وأن على بن أبى طالب نال من خمسه راحلتين. ولكن يظهر أن الجديد هو ما قرره النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من أن يكون للفارس ثلاثة أسهم اثنان للفرس، وواحد للفارس، وأن لمن لا فرس له سهما، ولم يكن ذلك التقسيم في أنفال بدر لأنه لم يكن فرسان غنمت، بل كان هناك للمسلمين فرس واحد، قيل أنها للزبير بن العوام رضى الله تعالى عنه، هذا ما يظهر لى، والله سبحانه وتعالى أعلم. تنبيهات: 478- أولها: أن أبا رافع سلام بن أبى الحقيق اليهودى كان من أشد اليهود تحريضا على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فهو ممن جمع جموع قريش وغطفان، وكان يحرضهم، حتى

الثانى:

كانت غزوة الأحزاب، وكان ما كان من بنى قريظة، ويظهر أنه لم يفعل ما فعل حيى بن أخطب من إقحام نفسه مع بنى قريظة لعهد له مع كعب بن أسد من أن يكون معه في حصنه إن انتصروا أو هزموا. ولكن عين الحق لا تغافل عن ذلك الذى حرض العناصر المعادية للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم في كل أرض العرب، وأنه على استعداد لمثلها، فكان الحذر الذى أمر الله به في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ يوجب على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يتولاه قبل أن يعيد إفساده وتحريضه لما بدأه، فأرسل إليه من المؤمنين من قتله في حصنه الذى يقيم فيه بخيبر. الثانى: أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان يميز بين الرجال والصبيان في بنى قريظة، ليتبين من يستحق القتل، ومن أعفى منه من الذرارى تنفيذا لحكم سعد بن معاذ رضى الله تبارك وتعالى عنه، كان يميز بخروج شعر الفرج، فمن نبت له ذلك الشعر قتل، ومن لا ينبت له لا يقتل، روى عن ابن عطية القرظى قال: كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد أمر أن يقتل من بنى قريظة كل من أنبت منهم وكنت غلاما فوجدنى لم أنبت فخلوا سبيلى. وروى مثله أهل السنن الأربعة عن طريق آخر. الثالث: قوة الضمير في أبى لبابة، لقد سأله القرظيون أينزلون على حكم محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، فأشار إلى عنقه بأنه الذبح، وما أن قالها، حتى استيقظت النفس اللوامة، وعلم أنه خان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، إذ كشف أمرا لم يأذن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بكشفه، وما كان له ذلك، لذلك انطلق هائما على وجهه، ولم يأت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وارتبط بعمود من عمد المسجد، وقال: لا أبرح مكانى هذا، حتى يتوب الله على مما صدمت، وأعاهد الله تعالى ألا أطأ أرض بنى قريظة أبدا ولا أرى في بلد خنت فيه الله ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أبدا. ولما استبطأه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وعلم أمره قال الرسول الكريم، أما والله لو جاءنى لاستغفرت له، فأما إذ فعل ما فعل، فما أنا بالذى أطلقه من مكانه، حتى يتوب الله تعالى عليه وإن التوبة النصوح تجب ما قبلها، وعلم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بوحى من ربه أنه تاب على أبى لبابة، وأبلغ ذلك إلى أم سلمة، إذ كان في بيتها وأذن لها أن تبشره به، إذ قالت: أفلا أبشره يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، بلى إن شئت، فقامت على باب حجرتها، ونادت أبا لبابة فى المسجد، فقالت: يا أبا لبابة أبشر فقد تاب الله تعالى عليك، فثار الناس ليطلقوه. فقال: لا، حتى

يكون رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم هو الذى يطلقنى، فلما مر عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خارجا إلى صلاة الصبح أطلقه. وقد أقام أبو لبابة رابطا نفسه بالجذع ست ليال تأتيه امرأته في وقت كل صلاة، فتحله للصلاة ثم يعود فيرتبط بالجذع، وقالوا إنه نزل فيه قوله تعالى: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً، وَآخَرَ سَيِّئاً، عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (التوبة- 102) . وهكذا حكم الضمير، أو النفس اللوامة تحس بذنوبها لتتوب، وترجو المغفرة فتذل لله سبحانه وتعالى، ولقد قال الصوفية «إن معصية، أورثت ذلا وانكسارا خير من طاعة، أورثت دلا وافتخارا» «1» وكذلك كانت نفس أبى لبابة الذى ما كذب، ولكنه ظن أنه خان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، إذ أخبر بالحكم قبل صدوره، وبالأمر قبل ظهوره. رابعها: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعث بسبايا بنى قريظة إلى نجد فابتاع بها خيلا وسلاحا، وذلك ليكون منها قوة للمسلمين، وإعداد للعدة لقوله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ، وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ. وقد اختار صلى الله تعالى عليه وسلم من نسائهم ريحانة بنت عمرو إحدى نساء بنى قريظة لنفسه وأراد لها الإسلام فتعصت عنه، وأبت أن تدخل في الإسلام، زاعمة أنها تبقى على اليهودية، ولكن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لم يكرهها، ولم يصنع ما قد يكون إغراء مانعا من اختيار سليم حر، ولكنها جاءت إليه من بعد ذلك طائعة فأسلمت، فسر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من إسلامها، وقد عرض عليها صلى الله تعالى عليه وسلم أن يعتقها، ثم يتزوج منها زواج الحرة المختارة، فاختارت أن تستمر على رقها، ليكون أسهل عليها، إذ لا تتحمل واجبات الزوجية، فلم تزل عنده إلى أن توفى صلى الله تعالى عليه وسلم. ولم تذكر بين أزواجه صلى الله تعالى عليه وسلم. 479- وإن قصة سبى نساء بنى قريظة تدل على أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد أنشأ الرق على أعدائه في ميدان القتال، لتكون المعاملة بالمثل، إذ لو أسروا من المسلمين لا سترقوا، والله تعالى يقول: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ، وَاتَّقُوا اللَّهَ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (البقرة- 194) وإن المشركين كانوا يسترقون من غير قتال، فقد ذكرنا أنهم أخذوا بعض المسلمين غدرا، وباعوهم في مكة المكرمة، وسامهم أهل مكة المكرمة سوء العذاب، فلا تثريب على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إذا أخذ من بنى قريظة سبايا، وباعهن بخيل من نجد.

_ (1) القول لابن عطاء الله السكندري: (رب معصية أورثت ذلا وانكسارا خير من طاعة أورثت عزا واستكبارا) .

الإيماء بالصلاة للضرورة

وإن هذا يدل على أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بالنسبة للرق عامل بنى قريظة، ومن وراءهم من المشركين بمثل ما كانوا يعاملون به المؤمنين، حتى في غير حرب، ولكن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عاملهم بالمثل في حرب كان الاعتداء من جانبهم، فهم اعتدوا مرتين، الأولى بالخيانة وتتبع عورات المؤمنين، والثانية بأنهم هم والمشركون كانوا يسترقون المؤمنين لو تمكنوا منهم، وقد تمكن منهم القرشيون فباعوهم وعذبوهم، كما ذكرنا في يوم الرجيع. الإيماء بالصلاة للضرورة 480- أجيز الإيماء بالصلاة للضرورة وفي حال المنازلة إذا خيف فوات الصلاة، وقد أخرنا الكلام في هذا عن الكلام في جمع الصلاتين جمع تأخير، لأن هذا يتعلق برجل أراد أن يجمع الناس من عرفة ليغزوا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم في المدينة، وهو خالد بن سفيان بن نبيح الهذلى، وكان ذلك عقب غزوة بنى قريظة، وقد تأكد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قد اعتزم الشر، وأراد القتال، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان يعمل على حسم الشر قبل وقوعه، فإذا كان رجل يجمع ويحرض، وأخذ ينفذ ما شرع فيه يستأصله النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قبل أن ينفذ شره، لأن الحذر يوجب ذلك، ولأنه إن يتركه جمع الجموع، وكان القتل في الجمع أكثر عددا من قتل واحد، ولذلك كان يؤثر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قتل رجل على حرب مع رجال لحماية الأنفس من المحاربين ولو كانوا مشركين، فعسى أن يخرج الله تعالى الكفر من قلوبهم، ويستبدل به الإيمان. أرسل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى خالد بن سفيان عبد الله بن أنيس وقال له: إنه بلغنى أن خالد بن سفيان بن نبيح الهذلى يجمع لى الناس ليغزوني، وهو بعرفة. خرج ابن أنيس متوشحا سيفه، فأقبل نحوه، وخشى أن يكون بينهما مجاوبة تشغله عن الصلاة، والصلاة لا يسقط فرضها، فصلى وهو يمشي، يوميء بالركوع والسجود حتى لقيه، فقال له خالد: من الرجل؟ قال: رجل من العرب سمع بك وبجمعك لهذا الرجل، فجاءك لذلك، قال: أجل أنا في ذلك، وسار معه قليلا، حتى استمكن منه فقتله. ومن هذا نرى جواز الصلاة بالإيماء في الحرب للضرورة، إذ أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد أقر ما صنع في عبادته في الصلاة، وأقر بما قام به من جهاد. وإن ذلك لا يعد القتل فيه بطريق الغدر أو الغيلة، لأنه انتدب للقتال، فيجب أن يتوقع أن ينزل به مثل ما يدبر، ولأن قتله نجاة لكثيرين، والضرر القليل يحتمل في سبيل دفع ضرر أكبر، وإن هذا يدل

مدة غزوة الخندق

على أنه بعد غزوة الخندق كانت نفوس تحاول التمرد على حكم الواقع تزعم أنها تستطيع القضاء على المسلمين، وقد صارت الدولة بأيديهم يغزون، ولا يغزوهم أحد. مدة غزوة الخندق 481- وقد قطع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم في غزوة الخندق، وبنى قريظة بقية شوال. وذى القعدة وبعضا من ذى الحجة. وبعد الخندق وما تبعه تزوج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أم حبيبة بنت أبى سفيان قائد الشرك، ثم تزوج بزينب بنت جحش. ولقد كان من قبل تزوج سودة بنت زمعة، وعائشة بنت الصديق، وتزوج بعد بدر حفصة بنت صاحبه ووزيره عمر بن الخطاب، وتزوج بعد أحد أم سلمة، ثم تزوج بعد غزوة بنى المصطلق جويرية بنت الحارث، ثم من بعد خيبر صفية بنت حيى بن أخطب. ونترك الكلام في أزواج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى الكلام في باب خاص بذلك وأسبابه وحكمته.

زواج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بأم المؤمنين زينب

زواج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بأم المؤمنين زينب 482- نزل في السورة التى تسمت باسم غزوة الأحزاب أمران، تحريم التبنى، وتطبيق التحريم فى زواج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بأم المؤمنين زينب بنت جحش، ولذلك أوجبنا على أنفسنا الكلام في زواجها في هذا المقام، لأن هذا الزواج كان تطبيقا لحكم شرعى، وأعقب زواجها حكم شرعى، فحق علينا بيان الأحوال التى أحاطت بزواجها. نزل تحريم التبنى في أوّل سورة الأحزاب، إذ قال الله تبارك وتعالى: ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ، وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ، وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ، ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ، وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ، وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ. ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ، فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ، وَمَوالِيكُمْ (الأحزاب- 3، 4) . كان ذلك تحريما قاطعا، لا ريب فيه، ولذلك جاز للرجل أن يتزوج امرأة من يتبناه لأنه ليس ابنه، ووصف زوجة الابن التى يحرم الزواج منها بأن يكون ابنه من صلبه، لا أن يكون ابنا بالادعاء، ولذلك قال الله تعالى في ذلك في باب المحرمات وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ (النساء- 23) . ذلك لأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، يقرر حكم الإسلام بأن تكون الأسرة مترابطة بالأرحام لتكون قوية، ولا يكون فيها دخيل ليس من رحمها، ولا من صلبها، ولا من دمها، لأنه يفسدها، ويحرم ذا الحقوق من حقوقه، وينافى القاعدة المقررة في القرآن بقوله تعالى: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ. 483- ولقد كان التبنى شائعا في البلاد العربية مأخوذا من القانون الرومانى، وقد ألحق النبى صلى الله تعالى عليه وسلم زيد بن حارثة به بناء على ذلك العرف المأخوذ من قانون الرومان، وذلك قبل البعث المحمدى، وقبل نزول الوحى على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. ذلك أن زيدا هذا كان عبدا للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فعثر عليه أهله عنده صلى الله تعالى عليه وسلم، وأرادوا أن يفتدوا رقه بثمنه، فقال محمد صلى الله تعالى عليه وسلم: هو لكم إن اختاركم، فأرادوا أخذه، فاختار أن يبقى مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فأعتقه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وألحقه به بعد البعثة إكراما له، كما كان العرف في البلاد العربية، ولم يعد ابن حارثة فكان ينادى زيد بن محمد.

وقد تزوجته القرشية زينب بنت جحش، وهى نسيبة بين العرب، على أنه قرشى، وأنه أعظم العرب وأوسطهم نسبا، وهو من أنفسهم، كما قال الله تعالى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ (التوبة: 138) على قراءة فتح الفاء. فلما نزلت الآيات التى تلوناها بتحريم التبنى، ونفى الادعياء، تململت بحياتها مع زيد إذ أنه لم يعد ابن محمد، بل أصبح الأمر الحقيقى فيه أنه ابن حارثة. شكا الزوج من تعالى زينب عليه بنسبها، فكان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يقول له: أمسك عليك زوجك واتق الله. وكان الله تعالى قد أمر نبيه محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم بألا يمنع زيدا من طلاقها لأن الله تعالى قد قضى أمرا، وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ (الأحزاب: 36) . قضى الله سبحانه وتعالى أن يطلق زيد زينب، وإذا انتهت العدة تزوجها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بأمر الله، ليكون ذلك تطبيقا عمليا لمنع التبنى، وليضرب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك الأمثال على إهمال التبنى ونفيه نفيا مؤكدا بالعمل. تزوجها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم تنفيذا لأمر ربه ولكيلا يكون حرج في أزواج أدعيائهم. ولم يكن زواجه عليه الصلاة والسلام شهوة أو رغبة إلا أن تكون استجابة لأمر الله تعالى، وكذبت الإسرائيليات التى أدخلت على كبار المؤرخين كابن جرير الطبرى الذى تولى كبر إذاعة هذا الكذب الإسرائيلى والنصرانى، وكذب أولئك الكتاب الأوربيون الذين راحوا يروجونها آثمين، وإن كانوا لا يعرفون الإثم، وكذب الذين يقلدونهم تقليدا أعمى، ويحتذون حذوهم كحذو النعل بالنعل. 484- وإن الآيات في هذا المقام صريحة بأمر الله تعالى بالزواج، وصريحة في أن ذلك لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا، وصريحة في أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ليس أبا لأحد من رجالهم، صريحة في كل ذلك، ومع ذلك كان التقليد وترويج الكذب لهما الأثر، ففسد الفهم، وكانت الآفة في نفوسهم وفهمهم، لا في الوقائع ذاتها. ولنتل الآية، وهى توضح الحقيقة. وتكذب الكذابين، والذين إيف تفكيرهم بالكذب الرائج، قال الله تعالى: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ

منع دخول بيوت النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من غير استئذان:

الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً. وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ، وَاتَّقِ اللَّهَ، وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ، وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ (الأحزاب- 36، 37) ، والذى أخفاه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم هو أمر الله تعالى له بالزواج منها بعد طلاقها، وأن الله تعالى قدر له أن يطلقها، وهذا هو الذى أبداه فلا حب ولا عشق، والذى كان يخشاه من الناس أن يصدعهم بالزواج من امرأة دعيه، وذلك أمر غير مألوف عندهم، وكان يجب أن يخشى الله تعالى ولا يخشى الناس، لأن إرضاء الناس بغير الحق لا يجوز من داعية إلى الحق صادع به. ثم يقول سبحانه وتعالت كلماته في الأمر الذى أبداه فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (الأحزاب- 37) . ولقد بين سبحانه من بعد ذلك أن الزواج بأمره سبحانه، وأنه ليس على النبى من حرج في تنفيذ أمر الله تعالى، همس الناس، أو صمتوا، فقال تعالت كلماته: ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ، سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ، وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً. الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ، وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً. ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ، وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ، وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (الأحزاب- 28، 40) . وبهذه النصوص ثبت تحريم التبنى، وعدم الاعتراف به في الإسلام، وطبق ذلك على سيد الأنبياء والمرسلين والعف الكريم محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، فلعن الله الأفاكين في هذا الزمان الذين لا يفكرون، ويقصدون إلى الأمر المختلف، ولا يحاولون أن يتعرفوا المعنى المؤتلف. منع دخول بيوت النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من غير استئذان: كان منزل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بيتا للمؤمنين أجمعين، وخصوصا أنه كان على مقربة من المسجد، بل إنه متصل به، وكان أقرب البيوت إليه، بيت عائشة رضى الله عنها. 485- ويظهر أن المسلمين ما كانوا يجدون حرجا في الدخول إلى منزله عليه الصلاة والسلام، والمؤمنون الذين أشربوا آداب الإسلام، وهذب الإسلام طبعهم يستأذنون، ولا يدخلون لغير موجب، ولا يتخذون فيه مجلسا، فلما كان ناس لم يتحلوا بهذا النوع من التهذيب الإسلامى، كان لا بد من بيان ينهى، وقد كان، وسمى علماء الحديث الآيات التى بينت ذلك النهى آيات نزول الحجاب، بأن لا يدخل أحد إلا بإذن، وألا يدخل بيت النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مستأنسا لحديث.

ونزل ذلك الحجاب في ليلة زفاف زينب بنت جحش الصالحة المعتصمة بدينها للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فقد روى عن أنس بن مالك أنه لما تزوج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم زينب بنت جحش، دعا القوم فطعموا وجلسوا يتحدثون، فإذا هو يتهيأ للقيام فلم يتهيأوا، فلما رأى ذلك قام فقاموا، وقعد ثلاثة نفر، وجاء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ليدخل، فإذا القوم جلوس، ثم إنهم قاموا، فأخبرت النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أنهم انطلقوا. 486- روى الخبر، البخارى ومسلم. وخلاصته كما ترى أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أولم لهم بوليمة، فلما طعموا لم ينتشروا، فتهيأ للقيام فلم يقوموا ثم قام فعلا، فقام من قام، وبقى ثلاثة لم يشعروا بما ينبغى فبقوا، فدخل صلى الله تعالى عليه وسلم إلى أهله وهم جلوس، ثم انطلقوا بعد. وروى البخارى حديثا آخر في هذا المعنى عن أنس خادم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ولكنه يثبت أن الدعوة كانت عامة وواسعة، يقول أنس: بنى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بزينب بنت جحش، فأرسلت على الطعام داعيا، فيجىء قوم، فيأكلون ويخرجون ويجىء القوم فيأكلون ويخرجون، فدعوت حتى ما أجد أحدا أدعوه، فقلت يا نبى الله ما أجد أحدا أدعوه، قال ارفعوا طعامكم، وبقى ثلاثة رهط يتحدثون في البيت، فخرج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فانطلق إلى حجرة عائشة فقال: السلام عليكم أهل البيت، ورحمة الله وبركاته، قالت: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، كيف وجدت أهلك، بارك الله لك، فتقرى حجر نسائه كلهن، ويقول لهن، كما يقول لعائشة، ويقلن له، كما قالت عائشة، ثم رجع فإذا رهط ثلاثة في البيت يتحدثون وكان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم شديد الحياء، والروايات متلاقية، وإن كان في بعضها زيادة تفصيل. 487- كان هذا سببا مقاربا لنزول آية منع دخول بيت النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فنزل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ، وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا، فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ، إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ، وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ، وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ، ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ، وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ، وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً، إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً. إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً. لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ، وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ، وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ، وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ، وَاتَّقِينَ اللَّهَ، إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (الأحزاب- 53، 55) .

وجوب الاستئذان عامة:

هذا تعليم من الله تعالى لقوم يحتاجون إلى هذا التعليم وهو تهذيب وتأديب، ليكون المجتمع مبنيا على مودة ورحمة، وألا يكون إيذاء نفسى، يكبته الحياء عند أهل الحياء. وجوب الاستئذان عامة: أوجب الإسلام بنص القرآن ألا يدخل أحد بيتا حتى يستأنس بأهله ويسلم عليهم ويستأذن منهم، لتربية النفوس، ولتكون الثقة كاملة بين الناس فلا يرتاب مرتاب، ولا يشك شاك، وقد قال الله في ذلك: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ، حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا، وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها، ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ، وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ. لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (النور- 27، 29) . 488- وبين سبحانه حكم من يكونون في داخل البيت من الخدم، ومن ملكت أيمانهم، فأوجب الاستئذان في العشية، وقبل صلاة الفجر، ومن بعد الظهيرة، فقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ، وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ، وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ، وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ، لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ، طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ، كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ، فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً، فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ، وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ. وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (النور- 51، 60) . غزوة بنى لحيان 489- بنو لحيان هم الذين جاؤا إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يطلبون إليه أن يرسل إليهم من يعلمهم الإسلام ويحفظهم القرآن، فأرسل إليهم ستة من أصحابه المؤمنين الفقهاء في الإسلام، وتبين أنهم أرادوا أن يقدموهم لقريش أسرى يسترقونهم، فقتلوا بعضهم، وباعوا الباقين بمكة المكرمة فعذبهم المشركون، ثم قتلوهم أفجر قتلة، إذ قتلوهم صلبا. كان لا بد أن يؤدبهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على سوء ما فعلوا، وليس ذلك انتقاما كما يتوهم من لا يستطيعون تمحيص الحقائق، إنما هو قصاص أولا، ولا بد أن يتولى القصاص

ولى الذين قتلوا، ووليهم الله ورسوله والمؤمنون. كما قال تعالى: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا (المائدة- 55) . ثم لابد من تأديبهم، بإنزال أشد النكال بهم، لأنهم خدعوا في أمر الدعوة، فلابد أن ينزل بهم ما يكون فيه عبرة لغيرهم، حتى لا يرتكبوا تلك الخديعة باسم الهداية. بعد بنى قريظة أقام النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بالمدينة بقية ذى الحجة من سنة خمس، والمحرم وصفر وشهرى ربيع، يعلم الناس أمر دينهم، ويبلغ الدعوة، ويتصل بالقبائل العربية داعيا مرشدا، ويعلم شعار الإسلام ومبادئه لأصحابه الذين حملوا فقه الإسلام لمن بعده. وفي جمادى الأولى خرج إلى بنى لحيان يطالب بأصحاب الرجيع خبيب بن عدى وأصحابه، وكان ذلك في سنة ست من الهجرة. ولقد ذكر البيهقى أن ذلك كان في سنة أربع، ولكن ابن إسحاق ذكر أنه كان في سنة ست، ونحن نختار ما اختاره ابن إسحاق، فهو أوثق في أخبار السيرة، كما قال الشافعى رضى الله عنه: الناس فى السيرة عيال على محمد بن إسحاق. خرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في جمع من أصحابه، وأراد أن يصيب من الغادرين غرة، فخرج من المدينة إلى طريق على الشام، ليوهم أولئك أنه يقصد غيرهم، والحرب خدعة، وبعد أن سار أمدا عرج على اليسار متجها إلى مكة، وأغذ السير سريعا، ليدركهم قبل أن يتنبهوا إلى مقصده. ولكنهم حذروا خوفا، وقد أدركوا أن القوة قد آلت إلى أهل الإيمان بقيادة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وتمنعوا في رؤس الجبال. وعندئذ علم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أنه أخطأ من غرتهم ما أراد. فاتجه إلى غسان في مائتى راكب من أصحابه حتى نزلها، وأرسل اثنين من الفرسان يتعرفان النواحى. وإن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعد أن سار في القبائل متعرفا داعيا، مبينا شرع الله تعالى لمن يلقاه من أهل الصحراء، قفل راجعا إلى المدينة المنورة. وإنه في هذه الرحلة المباركة، وإن لم يتمكن من تأديب الفجرة الغادرين على غدرهم وخيانتهم فقد تعرف البلاد على حالها والصحراء وقبائلها، وهو يدعو إلى دينه، حيثما وجد سبيلا للدعوة وأرهب مع ذلك أهل الشر من القبائل العربية، ونشر هيبة الإسلام فيها مما جعلهم يفكرون في أمر هذا الدين الجديد الذى جاء بالحق والقسطاس، ومعه القوة التى تحميهما.

غزوة ذي قرد

فالنبى لم يرجع من الغنيمة بالإياب، بل رجع بالغنيمة الكبرى، وهى نشر الدعوة، ومعرفة الذين يدعوهم وبسط سلطان الله في الأرض العربية، ليعمها الإسلام، ثم يكون من بعد ذلك لمن وراءها من أرض الشام، وغيرها. غزوة ذي قرد 490- خرجت غطفان بعد الخندق محنقة، لأنها طمعت في صلح. ولم يعزمه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بل كان مراوضة لتخذيلهم عن قريش، وقد تم بعض ذلك، عادت مع قريش مذمومة مدحورة، ولكن ما لم تستطعه بحرب أرادت أن تأخذه بالسلب والنهب والإغارة الجزئية، والغصب، ثم الفرار، فصاروا كشطار العرب، بل كلصوصهم، يستوى في ذلك من كان قائدا، ومن كان مقودا. أغار عيينة بن حصن الفزارى في خيل من غطفان على نوق لقاح للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم بالغابة، وفيها رجل من بنى غفار وامرأته. فقتلوا الرجل، وساقوا المرأة مع اللقاح، وكانوا بهذا كقطاع الطريق الذين يقومون بالسلب والنهب، ورأوا أن ذلك أنكى للمسلمين من أن يلتقوا معهم في حرب تشتجر فيها السيوف، وإن كان ذلك أبعد عن المروءة، والخلق العربى الكريم. كان بعض فرسان المؤمنين قد علم بأمرهم، منهم سلمة بن الأكوع، ومعه غلام لطلحة بن عبيد الله معه فرس، وقد أصبح يريد الغابة، حتى إذا كانوا بثنية الوداع نظر إلى بعض خيول المعتدين، فصرخ: واصباحاه، ثم خرج يشتد في آثار القوم، وكان رجلا قويا مثل السبع، حتى لحق القوم، وأخذ يردهم بالنبل، ويقول، إذا رمى: خذها وأنا ابن الأكوع. اليوم يوم الوضّع (أى اللئام) . وكانوا من قوة الرمى يحاولون أن ينقضوا عليه، فإذا وجهت خيلهم نحوه انطلق هاربا من لقائهم وجها لوجه، ولكنه يعارضهم ليتمكن من الرمى، فإذا رمى يقول: خذها وأنا ابن الأكوع، ولما بلغ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما كان من هؤلاء، وسمع صياح ابن الأكوع دعا الفرسان من المهاجرين والأنصار، فكان أوّل فارس تقدم المقداد بن الأسود، وتوالى من بعد ذلك الفرسان الذين يتبعونهم فارسا بعد فارس. وقد رأى رجلا من رزين اسمه أبو عياش، معه فرس، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لو أعطيت هذا الفرس رجلا هو أفرس منك، فقال رضى الله عنه: أنا أفرس الناس، ولكنه ما جرى به خمسين ذراعا، حتى طرحه أرضا. فتولى الفرس غيره، وهكذا تولى الفرسان يلاحقون الفارين السالبين.

غزوة بنى المصطلق

خرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مع الفرسان، وأقام على المدينة ابن أم مكتوم، وسار رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ومن معه من أصحابه، واستنقذوا بعض اللقاح، ولم ينقذوها كلها، ولكنهم قتلوا من أدركوه من القوم، واستمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في سيره حتى نزل بالجبل من ذى قرد، وتلاحق عليه الناس، وأقام عليه يوما وليلة. عاد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد قسم على كل مائة رجل جزورا. وقد نجت امرأة الغفارى على ناقة من إبل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عند ما شغل القوم بالفرار من فرسان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. وكانت قد نذرت لله تعالى إن نجاها عليها أن تنحرها، فتبسم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عند ما علم عزمتها، وقال بئسما جزيتها أن حملك الله عليها ونجاك بها، ثم تنحرينها، إنه لا نذر فى معصية الله تعالى، ولا فيما لا تملكين، إنما هى ناقة من إبلى، فارجعى إلى أهلك على بركة الله تعالى. وقد روى حديث امرأة الغفارى عن الحسن البصرى موقوفا. وبذلك انتهت هذه الغزوة التى دفعت غارة من غارات الأعراب. غزوة بنى المصطلق 419- ذكر ابن إسحاق بسنده أنها كانت في شعبان من سنة ست من الهجرة، وروى أنها كانت في شعبان سنة خمس، وقال الواقدى في تاريخه إنها كانت بعد ليلتين من شعبان سنة خمس. ولقد ذكر بعض الكاتبين في عصرنا أنه يستحيل أن تكون في سنة ست، لأنه جاء في عقبها حديث الإفك، وذكر فيه مجاوبة بين سعد بن عبادة وسعد بن معاذ وملاحاة بينهما وسعد بن معاذ كان قد مات أثر جرح بعد قريظة سنة خمس. وإن هذه الملاحاة لم تكن بين ابن عبادة وسعد بن معاذ، وإنما كانت بين أسيد بن حضير، وسعد بن عبادة، وعلى ذلك لا دليل من حديث الإفك على أنها كانت في الخامسة. وفي الحقيقة أنا لا نجد في الروايات ترجيحا بينها، ونميل إلى أنها كانت في الخامسة، وقبل الخندق غير ترجيح، ولكن نأخذ بترتيب ابن إسحاق، ونضعها بعد الخندق، لأننا نقبل أن نكون عيالا

على ابن إسحاق، كما قال الشافعى رضى الله تبارك وتعالى عنه: «الناس عيال في السيرة على محمد بن إسحق» . علم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن بنى المصطلق يجمعون الجموع له، وهم من خزاعة، وعلى منهاج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أنه إذا تأكد أن قوما يريدون الإغارة عليهم بادرهم قبل أن يبادروه، فإنه ما غزى قوم في عقر دارهم إلا ذلوا. أقام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على المدينة المنورة أباذر الغفارى وخرج إليهم كما يقول الواقدى في سبعمائة من أصحابه، حتى التقى في ماء عندهم يسمى المريسيع. وكان لواء المهاجرين مع أبى بكر الصديق، ولواء الأنصار مع سعد بن عبادة، وقيل كان لواء المهاجرين مع عمار بن ياسر. وأمر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن ينادى فيهم فنادى أن قولوا لا إله إلا الله تمنعوا وأموالكم فأبوا إلا القتال. فقاتلهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بجيش المؤمنين فما أفلت منهم، فقتل منهم عشرة، وأسر سائرهم وسبى نساءهم. وقد حدث في هذه الغزوة أن رجلا من المؤمنين اسمه هشام بن صبابة أصابه رجل من الأنصار وهو يظن أنه مباح الدم من الأعداء. كان ذلك القتل خطأ فكان له دية مسلمة إلى أهله، وقد وداه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. فجاء أخوه مقيس بن صبابة من مكة المكرمة مظهرا الإسلام، فطالب بالدية فأعطاه الرسول الدية، وأقام مع المؤمنين حتى تمكن من قتل قاتل أخيه، مع أن القتل كان خطأ، ثم عاد مرتدا إلى مكة المكرمة، وبذلك ارتكب جريمتين: أما الجريمة الأولى: فهى أنه قتل بعد أن أخذ الدية، والقتل كان خطأ فلا قصاص وأخذ الثأر معتديا آثما. والجريمة الثانية أنه ارتد بعد إسلام أظهره. ولهاتين الجريمتين كان يستحق إباحة دمه وإحداهما تسوغ قتله. ولذلك أباح النبى صلى الله تعالى عليه وسلم دمه، ولذلك كان من الذين أهدر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يوم فتح مكة المكرمة دماءهم، وإن تعلقوا بأستار الكعبة.

إثارة فتنة وإطفاؤها:

وإن هذا يدل على أن الردة توجب القتل، ويصدق عليه قول النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: «من بدل دينه فاقتلوه» . ودلالة إباحة دم مقيس هذا لقتله قاتل أخيه أو لردته، ولذلك كانت الدلالة احتمالية من حيث تعيين السبب. إثارة فتنة وإطفاؤها: 492- فى هذه الغزوة ثارت فتنة، ولكن أطفأها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بحكمته. ذلك أن الناس كانوا يردون الماء، وفيهم أجير لعمر بن الخطاب يقال جهجاه بن مسعود يقود فرسه، فازدحم أجير عمر هذا مع سنان بن وبر الجهنى حليف بنى عوف من الخزرج فاقتتلا، فصاح الجهنى: يا معشر الأنصار، وصاح أجير عمر: يا معشر المهاجرين. ولم يجب الأنصار صرخة حليفهم، ولا المهاجرون صرخة أجيرهم، ولكن النفاق استغل ذلك لتكون تارة ثائرة. غضب عبد الله بن أبى بن سلول زعيم المنافقين مع رهط من رجاله، وكان في مجلسهم زيد ابن أرقم، ولم يكن منافقا بل كان مؤمنا. قال ابن أبى بن سلول: قد ناقرونا، وكاثرونا في بلادنا والله ما عدنا وجلابيب قريش (أى المهاجرين) إلا كما قال الأوّل: سمن كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، ثم أقبل على من حضره من قومه، فقال لهم: هذا ما فعلتم بأنفسكم أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير دوركم. سمع ذلك زيد بن أرقم فمشى به إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وأبلغه الخبر بعد فراغه من غزوة عدوه، وكان عنده عمر بن الخطاب رضى الله عنه، فقال له عمر: مر به عباد بن بشر فليقتله. قال ذلك عمر بحمية الإيمان، ولكن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو الحليم الذى يعالج النفوس والأمور قال: «فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه» ولكن أذن بالرحيل، فارتحل الناس.

فالعلاج إن لم يكن حاسما للفتنة، فهو مانع من أن تتأجج نيرانها، ذلك أن الفتن إذا عرضت للنفوس، وتبادلتها الأقوال، ورددتها الألسنة يكثر القول الذى يلهبها، وإطفاؤها أو تخفيفها يمنع ترديدها، وشغل الناس بغيرها. فكان الأمر بالرحيل شغلا للناس عنها. جاء عبد الله بن أبى بن سلول إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ينفى ما نسب إليه، لأن المنافق يستتر دائما، ويمنع أن ينكشف، فإذا بدا بعض أمره حاول إعادة ستره. قال ساترا كاذبا حالفا: ما قلت ما قال، ولا تكلمات به. وكان في زعم قومه شريفا عظيما، فقال بعض من حضر من الأنصار من أصحابه حدبا على ابن أبى، أو تخفيفا لوقع الأمر، قال: عسى أن يكون الغلام قد أوهم في حديثه، ولم يحفظ ما قال الرجل. ومهما يكن من الأمر فقد عالج النبى الموقف بشغل الناس بالرحيل قبل ميقاته، حتى لقد قال أسيد بن حضير للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم: يا نبى الله لقد رحت في ساعة مبكرة ما كنت تروح فى مثلها. قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أو ما بلغك ما قاله صاحبكم؟ قال: وأى صاحب يا رسول الله؟ قال: عبد الله بن أبى بن سلول. قال: وما قال؟ قال زعم أنه إن رجع إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. قال: فأنت يا رسول الله والله تخرجه إن شئت وهو الذليل وأنت العزيز. ثم قال: يا رسول الله، ارفق به، فو الله لقد جاءنا الله بك، وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه، فإنه ليرى أنك قد استلبت منه ملكا. مشى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح، وصار في صدر ذلك اليوم الثانى حتى آذتهم الشمس. ويقول في تعليل ذلك ابن إسحاق: وإنما فعل ذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ليشغل الناس عن الحديث الذى كان بالأمس. إنه عند ما نزل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعد أن آذتهم الشمس، ومست جنوبهم الأرض حتى ناموا.

وفي النوم لم يذكروا ما كان من خلاف، ولم يحسوا إلا بالتعب، فشغلهم التعب الجسمى عن القلق النفسى، فانطفأت نار هذه الفتنة، لتكون فتنة أشد إيذاء، وأبلغ تأثيرا، وكانت أيضا من النفاق والمنافقين، وشاعت نيرانها، حتى شملت بعض المؤمنين من الأنصار، وبعض المهاجرين من ذى القربى ممن أشيعت حولها الفتنة. ولقد قال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عند ما بلغه التنادى يا معشر المهاجرين، ونادى الآخر يا معشر الأنصار، قال النبى: دعوها فإنها منتنة، أى دعوى خبيثة جاهلية، حتى نتنت بقدمها. وعند ما علم عبد الله بن عبد الله بن أبى، وقد كان مؤمنا قوى الإيمان بما قال أبوه، وما حرض به، مشى إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إنه قد بلغنى أنك تريد قتل عبد الله بن أبى فيما بلغك عنه، فإن كنت لابد فاعلا فمرنى، فأنا أحمل إليك رأسه. فو الله لقد علمت الخزرج ما كان بها من رجل أبر بوالده منى، وإنى أخشى أن تأمر به غيرى فيقتله فلا تدعنى نفسى أنظر إلى قاتل أبى يمشى في الناس، فأقتل رجلا مؤمنا بكافر، فأدخل النار، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: بل نرفق به، ونحسن صحبته ما بقى معنا. وكان لفعله أثر شديد في نفس النبى وإن كان قد عالجه بما كان فيه الوقاية من تفاقمها، فقد كان لها أثر في نفوس المؤمنين، فكان قوم ابن أبى حريصين على منعه من أى فتنة ولومه على كل قول يكون منه بما يدل على قلبه، فكانوا هم الذين يعاقبونه، ويأخذونه فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لعمر بن الخطاب، كيف ترى يا عمر، أما والله لو قتلته يوم قلت لأرعدت أنوف لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته. فقال عمر رضى الله تعالى عنه مذعنا: قد والله علمت لأمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أعظم بركة من أمرى. هذا وقد أنزل الله تعالى جزآ من سورة المنافقين في هذا الأمر، فقد قال الله تعالى: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ، وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ. اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ، فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ. وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ، وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ، يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ، هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ. وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ، وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ. سَواءٌ

الأسرى والسبايا من بنى المصطلق:

عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ، لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ، إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ. هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا، وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ. يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ، وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (المنافقون- 1- 8) . هذا حكم الله على المنافقين، وقد حكم الله تعالى بأنهم لا يفقهون، ولا يجزيهم استغفار الرسول لهم، لأنهم عثوا في كفرهم إذ الكفر من غير نفاق جهل وحمق وعناد، ومنشؤه غالبا من عدم إدراكهم الحق، فهم لا يذعنون، وتوبتهم قريبة إذا زالت غواشى الضلال والجهالة. أما النفاق فهو دركتان فى الكفر هو عناد وحقد من غير جهل، ومحاولة لستر الحقائق وإبعادهم ذرائع الإيمان عن نفوسهم، ومحاولتهم طمس الحقائق في قلوبهم، فطبع على قلوبهم، ولذلك وصفهم الله سبحانه وتعالى بأنهم لا يفقهون، فلا يشق نور الحق قلوبهم المعتمة. الأسرى والسبايا من بنى المصطلق: 493- أثخن المسلمون في بنى المصطلق، إذ لم تبق فيهم قوة يستطيعون أن يغيروا بها على المؤمنين فإنه قتل منهم من قتل، وسيق الباقون أسرى وسبايا، ولم يسترقهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم نهائيا فقد شد الوثاق ابتداء، وقيل إنه وزعهم غنائم على المحاربين، ولكنه أطلقهم في النهاية، ونرى أنه تدرج في معاملة الأسرى، ونرجح بهذا المعنى أن غزوة بنى المصطلق كانت بعد غزوة قريظة، ذلك أنه فى غزوة قريظة قتل الرجال، وسبى النساء، وباعهن في نجد في خيل اشتراها في مقابلهن قوة للمسلمين. أما في هذه وهى غزوة بنى المصطلق فقد تصرف صلى الله تعالى عليه وسلم تصرفا حكيما أدى إلى ألا يباع منهم أحد، حتى بعد تقسيمهم بين الغانمين، وألا يسبى منهم امرأة بعد تقسيمهم. فإن كتب السيرة تروى ما ثبت في صحاح السنة، وذلك أن الناس قسموا الرجال والنساء بينهم، وأبقى رسول الله جويرية بنت الحارث التى صارت من بعد من أمهات المؤمنين، ولنترك الكلمة لابن هشام الذى روى بعض الروايات، فهو يقول: يقال أنه لما انصرف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من غزوة بنى المصطلق ومعه جويرية بنت الحارث، دفعها إلى رجل من الأنصار وديعة وأمره بالاحتفاظ بها. وقدم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم المدينة، فأقبل أبوها الحارث بن ضرار لفداء ابنته، فلما كان بالعقيق نظر إلى الإبل التى جاء بها

للفداء، فرغب في بعيرين منها، فغيبهما في شعب» من شعاب العقيق، ثم أتى إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وقال: «يا محمد، أصبتم ابنتى، وهذا فداؤها» فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «فأين البعيران اللذان غيبتهما بالعقيق في شعب كذا وكذا» فقال الحارث: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك محمد رسول الله، فو الله ما اطلع على ذلك إلا الله تعالى. أسلم الحارث، وأسلم معه ابنان له وناس من قومه، وأرسل إلى البعيرين، فجاء بهما الرسول؛ فدفع الإبل إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ودفعت إليه ابنته جويرية، فأسلمت، وحسن إسلامها، فخطبها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من أبيها، فزوجه إياها، وأصدقها أربعمائة درهم. وقد أعتق بعد ذلك كل من كان في يده واحد منهم، وقالوا: أنسترق أصهار رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. هذا ما قاله ابن هشام، ولم يذكر الرواية التى اعتمد عليها، وإن كانت الصحاح توميء إلى ذلك، وإن لم تفصله ذلك التفصيل، وهذا الخبر يدل على أن الرق لم يكتب على أم المؤمنين جويرية. ولكن ابن إسحاق روى عن أم المؤمنين ما يفيد أن رقا قد كتب عليها، وإليك ما روى عن عائشة رضى الله تعالى عنها وعن أبيها، وإليك ما رواه عروة بن الزبير عن عائشة قالت: «لما قسم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سبايا بنى المصطلق، وقعت جويرية بنت الحارث في سهم ثابت بن قيس أو لابن عم له، فكاتبت على نفسها، وكانت امرأة حلوة ملاحة، لا يراها أحد إلا أخذت بنفسه، فأتت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مستعينة في كتابتها ... فدخلت؟ فقالت: يا رسول الله أنا جويرية بنت الحارث، سيد قومه، وقد أصابنى من البلاء ما لم يخف عليك فوقعت في السهم لثابت بن قيس أو لابن عم له، فكاتبته على نفسى، فجئتك أستعين على كتابتي، قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «هل لك في خير من ذلك؟ قالت: وما هو يا رسول الله؟ قال: أقضى عنك كتابتك وأتزوجك، قالت: نعم يا رسول الله، قال: قد فعلت» . وإن الفارق بين الروايتين أن ما ذكره ابن هشام، أن أباها هو الذى زوجها من النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وأنه لم يجر عليها الرق إذ افتداها أبوها بالإبل، وذكر فيها الصداق، وهو أربعمائة درهم، أما رواية ابن إسحق فكتبت أن الرق قد كتب عليها، وأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم دفع عنها ما كاتبت عليه. ونحن نرى أن سياق ابن هشام أكثر انسجاما، واتساقا مع أحكام الإسلام، إذ أن وليها هو الذى زوجها، وذلك مبدأ مقرر في الإسلام، ولم يجز للمرأة أن تعقد زواجها بنفسها إلا أبو حنيفة رضى الله تعالى عنه، وخالفه جمهور الفقهاء.

خطأ في الإدراك:

وفوق ذلك في رواية ابن إسحق ما قد يكون علة في الحديث، ففيه أنه نسب لعائشة رضى الله تعالى عنها وقد وصفتها بأنها امرأة حلوة مليحة: «فو الله ما أن رأيتها على باب حجرتى فكرهتها، وعرفت أنه سيرى منها صلى الله تعالى عليه وسلم ... ما رأيت فدخلت» وإنا نرى أن هذه العبارة، لا يليق أن تنسب لعائشة، لمكانتها في الإسلام، ولا أن ينسب ما تضمنته للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم. وكتب السنة لم تذكر ما ذكرته رواية ابن إسحاق. ومهما كان الأمر في هذه الروايات فإن زواج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ترتب عليه عتق قومها جميعا. وإنا نقول إن زواجه صلى الله تعالى عليه وسلم منها كاف لأن يدع المسلمون ما بأيديهم من الأسرى والسبايا، إذ عتق بزواجها رجال مائة دار من العرب، وقد أسلم قومها، ودخلوا في ظل الإسلام، وكانت تجمع منهم الزكاة. خطأ في الإدراك: 494- لما أسلموا صاروا في ظل الدولة الإسلامية وتابعين لحكم المدينة، فأرسل إليهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الوليد بن عقبة بن أبى معيط ليجمع منهم الزكاة. لما سمعوا به ركبوا إليه، فظنهم مغيرين عليه فهابهم، ويظهر أنهم كانوا يستقبلونه لا ليغيروا ولا ليثوروا، ولا ليحاربوا. عاد إلى الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم فأخبره أن القوم قد هموا بقتله، ومنعوه ما قبلهم من صدقتهم، فأثار بذلك ثائرة بعض المسلمين، وكان منهم من أكثر في القول بغزوهم. وما كان أساس الأمر إلا سوء فهم للأمور، فقد قدم وفدهم على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. قالوا يا رسول الله: سمعنا رسولك حين بعثته إلينا، فخرجنا إليه لنكرمه ونؤدى إليه ما قبلنا من الصدقة، فانشمر راجعا، فبلغنا أنه زعم لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أننا خرجنا لنقتله، وو الله ما جئنا لذلك. والظاهر أن إساءة الفهم كانت منه، وفرض أنهم جاؤا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خوفا من غزو جرى على ألسنة بعض المؤمنين بعيد، لأنه من الضرورى حمل حال المؤمن على

حديث الإفك

الصلاح، ولذا قيل أنه نزل في هذا الموضع قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (الحجرات- 6) والله أعلم بما تخفى الصدور. حديث الإفك 495- اختصت غزوة بنى المصطلق بأن جاء في أعقابها أمور تتبعها أحكام لسياسة الجماعة، وإصلاح النفوس ومداواة مرضى القلوب. فكان فيها معاملة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لمن وقعوا في الأسر والسبى بعد أن أثخن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في محاربيه، وقد كان عمله يتجه إلى المن بدل الفداء وقتل الرجال وسبى النساء، وعمل الرسول سنة متبعة، فهو لا يفرض الرق إلا إذا كان يتوقع أن تكون بينه وبين من أسر منهم حرب، وقد كان يتوقع مع اليهود حربا قد يأسرون من المسلمين فيها، فيسترقون ويسبون فعاملهم بما يتوقع أن يعاملوا بمثله، والحرب بينه وبينهم لم تنته بعد، ولم يثخن في قوتهم، بل لا تزال لهم قوة مرهوبة ولم يكن يتوقع من بنى المصطلق من بعد ذلك حربا، وكان في أثنائها نفاق المنافقين الذين اتجهوا إلى إشعال فتنة بين المهاجرين والأنصار وهم قوة الإسلام، وقد عالج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم الأمر بالترفق بالمنافقين، حتى ينكشف أمرهم ويلفظهم قومهم، ويكون تأديبهم من أهليهم، ثم لا يكون لنفاقهم قوة التأثير، إذ لا يخدع بهم أحد من أهل الإيمان، وينالهم الضلال، وبذلك بين النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كيف يعامل المنافقون بتركهم، حتى يذوى عودهم من ذات نفسه مع التحذير منهم. والأمر الخطير في ذات نفسه، وكان فيه إيذاء للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم وأهله، وهو حديث الإفك، الذى كان في ذاته إثما عظيما، وفي آثاره خطيرا في المجتمع، إذ من شأنه أن يشيع الفاحشة في المجتمع، ويدنسه بظهور الرذيلة فيه، وفوق ذلك فيه هجوم على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وفيه استهانة بمقام صاحب الرسالة الذى كرمه الله تعالى في السموات وفي الأرض، وقال الله تعالى في شأنه لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (الأحزاب- 21) . وقد اشترك في هذا الحديث المنافقون وعلى رأسهم عبد الله بن أبى الذى قالت فيه أم المؤمنين عائشة الطهور: إن الذى تولى كبره عبد الله بن أبى. وكان مع المنافقين زلل لبعض المهاجرين والأنصار، فلم تنزه فيه ألسنة أهل الإيمان من قبيل الاستهانة بالأخبار، وقبولها من غير تمحيص، ولا التفات لمغزاها ومرماها، بل كان تشهيا للحديث مجردا

من كل اعتبار، فكان هذا من بعد تنبها إلى وجوب العمل على حماية المجتمع من مروجات الشر، ومن الخرص بالظنون، والاحتفاظ بكرامات البيوتات، ولقد قال تعالى في ذلك: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ، لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ، بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ. والخير فيما شرف الله به بيت النبوة، وفيما أعقبه من تطهير نفوس الذين خاضوا فيه بإقامة الحد عليهم بجلدهم ثمانين جلدة، ثم ما بين الله سبحانه وتعالى أن الإثم الذى اكتسبه بعض المهاجرين لا يمنع معونتهم من خير يسدى، فحسبهم عقوبة الحد الزاجر. 496- ونذكر الآن حديث الإفك، كما جاء في كتب السيرة وصحاح السنة: كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يختار من نسائه للسفر معه عند ما يريد السفر بالقرعة، فكانت القرعة في غزوة بنى المصطلق على أم المؤمنين عائشة الصديقة بنت الصديق، فخرجت معه في هذه الغزوة وفي عودتها نزلت لحاجتها، فتخلفت عن الركب، ولنترك لابنة الصديق ذكر القصة، وقد وافق ما جاء في الصحيحين عن هذا الأمر. قالت في سفره عليه الصلاة والسلام لبنى المصطلق، «فلما فرغ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من سفره ذلك جاء قافلا حتى إذا كان قريبا من المدينة، نزل منزلا فبات فيه بعض الليل، ثم أذن مؤذن في الناس بالرحيل، فارتحل الناس فخرجت لبعض حاجتى؛ وفي عنقى عقد ... فلما فرغت انسل من عنقى ولا أدرى، فلما رجعت إلى الرحل ألتمسه في عنقى فلم أجده، وقد أخذ الناس في الرحيل فرجعت إلى مكانى الذى ذهبت إليه، فالتمسته، حتى وجدته. وجاء القوم خلافى الذين كانوا يرحلون إلى البعير (أى أنهم ساقوا البعير الذى كان يقلها) وقد كانوا قد فرغوا من رحلته فأخذوا الهودج، وهم يظنون أنى فيه كما كنت أصنع، فاحتملوه، فشدوه على البعير، ولم يشكوا أنى فيه، ثم أخذوا برأس البعير، فانطلقوا به، فرجعت إلى المعسكر، وما فيه داع ولا مجيب، قد انطلق الناس، فتلففت بجلبابى، ثم اضطجعت مكانى، وعرفت أنى لو افتقدت لرجع الناس إليّ، فو الله إنى لمضطجعة، إذ مربى صفوان بن المعطل السلمى، وكان قد تخلف عن العسكر لبعض حاجاته، فلم بيت مع الناس، فرأى سوادى فأقبل حتى وقف، وكان يرانى قبل أن يضرب الحجاب فلما رآنى قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، ظعينة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وأنا متلفلفة في ثيابى، قال: فما خلفك يرحمك الله؟ فما كلمته ثم قرب إلى البعير فقال: اركبى، واستأخر منى، فركبت وأخذ برأس البعير وانطلق سريعا يطلب الناس، فو الله ما أدركنا الناس، وما افتقدت حتى أصبحت ونزل الناس، فلما

اطمأنوا طلع الرجل يقود بى، فقال أهل الإفك ما قالوا، وارتج العسكر، والله ما أعلم بشيء من ذلك، ثم قدمنا المدينة» . هذه عبارة أم المؤمنين الصادقة بنت الصديق تبين الواقعة، كما هى؛ وكما عاينت وشاهدت، ولنتركها تذكر ما شاع ومن أشاع، فهى تحكى الوقائع، وتحكى خلجات نفسها المؤمنة الباكية وهى في غضارة الصبا. «فلم ألبث أن اشتكيت شكوى شديدة لا يبلغنى من ذلك شيء، وقد انتهى الحديث إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وإلى أبوى، لا يذكرون منه قليلا ولا كثير، إلا أنى قد أنكرت من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعض لطفه بى، وكنت إذا اشتكيت رحمنى ولطف بى، فلم أزل في شكواى، فأنكرت ذلك منه، كان إذا دخل على وعندى أمى تمرضنى، قال: كيف تيكم؟ لا يزيد على ذلك، حتى وجدت في نفسى فقلت: يا رسول الله- حين رأيت ما رأيت من جفائه لى- لو أذنت لى، فانتقلت إلى أمى فمرضتنى، قال: لا عليك. فانقلبت إلى أمى، ولا علم لى بشيء، مما كان حتى نقهت من وجعى بعد بضع وعشرين ليلة ... فخرجت ليلة لبعض حاجتى ومعى أم مسطح ابنة أبى رهم بن عبد، فو الله إنها لتمشى إذ عثرت في مرطها، فقالت: تعس مسطح، قلت: بئس لعمرو الله ما قلت لرجل من المهاجرين، وقد شهد بدرا!! قالت: أو ما بلغك الخبر، فأخبرتنى بالذى كان من قول أهل الإفك، قلت: أو قد كان هذا؟ قالت: نعم والله قد كان، فو الله ما قدرت على قضاء حاجتى، ورجعت، فو الله ما زلت أبكى، حتى ظننت أن البكاء سيصدع كبدى، وقلت لأمى: يغفر الله لك!! تحدث الناس بما تحدثوا به، ولا تذكرى لى من ذلك شيئا!! قالت: أى بنية خففى عليك الشأن، فو الله لقل ما كانت امرأة حسناء عند رجل يحبها لها ضرائر، إلا كثرن وكثر الناس عليها. قالت: وقد قام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فخطبهم، ولا أعلم بذلك فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس ما بال رجال يؤذوننى في أهلى، ويقولون عليهم غير الحق. والله ما علمت عليهم إلا خيرا، ويقولون ذلك لرجل ما علمت منه إلا خيرا، ولا يدخل بيتا من بيوتى إلا وهو معى. قالت أم المؤمنين عائشة: وكان كبر ذلك عند عبد الله بن أبي بن سلول في رجال من الخزرج مع الذي قال مسطح، وحمنة بنت جحش، وذلك أن أختها زينب بنت جحش كانت عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ولم تكن امرأة من نسائه يناصبني في المنزلة عنده غيرها، فأما زينب فعصمها الله بدينها، فلم تقل إلا خيرا، وأما حمنة فأشاعت من ذلك ما أشاعت، تضارني لأختها، فشقيت بذلك.

فلما قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم تلك المقالة قال أسيد بن حضير: يا رسول الله إن يكونوا من الأوس نكفيكهم، وإن يكونوا من إخواننا الخزرج، فمرنا أمرك، فو الله إنهم لأهل أن تضرب أعناقهم. فقام سعد بن عبادة، وكان قبل ذلك يرى رجلا صالحا، فقال: كذبت لعمرو الله، ما تضرب أعناقهم، أما والله ما قلت هذه المقالة إلا لأنك قد عرفت أنهم من الخزرج، ولو كانوا من قومك ما قلت هذا. فقال أسيد بن حضير: كذبت لعمرو الله، ولكنك منافق تجادل عن المنافقين، وتساور الناس. حتى كاد يكون بين هذين الحيين من الأوس والخزرج شر. فدخل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عليّ، فدعا على بن أبى طالب، وأسامة بن زيد، فاستشارهما، فأما أسامة فأثنى خيرا ثم قال: يا رسول الله أهلك، وما نعلم عنهم إلا خيرا، وهذا الكذب والباطل. وأما على فإنه قال: يا رسول الله إن النساء لكثير، وإنك لقادر أن تستخلف، وسل الجارية فإنها ستصدقك، فدعا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بريرة يسألها، فقام إليها فضربها ضربا شديدا «1» . ويقول: أصدقى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فتقول (بريرة) : والله ما أعلم إلا خيرا، وما كنت أعيب على عائشة إلا أنى كنت أعجن عجينى، فامرها أن تحفظه، فتنام عنه، فتأتى الشاة فتأكله. ثم دخل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وعندى أبوى، وعندى امرأة من الأنصار، وأنا أبكى وهى تبكى، فجلس، فحمد الله تعالى، وأثنى عليه، ثم قال: يا عائشة، إنه قد بلغك من قول الناس فاتقى الله، إن كنت قد قارفت سوآ مما يقول الناس، فتوبى إلى الله، فإن الله يقبل التوبة عن عباده، فقلص الدمع، حتى ما أحس منه شيئا. وانتظرت أبوى أن يجيبا عنى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فلم يتكلما، وأيم الله لأنا كنت أحقر في نفسى وأصغر شأنا من أن ينزل في قرآنا يقرأ، ويصلى به الناس، ولكنى كنت أرجو أن يرى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ما يكذب الله به عنى لما يعلم من براءتى، ويخبر خبرا، وأما قرآنا ينزل في، فو الله لنفسى كانت أحقر عندى من ذلك. ولما لم أر أبوى يتكلمان قلت لهما ألا تجيبان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. فقالا: فو الله لا ندرى بما نجيبه، ووالله ما أعلم أهل بيت دخل عليهم ما دخل على آل أبى بكر في تلك الأيام، فلما استعجما على استعبرت فبكيت، فقلت: لا أتوب إلى الله مما ذكرت أبدا، والله إنى لا أعلم إن أقررت

_ (1) أكثر الروايات لم تذكر الضرب، وما كان لعلي أن يضرب في حضرة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وفسر السهيلي الضرب بالقول الشديد.

بما يقول الناس، والله تعالى يعلم أنى منه بريئة لأقولن ما لم يكن، ولئن أنا أنكرت يقولون لا تصدقونى، ثم التمست اسم يعقوب أذكره، ولكن سأقول كما قال أبو يوسف: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ، فو الله ما برح رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مجلسه، حتى تغشاه من الله ما كان يتغشاه، فسجى بثوبه، ووضع وسادة من أدم تحت رأسه، فأما أنا حين رأيت من ذلك ما رأيت، فو الله ما فزعت، وما باليت، قد عرفت أنى بريئة، وأن الله تعالى غير ظالمى، وأما أبواى فو الذى نفس عائشة بيده ما سرى عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، حتى ظننت لتخرجن أنفسهما حزنا من أن يأتى من الله تحقيق ما قال الناس، ثم سرى عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فجلس، وإنه ليتحدر عن وجهه مثل الجمان- فى يوم شات- فجعل يمسح العرق من وجهه، ويقول: أبشرى يا عائشة قد أنزل الله عز وجل براءتك. قلت: الحمد لله. ثم خرج على الناس فخطبهم، وتلا عليهم ما أنزل الله تعالى من القرآن الكريم، ثم أمر بمسطح ابن أثالة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش ممن أفصح بالفاحشة فضربوا حدهم. 497- ذكرنا القصة مع طولها، كما جاءت على لسان المجنى عليها، وقد اخترنا تلك الرواية لما فيها من جمع لكل معانى الروايات، لأنها تصور نفس تلك الصبية الكريمة التى لم تكن قد تجاوزت الرابعة عشرة من سنها. امتحن الله تعالى تلك الصبية الطاهرة لزوج أعظم رجل في الوجود الإنسانى وابنة صاحبه في الغار، وهى في سن قريب من الطفولة، امتحنت أولا- بأن تخلفت عن الركب، وصارت في أرض قفر وحدها، فلم تصرخ ولم تولول، بل فوضت مؤمنة أمرها لربها، وتجلببت بجلبابها، ونامت آمنة مطمئنة منتظرة أمر الله فيها عالمة أن الله لا يضيعها، ويجيء رجل مكتمل عرف بالتقوى، بل قيل أنه حصور ليس له في النساء أرب، فاسترجع عند ما رآها، وعجب أن يرى في الليل، وفي هذا المكان الموحش، وهو يسترجع ويقول: ظعينة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وينيخ لها البعير، فتركبه من غير معونة أحد، وليس معها مكان الرحيل بها وهو هودجها، إذ أنه حمل على بعيرها، زعم من رفعوه إليها أنها فيه، لصغر ثقلها. وإنها من بعد ذلك تستقبل المدينة بصخبها وجلبها، ونفاق بعضها، وفضول الأكثرين الذين لا يتركون الظن أو التظنن، وهو من الإثم، كما قال الله تعالى: إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ (الحجرات- 12) . وإذا ظنوا أشاعوا غير ناظرين إلى عاقبة، ولا إلى أثر القول، ولا إلى موضوع القول، ومكانة صاحبته فى أهلها وبعلها، ومكان من يناله السوء من إشاعة، ويندفع في ترداده غير عالم له بحقيقة، ولكنها ظن السوء المجرد وشهوة قول الفتنة، والفضول الذى يسود بعض الناس، وما أصدق قول الله تعالى في وصف

الذين خاضوا، وهم الجماعات الإنسانية قلوا أو كثروا، وهو يقدم لهم أحسن الأدب، وما يجب التحلى به عند ما يقال القول من أحمق مأفون، أو منافق مفتون، يقول تعالت كلماته: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ، وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ. وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ. يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (النور 15- 17) . نعم إنهم تلقوه بألسنتهم، لا بعيونهم، وأخذوه من الألسنة المرددة، لا من مصادر العلم المتيقنة، وأشاعوه بالأفواه لتزجية القول في المجالس، والسمر الماجن الفاسد، ويحسبون ذلك أمرا سهلا، معتادا، وهو عند الله تعالى أعظم الفرية، وإن المؤمن لا يتلقاه بالترويج والإشاعة إنما يرده، أو يبعدوا الفضول عن أنفسهم، وإنه لا ينبغى ترداده، بل رده، لأنه بهتان عظيم. وهنا قد شاعت قالة السوء، ورددها المهاجر والأنصارى والمنافق والمخلص في غير تحر ولا احتراس عن لغو القول وبهتانه، هنا نجد عظمة الرسول، وإيمانه بأن الطيبين للطيبات وحسن ظنه بأهله. وقوة إيمانه النبوى وضبط نفسه، وصبره، فيقول شاكيا الناس إلى الناس: ما بال رجال يؤذوننى في أهلى، ويقولون عليهم غير الحق، والله ما علمت عليهم إلا خيرا، ويقولون ذلك لرجل والله ما علمت منه إلا خيرا، ولا يدخل بيتا من بيوتى إلا وهو معى. لام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الرجال الذين أشاعوا القول الكاذب، وتضمن قوله لوم الذين استمعوا إليهم. ولقد كان ذلك إنهاء لترداد القول، لأن الذى نفى الخبر وكذبه هو صاحب الشأن، وهم من علموه لا ينطق عن الهوى. فكان ذلك إطفاء للثائرة. ولكن إذا كان ذلك القول من أخلاق النبوة فقد بقى حكم البشرية، والبشرية لها سلطان لم تكذب ولم تصدق، ولكن النفس ارتابت، والارتياب ينساب في النفوس إذا كانت له أسباب ولو بالظن الذى لا دليل على صدقه. وهنا نجد التعليم العالى من محمد صلى الله تعالى عليه وسلم لمن يختبره الله تعالى بمثل تلك القالة الآثمة. فهو لا يسارع إلى أهله يبادرهم بالاتهام أو الإيذاء، أو غير ذلك مما يرتكبه ابن الإنسان في غضبه أو ريبه، بل إنه يتلقى ذلك بالصبر الكظيم الهاديء الذى يميل إلى التبرئة، ولا يميل إلى الاتهام. ولكن أمرا لا يملكه وهو ألا يبدو عنه أثر للألم المكين، وإن لم يظهر لعنا ولا سخطا، بل إنه لا يفكر في أن يذكر لها الخبر، حتى تتبرأ، فتكون الزوبعة قد هدأت والسحابة العارضة قد تبددت، ولكنها

لا تعلم، وقد كانت غافلة عما يجرى بين الناس من قول، قد أطفأه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بإعلان كذبه وبهتانه. ولكن الصبية الطاهرة المؤمنة تعلم، والقول يجرى بشأنها من الآثمين الذين لعنهم الله تعالى في كتابه، إذ قال: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (النور- 24) وأى ذنب أعظم إثما من رمى هذه المؤمنة الغافلة الوفية ابنة الصديق وزوج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بمنطق العقل والإيمان لا يصدق، وبمنطق النفس البشرية يرتاب، فاستشار خواصه، فكلهم كذب، وشدد في التكذيب، وهو يقول إنك طيب لا يختار الله تعالى لك إلا طيبا، نسب ذلك لعمر بن الخطاب الفاروق. وقد سأل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم اثنين من القريبين من بيته، وهما أسامة بن زيد، وعلى بن أبى طالب. سأل أسامة، فأثنى خيرا، وكلامه في أم المؤمنين عائشة يترقرق فيه بشر الاطمئنان. وسأل عليا القاضى الذى قال فيه «أقضاكم علي» فأجاب إجابة قوية لم يتهم ولم يكذب، ولم يثن، ولم يهاجم، بل وقف كما يقولون موقفا محايدا. وفي الحق إن ذلك هو السبيل لإزالة الريب، قال: يا رسول الله إن النساء لكثير، وإنك لقادر على أن تستخلف. وإن هذا لا شك ما كانت أم المؤمنين ترضاه من على بطبيعة المرأة المحبة المخلصة المثالية، وهو مهما يكن أثره في قلب أم المؤمنين يؤيد حياد على في القضية، وهو يجعله أقرب إلى الاتباع، يقول على القاضى المحقق: سل الجارية فإنها تصدقك، أخذ التحقيق طريقه، فسأل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بريرة، فقالت ما أدخل الاطمئنان في قلب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وابتدأ يزيح غشاء الشك. قالت: والله ما أعلم إلا خيرا، وما كنت أعيب على عائشة شيئا، إلا أنى كنت أعجن عجينى، فامرها أن تحفظه، فتنام عنه، فتأتى الشاة فتأكله. كان الاطمئنان وإن لم يكن كاملا، وخصوصا أن الوصف الذى وصفتها به هو من أسباب إشاعة قول السوء من الأفاكين الآثمين، فإذا كانت غلبة النوم تسببت في أن تأكل الشاة عجين بريرة، فقد كانت غلبة النوم هى التى فتحت باب الاتهام الآثم للأفاكين. بعد أن استأنس النبى بدليل البراءة بعد أن برأها بإيمانه، وبعد أن علمت هى، واجهها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وهى حبه في الدنيا والآخرة، قال لها ما يدل على أنه غير خاف ولا تارك

له، يا عائشة، إنه قد كان ما بلغك من قول الناس فاتقى الله، وإن كنت قد قارفت سوآ مما يقول الناس، فتوبى إلى الله. فإن الله يقبل التوبة عن عباده. لقد كانت تبكى، فجف الدمع من قوله، لأنها كانت ترجو فيه الرضا بعد الجفوة، ترجوه رضا مطلقا لا رضا معلقا، وترجو ألا يكون منه، وهو الحبيب الرسول النفى المطلق في مواجهته، وتلفتت الصبية المؤمنة المحصنة الطاهرة أن يجيب عنها أحد، وقد قال أحب حبيب لها في الوجود ما لا يقطع بالنفى المطلق، المثبت لبراءتها، فلم يجب أبواها، وكانت في حيرة البريء الذى يجرى حوله الاتهام، ويحيط بها من كل جانب، رأت أنها إن كذبت لا تصدق، وإن أثبتت كذبت. فتركت أمرها لله تعالى، لا ترجو سواه، وما كانت تظن أنها بلغت مبلغ أن ينزل قرآن يتلى ويصلى به في براءتها، وإنها تزعم أنها أصغر من ذلك، ولكن مقامها عند الله كبير لأنها صبرت مطمئنة إلى حكم الله تعالى، ورضيت بأن يكون وحده هو الذى يعلن براءتها، فنزلت الآيات الكريمات المبرئات بالدليل، إذ قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ، لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ، بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ، وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ. لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً، وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ. لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ، فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ. وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ. إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً، وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ. وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا، سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ. يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ. وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ، وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ، وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ

وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ، يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ، وَأَيْدِيهِمْ، وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ. يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ. الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ، وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (النور- 11، 26) . 498- هذه حادثة الإفك والبهتان، وننظر فيما تشير إليه الآيات الكريمات التى نزلت ببراءة الطاهرة الصادقة بنت الصديق أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها. تشير الآية الكريمة أولا إلى أن أكثر الشر في الجماعة يجيء من أمور يحسبها الناس أمورا هينة وليست هينة في ذاتها، بل هى إثم كبير، كما أنها ليست هينة في آثارها لأنها تحل المجتمع وتشيع الفاحشة فيه، وتهون الرذائل ويكون فيه رأى عام غير فاضل، بل رأى عام فاسد، ولا تفرخ الرذائل إلا في رأى عام فاسد، ولذلك شدد القرآن الكريم في وجوب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ليكون رأى عام فاضل يحث على الفضيلة، ويدفع الرذيلة. وتدل الآية ثانيا على أن الشهادة في الفاحشة، لا تكون إلا بأربعة شهداء وإلا كان القول كاذبا عند الله تعالى مهما تكن مكانة القائل الاجتماعية، ولذلك اقترن بهذه القالة الفاسدة حد القذف. وتدل ثالثا على أن الظالم لا يظلم ولا يمنع من الخير مادام قد استوفى عقابه على ما ارتكب، لقد كان أبو بكر رضى الله تبارك وتعالى عنه يمد مسطحا وهو ذو قرابة به، فلما خاض في حديث الإفك، قطع عنه فنزل نهى الله تعالى عن ذلك في قوله تعالى في الآيات التى تلوناها، وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى إلى آخر الآية الكريمة. وتدل هذه الآية على أمرين: أولهما: أن الزكاة يجوز إعطاؤها للعصاة وقد أخطأ في ذلك بعض الفقهاء، فإنها قد تمنعهم من كثير من الجرائم، وقد تدنى قلوب العصاة، فإن الجفوة تولد الجرائم، والعطاء يرطب النفوس فلا تجفو، وتحس بأن عيشها مؤتلفة مع الجماعة أدنى إلى الراحة. ثانيهما: أن الإعطاء عند الجفوة يقرب ويمنع البعد، وأن الصدقة تطفيء المعصية وتجلب الغفران، ألا ترى إلى قوله تعالى: أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ولقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم «ليس الواصل بالمكافىء، إنما الواصل من يصل رحمه عند القطيعة» . وتدل رابعا على طهارة نساء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم طهارة مطلقة لأن الخبيثات للخبيثين والطيبات للطيبين، فتلك سنة الله تعالى في خلقه، ولم تكن مخالفتها إلا في امرأة فرعون التى ذكرها القرآن

الأثر النفسى من على كرم الله وجهه:

بالخير، وقد كانت مع شر خلق الله، وكذلك في امرأة نوح ولوط اللتين خانتا هذين الرسولين الطاهرين، وقد قال تعالى في ذلك: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ، إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا، وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ، وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (التحريم- 11، 12) . ويقول الله تعالى قبل هاتين الآيتين: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما، فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً، وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (التحريم- 10) . فكان نساء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من الطيبات. الأثر النفسى من على كرم الله وجهه: 499- يبدو من سياق القصة كما روتها أم المؤمنين عائشة رضى الله تبارك وتعالى عنها أن كلام على رضى الله تعالى عليه لم يقع من نفسها موقع الرضا، كما وقع كلام أسامة، وكما وقع كلام الصحابة الذين قالوا خيرا. وذلك لأن عليا كرم الله وجهه لم يكن في كلامه ما يرضى، ولكن كان في كلامه ما يكون سبيلا لإنهاء الموضوع، ولكيلا يشغل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بأمر عارض. وما كان يرضى كلام على عائشة، لأنه لم يشهد بالبراءة كما شهد غيره، ولعلها كانت ترى أنه أعلم ببراءتها أكثر من غيره من الصحابة، ولأن له بالبيت الذى هى فيه صلة، فشهادته تكون أقوى من شهادة غيره. ولأنه قال كلاما لا يرضى من لها مكانة عائشة في قلب النبى، لأنه قال: النساء غيرها كثيرات وأن له أن يستخلف غيرها. وإذا كان ذلك لم يرض البريئة الطاهرة، فإنه كان السبيل إلى صرف النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى التحقيق، ووراء التحقيق كان الاطمئنان الابتدائى، ثم كان وراءه الإبراء لها من النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ثم الإبراء لها من الله تعالى. ولقد استرسل المؤرخون في ذكر ما بينها وبين على كرم الله وجهه، حتى جعلوه سبب الخروج عليه في واقعة الجمل، وقالوا ما قالوا في ذلك.

حد القذف

ونحن نقول إنه بلا ريب لم يرض على عاطفتها، ولكنها في ظنى ما أبغضته، وإن خالفته على كلام في ذلك، وإن الدليل على أنها لم تبغضه أنه عند ما نعى إليها ذهبت إلى قبر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وقالت: جئت أنعى إليك أحب أصحابك إليك، جئت أنعى إليك صفيك المجتبى، وحبيبك المرتضى، على بن أبى طالب. وما كان من شأنها أن تبغض أحب أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إليه، فرضى الله عنها وكرم الله وجهه. حد القذف 500- أحسب أن حد القذف قد شرع لهذه المناسبة التى شاعت فيها قالة السوء، وحديث الإفك، لأن الآيات جاءت متصلة بعضها ببعض، إذ أنه ذكر فيها نصاب الشهادة بالزنا، وهو أربعة شهداء وأنه إذا لم يكن الشهداء الأربعة، فإن الرامى بالزنا يكون كاذبا، وهذا الحد هو جزاء الكذب، وقد ذكر الله تعالى الحد في قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً، وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ. إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ، وَأَصْلَحُوا، فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. ونلاحظ أن الآية دلت على عقوبة أصلية مادية، وهى ضربهم ثمانين جلدة، وذكرت عقوبتين تابعتين معنويتين. إحداهما: ألا تقبل لهم شهادة أبدا، لأنهم كذبوا في مقام يجب الاحتراس فيه، ولأن الله تعالى وصفهم بأنهم الكاذبون، وحصرهم في وصف الكذب فقال تعالى: لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ، وكيف تقبل شهادة من حصر فى الكذب بحكم الله تعالى، ولذلك منع قبول شهادتهم أبديا، فقال تعالى: وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً. الثانية من العقوبات التبعية وصفهم بالفسق، وهذا الوصف يستمر إذا لم يتوبوا، فالاستثناء بالتوبة إنما هو من وصف الفسق، فلا يكون التائب توبة نصوحا فاسقا، بل لا يكون مذنبا، لأن التوبة تجب الذنوب، كما قال تعالى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (طه- 82) . ولقد طبق رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حد القذف على مسطح وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش، أخت أم المؤمنين زينب بنت جحش التى منعها دينها من أن تخوض في حديث

حد اللعان

الإفك مع أنها الضرة التى كانت تناصى عائشة رضى الله عنهما المنزلة عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وكان قد نزل حد القذف من قبل. وهنا يرد سؤال: إن الذين تحدثوا حديث الإفك كانوا أكثر من ثلاثة، فقد تناول القول به غير ثلاثة، بل إن أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها قالت: إن الذى تولى كبره عبد الله بن أبى، فلماذا لم يقم الحد، إلا على هؤلاء الثلاثة. ونقول في الجواب عن ذلك أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ذكر أن هؤلاء قد صرحوا بالرمى ويظهر أنه قام الدليل على أنهم تكلموا، ولم يقم الدليل على غيرهم. ولكن أم المؤمنين عائشة قالت إن الذى تولى كبره رأس المنافقين فكيف لا يحد، وهو الآثم الأوّل. ونقول في الجواب عن ذلك أنه بلا ريب هو الذى تولى كبر هذا، بالتنبيه على ما يسهل على غيره الرمى، من غير أن يصرح بالرمى، ويدس الخبر في الناس بلحن القول من غير تصريح، فيحمل الناس على أن يتكلموا، وهو لا يظهر الكلام إلا بين خاصته الذين يشيعون الإفك بتوجيه الأذهان إليه من غير أن يصرحوا، فهم يوعزون بالقول، ولا يظهرون، ويدفعون غيرهم، ولا يتكلمون، وتلك حال المنافقين يستترون ولا يتكلمون، وبذلك تتحقق في غيرهم شروط إقامة الحد، ولا تتحقق فيهم، والله أعلم. والقذف هو الرمى بالزنى، سواء أكان رميا للرجل أو المرأة. حد اللعان 501- واللعان نزل عقب بيان حد القذف وقبل حديث الإفك، وحد القذف سببه رمى الرجل أو المرأة بالزنا إذا لم يكن بينهما عقد زواج، أى يكون المقذوف ليس زوجا للقاذف. أما اللعان فإنه يكون عند ما يرمى الزوج زوجته، واللعان أن يحلف الزوج الرامى أربع مرات أنه صادق فيما يرمى به زوجته من الزنا أو نفى الولد منه، والخامسة أن لعنة الله تعالى عليه إن كان من الكاذبين، فالحلف تضمن سلبا وإيجابا، والإيجاب كان بالحلف على وقوعه، والسلب كان بالحلف باستحقاق لعنة الله إن كان كاذبا. وقد ثبت بقوله تعالى بعد آية حد القذف: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ، فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ. وَالْخامِسَةُ

أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ. وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ. وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (النور- 6، 9) . وكان اللعان إذا كانت الزوجية قائمة وقت الرمى بالزنا بأن تكون قائمة حقيقة، أو حكما بأن تكون في عدة الطلاق الرجعى. واختص رمى الزوج لزوجته بألا تكون شهادة أربعة، لأنه لا سبيل لأن يحضر أربعة يشهدون واقعة زنى زوجته، ولأن الغيظ الذى يكون عليه الزوج لابد أن يطفأ ولو بالقول في حضرة الحاكم. ولقد جاء رجل إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: يا رسول الله، إن الرجل يجد الرجل مع أهله، وإن قتله قتلتموه، وإن تكلم ضربتموه، وإن سكت، سكت على غيظ، اللهم بين، فنزلت آية اللعان مبينة كاشفة. وإنه إذا تم اللعان فرق بين الزوجين، فرقة أبدية عند جمهور الفقهاء، وأجاز أبو حنيفة العودة إليها بعقد جديد ومهر جديد إذا كذب نفسه. وقد قال بعض الناس في أيامنا هذه هل يطبق حد اللعان إذا رمت المرأة زوجها بالزني، ولم يكن عندها شهداء أربعة. ونقول في الجواب عن ذلك أن اللعان ورد بالنص في حال ما إذا رمى الزوج زوجته، وكان تفصيله في الحلف أربعة إيجابية، وواحد سلبى، أما المرأة، فكان أربعة سلبية وواحد إيجابى. ولا يمكن ثبوت الحدود إلا بالنص، إذ أنها تدرأ بالشبهات، فإن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: «ادرأوا الحدود بالشبهات ما استطعتم» . ولا يمكن أن نثبته بالقياس، لأن علة القياس غير ثابتة بقدر واحد في المقيس والمقيس عليه، إذ أن المرأة وعاء النسل للرجل، فمن حقه أن ينفى نسب الولد إذا كان من غيره، ولأن زنى المرأة أشد خطرا على الأنساب من زنا الرجل، فليسا مشتركين في علة التخفيف من القذف إلى اللعان، ولأن المرأة في بيت الرجل، فالحكم منه بالزنا عليها قد يكون من غير حضور شهداء، يشهدون. أما الرجل فالزنا منه في أكثر الأحوال يكون خارج المنزل، فعلمها به، إما أن يكون من غير بينة، بل بالحدس والتخمين أو بإخبار الناس من غير تعيين للمخبرين، وذلك هو الغالب، وإما أن يكون بمخبرين معينين، وفي هذه الحال تثبت الرمى بالزني، ويكون حينئذ حد القذف، وما يترتب عليه من عقوبات مادية وتبعية، والله سبحانه وتعالى هو العليم بذات الصدور.

حد الزنا

حد الزنا 502- الآيات تتلى وإليك آية حد الزنا، وآية حد القذف، وآيات الإفك، وهذا التوالى الكافى ينبيء عن أن يكون النزول في وقت واحد أو متقارب، ومناسبة واحدة. ونشير في هذا المقام إلى أن الزنا وردت فيه آيات يبين بعضها بعضا. أولها: قوله تعالى: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ، أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا. وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما، إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (النساء- 16) . فهاتان الآيتان تفيدان أن ثمة عقوبة تخص المرأة، وأخرى تعم الرجل والمرأة، فأما التى تخص المرأة، فإمساكها في البيوت حتى تموت أو يجعل الله تعالى لها سبيلا بالزواج، كما هو الظاهر الواضح. وأما التى تعم الرجل والمرأة، فهو الإيذاء، وقد جاءت السنة بعقوبة للرجل تقابل عقوبة المرأة التى تخصها، وهو التغريب سنة، وهذا يقابل الإمساك في البيوت. والإيذاء لهما بينته آية النور، ولم تكن ناسخة، كما جاء على أقلام كثيرين من الكتاب، لأن النسخ لا يصار إليه إلا إذا تعذر التوفيق بين النصين، والجمع هنا ممكن، وهو واجب، لأن كل آية تتمم الآخرى أو تبينها، كما في الآيات الواردة في عقوبة الزنا. والإيذاء المبين في سورة النور هو قوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ، وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً، وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ، وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (النور- 2، 3) . وجاءت بعد ذلك آيات حد القذف، ثم آيات اللعان ثم حديث الإفك والبهتان الذى يصور جريمة الرمى بالزنا، وأنها تشيع الفاحشة في الدين، وتفسد الجماعة، وتجعلها تعيش في مجتمع معتم بالرذيلة، والاستهانة بها. ويجب التنبيه هنا إلى أمرين- أحدهما- أننا لا نقول جازمين أن هذه الآيات المتعلقة بهذه الحدود، قد نزلت كلها عقب غزوة بنى المصطلق أو في أثنائها، أو عند حديث الإفك، والذى يغلب علينا أن حد القذف والزنى قد نزل قبلها بقليل أو بكثير كما أشرنا، ولذلك طبق حد القذف على الذين

الحديبية

ارتكبوا ذلك الإثم، ولا يقال إنه قد طبقت عليهم عقوبة لم تكن ثابتة وقت ارتكابهم ما حقت عليهم بسببها، وإن العقوبات تطبق على الحوادث اللاحقة ولا تطبق على الحوادث السابقة، كما يقرر علماء القانون الوضعى، وإن كان في ذلك القول نظر يوجب تمحيصه. التنبيه الثانى: أن العقوبات في الإسلام تسير سيرا طرديا مع منازل المرتكبين، فتكبر العقوبة مع كبر المجرم، وتصغر مع صغره، لأن الجريمة مهانة، والمهانة تهون على الصغير، لأن نفسه مهينة في نظره، والمهانة من ذى المنزلة أمر كبير. ولذلك جعل الإسلام العقوبة المقدرة على العبد نصفها إذا وقعت الجريمة على الحر، وقد قال تعالى في شأن الإماء فَإِذا أُحْصِنَّ، فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ، فإذا كانت الحرة إذا زنت تجلد مائة، فإنه إذا زنت الأمة تجلد خمسين. وكذلك الأمر بالنسبة للعبد، وكذلك الأمر بالنسبة لكل الحدود، لا فرق بين حد وحد، وكل ذلك في العقوبات القابلة للتنصيف. ولقد أجمع الفقهاء على أنه يجب تخفيف ما على العبد بعد تنصيفه، فيكون السوط الذى يجلد به العبد أخف من سوط الحر. الحديبية 503- انتشر الإسلام في الصحراء العربية، تبعه من تبعه، وعلم بأمره الكثيرون، وكان من الأعراب مؤمنون كما كان منهم مسلمون، أعلنوا إسلامهم، وإن لم تؤمن قلوبهم، وكان منهم من استمر على شركه، ولكن صار في المسلمين قوة ولهم هيبة تجعل الذين بقوا على شركهم ينظرون إلى الدعوة للتوحيد، والإيمان بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم على أنها ذات مكانة جعلتهم يفكرون ويقدرون، ولا يكتفون بالرد بادى الرأى، والإنكار المطلق من غير تفكير ولا تدبر. والقول الجملى أن الريب دخل قلوبهم من ناحية عبادة الأوثان، وهم يعلمون الله تعالى بذاته وصفاته، ولا شك أن ريبهم في أوثانهم هو الطريق لأن يدخلوا في دين الفطرة مؤمنين آمنين، صارت الدعوة الإسلامية تملأ الآفاق، ولم يعد أحد من الأعراب أو من لف لفهم يفكر في غزو المدينة فهى محروسة بحراسة الله تعالى، مصونة بكلاءة الله تعالى. فإذا كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد أمن غزو الأعراب، أو أن يدخلوا في أحلاف مع أعدائه، فقد آن له أن يتجه إلى قريش الذين يناصبونه العداوة، لا ليقاتلهم، فهو لا يقاتل إلا دفاعا، كما رأينا في سراياه وغزواته السابقة.

غزوة الحديبية:

ولكن قريشا تعاديه والحرم المكى الشريف تحت سلطانها، فلا بد أن يفرغ من عداوتها، تمكينا للدعوة، وتعبيدا للسبيل إلى الحج، الذى هو نسك من نسك الإسلام، ولأنه صلى الله تعالى عليه وسلم يريد التفرغ لليهود الذين تجمعوا في خيبر، وهم وحدهم الذين يريدون الانقضاض على المدينة، زاعمين أنها ديارهم أخرجهم منها، وقتل من قتل منهم. فكان لابد أن يعرف أمر قريش، وأن يعرف أهم يسهلون له أداء فريضة الحج، بقية ديانة إبراهيم فى أرض العرب، أم أنهم يقفون في سبيله كما وقفوا دائما. لابد أن يقرن النية بالعمل، فذهب ليحج، وكانت موقعة الحديبية التى سماها الله تعالى فتحا مبينا، لأنها أزالت الحواجز النفسية التى كانت تحاجز بين النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وبين قريش، والتقى بهم الأمين الحبيب الذى عرفوه في صباه، وشبابه، وزالت المحاجزات بسبب الخلاف والنفور، والحرب. غزوة الحديبية: 504- فى ذى القعدة سنة ست من الهجرة النبوية، كما تطابقت كل الروايات، وهى من أشهر الحج، اعتزم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ومن معه من أصحابه الحج، وكان معه سبعمائة، ولكن قال جابر بن عبد الله: كان معه أربع عشرة مائة أى نحو 1400، وهذا معقول، فقد كان جيشه صلى الله تعالى عليه وسلم مرهبا لقريش، وما كان يرهبها ما دون الألف، ولقد ذكر ذلك العدد، وهو 1400 (أربعمائة وألف) البخارى وغيره، ورقم السبعمائة لابن إسحاق. خرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهم لا يريدون حربا، بل يريدون حجا جامعا، ولكنه ما أن وصل إلى عسفان حتى لقيه بشر بن سفيان الكعبى، ويظهر أن قريشا قد علمت أو ظنت خروج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهى الحذرة المتحفزة. قال بشر بن سفيان: يا رسول الله، هذه قريش قد سمعت بمسيرك، فخرجوا معهم العوذ المطافيل قد لبسوا جلود النمور، وقد نزلوا بذى طوى، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبدا، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قد قدموا إلى كراع الغميم. قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الرحيم بقومه راجيا الإسلام فيهم، وإن حاربوه: يا ويح قريش قد أكلتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلوا بينى وبين سائر العرب، فإن أصابونى كان ذلك الذى أرادوا، وإن أظهرنى الله تعالى عليهم دخلوا في الإسلام وافرين، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة فما تظن قريش، فو الله لا أزال أجاهد على هذا الذى بعثنى الله به، حتى يظهره، أو تنفرد هذه السالفة.

المراسلة بين الفريقين:

بعد هذا لم يرد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يلقى مقاتليهم، حتى لا يسبق السيف الرأى، وهو يريد أن يحج، ولا يريد أن يرغمهم، بل يريدهم مختارين، لأن الاختيار يؤلف، والقتال ينفر، والإجبار بالسيف يرمض النفس، ويكلمها، ولا يريد عليه السلام كلما، بل يريد شفاء للقلوب من غيظها. ندب رجلا يخرج بالمسلمين إلى طريق غير طريقهم فسار في طريق وعث، حتى وصل ثنية المراد مهبط الحديبية من أسفل مكة. ولما رأت خيل قريش كروا راجعين ليكونوا بمكة المكرمة والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم بالجيش إلى ثنية المراد. بركت ناقته، وكأن الله تعالى قد اختار له هذا المكان، فلما بركت الناقة قال الناس خلأت، فقال عليه السلام: (ما خلأت) وما هو لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة، لا تدعونى قريش اليوم إلى خطة يسألونى فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها، قال ذلك لأنه جاء وهو الهادى الداعى إلى الحق ليقرب نفوسهم بعد الحرب التى شنوها، ومكنه الله تعالى منهم. قال لجيشه: انزلوا، فقالوا: ما بالوادى ماء، ولم يكن به ماء، ولكن قلب مطمورة، فأعطى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم سهمه رجلا من رجاله، فنزل به في قليب من تلك القلب وغرز فيه السهم، فجلس النبى للرواء حتى شرب الناس. المراسلة بين الفريقين: 505- كان مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم جيش قوى، ولم تكن مكة على استعداد للحرب، ولو أراد أن يدكها بجيشه دكا لفعل، ولكنه أتى للحج، وليطفئ حربا، ويبر رحما، ويزيل نفرة، وليذهب بوحشة الحروب التى خلفتها. ولذلك أعلن المسالة وإرادة الحج من غير أن يقهرهم أو يذلهم. جاء إليه بديل بن ورقاء مع رجال من خزاعة فكلموه صلى الله تعالى عليه وسلم، وسألوه ما الذى جاء به، فأخبرهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه ما جاء يريد حربا، وإنما جاء زائرا للبيت ومعظما لحرمته، وقال ما قاله من قبل لغيره. رجعوا إلى قريش، فقالوا لهم: يا معشر قريش، إنكم تعجلون على محمد وإن محمدا لم يأت لقتال، إنما جاء زائرا لهذا البيت، فاتهموهم وجابهوهم، وقالوا: وإن جاء لا يريد قتالا، فو الله لا يدخلها علينا عنوة ولا تحدث بذلك العرب، ولكنهم مع هذه العنجهية لم يزيلوا ما بينهم وبين النبى صلى الله

تعالى عليه وسلم، فأرسلوا له مكرز بن حفص بن الأخيف أخا بنى عامر بن لؤى، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لما رآه مقبلا: هذا رجل غادر، وقد كلمه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بأنه ما جاء للقتال، ولكن لزيارة البيت. ومع أن قريشا لا تريد حتى زيارة البيت أرسلت حليس بن علقمة، وكان يومئذ سيد الأحباش الذين كانوا يعينونهم في القتال فلما رآه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قال عليه السلام: إنه من قوم يتألهون- أى يذعنون- لظاهر العبادة، فابعثوا الهدى في وجهه حتى يراه، فلما رأى ما يسيل عليه من عرض الوادى من قلائد أشعرت بأنه هدى للحج، قد أكل أوباره من طول الحبس عن محله. اكتفى حليس بالنظر إلى الهدى عن المحادثة، فرجع إلى قريش ولم يصل إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، إعظاما لما رأى. حدثهم بما رأى فقالوا له: اجلس فإنما أنت أعرابى لا علم لك. غضب الحليس عند ذلك، وقال: يا معشر قريش، والله ما على هذا حالفناكم، ولا على هذا عاقدناكم، أفصد عن بيت الله تعالى من بعد ما جاء معظما له، والذى نفس الحليس بيده لتخلن بين محمد وبين ما جاء له، أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد. فقالوا لحليس: مه، كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به. ما زالوا طامعين في أن يكون لهم من النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ما يرضيهم من غير أن يقاتلوه، فأرسلوا إليه عروة بن مسعود الثقفى، وقد ذكر لقريش أنه بمنزلة الولد، لأن أمه كانت من بنات عبد شمس، وقد ذكر من جاء إليهم بعد لقائه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وأنهم لقوه بالتعنيف وسوء الحظ كما قالوا لبديل الخزاعى، وكما قالوا للحليس سيد الأحباش، تبين أن صلتهم به وثيقة، وأنه سيكون أمينا في رسالته مع رغبته في نصرتهم، وقال في ذلك: قد سمعت بالذى نابكم، فجمعت من أطاعنى من قومى ثم جئتكم حتى آسيتكم بنفسى، قالوا: صدقت ما أنت عندنا بمتهم. خرج عروة بن مسعود هذا، وقد اطمأن إلى ثقتهم به، حتى أتى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثم قال: جمعت أوشاب الناس، ثم جئت بهم إلى بيضتك لنقضها (أى يكسرها لهم) . إنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل «1» قد لبسوا جلود النمور، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم عنوة أبدا، والله الكافى بهؤلاء قد انكشفوا عنك غدا.

_ (1) العوذ المطافيل، النوق التى معها أولادها، والعوذ جمع عائذ، وهى هنا الناقة أى الناقة ذات الأطفال.

غدر وعفو:

وكان أبو بكر رضى الله عنه خلف النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال له: أنحن ننكشف عنه. ثم جعل يتناول لحية رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو يكلمه مما يدل على جرأته وصلفه وخشونته وعبثه. وكان المغيرة بن شعبة واقفا على رأس النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو بالحديد، فكلما مد يده إلى لحية النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يقرع يده، ويقول: اكفف يدك عن وجه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قبل ألا تصل إليك- أى تقطع فلا تصل إليك-. قال عروة الغليظ الجافى للمغيرة بن شعبة: ما أفظك، وما أغلظك؟ فتبسم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. رد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بنحو مما كلم به من سبقوه. قام عروة بن مسعود الثقفى من عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد رأى ما يصنع به أصحابه، وعاد إلى قريش يقول لهم. «يا معشر قريش، إنى قد جئت كسرى في ملكه، وقيصر في ملكه، والنجاشى في ملكه، وإنى والله ما رأيت ملكا في قوم قط، مثل محمد في أصحابه، ولقد رأيت قوما لا يسلمونه لشيء أبدا فروا رأيكم» . كان كل الرسل الذين يرسلونهم يؤكدون لهم أن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم ما جاء لقتال، بل جاء حاجا، ويريد أن يصل الرحم التى قطعوها. غدر وعفو: 506- غدر من جانب قريش، وعفو من جانب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، فإنه فى الوقت الذى تأكد لهم أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما جاء مقاتلا، لأنه جاء محرما وساق الهدى، ولأنه في الشهر الحرام، ولأنه جاء يطلب المودة، ولا مودة في قتال، فى هذا الوقت فكرت قريش في الاعتداء، فإنه روى عن ابن عباس أنهم بعثوا أربعين أو خمسين رجلا منهم، وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ليصيبوا من أصحابه أحدا.

رسول النبى صلى الله تعالى عليه وسلم:

فأخذ أولئك أخذا، وسيقوا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وكانوا قد رموا المعسكر بالحجارة والنبل، وكان للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يأخذهم رهائن أو نحو ذلك. ولكن الرسول الكريم صلى الله تعالى عليه وسلم قد عفا عنهم. رسول النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: 507- كانت الرسل يجيئون إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من قبلهم، ومنهم من ينقل الأمر كما هو، وربما كان منهم من يحرف في القول، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم يريد أن يوجه الخطاب إليهم برسول يرسله إليهم، يتعرف أحوالهم وما تطويه نفوسهم، وما يقدر عليه ويفعله من بعد ذلك يكون عن بينة. اتجه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى الفاروق عمر بن الخطاب، وهو نعم الرسول، وقد كان في الجاهلية يقوم ببعض أعمال السفارة بين القبائل، وبين العرب وغيرهم، ولكن عمر ببطشه وقوته على الشرك، كان يعمل حساب لقائه معهم، وقد يحبسونه، فلا يؤدى حق السفارة التى اختاره لها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ولذا قال غير راد لأمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ولكن يعرض الأمر عليه، قال: يا رسول الله، إنى أخاف قريشا على نفسى، وليس بمكة من بنى عدى بن كعب أحد يمنعنى، وقد عرفت قريش عداوتى إياها، وغلظتى عليها، ولكن أدلك على رجل أعز بها منى، عثمان بن عفان، فدعا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عثمان بن عفان، فبعثه إلى أشراف قريش، وأبى سفيان، يخبرهم أنه لم يأت لحرب، وإنما جاء زائرا لهذا البيت معظما لحرمته. ذهب عثمان إلى مكة المكرمة للقيام بهذه السفارة، وهو الرجل الذى لا عنف فيه، وهو أموى له عصبة من بنى أمية تمنعه وتجيره. وقد التقى أوّل ما التقى بأبان بن سعيد بن العاص الأموى حين دخل مكة المكرمة أو قبل أن يدخلها، وهو في طريقه إليها، فلقيه لقاء المحبة بسبب الرحم، ولأن عثمان رضى الله عنه كان رفيقا ودودا، وحمله بين يديه، وأجاره، بأن جعله في جواره، وذلك يوجب عليه حمايته، واستمر في جواره حتى بلغ رسالة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. انطلق عثمان، حتى أتى أبا سفيان وعظاماء قريش، فبلغهم رسالة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وسلمها إليهم، وأنه ما جاء للقتال، وإنما جاء زائرا للبيت معظما لحرمته.

بيعة الرضوان

وقد قبلوا كلامه من غير استنكار ولا رد، ورحبوا بعثمان رضى الله عنه، وعرضوا عليه أن يطوف بالبيت آمنا مطمئنا. ولكن عثمان أبى أن يطوف، ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم غير ممكن من الطواف. فقال ذو النورين التقى عثمان: ما كنت لأطوف حتى يطوف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. وبذلك أدى عثمان رسالة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ولكنهم استبقوه، لا ليؤذوه، ولعل ذلك لاستشارته أو الاستفسار منه، أو ودا ومحبة، أو حفاوة وتكريما. وعندئذ راجت الأقوال بين المسلمين بأن عثمان قتل، وتبلبلت الأفكار واضطربت النفوس ووجدت عزمة القتال، ولم يكن مرادا ابتداء ولا مقصودا. بيعة الرضوان 508- خرج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه من المدينة يريدون الحج ولم يريدوا قتالا، ولما غاب عثمان رضى الله عنه في مكة المكرمة، وشاعت القالة بأنه رضى الله تعالى عنه قد قتل، ولم يكن ذلك بعيد الاحتمال، أخذ أهبته للقتال لأن الاعتداء وقع بقتل الرسول، وهو رسول سلام أمر منكر وقبيح في ذاته، وفوق ذلك يتضمن في ذاته رفضا للسلام واعتداء على من أرسله، إذ الرسول لا يقتل، ولكن يرد إلى مأمنه، سواء أرفضوا الرسالة أم قبلوها. لا بد إذن من الأهبة، وما خرجوا للقتال، فلا بد من أخذ البيعة به، لأن القتال برضا الجند، وتلك سنة نبوية في كل حروبه عليه الصلاة والسلام، فإنه يريد جندا مختارا يقدم نفسه برضا واختيار، محتسبا النية لله تعالى. طالبا ما عند الله. لذلك أخذ البيعة على من معه، وكان يبايعهم على الموت، وعلى ألا يفروا من الميدان، لأن الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم قرر القتال، وقال: لا نبرح حتى نناجز القوم، لأنهم بقتلهم ذا النورين عثمان يكونون قد رفضوا السلام. كانت بيعة الرضوان تحت الشجرة، فبايع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كل من معه، ولم يتخلف عن البيعة أحد إلا واحد، وما كان ليلتفت إليه. ولقد رضى الله عن أولئك الذين قبلوا أن يغيروا ملابس الإحرام ويلبسوا ملابس القتال، وقال الله تعالى فيهم: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، فَعَلِمَ ما فِي

عقد صلح على هدنة

قُلُوبِهِمْ، فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ، وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً. وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها، وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً. وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها، فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ، وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ، وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً. وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها، وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً. وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ، ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً. سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا. وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ، وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ، مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ، وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (الفتح- 18، 24) . وهكذا رضى الله تعالى عن أهل بيعة الرضوان، ووهبهم سبحانه وتعالى من بعد ذلك مغانم كثيرة، وبين سبحانه وتعالى أن أوّل هذه الغنائم أن كف أيديهم عنكم، فكانت هذه غنيمة عاجلة، وكان هذا فتحا مبينا، كما سنذكر ذلك إن شاء الله تعالى. عقد صلح على هدنة 509- اقتنعت قريش بأن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم، ما جاء لقتال، وقد عادت القضب إلى أجفانها بعد أن عاد عثمان رضى الله عنه، واطمأنت القلوب، وعادت رغبة السلام وعزمته إلى محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو يريد خطة تمنع القتال، وتحفظ الحرمات. بعثت قريش سهيل بن عمرو من بنى عامر بن لؤى، وقالوا: له ائت محمدا نصالحه ولا يكن فى صلحه، إلا أن يرجع عنا عامه هذا، فو الله لا تحدث العرب عنا أنه دخلها علينا عنوة أبدا. ولا شك أن هذا شرط، - كما يقول علماء القانون- تعسفى وتحكمي، ولكن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم الرؤف الرحيم، كما وصفه رب العزة، لم يمانع في قبول ذلك، وإن ضج أصحابه بالرفض، وهم لا يعلمون ما يعلم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وما توجبه الرسالة، وتحتمه الدعوة إلى الإسلام، فما كانت دعوة الإسلام رهبا، بل كانت رغبا، وما كانت بالسيف بل كانت بالموعظة الحسنة. اجتمع سهيل مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وتم الاتفاق المبدئى على ما اشتمل عليه من التزامات، خلاصتها: أولا: لا يزور المسلمون البيت حاجين هذا العام.

كتابة الصلح:

ثانيا: وضع الحرب عشر سنين. ثالثا: أن من خرج من مكة إلى المدينة المنورة يرده النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ومن عاد إلى مكة المكرمة مرتدا لا ترده مكة المكرمة إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. رابعا: من أراد أن يدخل في عهد محمد صلى الله تعالى عليه وسلم دخل والتزم بالتزامه، ومن أراد أن يدخل مع قريش دخل، والتزم بالتزامهم. لما تم الاتفاق الشفوى وقف عمر رضى الله عنه غضبان أسفا، وقال لأبى بكر: يا أبا بكر أليس حقا برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم؟ قال أبو بكر: بلي، قال: أو لسنا بالمسلمين، قال: بلى. قال: أو ليسوا بالمشركين، قال: بلى. قال: فعلام نعطى الدنية في ديننا، فقال أبو بكر رضى الله عنه: يا عمر، الزم غرزه، أى أمره، فإنى أشهد أنه رسول الله، فقال عمر: وأنا أشهد أنه رسول الله. ثم أتى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، ألست رسول الله!! قال: بلي، قال: أو لسنا بالمسلمين!! قال: بلي، قال: أو ليسوا بالمشركين!! قال: بلى. قال الفاروق: علام نعطى الدنية في ديننا، قال الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم الرفيق الأمين: أنا عبد الله ورسوله، لن أخالف أمره، ولن يضيعنى. عندئذ سكن عمر رضى الله عنه، وعلم أنه أمر الله تعالى، فسكت عنه الغضب، وكان ذا نفس لوامة، فندم على ما كان منه من قول، وكان يقول: ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي، وأعتق من الذى صنعت يومئذ مخافة كلامى. كتابة الصلح: 510- تم الاتفاق على ما تشتمل عليه الوثيقة، ثم دعا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم على بن أبى طالب رضى الله تعالى عنه، فقال: اكتب. بسم الله الرحمن الرحيم، فاعترض سهيل ابن عمرو ممثل المشركين عند كتابة العهد، وقال: لا أعرف هذا ولكن اكتب باسمك اللهم، فقال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: اكتب باسمك اللهم، فكتبها، ثم قال: اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو، فاعترض أيضا سهيل، وقال: لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك. فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: اكتب، هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو:

أبو جندل:

(أ) اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيهن الناس، ويكف بعضهم عن القتال، على أنه من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشا ممن مع محمد لم يردوه عليه. (ب) وأن بيننا عيبة مكفوفة أى (لا عداوة) ، وأنه لا إسلال ولا إغلال أى (لا سرقة ولا خيانة) . (ج) وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل فى عقد قريش وعهدهم دخل فيه. وقد شهد على العقد بعض المشركين، ومن المسلمين أبو بكر وعمر، وعلى بن أبى طالب، وسعد بن أبى وقاص، وعبد الرحمن بن عوف. وبعد تمام العهد تواثبت خزاعة، فقالوا: نحن في عقد محمد وعهده، وتواثبت، بنو بكر، فقالوا: نحن في عقد قريش وعهدهم. هذا ما كتب في العقد، وكان هناك أمر عملى توجب قريش تنفيذه، وقد رضيه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. فقد قالوا تتميما للعهد، وإنك ترجع عنا عامك هذا لا تدخل علينا مكة، وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك، فدخلتها بأصحابك، فأقمت فيها ثلاثا، ومعك سلاح الراكب: السيوف في القرب لا تدخلها بغيرها. قبل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وآثرها، مع ما فيها من شطط المشركين، لأنه يريد سلاما، وأن معه جيشا لا قبل لقريش به، وكان يستطيع أن يقاتل، والحجة قائمة عليهم، ولكنه النبى عليه الصلاة والسلام المسالم الذى يعظ بالحكمة ويدعو بالرفق، وليس غليظ القلب. أبو جندل: 511- وبينما هم في مجلس الصلح لم يفارقوه، بل لم يتموا كتابته إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو الذى يمثل المشركين عند كتابة العقد، جاء وهو يرسف في الحديد، فلما رأى سهيل أبا جندل، قام إليه، فضرب وجهه وأخذ بتلبيبه، ثم قال: يا محمد قد لجت القضية بينى وبينك قبل أن يأتيك هذا، وهذا أوّل من أقاضيك عليه، فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: إنا لم نقض الكتاب بعد، قال سهيل: فو الله إذن لم أصالحك على شىء. وقد جاء في البخارى مع هذا الكلام أن النبى صلى الله

التحلل من الإحرام:

تعالى عليه وسلم قال: فأجزه لي، قال: ما أنا بمجيزه لك، قال: بلى فافعل، قال: ما أنا بفاعل، وقال بعض الحاضرين من المشركين: قد أجزناه لك، ولكن سهيلا هو وليه. قال أبو جندل: أى معشر المسلمين أرد إلى المشركين وقد جئت مسلما، ألا ترون إلى ما قد لقيت. وقد جاء في رواية ابن إسحاق أنه وثب عمر بن الخطاب مع أبى جندل يمشى إلى جانبه، ويقول: اصبر يا أبا جندل، فإنما هم المشركون، وإنما دم أحدهم دم كلب، ويدنى قائم السيف منه، ويقول عمر: رجوت أن يأخذ السيف، فيضرب به أباه، فضن الرجل بأبيه، وذهبت القضية. والنبى يمضى في عقده، مع ما أثاره في نفسه ونفوس المؤمنين مجيء أبى جندل يوسف في قيوده، وقال لأبى جندل: اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا، وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله، وإنا لا نغدر بهم. مع تلك الكلمات التى تلقى بروح الصبر والاطمئنان في قلب أبى جندل كانت الثائرة تغلى في قلوب المسلمين، ولكن لا يتكلمون احتراما لمقام العهد، ولأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قال إنه لا يخالف أمر ربه، ولكن الفاروق ثار بالقول مرة أخري، يقول: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل، قال: بلى: قال: فلم نعطى الدنية في ديننا إذن، فقال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: أعطيها وهو ناصرى. قال عمر: أولست كنت تحدثنا أننا سنأتى البيت فنطوف به، قال: بلي، أفأخبرتك أنا نأتيه هذا العام؟ فإنك آتيه ومطوف به. وهذه رواية البخاري، وقد جمعنا بينها وبين رواية ابن إسحاق، فقدرنا أن عمر قالها مرتين وهو مظهر غضب المؤمنين مع طاعتهم ورضاهم بما حكم صلى الله تعالى عليه وسلم استجابة لأمر ربه. التحلل من الإحرام: 512- كان لا بد أن يتحلل المسلمون من إحرامهم، على أن يؤدوا عمرة في عام آخر، وذلك بأن يقصروا شعرهم أو يحلقوه، وقد دعاهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يحلقوا رؤسهم وينحروا، وابتدأ هو فحلق، وحلقوا وقصروا من بعده، وهذه رواية ابن إسحاق بسنده. ولكن روى في البخارى أنه قال لأصحابه رضى الله عنهم لأنهم جميعا أهل بيعة الرضوان، قال لهم: قوموا فانحروا ثم احلقوا، فو الله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات.

أحكام ثبتت في الحديبية

فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة، وكانت معه في هذه الغزوة فذكر ما لقى من الناس، فقالت أم سلمة بعاطفة المحبة لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، والعاطفة الشريفة تنطق بالحق أحيانا قالت أم سلمة: يا نبى الله، أتحب ذلك، اخرج، ثم لا تكلم أحدا منهم كلمة، حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك، فخرج، فلم يكلم أحدا منهم، حتى فعل ذلك، ثم نحر بدنه، ودعا حالقه فحلقه. فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضا، حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما، لعصيانهم، وهذه رواية البخاري، وقد كان فيها خبر الحلق وخبر النحر معا، وقصة النبى عليه الصلاة والسلام مع أم سلمة رضى الله عنها، وإن هذا التفصيل زاد به البخارى عن ابن إسحاق، وزيادة الثقة مقبولة في ذاتها. أحكام ثبتت في الحديبية 513- بعد صلح الحديبية جاء نسوة إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مؤمنات مهاجرات، ولم يردهن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، لأنهن لم يشملهن العهد، الذى يوجب رد من يجيء مسلما من غير ولى أمره، وفي هذا جاء النص الذى يحرم بقاء المسلمة في عصمة كافر سواء أكان كتابيا أم كان من المشركين، ولذا قال الله سبحانه وتعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ، فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ، فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ، لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ، وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ، وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ، وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ، وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا، ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا، وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (الممتحنة- 10، 11) . وقد قال الحافظ ابن كثير: جاءت نسوة مؤمنات. فأنزل الله سبحانه وتعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ- حتى بلغ- بِعِصَمِ الْكَوافِرِ ... (الممتحنة 10) فطلق عمر ابن الخطاب امرأتين كانتا في الشرك، فتزوج إحداهما معاوية بن أبى سفيان، والآخرى صفوان بن أمية، ثم رجع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى المدينة المنورة. قال ذلك ابن كثير في سرد ما كان في الحديبية، ولذلك قلنا إن تحريم زواج المسلمة بغير المسلم، وزواج المسلم بالمشركة جاء في الحديبية بعد إمضاء الصلح.

وهذه الآية تدل على ثلاثة أمور: أولها- أن المسلمة لا تجوز للكافر سواء أكان كتابيا أم كان مشركا، والكتابى كافر لا كما أوهمت كتابة المحدثين ممن لا يمحصون الحقائق، ويقولون ما يقولون مجاملة، أو موادة للنصارى الذين لا يوادون المسلمين، فالنصرانى كافر بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم وبما نزل على محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وبالوحدانية، واليهودى كافر بالقرآن الكريم وبمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم، ووصف الله في القرآن الكريم اليهود والنصارى بأوصاف الكفر فقال الله سبحانه وتعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ (المائدة- 73) وقال الله سبحانه وتعالى: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ (البينة- 1) . والذين يجيزون زواج المسلمة بغير المسلم قد خرجوا عن إطار الإسلام، لأنهم أنكروا القرآن الكريم وأنكروا أمرا معروفا من الدين بالضرورة، وأجمع عليه المسلمون. وتدل ثانيا على أن المسلم لا يجوز أن يتزوج مشركة، ومن كان عنده مشركة فليفارقها، وقد فهم ذلك الإمام عمر رضى الله تبارك وتعالى عنه، ففارق امرأتين كانتا تحته، وهما مشركتان، وأخذ ذلك من النهى في قوله تعالى: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ أى لا تتمسكوا بزواج الكافرين إن كان بينكم وبينهن زواج، لأن الكوافر جمع كافرة، لا جمع كافر، إذ لا يجمع وصف العاقل الذى يكون على وزن فاعل على فواعل، ولكن تجمع فاعلة على فواعل، كفاطمة وفواطم، وقافلة وقوافل، وأريد المشركات، لأنه الذى يتفق مع إباحة الكتابيات بقوله تعالى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ، وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ (المائدة- 5) . وتدل ثالثا- على أن العدالة توجب عند فسخ الزواج بهذا الحكم الشرعي، أن يرد إلى الأزواج المشركين ما أنفقوا على أزواجهم اللائى انفسخ زواجهن بالإسلام، فيرد إليهم الصداق، لأن الفسخ كان بحكم الإسلام يعد من قبل الزوجة. وفي مقابل ذلك من ينفسخ زواجها من المشركات بحكم إسلام أزواجهن عليهن أن يردوا إلى المؤمنين ما أنفقوا من أموال، فى هذه الزيجة، وذلك لأن امتناعهن عن الدخول في الإسلام، وقد دخل الزوج في الإسلام يعد تفويتا لحقه فوجب التعويض عما أنفق، لأن سبب الفرقة من جانبها. وإن المسلمين يستجيبون لحكم الإسلام، فيردون ما وجب من إعطاء ما أنفق هؤلاء، لأنه مما يؤدى إليه عقد المسالمة وما تؤدى إليه العدالة التى هى خاصة الإسلام مع العدو والولى على سواء، لقوله تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى (المائدة- 8) .

تنبيهات:

ولكن لا يضمن أهل الإيمان أن يؤدى المشركون ما يجب عليهم إذا انفسخ الزواج بين المشركة والمسلم؛ ولذلك فرض القرآن الكريم أنهم لا يدفعون، والحكم في هذه الحال أن يؤخذ مما يجب إعطاؤه للمشركين مما أنفقوا، ويسدد للمؤمنين الذين استحقوا ما أنفقوا، ولم يؤد إليهم حقهم. ويفهم منه أن بيت مال المؤمنين هو الذى يؤدى ما أنفق المشركون في الزيجة التى فسخت بحكم إسلام الزوج، لأن ذلك تنفيذ لحكم شرعى عام، ولأنه ما يوجبه روح العهد الذى عقد في الحديبية. وأن المشركين يجب عليهم مجتمعين أن يؤدوا للمؤمنين ما أنفقوا في الزواج الذى فسخ للإصرار على الشرك، فإذا لم يؤد أخذ حق المؤمن من مجموع ما كان يجب على المؤمنين، هذا تفسير قوله تعالى: وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ، فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا (الممتحنة- 11) وقد أخذنا المعنى في تفسير هذه الآية من تفسير الحافظ ابن كثير لهذه الآيات. وإن هذا الحكم يفيد بطريق الإشارة إلى أن سبب التفريق إن كان من جانب الزوجة يجب عليها أن ترد ما أنفق الزوج بالمعروف، وتقدير المعروف للقاضي، كما كان تقدير ذلك في عصر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لأمر المؤمنين. وبمقتضى تلك الإشارة: إذا أسلم زوج من لا دين لها، ولم ترض الدخول في دين كتابى أو الإسلام، فإنه يجب عليها أن ترد ما أنفق زوجها، أو ما خسر بسبب امتناعها عن الدخول في دين سماوى. تنبيهات: 514- الأوّل: أن هذه الأحكام الفقهية أخذت من نص الآية، وتفسيرها الذى يعد من التفسير بالآثار وهو تفسير الحافظ ابن كثير، ولم نرجع إلى كتب الفقه التى اختلفت فيها، ولا نقول إن هذه الأحكام منسوخة فإنا لا نعلم لها ناسخا، ولأنا نقول إن القرآن الكريم ليس فيه منسوخ وخصوصا في الأحكام الفقهية. الثانى: أن أكثر المحدثين ذكر أن هذه الآيات نزلت والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم لم يغادر الحديبية، فقد قال أبو ثور: أنزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو بأسفل الحديبية حين صالحهم على أنه من أتاه منهم رده إليهم، فلما جاءه النساء نزلت هذه الآية، وأمره سبحانه وتعالى أن يرد الصداق إلى أزواجهن، وحكم على المشركين إذا جاءتهم امرأة من المسلمين (أى كانت تحت مسلم) وبقيت على شركها أن يردوا الصداق إلى أزواجهن.

التنبيه الثالث:

التنبيه الثالث: أنه لم يكن ذلك الحكم هو الوحيد الذى كان في غزوة الحديبية، وإن كان ثبوت هذا الحكم بالنفي، بل هناك أحكام أخرى ثبتت بعمل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، قد عقد لها ابن القيم في كتابه (زاد المعاد في هدى خير العباد) فصلا قائما بذاته فلنتبعه في ذلك. أحكام فقهية أخرى: 515- نشير هنا إلى بعض ما ذكره ابن القيم: (أ) منها إن الإحرام بالعمرة في أشهر الحج يجوز ويصح ويلزم الاستمرار فيه، وأن الإحرام بالعمرة وإن كان يجوز من غير مواقيت الإحرام، وهى الأماكن التى خصها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بأن المسافر عليه أن يحرم بالحج قبل اجتيازها، غير أن الإحرام من الميقات للعمرة أفضل، فإنه صلى الله تعالى عليه وسلم أحرم بها من ذى الحليفة، كما أحرم بالحج. (ب) ومنها أن إشعار الهدى سنة وأنه لا مثلة فيه، وذلك بأن يحدث في جسمه عند سوقه ما يدل على أنه مخصص للذبح في مكة المكرمة، وبالتالى فإن سوق الهدى للعمرة سنة في ذاته عند الإحرام، وأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ساق الهدى وأشعره، وكان في جملة ما ساق من هدى جمل لأبى جهل كان من أنفال بدر، وإن كان مغايظة للمشركين، وهذا يدل على أن غيظ المشركين ليفل من حدة سلطانهم، ولإثبات أن كلمة الله هى العليا، وأن العاقبة للمتقين، وأنه سبحانه وتعالى قال: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ، وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ، إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (التوبة- 120) ومنها جواز الاستعانة بالمخلص من غير المسلمين إذا كان في الاستعانة به فائدة ولا ريب فيه، ولا مظنة لأن يترتب على الاستعانة إيذاء، من أى نوع كان، وإلا يمنع سدا للذريعة وذلك لأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم استعان بعيينة الخزاعى، وكان كافرا، وجعله عينا على المشركين وكان أقرب إلى أن يعرف أحوالهم، لاختلاطه بهم، والمصلحة في ذلك، ولا ضرر. والحق في هذه القضية أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لم يستعن به ابتداء، بل إنه هو الذى قدم معلوماته، وإن خزاعة مسلمهم وكافرهم كانوا على مودة بالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم. ولذلك عند ما تم العهد بين النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وبين قريش دخلوا في عهده ولم يدخلوا في عهد قريش كبنى بكر، ورد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم للمشركين عهدهم عند ما عاونوا بنى بكر على خزاعة واستعد لفتح مكة المكرمة.

وذكر ابن القيم أن من الأحكام الفقهية التى ظهرت في الحديبية استحباب مشورة الإمام رعيته وجيشه استخراجا لوجه الرأى وأمنا لطاعتهم، وتعرفا لمصلحة يختص بها بعضهم دون بعض، واستجابة لأمر الله في قوله تعالى: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ (آل عمران- 159) . وقد مدح سبحانه وتعالى عباده المؤمنين، بقوله تعالى: وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ (الشورى- 38) . ونحن نرى أن النصوص توجب أن يستشير الإمام الرعية في إدارة شئونهم، وقد نرى استحباب ذلك في القتال، لا في شئون الكافة. ومنها أن المشركين والفجار والفسقة وأهل البدع إذا طلبوا أمرا يعظمون به حرمة من حرمات الله تعالى، أو أمرا هو حق في ذاته أجيبوا إليه، فكل من يطلب أمرا هو حق في ذاته، أو محبوب لا إثم فيه، أجيب الطلب، ولو كان فاسقا مبتدعا، أو باغيا على الحق، أو مشركا، إلا أن يكون في ذلك ما يؤدى إلى التجرؤ على أهل الحق أو معاونة آثم لذات الإثم وإن ذلك موقف دقيق، إذ التعرف على حق لا يجر إلى باطل أمر دقيق لا يدركه إلا أهل الإيمان وأهل الإدراك السليم. ومنها أن الحرم ليس مقصورا على المسجد الذى هو مكان الطواف؛ بل الحرم يشمل ذلك، وما حول مكة المكرمة، وأن كلمة الحرم تشمل كل ما حول مكة المكرمة. ومنها أن المحصر بالحج أو العمرة وهو الذى يمنع من الوصول إلى البيت الحرام، وقد أحرم لزيارته معتمرا أو حاجا ينحر الهدى حيث أحصر، ومنها أن المصالحة مع الكفار جائزة، ولو كان فيها ضيم ظاهر إذا ترتب على ذلك مصلحة للمسلمين، والضيم ظاهر، والعبرة بالنتيجة، وإن كان الضيم في ذاته ضرر، فإنه يقدم بدفع أقل الضررين، وإن الصلح بين النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وكفار قريش في هذا الوقت كان خيرا في عواقبه، وإن لم يكن ظاهرا لكل المؤمنين أو لكثرتهم. وهكذا كانت أعمال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم تفيد أحكاما شرعية، سواء أكانت تتعلق بتدبير مصلحى، أو عبادة مقررة ثابتة. وإنه إذا كان الأمر مصلحة، وجب على كل مؤمن ومؤمنة أن يبدى ما يراه مصلحة، أو يعين على الواجب، لأن ذلك من قبيل النصيحة في الدين التى تجب المبادرة بها، فقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم، «الدين النصيحة لله ولرسوله، ولكتاب الله، ولخاصة المسلمين وعامتهم» . ولذلك تقدمت السيدة أم المؤمنين أم سلمة تطلب إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يبادر هو بالعمل، فإذا حلق ونحر تبعوه، لأن العمل يؤثر في الاتباع أكثر من القول، ولم يجد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم غضاضة في أن يتبع ما أشارت به غير متردد، لأن الحق أحق أن يتبع، ولأن الحق

كانت الحديبية فتحا

واجب الاتباع في ذاته، من غير نظر إلى مكانة الداعى بالنسبة للمشير، ولا إلى مقامه بالنسبة لمقامه، ولنتعلم أن هدى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن نتبع حيثما كان وممن يكون، ولنجعل للمرأة الكريمة الطاهرة العاقلة مكانتها وحق التقدير والاعتبار. كانت الحديبية فتحا 516- عند قفول النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة بعد صلح الحديبية نزلت سورة الفتح، فقد قال تعالى في ذلك: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً. لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ، وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (الفتح- 1، 2) . فسمى الله تعالى ذلك الصلح، وما وفق الله تعالى النبى عليه الصلاة والسلام للقيام، فتحا وليس دنية في الدين كما خطر على عقول بعض المتقين من كبار المؤمنين، وكان فتحا لأنه أنهى القتال بين النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وبين قريش، وذلك في ذاته فتح، ولأنه فتح قلوبا كانت مغلقة وعقولا كانت عليها غشاوة حتى إنه أحصى عدد المؤمنين قبل الحديبية في مدى تسع عشرة سنة، ومن أسلم فى سنتين بعد الحديبية، فكان مثل الأوّل أو يزيد، لذلك كله كانت الحديبية فتحا، ولم تكن دنية، وفوق ذلك كانت تمهيدا لدخول مكة المكرمة بالفتح الأعظم الذى لم يجر فيه دم، ولم يكن قتال إلا فى بعض المتمردين، وكانوا قليلين، وكان فتحا، لأن المؤمنين استطاعوا تنفيذا لأحكام الصلح أن يدخلوا معتمرين، ثم متحللين محلقين ومقصرين. وغفران ذنب الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ليس على حقيقة معنى الغفران، إنما هو متضمن الرضا والقبول لكل ما يفعله الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، سواء أكان في الماضى أم الحاضر أو القابل، فكل ما يفعله الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم مغفور، وتسميته ذنبا من قبل المجاز، فهو ليس إلا خطأ لأن ما يعتب به عليه، خطأ كما أخطأ في الأسري، وكما كان يقع منه، ليكون أسوة للناس، فيقروا بأن الإنسان إذا خضع لفكره وعقله ربما يخطيء ولو كان نبيا مرسلا، ولو كان خاتم النبيين محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم، والصراط المستقيم الذى هداه الله تعالى هو طريق الدعوة فقد صار معبدا لا عوج فيه بعد هذا الفتح المبين، وإنه كان من الفتح المبين تضافر أهل الإيمان بالبيعة، فقد قال الله سبحانه وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ، يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ، فَمَنْ

نَكَثَ، فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ، وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (الفتح- 10) . ولقد كان من الفتح المبين أن نقيت جماعة الإسلام ممن لم تستقم قلوبهم وتكون خالصة للحق لا تبتغى سواه، ولذلك لم يخرج مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم في الحديبية إلا من أراد الله سبحانه وتعالى، وأراد الحج، لا المغانم وما وراءها. ولذلك قال الله سبحانه وتعالى فيهم في سورة الفتح: سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ، يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ، قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ، فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (الفتح- 15) . ولقد أشار سبحانه وتعالى إلى الذين يستقبلهم المسلمون من أولى البأس والشدة، ولقد كان الذين خرجوا للاعتمار تعرضوا لاحتمال الحرب فتضافروا وبايعوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على أن يبيعوا أنفسهم لله تعالى، ولا يفروا، وقال سبحانه وتعالى ما تلونا من قبل: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ، فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ، وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً. وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً. وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها، فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ، وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ، وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (الفتح- 18، 20) . وإنه كانت الحديبية التى سماها الله تعالى الفتح المبين سبيلا لأن يتجه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى اليهود وينفرد لهم، ثم بعد ذلك يكون الاتجاه إلى الرومان، كما قال الله سبحانه وتعالى: سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ، تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ (الفتح- 16) . وأولئك هم الرومان، والدخول إلى أرض الشام. وإن الغاية توجب تحمل الوسائل، ولو كانت قاسية على النفس، وما كان للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يتجه إلى اليهود، وخضد شوكتهم في البلاد وقد اتخذوها للأذى والإيقاع ولم ينفع عهد ولا ذمة. ما كان أن يتجه إلى أولئك، وشوكة قريش تجرح من وراءه، فلابد أن يؤمن ظهره بعهد، ولو كان فيه ما توهمه بعض المؤمنين غبنا فاحشا، ولكنه الطريق المستقيم لتوجيه الدعوة الإسلامية إلى مواطنها. وإن ذلك تصديق رؤيا النبى عليه الصلاة والسلام التى رآها، بأنه سيدخل المسجد الحرام، ولكنها لا تتحقق واقعة إلا في عام قابل، وكان ذلك الصلح، فقد قال الله سبحانه وتعالى:

تنفيذ الصلح

لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ، لا تَخافُونَ، فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا، فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً. هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ، لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (الفتح- 27، 28) . وهكذا كان ذلك الصلح فتحا وطريقا للفتح، ودخل به الناس في دين الله أفواجا، أفواجا. يقول ابن شهاب الزهرى التابعى بحر العلم كما قال الإمام مالك، قال في الحديبية «فما فتح فى الإسلام فتح قبله كان أعظم منه، إنما كان القتال حيث التقى الناس، فلما كانت الهدنة، ووضعت الحرب أوزارها، وأمن الناس بعضهم بعضا، والتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة، فلم يتكلم أحد في الإسلام ليقول شيئا، إلا دخل فيه، ولقد دخل في تلك السنين (أى التى كانت قبل فتح مكة المكرمة) قدر ما كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر» . ونضيف: وقضى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم على نفوذ اليهود قضاء كاملا، واتجه إلى خارج الجزيرة العربية ينشر الإسلام فيها. تنفيذ الصلح 517- كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم حريصا كل الحرص على الوفاء بالعهد، لأن الوفاء بالعهد في ذاته قوة، ولأن الله تعالى يقول: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ، وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا. ولقد شك بعض المؤمنين في وفاء المشركين في عهدهم هذا، فقال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: وفوا لهم، واستعينوا بالله تعالى عليهم. ولذلك اتجه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى الوفاء. ولقد كان بعض المؤمنين ينظر إلى الأمر في هذا الاتفاق غير مطمئنين، إلا طاعة الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم فقد شق عليهم أمران: أحدهما: ألا يتمكنوا من دخول البيت الحرام وقد أحرموا، ومعهم القوة التى يستطيعون أن يدخلوا بها، وليس عند قريش القوة الكافية لردهم، ولذلك تباطئوا في الاستجابة للتحلل من الإحرام بالحلق أو التقصير، على ما قصصنا من قبل.

الأمر الثانى: الشطط في شروط قريش، وفي إملاء العقد، وأشد شطط وغبن أن من خرج مسلما لا يقبله النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، بل يرده إلى وليه، ومن عاد إلى مكة المكرمة مرتدا لا يردونه، فقد كان ظاهر الشرط أن فيه غبنا على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، إذ فيه عدم مساواة، ولكن إن نظرنا إلى الشطر الثانى وهو عدم رد من يخرج من الإسلام إلى الشرك، فإنه عند التأمل لا نجد فيه ضررا على المسلمين فما حاجة الإسلام إلى مرتد حائر، فليذهب إلى حيث شاء، بدلا من أن يكون شوكة في المسلمين، وقد يرضى أن يبقى منافقا، وينضم إلى صفوف أهل النفاق، فيكون عينا على المسلمين وعلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. وأما بالنسبة للجزء الأوّل من الشرط، وهو أن من خرج من مكة المكرمة مسلما يرد إلى وليه، فقد كان بلا شك شاقا في ذاته، وخصوصا عند ما دخل عليهم أبو جندل يرسف في قيوده. وإن هذا الجزء من الشرط وإن كان شاقا في مظهره صعب التحمل إلا لمن كان قوى الإيمان، فإن تطبيقه أدى في نتائجه إلى الضرر على المشركين، ولم يضار به النبى صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنون، حتى إن المشركين الذين كان الشرط من جانبهم ولمصلحتهم هم الذين طلبوا إلغاءه. ولنذكر تطبيقه كما أوضحت كتب السيرة وصحاح السنة: كان أوّل من طبق عليه الشرط أبو بصير عتبة بن شيد بن جارية، وكان ممن أسلم وحبس بمكة المكرمة، وقد استطاع أن يخرج من محبسه، وأراد الذهاب إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فكتب إليه بعض المشركين يطلبون تسليمه بمقتضى الشرط وبعثوا رسولين يتسلمانه، وهما رجل من بنى عامر ابن لؤي، ومولى له، فقدما على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وعنده أبو بصير فقال له النبى صلى الله تعالى عليه وسلم «يا أبا بصير، إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت، ولا يصلح لنا في ديننا الغدر، وإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا» قال: يا رسول الله أتردنى إلى المشركين يفتنوننى في دينى. قال الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم: «يا أبا بصير انطلق، فإن الله تعالى سيجعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا» . انطلق معهما، واندمج معهما في الحديث، وأظهر الاستسلام، حتى اطمأن إليه العامري، فقال: يا أخا بنى عامر أصارم سيفك هذا؟ قال نعم، قال أنظر إن شئت، فاستله أبو بصير، وأراد أن يختبر صرامته ثم علاه به حتى قتله، فولى المولى مسرعا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو جالس فى المسجد، فقال: إن هذا الرجل قد رأى فزعا، ثم قال له: ويحك مالك؟ قال إن صاحبكم قد قتل صاحبي، وبينا هو يشرح حاله، وكيف قتل العامري، طلع أبو بصير متوشحا بالسيف حتى وقف على

رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وقال: يا رسول الله قد وفيت ذمتك، وأدى الله عنك عند ما أسلمتنى ليد القوم، وقد امتنعت بدينى أن أفتن أو يعبث بي، قال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: ويل أمه إنه محش حرب إن كان معه رجال، وفي رواية البخارى أنه قال: ويل أمه مسعر حرب لو كان له أحد. وقع في نفسه أنه سيرد إليهم بعد أن قال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وإنها تفيد بلحنها أن له أن يعتمد على نفسه، وهو قادر على أن يعتمد. خرج من حضرة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وسار حتى وصل إلى سيف البحر. وقد علم المستضعفون بخبر أبى بصير، وقول النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بأنه محش حرب إن كان معه رجال، فكل مستضعف يعمل على تخليص نفسه ويكون من رجال أبى بصير، فانفلت أبو جندل الذى جاء إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يرسف في قيوده، ورده صلى الله تعالى عليه وسلم والتحق بأبى بصير. وصار كل مستضعف لا يذهب إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لأنه سيرده، بل يذهب إلى رجال أبى بصير على سيف البحر. وكونوا منهم عصابة تقطع طريق تجارة قريش؛ فما كانوا يسمعون بعير خرجت لقريش إلا تعرضوا لها، يقتلون رجالها، ويأخذون مالها، فلم يكن من مصلحتهم التمسك بشرطهم. بل إنهم تركوا الأخذ بالشرط، وأنهم إذ كانوا لا مأوى لهم، لهم الحق بأن يفعلوا بهم جزاء ما آذوهم، ولا حلف معهم إلا الأذى الذى قدموه لهم، وخوف الفتنة دفعهم لأن يقفوا ذلك الموقف منجاة لأنفسهم. أرسلت قريش إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم تناشده الرحمة إلا آواهم، وضمهم إليه، ولا يردهم. كان هذا الشرط الذى أزعج النفس المؤمنة ماله أن يكون خيرا للمؤمنين، وهو شرط عليهم، إنها النبوة التى أدركت ما لا يدركه عمر، ولا غيره، وإنه إلهام الله الذى جرى على لسان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم «سيجعل للمستضعفين فرجا ومخرجا» . وإنه لما توسلت قريش إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم في إلغاء العمل بهذا الشرط، أرسل إلى أبى بصير أن يجيء إلى المدينة المنورة هو ومن معه، ليكونوا قوة للمؤمنين، فكتب إليه بالمجيء إلى المدينة المنورة، ولكن الكتاب لم يصله إلا وهو على فراش الموت، فتوفي، ولكن رجع أصحابه إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.

هجرة المستضعفين:

هجرة المستضعفين: 518- وبعد أن فتح لمن يسلم بدار الشرك الباب للذهاب إلى المسلمين وألغى ذلك الشرط كان يحث النبى صلى الله تعالى عليه وسلم الذين يسلمون ألا يبقوا مستضعفين في أرض الشرك، بل عليهم أن يهاجروا، وإن ذلك مبدأ الإسلام أن يتجمع المسلمون، ولا يستمروا متفرقين في الأرض. ومنع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من إقامة المسلم بين المشركين ما دامت عنده قدرة على الخروج من بين ظهرانيهم، وقال صلى الله تعالى عليه وسلم: لا تراءى نارهما. وقال: من حارب مع مشرك وسكن معه فهو مثله، وقال صلى الله تعالى عليه وسلم: لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تخرج الشمس من مغربها. وقال: ستكون هجرة بعد هجرة فخيار أهل الأرض ألزمهم بها. وبذلك طلب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من كل مستضعف أن يهاجر إلى حيث يتجمع المسلمون ما دام قادرا على ذلك، لأنه بهجرته إلى المسلمين يتحقق أمران. أحدهما: أنه يخرج من حال استضعاف، وذلك بالخروج من ولاية الكفر أو الشرك إلى حيث العزة والمنعة وولاية المؤمنين فهم أهل ولاية الله وولاية الحق، وهى القوة وهى الأمن والقرار. ولقد أوجب القرآن الكريم ذلك فقال: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها، فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً. إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا. فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً. وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ، فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (النساء- 97، 100) . وإن نصوص النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عامة، ونص القرآن الكريم ملزم لا مناص من تنفيذه. الأمر الثانى: أن في الهجرة تجميع المسلمين، وفي الجماعة قوة ليست في الفرد. وإن ذلك أمكن للوحدة، وأحفظ لهيبة أهل الإسلام. وإنه قد يعترض على جعل الهجرة بالانتقال من أرض الاستضعاف إلى حيث القوة الإسلامية مبدأ دائما ومطلوبا مستمرا. قد يعترض على ذلك بقول النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: «لا هجرة بعد الفتح» .

سرايا وبعوث

ونقول في الجواب: إن الحديث مخصوص بالهجرة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، أو بالهجرة من مكة المكرمة إلى غيرها، وأن الهجرة مطلوبة قبل الفتح، لأن المسلمين فيها كانوا يفتتنون عن دينهم، وكانوا في ذلة، ولا يستطيعون القيام بشعائر دينهم. فلما فتح الله تعالى على المسلمين مكة المكرمة، وصارت فيها الأحكام الإسلامية وصارت ولاية من ولايات الإسلام، لم يعد للهجرة سبب يوجبها، بل إنها أصبحت غير مطلوبة، وربما تضر ولا تنفع لأنها لو استمرت لخلا البيت الحرام من سكان حوله يقومون بسدانته، وهى أحب أرض الله إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وإلى ربه، وهى التى جعلها أرضا مباركة. سرايا وبعوث 519- كانت سنة ست من الهجرة، خصبة بالدعوات الإسلامية وبث السرايا والبعوث لأجل تعرف الناس، والدعوة الإسلامية، وبيان حقائق الإسلام. وقد كان أبرز ما فيها غزوتان: غزوة بنى المصطلق على الرواية التى تقرر أنها كانت في هذه السنة، وغزوة الحديبية أو صلحها، وكانت وحدها فتحا مبينا وتمهيدا للفتح الأكبر في سنة ثمان من الهجرة. وكانت ثمة سرايا قبل الحديبية سنة ست، لأنها عقب غزوة الأحزاب للمدينة المنورة، وقد رأى النبى عليه الصلاة والسلام ما رأى من قوة الإسلام برهانا وعقيدة، وقوته مادية بحيث تبين أنه لا يغلب لأنه مؤيد من الله تعالى، ففيها كان بعث أبى عبيدة بن الجراح إلى ذى القصة في أربعين رجلا مشاة حتى أتوها فهربوا منه في رؤس الجبال، وأسر منهم رجلا حضر به لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وكان ذلك في ربيع من سنة ست. وفيها بعث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم زيد بن حارثة إلى بنى سليم فدلتهم امرأة من مزينة على محلة من محال بنى سليم، فأصابوا منها نعما وشاة وأسروا رجالا كان فيهم زوج هذه المرأة التى دلتهم واسمها حليمة فوهبه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لها وأطلقهما. وفي سنة ست هذه قبل صلح الحديبية أخذت أموال قريش، وكان فيها أموال كانت مع العاص ابن الربيع الذى كان زوجا لزينب بنت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأطلقه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من غير فداء على أن يعيد زينب لأبيها فبر بما وعد. لما أخذ المال الذى كان معه، وقتل من كان معه، وفرهو إلى المدينة المنورة، فلما جاءها استجار بزينب بنت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فأكرمه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وأجاز

سرية عكل وعرينة

جوار زينب وأمر برد الناس ما أخذوا من العير، فرد كل واحد ما أخذ من هذه العير، حتى لم يفقد منها شيئا، حمل أبو العاص بن الربيع المال إلى مكة المكرمة، ورده إلى أهله، ورد ما كان لهم من الودائع، فلما تم ذلك أعلن إسلامه، وخرج مهاجرا إلى المدينة المنورة. وإن هذه الرواية التى رواها ابن إسحاق تدل على أن إسلامه كان سنة ست، وكان قبل نزول آية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ ... الآيات الكريمات (الممتحنة- 10) . وهذه رواية الواقدى أيضا، ولكن الحافظ ابن كثير يقول إن إسلامه كان سنة ثمان، وأن إسلامه تأخر عن تحريم بقاء المسلمات- أى زواج الكفار منهن-، وأنهم لا يحلون لهن، وإنى أميل إلى رواية الواقدي، ورواية ابن إسحاق، وهى أكثر اتساقا مع الآية. فى شعبان سنة ست أيضا كانت سرية عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل يدعوهم إلى الإسلام، ولم يكن لقتال، وقال له رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن هم أطاعوا فتزوج بنت ملكهم، فأسلم القوم، وتزوج عبد الرحمن بن عوف بنت ملكهم تماضر بنت الأصبع الكلبية، وهى أم أبى سلمة بن عبد الرحمن بن عوف وكانت هذه السرية في شعبان. وفي هذه السنة سنة ست أيضا أرسل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم على بن أبى طالب رضى الله تعالى عنه في مائة رجل إلى حى من بنى أسد بن بكر، وذلك أنه بلغ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه جمع لهم جمع يريدون به أن يمدوا يهود خيبر يعاونونهم على المسلمين، وهذا يدل على أنهم كانوا يستعدون لحرب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فبعث عليا إليهم، فسار إليهم ليلا ونهارا، حتى أصاب منهم عينا لهم، فأقر أنهم بعثوا إلى خيبر، وأنه هو الذى يعرض عليهم أن تعطى خيبر لهم تمر خيبر. وبذلك علم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أنهم يجمعون الجموع له، ولذلك لم يكن غريبا أن يتجه إليهم بعد الحديبية، لأنه تفرغ لهم. سرية عكل وعرينة 520- يقول ابن كثير إن هذه سرية كانت في سنة ست قبل الحديبية وقد نقلها عن الواقدى، وقال كانت في شوال سنة ست، أى قبل الحديبية بشهر، إذ الحديبية كانت في ذى القعدة الذى ولى شوالا.

وقالوا: إن السرية كانت بقيادة كرز بن جابر الفهرى إلى العرنيين الذين قتلوا راعى الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم واستاقوا النعم، فبعث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في آثارهم كرز بن جابر فى عشرين فارسا فردوهم، هذه قصة هذه السرية، خرج ناس استولوا على إبل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وقتلوا راعيها، فبعث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم هذه السرية، فردت الإبل. وفي القصة أخبار نجد من الواجب أن نذكرها، ونبين مقدار الاطمئنان في الرواية ونسبتها إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. جاء في البخارى ومسلم عن أبى قلابة عن أنس بن مالك رضى الله تعالى عنه أنه قدم رهط من عكل ورعينة فأسلموا، واجتووا المدينة المنورة فأتوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فذكروا ذلك، فقال عليه الصلاة والسلام: الحقوا بالإبل فاشربوا من أبوالها وألبانها، فذهبوا وكانوا فيها ما شاء الله تعالى ثم قتلوا الراعى وسرقوا الإبل، فجاء الصريخ إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فلم ترتفع الشمس حتى أتى بهم، فأمر بمسامير فأحميت فكواهم بها، وقطع أيديهم وأرجلهم وألقاهم في الحرة يستقون فلا يسقون حتى ماتوا، وفي رواية عن أنس أنه قال: فلقد رأيت أحدهم يكدم الأرض بفيه من العطش، وفي رواية للبخارى ومسلم أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أمر فسمل أعينهم. ولقد قال كمال الدين بن الهمام- من كبار فقهاء الحنفية: رواه جماعة المحدثين. ولكن مهما تكن عدد المصادر التى روته فإنه حديث آحاد. وإن أهل الخبرة في علم الحديث يقولون إن رواته ثقات، وإن سنده متصل، وإنه لا إنكار في سنده، وإن كان آحادا، ولكنا ننظر في متنه، فإن الحديث يضعف بإحدى طريقين إما بضعف سنده، أو بضعف متنه بأن يكون مخالفا للمقررات الشرعية. وإنا نرى أن متنه يخالف المباديء التى قررها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لوجوه. أولها: أن فيه مثلة، بسمل الأعين، وأن المثلة منهى عنها، وإن قالوا أن المثلة لم يكن قد نهى عنها، فإننا أولا نقرر أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لم يمثل بأحد من قتلى أحد، ولا من قتلى الخندق، فدل هذا على أنها كان منهيا عنها من قبل. وإن قيل إن الصحابة فعلوا معهم ذلك، لأنهم ارتكبوا ما يوجب حدا، وإذا كان الحد، فهو حد الحرابة الذى بينه الله تعالى بقوله: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا ... إلى آخر الآيات. وليس فيها سمل الأعين. ولا يقال إن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لم يأمر به، لأنه علمه في الرواية ولم ينكر.

حد الحرابة

ثانيها: أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم نهى عن القتل عطشا، ولقد قالت الرواية أنه تركهم يموتون عطشا- حتى إنهم كانوا يكدمون الأرض من شدة العطش حتى ماتوا، ولا يقال أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ما أمر بذلك، ولكن مفهوم هذه الرواية أنه علم، ولم ينكر. ثالثها: أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «إذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإن القتل قصاصا لا يبرر ذلك» ، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم لم يكن ليبيح ذلك في الحرب على أنهم ربما يعتبرون مقاتلين. والخلاصة أننا لا نرى أن ذلك الخبر تصح نسبته للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، لمخالفته للمقررات الإسلامية التى قررها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ولذلك لا نقول إنه صحيح النسبة لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. حد الحرابة 521- الفقهاء يسوقون قصة العرنيين وما نسب إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كسبب في حد الحرابة أو قطع الطريق، ويرون أن ما نسب إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فعله ينطبق على ما نص الله تعالى في كتابه من حد قطاع الطريق، ولكن ذكرنا أن ما ينسب إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فعله، لا ينطبق كله على ما في حد الحرابة فليس في نص القرآن الكريم سمل الأعين، كما أنه ليس في نص القرآن الكريم القتل بالعطش، حتى يكدموا الأرض من شدة العطش، فلا يستسقون، وقد كذبنا نسبته للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم لذلك. ومهما يكن فإننا نذكر النص القرآنى في هذا المقام، ومدى ما ينطبق من قصة العرنيين عليه. يقول الله تعالى في بيان هذا الحد: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ، أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ، ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ. إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ، فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (المائدة: 32، 33) . ولا شك أن وصف الحرابة ينطبق على هؤلاء العرنيين، وقد نزلت بهم بعض عقوباتها، وهو قطع الأرجل والأيدى. وما دمنا قد تعرضنا للحرابة أو لقطع الطريق، فإنه يجب أن نشير لبعض أحكامه، على قدر ما يتسع له المقام في سيرة النبى عليه الصلاة والسلام الطاهرة، ويترك تفصيله لكتب الفقه، ولموضعه من بحوثنا في كتاب الجريمة وكتاب العقوبة في الفقه الإسلامى «1» .

_ (1) الناشر: دار الفكر العربى.

المحاربون أو قطاع الطريق ناس يخرجون متفقين على القتل أو السرقة، وتكون لهم قوة يقاومون بها الدولة إفسادا من غير تأويل يتأولونه، بل سعيا بالشر والإفساد، ونرى ما يراه المالكية أنه لا تقتصر جرائم الحرابة على القتل والسرقة، بل تشمل كل المعاصى، كالزنا وشرب الخمر، ويدخل فيها كل المخدرات سواء أكانت سائلة أم جامدة، وسواء أكانت تتناول بالشرب أم بالتدخين. وسواء أكانت هذه القوة التى يكونها المحاربون في مدينة أم غير مدينة ماداموا يستطيعون أن يقوموا بجرائمهم بعيدين عن أن يجاب المستغيث إذا استغاث، وللفقهاء كلام وخلاف في هذا المقام. ويعد من المحاربين الجماعة التى تنفق على ارتكاب جرائمها. بطريق الغيلة وذلك في رأى مالك، والنص القرآنى يحتمل ذلك كله. والعقوبات المقررة، هى القتل، والصلب، وتقطيع الأيدى والأرجل من خلاف والنفى من الأرض بالإبعاد في مكان ناء لا يستطيعون فيه ارتكاب جرائمهم. وعد الإمام أبو حنيفة أن من النفى السجن، لأن المقصود منع اجتماعهم. وأكثر الفقهاء أن الإمام العادل يضع العقوبة على قدر الجريمة: فإن تولوا القتل قتلوا ولا فرق بين من باشره، ومن لم يباشره، لأن من لم يباشره كان معينا مع من باشره. وإذا سرقوا وقتلوا، قتلوا وصلبوا، ويستوى في العقوبة المباشر وغير المباشر. وإذا سرقوا وانتهبوا الأموال ولم يقتلوا فإنه تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، فإذا قطعت اليد اليمنى، يقطع معها الرجل اليسرى. وإذا كانوا قد اتفقوا وهموا بالشر، ولكن لم يمكنوا فإن العقوبة تكون النفى، بتفريقهم بعيدا عن مكان تجمعهم. هذا ما اختاره جمهور الفقهاء تابعين للتابعين في أقوالهم، ومن الصحابة عبد الله بن عباس رضى الله عنهما. ويرى الإمام مالك رضى الله عنه أن الإمام مخير في هذه العقوبة أيا كانت الجريمة التى ارتكبوها، لأن الجريمة الأصلية هى الاتفاق على ارتكاب هذه المعاصى، ولو لم يمكنوا من تنفيذ إحداها، والإمام ينظر إلى ما هو الأنجع في ردعهم. (تم بعون الله الجزء الثانى، ويليه الجزء الثالث)

الجزء الثالث رسائله صلى الله تعالى عليه وسلم- طرد اليهود من البلاد العربية- تعميم الدعوة الإسلامية فى البلاد العربية- إسلام العرب- حال الأعراب- خروج الدعوة إلى أطراف الشام- حجة الوداع- زوجاته صلى الله تعالى عليه وسلم.

الجزء الثالث

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مقدمة الجزء الثالث بحمد الله وتوفيقه، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه والذين اتبعوهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد: فإنا نقدم الجزء الثالث من السيرة الطاهرة المطهرة، سيرة خاتم النبيين وسيد المرسلين محمد صلى الله تعالى عليه وسلم. وفى هذا الجزء تكلمنا فى نشره للدعوة الإسلامية فى ربوع البلاد العربية، ومجاوزة حدودها إلى الشام والرومان ومصر، وإلى فارس، والعراق. ففيه الكتب التى أرسلها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى أمراء العرب، وإلى قيصر الرومان، ومقوقس مصر، والنجاشى فى الحبشة. وفيه كان إجلاء اليهود عن البلاد العربية والاتجاه إلى الشام بالفتح المبين فكانت مؤتة، ومساورة الشام فى تبوك. ثم كانت الدعوة المحمدية مبثوثة فى كل البقاع والأصقاع العربية حتى دانت بالطاعة للإسلام خاضعين، وبيان حال الأعراب، ثم كان كمال الدين بيانا للأحكام، وتوجيها للعمل. ثم بيان انتقال النبى إلى الرفيق الأعلى صلى الله تعالى عليه وسلم بعد أن أشرق نوره فى الأرض، وبلغ رسالة ربه. اللهم املأ قلوبنا إيمانا بها، وأعمالنا طاعة لها، وأبعد الزيغ عن عقولنا، واغفرلنا ذنوبنا ما نعلم منها وما لا نعلم، إنك سميع الدعاء. محمد أبو زهرة

رسائله صلى الله تعالى عليه وسلم

رسائله صلى الله تعالى عليه وسلم 522- وفى هذه السنة بعد الحديبية فرض الحج. وإن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ومن معه من جيش الإيمان كانوا قد أحرموا للحج. وشرع الحج فريضة من بعد الحديبية مباشرة، وقالوا إنه كان قد شرع، وفرضه الله تعالى فى هذا الوقت مع أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لم يحج إلا فى السنة العاشرة. وهذا رأى أكثر الفقهاء، فالحج لا يجب فور القدرة عليه، ولكن يجب أداؤه فى مدى العمر، وقال بعض الفقهاء يجب فور الاستطاعة على أدائه، وقالوا إن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أخره إلى العاشرة لأنه لم يكن مستطيعا ذلك قبل العاشرة، لأن الأصنام لم تزل قبل التاسعة، وكان مشغولا بالدعوة، وبيان الشرع، حتى نزلت الآية: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ، وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي، وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً (المائدة) وسرد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم الفرائض الشرعية بإيجاز، وأشهد المؤمنين على التبليغ. وإنه بعد الحديبية تفرغ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم للدعوة، فلم يرسل سرايا للقتال. ولكن أرسل رسلا للدعوة إلى الإسلام، وتبليغ الدعوة. قال الواقدى: فى ذى الحجة من سنة ست بعث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ستة نفر مصطحبين حاطب بن أبى بلتعة إلى المقوقس صاحب الإسكندرية. وبعث شجاع بن وهب إلى الحارث بن شمر الغسانى ملك عرب النصارى. ودحية بن خليفة الكلبى إلى قيصر، هرقل ملك الروم. وبعث عبد الله بن حذافة السهمى إلى كسرى ملك الفرس. وبعث سليط بن عمرو العامرى إلى هوزة بن على الحنفى. وعمرو بن أمية الضمرى إلى النجاشى ملك النصارى بالحبشة، وهو أصحمة بن أبحر. وسنتكلم عن الرسائل التى كانت مع هؤلاء الرسل عند الكلام على مكاتبة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. والذى نقوله هنا هو أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد تفرغ للتبليغ، ولم يعد مقصورا على الجزيرة العربية وما حولها بل تجاوزها إلى الأقاليم الآخرى.

إلى خيبر

إلى خيبر 523- أنهى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ما بينه وبين قريش بصلح مدته عشر سنين، ليكون للدعوة والتبليغ وإن لم يترك ذلك التبليغ أبدا، فلم تشغله الحرب عن التبليغ بل كان التبليغ فى أثناء الحروب، وليتجه إلى اليهود أولا، وإلى حرب الشام ثانيا، لأن الروم فى الشام قتلوا بعض من آمنوا من أهل الشام، ففعلوا مثل ما فعلت قريش، فحق قتالهم حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين لله. ولذلك كان سيره من الحديبية إلى خيبر، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم ما كان يقاتل إلا فى ميدان واحد، فبعد أن انتهى من قريش انفرد لليهود الذين نقضوا معه كل العهود وكانوا إلبا عليه، يحرضون ويفسدون ويدسون. وكانت خيبر فى ذى الحجة على رواية عبد الرحمن بن أبى ليلى، فقد فسر قوله تعالى: وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً قال يعنى خيبر فقال إنها كانت فى ذى الحجة من السنة السادسة بعد عشرين يوما من صلح الحديبية، والواقدى يروى بسنده عن شيوخه أنها كانت فى السنة السابعة من الهجرة. وقد عين الوقت ابن إسحاق فقال: قام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بالمدينة المنورة حين رجع من الحديبية ذا الحجة وبعض المحرم ثم خرج فى بقية المحرم إلى خيبر. وبعض الروايات قالت إن غزوة خيبر كانت فى صفر سنة سبع. ومهما يكن تعيين الزمن، فإن غزوة خيبر كانت أمرا لا بد منه، لأنه اجتمع أعداؤه من اليهود، وما كانوا يألون المؤمنين إلا خبالا؛ وينتهزون الفرصة لينقضوا. وقد رأينا أنهم يمالئون غطفان، ويستخدمون قوة منهم، وقد بعث النبى صلى الله تعالى عليه وسلم على بن أبى طالب ليتعرف أمرهم والتقى بعين لهم، وأسر من أسر منهم. فكانوا بلا شك يريدون أن ينتهزوا معاونة ليغيروا عليه أو يعاونوا من يحاربونه، وكان فيهم غلظة وشدة. فلما اتجه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لغزو بنى النضير لكيلا يكون لليهود سلطان فى بلاد العرب كان لا بد أن تنضم إليهم غطفان، ولشدة عداوتهم للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ولقربهم من منازلهم، ولسبق تحالفهم مع الأحزاب لغزو المدينة، ولكن الله ردهم بغيظهم لم ينالوا خيرا، وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ، وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (الأحزاب- 25) . وقد احتاط صلى الله تعالى عليه وسلم لذلك، فنزل موقعا يفصل بين غطفان وخيبر. ولنسرد قصة هذه الغزوة من وقت ابتدائها.

القائد حامل الراية:

خرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قاصدا خيبر، فلما أشرف عليها أخذ يضرع إلى الله تعالى طالبا النصر والمعونة، فقال لأصحابه: قفوا؛ وأخذ يدعو، وهم يرددون معه. اللهم رب السموات وما أظللن، ورب الأرضين وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، ورب الرياح وما أذرين، فإنا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها، وخير ما فيها، ونعوذ بك من شر أهلها وشر ما فيها، أقدموا باسم الله تعالى. خرج رسول الله إلى خيبر، سلك على عصر، وهو جبل قريب من المدينة المنورة، فبنى به مسجدا، ثم مر على الصهباء، ثم أقبل بجيشه ونزل بواد يقال له الرجيع، وهو فاصل بين خيبر غطفان، لكيلا يمكنهم من مظاهرة اليهود عليه، فحال بينهم، ولكنهم كانوا قد خرجوا لليهود لينفذوا ما أرادوا من معاونتهم، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم أرسل إلى ديارهم جماعة من مقاتليه، ليزعجوهم، فلما سمعوا من ورائهم حس أولئك الذين ذهبوا خلفهم فى أموالهم وأهليهم ظنوا أن المؤمنين خالفوهم إليهم، فرجعوا على أعقابهم، فأقاموا فى أهليهم وأموالهم. وبذلك أمن رسول الله عليه الصلاة والسلام شرهم، وخلوا هم بينه وبين اليهود، واختاروا لأنفسهم السلامة. القائد حامل الراية: 524- دخل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أرض خيبر وكانت أرض زرع وحرث، وقد خرجوا يحملون أدوات من مساحى يحملونها لحرث الأرض ومكاتل يجمعون فيها الثمار، أو ينقلون السماد الطبيعى من مكان إلى مكان بها، فلما رأوا جيش النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ذعروا وقالوا محمد والخميس. تقدم محمد صلى الله تعالى عليه وسلم لفتح قريتهم بحصونها، وقد قال ابن القيم، وصاحب معجم البلدان: كانت لهم حصون، هى حصن ناعم وحصن القموص، وقلعة الزبير، وحصن النطاة، والكتيبة والوطيح، والسلام، وهما حصنا أبى الحقيق، وحصن الزبير، وحصن الصعب بن معاذ. كانت القيادة لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ومعه ستمائة وألف مقاتل، فيهم مائتا فارس، وكان قائد اليهود سلام بن مشكم ومعه أربعمائة وألف مقاتل، ولما قتل تولى القيادة أبو زينب بن الحارث. وكان حامل راية المؤمنين بطل الجهاد على بن أبى طالب، فإنه ليلة أراد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم غزو خيبر قال: لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، وإليك الرواية كما رواها البخارى.

قال البخارى بسنده «إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: لأعطين الراية غدا رجلا يفتح الله على يديه يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله. فبات الناس يذكرون ليلتهم أيهم يعطاها، فلما أصبح الناس غدوا على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، كلهم يرجو أن يعطاها فقال عليه الصلاة والسلام: أين على بن أبى طالب، فقالوا: يا رسول الله يشتكى عينيه، فأرسل إليه فأتى فبصق رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى عينيه ودعا له فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع فأعطاه الراية فقال: يا رسول الله أقاتلهم، حتى يكونوا مثلنا. فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: انفذ على رسلك، حتى تنزل ساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، فوالله لأن يهدى الله بك رجلا واحدا خير من أن يكون لك حمر النعم. ابتدأ القتال حول الحصون، ويقول ابن إسحاق: تقدم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى الأموال يأخذ الأقرب فالأقرب منها، وفى هذه الأثناء خرج المرحب فارسهم فقصده على بن أبى طالب فقتله. ثم تدانى جيش المؤمنين، يأخذ الأدنى فالأدنى، وأول حصن فتحوه والراية فى يد على كرم الله وجهه حصن ناعم، ثم القموص حصن أبى الحقيق، وكلما فتح حصن فر من كانوا فيه إلى الحصن الذى يليه، فيجتمع فيه مع من آلوا إليه فارين من حر السيف وقوة الإيمان، وكانت المبارزات أحيانا. ولقد فتح القموص بعد حصار دام عشرين ليلة كما جاء فى سيرة ابن إسحاق، وكان فى أرض وخمة شديدة الحر، فجهد أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم جهدا شديدا لوخم الأرض وحرارتها. ولقد تحركت اليهود من بعد ذلك كما قال الواقدى إلى قلعة الزبير، وهى حصن منيع، فأقام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى حصاره ثلاثة أيام. وقد جاء رجل يهودى يظهر من أمره أنه مال إلى الإسلام، كما يدل قوله وعمله، فقال للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم: يا أبا القاسم إنك لو أقمت شهرا ما بالوا، إن لهم سردابا وعيونا تحت الأرض. يخرجون بالليل فيشربون منها، ثم يرجعون إلى قلعتهم، فيمتنعون منك، فإن قطعت مشربهم عليهم خرجوا لك، فسار رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى مائهم، فلما قطع عليهم خرجوا فقاتلوا أشد القتال وقتل من المسلمين يومئذ نفر وأصيب من اليهود عشرة، وافتتحه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وكان آخر حصون النطاة.

وقد أحس المسلمون بقلة الزاد، وقالوا: والله يا رسول الله قد جهدنا وما بأيدينا شيء، فلم يجدوا عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم شيئا يعطيهم إياه، فقال صلى الله تعالى عليه وسلم ضارعا إلى ربه: «اللهم إنك عرفت حالهم، وأن ليست بهم قوة، وأن ليس بيدى شيء ما أعطيهم إياه فافتح عليهم أعظم حصونها غناء، وأكثرها طعاما وودكا» فغدا الناس، ففتح الله عز وجل حصن الصعب بن معاذ، وما بخيبر حصن كان أكثر طعاما وودكا منه. وإنه بعد أن فتحت حصون النطاة قبل حصن الصعب بن معاذ تحول إلى الشق، وكانت به حصون ذوات عدد، فكان أول حصن بدأ به حصن أبى الحقيق، فقام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على قلعة يقال لها سموان، فقاتل عليها أشد القتال، فخرج منهم رجل يقال له عزول، فدعا إلى البراز، فبرز له الحباب بن المنذر، فقطع الحباب يده اليمنى، فأتبعه الحباب فقطع عرقوبه وبرز رجل آخر فقام إليه رجل من المسلمين، فقتله اليهودى، فنهض إليه أبو دجانة فقتله وأخذ سلبه، وأحجموا عن البراز. بعد أن أحجم اليهود عن البراز كبر المسلمون وتحاملوا على الحصن فدخلوه، وأمامهم أبو دجانة فوجدوا فيه أثاثا ومتاعا وغنما وطعاما، وهرب من كان فيه من المقاتلة وتقحموا الحصن كأنهم الضباب، ثم تحولوا إلى حصن آخر من حصون الشق، وهو حصن البزاة وامتنعوا به أشد الامتناع، فزحف إليهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه، وتراموا بالنبل، ورمى معهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بيده الكريمة، حتى أصاب نبلهم بنانه عليه الصلاة والسلام، فأخذ عليه الصلاة والسلام من الحصى، فرمى حصنهم بها، فرجف بهم حتى ساخ فى الأرض، وأخذهم المسلمون أخذا باليد. هذا ما ذكره الواقدى فى تاريخه. ويقول الواقدى مسترسلا فى بيان فتح الحصون: ثم تحول رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى أهل الأظبية والوطيح والسلام حصنى أبى الحقيق، وتحصنوا أشد التحصين، وجاء إليهم كل من انهزم من النطاة إلى الشق، فتحصنوا معهم فى حصن وكان حصنا منيعا وفى الوطيح والسلام، وجعلوا لا يطلعون من حصونهم، حتى هم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن ينصب المنجنيق عليهم، فلما أيقنوا بالهلكة، وقد حصرهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أربعة عشر يوما (أى فى هذه الحصون الأخيرة) نزل إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حصون بن أبى الحقيق وطلب الصلح بعد أن تأكد أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم نصب المنجنيق ليقضى على البنيان إذ تحصنوا بها ولا سبيل إلى الوصول إليهم إلا بهدمها لأنها حصون لا مساكن.

الصلح والغنائم

ويتبين من هذا البيان أمران: أحدهما: أن الحصون التى أحصيناها كان كل واحد منها عنوانا لمجموعة حصون، وقد توالى سقوطها مجموعة مجموعة، بلا تخريب، ولكن يقاتل من فيها حتى يفروا إلى حصن آخر وراءها، ولذلك يقول ابن إسحاق: كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يتدنى، أى يحارب الأدنى، فالذى يليه، حتى إذا تجمعوا فى الحصون الأخيرة، التقت فيها جموعهم الفارة، وتقاتلوا مستميتين، وبذلك طال الحصار، واشتد من خارجها. كما اشتدوا هم فى الدفاع من داخلها. فهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بعمل المنجنيق، إذ لا يمكن الوصول إلى المقاتلين إلا بالهدم، ولا يلجأ إليه بمقتضى قانون الإسلام فى الحرب إلا عند الضرورة، إذا تترس به العدو ولا سبيل للوصول إليه، إلا بهدمه. فلما رأوا أنهم مقتولون لا محالة سلموا. الأمر الثانى: أن أشد قتال لقيه المسلمون كان فى خيبر، لأنهم قاتلوا قوما فى حصون، ولم يكن القتال فى العراء، والأعداء لا يواجهون المؤمنين، بل يقاتلون من وراء حصونهم: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ (الحشر: 2) . وقد انتصر المسلمون فى هذه الموقعة، فكان آخر انتصار على معقل اليهود فى البلاد العربية، ولم يستطيعوا فيها تدميرا من بعد، ولكن كان خبثهم فيما وراءها وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (آل عمران: 54) وكان قتلى المسلمين: 21 شهيدا وسبى وقتل كثيرون من اليهود. الصلح والغنائم 525- لما هم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بنصب المنجنيق، وأيقنوا بالهلكة نزل إليه ابن الحصين مستسلما طالبا الصلح على النجاة بأنفسهم وتسليم ما بأيديهم، فصالحه بالإجمال على حقن دمائهم، وسيرهم، ويخلون بين رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وبين ما كان لهم من الأرض والأموال، الصفراء والبيضاء والكراع والحلقة، وعلى أنه ليس لهم إلا ما كان على ظهر الناس يعنى لباسهم، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قابلا عرضهم: «وبرئت منكم ذمة الله، وذمة رسوله، إن كتمتم شيئا» ، فصالحوه على ذلك. قال ابن كثير: ولما كذبوا على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وأخفوا المسك (الجلد) الذى كان فيه أموال كثيرة لحيى بن أخطب، فتبين أنه لا عهد لهم فقتل ابن أبى الحقيق وطائفة من أهله بسبب نقض العهود والمواثيق.

هذا إجمال يجب أن نذكره بشيء من التفصيل معتمدين على السنة الصحيحة خصوصا فى التفرقة بين الأرض والنخيل والأموال المنقولة من صفراء وبيضاء وسبايا فإن لذلك موضعا فى الأحكام الشرعية. إنه كان الاتفاق على أن يجلوا على أن يحملوا معهم ما تحمله الركائب ويتركوا الأموال المنقولة والنخيل وأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أحصى أموالهم المنقولة من النقود والمتاع والجواهر، وقسمها بين القائمين على أساس أن الفارس له سهم ولفرسه سهمان، ومن لا فرس له وهو راجل فى الحرب سهم واحد، ولم يسهم للنساء بل رضخ لهن، والعبيد، فقد رضخ لهم بأن أعطاهم قدرا من الغنائم غير معين بتعيين ولا سهم. روى أبو داود والإمام أحمد عن عمير مولى أبى اللحم قال: شهدت مع سادتى، فكلموا فىّ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقلدنى سيفا، فإذا أنا أجره، فأخبر أنى أنا مملوك لى شىء من المتاع، وهذا الخبر يدل بظاهره على أن العبد يجوز له أن يملك، ولا يقال العبد وما ملكت يداه لسيده، وهذا رأى الظاهرية. وذكر محمد بن إسحق أنه حضر فى غزوة خيبر بعض النساء يحملن الماء، ويداوين الجراح فرضخ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لهن، وقد روى عن امرأة من غفار، قالت: أتيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى نسوة من بنى غفار، فقلنا: يا رسول الله قد أردنا أن نخرج معك إلى وجهك فنداوى الجرحى، ونعين المسلمين بما استطعنا، قال: على بركة الله تعالى، فخرجنا معه. فلما فتح الله تعالى خيبر رضخ لنا من الفيء ... وروى الامام أحمد عن بعض النساء أنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى غزوة خيبر وأنا سادسة ست نسوة، فبلغ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فأرسل إلينا فدعانا، فقال ورأينا فى وجهه الغضب، فقال: «ما أخرجكن؟ وبأمر من خرجتن؟ قلنا: خرجنا، نناول السهام، ونسقى السويق ومعنا دواء للجرحى، ونغزل الشعر، فنعين به فى سبيل الله، فأمرنا فانصرفنا، فلما فتح الله خيبر أخرج لنا سهاما كسهام الرجال، ولعل المراد أنه أعطاهن، كما أسهم للرجال، لا أن سهامهن مساوية لسهام الرجال. هذا التقسيم كان فى الأموال المنقولة، من صفراء وبيضاء وتمر ومتاع وغير ذلك من الأموال التى تنقل، أو الأموال السائلة، كما يعبر علماء المال فى عصرنا هذا.

خيانة وجزاؤها:

خيانة وجزاؤها: 526- وإن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد عاهدهم على أن يقدموا كل صفراء وبيضاء، وكل طعام ومتاع على ألا يكثر منه، وأن العهد كان على ذلك، فإذا كشف شيء كان مكتوما، فإن العهد ينقض، فلما تبين أنهم كتموا مالا نقض العهد، وقتل ابنى أبى الحقيق بسبب هذا النقض، وقد أشرنا إلى ذلك من قبل، والآن نفصل كيف كان اكتشاف الإخفاء وكيف أظهر. حدث البيهقى عن عبد الله بن عمر ... أنهم غيبوا مسكا فيه مال وحلى لحيى بن أخطب، وكان احتمله معه إلى خيبر حين أجليت النضير، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ما فعل مسك حيى بن أخطب الذى جاء به من النضير؟ فقالوا: أذهبته النفقات والحروب، فقال عليه الصلاة والسلام: العهد قريب، والمال أكثر من ذلك ... وكان حيى قبل ذلك دخل خربة يطوف بها، فذهبوا فطافوا فى هذه الخربة فوجدوا المسك فى الخربة وبذلك كان نقض العهد، ويظهر أن الذين كانوا يسترون على هذا المسك هما ابنا أبى الحقيق فقتلهما رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ولم ينقض العهد برمته، بل نقضه بالنسبة للذين كتموه، وكانوا يعلمون بموضعه وأن الله تعالى قسم الأموال المنقولة بالأسهم، وكان سهم لله ولرسوله ولذى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل. ووزع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سهم ذى القربى على بنى هاشم، وبنى المطلب ولم يوزع على بنى عبد شمس ولا بنى نوفل، فمشى عثمان بن عفان من بنى عبد شمس، وهم الأمويون، وجبير بن مطعم من بنى نوفل، وقالا للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم: أعطيت بنى عبد المطلب من خمس خيبر وتركتنا ونحن وهم بمنزلة واحدة منك، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن بنى هاشم وبنى عبد المطلب شيء واحد، لم يفارقونا فى جاهلية ولا إسلام. وإنه لم يناصب أحد من بنى المطلب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عداوة، والمطلب هو الذى ربى عبد المطلب، وعندما ضربت قريش حصارا على بنى هاشم فى شعب أبى طالب انضم إليهم فى الحصار بنو المطلب، ورضوا أن يكون ما ينزل بالهاشميين ينزل بهم، فكانوا قائمين بحق القربى، بينما أبو لهب الهاشمى أخو أبى طالب لم يرض الدخول مع إخوته. الأرض والنخيل: 527- هذا هو الأمر فى تقسيم البيضاء والصفراء والمتاع وسائر المنقولات، أما الأرض، فإنها لم تقسم كما قسمت الأموال، بل الأمر فيها كان على غير ذلك.

ذلك أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عندما أراد إجلاءهم بمقتضى الشرط الذى أخذه عليهم، قالوا يا محمد، دعنا نكون فى هذه الأرض نصلحها ونقوم عليها، ولم يكن لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ولا لأصحابه عمال يقومون عليها، وكانوا لا يفرغون أن يقوموا عليها، فأعطاهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خيبر، على أن لهم الشطر من كل زرع ونخيل وشئ ما بدا لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. ويستفاد من هذا أمران (أحدهما) أن الأرض تبقى فى أيدى المغلوبين، على أنهم غير مالكين لرقبتها، بل يعملون فى زراعتها ومراعاة أشجارها، ومساقاتها، ولهم شطر ما يخرج من زرع وثمر، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم يأخذ الشطر، وكان يوزعه فى مصارف الغنائم. الأمر الثانى أن ذلك غير ملزم للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، بل له أن ينزع الأرض من أيديهم إذا أراد، ولا يريد إلا ما يكون فيه مصلحة للمسلمين. وقال فى ذلك الامام مالك رضى الله عنه: إن الإمام مخير فى الأراضى المفتوحة إن شاء قسمها، وإن شاء أرصدها لمصالح المسلمين وإن شاء قسم بعضها، وإن شاء أرصد بعضها لما ينوبه فى الحاجات والمصالح. وشطر الغلات الذى يئول للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم روى أنه كان يوزعه توزيع الغنائم، فيكون خمسه لله، وللرسول عليه الصلاة والسلام، ولذى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، وأربعة الأخماس للغانمين، وكانوا أهل بيعة الرضوان، وغيرهم نحو أربعمائة وألف، ومن انضم إليهم من مجاهدى خيبر، فبلغ الجميع خمسمائة وألفا فكان يقسم الريع مقسم الغنيمة بينهم. وروى أبو داود أن النصف الذى كان يخص المسلمين ما كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يقسمه قسمة الغنائم، بل كان يبقيه لمن نزل به من الوفود، والأمور ونوائب الناس، أى يجعله لمصالح المؤمنين من غير تخصيص، ويقول الحافظ ابن كثير: قد تفرد بهذه الرواية أبو داود. ومهما يكن من الأمر بالنسبة لغلة النصف فإنه يتبين من هذا أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم جعل الأرض فى أيدى أهلها على أن يكونوا زارعين حارثين مصلحين فى الأرض غير مالكين لرقبتها، بل رقبتها لجماعة المسلمين، ولذلك كان للإمام أن يخرجهم منها حيثما كان فى ذلك مصلحة المسلمين. وأن ما فعله عمر رضى الله تبارك وتعالى عنه فى أرض سواد العراق الذى أشرنا إليه عند الكلام فى أموال بنى النضير، يشبه هذا، وكان للإمام عمر رضى الله تعالى عنه أن يحتج به عندما خالفه جمع من الصحابة كان على رأسهم بلال رضى الله عنه.

وأن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أقام عبد الله بن رواحة على المقاسمة بينهم وبين النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فكان يأتيهم كل عام، فيخرجها عليهم، ويضمنهم الشطر، وكان عادلا لا يظلمهم، ولا يطفف شيئا من نصيب المسلمين، فشكوا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم شدة حرصه. ولقد أرادوا أن يرشوه فقال: يا أعداء الله تطعموننى السحت، والله لقد جئتكم من عند أحب الناس إلى، ولأنتم أبغض إلى من عدتكم من القردة والخنازير، ولا يحملنى بغضى إياكم، وحبى إياه على ألا أعدل إياكم. فهو لا يظلم لعداوة، ولا لمحبة، ولذلك قالوا: بهذا قامت السموات والأرض. ولما قتل عبد الله بن رواحة، فى مؤتة، ولى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعده جبار بن صخر رضى الله تعالى عنه وكان من أهل الخبرة، فى خرص الزروع والثمار. 528- وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يوزع الزرع والثمار فى النصف الذى يخص المسلمين على تقسيم الغنائم وخصص أراضى لإخراج سهم من الأسهم، فجعل ما ينتجه حصن الشق ونطاة فى أسهم المسلمين ما ينتج منهما يكون نصفه قسمة على حسب سهام الفاتحين. وكان ما ينتجه حصن الكتيبة مخصصا لخمس الله ورسوله عليه الصلاة والسلام وذى القربى. واليتامى والمساكين وابن السبيل وطعم رجال سواء بالصلح بين النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى أهل فدك. وكان لنطاة والشق ثمانية عشر سهما، لنطاة خمسة والباقى للشق يأخذ الفاتحون هذه الأسهم الثمانية عشر. وقسمت الثمانية عشر على 1800 سهم، أى أن كل سهم فى النطاة والشق كان مقسما على مائة. ويقول ابن اسحاق «قسم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الكتيبة وهى واد خاص بين قرابته وبين نسائه، وبين رجال مسلمين، ونساء أعطاهم» وقد ذكر المقادير التى كان يعطيها لذوى قرابته ونسائه، ولبعض رجال المسلمين، فكان يقسم على الضعفاء وذوى الصلة كل على مقدار حاجته. وهكذا كان التقسيم للغلات، ولم يقسم الأرضين، ولكن كان لكل طائفة سهام فى حصن معين من حصون خيبر، ولقد كان بعض المؤمنين يشرفون على الأرض من حيث إنتاجها وصلاحها،

وكان يتولى مقاسمة اليهود عبد الله بن رواحة أولا، فلما استشهد رضى الله تعالى عنه، تولاها جبار بن صخر، واستمر طول حياة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. فلما انتقل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى نفذ أبو بكر ما كان يفعله رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ثم لما توفى الصديق نفذ عمر شطرا من إمارته ما كان يفعله النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ثم بدا له أن يخرج الأرض من أيدى اليهود، ويعطيها ذوى السهام فيها. وذلك لأمرين: أولهما أنهم قتلوا فى عهد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم رجلا أنصاريا، وهو عبد الله بن سهل وكان قد خرج فى أصحاب له يمتارون تمرا فانفرد عنهم، ووجد فى عين قد دقت ثم طرح فيها فأخذوه وأخفوه، ثم قدموا على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وأقام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم القسامة، واتهمهم من بعد ذلك عمر فى عهده بأنهم قتلوه. واعتدوا ثانية فى عهد عمر على عبد الله بن عمر فقد خرج هو والزبير بن العوام والمقداد بن الأسود إلى أموال المسلمين بخيبر يتعهدونها، وتفرقوا فى الأموال فقدعوا يديه (أى خلعوا أى أزيلت عن مفاصلها، وأصلح زملاؤه يده) . فلما حضر إلى أمير المؤمنين فقال هذا عمل يهود، ثم قام فى الناس خطيبا، فقال: «أيها الناس، إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، كان قد عامل يهود خيبر على أنا نخرجهم إذا شئنا، وقد عدوا على عبد الله بن عمر فقدعوا يديه، كما بلغكم مع عدوكم على الأنصارى قبله، لا شك أنهم أصحابه ليس هناك عدو غيرهم. فمن كان له مال بخيبر فليلحق به، فإنى مخرج يهود» . وهذا مؤداه أنهم أصبحوا غير أمناء على المؤمنين، وقد ارتبطوا معهم بعلاقة المزارعة فكانوا يعاملونهم معاملة عدو، لا معاملة معاون. الأمر الثانى الذى أوجب على عمر أن يخرجهم وخصوصا بعد ما أظهروا عداوتهم وحقدهم، أنه علم أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال «لا يصبحن بجزيرة العرب دينان» ، فكان لا بد من إجلائهم، فدعاهم إلى الجلاء، وقال: من كان عنده عهد من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فليتجهز للجلاء. وإذا كان بقاؤهم فى الأرض فقد كان بالمشيئة وليس عودا دائما. وقد خصص النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لكل ذى سهم دائم جزآ من الأرض يجمع شطر ثماره، فلما أجلى سيدنا عمر رضى الله عنه اليهود، قال لأصحاب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم «أيها الناس إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عامل يهود خيبر على أن يخرجهم إذا شاء، فمن كان له مال فليلحق به. فإنى مخرج يهود» .

فدك

وجعل لكل مستحق من أسهم ثمراتها، على ما يخرجه سهمه يديره حيثما يريد. وبالنسبة لأزواج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فخيرهن رضى الله عنهن وعنه فقال لهن: من أحب منكن أن أقسم فإنى أقسم مائة وسق على أن يكون لها أصلها وأرضها وماؤها ومن الزرع عشرين وسقا من شعير فعلنا، ومن أحب أن يعزل الذى لها فى الخمس كما هو فعلنا. ويستفاد من هذا أن سيدنا عمر ما أخذ من نصيب فى سهم ذوى القربى على أنه لهن ليس بالوراثة، بل أخذه لهن من الخمس الذى لله وللرسول عليه الصلاة والسلام، ولذى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، فقد جعل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لكل واحد مائة وسق أو مائتى وسق على اختلاف الرواية فى ذلك. وعشرين وسقا من شعير من غير اختلاف فى ذلك، فكان هذا استحقاقا ابتداء لا وراثة عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فخيرهن عمر رضى الله تعالى عنه بين أن يجرى عليهن ما كان يجريه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من أوساق، وبين أن يعزل لهن ما ينتج ذلك، كما فعل مع كل المستحقين فى خيبر. فدك 529- لما رأى يهود فدك ما نزل بيهود خيبر، وهم أهل الحصون الممنوعة أصابهم الرعب، ورأوا أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد أبقى الأرض فى أهل خيبر يرعونها ويغرسونها، ويصلحون شجرها على أن يكون لهم نصف ما ينتج، أى يعاملون كما عامل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أهل خيبر، وفدك أرض من أرض خيبر يسكنها يهود، لم يكن لهم حصون، ولم يقاتلهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ولكن ألقى الرعب فى قلوبهم، فاستسلموا. وقال رواة سيرة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم: إنها كانت كلها خالصة للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم كالشأن فى أموال بنى النضير، فلم تقسم سهاما كما قسم إنتاج خيبر، بل كانت كلها للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم. ويقول ابن كثير: كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يعزل منها نفقة أهله لسنة، ثم يجعل ما بقى كمال الله تعالى يصرف فى الكراع والسلاح ومصالح المسلمين. ويجب علينا فى هذا المقام أن نعيد تلاوة ما نزل فى أموال بنى النضير التى عدها العلماء بأنها كفدك فقد قال تعالى فى أموال بنى النضير وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ، فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ، وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ، وَاللَّهُ عَلى كُلِ

شَيْءٍ قَدِيرٌ. ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى، وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ، وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ، وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ، إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ. لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً، وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ. وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا، وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ، وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ، فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ، وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا، رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (الحشر: 6: 10) وإنه إذا كانت المقايسة ثابتة بين أموال بنى النضير، وفدك، فإن التعبير بأنها خالصة للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم مؤداه أنها لا تقسم مقسم الغنائم فلا يكون للفاتحين المجاهدين أربعة الأخماس كما هو الشأن فى الغنائم، وإنما يكون مصرفها مصرف خمس الغنائم لله ولرسوله صلى الله تعالى عليه وسلم ولذى القربى واليتامى والمساكين، لذلك يصرفه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى مصالح المسلمين، ويبقى له ما يكفيه وأهله منه بالمعروف. وعلى ذلك نقرر أنه لم يكن مملوك الرقبة للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم حتى يورث، ويجرى فيه النزاع على الملكية كما توهم كتب السيرة وكتب التاريخ. والذى أحسبه أن الاختلاف فى إدارتها، وتولى صرفها فى مصارفها باعتبار أنها ليست فى ظل الولاية العامة، بل لها ولاية خاصة، هى ولاية النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ومن يخلفه من أهله، وبذلك انتهى أمرها فى عهد عمر رضى الله تبارك وتعالى عنه، ولنترك الكلمة بعد ذلك للحافظ ابن كثير فى تاريخه: كانت هذه الأموال لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خاصة، وكان يعزل منها نفقة أهله لسنة، ثم يجعل ما بقى مجعل مال الله تعالى يصرفه فى الكراع والسلاح ومصالح المسلمين، فلما مات رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، اعتقدت فاطمة وأزواج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، أو أكثرهن أن هذه الأراضى تكون موروثة عنه ولم يبلغهن ما ثبت عنه من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم نحن معشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه يكون صدقة. ولما طلبت فاطمة وأزواج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم نصيبهن من ذلك، وسألوا الصديق أن يسلمه إليهن وذكر لهم قول رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم «لا نورث ما تركناه صدقة» وقال: أنا

أعول من كان يعول رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، والله لقرابة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أحب إلى أن أصل من قرابتي، وصدق رضى الله عنه وأرضاه، فإنه البار الراشد، فى ذلك التابع للحق. نحن لا نظن أن السيدة الزهراء التى هى قطعة من النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يكون طلبها للميراث، وإنما طلبها أن تتولى هى الصدقة. وقد صرح ابن كثير أن فاطمة طلبت بلسان العباس وعلى أن ينظرا فى هذه الصدقة وأن يصرفا ذلك فى المصارف التى كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يصرفها فيها، فأبى عليهم الصديق ذلك، ونحن لا نفرض أنهم طلبوا ميراثا، فعلى كرم الله وجهه ما كان يجهل أن الأنبياء لا يورثون، وهو فقيه الصحابة، وكما قال صلى الله تعالى عليه وسلم أقضى الصحابة. ويقول الحافظ ابن كثير أن فاطمة رضى الله تبارك وتعالى عنها، والصلاة والسلام على أبيها غضبت عليه فى ذلك ووجدت فى نفسها بعض الموجدة، ولم يكن لها ذلك، والصديق من قد عرفت هى والمسلمون محله من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقيامه فى نصرة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وتوفيت فاطمة بعد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ... «فلما كانت أيام عمر بن الخطاب سألوه أن يفوض أمر هذه الصدقة إلى على والعباس، وثقلوا عليه بجماعات من سادات الصحابة ففعل عمر ذلك لكثرة أشغاله، واتساع مملكته، وامتداد رعيته» . هذه عبارات الحافظ ابن كثير، وله مقامه فى علم السنة، والأخذ بمنهاج السلف، ولكن نلاحظ أن عباراته فى حق فاطمة التى تنتهى عترة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إليها لم تكن لائقة بمقامها من النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فإذا كان للصديق مكانته، فلفاطمة مكانتها من المحبة لأنها قطعة منه صلى الله تعالى عليه وسلم، فقوله عنها ما كان لها ذلك فيه تعد للحدود، بدليل أن عمر بن الخطاب من بعده نفذ ما طلبت، فلم تكن متجنية عندما وجدت موجدة على الصديق صديق أبيها. وهناك عبارة لا نوافقه عليها، لأنه يقول أنهم ثقلوا على عمر رضى الله عنه بجماعة من سادات الصحابة، فإن هذه العبارة لا يصح أن تقال فى على ولا فى عمر، فمقام على أجل من أن يعبر عنه فى طلبه واحتكامه إلى الصحابة بكلمة ثقلوا، وما كان عمر بن الخطاب فاروق الإسلام من صفاته أن يخضع لإثقال أحد من الصحابة، فهو القوى فى الحق الذى لا يخشى فيه لومة لائم، وما كنا نود أن يقع هذا من الحافظ ابن كثير العالم السلفى الإمام، إنما الأمر الذى يتصور أن يكون من العباس وعلى أنهما احتكما إلى جمع من الصحابة فنزل عمر عند رأيهم، لأنه رآه أنه الحق، ولنذكر بقية ما قصه الحافظ ابن كثير.

حوادث ذات مغزى في خيبر

فهو يقول أن الصدقة أعطيت لعلى والعباس رضى الله عنهما، فتغلب على على عمه العباس فيها، ثم تساوقا يختصمان إلى عمر، وقدما بين أيديهما جماعة من الصحابة، وسألا عمر أن يقسمها بينهما، فينظر كل واحد فيما لا ينظر فيه الآخر، فامتنع عمر عن ذلك أشد الامتناع، وخشى أن تكون هذه القسمة تشبه قسمة المواريث وقال: انظرا فيها، وأنتما جميع، فإن عجزتما عنها، فادفعاها إلى، والذى تقوم السماء والأرض بأمره، لا أقضى فيها قضاء إلا هذا، فاستمرا فيه، ومن بعد إلى ولدهما إلى أيام بنى العباس تصرف فى المصارف التى كان يصرف فيها أموال بنى النضير وفدك، وسهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من خيبر. حوادث ذات مغزى في خيبر 530- فى أثناء خيبر، وفى أعقابها وجدت حوادث تدل على قوة إيمان بعض المؤمنين، وصدق ما وعدوا الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، وحوادث فيها غدر من اليهود، وسماحة من النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وهو الغالب. منها أمر الأسود الراعى: قصته تدل كيف يدخل الإسلام إلى القلوب المخلصة التى لم يرنقها هوى وما غلبت عليها شهوات، كان مع اليهود عبد أسود أجير عندهم يرعى غنما لهم وقد سمع اليهود يقولون أنه يدعى أنه نبى مرسل، فساقه هذا لأن يذهب إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يسأله عما يدعو إليه، وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الذى نصر بالضعفاء والمساكين لا يحقر أحدا أن يدعوه إلى الإسلام، ولذا عرضه عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فأسلم، وجمع قلبه الطيب بين الإيمان والأمانة. فدعته الأمانة بعد الإيمان أن يقول لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إنى كنت أجيرا لصاحب هذه الغنم، وهى أمانة عندى، فكيف أصنع بها، لم يقل له النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أنها للمؤمنين بحكم أنها غنيمة للغالب، ولكنه أجرى أمانة الرجل على رسلها، بل قال له اضرب فى وجوهها، فإنها سترجع إلى ربها، فأخذ حفنة من الحصا، فرمى بها فى وجوهها، وقال: ارجعى إلى صاحبك فوالله لا أصحبك أبدا، فخرجت مجتمعة كأن سائقا يسوقها، حتى دخلت الحصن، ثم تقدم إلى ذلك الحصن ليقاتل مع المسلمين، فأصابه حجر قتله. قال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إنه شهيد وأنه دخل الجنة.

ومنها قصة أعرابى يجاهد ويرد المغنم:

ومنها قصة أعرابى يجاهد ويرد المغنم: 531- روى البيهقى بسنده، أن رجلا من الأعراب جاء رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فامن به واتبعه فقال: أهاجر معك، فأوصى به بعض أصحابه، وغزا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وغنم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقسم المغنم، وقسم لهذا الأعرابى المؤمن، فأعطى ما قسم له، فقال: ما هذا؟ قالوا: قسم قسمه لك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ما على هذا اتبعتك، ولكن اتبعتك على أن أرمى هاهنا- وأشار إلى حلقه بسهم- فأموت فأدخل الجنة، فقال الرسول الأمين صلى الله تعالى عليه وسلم: إن تصدق الله يصدقك. رفض المال ولو أنه حق وحلال، ومنحة الغنيمة أخذها بحقها، وذلك فى سبيل أن يكون عمله خالصا لوجه الله تعالى، فهو لا يرد الحلال، ولكن لا يريد عوضا للجهاد. ولما نهضوا للقتال كان معهم، فقتل بسهم أصابه حيث أشار إلى حلقه، فحمل إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فقدمه لله شهيدا، وقال: «اللهم هذا عبدك خرج مهاجرا فى سبيلك، قتل شهيدا، وأنا عليه شهيد» . وقد ضرب هذا الأعرابى المؤمن أعلى مثل للإيمان، وطلب ما عند الله وحده لا شيء سواه، فطلب رضوانه ولا يريد مغنما، فرضى الله تبارك وتعالى عنه. مؤمن يتحايل لماله بمكة المكرمة: 532- وإن الإسلام فتح الطريق أمامه، لا تحول بينه وبين انتشاره قوة الطغاة، ولا صد عن سبيل الله، أخذ يطوف فى البلاد العربية فيعشو إليه من يريد الهداية، ومن يصغى قلبه للحق والنور والهداية. وكان من ذلك إسلام الحجاج بن علاط السلمى، فإنه لما فتحت خيبر وزال كل ما كان يصد عن الإسلام جاء الحجاج هذا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إن لى مالا عند صاحبتى أم شيبة بنت أبى طلحة وكانت زوجه، وله منها ولد وأموال متفرقة فى تجارة مكة المكرمة والمؤمن يكون حريصا غير مستهين ولا يكون بخيلا، وفرق بين البخل والحرص، لأن الحرص معناه ألا يفرط فى حق اكتسبه بحله، ولا يكون هملا فرطا لا يعطى كل ذى حق حقه، ولا يفرط فى حقه مع التسامح فى موضعه أما البخل فإنه يشح بالمال ولا يضعه فى مواضعه. فالمؤمن حريص غير مفرط، ولا بخيل، أراد الحجاج أن يصل إلى ماله وهو بمكة المكرمة، ولو أعلن إسلامه منع ماله، فاستأذن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن يخفى أمره، ويقول ما يسهل

الوصول إلى ماله من غير تعمد للكذب، ولا خدع لمؤمن، فأذن له رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. خرج الحجاج إلى مكة المكرمة، حتى إذا التقى برجال من قريش يستمعون الأخبار، ويسألون عن أمر الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد بلغهم أنه سار إلى خيبر، وهم يعلمون أنها قرية الحجاز، ريفا ومنعة ورجالا، فهم يتحسسون الأخبار، ويسألون الركبان. فلما قابلوا الحجاج، ولم يكونوا علموا بإسلامه، ولم يظهره لهم، فسألوه عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وعن أمر خيبر، وقالوا له قد بلغنا أن القاطع (أى محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم) قد سار إلى خيبر، (وهى بلد يهود وريف الحجاز) . قال: قد بلغنى ذلك، وعندى من الخبر ما يسركم، هزم هزيمة لم تسمعوا بمثلها قط، وقتل أصحابه قتلا لم نسمع أبدا بمثله قط، وأسر محمد أسرا، وقالوا: لا نقتله، حتى نبعث به إلى أهل مكة، فيقتلوه بين أظهرهم. أعينونى على جمع مالى بمكة المكرمة، وعلى غرمائى، فإنى أريد أن أقدم خيبر، فأصيب من فل محمد وأصحابه قبل أن يسبقنى التجار إلى هنالك. فقاموا فجمعوا له ماله يحثون الغرماء على ذلك. وكان له عند امرأته مال موضوع، وأراد أن يأخذه، فطلب منها لعله يصيب من فرص البيع قبل أن يسبقه التجار. تسامع الناس بخبر هزيمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، والناس يصغون دائما إلى ما يحبون، ويذيعونه وينشرونه فرحين مستبشرين، ويعميهم حبهم عن فحص الخبر ووزنه أو الشك فيه، بل يطمئنون إلى ما يحبون من غير تمحيص. وفى مكة المكرمة محبون للنبى من ذوى قرباه، وعلى رأسهم العباس عم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فهاله الخبر، فذهب إلى الحجاج فسأله: ما الخبر الذى جئت به، فأشار إلى العباس أن عنده أخبارا وطلب إليه أن يسايره حتى يفرغ من جمع ماله، ويلقاه فى خلاء. حتى إذا فرغ من جمع كل شيء كان له بمكة المكرمة، وأجمع الخروج لقى العباس رضى الله عنه، وقال: احفظ عنى حديثى يا أبا الفضل ثلاثا، فإنى أخشى الطلب، ثم قل ما شئت، قال: أفعل، قال: فإنى والله لقد تركت ابن أخيك عروسا على بنت ملكهم صفية بنت حيى، ولقد افتتح

خيبر، وصارت له ولأصحابه ولقد أسلمت. وما جئت إلا لأخذ مالى فرقا من أن أغلب عليه، فإذا مضت ثلاث ليال، فأظهر أمرك فهو والله على ما نحب. مكث العباس ثلاث ليال لا يلتقى بالناس، حتى إذا خرج لبس حلة، وتطيب، وأخذ عصاه، وخرج حتى أتى الكعبة المشرفة، فلما رأوه قالوا والله هذا التجلد لحر المصيبة. قال: كلا والله الذى حلفتم به، لقد افتتح محمد صلى الله تعالى عليه وسلم خيبر، ونزل عروسا على بنت ملكهم، وأحرز أموالهم وما فيها، فأصبحت له، ولأصحابه. قالوا: من جاءك بهذا الخبر؟ قال: الذى جاءكم بما جاءكم به، ولقد دخل عليكم مسلما، فأخذ ماله، وانطلق ليلحق بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه، فيكون معه، قالوا: يالعباد الله أفلت عدو الله، أما والله لو علمنا لكان لنا وله شأن، ولم ينشبوا أن جاءهم الخبر. ونقف وقفة قصيرة فى هذا، أيعد الرجل قد كذب، وهل يعد هذا الكذب إثما، ونقول قبل الإجابة أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لم يأذن له بالكذب، بل أذن بالقول، بأن يورى ولا يكذب، وأن يحاول من غير أن يتورط فى قول غير صحيح فى ذاته ولا فى موضعه. ولكن هل يعتبر كذبا أن يوهم بالقول، ثم يوضح هو الحقيقة، وهو بين قوم ظالمين، ولا يمكن أن يصل إلى حقه المشروع إلا إذا أوهمهم، ثم أزال وهمهم بقول الحق الصريح، وهو قد ترك للعباس أن يصحح القول، ويبين مقصده من إيهامهم. وإنى أحسب أنه لم يكذب ويصر على ما أدخله فى نفوسهم، والله سبحانه وتعالى أعلم.

زواج النبي صلي الله تعالي عليه وسلم بأم المؤمنين صفية

زواج النبي صلي الله تعالي عليه وسلم بأم المؤمنين صفية 533- كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم شفيقا رفيقا رؤفا فى ذات نفسه وبالناس. وقد رأى صفية وأختها. يمر بهما بلال رضى الله عنه فى وسط قتلى اليهود، فنادى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بلالا لائما له قائلا: «أليس فى قلبك رحمة تمر بالفتاتين فى وسط القتلى من أهلهما» وكانت إحداهما مذعورة نافرة وكانت صفية ساكنة مستسلمة تاركة نفسها للمقادير. والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقرب القلوب، ولا ينفرها، وييسر ولا يعسر، وكما كان عليه الصلاة والسلام يقول «يسروا ولا تعسروا، واكفوا ولا تنفلوا» . وقد كانت صفية فى قسمه، فلم يرد أن يبقيها على الرق أو أن يفرض عليها رقا تأليفا ورفقا، وكان يمكن أن ينال ما ينال بملك اليمين، ولم يكن حراما، ولكنه يبغض الرق ولا يريد أن ينشيء رقا على أحد قط، وخصوصا إذا كانت ابنة رئيس القوم، فهو لا يحب الذلة ينزلها بإنسان بعد عزة. ولذلك أعتقها وتزوجها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وجعل صداقها عتقها، وكان زوجها ابن عمها فى جملة القتلى. ولقد دخل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بعد استبراء رحمها بحيضة تحيضها، ولم يكن لها عدة، لأنه لا عدة من كافر، وخصوصا أن عدتها تكون عدة وفاة، وهى تكون للإحداد على الزوج السابق، ولا حداد على كافر، ولكن لا يصح أن يدخل بحامل، فتركها صلى الله تعالى عليه وسلم، حتى تستبرىء. ولقد نظر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى وجهها، فوجد أثر كدمة فى وجهها فسألها عنها فقصت خبر رؤيا لها رأتها، بعد بضع ليال من زواجها بابن عمها، وتلك أنها رأت فى منامها كأن قمر السماء وقع فى حجرها، فقصت رؤياها على ابن عمها، فلطم وجهها، وقال: أتتمنين ملك يثرب أن يصير بعلك. وقد تحققت رؤياها وكانت صادقة، فجاء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وفتح حصونها وكانت فى السبايا. فكرمها بأن أعتقها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وتزوجها. ولقد أقام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وليمة لزواجها، وقال أنس: أقام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وليمة بين خيبر والمدينة المنورة ثلاث ليال فدعوت المسلمين إلى وليمته، وما كان فيها من خبز ولحم، وما كان فيها إلا أن أمر بلال بالأنطاع فبسطت فألقى فيها التمر والسمن، فقال المسلمون: أجدى أمهات المسلمين.

غدر وسماحة

ولقد كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم رفيقا فى معاملته لها، وقد اعتذر لها من قتل أبيها وزوجها، إذ كان أبوها يحرض عليه القبائل، ويؤلب عليه الناس وما كان يستطيع أن يتركه يؤلب العرب عليه، وقتل زوجها، لأنه خان العهد وأخفى مال أبيه، ونقض الذمة، وكان يتألف قلبها بسماحته ورفقه؛ حتى صار أحب الناس إلى قلبها. وإن زواج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من السيدة صفية فيه فوائد اجتماعية، فهو أولا يطفيء ما فى قلوب المؤمنين بالنسبة لليهود، وضرب المثل السامى فى معاملة السبايا، فهى كانت منهن، فاختارها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم زوجا بدل أن يتخذ منها أمة يدخل عليها بملك اليمين، وهو يضرب الأمثال فى حسن العشرة الزوجية، فيكون خير الناس لأهله، كما قال صلى الله تعالى عليه وسلم: «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلى» . وإن هذا الزواج فيه مداواة للجروح المكلومة، لقد أمرها بلال على القتلى من قومها، فأكرمها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ورفعها إلى أعلى درجات النساء وهو أن تكون من أمهات المؤمنين. وأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يصلح بينه وبين اليهود فجعلهم شركاء للمؤمنين، فكان من الحق أن يتألفهم، وأن يرأف بهم، وإن ذلك الزواج تأليف وتقريب، وإبعاد للنفور ولكنهم جاحدون دائما. غدر وسماحة 534- كان سلام بن مشكم الحامل الأول للواء اليهود، ولما قتل حمل غيره اللواء وقد بقيت امرأته من بعده بحقدها وضغنها على من قتلوا زوجها عامة، وخاصة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. وأرادت قتل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بأداة القتل عند النساء، وهو السم، وتظاهرت بالمودة واتجهت إلى إهداء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم شاة، وضع السم فى أجزائها، وتعرفت ما يحبه النبى عليه الصلاة والسلام من أجزاء الشاة، فقيل لها الذراع فزادتها سما، وأكثرت فيها. أهدت النبى صلى الله تعالى عليه وسلم الشاة، فجاءت بها ووضعتها بين يديه، تناول النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ذراع الشاة التى هى أحب أجزائها إليه، فلاك منها مضغة فلم يسغها، لعل ذلك لأنها أسرفت فى وضع السم فيها، فكان غريب المذاق، ولذلك رماها من يده ولم يأكلها ولفظها، وكان معه على الطعام صاحب له هو بشير بن البراء بن معرور، فأكل هو الآخر، فأساغها ولعل ذلك لعدم ظهور السم، وإن كان كامنا، ومات بشر من أكلته هذه، ولكن ذلك لم يكن فور تناولها.

ولقد قال عليه الصلاة والسلام عندما لفظها: «ان هذا العظم ليخبرنى بأنه مسموم» ودعا المرأة وسألها فاعترفت، وصرحت بالعداوة قائلة: بلغت من قومى ما لم يخف عليك، ثم أردفت ذلك بقولها، فقلت إن كان ملكا استرحت منه، وإن كان نبيا فسيخبر. وقد تجاوز عنها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ويظهر أن بشرا لم يكن قد مات بأثر السم، وإلا ما تجاوز النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عنها، لأنها قتلت نفسا غدرا وعامدة. وإن عمل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان السماحة كلها، والسماحة دائما تقرب، ولا تنفر، وإن العلماء يقولون إن هذا الفعل الذى لاك به النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مضغة اللحم، ولم يسغها كان له أثر فى جسمه صلى الله تعالى عليه وسلم، حتى يقال أنه عندما ضعف جسمه الكريم بمرض الموت أحس به يسرى فى بدنه. يروى أنه قال فى مرضه الذى توفى فيه، لأم بشر بنت البراء بن معرور، وقد جاءت إليه تعوده قال لها: «يا أم بشر إن هذا الأوان وجدت انقطاع أبهرى التى أكلت مع أخيك بخيبر» . ويا بنى العلماء على ذلك أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد مات شهيدا. وهكذا نجد غدرا واضحا، وسماحة غالبة لمداوة جروح النفوس، وإذا كان اليهود ابتداء قد حاولوا رمى الحجر عليه، وهو جالس بجوار جدارهم، فقد حاولته امرأة حقود بالسم تقتله به، وظهر أثره عندما ضعف بالمرض فمات شهيدا وهو أعظم الشهداء.

قدوم جعفر بن أبى طالب ومن معه من المهاجرين

قدوم جعفر بن أبى طالب ومن معه من المهاجرين 535- انتصر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى خيبر انتصارا مؤزرا. زال سلطان اليهود فى جزيرة العرب فقوض قوتهم العسكرية، وفل من شوكتهم، وجعل العدو يسير وراء الإسلام، ولا يواجهه، وبقى أن يعود الغرباء إلى عزة الإسلام، وقد خرجوا فرارا من إذلال المشركين؛ عادوا ليتحملوا عبء الجهاد أعزاء، بدل أن يبقوا مستضعفين، ولو كانوا ضيوفا بين قوم كرماء وملك كريم. عاد جعفر بن أبى طالب ومعه المهاجرون الذين هاجروا إلى الحبشة، ونالوا فضل الهجرتين. لقى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم الرفيق ابن عمه الحبيب جعفر بن أبى طالب، فقبله بين عينيه والتزمه، وقال: ما أدرى بأيهما أنا أسر بفتح خيبر أم بقدوم جعفر. عندما اطمأن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعزة الإسلام التى أعزه الله تعالى العلى القدير بها، بعد غزوة الأحزاب، وقد صار الإسلام يغزو أعداءه، ويخضد شوكتهم، ويدعو الناس بدعوة الحق، وهو فى أمن، وخصوصا بعد الحديبية، عندئذ أرسل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى أتباعه بعد الحديبية؛ يدعوهم إلى أن يحضروا ليجاهدوا مع إخوانهم، فهم فى غربتهم وكان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم حريصا عليهم، يشعرهم بأنهم منه وهو منهم. بعث إلى النجاشى الكريم- عمرو بن أمية الضمرى، ليسهل لهم عودتهم، بعد أن أكرم ضيافتهم، فحملهم فى سفينتين، فقدم على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو بخيبر. عاد المهاجرون إلى الحبشة، وكانوا من بطون مختلفة، ومن أسر قريشية، وغير قريشية مختلفة، جمعهم الحق والإيمان والهجرة. وإن فرقت البطون والأسر. فكان من الهاشميين جعفر بن أبى طالب، ومعه امرأته أسماء بنت عميس الخيثمية وولد له فى الحبشة عبد الله بن جعفر. ومن بنى أمية خالد بن سعيد بن العاص، وامرأته وابنه سعيد بن خالد. ومن بنى عبد الدار بن قصى الأسود بن نوفل بن خويلد. ومن بنى تيم بن مرة بن كعب الحارث بن صخر وامرأته.

وهكذا من بطون قريش وقد أحصاهم ابن إسحاق عدا فكان عددهم ستة عشر رجلا، ومعهم أولادهم الصغار الذين صحبوهم أو ولدوا فى الحبشة. كان ممن حضر أبو موسى الأشعرى، وعدد من الأشعريين، كانوا هم عم أبى موسى الأشعرى وأخاه أبا بردة. وكان مع مهاجرى الحبشة فى السفينتين نساء من هلك من المسلمين هنالك. وقد روى البخارى أن أبا موسى الأشعرى لم يكن من مهاجرى الحبشة، بل كان ممن آمن بالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو باليمن، ولما علم بهجرة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم هاجر إليه، فالتقى فى الحبشة بجعفر بن أبى طالب، ولنترك الكلمة للبخارى عن أبى موسى الأشعرى قال «بلغنا مخرج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فخرجنا مهاجرين إليه ... فى ثلاث وخمسين رجلا من قومى، فركبنا سفينة فألقتنا سفينتنا إلى النجاشى بالحبشة، فرافقنا جعفر بن أبى طالب، فأقمنا معه حتى قدمنا جميعا، فرافقنا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم حين افتتح خيبر، فكان أناس من الناس يقولون لنا سبقناكم بالهجرة» . ويروى البخارى مناقشة كانت بين أسماء بنت عميس امرأة جعفر بن أبى طالب وعمر بن الخطاب رضى الله عنهما. ذلك أن أسماء زارت أم المؤمنين حفصة رضى الله عنها. فدخل عمر أبو حفصة وعندها أسماء. فقال عمر: الحبشية هذه، البحرية هذه. قالت أسماء: نعم. قال عمر رضى الله عنه: «سبقناكم بالهجرة، فنحن أحق برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فغضبت أسماء وقالت: كلا والله كنت مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يطعم جائعكم، ويعظ جاهلكم وكنا فى دار البيداء والبغضاء بالحبشة، وذلك فى الله، وفى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وأيم الله لا أطعم طعاما، ولا أشرب شرابا، حتى أذكر ما قلت للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم وأسأله، لا أكذب ولا أزيغ، ولا أزيد عليه» . ذهبت فى هذه الحماسة إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وقالت: يا نبى الله إن عمر قال كذا وكذا وقلت كذا وكذا.

وادى القرى

قال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم حاكما بين هذين المؤمنين المخلصين: «ليس بأحق منكم، وله ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان» . هذا حديث كان يجرى بين الصحابة أيهما أسبق للهجرة أأولئك الذين هاجروا من مكة المكرمة إذ هاجر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من مكة المكرمة، أم أولئك الذين هاجروا فرارا من فتنة المشركين، وبسبب بعدهم وغربتهم لم يهاجروا مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى المدينة المنورة، بل حبسهم البعد والغربة عن أن يهاجروا مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. وفى ذلك الشرف والإخلاص فليتنافس المتنافسون، وفى كل فضل، فالذين هاجروا مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم نالوا نعمة الجهاد فى غزوات وسرايا، فجاهدوا فى بدر وأحد، وبنى قينقاع، وبنى النضير، ثم تحملوا البلاء فى حفر الخندق، وزلزال غزوة الأحزاب فى الخندق، ثم كان لهم فضل الصبر فى الحديبية، وليس صبر القتال، ولكنه صبر النفس، وضبطها، ثم بيعة الرضوان. وفضل مهاجرى الحبشة أنهم كانوا فى غربة معزولة، وكانوا مستضعفين فى الأرض يبغون الجهاد ولا يدركونه، حتى أنقذهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فجاؤا إليه ليحملوا عبء الجهاد كإخوانهم، ويزول عنهم بلاء الاغتراب إلى بلاء الجهاد، وعزته. وادى القرى 536- كان حول خيبر أو على مقربة جيوب لليهود، لم يقدعها هزائم أهل الحصون فكانوا يعلون برؤسهم حاسبين أنهم ينالون من المسلمين نيلا. فكان اليهود بوادى القرى ينهدون برؤسهم، ولم يعتبروا بما كان فى خيبر، وبينما النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بوادى القرى أصيب رجل من المؤمنين بسهم فقتل. وأخذ يهود وادى القرى، يجمعون أنفسهم، وانضم إليهم ناس من العرب، فلم يكن بد من القتال وهم أهون فى أنفسهم وعند الله من خيبر ومن كان وراءهم. هيأ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أصحابه للقتال وصفهم، وأعطى اللواء سعد بن عبادة، وأعطى راية إلى الحباب بن المنذر، وراية إلى سهل بن حنيف، وراية إلى عباد بن بشر، وتقدم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يدعوهم إلى الإسلام، وأخبرهم أنهم إن أسلموا أحرزوا أموالهم، وحقنوا دماءهم وحسابهم على الله.

فلم يجيبوا داعى الله، وآثروا القتال فخرج رجل منهم يطلب المبارزة، فبرز إليه الزبير بن العوام فقتله، ثم برز آخر فبرز إليه على فقتله، حتى قتل منهم أحد عشر، وكلما قتل رجل منهم كرر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم الدعوة إلى الإسلام، وإلى الله عز وجل ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم. ولكنهم عموا وصموا عن دعوة الحق، فكان القتال الذى ابتدأوه بالسهم القاتل لرجل من المؤمنين ولم تجدهم الدعوة إلى الإسلام، وكان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يصلى كلما حضر وقت الصلاة، ثم يدعوهم، لم يجد ذلك كله فقاتلهم، حتى أمسى، وغدا عليهم، فلم ترتفع الشمس قيد رمح حتى أعطوا ما بأيديهم من مال وسلاح. وبذلك فتحت أرض وادى القرى عنوة، ولم تكن بصلح كفدك، وقد أقام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أربعة أيام، ذهب بعدها إلى تيماء. ولقد قسم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أموال وادى القرى، كما قسم خيبر، فكانت الأموال ابتداء مخمسة أربعة أخماس للفاتحين وخمسها لله ولرسوله صلى الله تعالى عليه وسلم ولذى القربى واليتامى والمساكين، وابن السبيل. والأرض والنخيل بقيت فى أيديهم على أن يكون لهم نصف ما تنتج، وللنبى صلى الله تعالى عليه وسلم النصف، وتكون الثمار والزروع موزعة توزيع الغنائم. ولقد كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يقوم بهذه القسمة على اعتبار أن كل أموال خيبر، ومن سار مسارها، وهم أهل وادى القرى، غنائم تخمس، وقد خمس الأموال المنقولة وخمس نتاج الأرض والنخيل، وبقية الأموال الثابتة. وذلك لأن الفاتحين من أهل المدينة المنورة كانوا عددا قليلا، ولم يكونوا كثرة كبيرة وكان جميع أهل المدينة المنورة مجاهدين، وكان نصيب الفقراء والمساكين واليتامى ثابتا، غير موزع على غيرهم، والكراع والسلاح وما يحتاج إليه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان يؤخذ من حصة الله والرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، إذ يستبقى لنفسه من هذا الخمس نفقة سنة، وينفق الباقى على المصالح العامة للمسلمين. ولما جاء عهد عمر رضى الله عنه نفذ الأمر فى خيبر، وما يشابهها كما قسم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو يتضمن المعانى التى ذكرناها، وهو بقاء الأرض تحت أيدى أهلها، وكان يقول رضى الله تبارك وتعالى عنه «أما والذى نفسى بيده لولا أن أترك آخر الناس ليس لهم شيء ما فتحت قرية إلا قسمتها كما قسم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم خيبر ولكنى أتركها خزانة لهم يقتسمونها» . ولذلك ترك أرض سواد العراق فى أهلها، وجعل خراجها لمصالح المسلمين مستندا إلى ما قرره القرآن الكريم بالنسبة لأرض بنى النضير، ونعتقد أنه هو ما قرره النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى أرض

صلح تيماء

خيبر، فمعناه لا يخرج عنه، لأن جماعة المؤمنين كانوا جميعا مجاهدين أو يتامى أو أبناء سبيل أو مساكين، ولكل حظ، وكان أولئك معروفين فى المدينة المنورة. فلما اتسعت رقعة الدولة كان الخراج موزعا على مصالح المسلمين، وسد حاجة المحتاجين بشكل عام. صلح تيماء 537- بما كان فى خيبر ووادى القرى انتهت قوة اليهود العسكرية فى بلاد العرب، ولكن بقى فيها ناس لم يخضعوا لحكم الإسلام وسلطانه، ويكونون تابعين له من غير أن يضاروا فى دينهم، ولا يرهقوا فى عقائدهم وهم يهود تيماء، وكانت على مقربة من الشام ولم يعتبر الإمام عمر رضى الله عنه أرضهم من أرض العرب التى لا يجتمع فيها دينان. وأهل تيماء من اليهود عندما علموا ما نزل بخيبر ووادى القرى، وما سامحهم فيه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من معاملة عندما علموا ذلك لم يريدوا قتالا، وجاؤا ودفعوا الجزية، وصالحوا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عليها، وجزيتهم كانت جزية على الأرض وهو الخراج، وجزية على الرؤس على ما هو مبين فى كتب الفقه، وإعطاء الجزية إقرار بخضوعهم لحكم الإسلام على أن يكون لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم من أحكام القصاص والحدود، وسنتكلم بعد ذلك فى الأحكام الشرعية التى أخذت من أقوال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى غزوة خيبر، وما جاء بعدها، فإنا لا نترك ذلك، ولكن أخرناه حتى ننتهى من القتال والحرب والتسليم وشروطه. إجلاء عمر لليهود 538- أجلى عمر بن الخطاب اليهود، يهود خيبر ووادى القرى الذين يسكنون فى الجزيرة العربية عملا بقول النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: «لا يجتمع فى جزيرة العرب دينان» . ولكنه لم يجل أهل تيماء، لأن أرضهم لم تكن فى داخل الجزيرة، بل كانت فى أطراف الشام، وهم قد قبلوا أن يكونوا ذميين لهم ذمة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ولم ينقض أحد منهم ذمة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وهم لم تفتح أرضهم عنوة، بل كانت صلحا، فلم تكن ثمة مشابهة بينهم وبين خيبر ووادى القرى، والحديث النبوى لا ينطبق عليهم، لأنهم كانوا فى طرف الشام الذى يصاقب جزيرة العرب، وبذلك جمع عمر رضى الله عنه بين المحافظة على عهد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ومصلحة المسلمين، جزاه الله تعالى عن الإسلام خيرا.

الأحكام الشرعية التى تقررت في خيبر

الأحكام الشرعية التى تقررت في خيبر 539- كثرت الأحكام التى شرعت فى أثناء غزوة خيبر لطولها ولتنوع أحداثها، وهى جزء من تبليغ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم رسالة ربه فما كان نبيا للقتال، بل كان نبيا مبلغا رسالة ربه؛ فهو المطلوب فى السلم وفى الحرب، وهو مطلوبه بالذات والقصد الأول، وما كانت الحرب إلا دفاعا ومنعا للفتنة، وتعبيد الطريق لكى تسير فى مسارها لا يحول حائل بينها وبين القلوب؛ ولا إكراه فى الدين من بعد أن تصل الدعوة فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (الزمر: 41) . فالدعوة هى لب الرسالة والحرب لدفع ما يعترض طريقها. ومن أظهر الأحكام الشرعية التى ثبتت فى خيبر. إباحة المزارعة والمساقاة: 540- وأظهر الأحكام هو ما صنعه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مع أهل خيبر من دفع الأرض إليهم على نصف غلاتها والأرض مملوكة للمسلمين. فدفعها إليهم على نصف الغلات مزارعة ومساقاة. لأن دفع الأرض لزراعتها على سهم معلوم للمالك مزارعة. ودفع الشجر لإصلاحه على سهم معلوم للمالك مساقاة. والاتفاق بين النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وبين يهود خيبر يتضمن الزرع وإصلاح الشجر فهو يتضمن مزارعة ومساقاة معا. ومن قال أن عقد المزارعة فاسد، فقد رد السنة وذلك غير جائز. وإن المزارعة والمساقاة إجارة ابتداء، وقد تكون إجارة فاسدة. وهى مشاركة انتهاء. وإن ذلك وصف فقهى؛ وليس حكما شرعيا والحكم الشرعى قد ثبت بفعل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فإنه صحيح فلا مشاحة فيه، وللفقهاء أن يطبقوا أقيستهم الفقهية كما يرون ما يكون منها صالحا للتطبيق وما لا يكون صالحا يردونه وعمل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وما يؤدى إليه من إباحة فوق ما يقررون من أقيسة قد تخطيء وقد تصيب ولا قياس مع النص. وإن هذه المزارعة كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لا يقدم البذر، بل كان البذر والعمل من العامل وعمل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يجيز ذلك النوع من الزراعة كما يجيز أن يكون البذر والأرض من صاحب الأرض، وكما يجوز أن يكون البذر منهما. ويشبه ابن القيم الأرض برأس المال فى المضاربة، وقد يضيف إليه المالك البذر وربما لا يضيفه كما فعل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.

تحريم أكل لحم الحمر الإنسية:

ومهما يكن الوصف الشرعى عند الفقهاء فإن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد فتح باب الاستغلال لمن له أرض ولا يستطيع زراعتها بنفسه، لمشاغل تشغله كأولئك المجاهدين أو المرضى. أو لعدم خبرة أو غير ذلك من الأسباب المعوقة له عن الزراعة بنفسه. وقد كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يقسم الثمرات قسمة الغنائم، والله سبحانه وتعالى هو الحكيم العليم. تحريم أكل لحم الحمر الإنسية: 541- ثبت نهى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن أكل لحم الحمر الأنسية، وأباح عليه الصلاة والسلام أكل لحم الخيل، فقد رأى صلى الله تعالى عليه وسلم، بعض أصحابه يأكلون لحم الحمر الإنسية، فى خيبر فنهاهم عنها، وروى ابن إسحاق بسنده عن بعض من شهد خيبر قال: أتانا نهى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن أكل لحوم الحمر الإنسية، والقدور تفور بها، فكفأناها على وجوهها. وقد روى الحافظ ابن كثير أنه نادى منادى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم «إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر فإنها رجس فأكفئوها، والقدور تفور بها» . وإن هذه النصوص الواردة فى تحريم لحوم الحمر الإنسية صحيحة تضافرت رواياتها من عدة جهات، وهنا يسأل الباحث لماذا كان تحريمها، وهى تأكل العشب ولا تأكل اللحم وليست ذات ناب، ولا تعد من السباع المنهى عنها بأى صورة من الصور. يقول بعض الباحثين، ومنهم بعض التابعين أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم نهى عنها فى خيبر، لأنها كانت تحمل الأمتعة، وكانت ضرورية للناس فى استعمالها، ولذلك قال ابن عباس أنها ليست حراما لذاتها ولكن كانت فى خيبر ممنوعة الأكل لهذا. ولكن يرد ذلك التأويل أمران: أولهما: أن الخيل كانت ألزم للجهاد من الحمر. ومع ذلك أبيحت لحومها مع أن الحاجة إليها أشد وألزم- الأمر الثانى- أن صريح الحديث الذى رواه ابن اسحاق أنها رجس فهى محرمة لذاتها أى لحمها وأن فيه ما يمنع أكلها.

تحريم سباع البهائم:

ولقد قيل فى سبب تحريمها فى خيبر بالذات أن الحمير فى خيبر كانت قذرة لأنها جلالة وكانت تأكل العذرة. وقيل أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم منع أكلها؛ لأنهم كانوا يأكلونها قبل قسمتها من الغنائم؛ وقد يقال أنه ينافى ذلك وصف النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: بأنها رجس. ولكن يجاب عن هذا بأنها كانت رجسا أى مالا خبيثا، لأنها لم تكن قد قسمت، فمعنى رجسها أنها لم تكن كسبا حلالا طيبا بل كانت كسبا خبيثا غير طيب. ويقول الحافظ ابن كثير فى تاريخه: إن تحريمها هو مذهب جمهور العلماء سلفا، وخلفا، وهو مذهب الأئمة الأربعة، ولعل من المفارقة فى مذهب مالك أن يحرم لحم الحمر الأنسية، ويبيح أكل لحم الكلب، وله فى إباحة لحم الكلب اجتهاد يتصل بنص قرآنى، إذ أن القرآن الكريم أباح أكل صيده فى قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ، قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ، وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ، فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ، وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَاتَّقُوا اللَّهَ، إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ. ويقول الامام مالك فى ذلك، كيف يؤكل صيده، ويحرم لحمه. وبعض العلماء لهذه التأويلات المختلفة قال إن أكل لحمها مكروه، لأن التحريم يثبت بدليل يقبل التأويل ففيه شبهة! ومال ذلك الكراهة لا التحريم القاطع. تحريم سباع البهائم: 542- ثبت فى غزوة خيبر تحريم أكل سباع البهائم، وهى الحيوانات التى تعيش على أكل اللحوم، أو كل ذى ناب، كما يعبر الحديث النبوى، فقد روى ابن اسحاق بسنده أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم نهى يومئذ- أى يوم خيبر- عن أربع: عن إتيان الحبالى من السبايا، وعن أكل الحمار الأهلى، وعن أكل كل ذى ناب من السباع، وعن بيع المغانم حتى تقسم. وقد تكلمنا فى النهى عن أكل لحوم الحمير الأهلية. ونتكلم عن أكل كل ذى ناب من السباع، وهو ما يسمى فى عرف الفقهاء بسباع البهائم، وهى محرمة لذاتها، لهذا النص، ولحمها نجس، ولعابها وهو تبع للحمها نجس أيضا. هذا وإن لحم سباع البهائم، أو كل ذى ناب كما عبر القرآن الكريم يكون حراما بالنص، ويحرم سباع الطير، كالنسر والحدأة والغراب وغيرها من أكلة اللحوم بالقياس على ذى الناب من سباع البهائم.

تحريم وطء الحبالى من السبايا وغيرهن:

تحريم وطء الحبالى من السبايا وغيرهن: 543- ثبت تحريم الدخول بالحبالى من السبايا، وقد ورد ذلك فى الحديث السابق المروى بسند ابن إسحاق رضى الله تبارك وتعالى عنه. وقد روى أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «لا يحل لامريء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقى ماءه زرع غيره، (يعنى الحبالى من السبايا) ولا يحل لامريء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيع مغنما، حتى يقسم، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يركب دابة من فيء المسلمين حتى إذا أعجفها ردها، ولا يحل لامريء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يلبس من فيء المسلمين، حتى إذا أخلقه رده» . ونرى أن الحديث منع أمورا تتعلق بالمغانم، ومنع الدخول بالحبالى من السبايا، ونريد أن نتكلم فى هذا الجزء الأخير، لأنه موضوع قولنا ونؤخر الباقى. والكلام فى الدخول بالحبالى، وقد نهى عنه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ولم ينه عن سببه فيما يتعلق بالسبايا. ذلك أن سبب الدخول بالسبايا هو ملك اليمين، فلم يكن ثمة نهى عنه، بل الملكية تثبت، ولكن لا يترتب عليها أثرها وهو الدخول، لأنه إذا كان السبب قد وجد، فقد كان المانع، وهو كونها حاملا، وأن دخوله يسقى به ماءه زرع غيره، وهو المنهى عنه. فلا بد قبل أن يدخل بالمسبية من استبراء رحمها بالولادة إن كانت حاملا، وأن تحيض مرة إذا كانت حائلا، لأن الحيض أمارة أنه لا حمل، فيحل الدخول. وأن السبب هنا، وهو الملكية حكم شرعى، ثبت بحكم تقسيم الغنائم، فهو سبب شرعى، وليس بسبب جعلى يقوم به المكلف. ونثير هنا بحثا: هل السبب الجعلى، وهو عقد الزواج يكون كالسبب الشرعى، بأن يحل عقد الزواج على الحامل، كما يثبت سبب الملكية. لقد فصل الفقهاء الأمر فى ذلك بالاستناد إلى ما قرره النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من وجوب العدة من كل دخول كان بسبب أمر ليس حراما عند الشارع، أو عفا عنه. فإن العقد على الحامل حرام وذلك لأن لها عدة، ولا عقد فى حال العدة، فإذا كان من زواج صحيح أو دخول بشبهة تسقط الحد، وتمحو وصف الزنا، فإن العقد لا يصح، لأنها ذات عدة، والعقد على معتدة باطل، ولذلك يكون السبب باطلا، والدخول يكون زنا. وإذا كانت حاملا من زنا، فهل يجوز الدخول وهل يصح العقد، اتفق الفقهاء على أن الدخول لا يجوز، لأنه ينطبق عليه الحديث، لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقى ماءه زرع غيره، ولكن أيصح إنشاء العقد على الزانية.

قسمة الغنائم ومالا تقسم منها ووقتها:

قالوا أنه إذا انتهت عدتها يصح العقد بالإجماع إذا تابت، وإذا كانت العدة لم تنته، فإنه من المقررات الشرعية أنه لا عدة للزانية، ولو كانت حاملا بيد أنه يصح الزواج من غير الحامل. أما الحامل فينعقد زواجها من صاحب الحمل، لأنه لا يسقى ماءه زرع غيره، وكره بعض الفقهاء أن يدخل بغير الحامل قبل استبراء الرحم. أما إذا كان العاقد غير صاحب الحمل، فقد قال بعض الفقهاء يصح الزواج ولا يدخل بها كما بينا، أما صحة الزواج فلأنه لا عدة لها تمنع صحته، لأنها ليست فى عصمة أحد، والزانى لا عصمة له. وأما الدخول بها فممنوع بنص الحديث الذى ينص عليه فى غزوة خيبر وهو عام فى منع أن يسقى ماءه زرع غيره، ونسب هذا القول إلى أبى حنيفة والشافعى ومحمد من أصحاب أبى حنيفة. وقالت طائفة أخرى من الفقهاء منهم مالك وأبو يوسف من أصحاب أبى حنيفة وأحمد فى رواية عنه وزفر من أصحاب أبى حنيفة رضى الله عنهم أن الزواج لا يصح، لأنه إذا كان الدخول لا يجوز وهو غاية العقد، لأن القصد الأول المتعة، ولا فائدة من عقد لا تترتب عليه لوازمه، وما دام النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد نهى عن الدخول بالحامل، بالنهى عن أن يسقى ماءه زرع غيره فقد نهى عن الزواج، لأن النهى عن الأمر اللازم نهى عن الملزوم. ولأن النهى لأجل حق الحمل، وحق الحمل يراعى، لأنه لا جناية منه. وإذا عقد على المرأة وتبين أنها كانت حاملا وقت الزواج فإن العقد لا يكون صحيحا، لأنه لا يفرض أنها كانت حاملا من زنا. إذ يجب حمل حال المؤمن على الصلاح، بل يفرض أنه كان من زواج وشبهة تسقط الحد وتمحو وصف الزنا. قسمة الغنائم ومالا تقسم منها ووقتها: 544- ثبت أن المال الذى يقسم غنيمة الأموال المنقولة وثمرات الأموال غير المنقولة ويكون للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ولذى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل الخمس، وأربعة الأخماس للغانمين، وأنه يعطى للراجل سهم، وللفارس ثلاثة أسهم سهمان للفرس، وسهم لصاحبه، وذلك لأن نفقات الفرس كبيرة، ويريد الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم أن تكون ذات قوة دائما لأنها عدة القتال، ولتشجيع المجاهدين على اتخاذها للجهاد، وفى بعض الروايات أنه جعل للفرس سهما، ولصاحبها سهما، ولكنه غير الرواية المشهورة. وإنه يلاحظ أمران بالنسبة للغنائم:

أولهما: أنها لا تملك قبل القسمة، ولذلك صرح النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى غزوة خيبر أنه لا يجوز بيع من له فيها قبل أن يقسم له قسم ويدخل فى حوزته، ولذا قال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فيما روينا من قبل ولا يحل لامريء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يركب دابة من فيء المسلمين، حتى إذا أعجفها ردها فيه، ولا يحل لامريء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يلبس ثوبا من فيء المسلمين، حتى اذا أخلقه رده. وهذا الحديث يدل على أنه لا يملك. ولا يصح أن ينتفع به قبل القسمة. الأمر الثانى: الذى يجب التنبيه عليه أن الطعام الذى لا يدخر، لا يخمس، لأنه لا يعد غنيمة، ولأنه يدفع غائلة الجوع الذى يصيب المجاهدين، وحال مغبة الجوع، وكان الجوع يصيب المسلمين فعلا فى غزوة خيبر، وإنه إذا لم يتناول قبل القسمة كان الناس فى مخمصة، والطعام بين أيديهم، وإن ذلك ابتلاء فوق الابتلاء بالجهاد والصبر على شدائده. يروى ابن إسحاق بسنده عن عبد الله بن مغافل المدنى أنه قال: «أصبت من خيبر جراب شحم فاحتملته على عنقى إلى رحلى وأصحابى، فلقينى صاحب المغانم الذى جعل عليها، فأخذه بناحيته، وقال: هلم، حتى تقسمه بين المسلمين، قلت: لا والله لا أعطيه وجعل يجاذبنى الجراب، فرآنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فتبسم ضاحكا، ثم قال لصاحب المغانم: خل بينه وبينه، فأرسله، فانطلقت إلى رحلى وأصحابى فأكلناه» . وهناك أمر يجب التنبيه عنه، وهو غلول الغنيمة، فهو محرم تحريما قاطعا، لأنه سرقة فى مال الله تعالى: وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ، وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ، ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ، وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ. وإن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لا يمكن أن يغل، وليس من شأنه وكماله أن يغل هو، أو يقر غلول أحد، أو يسكت عنه، والغلول الأخذ من الغنيمة خفية، وإذا كان لا ينطبق عليه حد السرقة، لأن مال الغنائم ليس فى حرز مثله، ولأن المحارب له شبهة حق فيه، والحدود تدرأ بالشبهات، فإنه شدد الله تعالى فى عقوبته فى الآخرة. وفى غزوة خيبر، بين النبى صلى الله تعالى عليه وسلم شدة العقوبة فى الآخرة. وقد كان بين المحاربين رجل اسمه مدعم، وقد أخذ من الغنائم شملة، وفتش متاعه بعد مقتله فوجد فيه مع الشملة خرزا من خرز يهودى يساوى درهمين، وهو غلول مهما تكن قيمته. وقد جاء سهم فقتله وهو بوادى القرى، فقال الناس: هنيئا له بالشهادة فقال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم «كلا والذى نفسى بيده أن الشملة التى أخذها يوم خيبر لم يصبها المقاسم لتشتعل عليه نارا» فأخرجه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من صفوف الشهداء بفعلته التى فعلها.

الأمانة واجبة مع الأعداء:

الأمانة واجبة مع الأعداء: 545- إن الأمانة عدالة، بل إن العدالة ذاتها تدخل فى ضمن الأمانات ولذلك قرنها سبحانه وتعالى بها فى قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها، وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ، إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ. وفى غزوة خيبر بين النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن الأمانة فى مال الأعداء واجبة، لا تبرر العداوة إهمالها، وإذا كانت أموال الأعداء تغنم فى القتال ويأخذها المسلمون، ويقسمونها بينهم، فإن ذلك قانون الحروب، وليس من قانون الإسلام خيانة الأمانة ولو لعدو يحارب. روى موسى بن عقبة عن عروة بن الزبير أنه جاء عبد حبشى أسود من أهل خيبر، كان فى غنم لسيده، فلما رأى أهل خيبر قد حملوا السلاح سألهم: ماذا تريدون؟ قالوا: نقاتل هذا الرجل الذى يزعم أنه نبى، فوقع فى نفسه ذكر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فأقبل بغنمه، حتى عمد إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال له: إلى من تدعو؟ قال: أدعوك إلى الإسلام، أن تشهد أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله وألا تعبد إلا الله، فقال العبد: فماذا يكون لى إن شهدت بذلك، وآمنت بالله، قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: الجنة إن مت على ذلك، قال الرجل المؤمن: يا رسول الله إن هذه الغنم عندى أمانة، إذ كان يرعاها، وهنا أمره النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يؤدى أمانته، ولم يقل أنها غنيمة للمسلمين، ولم يضمها إلى أموال الله، لأن الأمانة يجب أن تراعى لذاتها، لا فرق فيها بين عدو محارب، وولى مناصر، بل قال الرسول الأمين: أخرجها من عسكرنا، وارمها بالحصا، فإن الله سيؤدى عنك أمانتك. ففعل، فرجعت الغنم إلى سيدها فعرف اليهودى أن غلامه قد أسلم. ولقد قتل ذلك العبد الأمين بأمانة الله تعالى فى خيبر شهيدا، فأدخل فى قماط الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم. وإن هذا درس حكيم للذين يخونون أموال الناس، ويبررونها بعداوة لهم، وقد يكونون ظالمين فى العداوة كما هم ظالمون بالخيانة، والله عليم بذات الصدور. النبى صلى الله تعالى عليه وسلم تفوته الصلاة: 546- إن الأعذار تكون على الناس أجمعين، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم من أصل البشرية، فيجرى عليه ما يجرى على الإنسان ويرهقه ما يرهق الإنسان.

ولقد كان فى خيبر أن نام النبى صلى الله تعالى عليه وسلم حتى أشرقت الشمس، وقد وقف حارسه ينبهه إذا نام، ويوقظه إذا استغرق الناس، فضرب الله تعالى على آذانه أيضا فنام ولم يوقظ حتى أشرقت الشمس، ومع أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم تنام عيونهم ولا تنام قلوبهم، ففى خيبر استغرق صلى الله تعالى عليه وسلم فى النوم بعينه. وإن كان قلبه يقظا لم ينم، وذلك ليعلن الله تعالى إنسانيته، وليكون عمله أسوة للناس فى تدارك ما فاته، لأن المؤمنين يتخذونه أسوة حسنة، ولأنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال: صلوا كما رأيتمونى أصلى، فهو يبين لهم الصلاة فى حال الأداء وحال القضاء معا. ولنذكر قصة ذلك، كما جاءت فى صحاح السنة وفى كتب السيرة- فى غزوة خيبر: روى أبو داود بسنده أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حين قفل راجعا من خيبر، سار ليلا حتى أدركنا الكرى، وقال لبلال اكلأ الليل، وبلال يحرسه، وغلبت بلالا أيضا عيناه، وهو مستند إلى راحلته فلم يستيقظ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ولا بلال، ولا أحد من أصحابه حتى ضربتهم الشمس، وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أولهم استيقاظا، ففزع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وقال: يا بلال، فقال: أخذ بنفسى الذى أخذ بنفسك بأبى أنت وأمى يا رسول الله. فاقتادوا رواحلهم شيئا، ثم توضأ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فأمر بلالا، فأقام الصلاة، وصلى بهم الصبح، فلما أن قضى الصلاة قال: من نسى صلاة فليصلها إذا ذكرها، فإن الله تعالى يقول: «وأقم الصلاة لذكرى» وإن هذا الحكم يستفاد منه أمران: أولهما: وجوب قضاء الصلاة إذا فاتته بنوم أو نسيان مما لا قبل له بدفعه كما قال صلى الله تعالى عليه وسلم «من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها» . ثانيهما: أن قضاء الصلاة كما يكون بالانفراد يكون بأدائها جماعة مع إقامة الصلاة، وذلك بلا ريب هو الأفضل، لأن صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة، فالجماعة لا تسقط عند القضاء، كما يتوهم بعض الناس. ويجب أن نبين هنا أن بعض الفقهاء يقرر أن القضاء يغنى غناء الأداء فى حال فوات الصلاة بالنوم والنسيان، ولا يغنى القضاء غناء الأداء إذا كان فوات الأداء من غير هذين العذرين. ويكون القضاء واجبا فى هذين العذرين ولا يكون واجبا فى غيرهما. بل إن التوبة تكون هى الرافعة للإثم، والقضاء لا يغنى عنها، وذلك لأن فوات الوقت وترك الصلاة من غير عذر لا يسقط وجوب أدائها، فلا يغنيه فتيلا القضاء بعد ذلك، لأن الصلاة ليست نقدا يكون فى مقابل نقد، إنما الصلاة شرعت تهذيبا للنفوس فى مواقيتها، فهى عبادة مقصودة فى أوقاتها لتجلو

تحريم المتعة في خيبر

صدأ القلوب فى الصباح، وصدأها فى الظهيرة، وفى الأصيل وفى العشية، كما قال الله سبحانه وتعالى: فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ. وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَعَشِيًّا، وَحِينَ تُظْهِرُونَ فالصلاة فى أوقاتها مطلوبة فى ذاتها وفى الوقت تطهيرا للنفس، وإزالة لصدئها، ولا تترك حتى يعلوها الصدأ ويتراكم فلا يزال، ولا يصلح ذلك الإثم إلا التوبة. ونحن نرى أنه لا بد من التوبة، وقد يجدى القضاء مع التوبة، والله تعالى غفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا، ثم اهتدى. تحريم المتعة في خيبر 547- جاء فى تاريخ الحافظ ابن كثير: وقد تكلم الناس فى الحديث الوارد فى الصحيحين عن طريق الزهرى عن عبد الله والحسن ابنى محمد بن الحنفية عن أبيهما عن على بن أبى طالب رضى الله تبارك وتعالى عنهم أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم نهى عن نكاح المتعة يوم خيبر، وعن لحوم الحمر الأهلية. هذا لفظ الصحيحين عن طريق مالك وغيره عن الزهرى، وهو يقتضى تحريم نكاح المتعة يوم خيبر، وهو مشكل فى وجهين: أحدهما: أن يوم خيبر لم يكن ثم نساء يستمتعون بهن، إذ قد حصل الاستغناء، بالسبايا عن نكاح المتعة. الثانى: أنه قد ثبت فى صحيح مسلم عن الربيع بن ميسرة عن معبد عن أبيه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أذن لهم فى المتعة زمن الفتح، ثم لم يخرج من مكة المكرمة حتى نهى عنها، وقال: «إن الله تعالى حرمها إلى يوم القيامة» فعلى هذا يكون قد نهى عنها، ثم أذن فيها ثم حرمت فيلزم النسخ مرتين، وهو بعيد، ومع هذا فقد نص الشافعى على أنه لا يعلم شيئا أبيح ثم حرم، غير نكاح المتعة، وما حداه إلى هذا إلا الاعتماد على هذين الحديثين. إن هذا الذى ساقه الحافظ ابن كثير يدل على أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم نهى عن المتعة فى خيبر، وما أقامه من إشكال لا يرد الحديث الصحيح الذى أجمع عليه الشيخان. فالإشكال الذى ساقه بتوافر السبايا فى خيبر يدل على النهى ويؤكده، ولا ينقضه، لأنه حيث توافرت السبايا لا يكون شكوى من العزوبة، فلا يكون للمتعة موضع، فلا يكون إذن، فهو موثق للتحريم وليس بناقض له. أما الإشكال الثانى: فقد رده هو بتكرار الإذن، ثم تكرار النهى، وكونه بعيدا فى نظره يرد كلام الشافعى رضى الله تعالى عنه، وإذا كان بعيدا، فإنا نرجح حديثا أجمع عليه الشيخان على حديث انفرد به أحدهما.

حقيقة المتعة:

ومهما يكن ما ارتاه الحافظ بن كثير من إشكال حول حديث الشيخين فإنه من المؤكد أنه كان ثمة نهى عن المتعة فى خيبر، سواء أجاء إذن بعد ذلك، ثم نهى أم لم يجيء. حقيقة المتعة: 548- وجد فى هذه الأيام ناس فى مصر لا حريجة تدفعهم ولا دراسة تمنعهم، يدعون إلى المتعة، فعلينا أن نذكر حقيقتها كما هى عند الذين يدعون إليها، ومن حقيقتها يتبين أهى متفقة مع المباديء الشرعية المقررة فى الزواج، وهى مباديء علمت من الدين بالضرورة. وقد عرفها العلماء بأنها اتفاق بين رجل وامرأة بحضرة شهود على أن يعاشرها مدة معلومة، على مهر، أو أجرة معلومة، وقال صديق خان فى كتابه (سبل السلام) لا تتجاوز مدتها خمسة وأربعين يوما، ولكن المشهور أنها تصح بأكثر من هذه المدة. واذا أخلت المرأة بتسليم نفسها جزآ من المدة نقص من الأجرة ما يقابلها، فهى إجارة لبضع المرأة كإجارتها للرضاعة. وتختص بالأحكام الآتية: 1- لا تورث فيها، فإذا مات أحد الطرفين لا يرثه الآخر، لأن الميراث ثبت بين الزوجين وهما ليسا زوجين باتفاق الفقهاء. 2- لا يقع فيها طلاق ولا ظهار ولا إيلاء ولا غير ذلك مما هو من أحكام إنهاء الزواج، ولكن ينتهى الأمر فيها بانتهاء المدة. 3- أن العدة فيها حيضتان لا تزيدان عن خمسة وأربعين يوما، أو بأقل الأجلين. 4- أنه ليس فيها عدة وفاة، لأنها خاصة بالأزواج، بل العدة هى حيضتان، وأخيرا هى عند الذين أباحوها من الشيعة ليست من الزواج فى شيء مطلقا. فتلك الأحكام التى ذكرناها منقولة من كتبهم، منها أخذناها، وفيها نردها. وإن الأحكام التى يقررها لها الشيعة الإمامية التى أجازوها تنبه لا محالة إلى أنها ليست زواجا، وليس لها أحكام، وهى من قبل اتخاذ الخلائل كما يعبر الأوربيون، وكما هى لغة الفساق فى هذا العصر، أو بتعبير هى من قبيل اتخاذ الأخدان المنهى عنه فى القرآن الكريم نهيا أبديا قاطعا، اذ لا يحل فى العلاقة بين الرجل والمرأة إلا الزواج، الذى يكون ما عداه امتهانا للمرأة إذ تتخذ متاعا، لقضاء لبانة الرجل يذوقها، ثم

نهى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عن المتعة:

يرميها، ويستأجرها مستمتعا بأجر، ولقد قال الله سبحانه وتعالى مبينا أن الفروج لا تحل إلا بالزواج، أو بملك الأيمان، فقال الله سبحانه وتعالى فى وصف المؤمنين: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ. إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ، فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ. فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ. فهذا النص قاطع فى أنه لا تباح الفروج إلا بالزواج، أو ملك اليمين، وأن من ابتغى وراء الزواج أو ملك اليمين فهو عاد أثيم، فالذى يتخذ المتعة فى الفروج عاد أثيم. ولقد نهى القرآن الكريم نهيا قاطعا عن اتخاذ الأخدان، وليست المتعة إلا من قبيل اتخاذ الأخدان أو اتخاذ الخلائل، كما ذكرنا، فتحريمها ثابت بنص قرآنى، إذ يقول الله سبحانه وتعالى: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أى أحل لكم الزواج غير تلكم المحرمات السابقات أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ، وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ فاتخاذ الأخدان حرام بهذا النص، ويقول الله سبحانه وتعالى فى شأن زواج الإماء: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ، بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ، وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ. وينهى عن اتخاذ الأخدان عند بيان حل النساء الكتابيات؛ فيقول سبحانه وتعالي: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ، وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ، وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ، إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ. واتخاذ الأخدان أو اتخاذ الخلائل، الذى هو اتفاق مع امرأة على أن يتعاشرا من غير زواج مدة معلومة بأجر، فإذا انتهت المدة افترقا، وهو والمتعة شيء واحد. نهى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عن المتعة: 549- لم يرد عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إذن بالمتعة صريح قط، إنما الذى ورد فيها نهى صريح عنها، وفهم الذين فهموا الإذن بها من النهى عنها، لأن النهى يجب أن يكون له موضوع ولا موضوع للنهى فى المتعة إلا إذا كان إذن بها. ولقد اتفق العلماء على أن أول نهى عنها كان فى خيبر، ثم تتابع النهى بعد ذلك فى خمسة مواضع أخرى فنهى عنها فى عمرة القضاء، وفى غزوة تبوك وغزوة فتح مكة المكرمة، وعام الفتح، وفى

حجة الوداع، ولولا تضافر الأخبار بأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد أذن بها لقلنا أن ذلك التكرار كان لتأكيد المنع، إذ كانت عادة عميقة فى الجاهلية، فكان التأكيد لقلع جذورها من نفوسهم. ولكن تكاثرت الأخبار بالفعل قبل الإذن، فتقبل الأمرين الإذن من غير إباحة مطلقة، بل بضرورة الفردية الشديدة فى الحرب، والأمر الثانى النهى القاطع فى تحريمها إلى يوم القيامة. ويصح أن نقول أن النهى فى أوله كان لمن أذن له قبله. والنهى من بعد ذلك كان نهيا ناسخا إلى يوم القيامة. وفوق ذلك بيان التحريم القاطع فى القرآن الكريم الذى لا إذن فيه قط، وهو العزيمة التى لا رخصة فيها، ولا مظنة لرخصة قط. 550- فلننظر بعد ذلك فى أمرها. لقد أجمع فقهاء السنة جميعا أنها محرمة تحريما أبديا إلى يوم القيامة، وقد روى أن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما كان يترخص فيها للضرورة فى حال الحرب، وهى التى قيل أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أذن بها لشدة العزوبة فى بعض حروبه، وإذ كان لم يعرف أنه أذن بذلك فى حرب معينة، ولقد نهاه على كرم الله وجهه عن أن يفتى بهذه الرخصة، وبين له أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد نهى عنها، وقال مخاطبا ابن عباس: «إنك امرؤ تائه- لقد نسخها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم- ووالله لا أوتى بمستمتعين إلا رجمتهما» . ويروى أن عبد الله بن عباس رضى الله تعالى عنهما قد رجع عن ترخصه، وأفتى بالمنع. ولم يقل أحد قط من علماء الجماعة أنها مباحة لضرورة الشباب الذين يتعذر عليهم الزواج، فتلك فرية من رجل لا يتحرج في قوله، ولا يتعمق في علم، ولا يهتم بحرام ولا حلال. بقي أن ننظر في الشيعة الإمامية فنقول أننا نرى المتأخرين منهم يفتون بها، ولا نري الأئمة أو الأوصياء قالوها، وإن وجد من ادعاها لهم. وتنقل لك المصادر الفقهية الشيعية التي تنفي عن أئمة الشيعة المهديين وعلي رأسهم الإمام أبو عبد الله جعفر الصادق، وأبوه العظيم أبو جعفر محمد الباقر بن علي زين العابدين. فقد روي أن بساما الصير في سأل أبا عبد الله جعفر الصادق عن المتعة، فقال رضي الله تبارك وتعالى عنه: إنها الزنا. ولقد جاء في الكافي عن يحيي بن زيد فقيه العراق أنه قال: أجمع آل رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم على كراهة المتعة والنهي عنها.

ولقد روى البيهقى عن ابن شهاب الزهرى أنه قال أن ابن عباس رضى الله عنهما ما مات حتى رجع عن هذه الفتيا، ولقد قال سعيد بن جبير لابن عباس: ما تقول فى المتعة، فقد أكثر الناس فيها، وأنه نقل عنك الفتوى بجوازها، فقال ابن عباس: والله ما أفتيت بهذا، وإلا فهى كالميتة لا تحل إلا للضرورة ونحن لا نجد أى ضرورة تبيحها حتى يكون أقرها عند الاضطرار كالميتة، وأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد صرح بأنه لا ضرورة عند الشباب تلجئهم إلى ذلك كما يدعى من لا حريجة للدين فى قلبه، فقد قال: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء» ومادام باب الصوم مفتوحا فإنه لا ضرورة تسوغ المتعة، أو ترخص فيها. وإن فقهاء الشيعة الإمامية الذين جاؤا بعد عصر أئمة الشيعة ادعوا أنه لا نسخ فيها واستدلوا على بقائها بما يأتى: أولا: أنه ثبت الإذن بها بالإجماع، فقد أجمع المسلمون على أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد أذن بها، وإن الأدلة التى ثبت فيها النسخ أخبار آحاد، وهى لا تنقض الأمر المجمع عليه، وقد روى عن ابن مسعود أنه أفتى بها، وفى الصحيحين أنه قال: رخص رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لنا أن ننكح المرأة إلى أجل بالشيء، ثم قرأ قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ. وأن عبارات النسخ التى وردت فى أقوال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إنما هى منصبة على الميراث والطلاق. ثانيا: قالوا إن قوله تعالى: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ تدل على إباحتها، وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ. وإن هذا الكلام غير صحيح فى جملته وتفصيله، وهو جاء بعد عهد الأئمة والأوصياء، وهو باطل من وجوه: أولها: أن الآية التى ساقوها هى فى بيان أحكام النكاح الصحيح المرتب لآثار، ولم يكن موضوعها المتعة، إنما موضوعها النكاح، لأنها بيان لنهاية المحرمات، إذ يقول سبحانه وتعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ ... إلى قوله تعالى وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ، فالاستمتاع هو استمتاع الزوجين، يعرف هذا المدلول من له أدنى إلمام بالعربية، وفوق ذلك فإنه سبحانه وتعالى قال بعد ذلك: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ، وبدليل قوله

تعالى فى النص الكريم: مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ ولا شك أن المتعة لا توجب إحصانا يوجب الرجم. وثانيا: أن الإجماع لم ينعقد على إباحتها، والتعبير بإباحتها خطأ، فلم يقل المحققون بأنها كانت مباحة إنما أذن فيها، كما أذن بأكل الميتة، فإن الإباحة تكون لأمر ذاتى فى الفعل، أما الإذن فإنه يكون لضرورة سوغت الإذن، وإذا عبر بعض الأئمة بالإباحة فمن قبيل التسامح فى التعبير. وإن العلماء من بعد نهى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد أجمعوا على نسخها فلا موضع للقول بالإجماع، وإذا كان قد أثر عن ابن عباس أنه أذن بها فى حال الضرورة الحربية فقط، فقد روى أنه رجع عن رأيه، والله سبحانه وتعالى أعلم. ولقد قالوا- أى بعد عصر الأئمة والأوصياء عندهم- أن الإجماع انعقد على إباحتها بين الشيعة والسنة وانفرد أهل السنة بالنسخ، ونقول لهم أن الأدلة التى أذنت بها هى التى نسختها، فلا يقال إجماع على الإذن، وعدم إجماع على النسخ، فالأدلة ملزمة فى الأمرين. وثالثها: أن ثبوت النسخ لم يكن بخبر آحاد، بل لأنها فى ذاتها محرمة كالميتة والخنزير والدم المسفوح، وما أهل لغير الله به، وذلك ثابت بالقرآن الكريم، فى قوله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ. إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ قاطعة فى إثبات التحريم، لأنه من المؤكد المتفق عليه أن علاقة المتعة ليست علاقة زوجية، فهى لا تعد زوجة بدليل أنه لا يجرى فيها طلاق ولا ميراث، ولا عدة زوجية، لا فى حال الموت ولا فى حال الانفصال. والنهى عن اتخاذ الأخدان المتكرر يدل على تحريمها لأنها ليست إلا كذلك، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم عندما أذن بها كان لضرورة. فى مخالفة المحرم تحريما قاطعا كمبدأ عام، وقد قال العلماء فى ذلك: قاعدة الضرورات تبيح المحظورات. وقد نسخ الإذن فى حال الضرورة فى حال الحرب ضرورة لما استأنس الناس بالإسلام، وأشربوا حبه وعودوا الصبر وضبط النفس بالإيمان. وفى الحق أن المتعة من بقايا الجاهلية وهى كما قررنا من نوع اتخاذ الأخدان، فلما كان المؤمنون قريبى عهد بالجاهلية عد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك ضرورة لهم فى الحرب، فأذن بها للذين لا يزالون فى نفوسهم بعض العادات الجاهلية، ولذلك لم يؤثر عن أحد من المؤمنين الراسخين أنه استساغها كأبى بكر وعمر وعلى وأحد من المهاجرين الأولين والأنصار والسابقين، وهم كانوا يحضرون كل

حروب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مجاهدين، وكان فيهم شباب أقوياء فى أبدانهم كعلى بن أبى طالب، والجميع كانوا أقوياء ولعل الذين شكوا العزوبة من الأعراب أو ممن لا قدم لهم فى الإسلام فالنهى عنها ثابت بالقرآن الكريم ونسخ الإذن للضرورة ثابت بالسنة، ونقول متحدين أأباحها أحد فى حال السلم والإقامة حتى تبيحوها معشر الشيعة فى الحل والترحال والسلم والحرب فى السفر والحضر. ويجيء من لا حرمة للحقائق عنده لتبليغ كلامهم لأنه يبيح المحرمات، ولا حول ولا قوة إلا بالله. ورابعها: أن ادعاء أن الحديث الناسخ خبر آحاد، ادعاء باطل، وذلك لأمرين: (أ) أنه قاله فى جيش فتلقاه أكثر من خمسة وألف، فمستحيل أن يكون ناقله واحدا، بل الذى نقله يؤمن تواطؤه على الكذب، ونقله هذا الجمع إلى الأمة كلها، ففرض الآحادية باطل لا شك فى ذلك. (ب) أن الأمة كلها أجمعت على ذلك ورمى على كرم الله وجهه وهو الوصى الأول عندهم ابن عباس فقال له إنك امرؤ تائه، ولقد كان ابن عباس فى وقت قول هذا الإذن غلاما، وكان فى مكة المكرمة، لم يهاجر أبوه إلى المدينة المنورة، ولذلك كان الوصف بأنه تائه، وصفا صحيحا من إمام الهدى على. ونكرر القول هنا بأن أئمة الشيعة، أو الأوصياء فى لغتهم لم ينقل عن أحد منهم. ولنختم الكلام فى المتعة التى هى أمر فاسد فى ذاته بكلمتين: أولاهما: أن المتعة بحكم القرآن الكريم حرام، وإذا لم نلتفت إلى النص القرآنى (ولا يصح ذلك) لا تكون مباحة، لأن ما يكون معمولا به فى الجاهلية ويحرمه الإسلام، لا يقال أنه كان مباحا، ثم حرم، لأن الإباحة تقتضى أنه لم يكن فى ذاته قبيحا، وهو كذلك، بل يقال إنه قبل التحريم كان محل عفو، وكذلك كان التعبير فيما يحرمه، وقد كان أهل الجاهلية يستبيحونه عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ. الثانية: نذكر ما يشترطه الشيعة فى شروط صحة المتعة مما ينأى بها عن معنى الزواج من كل الوجوه، لقد ذكروا لها شروطا وركنا. أما الركن فهو إالايجاب والقبول، وأما الشروط فهى ثلاثة: أولها: ذكر المهر، وهو الأجرة، فإذا لم يذكر الأجر تفسد المتعة، كالإجارة إذا لم تذكر الأجرة لا تنعقد الإجارة، فهى فى حقيقتها اجارة المرأة للمتعة كإجارتها للخدمة على سواء.

والشرط الثانى: ذكر الأجل أو المدة، وذلك لا بد منه فى الإجارة الخاصة بالأجير الوحد أو الأجير الخاص، بيد أن ذلك شرط فى الأجير الوحد إذا كانت الإجارة لمدة معلومة ولم تطلق من غير زمان كأن يستأجره لغير مدة على أن تكون الأجرة كل يوم، أو كل أسبوع كذا، أو كل شهر، والإجارة فى المتعة أخص من ذلك، لأن الأجرة فيها على مجموع المدة. ثالثها: ويشترط لكى تستحق المرأة الأجرة كاملة أن تمكنه منها طول المدة، فإذا لم تقدم نفسها فترة من المدة المتفق عليها، فإنه ينقص من الأجرة بمقدارها، ومثلها فى ذلك من استأجر دارا ليسكنها، فتعذر الانتفاع بالسكن فيها مدة، فإنه ينقص من الأجرة ما يقابل الفترة التى تعذر الانتفاع فيها. وقالوا فى أحكامها أن الولد الذى يجيء ثمرتها يثبت نسبه، ولكنه يقبل النفي، فإذا نفى النسب انتفى من غير لعان، وبذلك يكثر الأولاد الذين لا آباء لهم، إذ لا يوجد من يلحق نسبهم به، ولا حاجة إلى لعان فى نفى نسب إذ اللعان فى حال قيام الزوجية ولا زوجية. وقد ذكرنا أن الانفصال فيها يتم بانتهاء المدة، كما تنتهى المدة بانتهاء مدة الإجارة تماما إذ كانت الاجارة الخاصة مقدرة بمدة معلومة، فهى إجارة لبضع المرأة، فحكمها كسائر الإجارات، وأيضا لا توارث بينهما، وعدتها استبراء الرحم بحيضتين بحيث لا تزيد على خمسة وأربعين يوما. أيها الناس هذه هى المتعة، أو بعبارة أدق إجارة بضع المرأة لمدة معلومة فهل هى صالحة للتطبيق فى عصرنا إن فرضنا صحتها، وهو مستحيل، إنها لا تليق بكرامة المرأة، بل فيها أشد الامتهان لها، والنزول بها إلى مرتبة الخادم التى تستأجر فى شرفها وهى دون المرضع، ثم هى تكثر الأولاد غير الشرعيين. فكروا أيها الناس إن كان ثمة موضع للتفكير. إنها الزنا كما قال الإمام محمد الباقر، وابنه أبو عبد الله جعفر الصادق. فهل مع هذه الأضرار الاجتماعية الخطيرة، نبيحها بغير إباحة الشرع لشبابنا، الذين لم يتزوجوا، ونقضى على الأسرة، ولا نقول لشبابنا ما قاله الرسول الأمين صلى الله تعالى عليه وسلم: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أحصن للفرج، وأغض للبصر ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» . أيها الناس أطيعوا الله ورسوله عليه الصلاة والسلام ولا تستمعوا إلى المتفيهقين المتعالين فى هذا الزمان، والله سبحانه وتعالى هو الهادى إلى سواء السبيل رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا، وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً.

تحريم ربا البيوع

تحريم ربا البيوع 551- ثبت أن تحريم ربا البيوع كان فى غزوة خيبر، أو أن تطبيقه كان واضحا فى غزوة خيبر، وربما كان تحريمه قبل ذلك، ولكنا نرى أول تطبيق كان فى غزوة خيبر أو مقترنا فى الزمان بها، فحق علينا أن نذكره ونحن نتكلم فيها، كما تكلمنا فيما تنبهنا له، من الأحكام العملية التكليفية التى ظهرت فى أثناء الغزوات التى ذكرناها من قبل. وقبل أن نخوض فى بيان ما ذكر فى تحريم ربا البيوع فى غزوة خيبر نقول: إن كلمة ربا فى الأحكام الشرعية تطلق بإطلاقين، أحدهما لغوي، والثانى عرفى إسلامى اصطلاحى فقهى، والقسمان متمايزان مختلفان. فالقسم الأول: اللغوى هو ربا الجاهلية وهو ربا الديون بأن يقرض دينا، ويزيد فى الدين كلما زاد الأجل، فالزيادة تكون فى نظير الأجل، وهذه الزيادة هى الربا. وهو الذى نزلت الآيات القرآنية بتحريمه فى مثل قوله تعالى: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا، لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا إلى قوله تعالى وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ. وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ. والتحريم فى هذا النوع من الربا عام، سواء أكان القرض للاستهلاك أو الاستغلال، ومن يفرق بينهما يفسر الأحكام القرآنية كما يهوى، لا كما تدل عليه. القسم الثانى: ربا البيوع، وهو ربا لأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم سماه ربا، فهو حقيقة عرفية، وقد جاء فيه الحديث الشريف «الذهب بالذهب مثلا بمثل يدا بيد، والفضة بالفضة مثلا بمثل يدا بيد والبر بالبر مثلا بمثل يدا بيد، والشعير بالشعير مثلا بمثل يدا بيد، والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد فمن زاد أو استزاد، فقد أربي» . ونرى من هذا أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم سماه ربا فهو ربا، وقد طبق النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك النوع من الربا فى غزوة خيبر، فحق لنا أن نتكلم ببعض القول فيه. فقد جاء فى السيرة النبوية لابن هشام: قال ابن إسحاق: حدثنى يزيد بن عبد الله بن قسيط أنه حدثه ابن الصامت قال: نهانا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يوم خيبر عن أن نبيع أو نبتاع تبر الذهب بالذهب العين. وتبر الفضة بالورق العين، وقال: ابتاعوا تبر الذهب بالورق العين، وتبر الفضة بالذهب العين.

وأن معنى الحديث أن يباع الذهب بالذهب مثلا بمثل، والفضة بالفضة مثلا بمثل، فإن تعذرت المماثلة بين التبر والذهب العين، فإنه لا يصح البيع، بل يجب أن يتخالف الجنس فيباع تبر الذهب بالفضة، وتبر الفضة بالذهب لأن المماثلة فى هذه الحال غير واجبة. ولقد جاء بعد ذلك الحديث السابق وهو أعم من الذهب والفضة وجاء بعد ذلك فى أحاديث أخرى التمر بالتمر مثلا بمثل يدا بيد أى اشتراط القبض فى الحال ثابت، ولا يصح التأجيل وأن الردئ لا يضاعف فى سبيل الجيد من هذه الأصناف، وقد ثبت فى غزوة خيبر، فقد جاء فى تاريخ الحافظ ابن كثير أن البخارى روى عن أبى سعيد الخدرى وأبى هريرة أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم استعمل رجلا على خيبر، فجاء بتمر جنيب، فقال عليه الصلاة والسلام: أكل تمر خيبر هكذا؟ فقال: لا والله يا رسول الله إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين والصاعين بالثلاثة، فقال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: لا تفعل هذا بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا. وإن هذا الحديث الصحيح يدل على أمور ثلاثة: أولها: أن تطبيق ربا البيوع كان فى خيبر، ولعله كان ابتداء تحريمها. وثانيها: أن الجنيب بلح جيد، وأن غيره دونه، ولذلك كانوا يلاحظون هذه التفرقة عند المبايعة، فالجنيب يبادل بضعفه، أو الاثنين بثلاثة، وإن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم نهى عن البيع بغير المماثلة فى التمر والبر والشعير والذهب والفضة، والملح، والزيت فى بعض الروايات، وغيرها من المطعومات. ثالثها: الطريق فى التعامل بهذه الأشياء التى لا يصح البيع فيها إلا بالتماثل فى الكيل أو الوزن عند اختلافها فى الجودة، قد بينه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بأن يبيع الرديء، ويشترى بثمنه جيدا وهذا الحديث الذى جاء فى خيبر روى فى معناه أن رجلا جاء إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وقال: عندى بسر وأريد رطبا، فقال له النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: بع البسر، واشتر رطبا. وهذه الفتوى النبوية فيها فائدة لمن عنده بسر، وفائدة لغيره، ففائدة صاحب البسر أنه استبدل به رطبا، وهو ما يشبهه، وفائدة المشترى أنه أخذ البسر، وربما يبتغيه، وهناك فائدة لثالث، وهو أن يأكل من ليس عنده بسر، ولا رطب، فلا يحرم من البلح حرمانا كاملا. وقبل أن نترك هذا الخبر الذى جاء تطبيقه فى غزوة خيبر لا بد من التعرض بالإجمال لموضوعين: أحدهما حكمة التحريم، والثانى العلة القياسية التى يمكن أن يطبق فيها النص على غير هذه الأنواع من المبيعات.

الحكمة فى تحريم البيوع فيها إلا بالمثل:

الحكمة فى تحريم البيوع فيها إلا بالمثل: 552- إن هذه الأشياء التى ذكر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لا يصح بيعها إلا بما يماثلها كيلا أو وزنا، كالقمح والشعير، والملح، والذهب والفضة، هى من الضروريات للحياة، ومنع بيعها إلا بمثلها، وأن تكون مقبوضة يدا بيد، إنما المنع لكيلا يكون التبادل محصورا فى المالكين لها فقط، فإنه إذا ساغ بيع البر بالبر ملاحظا فيه أن الجيد يكون فى مقابل ضعف الرديء وكذلك الشعير والتمر والملح، فإن التبادل فيها يكون مقصورا على الذين يملكونها دون غيرها، وقد يؤدى ذلك إلى أن يحرم منها من لا ينتجونها ولا يملكونها، وإن ذلك قد يؤدى إلى احتجازها عمن لا يملكون وهم مضطرون إليها، فيكون توزيع الإنتاج بين الناس بالعدل والقسطاس المستقيم. وإن ذلك يمنع الاحتكار أو يسد ذرائعه، وتكون الأقوات متوافرة لدى الناس، إذ أن ملاكها يكونون مضطرين لأن يبيعوها، ولا يختزنوها طلبا لحاجاتهم. وإن النقدين الذهب والفضة، كانا ولا يزال الذهب مقياس قيم الأشياء، وبهما تقوم المنافع فى الثمرات والأثواب والأقوات، وإذا اتخذ المقياس النقدى موضعا للاتجار اضطربت الموازين، واختلت المقاييس، وكانت الاضطرابات الاقتصادية، وحسبك ما تراه الآن وقت أن تحلل الناس من الذهب، واستبدلوا بها النقد الورقي، وقد اضطربت فيه العلاقات الاقتصادية، وصعب التعامل من ضعف الأوراق وقوتها مما صعب الاتجار، وتعذر جلب الأرزاق فى أرض الله، وتكدسها فى أرض أخرى. ولقد ادعى بعض الكتاب من الأوربيين أن حديث الذهب بالذهب مثلا بمثل يدا بيد، والفضة والبر والشعير، وغيرها من المطعومات قد وضعه اليهود على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ليبعدوا العرب عن الاتجار، وتبقى التجارة فى أيديهم. وذلك كلام لا تبرره الحقائق، للوجوه الآتية: أولها: أن حديث بيوع الربا روته كل الصحاح، حتى كاد يخرج عن حد الأحاديث إلى ما يقرب من المتواتر، ومن المؤكد أنه مستفيض مشهور تلقته الأمة كلها بالقبول، والأحاديث المكذوبة لا يمكن أن يكون لها ذلك الوصف من الاستفاضة والشهرة. ثانيها: أن هذا الحديث ثبت أنه طبق فى خيبر، وروى البخارى وغيره تطبيقه فى خيبر، وذلك فى الوقت الذى دكت فيه حصون اليهود دكا ولم يكن لهم قوة، ولم يكن لهم أمل إلا أن يكونوا زارعين يحرثون ويغرسون، ويصلحون النخيل، وسائر الأشجار، ولم يكن لهم قوة يستطيعون بها الاتجار، بل كانوا نتيجة الحرب أذلاء مستضعفين، وقد كانوا يريدون غير ذلك، فحيل بينهم وبين ما يشتهون.

علة القياس فى الأموال الربوية:

ثالثها: أن اليهود المقيمين فى ظل الدولة الإسلامية فى أحكام العقود وشروط صحتها كالمسلمين، فلا يمكن أن يخالفوها، وهى مطبقة عليهم، وعلى المؤمنين على سواء، عملا بالقاعدة الإسلامية العادلة «لهم ما لنا وعليهم ما علينا» . علة القياس فى الأموال الربوية: 553- هذه هى الحكمة، وهى المصلحة الاجتماعية والإنسانية فى بطلان البيع إلا مثلا بمثل يدا بيد وإن هذه الأموال التى ذكرت تحريم الفاضل فيها معلولة، أى أن الحكم يشتمل على هذه الأشياء المذكورة، وعلى غيرها مما يكون فى معناها، كالزيوت، والذرة، وغيرها مما يتحقق فيه معناها الذى اعتبر سببا للتحريم، أو علة له. والفرق بين العلة والحكمة أن الحكمة هى المصلحة الثابتة التى تكون وصفا مناسبا للحكم، وغاية له يتعرفها المكلف مما احتوى عليه الأمر التكليفى. والعلة هى الوصف المنضبط الذى يتحقق فى الأمر الذى جاء به التكليف، وكانت الحكمة متحققة فيه غالبا، فالفرق بينهما هو الانضباط، وأن العلة تكون وعاء للمصلحة التى هى العلة. وقد اتفق الفقهاء الذين يقيسون الأمور غير المنصوص على حكمها على الأمور المنصوص على حكمها، اتفقوا على الحديث الشريف الوارد فى تحريم الأصناف المذكورة، والمروية بروايات مختلفة معلل المعنى وليس نصا تعبديا مقصورا على موضعه، وكذلك كل الأمور المتعلقة بمعاملات الناس، فالنصوص معللة أى تثبت فى كل موضع تثبت فيه العلة، قد اتفق الفقهاء على أن علة التحريم فى النقدين الذهب والفضة بأن لا بيع فيها إلا بالمثل يدا بيد هو الثمنية، وكونها ميزانا لقياس قيم الأشياء، ومقدار ما فيها من نفع يشبع حاجات الناس، فكل ما يتحقق فيه الثمنية يجرى فيه حكم الذهب والفضة. وكان الاختلاف بين فقهاء القياس فى علة التحريم فى غيرهما، فقال أبو حنيفة وأصحابه: علة التحريم اتحاد التقدير بالكيل أو الوزن واتحاد الجنس، فالذرة بالذرة مثلا بمثل يدا بيد، لاتحاد الكيل واتحاد الجنس، وكذلك الزيت بالزيت، وحينئذ يحرم التفاضل، ويحرم تأجيل أحد العوضين، وكل ذلك فى الأمور التى يقر العرف التفاوت فيها كالحديد ونحوه، فإن التفاضل والتأجيل يجوز. فأبو حنيفة رأى أن تكون العلة أمرا ماديا ظاهريا يصلح أن يكون جامعا بين الأمرين، والشافعى نظر فى غير الأثمان إلى كونه مطعوما، فجعل العلة فى منع التفاضل كونه مطعوما، إذ التفاضل فيه يؤدى إلى أن تحتكر الأطعمة فى يد منتجيها أو المستولين عليها، لأنه إذا جرى فيها التفاضل فى التعامل بها، بأن يبيع

تنبيهات:

البر الرديء بضعف البر الجيد، كان التعامل بين المالكين للبر ولا يأخذه من ليس عنده بر قط، وأنه إذا امتنع التفاضل فى مبادلة الجيد بالرديء، كان لا بد أن يأكل من ليس عنده جيد من البر ولا رديء، فإنه يلزم حينئذ أن يبيع الرديء ليشترى جيدا أو العكس، فيقع الطعام فى يد المحروم. وأنه إن اتحد الجنس منع التأجيل ومنعت الزيادة، ويسمى التأجيل ربا النساء، ويسمى التفاضل ربا الفضل، هذا ما قاله الشافعي، وهو يتحد مع الحنيفة فى أن سبب منع التفاضل والتأجيل فى النقدين الذهب والفضة هو الثمنية، وأنها مقاييس القيم والمالية فى الأموال، فلا يصح أن تكون سلعة تباع وتشترى ويجرى فيها الاتجار، وإلا اضطراب الميزان، كما نرى الآن فى الأوراق النقدية، وما يترتب على علوها وانخفاضها من اضطراب اقتصادى. وقالت طائفة من حذاق المالكية، أن العلة فى التحريم فى الأمور المنصوص على تحريم التفاضل والتأجيل فيها هى الطعم والادخار، بأن تكون من المطعومات، وأن تكون قابلة للادخار، فتكون من الأطعمة التى لا يفسدها الادخار كالبر والشعير والتمر، والملح، وما يشبهها من الأطعمة، والفواكه المجففة التى تدخر، كالزبيب ونحوه. وذلك لأن كونها من الأطعمة، وقابلة للتخزين يؤدى للاحتكار الأثيم، والاحتكار من أسباب الأزمات ويزيدها حدة. تنبيهات: قبل أن نترك الكلام فى الربا الذى اقترن تحريمه بغزوة خيبر، فنزل فى إبانها، وهو ربا البيوع، لا بد أن نذكر أمورا ثلاثة هى توجيه الأنظار إلى الوقائع، وما يقترن بها، وما يجرى حولها. أول هذه التنبيهات: هو الاجابة عما يجول فى النفس لماذا كان تحريم ربا البيوع فى خيبر؟ وتلك الإجابة.. أن فتح خيبر كان فتحا جديدا بالنسبة للعلاقات المالية التى يجرى فى ظلها التبادل المالى، فكانت فيها شرعية المزارعة والمساقاة ولم تكن تجرى كثيرا فى يثرب. وثانيها: تحريم البيوع التى تؤدى إلى الاحتكار فى الأطعمة، وقد حرمه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم تحريما قاطعا، فجعل أموالا معينة غير خاضعة للاتجار المطلق، لأن باب التجارة انفتح بغزوة خيبر، فكان لا بد من جعله فى إطار لا يؤدى إلى الاحتكار. الأمر الثانى: أن الربا القوى وهو ربا الديون أو ربا الجاهلية حرام لا شك فيه لا يسع مسلما أن ينكره، أما ربا البيوع فلم يثبت إلا بالأحاديث الواردة فيه، وهى أحاديث لا تثبت قطعيا ويقينا، ولكن تثبت العمل.

شرعية الجزية

ولقد كان ابن عباس رضى الله تعالى عنه ينكر ربا البيوع، ويقول أنه لم يثبت، وكان يقول مسندا لقول النبى صلى الله تعالى عليه وسلم! «إنما الربا ربا النسيئة، وهو ربا الجاهلية» ولقد سئل الإمام أحمد ابن حنبل: ما الربا الذى لا يسع مسلما أن يجهله، فقال: أن يعطى الرجل دينا ويزيده فى الأجل فى نظير الزيادة فى الدين، وأن من ينكر أمرا علم من الدين بالضرورة يكون خارجا عن الإسلام. الأمر الثالث: أنه مع الأسف أن كثيرين ممن كتبوا فى الربا، وحللوا وحرموا بغير ما أنزل الله، ومنهم من بلغوا مناصب تجعلهم مسئولين عن أقوالهم أمام الله وأمام الناس، من خلطوا بين ربا البيوع، وربا الجاهلية الذى ثبت بالقرآن الكريم، فضل عنهم فهم الربا، وضلوا فى أنفسهم، وأضلوا الناس ضلالا بعيدا، ولم يكن جهلهم لضرورة يعذرون فيها، بل كانت بين أيديهم أسباب العلم، فتركوها ليتعلقوا بما يرضى الناس ولا يرضى الله. شرعية الجزية 554- كان أول تطبيق للجزية فى تيماء التى كان فتحها بعد خيبر، فقد جاء فى الصحيح أنها فرضت فيها الجزية على أهلها، فكان على أهلها جزية الرؤس، وعلى أرضها الخراج وهى جزية الأرض، والجزية فرضت بنص القرآن الكريم إذ يقول الله سبحانه وتعالى: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ، وَهُمْ صاغِرُونَ أى خاضعون للحكم الإسلامى غير متمردين بل مندمجون، لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، وإن قتال خيبر ووادى القرى، واستسلام تيماء، كان من قتال أهل الكتاب، وقد بين الغاية وهى أن يسلموا أو يستسلموا، وفى الحال الأخيرة يدفعون الجزية عن يد، وهم خاضعون طائعون، وأنه يظهر أن أول جزية فرضت كانت فى تيماء. وقبل أن نذكر ما عمله النبي صلي الله تعالي عليه وسلم في الجزية، نقول أنها ليست للإذلال، كما أخذ بعض الناس من ظاهر لفظ وهم صاغرون، إنما هى لأمرين: أولهما: إظهار الطاعة للحاكم المسلم، وإمام المسلمين غير مضارين في دينهم، ولا مغيرين لعقائدهم ومبادئهم الدينية، ولا مرهقين فى أمرها. ثانيهما: أنها تكون في مقابل ما يفرض علي المسلمين من فرائض مالية ليسهموا بها فى بناء المجتمع الإسلامي، فالمسلم يفرض عليه بحكم الإسلام أداء الزكاة، والدولة هي التي تجمعها، وتفرقها علي الفقراء والمساكين والعالمين عليها والمؤلفة قلوبهم، وفي الرقاب، والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل، وفي سبيل الله تعالي يشمل الجهاد، وكل المصالح والمرافق العامة للدولة.

وعلى المسلم كذلك زكاة الفطر وكفارات النذور والأيمان والقتل الخطأ، والظهار، وفدية الصيام وكفارته، وكل هذه مغارم تصرف لعلاج آفات الفقر فى المجتمع. فكان العدل يوجب أن يفرض على غير المسلم الذى يعيش فى ظل الإسلام فرائض تقابل ذلك، فكانت الجزية، وكان الخراج، يصرف منها على المصارف العامة للدولة الإسلامية التى تظل المسلم والكتابى على سواء، ولذلك كانت حاجات أهل الذمة تسد من بيت مال الجزية والخراج، من أجل هذين الأمرين فرضت الجزية، وإنها أمر عادل لا إذلال فيه، ولا شبه إذلال. ولكن طاعة وتسليم وخضوع للدولة ونظامها مع حرية التدين. 555- ولننظر فى نظام الجزية كما طبقه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وكان أول تطبيقه فى تيماء عقب خيبر، فنجد الحافظ ابن كثير فى تاريخه الكبير يذكر أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم حمل أهل تيماء على الجزية وقال فى ذلك نقلا عن الواقدى «لما بلغ يهود تيماء ما وطئ به رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خيبر وفدك ووادى القرى صالحوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على الجزية، وقدموا بأيديهم أموالهم» . وهذا الخبر من الواقدى فى تاريخه، وزكاه أن الحافظ ابن كثير نقله واعتمده، وهو يدل على أن الجزية فرضت عقب خيبر أو فورها، ولم تطبق عليها لأنها فتحت عنوة، ولم تفتح صلحا، وكان المفروض أن يجلوهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ولكنه أبقاهم كما طلبوا، واحتفظ لنفسه بحق الإجلاء فى أى وقت شاء، وأجلاهم عمر من بعد ذلك عملا بما احتفظ به النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فلم يكن تطبيق الجزية عليهم لأنها لم تكن قد نزلت آية الجزية، وإنما كان ذلك، لأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم رأى تأجيل الجلاء فى حقهم، لأنهم كانوا أقوياء، ولو أبقوا بالجزيرة العربية لاستطاعوا بكثرتهم أن يكون لهم سلطان، ولكيلا يجتمع فى جزيرة العرب دينان. أما أهل تيماء فقد انتهوا مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم صلحا، ولم يقرر إجلاءهم، وكانوا فى أطراف الشام والجزيرة العربية، ولذلك لم يخرجهم الإمام عمر رضى الله تبارك وتعالى عنه، إذ هم ليسوا فى داخل الجزيرة، ولم يحتفظ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بحق إخلائهم. وننتهى من هذا الجزء إلى أن الجزية فرضت قبل الفتح، ولم تكن شرعيتها بعد الفتح، ولكن الإمام ابن القيم يقرر أن الجزية لم تقرر إلا بعد الفتح «وأما هديه فى أخذ الجزية فما أخذ من الكفار إلا بعد نزول سورة براءة فى السنة الثامنة من الهجرة، فلما نزلت آية الجزية أخذها من المجوس، وأخذها من أهل

صحيفة مكذوبة:

الكتاب، كما نصت آية سورة براءة التى تلوناها من قبل، وذكرنا معنى قوله تعالى: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ. ونميل إلى المثبت، ولا نميل إلى النافى، نميل إلى رواية أبى الفداء التى ذكرت أنه عقد الجزية على أهل تيماء، وإن كنا نرى أن ما ذكره ابن القيم له وجه. وفى الحق أن أهل خيبر، لم يعقدوا عقد جزية قط، إلا ما كان فى تيماء. وأنه أوجب الجلاء عليهم، أى أهل خيبر، فلما حاولوا أن يبقوا فى الأرض زارعين غارسين وكان هو ورجاله مسئولين عن زراعة الأرض تركها مزارعة على أن حق الإجلاء ثابت، وهو الأصل، وكذلك فعل فى فدك. صحيفة مكذوبة: ولكن الباعث عند ابن القيم على نفى عقد الجزية لخيبر وجيه كل الوجاهة، ذلك أنه فى عبر التاريخ الإسلامى من بعد ذلك ادعوا- أى يهود- أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عقد معهم عقد جزية وقدموه وثيقة لهم، وهو مكذوب من كل الوجوه، ويحمل فى نفسه دليل كذبه. وقد أثبت كذبه ابن تيمية من عشرة وجوه، ذلك أنه فى عصر ابن تيمية فى آخر القرن السابع، وأول القرن الثامن أنه راجت تلك الوثيقة المكذوبة عند من جهل بالسنة والمغازى، حتى أن بعض العلماء أو الأمراء طلب من شيخ الإسلام ابن تيمية أن يقرر ما اشتملت عليه تلك الوثيقة المكذوبة ويطلب العمل على تنفيذها لليهود والعمل بها فيسكن اليهود فى الجزيرة العربية فى مكانهم القديم، ولعلهم يريدون أن يختاروا فى وسط الجزيرة العربية مقاما لهم. ولذلك تحرك الإمام ابن تيمية لبيان كذبها يكشف ما فيه، لأن ما فيها دليل التكذيب. ومما بين كذبها أن فيها كما يدعون شهادة جمع من الصحابة ذكر منهم على بن أبى طالب وسعد بن معاذ. وسعد بن معاذ كان قد مات متأثرا بسهم عائر فى الخندق وقريظة، وهما كانتا قبل خيبر بسنتين. ومنها أنه أسقط عنهم المكس والسخرة، ولم يكن للمكس والسخرة موضوع فى عصر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وأن الله تعالى قد أعاذ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه من السلف الصالح والرعيل الأول من فرض المكس والسخرة، فإن ذلك من وضع الملوك الظالمين الفاسقين.

الجزية التى كان يأخذها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم:

ومنها أنه لم يذكر قط فى سيرة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ولا سيرة أحد من أصحابه مثل هذه الوثيقة. ومنها أن هذه الوثيقة لم يذكرها قط أحد من علماء الحديث، لا فى الصحاح ولا فى السنن ولا غيرها، بل لم تذكر حتى فى الأخبار الموضوعة، فمن أين جاؤا بها إلا أن يكون ذلك من افترائهم البهات، كما لم يذكرها أحد من أهل الفقه والإفتاء، فهى كلام دخيل على الإسلام والمسلمين وهو افتراء من اليهود، فى عهد الحكام الغاشمين الجاهلين، ولم يذكروه إلى القرن الخامس حيث العلم الإسلامى يدون ويجمع، ويقول فى ذلك ابن تيمية رضى الله تبارك وتعالى عنه «ما أظهروه فى زمن السلف لعلمهم أنهم إن زوروا مثل ذلك ظهر بطلانه، فلما كان بعض الدول فى وقت فتنة وخفاء بعض السنة زوروا ذلك وأظهروه وساعدهم على ذلك طمع بعض الخائنين لله وللرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، ولم يستمر لهم ذلك حتى كشف الله تعالى أمرهم. وإنه بذلك يتبين أن اليهود ادعوا أن أهل خيبر لهم عقد جزية ليتخذوا منه سبيلا ليقيموا فى أرض خيبر بالحجاز، ولكن الله كشف أمرهم، وخيب رجاءهم. ومهما يكن الأمر فإنه لم يكن من اليهود أهل عهد بجزية إلا أهل تيماء فى رواية الواقدى. والله تعالى أعلم، وقد تبين كذبهم من قولهم، وقد أعلنوا هذه الوثيقة المكذوبة بعد ثلثمائة من الهجرة، ثم زوروا مثلها سنة سبعمائة. الجزية التى كان يأخذها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: 556- نذكر بالإجمال الجزية التى كان يأمر بها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ويقول الواقدى أنه أخذها من أهل تيماء بعقدها وشروطه. لقد قالوا أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لم يعين من تؤخذ منهم، وإن عين مقاديرها من مختلف الأجناس، وذكر بعض شروط عقدها والتزاماتها على ولى أمر المؤمنين والتزاماتها عليهم. ولم يظهر لدى أهل السيرة والمغازى والآثار مقدارها إلا فى نصارى نجران الذين عقد معهم فى مرجعه من تبوك، وكان الاتفاق كما سنبين بالتفصيل من بعد، عندما نتكلم فى سياقنا على وفود نجران وغيرهم.

وخلاصة عقد الذمة أنه تضمن:

وخلاصة عقد الذمة أنه تضمن: أولا: أنه لا يهدم لهم بيعة، ولا يمنع منهم قس من أداء شعائرهم الدينية، ولا يفتنون فى دينهم ما لم يحدثوا أحداثا يكون من شأنها نقض التزامهم. وثانيا: أن يلتزموا أحكام المعاملات المالية الإسلامية، بحيث لو ثبت أنهم يأكلون ربا الجاهلية ترد عليهم ذمتهم لأنهم نقضوها. ثالثا: أن يلتزموا بأحكام الحدود والقصاص، بحيث يجرى عليهم ما يجرى على المسلمين فيها على سواء، وقد أخذ من نصارى نجران الجزية من الثياب، أخذها منهم مجتمعين على قسطين الأول فى صفر، وكان ألف حلة، وفى رجب ألف مثلها إلى آخر العام أو إلى نهاية المحرم. وللمسلمين أن يأخذوا على وجه العارية ثلاثين درعا يدرعون به، وثلاثين فرسا، يحاربون عليها، أو بعبارة عامة ثلاثين من كل صنف من أصناف السلاح يغزو بها المسلمون، والمسلمون ضامنون لها حتى يردوها عليهم. ولم تكن الجزية مقيدة بجنس، بل تصح بالدنانير والدراهم، كما تصح بالثياب، على حسب ما يقدرون عليه، وعلى حسب حاجة المسلمين إليه. وإن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لما أرسل معاذ بن جبل ليجمع الجزية أمره أن يأخذ من كل رجل بلغ الحلم دينارا. ولم يفرضها على النساء والعبيد والمرضى، بل فرضها على القادرين دون المؤمنين والعاجزين، وإن الجزية كانت تؤخذ من نصارى العرب، إلى أن أجلى عمر بن الخطاب النصارى عن الجزيرة العربية نفسها، وإن بقى بعضهم فى أطرافها كاليمن، فكانت تؤخذ منهم الجزية كما تؤخذ من اليهود المقيمين بها، ولم يغادروها إلى داخل الجزيرة. ونلاحظ فى الجزية التى أمر بها الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم أمورا ثلاثة: أولها: أنها لم تكن معينة فى جنس، بل كان يعين على أساس التيسير عليهم، فكانوا تتيسر عليهم الدنانير فهى الأصل فى التقدير، وإن لم تتيسر الدنانير وتيسرت الثياب أو غيرها أخذ مما يتيسر عليهم أداؤه. ثانيها: أنها ليست المقدار فى الجماعة. بل تنقص وتزيد على حسب حاجة المسلمين، وقدرة من يعطونها. وثالثها: أنها تسقط أو تدفع جملة على حسب طاقة الدافعين من غير إفراط ولا تفريط.

سرايا بعد خيبر

سرايا بعد خيبر 557- بعد غزوة خيبر، وما تبعها من وادى القرى وتيماء، ما كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من حرب غير تعرف لاختبارها، وما يجرى فيها بعد الحديبية، ولقد تم كسر الشوكة اليهودية، والقضاء على القوة العسكرية اليهودية فى البلاد العربية، ومنعهم من أن يعملوا على بث العداوة والبغضاء بين العرب، وتحريض أعداء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ولا بد أن يكون بث سراياه حول مكة المكرمة، أو على مقربة منها، ليتعرف أخبارها وأحوالها فى مدة العقد، ولكى ينبذ إليهم عهدهم إن ثبت لديه منهم خيانة، أو استعداد لها، فإنه عليه الصلاة والسلام كان يأخذ للأمر أهبته قبل أن يقع عند توقعه، ولكنه لا يغدر، ولا يخيس فى عهوده مبتدئا. ولذلك أخذ يبعث السرايا فى داخل الصحراء، وعلى مقربة من مكة المكرمة. سرية أبى بكر الصديق إلى فزارة 558- يروى الإمام أحمد فى مسنده أنه بعث النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أبا بكر الصديق فى سرية إلى بنى فزارة، ولم يكن أبو بكر رضى الله تعالى عنه رجل الحرب، وإن كان من المجاهدين فى الصف الأول. ولكنه رجل رأى وتدبير، ومعرفة بحال العرب، وهو المدرك عند تعرف أحوال العرب، فيما يحيط بما يقرب من مكة المكرمة وما حولها. وقد سار الصديق رضى الله تبارك وتعالى عنه بمن معه، حتى كان ببنى فزارة، فنزل عند الماء، وكان ذلك ليلا، ليباغتهم، فلما صلى الصبح بالمؤمنين معه شن الغارة بأصحابه، فقتلوا من بالماء وحالوا بينهم من النساء والرجال والذرية من فزارة، وبين الجبل الذى يكتنفهم، ورموا بالسهام بينهم وبينه لكيلا يجتازوا مكانهم. وتتبعوهم حتى ساقوهم إلى أبى بكر عند الماء، وفيهم امرأة وابنتها، فنفل أبو بكر الابنة، وكانت ذات جمال، ولم ينل من هذا النفل شيئا حتى وصل إلى المدينة المنورة حيث يوزع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فلم يكشف ثوبا للفتاة. ذهب إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بالجارية، فقال له النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: هب المرأة لى، فقال له: يا رسول الله لقد أعجبتنى، وما كشفت لها ثوبا، فسكت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وتركنى، حتى إذا كان من الغد قال له رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما قال، ورد هو بما كان، وتكرر ذلك مرة أخرى من النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ومنه، حتى انتهى الأمر

سرية عمر بن الخطاب

بأن قال له: هى لك يا رسول الله. وما كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يريدها لنفسه، ولكن يريدها لفداء المستضعفين من المؤمنين بمكة المكرمة، ولذلك بعث بها إلى مكة المكرمة ليفدى بها مستضعفين بمكة المكرمة، ففداهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بهذه المرأة. وقد روى مثل هذا مسلم فى صحيحه والبيهقى فى دلائل النبوة. سرية عمر بن الخطاب 559- أورد الواقدى أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعث عمر بن الخطاب رضى الله عنه فى ثلاثين رجلا إلى بعض أرض هوازن وراء مكة المكرمة بأربعة أميال، أى أنها على مقربة من مكة المكرمة، ولقد كان عمر رضى الله عنه من أعرف الناس بالعرب طبعا وخلقا، وهو ذو الفراسة القوية، والبصيرة النافذة المدركة. ويظهر أنه كان ذاهبا إلى هذه الجهة ليتعرف ويتخبر، لا ليقاتل فقط. ومهما يكن فقد سار الفاروق ومعه دليل من بنى هلال، وكان يسير ليلا ويكمن نهارا، وهو يتعرف ما أمامه، وما وراءه حتى وصل إلى بعض هوازن فهربوا من لقائه ومن معه. عاد عمر أدراجه من غير قتال، ولكنه عاد بزاد من المعرفة عن مكة المكرمة وما حولها، وقد أشار عليه أصحابه أن يذهب إلى خثعم، ولكنه أبى، لأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لم يأمره بالذهاب إليهم، وهو يصدر عن أمر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. سرية عبد الله بن رواحة إلى يسير اليهودى 560- كان اليهود وإن فقدوا القوة العسكرية فى أرض العرب لا تزال فلول منهم مبعثرين فى أرضهم ويخشى أن يكون منهم تجمع فى جزء منها، ويكون قوة تؤلب على الإسلام، ولذلك كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يتتبع أخبارهم ومن يظهر منهم، فيقضى عليهم أجزاء حتى يجعلهم جذاذا بدل أن يتجمعوا حوله. روى الواقدى بسنده عن الزهرى أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعث عبد الله بن رواحة فى ثلاثين راكبا، إذ بلغه أن يسير بن رزام اليهودى يجمع بنى غطفان ليغزو بهم، وبنو غطفان قد كانوا يمالئون اليهود فى خيبر، قبل أن يغزو النبى صلى الله تعالى عليه وسلم اليهود، وأنه حال بينهم وبين نصرتهم، حتى تمكن من دك حصون اليهود وفتحها.

سرية بشير بن سعد إلى بنى مرة من فدك

ويظهر أن يسير بن رزام هذا أراد أن يحيى ذلك التعاون القديم، فبلغ ذلك محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم وهو الحذر الذى يمنع الشر قبل وقوعه. ذهب إليه عبد الله بن رواحة، وأوهمه أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بعث إليه ليستعمله على أرض خيبر، فيظهر هو ومن معه، فتبعهم بثلاثين رجلا من رجاله اليهود ومع كل منهم رديف من المؤمنين، ولما بلغوا مكانا معينا ندم يسير بن رزام على مسايرته ابن رواحة فيما قال، فأراد أن ينزع سيف عبد الله بن رواحة، ويهوى به عليه، ففطن له ابن رواحة، فزجر بعيره، وتمكن من يسير، فضربه ضربة قطعت رجله. ولقد ضرب اليهودى عبد الله بن رواحة فى وجهه فشجه شجة عميقة. وانكفأ كل رجل من المسلمين على رديفه من اليهود فقتله، ولم ينج منهم غير رجل واحد، ولم يصب من المسلمين أحد إلا شجة ابن رواحة. ولقد قالوا أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم تفل على شجة ابن رواحة فلم تتقيح ولم تؤذه حتى مات. ونرى من هذا حذر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من اليهود، وتتبعهم، حتى لا تقوم لهم قائمة فى أرض العرب. سرية بشير بن سعد إلى بنى مرة من فدك 561- بعث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى بنى مرة من فدك بشير بن سعد فى ثلاثين راكبا، فاستاق نعم بنى مرة، فقاتلوه، وقتلوا كل من معه، واستمر هو على القتال فقاتل وحده قتالا شديدا، ثم أوى إلى فدك، ونزل عند رجل يهودى، وكان غريبا أنه لم يغدر به، ثم كر راجعا إلى المدينة المنورة. وقد بعث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لبنى مرة هؤلاء غالب بن عبد الله ليقتص للذين قتلوهم من المؤمنين، وليفلوا شوكتهم. وكان معه عدد من الصحابة فيهم أسامة بن زيد رضى الله تعالى عنه وغيرهم، وقد اقتصوا لمن قتلوا من المسلمين، وكان مما حدث أن قتل أسامة بن زيد رجلا قال لا إله إلا الله محمد رسول الله،

سرية أبي حدود

فقد قالوا أنه قتل مرداس بن نهيك حليف بنى مرة، وقال عندما علاه بالسيف: لا إله إلا الله. فلامه الصحابة على ذلك، حتى سقط فى يده وندم على ما فعل. ولما قدموا على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال له: يا أسامة من لك بلا إله إلا الله؟ فقال: يا رسول الله إنما قالها تعوذ بها من القتل. قال: فمن لك يا أسامة بلا إله إلا الله، فوالذى بعثه بالحق مازال يرددها حتى تمنيت أن ما مضى من إسلامى لم يكن، وإنى قد أسلمت يومئذ ولم أقتله، وقال: إنى أعطى الله عهدا ألا أقتل رجلا، يقول لا إله إلا الله أبدا. مضى غالب بن عبد الله بما معه يقتص من الذين قتلوا المؤمنين، وتتبعهم حتى خضد شوكتهم، وولوا الأدبار ولم يعد لهم قوة فى الأرض يستطيعون أن يعيثوا بها فى الأرض فسادا. وكان مع رحلة غالب هذا فى البلاد يتتبع جيوب اليهود، حتى صار على مقربة من مكة المكرمة وقد طهر كل جيوب اليهود، وأدب الأعراب حتى استقامت أمورهم. سرية أبي حدود 562- كان لا يزال فى الجزيرة العربية من بقايا خيثم وغيرها من يحاول محاربة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعد أن ظهر نور الإسلام فى البلاد العربية، وبدأ قويا يحملهم على التفكير السليم فى العقيدة، وإن لم يكن لتطهير العقول من رجس الوثنية، فاتقاء لسوء المغبة. بلغه عليه الصلاة والسلام أن رجلا له مكانة فى قومه من خيثم يريد أن يجمع قيسا على محاربة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فبعث أبا الحدود، ورجلين من المسلمين، وقال لهم عليه الصلاة والسلام: «اخرجوا إلى هذا الرجل، حتى تأتوا منه بخبر وعلم» . وأركبهم على ناقة عجفاء، وقال: تبلغوا على هذه. خرج الرجال الثلاثة ومعهم سلاحهم، وتحسسوا أمر ذلك الرجل، فوجدوه يجمع من يجمع من الناس، أو على استعداد لأن يجمع، فقتلوه بسهم أصاب فؤاده، وانتهى أمره. واستمر أبو الحدود فى سريته حتى بعثه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى أضم، ونزلوا بطنه وقد مر رجل اسمه عامر بن الأضبط النخعى، فألقى السلام، فقتله رجل من المؤمنين اسمه مجشم ابن جثامة لعداوة كانت بينهما مع أنه ألقى السلام، إذ جاء غير مقاتل، ولا مريد للقتال. وقد حدثت أمور فى هذه السرية الصغيرة دلت على مباديء سامية فى الإسلام.

أولها: أن أبا الحدود الذى بعثه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى هذه السرية كان قد ذهب لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يطلب مهر زواجه، وأن ذلك يدل على مدى قوة التعاون بين المؤمنين فى تلك الفترة من تاريخ الإسلام التى تعد نورا لكل الأزمان إن اتبع المسلمون مباديء الإسلام. فقد روى أن أبا الحدود هذا الذى بعث بهذه السرية ذهب إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وقد تزوج امرأة من قومه فأصدقها مائتى درهم، ذهب إليه عليه الصلاة والسلام يستعين به على زواجه منها، فقال له النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: كم أصدقتها؟ قال: مائتى درهم، فقال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: سبحان الله، والله لو كنتم تأخذونها من واد مازدتم، والله ما عندى ما أعينك به. وقد أرسله على رأس هذه السرية لعله يصيب ما يصدق به امرأته. وثانيها: أنه لا يصح قتل من ألقى السلام؟ لأن السلام يدافع، ولا يقتل من يسالم فقد نزل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً، تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا، فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ، كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ، فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً، وذلك عند قتل مجشم بن جثامة عامر بن الأضبط، وقد أسف ذلك النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وقال عليه الصلاة والسلام: «اللهم لا يغفر لمجشم» وكان دعاء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك لأنه قتل نفسا بغير حق، وأن الله لا يغفر ذنوب من يعتدى على حقوق العباد، إلا بعفو ممن اعتدى عليه. وقد طالب عيينة بن بدر بدم عامر بن الأضبط، وهو سيد قومه بنى عامر. وقد كان الطلب تأخر إلى غزوة حنين فيما يظهر من السياق، فطلب إليه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يقبل خمسين بعيرا، حتى يرجع إلى المدينة المنورة فيعطيه خمسين، فرد، ثم قبل من بعد. وأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد دفع الدية من بيت مال المسلمين وأن ذلك أكمل تعاون، وأكمل حرص على الدماء، مع أنه ثبت أن المقتول لم يكن قد أسلم. وقد قال علماء السنة والسيرة أن السرايا والبعوث التى جاءت بعد خيبر ووادى القرى- لم تكن سرايا ذات خطر فى توجيه الحروب، ولكنها كانت لحوادث صغيرة، أو لبث روح الإجلال للإسلام، وفل شوكة من يريدون للإسلام نكاية، أو للتعرف بأحوال العرب، أو هى أشبه بالدوريات التى تمر بالبلاد احتياطيا، وتأديبا لكل من تحدثه نفسه بالاعتداء على المسلمين بأى نوع من الاعتداء.

عمرة القضاء

عمرة القضاء 563- كان اتفاق النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى عقد صلح الحديبية على أن يبعد عن مكة المكرمة هذا العام، وحتى لا يتحدث الناس أنه دخلها على الرغم من أهلها، ثم يدخلها فى العام المقبل معتمرا، من غير سلاح إلا ما يحمل باليد ويمكث ثلاثة أيام يسعى ويطوف، ثم يتحلل. فلما جاء ذو القعدة اتجه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى العمرة التى سميت عمرة القضاء، كما سميت عمرة القصاص، لأنها كانت قصاصا من صد المشركين للمؤمنين عن العمرة، وقالوا إنه نزل فى ذلك قوله تعالى: وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ. ونرى أن النص السامى «والحرمات» إنما نزل فى القتال فى شهر الحرام، فقد قال تعالى الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ، وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ أى إذا انتهكوا حرمة البيت وصدوا عنه، وانتهكوا حرمات الشهر الحرام، فعليهم أن يتوقعوا مثل ما فعلوا، فالحرمات قصاص. اتجه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى العمرة، ودعا الذين حضروا الحديبية إليها، ومن أراد من غيرهم الاعتمار، فما عليه من حرج فى ذلك، ولكن العمرة واجبة بالنسبة لمن أحرموا لها فى الحديبية، ولم يتموها، كمن شرع فى صوم فعلا، ثم يفطر بعد النية، فإنه عليه قضاء ذلك اليوم، وقد ابتدأ فعلا بالأداء، فلما لم يتمه صار واجبا عليه القضاء. خرج مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم معتمرون من المدينة المنورة، وساقوا الهدى، وقالوا إن الهدى فى عمرة القضاء هذه كان بعضه من البقر ورخص لهم ذلك. وقد نوى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلاحرام من ميقاته، وكان يلبى عليه الصلاة والسلام، والمسلمون يلبون معه، وكان محمد بن سلمة على الخيل والسلاح، وسار بها إلى مر الظهران، فالتقى بنفر من قريش، ويظهر أن ذلك أرهب قريشا وأفزعهم. سألوا محمد بن سلمة فقال: هذا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يصبح غدا فى هذا المنزل إن شاء الله تعالى. ورأوا سلاحا كثيرا مع بشير بن سعد ومحمد بن سلمة. خرج النفر من قريش إلى مكة المكرمة فأخبروهم بالذى رأوا من السلاح ففزعت قريش، وقالوا: ما أحدثنا حدثا، وإنا على كتابنا وهو عهدنا فلم يغزونا؟

وبعثوا إليه مكرز بن حفص فى نفر منهم، حتى لقوه ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى أصحابه، والهدى والسلاح قد تلاحقوا. قالوا: يا محمد، ما عرفت صغيرا ولا كبيرا بالغدر، تدخل بالسلاح فى الحرم على قومك، وقد شرطت لهم ألا تدخل إلا بسلاح المسافر، السيوف فى القرب. فقال لهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: إنى لا أدخل عليهم بالسلاح. حينئذ اطمأنت قريش. ساق رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الهدى يرعى فى الزرع والثمر وهو يلبى كما ذكرنا والمسلمون من ورائه يرجعون تلبيته، وحبس الهدى بذى طوى. وقد خرجت قريش من مكة المكرمة إلى رؤس الجبال، وأخلوا مكة المكرمة، وقالوا: لا ننظر إليه ولا إلى أصحابه، غضبا من هذه الزيارة المباركة ولخشية أن يكون النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه يميلون قلوبهم للوحدانية واتباع الهدى، فإن النظر إلى الفعال يؤثر بأكثر مما تؤثر الأقوال. ومنهم من كان يذهب به الفضول إلى تعرف ما يفعله رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه، فقد روى ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال: صفوا إليه عند دار الندوة لينظروا إليه وإلى أصحابه، ولقد طاف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وهرول فى ثلاثة أطواف، وسعى بين الصفا والمروة، وأرسل فى بعضها، مظهرا أنه وأهل الإيمان عندهم القوة، والقدرة إذا كانت ساعة الجد، وذلك لأن قريشا قالوا عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: إنه يقدم عليكم، وقد وهنتهم حمى يثرب. فلما دخل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم اضطبع بردائه، فجعل بعضه تحت عضده اليمنى، وجعل طرفه على منكبه الأيسر، وقال: «رحم الله امرآ أراهم اليوم من نفسه قوة» ثم استلم الركن، وخرج يهرول، ويهرول أصحابه حتى استلم الركن اليمانى، مشى حتى يستلم الحجر الأسود، ثم هرول كذلك ثلاثة أطواف. وظن كثيرون أن هذه الهرولة، وهى المشية التى تظهر فيها القوة، خاصة بالحال التى كان فيها المسلمون وهى ظن المشركين أنه قد وهنت قوتهم، وأضعفتهم الحمى. ولكن لما كانت حجة الوداع، هرول النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى الطواف ثلاث مرات، فكانت سنة مشروعة واجبة الاتباع.

وقد روى الشيخان البخارى ومسلم من حديث ابن عباس رضى الله تعالى عنهما «قدم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم صبيحة رابعة ذى القعدة سنة سبع، فقال المشركون، إنه يقدم عليكم، وقد وهنتهم حمى يثرب، فأمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن يرملوا الأشواط الثلاثة، وأن يمشوا بين الركنين، ولم يمنعه أن يرسلوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم» . وهكذا نجد كل المشقات التى يكلفها الإسلام تكون فى الطاقة، ولا تكون إرهاقا وقد ظنوا كما أشرنا أن هذه الهرولة لقول المشركين ما قالوا، ولكنها ثبت أنها سنة- كما قلنا- بحجة الوداع. جاء فى الواقدى: لما قضى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم نسكه، دخل البيت، فلم يزل فيه، حتى أذن بلال الظهر فوق ظهر الكعبة الشريفة، وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أمره بذلك وكان بين من هم حول دار الندوة بعض رجال من قريش، كما أشرنا فكان منهم عكرمة بن أبى جهل فذكر أباه، وقال: لقد أكرم الله أبا الحكم، أن لم يسمع هذا العبد يقول ما يقول، وقال صفوان بن أمية: فقد أكرم الله أبى قبل أن يرى هذا، وقال خالد بن أسيد: الحمد لله الذى أمات أبى ولم يشهد هذا اليوم، حتى يقوم بلال ينهق فوق البيت. ورجال غير هؤلاء من قريش لما رأوا ذلك غطوا وجوههم، وهكذا انتصر النبى عليه الصلاة والسلام والمسلمون من بعد ما ظلموا، وغاظوا بالإيمان أهل الشرك. أقام النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى مكة المكرمة ثلاثة أيام أدى شعائر العمرة ونال أجر مجاورة البيت هو وأصحابه، وقريش فى غيظ وكمد، لأن دعوة التوحيد وشعار التوحيد دخل مكة المكرمة، وهم يرون، ولا يستطيعون حولا. وفى اليوم الثالث، كانت هناك رغبتان: رغبة الود والرحمة من النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه وهى إقامة وليمة يتناولون معا طعاما ما يكون عربون السلام الدائم من بعد ذلك، ورغبة أخرى مناقضة، هى النعرة الشديدة وإبداء العداوة والبغضاء. فى اليوم الثالث جاءه حويطب بن عبد العزى فى نفر من قريش ليخرجوا الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، قد وكلتهم قريش لإخراج الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، فقالوا له: قد انقضى أجلك فاخرج عنا. فقال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: وما عليكم لو تركتمونى فأعرست (أقسمت) بين أظهركم، وصنعنا لكم طعاما فحضرتموه، فقالوا: لا حاجة لنا فى طعامك، فاخرج عنا.

عمرة القضاء فى القرآن الكريم

لم يكن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم محاربا، بل داعيا إلى الله، حيثما وجد إلى الدعوة سبيلا، فهو لا بد أن يقرب بالمودة داعيا هاديا مرشدا مهما تكن نفرتهم، فهو مطالب بإدناء القاصى، وإيناس النافر، مهما تكن الأحوال، فانتهز هذه الفرصة ليلتقى بهم، ويدعو بالحق فيهم. ولقد لقى فعلا بعضهم، ودعاهم إلى الحق، وإن لم يكن فى داخل المسجد الحرام. ولقد تزوج صلى الله تعالى عليه وسلم ميمونة بنت الحارث، تأليفا للقلوب وإدناء لها، بإشارة عمه العباس بن عبد المطلب، وهى أخت امرأته، ولذلك تولى هو صيغة الزواج مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، إذ جعلت أمرها إلى أختها أم الفضل، وكانت هذه مع العباس رضى الله تعالى عنه فوكلت أم الفضل زوجها العظيم الذى شارك النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى صيغة العقد، ولم يكتف بذلك، بل دفع العباس صداق زواجها من ابن أخيه أربعمائة درهم، أثابه الله تعالى على محبته لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وحدبه العظيم عليه فى شدته بين قريش، وفى نصرته، بعد أن أدال الله من دولة الأوثان. خرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وفاء بالعهد، واستجابة لقريش الذين رفضوا مودته، ولكنه خلف مولاه أبا رافع، ليكون مع زوجه أم المؤمنين ميمونة، حتى أتاه بسرف قرب التنعيم فوافى فيها زوجه، وبنى بها ثم عاد إلى المدينة المنورة فى ذى الحجة. ولقد كانت هذه العمرة تأليفا وتقريبا، وإن حاول المشركون أن يبعدوا ولا يقربوا، وأن ينفروا ولا يتوادوا، ولكن كان منهم من لانوا للإسلام، واتخذوا سبيلهم للإيمان، وحسبك أن تعلم أنه كان عقب هذه العمرة إسلام خالد بن الوليد، الذى سمى سيف الإسلام، فكان سيفا مشهورا فى كل الحروب فى عهد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بعد ذلك، وفى عهد أبى بكر وأكثر عهد عمر رضى الله عنهم أجمعين. عمرة القضاء فى القرآن الكريم 564- كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد رأى رؤيا صادقة أنه سيدخل المسجد الحرام مع أصحابه محلقين رؤسهم ومقصرين، وقد كان بعد هذه الرؤيا صلح الحديبية، وما كان فيه، وتحلل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وقال عمر غضبان أسفا: ألم تعدنا بأن نطوف، فقال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: ما وعدتك هذا العام، ولقد بين الله أن صدق الرؤيا كان فى عمرة القضاء، لا فى الحديبية، وإن كانت الحديبية أول الفتح، أو التمهيد له، فقال تعالى:

حكم شرعى فى عمرة القضاء

لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ، لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ، لا تَخافُونَ، فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا، فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً، يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ، ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ، فَاسْتَغْلَظَ، فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ، يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ، وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً. حكم شرعى فى عمرة القضاء 565- كانت عمارة بنت سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب تقيم فى مكة المكرمة مع أمها سلمى بنت عميس. وذلك أن بعض القرشيين مع إرسالهم حويطبا إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، يطلبون منه الخروج، أتوا عليا، فقالوا: قل لصاحبك اخرج عنا فقد مضى الأجل. ولما خرج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ومعه على رضى الله عنه- تبعته عمارة هذه ابنة سيد الشهداء تنادى: يا عم، يا عم، فتناولها على، فأخذها بيده، وقال لفاطمة الزهراء: دونك ابنة عمك لحمايتها. ثم قال لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «علام نترك ابنة عمنا يتيمة بين ظهرانى المشركين» فلم ينه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عن إخراجها معهم. ثم تنازع فيها إليه ثلاثة، ولكل واحد منهم صلة خاصة بها. وكل يدعى أنه أحق بها من غيره تنازعها زيد بن حارثة، وعلى بن أبى طالب، وجعفر بن أبى طالب. وحجة زيد التى يدلى بها أن حمزة كان أخاه فى المؤاخاة، فقد آخى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بين زيد وحمزة، فطالب بها على أنه أولى الناس بها، لأنه وصيها، وابنة أخيه فى الإخاء. وطالب بها على لأنها ابنة عمه، فهو أولى بها، وهو الذى أخرجها من المشركين فله ولاؤها وولايتها. وطالب بها جعفر، لأنها ابنة عمه، ولأن خالتها زوجه، وهى أسماء بنت عميس. وتحاكم الثلاثة إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فحكم لجعفر، وقال: أما أنت يا زيد فمولى الله تعالى ومولى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وأما أنت يا على فتشبه خلقى وخلقى، وأنت يا جعفر أولى بها تحتك خالتها، ولا تنكح المرأة على خالتها، ولا على عمتها، فقضى بها لجعفر.

سرية ابن أبى العوجاء السلمى

فلما قضى بها لجعفر، قام فحجل حول رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: ما هذا يا جعفر، قال: يا رسول الله كان النجاشى إذا أرضى أحدا، قام فحجل حوله. وقال جعفر للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم: إنها ابنة أخى من الرضاعة...... فزوجها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سلمة بن أبى سلمة، فهو صلى الله تعالى عليه وسلم لم يتركها حتى زوجها. وإن هذه القصة أفادت أحكاما فى الحضانة وفى الولاية على النفس، وفى ولاية التزويج فى الحضانة، فقد أثبت فى الحضانة أنه لا بد أن تمسك الحاضنة عند ذى رحم محرم، وجعفر كان ذا رحم محرم، وكان محرما لها، لأنها ابنة أخيه رضاعا وامرأته خالتها، ولا يتزوجها على خالتها. وأفادت أن الولى على النفس بالنسبة للزواج لا يشترط أن يكون ذا رحم محرم، فإن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم زوجها، وهو عاصب ليس ذا رحم محرم منها. وأثبت أن الأولياء إذا كانوا فى مرتبة واحدة زوج أفضلهم، فكان جعفر وعلى، ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أولاد عم، فزوج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. ودل الخبر على أن الولى العاصب الأقرب إذا غاب قام فى الولاية من يليه فى القرب، والولى الأقرب هو العباس رضى الله تبارك وتعالى عنه، وكان قد أسلم، وهو عمها، والباقى أولاد عمها، فهو أقرب منهم جميعا، ولكنه كان غائبا، فيتولى التزويج من يليه، فتولى أفضل من يليه. سرية ابن أبى العوجاء السلمى 566- كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لا ينى عن الدعوة إلى الإسلام، لأنه رسالته، وهو يستمع دائما إلى قوله تعالى يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ. فكان يدعو إلى الإسلام، ويقرب القلوب وهو فى مكة المكرمة، وقد أثمر ثمراته فى أهل مكة المكرمة بعد ذلك فكانوا يدخلون فى الإسلام طالبين الرفعة عن طريقه. فلما انتهت عمرة القضاء، فى ذى الحجة فى السنة السابعة أخذ يوجه الدعوات إلى الجزيرة العربية فأرسل بعدها أبا العوجاء إلى بعض القبائل على قرب من ثلة فى خمسين فارسا يدعو إلى الإسلام أو العهد، أو القتال.

إسلام خالد بن الوليد

وقد كان لهم عين بالمدينة المنورة فذهب وأخبرهم بسرية الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وحذرهم فجمعوا جموعا كثيرة. فجاء ابن أبى العوجاء وهم مستعدون، فلما رآهم أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وتجمعهم دعوهم إلى الإسلام، فلم يجيبوهم بالقول الرافض، ولكن أجابوهم بالعمل المقاوم، فرموهم بالنبل، وقالوا لا حاجة لنا إلى ما دعوتم إليه. وجعلت الإمدادات تجيء إليهم، حتى أحدقوا بالخمسين فارسا من المؤمنين من كل جانب، وقاتل المؤمنون قتالا شديدا، حتى قتل أكثرهم، وأصيب ابن العوجاء بجراحات كثيرة، فتحامل حتى رجع بمن بقى من أصحابه. وهكذا كانت التضحيات فى سبيل الدعوة من أهل الغدر والنفاق. إسلام خالد بن الوليد 567- قلنا أن عمرة القضاء كانت فرصة لتقريب البعيد، وإيناس الغريب عن الإسلام بمبادئه، والربط بالمودة، وإذا كانت نفوس جافية لم تستجب لداعى المودة والرحم، فإن العقلاء قد سرت إلى نفوسهم دعوة الحق، وأخذوا يرون الإسلام فى علاء، وعرفوا ذلك من منطق القوة، ومنطق الهداية ومنطق العقل، وقد زالت الغمة، وكشفت الحقائق، وكان من هؤلاء وعلى رأسهم خالد بن الوليد، الذى سمى بحق من بعد سيف الإسلام، وإن لم ينل مرتبة المجاهدين الأولين والبلاء بلاء، والقوى كلها تكاتفت على المسلمين. لقد كانت نفس خالد المدركة التي تحس مائلة عن الشرك إلي دعوة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وكان يرى أنه يخوض في الدفاع عن الشرك إلي غير غاية. ولنترك الكلمة، لما روى خالد بن الوليد فى حديثه عن إسلامه. قال: لما أراد الله تعالي بي ما أراد من الخير قذف في قلبي الإسلام، وحضرني رشدي فقلت، قد شهدت هذه المواطن كلها علي محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، فليس لي موطن أشهده- أو أنصرف وأنا أري أني موضع في غير شيء، وأن محمدا سيظهر، فلما خرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلي الحديبية خرجت في خيل المشركين، فلقيت رسول الله بأصحابه بعسفان، فقمت بإزائه، وتعرضت له، فصلى الظهر أمامنا فهممنا أن نغير عليهم، ثم لم يعزم لنا، وكانت فيه خير. فاطلع علي ما في أنفسنا مما ألهم به، فصلي بأصحابه صلاة العصر صلاة الخوف، فوقع ذلك منا موقعا فقلت: الرجل ممنوع فاعتزلنا، وعدل عن سير خطنا وأخذ ذات اليمين.

فلما صالح قريشا بالحديبية ودافعته قلت فى نفسى أى شيء بقى أأذهب إلى النجاشى؟ فقد اتبع محمدا وأصحابه عنده آمنون، أفأخرج إلى هرقل فأخرج من دينى إلى نصرانية أو يهودية؟ أفأقيم فى دارى؟. فأنا فى ذلك إذ دخل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى عمرة القضاء، فتغيبت، ولم أشهد حضوره. وكان أخى الوليد بن الوليد قد دخل مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى عمرة القضاء فطلبنى، فلم يجدنى، فكتب إلى كتابا فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد فإنى لم أر أعجب من ذهاب رأيك عن الإسلام، وعقلك عقلك، ومثل الإسلام ما جهله أحد، وقد سألنى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عنك، وقال: أين خالد، فقلت: يأتى الله تعالى به، فقال: ما مثله يجهل الإسلام؟!، ولو كان جعل نكايته وحده مع المسلمين كان خيرا له، ولقدمناه على غيره، فاستدرك يا أخى ما قد فاتك من مواطن صالحة» . فلما جاءنى كتابه نشطت للخروج، وزادنى رغبة فى الإسلام، سؤال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عنى، وأرانى فى المنام كأنى فى بلاد ضيقة مجدبة، فخرجت فى بلاد خضراء واسعة، فقلت إن هذه لرؤيا، فلما أن قدمت المدينة المنورة قلت لأذكرنها لأبى بكر، فقال: مخرجك الذى هداك الله تعالى للإسلام، والضيق الذى كنت فيه من الشرك. فلما أجمعت الخروج إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قلت: من أصاحب إلى الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم!!، فلقيت صفوان بن أمية، فقلت: يا أبا وهب، أما ترى ما نحن فيه، إنما نحن كأضراس، وقد ظهر محمد صلى الله تعالى عليه وسلم على العرب والعجم، فلو قدمنا على محمد واتبعناه، فإن شرف محمد شرف لنا، فأبى أشد الإباء، وقال لو لم يبق غيرى ما اتبعته أبدا، فافترقنا وقلت هذا رجل قتل أخوه وأبوه ببدر، قلت فاكتم على فلقيت عكرمة بن أبى جهل، فقال مثل ما قال صفوان بن أمية فخرجت إلى منزلى فأمرت براحلتى، فخرجت بها إلى أن لقيت عثمان بن أبى طلحة، فقلت إن هذا لى صديق فلو ذكرت له ما أرجوه، ثم ذكرت من قتل من آبائه فكرهت أن أذكره، فقلت وما على، وأنا راحل من ساعتي، فذكرت له ما آل الأمر إليه، فقلت إنما نحن بمنزلة ثعلب فى جحر لو صب عليه ذنوب من ماء لخرج، وقلت له نحوا مما قلت لصاحبى، فأسرع الإجابة وقلت له إنى غدوت إليهم، وأنى أريد أن أغدو، وهذه راحلتى ... فأدلجنا سرا، فلم يطلع علينا الفجر، حتى التقينا فغدونا حتى انتهينا إلى الهدة. فوجدنا عمرو بن العاص، بها، فقال: مرحبا بالقوم، فقلنا: وبك، فقال إلى

أين مسيركم؟ فقلنا وما أخرجك؟ فقال وما أخرجكم؟ قلنا الدخول فى الإسلام، واتباع محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، قال وذلك الذى أقدمنى، فاصطحبنا جميعا حتى دخلنا المدينة المنورة، فأنخنا بظهر الحرة ركابنا فأخبر بنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فسربنا فلبست من صالح ثيابى، ثم عمدت إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فلقينى أخى فقال: أسرع فإن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد أخبر بك فسر لقدومك، وهو ينتظركم، فأسرعنا المشى، فاطلعت عليه، فما زال يبتسم لى حتى وقفت عليه، فسلمت عليه بالنبوة، فرد على السلام بوجه طلق، فقلت إنى أشهد أن لا اله إلا الله، وأنك رسول الله صلى الله تعالى عليك وسلم، فقال تعال، ثم قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «الحمد لله الذى هداك، قد كنت أرى لك عقلا، ورجوت ألا يسلمك إلا إلى خير» قلت يا رسول الله، إنى قد رأيت ما كنت أشهد من تلك المواطن عليك مما أبرأ منه فادع الله أن يغفر لى ذلك، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «الإسلام يجب ما كان قبله» ، قلت يا رسول الله على ذلك فقال صلى الله تعالى عليه وسلم «اللهم اغفر لخالد بن الوليد، كل ما أوضع فيه من صد عن الله ورسوله» . هذا ما نقله الواقدى بالرواية عن إسلام خالد بن الوليد. وذكرناه بطوله، لأنه حكاية نفسه، وبيان خواطره، وبيان ما وجهه إلى الإسلام توجيها نفسيا، أهو الاعتقاد الجازم الذى ينبعث من النفس، أم هو المصلحة، ولا يمنع أن يكون الباعث هو المصلحة، ثم يشرب قلبه حب الإيمان، ويكون من الصادقين فى إيمانهم، ثم يكون من بعد ذلك من المحاربين فى الإسلام، وربما يكون من المجاهدين، إن صح التعبير. كان خالد ممن لم يدخلوا مكة المكرمة من قريش غيظا من الإسلام وأهله وكراهية- عندما دخل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مكة المكرمة معتمرا حاجا. فدل هذا على النفرة الشديدة من الإسلام وأهله، ولكنه جاء بعد ذلك وأراد أن يكون مع المسلمين، ولم يكن كعمر الفاروق الذى كان ألبا على المسلمين ثم رق قلبه للإسلام وقذف الله فى قلبه بنوره، فكان قوة فى الإسلام، وفارقا بين الضعف والاختفاء، والقوة والاستعلان، فى وقت ضنت فيه الألسنة عن الحق، والقلوب عن الإيمان، ولا كحمزة أسد الله، فإنه لم يقف قط ضد الإسلام، وأسلم ابتداء حمية لابن أخيه، ثم صار بطل الجهاد، لا بطل الحرب، فقد يكون بطل الحرب غير مجاهد، وقد يكون بطل الجهاد لم تعرف له فى الحرب مكيدة، كبلال وعمار، وغيرهما من المؤمنين الأولين الذين كانوا اللبنة الأولى فى بناء الإسلام، وعلى بلائهم وأذاهم قام الإسلام.

كان خالد فى إسلامه ليس واحدا من هؤلاء ولا كواحد منهم، ولكنه فكر وقدر فى البقاء على وثنية مكة المكرمة، أتكون مصلحته، أم المصلحة فى أن يسير فى الركب لتحفظ له مكانة المحارب الفذ والقائد النادر المثال. وجد مكة المكرمة قد سدت ولم تكن مكان العزة، ورأى محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم هو ومن معه يعلون ولا ينخفضون، فهو إلى علاء، ومن فى مكة المكرمة إلى غيره أو استسلام له. ونفذ إدراكه إلى سر فى علو محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو أنه ممنوع بمنع الله تعالى كالذى تسرب إلى نفسه وهو فى خيل المشركين يرقبون صلاة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم بأصحابه. ولكن كأن ومضة نفسية، لا نقول إنها انطفأت، ولكن نقول إن سباق تاريخ نفسه بنفسه يدل على أن ذلك لم يكن هو المسير الموجه إلى إيمانه. بل كان الموجه أولا- أنه رأى أن لا مقام له بمكة المكرمة حيث سدت أبواب مظاهر النبوغ. ثم كان الموجه ثانيا- أنه لم يكن له ملجأ فى الحبشة، لأن أصحاب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم سبقوه، والنجاشى يؤمن بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم ويحبه، وفكر فى أن يلجأ إلى الروم، وينتقل من دين قومه إلى اليهودية أو النصرانية، وربما كان ذلك فاتحا له باب النور، ليخرج من دين قومه إلى دين رجل من قومه، شرفه شرفهم، كما عبر هو. ثم كان الموجه ثالثا- الكتاب الذى بعث به إليه أخوه الوليد وقد ذكر فيه سؤال رسول الله وذكره، وذكر عقله، وذكر أن له موضعا فى حروب المسلمين تعرف فيها مكانته، وتتميز فيها قيادته. اتجه إلى محمد صلى الله تعالى عليه وسلم لهذه الأمور، ولم يكن منها إيمانه بالعقيدة إيمانا دافعا مؤمنا مطمئنا مهديا، إلا أن يكون ما لاحظه من النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إذ حول الصلاة القائمة إلى صلاة خوف، عندما حدثته نفسه إبان ذلك إلى الانقضاض على المؤمنين فى صلاتهم. ولما ذهب إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وتطلق البشير النذير فى وجهه، رضى بالإسلام دينا، وغفر الله تعالى له لدعوة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم له بالغفران. وإنا لا ننقص من مقام خالد بن الوليد القائد المحارب ذى الدربة فى القتال، إذا قلنا إنه ابتدأ دخوله فى الإسلام بأنه رأى فى دخوله فيه المصلحة بعد أن صارت القوة الوحيدة فى البلاد العربية للإسلام- لأنه إذا رأى فى ذلك مصلحة شخصية دنيوية، فإنها كانت باب النور إليه، ودخل الإسلام قلبه، وصار مؤمنا بالله واليوم الآخر، والملائكة والنبيين.

إسلام عمرو بن العاص

ولعل ما قلناه هو السر فى أن عمر بن الخطاب فاروق الإسلام الذى لم يفر أحد فريه فى الإسلام، لم يكن يعامله معاملة المطمئن إليه، وإن كان يقدر مقدرته الحربية. إسلام عمرو بن العاص 568- يتشابه إسلام عمرو بن العاص مع إسلام خالد بن الوليد، وإن كان فى إسلام خالد معان توميء إلى أنه أدرك بعض معانى الوحى، بدليل ما لاحظه فى صلاة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وإدراكه أن الله تعالى مانع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وأنه غير مسلمه وإدراكه مكانة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بين العرب والعجم، وأن شرفه هو شرف قريش، بل كانت المصلحة الدافعة أوضح فى عمرو بن العاص. لو نذكر كيف دخل الإسلام قلبه بما حكاه الواقدى عنه. يقول عمرو بن العاص: «كنت للإسلام مجانبا معاديا، حضرت بدرا مع المشركين فنجوت، ثم حضرت أحدا فنجوت، ثم حضرت الخندق فنجوت، فقلت فى نفسى: والله ليظهرن محمد على قريش فلحقت بمالى، وأقللت من الناس (أى من لقائهم) ، فلما حضر الحديبية رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وانصرف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى الصلح، ورجعت قريش إلى مكة المكرمة، جعلت أقول يدخل محمد قابلا مكة المكرمة، ما مكة المكرمة بمنزل ولا الطائف، ولا شيء خير من الخروج، وأنا بعد ناء عن الإسلام، وأرى لو أسلمت قريش كلها لم أسلم، فقدمت مكة المكرمة، وجمعت رجالا من قومى، وكانوا يرون رأيى، ويسمعون منى، ويقدموننى فيما نابهم فقلت لهم كيف أنا فيكم، فقالوا ذو رأينا، ومدرهنا فى يمن نفس، وبركة أمر. قلت تعلمون أنى والله لأرى أمر محمد أمرا يعلو الأمور علوا منكرا وإنى قد رأيت رأيا. قالوا وما هو؟ قلت: نلحق بالنجاشى فنكون معه، فإن يظهر محمد كنا عند النجاشى، ونكون تحت يد النجاشى أحب إلينا من أن نكون تحت يد محمد، وإن تظهر قريش فنحن من قد عرفوا. قالوا: هذا الرأى- قلت فاجمعوا ما نهديه له. جمعوا أحب ما يهدى إليه وهو الأدم، وذهبوا إلى النجاشى. ثم يقول عمرو بن العاص فى لقائه مع النجاشى، فو الله إنا لعنده إذ جاء عمرو بن أمية الضمرى وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد بعثه بكتاب كتبه يزوجه أم حبيبة بنت أبى سفيان، فدخل عليه، ثم خرج من عنده، فقلت لأصحابى: هذا عمرو بن أمية الضمرى، ولو دخلت على

النجاشى فسألته اياه، فأعطانيه فضربت عنقه، فإذا فعلت ذلك سرت قريش وكنت أجزأت عنها حتى قتلت رسول محمد. فدخلت على النجاشى، فسجدت له، كما كنت أصنع، فقال: مرحبا بصديقى أهديت لى من بلادك شيئا!! قلت نعم أيها الملك أهديت لك أدما كثيرة. ثم قدمته فأعجبه، وفرق منه شيئا بين بطارقته، وأمر بسائره فأدخل فى موضع وأمر أن يكتب ويحتفظ به، فلما رأيت طيب نفسه قلت: أيها الملك إنى رأيت رجلا خرج من عندك، وهو رسول عدو لنا قد وترنا، وقتل أشرافنا وخيارنا فأعطنيه فأقتله. فغضب من ذلك ورفع يده، فضرب بها أنفى ضربة، ظننت أنه كسره، فجعلت أتلقى الدم بثيابى، فأصابنى من الذل ما لو انشقت بى الأرض لدخلت فيها فرقا منه. ثم قلت: أيها الملك لو ظننت أنك تكره ما قلت ما سألتك، فاستحيا وقال: «يا عمرو تسألنى أن أعطيك رسول من يأتيه الناموس الأكبر الذى كان يأتى موسى، والذى كان يأتى عيسى- لتقتله» . قال عمرو: فغير الله قلبى عما كنت عليه، وقلت فى نفسى: عرفت هذا الحق العرب والعجم، وتخالف أنت، ثم قلت: أتشهد أيها الملك بذلك؟ قال الملك: نعم أشهد عند الله يا عمرو، فأطعنى واتبعه، فو الله إنه لعلى الحق، وليظهرن على من خالفه. كما ظهر موسى على فرعون وجنوده. قلت: أتبايعنى على الإسلام، قال نعم. فبسط يده، فبايعنى على الإسلام، ثم دعا بطست، فغسل عنى الدم، وكسانى ثيابا، وكانت ثيابى قد امتلأت بالدم فألقيتها. ثم خرجت على أصحابى، فلما رأوا كسوة النجاشى سروا بذلك، وقالوا هل أدركت من صاحبك ما أردت؟ قلت: كرهت أن أكلمه فى أول مرة، وقلت: أعود إليه، فقالوا الرأى ما رأيت ففارقتهم، وكأنى أعمد إلى حاجة، فعمدت إلى موضع السفن، فأجد سفينة قد شحنت وتدفع فركبت معهم، ودفعوها، حتى انتهوا إلى الشعبة. وخرجت من السفينة، ومعى نفقة، وابتعت بعيرا، وخرجت أريد المدينة المنورة مررت على الظهران ومضيت حتى إذا كنت بالهدة، فإذا رجلان قد سبقانى بغير كثير يريدان منزلا، وأحدهما داخل فى الخيمة، والآخر يمسك الراحلتين، فنظرت فإذا خالد بن الوليد، فقلت أين تريد قال محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم. دخل الناس فى الإسلام، فلم يبق أحد، والله لو أقسمت لأخذ برقابنا كما يؤخذ برقبة الضبع فى مغارتها، قال عمرو وأنا والله أردت محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم أو أردت الإسلام، فخرج عثمان بن أبى طلحة فرحب بى فنزلنا جميعا فى المنزل، ثم اتفقنا حتى أتينا المدينة المنورة فما أنسى

قول رجل لقيناه ببئر أبى عنبة يصيح يا رباح يا رباح فتفاء لنا، بقوله وسرنا، ثم نظر إلينا، فأسمعه يقول: قد أعطت مكة المكرمة المقادة بعد هذين فظننت أنه يعنينى، ويعنى خالد بن الوليد، وولى إلى المسجد سريعا، فظننت أنه بشر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بقدومنا، فكان كما ظننت وأنخنا بالحرة، فلبسنا من صالح ثيابنا، ثم نودى بالعصر فانطلقنا على محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وإن لوجهه تهللا والمسلمون حوله قد سروا بإسلامنا فتقدم خالد بن الوليد فبايع، ثم تقدم عثمان بن أبى طلحة فبايع، ثم تقدمت، فوالله ما هو إلا أن جلست بين يديه فما استطعت أن أرفع طرفى حياء منه، فبايعته على أن يدعو الله سبحانه وتعالى أن يغفر لى ما تقدم من ذنبى، فقال إن الإسلام يجب ما قبله والهجرة تجب ما قبلها، فوالله ما عدل بى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وبخالد بن الوليد أحدا من أصحابه فى أمر حزبه منذ أسلمنا» . نقلنا الحديث بطوله، وكنا نود أن نحذف الجزء الأخير، وهو أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لم يعدل أحدا من أصحابه. فإنا لا نحسب يمينه فى هذا برة إن كانت صحيحة النسبة إليه، لقد كانت بعد ذلك غزوة مؤتة وتبوك وفتح مكة المكرمة وهوازن وحنين فلم يعدل بهما على بن أبى طالب والزبير بن العوام وأبا عبيدة عامر بن الجراح، وسعد بن أبى وقاص. إن هذه اليمين غير البرة فرية عليه أو غير ذلك، ولماذا كان اللواء لزيد بن حارثة، ثم لجعفر بن أبى طالب، ثم لعبد الله بن رواحة، ولم يتولها خالد إلا حيث لم يكن وال يحملها. ومهما يكن من أمر هذه اليمين، فإن ما جاء على لسانه يدل كما دل كلام صاحبه على أن إسلامهم ابتداء كان لمصلحة، وقد أشرب قلوبهم الإيمان من بعد. هذا عمرو كان يقول لو أسلمت قريش كلها ما أسلم، ثم يخرج ببعض قومه ليحرض النجاشى على المؤمنين، ويحاول أن يتمكن من قتل رسول من عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فيلطمه النجاشى لطمة جدعت أنفه. هذه اللطمة هى التى نبهته إلى الحق، أم نبهه غضب النجاشى، وإرادة إرضائه. ليس فى الوقائع التى ذكرها ما يدل على أنه رأى فى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن الله مانعه، فهو لم ير شيئا من ذلك، ولذلك نقول إن إسلامه كان لمصلحته الشخصية الدنيوية ولعل الإسلام قد دخل قلبه من بعد ذلك حتى صار إيمانا، وهذا ما رجحناه. وفى قصة عمرو بن العاص عن نفسه ما يدل على أنه رجل لا يظهر فى الهيجاء، ويبغى لنفسه الانحياز عن مواطن الردى، فهو يحضر بدرا، وينجو، وأحدا وينجو، والخندق وينجو، ويظهر أنه لم يقتل ولم يقاتل بل كان من النظارة أو المدبرين، كما كان شأنه فى القتال بين إمام الهدى على بن أبى طالب ومعاوية يدبر فى حرب البغاة.

سرايا للتعرف في البلاد

وسيأتى من الأنباء مقامه هو وخالد بجوار صحابة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم الذين رضى الله تعالى عنهم، ورضوا عنه فى بيعة الرضوان. سرايا للتعرف في البلاد 569- أخذ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، يرسل سرايا لمعرفة البلاد وحال القبائل، وخصوصا التى لا يأمن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم جانبها. فقد بعث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم شجاع بن وهب فى أربعة وعشرين إلى جمع من هوازن وأمرهم أن يغيروا عليهم، وكان بعثه يسير الليل ويكمن النهار، جاؤهم على غرة، وأوعز شجاع إلى أصحابه إلى ألا يمعنوا فى الطلب، فأصابوا نعما كثيرة وشاء، فاستاقوا ذلك، حتى قدموا المدينة المنورة، فكانت سهامهم خمسة عشر بعيرا لكل رجل. ثم قدم أهلوهم مسلمين، فشاور النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أميرهم فى رد السبايا إليه، فردهن، ويقول الحافظ ابن كثير فى تاريخه: قد تكون هذه السرية هى المذكورة فيما رواه الشافعى عن مالك عن نافع أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعث سرية قبل نجد. فكان فيهم عبد الله بن عمر، فأصابت إبلا كثيرة. فبلغت سهامنا اثنى عشر بعيرا. ونفلنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعيرا بعيرا وإنا نحسب أنهما سريتان. إحداهما قبل نجد والآخرى أرسلت إلى هوازن. إلي بني قضاعة 570- أخذت سرايا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم تتجه إلى أرض الشام ليرتادوا الأراضى التى تتاخم أرض الشام، فيتعرف حالها تمهيدا، أو كشفا للغزوة التى تتجه إلى الشام من بعد، فبعث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كعب بن عمير الغفارى إلى بنى قضاعة من أرض الشام فى خمسة عشر رجلا، فوجدوا جمعا منهم كبيرا فدعوهم إلى الإسلام، فلم يستجيبوا لهم، ورشقوهم بالنبل. فلما رأى ذلك أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قاتلوهم أشد قتال وكانوا قلة فكاثرهم المشركون بكثرتهم حتى قتل المؤمنون فى سبيل الدعوة إلى الإسلام، وكان فى القتلى جريح اشتدت جراحه، حتى ظن أنه بين الموتى، فما أن أقبل الليل حتى تحامل حتى وصل إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فهم بأن يبعث إليهم، فبلغه أنهم انسابوا فى الصحراء إلى موضع آخر. وقد يسأل سائل لماذا يرسل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم سرايا قليلة العدد يتغلب عليهم المشركون بالكثرة التى لا قبل لهم بها، فيقتلون جميعا أو كثرتهم.

غزوة مؤتة

ونقول فى الجواب عن ذلك، إن سرايا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كانت ابتداء للتبليغ والدعوة، ولكنهم كانوا يلتقون بقوم غلاظ لا يجيبون، وإن أمكنتهم الفرصة يقاتلون، وقد رأينا فى هذه السرية الأخيرة، كيف كانت الدعوة إلى الإسلام ابتداء، فردوا ثم رشقوهم بالنبال، ثم قتلوهم، فما ذهبوا مقاتلين، ولكن ذهبوا داعين إلى الحق مبلغين رسالة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم الأمين. غزوة مؤتة 571- كان الإسلام يسرى سريان النور، والشام لم يكن بعيدا عن البلاد العربية، بل كانت به قبائل من العرب، فالغساسنة منهم، وإذا كان الإسلام يسرى نوره فيعم الآفاق القربية فقد كان من عرب الشام من دخل فى الإسلام، أو كان من العرب من سافر إلى الشام. وأولئك المسلمون، وإن كانوا عددا قليلا ضاقت بهم صدور النصارى حرجا، فقتل والى الشام من قبل الرومان من أسلم من عرب الشام، ولا بد أن يحمى محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه أولئك الذين يفتنون عن دينهم لتمنع الفتنة عنهم، ويقول فى ذلك ابن تيمية فى رسالة القتال: إن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ما بعث إلى حرب الروم فى مؤتة إلا بعد أن قتل الوالى الرومانى من أسلم فى الشام. هذه كانت بعض الأسباب فى سرية مؤتة وقد كان هناك سبب مباشر قوى، وهو أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعث الحارث بن عمير الأزدى بكتابه إلى الشام، ثم إلى ملك الروم فعرض له شرحبيل بن عمرو الغسانى، فأوثقه رباطا، ثم قدمه فضرب عنقه، ولم يقتل من رسل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم غيره إلى ذلك الوقت، فاشتد ذلك عليه حين بلغه الخبر، وكان لا بد أن يقف أمام هذا الغدر بقوة، ولو كانت مقابل قوة الرومان. وذلك لأنهم فتنوا المؤمنين، بقتل بعضهم فكان ذلك إرهابا لمن يهم بالدخول فى الإسلام ولأنهم قتلوا رسول النبى الأمين صلى الله تعالى عليه وسلم فى وقت قد صارت عند النبى صلى الله تعالى عليه وسلم القوة الفاصلة العليا فى البلاد العربية، فكان لا بد لذلك من أن يقاوم ذلك الغدر، لأن السكوت يكون ذلة لأهل الإيمان، وذلة للعرب أجمعين، وهم بصدد أن يقوموا بدعوة الحق وحماية الشعوب من طغاتها. فى جمادى الأولى من السنة الثامنة بعث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعثة إلى البلقاء من الشام، وكانت عدتها ثلاثة آلاف رجل، ولعلها أكبر الغزوات إلى الآن عددا.

وجعل الأمير على هذه البعثة زيد بن حارثة، فإن قتل زيد كان الأمير جعفر بن أبى طالب، فإن قتل جعفر كان الأمير عبد الله بن رواحة، فإن قتل، فليرتض المسلمون رجلا يكون أميرا عليهم، فلما فصلوا عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى الشام، ومضوا حتى أرض الشام، فبلغ الناس أن هرقل قد نزل فى ماب من أرض البلقاء فى مائة ألف من الروم وانضم إليهم عدد من نصارى العرب، وبلغ عدد من انضم مائة ألف أخرى. عندما رأى جيش الإسلام ذلك كان منه من راعه العدد والسلاح، وقالوا نكتب إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم نخبره بعدد عدونا، فإما أن يمدنا بالرجال، وإما أن يأمرنا، لنمضى إليه، عندما سمع عبد الله بن رواحة ذلك الكلام المتردد. وقف وقال: يا قوم، والله، إن التى تكرهون للتى خرجتم تطلبون الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد، ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذى أكرمنا الله به، فانطلقوا، فإنما هى إحدى الحسنيين، إما ظهور وإما شهادة. قال الناس بعد هذا الكلام المؤمن القوى: قد والله صدق ابن رواحة، وتقدم جيش الرومان، وإن كانوا يبلغون مائتى ألف، وتقدم جيش الإسلام وهو يؤمن بقوله تعالي: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ تقدم المؤمنون فى غير وجل من كثرة عدد العدو، وقلتهم. تقدم الصفوف زيد بن حارثة، وهو يحمل راية رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وكان على ميمنة الجيش رجل من بنى عذرة اسمه قطبة بن قتادة، وعلى الميسرة رجل من الأنصار اسمه عباية بن مالك وانتحى المسلمون قرية من قرى البلقاء، فالتقوا بالرومان عندها. وإذ كان المؤمنون قد أخذتهم ابتداء رهبة العدد والسلاح، فقد أخذت الرومان رهبة الإيمان، وإذا كان قد استطاع المؤمنون أن يتغلبوا على ما أصاب نفوسهم من فزع العدد، فإن المائتى ألف لم يستطيعوا أن يتغلبوا على فزعهم من أنهم يلقون قوما مؤمنين أحب اللقاء إليهم لقاء ربهم. قد التقى الفريقان، الفريق المؤمن، وهو يهاجم دفاعا عن أهل الإيمان الذين قتلهم والى الرومان، ودفاعا عن كرامة الإسلام التى أهينت بقتل رسول الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، وكرامة العرب وهم مزودون بمعان دافعة، وكان جيش الرومان الكثيف فى عدده وعدته، لا غاية له إلا أن يرد هؤلاء المزودين بالقوة المعنوية، وبنصرهم السابق، ولذلك كان اتجاههم إلى قتل حملة الراية التى هى رمز التقدم إن تقدم حاملها، إذ كلما تقدم زاد الهجوم قوة واحتداما وهم خائفون من هذا الهجوم، وإن النبى صلى الله

تعالى عليه وسلم ألهم، وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى (النجم 3- 5) ، ألهم، أن حملة الراية سيكونون المقصودين، فرتب الولاية بينهم فجعلها لزيد بن حارثة لقوة إيمانه، وليعلم أنه لا شرف إلا بالإيمان والعمل الصالح، ثم تكون لجعفر بن أبى طالب الذى هاجر مرتين، لكى يعلم الناس أنه لا يضن بأهله عن مواطن الردى، ثم لعبد الله بن رواحة ولم يجعلها من بعده لأحد، ولم يكن خالد من بين الأمراء الذين ذكرهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم واصطفاهم لأنه كان قريب عهد بالإسلام. كان هم جيش الروم أن يرد المهاجمين، ولذلك اتجه إلى القواد، وجعلهم غايته، فقتلهم واحدا بعد واحد، وكان هم جيش المؤمنين أن ينتصفوا لإخوانهم الذين فتنوا فى دينهم فقتلوا من الرومان مقتلة عظيمة، حتى قال خالد بن الوليد إنه أبدل فى يده ستة سيوف، ولم يبق إلا صفحة يمينة، فسل نفسك لم كان يخشى السيف فى يد خالد من هؤلاء، الذين سارت فيهم قوة الإيمان، كما تسير السكين فى قطعة الزبد. وأولئك القواد العظام الذين عينهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ما كان ليقتل إلا بعد أن عبروا، ولا يلقى الراية من يده إلا بعد رقاب عدد من الكافرين من النصارى واليهود فزيد حب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وحامل رايته قتل عددا حتى قتل. وجعفر بن أبى طالب حامى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، قاتل حتى أحس بأن فرسه لا تسعفه، فنزل عنها، وأخذ يقاتل راجلا، وراية رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يحملها على يمينه، فلما قطعوها حملها على شماله، فلما قطعوها حملها بين يديه، حتى قتل، فكان فى الجنة الطيار ذلجناحين. وهكذا كان عبد الله بن رواحة كصاحبيه أقدم عليها من غير تردد، فكان كالصاعقة على الكافرين، حتى استشهد، وهو حامل الراية. ولا يصح أن تسقط راية المؤمنين، وانتهى أمرها إلى ثابت بن أقوم بن العجلان، ولكنه أحس بأنه دونها، فقال: يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم، قالوا: أنت! قال: ما أنا بفاعل، فاصطلحوا على خالد بن الوليد، فلما حملها أخذ يقاتل، وسيفه البتار يقطع الرقاب. ولكنه وهو القائد المدرك علم أنه وإن كانت الجولة إلى الآن للمؤمنين، ولو قتل حاملو الراية لا بد أن يزحمهم الروم ونصارى العرب ويهودهم بكثرة العدد، لأنها تطيل القتال، ولا تتحمل القلة الطول مهما يكن ما عندهم من معنويات صابرة مؤمنة.

اتجه خالد إلى الانحياز تمهيدا لانسحاب منظم، وفى هذا الوقت ابتدأت قوات الروم بتخاذل بعضها من العرب، وبعضهم انضم إلى خالد عند انسحابه. يحكى ابن إسحاق أنه كان من حدس كاهنة، حين سمعت بجيش النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مقبلا، قالت لقومها من حدس، قالت لهم أنذركم قوما خرزا (أى مبصرون مدركون) ينظرون شزرا، ويقودون الخيل تترى، ويهريقون دما عكرا. فأخذوا بقولها واعتزلوا من بنى لخم، وكان من الذين صلوا الحرب يومئذ بنو ثعلبة، فلما انصرف خالد بالناس انصرفوا معه وعادوا قافلين إلى أرضهم. فالجيش الرومانى، لم يكن متماسكا، وإن كان كثير العدد، لتعدد الأجناس فيه، فلم تغن كثرتهم عنهم شيئا، ونجا المسلمون منهم، ونجواهم بأنفسهم، وإن جرحوا جرحا شديدا. عندما رأى خالد كثرة الكافرين، كما ذكرنا، أخذ يبدل فى مواقف جيشه، فجعل الميمنة ميسرة، والميسرة ميمنة، والصدر خلفا والخلف صدرا فظنوا أنه قد جاءه المدد، فلهذا أنزل الله تعالى فى قلوبهم الرعب من لقاء المسلمين فاثروا النجاة بأنفسهم، ولم يتبعوا جيش المسلمين فى تراجعهم، ورضوا من الغنيمة بالإياب، وأخذ خالد بجيش الإيمان، حتى عاد إلى المدينة المنورة سالما به، لم يفقد فى هذه المعركة إلا اثنى عشر قتيلا منهم الأمراء الثلاثة زيد بن حارثة، وجعفر، وعبد الله بن رواحة رضى الله تعالى عنهم جميعا، وتسعة معهم، فكان عدد القتلى اثنى عشر قتيلا. ولكن لم يتعود أهل المدينة المنورة أن تعود إليهم جنودهم من المعركة، حتى فى أحد بقيادة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. وقد نال المشركون منهم نيلا وجراحا فلم يعد الجنود من المعركة فارين أو شبه فارين، بل كان الجمع الذى أصيب بالجراح قد أخذ يكر وراء المشركين كرا، وتبعهم إلى حمراء الأسد راجعين فارين من تجدد اللقاء، ورضوا بالإياب. لم يعجب أهل المدينة المنورة صنيع الجيش الذى قاده القائد المدرك بالانحياز ثم الانسحاب، لأنهم لم يتعودوه، وسموهم الفرارين، وأخذ الصبيان يحثون التراب على وجوههم، وقد خرج إليهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مستقبلا فأمر بتنحية الصبيان إلا أولاد جعفر بن أبى طالب فضمهم إليه، وقال إنهم الكرارون، أو العكارون، كما جاء فى بعض الصحاح والسنة، وسماهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم متحيزين إلى فئة، فهو فئة المسلمين، وكان ذلك تطبيقا لقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا

نتيجة الغزوة

لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ. وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ، إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ. وتحيزوا إلى فئة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فدخلوا فى استثناء الآية، ولم يدخلوا فى موضع نهيها. نتيجة الغزوة 572- انتهت هذه الغزوة بنجاة الجيش الإسلامى من أن يقع فريسة لجيش الكفر، المتكاثف، وحسب ذلك نصرا مبينا، وإن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أدرك قبلها نتيجة المعركة، فإنه عندما علم أن خالدا تولى القيادة، وحمل الراية قال: تولى الراية سيف من سيوف الله يفتح الله تعالى عليه، وما كانت لتسمى النتيجة فتحالو كانت النهاية أن يرضى الجيش من الغنيمة بالإياب. ولقد قال بعض كتاب السيرة أن النتيجة كانت السلامة، ولم تكن نصرا. ولكنا نقول أنها كانت نصرا لأسباب: منها أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم سماها فتحا، وسمى الذين عادوا إلى المدينة المنورة كرارا. ومنها أن المسلمين ساقوا غنائم ولم يؤخذ منهم شيء. ومنها أن قتلى المؤمنين كانوا اثنى عشر، وقتلاهم لا تحصى عددا، فقتلى المسلمين كانوا أقل عددا، وفيها كان النصر المؤزر، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله تعالى هى العليا. ولقد قال فى ذلك الحافظ ابن كثير فى تاريخه: «هذا عظيم جدا، أن يتقاتل جيشان متعاديان فى الدين أحدهما وهو القلة التى تقاتل، فى سبيل الله وعدتها ثلاثة آلاف، وأخرى كافرة، وعدتها مائتا ألف مقاتل، من الروم مائة ألف، ومن النصارى العرب مائة ألف، يتبارزون ويتصاولون، ثم مع هذا كله لا يقتل من المسلمين إلا اثنا عشر، وقد قتل من المشركين خلق كثير، هذا خالد وحده يقول: لقد اندقت فى يدى تسعة أسياف وما بقيت فى يدى إلا صفحة يمانية، فماذا ترى قد قتل بهذه الأسياف كلها. دع غيره من الأبطال الشجعان من حملة القرآن الكريم وقد تحكموا فى عبدة الصلبان، عليهم لعنة الرحمن ذلك الزمان وفى كل أوان، وهذا مما يدخل فى قول الله تعالى: «قد كان لكم آية فى

سرية ذات السلاسل

فئتين التقتافئة تقاتل فى سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأى العين، والله يؤيد بنصره من يشاء إن فى ذلك لعبرة لأولى الأبصار» . وإننا نرى أن هذا يشبه ما قرره الله تعالى من أن عشرين صابرين يغلبوا مائتين، وأن مائة صابرة تغلب ألفا، وأنه عند قوة الإيمان وقوة الصبر يكون المؤمن الصابر يغلب مائة. وقد كان ثلاثة آلاف قد غلبوا مائتى ألف، وصدق قول الله تعالى: «يا أيها النبى حرض المؤمنين على القتال، إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا، بأنهم قوم لا يفقهون» هذا هو الحق. إن غزوة مؤتة أول غزوة تخرج عن دائرة الجزيرة العربية إلى دائرة أراض تحت سلطان الرومان، فإذا كانت النتائج تكون على هذه الشاكلة، فإن النصر سيكون لجيش الحق بإذن الله تعالى، وقد كان، فكانت اليرموك وما بعدها فى عهد الراشدين، فكانوا يفرون كما تفر الشاة أمام الأسود. وإذا كانت بدر أول انتصار فى الأرض العربية، فمؤتة أول انتصار مؤزر خارج الجزيرة العربية، وهو ابتداء ليس له انتهاء أو مبتدأ له خبر. سرية ذات السلاسل 573- عندما أرسل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى بلاد الشام سرية من ثلاثة آلاف لمنع فتنة الرومان للمسلمين، ولتأديب الغساسنة الذين قتلوا رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، وأقبل الرومان فى جيش بلغ تعداده مائة ألف، وانضم من أعراب الشمال من لخم وجذام وطييء وغيرهم مما ضاعف البلاء على المسلمين، ولكن كانت الغالبة، فكانت الفئة التى تقاتل فى سبيل الله هى الغالبة، وقد ذكرنا ذلك. ما كان للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم ومن معه أن يتركوا هؤلاء الأعراب من غير تأديب، وكما قال الله تعالى: الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ (التوبة- 97) فكان لا بد أن يمنعهم من أن يسترسلوا فى الشر. أرسل عمرو بن العاص يستنفر العرب ليستميلهم إليه بذرابة لسانه، وقد رأى عمرو رجلا ألكن لم يستطع بيانا، فقال رضى الله عنه: سبحان الله خالق لسان هذا هو خالق لسان عمرو بن العاص. ولأنه كما قيل كانت له صلة ببعض هؤلاء الأعراب، ومعه عدد قليل من المسلمين.

سار حتى وصل إلى جذام، ونزل ماء السلاسل. ولكن لم يفلح فى استمالة أحد، ولم يكن كعبد الله بن رواحة يطلب من جيشه إحدى الحسنيين، ولذلك أرهبته كثرة عدوه، فلم يصنع شيئا، وأرسل إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ليبعث إليه الرجال وبقى ينتظر المدد. عندئذ بعث النبى صلى الله تعالى عليه وسلم جيشا من المهاجرين والأنصار فيهم أبو بكر وعمر، والقائد أبو عبيدة عامر بن الجراح أمين هذه الأمة. ولقد تحرك فى عمرو حب الرياسة التى ظهرت من بعد فى عهد عثمان عندما عزله، وفى عهد على التى تفرق بها وبغيرها أمر المسلمين. قال لأبى عبيدة: إنما جئت مددا لى، وهو ما أرسل فى جيش من المهاجرين والأنصار، ولكن أرسل طليعة للتعرف والاستمالة. وما كان من شأن أبى عبيدة أن يعطى رياسة الجند إلا بأمر الرسول لعمرو بن العاص الذى هو حديث عهد بالإسلام، ولكن أبا عبيدة لم يجابهه بأن الأمر له بل قال إجابة له لا، ولكنى على ما أنا عليه، وأنت على ما أنت. ولكن عمرو أصر على قوله، وقال: أنت مددى. وهنا بدت تقوى التقى المؤمن، فقال له: يا عمرو إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال لا تختلفا، وإنك إن عصيتنى أطعتك. هذه صورة عمرو فى أول إسلامه، وهى صورته عند تولى الإمرة على مصر عندما عزله ذوالنورين عثمان بن عفان، لقد قال: كنت ألقى الراعى فأحرضه عليه. وهى صورته عندما اجتمع مع معاوية ضد إمام الهدى على لأنه يعلم أن عليا لن يعطيه إمرة فى شيء. أخذ الجيش الإسلامى يطارد القبائل التى ظاهرت الروم، فتوغل الجيش الإسلامي، وكلما انتهى إلى قبيلة ولت الأدبار، ولم يصطدم إلا مرة واحدة، وانتهت بفرارهم.

سرية أبي عبيدة

وبذلك كان تأديب هذه القبائل الأعرابية، وبدت كلمة الإسلام عالية كما هى، وبذلك انتهى المراد من هذه السرية. سرية أبي عبيدة 574- فى رجب من السنة الثامنة أرسل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أبا عبيدة فى ثلاثمائة رجل إلى القبلية، على ساحل البحر الأحمر، داعيا إلى الإسلام، ومتعرفا أمر القبائل هناك، وكان فى السرية عمر بن الخطاب. ولقد أصاب أولئك الصحابة جوع فى الطريق، فلم يجدوا ما يأكلونه حتى أكلوا ورق الشجر. واشترى قيس بن سعد إبلا ونحرها لهم، وانصرفوا، ولم يلقوا حربا وما جاؤا للحرب، بل للدعوة إلى الإسلام، والعمل على نشره والتعريف به فى وسط القبائل سرية أبي قتادة 575- بعث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى شعبان من السنة الثامنة أبا قتادة الأنصارى إلى غطفان فى نحو خمسة عشر رجلا. وغطفان هى القبيلة العنيفة التى عاونت قريشا فى غزوة الخندق، وهى التى همت بأن تعاون اليهود فى خيبر، وكان منها من ناصر جيش الرومان فى مؤتة فسار إليهم هذا العدد القليل. وأمره النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بأن يشن الغارة عليهم، فكان يسير بالليل ويكمن بالنهار، حتى لقيهم فهجم على جمع عظيم منهم، وأحاط بهم، وقاتلهم قتالا شديدا فقتلوا بعضهم، واستاقوا النعم والشاة، وعادوا إلى المدينة المنورة بعد خمس عشرة ليلة، ولا شك أن الغرض من هذه السرية هو تعرف أطراف الجزيرة العربية، والدعوة إلى الإسلام حيثما ساروا، وأينما اتجهوا. فما كانت هذه السرايا للقتال، ولكن لمعرفة الأراضى الدانية والقاصية والإعلام بالإسلام للدخول فيه طوعا لا كرها. وقد بعث النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أبا قتادة الأنصارى أيضا إلى أختم على بعد ثلاثة برد من المدينة المنورة، بعثه فى رمضان وكان الغرض من إرسالها تعمية قريش عنه حتى لا تصده إذ كان بعدها فتح مكة المكرمة بليال، أو كانت فى ليلة الثانى عشر من رمضان.

انتشار الإسلام فى البلاد العربية

انتشار الإسلام فى البلاد العربية 576- كان الإسلام ينتشر فى البلاد العربية قاصيها ودانيها، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم يرسل الدعاة، والناس منهم من يستجيب مؤمنا صادقا. فيهاجر إلى المدينة المنورة ليكون قوة مع قوة المؤمنين، ومنهم من يسلم، ويذعن مستسلما من أن يسكن الإيمان قلبه، وإن ذلك كان فى الأعراب الذين لم يخالطوا أهل الإيمان ولم يجاورهم، ولم يلتقوا بالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم ليطلبوا منه، ولم يقرأوا القرآن الكريم مستمتعين بتلاوته، ولذلك قال الله تعالى فيهم: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا، قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا، وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا، وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ (14- الحجرات) . وكان من الأعراب من ينتظر أيكون الغلب للمشركين أم لمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه فهم كانوا مذبذبين بين هؤلاء وهؤلاء، ومنهم من يبلغ به العناد فى الكفر أن يجيئوا إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مظهرين أنهم يطلبون الهداية فيرسل إليهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من يحفظهم القرآن الكريم ويعلمهم الإسلام فيغدرون بهم، ويقتلونهم. كما قتلوا طائفة من القراء بلغوا سبعين. ومنهم من كانوا يأخذون المؤمنين ويبيعونهم للمشركين، كما فعل مع خبيب وأصحابه الذين باعوهم لأهل مكة المكرمة. وقتلوهم قتلة فاجرة. فكان الحق أن يقول الله تعالى: الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ (97- التوبة) وكان هذا النوع من النفاق الأعرابى متغلغلا فى الصحراء وحول مكة المكرمة. وحول المدينة المنورة ذاتها، فقد قال تعالى: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ، وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ، سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (101- البقرة) . ولقد قسم الله تعالى الأعراب قسمين متعادلين أولهما منافق جلى النفاق يحسب الزكاة مغرما ومنهم من يؤمن بالله واليوم الآخر، ويتخذ ما ينفق قربات، ولقد ذكر سبحانه وتعالى القسمين فقال تعالت كلماته وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً، وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ، وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ، أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98، 99: التوبة) وهكذا كان فى الأعراب المؤمن الطاهر، والمنافق. ومن هؤلاء المنافقين كانت الردة التى أعقبت وفاة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وكان انتشار الإسلام بين الأعراب على هذا النحو الذى بينه الله تعالى فى كتابه.

كان الأعراب بين منافق كافر غادر، وبين مسلم يتربص الدوائر، وبين مؤمن تقى طاهر، ومهما يكن أمرهم فقد كان الإسلام ينتشر مع هذا الدخل، وإن دخل الإسلام قلبا، ولو على تردد فإنه بتوفيق الله تعالى، ومن بعد ذلك يشرق إشراقا، ثم يكون من ذلك إيمانا. وإن الحروب التى وقعت بين المشركين ومحمد صلى الله تعالى عليه وسلم ومن معه من المؤمنين كانت قوارع تقرع النفوس العربية، فيهتز صداها فى النفوس، إذ خلاصتها أنها قتال بين التوحيد ديانة إبراهيم أبى العرب عليه السلام، وبانى البيت الحرام، وبين الشرك فيدعوهم إلى التفكير بين الوحدانية والشرك، وبين ملة إبراهيم محطم الأوثان، وبين عبادة الأصنام، فإن ذلك يدفع نفس العرب والأعراب إلى التفكير فى الأمر تفكيرا من غير إرهاق. وفوق ذلك فإن الحرب بين الإيمان الذى ينصره الله تعالى ويؤيده، والشرك الذى يتوالى خذلانه يدفع إلى تعرف السر فى النصر مع قلة العدد، والخذلان مع كثرته، وإن واقعة الخندق وحدها داعية إلى التفكير فى القوة الخفية التى نصرت محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم، إذ أرسل الله تعالى ريحا عاتية قلبت أوعيتهم، وخلعت أخبيتهم، وخلعت مع ذلك قلوبهم، ففروا من اللقاء فرارا، إن هذه وحدها قارعة تلفت العقول عن عبادة غير الله تعالى، لأنها تدرك أن الله مؤيد دعاة التوحيد بغير ما يقدرون، وما يقتدرون. وإن الغزوات الكبار كان بجانبها سرايا تنبث فى أنحاء البلاد العربية داعية كاشفة هادية أو مقاتلة إن رأت غدرا وخيانة. وإن كل هذا يدفع إلى التفكير فى الدين، والموازنة بينه وبين عبادة الأوثان، وإن الجمود على اتباع الآباء ولو كانوا لا يعقلون شيئا ولا يهتدون هو الذى يصم الآذان والقلوب عن إدراك الحق، فقوارع الحرب تسمع الذين فى آذانهم وقر، وعلى أبصارهم غشاوة. وإذا فتحت المدارك اتجهت إلى الطريق المستقيم، الذى لا عوج فيه، ولا أمت. وفى الحق أن دعوة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم صغت إليها قلوب الضعفاء ابتداء، ثم كانوا من بعد قوة الإسلام التى أزعجت الكفر فى مكامنه، وهدته إلى مواطن الهداية. لا نقول إن الحرب أكرهت أحدا على الإيمان، ولكن نقول إن قوة الحق أخذت غير المحاربين إلى محراب الإيمان فجاؤا إليه طائعين مختارين، ولأن انتصار المؤمنين لإيمانهم يجعل النفوس ترمقهم، والقلوب تصغى إليهم.

ولذا كانت الوفود من بعد ذلك تجيء من القرى والقبائل تعلن إيمانها، وتتعلم الإسلام، وتسمع تلاوة القرآن الكريم كما سنتكلم إن شاء الله تعالى على الوفود التى جاءت تترى والتى جاءت بنور الحق لتسمع الحق من الداعى إلى الحق، وإن ذلك كله جاء من تسامع العرب بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وكانت الحروب من أسباب ذلك. وإن انتهاء القتال بصلح ابتداء، ثم بمواجهة بين النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وبين من يعاديه هى الآخرى دعوة إلى الإسلام فى هدأة النفوس، وقرار القلوب، وقد صار صوت الحق هو وحده الذى يتكلم، وسكتت صلصلة الأسلحة، وفى هذه الهدأة وقد خبت العداوة، واطمأن الجامح، ولم تكن العداوة التى تؤجج النفوس بل السلم العزيز الذى يرطب النفوس والأفئدة. وحينئذ دخل بعض العرب، ومال الذين كانوا يحاربون النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى الإسلام، وبدأوا يفكرون بقلب سليم من الأضغان، قد استلت منه الأحقاد وسخائم النفوس، وما كان المشركون لينفروا من الإيمان إلا جحودا وعنادا. فإذا اختفى العناد كان التفكير السليم، وهو سبيل الإسلام، وكان كل أمر بعد ذلك يوجه إلى الإيمان، ولا يرنقه حقد، ولا محنة، ولا إحنة، وتوالت الأمور التى تقرب الأرحام، وتصل من كانوا قد قطعوه من رحم متوادة رحيمة. وإن عمرة القضاء التى كانت فى العام السابع دنت بها قلوب كانت متباعدة، وأذن المؤذن تكبيرا لله تعالى وحده على الكعبة الكريمة المشرفة زادها الله تعظيما، عندئذ مالت قلوب أعتى الكافرين عداوة. وإن لم يتقدموا بالإيمان، حسبك أن يكون منهم عكرمة بن أبى جهل فقد مال إلى الإسلام، وأن يعمل على إعلان إيمانه كما فعل صاحبه خالد بن الوليد، وعثمان بن طلحة، وعمرو بن العاص. فقد رأت قريش محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم يعظم البيت الحرام. ويقيم شعائره، وينحر الهدى عند المروة ويقيم المودة بدل القطيعة، ويحاول أن يقيم وليمة يتناولون فيها الطعام على مائدة الرحمن.. دخل إلى مكة المكرمة راضيا، وخرج عنها وهم راضون. وبعد أن خرج أخذت النفوس تفكر فى الإسلام، لقد وقف خالد بن الوليد يدعوهم إلى التفكير فى أمر محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، «لقد استبان لكل ذى عقل أن محمدا ليس بساحر، ولا شاعر، وأن كلامه من كلام رب العالمين، فحق على كل ذى لب أن يتبعه» . بلغ أبا سفيان ما قاله خالد، فسأله عن صحة ما سمع، فأكده، فاندفع أبو سفيان غاضبا، وقد باعد بينهما عكرمة بن أبى جهل وكان يميل فى هذه القضية إلى خالد، فقال: مهلا يا أبا سفيان أتقتلون خالدا على رأى رآه، وهذه قريش كلها عليه، والله لقد خفت ألا يحول الحول حتى يتبعه أهل مكة المكرمة.

بعث الرسائل إلى الملوك

وما حال الحول حتى كان فتح مكة المكرمة، وكان أهل مكة المكرمة على ما كان خالد، وكان أبو سفيان من المسلمين. وأخذ الإسلام يدخل مدائن العرب، وأخبيتهم ما بين مؤمن مذعن ومسلم، وكافر يعرفه ويكرهه ولم يبق إلا أن يخرج نوره من أرض العرب إلى غير العرب. وكان التدرج يقتضى ذلك، بأن يكون فى أم القرى، وما حولها، ثم يكون فى يثرب مجتمع القوى، ثم يكون فى العرب أجمعين، ويخرج من مشرق العرب إلى حيث النار والصليب، فيطفيء النار ويحطم الصليب، وتكون الكلمة لله وحده رب المشارق والمغارب. بعث الرسائل إلى الملوك 577- اتفق علماء السيرة والصحاح على أن الإرسال إلى الملوك والأمراء كان بعد الحديبية وقبل الفتح، ولكن اختلفوا أكان بعد صلح الحديبية أم كان بعد عمرة القضاء أم كان بعد مؤتة. وإن الذى نختاره أنه كان بعد عمرة القضاء، وقبل مؤتة، وذلك لأن عمرو بن العاص خرج من مكة المكرمة مريدا الهجرة إلى الحبشة بعد عمرة القضاء وقد التقى فى الحبشة بمن بعثه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى النجاشى، كما أنه التقى فى أثناء ذهابه إلى المدينة المنورة بخالد بن الوليد، وقد كانت إرادة خالد بن الوليد، الذهاب إلى مكة المكرمة وكلماته فى الدعوة إلى اتباع محمد صلى الله تعالى عليه وسلم عقب عمرة القضاء مباشرة. وإن السياق التاريخى يثبت أن الكتاب إلى ملك الروم، وأمير الغساسنة فى الشام كان قبل مؤتة لأن غزوة مؤتة كانت بسبب قتل بعض من أسلم من الشام، وبسبب قتل الرسول الذى بعثه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى أمير الغساسنة، والسبب مقدم على المسبب، فكان الكتاب بلا ريب سابقا على مسببه وهو غزوة مؤتة. وفوق هذا كله، فإن السنة الصحيحة تصرح بأن الإرسال إلى الملوك قبل مؤتة، فقد روى مسلم بسنده عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كتب قبل مؤتة إلى كسرى وقيصر، وإلى النجاشى، وإلى كل جبار يدعوهم إلى الإسلام.

كتابه إلى هرقل وأثره

كتابه إلى هرقل وأثره 578- بعث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى هرقل دحية بن خليفة بكتاب هذا نصه: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدي. أما بعد. فإنى أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين، وإن توليت، فإنما عليك إثم الأريسين.. قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً، وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64- آل عمران) . وقد كان هذا الكتاب الكريم له أثره فى أوساط الرومان، وأهل الشام ومشركى قريش، لم يأخذ هرقل الكتاب كما يأخذ ملك من رجل يخشى على ملكه منه، بل أخذه عالم يلقى خبرا له صلة بعلمه، فقد كان هرقل حزاء له علم بالملاحم والنجوم وأخبار النبيين، فكان عالما من علماء النصرانية الذين يريدون أن ينتشر الحق فى ذاته، لولا الملك وسورته. عندما وصل الكتاب إليه، أرسل يبحث عن بعض قوم محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فى البلاد الشامية فعلم بركب تجار من مكة المكرمة، على رأسهم أبو سفيان قائد الشرك، فدعاهم إلى مجلسه، وحول (هرقل) عظاماء الروم، ثم دعا أبا سفيان ومن معه ودعا الترجمان، وإليك الحديث كما جاء فى البخارى. قال هرقل بلسان الترجمان: أيكم أقرب نسبا بهذا الرجل الذى يزعم أنه نبى. فقال أبو سفيان: أنا أقربهم نسبا، فقال هرقل أدنوه منى وقربوا أصحابه عند ظهره، ثم قال لترجمانه قل لهم إنى سائل هذا عن هذا الرجل، فإن كذبنى فكذبوه، قال أبو سفيان، فو الله لولا أن يؤثروا عنى كذبة فى العرب لكذبت عنه، ولنترك الحكاية كلها لأبى سفيان. يقول: أول ما سألنى عنه أن قال: كيف نسبه فيكم. قلت هو فينا ذو نسب قال فهل قال هذا القول منكم أحد قبله؟ قلت لا. قال: فهل كان من آبائه من ملك. قلت لا، قال فأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ قلت بل ضعفاؤهم، قال أيزيدون أم ينقصون؟ قلت بل يزيدون، قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال. قلت لا، قال: فهل يغدر؟ قلت لا ونحن منه فى مدة، لا ندرى ما هو فاعل

فيها، ولم يمكنى كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه الكلمة، قال: فهل قاتلتموه؟ قلت نعم، قال فكيف قتالكم إياه؟ قلت الحرب بيننا وبينه سجال ينال منا، وننال منه. قال: ماذا يأمركم؟ قلت: يقول اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة، والصدق والعفاف والصلة. قال للترجمان بعد ذلك قل له: سألتك عن نسبه فزعمت أنه فيكم ذو نسب وكذلك الرسل تبعث فى نسب قومها، وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول قبله، فذكرت أن لا، فقلت: لو كان أحد قال هذا القول لقلت: رجل يتأسى بقول قيل قبله، وسألتك هل كان من آبائه من ملك فذكرت أن لا، فلو كان من آبائه من ملك قلت رجل يطلب ملك أبيه. وسألتك، هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال، فذكرت أن لا، فقد أعرف أنه ما كان ليذر الكذب على الناس، ويكذب على الله، وسألتك أأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم، فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل، وسألتك أهم يزيدون أم ينقصون؟ فقلت إنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم، وسألتك أيرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه، فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب، وسألتك هل يغدر؟ فذكرت أن لا وكذلك الرسل لا يغدرون، وسألتك بم يأمركم فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وينهاكم عن عبادة الأوثان ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف. فإن كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدمى هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، لم أكن أظن أنه منكم، فلو أعلم أنى أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه. كان لهذا الكلام أثره فى نفس أبى سفيان العدو المشرك، فقال: «لقد أمرّ أمر ابن أبى كبشة (زوج المرضع التى أرضعت النبى صلى الله تعالى عليه وسلم) أنه يخافه ملك الأصفر، وهذه بلا ريب كلمة الشرك، ولكن كان الكلام من هرقل له أثر أعمق من ذلك فى نفس أبى سفيان، فقد قال: ما زلت موقنا أنه سيظهر، حتى أدخل الله تعالى على الإسلام. ولكن فتحت له مغاليق كانت متكافئة فى نفسه، حتى لا تكشف فيه قلب المسلم. 579- هذا أثر الكتاب فى قلب هرقل، ونراه يصدق كل ما فيه، ويميل إلى الإسلام، وقبول ما جاء به محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، ولكن هل أذعن للحق، وقبل الإسلام دينا!! يظهر أنه حاول ذلك ولكن قومه لم يقبلوه، وتخير بين الإسلام والإذعان، وبين البقاء على الملك، فاختار الملك، وبذلك اشترى الضلالة بالهدى، فبارت تجارته عند الله. ولنذكر الأمر كما وقع، وما كان ينبغى أن يقع، ولكنه الابتلاء:

لقد كان هرقل كما قلنا عالما، وكان حزاء أوتى علم النجوم، وعلم الملاحم، وكان حين قدم من إيلياء، وهى الأرض التى التقى فيها مع أبى سفيان ومن معه من التجار- خبيث النفس، فقال بعض بطارقته قد استنكرنا هيئتك، فقال لهم إنى رأيت حين نظرت فى النجوم ملك الختان قد ظهر، وعلم من تحريه أن العرب يختتنون، فقال هرقل: هذا ملك هذه الأمة قد ظهر. وقد أرسل إلى صاحب له برومية على مثل منزلته من العلم. وسار إلى حمص، فلم يتركها حتى جاءه كتاب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. ونرى من هذا أنه كانت عنده أمارات قد علم بها بعث النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وكانت الصور التى تتراءى له أنه ملك، ولكن الله تعالى قد آتاه ما هو أعظم من ذلك، وهو النبوة التى تأتى بخير الدنيا والآخرة. وكانت هذه المعلومات سواء أكانت منتجة فى ذاتها، أم غير منتجة فإنها أثرت فى نفسه، وجعلته على استعداد لقبول الحق إذ جاء إليه، وإن المقدمات هنا، وإن كانت ظنية فى ذاتها قد مهدت لقبول الحق. اقتنع هرقل كما قلنا بأنه الحق، وأراد أن يعرضه على الملأ من قومه داعيا إليه، فأذن هرقل لعظماء الروم أن يحضروا فى دسكرة له بحمص، ثم أمر بأبوابها فغلقت ثم اطلع عليهم فقال: يا معشر الروم، هل لكم فى الفلاح والرشد، وأن يثبت لكم ملككم، فاتبعوا هذا النبى. فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب فوجدوها قد غلقت. فلما رأى هرقل نفرتهم، وأيس من إيمانهم، قال: ردوهم على، وغير وبدل من قوله ونيته، وقال: «إنى إنما قلت مقالتى آنفا أختبر بها شدتكم على دينكم، فقد رأيت، فسجدوا له ورضوا عنه» . وهكذا غلبت عليه الشقوة على الهداية، ولقد برق له نور الحق وأضاء له، فلما هم أن يمشى فيه، وقف الملك وسلطانه، فكان الظلام بعد النور، والضلالة بعد الهداية، وأمر بقتل من قتل من المسلمين وجيّش الجيوش لحرب المسلمين فى مؤتة، وفى تبوك، ومن بعد ذلك فى اليرموك ومهما يكن من أمر نهاية الكتاب بالنسبة لهرقل والملأ من قومه، فإن الإسلام قد عرف فى وسط الرومان، وعرف فى الشام، وتذاكر به الناس، وعرف ما كان من هرقل لعظماء ملته، والنور دائما يخترق الظلام مهما تكن الحجب، والغياهب والظلمات، فالكتاب أثمر ثمراته، وإن لم يكن الإيمان عاجلا، فإنه آجل والأجل قريب.

كتابه إلي كسري ملك الفرس

ومنهم من آمن، وإن لم يعرف إيمانه. يروى أن هرقل عندما جاءه كتاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أعطاه لكبير الأساقفة الذى كان صاحب أمرهم يصدرون عن رأيه وعن قوله، فلما قرأ الكتاب قال: هو والله الذى بشرنا به موسى وعيسى الذى كنا ننتظره، قال هرقل فما تأمرنى، قال الأسقف أما أنا فمصدقه ومتبعه، فقال قيصر إنه كذلك، ولكنى لا أستطيع، إن فعلت ذهب ملكى وقتلنى الروم، لم يذهب إذن الكتاب صرخة فى واد، بل كان له صدى، وظهر فيما بعد. كتابه إلي كسري ملك الفرس 580- عندما أراد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يرسل إلى الملوك وقف فى الصحابة خطيبا وبعد أن حمد الله وأثنى عليه بما هو أهله قال: أما بعد فإنى أريد أن أبعث بعضكم إلى ملوك الأعاجم، فلا تختلفوا على كما اختلف بنو إسرائيل على عيسى بن مريم. فقال المهاجرون: إنا لا نختلف عليك فى شيء أبدا، فمرنا وابعثنا. فبعث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم شجاع بن وهب إلى كسرى. وظاهر هذا الكتاب أنه أرسل إلى كسرى عقب هذا البيان النبوى، وربما يوميء إلى أن الكتاب إلى كسرى كان قبل الإرسال إلى ملك الروم، ولكنا نرجح أن الإرسال للملوك جميعا كان فى وقت واحد، وربما كان وصول الرسول إلى هرقل قبل وصوله إلى كسرى. ومهما يكن الأمر من ناحية السابق واللاحق، فإنه ثبت أنه أرسل للملكين ولغيرهما من الملوك والرؤساء. بعث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم شجاع بن وهب إلى كسرى فمضى بالكتاب إليه، ووقف أمام بابه مستأذنا مع عظاماء الفرس، وقد أذن لعظماء الفرس، ثم أذن له من بعدهم، فلما دخل أراد أن يدفعه لغيره، فأبى إلا أن يدفعه إليه بشخصه، وقال له لا حتى أدفعه أنا إليك كما أمرنى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال كسرى ادن، فدنا وناوله الكتاب ثم دعا كاتبا من أهل الحيرة فقرأه، فإذا فيه:

بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الله ورسوله إلى كسرى عظيم الفرس. «سلام على من اتبع الهدى، وشهد أن لا إله إلا الله وحده، لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وأدعوك بدعاء الله تعالى، فإنى أنا رسول الله إلى الناس كافة، لأنذر من كان حيا، ويحق القول على الكافرين، وإن تسلم تسلم، وإلا فإن عليك إثم المجوس. فلما قرأه مزقه فدعا عليه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بأن يمزق ملكه. ولم يكتف بأن مزق الكتاب، بل أراد قتل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فأرسل إلى بازام، وهو نائبه على اليمنى، أن ابعث إلى هذا الرجل بالحجاز رجلين من عندك جلدين فليأتيانى به، وحسب أن الإتيان بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم مكبلا بالحديد، أمر سهل، ونسى أن العرب فى واقعة (ذى قار) قد أذاقوه من الحرب بؤسا، ومحمد صلى الله تعالى عليه وسلم فى جنده لا يقل عن قوة العرب فى ذى قار، ولكنه غرور السطوة الذى يدلى بصاحبه حتى يجعله عبرة للمعتبرين. استجاب نائبه إلى طلبه غير المعقول فى غايته، فبعث بازام قهرمانه، وكان كاتبا حاسبا، وبعث معه رجلا من الفرس يقال له حرحورة، وكتب معهما إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يأمره أن ينصرف معهما إلى كسرى. ويظهر أن نائبه باليمن لم يكن يريد إيذاء، ولكن يريد أن يتعرف خبر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فكتب الكتاب إطاعة لكسرى، وأراد أن يتصرف لنفسه، فأراد التعرف، وهكذا يغتر الطغاة، فيحسبون أن الناس قلوبهم طوع أيديهم، مع أن قلوبهم لإلههم ولا لأنفسهم. قال نائب كسرى لمن أرسله بالكتاب إيت بلاد هذا الرجل وكلمه ائتنى بخبره، وهذا يدل على أنه لن يجيب كسرى، فغاية كسرى ليست غايته، وأنه هو يريد أن يعرف الإسلام. خرج الرجلان إلى الطائف حتى قدما عليه: فسألا عنه فقيل هو بالمدينة المنوره، واستبشر أهل الطائف بها، وقال بعضهم لبعض أبشروا، فقد نصب له كسرى ملك الملوك.. كفيتم الرجل. خرج الرجلان حتى قدما على المدينة المنورة، فقالا: شاهنشاه ملك الملوك كسرى قد كتب إلى الملك بازام (نائبه باليمن) يأمره بأن يبعث إليك من يأتيه بك، وقد بعثنا إليك لتنطلق، فإن فعلت كتب (نائب اليمن) إلى ملك الملوك يمنعك ويكفه عنك، وإن أبيت فهو من قد علمت فهو مهلكك ومهلك قومك، ومخرب بلادك. وظنا أن ذلك يرهب الرسول، إذ مثله يرهبهما، ولكن الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم لم يلتفت إلى كلامهما، لأن الله يعصمه، بل اتجه إليهما، وقد حلقا لحاهما،

وأعفيا شاربهما، فكرر النظر إليهما. وقال لهما: ويلكما من أمركما بهذا؟ قالا: أمرنا ربنا، يعنيان كسرى، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ولكن ربى أمرنى باعفاء لحيتى وقص شاربى. ثم قال لهما: ارجعا حتى تأتيانى غدا، وقد أعلم الله رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم بأن كسرى قد قتله ابنه شيرويه، وأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، عنده ذلك العلم من الله تعالى، دعاهما فأخبرهما. فقالا: هل تدرى ما تقول؟ إنا قد نقمنا عليك ما هو أيسر من هذا فنكتب عنك بهذا، ونخبر الملك بازام (نائب كسرى) . قال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: أخبراه ذلك عنى وقولا له إن دينى سيبلغ ما بلغ كسرى، وينتهى إلى الخف والحافر، وقولا إن أسلمت أعطيتك ما تحت يديك، وملكتك على قومك من الأبناء، ثم أعطى حرحورة الفارسى أحد الرسولين منطقة فيها ذهب وفضة كان أهداها له بعض الملوك. خرجا من عنده حتى قدما على بازام (نائب كسرى) فى اليمن. فقال هذا الملك النائب عن ملك الملوك. كسرى: ما هذا بكلام ملك، وإنى لأرى الرجل نبيا، كما يقول: وليكونن ما قد قال، فلئن كان هذا حقا فهو نبى مرسل، وإن لم يكن فسنرى فيه رأيا. علم الجميع أن كسرى قد قتل بيد ابنه. وقد أعلمهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك، والرسولان عنده، والأخبار عنه منقطعة عن طريق البرد وغيرها. وبينا نائب كسرى باليمن على الأمر الذى لم يصل إليه نبؤه، وهو فى تردد فى قبوله، جاءه كتاب شيرويه الابن، وجاء فى هذا الكتاب. أما بعد: فإنى قد قتلت كسرى، ولم أقتله إلا غضبا لفارس، لما كان قد استحل دم من قتل من أشرافهم، ونحرهم فى ثغورهم، فإذا جاءك كتابى هذا فخذ لى الطاعة ممن قبلك وانطلق إلى الرجل الذى كان كسرى قد كتب إليه، فلا تهجه حتى يأتيك أمرى فيه. إنه بلا شك لم يكن الابن على عزيمة أبيه فيما يتعلق بالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، بل تردد، وكل ما أمر به ألا يهيجه فلا يطلب إليه الحضور حتى يكون أمر جديد. تلك أمارات متتالية تدل على صدق النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فيما يدعو إليه من وحدانية وصدقه فى دعوى الرسالة الإلهية.

كتابه إلى النجاشى

وإن أحد الرسولين كان يتكلم باسمهما فى حضرة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم. قال: ما كلمات أحدا كان أهيب عندى منه. فكر أمير اليمن وقدر ما بين يديه من علم، وانتهى تفكيره إلى الإسلام والتسليم، وقال إن هذا الرجل لرسول، فأسلم، وأسلمت الأبناء من فارس الذين كانوا باليمن. وبذلك دخل الإسلام أرض اليمن، ووجد له فيه دعاة. وقد روى البيهقى أن شيرويه هذا الذى قتل أباه، قد استخلف من بعده ابنته، فقال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لن يفلح قوم ولوا أنفسهم امرأة. هذا كتاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأثره، وإذا كان لم يؤثر فى كسرى إلا سلبا، فقد أثر فى غيره إيجابا واستجابة، لقد أثر فى نائبه باليمن، فأسلم وهو فارسى، وأسلم من معه من الأبناء من فارس، وهم باليمن بما وصل إليه الإسلام فى شعب اليمن العربى الأصيل. ولم يكن كتاب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم صرخة فى واد، بل كان لها استجابة، وإذا كان العدد قليلا فإنه سيكون كثيرا فى اليمن وما وراءها وقد كان. كتابه إلى النجاشى 285- كتب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى النجاشى ملك الحبشة أصحمة، وقد رجا فيه الخير، لأنه أكرم أصحابه عند الهجرة إلى الحبشة، فهو يدعوه فى هذا الكتاب، وقومه، وكان قد أسلم من قبل فيما يروى الرواة، وفيما يدل عليه ما اقترن بالكتاب من قول، وهذا نص الكتاب وما دار حوله. بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى النجاشى ملك الحبشة. «فإنى أحمد الله تعالى إليك، الله الذى لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن، وأشهد أن عيسى بن مريم روح من الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة، حملت عيسى فخلقه الله تعالى من روحه، ونفخه كما خلق آدم بيده، وإنى أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، والموالاة على طاعته، وأن تتبعنى وتؤمن بالذى جاءنى، فإنى رسول الله، وإنى أدعوك وجنودك إلى الله عز وجل، وقد بلغت ونصحت، فاقبلوا نصيحتى، والسلام على من اتبع الهدى» .

هذا كتاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ورفق الدعوة، وحكمة النبوة ظاهران فيه ولقد بعثه مع عمرو بن أمية الضمرى الذى جاء بهذا الكتاب، ولأنه رفيق وكان يميل للإسلام، كان لرسول النبى صلى الله تعالى عليه وسلم شرح وتوضيح وتأكيد لمعنى الرسالة. قال له عمرو: يا أصمحة، إن على القول، وعليك الاستماع، إنك كأنك فى الرقة علينا، وكأنا فى الثقة بك منك، لأنا لم نظن بك خيرا قط إلا نلناه، ولم نخفك على شيء إلا أمناه، وقد أخذنا الحجة عليك من فيك، الإنجيل بيننا وبينك شاهد لا يرد، وقاض لا يجور، وفى ذلك الموقع الحز، وإصابة المفصل، وإلا فأنت فى هذا النبى الأمى كاليهود فى عيسى ابن مريم، وقد فرق النبى صلى الله تعالى عليه وسلم رسله فى الناس فرجاك لما لم يرجهم، وأمنك على ما خافهم عليه، بخير سالف، وأجر ينتظر. أجابه النجاشى إجابة المؤمن فقال: «أشهد أنه النبى الأمى الذى ينتظره أهل الكتاب، وأن بشارة موسى براكب الحمار، كبشارة عيسى براكب الجمل، وأن العيان ليس أشفى من الخبر..» وأردف ذلك بأن حمل عمرو بن أمية كتابا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. وهذا نص الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم إلى محمد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم- من النجاشى أصحمة سلام عليك يا نبى الله من الله، ورحمة الله وبركاته، الله لا إله إلا هو. أما بعد فقد بلغنى كتابك يا رسول الله فيما ذكرت من أمر عيسى، فورب السماء والأرض إن عيسى لا يزيد على ما ذكرت، إنه كما ذكرت، وقد عرفنا ما بعثت به إلينا، وقد عرفنا ابن عمك (أى جعفر بن أبى طالب) وأصحابك فأشهد أنك رسول صادقا مصدقا، وقد بايعتك، وبايعت ابن عمك وأسلمت على يديه لله رب العالمين» . كانت إجابة النجاشى صريحة واضحة، وقد كان الكتاب إليه، وإلى جنوده والملأ من قومه، وقد أسلم هو، ودعا من معه، ولم يكرههم على الإيمان، ولكن اكتفى بالدعوة من غير إكراه، لأن الله تعالى يقول: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ (256- البقرة) فبين هذا الرشد، وكان ملكا عادلا أمن الناس وآمن بالله تعالى واستجاب لكلمة الحق من غير تلكؤ ولا تردد. ولم يؤمن قومه.

كتاب رسول الله صلي الله تعالى عليه وسلم إلى المقوقس

كتاب رسول الله صلي الله تعالى عليه وسلم إلى المقوقس 582- استمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى الإرسال إلى الملوك والرؤساء لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين، فكان يرسل إلى الرؤساء والملوك، كما رأيناه أرسل إلى هرقل وكسرى والنجاشى، فمنهم من اهتدى، ومنهم من ضل، وممن أرسل إليهم المقوقس عظيم القبط الذين كانوا يرزحون فى حكم الرومان، ويضطهدون فى دينهم. اضطهدوا من وثنية الرومان ثم اضطهدوا من مذهبهم عندما التقوا فى دين واحد. بعث إليه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مع حاطب بن أبى بلتعة هذا الكتاب. بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد عبد الله ورسوله إلى المقوقس عظيم القبط. سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإنى أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم أهل القبط (قل) يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً، وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64- آل عمران) . ولقد ذكر حاطب بن أبى بلتعة أنه أكرمه، وأنزله فى منزله، وأقام عنده. جمع بطارقته مع حاطب ووجه إليه أسئلة تتعلق بالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم وقومه، وسأله حاطب عما يتعلق بعيسى مع بنى إسرائيل. قال المقوقس، هلم أخبرنى عن صاحبك، أليس هو نبيا. قلت بل هو رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. قال فما له حيث كان هكذا لم يدع على قومه حيث أخرجوه من بلده إلى غيرها. قال حاطب: عيسى بن مريم ألست تشهد أنه رسول الله؟ قال: بلى، قلت: فما له حيث أخذه قومه، فأرادوا أن يصلبوه ألا يكون دعا عليهم. قال المقوقس: أنت حكيم قد جاء من عند حكيم. أخذ بعد ذلك يتكلم حاطب بن أبى بلتعة فى معنى الكتاب الذى يحمله من الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام. قال:

إنه كان قبلك رجل يزعم أنه الرب الأعلى، فأخذه الله تعالى نكال الآخرة والأولى، فانتقم الله تعالى به، ثم انتقم منه، فاعتبر بغيرك، ولا يعتبر غيرك بك. قال المقوقس: إن لنا دينا لن ندعه إلا لما هو خير منه. قال حاطب: ندعوك إلى الإسلام الكافى به الله عما سواه، إن هذا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم دعا الناس فكان أشدهم قريش وأعداهم له اليهود، وأقربهم منه النصارى، ولعمرى ما بشارة موسى بعيسى إلا كبشارة عيسى بمحمد عليه الصلاة والسلام، وما دعاؤنا إياك إلى القرآن الكريم إلا كدعائك أهل التوراة إلى الإنجيل، وكل نبى أدرك قوما فهم أمته، فالحق عليهم أن يطيعوه، وأنت ممن أدركه هذا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. قال المقوقس: إنى قد نظرت فى أمر هذا النبى فوجدته لا يأمر بمزهود فيه، ولا ينهى عن مرغوب فيه، ولم أجده بالساحر الضال، ولا الكاهن الكاذب، ووجدت معه آيات النبوة بإخراج الجن، والإخبار بالنجوى، وسأنظر. وأخذ كتاب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فجعله فى حق من عاج، وختم عليه، ودفعه إلى جارية. ومن بعد ذلك دعا كاتبا له يحسن العربية، فكتب إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم ... لمحمد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط. سلام عليك، أما بعد فقد قرأت كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه، وما تدعو إليه، وقد علمت أن نبيا بقى، وكنت أظن أنه يخرج من الشام، وقد أكرمت رسولك، وبعثت إليك بجاريتين، لهما مكان فى القبط عظيم، وبكسوة وأهديت إليك بغلة لتركبها، والسلام عليك» . هذا ما كتبه المقوقس، وهو يدل على أنه كصاحبه هرقل قد اقتنع بالقرآن الكريم والإسلام، ولكن تردد فى القبول، وتلطف فى الرد، وبنى تردده على أنه كان يظن أنه سيخرج من الشام. وكانت إحدى الجاريتين مارية القبطية التى كان إبراهيم بن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم منها، وأشهر الروايات أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أعتقها وتزوجها.

كتابه إلى المنذر بن ساوى

كتابه إلى المنذر بن ساوى 583- ذكر الواقدى فى تاريخه بإسناده عن عكرمة مولى عبد الله بن عباس أنه وجد كتابا فى كتب عبد الله بن عباس بعد موته فنسخه، فتبين فيه أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بعث العلاء ابن الحضرمى إلى المنذر بن ساوى وكتب إليه كتابا يدعوه فيه إلى الإسلام، ولم يذكر أنه عثر على نص كتاب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ولكن وجد رد ابن ساوى، ثم رد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وإليك كتاب المنذر: إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أما بعد يا رسول الله فإنى قرأت كتابك على أهل البحرين، فمنهم من أحب الإسلام وأعجبه، ودخل فيه، ومنهم من كرهه، وبأرضى يهود ومجوس فأحدث إلىّ فى ذلك أمرك. فكتب إليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى المنذر بن ساوى. سلام عليك فإنى أحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله. أما بعد فإنى أذكرك الله عز وجل، فإنه من ينصح إنما ينصح لنفسه، وأنه من يطع رسلى، ويتبع أمرهم، فقد أطاعنى، ومن نصح لهم فقد ينصح لى، وإن رسلى قد أثنوا عليك خيرا، وإنى قد شفعتك فى قومك، فاترك للمسلمين ما أسلموا عليه، وعفوت عن أهل الذنوب فاقبل، وإنك مهما تصلح لا نعز لك عن عملك، ومن أقام على يهودية أو مجوسية، فعليه الجزية. وقد دل خبر هذا الكتاب على أن عبد الله بن عباس كان حريصا على أن يكتب كتب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ويحفظها فى خزانة كتبه، وأنه يعلن للناس ما يعلن وهو الأكثر، وقد يبقى ما لا يعلن، ودل الكتاب على أنه مرسل لأهل البحرين، وأن المنذر بن ساوى كان واليها، ويدل على استجابة الوالى لدعوة الإسلام، وأن الجزية تفرض على اليهود والمجوس، وتدل على أمر آخر هو الحكمة وهو أن أبقى الوالى الذى سارع إلى الإسلام فى إمرته، ليكون أميرهم، ولم يرسل واليا من كبار الصحابة أو غيره، وذلك ليشعروا أنه ليس أجنبيا مسيطرا، ولكنه من أنفسهم، وما دام مستقيما فإنه أجدر لعلمه بنفوسهم، وخبرته بأحوالهم، وأن يأتيهم من حيث يألفون ويعرفون. وفى الخبر ما يدل على فرض الجزية على الذين لا يؤمنون، إذا كانوا فى ولاية مسلم وهم هنا اليهود والنصارى والمجوس، وقد أجمع الفقهاء على فرض الجزية عليهم، وأجاز أبو حنيفة فرض الجزية على الوثنيين غير العرب قياسا على المجوس.

الكتاب إلى ملك عمان

الكتاب إلى ملك عمان 584- لم يكن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ينى عن الدعوة إلى الإسلام فى الحواضر والبوادى، وأهل الوبر، وأهل المدر، كما رأيت فى كتابته للملوك. لقد أرسل إلى عمان باليمن، وكان عليها أميران هما جيفر وعبد ابنا الجلندى وقد أرسل لهما كتابا حمله عمرو بن العاص، وهذا نص الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الله إلى جيفر وعبد ابنى الجلندى. سلام على من اتبع الهدى. أما بعد، فإنى أدعوكم بدعاية الإسلام، أسلما تسلما فإنى رسول الله إلى الناس كافة لأنذر من كان حيا، ويحق القول على الكافرين، فإنكما إن أسلمتما، وليتكما، وإن أبيتما أن تقرا بالإسلام، فإن ملككما زائل عنكما وخيلى يحل بساحتكم وتظهر نبوتى على ملككما. كتب الكتاب أبى بن كعب، وختم الكتاب. يقول عمرو بن العاص، خرجت حتى انتهيت إلى عمان، فلما قدمنا عمد إلى عبد أحد الأخوين وكان أحلم الرجلين وأسهلهما خلقا، فقلت: إنى رسول من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إليك، وإلى أخيك. فقال: أخى المقدم على بالسن والملك، وأنا أوصلك إليه، حتى يقرأ كتابك. ثم قال: وما تدعو إليه، قلت: أدعوك إلى الله وحده، لا شريك له، وتخلع ما عبد من دونه، وتشهد أن محمدا عبده ورسوله. قال عبد: إنك ابن سيد قومك، فكيف صنع أبوك، فإن لنا فيه قدوة، قلت: مات ولم يؤمن بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم، ووددت أنه لو كان أسلم، وقد كنت أنا على مثل رأيه حتى هدانى الله تعالى إلى الإسلام. فسألني: فمتي تبعته؟ قلت: قريبا، عند النجاشي، وأخبرته أن النجاشي قد أسلم، قال: فكيف صنع بملكه، فقلت أقروه واتبعوه. قال والأساقفة والرهبان تبعوه، قلت نعم. قال: يا عمرو إنه ليس من خصلة فى الرجل، أفضح له من الكذب، قلت: ما كذبت، وما نستحله في ديننا.

قال: هل علم هرقل بإسلام النجاشى. قلت: بلي، قال بأى شيء علمت ذلك؟ قلت: كان النجاشى يخرج خرجا له، فلما أسلم وصدق بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم منعه وقال: والله لو سألنى درهما واحدا ما أعطيته، فبلغ هرقل قوله، فقال له أخوه (أى هرقل) : أتدع عبدك لا يخرج لك خرجا ويدين بدين غيرك، دينا محدثا. قال هرقل: رجل رغب فى دين، فاختار لنفسه ماذا أصنع به، والله لولا الضن بملكى لصنعت كما صنع. قال: انظر ما تقول يا عمرو. قال عمرو: والله صدقتك. قال عبد: فأخبرنى ما الذى يأمر به وينهى عنه. قلت: يأمر بطاعة الله عز وجل، وينهى عن معصيته، ويأمر بالبر، وصلة الرحم، وينهى عن الظلم والعدوان وعن الزنا، وعن الخمر، وعن عبادة الحجر والوثن والصليب. قال: ما أحسن هذا الذى يدعو إليه، لو كان أخى يتابعنى عليه، ركبنا حتى نؤمن بمحمد ونصدق به ولكن أخى أضن بملكه من أن يدعه، ويصير ذنبا. قلت: إنه إن أسلم ملكه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على قومه فأخذ الصدقة من غنيهم، فيردها على فقيرهم. فقال: إن هذا لخلق حسن. ما الصدقة، فأخبرته بما فرض رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى الصدقات فى الأموال، حتى إلى الإبل، قال: وتؤخذ من سوائم مواشينا التى ترعى الشجر، وترد على المياه فقلت نعم. فقال: والله ما أرى قومى فى بعد دارهم، وكثرة عددهم يطيعون هذا. وبعد هذه المناظرة والتحريات التى قام بها الأخ الأصغر، ودلت على ميله للدخول فى الإسلام اتجه عمرو بن العاص إلى مقابلة الأخ الأكبر، وهو الأمير على هذه الديار، ولنترك القول لعمرو فإنه حسن الحكاية لما حصل. مكثت ببابه أياما، وهو يصل إلى أخيه فيخبره بكل خبرى، ثم إنه دعانى (أى الأمير وهو الأخ الأكبر) دعانى، فدخلت عليه، فأخذ أعوانه بضبعى، فقال: دعوه، فأرسلت فذهبت، فذهبت لأجلس، فأبوا أن يدعونى أجلس، فنظرت إليه فقال: تكلم، فدفعت إليه الكتاب مختوما ففض خاتمه وقرأه حتى انتهى إلى آخره، ثم دفعه إلى أخيه، فقرأه مثل قراءته، إلا أنى رأيت أخاه أرق منه.

قال الأمير: ألا تخبرنى عن قريش كيف صنعت، فقلت اتبعوه، إما راغب فى الدين، وإما مقهور بالسيف. قال: ومن معه، قلت: الناس قد رغبوا فى الإسلام، واختاروه على غيره وعرفوا بعقولهم مع هدى الله تعالى إياهم أنهم كانوا فى ضلال، فما أحد منهم بقى غيرك فى هذه الخرجة، وإنك إن لم تسلم اليوم وتتبعه توطئك الخيل وتبيد خضراءك، فأسلم تسلم ويستعملك على قومك، ولا تدخل عليك الخيل والرجال. قال الأمير: دعنى يومى هذا وارجع إليّ غدا. فرجعت إلى أخيه فقال: يا عمرو إنى لأرجو أن يسلم إن لم يضن بملكه. حتى إذا كان الغد أتيت إليه فأبى أن يأذن لى. فانصرفت إلى أخيه، فأخبرته أنى لم أصل إليه، فأوصلنى إليه. قال الأمير: إنى فكرت فيما دعوتنى إليه، فأنا أضعف العرب، إن ملكت رجلا ما فى يدى، وهو لا يبلغ خيله هاهنا، وإن بلغت خيله لقيت قتالا ليس كقتال من لاقى. قلت: وأنا خارج غدا. فلما أيقن بمخرجى، خلا به أخوه، فقال: ما نحن فيما ظهر عليه، وكل من أرسل إليه قد أجابه، فأصبح فأرسل إليّ، فأجاب إلى الإسلام هو وأخوه جميعا، وصدقا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وخليا بينى وبين الحكم فيما بينهم، وكانا لى عونا. وقد نقلنا المحاورات التى كانت بين عمرو بن العاص، والأميرين، اللذين مال أحدهما إلى الإسلام ابتداء، ومال الثانى إليه انتهاء، وأسلما وحسن إسلامهما. وإن هذه المحاورة والاستجابة لما فى الكتاب تدل على أن الإسلام قد تغلغل فى نفس العربى ما بين مؤمن به وناظر إليه، ومخادع فيه، وإنه كان موضع تفكير المفكرين. وإن هذه المحاورة تدل على أنهم كانوا من النصارى، وأن هرقل لأنه ملك أكبر دولة مسيحية كان له هيمنة على نصارى الشرق، فمصر تابعة له، والحبشة له خرج على النجاشى ملكها. ويدل أيضا على إيمان النجاشى بأنه لا ولاية لغير المسلم على المسلم، ولذلك رفض أن يرسل الذى كان عليه أن يؤديه، وقال له فى قوة وحزم: لا أدفع درهما.

كتابه عليه الصلاة والسلام إلى صاحب اليمامة

ويدل أيضا على سعة تفكير هرقل، ورفضه أن يثير حربا لأجل الخرج الذى كان يقدمه تابع له، لأنه اتبع دينا آخر وظهر ميله للإسلام واعتقاده بأنه صدق، وكان يعلن ذلك لوصيه بملكه، ومهما يكن أمر إسلامه، فإنه يظهر بمظهر رجل حر الفكر والرأى يقدر حرية التدين فى غيره، كما يقدرها فى نفسه. وفى الكلام ما يوميء إلى أن هذا الكتاب كان بعد فتح مكة المكرمة، لأنه سأله عن قريش اتبعوا محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم أم لم يتبعوه، فأجاب عمرو بأنهم اتبعوه، إما رغبا وإما قهرا، وإن ذلك كان بعد الفتح لا ريب فى ذلك. وأنه يبدو بلا ريب أن عمرو بن العاص كان ذا فراسة قوية عندما اختار أحد الأميرين وهو الأصغر، عندما ابتدأه فى تقديم الكتاب، فعن طريقه أقنع أخاه ذا الصلف والكبرياء. ويلاحظ أن عمرا كان شديدا فى قوله عندما خاطب الأمير الأكبر، ولعل ذلك من أنفة العربى إذ منعه الملك من الجلوس، وأبى إلا أن يقدم كتاب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو واقف، فلم يرد أن يكون ذليلا. ولم يضر ذلك بقضية الإسلام لأنه كان يستعين بأخى الأمير الذى أبدى لينا غير منتظر، وأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لم ين عن الدعوة، وسط الحروب وفى تدبير الدولة. كتابه عليه الصلاة والسلام إلى صاحب اليمامة 585- أرسل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مع سليم بن عمرو العامرى كتابا إلى صاحب اليمامة هوذة بن على، وكان نص الكتاب: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هوذة بن على سلام على من اتبع الهدى. اعلم أن دينى سيظهر إلى منتهى الخف والحافر، فأسلم تسلم، وأجعل لك ما تحت يدك» . فلما قدم عليه سليط حامل الكتاب وكان مختوما أنزله وحياه وبعد أن قرأ الكتاب ودعاه رد على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بكتاب جاء فيه «ما أحسن ما تدعو إليه، وأجمله، والعرب تهاب مكانى، فاجعل لى بعض الأمر أتبعك» . وأجاز سليطا الرسول بجائزة، وكساه أثوابا من نسيج هجر.

قدم الرسول على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ومعه الكتاب والهدايا، فلما قرأ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، امتنع عن أن يعطيه جزآ من الأرض. وبعد فتح مكة المكرمة، علم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بالوحى أن هوذة صاحب هذا الكتاب الطامع قد مات وقد ذم رجال اليمامة، وقال أما إنه سيخرج بها كذاب سينتهى بقتله. قال بعض الصحابة: ومن يقتله؟ قال له النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: أنت وأصحابك. وإن نبوءة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كانت صادقة، فإن الأعراب كانت فيهم ردة، وكانت اليمامة ذات ضلع فيها، وقام الصديق خليفة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعزمة كانت عز الإسلام وبها صار قارا ثابتا، وقد حفظ الله تعالى بأبى بكر قوة الإسلام، وعزته وقالها قولة حازمة جازمة: «إما سلم مخزية، وإما حرب مجلية» . 586- وقد أرسل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم غب الحديبية إلى أمير الغساسنة بكتاب فيه هذا المعنى. وهو الدعوة إلى الإسلام، ولم يذكر كتاب السيرة أأجاب إلى الهدى أم لم يجب. ونحن ذكرنا كتابته إلى الملوك، والأمراء والرؤساء وردهم عليه صلى الله تعالى عليه وسلم، ما بين مستجيبين ومترددين مجاملين فى الرد وإن لم يؤمنوا، وجاحدين كافرين معاندين مريدين إنزال الأذى بالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم قاصدين الكيد، فرد الله تعالى كيدهم فى نحورهم. وتركنا مؤقتا الكلام فى المغازى لأسباب ثلاثة: أولها: أن المقصود من الرسالة المحمدية هو تبليغ الدعوة إلى الإسلام وما كانت الحروب إلا لحماية الدعوة ولمنع الكافرين من أن يفتنوا المؤمنين فى دينهم، كما فعل مشركو مكة المكرمة ونصارى الشام. فما كانت الحرب مشروعة لذاتها، ولكن كانت دفاعا وحماية للدعوة، وهى المقصود أولا وبالذات. ثانيها: أن هذه المكاتبات والرد عليها تبين مدى انتشار الدعوة، وإيمان الناس واستجابتهم، فقد رأيت بعضهم يستجيب فورا، وبعضهم يستجيب ويسأل عن حكم الشريعة فى أمر من تحت يده من اليهود والمجوس كابن ساوى، ومنهم من كان يتردد فى الاتباع، ثم ينتهى بالإذعان هو وقومه. ورأينا صاحب اليمامة يساوم، وكانت موضع الردة هى وبنو حنيفة، وقد تنبأ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك، فكان منهم رأس الفتنة فى الردة.

الذمى

ثالثها: أننا رأينا أمراء العرب، أو جلهم كانوا أكثر استعداد للإجابة من غيرهم، وأن النصارى منهم كانوا أميل إلى الإجابة، وأبعد عن التعنت وخصوصا الذين كانوا يعلمون علم الكتاب، ويدرسون المسيحية فى أصلها الأول، وإن لم يكونوا غير مذكورين فى التاريخ. وإنه فى الجملة قد أخذت الدعوة الإسلامية تعم بلاد العرب كلها، وإذا كان قد أرسل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بعد ذلك مجاهدين، فقد كان عملهم تعليم الإسلام، كما سنتكلم عن غزوات النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى اليمن بقيادة على بن أبى طالب، ومعاذ بن جبل رضى الله تعالى عنهما. لقد كانت الاستجابة سريعة، والإجابة صادقة، إذ لم يكن منهم من بعد ذلك ردة كأهل اليمامة، وكان فيهم علم. الذمى 587- جاء فى رد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم على المنذر بن ساوى عندما سأله عن اليهود والمجوس، الذين يريدون الإقامة تحت سلطانه، ماذا يصنع بهم. فذكر له النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يبقيهم مع الاحتفاظ بشعائر دينهم، وألا يضاروا فى تدينهم، على أن يدفعوا الجزية. وقد تكلمنا فى الجزية بكلمات مجملة، تليق بكتاب مكتوب فى سيرة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، وإن الذى يبقى فى ظل المسلمين مقدما للأمير المسلم حق الطاعة، يسمى ذميا. ذلك أن العهود التى يعقدها المسلمون أقسام ثلاثة: أولها: العهد مع دولة غير إسلامية بهدنة، أو عدم اعتداء، كالعهد الذى كان بين المشركين والمسلمين فى صلح الحديبية، ويمكن عقده مع أى دولة أخرى غير دولة الشرك فى قريش. وثانيها: عهد سلم مع المسلمين، بأن يجيبوا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى دعوته إلى الإسلام أو الحرب بأن يرضوا العهد بدل القتال، على أن يبقوا آمنين، لا يعتدون على المسلمين، ولا يظاهرون عليهم. وثالثها: عهد يعطى للآحاد حق أن يقيموا مع المسلمين يكون لهم مالهم وعليهم ما عليهم، وتطلق لهم حرية التدين، وإقامة شعائر دينهم غير مضارين ولا محاربين، ويكونون فى الرعوية الإسلامية، كما يعبر الكتاب فى القوانين الدولية الآن.

وسمى هؤلاء ذميون، لأن لهم ذمة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم يقول «من آذى ذميا، فأنا خصمه يوم القيامة ومن خاصمته خصمته» . ولقد كانت لهؤلاء الذميين رعاية خاصة احتفاظا بحرمات الأديان. وقد قرر الفقهاء جواز عقد الذمة لليهود والنصارى والمجوس، وقد عقد الذمة لأهل الكتاب من اليهود والنصارى، بنص القرآن الكريم، فقد قال تعالى فى ذلك: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ. (التوبة- 29) فثبت بهذا أن أخذ الجزية يعفيهم من القتال، وقد شرحنا ذلك عند الكلام فى أخذ الجزية. أما أخذ الجزية من المجوس، وغيرهم كأهل الكتاب، فى أن يكونوا ذميين وتؤخذ الجزية منهم فإنه ثبت ذلك عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى كتابه للمنذر بن ساوى، وفى غيره من الأخبار والأحاديث. ومشركو العرب يقتلون أو يسلمون حتى لا يكون فى الأرض العربية دينان وتكون خالصة للإسلام والمؤمنين، لأنها أرض الإسلام، منها انبعث، وإليها يعود. بقى حكم الوثنيين غير العرب كالهنود وعبدة النجوم وكالبوذيين الذين يعبدون بوذا وتمثال بوذا إلى غير هؤلاء، فقد قرر أبو حنيفة وأصحابه أن الجزية تؤخذ منهم، ويكونون ذميين، وذلك بالقياس على المجوس، لأنهم ليسوا أسوأ حالا من عبدة النار، فليس عبدة الشمس بأسوأ من عبدة النار، وكذلك غيرهم، وإلى هذا الرأى نميل. وإن الذمة عقد يثبت بالأمان والإقامة، وهو يوجد التزاما على ولى الأمر من المؤمنين بأن يتركهم وما يدينون، لا يضطهدون فى شعائرهم بل يقيمونها، وأن يعاملوا معاملة المؤمنين فى التمكين من الحياة وحمايتهم فى أنفسهم وأموالهم وحرماتهم، وأنكحتهم، وكل شؤون أسرتهم فيما بينهم، ولا يحرمون من حق وعليهم أن يلتزموا أولا بكل الأحكام الإسلامية، فتطبق عليهم العقوبات الإسلامية كاملة، يطبق عليهم القصاص، وتطبق عليهم الحدود كلها: حد السرقة، وحد الزنا، وحد القذف، فيقام عليهم إن قذفوا محصنة أو محصنا من المسلمين، ويحدون حد قطاع الطريق. وتطبق عليهم الأحكام الإسلامية فى المعاملات من بيوع وإجارة ومداينات، ولا يأكلون الربا، ويخضعون معاملاتهم لأحكام ربا البيوع.

وألا يظهروا مخالفة الشريعة الإسلامية معلنين ذلك بألا يقيموا بيوتا للأوثان أو النيران بين المسلمين، وفى الجملة لا يظهرون بما قد يفتن المسلمين فى دينهم. ولا يكون من هم أى خيانة للمسلمين، فلا ينتموا لدولة غير إسلامية تحارب الإسلام، ولا يناصروها وإن ذلك محادة للإسلام وأهله، ويجب أن يكون ولاؤهم للدولة الإسلامية، كولاء المسلمين لتحقق القاعدة الإسلامية: لهم ما لنا، وعليهم ما علينا. ويلتزمون بألا يكون منهم سب للإسلام، ولا للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، ولا لأى أحد من صحابته، فإن كانوا فهم على عهدهم وأمنهم، وإلا ينبذ إليهم، ولا يقيموا فى ظل الإسلام، أو ينالهم العقاب. ويلتزمون بألا يلحقوا بدار الحرب، وإلا كانوا أهل حرب، ولا يكونوا أهل ذمة. وفى الجملة يجب عليهم ما يجب على المسلم على سواء، وقد قال أبو حنيفة لهم أن يشربوا الخمر. وتكون مالا متقوما بالنسبة لهم، بحيث إذا أراقه مسلم وجب عليه دفع قيمته، والخنزير لهم أن يأكلوه، وهو مال متقوم بالنسبة لهم، وإذا اعتدى مسلم وقتل خنزيرا فعليه قيمته، كما لو قتل شاة لمسلم. وقال أبو حنيفة: نكاح بعض المحرمات فى الإسلام صحيح إذا كانوا يعتقدون صحته، وإذا ترافعوا إلى القاضى المسلم فى نفقة زوجية بناء على هذا النوع من النكاح حكم بها، وإذا ترافعوا بنسب كذلك حكم به، وذلك تطبيق للقاعدة الفقهية، أمرنا بتركهم وما يدينون، ويجوز لولى الأمر المسلم أن يعين قاضيا من بينهم يقضى بينهم. وإذا اتفقوا على أن يتحاكموا لدى القاضى المسلم حكم بينهم لقوله تعالى فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ، وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ، فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً (المائدة- 42) . وإذا كانوا يخاصمون مسلما، لا يحكم بينهم إلا القاضى المسلم، حفظا لحق المسلم، ولكمال الولاية عليه. ولأنه لا ولاية لغير المسلم على المسلم. وإذا كان خصمان من الذميين وطالب أحدهما أمام القاضى المسلم ألزم الآخر عند بعض الفقهاء، لأنه يكون كما إذا كان الخصم مسلما. وقال آخر لا يلزم. لأن له قاضيا يقضى بينهم. وأحسب أن تعيين قاض لهم إنما هو فى شؤون الأسرة، وأمور دينهم.

الفتح المبين

وأما ما يتعلق بالمعاملات العامة كالبيوع والإجارات وغيرها فإن القضاء فيها لا يكون إلا للقاضى المسلم لتحقيق المساواة الكاملة بينهم وبين المسلمين. ومسألة جواز أن يشربوا الخمر ويأكلوا الخنزير، هى رأى أبى حنيفة وحده، لأنا أمرنا أن نتركهم وما يدينون، ولأن عمر بن عبد العزيز الحاكم العادل سأل الحسن البصري: ما بالنا تركنا أهل الذمة يأكلون الخنزير ويشربون الخمر، وينكحون بناتهم؟ قال الحسن البصرى: على هذا أخذنا الجزية إنما أنت متبع لا مبتدع. ولكن الجمهور الأعظم من الفقهاء منعوا ذلك- وذلك لأن لهم مالنا وعليهم ما علينا. والحمد لله. الفتح المبين 588- هو فتح مكة المكرمة فى شهر رمضان حيث ابتدأ السير إليها فى العاشر منه، ووصل إليها فى الليلة الثالثة عشرة منه، وهو لم يكن فتح قتال، بل كان فتح قلوب، وأوسع فتح للدعوة إلى الإسلام فما كان قتل وقتال إلا خطأ، ومن غير تدبير وتعمد من الصحابة الأولين، بل كان أمنا وسلاما، وتلاقى قلوب قد فرق بينها الجحود، واستضعاف الضعفاء، ومقاومة الإيمان فلما دخل محمد صلى الله تعالى عليه وسلم مكة المكرمة، وهو يقول أنا نبى المرحمة وأنا نبى الملحمة ألقى إليهم السلام والإكرام، وتلاقت العشائر التى تخاصمت ثم تهادنت، ثم سالمت ثم آمنت وإن هذا بلا شك كان نهاية الفتح، ولم يكن فى الظاهر ابتداءه، بل كان الظاهر هو إرادة القتال، إذ جاء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى عشرة آلاف من المجاهدين، وما كانوا هازلين، بل كانوا جادين، ولكن عند التلاقى غمدت السيوف عن القتل، وفتحت القلوب للدخول فى دين الله أفواجا أفواجا. ولذا كان السؤال: لم كان القتال؟، وقد كان عهد لا ينقض إلا بسبب من التزامات هذا العقد، وما كان لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن ينقض إلا بأسباب منه لأن الله تعالى يقول فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ (التوبة: 7) ولم يستقيموا، فكان هذا خيانة، فكان عليه أن يعمل بقول الله تعالى، وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً، فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ (الأنفال- 85) ، ولم يكن ثمة خوف خيانة، بل خيانة بالفعل فى جزء من العقد. والعقد كل يكمل بعضه بعضا، فإذا دخل الغدر جزآ منه، فقد دخل النقض كله، وفقد الالتزام من الجانب الآخر كل إلزام به، إذ نقض الأول جزآ منه يبطله، ولو كان العهد يبقى ملزما، مع نقض جزئه، لتوالى النقض على كل أجزائه، فلا يبقى للعقد معنى ولا صورة، ويذهب هباء منثورا، وتتبدد أوراقه فى أدراج الرياح.

نقض قريش لصلح الحديبية:

نقض قريش لصلح الحديبية: 589- هذا هو السبب الجوهرى، لقد نقضوا فقرة من فقراته، فنقضوه كله، على النحو الذى بيناه من أن كل عهد كل لا يتجزأ، نقض بعضه نقض لكله. ذلك أنه كان فى العقد أن من أراد أن يدخل فى عقد قريش وعهدهم دخل، ومن أحب أن يدخل فى عقد محمد صلى الله تعالى عليه وسلم دخل، فيكون من يدخل فى عقد أحد الفريقين له حقوق العقد، وعليه التزاماته، فدخلت خزاعة فى عهد محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، ودخل بنو بكر فى عقد قريش. وكان بهذا حقا على قريش ألا تعتدى على خزاعة، وكذلك على الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وكان ثمة إحن جاهلية بين بنى بكر وخزاعة، عدت فيها خزاعة على بنى بكر فقتلت، وعدت مثلها على خزاعة فقتلت، ثم كانت من بعد ذلك معركة، كان الغلب فيها لخزاعة. وكانت العداوة قائمة، فلما جاء الإسلام وحاربت قريش النبى صلى الله تعالى عليه وسلم والذين آمنوا، شغلوا بحربه، وكانوا على ضغن. فلما كانت الهدنة، كانت خزاعة تحس من قريش نفرة ومعاونة لعدوها، فدخلت فى عقد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وكان بهذا العهد عليه حمايتها فى دائرة العقد، وكان بنو بكر على وداد مع قريش فدخلوا فى عقدها. وكان صلح الحديبية مغريا بالانتقام اتخذه بنو بكر فرصة انتهزوها ولم يعلموه عهدا عليهم يلتزمون بمبادئه. اعتدى بنو بكر على خزاعة، ورفدتهم قريش بالسلاح، ثم قاتلوا معهم مستخفين ليلا، منهم صفوان بن أمية، وحويطب بن عبد العزى، ومكرز بن حفص. وما زالوا يقاتلون حتى انحازوا إلى البيت، وكان حقا عليهم أن يمنعوا القتال فى البيت الحرام الذى جعله الله حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم، ولكن قائدهم نوفل بن معاوية قاتل مع اعتراض بنى بكر، إذ قالوا له: يا نوفل إنا دخلنا الحرم إلهك. فقال كلمة كبيرة، بل فاجرة، قال: لا إله اليوم، يا بنى بكر أصيبوا ثأركم فلعمرى إنكم لتشرقون فى الحرم، فلا تصيبون ثأركم فيه.

ولجأ بنو خزاعة إلى داخل دار بديل بن ورقاء الخزاعى ودار مولى لهم وكانت هذه مقتلة فاجرة. وخرج رجل من بنى خزاعة اسمه عمرو بن سالم الخزاعى حتى قدم على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. وبذلك حدثت أمور استوجبت أن يقف النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مع الذين فى عهده ضد بنى بكر ابتداء، ومن أعانوهم. لقد ارتكب بنو بكر خيانة العهد. والقتال فى البيت الحرام. وعاونتهم قريش فيما ارتكبوا من خيانة عهد وإصابة للحرمات. فما كان للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يسكت على هذا الضيم الذى ينزل بأهل عهده من أعدائهم، وبمعاونة قريش. خرج بديل بن ورقاء الخزاعى إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الذى لجأوا إلى داره فى نفر من خزاعة بعد عمرو بن سالم، فأخبروه كما أخبره من قبل عمرو بن سالم بما أصيبوا به من بكر، ومظاهرة قريش لهم. وعاد بديل، فالتقى بأبى سفيان وقد جاء يجس النبض، ويطلب شد العقد، ومد المدة. وظن أبو سفيان أنه جاء للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم. جاء أبو سفيان، وقد أدرك كبر ما فعلت قريش، وما كان قد تحرك لمنع هذا، ولكن قد وقعت الواقعة، ولعله لم يكن لما حدث كارها. استمر أبو سفيان فى مسيره حتى التقى بابنته أم حبيب قادما للقاء رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. أراد أن يجلس على فراش رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فطوته فقال: يا بنية ما أدرى أرغبت بى عن هذا الفراش أم رغبت به عنى، فقالت: هو فراش رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وأنت مشرك نجس، فلم أحب أن تجلس على فراشه، فقال: يا بنية، والله لقد أصابك بعدى شر. ظن أن ابنته وهى زوج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد تكون شفيعا عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ولكنها بادرته بما ألقى فى نفسه اليأس، فالتمس الشفاعة عند غيرها ذهب إلى أبى بكر، فكلمه فى أن يكلم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال: ما أنا بفاعل، ذهب

إلى عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه، فكلمه، فقال عمر رضى الله عنه: أنا أشفع إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فوالله لو لم أجد لكم إلا الذر لجاهدتكم به، ترك عمر يائسا، كما يئس من أبى بكر. فذهب إلى على بن أبى طالب، وله به رحم، فدخل على على وعنده الزهراء فاطمة بنت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وعنده حسن ابنها غلام يدب بينهما. قال أبو سفيان يا على إنك أمس القوم بى رحما، وأقربهم منى قرابة، وقد جئت فى حاجة فلا أرجعن كما جئت خائبا فاشفع لى إلى رسول الله. قال على: ويحك أبا سفيان، والله لقد عزم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه. التفت أبو سفيان إلى الزهراء فاطمة فقال لها: يا بنت محمد هل لك أن تأمرى ابنك هذا فيجير بين الناس، فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر. قالت الزهراء فاطمة: والله ما بلغ بابنى ذلك أن يجير بين الناس، وما يجير أحد على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. اتجه أبو سفيان مرة ثانية، وقال له: يا أبا الحسن إنى أرى الأمور قد اشتدت على، فانصحنى، فقال على: والله ما أعلم شيئا يغنى عنك، ولكنك سيد بنى كنانة، فقم فأجر بين الناس، ثم الحق بأرضك. قال أبو سفيان: أو ترى ذلك مغنيا عنى شيئا، قال على: لا والله ما أظن، ولكن لا أجد عملا غير ذلك. قام أبو سفيان فى المسجد، فقال: أيها الناس إنى قد أجرت بين الناس. ثم ركب بعيره فانطلق حتى قدم على قريش، وقد أحسوا كبر ما فعلوا، وحمق ما صنعوا، سألوه، فأخبرهم بأن أحدا لم يردوا عليه شيئا، لا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ولا أبو بكر ولا عمر، ثم ما أشار به على من أنه أجير بين يدى الناس، فسألوه هل أجاره النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. قال: لا.

ذل الغدر

ذل الغدر 590- غدرت قريش فى عهدها، وما كان لها ذلك، وجاء أبو سفيان كبيرها يستغفر للخيانة التى لم يمنعها وأراد عجبا، أن يمنع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من أن يحمى من دخلوا فى عهده، وأن يتركهم من غير أن يحميهم عهدهم، وتشفع بابنته، فما شفعت وتشفع بأبى بكر فامتنع امتناعا قاطعا، وإن كان هادئا كطبعه رضى الله تبارك وتعالى عنه إلا فى الشديدة، وتشفع بعمر فرده ردا عنيفا، وتشفع متوسلا بالرحم لعلى فما شفع هو ولا الزهراء فاطمة، وقالت كلمة حاسمة: لا يجار على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. وكان عجبا أن يجير على قريش كلها، ليكون لها أمان من الغزو، لأنه شعر بالجريمة وقعت منها كلها، وإذا كانت حرب فعليها كلها. ونقول إنه قد جاء لتوثيق العهد وزيادة المدة، وإن ذلك يتضمن بلا ريب إلغاء العهد السابق وما اشتمل عليه، وربما توهم أن ذلك ربما يسقط الغدر الأول، ولعله ظن أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لم يعلم غدرة قريش التى تعد فسخا للعقد، فلما رأى أن الخزاعى سبقه وأخبر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لم يكن بد من أن يطلب الأمان لقريش. ولكن لم يجب. وروى موسى بن عقبة أن أبا سفيان دخل على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قبل أن يدخل على أبى بكر وعمر وعلى. وقال له: «يا محمد شدد العقد وزدنا فى المدة، فقال له النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: ولذلك قدمت، هل من حدث قبلكم؟ قال معاذ الله، نحن على عهدنا، لا نغير ولا نبدل» . ثم ذهب على الصحابة أبى بكر، ثم عمر، ثم عثمان، إلى أن وصل إلى على، فلان معه المجاهد الأول بعض اللين. وقد صرحت هذه الرواية بأنه ذهب إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ليأخذ منه إقرارا على ما قال فى المسجد، فقال له النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بعد أن قال: أنت تقول ذلك يا أبا حنظلة- ردا على قوله ما أظن أن تخفرنى- أنت تقول ذلك يا أبا حنظلة. وقد عاد إلى قومه فاستخفوه إذ قص عليهم خبر الرحلة، وقالوا له: رضيت بغير رضا، وجئتنا بما لا يغنى عنا ولا عنك شيئا، وإنما لعب بك على، لعمرو الله ما جوارك بجائر، وإن إخفارك عليهم لهين. وحدث امرأته بحديث الرحلة، فقالت له: «قبحك الله من وافد قوم فما جئت بخير» .

الاستعداد للفتح

الاستعداد للفتح 591- كان لا بد إذن من اللقاء، وروى أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعد أن صنعت ما صنعت قريش بمن فى عهده اعتزم أن يذهب إلى مكة المكرمة بالفتح المبين، وقال صلى الله تعالى عليه وسلم: والله لأغزون قريشا، قالها ثلاث مرات، على ما روى. أذن أصحابه بأن يتجهزوا للذهاب إلى مكة المكرمة، وأمرهم بالجد والتهيؤ وقال: «اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش، حتى نبغتها فى بلادها» . ولقد أخطأ بعض الصحابة ممن حضروا بدرا، وله فى الجهاد مقام، خطأ يعد فى نظر الحرب والجهاد خيانة أو خطيئة، ولكن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم الحكيم الواسع العقل والصدر عفا عنه، بعد أن أبطل عمله. بينما النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يضرع إلى ربه أن يأخذ العيون والأخبار عن قريش، أراد بعض الصحابة أن يكون عينا لقريش يخبرها. كتب حاطب بن أبى بلتعة كتابا إلى قريش يخبرهم بالذى أجمع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من الأمر بالسير إليهم. وأعطى كتابه امرأة وأوصاها بإخفائه، وجعل لها جعلا حتى تبلغه قريشا، فجعلته فى رأسها وفتلت عليه ضفائرها فى قرونها، ثم خرجت به. وأوحى إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بما فعل حاطب، وفعلت المرأة فبعث اثنين من أخلص حوارييه شابين نشا فى طاعة الله والجهاد فى سبيله، وهما على بن أبى طالب، والزبير بن العوام. فخرجا حتى أدركاها بالحليفة، فاستنزلاها من فوق البعير الذى تركبه، فالتمسا الكتاب فى رحلها فلم يجداه، فقال على فى حزم: إنى أحلف بالله ما كذب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ولا كذبنا؛ ولتخرجن هذا الكتاب، أو لنكشفنك. فلما رأت منه الجد قالت لعلى: أعرض فأعرض، فحلت قرون رأسها، فاستخرجت الكتاب منها، فدفعته إليه. فذهبا بالكتاب إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وهنا نجد الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم القوى يسأل عن مسوغ لهذه الخيانة، فيقول فى رفق القوي، ورحمة الحليم. يا حاطب ما حملك على هذا- لم يجابهه بالخيانة، ولكن طلب إليه مسوغا، إن كان لمثل هذا مسوغ، ولكن الكريم الحليم القوى أراد أن يقدم اعتذارا عما فعل من غير أن يبادره باللوم والتعنيف. أجاب حاطب عن هذا السؤال وقد أحس بالضمير يؤنبه: يا رسول الله أنا والله مؤمن بالله ورسوله ما غيرت، ولا بدلت. ولكنى كنت امرأ ليس لى فى القوم من أهل ولا عشيرة، وكان لى بين أظهرهم وفود وأهل فصانعتهم عليه.

لا شك أن الجواب لا يبرر العمل، ودل على شيء غير قليل من الضعف النفسي، فوفوده وأهله بينهم من قبل الحديبية، ولعلهم وصلوا إلى مكة المكرمة فى مدتها، وفى كلتا الحالين، ما كانت البواعث الشخصية تسوغ مخالفة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وهو القائد الأعلى صلى الله تعالى عليه وسلم ولا تعريض الجيش للأذى، والاستعداد له ومواجهته، وقد تدول الدولة لأعدائه. ولذلك لم يستسغ عمر رضى الله عنه ذلك، بعد أن لم يستسغه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ولذلك قال عمر رضى الله تعالى عنه: يا رسول الله دعنى فلأضرب عنقه، فإن الرجل قد نافق، ولكن الرسول الكريم صلى الله تعالى عليه وسلم الذى لم يستسغ ذلك العذر، خالف عمر، وقال معتذرا عن حاضره بماضيه فى بدر: ما يدريك يا عمر، لعل الله قد اطلع على أصحاب يوم بدر، فقال اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم. ما يرد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عن فعلته التى فعلها، ولكنه يلومه فى عبارات رقيقة عاطفة إن ماضيه ينهاه عن حاضره، وأظن أن ذلك القول، أروع من قول الفاروق عمر. ولقد قالوا إنه نزل فيه قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ، وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ، يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ، أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ، إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي، وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي، تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ، وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ، وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ، فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ. إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً، وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ، وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ. لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ، يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ، إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ، وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، كَفَرْنا بِكُمْ، وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ، إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ، وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ، رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (الممتحنة- 1: 4) . وإذا كان ثمة أمر يسهل أن يرتكب الصحابى البدرى ذلك، فليس هو النفاق، ولكن المدة التى سهلت الالتقاء أحيت ما كان من مودة قديمة، فسال سيله فى طريقها حتى وقع فى هذا الخطأ، بل الخطيئة، ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، قد جعل ماضى أمره مسقطا لذنب حاضره وهو الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم المؤلف بين القلوب، الجامع لها، وهو بالمؤمنين رؤف رحيم.

خروج الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم

خروج الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم 592- خرج رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم ماضيا لسفره، واستخلف علي المدينة المنورة أبارهم كلثوم بن حصين بن عتبة بن خلف الغفاري، وذلك ليعلم الناس أنه لا تفاوت في الولاية بالنسب، فقد ولى من الأنصار والمهاجرين من بطون قريش وغيرهم. خرج صلي الله تعالي عليه وسلم لعشر ليال من رمضان، وصام الناس، حتي إذا كان بالكديد أفطر- لأنه صار علي سفر، ولأنه رخص للمسافر أن يفطر، وقد قال الله تعالى: وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ (البقرة- 185) . وإن الله يحب أن تؤتي رخصه، كما تؤتي عزائمه، والسفر قطعة من العذاب في الصحراء العربية وحال الجهاد تجعل الفطر قوة فيه، وكل ما يؤدي إلي القوة فيه يكون مطلوبا علي قدر هذه القوة، ويظهر أن بعض المؤمنين تحرجوا من أن يفطروا في رمضان، فدعا رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم بإناء فشرب نهارا ليري الناس، فأفطر حتي قدم مكة المكرمة مفطرا. صار رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم، حتي لقيه في الجحفة عمه العباس بن عبد المطلب، مهاجرا هو وأهله، وقد كان إسلامه سابقا علي ذلك، وبقي علي السقاية في الكعبة الشريفة: ولقيه عليه الصلاة والسلام في الطريق بعض ذوي قرابته، أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، فالتمسا الدخول عليه فكلمته أم سلمة، وكان رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم ذا مودة وخير دائما، فقالت له ابن عمك وابن عمتك وصهرك يا رسول الله، قال: «لا حاجة لي بهما، أما ابن عمي، فهتك عرضي، وأما ابن عمتي وصهرى فهو الذى قال لي ما قال بمكة» ذلك أن النبي صلي الله تعالي عليه وسلم لما دعا إلي ربه قال له: «والله لا آمنت لك حتي تتخذ سلما إلى السماء فتعرج فيه وأنا أنظر، ثم تأتي بصك وأربعة من الملائكة يشهدون بأن الله تعالي أرسلك» . وأصر رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم علي عدم الإذن لهما، فلما خرج إليهما الخبر، قال أبو سفيان ابن عم الرسول صلي الله تعالي عليه وسلم ومعه ابن صغير له فقال: والله ليأذنن لي أو لآخذن بيد بني هذا، ثم لنذهبن في الأرض، ثم نموت عطشا وجوعا، فرق لهما رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم لرحمه ما، ولأنهما قد رقا للإسلام، والإسلام يجب ما قبله.

قريش تتحسس الأخبار

قريش تتحسس الأخبار 593- مضى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حتى نزل مر الظهران فى عشرة آلاف من المسلمين، وفى رواية فى اثنى عشر ألفا، وقد عميت الأخبار عن قريش، ولكنهم يظنون لنقضهم العهد الذى كان بينهم وبين الرسول صلوات الله وسلامه عليه لم يحسوا بأمر، ولكن هم يتوقعون أمرا، فخرج فى تلك الليالى أبو سفيان بن حرب، وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء الخزاعي، يتحسسون الأخبار، وينظرون هل يجدون خبرا. ويلاحظ من ذلك أن الثلاثة يختلف اثنان فيهم عن الثالث، لأن بديلا هو الذى ذهب إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يستنصر بالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم لخزاعة، إذ عاونت قريش بنى بكر فى قتالهم لخزاعة، حتى جاوزوهم إلى البيت الحرام فما امتنعوا، فلعل الجميع كانوا يتحسسون، ولكن اختلفت الغاية عندهم. وفى الوقت الذى كانت قريش تتحسس فيه أخبار النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان العباس ابن عبد المطلب الودود المسالم يريد أن يرسل إلى قريش من يعرفهم مكان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ليجيئوا إليه مستأمنين لكيلا يكون قتال بل يكون أمن وسلام، ويقول رضى الله عنه من جراء محبته لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: والله لئن دخل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مكة المكرمة عنوة قبل أن يأتوه، فيستأمنوه، إنه لهلاك قريش إلى آخر الدهر. ركب بغلة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم البيضاء وأخذ يتلمس الحطابين، أو ذوى الحاجات الذين يسيرون فى الصحراء ليجد من يخبر أهل مكة المكرمة. وبينا هو فى سيره متحسسا سمع صوت أبى سفيان، ولنترك له رضى الله عنه، يحكى كيف كان لقاؤه مع صديقه المشرك أبى سفيان، وهو المؤمن فهو يقول: وإنى لأسير عليها (بغلة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) ، إذ سمعت كلام أبى سفيان، وبديل بن ورقاء وهما يتراجعان، وأبو سفيان يقول: ما رأيت كالليلة نيرانا قط، ولا عسكرا. قال بديل: هذه والله خزاعة حمستها (أى ألهبتها) . قال أبو سفيان: خزاعة أذل من ذلك وأقل أن تكون هذه نيرانها وعسكرها، فعرفت صوته فقلت يا أبا حنظلة فعرف صوتى فقال أبو الفضل، قلت نعم، قال مالك فداك أبى وأمى؟ قلت ويحك يا أبا سفيان، هذا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى الناس، واصباح قريش والله، قال: فما الحيلة، فداك أبى وأمى، قلت: والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك. فاركب فى

عجز هذه البغلة، حتى آتى بك رسول الله فأستأمنه لك، فركب خلفي، ورجع صاحبه، فجئت به، كلما مررنا بنار من نيران المسلمين، قالوا من هذا فإذا بغلة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وأنا عليها، قالوا هذا عم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على بغلته، حتى مررت على عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال من هذا، وقام إلي، فلما رأى أبا سفيان على عجز الدابة، قال: أبو سفيان عدو الله، الحمد لله الذى أمكن منك بغير عقد ولا عهد، ثم خرج يشتد نحو رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وركضت، فسبقته بما تسبق الدابة البطيئة الرجل البطيء فاقتحمت عن البغلة فدخلت على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ودخل عليه عمر، فقال يا رسول الله هذا أبو سفيان، قد أمكن الله تعالى منه بغير عقد ولا عهد، فدعنى فلأضرب عنقه، قلت: يا رسول الله، قد أجرته، ثم جلست إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فأخذت برأسه فقلت والله لا يناجيك الليلة، دونى رجل، فلما أكثر عمر فى شأنه (أى أبى سفيان) قلت مهلا يا عمر، فوالله لو كان من بنى عدى بن كعب ما قلت هذا، ولكنك قد عرفت أنه من رجال بنى عبد مناف. فقال: مهلا يا عباس، فو الله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلى رسول الله من إسلام الخطاب، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: اذهب به يا عباس إلى رحلك، فإذا أصبحت فأتنى به، فذهبت به إلى رحلي، فلما أصبح غدوت به إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فلما رآه، قال ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله. قال أبو سفيان بأبى أنت وأمى ما أحلمك وأكرمك وأوصلك؛ والله لو قد علمت أن معه إلها غيره لقد أغنى عنى شيئا بعد، قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ألم يأن لك أن تعلم أنى رسول الله، قال أبو سفيان، أما هذه والله فإن فى النفس منها حتى الآن شيئا، فقال العباس: ويحك أسلم واشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قبل أن تضرب عنقك فشهد شهادة الحق، فأسلم. قلت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئا. قال: نعم. قال محمد صلى الله تعالى عليه وسلم الذى يحب حقن الدماء. من دخل دار أبى سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن. فلما ذهب أبو سفيان لينصرف قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: احتبسه عند خطم الجبل (أنف الجبل) حتى تمر به جنود الله تعالى فيراها. فحبسه، حتى مرت به الرايات كل قبيلة على رايتها، وكلما مرت قبيلة، قال: يا عباس ما هذه القبيلة، وأخذ يسأل عنهم قبيلة قبيلة، حتى مرت قبيلة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم برايته

الخضراء، فيها المهاجرون والأنصار، لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد، فقال: سبحان الله من هؤلاء؟ قلت رسول الله فى المهاجرين والأنصار، قال أبو سفيان ما لأحد بهؤلاء، والله يا أبا الفضل قبل، لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيما، قال العباس يا أبا سفيان إنها النبوة، فقال نعم إذن. 594- ذكرنا هذا الحديث بطوله، لأنه التقاء صديقين كلاهما يتحسس الأخبار لحماية مكة المكرمة من الحرب، فالعباس رضى الله عنه يتحسس، ليرسل لقريش يحرضهم على أن يستأمنوا لأنفسهم من جيش الإيمان لكيلا تكون حرب فى الحرم، ولتحمى قريش نفسها لا بالحرب، ولكن بالإيمان أو الأمان. وأبو سفيان يتحسس الأخبار، لأنه توجس خيفة بعد الغدر، وتوقع من محمد صلى الله تعالى عليه وسلم عملا لحماية من دخلوا فى عهده، ولأنه أصبح فى حل من الصلح الذى صالحوه عليه، إذ نقضوه من جانبهم، فهو عليهم رد ولا سبيل لأن يدفعوا بعهد نقضوه. والتقى الصديقان، وكان لقاء فيه خير، إذ انتهى بإسلام أبى سفيان، وضمه للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، بعد أن أرضى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. وقد بذل العباس فى ذلك جهدا، خصوصا عندما اشتد عمر رضى الله تعالى عنه، وما كنا لنقر العباس رضى الله عنه فى قوله لعمر لو كان من عدى ما وقف فى هذا، فعمر لا يمكن أن يؤثر قرابة فى قول الحق، وهو الذى قال فيه صلى الله تعالى عليه وسلم: «إن الله كتب الحق على لسان عمر وقلبه» ومهما يكن من تلك الكلمة، فإن العباس رضى الله تعالى عنه، قد كانت سياسته حكيمة فى ضم أبى سفيان، فإنه كان له أثر فى حقن الدماء، ومنع الحرب. لقد قال من بعد ذلك العباس لأبى سفيان يحرضه على السرعة فى الذهاب إلى قريش يسكنها قال له النجاء إلى قومك، أى السرعة المنجية. فلما جاءهم صرخ بأعلى صوته، يا معشر قريش قد جاءكم فيما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبى سفيان فهو آمن، قالوا له قاتلك الله، وما تغنى عنا دارك، قال ناقلا عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد، فهو آمن. وبهذا تهيأت النفوس للإسلام إلا بعض الذين أكل الحقد قلوبهم، وسيطر عليهم النزع الجاهلي، ولم ينظروا إلى ما هو أمامهم، بل التفتوا إلى ما وراءهم، ولكنهم مع ذلك لم يجعلوها حربا،

اللقاء

لأن الله تعالى. أراد السلام وقصد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يدخل البيت معظما مشرفا، زاده الله شرفا وتعظيما. اللقاء 595- لم نقل المعركة، ولكن قلنا اللقاء، لأنه لقاء التصفية وتنقية القلوب من ضغائنها، وتلاقى النفوس على المرحمة بعد الملاحم، ومن يقدر على ذلك إلا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الذى أرسله رب العالمين الذى ألف بين قلوبهم القائل تعالت كلماته: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ، فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً، وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ، فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها (آل عمران: 103) . دخل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لا دخول المقاتل، ولكن دخول المسالم الذى يريد أن يفتح القلوب للإيمان، فكان على أحد جانبى الجيش الزبير بن العوام، وعلى الجانب الآخر خالد بن الوليد، وعلى المهاجرين أبو عبيدة عامر بن الجراح، والجميع متجهون صوب مكة المكرمة، من شمالها الزبير بن العوام بمن يقودهم، ومن جنوبها خالد بن الوليد بمن يقودهم، ومن الشمال الغربى أبو عبيدة بالمهاجرين ومن الغرب سعد بن عبادة يقود الأنصار. وكانت أوامر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ألا يقتلوا ولا يقاتلوا فما دخلوا لحرب ولكن لأجل إقرار السلم. ولكن علم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وهو فى كتيبته أن أوشاب قريش أو بعضهم، ليسوا من كبرائهم، ورأى أن هؤلاء قد يشوهون وجه اللقاء، فنادى أبا هريرة: اهتف بالأنصار، ولا يأتين إلا أنصاري، فأمر الأنصار بأن يحصدوهم حصدا إذا وجدوا منهم أمرا يخرج المجاهدين السالمين عن سلمهم. ركزت راية رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عند الحجون. لقد كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم حريصا على أن يبعد كل نزعة إلى الحرب، ويبعد صاحبها ولو كان عنده من المقربين الذين أيدوه بنصرهم، والناس عنه معرضون. قال سعد بن عبادة حامل راية الأنصار عندما مر على أبى سفيان، أو جعل شعاره: «اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمات» فقال عمر بن الخطاب: أتسمع. وقال عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف: يا رسول الله ما نأمن أن يكون له فى قريش صولة، وقال صلى الله تعالى عليه وسلم: بل اليوم يوم تعظم فيه وتعز فيه الكعبة الشريفة، اليوم يوم أعز الله فيه قريشا. ثم أرسل على بن أبى طالب

دخول رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مكة المكرمة:

لينزع منه الراية، وفى رواية أنه أعطاها عليا، وفى رواية أعطاها الزبير بن العوام، والرواية المشهورة أنه أعطاها قيس بن سعد بن عبادة، لكيلا يكون فى نفس سعد بن عبادة شيء من نزعها، إذ أنها أعطيت لابنه فأخذت منه إليه، ولأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يريد ألا يحمل راية الأنصار إلا أنصارى لتكون حمية الأنصار وليكون لهم مقام الفتح برجالهم وبقيادتهم، والرواية التى تقول أنه عليه الصلاة والسلام أعطاها عليا، قامت على أن عليا هو الذى نزعها منه، ولعل الزبير هو الذى أعطاها قيسا، بأمر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وبذلك تتلاقى الروايات الثلاث؛ وتكون الراية انتهت إلى ابن سعد. دخول رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مكة المكرمة: 596- دخل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مكة المكرمة، ومعه لواء أبيض، وعليه عمامة سوداء وهو يقرأ سورة الفتح وهو راكب على ناقته، وكان يرجع فيها، فهو يترنم بها، ويرجع كلماتها مستطيبا ألفاظها ومعانيها، وقد خفض رأسه متواضعا لله تعالي، ولما انتهى إلى ذى طوى اعتجر بشقة بردة حبرة حمراء، وإن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ليضع رأسه تواضعا لله تعالي، حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتى عثنونه لتكاد يمس الرحل. ويروى أن رجلا كلم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يوم الفتح فأخذته الرعدة، فقال الرسول الذى يزيده التواضع عزا، أو كما قال: «هون عليك، فإنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد» . وإن العزيز الكريم لا تزيده القوة إلا تواضعا، يقول فى ذلك ابن كثير «وهذا التواضع فى هذا الموطن عند دخوله مكة المكرمة فى مثل هذا الجيش الكثيف العرمرم بخلاف ما اعتمده سفهاء بنى إسرائيل حين أمروا أن يدخلوا باب بيت المقدس، وهم سجود أى ركع يقولون حطة، فدخلوا يزحفون على أستاههم وهم يقولون حنطة» . وأنى يكون بنى إسرائيل الذين تطغيهم النعمة من محمد الكريم صلى الله تعالى عليه وسلم، الذى تدفعه النعمة إلى التواضع، فيقوم بحقها وشكرها، فشكر كل نعمة، نعمة من نوعها، فشكر القوة الرفق والعدل، وشكر الرفعة التواضع، وقد رفع الله تعالى نبيه، بما لم يرفع به رجل فى العرب، وبما لم يرفع به نبى فى أمته، فكان هذا التواضع الكريم الذى زاده عزا. وقد دخل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من أعلى مكة المكرمة من كداء، وهو أصح الروايات، كما جاء فى البخارى.

إسلام أبى قحافة:

إسلام أبى قحافة: 597- وقف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بذى طوي، ولم يكن أبو بكر قد التقى بأبيه أبى قحافة منذ هاجر إلا أن يكون قد زاره فى عمرة القضاء. وكان قد أصيب فى عينيه، فكف بصره، فكان يرى الرؤية الكاملة بابنته أصغر أولاده، فلما وقف عند ذى طوي، وقف أبو قحافة على جبل أبى قبيس، فقال: أى بنية ماذا ترين؟ قالت أرى سوادا مجتمعا قال: تلك الخيل، قالت وأرى رجلا يسعى بين ذلك السواد مقبلا مدبرا، قال أى بنية من ذلك الوازع (الذى يأمر الخيل ويتقدم إليها) ثم قالت قد والله انتشر السواد، فقال قد والله إذن دفعت الخيل، فأسرعى بى إلى بيتي، فانحطت به، وتلقاه الخيل قبل أن يصل إلى بيته، وفى عنق الجارية طوق من ورق (فضة) فيلقاها رجل فيقتطعه من عنقها. فلما دخل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مكة المكرمة ودخل المسجد أتى أبو بكر بأبيه (أبى قحافة) يقوده، فلما رآه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «هلا تركت الشيخ فى بيته، حتى أكون أنا آتيه» ، قال: يا رسول الله هو أحق أن يمشى إليك من أن تمشى أنت إليه. أجلس النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أبا الصديق، ثم مسح على صدره، ثم قال: أسلم، فأسلم، ثم قام أبو بكر، فأخذ بيد أخته الصغيرة يسألها عن طوقها، ولما علم أنه خطف منها، أنشد المسلمين بالله والإسلام طوق أخته. فقال الصديق معزيا أخته الصغيرة فى قرطها، إن الأمانة اليوم قليل، فاحتسبى طوقك. هذا هو الرفق، إن الطوق الفضى أحب إليها فى سنها، فواساها الصديق فيه رفقا ومحبة، ولقد هنأ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أبا بكر صاحبه فى الغار بإسلام أبيه. قتال فى جوانب من مكة المكرمة: 598- نهى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عن القتال، ولكنه لم ينه عن الدفاع، وقد ذكر أن أهل مكة المكرمة قد رضوا بالمسالمة والسلام، واطمأنوا إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلا الذين بقوا على جاهليتهم ولم يذوقوا حب الإيمان أو أن فيهم الحقد الدفين، والرغبة فى الثأر، لا يريدون سلاما، ولكن يريدون حربا وخصاما، ولم يؤخذوا بالقوة، بل جحدوا بها، كما جحدوا هم وآباؤهم بالحق إذ جاءهم.

فهؤلاء المتطرفون فى عداوتهم قد تجمعوا مع بنى بكر الذين كانت مناصرتهم سببا لخرق العهد، وقد تجمعوا فى منطقة الخندمة، فلما وصلها خالد ومن معه أمطروها وابلا من النبل، فاضطر خالد أن يقاتلهم حتى فرق جمعهم، وكانوا عددا قليلا يسهل تفريقه. وأسلست قريش القياد، ولم تنفر، ورضيت بالبقاء، ولم يقتل من أصحاب خالد إلا اثنان قد ضلا وشذا بالانفراد، فيظهر أنهما قد تمكن الأعداء منهما، وكان فى الذين هاجموا خالد بن الوليد بالنبل، صفوان بن أمية وعكرمة بن أبى جهل فانطلقا خارجين إلى البحر، ولم يقبلا أن يقيما مع محمد صلى الله تعالى عليه وسلم بمكة المكرمة أو تحت سلطانه. بعد أن انهزم صفوان، اتجه إلى جدة، فقد روى ابن إسحاق قال: خرج صفوان بن أمية يريد جدة ليركب منها إلى اليمن، فقال عمير بن وهب: يا نبى الله، إن صفوان بن أمية سيد قومه، وقد خرج هاربا، ليقذف نفسه فى البحر، فأمنه صلى الله تعالى عليه وسلم، قال: هو آمن، قال يا رسول الله، فأعطنى آية يعرف بها أمانك، فأعطاه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عمامته التى دخل بها مكة المكرمة، فخرج بها عمير حتى أدركه، وهو يريد أن يركب فى البحر، فقال: يا صفوان فداك أبى وأمي، الله الله فى نفسك أن تهلكها، فهذا أمان من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد جئتك به، قال: ويلك اغرب عنى فلا تكلمنى. قال: أى صفوان، فداك أبى وأمي، أفضل الناس وأبر الناس، وأحلم الناس وخير الناس ابن عمك، عزه عزك، وشرفه شرفك، وملكه ملكك، قال: إنى أخافه على نفسى؟ قال: هو أحلم من ذلك وأكرم، فرجع معه حتى وقف به على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، قال صفوان: إن هذا يزعم أنك قد أمنتني، قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، صدق قال: فاجعلنى فيه بالخيار شهرين قال: أربعة أشهر، هذا هو محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فى خلقه، الرفيق اللين فى قوته المتواضع فى عزته يرجو العربى العنيف، ليستأمنه فيؤمنه، ولكنه يشترط لقبول الأمان الخيار شهرين. ولقد جاءت إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أم حكيم زوج عكرمة بن أبى جهل فأسلمت، فاستأمنت لزوجها عكرمة فأمنه، وكان قد سبق صفوان، إلى اليمن وتخلف صفوان كما ذكرنا، فلحقت به إلى اليمن، فجاءت به فلما أسلم عكرمة بقيت معه زوجه أم حكيم، وكذلك كانت فاطمة بنت الوليد زوجا لصفوان بن أمية، فلما أسلم بقيت زوجه. وقد بقيتا بالزواج الأول، وذلك أن من تسلم زوجه، وهو كافر يعرض عليه الإسلام، فإن أسلم بقيت الزوجية كما هى من غير عقد جديد، وذلك لأن الفرقة لا تكون بسبب الإسلام، وإنما تكون بسبب إباء الزوج الإسلام بعد العرض عليه.

دخول النبى صلى الله تعالى عليه وسلم المسجد الحرام:

وأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عندما بلغه القتال الذى كان بين خالد بن الوليد أرسل إليه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ينهاه عن القتال، فانتهي، وروى أنه لم يقتل من المشركين إلا بضعة عشر من الرجال. وإن مبدأ من دخل داره فهو آمن قد طبقه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فلم يقتل رجلا أغلق عليه داره، وإنه يذكر فى ذلك أن اثنين من أحماء أم هانيء بنت أبى طالب أخت على بن أبى طالب رضى الله عنهما لجا فتبعهما على لأنهما لم يغلقا دارهما عليهما وفرا إلى أم هانيء، ليقتلهما، ولكنها أغلقت عليهما باب بيتها، وعلى يريد قتلهما فى دارها، وأمام إصرار على رضى الله تعالى عنه ذهبت أم هانئ إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بأعلى مكة المكرمة فوجدته يغتسل، وفاطمة ابنته تستره بثوبه، فلما اغتسل أخذ ثوبه فتوشح به، ثم صلى ثمانى ركعات، ثم انصرف إلى أم هانئ فقال: مرحبا وأهلا، يا أم هانئ، ما جاء بك، فأخبرته خبر الرجلين، وخبر علي، فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: أجرنا من أجرت، وأمنا من أمنت، فلا يقتلهما. دخول النبى صلى الله تعالى عليه وسلم المسجد الحرام: 599- دخل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم البيت الحرام بعد أن ركز رايته بالحجون ثم نهض والمهاجرون والأنصار يحيطون به بين يديه ومن خلفه وحوله، فأقبل إلى الحجر الأسود، فاستلمه، ثم طاف بالبيت وعليه قوس، وحول البيت ستون وثلاثمائة صنم، وهى متماسكة، فجعل يطعنها بالقوس، ويقول «جاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقا. وما يبديء الباطل وما يعيد» والأصنام تتساقط على وجوهها بمجرد إصابتها بقوسه، حتى أتى عليها جميعا تنكيسا. وكان صلى الله تعالى عليه وسلم يطوف على راحلته، ولم يكن ذلك محرما، واقتصر فى دخوله على الطواف. ولقد جاءه على كرم الله وجهه ومعه مفتاح الكعبة الشريفة، وأعطاه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وطلب أن يعطيهم الحجابة، والسقاية معهم فى يد العباس رضى الله تبارك وتعالى عنه فدعا عثمان ابن طلحة، فأعطاه المفتاح، وعثمان هذا هو ثالث الثلاثة الذين أسلموا فى رحلة واحدة، هم عثمان بن طلحة هذا وخالد بن الوليد، وعمرو بن العاص. وأمر بالكعبة الشريفة ففتحت ودخلها، ورأى فيها جملة من الصخور منحوتة فى الصخر، ورأى فيها صورة إبراهيم، وإسماعيل يستقسمان بالأزلام وهى منحوتة أيضا، فقال: قاتلهم الله، والله إن استقسما بها قط (أى ما استقسما) ورأى فى داخل الكعبة الشريفة حمامة من عيدان فكسرها، وأمر

العفو الكريم الشامل:

بالصور فمحيت كلها، ثم أغلق الباب على نفسه، وعلى أسامة وبلال فاستقبل الجدار الذى يقابل الباب، حتى إذا كان بينه وبينه قدر ثلاثة أذرع، وقف وصلى. ثم دار فى البيت وكبر فى نواحيه، وفتح الباب. وقد خرج من باب الكعبة الشريفة، وكانت قريش قد ملأت المسجد ينتظرونه، فخرج إليهم من محراب الله وكأنه مقبل عليهم من عند رب البيت، الذى جعله حرما آمنا، والناس يتخطفون من حولهم. وقد دهشوا، يتعرفون ماذا يصنع. فأخذ بعضادتى الباب وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده، ألا كل مأثرة أو مال أو دم فهى تحت قدمى هاتين إلا سدانة البيت. وسقاية الحاج. قال: وقتل العمد. وشبه السوط والعصا، فيه الدية مغلظة، فإنه من الإبل أربعون منها فى بطونها أولادها. يا معشر قريش إن الله تعالى أذهب عنكم نخوة الجاهلية. وتعظمها بالآباء.. الناس من آدم وآدم من تراب، ثم تلا الآية يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (الحجرات- 13) العفو الكريم الشامل: 600- خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (الأعراف- 199) بهذا الأمر الربانى أخذ نبى الرحمة وأعظم عفو رآه الوجود الإنسانى هو عفو النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عن أهل مكة المكرمة، لقد اضطهدوه منذ البعثة وهو فى الأربعين واستمر أذاهم غير مقطوع، حتى ذرف فى الستين، لا ينون عن إيذائه، ثم قتاله، ثم الدس الخبيث له ولرجاله فلما غلب وتغلب بعد أكثر من عشرين سنة، لم يقل ويل للمغلوب، كما يقول ساسة هذا الزمان بل قال: مرحبا بالأخوة، وعفوا عما مضي، وإن تنتهوا يغفر لكم ما قد سلف. قال صلى الله تعالى عليه وسلم لقريش وهم صفوف ينتظرون كلمته فيهم فقال لهم: يا معشر قريش ما تظنون أنى فاعل بكم. قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم. قال فإنى أقول لكم كما قال يوسف لإخوته لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم، اذهبوا فأنتم الطلقاء.

وكان عثمان بن طلحة فى يده مفتاح الكعبة الشريفة قبل أن يسلم، وقد أراده على مع السقاية فرده النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لعثمان بن طلحة وقال له: اليوم يوم بر ووفاء. وذكر ابن سعد فى طبقاته عن عثمان بن طلحة. قال: كنا نفتح الكعبة الشريفة فى الجاهلية يوم الاثنين والخميس، فأقبل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يوما (أى قبل الفتح) يريد أن يدخل الكعبة الشريفة، مع الناس، فأغلظت له فنلت منه فحلم عني، ثم قال: يا عثمان لعلك ترى هذا المفتاح يوما بيدى أضعه حيث شئت. ولعل ذلك أيام الأذى الذى كان ينزل بالمؤمنين من قريش قبل الهجرة حتى إن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يؤذى فيما يستحقه كل الناس، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، مستبشر لا يرجو إلا ما عند الله، مطرح ما عند الناس. قال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لعثمان إبان ذلك إن المفتاح سيكون بيده يضعه حيث يشاء، فقال متطاولا فى الأذى بالقول: لقد هلكت قريش يومئذ وذلت. فقال له رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: بل عمرت وعزت يومئذ. يقول عثمان فوقعت كلمته منى موقعا أى أنه توقع صدقها وهم فى الجاهلية الغافلة، وظن أن الأمر سيصير إلى ما قال الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم. وقد تحقق ما توقع، وصدق قول الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، فقد آل إليه المفتاح يضعه حيث يشاء، فوضعه فى يد عثمان بن طلحة، الذى أغلظ له فى القول من قبل، ونال منه. ويقول عثمان فى حكايته: قال لى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: يا عثمان ائتنى بالمفتاح، فأتيته فأخذ منى المفتاح، ثم دفعه إلي، وقال: خذوها خالدة تالدة، لا ينزعها منكم إلا ظالم. يا عثمان: إن الله تعالى استأمنكم على بيته، فكلوا مما يصل إليكم من هذا البيت بالمعروف. فلما وليت ناداني، فرجعت إليه. فقال ألم يكن الذى قلت لك، قال فذكرت قوله صلى الله تعالى عليه وسلم لى قبل الهجرة، سترى هذا المفتاح بيدى أضعه حيث شئت. قلت: بلى، أشهد أنك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. ومع السماحة التى تدنى أشد القلوب جفاء، ومع هذا العفو الكريم الذى يجمع الشارد، ويدنى القاصي، كانت قلوب بعض القرشيين ما زال يسكنها الضعف فى الإيمان والبغض الجاهلى.

الأمان العام:

يروى سعيد بن المسيب يقول تطاول لأخذ المفتاح رجال من بنى هاشم فرده رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لعثمان بن طلحة. وأمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بلالا أن يصعد إلى الكعبة الشريفة، فيؤذن، وأبو سفيان ابن حرب، وعتاب بن أسيد، والحارث بن هشام وأشراف قريش جلوس بفناء الكعبة الشريفة، فقال عتاب: لقد أكرم الله أسيدا، ألا يكون سمع هذا فيسمع ما يغيظه، فقال الحارث: أما لو أعلم أنه على حق لا تبعته. وقال أبو سفيان: لا أقول شيئا، لو تكلمات لأخبرت عنى هذه الحصباء. قالوا ما قالوا، والنبى ليس بينهم، وهم يقولونه مسرين هامسين، فخرج عليهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: قد علمت الذى قلتم، ثم ذكر لهم ما قالوا. فقال عتاب إنك رسول الله، والله ما اطلع على هذا أحد كان معك، فنقول أخبرك. الأمان العام: 601- كان هذا العفو الشامل لقريش أمانا لكل أهل مكة المكرمة، ودعا إلى ألا يقتل إلا تسعة، أهدر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم دمهم، وأباح قتلهم، ولو تعلقوا بأستار الكعبة الشريفة وهم عبد الله بن سعد بن أبى السرح، وعكرمة بن أبى جهل قبل إسلامه، وعبد العزيز بن خطل، والحارث بن نفيل بن وهب ومقبس بن صبابة، وهبار بن الأسود وقينتان لابن خطل كانتا تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وسارة مولاة لبعض بنى عبد المطلب. وهؤلاء كادوا كيدا شديدا للإسلام، وبعضهم مع ارتداده قتل مسلما عامدا بعد أخذ الدية أما عبد الله بن سعد بن أبى السرح فكان قد آمن أو أسلم، وكان يكتب الوحي، ثم ارتد بعد إسلام، وكذب كذبة خطيرة، فادعى أنه كان يغير فيما يملى عليه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فكان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يأمره بكتابة عزيز حكيم، فيكتب غفور رحيم. فكانت إباحة دمه حماية للإسلام من المرتدين، فلما أبيح دمه فر إلى عثمان بن عفان، وكان أخاه فى الرضاعة، مع صلة النسب، فذهب به عثمان إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يستأمن له فصمت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عنه صمتا طويلا، رجاء أن يتقدم أحد الحاضرين لقتله، ثم قال بعد الصمت الطويل نعم- فأخذ الأمان إكراما لعثمان وإن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قال فى عثمان إنه تستحى منه الملائكة.

وقال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لمن حضره بعد انصراف عثمان به «أما كان فيكم رجل رشيد، يقوم إلى هذا حين رآنى قد صمت فيقتله، فقالوا يا رسول الله هلا أو مأت إلينا، فقال إن النبى لا يقتل بالإشارة، وفى رواية أنه قال: «لا ينبغى لنبى أن تكون له خائنة الأعين» . ولقد كان من المقربين إلى عثمان فى خلافته، ولاه مصر بعد عمرو بن العاص، وكان ممن لهج به دعاة الفتنة فى آخر عهد عثمان آخذين على عثمان توليته وقربه، وأنه لم يكن عدلا، ولعل ذلك كان من أشد ما لهجوا به وأقواه. وعبد الله بن خطل، فقد أسلم، وبعثه الله تعالى ليجمع الصدقات، وبعث له رجلا من الأنصار، وكان معه مولى له، فغضب عليه فقتله، ثم ارتد مشركا. وكانت له قينتان فكانتا تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فلهذا أهدر دمه ودم القينتين، فأما هو فقد قتل متعلقا بأستار الكعبة الشريفة وقتلت إحدى القينتين واستؤمن للآخري، وأما الحويرث بن نفيل بن وهب فقد كان يؤذى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بمكة المكرمة، ولما تحمل العباس رضى الله عنه بفاطمة وأم كلثوم ليذهب بهما إلى المدينة المنورة يلحقهما برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى المدينة المنورة أول الهجرة نخس بهما الحويرث هذا الجمل الذى هما عليه، فسقطتا على الأرض. فلما أهدر دمه قتله على بن أبى طالب زوج فاطمة الزهراء. وأما مقبس بن صبابة، فقد آمن ثم ارتد، ثم أخذ دية، ثم قتل قاتل أخيه غدرا، وذلك أن أخاه كان مسلما فقتل خطأ فى أعقاب غزوة بنى المصطلق فجاء هو وأعلن إسلامه، وأخذ دية أخيه من بيت المال، وقد بينا ذلك، ولكنه ما إن أخذ الدية حتى عدا على- قاتل أخيه خطأ- ثم ارتد عائدا إلى مكة المكرمة، فكان من الحق أن يقتل لردته، ولقتله مؤمنا عمدا وقد أخذ الدية. وقد قتله رجل من قومه. وسارة مولاة لبنى عبد المطلب، ثم لعكرمة بن أبى جهل، وكانت تؤذى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو بمكة المكرمة، وروى عن بعضهم أنها هى التى حملت الكتاب الذى أرسله حاطب بن أبى بلتعة، وكأنها عفى عنه، ثم أهدر دمها فهربت حتى استؤمن لها من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأمنها فعاشت إلى خلافة الإمام عمر فأوطأها رجل فرسا فماتت. وأما عكرمة، فكان إهدار دمه قبل أن يسلم وقد هرب إلى اليمن، فلما أسلمت امرأته استأمنت له رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأمنه فذهبت إلى اليمن، فتقدم للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وكان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم حريصا على ألا يؤذيه، فعندما جاء مسلما قال لأصحابه، لقد

الأنصار يتوهمون أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يعود إلى مكة المكرمة

جاءكم عكرمة بن أبى جهل مسلما فلا تسبوا أباه لأن ذلك يؤذى الحي، ولا يصيب الميت، وهكذا يكون كرم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم العطوف الألوف. ويروى أن الإيمان دخل قلبه قبل أن تجئ إليه امرأته، وذلك أنه وهو فى السفينة عصفت بها عاصفة وقال بعض أهل السفينة لبعضهم. إن آلهتكم لا تغنى عنكم شيئا هنا، فأثر ذلك فى نفس عكرمة وعقله، ورب لفتة تحول القلب من الكفر إلى الإيمان، وقال: «والله لم ينج فى البحر إلا الإخلاص وإنه لا ينجى فى البر غيره، اللهم إن لك على عهدا إن أنت عافيتنى مما أنا فيه آتى محمدا حتى أضع يدى فى يده فلأجدنه عفوا كريما» . ثم جاءته امرأته، وقد طاب نفسا بالإسلام. وأما هبار بن الأسود فهو الذى عرض لزينب بنت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عندما هاجرت ومكن لها زوجها من الهجرة، فنخس هبار هذا راحلتها حتى سقطت على صخرة، وكانت حاملا، فسقط جنينها. الأنصار يتوهمون أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يعود إلى مكة المكرمة 602- كانت إقامة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم رابطة بالود بينه وبين قوم كانوا له أعداء آذوه حتى خرج من عندهم يائسا من أن تتحقق الدعوة إلى الرسالة الإلهية فيهم، وأنه لا سبيل إلا أن يهاجر، ثم كانت الحروب المفرقة. ولما فتح مكة المكرمة كان لا بد أن يزيل الإحن من النفوس فلان ورفق، وعفا وصفح الصفح الجميل، كما أمره ربه إذ قال له: فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ فظن الأنصار الذين آووا ونصروا أن مهمتهم قد انتهت. لقد قالوا فتح الله مكة المكرمة على يد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهى بلده، وموطنه، جال ذلك فى نفوسهم وتحدثوا به فيما بينهم، ثم قالوا أترون رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا فتح الله تعالى عليه أرضه وبلده أن يقيم بها. وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهم يحدثون أنفسهم بذلك يدعو على الصفا والمروة رافعا يده، فلما فرغ من دعائه اتجه إلى أنصاره فقال لهم: ماذا قلتم، قالوا: لا شئ يا رسول الله، فلم يزل بهم حتى أخبروه، فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: معاذ الله، المحيا محياكم، والممات مماتكم، أى إنه يعيش فيهم حتى يموت بينهم، لقد نصره الله تعالى بهم، وخذله غيرهم فهو منهم، وهو كما قال فى موضع سيجئ: إنه لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شعبا، وسلك الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار.

حرمة مكة المكرمة

حرمة مكة المكرمة 603- قال الله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً، وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ، أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (العنكبوت- 67) . والقتال فى البيت الحرام على ذلك حرام، وإن الرجل كان يلقى قاتل أخيه أو أبيه، فلا يمسه، والمنازعات تكون خارجه لكى يتوافر للناس الأمن فى أول بيت وضع للناس ببكة مباركا، وهدى للعالمين. ومن أجل ذلك نهى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم نهيا مؤكدا عن القتل والقتال، وأمن الناس حتى لا يضطروا إلى المدافعة، فقال: من كان فى البيت الحرام فهو آمن، ومن أغلق بابه عليه فهو آمن، وصار يعطى الأمان لكل من يطلبه، إلا أولئك الذين كان لهم إجرام واضح، وبعضهم ممن أسلم ثم ارتد، ومن كان مثل هذا فيه، وقتل عمدا مؤمنا بعد أن أخذ دية أخيه. وذلك كله ليحفظ حرمة البيت الحرام، وشرف مكة المكرمة وحرمتها. ولكن مع هذا الاحتياط الشديد فى حرمة البيت ومنعها من أن تمس، مع ذلك كان من المشركين الذين لم يدركوا معنى السلام من هاجموا قوات خالد بن الوليد، واضطر جيشه أن ينضح عنه النبل القاتل بالقتال فقاتل، وقتل من جيشه اثنان وقتل من المشركين بضعة عشر رجلا. ولا شك أنه فى هذه الحال إنما أباح حرمة البيت الحرام أولئك الذين هاجموا، وهم المشركون، لا الذين دافعوا، وهم من كانوا فى جيش خالد. ولكن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أباح دم الذين أهدر دماءهم، ولو تعلقوا بأستار الكعبة الشريفة وقتل فعلا أحدهم، وهو متعلق بأستار الكعبة الشريفة. وإن حرمة مكة المكرمة باقية، وإن امتهان حرمتها كان لحالة استثنائية لا يوجد مثلها قط، ولذلك خطب بذلك مؤكدا حرمتها، التى اختصها الله تعالي، فخطب قائلا بعد أن حمد الله تعالي، وأثنى عليه، ومجده بما هو أهله: «أيها الناس، إن الله تعالى حرم مكة المكرمة يوم خلق السموات والأرض، فهى حرام كحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر، أن يسفك فيها دما، أو يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص لقتال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقولوا له: إن الله أذنه لرسوله ولم يأذن لكم،

محطم الأوثان

وإنما حلت لى ساعة من زمان، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، فليعلم الشاهد فيكم الغائب» . وكلام النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ليبين للناس حرمة مكة المكرمة الدائمة وإنه ليعرف الناس فجور الأمويين، وأتباعهم الذين رموا الكعبة الشريفة بالمنجنيق، فارتكبوا ما كان الجاهليون يتعففون عنه، فهم أشد جرما ولا حول ولا قوة إلا بالله تعالى. محطم الأوثان 604- اتجه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من بعد أن خضعت قريش راضية أو راهبة إلى تجديد بعض أجزاء البيت، فأمر أبا أسيد الخزاعى بذلك. ولم ينغص على أحد نفسه، بل أخذ منهم الظاهر، وترك لهم ما بطن، ويروى البيهقى أن أبا سفيان كانت تحدثه نفسه أن يثير القتال بينه وبين النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو حديث لم يتكلم به ولم يطلع عليه أحدا وإذا بالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم يقول له: «ليخزينك الله» وكان كأنه يحدث النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى حديث بينهما، فقال أبو سفيان: لا يعلم هذا أحد وإن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يمر على الأصنام فيغمزها بقوسه، فتتساقط، وهو يقول: «جاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقا» وقد ذكرنا ذلك. ولكنه لم يكتف بما صنع هو، فقد أرسل رجاله سرايا إلى أماكن الأوثان، فحطموا ما حول الكعبة الشريفة، ثم حطموا ما هو خارجها، فكسرت اللات والعزى ومناة الثالثة الآخرى ونادى فى أهل مكة المكرمة: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يدع فى بيته صنما إلا كسره» وصار الذين دخلوا فى الإسلام يتسابقون فى كسر ما تحت أيديهم من الأوثان، وبعث خالد بن الوليد إلى العزى لخمس بقين من شهر رمضان ليهدمها فخرج إليها فى ثلاثين رجلا حتى لا يكون من يستطيع مقاومتهم فهدمها. ويقول الرواة إنه رجع إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأخبره فقال هل رأيت شيئا قال: لا. قال فارجع إليها، فإنك لم تهدمها، فرجع خالد وهو متغيظ، فجرد سيفه فخرجت إليه امرأة عارية سوداء ناشرة شعر رأسها، فجعل السادن يصيح بها، فضربها خالد فقتلها، وجاء إلى الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وأخبره، فقال له الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم نعم تلك العزى وقد أيست أن تعبد

فى بلادكم ويظهر أن هذه المرأة كانت تختفى وخالد لم يكن يراها، فلما رفع سيفه واعتقدت أنها لا محالة ظاهرة، ظهرت فقتلها. وكانت بنخلة، وكانت قريش، وبنو كنانة، وكانت أعظم أصنامهم، وكان سدنتها من بنى شيبان. ثم بعث عمرو بن العاص، إلى سواع، وهو صنم لهذيل ليهدمه، فانتهى إليه، وعنده السادن، قال: ما تريد؟. قال: أمرنى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن أهدمه. قال لا تقدر على ذلك، قال ولم؟ قال: تمنع. قال عمرو: حتى الآن أنت على الباطل ويحك فهل يسمع أو يبصر، فدنا منه فكسره، وأمر عمرو أصحابه أن يهدموه ثم قال عمرو للسادن: كيف رأيت؟ قال: أسلمت لله تعالى. وهذا يثبت أن إيمانهم بهذه الأصنام مبنى على وهم توهموه فيها، فلما انكشف لهم كفروا بها. وبعث سعد بن زيد الأشهلي، إلى مناة عند القديد، وكانت صنما للأوس والخزرج وغسان وغيرهم ممن يجاورون الشام أو فى طريقه. فخرج سعد فى عشرين فارسا، حتى انتهى إليها وعندها سادن. فقال السادن ماذا تريد؟ قال سعد هدم مناة، فقال أنت وذاك، وكأنه يتحداه، فأقبل سعد يمشى إليها، فخرجت إليه امرأة عارية سوداء وثائرة الرأس تدعو بالويل وتضرب صدرها فضربها سعد، فقتلها، وأقبل إلى الصنم فهدمه وكسره، ولم يجدوا فى خزائنه شيئا. هذه عزمة قوية من محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، أزال بها ما كانوا يعبدونه من أحجار لا تضر ولا تنفع، وفعل ما فعله جده إبراهيم الخليل عليه السلام، فجعلهم جذاذا، ولم يبق كبيرا لهم، لأنه لا كبير يبقى أمام معول محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد جعلها جذاذا بعد أن فقدت الأوهام التى كانت تحيط بالنفس العربية حولها. وبذلك انتهت دولة الأوثان فى البلاد العربية، ولقد رآها الذين كانوا يعبدونها، لا تدفع محطمها، ولا تمنعه، إذ هى لا تملك لنفسها نفعا، ولا ضرا وقد يئس الشيطان من بعدها أن يعبد فى بلاد العرب.

بعثة خالد بن الوليد إلى جذيمة

بعثة خالد بن الوليد إلى جذيمة 605- عقب تحطيم خالد بن الوليد العزى أرسله النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى جذيمة من كتامة داعيا إلى الإسلام، ولم يبعثه مقاتلا، لأنه لا قتال فى مكة المكرمة وما حولها من القرى والبوادى بعد أن دخلت مكة المكرمة فى طاعة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ولم يكن ثمة حاجة إلى القتال ولم يكن منهم غدر أو خيانة، حتى يعاقبوا على غدرهم وخيانتهم. أرسله صلى الله تعالى عليه وسلم ومعه قبائل من العرب من سليم بن منصور، ومدلج بن مرة، ومعهم بعض المهاجرين والأنصار كعبد الله بن عمر وسالم مولى أبى حذيفة. وكانت عدة من خرج فيهم خمسين وثلاثمائة من بنى سليم والمهاجرين والأنصار. قال لهم خالد: ما أنتم. قالوا: مسلمون قد صلينا وصدقنا بمحمد وبنينا المساجد فى ساحتنا، وأذنا فيها. وكان حقا على خالد بن الوليد أن يكف عند هذا، لأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ما أرسله مقاتلا، بل أرسله داعيا وهاديا، ولكنه تخلى عن هذه الصفة العالية، وأبى إلا أن يكون مقاتلا، وبرر ذلك بأنهم يحملون السلاح. قال لهم: فما بال السلاح عليكم. قالوا: إن بيننا وبين قوم من العرب عداوة، فخفنا أن تكونوا هم. وكان عليه بعد أن يكتفى بذلك، أو أن يتحرى عن صدق كلامهم، أو أن ينزع السلاح من أيديهم. ولكنه لم يفعل، بل استأسرهم، بعد أن وضعوا السلاح كما أمر، وما كان له ذلك، فأوثقهم وفرقهم فى أصحابه. وكان حقا عليه أن يأخذهم أسارى إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ليفعل فيهم ما يحكم الله تعالي، ولكنه فى السحر، نادى خالد بن الوليد، من كان معه أسير، فليضرب عنقه، فأما من كان معه من بنى سليم فقتلوا من فى أيديهم من الأسرى المنكوبين بخالد. وأما المهاجرون والأنصار أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حقا وصدقا، فإنهم أرسلوا أسراهم، ولم يقتلوهم، لأن الأسرى لا يجوز قتلهم لأنهم مسلمون.

ويلاحظ أنه كان فيهم رجل أدرك نية خالد يقال له جحدم، ولم يعتقد أنها نية إسلامية، قال لقومه، لما أمرهم خالد بأن يضعوا أسلحتهم: يا بنى جذيمة إنه خالد، إنه خالد، والله ما بعد وضع السلاح إلا إسار، وما بعد الإسار إلا ضرب الأعناق. انتقل رجل من القوم، وذهب إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: هل أنكر عليه أحد؟ قال نعم: قد أنكر عليه رجل أبيض ربعة، وأنكر عليه رجل آخر طويل مضطرب، فاشتدت مراجعتهما فقال عمر بن الخطاب، أما الأول فابنى عبد الله يا رسول الله، وأما الآخر. فسالم مولى أبى حذيفة. عندما بلغ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فعل خالد هذا رفع يده إلى السماء ضارعا: اللهم إنى أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد. ولقد رأى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن فعل خالد لم يكن من الإسلام، ولعله رأى أنه بقية من بقايا الجاهلية. أول ما فكر صلى الله تعالى عليه وسلم أن يرأب الصدع، ويداوى القلوب بالديات يرسلها، فدعا على بن أبى طالب، فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: «يا على اخرج إلى هؤلاء القوم فانظر فى أمرهم، واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك» . هذا أمر فى موضعه وفى وقته، فإن الجاهلية فى هذا الأمر قد بدت نائبة ظاهرة. فخرج علي، ومعه مال كثير قد بعث به رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فودى لهم الدماء، وما أصيب لهم من الأموال، حتى إذا لم يبق شيء من دم أو مال إلا وداه بقيت معه بقية من المال، فقال لهم على حين فرغ منهم: هل بقى لكم دم أو مال لم يود لكم؟ قالوا: لا، قال: أعطيتكم هذه البقية احتياطا لرسول الله مما لا يعلم ولا تعلمون. جاء على إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقص عليه ما صنع فقال أحسنت وأصبت، ولكن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لا يزال على ألم وأسي، ولذا استقبل القبلة قائما شاهرا يديه، حتى إنه ليرى ما تحت منكبيه. «اللهم إنى أبرأ مما صنع خالد بن الوليد ثلاث مرات» ، لقد أصاب فعل خالد قلب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، لأنه قتل وهو مبعوثه أبرياء. وقد ورد ما يدل على الاعتذار عن فعل خالد الذى لا يقبل الاعتذار، ولو كان عذر لأبداه للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم: قالوا إنهم قالوا صبأنا صبأنا، يريدون أسلمنا، فظنهم قد كفروا فقتلهم، وهذا كلام غير مقبول فى ذاته لأن سنده ضعيف، وما كان له أن يقاتلهم على ذلك، وقد تبين أنهم

لا قدرة لهم على القتال، فكيف يقتلهم إنه إن صح ذلك لا يكون قتالا محمديا، فقد أسرهم، فلماذا يقتلهم فى السحر. إن الأمر مهما يؤت من جوانبه لا يبرر فيه إلا العمل الجاهلي، وقد صرح بذلك خالد بن الوليد فى مجادلة مع عبد الرحمن بن عوف الذى كان يلومه. قال ابن إسحاق: قد كان بين خالد بن الوليد، وعبد الرحمن بن عوف (الصحابى المهاجر أحد العشرة المبشرين بالجنة) كلام فى ذلك، قال له عبد الرحمن بن عوف عملت بأمر الجاهلية فى الإسلام، فقال خالد: «إنما ثأرت بأبيك، فقال عبد الرحمن، كذبت، قد قتلت قاتل أبي، ولكنك ثأرت لعمك الفاكه بن المغيرة، حتى كان بينهما شر» . عبد الرحمن بن عوف يقول قولة الإسلام، وخالد يقول الثارات، وقد بلغ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ما قال خالد لعبد الرحمن بن عوف فقال لائما لخالد، مبينا له مكانه من أصحابه. «مهلا يا خالد، دع عنك أصحابي، فوالله لو كان لك أحد ذهبا، ثم أنفقته فى سبيل الله ما أدركت غدوة رجل من أصحابى ولا روحته» . نعم هم الأصحاب الذين رضى الله عنهم ورضوا عنه فى بيعة الرضوان تحت الشجرة. ومهما يكن حكم التاريخ فى عمل خالد جاهلية وإسلاما، فإنه سيحكم لا محالة فى هذه الواقعة، بأن فيها جاهليته إن لم يكن كلها جاهليا، ورحم الله عمر بن الخطاب عندما عزله فقد قال: «إن فى سيف خالد لرهقا» ولعل كان أشده مما كان واضحا فى أمر جذيمة. وإننا إذ ننقد فعل خالد فى هذا نتابع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ونراه ينطق بالحق، وإذا كان من الناس من كان ينقد عليا وعثمان ومن يماثلهما، فإن لنا أن ننقد عمل خالد فى هذا، وما كنا مبتدعين فى نقده، لأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم برئ من صنيعه، ووضح له فعله مع المؤمن المهاجر أحد العشرة المبشرين بالجنة واستنكره.

مدة إقامة رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة المكرمة

مدة إقامة رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة المكرمة 606- أقام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بقية شهر رمضان يقصر من الصلاة فيصلى الأربع اثنتين، ويفطر، لأنه كان لا يزال مسافرا، ولم يعد نفسه فى مكة المكرمة وطنه الأصلى وهو مكة المكرمة، لأنه لم يبق له دار تعد بيته الأصلي، وقال ما أبقى لنا عقيل من دار، وقد استمر يترخص رخصة المسافر، لأنه لم ينونية الإقامة، فكان على سفره يترخص فى الصلاة والصيام معا. وإن رمضان قد انتهى وهو بمكة المكرمة، فلم يكن محل رخصة الإفطار إنما كانت رخصة القصر قائمة وكان هو يؤم المصلين المقيمين. يقول بعد تمام الركعتين: «يا أهل البلد صلوا أربعا فإنا سفر» ، وقد اختلف فى مدة إقامة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فروى أنها خمس عشرة ليلة، وروى أنها ثمانى عشرة ليلة، وروى أنها تسع عشرة ليلة، والله أعلم بأصح الروايات. أحكام فقهية شرعت فى الفتح 607- أول حكم يتجه الفقهاء إلى الكلام فيه أن مكة المكرمة فتحت عنوة أم فتحت صلحا، فكثيرون من العلماء يقولون إنها فتحت عنوة، فتكون أرضها خراجية ولا تكون عشرية، لأن الجيوش الإسلامية دخلتها فاتحة، وقتل فيها قتلي، فقتل نحو عشرين منهم نحو اثنى عشر من المشركين، وبعض المؤمنين، وكان يؤمن بعضهم بأمان خاص من النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، والأمان العام الذى قرره النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان ملاحظا معنى خاصا، وهو أن من دخل بيت أبى سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق بيته فهو آمن، وبالمفهوم أن من رؤى فى غير بيته، وفى غير واحد من هذه البيوت، فإنه مباح الدم إلا بأمن خاص، وهذا يدل على أنهم حربيون، والحربيون حتى يصدر الأمان لا يقال إنهم فتحت أرضهم صلحا. ولأنه لم يكن ثمة عقد صلح كان الأمان نتيجة له، ولأنه لم تفرض جزية على أحد من أهل مكة المكرمة، حتى يقال إنهم أعطوا الجزية، وإن أرض مكة المكرمة لم تكن خراجية، هذه وجهة نظر من قالوا إن مكة المكرمة فتحت عنوة. ويرى الإمام الشافعى مع كثيرين من الفقهاء أن مكة المكرمة لم تفتح عنوة، بل فتحت صلحا مما سبق به النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من أنه أعطى الأمان لأهلها بقوله «من دخل دار أبى سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن ومن أغلق بابه فهو آمن» فكان ذلك تأمينا عاما، ثم صرح عند أمن

مكة المكرمة وما يحرم فيها:

الجميع، وأباح دم التسعة الذين ذكرهم وأجاز قتلهم، ولو كانوا متعلقين بأستار الكعبة الشريفة. وأنه لم يقسم أرض مكة المكرمة بين القائمين ولم يعتبر أموال أحد من أهلها غنيمة ولا نفلا من الأنفال، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم نهى عن القتل والقتال، فكيف يقال بعد ذلك إنها فتحت عنوة، إن المقياس الضابط بين العنوة والصلح هو أن يكون تسليم أهل البلدة فى العنوة بقوة السيف والغزو، وأما الصلح فهو التسليم من غير قتال ولا أمن، ولقد سلم أهل مكة المكرمة من غير قتال، وكان الأمن الكامل من الرسول الكريم صلى الله تعالى عليه وسلم هو فى قوله «اذهبوا فأنتم الطلقاء» . وإنا نميل إلى أن مكة المكرمة لم تفتح عنوة ولا صلحا، فلم يتحقق أصل الفتح، وإنما تحقق اللقاء بالمودة والرحمة من غير عقد، بل بما هو أعلى من العقد، وهو صلة الرحم بعد قطعها من قريش، ولو أننا اخترنا الموازنة بين الرأيين، وكان لا بد أن نختار أحدهما، لاخترنا أنها لم تفتح عنوة. مكة المكرمة وما يحرم فيها: 608- قلنا إن الله تعالى حرم القتال فى مكة المكرمة، ونقلنا قول الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم فى ذلك، والآن سنذكر بعض الأحكام المتعلقة بمكة المكرمة فنقول. إن الله تعالى حرم الصيد فى الحرم الشريف مكة المكرمة وما حولها لمن أحرم بالحج، ولقد قال تعالى فى ذلك: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ، وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ، وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً، وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (المائدة- 96) . ولقد ذكر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم تحريم القتل والقتال فى مكة المكرمة، وذكر بعده محرمات أخرى فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: «إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، فهى حرام بتحريم الله سبحانه وتعالي، لا تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، ولم تحل لى إلا ساعة من الدهر، لا ينفر صيدها، ولا يعضد شوكها، ولا يتخلى خلاؤها، ولا تحل لقطتها إلا المنشد، فقال العباس إلا الإذخر فإنه لا بد منه للدفن والبيوت، فسكت النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ثم قال: إلا الإذخر. هذا ما رواه البخاري، وقد انفرد بروايته، وحسب البخارى صدقا، لأنه صادق فى جملة ما رواه. وإن أخذت عليه بعض الأحاديث لمتنها. وبذلك ننتهى من بيان هذا الحديث.

(أ) بأنه يحرم الصيد فى الحرم كما قال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم «لا ينفر صيدها وكلها حرم آمن من كل نواحيه» . (ب) وبأنه لا تقطع أشجارها، لتوجد جوا صالحا من جوها، وإن شوكها لا يعضد، ولا يحتجز خلاء لأحد فلا إقطاع فيها لأحد، ولا تحل لقطتها إلا بعد التعريف بها، وذلك حكم عام لا تختص به مكة المكرمة، فإن اللقطة لا تحل إلا بعد تعريف صاحبها، ويكون حلها أن يتصدق بها، فإن كان اللاقط مستحقا للصدقة تصدق بها على نفسه. وقد لوحظ أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، حرم على المقيم فى مكة المكرمة ما لا يكون ضروريا للإقامة، فنبه العباس أن الإذخر محتاج إليه فى البيوت، ومحتاج إليه فى دفن الموتي، فذكر للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم فتفكر النبى عليه الصلاة والسلام، ثم وافق، ولعل الوحى قد نزل عليه بذلك، فما كان كلامه اتباعا للعباس، ولكن كان اتباعا لأمر ربه. ومهما يكن من ذلك، فإن العباس بإدراكه الإسلامي، فهم أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أباح من زرع مكة المكرمة ما لا يمكن الاستغناء عنه فقال مقاله، فنزل الوحى بما قال، فكان الوحى قد وافق نظره كما يذكر أنه وافق رأى عمر فى بعض الأمور التى كان يؤخذ الرأى فيها. فما كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم تابعا للعباس، بل جاء الوحى بموافقته، كما جاء الوحى بموافقة عمر كما ادعى فى بعض المواضع. لقد حرم الله تعالى القتل فى مكة المكرمة أفلا يصح القتل قصاصا، أو إقامة الحد أو نحو ذلك، قرر العلماء أن ذلك جائز، فيجوز فيها القصاص، وتتبع العصاة وعقابهم، ولذلك قال عمرو بن سعيد إجابته لأبى شريح. قال أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح، إن الحرم لا يفيد عاصيا (أى لا يحمى عاصيا) ولا فارا بدم ولا فارا بجزية. وهكذا فالمحرم القتل بغير حكم شرعي، أما القصاص بحكم القصاص فإنه يجوز، ولقد استباحت خزاعة أن تأخذ بثأرها من بعض بنى بكر، فقتلت واحدا، فنهاها نهيا قاطعا، ودفع دية المقتول. ولقد خاطب خزاعة عند ودى قتيلها، «يا معشر خزاعة، ارفعوا أيديكم عن القتل، لقد قتلتم قتيلا فوديته فمن قتل بعد مقامى هذا، فأهله بخير النظرين، إن شاؤا قدموا قاتله، وإن شاؤا نعقله لأى وثبة» .

دية شبه العمد

ولقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم: «إن أعدى الناس من قتل فى الحرم أو قتل غير قاتله، أو قتل بذحول الجاهلية» صدق رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فلا يقتل بالكبير فى زعمهم عدد من قبيل القاتل. دية شبه العمد 609- أعلن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم دية القتل شبه العمد، ذلك أن القرآن الكريم بين حكم القتل العمد، فقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ، وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ، وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ، وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ، ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ، فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ. وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (البقرة- 179) . بهذا النص الكريم ثبت أن عقوبة القتل العمد القصاص، ولكن رخص لولى المقتول أن يختار الدية بعد القصاص، ويسمى الفقهاء الدية فى هذه الحال قصاصا معنويا، وكان ذلك تخفيفا من الله ورحمة لأنه قد يكون من مصلحة ولى الدم أن يرضى بالدية أو العفو كأخ يقتل أخاه، ولى الدم- وهو الأب- فإذا كان القصاص من غير فرصة الدية أو العفو، خسر المكلوم ولديه، فكان هذا الترخيص بالدية أو العفو تخفيفا ورحمة. والقتل الخطأ شرع القرآن الكريم عقوبته فثبت بالنص، فقد قال تعالى: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً، وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا، فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ، وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ، وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً. وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (النساء- 92- 93) . وهكذا ذكر الله تعالى عقوبات القتل. وخلاصة ما نصت عليه الآية: - أولا: أن تعمد القتل لا كفارة له عن عقوبة الآخرة. ثانيا: أن الدية فى القتل تكون لأهله المسلمين أو من كان بيننا وبينهم عهد أما العدو فلا دية لأهله لأنهم يقوون بها، ويستعينون بها فى حرب المسلمين.

الميراث بين المسلم والكافر

ثالثا: أن تحرير الرقبة ضرورى أو بدله، وهو صيام ستين يوما، وذلك لتكفير إثم الخطأ، لأنه مهما يكن ففيه إثم ترك الاحتراز، ولأن القاتل خطأ أفقد المسلمين نفسا، فحق عليه أن يحيى نفسا بدل من تسبب فى فقدها، وإحياؤها بحريتها، فالحرية لفاقدها إحياء. هذه إشارات إلى أحكام القتل فى القرآن الكريم ذكرناها ليميز ما جاء به النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو القتل شبه العمد، ولم يذكر فى القرآن الكريم حكم للقتل الشبيه بالعمد. وذكره النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى فتح مكة المكرمة فى المدة التى أقامها بها فقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم: «الحمد لله الذى صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده» ألا إن قتيل العمد الخطأ بالسوط أو العصا فيه مائة من الإبل- وفى مرة قال- مغلظة فيها أربعون خلفة فى بطونها أولادها، وهذا النوع من القتل يسمى فى عرف الفقهاء شبه العمد، وسماه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم العمد الخطأ، وهو كما عرف النبى صلى الله تعالى عليه وسلم القتل المقصود الذى يقع بغير آلة معدة للقتل، كالقتل بالسوط أو العصا، أو الحجر، الذى لا يقتل عادة، وهو الذى يسمى فى عرف القانون فى هذه الأيام الضرب المفضى إلى الموت، وقد ذكر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن ديته دية مغلظة، وذلك لأن الدية فى القتل نوعان، فالدية المغلظة التى تناسب الجريمة وهى التى ذكرها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وهى مائة من الإبل فقط من غير اشتراط أن يكون فيها هذه الأربعون الحوامل. والقتل شبه العمد الضرب مقصود فيه، فلم يكن خطأ جاء من غير قصد إنما قصد ثابت لأنه أراد الضرب، ولكن الآلة غير قاتلة فى ذاتها، فهو لا يعد قاصدا النتيجة، وجاءت النتيجة غير مقصودة، فشابه الخطأ من حيث لم يقصد هذه النتيجة، وشابه العمد، لأنه قصد الضرب، وباشره عامدا، ولذلك سماه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: «العمد الخطأ، فهو عمد فى ابتدائه وليست نهايته متعمده» . الميراث بين المسلم والكافر 610- عندما دخل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مكة المكرمة، لم يجد دارا من دور بنى هاشم تعد بيتا، ولم يجد بيته الذى كان له قبل هجرته، وقال عليه الصلاة والسلام: هل أبقى لنا عقيل من دار، وعد نفسه مسافرا ودل هذا على أنه إذا عاد الشخص إلى موطنه الأصلى لا ينقطع عنه وصف المسافر إلا إذا عاد إلى بيته الذى كان يقيم فيه، فإن لم يجد بيته الذى كان يقيم فيه لا يعد مقيما، بل يعد مسافرا وذلك لأن مكة المكرمة بلده، ولكنه لم يجد فيها راحة المقيم فكان مسافرا.

الولد للفراش

ولذلك أفطر فى رمضان برخصة السفر، وقصر الصلاة بهذه الرخصة. ولقد أخذ الخارجون على سيدنا عثمان رضى الله تعالى عنه أنه لم يقصر الصلاة فى مكة المكرمة، فبين أنه كان فى بيته وبين أهله، فلم يعد نفسه مسافرا، فلم تكن الرخصة التى تسوغ له القصر، ولعله وجد بيته الذى كان يقيم فيه قبل الهجرة، وذلك كله على أساس أن القصر رخصة، وليس عزيمة. وقد ذكر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بعد قوله. ما ترك لنا عقيل من دار، لا ميراث بين مسلم وكافر، فكان هذا شرعا يمنع ميراث الكافر من المسلم، وميراث المسلم من الكافر، وذلك صريح قول النبى صلى الله تعالى عليه وسلم «لا يتوارث أهل ملتين شيئا» . ولقد كان إجماع الفقهاء على ذلك إلا الشيعة الإمامية، فقد قرروا منع ميراث الكافر من المسلم، ولم يمنعوا ميراث المسلم من الكافر. وكذلك كان يعمل بذلك معاوية بن أبى سفيان الذى ملك أمر المؤمنين باسم الخلافة واسم إمرة المؤمنين، ولذلك كان القاضى شريح رضى الله تعالى عنه يصدر أحكامه ذاكرا فيها أنه قضاء الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، إلا إذا قضى فى توريث مسلم من كافر، قال: هذا قضاء أمير المؤمنين معاوية. والحق ما قرر الفقهاء لأنه صريح قول النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ولأن الميراث سببه النصرة بين الوارث والمورث، وهى لا تتحقق إذا كان أحدهما غير مسلم، ولأن الميراث ولاء، ولا ولاء بينهما، ولأن الوارث امتداد لشخصية المورث، ولا يمكن أن يعد المسلم امتدادا لشخصية الكافر. الولد للفراش 611- جاء هذا الحديث الصحيح فى وقائع فى مكة المكرمة عند فتحها، ذلك أن عتبة بن أبى وقاص عهد إلى أخيه سعد أن يطالب بنسب ابن عبد بن زمعة على أنه ابن عتبة، وابن أخي، ولكنه جاء من فراش ابن زمعة فتنازعه عبد بن زمعة على أنه أخوه ولد فى فراش أبيه، وسعد على أنه ابن أخيه بوصية عتبة أخيه، فوجد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن صفاته الجسمية تشبه صفات عتبة، ولكنه عليه الصلاة والسلام لا يحكم بالقيافة بل يحكم بالشرع، فحكم لعبد بن زمعة على أنه أخوه، وأخو أم المؤمنين سودة بنت زمعة، وبذلك تبين معنى الحديث «الولد للفراش وللعاهر الحجر» .

قطع اليد

ولكن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أمرها بأن تحتجب عنه، ولو كان أخاها حقيقة، ومن كل الوجوه ما احتجبت، ولكن لأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يحتاط للتحريم لما رأى من شبه بينه وبين عتبة مما يوميء إلى أنه ابنه، فاحتاط فى التحريم، وحكم بحكم الله فى النسب، والله تعالى أعلم. قطع اليد 612- روى البخارى بسنده عن عروة بن الزبير أن امرأة سرقت فى عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى غزوة الفتح، فأهم قريشا أن تقطع يد امرأة منهم فى سرقة، وكانت مخزومية اسمها فاطمة، ففزع قومها إلى أسامة بن زيد، وكان حب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، يستشفعونه، فغضب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وقال لأسامة أتشفع فى حد من حدود الله، فقال أسامة أستغفر الله يا رسول الله، فلما كان العشى قام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: أما بعد، ما بال أقوام يشفعون فى حد من حدود الله، فإنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والذى نفسى بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها. وهكذا كانت الأحكام الإسلامية تطبق على القوى والضعيف، ومن له نسب، ومن ليس نسبه يحميه، وأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أشار إلى معنى اجتماعى فى قيام الأمم وقوتها، فبين عليه الصلاة والسلام أن العدالة والمساواة أمام القانون هى التى تبنى الأمم، ولا ملك يقوم من غير عدالة، بل إنه إن بدا قويا، فإن الظلم الذى يكون فيه يهدم أركانه ويقوض بنيانه فلا قوة لأمة بظلم، ولا علو لجماعة بغير العدل. ولقد أمر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بقطع يدها، ليعلموا أن قريشا العزيزة المتفاخرة بأنسابها هى والجميع على السواء، وذلك ضرب فى جنب العصبية الجاهلية، ولقد حسن إسلامها بعد قطع يدها، وعلمت أن يدها طهرتها، وسبقتها إلى الجنة، كما قال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.

المتعة وتحريمها

المتعة وتحريمها 613- يذكر البخارى وغيره أن المتعة حرمت نهائيا فى غزوة الفتح، وكان فيها التحريم قاطعا، ناسخا للترخص فيها إلى يوم القيامة. وقد تكلمنا عن المتعة عند الكلام فى الأحكام التى ثبتت فى غزوة خيبر، ونذكر هنا بأننا قلنا أنها لم تبح ساعة من زمان، وإنما هى من اتخاذ الأخدان سكت عنه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فكانت موطن عقد حتى أعلن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم زوال العقود فيها بقوله عليه الصلاة والسلام وبالقرآن الكريم القاطع المانع، ولقد شرحناها فى موضعها من القول. ولا مانع من أن نذكر ما قاله علماء الفقه والحديث هنا، وإن كنا قد أشرنا إليه فيما مضى من قولنا يقول الحافظ ابن كثير فى تاريخه: «من أثبت أن النهى عنها فى غزوة خيبر، قال إنها أبيحت مرتين، وحرمت مرتين وقد نص على ذلك الشافعي، وقيل إنها حرمت مرة واحدة، وهى هذه المرة فى غزوة الفتح، وقيل إنها أبيحت وحرمت أكثر من مرتين. وقيل إنها أبيحت للضرورة، فعلى هذا إذا وجدت ضرورة أبيحت وهذه رواية عن أحمد، وهذا قول جاف عن الشريعة، فما هى الضرورة، وقد نسب هذا القول إلى الإمام ابن عباس. المبايعة على الإسلام 614- قلنا إن الفتح لم يكن لقاء معركة، وإنما كان لقاء مودة ومحبة، ومع المحبة والمودة كانت الدعوة إلى الإسلام، وقد دخل الناس فى دين الله أفواجا أفواجا، إذ جاء نصر الله العزيز الحكيم. وروى البيهقى أن الناس كانوا يبايعون على الإسلام رجالا كبارا، وغلمانا صغارا إذا كانوا قد بلغوا حد الإدراك، وكانت تلك المبايعة على الدخول فى طاعة الإسلام، وشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وكانت بيعة النساء على ذلك، وكانت على أخذ العهد، بألا يفعلن شيئا من المحرمات: وقال ابن جرير الطبرى: اجتمع الناس بمكة المكرمة لبيعة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فجلس لهم على الصفا، وعمر بن الخطاب أسفل من مجلسه، فأخذ على الناس السمع والطاعة لله ورسوله فيما استطاعوا، فلما فرغ من بيعة الرجال بايع النساء وفيهن هند بنت عتبة منتقبة متنكرة، لحدثها من صنيعها

نفقة الزوجة

بحمزة رضى الله عنه، فهى تخاف أن يأخذها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بحدثها (أو تستحى من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فيما صنعت بعمه الحبيب) . فلما دنين من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ليبايعهن، قال: بايعننى على ألا تشركن بالله شيئا، فقالت هند، والله إنك لتأخذ علينا مالا تأخذه من الرجال، ولا تسرقن، فقالت والله إن كنت لأصيب مال أبى سفيان الهنة بعد الهنة، وما كنت أدرى أكان ذلك علينا حلالا أو لا، فقال أبو سفيان وكان شاهدا لما تقول: أما ما أصبت فيما مضي، فأنت منه فى حل. فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «وإنك لهند بنت عتبة؟» قالت نعم، فاعف عما سلف، عفا الله عنك، ثم قال عليه الصلاة والسلام: «ولا يزنين» قالت: يا رسول الله وهل تزنى الحرة، ثم قال عليه الصلاة والسلام: «ولا يقتلن أولادهن» ، قالت: قد ربيناهم صغارا حتى قتلتهم أنت وأصحابك ببدر كبارا، فضحك عمر بن الخطاب، حتى استغرق، ثم قال عليه الصلاة والسلام: ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن، فقالت: والله إن إتيان البهتان لقبيح، ولبعض التجاوز أمثل، ثم قال، ولا يعصينني، قالت فى معروف. فقال لعمر رضى الله عنه بايعهن، واستغفر لهن الله، إن الله غفور رحيم، فبايعهن عمر. وكان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، لا يمس إلا امرأة أحلها الله تعالى له، أو ذات محرم منه. وما كان يبايعهن إلا بالكلام، ويقول: إنما قولى لامرأة واحدة، كقولى لمائة امرأة. نفقة الزوجة 615- إن نفقة الزوجة واجبة على الرجل، ويقسمها الفقهاء إلى قسمين نفقة تمكين، ونفقة تمليك. والأصل نفقة التمكين. ونفقة التمليك هى أن يقدر لها ما يكفيها بالمعروف، ويملكه إياها نقدا، أو طعاما، أو أنواعا، وأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى غزوة الفتح قرر نفقة التمكين فقد سألته هند قائلة: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطينى من النفقة ما يكفينى وبنى، فهل على من حرج إذا أخذت من ماله بغير علمه، قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: خذى من مال أبى سفيان ما يكفيك وولدك بالمعروف. وروى البيهقى بسنده عن عائشة رضى الله تعالى عنها أنها قالت: إن هندا بنت عتبة قالت: يا رسول الله ما كان على وجه الأرض أهل خباء أو خباء أحب إلى من أن

حكم الهجرة بعد الفتح

يذلوا من أهل أخبائك أو خبائك، ثم ما أصبح اليوم على ظهر الأرض أهل خباء أو خباء أحب إلى من أن يعزو من أهل أخبائك أو خبائك، وأيضا: والذى نفسى بيده، يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، فهل على حرج أن أطعم من المال الذى له، قال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بالمعروف. وهذا الحديث مهما تختلف صيغة رواياته يدل على ثلاثة أمور: أولها: أن نفقة الزوجة واجبة على الزوج سواء أكانت غنية أم كانت فقيرة، وسواء أكانت قادرة على الكسب أم عاجزة عنه، لأنها جزاء قيامها بحقوق الزوج ورعاية بيته وأولاده وهى تقسيم فى نظام الحياة الزوجية، المرأة تقوم بإدارة مملكة البيت، والرجل يكدح ويعمل للحصول على الرزق، ولذلك يقول صلى الله تعالى عليه وسلم فى حجة الوداع لهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف. والثانى: الأمور التى تدل عليها الأحاديث الواردة عن هند وإجابة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن على الزوج أن يمكنها من ماله الذى تتمكن به من أن تطعم وأولادها بالمعروف فى أمانة من غير خيانة. ثالثها: أن نفقة الزوجية تثبت حقا لها ولأولادها من غير حكم من القضاء، أو أمر من ولى الأمر، بل تثبت بحكم الشرع على أنها حق من حقوقها بمقتضى الأحكام الشرعية لا بسبب الرضا، أو القضاء، وقد يكون تقديرها بالتراضي، ولكن أصل الوجوب يكون بحكم الشرع هذا ما اقتضى الحديث بيانه، وربما عاودنا القول فى حجة الوداع. حكم الهجرة بعد الفتح 616- روى أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قام بعد تمام فتح مكة المكرمة، فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: «لا هجرة بعد فتح مكة، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا» ، وإن ذلك المعنى مستقيم بمنطق الوقائع، فقد كانت الهجرة قبل الفتح من مكة المكرمة إلى الحبشة، أو إلى المدينة النبوية فكانت فرارا من الاستضعاف فى مكة المكرمة، إلى حيث الأمن والاطمئنان وخصوصا إلى يثرب، حيث تتجمع القوى الإسلامية فى المدينة المنورة مجاهدة داعية.

وإن الهجرة بعد أن صارت مكة المكرمة دار إسلام، وبها البيت الحرام، فإن الهجرة منها لتقتضى خلوها من السكان. وهم أهل البيت الحرام. ولكن معنى ذلك أن لا تمنع الهجرة من أى بلد إلى أخرى، ولكن لا يكون له ثواب المهاجر، إذا كان الخروج لمجرد طلب الرزق، والثواب إن كان فلا يكون ثواب هجرة، ولكن يكون ثواب طلب الرزق استجابة لقوله تعالى: وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً (النساء- 100) . ولكن يكون بعد ذلك هجرة يكون فيها ثواب الهجرة وهى مطلوبة غير منهى عنها، بل يحاسب فيها المؤمن إن كان قادرا على الهجرة، ولم يهاجر، وذلك فى حال أن يعيش مستضعفا بين الكفار، يسومونه الذل والهوان، وإن خرج إلى أرض الإسلام كان التجمع القوى والوحدة الشاملة الكاملة. ومن ذلك قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ، قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ، قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ، وَساءَتْ مَصِيراً. إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا. فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ، وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً فإن هذه الآية توجب الهجرة على كل مستضعف فى الأرض لتكون الجماعة الإسلامية له قوة، ويكون من انضمامه لجماعة المسلمين قوة بانضمام كل بعيد عنها إليها، فإن التجمع قوة فى ذاته، وقوة عامة للمسلمين، والانفراد مع الاستضعاف ذل لبعض المسلمين. وحرمان للمجموع من قوة التجمع. ولذلك ورد أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قال «الهجرة دائمة» وقال عن اجتماع الكافر بالمسلم «لا تتراءى ناراهما» . فالهجرة التى انتهت هى الهجرة من مكة المكرمة. أما الهجرة فلم تنته بإطلاق، ويقول فى ذلك الحافظ ابن كثير: إنه يعرض حالة تقتضى الهجرة بسبب مجاورة أهل الحرب، وعدم القدرة على إظهار الدين فتجب الهجرة إلى دار الإسلام، وهذا ما لا خلاف فيه بين العلماء. ولكن هذه الهجرة ليست كالهجرة قبل الفتح، كما أن كلا من الجهاد والإنفاق فى سبيل الله مشروع، ورغب فيه إلى يوم القيامة، وليس كالإنفاق، ولا الجهاد قبل الفتح فتح مكة المكرمة، كما قال تعالى: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ، وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا (الحديد- 10) وإنه بلا ريب الجهاد قبل الفتح، لإنشاء قوة للمسلمين، والجهاد بعد ذلك لبقاء الإسلام، والإبقاء أسهل من الإنشاء فكانت لذلك أفضل والله سبحانه وتعالى أعلم بموضع الفضل والخير.

ملكية أرض مكة المكرمة

ملكية أرض مكة المكرمة 617- ملكية أرض مكة المكرمة أتجوز أو لا تجوز؟ فى هذا الأمر نظر السلف الصالح، واختلفوا فى اتجاههم إلى اتجاهين: أولهما: أنها لا تملك، وحجته أولا أنها دار النسك، ومتعبد الخلق، وحرم الله تعالى الذى جعله للناس سواء العاكف فيه والباد، وإن الله تعالى يقول: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً، وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ (العنكبوت: 67) وإن أرض مكة المكرمة نسك وحرم، فهى معبد، والمعابد لا تملك، إنما هى وقف على العباد لا تباع ولا توهب ولا تورث. ثانيا: كل تعبير بالحرم أو نحو ذلك فهو تعبير عن مكة المكرمة- يقول الله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ، وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (الحج- 25) . وترى أن مكة المكرمة كلها بظاهر النص وإشاراته هى موطن العاكف ومزار البادى فكلها نسك، لا يورث ولا يملك. وحجة هذا الرأى أيضا: أنه قد وردت الآثار صريحة بالنهى عن بيعها، وعن إجارتها، وعن وراثتها، ولقد قال عبد الله بن عمر من أكل أجور بيوت مكة المكرمة، فإنما يأكل فى بطونه نار جهنم. وثالثا: أن عمر بن الخطاب نهى عن اتخاذ الأبواب فى دور مكة المكرمة وأمر بفتح الأبواب لمن كان لداره باب، فلا يغلقه، ليسهل أن يبيت العاكف فيه والباد، كما صرح الله سبحانه وتعالى. ورابعا: كتب عمر بن عبد العزيز على مشهد من التابعين ألا تؤجر دور مكة المكرمة. هذه حجج الذين قالوا إنها لا تملك أرضها، ولا تؤجر، ولا تباع ولا تورث. وحجة الذين أباحوا امتلاكها- أن الله سبحانه وتعالى أضاف ملكيتها إلى أصحابها فقال تعالى: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ (الحشر- 8) وقال تعالى: فَالَّذِينَ هاجَرُوا، وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ (الممتحنة- 9) . وقال تعالى: إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ. وفى هذه النصوص كلها أضاف الديار إضافة اختصاص إلى المهاجرين. وقد سأل سائل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: أين تنزل غدا بدارك؟. فقال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: «وهل ترك عقيل من دار» وفى رواية من رباع، فلم يقل أنه لم يكن له من دار ولقد

سب النبى صلى الله عليه وسلم

آلت ديار أبى طالب عم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى عقيل ابنه، ولم يأخذ منها أخوه على شيئا، لأن عليا كان مسلما، فلا يرث من أبى طالب، ولا يرثه إلا عقيل، ومن بقى على الشرك. وأخبر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن عقيلا أخذها، ولم ينزعها من يده، فدل ذلك على سلامة ملكيته بالميراث، بل أقرها وسكت. وقد كانت الدور تنسب لأصحابها، فيقال دار أم هانيء، ودار خديجة وغيرها، وكانوا يتوارثونها كما يتوارث المنقول. وقد باع صفوان بن أمية دار العمر بن الخطاب بوصف أنه أمير المؤمنين فاتخذها سجنا، يسجن بعض ذوى المعاصى ليمنع شرهم. وهكذا كان يجرى البيع والشراء فى الدور، والتوارث فيها. ولقد وفق ابن القيم وغيره بين أدلة الفريقين، بأن الأدلة المثبتة لجواز البيع والإجارة والميراث، موضوعها البناء، وأما الأرض فإنه لا يجرى عليها البيع ولا الميراث، وبذلك ينتهى الحكم المقرر بالنسبة لمكة المكرمة أن الأرض موقوفة على مصالح المسلمين، والبناء مملوك لمن أقاموه، وينتقل بالوراثة، والله سبحانه وتعالى أعلم. سب النبى صلى الله عليه وسلم 618- ثبت حكم سب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى هذه الغزوة، لأن جارية سبت النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فقتلها سيدها، ولأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أباح دم جاريتين كانتا تتغنيان بسب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وأمر بقتلهما ضمن من أهدر دمهم ولو وجدوا متعلقين بأستار الكعبة الشريفة، وعندما كان كعب بن الأشرف يسب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فأمر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بقتله. ولذلك كان الذمى إذا سب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم اعتبر نابذا للعهد. وإن سب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إفساد فى الأرض، وخروج عن حكمه، والمفروض فى كل من يكون تحت طاعة دولة أن يطيع منشيء هذه الدولة، ومنشيء دولة الإسلام هو سيدنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فسبه خروج عليها.

غزوة هوازن

وقد عرض سؤال غريب: إننا قبلنا أن يبقى الذمى، وهو يعبد النار، ويؤمن بالتثليث، وغير ذلك مما هو خطأ فى جنب الله تعالى، فكيف لا نقبل عهد الذمى إذا سب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، إن هذا فى القياس غريب!! ونقول فى الجواب عن ذلك: إن ذلك اعتقادهم، وقد قبلنا أن يبقوا تحت ظلنا مع استنكار ما هم عليه، وأمرنا بتركهم وما يدينون، ولم يكن فى ذلك البقاء إفساد للنظام، ولا هدم للعهد، أما سب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فهو متضمن أمورا أخرى عظيمة، فهو يتضمن مهاجمة الإسلام، وألا يترك المسلمون وما يدينون، بينما المسلمون تركوهم وما يدينون، وفوق ذلك يكون إعلانا للخروج على الطاعة والنظام. غزوة هوازن 619- أخذت القوى العربية المشركة تتخاذل شيئا فشيئا، وبعد أن فتحت أم القرى، وتلاقت فيها القلوب على مودة ورحمة، وعادت الأخوة بين ذوى الأرحام، لم يبق من أهل القوة من العرب إلا هوازن وثقيف بالطائف، وكانوا ذوى بأس شديد فى البلاد العربية. ولقد قال الصديق وهو ينطق بالحكمة: «لن نغلب بعد اليوم من قلة» وقد صدق فى ذلك، فإنهم قد صاروا كثيرا وقد توافر العدد، وتوافرت العدة، ولكن تكون الهزيمة من غرور أو ضعف فى النفوس، أو عدم التنظيم الجامع. وقد صدقه ربه فى ذلك. فقال تعالى: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ، وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ، ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ. ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ، وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها، وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ. ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (التوبة: 24- 27) . وإن الجيش الإسلامى كان اثنى عشر ألفا، وذهب إلى هوازن، والتقى بهم فى أوطاس فى العاشر من شوال من السنة الثامنة من الهجرة. ونحب هنا أن نشير إلى جيش الإسلام فى هذه الموقعة، أهو جيش المؤمنين، أم كان فيه من دخل الإسلام، ولم يدخل الإيمان فى قلبه، كما قال تعالى: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا، وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ (الحجرات- 14) .

ابتداء المعركة:

كذلك كان الجيش فيه الطلقاء، الذين قال لهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم «اذهبوا فأنتم الطلقاء» ، وفيه ضعاف الإيمان الذين كانت تحدثهم نفوسهم بأن ينقلبوا على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، كما قال أبو سفيان فقال له النبى صلى الله تعالى عليه وسلم «إذن ليخزينك الله» وفيهم من هم باغتيال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وكشف الله تعالى سره، وفيهم والمعركة دائرة بين الجيشين فى حنين من هم بأن يقتل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. وفيه كثيرون من الأعراب الذين أسلموا ولم يؤمنوا، فكان جيش الإسلام ولم يكن جيش الإيمان، ألم تر أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد أعطى من غنائم حنين طائفة من كبار قريش أموالا كثيرة، ليتألف قلوبهم كأبى سفيان بن حرب، وابنه معاوية، وإن التأليف إلى الإسلام دليل على ضعف الإيمان، لأنه يتألف قلوبا للإيمان. وإن الهزيمة لم تكن من أهل الإيمان الأولين الذين بايعوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يوم الحديبية، بل نادى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم والمعركة عنيفة بينه وبين هوازن المهاجرين والأنصار، فجاء منهم مائة حولوا الهزيمة إلى نصر، ولم يثبت مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلا عشرة هم أبو بكر الصديق وعمر الفاروق وعلى بن أبى طالب، والعباس الذى أسلم عقب بدر، وأبو سفيان بن الحارث ابن عم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، والفضل بن العباس، وجعفر بن الحارث، وربيعة بن الحارث، وأسامة بن زيد، وأيمن بن أم أيمن. فأين خالد وعمرو بن العاص؟. والآية صريحة فى أن الله ألقى السكينة والثبات على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنين، فهم الذين ثبتوا بعد أن اضطربت الصفوف بين الذين لم تكن لهم خبرة بلقاء أهل الإيمان وأهله، ولقد دعا رسول الله المؤمنين من المهاجرين والأنصار، فلبوا النداء. وسارع منهم مائة، فقلبوا الهزيمة لقاء، ثم نصرا بتأييد الله تعالى. ابتداء المعركة: 620- قلنا أنه لم يكن من بين القوى العربية فى البلاد من له قوة وشوكة بعد مكة المكرمة وقريش إلا هوازن فاعتزم أن يعمل لإسلامهم، بينما هوازن يفكرون فى حرب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم اتقاء لأنفسهم، ومنعا من دخول الإسلام إليهم، أو هجوم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عليهم، وما كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يهاجم الآمنين ولكن يرد كيد من يدبرون له حربا، أو يريدون كيدا.

ولقد جاء مالك بن عوف النضرى، فجمع الجموع. فاجتمع إليه من هوازن ثقيف كلها، واجتمع نضر وجشم كلها وعدد قليل من قيس بن عيلان. وكان فى جشم شيخ له تجربة ودراية فى الحروب، وإن لم تكن له قوة على المنازلة لشيخوخته وهو دريد بن الصمة، ولما أراد النفير مالك بن عوف، أخذ مع الجيش النساء والمال ليستثير حميتهم بنسائهم وأموالهم فيندفعوا مقاتلين ليحموا نساءهم وأموالهم وذراريهم. وقد ساروا بدريد بن الصمة فى شبه هودج، فسمع أصوات الأموال من النوق والحمير والنساء والصبيان، فقال: مالى أسمع رغاء البعير ونهاق الحمير، وبكاء الصغير، وثغاء الشاة؟ قالوا: ساق مالك ابن عوف مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم، فقال: أين مالك؟ فجيء به إليه فقال له: يا مالك إنك قد أصبحت رئيس قومك، وإن هذا يوم كائن له ما بعده من الأيام، مالى أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، وبكاء الصغير، وثغاء الشاة؟ قال: سقت مع الناس أموالهم وأبناءهم ونساءهم. قال ولم ذلك؟ قال أردت أن أجعل خلف كل رجل منهم أهله وماله ليقاتل عنهم. فانقض به (أى زجره) وقال: راعى ضأن. أى لست بمقاتل. وهل يرد المنهزم شيء، إنها إن كانت لك، لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فضحت فى أهلك ومالك. ولكنه لم يطعه مالك بن عوف ولكن هوازن أطاعوه «1» . وقد ترامى إلى سمع الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم همس بما دبروا، فأرسل إليه من يأتيه بجملة أمرهم وأمره أن يدخل فى الناس ليعرف حالهم ويأتيه بأخبارهم، فأقام فيهم، حتى سمع ما أجمعوا عليه من حرب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وسمع من مالك بن عوف وهوازن فجاء وأخبر الرسول. فأخذ الرسول الكريم المدافع عن الحق يستعد لهم ويلقاهم. وذكر له أن عند صفوان بن أمية دروعا وسلاحا فأرسل إليه وهو يومئذ مشرك ولعله كان فى المدة التى جعل لنفسه الخيار فيها، بين البقاء على ما هو عليه والإسلام، فقال له: يا أبا أمية أعرنا سلاحك نلق به عدونا غدا، فقال صفوان: أغصبا يا محمد؟ قال عليه الصلاة والسلام: بل عارية مضمونة نردها إليك، قال: ليس بهذا من بأس، فأعطاه مائة درع بما يكفيها من سلاح.

_ (1) كانت طاعة هوازن وقتية وعادت حين رفض مالك الطلب ونقلت كتب السير أنه قال: والله لا أفعل، إنك قد كبرت وكبر عقلك، والله لتطيعني هوازن أو لأتكأن علي هذا السيف حتي يخرج من ظهري. وكره أن يكون لدريد فيها ذكر أو رأي. فقالوا: أطعناك، فقال دريد: هذا يوم لم أشهده ولم يفتني. المراجع.

الانهزام ثم الانتصار:

خرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم معه اثنا عشر ألفا، منهم عشرة آلاف دخل بهم، وهو جيشه الأول، ولم يكن كله من المهاجرين والأنصار، وألفان من أهل مكة المكرمة الذين أسلموا بعد الفتح، أو لم يظهر إسلامهم إلا فى الفتح، وفيهم أبو سفيان بن حرب، وأمثاله. وخلف فى مكة المكرمة عتاب بن أسيد من بنى عبد شمس، ثم مضى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على وجهه نحو هوازن، أو حنين أو أوطاس، وكلها أسماء لهذه المعركة. ولا شك أن الجيش كان فيه ألفان قريبا عهد بالجاهلية، كما أشرنا من قبل، ولقد روى ابن إسحاق بسنده عن الحارث بن مالك، أن الحارث هذا قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى حنين ونحن حديثو عهد بالجاهلية. ولقد رأى الجيش شجرة عظيمة خضراء يقال لها ذات أنواط كانت قريش ومن حولهم يقدسونها ويأتون كل سنة يذبحون عندها تقديسا لها. فراعهم منظرها، ورأوها سدرة عظيمة. ويقول الحارث بن مالك: تنادينا من جنبات الطريق: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط (أى شجرة عظيمة نقدسها، وننحر عندها) . قال لهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: الله أكبر قلتم والذى نفس محمد بيده كما قال قوم موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة؛ قال إنكم قوم تجهلون. إنها السنن لتركبن سنن من كان قبلكم. كان من الألفين اللذين ضمهما النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى الجيش الذى غزا به مكة المكرمة، من فيهم هذه العقلية وكلهم أو جلهم حديث عهد بالجاهلية لما يدخل الإيمان فى قلوبهم. الانهزام ثم الانتصار: 621- تقدم جيش الإسلام إلى وادى حنين، وكان ذا أودية وطرق مختلفة، فتقدم المسلمون فى واد من أودية تهامة، وانحدر فيه انحدارا حتى أو غلوا فى باطن الوادى، وكان جيش هوازن قد سبقهم إلى الوادى وادى حنين، وكمنوا فى شعابه، وأحنائه ومضايقه. وكانوا محميين مهيئين، وكان فى المتقدمين من جيش المسلمين على رأس بنى سليم خالد ابن الوليد، وما أن تقدم المسلمون وسط هذا الكمين المتعدد النواحى، وهم فى عماية الصبح، وهو الظلام الذى يسبقه!. وفى هذه الحال راع جيش المسلمين انقضاض هوازن عليهم كتائب قد تعددت، فشدوا شدة رجل واحد، فكانت المفاجأة مروعة عنيفة، وانتثر الناس راجعين لا يلوى أحد على أحد.

وقد انحاز رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ذات اليمين، ثم قال: أيها الناس هلم إلى أنا رسول الله محمد بن عبد الله. ولكن الناس يفرون، وحمل بعضهم على بعض، وكان الفرار من غير المؤمنين الأولين قد أفسد نظام الجيش واضطرب الأمر، واختلط الحابل بالنابل. ولقد ثبت مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أبو بكر وعمر، وثمانية من بنى هاشم صدقوا وآمنوا، وعلى رأسهم على بن أبى طالب، والعباس بن عبد المطلب، ولا نعد ثبات على للقرابة، بل لأن الثبات من شيمته أولا إذ هو فارس الإسلام كما قال النبى صلى الله عليه وسلم، ولإيمانه ثانيا، وقد يكون لقرابته ثالثا، فهى فى المرتبة الأخيرة من الأسباب. وأما السبعة الباقون فإنا قد نقول للرحم دخل فيها، ولكن لا نحرمهم من الإيمان، خصوصا العباس فقد آمن بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم فى أعقاب بدر وخرج مكرها فى بدر، فرضى الله تعالى عنه، وفى الوقت الذى كانت فيه الكفة راجحة لهوازن، وقبل أن يلبى نداء رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم المهاجرون الأولون والأنصار جرت أمور تدل على سبب الهزيمة. أولها: وحدتهم فى الفكرة، وإن كانوا على ضلال، فالوحدة مع الشرك تثمر فى الحرب أكثر من العقيدة السليمة عند تفرق الأهواء والمنازع، ووجود ضعاف الإيمان مع أقويائه. لقد كان فيهم رجل على جمل أحمر معه رمح طويل، فإن وجد هدفا لرمحه ضرب، وإن لم يجد هدفا رفع رمحه أمام جيش هوازن، والناس من خلفه يتبعونه. ثانيها: أن التردد وروح الهزيمة ظهر من رجال من الألفين، فتكلم ناس من جفاة أهل مكة المكرمة. قال ابن إسحاق: لما انهزم الناس، ورأى من كان مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من جفاة أهل مكة المكرمة الهزيمة تكلم رجال بما فى نفوسهم من الضغن، فقال أبو سفيان بن حرب: «لا تنتهى هزيمتهم دون البحر» ، تلك أمانيه، وأخذ الطالع فى الأزلام رجاء أن تنبئه فى زعمه بأنها هزيمة ساحقة. ولقد صرخ كلدة بن الحنبل، وهو مع صفوان بن أمية الذى كان لا يزال مشركا، إذ لم تمض المدة التى أخذ الخيار لنفسه فيها، صرخ كلدة هذا: ألا بطل السحر اليوم، فقال صفوان الذى لم يعلن بعد إسلامه لهذا الذى ظهر فى الجيش مسلما، وقال ما قال. قال صفوان: اسكت فض الله فاك، فوالله لأن يربنى رجل من قريش أحب إلى من أن يربنى رجل من هوازن.

ثالثها: أنه وجد من بين هذين الألفين من كان يحاول فى زحمة الاضطراب أن يغتال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فلقد قال شيبة بن عثمان بن أبى طلحة أخو بنى عبد الدار قال ذلك الحاقد: اليوم أدرك ثأرى من محمد، وكان أبوه من حملة اللواء الذين قتلوا فى أحد «1» ، وهو غير عثمان بن طلحة الذى أسلم مع خالد، وأعطاه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مفتاح الكعبة الشريفة، ولم يعطه على بن أبى طالب مهلة، إذ طلبه. 622- هذه ظواهر بدت بعد الانهزام وهى تعلن سبب الانهزام، وهو أن الجيش الإسلامى الكبير كان فيه دعاة التردد والهزيمة من بين الألفين الذين كان الكثيرون منهم حديثى عهد بالجاهلية، ولما يدخل الإيمان قلوبهم. ونعود إلى الانتصار بعد الهزيمة، لم يزلزل قلب المؤمن، والرسول عليه الصلاة والسلام لم تؤثر فيه هذه الحال، بل اشتد بأسه، وقال: لقد حمى الوطيس، وأخذ يدعو المهاجرين الأولين ليعلموا مكانه، ويقول: مناديا لهم، أين أيها الناس، ثم قال: يا عباس اصرخ، وكان جهير الصوت: يا معشر أصحاب الشجرة، يا معشر أنصار الله وأنصار رسوله، يا معشر الخزرج، فأجابوه لبيك لبيك، فكان الرجل يذهب ليعطف بعيره، فلا يقدر على ذلك، فيقذف درعه فى عنقه ثم يأخذ سيفه وترسه، ويؤم الصوت، حتى اجتمع عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم نحو مائة ولكنهم بقية من بقايا بدر، وكما قال على بطل بدر وأحد، والخندق: بقية السيف أبقى عددا وأكثر ولدا، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم راكب بغلته، وأخذ بزمامها العباس وهو يقول ومعه هذا الجمع المؤمن: أنا النبى لا كذب أنا ابن عبد المطلب اللهم أنزل نصرك ثم تجمعت الجموع المؤمنة حول النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو يقول: الآن حمى الوطيس، عادت الجولة لجيش المؤمنين بعد أن مازت الهزيمة الخبيث من الطيب. رأى على كرم الله وجهه الرجل الذى يحمل الرمح الطويل الذى يضرب به الهدف، إن وجده، ووراءه جيش هوازن، رأى على الرجل، وهوى إليه مع أنصارى، فضرب على عرقوبى الجمل فوقع على عجزه، ووثب الأنصارى على الرجل وضربه ضربة أطن بها قدمه. وإذا كان كما يبدو الرجل حامل لوائهم فهذا لواؤهم قد سقط.

_ (1) لكن هذا الرجل حسن إسلامه وأحب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ وجد أنه ممنوع- ولقد أخرج البيهقي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب يده في صدر شيبة ثم قال: - اللهم اهد شيبة ثلاثا.. فيقول شيبة: فوالله ما رفع يده عن صدري في الثالثة حتي ما كان أحد من خلق الله أحب إلى منه..

الانتهاء بالهزيمة الساحقة:

والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم يحث المؤمنين على القتال، ويقول: من قتل قتيلا فله سلبه، وقد قتل بعض المؤمنين عشرين قتيلا من هوازن، فكانت له أسلابهم. وكان يتناول زمام بغلة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم العباس عمه، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وكان ممن صبر فى تلك المعركة. وكان فى المقاتلين فى جيش النبى صلى الله تعالى عليه وسلم نساء مؤمنات، ومنهن أم سليم، وكانت حازمة وسطها ببرد لها وهى حامل، وكانت راكبة جملا، فكانت تخشى أن ينفر، فكانت تأخذ حزامها مع خطامه. وكانت ترى أن الذين انهزموا كانوا من دعاة التردد والهزيمة، رآها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال لها أم سليم، فقالت نعم بأبى أنت وأمى يا رسول الله، اقتل هؤلاء الذين ينهزمون عنك، كما تقتل الذين يقاتلونك، فإنهم لذلك أهل، فقال لها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، أو يكفى الله تعالى يا أم سليم، وكان معها خنجر، فقال لها زوجها ما هذا الخنجر الذى معك يا أم سليم؟ قالت خنجر أخذته إن دنا منى أحد من المشركين بعجته، فقال زوجها ألا تسمع يا رسول الله ما تقول أم سليم!!. تحارب الناس، واجتلدوا، وكانت هوازن رماة، ولكن رمى الله بالمؤمنين فى أوساطهم وهم يسلبون القتلى، ويكتفون الأسارى. يروى ابن إسحاق عن جابر بن عبد الله أنه قال: والله ما رجعت راجعة، حتى وجدوا الأسارى مكتفين عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. الانتهاء بالهزيمة الساحقة: 623- انتهت المعركة بالهزيمة الساحقة فى حنين، بأن لجأ المنهزمون إلى أوطاس، وذلك بعد أن دعا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وجمع المؤمنين حوله، وكان دعاؤه هكذا: «اللهم إنى أنشدك ما وعدتنى، اللهم لا ينبغى لهم أن يظهروا علينا» ، ونادى أصحابه «يا أصحاب البيعة، يا أصحاب الحديبية: الله، الله، الكرة على نبيكم، يا أنصار الله، وأنصار رسوله، يا بنى الخزرج يا أصحاب سورة البقرة» وأمر من ينادى بذلك، وقبض قبضة من الحصباء فحصب بها وجوه المشركين، وقال: شاهت الوجوه، فهزم الله أعداءه، وأعداء الحق من كل من حصبهم فيها، واتبعهم المؤمنون يقتلونهم، وغنمهم الله تعالى أموالهم ونساءهم، وذراريهم.

أوطاس:

وفر فى هذه الهزيمة كبيرهم وقائدهم الذى كان يحثهم على أن يضربوا ضربة رجل واحد، وهو مالك بن عوف، فروا فرارا حتى دخلوا حصن الطائف. وفريق آخر منهم فروا إلى أوطاس، فأرسل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم سرية لهم، سنذكر أمرها إن شاء الله. وأخذ الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه يجمعون الغنائم من السبايا والأموال، وغيرها مما أفاء الله تعالى به عليهم. ولقد حدث ابن إسحاق بسنده أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو يبحث بقايا المعركة من غنائم، وآثار انهزام، رأى امرأة مقتولة، قالوا إن خالد بن الوليد قتلها، ويظهر أنها ممن كن خلف المقاتلين، ليدفعوهم للقتال، كما دبر مالك بن عوف، وحذره منه دريد بن الصمة لما رأى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك قال مستنكرا: ما كانت هذه لتقاتل. وقال لبعض من حوله: الحق خالدا فقل له لا تقتلن ذرية وعسيفا. ولم يذكر خالد فى هذه المعركة إلا فى هذا الموضع منها. ورضى الله عن عمر إذ قال عندما عزله عن قيادة الجيش فى الشام: «إن فى سيف خالد لرهقا» . أوطاس: 624- انهزمت هوازن هزيمة ساحقة، ففروا إلى الطائف، وتجمعوا للقاء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم هنالك متجمعين. وتوجه فريق آخر نحو أوطاس، وعسكر بها، وتوجه بعضهم نحو نخلة، وكانوا عددا فتبعت الجميع خيل المسلمين، وكان ممن أدركوه دريد بن الصمة صاحب رأيهم، ومن يصدرون عنه، ولما خالف مالك بن عوف رأيه كانت الفضيحة التى قدرها ونبه إليها دريد بن الصمة، إذ سبيت النساء، ولم يكن فى إخراجهن فائدة بل فضيحة، اضطرتهم صاغرين للاجتماع عند محمد صلى الله تعالى عليه وسلم. ولقد قال ابن إسحاق: بعث النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى آثارهم أبا عامر الأشعرى فأدرك هو ومن معه بعض من انهزم، فناوشوه القتال، فرمى أبو عامر الأشعرى فقتل، وقد كانوا يحسنون الرمى، وهو الذى حمل الراية فى أول يوم حنين. وقد حمل الراية من بعده ابن عمه أبو موسى الأشعرى فقاتلهم، ففتح الله تعالى عليه أوطاس وانتصر عليهم.

ثمرات المعركة

وقد جاهد من قبله ابن عمه جهادا قويا شديدا، إذ لقى عشرة أخوة فبرزوا واحدا بعد واحد، حتى قتل تسعة. وأسلم العاشر رغبا لا رهبا وحسن إسلامه والتقى برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فكان إذا لقيه يقول شريد أبى عامر. وقد سبى فى حرب أوطاس كثيرات كما سبى أكثر من فى حنين. ويروى فى ذلك أن أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أصابوا يوم أوطاس سبايا لهن أزواج من أهل الشرك، فكان أناس من أصحاب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم تأثموا من غشيانهن فنزل قوله تعالى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ (النساء: 24) وإن فى هذه الآية التى نزلت فى بيان المحرمات دلالة على جواز غشيان الإماء المشركات بملك اليمين ولا يمسك أحد بعصمة الكوافر ولكن يستبريء أرحامهن بحيضة يحضنها. هذا وسميت هذه الغزوة الكبرى بغزوة هوازن وحنين وأوطاس، إلا أنها كانت فى هوازن وفى يوم حنين، واستمرت حتى أوطاس. ثمرات المعركة 625- جمع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم غنائم هوازن، وأرسلها إلى الجعرانة حتى يتتبع فلولها ثم ضم إليها ما غنمه من أوطاس من أموال وسبايا، وكان مجموع ذلك كثيرا، لأن هوازن برأى مالك بن عوف قربت السبايا والأموال من موطن الجهاد، فكان مؤدى هزيمته. أمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بالسبى والغنائم أن تجمع، فجمع ذلك كله، ووجه إلى الجعرانة، وكان السبى ستة آلاف رأس ما بين نساء وذرية، وعدد الإبل أربعة وعشرون ألفا، وعدد الغنم أكثر من أربعين ألف شاة وأربعة آلاف أوقية من الفضة. وهذا على أن أكثر معاملتهم النقدية كانت بالفضة، ولم يكن استعمالهم للدينار الرومانى كثيرا. ولم يوزع هذه الغنائم بين الفاتحين بمجرد انهزامهم، وجمعها، بل استأنى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم رجاء أن يأتوا مسلمين، ولو بظاهر من القول، تقريبا للنفوس، فما كان محمد صلى الله تعالى عليه وسلم إلا هاديا يدعو إلى الإسلام، وخصوصا أن ما أخذ منهم إن لم يكن كل أموالهم، فهو أكثرها. ولكن مضى بضع عشرة ليلة، ولم يجيء أحد.

فقسمها بين الفاتحين، وصرف منها للمؤلفة قلوبهم، فأعطى أبا سفيان بن حرب تأليفا لقلبه، وليدخله الإيمان أربعين أوقية من فضة، ومائة من الإبل، ولكنه لم يكتف بما أخذ بل طلب لابنه يزيد، فقال: ابنى يزيد، فقال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: أعطوه أربعين أوقية، ومائة من الإبل، ولكنه الطمع، فقال ابنى معاوية فقال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: أعطوه أربعين أوقية ومائة من الإبل، فمعاوية كان من المؤلفة قلوبهم ليدخلها الإيمان فليذكر ذلك من يضعونه أمام على أو يناصرونه. وأعطى حكيم بن حزام مائة من الإبل، ثم سأله مائة أخرى فأعطاه، وأعطى النضر بن الحارث ابن كلدة، وأعطى العلاء بن حارثة الثقفى خمسين وأعطى العباس بن مرداس أربعين، فقال فى ذلك شعرا، فكمل له مائة. واختص من بعد ذلك زيد بن ثابت بإحضار الغنائم والناس، ثم فرقها على الناس، فكانت سهامهم لكل رجل أربعا من الإبل وأربعين شاة، فإن كان فارسا أخذ اثنى عشر بعيرا، وعشرين ومائة شاة، وإنه مما يلاحظ أن المؤلفة قلوبهم الذين كانوا فى المعركة نظارة ينظرون، أخذوا أكثر نسبيا من المجاهدين، فبينما كان نصيب المجاهد فى الغنيمة التى استولى عليها بسيفه أربع نوق كان نصيب أبى سفيان المترقب مائة له ولكل واحد من أولاده مائة وله أربعون أوقية، ولكل واحد مثلها. ولكن المؤمنين الصادقين فى إيمانهم ما كانوا ليعترضوا على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فهو الهادى وهو المرشد، وهو الداعى إلى الحق، والمؤلف للقلوب التى تتجه إليه، ولكيلا تنحرف عنه، وأولئك الذين ألفت قلوبهم ماديون، تجذبهم المادة أكثر مما يجذبهم الحق المجرد. ولا يصح أن يفهم أحد أن ذلك شراء للإيمان، فإن الإيمان لا يشرى بالمال، ولكن يشترى بالإذعان للحق، ولكن أولئك أخذت منهم رياسة، وأخذ منهم سلطان، وهم كما عرف من ماضيهم لا يذعنون للحق المجرد، ولا للدليل، وفى دخولهم للإسلام، لا بد من تأليف قلوبهم للإسلام، وما يكتسبه الإيمان بدخول الإيمان قلوبهم أكثر ما نخسر من مال، ولقد قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لإمام الهدى على بن أبى طالب «لأن يهدى الله تعالى بك رجلا واحدا، خير لك من حمر النعم» . ويجب التنبيه هنا إلى أن كثيرين من أهل مكة المكرمة الذين يترددون فى الدخول فى الإسلام دخلوا فيه أفواجا أفواجا لما رأوا النصر المبين، والتأييد البين من الله سبحانه وتعالى.

موجدة الأنصار

موجدة الأنصار 626- روى ابن إسحاق بسنده عن أبى سعيد الخدرى قال: لما أعطى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما أعطى من العطايا الكبار فى قريش، وفى قبائل العرب، ولم يكن فى الأنصار منها شيء، وجد هذا الحى من الأنصار فى أنفسهم، حتى قال قائلهم، لقى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قومه، فدخل عليه سعد بن عبادة فقال: يا رسول الله، إن هذا الحى من الأنصار قد وجدوا عليك فى أنفسهم، لما صنعت فى هذا الذى أصبت، قسمت فى قومك وأعطيت عطايا عظيمة فى قبائل العرب، ولم يكن فى هذا الحى من الأنصار منها شيء. قال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: فأين أنت من ذلك يا سعد. قال: يا رسول الله ما أنا إلا من قومى. قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فاجمع لى قومك فى هذه الحظيرة. فجاء رجال من المهاجرين فتركهم فدخلوا، وجاء آخرون فردوا، فلما اجتمعوا أتى سعد فقال قد اجتمع لك هذا الحى من الأنصار. فأتاهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ووقف فيهم خطيبا، فحمد الله تعالى، وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: «يا معشر الأنصار، ما قالة بلغتنى، وموجدة وجدتموها فى أنفسكم، ألم آتكم ضلالا، فهداكم الله بى. وعالة فأغناكم الله بى، وأعداء فألف بين قلوبكم!! قالوا: لله ورسوله المن والفضل، ثم قال صلى الله تعالى عليه وسلم: ألا تجيبونى معشر الأنصار، قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أما والله لو قلتم، لصدقتم ولصدقتم، أتيتنا مكذبا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدا فاويناك، وعائلا فواسيناك، أوجدتم يا معشر الأنصار فى أنفسكم من لعاعة من الدنيا، تألفت بها قوما ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم، ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعوا برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى رحالكم، فوالذى نفس محمد بيده لما تنقلبون به خير مما ينقلبون، ولولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شعبا وواديا، وسلك الأنصار شعبا وواديا لسلكت شعب الأنصار وواديها، الأنصار شعار، والناس دثار لهم، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار. قال أبو سعيد الخدرى: فبكوا حتى أخضلوا لحاهم. وقالوا: رضينا برسول الله قسما وحظا» . وإن الموجدة التى وجدوها، ربما كان من أسبابها أنهم وجدوا أبا سفيان الذى قاتلوه أخذ العطايا العظيمة هو وابناه، وهم الذين قاتلوهم مجاهدين فى سبيل الله.

الشفاعة في الغنائم بعد توزيعها

ولقد دعا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بالرحمة لأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار فحقت عليهم الرحمة والرضا من الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم. وكان من أبناء المؤلفة قلوبهم من سبوا نساء الأنصار وأبناء الأنصار فى واقعة الحرة، فلعنه الله تعالى، ولعن من مكنه. الشفاعة في الغنائم بعد توزيعها 627- مكث النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بضع عشرة ليلة لا يوزع الغنائم، رجاء أن يسلموا، أو رجاء أن يطلبوها على عهد يتعهدونه، ورجاء محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ليس رجاء محارب إنما هو رجاء هاد مرشد، يريد القلوب ولا يريد الحروب لذاتها. ولما وزعها عليه الصلاة والسلام، جاء إليه صلى الله تعالى عليه وسلم وفد من هوازن من أربعة عشر رجلا، وعلى رأسهم عم رضاعى لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. جاؤا إليه صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد فرغت أيديهم من أموالهم بسبب حمق مالك بن عوف، وعدم طاعته لصاحب الخبرة من قومه، ورأوا نساءهم سبايا. جاؤا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وسألوه أن يمن عليهم بالسبى والأموال، أى يرد عليهم كل ما أخذ منهم. ويظهر أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان يميل إلى أن يرد السبايا، ولا يرد الأموال، فقال صلى الله تعالى عليه وسلم لهم: إن معى من ترون، وإن أحب الحديث إلى أصدقه، فأبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم، قالوا ما كنا نعدل بالأحساب شيئا. فقال لهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «إذا صليت الغداة، فقوموا فقولوا إنا نستشفع برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى المؤمنين، ونستشفع بالمؤمنين على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن يرد سبينا» . فلما صلى الغداة قاموا فقالوا ذلك. فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أما ما كان لى ولبنى عبد المطلب، فهو لكم، وسأسأل الناس. فقال المهاجرون والأنصار، ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. فقال الأقرع بن حابس: أما أنا وبنو تميم فلا. وقال عيينة بن حصن: أما أنا وبنو فزارة فلا.

وقال العباس بن مرداس: أما أنا وبنو سليم فلا، فقالت بنو سليم: ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. فقال العباس بن مرداس لقومه: وهنتمونى. وهنا نجد الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم الحر الكريم المحب للحرية يبين أنه يريد تحرير السبى، فيقول صلى الله تعالى عليه وسلم «إن هؤلاء القوم، قد جاؤا مسلمين، وقد كنت استأنيت سبيهم، وقد خيرتهم، فلم يعدلوا بالأبناء والنساء شيئا، فمن كان منكم عنده منهن شيء فطابت نفسه، فبسبيل ذلك. ومن أحب أن يتمسك بحقه، فليرد عليهم، وله بكل فريضة ست فرائض من أول ما يفيء الله علينا» فدى بذلك كل السبايا من مال المؤمنين، وقد طابت نفوس الناس بذلك وقالوا قد طيبنا رسول الله. واتجه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من بعد ذلك إلى تعرف من رضى ومن لم يرض، وقال: ارجعوا حتى يرفع إلينا وفاؤكم أمركم، فتفرقوا، وردوا النساء والأبناء ولم يتخلف منهم أحد غير عيينة بن حصن، فإنه أبى أن يرد عجوزا صارت إليه من السبى، ثم ردها من بعد. وإن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم رد السبايا مكرمات، وكساهن كسوة كريمة، فكساهن من القباطى، وأعطى كل واحدة منهن قبطية، ولسان حاله يقول رحمة: مغلوبين مكرمين. وقبل أن ننتهى من الكلام فى الغنائم ومالها، وهى غنائم هوازن نذكر حكمة الله تعالى فيها ورعايته لجيش الإسلام، وحمايته من الضياع. ذلك أن فتح مكة المكرمة لم ينل فيه المسلمون شيئا من الغنائم، فما أفاء الله تعالى على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنين بشيء منها تكريما لها، وحماية لأموالها، فجاؤا إليه غير فاتحين بل جاؤا طائفين ساعين بين الصفا والمروة، وإن لم يحرموا إحرام عمرة. ولكنه جيش جرار، يضم عشرة آلاف جاؤا من المدينة المنورة إلى مكة المكرمة، فلا بد أن يحتاجوا ما يمون جيشا كبيرا، فهؤلاء قطعوا الفيافى والقفار، وليسوا على مقربة من ديارهم حتى ينالوا منها ما يحتاجون إليه. فساقهم الله تعالى إلى هوازن، وساق هوازن إليهم، وقذف الله تعالى إلى قلب قائدها مالك بن عوف أن يخرج بمال هوازن جميعه ونسائهم ليقوى الجيش وتجرى فيه الحماسة دفاعا عنهم، فلم يغن عنهم من ذلك شىء، وساق الله تعالى بذلك سبيا كثيرا، ومالهم كله، فأخذ جيش الإسلام المال كله، ووزعه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بما أراه الله.

أحكام شرعية في غزوة حنين

أحكام شرعية في غزوة حنين العارية المضمونة: 628- جاء فى أول غزوة حنين أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم علم أن عند صفوان بن أمية عارية فأعار الجيش الإسلامى دروعا وأسلحة، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم تعهد بضمانها، وقال: عارية مضمونة، أفمؤدى هذا الضمان أن يردها عليه، ولا يغتال لها الجيش الإسلامى، أم المراد أنها واجبة الإرجاع بقيمتها إن تلفت، أو نحو ذلك. اختلفت أنظار الفقهاء فى فهم ذلك. وخلاصتها أن الفقهاء أجمعوا على أن الإعارة فى يد المستعير كالوديعة لا تضمن إلا إذا تلفت بالتقصير فى الحفظ، أو استعمالها فى غير ما أعيرت له، فإن ذلك يكون تعديا، والتعدى يوجب الضمان، ولأن الإعارة تبرع، والتبرعات لا تضمن إن تلفت إذا كان التلف بالاستعمال الذى أعيرت له. وإن الشافعى رحمه الله قال إن الشروط الظاهرة فى العقود توفى كما نص عليها، فالعارية تقبل الضمان إذا اشترط الضمان، وتكون مضمونة بالشرط، ولا تكون كالغصب لأن الغصب مضمون بالتلف دائما، لأن اليد فيه يد معتدية، وهى توجب الضمان عند التلف. أما العارية فالأصل أنها تكون أمانة فى يد من أخذها، إذ لا يكون اعتداء، ولكن يجوز أن يتفق الطرفان على الضمان، وخصوصا إذا كانت الإعارة لأمر يكون مظنة التلف كأسلحة الحرب، أو طاحونة للإدارة؛ فإن التلف يكون مظنونا وقريبا. وقال أبو حنيفة ومالك وبعض جمهور الفقهاء: إن العارية لا تضمن ولو بالشرط، لأن ذلك قلب لحقيقة معناها، إذ هى وديعة فى معناها، والوديعة لا تضمن، فهى لا تضمن، ولكن يجب أن يلاحظ أن ثمة فرقا بين الوديعة والعارية، فالعارية تستعمل بإذن المالك، والوديعة لا تستعمل، بل استعمالها بغير إذن صاحبها، يخرج من معنى الوديعة إلى معنى آخر، وهو العارية، وبغير إذن المالك تتحول اليد إلى يد معتدية. وإن أولئك الفقهاء الذين قالوا: إن العارية لا تكون مضمونة، قالوا إن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لم يرد الضمان برد العين، أو بقيمتها إن تلفت إنما أراد أنها مؤداة أى مضمون أن تعاد إلى صاحبها إن سلمت، فإن تلفت لا يتصور ضمان قيمتها، وذلك لأن العبارة رويت عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بأنه قال مؤادة فى بعض الروايات، فهذا يدل على أن المراد من كلمة مضمونة فى الرواية الأولى أن

عطاء المؤلفة قلوبهم من غنيمة هوازن

تكون مؤداة، والضمان على الأداء، لا على التلف، ولأن كلام النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان إجابة لصفوان، إذ قال للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم: أغصبا يا محمد. فتضمن كلام صفوان الاستفهام عن أن تغتصب عينها، فكانت إجابة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عليها مؤداة، أننا لا نغتصبها، بل نأخذها على أنها عارية ترد، فكان الأقرب أن تفسر بأنها مردودة أو مؤداة، لأن السؤال لم يكن عن الوصف، بل كان عن أصل الأخذ عن العين بالرضا أو بالكره، وعن نوعه أعلى وجه الملكية أم على وجه العارية. وفوق أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وصف الضمان بأنه للعين ولا يتصور ذلك إلا بردها ذاتها فليس الكلام فى ضمانها إذا تلفت بأداء قيمتها ولهذا كان الواضح هو ضمان ردها. وفى أحكام الإتلاف فى الحرب، أنه يجوز إتلاف كل ما يكون إتلافه مضعفا للعدو، إذا كان موضوع ذلك أداة من أدوات الحرب يملكونها، كما يجوز قتل الحيوان الذى يركب فى الحرب، فقد عقر على كرم الله وجهه الجمل الذى كان يركبه من اتخذ رمحه كاللواء، يقتل بالرمح إن وجد من يقتله، ثم يرفع الرمح من بعد ذلك كاللواء، فجاء على وضرب الجمل، فسقط الرجل فتلقاه بعض الأنصار فقتله. وهذا يدل على أنه يباح من إتلاف الحيوان ما يكون أداة حرب، ولا يعد ذلك تعذيبا للحيوان بقطع طرف من أطرافه فى ميدان القتال. عطاء المؤلفة قلوبهم من غنيمة هوازن 629- للمؤلفة قلوبهم حق فى الزكاة يثبت بقوله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (التوبة- 60) . هذا سهم مقرر فى الزكاة، وهو ينفق فى سبيل تأليف القلوب، لتؤمن ويؤمن قومها من ورائها، ولإيواء من يسلم فيجرد من ماله أو يقطع من أهله، فيعان، ولذلك قرر بعض العلماء أن يصرف سهم للمؤلفة قلوبهم فى الدعوة الإسلامية. ولذلك جعل له سهم قائم فى الزكاة، ليكون لهم مورد دائم مستمر، فلا يقتصر على أن يكون موردها الغنائم التى ليس لها صفة الدوام.

والعطاء الذى أعطيه المؤلفة قلوبهم أهو من الخمس الذى وضع تحت تصرف النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، لنفسه ولذوى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل الذى نص عليه فى قوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ، فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى، وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ، إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (الأنفال- 41) .. أكان عطاء المؤلفة قلوبهم من هذا الخمس؟ أم كان من أربعة الأخماس العامة؟ قال الشافعى ومالك رحمهما الله تعالى: هو من الخمس الذى يخص النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وأربعة الأخماس قد وزعت على المحاربين ولأن أربعة الأخماس صارت حقا للفاتحين، ولا يؤخذ شيء من صاحب حق إلا بعد استئذانه، ولم يستأذنهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ولم تكن هذه العطايا من كل الخمس الذى كان تحت تصرف النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لأنه مقسم على خمسة أحدها للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم أخذ ذلك من نصيبه هو. ويرى الإمام أحمد أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عد ما أخذه هؤلاء من الأنفال وهى لله ولرسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، وكما قال تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ (الأنفال: 1) . وكأن الغنائم لا تقسم ابتداء، وليست حقا ثابتا للفاتحين بمجرد الفتح وإنما هى حق لهم بعد أن ينفل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ما يرى نفله تقوية للدعوة، وتأليفا للقلوب وتقريب البعيد، وأنه يجب أن يعلم أن الحروب فى الإسلام ما كانت لجمع الغنائم وإنما كانت لدفع الاعتداء وفتح الطريق أمام الدعوة، فما يكون للدعوة بتأليف القلوب أجدى من غيره، وأن الأنفال يكون التصرف فيها قبل توزيع الغنائم، إنما الغنائم بعد الأنفال والأنفال يكون التصرف فيها لمصلحة الدعوة الإسلامية. وعلى هذا يكون الذى أعطاه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من الأنفال، فهل يكون لغيره من أمراء المسلمين وأئمتهم؟ ونقول فى الإجابة عن ذلك، إن ذلك يجوز إن كانوا كأبى بكر وعمر وعلى، وعمر بن عبد العزيز فلهم ذلك، لأن عدالتهم ودينهم يمنعانهم من أن يتخذوا أنفالا لغير المصلحة الحقيقية التى تعود إلى مصالح الإسلام والمسلمين، والدعوة الحق إلى الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، وغير هؤلاء الذين يكونون على غير ما هم عليه من العدل، والإيمان، يتخذون ذلك لهواهم، وتقريب الصديق، وإبعاد المستحق.

تبادل الرقيق بالحيوان

وما قرره أحمد وعلماء السنة من أن ذلك كان قبل التخميس، يؤيده ما جاء على ألسنة الأنصار من الموجدة والمعتبة، لأن هذا العطاء لأبى سفيان وولديه، وقد كان ينقص من أنصبة المستحقين فى أربعة أخماس الغنيمة، ولكن إيمانهم مكنهم من أن يعرفوا مقصد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. تبادل الرقيق بالحيوان 630- عندما اتجه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى السبايا من هوازن إلى أهليهم، بعد أن دخلوا فى الإسلام، وكان العدد كثيرا، أربعة آلاف، أطلق النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من فى يده وبنى عبد المطلب من السبايا، وعرض على المؤمنين أن يفعل ما فعلوا، فرضى باتباعه المهاجرون الأولون والأنصار، وغيرهم ممن لم يرتضوا بإجازة ما أجاز النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فإن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم طلب إليهم إطلاق سراح النساء والأبناء على أن يكون لكل رقبة من السبايا ستة نوق مما يجيء فى المستقبل من غنائم، فرضوا جميعا إلا عيينة بن حصن فقد أبى حتى هذا وتلكأ، ثم رضى بأن يطلق سراح عجوز كانت عنده، ولم يكن عنده غيرها، فهل كان هذا الذى فعله النبى صلى الله تعالى عليه وسلم معاوضة؟. لقد تكلموا فى هذا فبنوا عليه النظر فى أمرين: أولهما: جواز بيع الحيوان بالحيوان مع التفاضل فى القدر والنسيئة، كما يجوز بيع الرقيق بالحيوان، أو شراء الرقيق بالحيوان. وثانيهما: جواز التأجيل إلى أجل غير معلوم، إذ أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد قرر أنه يعطيهم عن كل رقبة من السبايا الستة من النوق فى الغنائم المقبلة. أما بالنسبة للأمر الأول، فقد قالوا- إنه يجوز بيع الحيوانات بعضها ببعض متفاضلا ولا يشترط التسليم، ومنع ذلك بعض الفقهاء على أنه من ربا البيوع التى لا يجوز فيها التفاضل عند اتحاد الجنس، ويجب القبض مع جواز التفاضل عند اختلاف الجنس لأنها مضمونات، ولقد أخذوا هذا من آثار. وأما تأجيل أحد العوضين إلى أجل غير مسمى، ولا معين، فقد أجازه أحمد بن حنبل وطائفة من علماء السنة إذا تراضى عليه الطرفان، إذ لا محذور فى ذلك، ولا عذر، وكل منهما قد دخل على بصيرة ورضا.

غزوة الطائف

وقال أبو حنيفة إن ذلك يفضى إلى المنازعة، وإن كل ما يؤدى إلى المنازعة يكون باطلا. وإن تخريج عمل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على أنه بيع فيه نظر، فلم تكن مقايضة بين القائمين وبين النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إنما كان هناك عتق فى نظير مال، فالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم طلب إليهم أن يطلقوا ما فى أيديهم من السبايا، وأن يعوضهم عن هذا العتق بمال تكون قيمته هى قيمة من أعتقوهم فى نظر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وقد ارتضوا ما قدر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فهو عتق بشرط وليس ببيع. وإن العتق هو تبرع مالك الرقبة للرقبة نفسها، لأن إعطاء الحرية فهو هبة بشرط العوض والهبة (والعتق بالذات) يتسامح فيه بما لا يتسامح فى غيره، وما كان العوض المؤجل ثمنا، حتى تكون جهالته مفضية إلى المنازعة، إنما هو عوض فى عتق فلا يؤدى إلى التنازع، ولذلك نقول إنه ما كان ثمة حاجة إلى مناقشة كونه ربويا، أو غير ربوى، وكون التأجيل إلى أجل مجهول جائز أو غير جائز، فإن تصرف النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بعيد عن ذلك كل البعد. غزوة الطائف 631- تتبع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم هوازن حيثما سارت سار وراءها، سار وراءها إلى أوطاس، إذ دخلتها هوازن وتحصنت بها ثم ساروا إلى الطائف، وهى ذات حصون قوية، وهم أشداء، ورماة، فسار النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فلما علموا بمسيره تحصنوا بحصونهم، وجمعوا طعاما وزادا يكفيهم سنة، بحيث يصبرون إذا طال الحصار عليهم، فيجهد أصحاب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ولا يجهدون، وهم فى حصونهم يرمون ولا ينالون، فيقتلون ولا يقتلون. والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم عندما اتجه إلى حصونهم أشار عليه سلمان الفارسى بالمنجنيق يرمى بها حصونهم، فيأتيها من قواعدها، فتنهار قوة تحصينهم. وصنع لهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم دبابات من خشب تقتحم عليهم حصونهم. مضى الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم إلى حصون الطائف، فرموا جيش النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وصار النبل ينزل على المؤمنين كأنه جراد، فقتل من المسلمين عدد قيل إنه بلغ اثنى عشر شهيدا أو يزيد، فاوى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى مكان بعيد عن مرمى النبل، ولكنه يريد أن يعرف حالهم فى الداخل.

فنادى منادى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، من خرج منهم، ودخل جيش المسلمين من العبيد، فهم أحرار. فخرج نفر من العبيد، ونالوا حريتهم بحكم الشرع، وبحكم ذلك النداء المحمدى الحر الكريم، ولقد تعرف النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أحوالهم وعلم أن عندهم الزاد الذى يكفيهم سنة. وأخذ عليه الصلاة والسلام يعمل على أن يخرجوا من الحصون مختارين فأمر بالنخيل أن يقطع، وبالكرم أن تجتث- فرأوا أن ذلك ضياع لثروتهم، وقالوا ما يكون لنا إن قطعت كرومنا ونخلنا، وقال مناد من بنى ثقيف قد بعثوه يقول، لا تفسدوا الأموال، فإنها لنا أو لكم. هز ذلك نفوسهم، وأضعف عزيمتهم، وخصوصا أن عبيدهم أخذوا يتركونهم، وكان العبد الذى ينال الحرية يدفعه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى بعض المسلمين يعولونه، حتى ينال خيرا فى حريته، واستمروا يقاومون مع ضعضعة نفوسهم والمسلمين ينالون من حصونهم، حتى إنهم ليحمون الحديد، يرمونه على الدبابات الخشبية، ليحرقوها، ويخرجوا الرجال من تحتها. وقد كان بين الطائف وقريش رحم ومصاهرة. ولذلك تقدم ناس من قريش لثقيف يمنعونهم من المطاولة، فالنتيجة ليست لهم، وإن العاقبة للمتقين. تقدم أبو سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة يطالبون ثقيفا بأن تؤمنهم ليتمكنوا من كلامهم، وقد لانت شكيمة ثقيف، وقبلت التفاهم، فأمنوهما، تقدم أبو سفيان والمغيرة ودعوا نساء من نساء قريش وكنانة ليخرجن إليهما، ولكنهما لم يجبن خشية السبى كما كان لنساء هوازن، منهن آمنة بنت أبى سفيان. فلما أبين عليهما قال لهما الأسود بن مسعود يا أبا سفيان ويا مغيرة ألا أدلكما على خير مما جئتما له، وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم نازلا بواد يقال له العقيق، قال ابن مسعود هذا: إنه ليس بالطائف مال أبعد رشاء، ولا أشد مؤنة، ولا أبعد عمارة من مال بنى الأسود، وإن محمدا إن قطعه لم يعمر أبدا، فكلماه، فليأخذه لنفسه، أو ليدعنه لله وللرحم فإن بيننا وبينه من القرابة، ما لا يجهل. لأن القوم، وثقيف لا يلينون إلا إذا أرادوا أن يباعدوا بينهم العنف، ويريدوا السلم، ولقد وجدوا أن الحصار عضهم، وإن كانت لديهم المؤن والذخائر، فهو حبس كيفما كانت صورته، وأن جيش النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أخذ أموالهم من النخيل والكروم، ويأتى حصونهم من قواعدها وهم لا قبل

لهم، فنادوا محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم بالرحم والقرابة، وما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصم آذانه عن نداء الرحم والقرابة، وهو الذى يأمر أن يوصل ما أمر الله تعالى بوصله. وقد رأى الإسلام يدخل الطائف من مكة المكرمة وما حولها، وأن بعض بنى ثقيف دخلوا فى الإسلام وأكثرهم مال إليه، وما كان محمد صلى الله تعالى عليه وسلم إلا هاديا داعيا إلى الحق وإلى صراط مستقيم، وإن اللين مع من عندهم عنف كثقيف قد يكون سببا فى أن تصغى قلوبهم إلى الإسلام، بينما العنف يعمى قلوبهم ويغلظ أكبادهم ويزيدهم عنادا. فرأى عليه الصلاة والسلام استجابة لداعى الرحم الذى أثاروه، والقرابة التى تنادوا بها، والإصلاح فى الأرض أن يرحل، وقد غاب عن المدينة المنورة أكثر من شهرين. وإن ذلك كان فى شوال، وإذا استمر فإنه سيجيء ذو القعدة وهو من الأشهر الحرم، وما كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ليقاتل مهاجما فى الأشهر الحرم، التى هى ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب الذى بين جمادى وشعبان. وموقف النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان موقف هجوم، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم لا يخالف أمر الله تعالى باحترام الأشهر الحرم. لذلك أخذ فى الرحيل عائدا إلى المدينة المنورة بعد أن حاصر الطائف سبع عشرة ليلة، وفى رواية سبعا وعشرين ليلة، وقال ابن إسحاق: مكث بضعا وعشرين ليلة. اتخذ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم الأهبة فى الرحيل، وذكر أن الله تعالى لم يأذن له فى الطائف، وذكر ذلك لخويلة بنت حكيم بن أمية. فخرجت خويلة وذكرت ذلك لعمر بن الخطاب، فقال لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ما حديث حدثتنيه خويلة، زعمت أنك قلته. أفلا أؤذن بالرحيل، قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: بلى، فأذن عمر رضى الله تعالى عنه بالرحيل. رحل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى يثرب عائدا من تلك الرحلة المباركة غير مهزوم ولا مغلوب ولا عاجز، ولكنه قادر ومنفذ لحدود الله، غير مقاتل ولا مهاجم فى الشهر الحرام، مراعيا الرحم والقرابة، وآخذا القوم إلى الإسلام فى رفق وغير غلظة، وخرج من بين ظهرانيهم، ليلقى وفد هوازن وثقيف فى المدينة المنورة بين ظهرانى المسلمين.

ولما ارتحلوا وأخذوا يستقيمون على الطريق بعد هذا الفتح المبين، والنصر المؤزر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «آيبون عابدون، لربنا حامدون» . وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ادع على ثقيف، فقال نبى الرحمة: «اللهم اهد ثقيفا وأت بهم» . ويروى أنه صلى الله تعالى عليه وسلم اتبعه فى أثره عروة بن مسعود حتى أدركه قبل أن يدخل المدينة المنورة مسلما، وسأله أن يرجع إلى قومه بالإسلام فقال له النبى صلى الله عليه وسلم: كما يتحدث قومك أنهم قاتلوك. وعرف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن فيهم نخوة الامتناع الذى كان فيهم، فقال عروة: يا رسول الله، أنا أحب إليهم من أبكارهم، وكان حقيقة مجابا مطاعا فيهم، فخرج يدعو قومه إلى الإسلام رجاء ألا يخالفوه لمنزلته فيهم، فلما أشرف عليهم من مكان مرتفع يدعوهم إلى الإسلام رموه بسهم فقتل، فقال رضى الله عنه: كرامة أكرمنى الله تعالى بها، وشهادة ساقها الله تعالى إليّ، فليس فى إلا ما فى الشهداء الذين قتلوا مع النبى صلى الله عليه وسلم قبل أن يرتحل عنكم، فادفنونى معهم فدفنوه. ويظهر أن قتلهم عروة، وهو المحبب فيهم، قد أثر فى نفوسهم، وقد رأوا أن العرب قد دخلوا فى طاعة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وأنهم وحدهم الباقون على عدائه، ولا قبل لهم به، ولا بحرب من حولهم من العرب الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلموا. لذلك أجمعوا أن يرسلوا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فكلموا عبد بن ياليل، وكان فى سن عروة بن مسعود، وعرضوا عليه ذلك، فأبى أن يجيبهم، وقد رأى ما صنعوه مع عروة، وكانوا هم الذين أرسلوه، كما يحاولون إرساله، فخشى أن يفعل به ما وقع بصاحبه، فقال لهم عبد ياليل: ابعثوا معى وفدا فبعثوا معه ستة، ووصلوا المدينة المنورة، فلقيهم المغيرة بن شعبة، ولنترك الكلام فيما صنعه الوفد، وما قاله الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم إلى الكلام فى الوفود من بعد ذلك فى وقتها من الزمان. وإن كلامنا الآن فى وفد ثقيف كلام مبتسر، ذكرناه لنبين أن ترك النبى صلى الله تعالى عليه وسلم غير عاجز، كان لحكمة عالية ألانت قلوبا بعد شماسها، حتى إنه يروى أبو داود: أن العيلة الأحمسى واسمه صخر، أخذ على نفسه عهدا وذمة أن يحمل ثقيفا على مبايعة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على الإسلام، وقد استطاع أن يلين قلوبهم وأن ينزلهم على حكم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. وقد كتب صخر هذا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول له: «أما بعد فإن ثقيفا قد نزلت على ذلك يا رسول الله، وأنا مقبل بهم، وهم فى خيلى» .

عود إلي غنائم هوازن

عندما جاء ذلك الكتاب إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سر سرورا لا حد له، لأنهم جاؤه مسلمين، ولم تكن حرب تخرب الديار، وأمر بأن ينادى: الصلاة جامعة، فقرأ على المسلمين كتاب صخر، ثم دعا لقبيلة أحمس التى منها صخر هذا، وقال عشر مرات: «اللهم بارك لأحمس فى خيلها ورجالها» . ولقد جاء صخر هذا ببعض ثقيف، ولكن لم يكن هو الوفد الذى جاء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد ذكرنا أننا سنتكلم فى وفد ثقيف من بعد عند الكلام فى الوفود فى سنة الوفود. عود إلي غنائم هوازن 632- تكلمنا فى توزيع غنائم هوازن، ولعلها كانت أكبر غنائم غنمها من العرب، أو لعلها تماثل غنائم خيبر أو تقاربها، وفعلنا ذلك عقب هزيمة هوازن، ولكن لم نسر سيرا زمانيا، لأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لم يوزعها إلا بعد الانتهاء من حرب الطائف، فلم ننتظر حتى يجيء الزمان الذى وزعها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فيه، بل ذكرنا توزيعها فور الانتهاء منها. والآن نبين زمان التوزيع، وإن كان متأخرا عن الغزوة لرأى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. وقد ذكرنا ما أعطاه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم المؤلفة قلوبهم، ولم يكن فى المؤلفة قلوبهم أحد من بنى عبد المطلب قط، فلم يكن فيهم العباس، ولا أولاد الحارث بن عبد المطلب ولا غيرهم ممن ثبتوا مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم هم وأبو بكر وعمر ولم يثبت أحد غيرهم، ولم يجد أحد من المهاجرين فى نفسه شيئا، لأنهم يريدون عز الإسلام، ولا يريدون مالا ولا نسبا بل يريدون عزة الإسلام، فلم يجد فى نفسه أبو عبيدة، ولا عبد الرحمن بن عوف، ولا غير هؤلاء. ولكن وجد الأنصار فى أنفسهم موجدة لا من أجل المال، ولكنهم حسبوا أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، نسيهم بقومه إذ التقى بهم، فقد كان الأنصار الذين آووا ونصروا لا يريدون المال، ولكن يريدون الرسول عليه الصلاة والسلام ذاته، يريدونه هم والمهاجرون، يريدون بقاء محبته لهم. هؤلاء الأنصار كانوا أطهارا حتى فى موجدتهم، ولكن وجد ناس ليسوا مهاجرين ولا أنصارا، وليست الدعوة الإسلامية فى حسابهم، ولا تأليف القلوب التى لا يدخلها الإيمان فى نفوسهم قد تكلموا فى هذا ناكرين مما يدل على أنهم لم يكونوا أنصارا بل كانوا منافقين، وعدهم القرآن الكريم منهم. لقد أعطى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم المؤلفة، فقام ذو الخويصرة من بنى تميم، فقال للنبى صلى الله عليه وسلم: يا محمد لقد رأيت ما صنعت فى هذا اليوم، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه

وسلم: فما رأيت؟ قال: لم أرك عدلت- فغضب النبى صلى الله عليه وسلم ولكنها غضبة الرفيق الحكيم، فقال: ويحك إذا لم يكن العدل عندى، فعند من يكون؟. فقال عمر بن الخطاب: ألا نقتله؟ فقال الهادى الأمين صلى الله تعالى عليه وسلم: دعوه فإنه سيكون له شيعة، يتعسفون فى الدين حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرمية. وإن قائل هذا القول لا يمكن أن يكون مؤمنا، كما يبدو من لحن قوله فهو يقول فى ندائه للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم بقوله: يا محمد، ولم يقل يا رسول الله عليه الصلاة والسلام، وكذلك قال قوله واحد مثله، فقد رأى بلالا فى ثوبه مال يوزعه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فقال اعدل يا محمد فقال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم «ويلك من يعدل إذا لم أكن أعدل، لقد خبت وخسرت إذا لم أكن أعدل» . فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله، أفأقتل هذا الرجل؟ فقال الرسول الحكيم صلى الله تعالى عليه وسلم «معاذ الله أن يتحدث الناس أنى أقتل أصحابى، إن هذا وأصحابه يقرأون القرآن الكريم لا يتجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين، كما يمرق السهم من الرمية» . ولقد بلغه أن بعض الناس عندما أعطى رسول الله المؤلفة قلوبهم قال: هذه قسمة ما أريد بها وجه الله تعالى، فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، قال: «رحم الله تعالى موسى، لقد أوذى بأكثر من ذلك» وهذه إشارة إلى قول الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا، وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً. وأن هؤلاء أساس كلامهم، وإن كنت أحسب أنهم جميعا لم يدخل الإيمان قلوبهم، وهم من الأعراب الذين قال الله فيهم: الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً، وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ (التوبة: 97) . لقد فهموا خطأ طواعية لأهوائهم ومطامعهم، أن كل من حضر القتال له حق فيها يساوى غيره ممن حضروا، وظنوا أن هذه المساواة عادلة، وأخطأوا إذ أن المساواة قد تكون ظلما، فالمساواة بين العامل المجاهد، ومن وقف ينتظر النتيجة تكون لأى الفريقين تكون ظلما. وفهموا خطأ أن الذين يحضرون الحرب فى الغنيمة لهم حقوق، وأن من يحول بينهم وبين ما زعموه حقا لهم يكون قد ظلمهم، وتلك أوهام قد أوجدتها المطالع، وهى باطلة، إن النبى صلى الله تعالى

عليه وسلم قد وضع الله تحت تصرفه خمس الغنيمة، والغنائم كلها تحت تصرف النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، يقيم القسطاس والعدل والرحمة فيها، ألم تره عندما رأى الرحمة ونظام الإسلام أن ترد السبايا إلى أهلهن، وأن يطلق سراحهن نفذ ذلك، وقد صارت السبايا إلى من هى فى أيديهن، فنزعها منهم بحكمته، قدمها المؤمنون طوعا واختيارا واتباعا للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ونفذها على بنى عبد المطلب، ولم يحاول أن يأخذ بغير رضا منهم ومن امتنع من المسلمين الذين لم يدخل الإيمان قلوبهم حملهم على رد السبايا وعوضهم. فالغنائم كلها فى يده يتصرف فيها بما توجب النبوة والدعوة الإسلامية، والرحمة والعدل الإسلامى، لا طلب الأهواء الذى هو الظلم ذاته. لقد وجد أن الدعوة الإسلامية توجب تأليف قلوب، لهم فى قومهم منزلة وليس لهم فى الإسلام جهاد ولم يدخل الإيمان قلوبهم، وقد أكلتهم الضغينة وقتل الجهاد والمجاهدون من قتل منهم، ويريد تأليفهم إلى الإسلام، ونسيان الإحن، فأعطى أبا سفيان وأولاده، وأعطى الأقرع بن حابس وغيره. لقد قال بعض أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أعطيت الأقرع بن حابس، وعيينة بن حصن، وتركت جعيل بن سراقة الضمرى، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مبينا سبب العطاء، وهو لم يمنع أحدا حقا له: «أما والذى نفس محمد بيده لجعيل خير من مثل عيينة والأقرع، ولكن تألفتهما ليسلما، ووكلت جعيل بن سراقة لإسلامه» . هذا هو أساس العطاء، وهؤلاء نظروا إلى الأموال، ولم ينظروا إلى واجب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى نشر الدعوة، وما يراه طريقا لتأليف القلوب. وإن قوله تعالي: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ، فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا، وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (التوبة- 58) فهذه الآية نزلت فى المنافقين، والذين اعترضوا كانوا من الأعراب الذين هم أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً، وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ (التوبة- 97) . وما كان الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ليخضع فى أمر الدعوة ومقتضياتها لناس حديثى عهد بجاهلية، وحسبه أن يكون معه المهاجرون والأنصار، والذين أخلصوا دينهم لله سبحانه وتعالى.

عمرة الجعرانة

عمرة الجعرانة 633- لم يدخل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مكة المكرمة عند الفتح محرما لعمرة، بل دخلها فاتحا غير محارب، ويريد الاتصال، ويعيد المودة ويعلن الأخوة بعد طول الافتراق، وإن المودة تجذب القلوب النافرة، وتؤوى العقول الشاردة. ولقد كان طواف فى غير إحرام، ولم تكن مناسك عمرة وتعظيم للبيت. ولما انتهى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من الفتح شغل بجذامة وإرضاء قلوبها، ومداواة الجراح التى جرحها خالد بن الوليد. ولما أخذت هوازن تهم بالهجوم على جيش محمد صلى الله تعالى عليه وسلم كان لا بد من لقائها، فكان اللقاء المرير، ذو النتائج الباهرة، وأتبعها بالطائف، فلما أذن الشهر الحرام بالمجيء عاد إلى الجعرانة وهى ميقات من مواقيت الإحرام، فأحرم منها بالعمرة، ودخل بيت الله معتمرا. وكانت تلك العمرة فى ذى القعدة، وذهب إلى المدينة المنورة لست ليال بقين من ذى القعدة. ولم يحج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم هذا العام الثامن بنفسه ولا بأحد ناب عنه، وترك الحج لما كان عليه العرب من قبل. ولكن كان مع المسلمين الذين أرادوا الحج عتاب بن أسيد، فحج بهم. ولكن عندما عاد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى المدينة المنورة، ترك أميرا عليها عتاب بن أسيد، وكان سن عتاب كما جاء فى شرح المواهب اللدنية عشرين سنة، فخلفه صلى الله تعالى عليه وسلم فى هذه السن، وكان مباركا فى عمله مخلصا فى نيته، قنوعا فى ذات اليد، لا يطمع، بل يشبع بالقليل. أجرى عليه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم رزقا درهما كل يوم فكان به راضيا، غير متطلع لأكثر منه، وكان يقول داعيا إلى القناعة: «أيها الناس أجاع الله تعالى كبد من جاع على درهم، فقد رزقنى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم درهما كل يوم، فليس بى حاجة إلى أحد» . وقد خلف صلى الله تعالى عليه وسلم بعد العمرة معاذ بن جبل الحافظ للقرآن الكريم الراوى للسنة بجوار عتاب بن أسيد، وخلفه ليعلم الإسلام، ويفقههم فى الدين، ويحفظهم القرآن الكريم، فقد

قدوم كعب بن زهير

كانوا فى حاجة إلى ذلك، لحداثة عهدهم بالجاهلية، ولم يعيشوا فى ظل القرآن الكريم كأهل المدينة المنورة، بل كانوا يناوئون أهل القرآن الكريم، وإن علم بلغاؤهم مكانته، وأنه يعلو ولا يعلى عليه. وقد عاد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى الجعرانة بعد عمرته، ولم يمكث بها إلا قليلا، وفيها وزع بقية الفيء والغنائم، ومنها سافر إلى المدينة المنورة حتى بلغها لليال ست بقيت من ذى القعدة. وقد ترك الطائف على شركه، وإن أخذت تميل نحو الاسلام على عنجهية الجاهلية. وكان مالك بن عوف يغير عليها آنا بعد آن، فإن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أدناه منه وأسلم وحسن إسلامه، فكان من بعد ذلك يرهقها بالغارات ويجيء إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بما يدل على أنها تلين إلى الإسلام شيئا فشيئا، حتى لانوا كما سنبين فى وفدهم. قدوم كعب بن زهير 634- قدم كعب بن زهير على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعد عودته من عمرته، وما كان لنا أن نهتم بما نكتب بشاعر أو كاهن، وما كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يحتاج إلى داعية يدعو بمفاخره، فرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مقامه عند الله العظيم، وما كان يحتاج إلى شاعر يشيد بمنصبه فرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد دان بالطاعة له كبراء العرب، وغيرهم هو فى مكانته رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الذى كان يلقى عليه أبو جهل فرث الجزور، فمكانته عند الله وفى نفسه، وعند كل ذى لب واحدة. ولكنا ذكرناه لأن قدومه يدل على بلوغ الدعوة الإسلامية كل نواحى البلاد العربية قاصيها ودانيها، وإن فتح مكة المكرمة جعل القلوب تتجه إليه، والمنكرين يصدقون، والنافرين يدنون، ويأوون. لقد كان كعب هذا يشارك المنكرين وينشد شعره فى ذم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فلما ظهر النور الذى لا ينطفيء مال إلى أن يتقدم إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مهديا، بعد أن جافاه، وهو ابن زهير بن أبى سلمى حكيم الشعراء فى الجاهلية، فهو من بيت جاهلى فيه شعر الحكمة. وعندما هم بأن يذهب إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم حذره أخوه بجير بن زهير بن أبى سلمى، وكتب إليه يخبره أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قتل رجالا بمكة المكرمة ممن كان يهجوه ويؤذيه، وأن من بين شعراء قريش ابن الزبعرى وهبيرة بن أبى وهب، قد هربوا منه فى كل وجه،

فإن كانت فى نفسك حاجة، فسر إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم تائبا، فإنه لا يقتل أحدا جاء إليه تائبا، وإن أنت لم تفعل، فانج إلى نجاتك من الأرض. وكان قد قال قصيدة فيها ذم للإسلام، وقد أسلم أخوه، وأرسل إليه الكتاب المذكور آنفا. ولما بلغ زهيرا هذا الكتاب ضاقت به الأرض، وأشفق على نفسه من قصيدته، ويقول ابن إسحاق أرجف به من كان فى حاضره من عدوه وقالوا هو مقتول، أى أنهم أرادوا أن يحذروه إيفاده على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ولذا قال قصيدته التى يمدح فيها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وذكر فيها خوفه، وإرجاف الوشاة من عدوه. ولقد خرج وقدم المدينة المنورة فنزل على رجل كان يعرفه فغدا به إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ثم أشار به إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال: هذا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقم إليه فاستأمنه. فقام إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حتى جلس إليه، ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لا يعرفه، فقال: يا رسول الله إن كعب بن زهير جاء يستأمن منك تائبا مسلما، فهل أنت قابل منه، إن أنا جئتك به، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: نعم- فقال يا رسول الله أنا كعب بن زهير، وكان فى المجلس بعض الأنصار، فوثب عليه رجل منهم، فقال: يا رسول الله دعنى وعدو الله أضرب عنقه. فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «دعه عنك، فإنه قد جاء تائبا، نازعا مما كان عليه» وغضب كعب على الحى من الأنصار كما يقال، وما يضر غضبه على هؤلاء الذين آووا ونصروا ولم يقل فيه أحد من المهاجرين إلا خيرا. ولقد مدح رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بقصيدة هزت أعطاف رسول الله عليه الصلاة والسلام، وكان كريما يقبل طيب القول. ولقد روى أنه قال إن من الشعر لحكمة، ولننشد أبياتا منها، لكرم موضوعها. يقول فى مطلعها: بانت سعاد فقلبى اليوم متبول ... متيم إثرها لم يفد مكبول وبعد أن يذكر سعاد وهى كما قيل زوجته، وغربته عنها، يقول متجها إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.

وقال كل صديق كنت آمله ... لا ألهينك إني عنك مشغول فقلت خلوا سبيلى لا أبا لكم ... فكل ما قدر الرحمن مفعول كل ابن أنثي وإن طالت سلامته ... يوما على آلة حدباء محمول نبئت أن رسول الله أوعدني ... والعفو عند رسول الله مأمول مهلا هداك الذى أعطاك نافلة ... القرآن فيها مواعيظ وتفصيل لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم ... أذنب ولو كثرت في الأقاويل ثم يقول فى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن الرسول لنور يستضاء به ... مهند من سيوف الله مسلول فى عصبة من قريش قال قائلهم ... ببطن مكة لما أسلموا زولوا ويقول فى وصف أصحاب الرسول: ليسوا مفاريح إن نالت رماحهم ... قوما وليسوا مجازيعا إذا نيلوا لا يقع الطعن إلا فى نحورهم ... وما لهم عن حياض الموت تهليل وفى هذه القصيدة لم يذكر الأنصار، لأن رجلا منهم أراد قتله، فيروى أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بعد أن أنشد قصيدته قال: لولا ذكر الأنصار فإنهم لذلك أهل، فقال مادحا الأنصار: من سره كرم الحياة فلا يزل ... فى مقنب من صالح الأنصار ورثوا المكارم كابرا عن كابر ... إن الخيار هم بنو الأخيار إلى آخر قصيدة ليست مهلهلة طويلة، بل هى موجزة قصيرة. وإنا نذكر أننا ذكرنا كعب بن زهير لبيان أنه إذا كان الإسلام قد فقد عبد الله بن رواحة شاعر الدعوة الإسلامية والذود عنه وعن الرسول الكريم صلى الله تعالى عليه وسلم، فقد جاء الشاعر كعب بن زهير، والشعراء كانوا ألسنة الدعوة إلى المكارم ونشر الفضل والفضلاء فى الجزيرة العربية.

السرايا بعد هوازن

السرايا بعد هوازن 635- أخذ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بعد ما كان فى هوازن والطائف يرسل السرايا فى القبائل العربية داعية إلى الإسلام، متعرفة لأحوالها، وكان يشغل بذلك الذين أسلموا حديثا ليألفوا الإسلام، ويتحملوا واجباته، وليحملوا عبء الدعوة إلى الإسلام من بعد، وليكون منهم المجاهدون فى سبيله، وليتعودوا القيام بواجباته، وليرضى نهمتهم من حب السلطان. ولكى ينالوا من الغنائم بالحق ممن تأبوا على الإسلام من القبائل. فأرسل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عيينة بن حصين فى المحرم من السنة التاسعة إلى بنى تميم، فى خمسين رجلا، ليس فيهم من المهاجرين ولا الأنصار أحد. فسار إليهم يكمن نهارا، ويسير ليلا ليفجأهم من حيث لا يشعرون، فهجم عليهم، وهم يسرحون مواشيهم، فلما رأوا الجمع ولوا الأدبار، فاستطاع أن يسبى منهم نساء عددهن إحدى وعشرون، وأخذ ثلاثين صبيا وأحد عشر رجلا. ساق هؤلاء إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فأنزل فى أحد بيوت المدينة المنورة. وجاء من بعد ذلك كبراء من تميم منهم عطارد بن حاجب، والزبرقان بن بدر، وقيس بن عاصم، والأقرع بن حابس بن الحارث، وعمرو بن الأهتم، ورباح. فلما رأوا نساءهم وذراريهم بكوا إليهم. فعجلوا فجاؤا إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فنادوا: يا محمد اخرج إلينا فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأذن بلال للصلاة وهؤلاء تعلقوا برسول لله صلى الله تعالى عليه وسلم يكلمونه، فوقف معهم، ثم مضى فصلى الظهر، ثم جلس، ثم قدم فتكلم، فأمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثابت بن قيس بن شماس فرد عليهم أسراهم وسباياهم وأبناءهم لأنهم ما كانوا محاربين، ويظهر أنهم كانوا غير مطيعين. وقد قال ابن إسحاق فى ذلك: دخلوا المسجد، ونادوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: يا محمد اخرج الينا، فتأذى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم؛ قالوا جئنا لنفاخرك فأذن لشاعرنا وخطيبنا، ويظهر أن ذلك بعد أن استردوا الأسرى والسبايا. ولقد قال الله تعالى فى عدم استئذانهم: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ. وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ.

سرية الضحاك بن سفيان:

ولقد ذكر ابن إسحاق المباراة البيانية، أو المفاخرة الشعرية والخطابية فروى قول شاعرهم ورد حسان وذكر قول خطيبهم. لقد قال خطيبهم حاجب بن عطارد: «الحمد لله الذى له الفضل علينا، جعلنا ملوكا ووهب لنا أموالا عظاما نفعل فيها المعروف، وجعلنا أعز أهل الشرق، وأكثره عددا، وأيسره عدة، فمن مثلنا فى الناس، ألسنا رؤوس الناس، وأولى فضلهم، فمن فاخر، فليعد مثل عددنا، فلو شئنا لأكثرنا من الكلام، ولكن نستحى من الإكثار لما أعطانا، أقول هذا لأن يأتوا بمثل قولنا أو أمر أفضل من أمرنا. فقال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لثابت بن قيس بن الشماس قم فأجبه، فقام فقال: الحمد لله الذى خلق السموات والأرض، وقضى فيهن أمره، ووسع كرسيه علمه، ثم إن من فضل الله أن جعلنا ملوكا، واصطفى من خير خلقه رسولا أكرمه نسبا وأصدقه حديثا، وأفضله حسبا، فأنزل عليه كتابا، وائتمنه على خلقه، وكان خيرة الله تعالى من العالمين، ثم دعا الناس إلى الإيمان بالله، فامن به المهاجرون من قومه وذوى رحمه، أكرم الناس أحسابا وأحسنهم وجوها، وخير الناس فعلا، ثم كان أول الناس استجابة لله حين دعا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فنحن أنصار الله، نقاتل الناس حتى يؤمنوا، فمن آمن بالله ورسوله منع منه ماله ودمه، ومن سكت جاهدناه فى سبيل الله تعالى أبدا، وكان قتله علينا يسيرا، أقول هذا وأستغفر الله العظيم للمؤمنين والمؤمنات، والسلام عليكم. فتح النبى صلى الله تعالى عليه وسلم هذه المباراة البيانية إرضاء لرغبة القول عندهم وليعلمهم أن المفاخرة ليست بالأنساب، ولكن المفاخرة بالإيمان والأعمال الصالحة، والتقوى، وليضرب المثل لهم بقومه، وليقدم لهم الحق سائغا، ولقد قال الزبرقان بن بدر من بعد: إن هذا الرجل خطيبه خير من خطيبنا، وشاعرهم أحسن من شاعرنا، وأقوالهم أعلى من أقوالنا، وقد أعطاهم جوائز، يشبه ما يعطى المؤلفة قلوبهم. سرية الضحاك بن سفيان: 636- كانت هذه السرية كأخواتها لتعرف أحوال العرب فى صحرائهم ونشر الإسلام بينهم، وجعل الحبل ممدودا بينه وبينهم من غير أن يقطع، وأرسل فى هذه السرية الضحاك بن ثابت إلى بنى كلاب، وهو منهم، فى ربيع الأول من السنة التاسعة. اتجه إليهم ابن سفيان فدعاهم إلى الإسلام فلم يستجيبوا فقاتلهم فهزمهم.

سرية قطبة بن عامر:

سرية قطبة بن عامر: وكانت قبل هذه السرية فى صفر من هذه السنة سرية قطبة بن عامر إلى خثعم فى عشرين رجلا خرجوا على عشرة إبل يتعقبونها، فلما التقوا ببعض بنى خثعم اقتتلوا قتالا شديدا، وكثر الجرحى من الفريقين جميعا وكان فى القتلى قطبة بن عامر، ولكن الجيش بقى بعده، وساق النعم والنساء وعادوا إلى المدينة المنورة بهذه الغنائم. وقد تجمع كثيرون من بنى خثعم وساروا وراءهم، ولكن كان مطر شديد حال بينهم وبين تتبعهم. سرية علقمة بن محرز: 637- وكانت فى ربيع الآخر من السنة التاسعة، وذلك أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بلغه أن ناسا من أهل الحبشة ظهروا أمام جدة، وبدا أنهم يريدون الغارة عليهم، فأرسل إليهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فذهبوا إليهم، وطاردوهم، وخاضوا البحر، وراءهم فلجأوا إلى الجزيرة، وقد تعجل قوم فى الأوبة فأذن لهم، وأمر عليهم بعض المتعجلين، وقد أراد أن يداعب من معه فأوقد لهم نارا، وأمرهم بالتواثب عليها، فأراد بعضهم أن ينزل فيها، فرده، وقال: إنما كنت أضحك منهم، ولا شك أن هذا تعابث ما كان يجوز، ولذلك لما عادوا إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وأخبروه الخبر، فقال: «من أمركم بمعصية فلا تطيعوه» . وكدنا لا نصدق ذلك الخبر لولا أنه روى فى الصحيحين عن على بن أبى طالب ما يؤيده، فعن على أنه قال: «بعث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سرية، واستعمل عليها رجلا من الأنصار وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا، فأغضبوه، فقال: اجمعوا لى حطبا، فجمعوا، فقال أوقدوا نارا ثم قال: «ألم يأمركم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن تسمعوا؟، قال: فادخلوها، فنظر بعضهم إلى بعض، وقالوا إنما فررنا الى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من النار، فسكن غضبه، وأطفئت النار، فلما رجعوا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وذكروا ذلك لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال: لو دخلوها ما خرجوا منها أبدا! لا طاعة فى معصية الله، إنما الطاعة فى المعروف. وفى هذه الرواية أن رئيس السرية ركبه الغضب، فعصى الله وعصى الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم فأمر بما أمر، وإذا أطاعوه فقد أطاعوه فى معصية فعصوا الله، وفيه أن الأمر بالطاعة إنما هو فى

سرية على بن أبى طالب لهدم صنم طيئ:

المعروف المعقول لا المنكر عقلا وشرعا، فليعتبر أولئك الذين يقتلون ويرتكبون أشد المنكرات باسم الطاعة، فبذلك تضيع الأمم والجماعات، ولا حول ولا قوة إلا بالله. سرية على بن أبى طالب لهدم صنم طيئ: 638- بعث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عليا فى خمسين ومائة رجل من الأنصار على مائة بعير، وخمسين فرسا ومعه راية سوداء، ولواء أبيض إلى الفلس، وهو صنم طييء ليهدمه، فشنوا الغارة على محلة حاتم، وكان بعث على فى ربيع الثانى سنة تسع من الهجرة. ذهب على بجيشه الأنصارى فهدم الصنم، وكان القتال مع الفجر، وفروا أمام جيش المسلمين بقيادة المجاهد على، وتركوا نساءهم وأموالهم. فسبوا النساء، وأخذوا النعم والشاء وفى السبى أخت عدى بن حاتم أى بنت حاتم الطائى، وفر عدى إلى الشام وكان نصرانيا، وقد وجدوا فى خزانة عدى ثلاثة أسياف، وثلاثة أدرع. وقد أقام عليّ على السبى أبا قتادة، وعلى الماشية والفضة عبد الله بن عتيك وقسم الغنائم فى الطريق، وجعل السقى لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ولم يقسم السبايا حتى أتى بهم المدينة المنورة وليس فيهم عدى بن حاتم. ولقد جاءت ابنة حاتم الطائى، فقالت: يا رسول الله لقد غاب الوافد، وانقطع الوالد، وأنا عجوز كبيرة ما بى من خدمة فمنّ على منّ الله عليك، إن رأيت أن تخلى عنى، ولا تشمت بنا أحياء العرب فإنى ابنة سيد قومى، وإن أبى كان يحمى الذمار، ويفك العانى، ويشبع الجائع، ويكسو العارى ويقرى الضيف، ويطعم الطعام، ويفشى السلام، ولم يرد طالب حاجة قط، أنا ابنة حاتم طييء. رق النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لحالها، وذكر بالخير أباها إيناسا لها، وتخفيفا لفزعها، فقال لها: «يا جارية هذه صفات المؤمنين، ولو كان أبوك مسلما لترحمنا عليه، خلوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق» . ويروى أنها قالت داعية للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم: اللهم لا تجعل حاجتك إلا عند كريم. ولما التقت مع أخيها عدى بن حاتم حثته على الإسلام. فقالت عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: لقد فعل فعلة ما كان أبوك يفعلها، ائته راغبا أو راهبا، لقد أتاه فلان فأصاب منه وأتاه فلان فأصاب منه، وبذلك كانت هى السبيل لإسلام أخيها، وتسليم نفسه للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم. فأتى النبى

صلى الله تعالى عليه وسلم وليس معه كتاب أمان ولا أمان، فقال القوم هذا عدى بن حاتم، وقال عدى فلما دفعت إليه أخذ بيدى وكان قبل ذلك قد قال إنى أرجو أن يجعل الله يده فى يدى. وظهرت أمام عدى أخلاق النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ورفقه بالضعفاء، لقد رأى امرأة لقيته ومعها صبى فقالت له إن لنا إليك حاجة فقام معها، حتى قضى حاجتها. ويقول عدى بن حاتم، ثم أخذ بيدى، حتى أتى داره، فألقت له الوليدة وسادة فجلس عليها، وجلست بين يديه، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: ما يضرك؟ أيضرك أن تقول: لا إله إلا الله، فهل تعلم من إله سوى الله قلت: لا، ثم تكلم ساعة، ثم قال، أيضرك أن يقال الله أكبر وهل تعلم شيئا أكبر من الله، قلت لا قال فإن اليهود مغضوب عليهم، وإن النصارى ضالون، فقلت: إنى حنيف مسلم، فرأيت وجهه ينبسط فرحا، ثم أمرنى فنزلت عند رجل من الأنصار وجعلت آتيه طرفى النهار، فبينما أنا عنده إذ جاء قوم فى ثياب من الصوف من هذه الثمار فصلى ثم قام فقال: يا أيها الناس ارضخوا من الفضل ولو بصاع أو بنصف صاع، ولو بقبضة، ولو ببعض قبضة، يقى أحدكم وجهه حر جهنم، فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة، فإن أحدكم لاقى الله وقائل له ما أقول لكم، ألم أجعل لك مالا وولدا، فيقول: بلى، فيقول أين ما قدمت لنفسك، فينظر قدامه وبعقبه، وعن يمينه وعن شماله يقى به وجهه نار جهنم، ليق أحدكم وجهه النار، ولو بشق تمرة، فإن لم يجد فبكلمة طيبة، فإنى لا أخاف عليكم الفاقة فإن الله ناصركم ومعطيكم حتى تسير الظعينة ما بين يثرب والحيرة، وأكثر ما يخاف على مطيتها السرقة. قال عدى بن حاتم: فجعلت أقول لنفسى أين لصوص طيئ. نقلنا هذا الحديث، لنرى أولا: الرفق والتقريب النفسى فى المعاملة والعطف وحث الناس على الأخلاق الطيبة، وذكر ماثر ذوى الأخلاق، حتى خرج الرجل من مجلس الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو أحب الناس إليه وكان من قبل يكرهه أشد ما تكون كراهة الرجل للرجل. وإن هذا الخبر يرى القاريء مجلسا من مجالس النبوة، وإنه لمجلس يهدى إلى الرشد، أجف الناس حلقا، وأبعدهم عن الحق، إذا لم يكتب الله تعالى عليهم الضلالة، ويقربهم من الغواية. والله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم لهما المن والفضل.

غزوة تبوك

غزوة تبوك 639- استوعبت الدعوة الإسلامية البلاد العربية، فمنهم من آمن ومنهم من كفر، ومنهم من أسلم، ولما يدخل الإيمان فى قلبه، ومنهم من آمن وأخلص للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم وحمل عبء الدعوة وجاهد فى سبيلها، وليس من العرب من لم يعلم بالإسلام، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، والحق الذى يدعو إليه، من غير مواناة ولا تقصير. ولا هوادة. ولا بد أن يتجاوز بعد ذلك دائرة البلاد العربية إلى ما يصاقبها، من البلاد المجاورة خصوصا البلاد التى فيها العنصر العربى، فإنها بتكوينها أقرب إلى الاستجابة إلى ما يعم بلاد العرب التى هى مثابتهم، وفيها الحرم الآمن الذى جعله الله آمنا، والناس يتخطفون من حوله. وأخص بذلك بلاد الشام ففيها الغساسنة من العرب، وكان فيها اعتداء على من أسلم وكانت غزوة مؤتة، بسبب قتل رسول النبى صلى الله تعالى عليه وسلم والى بصري. وانتهت مؤتة، ولم تكن بنصر حاسم، وإن لم تكن بهزيمة، فإن جيش الإسلام لم يرجع مهزوما وإنما تراجع منتظما بمهارة خالد بن الوليد، وكانت هذه أول قيادة ناجحة له فى الإسلام. ولم تكن النتيجة على المسلمين، فلم يقتل منهم أمام مائتى ألف إلا نحو اثنا عشر رجلا وقد قتل من الروم مقتلة عظيمة، حتى إنه فى هذه المعركة يطوى فى يد خالد تسعة سيوف، وقتل الأمراء لم يؤثر بالهزيمة فى الجيش الأقل فى عدد. وإن شئت أن تقول إن غزوة تبوك امتداد لغزوة مؤتة فقل، فهى سير فى الخطة التى ابتدأت بها، ولم تنل مأربها من قتل قتلة الرسول الذى بعثه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. ومع أنها امتداد لغزوة مؤتة فى سببها وسيرها، والمقصد، فقد كان لها وحدها سبب قائم بذاته، ذلك أنه باللقاء بين المسلمين وغيرهم من الأنصار ومن معهم من العرب، أوجد الالتحام الحربى بين العرب الذين عاونوا الرومان والعرب المجاهدين مع اتحاد الجنس، من يميل إلى الإسلام لأنه الدين الجديد فى قومهم، وقد صار رمز القوة عندهم، وخير لهم أن يعتزوا بأنفسهم عن أن يعتزوا بالرومان، ففرق بين من يقول أنت أخى، ومن يقول أنت عبدى أو تابعى، ولذلك كان إقبال الخاضعين للغزو الرومانى شديدا لأنه الدين الجديد لإخوانهم، ولاضطراب الدولة الرومانية، واضطراب الأحوال فيها. ولقد أسلم من العرب الذين استعان بهم الرومان عدد كبير.

الحال عند الغزو:

لقد أسلم فروة بن عمرو الجذامى الذى كان قائدا لإحدى الفرق الرومانية عندما اقتتل الرومان مع المسلمين فى مؤتة. فضاق الرومان ذرعا بإسلامه، واتهموه بالخيانة وقتلوه، وما كان للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يترك دم هذا الرجل المسلم هدرا، بل لا بد من القصاص، وإن قتله فتنة تمنع غيره من أن يدخل فى الإسلام، فحق أمر الله وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ، وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ (البقرة: 193) وجبت الطاعة لقوله تعالى: قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ، وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً (التوبة: 9) . قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (التوبة: 29) . وهناك أمر أخر ذكره كتاب السيرة أنه لما نزل قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا (التوبة: 28) ظن التجار الذين كانوا يقيمون المتاجر فى سوق عكاظ، وذوى المجاز ومجنة، وغيرها من الأسواق فى موسم الحج، ظنوا أن متاجرهم تكسد، فكان لهذا ولغيره غزوة الشام فى تبوك، وفى ذلك فتح لأبواب التجارة. ذلك سبب ذكره كتاب السيرة، وما كنا لنذكره لولا أنهم ذكروه، فما كانت غزوات النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لتسهيل تجارة مادية، إنما كانت لتسهيل الدعوة الإسلامية، وإن هذه التجارة لن تبور، بل فيها مكسب أغلى وأعلى، وهو رضا الله سبحانه وتعالى. وإن الرومان بعد غزوة مؤتة قد رأوا أن الدين الجديد يغزو النفوس بأحكامه. ويغزو البلاد برجاله، وأنهم يجب أن يعدوا العدة للقضاء عليه قبل أن يقضى على دولتهم، فكانوا يستعدون لغزو الإسلام، وما كان للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يتركهم حتى يغزوه فى داره، فما غزى قوم فى عقر دارهم إلا ذلوا. وقد رأى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم الروم يجمعون الجموع وأن قيصر قد أعطى أرزاقهم لسنة، وإن فى غزو الرومان تقوية لبأس العرب الخاضعين للرومان فى الشام، إذ يجدونهم يتحفزون لرفع النير عنهم، وإخراجهم من سيطرة من يذلهم، إلى عز قومهم. الحال عند الغزو: 640- فى رجب من السنة التاسعة، ويظهر أنه فى آخره أى فى آخر الشهر الحرام، أمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الناس بالتهيؤ لحرب الروم الذى قد أعدوا له عدة لحربه، وكان ذلك فى

وقت حر شديد، والنبى صلى الله عليه وسلم ما كان يبين للناس اتجاهه إذا خرج لحرب إلا فى تبوك لبعد الشقة، ولعظم المهمة، وليستعد الناس لنوع من الجهاد شاق مرير، فى وقت شديد غليظ إذ كان الحر شديدا، وكانوا يجمعون ثمار حرثهم، وغلالهم، وفى بعض البلاد جدب. وقد طابت ثمار الأرض التى أنتجت، والإرادة المادية عندهم ربما تغالب النية المحتسبة عند بعضهم، ولقد أخذ صلى الله تعالى عليه وسلم يختبر النفوس، والغزوة كلها اختبار للمؤمنين، وأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ما اختار الزمان، إنما اختارته له العناية الإلهية، وإرادة الروم، وقد خاطب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بعض الرجال ليعرف ما فى بعض النفوس، قال للجد بن قيس: يا جد، هل لك فى جلاد بنى الأصفر (يريد الروم) . فأجاب إجابة المتردد، غير المعتزم: «أو تأذن لى ولا تفتنى، فو الله لقد عرف أنه ما من رجل أشد عجبا بالنساء منى، وإنى أخشى إن رأيت نساء بنى الأصفر لا أصبر» . اعتذار بغلبة هوى النفس عنده على الجهاد، وأنه لا يستطيع جهاد نفسه عن الإثم فهو، يخشى الفتنة وأى فتنة أشد على الرجال من أن يكون عبد هواه، وقد أذن له النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، لأنه لا جدوى فى رجل لا إرادة له، وإنما هى حرب ضروس تحتاج إلى صبر وجهاد نفسى، فالوصول إلى العدو ليس سهلا، والحر شديد، واللقاء مع عدو كبير. وإن هذه الغزوة كان فيها الناس على أنواع شتى فى نفوسهم. 1- فمنهم من قعدت بهم همتهم، فخلفوا عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، واعتذروا بالمعاذير، وهؤلاء يقولون مع المنافقين: وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ، قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ. فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا، وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (التوبة: 81، 82) وهؤلاء منهم ضعفاء الإيمان ومنهم ضعفاء العزيمة وليست لديهم قوة نفسية يتحملون بها الشدائد، ولذلك كان فيهم جزع، وخوف من الإقدام. 2- ومنهم المنافقون الذين يثبطون، ويريدون الفتنة ويبتغون تثبيط المؤمنين عن المجاهدين، ويقول سبحانه وتعالى فيهم: لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ، وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ، وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ، يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ. إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ. وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً، وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ

انْبِعاثَهُمْ، فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ. لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا، وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ. لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ، وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ، حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ (التوبة: 42: 48) . الصنف الثالث أهل الإيمان. وكلهم مجاهد بنفسه وماله، لا يدخرون جهدا ولا مالا، وهم الذين قال الله تعالى فيهم وقرنهم فى الذكر برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (التوبة: 117) . هؤلاء هم الذين حملوا الدور الأول حتى صارت الكلمة العليا لله ولرسوله صلى الله تعالى عليه وسلم فى بلاد العرب، فهم أيضا الذين حملوا عبء الجهاد، عندما أخذ الإسلام ينتشر فى غير البلاد العربية، وخرج الجهاد إلى بنى الأصفر (الرومان) الذين كان اسمهم يرهب العرب. 641- كان على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يحتاط من المنافقين وكان على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يحرض المؤمنين الذين كانوا معه ويجمع شملهم، وأن يكون بعضهم عونا لبعض فى هذه العسرة الشديدة. أما بالنسبة للمنافقين فإنهم كانوا دائبى الحركة ليثبطوا المؤمنين، وهم يقولون لا تنفروا فى الحر، ليمنعوهم نفسيا من الجهاد، بل وصلت بهم الحال إلى أن يجتمعوا ببعض اليهود يأتمرون معهم. حدث ابن هشام بسنده أن ناسا من المنافقين كانوا يجتمعون فى بيت سويلم اليهودى، وكان بيته فى موضع اسمه جاسوم، يثبطون الناس عن الجهاد، وعن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى غزوة تبوك، فبعث إليهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم طلحة بن عبيد الله فى نفر من أصحابه وأمره أن يحرق عليهم بيت سويلم هذا، ففعل طلحة، فاقتحم الضحاك بن خلفة من ظهر البيت، فانكسرت ساقه وأفلت أصحاب البيت. كانت عين رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم المجاهد تترصد أولئك المثبطين الذين بلغت حالهم، حد التامر، فرد الله كيدهم فى نحورهم. والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم يأخذ حذره ممن يثبطون العزائم وهذه المعركة معركة عزائم، وقوة نفوس، وجلد وصبر وقوة احتمال.

كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى ذلك الوقت العصيب يثير عزائم أصحابه، ولا يكتفى بأن يحثهم على الخروج، بل يحثهم على أن يعين بعضهم بعضا، وأن ينفقوا فى الحرب ولا يلقوا بأيديهم إلى التهلكة، وأنه يحتاج إلى الزاد والراحلة والشقة بعيدة، ولم يكن له اختيار فى الأمان كما ذكرنا بل إنه إذ علم أن الروم يتجمعون لاقتلاع هذا الدين من الأرض العربية، وليستذلوا العرب ويقضوا على منبع العزة فيهم، فما كان له أن ينتظر، بل لا بد أن يبادرهم، ولا ينتظرهم، لقد أراد أن يخرج لهم بأكبر غزوة يغزوها، أن يخرج بثلاثين ألفا، فلا بد أن يكون فى يده ما يغزوهم به، وما يحملهم عليه، ولا يكون معه إلا القوى الأمين. ذكر ابن إسحاق بسنده أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم جد فى سفره، وأمر الناس بالجهاد والانكماش (الإسراع) وحض أهل الغنى على النفقة، والحملان فى سبيل الله تعالى فحمل رجال من أهل الغنى، وكان لعثمان ذى النورين الحظ الأكبر من الإنفاق، حتى كاد يحمل الجيش كله. روى الإمام أحمد أن عثمان ابتدأ بألف دينار فصبها فى حجر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وقال عبد الله بن أحمد فى مسند أبيه بسنده قام النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فحث على الإنفاق على جيش العسرة، فقال عثمان بن عفان عليّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها، ثم نزل مرقاة من المنبر، ثم حث، فقال عثمان على مائة أخرى بأحلاسها وأقتابها، فقال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: «ما ضر عثمان عمل بعد هذا» ولقد قال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: «من جهز جيش العسرة غفر الله تعالى له» . هؤلاء المؤمنون كان منهم من حمل نفسه وحمل معه زاده كعبد الرحمن بن عوف ومنهم من تبرع بزاد وحملان لغيره كأبى بكر وعمر، وغيرهما من ذوى اليسار من المهاجرين والأنصار. ولكن كان من بين المؤمنين الصادقين البكاؤون، وأولئك أرادوا الجهاد وألا يتخلفوا عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى نفير كهذا النفير، الفاصل بين نشر الإيمان فى الأرض وبين أن يقضى عليه فى مهده أهل القوة فيها. كان هؤلاء النفر السبعة الذين سموا البكائين، وقد ذهبوا إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فاستحملوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بأن طلبوا منه ما يحملهم عليه، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم «لا أجد ما أحملكم عليه» .

المسير

ولقد قال الله تعالى فى ذلك الجمع الحاشد: وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ، وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ. رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ، وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ، فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ. لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ. لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ، وَلا عَلَى الْمَرْضى، وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ، إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ، تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ. إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ، وَهُمْ أَغْنِياءُ، رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ» (التوبة: 86: 93) . وقبل أن يسير الجيش الكبير كان بعض البكائين من الأنصار الذين لم يجد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما يحملهم عليه- وقد وجد من يعينه، فابن يامين بن عمير بن كعب لقى اثنين منهما وهما يبكيان، فقال ما يبكيكما، قالا جئنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فلم نجد عنده ما يحملنا عليه وليس عندنا ما نتقوى به على الخروج، فأعطاهما ناضحا له فارتحلاه. وإن بعضهم، وهو عطية بن زيد قد أخذ يعتذر إلى الله تعالى عن عدم خروجه، ويقول: «اللهم إنك أمرت بالجهاد، ورغبت فيه، ثم لم تجعل عندى ما أتقوى به، ولم تجعل فى يد رسولك ما يحملنى عليه، وإنى أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابنى فيها فى مال أو حد جسد أو عرض، ثم أصبح مع الناس» . المسير 642- أخذ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى السير بجيشه الذى بلغ نحو ثلاثين ألفا، وتبعه عبد الله بن أبى مع المنافقين وأهل الريب فلما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم تخلف، وما كان سيره ثم تخلفه إلا ليخذل المؤمنين ليثير الريب بعمله، كما أثاره بقوله. وقد جعل على المدينة المنورة محمد بن سلمة الأنصارى.

وخلف على بن أبى طالب فى أهله، ويظهر أن هذه تشبه ما خلفه به على الودائع يوم الهجرة، لأن الشقة كانت بعيدة، فاختار رجلا من أهله ليقوم على أهله وأهله، وما كان لعلى أن يكون له بعد أمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الخيرة من أمره، بل عليه الطاعة المجردة، ولكن المنافقين الذين من شأنهم أن يثيروا الريب، والإفساد ويسعوا بالنميمة بالأحبة- أشاعوا قالة غير صحيحة أصلا، قالوا: ما خلف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على بن أبى طالب إلا استثقالا له وتخففا منه. فلما أكثروا من القول فى ذلك، أخذ على رضى الله تعالى عنه سلاحه، ثم خرج حتى لحق رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو نازل بالجرف فأخبره بما قالوا، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «كذبوا، ولكنى خلفتك لما ورائى فارجع فى أهلى وأهلك، أفلا ترضى أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبى بعدى» روى هذا الحديث البخارى ومسلم وأبو داود الطيالسى. وروى الإمام أحمد رضى الله تعالى عنه أن عليا المجاهد، استكثر على نفسه أن يكون ميدان الجهاد متسعا، وفى غزوة كثر فيها التخلف، أن يبقى ولا يحمل سيفه البتار، فقال للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم «يا رسول الله لا تخلفنى فى النساء والصبيان! فقال: يا على أما ترضى أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبى بعدى» . وإن هذا كان المنتظر من على هذا، فإن المؤمنين المتقين كانوا يتسابقون فى الخروج لأنهم لا يرضون لأنفسهم أن يبقوا فى راحة بين أهليهم والرسول صلى الله تعالى عليه وسلم يسير فى الصحراء حيث الحر اللافح. قعد أبو خيثمة وله امرأتان عربيتان قد رشتا حول عريشهما الماء لتكونا مع زوجهما فى جو رطيب، فلما رأى ذلك قال: «يكون رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى الضح والريح والحر. وأبو خيثمة فى ظل بارد، ومكان مهيأ وامرأة حسناء فى حاله مقيم، ما هذا بالنصف، والله لا أدخل عريش واحدة منكما، حتى ألحق برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فهيئالى زادا» ، وأخلف عنه بعض الصحابة فى أهله، وارتحل ناضحا له، وأسرع حتى وصل إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم معتمدا على الله تعالى، والناس معه، وبعضهم يقول تخلف فلان، فيقول عليه الصلاة والسلام: دعوه، فإن يكن فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحنا الله منه، حتى قيل تخلف أبو ذر، وتلوم به بعيره. ولما أبطأ بعير أبى ذر، وهو يريد أن يلحق رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، نزل وترك البعير، وتخفف ماشيا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، حتى قارب ركب النبى صلى الله تعالى عليه

وسلم، فنظر ناظر من المسلمين، فقال: يا رسول الله هذا رجل ماش على الطريق فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «كن أبا ذر» فلما تأمله الناس قالوا يا رسول الله هو والله أبو ذر فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «يرحم الله أبا ذر يمشى وحده ويموت وحده، ويبعث وحده» . وقد مات أبو ذر، وقد نفاه عثمان إلى الربذة، فمات وحيدا حتى عثر به فى الصحراء عبد الله بن مسعود، فدفنه، وبكاه، وقال صدق رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. ولقد كانت هذه الغزوة رحلة إسلامية إلى حيث آثار عاد وثمود، فمر بها، ولقد مر بالحجر، فسجى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثوبه على وجهه واستحث راحلته، ثم قال: لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا أنفسهم، إلا وأنتم باكون، خوفا من أن يصيبكم مثل ما أصابهم فهو يدعو إلى الاعتبار بالآثار، لا بمجرد التطواف بالرسوم من غير نظر إلى ما تدل. وبينما المؤمنون سائرون أصابهم عطش شديد ولا ماء يروون به غلتهم، فشكوا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فدعا عليه الصلاة والسلام واستسقى، فأرسل الله سحابة مملوءة ماء، فأمطرت، وألقت حمولتها، وارتوى الناس، واحتملوا معهم ماء يرويهم عند حاجتهم إلى الماء. ولقد ضلت ناقة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فأخبر عن مكانها وبعث بعض الناس فوجدوها، وقد مضى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى لأواء الصحراء وشدتها، والمؤمنون الذين نصحوا لله ولرسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، يركبون الصعاب وهم حوله يعاونونه، ويشدون من أزره، وكان بعض الذين تخلفوا منهم منافقون لا يكتفون بأن يكونوا مع الخوالف، بل يتهكمون ويسخرون من النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ومن معه من المؤمنين، وهو فى منطلقه إلى تبوك يقولون: أتحسبون جلاد بنى الأصفر كقتال العرب، والله لكأننا بكم غدا مقرنين بالحبال يقولون ذلك إرجافا وترهيبا. ولقد بلغ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ما قالوا، فأتوا إليه يعتذرون بقول قائل إنما كنا نخوض ونلعب، فقال الله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ (التوبة: 65) . كان ذلك أمر الذين نصحوا لله ولرسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، وأخلصوا، وهذا الذى ذكرناه شأن الذين رضوا بالقعود، وأولئك يقطعون الفيافى والقفار ليصلوا إلى الغاية التى يتحقق فيها أمر الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد وصلوا سالمين وعادوا سالمين.

وصول رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم إلى تبوك وخطبته

وصول رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم إلى تبوك وخطبته 643- وصل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بجيش الإيمان إلى تبوك من أرض الشام ولم يلق حربا، لأنه لم يجد جندا من جنود الرومان يحاربهم، وقد عقد عقود ذمة مع بعض النصارى، وأرسل سرايا لمن لم يكونوا فى طريقه، وسنشير إليها. والآن نذكر أنه عندما وصل إلى تبوك، وقف بجوار نخلة هناك، وألقى خطبة فيها حكمة النبوة وخلق الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، وهى أجمع الخطب فى الأخلاق، رواها الإمام أحمد رضى الله تعالى عنه، وهذا نص الرواية: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، خطب الناس، وهو مسند ظهره إلى نخلة فقال: ألا تحبون أن أخبركم بخير الناس وشر الناس، إن من خير الناس رجلا عمل فى سبيل الله على ظهر فرسه، أو على ظهر بعيره، أو على قدمه حتى يأتيه الموت، وإن من شر الناس رجلا فاجرا جريئا يقرأ كتاب الله لا يرعوى إلى شيء منه. وروى البيهقى بسنده لما أصبح رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فحمد الله تعالي، وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: أيها الناس، أما بعد، فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأوثق العرا كلمة التقوى، وخير الملل ملة إبراهيم، وخير السنن سنة محمد، وأشرف الحديث ذكر الله تعالى، وأحسن القصص هذا القرآن، وخير الأمور عوازمها، وشر الأمور محدثاتها، وأحسن الهدى هدى الأنبياء، وأشرف الموت قتل الشهداء، وأعمى العمى الضلال بعد الهدى، وخير الأعمال ما نفع، وخير الهدى ما اتبع، وشر العمى عمى القلب، واليد العليا خير من اليد السفلى، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وشر المعذرة حين يحضر الموت، وشر الندامة يوم القيامة، ومن الناس من لا يأتى الجمعة إلا دبرا، ومن الناس من لا يذكر الله تعالى إلا هجرا، ومن أعظم الخطايا اللسان الكذوب، وخير الغنى غنى النفس وخير الزاد التقوى، ورأس الحكمة مخافة الله عز وجل، وخير ما وقر فى القلوب اليقين، والارتياب من الكفر، والنياحة من عمل الجاهلية، والشعر من إبليس، والخمر جماع الإثم، والنساء حبائل الشيطان، والشباب شعبة من الجنون، وشر المكاسب كسب الربا، وشر المأكل أكل مال اليتيم، والسعيد من وعظ بغيره، وإنما يصير أحدكم إلى موضع أذرع، والأمر إلى الآخرة، وملاك العمل خواتمه، وكل ما هو آت قريب، وسباب المؤمن فسوق،

نتائج تبوك

وقتال المؤمن كفر، وأكل لحمه من معصية الله، وحرمة ماله كحرمة دمه، ومن يتألى على الله تعالى يكذبه، ومن يستغفره يغفر له، ومن يعف يعف الله عنه، ومن يكظم يأجره الله، ومن يصبر على الرزية يعوضه الله، ومن يبتغ السمعة يسمع الله به، ومن يصبر يضعف الله له، ومن يعص الله يعذبه الله، اللهم اغفر لى ولأمتى، اللهم اغفر لى ولأمتى، اللهم اغفر لى ولأمتى، قالها ثلاثا، أستغفر الله لى ولكم» هذا الحديث بهذه الخطبة رواه البيهقى، ولكن قال فيه الحافظ ابن كثير: هذا حديث غريب فيه نكارة وفى إسناده ضعف، والله أعلم بالصواب. ولعل روايته مجتمعا هكذا هو الذى كانت فيه النكارة وكان فيه الضعف فى إسناده وذكرناه، لأن أجزاءه لا يمكن أن يكون فيها نكارة، كل واحد منها بمفرده وكله حكم رائعات إن لم تكن حديثا صحيحا فهى فى أجزائها من جوامع الكلم الذى اتصف بها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وليس لنا أن نكذب على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ونقول عنه ما لم يقل، فإن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم نقل عنه فى حديث متواتر أو شبه متواتر: «من كذب على متعمدا، فليتبوأ مقعده من النار» . ولكنا نقلنا هذا الكلام كما نقله الحافظ البيهقى، وإنه يسعنا ما يسعه والعلم عند الله. نتائج تبوك 644- لم نجد فى تبوك معركة حربية، لأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد ذهب إلى الروم لما علم أنهم يجمعون جيشا، وأنفق قيصر الروم على هذا الجيش رزق عام، سبق به لتتوافر أعطيات الجند، وذلك ليفرض إرادته ونفوذه على العرب كما كان، وقد هزته مؤتة بكثرة القتل فى الرومان وإن انسحب جيش النبوة انسحابا ليس فرارا، وخافوا أن يتبعوه، ولكى يقضى أولئك النصارى على هذا الدين الجديد، الذى يقوض الدولة الرومانية فى الشام على الأقل. ولم يكن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لينتظر فى المدينة المنورة، بل إنه يجيء إليه، وقد جاء إليه فى جيش يريد الاستشهاد، فلما علم ذلك هرقل وقواده، وقد ذاق جيشه الذى كان مائتى ألف أمام ثلاثة آلاف تردد فى اللقاء، ويظهر أنه لم يستطع أن يستعين بمن حول الشام من الأعراب كما كان فى مؤتة، ولذلك فض جمعه، ولم يلق المسلمين، فلم يلق النبى صلى الله تعالى عليه وسلم حربا، ولم يكن من نتيجة لتبوك إلا أن أرهب الله الرومان فارتدوا على أدبارهم خاسرين، واقتص النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من انسحاب جيشه بتخاذلهم عن لقائه.

وكان لا بد من منع الفتنة فى الدين الذى تكرر منهم، ولذلك أوصى بإرسال جيش أسامة إليهم، ليعلمهم أن أهل الإيمان لا يسلمون مسلما أو يخذلونه. وإذا لم تكن ثمة نتائج حربية إلا هذه الصورة التى ذكرناها، فقد كانت هناك نتائج أخرى لا تقل آثارها عن النتائج الحربية بل تزيد عليها. أولها: أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم علم أحوال القبائل العربية التى تتاخم الشام من صحراء العرب، وألقى فى نفوس أهلها روح العزة الإسلامية لكيلا يكونوا من بعد ذلك للرومان تبعا يضربون بسيوفهم العرب ويكونوا شوكة فى جنب، وليريهم أن الرومان فروا من لقائه، وبذلك يستهينون بالرومان، ويمزقوا نفوذهم، ويستعدوا لينالوا من الرومان، ويضربوهم بالسيوف الإسلامية، كما كان فى واقعة اليرموك من بعد. ثانيها: إن كلمة الإسلام أخذت تتردد فى الشام بين نصارى غسان، فكثر التابع، وقل المانع وعلم أولئك العرب أن المستقبل للإسلام فى تلك الأرض لأنه دين الله ودين الحق الواضح الذى لا ضلال فيه، وأنه الدين المستقيم الذى لا التواء فى معانيه، وبذلك لا يناصرون الرومان، لذلك كانت واقعة اليرموك فى الشام بين الرومان والمسلمين، ولم يكن للعرب دور فيها يعاونون الرومان به. ثالثها: أن الفكر الإسلامى أخذ يتلاقى مع النصارى وتميزت الحقائق الإسلامية لدى كبراء النصارى، ومن أسلم منهم كان له إسلامه، ومن لم يسلم كان عقد الهدنة، وكانت بعض السرايا تذهب فى الأرض القريبة من الشام. ولعل أبرز الاتصال بين مباديء الإسلام، والنصارى، مكاتبة قيصر للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم.

كتاب قيصر إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم

كتاب قيصر إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم 645- لما نزل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بتبوك بعث إليه قيصر كتابا بعد أن لم يبعث جيشا، روى الإمام أحمد أن قيصر الروم قال: «ادع لى رجلا حافظا للحديث عربى اللسان أبعثه إلى هذا الرجل بجواب كتابه (أى الذى بعثه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أيام الهدنة) فجيء بالرجل فدفع إليه الكتاب، واسم الرجل التنوخى، والقول عن الكتاب يسند إليه، فهو يقول جاءنى فدفع هرقل إلى كتابا، فقال: اذهب بكتابى هذا إلى هذا الرجل، فما سمعت من حديثه، فاحفظ لى منه ثلاثا، فلينظر فى صحيفته أكتب إلى بشيء، وانظر إذا قرأ كتابى هل يذكر الليل، وانظر فى ظهره، هل به شيء يريبك. قال الرجل: فانطلقت بكتابه حتى جئت تبوكا، فقلت: أين صاحبكم؟ قيل: ها هو ذا، فإذا هو جالس بين ظهرانى أصحابه محتبيا على الماء، فأقبلت أمشى حتى جلست بين يديه، فناولته كتابى فوضعه فى حجره، ثم قال: من أنت؟ فقلت: أنا تنوخ. قال: هل لك إلى الإسلام الحنيفية ملة أبيكم إبراهيم؟ قلت: إنى رسول قوم، وعلى دين قوم لا أرجع عنه، حتى أرجع إليهم، فضحك وقال: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (القصص: 56) يا أخا تنوخ إنى كتبت إلى كسرى والله ممزقه، وممزق ملكه، وكتبت إلى صاحبك بصحيفة فأمسكها. ولن يزال الناس لا يجدون منه بأسا مادام فى العيش خير. قلت هذه إحدى الثلاث التى أوصانى بها صاحبى، فأخذت سهما من جعبتى، فثبته فى جنب سيفى، ثم إنه ناول الصحيفة رجلا عن يساره، قلت: من صاحب كتابكم الذى يقرأ لكم؟ قالوا: معاوية، فإذا فى كتاب صاحبى «تدعونى إلى جنة عرضها السموات والأرض، فأين النار» فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سبحان الله، فأين الليل إذا جاء النهار؟ قال: فأخذت سهما من جعبتي، فألقيته فى جلد سيفى، فلما أن فرغ من قراءة كتابى قال إن لك حقا، وإنك لرسول، فلو وجدت عندنا جائزة جوزناك بها، إنا سفر مرسلون، قال: فناداه رجل من طائفة الناس: أنا أجيزه، ففتح رحله فإذا هو بحلة صفورية، فوضعها فى حجري، قلت: من صاحب الجائزة؟ قيل لى عثمان ثم قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أيكم ينزل هذا الرجل، فقال فتى من الأنصار: أنا. فقام الأنصارى وقمت معه حتى إذا أخرجت من طائفة المجلس نادانى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يا أخا تنوخ، فأقبلت أهوى، حتى كنت قائما بمجلس فى مجلسى الذى كنت بين يديه فحل حبوته عن ظهره، فقال: هاهنا امض لما أمرت به فجلت فى ظهره فإذا أنا بخاتم النبوة فى موضع غضون الكتف» .

مصالحته عليه الصلاة والسلام ملك أيلة:

انفرد برواية هذا الحديث الإمام أحمد بن حنبل فى مسنده، ولم يكتب فى الضعاف التى قيل أنها أحصيت فى المسند، وقال فيه الحافظ بن كثير «هذا حديث غريب، وإسناده لا بأس تفرد به الإمام أحمد» . ومادام الخبر لا مطعن فيه، وأخبار الثقات تقبل لأن الأصل فى خبر الثقة أن يكون صدقا، وإننا بهذا نقرر أن تبوك كانت موضع ذلك الاتصال الفكرى الذى التقت حقائق الإسلام بما عند النصارى، وأصلحت الأفهام وتشفت الأوهام. مصالحته عليه الصلاة والسلام ملك أيلة: 646- قلنا إن الوصول إلى تبوك أتى بخير كثير، فقد كان الاتصال الفكرى والسياسى، وقد ذكر خير مكاتبة هرقل والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى تبوك، وقلنا ما فيه، وركنا إلى صدقه قبولا لأخبار الثقات. والآن نذكر خبرا مشهورا، وهو أن ملك أيلة أتى إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، واسمه يحنة ابن رؤبة، فصالح رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وأعطاه الجزية، وأتاه أهل جرباء وأذرح، فأعطوه الجزية، فكتب لهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كتابا بذلك، وقال ابن إسحاق إنه عندهم. وهذا نص كتاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ليحنة. بسم الله الرحمن الرحيم، هذه أمنة من الله ومحمد النبى رسول الله ليحنة بن رؤبة وأهل أيلة سفنهم، وسيارتهم فى البر والبحر، لهم ذمة الله تعالى، وذمة محمد النبى، ومن كان معهم من أهل الشام، وأهل اليمن، وأهل البحر، فمن أحدث منهم حدثا فإنه لا يحول ماله دون نفسه، وأنه طيب لمن أخذه من الناس، وأنه لا يحل أن يمنعوا ماء يريدونه ولا طريقا يريدونه من بر أو بحر. ونرى أن هذا العهد الذى أعطى صاحب أيلة عهدا يعم، ولا يخص، فهو لا يقصر على أهل أيلة، بل من معه من أهل الشام وأهل اليمن، وأهل البحر، والمعية المذكورة هى التى يجمعها النصرانية وإذا كان أهل اليمن وهم فى الجنوب ليسوا معه فى الحكم والسياسة، فهم معه فى الملة والاتباع الدينى، فعقد الذمة يسرى على هؤلاء جميعا، إذا التزموا شروطه، ويكون الذى عقد هو فيه صاحب أيلة، فمن يعلمه منهم، ويأخذ بحكمه فهو منهم. وبذلك العهد يكون قد أخذ أكثر نصارى العرب يغدون إليه.

سرية خالد إلى أكيدر دومة

وكتب مثل هذا الصلح إلى جهم بن الصلت، وشرحبيل بن حسنة، أو أذن لهما رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بأن يكون لهما ما اشتمل عليه من حقوق. وكتب مثله لأهل جرباء، وأذرح، وهذا نصه: بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من محمد رسول الله لأهل جرباء وأذرح أنهم آمنون بأمان الله تعالى، وأمان محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وأن عليهم مائة دينار فى كل رجب ومائة أوقية، وأن الله تعالى عليهم كفيل بالنصح، والإحسان إلى المسلمين، ومن لجأ إليهم من المسلمين. وهكذا كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يعقد العقود الخاصة بالسلم بين المسلمين والنصارى، ومهد السبل للمسلمين يسيرون فى تلك الديار دعاة للإسلام، ولا شك أن هذه نتيجة من أعظم النتائج التى تتفق مع الدعوة الإسلامية، فما جاء محمد صلى الله تعالى عليه وسلم محاربا، ولكن جاء هاديا مبشرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا صلى الله تعالى عليه وسلم. ولم يكتف النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بالعقود يعقدها، وهو فى تبوك بل أرسل السرايا إلى القبائل الشمالية القربية من تبوك، يسالمهم. سرية خالد إلى أكيدر دومة 647- أرسل إلى أكيدر بن عبد الملك، من كنانة، كان ملكا على دومة، وكان نصرانيا، وقد كان فى هذه السرية عشرون وأربعمائة فارس، ودومة هى دومة الجندل، وقال البيهقى: كان الجيش مكونا من المهاجرين، وعلى رأسهم أبو بكر الصديق، وكان خالد على رأس الأعراب. وأن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عندما أرسل هذه السرية قال لخالد: «إنك ستجده يصيد البقر» ، وهذا يدل على أنه أمير لا يعنى بالجد من الأمور. خرج خالد حتى دنا من حصنه، وصار منه بمنظر العين، وكان ذلك فى ليلة مقمرة صائغة، وهو على سطح له ومعه امرأته، وباتت البقر تحك بقرونها باب القصر. فقالت له امرأته: هل رأيت مثل هذا قط، قال: لا والله. قالت فمن يحرك هذه؟ قال: لا أحد، عندئذ نزل بفرسه، وقيل أنه ما كرهم قبل أن ينزل. وكان معه نفر من أهل بيته فيهم أخ له يقال له حسان، خرجوا، فتلقتهم خيل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأخذته وقتلوا أخاه، لأنه أخذ يقاومهم.

عودة المسلمين من تبوك

وأكيدر هذا مرفه فاكه فى نعيم، عليه ديباج مخوص بالذهب فاستلمه خالد ليبعث به إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. وقد راع الديباج أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وجعلوا يلمسونه بأيديهم، ويتعجبون، وقد لفتهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن افتنانهم بهذا الثوب الذى هو من نعيم الدنيا الذى يطغى وأخذ يدعوهم إلى نعيم الآخرة، فقال عليه الصلاة والسلام «أتعجبون من هذا، فوالذى نفسى بيده لمناديل سعد بن معاذ فى الجنة أحسن من هذا» وقد عقد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مع أكيدر عقده على أن يقدم إليه الجزية. ولقد روى الواقدى أنه كان مع أكيدر ألفا بعير، وأربعمائة درع وأربعمائة رمح. ومهما يكن من صحة هذه الرواية فإن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم خلى سبيله وعاد إلى قريته، ويظهر أنه ما خلى سبيله إلا على أساس الذمة، فيكون هو ومن معه على الذمة، كما ذكر الواقدى. ومما يذكر للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم أنه كان يصطاد البقر، فى هذه الموقعة كانت البقر هى التى اصطادته لأنها دقت بقرونها الباب، فنزل من أعلى حصنه، فاصطاده جيش خالد، ثم كان عفو النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. وفى رواية البيهقى أن سرية خالد إلى أكيدر واستسلامه هى التى حملت يحنة صاحب أيلة على المجيء إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وعقده معه عقد الذمة. عودة المسلمين من تبوك 648- كانت غزوة تبوك غزوة مباركة، كانت الدعوة إلى الإسلام هى لبها وغايتها، ونهايتها، فقد نشر الإسلام بها فى شمال البلاد العربية، واستأنس به العرب فى هذه الأقاليم، وأخذ يسرى نوره فى الشام ذاته، مما كان تمهيدا لجيوش المسلمين لفتحه، حتى تكون المواقع من مواجهة بين الإسلام والرومان، والعرب، ومنهم عرب الشام، إذ غزوا باسم الإسلام. وقد عاد النبى بعد ذلك إلى المدينة المنورة، ويقول ابن إسحاق أقام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بضع عشرة ليلة لم يجاوزها، ثم انصرف قافلا إلى المدينة المنورة. ويفهم من هذا أن مدة الإقامة بتبوك بضع عشرة ليلة لا تدخل فيها مدة السفر، ذهابا وأوبة، وقد ألف فى هذه المدة الناس، وعقد عقود ذمة، وأزال سطوات ناس ما كان يهمهم إلا الترف والصيد، وأوصل دعوة الإسلام إلى الأراضى المصاقبة للرومان لكيلا تكون لهم قوة منهم إذا اشتدت الشديدة، وقامت الحرب بين المسلمين والروم لتزول فتنة المسلمين فى بلادهم.

القائد يرعى جنده حيا وميتا:

وقد حدثت وهم فى الرجوع خوارق للعادة على يد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وإن ذلك لكثير فى حياته صلى الله تعالى عليه وسلم، تتبعه دلائل النبوة وتسايره، وحيثما كان فى حله وترحاله بينا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يسير، والعطش شديد، والماء نادر، والأرض صحراء رملة وكان فى الطريق ماء يخرج من وشل ينحدر قليلا من مرتفع، فنهى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عن أن يستقى منه قبل أن يصل، فاستقى منه ناس، فاستقوه، إذ لا يسقى إلا راكبا أو راكبين إلى ثلاثة. فلما جاء إليه الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم لم يجد ماء، فدعا على الذين استقوه، ثم وضع يده تحت الوشل «المكان المرتفع» ودعا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما شاء أن يدعو الله تعالى ضارعا إليه فانخرق. ويقول فى وصفه ابن إسحاق: ما إن له حسا كحس الصواعق، فشرب الناس واستقوا حاجتهم منه، وقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لئن بقيتم أو من بقى منكم، لتسمعن بهذا الوادى. وإن هذا الحال كحال موسى إذ استسقى لقومه فضرب الحجر فانبثق منه اثنتا عشرة عينا، فقد قال الله تعالى فى ذلك: إِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ، فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ، فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً، قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ، كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (البقرة: 60) . إنها نبع النبوة وصل إليه موسى بعصاه، ووصل إليه محمد صلى الله تعالى عليه وسلم بيده، فقد رأى نشز الأرض يقطر قليلا فدعا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فانخرق، وصار له حس كحس الصواعق، كما قال ابن إسحاق. القائد يرعى جنده حيا وميتا: 649- إن القائد يجب أن يكون محبا لجنده يحنو عليهم كما تحنو الأم على ولدها، لأنهم خرجوا مقدمين أنفسهم فى سبيل الله تعالى، غير مدخرين مالا، تاركين الأهل والولد، والراحة، فلا جزاء لهم إلا جنة الله فى الآخرة ومظاهر التكريم فى الدنيا. وقد مات أحد الغزاة فى الطريق، وكان مؤمنا صادق الإيمان، قاوم فى سبيل الإسلام قومه حتى نازعوه ثوبه، ذلكم هو عبد الله ذو البجادين، قد مات فتولى دفنه محمد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ووزيراه أبو بكر، وعمر رضى الله عنهما، ولنترك الكلمة لابن إسحاق فهو يقول راويا عن عبد الله ابن مسعود قال: «قمت من جوف الليل، وأنا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى غزوة تبوك،

عصمة الله تعالى لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم

فرأيت شعلة من نار فى ناحية المعسكر، فاتبعتها أنظر إليها، فإذا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأبو بكر وعمر وإذا عبد الله ذو البجادين المزنى قد مات، وإذا هم قد حفروا له، ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى حفرته، وأبو بكر وعمر يدليانه، وهو يقول أدنيا إليّ أخاكما، فدلياه إليه، فلما هيأه بشقه قال: «اللهم إنى أمسيت راضيا عنه. فارض عنه» . فيقول عبد الله بن مسعود: يا ليتنى كنت صاحب هذه الحفرة. ويقول ابن هشام فى سبب تسميته بذى البجادين أنه كان ينزع إلى الإسلام فيمنعه قومه من ذلك، ويضيقون عليه، حتى تركوه فى بجاد ليس عليه غيره، والبجاد الكساء الغليظ الجافى، فهرب منهم إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فلما كان قريبا من الرسول صلى الله عليه وسلم شق البجاد اثنين، فائتزر بواحد، واشتمل بالآخر، فقيل له ذو البجادين لذلك. انظر إلى تكريم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم الأمين المجاهد للمجاهدين، لا يتركهم للذئاب تنوشهم، بل يكرمهم فى مماتهم، كما يكرمهم فى محياهم، ليقدموا على الفداء كراما. عصمة الله تعالى لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم 650- قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ، وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ (المائدة: 67) فالرسول صلى الله تعالى عليه وسلم دائب على الدعوة لاينى، ينتقل فى لأواء الصحراء من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة وما بينهما، ثم يتجاوز الفيافى والصحارى ليكون فى أرض الشام شامخا بالرسالة الإلهية على الرومان، ومن يتبعهم، ومن يخضع، فإذا لم يكن الله تعالى عاصمه من الذين يريدون به السوء فى كل مكان من هذه الجرداء، فمن يكون العاصم غير الله تعالى القوى الجبار. لقد تسلل إلى جيش الإسلام بعض المنافقين، ورجع المدينة المنورة طائفة منهم ليخذلوا المؤمنين، وبقيت أخرى لتخذل إذا سنحت لها الفرصة فى السير، أو فى المعترك، ففوت الله تعالى عليهم الفرصة التى ينتهزون أمثالها دائما. ولما تمت أمور تبوك، وتحولت إلى دعاية إسلامية صادقة، ولم تكن معركة قتال ينفثون فيها سموم التردد والهزيمة، ووجدوا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم راجعا بجيش العسرة، وهو فى يسر وأمن وسلام واطمئنان ائتمروا بالرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ومكروا محاولين أن يطرحوه من عقبة عالية فى

الطريق، وإذا كان قد أراد الخائنون إخوانهم أن يرموا عليه حجرا ثقيلا وهو جالس بجوار جدار لهم، فقد أراد الخائنون من المنافقين أن يطرحوه من فوق عقبة فى الطريق، ولكن الله تعالى أعلمه بما بيتوا فى الثانية كما أعلمه فى الأولى. لما بلغوا العقبة التى كان تدبيرهم الخبيث ومكرهم السيئ عندها، فلما بلغها صلى الله تعالى عليه وسلم أمر الجند أن يسيروا فى بطن الوادى، وقال: من شاء منكم أن يأخذ بطن الوادى، فإنه أوسع لكم. وأخذ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم العقبة، وأخذ المسلمون وكل الجيش بطن الوادى إلا الذين ائتمروا، وبيتوا الشر، فقد أخذوا العقبة التى أخذها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، لينفذوا ما مكروا به، ومكروا مكرا، ومكر الله تعالى مكرا، والله خير الماكرين. لقد علم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مكرهم الخبيث. إن أولئك المنافقين لما علموا ذلك، وما اتخذه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لنفسه من طريق استعدوا وتلثموا، فأخفوا وجوههم لكيلا يعرفوا، فعرفوا بذلك التلثم الذى أرادوا أن يستتروا به، فكشفهم المسلمون به. لقد هموا بأمر عظيم، وهو أن يطرحوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من فوق العقبة. فأمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن يلازمه عمار بن ياسر، وحذيفة بن اليمان، وأن يمشيا أمامه، على أن يأخذ عمار بن ياسر بزمام الناقة، وأمر حذيفة بسوقها. وبينا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى سيره هو ومن معه، أن سمعوا وكز أولئك الذين تامروا لركائبهم، وتدفعها عليهم، وقد أدرك النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ماذا يريدون حسا، بعد أن علم بنياتهم من الله، وقد ساروا وراءهم من غير أن يعلموا، وظنوا أنهم مدركون ما يريدون. وأمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حذيفة، وهو الذى يسوق الدابة أن يردهم، وأبصر حذيفة غضب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وبدا ما يتوقعه عليه الصلاة والسلام من شرهم فى وجهه، فرجع حذيفة، ومعه المجن. رآهم حذيفة ملثمين، واستقبل وجوه رواحلهم فضربها فى وجوهها بالمجن ضربا، وأبصر القوم وهم ملثمون، وظن أن ذلك فعل المسافر، يتقى باللثام حر الشمس، أو حرور الهواء، ولكن المتامرين فزعوا واضطربوا بإفزاع الله تعالى لهم، شأن من يريد جريمة ويشرع فيها إذ أنه يضطرب عندما يظن أن أمره قد كشف، فيفزع من تتميمها ويتراجع.

ولذلك أسرع أولئك الملثمون المتامرون إلى الاندماج فى وسط الناس فى بطن الوادى وأبطل الله تعالى كيدهم. بعد ذلك رجع حذيفة إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فلما أدركه، قال له الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم: اضرب الراحلة يا حذيفة، وامش يا عمار، فأسرعوا حتى استووا بأعلاها، ثم بعد ذلك خرجوا من العقبة. وهم ينتظرون الناس. قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لحذيفة وهو الذى كان يسوق الناقة اذهب، وأرسله النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فذهب إليهم ومن معهم، وتبين به أنه انكشف أمرهم- قال الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم له: هل عرفت من هؤلاء الركب أحدا؟ قال حذيفة عرفت راحلة فلان، وفلان، وكانت ظلمة الليل، قد غشيتهم وهم ملثمون. قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: هل علمتهم ما كان شأن الركب وما أرادوا. قال: لا يا رسول الله، قال فإنهم مكروا ليسيروا ورائى، حتى إذا طلعت إلى العقبة طرحونى منها. قال: إذن نضرب أعناقهم. قال: أكره أن يتحدث الناس، أن يقولوا: إن محمدا قد وضع يده فى أصحابه (أى بالقتل) . ويقول ابن إسحاق فى هذه القصة عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: إن الله قد أخبرنى بأسمائهم، وأسماء آبائهم، وسأخبر بهم إن شاء الله تعالى عند وجه الصبح، فانطلق (والخطاب لحذيفة) حتى إذا أصبحت فاجمعهم، قالوا: إنه صلى الله تعالى عليه وسلم أخبره وفى ذلك كلام بين الرواة. ومهما يكن فإن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أوصى حذيفة بألا يذكر أسماءهم، وهم منافقون، وقيل: كان حذيفة عنده العلم بأسماء المنافقين، وكان هذا سر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أسره إليه. حتى قيل: إنه إذا مات أحد بعد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم تعرفوا حال حذيفة معه، فإن رأوا حذيفة صلى عليه علموه مؤمنا غير منافق، وإن لم يصل عليه كانوا فى ريب من أمره.

مسجد الضرار

مسجد الضرار 651- كان من أولئك الذين ائتمروا بالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم ليطرحوه من فوق القمة أو من التقوا معهم فى قلوبهم، من أنشأوا مسجد الضرار، وقد ذكروا إنشاءه قبل سفر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو يجهز الجيش، ويجمع النفقة والرواحل، ويدعو الجميع أن يخرجوا معه. جاؤا إلى الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وهو فى هذه الحال، فقالوا: يا رسول الله، إنا قد بنينا مسجد الذى العلة والحاجة، والليلة المطيرة الشاتية، وإنا نحب أن تأتينا فتصلى فيه، فقال عليه الصلاة والسلام إنى على جناح سفر، وحال شغل، ولو قدمنا إن شاء الله تعالى لصلينا لكم فيه. وبينما هو فى عودته، وهو (بذى أوان) موطن بينه وبين المدينة المنورة نحو ساعة جاء خبر هذا المسجد من السماء، ونزل فيه القرآن الكريم إذ يقول سبحانه وتعالى فى بنائه ومن بنوه وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ، وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى، وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً، لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ، فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا، وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ. أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ، فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ، وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (التوبة: 107: 110) . نزل ذلك القول الحكيم من عند علام الغيوب الذى يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور. والواضح أن الذى بناه طائفة من المنافقين وليسوا من الأنصار، إلا أن يكونوا من الأوس والخزرج الذى كان المنافقون ينتمى كثير منهم إلى الخزرج، ولا يمكن أن يكونوا من أنصار الله الذين آووا ونصروا، الذين يؤثرون على أنفسهم، ولو كان بهم خصاصة. والآية الكريمة واضحة فى البواعث التى بعثتهم لبنائه إنما اتخذوه ليضاروا المؤمنين الذين يلازمون النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى مسجده والمساجد التى بناها كقباء وغيره، التى أسست على تقوى من الله ورضوان، إنهم يريدون بذلك تفريق المسلمين بترويج ما يفرق جماعتهم، وبث الفتن والسوء فيها، وليترصدوا فيه ويترقبوا من يحارب الله تعالى ورسوله، ومن يأتمرون معهم.

الثلاثة الذين خلفوا

ولقد قال بعض الذين لم يدخلوا فى الإسلام «ابنوا مسجدكم، واستعدوا ما استطعتم من قوة ومن سلاح، فإنى ذاهب إلى قيصر الروم، فاتى بجنده من الروم، فأخرج محمدا وأصحابه» . وإن هذا المقصد السيئ واضح من أن البناء كان والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم يتجهز، يجمع الجموع للذهاب إلى تبوك، وقد كانوا يتوقعون ما يتمنون، وهو انهزام النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وجيشه أمام الرومان، ولذلك دعا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم اثنين من صحابته فقال انطلقا إلى هذا المسجد الظالم فاهدماه واحرقاه، فخرجا مسرعين حتى أتيا بنى سالم بن عوف فقال أحدهما لصاحبه، انظر حتى أخرج إليك بنار من أهلى، وهم بنو سالم بن عوف وذهب إلى أهله، فأتى بسعف من النخل، فأشعلا فيه نارا، ثم خرجا يشتدان حتى دخلاه وفيه أهله، فحرقاه وهدماه، فتفرقوا عنه. ولقد خيب الله ظنهم، فقد تخاذل الرومان عن أن يلتقوا مع جيش الإسلام، وذهب عنهم ما كانوا يتحدثون فيه من كلام منبعث من نفاقهم إذ جاء على لسانهم أن المسلمين لا يستطيعون جلاد الروم، فقد خاف الروم ولم يخف رجال محمد صلى الله تعالى عليه وسلم الذين قدموا أنفسهم لله تعالي. الثلاثة الذين خلفوا 652- انقسم المؤمنون الذين دعاهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عند الخروج إلى تبوك إلى ثلاثة أقسام: وأول الأقسام وأظهرها، وهم قوة الإسلام الأولى، الذين شروا أنفسهم لله بأن لهم الجنة يقاتلون ويقتلون، وهم الذين تقدموا للذهاب مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وهم الذين قال الله تعالى فيهم لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (التوبة: 117) . والقسم الثانى: جماعة تخلفوا عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ومنهم منافقون، ومنهم ضعفاء الإيمان، ومنهم من فيه خور، وضعف، وفى كل أحوالهم ليسوا من أقوياء الإيمان الذين يفدونه بأنفسهم وأموالهم، وراحتهم. وأولئك اعتذروا وقبل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم اعتذارهم، وبعضهم كاذب لا محالة، وقال فيهم سبحانه وتعالى: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ، رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ، فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ. يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ، قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ، قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ، وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ

وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ، فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ، فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ. يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (التوبة- 93: 96) . عندما دخل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم المدينة المنورة بدأ بالمسجد فصلى ركعتين، ثم جاء إليه المخلفون الذين تخلفوا لمرضهم وضعفهم، والذين لا يجدون ما يحملهم، فكان عذرهم باديا، يسقط تكليفهم هذا الخروج الذى لا يكون إلا على أهل القوة والسلامة، والذين يجدون ما ينفقون، ولا ما يحملهم، فالله تعالى قد أسقط عنهم الحرج بقوله تعالت كلماته: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ (التوبة: 91) . والباقون القادرون الأغنياء تقدموا بالاعتذار للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وطفقوا إليه يعتذرون ويحلفون له وكانوا بضعة وثمانين رجلا، فقبل منهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما أظهروه، وكما يقول ابن إسحاق قبل علانيتهم، وبايعهم، ووكل سرائرهم إلى الله تعالى، وهو يعلم أنه إن رضى عنهم، لا يرضى عنهم الله سبحانه وتعالى، ولكنه مأمور بألا يحكم إلا بالظاهر، وإذا قبل الظاهر، فقد يسيرون فى تحسين الباطن. القسم الثالث- من أخلصوا دينهم لله تعالى، ولكنهم تخلفوا من غير معذرة، ولم يرتضوا الكذب على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وخير لهم أن يعترفوا بتقصيرهم عن أن يكذبوا على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وهؤلاء ثلاثة، لم يعدهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلا من أقوياء الإيمان، ولكن غلب هواهم فى القعود فى ساعة التجهيز أو غلب فيهم ضعف وقتى، وإحساس ببعد الشقة، فرضوا أن يكونوا مع الخوالف، ولكن فيهم قلوب، لم يطبع عليها كأولئك الذين طبع الله على قلوبهم. لذلك كان لا بد من علاج نفسى لهذه القلوب التى لم ترن عليها روانى الإثم المقصود، وإن كان تقصير فقد أدركوه، وكان ذلك العلاج الذى رآه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحى يوحى، وذلك بالإعراض عنهم، ومهاجرتهم، وذلك لإيقاظ نفوسهم، وتعويدهم الصبر، وكانت هذه العقوبة تشبه الكفارة بالصوم ستين يوما متتابعة، لأنها تكون تربية للنفس وتهذيبها، لقد أعرض عنهم المؤمنون خمسين يوما ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، وظنوا أن لا ملجأ من الله تعالى إلا إليه.

ولنترك الحديث عنهم وعن نفوسهم وعن معاملة المسلمين إلى الذى تحدث بخوالج نفسه، وما تلقاه وما كان فيه من صبر فريد وهو كعب بن مالك: «جاء كعب بن مالك، فلما سلم عليه صلى الله تعالى عليه وسلم «تبسم له تبسم المغضب، ثم قال: فجئت أمشى حتى جلست بين يديه. فقال: ما خلفك! ألم تكن قد ابتعت ظهرك» . فقلت: بلى والله، إنى لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذر ولقد أعطيت جدلا، ولكنى والله لقد علمت إن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى على ليوشكن الله تعالى أن يسخطك على، ولئن حدثتك حديث صدق تجد فيه عليّ إنى لأرجو فيه عفو الله عنى والله ما كان لى من عذر، والله ما كنت قط أقوى منى ولا أيسر حين تخلفت عنك، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أما هذا فقد صدق فقم، حتى يقضى الله تعالى فيك، فقمت، وكان رجال من بنى سلمة، فاتبعونى يؤنبوننى فقالوا لى، والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا، ولقد عجزت ألا تكون اعتذرت لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بما اعتذر إليه المخلفون، فقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لك، فو الله ما زالوا يؤنبوننى، حتى أردت أن أرجع، فأكذب نفسى ثم قلت لهم: هل لقى هذا معى أحد؟ قالوا: نعم رجلان قالا مثل ما قلت، فقيل لهما مثل الذى قيل لك، فقلت من هما، قالوا مرارة بن الربيع العامري، وهلال بن أمية، فذكروا لى رجلين صالحين شهدا بدرا، فهما أسوة، فرضيت حين ذكرا لى، ونهى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه، فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت لى الأرض، فما هى بالتى أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة.. فأما صاحباى فاستكانا وقعدا فى بيوتهما يبكيان. وأما أنا فكنت أشد القوم وأجلدهم، فكنت أخرج وأشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف فى الأسواق، ولا يكلمنى أحد، وآتى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأسلم عليه، وهو فى مجلسه بعد الصلاة، فأقول فى نفسى هل حرك شفتيه يرد السلام على أم لا، ثم أجلس قريبا منه، فأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتى أقبل إلى وإذا التفت نحوه أعرض عنى، حتى إذا طال على ذلك من جفوة المسلمين، مشيت حتى تسورت جدار حائط أبى قتادة، وهو ابن عمى وأحب الناس إلى، فسلمت عليه، فو الله ما رد على السلام فقلت يا أبا قتادة أنشدك الله، هل تعلمنى أحب الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، فسكت، فعدت له لنشدته، فقال: الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم أعلم، ففاضت عيناى وتوليت حتى تسورت الجدار، فبينا أنا أمشى بسوق المدينة المنورة وإذا نبطى من أنباط الشام ممن قدم بالطعام يبيعه فى المدينة المنورة يقول من يدل على كعب بن مالك. فطفق الناس يشيرون إلى حتى إذا جاءنى دفع إلى كتابا من ملك غسان فإذا فيه:

«أما بعد فإنه بلغنى أن صاحبك جافاك، ولم يجعلك الله بدار هوان، ولا مضيعة فالحق بنا نواسك» فقلت لما قرأتها: وهذا أيضا من البلاء، فتيممت التنور فسجرتها حتى مضت أربعون ليلة من الخمسين إذ رسول رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يأتينى فيقول: إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يأمرك أن تعتزل النساء فقلت: أطلقها، أم ماذا. قال: لا ولكن اعتزلها ولا تقربها. وأرسل إلى صاحبى مثل ذلك، فقلت لامرأتى الحقى بأهلك فكونى عندهم حتى يقضى الله فى هذا الأمر، فجاءت امرأة هلال بن أمية فقالت: يا رسول الله إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم. فهل تكره أن أخدمه قال: لا، ولكن لا يقربك. قالت: والله إنه ما به حركة إلى شيء، والله ما زال يبكى منذ كان من أمره إلى يومه هذا، قال كعب: فقال لى بعض أهلى لو استأذنت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى امرأتك، كما أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه. فقلت: والله لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وما ندرى ما يقول رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا استأذنته فيها، وأنا رجل شاب، ولبثت بعد ذلك عشر ليال حتى إذا كانت لنا خمسون من حين نهى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فلما صليت صلاة الفجر صبح خمسين ليلة على سطح بيت من بيوتنا، بينما أنا جالس على الحال فى ذكر الله تعالى، قد ضاقت على نفسى وضاقت علينا الأرض بما رحبت سمعت صوت صارخ بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبشر، فخررت ساجدا، فعرفت أن قد جاء فرج الله تعالي، وأذن له رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بتوبة الله تعالى علينا، حين صلى الفجر، فذهب الناس يبشروننا، وذهب قبلى صاحباى مستبشرين» . هنأه الناس فلم يقبل تهنئتهم وذهب إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال له الرسول الكريم صلى الله تعالى عليه وسلم المربى المكمل أبشر بخير يوم يمر عليك منذ ولدتك أمك قال له كعب: أهو من عندك يا رسول الله أم من عند الله، قال: لا، بل من عند الله. صفت نفس الرجل، وتهذب، وخرج من كل ماله صدقة لوجه الله تعالى ولرسوله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال له الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم: أبق بعض مالك، فأبقى سهمه من الغنائم التى استولى عليها المسلمون فى خيبر. ولقد خص الله سبحانه وتعالى أولئك الذين تخلفوا فى الأرض بذكر قبول توبتهم مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مع المهاجرين والأنصار فقال تعالى كما تلونا لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ

العبرة والتربية:

مِنْهُمْ، ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ. وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ، وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ، وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ، ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (التوبة- 117: 119) . العبرة والتربية: 653- ذكرنا حديث كعب بن مالك مع طوله، لأنه حديث النفس التائبة النادمة التى زلت، وحديث الندم بعد الزلل، وكما يقول الصوفية: إن زلة أورثت ذلا خير من طاعة أورثت دلا، لقد ذل لله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، لأنه أحس بالنفس اللوامة تحركه إلى إرضاء الله ورسوله. وقد مكث خمسين ليلة يذكر الله فى كل ساعاتها، ويحس فى كل آنية منها بوخز ضمير، وما يوقظ ذلك الوخز يرى فى نظرات النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وفى نظرات الناس، وفى الأسواق، وهو يصابر نفسه. ويجيء خطاب من ملك غسان يطلب أن يلتحق، فيراها نكبة أخرى، ويجيء إلى التنور ليسجره فيه، وهكذا، وإن هذه القصة تدل على أمرين: أولهما: أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم رأى فى هذا الرجل وصاحبيه خيرا لم يره فى غيرهما من الذين اعتذروا ومنهم منافقون، وضعاف الإيمان، أما هذا فقد أبدى صفحته، ولم يرض فى موقفه بالاعتذار، ولا يريد أن يكذب على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فهو موقف طاهر وقلب طاهر، ولكن علق به درن قليل، يمكن أن يزول، ولا يتوب عليه الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم وفيه هذا الدرن، ويريد الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم أن تكون منه توبة نصوح تليق بالمؤمن الصادق فى إيمانه ويقينه، فكانت هذه لتكون منبها يستمر خمسين ليلة، وكأنه اعتكف خمسين ليلة منصرفا فيها إلى الله تعالى، حتى كانت القاطعة التى حملت الثلاثة على الاعتكاف، فاعتكف اثنان، وصار الثالث بين الناس، وكأنه ليس بينهم، فهو الغريب بين أصحابه وأهله، حتى أعلن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قبول توبتهم. الأمر الثانى: الذى يدل عليه الخبر أن الإنسان خلق ليأتلف مع غيره يتلمس التشجيع النفسى من نظرات، وملامح الوجوه، ومظاهر الأقوال والأفعال والجوارح التى تصدر عن الناس، وإن الاستنكار النفسى يفعل فى نفوس الأخيار ما لا تفعله العقوبات بالنسبة للأشرار، فالذين يستهينون بالاستنكار القلبى فى قوله صلى الله تعالى عليه وسلم «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع، فبلسانه فإن لم

سبعة ربطوا أنفسهم بأعمدة المسجد

يستطع فبقلبه» مخطئون، وما كان عقاب هؤلاء الثلاثة إلا استنكارا قلبيا بدا فى الوجوه والجوارح ولم يبد فى القول. وإن هذا الذى سنه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، يجب علينا اتباعه، فلا يصح لنا- أن نبش فى وجوه الأشرار، ولا الذين يرتكبون الآثام لأنه عسى أن يثير ذلك ضمائرهم فتلوم، وإذا كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد فعل ذلك مع ثلاثة لدرن يسير أصاب قلوبهم، أفلا نفعله مع أشرار هذا الزمان، وإذا كنا نعجز عن مقاطعتهم، فإننا لا نمالئهم، ولا نلتف حولهم مع ظلمهم، لأن مجرد الالتفاف حولهم يجعل الرجل من شيعتهم، وإن لم يعمل عملهم، ويجعلنا ذلك سائرين معهم، وإن لم نعاونهم بالفعل، فإنا نعاونهم بالإلف، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: «من مشى مع ظالم، فقد سعى إلى جهنم» . سبعة ربطوا أنفسهم بأعمدة المسجد 654- كانوا عشرة تخلفوا، لعل منهم أولئك الثلاثة الذين ذهبوا إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وهو يستمع إلى الأعذار للمتخلفين يقبل علانيتها، ويترك السرائر إلى الله تعالى، وما كان للرفيق الطاهر الذى قبل لفظ اللسان وليس لفظ القلب إلا أن يقبل العلانية، ويترك لله ما بطن، لأنه لا يفتش عن القلوب. إن أولئك الثلاثة ذهبوا إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يقولون لا عذر لنا، ولا سبيل لأن نكذب عليك، فصدقهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وطهر قلوبهم، وهذب نفوسهم وأزال الضر بتلك العقوبة الهينة فى ظاهرها القوية فى تأثيرها. ولكن سبعة آخرون لم يذهبوا معتذرين، لأنه لا عذر لهم، ولم يذهبوا ينفون الاعتذار بل جاؤا وعاقبوا أنفسهم بأنفسهم، فأوثقوا أنفسهم بسوارى المسجد النبوى، فلما رآهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: من هؤلاء الموثقون أنفسهم بالسوارى؟ قالوا: هذا أبو لبابة وأصحاب له تخلفوا عنك يا رسول الله أوثقوا أنفسهم حتى يطلقهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ويعذرهم، فقال الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم، حتى يكون الله سبحانه وتعالى هو الذى أطلقهم، رغبوا عنى، وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين، فلما بلغهم ذلك قالوا: ونحن لا نطلق أنفسنا حتى يكون الله هو الذى يطلقنا، فأطلق سراحهم، ومنع الوثاق بأمر الله تعالى، وقيل نزل فيهم وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ، خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً، وَآخَرَ سَيِّئاً، عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (التوبة: 102) أرسل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ففك وثاقهم، وأطلقهم وعذرهم.

ولم يجدوا أن ما فعلوه بأنفسهم فيه تكفير لتقصيرهم الذى تخلفوا به عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ورأوا أن الصدقة تطفيء الذنوب كما يطفيء الماء النار، فتصدقوا بكل أموالهم، وقالوا: يا رسول الله هذه أموالنا فتصدق بها عنا، واستغفر لنا قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم «ما أمرت أن آخذ أموالكم» فقيل نزل قوله تعالى فيهم خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها، وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (التوبة: 103) . هذا قسم أخذ فى تطهير نفسه، ولم يطهرهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بإبعاد الناس، وهم فريق واحد، أبى أن ينتحل عذرا شعورا منه بالتقصير فى التخلف عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وإنهم بذلك وقعوا فى خطأ جسيم يكاد يكون خطيئة. ولقد ذكر ابن كثير رضى الله تعالى عنه أقسام المخلفين، فذكرهم أربعة أقسام قريبا مما ذكرنا، قال: «كان المتخلفون عن غزوة تبوك أربعة أقسام: 1- مأمورون مأجورون كعلى بن أبى طالب، ومحمد بن سلمة وابن أم مكتوم. 2- ومعذورون، وهم الضعفاء والمرضى، والمقلون وهم البكاؤن. 3- وعصاة مذنبون وهم الثلاثة، وأبو لبابة، وأصحابه المذكورون. 4- وآخرون ملومون مذمومون، وهم المنافقون. وقد ذكرنا هذه الأقسام فى القرآن الكريم، ونوافق الحافظ بن كثير على هذا التقسيم، ولكن لا نسمى أبا لبابة وأصحابه مذنبين، ولكن نسميهم مقصرين مخطئين. وفى الحق أن غزوة تبوك التى كانت آخر غزوات فيها اختبار لنفوس الذين مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فقد بدت فيها أحوال الذين كانوا مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، بدا الأقوياء الذين لا يصدرون إلا عن أمره، وبدا المنافقون الذين لازموه مخذلين بخروجهم، ومخذلين فى سيرهم ومتامرين يريدون اغتيال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. وبدا الذين ينقصهم الهمة والاستجابة فى الشدة، وإن كان لا ينقصهم الإيمان وقوة اليقين، وقد عالجهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم نفسيا بأمر ربه، وعالجوا أنفسهم، والجسم القوى يقبل العلاج، ولم يعالج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم غيرهم ممن تخلفوا، بل تركهم إلى ما هم فيه يحاسبهم الله تعالى.

الوفود

الوفود 655- فى العام التاسع جاءت الوفود إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بعد غزوة تبوك، ويقول كتاب السيرة، إنها آخر غزوة غزاها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد عمت الدعوة الإسلامية البلاد العربية وصار العرب بين مجيبين، وكافرين، ومترددين يسيرون فى طريق الإسلام، ولما يدخل الإيمان قلوبهم، وقد جاءت وفود ممن أسلموا، ووفود أخرى تقدم ذكرها وقد قال ابن إسحاق، وإنما كانت العرب تتربص بإسلامها أمر هذا الحى من قريش، كانوا إمام الناس وهداتهم، وأهل البيت والحرم، وصريح ولد إسماعيل بن إبراهيم، وقادة العرب، لا ينكرون ذلك. وكانت قريش هى التى نصبت الحرب لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وخلافه، فلما افتتحت مكة المكرمة، ودانت له قريش، ودوخها الإسلام عرفت العرب أنه لا طاقة لهم بحرب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ولا عداوته، فدخلوا فى دين الله كما قال عز وجل: «أفواجا» يضربون إليه من كل وجه، يقول الله تعالى: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ. وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ، وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً أى فاحمد الله على ما ظهر من دينك، واستغفره إنه كان توابا. وقد قال كانت العرب تتلوم بإسلامهم قبل الفتح، فيقولون اتركوه وقومه، فإنه إن ظهر عليهم فهو نبى صادق، فلما كانت واقعة الفتح بادر كل قوم بإسلامهم. ومؤدى هذا أن فتح مكة المكرمة لم يكن فتحا لمدينة لها قدسيتها فقط، بل كان فتحا لقلوب الناس نحو الإسلام، إذ هم لقريش تبع، ولم يكن الفتح إكراها لقريش على الإسلام، بل إزالة نقمة الزعماء والكبراء، وتبين الحق الصريح الواضح، حتى إن الكبير منهم كان يقدم على الإسلام، لأنه علم أنه العقل وأنه الحق، كما رأينا فى إسلام عكرمة بن أبى جهل ومن كان معه من إخوان له إلى آخر لحظة من مقاومته. ولكن مع ذلك يجب التمييز بين من دخل فى دين الله، والبلاء بلاء، وحمل عبء المصابرة على الأذى فى مكة المكرمة، والتهكم والاستهزاء، وهم الذين جاهدوا فى سبيل الله، وحملوا السيف، وقاتلوا وقتلوا، وهم الذين اشتروا أنفسهم وباعوها، حتى بلغ الإسلام ما بلغ وفتحت مكة المكرمة أو مهد للفتح بالحديبية، يجب التفرقة بين الذين دخلوا وحملوا العبء مع الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، وبين الذين جاؤا من بعد، ولذا يقول الله تبارك وتعالى: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ، وَقاتَلَ، أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى (الحديد: 10) .

وفد مزينة

ويقول فى ذلك ابن كثير: فيجب التمييز بين السابق من هؤلاء الوافدين زمن الفتح ممن يعد وفوده هجرة، وبين اللاحق لهم بعد الفتح ممن وعد الله تعالى خيرا وحسنى، ولكن ليس فى ذلك كالسابق له فى الزمان والفضيلة. ونحن نرى أن الفتح الذى جاء به القرآن الكريم كان سنة ست بصلح الحديبية لأن الله تعالى سمى صلح الحديبية فتحا، وقد كان كذلك، لأنه فرق بين قوة الحرب وقوة السلام، وقد دخل الناس بعد صلح الحديبية أفواجا فى الإسلام، والذين كانوا قبل صلح الحديبية هم الذين قرر الله تعالى فى كتابه الكريم، أنهم الذين رضى عنهم ورضوا عنه فى قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ، فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ، فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (الفتح: 10) . وقال سبحانه وتعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ، فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ، وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (الفتح: 18) . هؤلاء هم الذين أنفقوا من قبل الفتح، ومن جاء بعدهم ليس مثلهم، فليس عمرو بن العاص كعلى بن أبى طالب، وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام، وأبى عبيدة عامر بن الجراح، وغيرهم، هؤلاء هم الذين سبقوا بالحسنى وقاموا مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بالجهاد والإسلام غريب، وكان من بعد ذلك عموم الدخول فى الإسلام، ولذلك كان الذين أسلموا بعد الحديبية والفتح أضعاف الذين أسلموا من قبل. وفد مزينة 656- جاء هذا الوفد عند الحديبية وقبل الفتح، ومجيئه فى ذلك الوقت يدل على أن دخول الناس فى دين الله أفواجا كان بعد الحديبية، وامتد إلى ما بعد فتح مكة المكرمة وتبوك. روى أن أول وفد من مضر كان وفد مزينة بأربعمائة من مضر، وروى أن ذلك فى رجب سنة خمس، وقد جاؤا مهاجرين، وقالوا إن أول من وفد من مزينة خزاعى بن عبد سهم، ومعه عشرة من قومه، فبايع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على إسلام قومه، ولما رجع إليهم لم يجدهم كما ظن فيهم إذ تأخروا عنه. ويظهر أن أولئك الأربعمائة جاؤا بعد أن فشا الإسلام فيه، وبعد أن أغلق باب الهجرة إلى المدينة المنورة، وأريد أن يعمر الإسلام البلاد العربية كلها، فقال: «أنتم مهاجرون حيث كنتم فارجعوا إلى أموالكم» .

وفد بنى تميم

وبذلك يكون تعيين الزمن بأن القدوم سنة خمس، إنما كان وفد خزاعة الذى بايع عن إسلام قومه، ولم يكونوا قد أسلموا، ثم جاء بعد ذلك أربعمائة، فرأى أن يمكثوا دعاة للإسلام فى بلادهم وذلك بعد أن تكاثر المسلمون عندهم، وذلك بعد الحديبية أو بعد الفتح، وإن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم زود هؤلاء بالطعام من التمر إذ لم يكن معهم زاد. وفد بنى تميم 657- وذكرنا من أخبار بنى تميم عندما هموا بالاعتداء على خزاعة، فأرسل إليهم عيينة بن حصن فى خمسين رجلا، فأسر منهم أسرى، وسبى سبايا، فجاؤا لذلك، وقالوا من وراء الحجرات فى جفوة: اخرج إلينا يا محمد، فقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ. وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (الحجرات- 4: 5) . وقد رد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أسراهم، وقد تكلموا بعد ذلك مفاخرين بأنفسهم، ورد الأنصار مفاخرتهم. والآن نقول ما رواه البيهقى بسنده. قال: قدم على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الزبرقان ابن بدر، وقيس بن عاصم، وعمرو بن الأهثم التميميون، فوقف الزبرقان بن بدر وقال: أنا سيد بنى تميم والمطاع فيهم، والمجاب، وأمنعهم من الظلم، وآخذ لهم بحقوقهم، وهذا يعلم ذلك، وأشار إلى عمرو بن الأهتم. قال عمرو بن الأهتم: إنه لشديد المعارضة مانع لجاره مطاع فى أدنيه. فقال الزبرقان ابن بدر: والله يا رسول الله لقد علم منى غير ما قال، وما منعه أن يتكلم إلا الحسد، فقال عمرو بن الأهتم، أنا أحسدك فو الله إنه للئيم الخال حديث المال أحمق الوالد مضيع فى العشيرة. والله يا رسول الله لقد صدقت فيما قلت أولا، وما كذبت فيما قلت آخرا، ولكنى إذا رضيت قلت أحسن ما علمت، وإذا غضبت قلت أقبح ما وجدت، ولقد صدقت فى الأولى، والآخرى جميعا. فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «إن من البيان لسحرا، وإن من الشعر لحكمة» ، ولعل هذه المجاوبة كانت فى قدومهم لفك أسراهم، فهو قدوم وليس بوفد. وقد روى البخارى فى فضل بنى تميم قول أبى هريرة: «لا أزال أحب بنى تميم بعد ثلاث سمعتها من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقولها فيهم: هم أشد أمتى على الدجال، وكانت فيهم سبية عند عائشة، فقال أعتقيها، فإنها من ولد إسماعيل، وجاءت صدقاتهم فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: هذه صدقات قومى» .

وفد ثقيف

هذا رواه البخارى، ورواه مسلم كذلك. وأقول قال على كرم الله وجهه، فى أيام شدائد البغى ومقاومته: ما أفل لبنى تميم نجم إلا بزغ لهم نجم آخر. والله أعلم. وفد ثقيف 658- امتنع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن هدم حصون ثقيف، وحرق كرومهم، وأنهى الحرب، لأنها كانت آخر شوال، وأقبل ذو القعدة الحرام، ولأن منهم من مال إلى الإسلام، وفشا الإسلام فى الطائف، ولكن نخوة الجاهلية وغلظ قلوبهم منعتهم من التسليم، وإن كان الإسلام قد فشا فيهم. فلما انصرف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عنهم، اتبع أثره عروة بن مسعود، وقد ذكرنا لقاءه بالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم وعودته إلى قومه، وقتلهم له بالنبل. بعد قتل عروة، وكان محبوبا فيهم، أحسوا بأنهم صاروا منفردين بين العرب، وخصوصا أن مكة المكرمة التى تقرب منهم قد أسلمت وأذعنت، وأن القبائل تدخل فى الإسلام، وربما كان مقتل عروة المحبوب فيهم كان له أثر فى نفوسهم بالندم على قتل محبوب، فصغت قلوبهم لما كان يدعوهم إليه، ورأوا أنه لا طاقة لهم بالعرب، وأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إن أعاد الكرة عليهم لم يكن لهم به طاقة، بل إنهم اليوم لا طاقة لهم بين العرب. اتجه عمرو بن أمية من كبرائهم إلى كبير آخر فيهم هو عبد ياليل، فقال له: «إنه قد ذهب أمر ليست معه هجرة، إنه قد كان من أمر هذا الرجل ما قد رأيت، قد أسلمت العرب كلها، وليست لكم بحربهم طاقة فانظروا فى أمركم» . عندئذ ائتمرت ثقيف بينها، وقال بعضهم لبعض، أفلا ترون أنه لا يؤمن لكم سرب، ولا يخرج منكم أحد إلا اقتطع، فأجمعوا أن يرسلوا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم رجلا، كما أرسلوا عروة، فامتنع إلا أن يكون معه نفر منهم خشية أن يصنعوا به مثل ما صنعوه بعروة بن مسعود. بعثوا عبد ياليل فى وفد من خمسة كانوا فى جملتهم ستة. قدموا المدينة المنورة، فكان على رعية إبل الصدقة وكان بها المغيرة بن شعبة؛ لأنها نوبته، وكانوا يتولون عليها بالمناوبة، وعندما رآهم المغيرة نهض مسرعا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فلقيه أبو بكر، فأراد أن يسبقه هو إلى إخبار الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم فأخبره.

عاد المغيرة إليهم، وهو يعلم أنهم جفاة ليعلمهم كيف يحيون النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فلم يفعلوا إلا بتحية الجاهلية. ضرب عليهم رسول الله قبة فى المسجد، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم يجيء إليهم فيه وكانوا يطمئنون إلى خالد بن سعيد بن العاص، وكانوا إذا جاءهم الطعام من قبل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لا يطعمون إلا إذا طعم منه خالد. وبعد ذلك أعلنوا إسلامهم، ولكن فى بقية جاهلية طلبوا من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن يبقى اللات ثلاث سنين، فرفض، طلبوا سنتين فأبى، طلبوا سنة فأبى، طلبوا شهرا، فأبى، وكيف يقرهم على الوثنية ساعة من زمان. سألوه صلى الله تعالى عليه وسلم ألا يكسروا أصنامهم بأيديهم، فأجابهم وأرسل المغيرة بن شعبة، وأبا سفيان بن حرب، أن يهدموها. طلبوا أن يعفيهم من الصلاة، فقال عليه الصلاة والسلام: «لا خير فى دين لا صلاة فيه» ، وقد كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد أقامهم فى خباء فى المسجد ليروا الناس، إذا صلوا، فيستأنسوا بالصلاة وليعلمهم، ولكن جفوة الجاهلية حالت بينهم وبين الأنس بالصلاة. وكانوا يرون أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إذا خطب لا يذكر نفسه فقالوا كيف يأمرنا أن نشهد أنه رسول الله وهو لا يشهد به فى خطبته، فبلغ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ما قالوا، قال، فإنى أول من شهد أنى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وكان فيهم عثمان بن أبى العاص وكان أصغرهم فكانوا يخلفونه على رحالهم، فكان القوم كلما عادوا إلى رحالهم بالهاجرة ليقيلوا، ذهب إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وسأله عن الدين، واستقرأه القرآن الكريم، وكان يختلف إليه مرارا، حتى فقه فى الدين، وعلم، وكان إذا وجد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم نائما عمد إلى أبى بكر، وكان يكتم ذلك عن أصحابه، فأعجب ذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأحبه. مكث الوفد يختلف إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو يدعوهم إلى الإسلام، فأسلموا. قال كنانة بن عبد ياليل الذى كان على رأس الوفد، كما نوهنا: هل أنت مقاضينا حتى نرجع إلى قومنا، قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن أنتم أقررتم بالإسلام أقاضيكم، وإلا فلا قضية بينى وبينكم.

قال: أفرأيت الزنا، فإنا قوم نغترب، ولا بد لنا منه. قال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، حرام، فإن الله تعالى يقول: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا (الإسراء: 32) . قالوا: أفرأيت الربا، فإنه أموالنا كلها. قال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: لكم رؤوس أموالكم، قال الله تعالي يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (البقرة: 278) . قالوا: أفرأيت الخمر، فإنه عصير أرضنا لا بد لنا منها. قال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: إن الله تعالى قد حرمها وقرأ قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (المائدة: 90) . أخذوا بما قرره النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لهم، ولكن بقية الوثنية فيهم، فقد سألوا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يبقى الربة (اللات) ، فقال: اهدموها، فقالوا واهمين: لو علمت الربة أنك تريد هدمها لقتلت أهلها. فقال عمر بن الخطاب وكان حاضرا: ويحك يابن عبد ياليل إنما الربة حجر، قالوا: إنا لم نأتك يابن الخطاب. وقال ابن عبد ياليل لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: تول أنت هدمها فنحن لا نهدمها، وأرسل الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم سفيان بن حرب، والمغيرة بن شعبة فهدماها كما ذكرنا. أكرمهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعد أن علمهم، وطلبوا أن يؤمر عليهم أحدا، فأمر أصغرهم عثمان بن أبى العاص، وكان قد حفظ سورا من القرآن الكريم وأدرك معانى الإسلام. ولكن كان المتحدث عن ثقيف «1» ابن عبد ياليل، لأنهم الذين نصبوه المتحدث باسمهم، وكان عليما بنفوس قومه، يعلم كيف يدخل إلى نفوسهم وأمامه تجربة عروة بن مسعود الذى كان محبوبا أكثر من أبكارهم فلما جاءهم مسلما قتلوه. ولذلك كتم قصة إسلامهم وما سلموا به للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم من قبولهم لتحريم الزنا والربا والخمر، وجاؤا إليهم مخوفين، ولم يجيئوا إليهم مسلمين.

_ (1) أخبار عتق هؤلاء بعمل الصدق أخذناه من سيرة ابن هشام ج 1 ص 317، 318، 319.

خوفوهم بالحرب، وأن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم سألهم أمورا فأبوها، سألهم هدم اللات والعزى وتحريم الخمر والزنا والربا فأبوا. أظهر الوفد الحزن والكرب، وسرى ذلك إلى ثقيف، وذهب الوفد إلى اللات وثن ثقيف يكرمها، وأظهر كل من فى الوفد لخاصته، أنه جاء من عند رجل فظ غليظ القلب يأخذ من شاء بظهر السيف، وأدان له العرب ففرض علينا أمورا شدادا، هدم اللات والعزى وترك الأموال ... إلى آخر ما طلب. قالت ثقيف: لا نقبل ذلك أبدا. فقال الوفد المدرك: أصلحوا السلاح، وتهيئوا للقتال واستعدوا له، ورموا حصنكم. فكرت ثقيف يومين أو ثلاثة يدبرون القتال، ثم ألقى الله فى قلوبهم الرعب، وقالوا: والله ما لنا به طاقة، وقد دان له العرب كلها، فارجعوا إليه فأعطوه ما سأل، وصالحوه عليه، فلما رأى الوفد أنهم قد اختاروا الأمان على الخوف والحرب. عندئذ أظهر لهم ما أخفى، وقال لهم الوفد: فإنا قد قاضيناه، وأعطيناه ما أحببنا، وشرطنا ما أردنا، ووجدناه أتقى الناس وأوفاهم وأصدقهم وأرحمهم، وقد بورك لنا ولكم فى مسيرنا، وفيما قاضيناه عليه فاقبلوا عافية الله. قالت ثقيف: فلم كتمتمونا هذا الحديث وغممتمونا أشد الغم، قالوا: أردنا أن ينزع الله من قلوبكم نخوة الشيطان. فأسلموا مكانهم، وجاءتهم رسل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. وقد أمر على هذه الرسل خالد بن الوليد، وفيهم المغيرة. أقدم المغيرة ليهدمها، وثقيف كلها رجالا ونساء يزعمون أنها لا تهدم أبدا يظنون أنها ممتنعة عن الهدم، فأخذ المغيرة يخادعهم مستهزئا بزعمهم، وقال: لأضحكنكم اليوم من ثقيف، فأخذ المعول يضرب به، ثم أسقط نفسه وركض، فارتج أهل الطائف بضجة واحدة، وقالوا: أبعد الله المغيرة، قتلته الربة، وفرحوا حين رأوه ساقطا، وقالوا: من شاء فليقترب، وليجتهد على هدمها، فو الله ما استطاع. بعد أن أثار المغيرة ثقيفا مستهزئا بهم وثب وأخذ المعول ليهدم، وقال: قبحكم الله معشر ثقيف، إنما هى حجارة ومدر، ثم ضرب الباب فكسره، ثم علا أعلى سورها، وعلا الرجال معه فهدموها حجرا حجرا حتى سووها بالأرض. ولكن صاحب مفتاح اللات ما زال على ضلاله فجعل يقول ليغضبن الأساس، فليستخفن بهم، فلما سمع ذلك المغيرة قال لخالد: دعنى أحفر أساسها فحفره، حتى أخرجوا ترابها فبهتت ثقيف ثم انتزعوا حليها وكسوتها وأتى بها الوفد إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.

وروى أن ثقيفا، قد اشترط وفدها أن لا صدقة عليه ولا جهاد فقال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: «سيتصدقون ويجاهدون» . ويظهر أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لم يظهر ذلك الشرط، أو لم يظهر إجابته انتظارا لما يكون بعد إسلامهم. ويروى أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أراد أن يا بنى مسجدا، حيث كان طاغيتهم (اللات) . 659- ذكرنا أحوال وفد ثقيف مع طوله، لأن فيه بيانا لأحوال النفوس وكيف تعالج، إنهم قوم أشداء غلاظ، فإنه يتبين من حديثهم كيف تسيطر الأوهام عند نقص المدارك، لقد هدمت كل الأوثان فى مكة المكرمة، فما رأينا من قريش ما ظهر من ثقيف عندما هدمت اللات أو الطاغية كما يسمونها، وكيف كانوا يعتقدون أن من يهدمها يسقط، وكيف تعابث بهم المغيرة، فأسقط نفسه عند ضرب أول ضربة فصاحوا ثم كان الهادم هو خالد بن الوليد القرشى الذى كان حديث عهد بالجاهلية. أثبتت القصة كيف تستولى الأهواء والشهوات على النفوس غير المؤمنة، حتى إنهم ليطلبون منه إباحة الزنا والخمر، والربا، وقد ردهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. وما أشبه أجلاف ثقيف بالمسلمين العصريين المجددين الآن الذين يستبيحون الربا، ويعاضدهم بعض الذين يتسربلون سربال العلماء، وكانوا يحفظون القرآن الكريم، ويستبيحون الزنا أحيانا باسم المتعة وأحيانا باسمه الصريح، ويعدونه تقدما، ويستبيحون الخمر جهارا نهارا. وبين أيدى الذين أباحوا المتعة عندما طلبوا إباحة الزنا لأجل اغترابهم، فكان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يشير إليهم بالمتعة، لو كانت مباحة، كما يقول أولئك المتفلسفة الذين يريدونها لأغراب التلاميذ ولا حول ولا قوة الا بالله. وهناك أمر تربوى رائع، وهو علاج كنانة بن عبد ياليل لشماس ثقيف إذ أنه أخفى إسلامه وصحبه وطلب إليهم الاستعداد للحرب، ففكروا مليا، وطلبوا هم التسليم للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم. ولو أظهر إسلامه ومن معه ابتداء، ليقتلوهم كما قتلوا عروة بن مسعود، إن الأمر إذا عرض مقررا قاطعا، قاومته النفوس المشاكسة الشامسة، لأن من طبيعة هذا النوع من النفوس أن ترد ما يعرض عليها على أمر لا بد منه إذ ليسوا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، فاتبع كنانة بن عبد ياليل طريق التمهيد للأمر الذى قرره، حتى يطلبوه هم، فلا يكون مفروضا عليهم، بل يكون استجابة لما فى نفوسهم. وننبه هنا إلى أن بعض الروايات ذكرت أن ثقيفا عرضت الأمر على أبى بكر، فى حجته، ولكن نجد السياق التاريخى لا يؤيد هذا، ذلك أن ابن إسحاق يقول: إن وفد ثقيف كان فى رمضان. فبينهما زمن، وحج أبى بكر متأخر عن رمضان، والله أعلم.

وفد بني عامر

وفد بني عامر 660- أخذت وفود العرب التى وصل إليها الإسلام تجيء وفدا بعد آخر، منهم من يعلن إسلامه ويتلقى تعاليمه بالمدينة المنورة، ومنهم من كان فيه شك، أو عنجهية جاهلية. أو لا تزال الوثنية فى قلوبهم فيتلقاهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بالموعظة الحسنة وتأليف قلوبهم، وبعضهم جاء إقرارا بالخضوع لمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم يهداهم ويرشدهم، وينقذهم من الضلال. روى البيهقى فى دلائل النبوة أن وفد بنى عامر إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قالوا له: أنت سيدنا وذو الطول علينا، فقال عليه الصلاة والسلام: لا يسخرن بكم الشيطان السيد هو الله. لقد جاء ذلك الوفد مسلما، ولكن كان فيه عامر بن الطفيل يريد غدرا ولا يريد إسلاما، وقد نهاه قومه عما يريد، وقالوا له: يا عامر إن القوم قد أسلموا. فقال: والله لقد كنت آليت، ألا أنتهى حتى تتبع العرب عقبى، وأنا أتبع عقب هذا الفتى من قريش. ثم قال لمن دبر أمر الغدر معه وهو أربد: إذا قدمنا على الرجل فإنى شاغل عنك وجهه، فإذا فعلت ذلك فاعله بالسيف. فلما قدموا أمر عامر أن ينفذ الغدر، فقال مواجها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: «يا محمد خاللنى، قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا.. حتى تؤمن بالله وحده لا شريك له» . أبى عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن يكون له خليلا، حتى يكون مؤمنا، فلم يذعن للإيمان بل انتقل إلى التهديد، وكأن المخاللة تجيء بالنصر والقهر، فقال: أما والله لأملأنها عليك خيلا ورجالا. فلما ولى قال الذى يعصمه الله من الناس: اللهم اكفنا عامر بن الطفيل. فقد خذله صاحبه أربد، فلم يعل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عليه بالسيف، فقال له: ويحك يا أربد، أين ما أمرتك به؟ فقال: والله ما كان وجه الأرض أخوف على نفسى منك، وأيم الله لا أخافك بعد اليوم، ثم قال أربد: لا أنا لك لا تعجل على، فو الله ما هممت بالذى أمرتنى به إلا دخلت بينى وبينه فأضربك بالسيف، وهكذا وقى الله تعالى رسوله عليه الصلاة والسلام بأن كانت صورة أربد قاتله بينه وبين النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.

وفد عبد القيس

خرج القاتلان من عند رسول الله عليه الصلاة والسلام، فأصاب ابن الطفيل الطاعون، ومات فى بيت امرأة، وقيل مات على فرس، وقد خرج متألما من مرضه، قائلا، أغدة كغدة البعير. وأما أربد الذى كان يد الغادر، فإنه خرج وحمله بعد عودته إلى بنى عامر، فنزلت عليهما صاعقة فقتلتهما، يروى أنه كان من حديث عامر بن الطفيل إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أنه لما أتى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، خير النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، قائلا أخيرك بين ثلاث خصال: يكون لك أهل السهل، ولى أهل المدر، أو أكون خليفتك من بعدك، أو أغزوك بغطفان بألف أشقر وألف شقراء، وهذه رواية البخارى، ويقول البخارى: طعن (أى أصيب بالطاعون) فى بيت امرأة فقال: أغدة كغدة البكر فى بيت امرأة ائتونى بفرسى أركب، فمات على ظهر فرسه. وقد ذكرنا شيئا من ذلك من قبل. وإن الظن أن وفاة عامر بن الطفيل كانت قبل الفتح ولم تكن فى العام التاسع، لأن منطقها يوميء إلى أنها كانت قبل الفتح وتبوك، أى قبل أن يصير السلطان كله فى البلاد العربية للإسلام، سواء فى ذلك من أسلم ومن لم يسلم. ومهما يكن فإنه لم تكن الوفود بعد الفتح وتبوك كلها مسلمة، بل كان فيهم غيرهم ممن دانوا بالطاعة. وفد عبد القيس 661- فى الصحيحين البخارى ومسلم أن وفد عبد القيس قدموا على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فبش فى وجوههم، وقال: ممن القوم؟ قالوا: من ربيعة، فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: مرحبا بالوفد غير خزايا ولا ندامى. وقد رحب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بوفد ربيعة، لما كان من التنافس بين ربيعة ومضر، فمجيئهم دليل على أن العصبية الجاهلية خفت صوتها بجوار صوت الإسلام، وصارت تحت قدم الإسلام وهو فوقها. جاء هذا الوفد مريدا الإسلام مطمئنا إليه، ويريدون أن يعلموا من النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ما يجب عليهم أن يعلموه.

وفد بنى حنيفة

قال قائلهم المتحدث عنهم: «يا رسول الله إن بيننا وبينك هذا الحى من كفار مضر، وإنا لا نصل إلا فى شهر حرام، فمرنا بأمر نأخذ به، ونأمر به من وراءنا، وندخل الجنة» فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع: آمركم بالإيمان بالله وحده أتدرون ما الإيمان بالله، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تعطوا الخمس من المغنم، وأنهاكم عن أربع، عن الربا والحنتم والنقير والمزفت، وهى أسماء أنواع من الخمور تختلف أسماؤها باختلاف آنيتها «1» . ولقد كان فى وفد عبد القيس الجارود بن بشر بن المعلى، وكان نصرانيا، فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كلمه ودعاه إلى الإسلام وعرضه عليه ورغبه فيه. فقال: يا محمد، إنى قد كنت على دينى، وإنى تارك دينى لدينك، أفتضمن لى دينى، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أنا ضامن أن هداك الله إلى ما هو خير منه. فأسلم وأسلم من معه من أصحابه. عاد الجارود إلى قومه، وكان حسنا شديدا فى دينه حتى مات. ولما قامت الردة بعد الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم كان من قومه من ارتد، فوقف فيهم يقول بشهادة الحق، ودعا قومه أن يتوبوا ويعودوا إلى الإسلام، وهو يقول: أيها الناس، إنى أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وأكفر من لم يشهد هذه الشهادة. وهكذا كانت الوفود تجيء إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فلا تخرج من بين يديه إلا وقد خالطت بشاشة الإسلام قلوبهم، فيعودوا إلى أقوامهم، ليعلموهم ما تعلموا. وإن ذلك تطبيق واستجابة لقوله تعالي: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ، لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (التوبة: 122) . وفد بنى حنيفة 662- كان الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم يستقبل الوفود، ويدعوهم إلى الإسلام، سواء منهم من اهتدى، ومن ضل وغوى، والناس قسمان قسم يطلب الحق ويبتغيه، ويجانب الشر، ولا يريد إلا الحق، ولم تدنس نفسه بدرن الهوى والباطل، ولم تركس فى مهاوى الهوى، وما يسول به الشيطان فى الأنفس، وقسم سيطرت عليه الأهواء فلا يتجه إلى الحق يبتغيه، ولكن يتجه إلى ما تهوى الأنفس، وما تضل به الأفهام، وتسيطر الأوهام.

_ (1) بل هى أسماء آنية (المراجع) .

والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم يستقبل الفريقين، فمن طلب الحق واستقامت نفسه استجاب للحق، وأسلم، ومن ركبته الأهواء، حاول النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إزالة الغشاوة التى تنسجها الأوهام، ومن اهتدى فإنما يهتدى لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم يريد الهداية للجميع، ولكن الله تعالى يقول: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ (القصص: 56) . ومن هذا الصنف الثانى قوم مسيلمة الكذاب، وهو وفد بنى حنيفة. جاء وفد بنى حنيفة، وفيهم مسيلمة، وقد ستروه بثياب والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى يده عسيب من سعف النخل، وقد سأله مسيلمة بعض ما تحت سلطانه، فقال له النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: لو سألتنى هذا العسيب الذى بيدى ما أعطيتكه، وإن الشر لا يظهر إلا فى أشرار، فقومه هم الذين شجعوه على ذلك، وكذلك قال لقومه: أما إنه ليس بشركم. وكان مسيلمة قبل أن يحضر قومه كتب للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم كتابا قال فيه: من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله: «أما بعد فإنى أشركت فى الأمر معك، وإن لنا نصف الأمر، ولقريش نصفه، وليس قريش قوما يعدلون» . قدم رسوله على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بهذا الكتاب. فكتب إليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد رسول الله إلى مسيلمة، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين. وقدم من عند مسيلمة هذا رسولان قيل إنهما قدما بالكتاب الذى ذكرناه عنه، فقال لهما محمد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «تشهدان أنى رسول الله، فقالا: نشهد أن مسيلمة رسول الله، فقال محمد صلى الله تعالى عليه وسلم: لو كنت قاتلا رسولا لقتلتكما» . أتى بنو حنيفة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وهم على هذه الحالة النفسية، وعلى هذا الضلال العقلى، ولكن منهم من أسلم، ومع ذلك ارتدوا من بعد، ولقد استهواهم ضلال مسيلمة الكذاب عن الحق، وذلك بسبب العصبية الجاهلية، حتى كان قائلهم يقول: كاذب ربيعة خير من صادق مضر.

وفد طيىء

ولقد كان يزعم ذلك الكذاب المئوف العقل أنه يأتى بمثل القرآن الكريم، فيقول زاعم أن ما يقوله يشبه القرآن الكريم فى سجع سمح، «ولقد أنعم الله على الحبلى، أخرج منها نسخة نفى. من غير صفات وحشا» . وقد أخذ من قول النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لهم وليس بشركم، وهى ترمى إلى أنهم جميعا أشرار، وليس هو بشرهم، أخذ من هذا أن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم أشركه فى رسالته، وأسقط عنهم الصلاة. وهكذا يذهب الضلال فى النفس، وتفعل العصبية الجاهلية فى الإدراك. وقد قال أفراده إن ذلك الوفد المشئوم، جاء فى السنة العاشرة، حتى عمت الدعوة الإسلامية، ولم يكن لهم مناص من الاتباع، فانحرفوا ذلك الانحراف. وفد طيىء 663- قدم وفد طييء، وقد كان الإسلام ابتدأ فيهم قبل حضور هذا الوفد من وقت أن كانت السرية إليهم، وهم قوم فيهم خير. ولم يكن فيهم عناد كثقيف والانحراف فى الفكر كحنيفة واليمامة. كان على رأس الوفد زيد الخيل- الذى سماه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم زيد الخير، وروى أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قال فيه: «ما ذكر لى رجل من العرب بفضل ثم جاءنى، إلا رأيته دون ما يقال فيه إلا زيد الخيل، فإنه لم يبلغ كل ما فيه» . وقد عرض رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الإسلام على الوفد، فأسلموا وحسن إسلامهم. وروى أن زيد الخير قد مات بحمى المدينة المنورة عقب مغادرة الوفد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. وروى أنه مات بعد ذلك فى خلافة الإمام عمر رضى الله تعالى عنه. وكان له والدان قد نالا صحبة للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فرضى الله تبارك وتعالى عنه. وكان له والدان قد نالا صحبة للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فرضى الله تبارك وتعالى عنه. ولقد أقطعه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أرضين، وكتب له كتابا بذلك، وكان ذلك الإقطاع فيما يظهر إقطاع منفعة، يستخرج المعادن والزيوت، ويزرع ما يصلح للزراعة، وكان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يفعل ذلك فى الأراضى النائية عن المدينة المنورة ليمكن استغلالها، وإخراج ينابيع الثروة فى باطنها، ويقدمون فى ذلك أجرا لها، وقد يكون من غير أجر تأليفا للقلوب النافرة.

وفد كندة

وفد كندة 664- قدم الأشعث بن قيس على رأس وفد من كندة عدته ستون أو ثمانون رجلا، وقد دخلوا على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بسلاحهم وبزينة، وقد لبسوا جببا حبرات مكفتة بالحرير. دخلوا على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ولم يسلموا فنكر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حالهم، فقال لهم أو لم تسلموا، قالوا بلي، ثم قال ما هذا الحرير فى أعناقكم، فكانوا طائفتين، فأجابوا عن الاستنكار بأن شقوا الحرير ونزعوه من ثيابهم، وألقوه، فقال الأشعث بن قيس: نحن بنو آكل المرار، وأنت ابن آكل المرار، (يظهر أن ذلك إشارة إلى قوة البأس، وأبى أن يعرب عن شرفه الذى ظهر بادى الرأي) وقد ضحك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقد قال هذا النسب ربيعة بن الحارث، والعباس ابن عبد المطلب، فقد كانا إذا سارا فى بلاد العرب، فسئلا من أنتما؟ قالا نحن بنو آكل المرار، يستعلون بذلك عند الناس، ويعتزون، ويظهرون البأس، والقوة، لأن آكل المرار كان ملكا فى كندة وكان أولاده ملوكا، فكانوا يسيرون باسمه آمنين. فلما قال الأشعث بن قيس للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم: نحن بنو آكل المرار، وأنت ابن آكل المرار، يشير إلى ما كان بين الأشعث والعباس من صحبة، ما كان يقولانه فى صحبتهما وتجارتهما، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم يستضحك مما كان يصنعه هو وعمه العباس الذى كان تاجرا. ولكن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ذكر نسبه الصادق، وأنه لا ينفيه. روى أحمد فى مسنده بسند متصل إلى الأشعث بن قيس قال: قدمنا على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وفد كندة، ولا يرون إلا أنى أفضلهم فقلت ذلك لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: لا، نحن بنو النضر بن كنانة، لا نجفو أمنا، ولا ننتفى من أبينا. وكان للأشعث بن قيس ولاية فى بعض الدول الإسلامية فى عهد بنى أمية، فكان يقول: لا أوتى برجل نفى رجلا من قريش نسبه عن النضر بن كنانة إلا جلدته. أكرم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم الوفد، وأعلن إسلامه، وعاد مرضيا آمنا مسلما.

وفد الأشعريين وأهل اليمن

وفد الأشعريين وأهل اليمن 665- إن الأنصار ينتمون إلى قبائل يمينة، وكانوا هم الذين أحبوا الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، وهم الذين آووا ونصروا فكان لليمن محبة فى قلبه. ولقد جاء الأشعريون وأهل اليمن، أو ناس من أهل اليمن، جاؤا إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مسلمين يريدون أن يتعرفوا مباديء الإسلام. ويستحافظوا القرآن الكريم. إن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قال عند قدومهم: قدم قوم هم أرق منكم قلوبا. فقدم الأشعريون، وجعلوا يرتجزون: غدا نلقى الأحبة ... محمدا وصحبه وفى صحيح مسلم عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقول، وقد وفدوا عليه، جاء أهل اليمن هم أرق أفئدة، وأضعف قلوبا للإيمان، والحكمة يمانية والسكينة فى أهل الغنم والفخر والخيلاء فى أهل الوبر. وروى عن جبير بن مطعم أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، قال: أتاكم أهل اليمن، كأنهم السحاب، وهم خيار من فى الأرض، فقال رجل من الأنصار: إلا نحن يا رسول الله، فسكت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ثم قال إلا نحن يا رسول الله: فسكت ثم قال: إلا أنتم ... كلمة ضعيفة. كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لا يقبل استثناءهم من أهل اليمن وهم الذروة والسنام. وإن الإسلام فى ذاته بشرى الخير لمن دخلوا فيه، لقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم لوفد بنى تميم: أبشروا يريد بالإسلام، فقالوا بشرتنا، فأعطنا، فغضب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لهذه المادية الطامعة وقال للأشعريين: اقبلوا البشرى، فقالوا قد قبلنا، وفهموها معنوية لا مادية، ثم قالوا يا رسول الله جئنا لنتفقه فى الدين، ونسألك عن أول هذا الأمر، فقال عليه الصلاة والسلام كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب فى الذكر كل شيء. وهنا نجد ظاهرة تبدو غريبة. وهى مسارعة أهل اليمن ومن حولهم إلى الإسلام، ومقاومة أهل مكة المكرمة للدين الجديد مع أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم منهم، وكان معروفا لديهم بالصدق والأمانة والبعد عما يؤثر فى الكمال الإنسانى.

وفد الأزد

ويبدو لنا أن السبب فى ذلك تشير إليه أمور: أولها: تمكن الوثنية عند كل أهل مكة المكرمة ومن حولها، وسيطرة الأوهام عليهم، واعتزازهم بأنسابهم. وثانيها: حب الرياسة فيهم التى نشأت من اقامتهم بالبيت الحرام، والاستمساك بسيطرتهم على العرب من طريق خدمتهم للبيت الحرام، وأنهم سدنته، وأن ذلك الدين الجديد ينزع منهم ما بأيديهم من سلطان، فاشتدت مقاومتهم، لا من جهة الإيمان، ولكن من جهة السلطان. وثالثها: أن أهل الجنوب اليمنى، كان فيهم علم بالأديان، فكان فيهم اليهود والنصارى، ولهم بذلك علم بالرسائل السماوية. ولم يكن اليهود الذين كانوا باليمن من بنى إسرائيل، بل كانوا من السامرة، وهم اليهود الذين اتبعوا موسى عليه السلام من غير بنى إسرائيل، فلم تكن عندهم العصبية الإسرائيلية الحادة التى كانت تؤمن بأنه لا نبى إلا من بنى إسرائيل، ولما جاء محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وكانوا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، أنكروا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ (البقرة: 89) . وكانوا لا يعترفون بالسامرة على أنهم من اليهود أتباع موسى، لأن اليهودية عندهم جنسية وليست بعقيدة، فكانوا يضطهدونهم، كما يحاولون إيذاء غيرهم من أى دين، وربما كان مجيء نبى من العرب مثير الحماستهم له. ورابعها: أنهم نظروا إلى الإسلام على أنه الدين الظاهر فى البلاد العربية، فسارعوا إليه، لأنه صار الدين الغالب، وصارت كلمة الله تعالى هى العليا. والله أعلم. وفد الأزد 666- وهم من اليمن تجرى عليهم الأسباب التى ذكرناها فى مسارعتهم إلى الإسلام بعد أن امتدت كلمته فى البلاد العربية. قال ابن إسحاق: قدم وفد من الأزد، وكان على رأسهم صرد بن عبد الله الأزدى، قد أسلم وحسن إسلامه فأمره رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على من أسلم من قومه، وأمره أن يجاهد بمن أسلم من كان يليه من أهل الشرك من قبائل اليمن ومن جاورهم.

أخذ صرد بن عبد الله يجاهد من حوله من المشركين، وكان بجوارهم مدينة مغلقة يقال لها جرش، وبها قبائل من اليمن، وقد انضمت إليهم خثعم، فتضافروا معهم عندما علموا أن جيش المسلمين يسير إليهم بقيادة صرد بن عبد الله. حاصرهم فى مدينتهم جرش نحوا من شهر، وهم فيها ممتنعون، فترك الحصار، وأوى إلى جبل يقال له شكر، واعتصم به رجاء أن ينتهز فرصة، فيأتيهم من حيث لا يشعرون، ويفرقهم عن بلدهم. ظنوا أن صرد بن عبد الله ومن معه ولى عنهم منهزما أو يائسا من أن يقتحم بلدهم، فزين لهم أن يخرجوا فى طلبه، فكان خروجهم تمكينا له من ضربهم، فإنهم إذ أدركوه عطف عليهم، ولم يكن لهم معتصم يعتصمون به فقتلهم قتلا شديدا، وكانت الهزيمة الشديدة قد نزلت، وعلم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك النصر الذى كان من عند الله تعالى العزيز الحكيم، ولم يكن بسرية من المدينة المنورة، ولكن بمن أسلم من العرب. وفى الوقت الذى علم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فيه بهزيمة المشركين كان عنده وفد من جرش جاءه عشية أن علم، وكان مسلما. سأل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وفد جرش وكان مكونا من اثنين: بأى بلاد الله تعالى شكر، فقالا: يا رسول الله ببلادنا جبل يقال له كشر، ولذلك تسميه أهل جرش، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إنه ليس بكشر، ولكنه شكر. قالا له: فما شأنه يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم «إن بدن الله لتنحر عنده الآن» . لم يفهم الرجلان مؤدى كلام النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فجلسا إلى الشيخين الجليلين فى الصحابة، أبى بكر وعثمان، رضى الله تبارك وتعالى عنهما، فسألا ماذا يريد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فقال لهما صاحبا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ويحكما، إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ينعى إليكما قومكما، فاقدما إليه، فاسألاه أن يدعو الله أن يرفع عن قومكما. فذهب الرجلان إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سألاه الدعاء لقومهما، فقال: اللهم ارفع عنهم. خرج الرجلان إلى قومهما، فوجدا قومهما قد أصيبوا فى اليوم الذى قال لهما النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك، بل فى الساعة التى ذكر فيها ما ذكر.

وفد بني الحارث بن كعب

ولقد جاء بعد ذلك وفد جرش فأسلموا وحسن إسلامهم، وحمى لهم حمى حول قريتهم ليستغلوه، وكان يفعل ذلك مع من يسلمون من أهل البلاد ليتمكنوا من استغلال الأرض كلها، وذلك نظير أجرة أو خرج يخرجونه، والله سبحانه وتعالى أعلم. وفد بني الحارث بن كعب 667- كان يستقبل الوفود الذين يجيئون إليه مسلمين، وإن لم يكونوا مسلمين دعاهم إلى الإسلام إذا جاؤا إليه، وفى أكثر الأحيان يجيبون، وفى بعض الأحيان يجيبون بعد تردد، ومهما يكن فالإسلام يدخل ديارهم ومن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر، ومن بقى على دينه ورضى أن يعيش فى ظل الإسلام عقد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عقد الذمة. والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم يتعرف القبائل وأحوالها، فمن يجىء منها دعاه إلى الإسلام، وقبل منه ما يتقدم به، وإذا تخلفت قبيلة ولم يعرف إيمانها، ولم يتبين حالها، أرسل إليها سرية فدعوها إلى الإسلام، ومن هؤلاء بنو الحارث، فأرسل خالد بن الوليد فى شهر ربيع الآخر من السنة العاشرة إلى بنى الحارث بن كعب بنجران، وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام، قبل أن يقاتلهم يدعوهم ثلاثا، فإن استجابوا قبل منهم، وإن لم يفعلوا قاتلهم. ذهب إليهم خالد بن الوليد، وبعث الركبان يضربون فى كل وجه، ويدعون إلى الإسلام يقولون لهم أسلموا تسلموا. أسلم الناس، ودخلوا فى دين الله، فأقام فيهم خالد يعلمهم الإسلام، وكتب إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك. كتب إليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن يقبل، ويكون معهم وفد منهم، فأقبل معه وفدهم فيهم قيس بن الحصين ذو العصبة، ويزيد بن عبد المدان وغيرهما. قال لهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «بم كنتم تغلبون من قاتلكم فى الجاهلية» ؟ قالوا لم نكن نغلب أحدا؟ قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. بلى. قالوا كنا نجتمع ولا نتفرق، ولا نبدأ أحدا بظلم، استنطقهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. ليعلنوا أخلاقهم، لأنه يقر هذه الأخلاق، ويريد منهم الاستمرار عليها، لأنها أخلاق إسلامية. أمرهم واحد يجتمعون ولا يتفرقون ولا يعتدون، فهم لا يحاربون.

وفد همذان

وقد أمر عليهم قيس بن الحصين، فرجعوا إلى قومهم، بعد أن مكثوا فى المدينة المنورة أشهرا تعرفوا فيها الدين واستحافظوا بعض القرآن الكريم. وإنا نرى أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان إذا رأى من وفودهم استجابة للإسلام، وشيوعه بينهم أمر عليهم أميرا، يكون متصلا بالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وبذلك يكونون جميعا فى ولاية واحدة، هى ولاية الإسلام التى يجتمعون حول لوائها، غير متفرقين، ولا متخاصمين. وفد همذان 668- أقبل وفد همذان مسلما، غير متردد، ولا متلوم، وكان فيهم مالك بن النمط، وغيره، وكان هذا الوفد عقب رجوعه من تبوك. وقد حضر هذا الوفد على أتم زينة ومظهر، فقد حضروا وعليهم مقطعات الحبرات والعمائم العدنية على الرواحل، ويظهر أن ملابسهم وإن كانت منمقة فيها زينة وزخرف لم يكن فيها حرير، أو ذهب، ولذلك لم يستنكر شيئا من لبسهم. وقد جاؤا فى سرور بإسلامهم، ولقائهم بالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، حتى إن مالك بن النمط أخذ يرتجز بين يدى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. إليك جاوزن سواد الريف ... فى هبوط الصيف والخريف مخطمات بحبال الليف وتكلموا بكلام فصيح أمام النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. وقد قدم لهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أمرين: أولهما: أنه أمر عليهم مالك بن النمط، واستعمله على من أسلم من قومه، وأمره بجهاد من يقرب منهم من المشركين أو الكفار بشكل عام. وقد عاونهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بإرسال خالد بن الوليد فى سرية كما روى البيهقى ليدعو فى اليمن إلى الإسلام، وقال البيهقى: مكث ستة أشهر يدعوهم. وقال البراء بن عازب: كنت فيمن أرسلهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مع خالد بن الوليد، إلى أهل اليمن، وقد مكث يدعوهم إلى الإسلام ستة أشهر، فلم يجيبوه، ويظهر أنه كان قائد حرب ولم يكن داعيا إلى الإسلام.

قدوم وفد دوس

ولذلك بعث النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من بعد ذلك بعلى بن أبى طالب فلما دنا من الجمع اليمنى المسالم، وإن لم يكن قد دخل كله فى الإسلام، وقد خرجوا فلم يقاتلهم ولم يدعهم إلى الإسلام بالقول، بل برسالة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، فصف من معه من المسلمين صفا واحدا، ثم تقدم فقرأ عليهم كتاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. بعد قراءته كتاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أسلمت همذان كلها. وهذا ما جاء فى صحيح البخارى. وفى الحق أنه قد جاء فى أخبار الوفود كلام لم تثبت صحته، فقد قيل إن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كلف همذان بقتال ثقيف، وهذا غير معقول فى ذات نفسه؛ لأن ثقيفا بالطائف وهمذان باليمن، ولأن ثقيفا كانت قد أسلمت برسالة وفدها، وهدمت اللات طاغيتهم. وفى الحق أن تاريخ قدوم الوفود على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لم يدون بدقة. قدوم وفد دوس 669- قدم وفد دوس على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وهو يجاهد فى خيبر فهو لم يقدم عليه فى السنة التاسعة التى توصف بأنها عام الوفود، والدعوة إلى الإسلام عن طريقهم. وكان على رأس هذا الوفد المسلم الطفيل بن عمرو الدوسى. وقد أسلم والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم لم يهاجر إلى المدينة المنورة، وأمره النبى صلى الله تعالى عليه وسلم على قومه دوس يدعوهم إلى الإسلام فأسلم بعض عشيرته الأقربين، ولم يجيء إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم موفدا من قومه المسلمين إلا بعد ذلك فى السنة السابعة وهو فى خيبر، ولقد أسهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لهم فى الغنيمة، لأنهم اشتركوا فيها. وقصة إسلام الطفيل بن عمرو الدوسى ودعوته لقومه، ثم امتناعهم، ثم إسلامهم يحكيها رضى الله عنه، فلنتركه يحدثنا بها، إذ كان قد قدم مكة المكرمة وكان رجلا شريفا لبيبا، مستقيم النظر فأحاطت به قريش تمنعه من أن يستمع إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وتقول له: إن كلامه كالسحر يفرق بين الرجل وولده وأبيه وزوجه. أصاخ إلى كلامهم، ويقول فى ذلك «فو الله ما زالوا بى، حتى حشوت فى أذنى حين غدوت إلى المسجد كرسفا، فرقا من أن يبلغنى شيء من قوله فغدوت إلى المسجد فإذا برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قائم يصلى، فقمت قريبا منه، فأبى الله تعالى إلا أن يسمعنى بعض قوله. فسمعت كلاما

حسنا، فقلت فى نفسى، وا ثكل أماه، والله إنى لرجل لبيب شاعر، ما يخفى على الحسن من القبيح، فما يمنعنى أن أسمع من هذا الرجل ما يقول، فإن كان ما يقول حسنا قبلت، وان كان قبيحا تركته. فمكثت حتى انصرف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى بيته، فتتبعته، حتى إذا دخل بيته، دخلت عليه فقلت: إن قومك قالوا لى كذا وكذا، فو الله ما برحوا يخوفوننى أمرك، حتى سددت أذنى بكرسف لئلا أسمع قولك، فأبى الله تعالى إلا أن يسمعنيه، فسمعت قولا حسنا ... فاعرض على أمرك، فعرض على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الإسلام، وتلا عليّ القرآن الكريم، فو الله ما سمعت قولا قط أحسن منه، ولا أمرا أعدل منه، فأسلمت وشهدت شهادة الحق، وقلت: يا رسول الله، إنى امرؤ مطاع فى قومى، وإنى راجع إليهم، فداعيهم إلى الإسلام فادع الله أن يجعل لى آية تكون عونا لى فيما أدعوهم إليه، فقال: النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: «اللهم اجعل له آية» ، وبعد أن ذكر هذه الآية، وهو نور جاء على وجهه، ثم على وسطه. قال بعد ذلك: «لما نزلت أتانى أبى وكان شيخا كبيرا، فقلت: إليك عنى يا أبت، فلست منى، ولست منك، قال: ولم يا بنى، قلت قد أسلمت وتابعت دين محمد، قال يا بنى دينى دينك. فقلت: اذهب فاغتسل وطهر ثيابك ثم تعال، حتى أعلمك ما علمت ... ثم جاء فعرضت عليه الإسلام فأسلم، ثم أتتنى صاحبتى فقلت لها إليك عني، فلست منك، ولست منى: فقالت لم بأبى أنت وأمى؟ قلت فرق الإسلام بينى وبينك، أسلمت وتابعت دين محمد صلى الله تعالى عليه وسلم. قالت فدينى دينك، قلت فاذهبى فاغتسلى ... ثم جاءت فعرضت عليها الإسلام فأسلمت. بعد ذلك انتقل من الدعوة الخاصة إلى دعوة دوس عامة، فدعاهم إلى الإسلام، فلم يستنكروا ولكن أبطأوا. عاد إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال له: يا رسول الله إنى قد غلبنى على دوس الزنا (أى اتباعهم لأهوائهم وشهواتهم) فادع عليهم، ولكن الهادى الأمين رسول رب العالمين صلى الله تعالى عليه وسلم لم يدع عليهم بل دعا لهم بالهداية، فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: «اللهم اهد دوسا» ثم قال لطفيل: ارجع إلى قومك فادعهم إلى الله تعالى وارفق بهم. فرجع إليهم، واستمر بأرضهم يدعوهم إلى الإسلام، حتى استجابوا أو أكثرهم. بعد هذا جئت إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بوفد، فنزلت المدينة المنورة بسبعين أو ثمانين فى وقت توزيع الغنائم من خيبر، فأسهم لهم مع المسلمين.

قدوم رسول ملوك حمير

ولقد حسن إسلام الطفيل وقوى إيمانه، وإن الابتداء يدل على قوة الانتهاء، فقد ابتدأ طالبا للحق مع الموانع والسدود التى وضعتها قريش فى سبيل إيمانه فاجتازها، ووصل الإيمان إلى قلبه، وكان الداعية فى قومه، حتى هداهم إلى سداد. وإن قصة إيمان ذلك الرجل تدل على قوة نفسه وعقله وخلقه، وأن المنع لم يجعله يمتنع بل جعله يبحث ويفكر، فإذا كانوا قد زينوا إليه ألا يسمع من النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فقد زين الإيمان فى قلبه أن يذهب وراء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى داره. وهو قد باعد التقليد عن قلبه، والتقليد هو الذى يعمى عن الحقائق، ويمنع الاتجاه إليها. قدوم رسول ملوك حمير 670- الإسلام بعد علم العرب أجمعين به صار هو يدعو لنفسه، لما اشتمل عليه من حقائق ولأنه دين الفطرة، ولم تعد الحوائل تحول بينه وبين الناس، فصار الناس يدخلون فيه طواعية من غير أى نوع من أنواع الإكراه أو التقليد، أو الاتباع من غير علم، بل صارت الحقائق واضحة نيرة. لا يمنع نصرانى ولا يهودى من الاتباع، فاستقامت قلوبهم. ورضوا بالإسلام دينا، ولم يعد الأمراء يقفون محاجزين بين الأقوام والإيمان، وخصوصا بعد أن علموا أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، كان يبقى الأمير على إمرته ما استقام أمره، وما عدل فى قومه. ولم يرهقهم من أمرهم عسرا. وكانت الوفود تجيء إليه معلنة الإسلام. ومنهم من كان يرسل رسولا، وملوك حمير وهم يمثلون الكثرة الكاثرة فى اليمن لما رأوا الإسلام قد غلب فى كل أرض الشمال، وتراجعت أمامه جيوش الروم التى كدسوها لغزو الإسلام، واقتلاعه، واقتلاع عز العرب، فعاد جندهم ولم يلاقوا محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم بعد أن قتلت جنوده مع قلة عددهم منهم مقتلة عظيمة، وعادوا بحكمة خالد بن الوليد سالمين لم يفقدوا إلا بضعة عشر رجلا. أدرك ملوك حمير قوة الإسلام منطقا وعقلا وحقا، وأدركوا شوكة الإسلام أمام الرومان فأرسلوا رسلا إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يعلنون إسلامهم، والملوك كحارث بن عبد كلال، ونعيم بن عبد كلال والنعمان قيل ذى رعين، ومعافر وهمدان وزرعة ذويران مالك بنى مرة الرهاوى، قد أعلنوا الإسلام، ومفارقة الشرك. وقد كتب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كتابا للوفد الذى جاءه يبين فيه حقائق الدين وما يجب على الأفراد، ليعلموا به من وراءهم، وإليكم الكتاب كما رواه الواقدى:

بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد النبى إلى الحارث بن عبد كلال، ونعيم بن عبد كلال والنعمان (قيل ذى رغين) ومعافر وهمدان. أما بعد ذلكم- فإنى أحمد إليكم الله الذى لا إله إلا هو، فإنه قد وقع نبأ رسولكم منقلبا من أرض الروم. فلقينا بالمدينة فبلغ ما أرسلتم به، وخبرنا ما قبلكم، وأنبأنا بإسلامكم، وقتلكم المشركين، وأن الله تعالى قد هداكم بهداه، إن أصلحتم وأطعتم الله ورسوله، وأقمتم الصلاة، وآتيتم الزكاة، وأعطيتم من الغنائم حق الله تعالى، وسهم النبى (صلى الله تعالى عليه وسلم) ، وما كتب على المؤمنين فى الصدقة العقار عشر ما سقت العين، وما سقت السماء، وعلى ما سقى الغرب نصف العشر. وإن فى الإبل فى الأربعين ابنة لبون، وفى ثلاثين من الإبل ابن لبون ذكر، وفى خمس من الإبل شاة، وفى كل عشر من الإبل شاتان، وفى كل أربعين من البقر بقرة، وفى كل ثلاثين تبيع جذع أو جذعة، وفى كل أربعين من الغنم سائمة وحدها، شاة. وأنها فريضة الله تعالى التى فرضها على المؤمنين فى الصدقة، فمن زاد خيرا فهو خير له، ومن أدى ذلك، وأشهد على إسلامه، وظاهر المسلمين على المشركين، فإنه من المؤمنين له ما لهم، وعليه ما عليهم، وأنه من أسلم من يهودى أو نصرانى فإنه من المؤمنين له ما لهم وعليه ما عليهم. ومن كان على يهوديته أو نصرانيته، فإنه لا يرد عنها، وعليه الجزية على كل حالة ذكرا أو أنثي، حر أو عبد دينار وافر من قيمة المعافرى (ثياب وبرود منسوبة إلى معافر) أو عرضه ثيابا، فمن أدى ذلك إلى رسول الله فإن له ذمة الله وذمة رسوله، ومن منعه، فإنه عدو لله ولرسوله. أما بعد: إلى زرعة ذى يزن إذا أتاك رسلى، فأوصيكم بهم خيرا، معاذ بن جبل، ومالك بن عبادة وعقبة بن عمر، ومالك بن مرة وأصحابهم، وأن اجمعوا ما عندكم من الصدقة، والجزية، من مخالفيكم، وأبلغوها رسلي. وإن أميرهم معاذ بن جبل، فلا ينقلبن إلا راضيا. أما بعد فإن محمدا يشهد أن لا إله إلا الله، وأنه عبده ورسوله، ثم إن مالك بن مرة الرهاوى قد حدثنى أن أسلمت من أمرك حمير، وقتلت المشركين، فأبشر بخير، وآمرك بحمير خيرا ولا تحزنوا ولا تخاذلوا فإن رسول الله هو ولى غنيكم وفقيركم، وإن الصدقة لا تحل لمحمد، ولا لأهل بيته، إنما هى زكاة مزكى بها على فقراء المسلمين، وابن السبيل، وأن مالكا قد بلغ الخبر، وحفظ الغيب، وآمركم به خيرا، وإنى قد أرسلت إليكم من صالحى أهلى، وأولى دينهم وأولى علمهم فامركم بهم خيرا، فإنهم منظور إليهم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

671 - كتاب آخر لليمن:

هذا كتاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لملوك حمير، وقد كان يخص بعضهم بخطاب، إذ تعدد فيه لفظ أما بعد، مما يدل على أنه يخص بعضهم بالخطاب، وإن كان مضمونها جميعا واحدا. وفى هذا الكتاب بين الله سبحانه وتعالى فريضة الزكاة فى الزرع والثمار والسوائم، ويلاحظ أنه لم يذكر إلا زكاة الأموال الظاهرة والأموال الباطنة وهى الدراهم والدنانير، وما يتعلق بها من عروض التجارة قد بينها صلى الله تعالى عليه وسلم فقال فى كل مائتى درهم خمسة دراهم، وروى أنه قال فى كل عشرين مثقالا نصف مثقال، ولعله لم يذكر زكاة الأموال الباطنة، لأنه يذكر ما يجمعه الإمام، أو والى الصدقات، أما الأموال الباطنة، فإن أصحاب المال يؤدونها. ولعل هذا هو المسوغ به الإمام ذو النورين عثمان ولاة الصدقات، بأن يجمعوا زكاة الأموال الظاهرة، ويتركوا الأموال الباطنة، وكأنه أنابهم عنه فى أدائه، بحيث إذا ثبت أنهم لا يؤدونها أخذها منهم. ويلاحظ فى كتاب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أنه ذكر زكاة الزرع والثمار بأنها زكاة العقار، وإن كانت تؤخذ من غلاته، نصف العشر وإن سقيت بالة، والعشر إن سقيت بماء العيون أو ماء السماء وإن هذا النص يفهم أن العقار فيه زكاة، وقد كان العقار المثمر هو الأراضى الزراعية وثمار الأشجار. وذلك لأن النصاب فى الزكاة مال نام، والزرع ثمار الأرض، والشجر نماؤه الثمر. وقد كانت البيوت والدور والحوانيت تتخذ للحاجات الأصلية، فلم يكن لها ثمار بذاتها، وكذلك أدوات الصناعة. والآن قد صارت الدور لا تتخذ للإقامة فقط، بل تتخذ للاستغلال، والنماء بإجارتها فكان لا بد من زكاتها، لأنها مال نام بالفعل، ولأنها عقار، وقد ذكر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم زكاة العقار المزروع بأنه العشر إن سقى بغير آلة، وإن سقى بالة فنصف العشر، وهنا نجد القياس لا يتجه إلى أصل زكاة العقار، فهو ثابت بالنص، إنما يتجه إلى طريقة أخذ الزكاة، فتقاس الغلات بالإجارة على الزرع والثمار. ولذا نرى أن يؤخذ عشر الصافى بعد النفقات التى تنفق على المبانى والتحصيل. 671- كتاب آخر لليمن: كان الكتاب السابق فيه دعوة إلى الإقرار بالإسلام والحث عليه وما يجب عليهم من جمع الزكوات، والجزية، أى تكوين ميزانية دولة الإسلام، وهناك كتاب آخر كتبه لعمرو بن حزم عندما بعثه إلى اليمن، وهو خاص بالواجبات التى تجب على الآحاد، فهو يفقههم فى الدين ويعلمهم السنن، ويأخذ صدقاتهم، وهذا نص الكتاب وقد رواه الحافظ البيهقى.

وفد نجران

«بسم الله الرحمن الرحيم: هذا كتاب من الله ورسوله، يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود عهدا من رسول الله (صلى الله تعالى عليه وسلم) لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن، آمره بتقوى الله تعالى فى أمره كله، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وآمره أن يأخذ بالحق، كما أمره الله تعالى. وأن يبشر الناس بالخير، ويأمرهم به، ويعلم الناس القرآن ويفقههم فى الدين، وأن ينهى الناس، فلا يمس أحد القرآن إلا وهو طاهر، وأن يخبر الناس بالذى لهم، والذى عليهم، ويلين لهم فى الحق، ويشتد عليهم فى الظلم، فإن الله حرم الظلم ونهى عنه، فقال ألا لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله، وأن يبشر الناس بالجنة وبعملها، وينذر الناس بالنار وعملها، ويستألف الناس حتى يتفقهوا فى الدين، ويعلم الناس معالم الحج وسننه وفرائضه، وما أمر الله به، والحج الأكبر الجامع، والحج الأصغر، العمرة، وأن ينهى الناس أن يصلوا فى ثوب واحد صغير، إلا أن يكون واسعا ... وينهى الناس إن كان بينهم هيج أن يدعو العشائر والقبائل، وليكن دعاؤهم إلى الله وحده لا شريك له، ويأمر الناس بإسباغ الوضوء وجوههم وأيديهم إلى المرافق وأرجلهم إلى الكعبين وأن يمسحوا رؤوسهم، كما أمر الله عز وجل، وأمروا بالصلاة لوقتها وإتمام الركوع والسجود، وأن يغلس بالصبح. ثم يذكر بعد ذلك أحكام الخمس فى الغنائم، وأحكام الزكوات، ونصابها وما يؤخذ من مقاديرها أ. هـ. وفى هذا يتبين أن أولى الأمر عليهم أن يجمعوها إذا كانت ظاهرة، وعلى الناس أن يؤدوها ظاهرة وباطنة، وإن كانت الثانية الأمر فيها إلى الضمائر، والله أعلم بالسرائر. وفد نجران 672- أخذ المشركون يسلمون تباعا لما عم سلطان الوحدانية البلاد، وما أسلموا رهبا من قوة فى أكثر الأحوال، بل أسلم الأكثرون رغبا فى الإسلام، وقد زالت عنهم غشاوة الوثنية وخرجوا من التقليد للآباء إلى الاستنارة بنور الإسلام، ورأوا أن آباءهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون. هذا ما كان من المشركين، كان الإسلام يدعو لنفسه فيهم بعد أن زالت عنهم عماية الجاهلية وغشاوة الوثنية- أما اليهود والنصارى- فقد علمت أمر اليهود منهم، ومغالبتهم للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم بالخيانة والنفاق، وتأليب الناس عليه، بعد عهود أخذوها على أنفسهم، ومن كان منهم فى غير جوار النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فقد أخذ عليهم ميثاق الأمان على أن يؤدوا الجزية، كما رأينا فى كتاب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لأمراء الجنوب عندما ذكروا للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن عندهم يهودا ومجوسا، يريدون أن يبقوا معهم من غير أن يغيروا دينهم الذى ارتضوا، فأمر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يؤدوا الجزية، ولا يرد عليهم دينهم.

أما النصارى فإنهم لم يكونوا فى حرب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ولم يثيروا عليه أحدا، إلا ما كان من الروم، أما النصارى العرب، وخصوصا من كانوا فى الجنوب، فكانوا على مودة نسبية أو أقرب إلى المودة، ولذلك قال الله تعالى فى نصارى العرب الذين كانوا يوالون المسلمين: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا، وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى، ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً، وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (المائدة: 82) هذا وصف عام لوفد نجران الذى سنتحدث عنه، وهناك سبب خاص حركهم للمجيء، وهو كتاب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يدعوهم إلى الإسلام، أو دفع الجزية، أو القتال، وذلك نص كتاب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: «بسم الله الرحمن الرحيم، باسم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، أما بعد فإنى أدعوكم إلى عبادة الله، من عبادة العباد، وأدعوكم إلى ولاية الله تعالى من ولاية العباد، فإن أبيتم فالجزية، فإن أبيتم فقد آذنتكم بحرب والسلام» . أرسل الكتاب إلى أسقفهم، فلما قرأه ذعر ذعرا شديدا فبعث إلى رجل من آل همذان اسمه شرحبيل بن وداعة وكان من همذان وكان مستشار الأسقف إذا حدثت معضلة. فلما قرأ الكتاب قال الأسقف: ما رأيك يا أبا مريم، فقال: قد علمت ما وعد الله إبراهيم فى ذرية إسماعيل من النبوة، فما يؤمن بأن يكون هذا هو الرجل ليس فى النبوة رأي، لو كان من أمر الدنيا أشرت عليك فيه برأى وجهدت لك فيه، فنحاه، واستشار غيره وتعدد المستشارون، وكلهم أجاب بمثل جوابه فلما اجتمع الرأى منهم على تلك المقالة، أمر الأسقف بالناقوس فضرب، ورفعت المسوح فى الوادى، أعلاه وأسفله فاجتمع حين ضرب بالناقوس بطول الوادى مسيرة الراكب السريع يوما. وسألهم الرأى بعد أن قرأ عليهم الكتاب من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. فاجتمعوا على إرسال وفد منهم يأتيهم بخبر هذا الرجل، ولما وصلوا المدينة المنورة خلعوا ثياب السفر، ولبسوا حللا يجرونها من الحبرة، وخواتيم الذهب، ثم دخلوا على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وتصدوا له ليلا ونهارا فلم يرد عليهم، وعليهم تلك الحلل والخواتيم فذهبوا إلى عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف وكانوا يعرفونهما إذ كانا يتجران ويخرجان العير لهما فى الجاهلية. ولما التقوا بهما قالوا لهما: إن نبيكما كتب إلينا كتابا فأقبلنا مجيبين، فسلمنا عليه، فلم يرد سلامنا، وتصدينا لكلامه، فأعيانا أن يكلمنا، فما الرأى منكما، أنعود.

اتجه عثمان وابن عوف إلى على بن أبى طالب يسألانه: ما رأيك يا أبا الحسن فى هؤلاء القوم، فقال على رضى الله عنه. أرى أن يخلعوا حللهم، وخواتيمهم، ويلبسوا ثياب سفرهم، ففعل الوفد ذلك، ثم جاؤا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فسلموا عليه، فرد سلامهم. وظهر من هذا أن السبب فى أنه لم يرد سلامهم أنهم جاؤا مختالين مفاخرين وأنهم يلبسون لباسا محرمة على الرجال. وليعلمهم أنهم ليسوا داخلين على ملك فى أبهة، بل على نبى يعيش عيشة الفقراء، وأن شرفه ليس من مال وثياب، ولكن من رسالة الرحمن الرحيم، وفوق ذلك أن عدم رده يخفف من خيلائهم، ويجعلهم يعيشون كما يعيش. وبعد أن رد سلامهم بش فى وجوههم كشأنه عند لقاء الناس، ودخلوا عليه مسجده بعد العصر، وقد صلوا متجهين إلى الشرق، فأراد بعض المسلمين منعهم، ولكن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم السمح الكريم قال للمانعين: دعوهم، فصلوا مطمئنين. كان الوفد ستين راكبا منهم أربعة وعشرون من كبرائهم، فيهم ثلاثة لهم فضل رياسة أو شبه رياسة أولهم العاقب، وهو أميرهم، وذو الرأى فيهم، وصاحب مشورتهم لا يصدرون إلا عن رأيه واسمه عبد المسيح. وثانيهم: السيد، وهو ممثلهم، وصاحب رحلهم ومجتمعهم. وثالثهم: أبو حارثة بن علقمة أخو بنى بكر بن وائل أسقفهم وحبرهم، وصاحب مدراسهم وإن أبا حارثة هذا قد صار ذا شرف فيهم، ودرس كتبهم وملوك الروم من النصارى قد أعلوه فيهم، أمدوه بالمال، وجعلوا له خدما، وبنوا له الكنائس، وكرموه لما بلغهم من علمه واجتهاده، ولعل ذلك ليجعلوا نجران تحت نفوذهم مع بعدهم. وكان أبو حارثة يعظم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى جهره وغيبه، يروى أنه عندما اتجه أبو حارثة إلى الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم كان يركب بغلة، وبجواره أخ له يركب مثلها، فعثرت بغلة أبى حارثة فقال أخوه: تعس الأبعد، يريد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. فقال له أبو حارثة: تعست أنت، إنه والله النبى الأمى الذى كنا ننتظره، فقال له أخوه: فما يمنعك من اتباعه وأنت تعلم هذا. قال أبو حارثة: ما صنع بنا هؤلاء القوم (الرومان) شرفونا ومولونا وأكرمونا، وقد أبوا إلا خلافه ولو فعلت نزعوا منا كل ما ترى. فأضمر عليها أخوه واسمه كرز بن علقمة، حتى أسلم بعد ذلك.

وقد روى ابن إسحاق عن عبد الله بن عباس أنه اجتمع نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقالت الأحبار ما كان إبراهيم إلا يهوديا، وقالت النصارى ما كان إبراهيم الا نصرانيا، فأنزل الله عز وجل: يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ، وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ. ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ، فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ. ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا، وَلا نَصْرانِيًّا، وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً، وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ، وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (آل عمران: 65: 68) . وقال بعض أحبار اليهود: أتريد منا يا محمد أن نعبدك، كما تعبد النصارى عيسى بن مريم. وقال رجل من نصارى نجران: أو ذلك تريد يا محمد وإليه تدعونا. فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: معاذ الله أن أعبد غير الله، أو آمر بعبادة غير الله، ما بذلك بعثنى الله، وأمرنى، فأنزل الله عز وجل: ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ، ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ: كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ، وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ. وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً، أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (آل عمران: 79: 80) . ثم ذكرهم عليه الصلاة والسلام ما أخذ عليهم وآبائهم من الميثاق بتصديقه، وإقرارهم به على أنفسهم، فتلا قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ... إلى آخر الآيات (آل عمران: 81) وآخر سأل عن عيسى بن مريم وآخر مثله فأجيبوا بأنه رسول من عند الله وتلا عليهم ما جاء بالنسبة لعيسى عليه السلام فى سورة آل عمران من أولها إلى ثمانين آية من السورة. بعد ذلك أخذ النصارى يسألون أسئلتهم، قالوا: ما تقول فى عيسى فإنا نصارى، يسرنا إن كنت نبيا أن نعلم ما تقول فيه، فتلا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قوله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ. فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ، وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ، ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (آل عمران: 59: 61) فأبوا أن يقروا بذلك.

فلما أصبح الغد أقبل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعدما أخبرهم بالمباهلة. مشتملا على الحسن والحسين رضى الله عنهما فى خميل له، وفاطمة تمشى وراءه وله يومئذ عدة نسوة ولم يختر واحدة منهن، وكان الوفد غير الثلاثة الذين ذكرناهم كما أشرنا فى صدر كلامنا عن نجران، مع رئيسه شرحبيل لا تصدر نجران إلا عن رأيه. وعندما طلب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم المباهلة قال: «إن الوادى إذا اجتمع أعلاه وأسفله لم يصدر إلا عن رأيى، وإنى والله أرى أمرا مقبلا وأرى والله إن كان هذا الرجل ملكا، كنا أول العرب طعن فى عينه، ويرد عليه أمر لا يذهب من صدره، ولا من صدور قومه، حتى يصيبونا بجانحة. وإن كان هذا الرجل نبيا مرسلا، فلاعناه، فلا يبقى على وجه الأرض ساحرة، ولا ظفر إلا هلك، ثم ذكر رأيه فقال: إنى أرى رجلا لا يحكم شططا أبدا. لقى شرحبيل الذى لا يصدرون إلا عن رأيه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال له: «إنى رأيت خيرا من ملاعنتك، قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: وما هو؟ قال شرحبيل: أحكمك اليوم إلى الليل وليلته إلى الصباح، فمهما حكمت فينا فهو جائز. فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مستوثقا من نفاذ حكمه عليه وعلى من وراءه: لعل وراءك أحدا يثرب عليكم. فقال: صاحبى (صاحبان له كانا فى مجلس القول) قالا: ما يريد الوادى ولا يصدر إلا عن رأيه. حكم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فكان الحكم هو هذا الكتاب الذى أعطاهم إياه. «بسم الله الرحمن الرحيم: هذا ما كتبه محمد النبى (صلى الله تعالى عليه وسلم) لنجران، إن كان عليهم حكمه، فى كل ثمرة، وفى كل صفراء وبيضاء وسوداء، ورقيق، فأفضل عليهم، وترك ذلك كله، على ألفى حلة، فى كل رجب ألف حلة. وفى كل صفر ألف حلة، وكل حلة أوقية ما زادت على الخراج أو نقصت على الأواقى فبحساب، وما قضوا على دروع أو خيل أو ركاب أو عرض أخذ منهم ليحاسبه.. وعلى نجران مثواه رسلى بها عشرين فدونه، ولا يحبس رسول فوق شهر، وعليهم عارية ثلاثين درعا، وثلاثين فرسا، وثلاثين بعيرا، وإذا كان كبير باليمن وما هلك مما أعاروا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من دروع أو خيل أو ركاب، فهو ضمان على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، حتى يؤديها عليهم. ولنجران جوار الله تعالى وذمة محمد النبى (صلى الله تعالى عليه وسلم) وملتهم وأرضهم وأموالهم وغائبهم وشاهدهم، وعشيرتهم وتبعهم، ألا يغيروا مما كانوا عليه، ولا يغير حق من حقوقهم ولا

ملتهم، ولا يغير أسقف من أسقفيته، ولا راهب من رهبانيته.. وكل ما تحت أيديهم من مال، وليس عليهم ريبة، ولا دم جاهلية، ولا يحشرون، ولا يعشرون، ولا يطأ أرضهم جيش، ومن سأل منهم حقا فبينهم النصف غير ظالمين ولا مظلومين، ومن أكل ربا من ذى قبل فذمتى منه بريئة، ولا يؤخذ رجل منهم يظلم آخر ... وعلى ما فى هذه الصحيفة جوار الله، وذمة محمد النبى رسول الله، حتى يأتى الله بأمره ما نصحوا وأصلحوا فيما عليهم غير مثقلين بحرب» . وقد شهد هذه الوثيقة من حضر مجلس النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، منهم أبو سفيان بن حرب وغيلان بن عمرو، ومالك بن عوف، والأقرع بن حابس الحنظلى، والمغيرة بن شعبة. هذا كتاب ذمة إذا بقوا على نصرانيتهم، أما إذا اختاروا أو بعضهم الإسلام دينا فإنه من يختار الإسلام يأخذ حكم المسلمين، ولا يكون ثمة فرق بينه وبين المسلمين. وإن من أساقفة نجران ورهبانهم من دخل فى الإسلام معترفا بأنه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم المنتظر من أولاد إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام له ذلك. ومن الرهبان من مال إلى الإسلام، وأراد الذهاب إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وذهب إليه وأهداه بردا، وكانت رغبته فى الحضور للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يرى كيف ينزل الوحى. وأن يعلم الفرائض والحدود والسنن، ومع ذلك أبى الإسلام، واستأذن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن يرجع إلى قومه. وقال إن لى حاجة ومعادا إن شاء الله تعالى، ولكنه لم يرجع حتى قبض النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ويظهر أن ذلك كان فى السنة العاشرة. هذا وإن السيد، والعاقب، وأبا الحارث الذين ذكرناهم فى أول البحث فى وفد نجران، قد مكثوا عند النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يستمعون إليه ويتعرفون حاله، وهم غير وفد شرحبيل، وكأنه وفد من نجران وفدان لتعدد أقاليم نجران، وكنائسهم، واختلاف أساقفهم. ومهما يكن فإن وفد أبى الحارث الذى فيه السيد والعاقب قد غادر المدينة المنورة ومعهما كتاب من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم هذا نصه: «بسم الله الرحمن الرحيم من محمد النبى إلى الأسقف أبى الحارث، وأساقفة نجران، وكهنتهم ورهبانهم، وأهل بيتهم، ورقيقهم وملتهم، وعلى كل ما تحت أيديهم من قليل وكثير جوار الله ورسوله، لا يغير أسقف من أسقفيته، ولا راهب من رهبانيته، ولا كاهن من كهانته، ولا يغير حق من حقوقهم، ولا

ما يدل عليه أمر هذا الوفد

سلطانهم، ولا مما كانوا عليه على ذلك جوار الله ورسوله، أبدا ما نصحوا وأصلحوا عليه غير منقلبين بظالم ولا ظالمين» . فهذا كتاب آخر، وفيه عقد الذمة. ما يدل عليه أمر هذا الوفد 673- كان لنجران وفدان، كما رأيت، وكان ذلك لأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم دعاهم إلى الإسلام، أو العهد (عهد الذمة) على أن لهم ما للمسلمين، وعليهم ما عليهم، أو أن يقاتلوا، فجاؤا إليه فى وفدين، وكتب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كتاب عهد لكل وفد منهما. ولعل السبب فى مجيء وفدين، اختلاف الكنائس، وإن لم يكن ثمة اختلاف فى المذهب، وإن كان فإنه لا يكون مفرقا بينهم فتعددوا. وإن هذا الوفد وغيره سواء تعددوا أم لم يتعددوا يدل على أن الإسلام أخذ ينشر نفسه بدعوته من غير حرب، وما كان للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يحارب قوما اعتزلوا حربه وألقوا إليه السلم، فما كان القتال، كما يبدو من أخباره، لأجل خلاف الدين، إنما كان لحماية الدعوة لتصل إلى الشعوب، فلا يحاجز بينهم وبينها أمراء أو ملوك، أو أحبار ورهبان، بل تكون وجوههم لله تعالى، يختارون فى الأديان ما يرونه حقا، ولأنه، لا بد أن يسمع الناس دعوة الحق (الدعوة الإسلامية) من غير إرهاق أمير، أو إغراء زعيم دينى أو غير دينى. ولقد كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يرحب بهذه الوفود، ويبش لهم إلا أن يجد فيهم أمرا من شأنه أن يكون مفرقا بين الجماعات. بحيث يحنق الفقير، ويرمض قلبه، فلم يبش فيمن يدخلون عليه بزينة من الحرير محلى بالذهب، كما كان يخرج قارون على القوم بزينته. ولحسن لقاء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان يستقبلهم فى المسجد وإن فعل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يدل على جواز أن يدخل الكتابى المسجد، وإنى لا أرى بأسا فى أن يدخل غير الكتابى لأجل سماع العلم الإسلامى، وعقد المعاهدات كما كان يفعل عمر. وإن دخولهم المسجد حسن، إذ يرون المسلمين يؤدون الصلوات ويقومون بالفرائض، ويحيطون بالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم إحاطة الدائرة بقطرها. إن ذلك من شأنه أن يؤثر فى نفوسهم فيستجيبوا لداعى الحق.

الإذعان والإيمان:

الإذعان والإيمان: 674- هنا مسألة يثيرها ابن القيم حول وفد نجران، فقد كان منهم من يعلن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بأنه النبى المبشر به فى التوراة والإنجيل، ولكنه لا يستجيب لداعى الإسلام بالانقياد والإذعان والرضا بحكم القرآن الكريم وإعلان الطاعة، ويقول إن ذلك الإذعان لخوف أن يقتله النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. فيقرر ابن القيم أن ذلك لا يعد قد دخل فى الإسلام أو وصف الإيمان، لأن الإيمان ليس هو مجرد المعرفة، بل الإيمان معرفة وتصديق، وإذعان، فإذا لم تكن هذه الأوصاف مجتمعة لا يكون ثمة إيمان. لأن الانقياد والإذعان غير قائمين. وإن ذلك كلام حق، لأنه لا بد أن يدخل فى ولاء المسلمين، وينضم إلى جماعته، وتكون ولايته للمؤمنين ولله كما قال تعالى: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا. ونرى الإذعان قسمان: إذعان قلبى، ويكتفى به إذا كان ما يمنع من إظهاره خوف إتلافه كخوف من عدو قاهر، أو إخفائه لكى يجذب الناس إلى ما اعتنق من دين بتشكيكهم فيما يعتقدون من باطل، وقد أجاز النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك لبعض وفد ثقيف، فإن الإيمان الحقيقى قائم فى معناه وهؤلاء يؤدون الفرائض، ويكتفى منهم بذلك ولا يطلب خوفا من الإذعان العلنى، فالتصديق قائم والإذعان قائم. والقسم الثانى: يوجد فيه معرفة كمعرفة بعض المشركين، وأثر هذه المعرفة تصديق لسانى يظهرونه كأولئك الذين قالوا لمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم نعرف أنك النبى، ولكن لا نسلم، لأننا نخشى أن يقتلك اليهود، فأولئك وإن عرفوا لا يؤمنون، بل يكفرون. قدوم وفد بنى سعد بن بكر 675- هذا الوفد كان رجلا واحدا جاء مسلما معلنا إسلامه عندما علم بأمر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ودعوته، وانتشرت الدعوة، وصار لكلمة الله السلطان، وتجاوبت بها الركبان، فجاء يستوثق من الأمر من صاحب الدعوة الحق، ولقد قال ابن إسحاق بسنده: بعثت بنو بكر، ضمام بن ثعلبة وافدا على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وقدم على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فأناخ بعيره على باب المسجد وعقله ثم دخل وهو لا يعرف شخص محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال فى جفوة من لا يعرف: أيكم ابن عبد المطلب؟ قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أنا ابن عبد المطلب، وكانت المجاوبة على الوجه الآتى:

قال ضمام: إنى سائلك ومغلظ عليك المساءلة، فلا تجدن فى نفسك. فقال النبى الرفيق: لا أجد فى نفسى، فسل عما بدا لك. فقال ضمام: أنشدك بالله إلهك، وإله أهلك، وإله من كان قبلك، وإله من هو كائن بعدك، آلله بعثك إلينا رسولا؟ قال: اللهم نعم. قال ضمام: فأنشدك بالله إلهك وإله أهلك وإله من كان قبلك، وإله من هو كائن بعدك، آلله أمرك أن نعبده لا نشرك به شيئا، وأن نخلع هذه الأنداد التى كان آباؤنا يعبدونها. فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: اللهم نعم. ثم جعل يذكر فرائض الإسلام فريضة فريضة، فذكر فريضة الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، فى كلها ينشده عند كل فريضة، بالصيغة التى ذكرها. حتى إذا فرغ منها، قال: «فإنى أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وسأؤدى هذه الفرائض، وأجتنب ما نهيتنى عنه، لا أزيد ولا أنقص» . ثم انصرف عائدا إلى بعيره. وقد أثنى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خيرا. عاد إلى قومه مؤمنا داعيا شاهدا بالحق، وفاجأهم بأن أعلن كفره بالأصنام. وقال: بئست اللات والعزى. فخشى عليه قومه من أن يصاب بسوء لزعمهم فى الأصنام. فقالوا: مشفقين. مه يا ضمام اتق البرص والجذام، إذ يزعمون أن من سبها يصاب بذلك، وثبت ذلك الزعم فى أوهامهم. فقال لهم: «إنهما ما يضران ولا ينفعان، إن الله تعالى قد بعث رسولا وأنزل عليه كتابا استنقذكم به مما كنتم فيه، وإنى أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، وإنى قد جئتكم من عنده، بما أمركم به، وما نهاكم عنه. استجاب قومه لداعى الإيمان، ويقول ابن إسحاق: ما أمسى فى اليوم فى حاضره رجل ولا امرأة إلا مسلما، فما سمعنا بوافد قوم أفضل من ضمام بن ثعلبة. والقصة رويت بهذا السياق فى الصحيحين. فهى ثابتة، وهى تدل على مدى انتشار الإسلام فى ربوع البلاد العربية ومدى الاستعداد لدعوة التوحيد، ولدين الفطرة، فما كانت الوثنية مع معرفتهم بالله إلا غشاوة أزالتها الحقيقة النيرة الناصعة، فكانوا مسلمين موحدين.

وفد تجيب

وفد تجيب 676- قلنا إن البلاد العربية قد دخلها الإسلام عندما أعلنت للجميع حقائقه، وعرفوا خصائصه، وزالت غشاوة الوثنية عن نفوسهم، إذ العرب فى جاهليتهم كانوا أقرب إلى التوحيد من غيرهم لأنهم يعرفون الله تعالى وفيهم بقية ملة أبيهم إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. كان وفد تجيب خير وفد جاء إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، كما ذكر ذلك عليه الصلاة والسلام، فقد جاء مسلما منفذا لأوامر الإسلام، مجتنبا نواهيه. جاء بالصدقات، بما فضل من فقرائهم، ولقد قال فيهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم «إن الهدى بيد الله فمن أراد الله به خيرا شرح صدره للإسلام» ، وقال أبو بكر صديق هذه الأمة. يا رسول الله، ما وفد من العرب بمثل ما وفد به هذا الحى من تجيب. أخذوا يسألون النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عن القرآن الكريم وعن السنن، ويسألونه عن أحكام تفصيلية فكتب لهم بها. ولم يطيلوا الإقامة، فقيل لهم: ما يعجلكم؟ قالوا: نرجع إلى من وراءنا فنخبرهم برؤيتنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وكلامنا إياه. وما رد به علينا. ولقد أمر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يحسن ضيافتهم. ولما هموا بالسفر ذهبوا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ليودعوه فأرسل بلالا ليعطيهم جوائز من مال الرسول صلي الله تعالي عليه وسلم من خمس خمسه من الغنائم، فقد جعله عليه الصلاة والسلام للدعوة، وما كانت هذه الجوائز من قبيل اعطاء المؤلفة قلوبهم، فأولئك قد جاؤا مؤلفين للإسلام من تلقاء أنفسهم، إنما هذه الجوائز أعطيت رمزا لمحبة رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم ومرضاته. وبعد أن أعطي الجوائز لهم واحدا واحدا، قال الرسول صلي الله تعالي عليه وسلم «ألم يبق منكم أحد؟» قالوا: غلام خلفناه علي ركابنا. جاء الغلام إلي رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إني امرؤ من الرهط الذين أتوك آنفا، فقضيت حوائجهم، فاقض حاجتي يا رسول الله، قال عليه الصلاة والسلام: وما حاجتك؟ قال الغلام: حاجتي ليست كحاجة أصحابي وإن كانوا قد قدموا راغبين في الإسلام، وساقوا ما ساقوا من صدقاتهم، وإنى والله ما أعجلني من بلادي إلا أن تسأل الله عز وجل أن يغفر لي ويرحمني، وأن يجعل

وفد بنى سعد من قضاعة

غناى في قلبي، فأقبل رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم علي الغلام، وقال: «اللهم اغفر له وارحمه واجعل غناه في قلبه» . ثم أمر له بمثل ما أمر به لرجل من أصحابه. انطلق الوفد، وكان مؤلفا من ثلاثة عشر رجلا راجعا إلى قومه. ثم وافوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بمنى سنة عشر، ويظهر أن ذلك كان فى حجة الوداع، بل من المؤكد ذلك، لأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لم يدخل منى بعد عمرة الجعرانة إلا فى حجة الوداع، حيث تمت رسالته، ونزل قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ، وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً (المائدة: 3) . عندما التقى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بوفد تجيب فى منى سألهم عن الغلام القنوع الذى دعا له النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يكون غناه فى قلبه، فقالوا: يا رسول الله ما رأينا مثله قط، وما حدثنا بأقنع منه بما رزقه الله تعالى. لو أن الناس اقتسموا الدنيا ما نظر نحوها، ولا التفت إليها، عاش ذلك الغلام إلى أن انتقل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، ورجع من رجع من أهل اليمن، فقام فى قومه، فذكرهم الله والإسلام فلم يرجع منهم أحد. وفد بنى سعد من قضاعة 677- كان العرب قسمين- أحدهما- دخل فى الدين راضيا مختارا، وهذا هو البناء الأول للجماعة الإسلامية، ومن دخلوا فى دين الله تعالى من البلاد العربية قاصيها ودانيها، وقسم رأى محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم قد أخضع المعاندين والجاحدين لأن يستمعوا ومن وراءهم لدين الحق. فما كان لغير القسمين إلا أن يختار مطمئنا راضيا إلا أن يتقدم إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم طالبا منه المعرفة. وهذا ما رواه الواقدى بسند عن كبير وفد بنى سعد من قضاعة، فقد قال: «قدمت على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وافدا فى نفر من قومي، وقد أوطأ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم البلاد وأداخ العرب، والناس صنفان. إما داخل فى الإسلام راغب فيه، وإما خائف من السيف، فنزلنا ناحية من المدينة، ثم خرجنا نؤم المسجد حتى انتهينا إلى بابه» . ونقف هنا وقفة قصيرة عند كلمة كبير هذا الوفد، وهى كلمة العرب، فإننا نرى أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ما أداخ العرب ولكن أداخ الجاحدين المعاندين الذين رفعوا عليه السلاح وآذوه، فهم

وفد فزارة

الذين أداخهم، لتذهب الفتنة، ويكون الدين لله تعالى، وقد يكون من العرب الذين ينتظرون من دخل فى الإسلام بعد أن زالت المحاجزات بانتصار النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ومن الأعراب من دخل فى دين القوى، وهؤلاء هم الذين قال الله تعالى فيهم: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا، قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ (الحجرات: 14) . دخل الوفد مسجد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فوجدوه يصلى على جنازة، فقاموا فى ناحية من المسجد، ولم يشتركوا فى صلاة الجنازة. التقوا برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فسألهم: أمسلمون أنتم، قالوا: نعم، قال فهلا صليتم على أخيكم، فقالوا يا رسول الله ظننا أن ذلك لا يجوز لنا حتى نبايعك فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، أينما أسلمتم فأنتم مسلمون، يشير بذلك إلى أن الدخول فى الإسلام لا يحتاج إلى مبايعة، وأن الإسلام قد تم، وأنتم فى مكانكم شهدتم أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله. بايعوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على الإسلام، على أن يقوموا بحقه، فيطيعوا أوامره ويجتنبوا نواهيه، ثم انصرفوا إلى رحالهم وقد خلفوا عليها أصغرهم. وقد طلبهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ليتقدم هذا الذى تركوه على رحلهم، فبايعه على الإسلام كما بايعهم، وقال أصغر القوم خادمهم، وكأنه أقره وأقرهم على خدمته لهم، وقيامه على رحلهم، ولقد كان ذلك الصغير أقرأهم للقرآن الكريم، فكان يؤمهم، وذلك لأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم دعا له بالبركة، ولما اعتزموا الانصراف أمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لهم بجوائز، فأعطى كل رجل أواقى من فضة، وإن ذلك بلا ريب من خمس الخمس المخصص للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم وآله، فكان ينفقه فى سبيل الدعوة الإسلامية. وفد فزارة 678- جاء فى كتاب الاكتفاء أنه قدم على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعد رجوعه من تبوك وفد بنى فزارة وهو مؤلف من بضعة عشر رجلا منهم الحسن بن قيس ابن أخى عيينة ابن حصن وهو أصغرهم؛ جاؤا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مقرين بالإسلام، وكانوا فى شدة فكانوا على ركاب عجاف، سألهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن بلادهم، فشكوا إليه حالهم. وقالوا: أسنتت (أى أصابتنا شدة) بلادنا، وهلكت مواشينا، وأجدب جنابنا؛ وغرث (جاع) عيالنا؛ فادع لنا ربك يغيثنا، واشفع لنا إلى ربك، وليشفع لنا ربك إليك، فرأى فيهم صلى الله تعالى عليه

وفد بهراء

وسلم جهلا بربهم فقال هاديا مرشدا لمن خاطبه بهذا: ويلك هذا إنما شفعت إلى ربى عز وجل؛ فمن الذى ربنا يشفع إليه؛ لا إله إلا هو العظيم، وسع كرسيه السموات والأرض، فهى تئط من عظمته وجلاله، كما يئط الرحل من الحديد. رق رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لحالهم، ودعا ربه مستسقيا، وصعد المنبر، ورفع يديه بالدعاء، وكان لا يرفع يديه فى الدعاء إلا فى الاستسقاء. ومما جاء فى دعائه عليه الصلاة والسلام: «اللهم اسق بلادك وبهائمك، وانشر رحمتك، وأحى بلادك الميتة، اللهم أغثنا مغيثا مريحا مريعا واسعا عاجلا غير آجل، نافعا غير ضار، اللهم سقيا رحمة، لا سقيا عذاب، ولا هدم، ولا غرق، ولا حرق، اللهم اسقنا الغيث وانصرنا على الأعداء» ، بهذا الدعاء الضارع إلى الله من أحب خلق الله تعالى إليه أدرت السماء غيثا لا عيث فيه، ونال بنى فزارة ما أزال شدتهم. وفد بهراء 679- قدم وفد بهراء من اليمن، كما ذكر الواقدى، وكانوا ثلاثة عشر رجلا فأقبلوا يقودون رواحلهم حتى انتهوا إلى باب المقداد بن الأسود وكان قد أعد طعاما لأولاده جفنة حيس (ثريد) فقدمه لهم وبارك الله تعالى فيه، فأكل منه الوفد، وبقى لأولاد المقداد ما كفاهم، وكأنه لم ينقص منه شيء، وقد بقى بعد أكل آل المقداد مقدار أرسلوه إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى قصعة صغيرة، وكان فى بيت أم سلمة، فأكل منه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ثم رد ما بقى، فأكل منه الوفد، وهكذا استمر الوفد يأكل منه مدة إقامته ببركة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. وكانت هذه أمرا خارقا للعادة، ثبت إسلامهم، وقد جاؤا مسلمين، وبايعهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على الإسلام، وجعلوا يقولون: نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. وتعلموا الفرائض، واستحافظوا بعض القرآن الكريم، وأقاموا أياما، ثم ودعوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد أجازهم، كشأن كل وفد يجيء إليه، وذلك من خمس الخمس الذى أفاء الله تعالى به عليه. ونرى أن هذه الوفود جاءت إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بعد أن وصلتهم الدعوة وأسلموا، فجاؤا ليستوثقو الإسلامهم، ولينالوا بركة السماء.

قدوم وفد عذرة

قدوم وفد عذرة 680- فى صفر سنة تسع قدم اثنا عشر رجلا هم وفد قبيلة عذرة، ولهم بقصى جد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم صلة، لأنه كان أخاهم من أمه. ولذلك لما سأل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: من القوم؟ قال متكلمهم من لا تنكره، نحن بنو عذرة إخوة قصى لأمه، نحن الذين عضدوا قصيا، وأزاحوا من بطن مكة المكرمة خزاعة وبنى بكر، ولنا قرابات وأرحام. قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أهلا بكم، ورحبا ما أعرفنى بكم، فأسلموا وقد بشرهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ونهاهم عن بعض أوهام الجاهلية، بشرهم بفتح الشام، وفرار هرقل حيث امتنع فى ممتنع من بلاده، وقد حدث ذلك فقد خلصت الشام من قبضة هرقل بعد واقعة اليرموك التى قال فيها وقد علا نشزا من الأرض: سلام عليك يا سوريا، سلام لا لقاء بعده، ونهاهم عن سؤال الكهنة، فان الله وحده هو الذى اختص بعلم الغيب، ونهاهم عن الذبائح التى كانوا يذبحونها تقربا لله فى زعمهم، وأخبرهم أنه ليس عليهم إلا الأضحية قربانا لله، وما عداها طعام يطعمونه. وفد بلى 681- قدم هذا الوفد فى ربيع الأول من سنة تسع، فأنزلهم رويفع بن ثابت البلوى عنده، ولم يذكر عدد هذا الوفد، ولكن يظهر أنه لم يكن عددا كبيرا، يضيق بضيافته رويفع بن ثابت، وقد قدم بهم على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وقال له: هؤلاء قومى، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: مرحبا بك وبقومك وقد أسلموا، فقال لهم الرسول عليه الصلاة والسلام: «الحمد لله الذى هداكم للإسلام، فكل من مات على غير الإسلام فهو فى النار» . وكان فى الوفد رجل مضياف، هو شيخه، وهو أبو الضبيب فسأل الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم عن الضيافة فقال: يا رسول الله إنى رجل لى رغبة فى الضيافة فهل لى فى ذلك أجر، قال عليه الصلاة والسلام: نعم، وكل معروف صنعته إلى غنى أو فقير فهو صدقة، قال: يا رسول الله ما وقت الضيافة. قال: ثلاثة أيام، فما كان بعد ذلك فهو صدقة، ولا يصح للضيف أن يقيم عندك فيحرجك، ثم سأل فى أمر آخر، وهو ما يضل من الشاء أو البعير، فقال: يا رسول الله، رأيت الضالة من الغنم أجدها فى الفلاة من الأرض؟ قال: هى لك أو لأخيك أو للذئب، قال فالبعير، قال: مالك وله، دعه حتى يجده صاحبه.

وقد انتقلوا بعد ذلك إلى منزل من استضافهم وهو رويفع بن ثابت البلوي، فكان الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم يأتى هذا المنزل يحمل تمرا، ويقول: «استعن بهذا التمر» وكانوا يأكلون منه ومن غيره. وإن كلام النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مع هذا الوفد اشتمل على أدب كريم من آداب الاسلام، وعلى حكم شرعى، يتعلق باللقطة، ومن الحق علينا أن نشير إلى أمرين. لقد قال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فيما يروى عنه «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» وإن من مكارم الأخلاق الضيافة، وإنها فى ذاتها ترابط إنسانى، وتعاون ومحبة بين الناس، وهى ضرورة اجتماعية فى البوادى وما يشبه البوادى، فالرجل يسير فى البادية قد ينبتّ به الطريق، فلا يجد مأوى يأوى إليه، إلا أن تكون ضيافة كريم، ولذلك تكون فضيلة الضيافة ضرورة إنسانية فى البادية، ثم تخف ضرورتها كلما ابتعدت عن البادية، فهى فى القرى شبه ضرورة، وهى فى الحواضر حيث تتوافر الحاجات من طعام ومنام تكون معروفا، أو مروءة. وهى تأخذ الحكم الشرعى على حسب هذه الأحوال، فهى واجبة إذا كان الإنسان لا يجد له مأوى، وقريب من الواجب إذا كان لا يجد المأوى إلا بعسر، وهى معروف يوجد ألفة ومحبة إذا كان يجد. هذا ما يكون شرعا بالنسبة للمضيف، أما الضيف فإن عليه ألا يطيل الإقامة، بحيث يحرج رب البيت بل إنه لا يقبل المبيت إذا كان فيه حرج لرب البيت، ولم تكن ثمة ضرورة ملجئة، ولا حاجة تدفعه. وفى حديث اتفقت عليه الصحاح أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره ويعطه جائزة، قالوا وما جائزة يا رسول الله؟ قال يوم وليلة، والضيافة ثلاثة أيام، فما كان وراء ذلك فهو صدقة، ولا يحل له أن يثوى عنده حتى يحرجه» . وفى خبر هذا الوفد أنه سأله صلى الله تعالى عليه وسلم أحدهم عن الضالة من الغنم، وعن البعير، فقال عن البعير مالك وله، دعه حتى يجده صاحبه، فلا يأخذه، لأنه إذا غاب عن صاحبه طلبه، وبحث عنه، ولأن البعير يقوم بذاته أمدا طويلا، ولأنه إن أخذه غيبة عن صاحبه، فلا يهتدى إليه، إذ يطلبه. وعن الشاة الضالة التى يجدها الرجل فى الصحراء، حيث لا مرعى وحيث لا مأوي، قال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: هى لك أو لأخيك أو للذئب، وهذا النص يفيد أنها حلال له، وهو نص فيه حكمته. ذلك أن الشاة وجدت فى الصحراء، حيث يصعب التعريف، وفرض أن لها صاحبها يمكن أن يعثر عليها بالتعريف بعيد، لأنه لا يوجد من يعرف بها، إذ هى فلاة، وفرض أنها تخلفت من قافلة مضت هو الأقرب.

وفد ذى مرة

وفى هذه الحال يكون إن تركها، ربما يجدها غيره، فيذبحها ويأكلها، وذلك يكون احتمالا، وربما لا يجدها أحد فتموت جوعا، أو يلتهمها الذئب. وإنه بعد هذا الترديد يكون الأولى أن يذبحها ويأكلها. لاحتمال الضياع ولا تجوز إضاعة المال. وهذا الفرض يفرض أن الشاة فى فلاة غير ممكن معرفة صاحبها، فإن كانت قريبة من خباء أو من نبع ماء، يجيء إليه الناس، ويمكن تعرفهم، فإنه فى هذه الحال يكون التعريف واجبا. وفى الحق إن الواجد للشاة الضالة فى الصحراء تكون حاله مترددة بين أمرين: أولهما: أن يكون كالملتقط الذى يذهب فى الصحراء يبحث عن بعض النباتات المتخلفة فيها، ويجرى التقاطها، لأنه لا مالك لها، وبين أن تكون الشاة لقطة وجدها، ولها صاحب غير معروف، ولا يمكن معرفته فالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم حكم بأنها تأخذ حكم الالتقاط، لأنها إن تركت أكلها الذئب. والفقهاء يفرضون أنه قد يعلم مالكها من بعد، فقرروا أنه إن وجد أعطاه قيمتها. وفد ذى مرة 682- كان العرب يجيئون إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مسلمين، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم يتعرفهم، ويتعرف أحوالهم، وقد جاء وفد ذى مرة وهو مؤلف من ثلاثة عشر رجلا على رأسهم الحارث بن عوف، وقد ذكروا أنهم ينتمون إلى نسب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله إنا قومك وعشيرتك نحن بنو لؤى بن غالب، فتبسم رسول الله صلى الله عليه تعالى عليه وسلم. وسأله عن أهله. وفى أى مكان تركهم، ثم سأله عن أحوال البلاد لأنهم بإسلامهم صاروا رعيته. فقال الحارث إنهم (لمسنتون) (أى فى شدة وقل) ما فى المال مخ، فادع الله لنا، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. «اللهم اسقهم الغيث» . أقاموا أياما، ولما أرادوا الانصراف إلى بلادهم جاؤا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مودعين له، فأمر بلالا فأجازهم، فأعطى كل واحد عشر أواق من فضة. وجعل للحارث اثنتى عشرة ورجعوا إلى بلادهم فوجدوها مطيرة، فسألوا متى أمطرت، فتبين أن ذلك المطر الذى أغاثهم أنزله الله تعالى وقت دعاء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.

وفد خولان

وفد خولان 683- هذا وفد خولان، وفد قوم آمنوا بالله ورسوله، وقد قدموا على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وعددهم نحو عشرة، قدموا فى شهر شعبان سنة عشر. وقال قائلهم لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «يا رسول الله، نحن على من وراءنا من قومنا، ونحن مؤمنون بالله عز وجل، ومصدقون برسوله، وقد ضربنا إليك آباط الإبل، وقد ركبنا حزون الأرض وسهولها، والمنة لله ورسوله علينا، وقد جئنا زائرين. فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أما ما ذكرتم من مسيرتكم إلى، فإن لكم بكل خطوة خطاها بعير أحدكم حسنة، وأما قولكم زائرين، فانه من زارنى بالمدينة كان بجوارى يوم القيامة» ، ولقد كان لهم صنم كانوا يسمونه عم أنس، وكانوا مفتونين به، يسندون إليه بأوهامهم خوارق للعادات، أو نعما يجريها الله تعالي، فيحسبونها له وذلك لفرط ضلالهم، وفتنتهم به. فلما أعلنوا إيمانهم وتبين للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم صدق إيمانهم، ويقينهم الحق سألهم عما صنعوا فى صنمهم، ومن يؤمن منهم به فهل لهم من بقية. قال لهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ما فعل عم أنس. قالوا: أبشر بدلنا الله تعالى به ما جئت به، وقد بقيت منا بقايا من شيخ كبير وعجوز كبيرة متمسكون به.. ولو قدمنا عليه لهدمناه إن شاء الله تعالى. فقد كنا منه فى غرور وفتنة. يتقصى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبارهم، ويتعرف ما كانوا عليه، قبل هذا اليقين. سألهم رسول الله: ما أعظم ما رأيتم من فتنته. قال متكلمهم: لقد أسنتنا (أى أصابتنا سنة شديدة) ، حتى أكلنا الرمة فجمعنا ما قدر عليه، وابتعنا مائة ثور ونحرناها- لعم أنس قربانا- فى غداة واحدة، وتركناها للسباع، ونحن أحوج إليها من السباع فجاءنا الغيث من ساعتنا، ولقد رأينا العشب يوارى الرجال ويقول قائلنا: أنعم علينا عم أنس. وإن هذه المصادفة الغريبة قد فتنتهم، فاعتقدوا أن الصنم هو الذى أغاثهم، وهو لا ينفع ولا يضر، وكثيرا ما تجيء الأمور مصادفة فيحسبها الواهمون أثرا للالتجاء لحجر أو لشخص، أو لكاهن، أو لتعويذة

وفد محارب

ساحر، وإن ذلك فتنة، ولعل هذه المصادفات كانت من أسباب عبادة الأصنام التى لا تملك من الأمر شيئا وكان ما ينتجونه يجعلون نصفه لهذا الصنم قربانا، ونصفه لله، وما يجعلونه لله، يعطون لصنمهم منه شيئا، ولا يعطون مما لصنمهم شيئا لله تعالى، وذلك كله فيما يحسبونه للقربات. وقد ذكر متكلم الوفد ذلك لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من أنهم كانوا يقسمون لصنمهم هذا من أنعامهم وحروثهم، وأنهم كانوا يجعلون ذلك جزآ له وجزآ لله فى زعمهم، قالوا كنا نزرع الزرع، فنجعل له وسطه (أى أحسنه) فنسميه له، ونسمى زرعا آخر حجرا لله تعالى، فإذا مالت الريح، فالذى سميناها لله جعلناه لعم أنس، ولم نجعله لله تعالى، فذكر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله أنزل فى كتابه عملهم مستنكرا، فقال تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً، فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا، فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ، وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ، ساءَ ما يَحْكُمُونَ (الأنعام: 136) . وهكذا كانت الأوهام مسيطرة عليهم تلك السيطرة، وقد اقتلعتها عقيدة الوحدانية اقتلاعا من نفوسهم، وكانت دعوة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وما اقترن بها ظاهرة لهذه الأوهام مبينة ما فيها من زيف وباطل، وتبين الرشد من الغى والله يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم. وقد أوصى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بوصايا كريمة، أوصاهم بالوفاء بالعهد، وأداء الأمانة وحسن الجوار لمن جاوروا وألا يظلموا أحدا وقال عليه الصلاة والسلام: «إن الظلم ظلمات يوم القيامة» . وسألوه عن فرائض الدين وأحكامه فعلمهم إياها. ثم غادروه بعد أيام، وأجازهم العطايا، ولما رجعوا إلى قومهم لم يحلوا عقدة رحالهم حتى هدموا عم أنس صنمهم. وفد محارب 684- أخذ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل فى السنتين الآخريين من مقامه بمكة المكرمة قبل الهجرة وذلك فى موسم الحج، بعد أن علم أنه لن يؤمن من قريش إلا من قد آمن، فكان أشد القبائل غلظة فى الرد وعنفا فى اللقاء قبيلة محارب، ردوا دعوة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى التوحيد ردا فظا غليظا منكرا. وذلك لغلظ قلوبهم، ولذلك كانوا من آخر القبائل إيمانا، فلم يجيء وفدهم إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مؤمنا إلا فى السنة العاشرة عام حجة الوداع.

ولقد كان عدد الوفد عشرة جاؤا نائبين عمن وراءهم وقد أعلنوا إسلامهم، وإسلام قومهم. ولقد نزلوا فى ضيافة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فكان بلال يأتيهم بالغداء والعشاء، حتى التقوا برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم معلنين إسلامهم وإسلام قومهم. وقد جاء معهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يوما من الظهر إلى العصر. وكان فيهم رجل أخذ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بالنظر فيه، وأدامه فيه. فقال المحاربى: كأنك يا رسول الله توهمتنى. فقال النبى عليه الصلاة والسلام: لقد رأيتك. وكأنه آلى أنه كان منه شيء. قال المحاربى: إى والله لقد رأيتنى وكلمتنى وكلمتك بأقبح الكلام ورددتك بأقبح الرد، بعكاظ وأنت تطوف على القبائل. فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: نعم. قال المحاربى: ما كان فى أصحابى أشد عليك يومئذ ولا أبعد عن الإسلام منى. فأحمد الله الذى أبقانى حتى صدقت بك، ولقد مات أولئك النفر الذين كانوا معى على دينهم. فقال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: إن هذه القلوب بيد الله عز وجل. قال المحاربى: يا رسول الله استغفر لى من مراجعتى إياك. قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن الإسلام يجب ما كان قبله من كفر. ثم انصرفوا من بعد ذلك عائدين إلى أهلهم. وقد نرى فى هذا الوفد ولقاء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ظاهرتين واضحتين: إحداهما: أن الله تعالى قد يخرج من القلوب القاسية قلوبا مذعنة طيبة. الثانية: ضلال العقول وسيرها فى الشر، فإذا قذف الله تعالى فيها بنور الحق اهتدت وآمنت وسبحان مقلب القلوب. وإنك ترى سماحة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ورفقه، وإتيانه القلوب من حيث إقبالها.

وفد صداء

وفد صداء 685- جاء هذا الوفد مكونا من نحو 100 من أهل صداء باليمن. ويرجع أمر هذا الوفد إلى سنة ثمان من الهجرة عندما اعتمر النبي صلي الله تعالي عليه وسلم عمرة الجعرانة، فإنه أرسل إلي صداء باليمن جيشاً مكونا من نحو أربعمائة مقاتل بقيادة قيس بن سعد بن عبادة. فقدم علي رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم رجل منهم قد علم بأمر الجيش ويظهر أنه كان يعلم من قومه أنهم يميلون إلى الإسلام خصوصا بعد أن فتح الله تعالي على نبيه الكريم صلى الله تعالي عليه وسلم مكة المكرمة. فجاء رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وقال: يا رسول الله جئتك وافدا علي من ورائى فاردد الجيش، وأنا آتى لك بقومى. فرد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الجيش. وقد ذهب الرجل الصدائي واسمه زياد بن الحارث، كما ذكر الواقدى فى تاريخه إلي قومه فأتي منهم بوفد عدده خمسة عشر رجلا، وقد قال سعد ابن عبادة. دعهم يا رسول الله ينزلوا علي فنزلوا عنده، فحياهم وأكرمهم، وكساهم، ثم ذهب بهم إلي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فبايعوه على الإسلام، وقالوا: نحن لك علي من وراءنا من قومنا. رجعوا إلي قومهم ففشا فيهم الإسلام، وقد توافرت أسباب فشوه، فهو حق في ذاته، ولا غرابة فى أن يفشو دين الفطرة، بين قوم أرادوا الحق إذ لم يعاندوا، أو يفرضوا خصومة، ولأنه قد تم فتح مكة المكرمة التي كانت تناوئ النبي صلي الله تعالى عليه وسلم، وتبالغ فى مناوأته، ولأن السلطان في البلاد العربية صار للإسلام وما لعربي أن ينأي بجانبه عن دين ساد البلاد العربية إلا لأنه رأي أن في غيره ما هو خير منه، والإسلام خير الأديان، وهو الحق الباقي. فشا الإسلام في صداء، ويظهر أنه كانت لهم صلة بالخزرج بدليل ضيافة سعد بن عبادة. ولذلك جاء من بعد ذلك مائة رجل منهم وافدين علي الرسول صلي الله تعالى عليه وسلم فى حجة الوداع، ويظهر أنه الوفد الذي جاء في النهاية مسلما. وعلى ذلك نقول، إنه جاء إلي النبي صلي الله تعالى عليه وسلم من صداء ثلاثة وفود. أولها: زياد بن الحارث الذى جاء إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وطلب إليه أن يرد الجيش، وقد قال له رسول الله صلي الله تعالى عليه وسلم. يا أخا صداء إنك مطاع في قومك. فقال له: بلي. منّ من الله عز وجل ومن رسوله.

وثانيها: الوفد الذى حضر مع زياد وعدده خمسة عشر رجلا، قد استضافهم سعد بن عبادة، وأولئك بايعوا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم على الإسلام، وأن ينشروه فى قومهم. وثالثها: وفد الجماعة الذين جاؤا إلي النبي صلي الله تعالي عليه وسلم والتقوا به فى حجة الوداع، حيث يودع رسول الله أمته، وقد أودعها أمانته، وحملها رسالته. ولقد صحب زياد بن الحارث الصدائى رسول الله صلي الله عليه وسلم فى بعض غدواته وروحاته، ورأي من الخوارق الحسية والمادية التى جرت على يديه ما زاده إيمانا. ويروى أن الرسول صلي الله تعالي عليه وسلم سأل زيادا في سيره في الصحراء: أمعك ماء يا أخا صداء؟ قال معي شئ في إداوة، قال عليه الصلاة والسلام هاته. فجاء به. ويقول زياد: صببت ما في الإداوة. فجعل أصحابه يتلاحقون ثم وضع كفه علي الإناء، فرأيت بين كل أصبعين من أصابعه عينا تفور، ثم توضأ رسول الله صلى الله تعالي عليه وسلم، وأذن للصلاة، أذن لها زياد وأقامها؛ وأراد بلال أن يقيمها، فقال النبى صلي الله تعالي عليه وسلم: من أذن للصلاة يقيمها. ولقد سأل زياد بن الحارث أن يوليه عليه الصلاة والسلام إمرة قومه فولاه، لأنه وجده كفئا لذلك إذ كان مطاعا في قومه، كما وصفه النبي صلي الله تعالي عليه وسلم، ولأنه كان داعية الإسلام فيهم فكان من الخير للإسلام ولهم أن يتولي هو ولايتهم، ولأنه لم يرد الولاية لذاتها، ليكون له سيطرة وسلطان، بل أراد الإمرة علي قومه لغاية رأى النبي صلى الله تعالي عليه وسلم تحققها، وذلك جائز، ولا يعارض قول النبي صلى الله تعالى عليه وسلم «وإنا لن نولي علي عملنا من أراده» ، لأن نص الحديث يمنع الولاية ممن أرادها للسلطان والسيطرة لا للعمل، وإقامة الحق. ولكن زيادا لم يستبق الولاية، بل استقالها وأعطي النبي صلي الله تعالي عليه وسلم كتابي الإمارة، وولاية الصدقات. وذلك لأن سائلا شكا إلي النبى صلي الله تعالي عليه وسلم أن واليه طغي عليهم، ويقول إن عاملنا أخذنا بذحول الجاهلية أو بثاراتها، ويفهم من القصة أنه عزله، وقال: لا خير في الإمارة لرجل مسلم. سأل رجل النبي صلي الله تعالي عليه وسلم أن يعطيه من الصدقة فقال عليه الصلاة والسلام «إن الله لم يكلها إلي ملك مقرب، ولا لنبي مرسل حتي جزأها ثمانية أجزاء، فإن كنت جزآ منها أعطيتكها، وإن كنت غنيا، فإنما هي صداع في الرأس وداء في القلب» . فهم زياد بن الحارث من هذا أن الولاية لا تأتي بخير للمسلم، بل هى ابتلاء له، فاستقال منهما، وقال للنبي صلي الله تعالي عليه وسلم: «يا رسول الله هذان كتابان (كتاب الإمارة، وولاية الصدقات)

قدوم وفد سلامان

فاقبلهما، فسأله الرسول صلي الله تعالي عليه وسلم عن السبب، فقال: إني سمعتك تقول: «لا خير فى الإمارة لرجل مسلم» ، وأنا مسلم، وسمعتك تقول من سأل الصدقة وهو غني عنها، فإنما هي صداع في الرأس، وداء فى القلب، وأنا غنى. أقاله الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، ولكن سأله أن يدله علي رجل منهم فدله عليه. وهكذا نري أن ذلك الوفد كسب من النبي صلي الله تعالي عليه وسلم إيمانا وعلما والله تعالى الهادي. قدوم وفد سلامان 686- هذا وقد جاء من الصحراء وفد سلامان يعلن إسلامه، ويشكو حاله، وكان مؤلفا من سبعة رجال فيهم حبيب بن عمرو، وقد أسلموا، وأعلنوا إسلامهم. وقد أخذوا يسألون النبي صلى الله تعالي عليه وسلم عن الإسلام، وعن حقائقه. وكان من أسئلتهم: ما أفضل الأعمال؟ فقال صلي الله تعالي عليه وسلم- الصلاة فى وقتها- وكانت أفضل الأعمال لأنها تهذب النفس باستمرار إذا أديت فى أوقاتها، فهي تزيل صدأ القلب كلما اشتد في الظهيرة، وإذا أزالته وابتدأ يتراكم في الأصيل كانت صلاة العصر، فإذا تراكم جاءت صلاة العشي حتي ينام طاهرا مطهرا، فإذا جاء الصباح استقبل اليوم في طهارة ونقاء، وعامل الناس بالطهر. وقد صلي مع النبى صلي الله تعالى عليه وسلم صلاة الظهر والعصر، فكانت صلاة العصر أخف من صلاة الظهر، وقد استأنسوا بالنبي صلي الله تعالي عليه وسلم، فشكوا إليه جدب بلادهم، فقال عليه الصلاة والسلام: «اللهم اسقهم الغيث في دارهم» ، فقال عمرو، لاستئناسه بالرسول صلي الله تعالي عليه وسلم ورفقه: «يا رسول الله ارفع يديك، فإنه أكثر وأطيب» فتبسم عليه الصلاة والسلام، ورفع يديه، حتي بدا بياض إبطيه ... أقاموا ثلاثة فى ضيافة النبي صلي الله تعالى عليه وسلم، ثم عادوا إلى ديارهم، وقد أعطاهم عليه الصلاة والسلام جوائز، كانت جائزة كل واحد خمس أواقي فضة. واعتذر بلال عن قلة ما أعطي، وقال: ليس عندنا اليوم مال. فقالوا راضين قانعين: ما أكثر هذا وأطيبه.

وفد غامد

لما عادوا إلى بلادهم وجدوها قد أمطرت، وتحروا فرأوا أن ذلك المطر جاءهم في الوقت الذي دعا النبى صلي الله تعالى عليه وسلم. وكان مجئ ذلك الوفد في صفر من السنة العاشرة. وفد غامد 687- جاء هذا الوفد مسلما فى السنة العاشرة، وعددهم عشرة وعندما أقبلوا نزلوا ببقيع الغرقد وانفصلوا منه لمقابلة رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم، وتركوا أحدثهم على ركابهم ليحرسها، وقد قابلوا الرسول صلي الله تعالى عليه وسلم، وعلمهم شرائع الإسلام، وكتب لهم كتابا فيه هذه الشرائع، أي موجزها، كما جاء في خطبة الوداع، فليس تفصيلها. ولكن فيه جملتها خصوصا ما يكون هدما لأمر جاهلى ألفوه، وكانوا له متبعين. وحدث أن حارسهم الذي هو أحدثهم قد نام عن حراسته، فسرقت عيبة فيها ثياب أحدهم، وفر سارقها، وعندما التقوا بالنبي صلى الله تعالي عليه وسلم أخبرهم بسرقتها، قال لهم: من خلفتم في رحالكم؟ قالوا أحدثنا سنا، قال قد نام عن متاعكم حتي أتي آت فأخذ عيبة أحدكم فقال رجل منهم: يا رسول الله، ما لأحد من القوم عيبة غيرى. فقال الرسول صلي الله تعالي عليه وسلم، فقد أخذت وردت إلي موضعها. خرج القوم وعادوا سراعا إلي متاعهم، فوجدوا صاحبهم فسألوه عما أخبرهم به رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم. قال فزعت من نومي ففقدت العيبة فقمت فى طلبها، فإذا رجل قد كان قاعدا، فلما رآني صار يعدو، فعدوت وراءه وانتهيت إلى حيث انتهي، فإذا أثر حفر وإذا هو يخرج العيبة فاستخرجها، فقالوا نشهد أنه رسول الله. عادوا إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وأخبروه أن الأمر كما أخبر عليه الصلاة والسلام، وجاء الغلام وأسلم وعهد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، إلي أبى بن كعب فعلمهم بعض ما تيسر من القرآن الكريم، بعد أن كتب لهم كتابا بجملة الإسلام وحقائقه. وقد أجازهم صلوات الله وسلامه عليه، كما كان يجيز غيرهم.

وفد الأزد

وفد الأزد 688- ذكر خبر الوفد أبو نعيم فى كتابه معرفة الصحابة بسنده وأبو الحافظ بسنده، وقالوا إنه قدم هذا الوفد على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مؤمنا، فدخلوا عليه، فأعجب رسول الله صلى الله تعالي عليه وسلم سمتهم وزيهم، فقال: من أنتم؟ قالوا قوم مؤمنون فتبسم عليه الصلاة والسلام، فقال: إن لكل قول حقيقة فما حقيقة قولكم وإيمانكم؟. قالوا خمس عشرة خصلة خمس منها جاء بها رسلك بأن نؤمن بها، وخمس أمرتنا أن نعمل بها، وخمس تخلقنا بها في الجاهلية. قال عليه الصلاة والسلام: فما الخمس التي أمرتكم بها رسلي أن تؤمنوا بها؟ قالوا أمرتنا أن نؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وأن نؤمن بالقدر خيره وشره، قال عليه الصلاة والسلام ما الخمس التى أمرتكم أن تعملوا بها؟ قالوا قد أمرتنا؟ أن نقول. لا إله إلا الله، ونقيم الصلاة، ونؤتي الزكاة، ونصوم رمضان، ونحج البيت الحرام لمن استطاع إليه سبيلا، فقال عليه الصلاة والسلام وما الخمس التي تخلقتم بها في الجاهلية؟ فقالوا، الشكر عند الرخاء، والصبر عند البلاء، والرضا بالقضاء، والصدق في مواطن اللقاء، وترك الشماتة بالأعداء. فقال رسول الله صلي الله تعالى عليه وسلم: «حكماء علماء، كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء» وإني أزيدكم فتتم لكم عشرون خصلة إن كنتم كما تقولون، لا تجمعوا ما لا تأكلون، ولا تبنوا ما لا تسكنون، ولا تنافسوا فى شئ أنتم عنه غدا تزولون، واتقوا الله الذي إليه ترجعون، وعليه تعرضون، وارغبوا فيما عليه تقدمون وفيه تخالدون» . هذا وفد مؤمن حكيم، قد انصرفوا بعد أن أخذوا وصايا النبي صلي الله تعالي عليه وسلم، وعملوا بها، وتعهدوا بالأخذ بأحكام الإسلام، وبما به أمر، وما عنه نهي وأقاموا الخلق الكريم، والمعروف الذي تؤيده الأخلاق. قدوم وائل بن حجر 689- قال ابن عبد البر: إن وائل بن ربيعة كان أحد أقيال حضر موت وقد وفد إلي النبى صلى الله تعالي عليه وسلم عند قدومه، وبشر قبل مقدمه فقد قال عليه الصلاة والسلام قبل مقدمه. يأتيكم بقية أبناء الملوك، فلما دخل عليه رحب به، وأدناه من نفسه، وقرب مجلسه وبسط له رداءه، وقد جاء إليه

مسلما معلنا إسلام من وراءه من أتباعه فى اليمن، ورأي فيه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم خيرا، فدعا له بخير، وقال فى دعائه: «اللهم بارك في وائل وولده، وولد ولده» . وعلي طريقة النبي صلي الله تعالي عليه وسلم جعله واليا على الأقيال من حضر موت، وكتب كتبا بهذه الولاية، وكما يقول الحافظ ابن كثير، منها كتاب إلي المهاجر بن أمية، وكتاب إلي الأقيال والعباهلة. ولقد أقطعه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أرضا من أرض الجنوب وهو إقطاع منفعة، لا إقطاع ملك، علي مال يقدمه لبيت المال. وذلك لأن هذه أراض نائية عن أراضى المدينة المنورة، فلا يمكن أن يشرف عليها الإمام بالمدينة المنورة بنفسه، فيعطيها من يديرها، علي خرج يقدمه، كأجرة لها، أو يكون من بعضها. ولما انصرف من حضرة النبي صلي الله تعالى عليه وسلم أرسل معه معاوية بن أبى سفيان، وسارا فى هذه الشقة البعيدة وهو راكب، ومعاوية راجل، فشكا معاوية حر الرمضاء، فقال في شكواه. انتعل ظل الناقة (أي لا ظل لها يستظل بها) ويغني عني ذلك، لو جعلتنى ردفا. فقال وائل: اسكت، فلست من أرداف الملوك. ولعل النبي صلي الله تعالى عليه وسلم أرسله مع ذلك القيل العنيف، ليري معاوية إذلال الملوك لمن معهم، فيكون رفيقا عندما يحول الخلافة إلي ملك عضوض، ويسير سير الملوك. ومن العبر أن وائلا هذا عاش حتي آل الأمر إلي معاوية، وجعله ملكا عضوضا، يعض عليه بالنواجذ، يروى أن وائلا قدم علي معاوية، وهو علي هذه الحال، فعرفه معاوية وقربه وذكره بالرحلة التي كانت لهما، ثم عرض عليه جائزة سنية، فأبى أن يأخذها، وقال: أعطها لمن هو أحوج إليها مني. وإن ذلك الرد عندي أعنف من رده عندما طلب أن يردفه، لأن مؤدي هذا الرد، أنك تعطي لتقرب وتدني، وتسكت الألسنة، ولتعالى اسمك بين الناس، والأولى بالعطاء المحتاج، وإن ذلك شأن الذين يبنون حكمهم علي شراء الألسنة، وإدناء ذوي السلطان، وعدم الالتفات إلي بر المحتاجين والضعفاء والمساكين يجعلون عطاياهم اتجارا، وصدقاتهم افتخارا.

وفد النخع

وفد النخع 690- هذا آخر الوفود التي قدمت على النبى صلي الله تعالي عليه وسلم، قدموا عليه فى مائتي رجل وقد نزلوا فى دار الضيافة، وقد جاؤا مقرين بالإسلام، وكانوا قد بايعوا قبل ذلك معاذ بن جبل رضي الله تعالي عنه عندما ذهب إلي اليمن داعيا إلى الإسلام. وجاؤا إلى النبي صلي الله تعالي عليه وسلم نائبين عن أقوامهم معلنين الطاعة مقرين خاضعين موالين مناصرين غير خارجين عن طاعة، مع بعد الديار. وحادثوا النبي صلي الله تعالي عليه وسلم وأفضوا إليه بذات نفوسهم، وكان فيهم رجل يقال له زرارة بن عمرو، وكان رجلا مجلو النفس، قويا في دينه قد رأي رؤيا فأراد أن يذكرها للنبى صلى الله تعالي عليه وسلم ليتأول هذه الرؤيا. قال: رأيت في سفري عجبا، وقص علي النبي صلي الله تعالي عليه وسلم رؤياه، وجاء فيما قص من الرؤيا أن قال: رأيت النعمان بن المنذر عليه قرطان مدملجان، وسكتان، قال عليه الصلاة والسلام «ذلك ملك العرب، رجع إلى أحسن زيه وبهجته» . ورأيت يا رسول الله: عجوزا شمطاء قد خرجت من الأرض. قال عليه الصلاة والسلام: تلك بقية الدنيا. ورأيت يا رسول الله نارا خرجت من الأرض فحالت بينى وبين ابن لي يقال له عمرو، وهي تقول لظي لظي، بصير وأعمي، أطعموني أهلكم وأموالكم. قال عليه الصلاة والسلام: تلك فتنة تكون في آخر الزمان. قال: يا رسول الله، وما الفتنة؟ قال يقتل إمامهم. ويشتجرون اشتجار أطباق الأرض- وخالف رسول الله صلي الله عليه وسلم بين أصابعه- يحسب المسئ فيها أنه محسن، ويكون دم المؤمن عند المؤمن أحلي من شرب الماء إن مت أنت أدركها ابنك. قال: ادع لي يا رسول الله ألا أدركها، فدعا له رسول الله صلى الله تعالي عليه وسلم، وأدركها ابنه، وكان ممن اشترك فى خلع ذي النورين عثمان. هذا ما جاء في كتاب زاد المعاد في هدي خير العباد لابن القيم، ولم يذكر له سندا، كما لم يذكر كتابا من كتب الصحاح أخذ عنه ذلك الخبر.

ولذلك نكل إليه أمر هذه الرواية. ومهما يكن من صحة ما جاء بالنسبة للرؤيا وتأويلها، فإنه مما لا شك فيه أنه جاء وفد النخع إلي النبي صلي الله تعالي عليه وسلم، وأعلنوا إسلامهم وإسلام من وراءهم، وأنهم قد علموا الإسلام، وأن معاذ بن جبل علمهم أمور دينهم، وحفظهم بعض القرآن الكريم، فجاؤا إليه مؤمنين. وإن إرسال معاذ بن جبل إليهم معلما للإسلام، ومحفظا للقرآن الكريم، يشير إلى أن النبي صلي الله تعالى عليه وسلم. ما كان يرسل سرايا للحروب فقط، بل كان (خصوصا بعد الحديبية) يرسل سرايا لتعليم الإسلام، ولمجرد الدعوة، ولكنهم كانوا مقاتلين، لا يحملون السيف إلا إذا امتنعوا عن الإسلام والعهد، والله سبحانه وتعالي حامي دينه، وحامي دعوته لمن أرادها.

المغزى فى هذه الوفود

المغزى فى هذه الوفود 691- إننا ذكرنا عددا من الوفود، ولكن لم نحصها عددا، فقد كانت أكثر من ذلك، والنبي صلي الله تعالي عليه وسلم قد مكث في المدينة المنورة يستقبل الناس لتعليمهم الإسلام سواء في ذلك من يجيئون زرافات فى وفود عن غيرهم، ومن يجيئون يريدون معرفة الحقائق الإسلامية، والآحاد الذين يجيئون من قبائل مختلفة أفرادا أو غير أفراد. مكث صلي الله تعالي عليه وسلم في المدينة المنورة لذلك، ويرسل السرايا داعية إلي الإسلام. ويلاحظ في هذه أمور ثلاثة: أولها: أن أكثر هذه الوفود كان من جنوب اليمن وحضر موت، وما يدانيها من نجران والقبائل العربية التى لم تشترك في مناوأة النبي صلي الله تعالي عليه وسلم ممالأة لقريش، أو متحزبين معهم، أو يرون مثل رأيهم فى عبادة الأوثان، أو يرونه، ولكن لا يتشددون، فلم تكن فيهم ممانعه نفسية من اتباع الآباء والأجداد الذين يقولون بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا، أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (البقرة) ولا تقف محاجزة من إمرة أو رياسة تحول بينهم وبين الدخول في الإسلام، وخصوصا بعد أن سن النبي صلي الله تعالى عليه وسلم سنة إبقاء الأمير علي إمارته، إن دخل الإسلام مؤمنا وكان عدلا يرضي أهل إمارته حكمه، ولا يشكون منه شيئا، فإن هذه السنة جعلت الرؤساء والأمراء لا يفرضون في الدعوة المحمدية خصما يناوأ، ويحارب، وذلك لأن الذاتية يكون لها دخل فى تحريك النفوس، ولم يكن أمرهم ككفار قريش فى أول الدعوة المحمدية، إذ فرضوا من أول الأمر أن الاستجابة تذهب بزعامتهم ورياستهم، فكانت الذاتية أو الأثرة محركة لخصومتهم. ثانيها: أن الوفود كانت تجئ إلي النبي صلي الله تعالى عليه وسلم معلنة إسلامها وطالبة تعليم الفرائض وليشاهدوا النبي صلي الله تعالي عليه وسلم، وليقتبسوا من نور الحضرة النبوية فى مجالسه عليه الصلاة والسلام، وإن ساعة في حضرة رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم تغني عن علم كثير بل إنها هادية ملهمة كما أشار إلي ذلك الإمام أبو حنيفة رضي الله تبارك وتعالي عنه. إنهم إذ يعلنون إسلامهم ويخبرون عمن وراءهم بأنهم ارتضوا الإسلام دينا ومحمدا صلي الله عليه وسلم رسولا، من غير عوجاء ولا لوجاء، وإن كان فيهم من تلكأ أو تردد. فإن كثرة المسلمين فيهم كافية لأن تجعل هؤلاء المترددين يتبعون ولا يخرجون.

ويلاحظ أن بلاد الجنوب كان للنصرانية واليهودية مكان فيها، وخصوصا النصرانية، وفيهم مجوس، فكان رفق الإسلام بهؤلاء وعقد المعاهدات بينهم على أن يكون لهم ما للمسلمين وعليهم ما علي المسلمين، مقربا لهم، وكانوا أهل علم بالديانات، ومنهم من أسلم بناء على ما عندهم من الكتب التي تبشر بمحمد صلي الله تعالي عليه وسلم، فيكون إسلامهم شهادة بصدق الدعوة المحمدية، فوق أنها تشتمل فى ثناياها على ما يدل علي كمال صدقها إذ هي التوحيد ومكارم الأخلاق، وحسن المعاملات وتوثيق العلاقات الإنسانية بين الناس أجمعين لا فرق بين عربي وأعجمي، ولا قبيلة وقبيلة. الأمر الثالث: أن هذه الوفود جاءت تتري وفدا بعد آخر في السنة التاسعة والعاشرة أي بعد فتح مكة المكرمة، وتخاذل الرومان عن لقاء الجيش الإسلامي وقد ذهب إليهم في دارهم أي عند الشام، وقد تخلت عن نصرتهم القبائل العربية، فلم يفعلوا ما فعلوه فى مؤتة، إذ كان منهم جيش كثيف يبلغ مائة ألف أو يزيدون. وبذلك أخذ النفوذ الروماني ينحسر عن العرب، ويذهب ظله كما كان الأمر بالنسبة لفارس. وإن ذلك من شأنه أن ينظر إلى الدين الجديد علي أنه الغالب، المزيل للوثنية، والمحيي للعزة العربية. فهو الذي يجعل العربي يحس بعزته أمام بني الأصفر من الرومان، وينفض عنه سيطرة كسري ومن وراءه وخصوصا أن الكتب التى أرسلها النبي صلي الله تعالي عليه وسلم كان يظلها النور المحمدي وقوة الحق أمام إرهاب الباطل، فأثار في ذلك نخوة عربية أمام الطغاة فى الشمال والجنوب فكان من آثار ذلك أن ألقوا بكل نفوذ عربى. وإن هذا الوفد الذى لقى النبي صلي الله تعالي عليه وسلم، وكان من أهل الجنوب الذي قال للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم إنا لا نبرم أمرا خارجيا إلا بعد استئذان كسري، فأشار إليه النبي صلي الله عليه وسلم بأنهم سيرثون ملك كسرى، فأعطوا النبي صلي الله تعالي عليه وسلم، عهدا بأن يتبعوه. ومن هذا يتبين رغبة العرب الذين امتد إليهم نفوذ الرومان والفرس فى أن يخلعوا نيرهم، ويردوا إليهم أمرهم، وقد وجدوا فى الدعوة المحمدية معينا لهم على أن يتحرروا من التبعية، وهم الأحرار الذين فضلوا الشدة في عزة، عن الأمن فى ذل. وقد رأي ذلك المتاخمون لفارس فى كلام النبي صلى الله تعالي عليه وسلم، وفى لقائه للوفود فى مكة المكرمة، أولا عند عرضه نفسه علي القبائل قبيل الهجرة، وفي المدينة المنورة. وثانيا عندما أخذ يلتقي بالوفود، من حضر موت واليمن ونجران.

وقد أدرك العزة العربية في الدعوة المحمدية أولئك الذين يتاخمون الزومان عندما التقي بهم في مؤتة، ولكنهم لما أدركوا أن العزة في الأخوة المحمدية لم يعاونوهم في تبوك، فلم يريدوا لقاء جيش الإسلام بعد أن أعدوا العدة، وعينوا المدة، فكان ذلك إشارة للعربي الحر، (وكلهم أحرار) إلي موطن عزته، ومكان رفعته. لذلك أخذ الإسلام يدخل في الصدور، وقد فتحت له الأبواب، فى القبائل المتاخمة للرومان في الشمال وفى الجنوب كله، وخصوصا ما تاخم الفرس وكان للفرس فيه نفوذ، فوجد التخلص من هذا النفوذ المذل، بالإسلام. وأن النبي صلي الله تعالي عليه وسلم لم يترك الأمر لتلك المنازع وحدها، بل كان يرسل الرسل معلمين لهم والبعوث فى السرايا، فما كان رجال السرايا كما ذكرنا إلا رجال تعليم ودعوة، ولكن لأنهم يجتازون صحراء ويلقون ناسا غلاظا شدادا، كان لا بد أن يكونوا من أهل الحرب، والعلم معا، فكانوا يحملون علم محمد صلي الله تعالي عليه وسلم، أو بالأحري بعض علمه، ويحملون مع ذلك سيفه، فهم يجاهدون بالأمرين والوقائع تعين استعمال أحدهما: وإن الرسل كثيرون، والسرايا أقل من الرسل. وقد ابتدأت الرسل إلى الملوك والأمراء، سواء في ذلك العرب وغيرهم فكتب النبي صلى الله تعالي عليه وسلم كما ذكرنا إلي قيصر الروم، وكسري الفرس، ومقوقس مصر، ونجاشي الحبشة، كما أرسلت إلى أمراء اليمن وحضرموت، ونجران، وكثيرون من أولئك أجابوا بأن طلبوا من يعلمهم الإسلام، لأنهم استجابوا له، وأبقاهم النبي صلي الله تعالى عليه وسلم علي ما تحت أيديهم، وكذلك منهم من أوفد وفودا بالمبايعة علي الإسلام. ولو وازنت بين أثر هذه الكتب في العرب، وأثرها فى غير العرب، كهرقل وكسري لوجدت أن أثرها في الأمراء العرب كان إيجابيا بالاستجابة وعدم المخالفة، وأما أثرها فى غيرهم، فإن استثنيت النجاشي الذي أسلم فإنا نجد الباقين أجابوا بالرفض فى عنف أو رفق فهو رفض في الحالين. وإن السرايا كانت كما أشرنا دعاة إلي الحق، ولنذكر خبرين يثبتان مقدار عناية النبي صلي الله تعالي عليه وسلم بالدعوة، وهما خبر إرسال معاذ بن جبل وعلي بن أبي طالب، وكلاهما كان من علماء الصحابة بالإسلام، وإذا كان معاذ قد اشتهر بالعلم وفقه الإسلام، فعلي المجاهد المحارب، اشتهر بالعلم وفقه الإسلام، حتي قيل إن النبي صلي الله تعالي عليه وسلم قال: «أنا مدينة العلم، وعلي بابها» واشتهر من بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام بالفقه والقضاء معا. حتي إن عمر رضى الله تعالى عنه فى إمارته كان إذا مسألة تعقدت قال مسألة ولا أبا حسن لها، لأنه قوي العلم والفقه والإدراك.

بعث معاذ بن جبل

وإن الإرسال تدل عباراته وما أحاط به علي أنه ما كان للقتال وإن كان علي المقاتل الأول، إنما كان للتعليم، وتفقيه الناس في دينهم الذى ارتضوه. بعث معاذ بن جبل 692- عندما بعث النبي صلى الله تعالى عليه وسلم معاذ بن جبل إلي اليمن بعث أيضا أبا موسي الأشعري، قال البخاري بسنده، بعث النبي صلى الله تعالى عليه وسلم معاذ بن جبل إلى اليمن وأبا موسي الأشعري، وبعث كل واحد علي مخلاف، واليمن مخلافان ثم قال: يسروا ولا تعسروا، وبشروا، ولا تنفروا. وانطلق كل واحد منهما إلى عمله، وكان كل واحد منهما إذا سار في أرضه وكان قريبا من صاحبه سلم عليه، فسار معاذ في أرضه قريبا من صاحبه أبى موسي فسلم، فجاء يسير علي بغلته حتي انتهي إليه، فإذا هو جالس، وقد اجتمع الناس إليه، وإذا رجل عنده قد جمعت يداه إلي عنقه، فقال معاذ يا عبد الله بن قيس أثم هذا؟ قال هذا رجل كفر بعد إسلامه فقال لا أنزل حتي يقتل، قال أبو موسي، إنما جئ به لذلك فانزل؟ قال ما أنزل حتي يقتل، فقتل. سقنا ذلك الخبر من البخاري للدلالة على أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم اختار من فقهاء صحابته لتعليم الناس في اليمن وغيره أمور دينهم، ويدعوهم إلي الإسلام. ولا بد أن يذكر فى هذا المقام أن معاذا رضي الله تعالى عنه قد بعث مزودا بمقاتلين، ليبدأ بالدعوة إلي الإسلام فإن أسلموا علمهم الإسلام، واقتصرت بعثته علي التعليم والهداية. وإن كانت الآخرى قاتل. وقد روي السرخسى في مبسوطه في السير الصغير وصية لرسول الله صلي الله تعالى عليه وسلم أوصي بها معاذا عند قدومه علي اليمن ومعه مقاتلون وهذا نص الوصية. «لا تقاتلهم حتي تدعوهم، فإن أبوا فلا تقاتلوهم حتي يبدأوكم، فإن بدأوكم فلا تقاتلوهم حتي يقتلوا منكم قتيلا، ثم أروهم ذلك القتيل، وقولوا لهم: «هل إلي خير من سبيل، فلأن يهدي الله تعالي على يديك رجلا واحدا خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت» «1» .

_ (1) مبسوط السرخسى ج 10 ص 21.

وقد أغناه الله تعالي عن القتال، فقد استجابوا، فانتقل من الحرب إلي الموعظة الحسنة التي علمه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إياها. وإذا كان قد أوصاه الله تعالى بما يجب عند الحرب، فقد أوصاه أيضا بما يجب علي المؤمن فى كل الأحوال، ولقد ذكر هو هذه الوصية عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فيما رواه الإمام أحمد رضى الله تعالي عنه فقد جاء في هذه الوصية: «لا تشرك بالله شيئا وإن قتلت وحرقت، ولا تعقن والديك، وإن أمراك أن تخرج من مالك وأهلك، ولا تتركن صلاة مكتوبة متعمدا فإن من ترك صلاة مكتوبة متعمدا، فقد برئت منه ذمة الله، ولا تشربن خمرا، فإنه رأس كل فاحشة، وإياك والمعصية فإنه بالمعصية يحل كل سخط، وإياك والفرار من الزحف، وإن هلك الناس، وإذا أصاب الناس موت وأنت فيهم فاثبت، وأنفق على عيالك من طولك، ولا ترفع عنهم عصاك أدبا وأحببهم فى الله عز وجل» . ومن وصية النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قوله له: «إياك والتنعم فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين» . وبهذه الوصايا كان يعلم الناس واجبات الدين ومكارم الأخلاق، ومما علمه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قوله: «مفتاح الجنة شهادة أن لا إله الله تعالى» . وإذا كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد ترك معاذ بن جبل بمكة المكرمة عند فتحها ليقيم فيها يعلم الناس، فقد أرسله أيضا إلي اليمن ليعلم أهله مع صاحبه أبى موسى الأشعري لتعليم الناس الإسلام. ومع هذا العمل الجليل، وهو تعليم الناس، كان رضى الله تعالي عنه يجمع الجزية دينارا من كل حالم ويقول في ذلك: «بعثني رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم إلى اليمن وأمرني أن آخذ من كل حالم دينارا وعددا من المعافرى (أى الثياب) وأمرني أن آخذ من كل أربعين بقرة مسنة، ومن كل ثلاثين بقرة تبيعا حوليا، وأمرنى فيما سقت السماء العشر، وما سقي بالدوالى نصف العشر» وذلك فى زكوات الأموال الظاهرة. ومن هذا يظهر أنه ولاه الخراج والجزية، وولاه الصدقات فكانت الولاية العامة شاملة- لكل ما يتعلق بإرادة الحكم. وقد روى الإمام أحمد فى مسنده، وإن كان لا يخرج عما اتفق عليه الأئمة أصحاب السنن، كما جاء فى الحديث السابق، وهذا نص ما جاء في رواية الإمام أحمد.

أمرني أن آخذ من كل ثلاثين تبيعا «1» ، ومن كل أربعين مسنة، ومن الستين تبيعين، ومن السبعين مسنة وتبيعا، ومن الثمانين مسنتين، ومن التسعين ثلاثة أتباع، ومن المائة مسنة وتبيعين، ومن العشر ومائة مسنتين وتبيعا، ومن العشرين ومائة ثلاث مسنات، أو أربعة أتباع. هذه رواية أحمد، وهي لا تخرج عن الرواية الأولي كما ذكرنا، وإن كانت أكثر تفصيلا، وإن الذى يهمنا فى هذه المسألة التي نترك تفصيلها لكتب الفقه علي نص الرسول صلي الله عليه وسلم في باب الزكاة بالنسبة للنعم والزرع والنقود. إن الذى يهمنا أن نذكر لماذا قصرت تعليمات النبي صلى الله تعالى عليه وسلم للزكاة على هذين الأمرين وهما زكاة الزرع وزكاة البقر، ولم يذكر لمعاذ رضي الله تعالي عنه أمرا فيما يتعلق بزكاة غير البقر من النعم وهي الغنم والإبل، ونقول: إن ذلك فيما يظهر لنا يرجع إلي أمرين: أولهما: أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أمر والي الصدقات بأن يجمع الأموال الظاهرة، وهى النعم والزروع والثمار، وترك غيرها من الأموال التي سميت في الفقه بالأموال الباطنة لدين الناس يقدمونها من غير تفتيش أو تكشف، لأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم دعا الناس إلي أن يعدوا الزكاة مغنما وألا يعدوها مغرما. الأمر الثاني: وهو الخاص بالعناية بذكر البقر دون غيرها من النعم، وقد بين عليه الصلاة والسلام زكاة غيرها من النعم في مواضع أخري، كان يذكرها لمن يرسله لجمع الزكوات من القبائل التي تسكن الصحراء، لأن السوائم فيها كان أغلبها من الغنم والإبل. أما السبب في أنه فى أمره لمعاذ بن جبل ذكر له زكاة البقر والزرع، ولم يذكرها، لأنه فيما يظهر كانت اليمن أرضا زراعية، وفيها الخصب، وقد قال الله تعالى: لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ، كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ، وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ، وَرَبٌّ غَفُورٌ (سبأ: 15) وإن البقر يكثر حيث تكثر الزراعة، وحيث تكون أرض خصبة منتجة، ولذلك ذكر النبي صلي الله تعالى عليه وسلم لمبعوثه إلي اليمن زكاة ما يكثر فى اليمن من زروع وثمار وأبقار. ويروى أن معاذا اتجر في المال الذي جمعه، لأنه باع كل ماله فى دين مستغرق كان عليه، وجاء إلى اليمن خاليا من كل عرض من أعراض الدنيا، فتجر وكسب، ولم ينقص من هذا المال شيئا.

_ (1) التبيع الذى لم يبلغ السنة ويتبع أمه، والمسنة، أو المسن بالغ سنة.

وقد كان اتجاره لأن النبي صلي الله تعالي عليه وسلم قد علم خصاصته، فأرسله إلي اليمن، وظن أن ذلك ليجبر فقره في حلال، ولم يعد إلي المدينة المنورة إلا بعد وفاة النبي صلي الله تعالي عليه وسلم، وقد صار أبو بكر خليفة رسول الله ولكنه تظنن في حل هذا المال الذي اكتسبه بالتجارة. جاء إلي عمر رضي الله عنه وقص عليه خبر هذا المال، وسأله ماذا يصنع به فقال الفاروق ادفعه إلى أبى بكر؛ فإن أعطاكه فاقبله، فقال الصحابي الجليل، لماذا أدفعه إليه، وإنما بعثني رسول الله صلي الله تعالى عليه وسلم ليجبرني. انطلق عمر به إلي أبى بكر، وطلب إليه أن يرسل إلي معاذ فخذ منه ودع له، أي فشاركه كسبه، فقال الصديق: ما كنت لأفعل إنما بعثه رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم ليجبره، فلست آخذ منه. ولكن معاذ التقي الذي اقتبس من نور الصحبة انطلق إلى أبي بكر يدفع إليه المال كله حتي السوط الذي كان يساق به فقال أبو بكر: خذه فهو لك. هذا وقد فوض النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إليه أمر قضاء اليمن، وشرح للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم كيف يقضى إذا عرض له قضاء. فقد روي عنه نحو سبعين من أهل حمص أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حين بعثه إلى اليمن قال: كيف تصنع إن عرض قضاء: قال أقضي بكتاب الله. قال عليه الصلاة والسلام، فإن لم يكن: قال فبسنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: فإن لم يكن في سنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم؟ قال أجتهد رأيي، وإني لا آلو، فضرب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم علي صدره، وقال: الحمد لله الذى وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله، صلى الله تعالى عليه وسلم. وإن ذلك الخبر كان أصلا للاجتهاد في الفقه، أخذ به من أخذوا بالقياس وعارض فيه من عارضوا القياس، وإنهم لشرذمة قليلون. وقد أثر له رأي في القضاء، وهو أنه لا يرث الكافر من المسلم، ولكن يرث المسلم من الكافر، وبهذا الرأي أخذ الإمامية من الشيعة، وعمل به معاوية، ولكن الجمهور الأعظم من الفقهاء لم يأخذ به. روي الإمام أحمد بسنده عن أبي الأسود الدؤلي قال «كان معاذ باليمن فارتفعوا إليه في يهودى مات، وترك أخا مسلما، فورث معاذ المسلم من اليهودى، وقال: «إني سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: «إن الإسلام يعلوولا يعلي عليه» وأخذ الحكم من القياس باعتبار أن الإسلام يعلو،

والميراث يكون ثمرة لهذا العلو، ولأن الكفر باطل والإسلام حق يوجب الميراث، ولا يزول الحق لأجل الباطل. ولكن الجمهور الأعظم قالوا غير ذلك، وحجتهم صريح السنة قولا وعملا، فقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم كما روي في الصحيحين: «لا يرث الكافر المسلم، ولا المسلم الكافر» . وقد ثبت عملا، فإن عقيل بن أبى طالب هو الذي ورث دور أبى طالب، ولم يرث منها جعفر، ولا علي، ولا أم هانئ ولا غيرهم من المسلمين عند وفاة أبي طالب، وقال النبى صلى الله عليه وسلم فى فتح مكة المكرمة: ما ترك عقيل من دار، ولا يرث المسلم الكافر. وخلاصة القول أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أرسل معاذا محاربا، ومعلما، وجامعا للصدقات والجزية وقاضيا في الخصومات، فكان هاديا مهديا. ويقول الحافظ ابن كثير في ولايته: كان قاضيا للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وحاكما في الحروب، ومصدقا إليه تدفع له الصدقات. وقد ذكرنا ما قاله رسول رسول الله معاذ بن جبل فى اليمن هو وصاحبه عبد الله بن قيس (أبو موسى الأشعرى) ليعرف القارئ أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان يرسل الرسل من قبله إلى الجهات النائية على أنها سرايا أحيانا، وعلى أنهم معلمون، وإن لم تذهب عنهم صفة السرايا. فالدعوة الإسلامية أو تبليغ الرسالة المحمدية هي الأصل، وهي الغاية، فإن لم تقف في سبيلها عقبات، اكتفي، وإن وقفت محاجزات الأمراء والملوك كان الجيش المؤمن مزيلا لهذه المحاجزات حتى يخلو وجه الإسلام للدعوة المحمدية دعوة الله والحق. ولقد كانت كل بعثة محمدية معها قوة، لأنه يجتاز فيافي وقفارا، والأمن غير مستتب، وقد حدث أن جاء ناس من المشركين يخادعون النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وذكروا له أن عندهم من يريد الإسلام فأرسل لهم من يعلمهم، أرسل معهم قراء، فأخذوهم، وباعوهم للمشركين، وآخرون قد قتلوهم، وقد تكرر ذلك، فكان الحذر يوجب على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ألا يرسل قراء وحدهم، بل لا بد من سرية حربية معهم، والله تعالي في عون عباده المخلصين.

بعث علي رضى الله عنه

بعث علي رضى الله عنه 693- كانت اليمن عدة أقاليم، فبعث عليه الصلاة والسلام عبد الله بن قيس (أبا موسى الأشعرى) إلى مخلاف، وبعث معاذ بن جبل إلى مثله، وكانا متجاورين، فكان كل يذهب إلى صاحبه ولذا أمرهما النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بأن يتطاوعا ولا يختلفا. وبعث على بن أبى طالب بعد خالد بن الوليد، وهما محاربان، ولكن أمرهما النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، بألا يقاتلا إلا بعد الدعوة إلى الاسلام، والامتناع عن الإجابة إلى الإسلام أو إلى العهد. ولنذكر وصية النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لعلى بن أبى طالب كما رواها السرخسى فى كتابه شرح السير الكبير للإمام محمد، وهى تشبه وصية النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لمعاذ التى أسلفناها. وهذه هى الوصية: «إذا نزلت بساحتهم، فلا تقاتلهم حتى يقاتلوك، فإن قاتلوك فلا تقاتلهم حتى يقتلوا منكم قتيلا، فإن قتلوا منكم قتيلا، فلا تقاتلهم حتى تريهم إياه، ثم تقول لهم: هل لكم إلى أن تقولوا: لا إله إلا الله، ولأن يهدى الله بك رجلا واحدا خير مما طلعت عليه الشمس وغربت» «1» . ولكن عليا رضى الله تعالى عنه، لم يقاتل، ولم يكن فى حال يعرض عليهم ما أمره النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يعرضه، لأنه جاء إلى من أرسل إليهم على من أهل اليمن قبله خالد بن الوليد ودعاهم إلى الإسلام أو القتال فأسلموا ولم يقاتلوا، وجمع منهم خالد بن الوليد فيئا وغنائم لم تخمس، فأرسل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عليا ليقسمها، أو ليخمسها كما يفهم ذلك من الروايات المتضاربة. قال البخارى بسنده «بعث النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عليا إلى خالد ليقبض الخمس» وقال أبو بريدة راوى الحديث عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم «وكنت أبغض عليا» . وإنه يبدو من السياق التاريخى أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بعث عليا ليأخذ خمس النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وذى القربى واليتامى والمساكين. وإن ذلك لم يكن وحده هو رسالة خالد، بل كانت رسالته مع ذلك الدعوة إلى الإسلام وتعليمهم، وأن يؤمهم فى الصلاة. قال البراء بن عازب فى رواية البيهقى: «كنت فيمن خرج مع خالد ابن الوليد فأقمنا ستة أشهر يدعوهم إلى الإسلام، فلم يجيبوه، ثم إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعث على بن أبى طالب. فلما دنونا من القوم خرجوا إلينا، ثم تقدم فصلى بنا فصفنا صفا واحدا، ثم تقدم بين أيدينا، وقرأ عليهم كتاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فأسلمت همدان جميعا.

_ (1) شرح السير الكبير للسرخسى الجزء الأول ص 234 طبع جامعة القاهرة ولم يطبع فيها غيره.

فكتب على إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بإسلامهم، فلما قرأ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الكتاب خرج ساجدا لله، ثم رفع رأسه وقال: السلام على همدان، السلام على همدان. ويظهر أن خالدا لم يعد إلى المدينة المنورة. بمجرد مجيء على كرم الله وجهه، بل مكث مدة، ولا نريد أن نفرض أن خالدا كان فى نفسه موجدة من إرسال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عليا، ولكن نترك الحوادث حول على تتحدث والأمور التى تدور حول على تنطق. لم يكن على رضى الله عنه وكرم الله وجهه محبوبا فى الأوساط العربية، وخصوصا الذين ينتمون إلى أقوام كانت لهم محاربة للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى بدر وأحد والخندق، ثم حنين فقد كان سيف على كرم الله وجهه فى الجنة سريعا إلى الرقاب، كما كان سيف عمه حمزة فى بدر، وقد استطاع الشرك أن يقتل أسد الله حمزة، فبقى لعلى الإحن. إن عليا جاء لأخذ الخمس الذى يوضع تحت يد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لقرابته، ولقد أخذ على ذلك الخمس، وكان فيه سبية جميلة، فأخذها على، وعاشرها بملك اليمين، فقامت لذلك ضجة، وأمر خالد فيما يظهر أن يبلغ ذلك للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم على أن عليا ملوم فيه، ولنترك الكلمة لأبى بريدة. حدث الإمام أحمد بسنده إلى أبى بريدة «قال أبو بريدة أبغضت عليا بغضا لم أبغضه أحدا، وأحببت رجلا «1» من قريش لم أحبه إلا على بغضه عليا، فبعث ذلك الرجل على خيل فصحبته ما أصحبه إلا على بغضه عليا فأصبنا سبيا، فكتب إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. ابعث إلينا من يخمسه فبعث إلينا عليا وفى السبى وصيفة من أفضل السبى، فخمس وقسم، فخرج، ورأسه يقطر فقلنا يا أبا الحسن ما هذا؟ فقال ألم تردوا إلى الوصيفة التى كانت فى السبى فإنى قسمت وخمست فصارت فى الخمس ثم صارت فى أهل بيت النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. فكتب الرجل إلى نبى الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقلت ابعثنى، فبعثنى مصدقا فجعلت أقرأ الكتاب وأقول صدق فأمسك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يدى والكتاب. فقال: أتبغض عليا، فقلت: نعم. قال: فلا تبغضه وإن كنت تحبه فازدد له حبا، فوالذى نفس محمد بيده لنصيب آل على أفضل من وصيفة، قال أبو بريدة، فما كان من الناس بعد قول النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أحد أحب إلى من على. إن هذا الخبر يدل على أن عليا رضى الله تعالى عليه كانت تتقصى هفواته ولكنه لم يفعل حراما وحسبنا أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لم يستنكر فعله، بل أيده. ويدل الخبر أيضا على بغض

_ (1) سياق الكلام بما يدل على أنه خالد بن الوليد فكلمة الرجل، تشير إليه فى كل ذكر لها.

الرجل الذى أشار إليه لعلى، وأنه كان يريد أن يصوره أمام النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى موقف الظنين. والطريق لم يكن معبدا أمام على، لأنه حيث كان البغض، فإنه يدعثر الطريق، ويصعب الوصول إلى الحق المبين الصريح، ولقد كان لنا أن نعلق على عمل على كرم الله وجهه، لولا أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أقره. ومع أن الطريق لم يكن معبدا أمامه رضى الله تعالى عليه، فإنه كان شديدا فيما يعتقد أنه الحق، لا تأخذه فيه هوادة، بل ينفذه فى صرامة، لا رفق فيها أو بالأحرى لا لين فيه. ومن ذلك أنه كان تحت يده إبل الصدقة، وقد روى البيهقى عن أبى سعيد الخدرى: «كنت فيمن خرج معه (أى على) فلما أخذ من إبل الصدقة سألناه أن نركب منها ونريح إبلنا وكنا قد رأينا فى إبلنا خللا، فأبى علينا وقال إنما لكم فيها سهم كما للمسلمين. فهو لا يريد أن يمكنهم منها قبل أن تقسم السهام وهو غير الوصيفة، فإنه جاء لتسلم خمس النبى صلى الله عليه وسلم وذوى قرابته، فبالاستيلاء، قد استولى على سهمه أما هم فهم يريدون الانتفاع بها من غير تقسيم. وذهب من ذلك على كرم الله وجهه ليلقى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى حجة الوداع واستخلف على بعض من معه على الغنائم، فسأله الناس ما منعه على كرم الله وجهه فى الجنة، فسألوه ما منعه على فأجابهم. لما حج على مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وقفل راجعا بأمر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. ورأى ما حدث فى غيبته فرأى أثر الركوب فى إبل للصدقة فجاء بحق من أنابه وقدمه ولامه على ما فعل وأعاد المنع كما بدأ. فقال أبو سعيد الخدرى رضى الله تعالى عنه: لئن قدمت المدينة المنورة لأذكرن لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما لقيناه من الغلظة والتضييق. بلغ ذلك للنبى صلى الله عليه وسلم، فقضى لعلى وأنصفه فيما فعل، وقال: لقد علمت أنه أحسن فى سبيل الله، ومنها- أنه عندما تعجل فى الحج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وخلف ذلك الرجل المتساهل، وقد أعطى ما منع على كان قد كسا الجيش كله حللا، كل رجل حلة، فلما عاد على من الحج، دنوا منه وعليهم الحلل، فلما رأى عليهم الحلل، قال ما هذا؟ قالوا كسانا فلان، فقال لمن خلفه ما دعاك إلى هذا قبل أن تقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاشتكوا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.

وننبه هنا إلى أمور ثلاثة يوجب الحق التنبيه إليها:

وفى الحق أن توقف على كان فى هذه المسألة سليما لأن هذه الحلل كانت من جزية موضوعة، فما لأحد أن يوزعها، قبل إعلان الرسول صلّى الله عليه وسلم بها. وتلقى أمره فى توزيعها. كانت الشكوى من على كرم الله وجهه قد شاعت فى الحجيج وكثر القول فيه وكل من تكلم كان مغرضا لا يروم الحق، ولعلى الحق فى كل ما فعل، ولكن البغض له خصوصا من له فى الجيوش الإسلامية مكان من قبل ومن بعد. ولقد قال فى ذلك الحافظ ابن كثير فى تاريخه: «والمقصود أن عليا كثر فيه القيل والقال من ذلك الجيش بسبب منعه إياهم استعمال إبل الصدقة، واسترجاعه منهم الحلل التى أطلقها لهم نائبه، وعلى معذور فيما فعل لكن اشتهر الكلام فيه فى الحجيج، ولما رجع النبى صلى الله عليه وسلم من حجته وتفرغ من مناسكه، ورجع إلى المدينة المنورة فمر بغدير خم، قام فى الناس خطيبا فبرأ ساحة على، ورفع من قدره، ونبه على فضله، ليزيل ما فى نفوس كثيرين» . وننبه هنا إلى أمور ثلاثة يوجب الحق التنبيه إليها: أولها: أن كلمة ابن كثير بالنسبة لعلى كرم الله وجهه «إنه معذور» لا نرى أنها فى موضعها، والأولى أن يقول أنه كان فيها محقا، ففرق كبير بين المعذور والمحق، فإن المعذور مخطيء له عذر، وأما المحق فإنه غير مخطيء، وما كان على فى أمر الحلل والرواحل إلا محقا منفذا ولو كان فى شدة. ثانيها: أن الكلام الذى قيل فى غدير خم انتهى بقول النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: «اللهم وال من والاه وعاد من عاداه» . ثالثها: أن هذا كله من بغض علىّ كبغض أبى بريدة الذى ذكرناه وبغض الرجل الذى كان يحبه أبو بريدة، وقد نالته موجدة من إرسال على كما أشرنا. وقد عاد قبل عودة على كرم الله وجهه فعمل على إشاعة القيل والقال على إمام الهدى، ولقد كانت عبارة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم توميء إلى أن الذين أشاعوا ذلك معادون لعلى مبغضون له بغض أبى بريدة أولا، ولكن الله تعالى هداه بهداية النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. وعلى رضى الله تعالى عليه جدير بأن ينفس الناس عليه فضله، فقد مكث الرجل ستة أشهر يدعوهم إلى الإسلام، فلم يستجيبوا، وبمجرد لقاء على رضى الله عنه، قد استجابوا لداعى الحق، وعلى فوق ذلك العالم الجليل والشجاع المحارب، وبطل بدر وأحد وهو الذى حمل اللواء. وعلا، ورأى المشركون أنه لا سبيل لأن يبقوا أمامه فعادوا كأنهم المهزومون وهم الذين أصابوا جراحات فى المسلمين.

تولية على قضاء اليمن:

لقد كان على فريسة المبغضين فى موطنين: أحدهما: فى جماعة على، وقد برأه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ورد كيد الكائدين وأطفأ نيران الغضب عند من ظهر غضبه. الموطن الثانى: فى خلافته وخروج البغاة عليه، وتحرك الضغائن، وفى هذه المرة لم يكن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم حيا، فلم يقف بغدير خم يقول: «اللهم وال من والاه وعاد من عاداه» . تولية على قضاء اليمن: 694- كان القضاء فى العادات العربية يتولاه أسن الرجال، وأكثرهم تجارب، ومعرفه لعادات القبائل، فكان يقضى مثل أكثم بن صيفى الذى عاش حتى بلغ نحو التسعين من عمره، لأن القضاء يحتاج إلى فضل تجربة وفضل تأثير، لتنفيذ الأحكام نفسيا، ويذعن المتخاصمون لها قلبيا ويكون له من الجلال فى وسط قومه ما يجعل قوله فصلا، يؤمنون بالعدل فيه. ولذلك لما عهد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى على أن يقضى فى اليمن فى غير الحيز الذى كان فيه معاذ بن جبل وأبو موسى الأشعرى إذ كان اختصاصه يعم اليمن كله، لما عهد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك إلى على استصغر سنه وعرض على النبى صلى الله عليه وسلم أنه حدث السن، إذ لم يكن إلا فى حدود الثانية أو الثالثة والثلاثين. روى ابن ماجة، والإمام أحمد عن على كرم الله وجهه، قال: بعثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فقلت: يا رسول الله، تبعثنى إلى قوم أسن منى، وأنا حدث لا أبصر القضاء، فوضع يده على صدرى، وقال: اللهم ثبت لسانه، واهد قلبه، يا على إذا جاءك الخصمان، فلا تقض بينهما، حتى تسمع من الآخر ما سمعت من الأول، فانك إذا فعلت ذلك تبين لك الحق. فما اختلف على على قضاء بعد. وإن هذه الدعوة النبوية قد صدقت فى على كرم الله وجهه، فقد ثبت الله تعالى لسانه، حتى كان أخطب الناس بعد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وأثبت الناس قولا بعده عليه الصلاة والسلام وكان مهديا، فما لان فى حق ولا مالا مبطلأ، وهداه فى القضاء حتى روى أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «أقضاكم على» وكان عمر كما ذكرنا يسأله إذا أعضل عليه القضاء فى مسألة من مسائله، فيقول: مسألة، ولا أبا حسن لها.

وقد رويت عنه روايات فى قضائه دالة على نفاذ بصيرته، وانفتاق عقله الذى هو قبسة من الهدى المحمدى، إذ رضع لبان هذه الهداية صغيرا، وتربى عليها، ونزح بدلو المعرفة من أعظم ينبوع لها: وقد ذكرت له مسائل فى القضاء هداه الله تعالى إليها، فقد كان يحاول الوصول إلى الحقيقة. خصوصا فى الأنساب، فلا يترك من ولدا من حلال من غير أب. تنازع اثنان فى نسب ولد، ولم يكن لأى واحد منهما دليل، وكان المنتظر أن يتهاتر الادعاآن، ولا يكون للولد نسب، فلما لم يجد سبيلا أقرع بينهما، وحكم بالنسب لمن تحكم له القرعة، وعليه أن يدفع الدية للآخر، وبهذا أنصف الرجلين ولم يهدر نسب الولد، وبهذا أخبر الإمام أحمد عن على، وقد أفرد عن غيره بهذا الرأى، وروى عن على كرم الله وجهه قضاء فى مسألة معقدة، وانتهى فيها إلى حكم، لا يزال موضع إعجاب رجال القضاء إلى اليوم. روى الإمام أحمد أن قوما كان يغير عليهم أسد، فبنوا له زبية (مكانا يتردى فيه) فتدافع الناس فسقط رجل، فتعلق به آخر، ثم تعلق بالآخر ثالث، وتعلق بالثالث رابع، وقد جرحهم جميعا الأسد وماتوا. فجاء أولياء المقتولين، وهموا بأن يقتتلوا. فقال لهم إمام الهدى بعد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، أتريدون أن تتقاتلوا ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حى، إنى أقضى بينكم قضاء إن رضيتم به، فهو القضاء، وإلا أحجز بعضكم عن بعض، حتى تأتوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ليكون هو الذى يقضى بينكم فمن عدا بعد هذا فلا حق له. كان قضاء على فى القضية، يسير على مبدأين: أحدهما أنه لا يبطل دم فى الإسلام، وذلك مبدأ مقرر روى بعبارته عن على كرم الله وجهه فى الجنة. الثانى- أن العجماء جبار، أى ما تجنى الدواب لا غرامة فيها إلا أن يكون صاحبها المتسبب فيغرم هو الدية كلها أو بعضها. ونجد أن الأول تسبب فى هلاك الثلاثة بعد، وقد تمكن السبع من الجميع بترديه أولا، ثم تعلقه بالثانى والثانى بالثالث والثالث بالرابع. وكانت الدية واجبة كاملة لهم جميعا بناء على القاعدة الأولى، ولكن ليستنزل من دية كل واحدة دية من تسبب فى قتله، وقد تسبب فى قتل ثلاثة، فيأخذ ربعا، بإسقاط ثلاثة أرباع لمن تسبب فى قتلهم، فهو السبب فى قتل ثلاثة. والثانى تسبب فى قتل اثنين، فينقص من ديته الثلثان، فيكون له الثلث، والثالث، تسبب فى قتل الرابع، فيخصم من ديته النصف، والرابع، وهو الذى سقط أخيرا لم يتسبب فى قتل أحد، فلا يخصم من

ديته شيء قط، وبذلك يكون المطلوب ديتان وسدس دية، هذا معنى قول على فى قضائه، فقد قال: «اجمعوا من قبائل الذين حفروا البئر، ربع الدية، وثلث الدية، ونصف الدية، والدية كاملة» . فللأول الربع، لأنه هلك، والثانى ثلث الدية والثالث نصف الدية، والرابع الدية، هذا قضاء على، وقد طلبت هذه الديات ممن حفروا البئر، لأنهم المتسببون ابتداء والتسبب الآخر نسبى، فى دائرة التسبب الأصلى. ولا نعلم فى هذه القضية المعقودة المتشابكة التى ترابطت فيها الأسباب، وتشابكت أعدل من هذا وإذا كان ثمة بعض الانفكاك فى المقدمات أو بتوهم ذلك، فإن قضاء على فى هذا هو أحكم القضاء. ولكن أولياء المقتولين، لم يرتضوا ذلك، وكان كل ولى يريد دية كاملة لمقتوله. وذهبوا إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وهو فى حجة الوداع، وهو عند مقام إبراهيم، فقصوا عليه القصة، فقال أنا أحكم بينكم، فقال رجل من القوم. يا رسول الله، إن عليا قضى علينا، وقصوا على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قضاء على، فأجازه رسول الله عليه الصلاة والسلام. وبعد، فهذا على كرم الله وجهه فى اليمن، كان الداعية المستجاب فى دعوته للإسلام، فامنوا لفرط تقواه، وإشراق نور الإيمان فى قلبه، فما يخرج من القلب يصل إلى القلوب وإخلاص الداعى هو الجاذبية التى تحوط المدعو. فتهديه إلى الإيمان إن لم تعتكر القلوب. وتفسد الضمائر. وهذا على الحاكم الحازم لم تأخذه فى الحق هوادة، وليس لباطل عنده إرادة وإن شكا الناس منه غلظة فلفساد قلوب تستغلط الحق، وتستطيب الباطل، وقد أنصفه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم منهم- ونعم المنصف العادل. وهذا على فى قضائه العدل الحكيم، والله ولى المؤمنين.

بعث الصديق ليكون أمير الحج

بعث الصديق ليكون أمير الحج 695- فى زحمة الوفود لم نسر فى مسار التاريخ، فلم نذكر الوقائع فى مواقيتها، ميقاتا بعد ميقات لأن الوفود لم يكن ميقات كل واحد منها محدودا بحد لا يقبل الاختلاط بغيره، ولذا ذكرناها فى مواقيتها على وجه التقريب، لا على وجه التعيين. ومهما يكن فإن غالبها ذكر فى ميقاته وفى مناسباته، ولكن الأمر الذى لم نذكره فى ميقاته، بل ذكر ما بعده- قبله، هو حجة أبى بكر التى تولى فيها إمرة الحج، وهذه أول حجة كانت بإمرة من النبى صلى الله عليه وسلم أى كانت فى ظل الإسلام، بعد أن هدمت الأوثان من فوق الكعبة الشريفة، ومن حولها، بل من حول أم القرى كلها. كان حج أبى بكر عقب غزوة تبوك التى كانت آخر غزوات النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ومن بعدها، أخذ يستقبل الوفود، ويرسل الدعاة إلى الإسلام ويقتفى آثارهم فى دعواتهم، ومقدار الاستجابة لهم، فانتهى بهذه الغزوة، عهد تأمين الدعوة فى عصر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. وتفرغ عليه الصلاة والسلام للدعوة ذاتها، وقد زالت كل المحاجزات المانعة واستمر دخول الناس فى دين الله تعالى أفواجا، وقد ابتدأ ذلك من بعد صلح الحديبية كما أشرنا إلى ذلك فى موضعه من القول. وعلى ذلك فالدعوة كان لها ثلاثة أدوار: الدور الأول دور وضع الأسس وتكون جماعة قوية فى إيمانها، وإن كان فيها ضعف فى السلطان، وقلة فى العدد، وأولئك هم الحواريون لمحمد عليه الصلاة والسلام كالحواريين لعيسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام. والدور الثانى دور الدعوة، وتذليل العقبات، وإزالة الحجزات فالدعوة لم تكن السبيل أمامها معبدة، بل كان لا بد من عمل لتعبيدها بإزالة كل العقبات التى تقف فى طريقها. الدور الثالث كان بعد أن زالت العقبات فى الجزيرة العربية وصار الدين لله تعالى وقد كانت حياة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وصحابته من المهاجرين والأنصار الذين حضروا بيعة الرضوان خالصة للدعوة، وتبيين الحقائق الإسلامية، وبذلك كان كل من يبعثهم من أهل بيعة الرضوان، وإن بعث من غيرهم أردفه بواحد من الحواريين الأولين أو أهل بيعة الرضوان، كما فعل مع خالد وعلى رضى الله عنهما بالنسبة لليمن، وقد أشرنا إلى ذلك من قبل. اتجه عليه الصلاة والسلام فى الدور الثالث إلى تطهير مكة المكرمة من أن يدخل فيها رجس الجاهلية من عبدة الأوثان. ولقد جرى حج السنة الثامنة على ما كان يجرى عليه من قبل فلم يصد عنها

مشرك، فلما آلت إمرة الحج إلى الإسلام، منع الله المشركين من أن يدخلوا المسجد الحرام فى السنة التاسعة، ونزل قوله تعالى فى سورة براءة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ، فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا، وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ، إِنْ شاءَ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ التوبة. يقول ابن إسحاق إنه بعد تبوك التى انتهت فى رمضان قضى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بقية رمضان وشوالا وذا القعدة ثم بعث أبا بكر أميرا على الحج سنة تسع، ليقيم للمسلمين حجهم، والناس من أهل الشرك على منازلهم من حجهم، لم يصدوا بعد عن البيت ومنهم من له عهد مؤقت إلى أمد. كان هناك إذن عهدان: عهد جاهلى، وهو عام فيه إذن بألا يصدوا عن البيت، وقد كان هذا على العادة الجارية، وقد توثق بعد الحديبية، وعهد خاص قد عقده النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وهذا يبقى إلى أمده. وإن العهد الذى جرى على مجرى العادة الجاهلية، قد انتهى بأن صار للإسلام الكلمة العليا، وصار التوحيد هو الحاكم، وجاءت ملة إبراهيم الصحيحة فى الإسلام بعد أن انحرف العرب، وعبدوا الأوثان فلم يكن منع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بحكم القرآن الكريم، نقضا للعهد، ولكنه تصحيح للوضع. أما عهد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فهو قائم على أسسه حتى ينتهى أمره. وإن أبا بكر ما أن فصل بركبه، حتى لحق به على بن أبى طالب يحمل سورة براءة، وكانت قد نزلت بأنه لا عهد للمشركين عبدة الأوثان فى أن يحجوا البيت الحرام بعد عامهم هذا. قال ابن إسحاق: لما نزلت سورة براءة على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وكان قد بعث أبا بكر ليقيم للناس الحج، قيل له: يا رسول الله: لو بعثت بها إلى أبى بكر، فقال عليه الصلاة والسلام: «لا يؤدى عنى إلا رجل من أهل بيتى» ثم دعا على بن أبى طالب، فقال له اخرج بهذه (آيات من صدر براءة) ، وأذن فى الناس بالحج يوم النحر إذا اجتمعوا بمنى، أنه لا يدخل الجنة كافر ولا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ومن كان له عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عهد فهو إلى مدته، فخرج على بن أبى طالب على ناقة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم البيضاء فلما رآه أبو بكر قال: أمير أو مأمور؟ فقال على: بل مأمور ثم مضيا فأقام أبو بكر للناس الحج إذ ذاك فى

تلك السنة على منازلهم من الحج التى كانوا عليها فى الجاهلية إذا كان يوم النحر قام على بن أبى طالب فأذن فى الناس بالذى أمره به رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وأجل أربعة أشهر من يوم أذن فيهم، ليرجع كل قوم إلى مأمنهم، وبلادهم، ثم لا عهد لمشرك ولا ذمة إلا عهد كان له عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فهو إلى مدته، فلم يحج بعد ذلك العام مشرك ولم يطف بالبيت عريان. وروى الإمام أحمد أن على بن أبى طالب قال: بعثت يوم بعثنى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مع أبى بكر فى الحجة بأربعة: لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عهد، فهو إلى مدته. ولا يحج المشركون بعد عامهم هذا. وهذا الكلام يستفاد منه إبطال العادات الجاهلية فى الحج كطواف غير قريش عرايا، وقريش تمتاز بأن يطوف حجاجها لابسين. ولقد قسم الحافظ ابن كثير الحجيج من المشركين إلى قسمين من لهم عهد، فإنه يلتزم بعهده إلى نهاية مدته، ومن ليس له عهد يؤجل إلى أربعة أشهر. وهذا التأجيل وإلغاء العهد ثبت بقوله تعالى فى أول سورة براءة. بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ. وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ، فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ، وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ. إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً، فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ. فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ، وَاحْصُرُوهُمْ، وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ، فَإِنْ تابُوا، وَأَقامُوا الصَّلاةَ، وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وإن هذا النص الكريم فيه الوفاء بالعهد للذين أوفوا بعهودهم، وأن من يكونون غير معاهدين ينتظرون أربعة أشهر، حتى يصلوا إلى مأمنهم فى بلادهم. وليس معنى الوفاء لذوى العهد الذين عاهدوا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يمكنوا من دخول البيت الحرام وهم باقون على شركهم، فإن الآية الكريمة صريحة فى المنع، إذ قد تلونا قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ، فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا.

وإن التأجيل أربعة أشهر، إنما هو خاص بقتالهم وقتلهم، فأعطوا مهلة أربعة أشهر ليصلوا إلى مأمنهم ولا يؤخذوا على غرة وقد جاؤا حاجين طائفين فى زعمهم. 696- ونقف هنا وقفة قصيرة فى اختصاص أبى بكر وعلى فى هذه الحجة المباركة. لقد اختص النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أبا بكر بأن تكون له إمرة الحج، ولما لاقاه على قال أبو بكر أمير أم مأمور، فقال له بل مأمور، هذا ما اختص به أبا بكر، وإن ذلك بلا ريب تشريف لأبى بكر، وإكبار لإمرة الحج فى ذاتها، واختص عليا بأن يكون المبلغ لنزول سورة براءة وفى أكثر الروايات ان النبى صلى الله عليه وسلم قال فى اختصاص على بتبليغ نزول سورة براءة «لا يؤدى عنى إلا رجل من أهل بيتى» إذ ذلك بلا ريب اختصاص فيه تكريم وثقة كاملة من النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. وقد أخذ الشيعة الإمامية وغيرهم ممن يجعلون عليا أولى بالخلافة من الشيخين أبى بكر وعمر رضى الله تعالى عنهما، قد أخذوا من هذا أن عليا أفضل أو أولى بالخلافة عنه عليه الصلاة والسلام منهما، لأن الخلافة خلافة عن الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم يقوم بما كان يقوم به الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم فى أمر أمته ورياستها والقيام بحق التبليغ، الذى هو أخص أوصاف الإمامة الكبرى، ويؤيد هذا قوله عليه الصلاة والسلام: «لا يؤدى عنى إلا رجل من أهل بيتى» فكون الخلافة لعلى كرم الله وجهه فى الجنة لأن الخلافة أداء لبعض أحكام النبوة أو لكلها وإن كان لا نبى بعد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. استدلوا بهذا وبقول النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عندما تركه فى المدينة المنورة ليقوم على أهله: «أنت منى بمنزلة هارون من موسى، غير أنه لا نبى بعدى» . فأخذوا من هذا الحديث أن لعلى عند النبى صلى الله تعالى عليه وسلم منزلة فوق منزلة غيره من الصحابة الأكرمين، فإذا كان أبو بكر رضى الله تعالى عنه، وعمر الفاروق لهما فضل الصداقة فعلى بالنص له فضل الأخوة، والمشاركة بيد أنه ليس بنبى، ولا يوحى إليه، وإن هذا يجعل عليا فى مكانة أعلى منهما. وبنوا على ذلك أنه وصيه كما بنى الزيدية على هذا أنه أفضل من أبى بكر وعمر وإن لم يكن وصيا. واستدلوا ثالثا- بقول النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى غدير خم عند رجعته من حجة الوداع «من كنت مولاه فعلى مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه» وإن هذا يدل على أن الولاء لعلى ولاء للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ومعاداته معاداة للنبى صلى الله عليه وسلم ولم يكن ذلك لأحد من الصحابة غيره، وهو بذلك أولى بالخلافة من غيره، وهو أفضل من الشيخين وغيرهما.

ذلك ما قالوه، وما اتفقوا عليه، فقد اتفق الشيعة جميعا على فضل على رضى الله عنه وأنه مقدم على أبى بكر وعمر وإن اختلفوا فى ذلك كثيرا.. ونحن نقرر أن ما ساقوه يدل بلا ريب على فضل على أولا، وعلى محبة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ثانيا، وعلى أنه عليه الصلاة والسلام كان يعهد إليه بأشد المهام وثاقة بالدين ثالثا. ولكنه لا يدل على أنه أولى بالخلافة من الشيخين رضى الله تعالى عنهما، لأنه إذا كان قد أنابه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى تبليغ سورة براءة، فقد ولى أبا بكر رضى الله عنه ما هو أمس بالإمرة والخلافة وهو إقامة الحج كما اختاره لإقامة الصلاة وهى الإمامة الصغرى وقد يكون ذلك إيذانا له بالإمامه الكبرى كما جرى على ألسنة بعض الصحابة «اختاره لامر ديننا أفلا نختاره لأمر دنيانا» وعلى ذلك لا نجد فى هذا أن يكون على أولى بغيره من الخلافة. وأما الدليل الثانى وهو أنه قاله فى معرض توضيح السبب فى تركه وعدم الذهاب معه فى غزوة تبوك فهو بيان محبته له ولصحبته، ردا على الإشاعة الكاذبة التى أشاعها المنافقون والمرجفون وهو أنه تركه استثقالا لصحبته، فكان لا بد أن يظهر محبته ومنزلته عنده، وهى اخوته له، كما أن هارون أخو موسى، ولذلك ازدياد فى القول بما يؤكد هذا المعنى، إذ قال عليه الصلاة والسلام: غير أنه لا نبوة بعدى. وإن عليا كان أخا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى المؤاخاة التى عقدها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وقد بينا ذلك، وذكرنا صحة الخبر ورددنا على ابن القيم فى موضعه. وكونه أخاه وأبو بكر صديقه أبلغ ما تكون الصداقة فلا دليل فى هذا أيضا على أنه أحق بالخلافة وفوق ذلك أن الخلافة تحتاج إلى الشورى إذ يقول الله تعالى: وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ. فإذا كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد ذكر أخوة على، وصداقة أبى بكر، وتقديره لعمر، فليس فى ذلك إلزام، مادام أساس الأمر شورى المسلمين. وأما الدليل الثالث، وهو حديث غدير خم الذى يقول: «من كنت مولاه فعلى مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه» فقد بينا المناسبة التى قيل فيها هذا الحديث، وهو رد الإشاعة الكاذبة، ورد المنافقين أو من عندهم شبهة النفاق، وبيان أنه لا يصح لمؤمن أن يبغض عليا، لأنه إذا كان قد قتل كثيرا فهو فى سبيل الله، وبأمر من الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، فمن يبغضه لذلك إنما يريد أن يحط من قدر الجهاد والمجاهدين، وإذا كانت النفس لا تحب من يكون سببا فى إزهاق نفس حبيب فالإيمان يوجب ألا يظهر ذلك فى قول أو عمل، وفوق ذلك فإن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان يوافقه فى أحكامه التى حكم بها.

تنبيهان لا بد منهما:

وإن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ولى كل مؤمن صادق الإيمان، كما قال تعالى: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فكل مؤمن ولى للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ويصح أن يقال ذلك عن المؤمنين جميعا بأنهم أولياء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. ومهما تكن قوة هذه الاستدلالات، فإنه من المؤكد أنها تدل على فضل محبة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لعلى كرم الله وجهه وأنه يجب على كل مؤمن يحب الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم أن يحبه، لأنهما يحبانه كما جاء فى غزوة خيبر، ولقد ذكرت ذلك عائشة رضى الله تعالى عنها، فإنه عندما بلغها مقتله، وقفت على قبر الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم تقول: جئت أنعى حبيبك المرتضى، وصفيك المجتبى، وأحب أصحابك إليك، جئت أنعى إليك على ابن أبى طالب. فعلى كرم الله وجهه هو الحبيب للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وهذا كاف لرفع منزلته ومحبته ولعن كل من ينال منه أو يلعنه. تنبيهان لا بد منهما: 697- التنبيه الأول: نقف هنا وقفة قصيرة ننبه فيها إلى أمر جدير بالتنبيه، وهو أننا نقلنا عن الحافظ ابن كثير وغيره من رواة السيرة أن الذين ليس لهم عهد مقيد محدود يؤجلون أربعة أشهر حتى يبلغوا مأمنهم، وإنه بتتبعنا وتبصرنا للآيات الكريمة وجدنا أن هذه الأشهر الأربعة هى الأشهر الحرم، لأنه ذكر بعد ذلك فى الآيات الكريمة ما يدل عليها، فقد قال سبحانه بعد ذلك: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ، فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ، وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ، وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ وإن ذلك يبين أن الأشهر التى ذكرت فى قوله تعالى: «فسيحوا فى الأرض أربعة أشهر» ذكرت غير معرفة، ثم عرفت بعد ذلك بذكر أربعة الأشهر معرفة، ومن المقررات النحوية أنه إذا أعيدت النكرة معرفة كان ذلك تعريفا لها. وإنا نرجح ذلك، والله أعلم بمراده. التنبيه الثاني: أنه قرر أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان يريد الحج عقب غزوة تبوك، ولكنه كره أن يحج مع المشركين، إذ كان منهم من يحج عريانا وقد زادوا أمورا جاهلية على سنة إبراهيم عليه الصلاة والسلام فى الحج، ولقد جاء ذلك فى تاريخ الحافظ بن كثير، فقد قال عن مجاهد: براءة من الله ورسوله إلى أهل العهد خزاعة ومدلج ومن كان له عهد أو غيرهم فقفل رسول الله صلى الله

سورة براءة

تعالى عليه وسلم من تبوك حين فرغ، فأراد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الحج، ثم قال: إنما يحضر المشركون، فيطوفون عراة، فلا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك، فأرسل أبا بكر وعليا رضى الله عنهما، فطافا بالناس ... فأذنوا أصحاب العهد أن يؤمنوا أربعة أشهر متتاليات» وإن هذا يدل على أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان على نية أن يحضر الحج ولكن عوقه عن ذلك أنه قدر أن سيحضر الحج المشركون، ويطوفون على جاهليتهم عراة، ويظهر انحرافهم عن سنة إبراهيم فى الحج فامتنع عن الحضور حتى لا يكون حضوره عليه الصلاة والسلام فيه نوع إقرار لعملهم ولم يمنعهم من الحج لأنه لم يعلمهم من قبل بأنه لا يجوز لهم أن يقربوا المسجد الحرام. والحكمة الإسلامية فى الأحكام ألا تنفذ الأحكام المانعة إلا بعد العلم بها. سورة براءة 698- إن المتفق عليه أن أبا بكر رضى الله عنه، ذهب بالناس يحج بهم، وأن عليا رضى الله تعالى عنه، ذهب حامل براءة يتلوها عليهم. ويروى أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عندما حمّلها عليا رضى الله تعالى عنه قال على: يا نبى الله تعالى، إنى لست باللسن ولا بالخطيب، فقال عليه الصلاة والسلام: لا بد لى أن أذهب بها أنا، أو تذهب بها أنت، قال على: إن كان لا بد فسأذهب بها أنا، وقال له النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: «انطلق فإن الله تعالى يثبت لسانك، ويهدى قلبك، ثم وضع يده على فيه. فهذه دعوة أولى من النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بأن يثبت لسانه ويهدى قلبه. والثانية كانت بعد ذلك عندما بعثه إلى اليمن داعيا وقاضيا. وبهذه الدعوة الطيبة الطاهرة المستجابة كان على كرم الله وجهه أخطب الناس بعد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. حمل على كرم الله وجهه فى الجنة سورة براءة، أهو حملها كلها؟، وهى من طوال السور، أم حمل الجزء الأول منها الخاص بعهود المشركين ودخولهم البيت الحرام؟. نقول فى الجواب عن ذلك أن عبارة ابن كثير فى رواياته تفيد أن الذى حمله على هو أول السورة الخاص بالمشركين، ودخولهم البيت، وعهودهم، فقد جاء فيه عن محمد بن كعب القرظى وغيره قالوا بعث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أبا بكر أميرا على الموسم سنة تسع، وبعث على بن أبى طالب بثلاثين أو أربعين آية من براءة فقرأها على الناس، يؤجل المشركين أربعة أشهر.

وإن هذه الرواية تدل على أنها لم تكن قد نزلت كلها، أو حملت كلها بل حمل منها ثلاثون آية تنتهى بقوله تعالى عن أهل الكتاب: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ، أو أربعون آية تنتهى بقوله: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا، وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. هذا ما رواه ابن كثير، أما ما ذكره ابن إسحاق فإن ظاهره أن السورة كلها أنزلت عقب تبوك وحملها على بن أبى طالب ليتلوها على الناس، ويبين ما يتعلق بالحج. ويقول فى ذلك ابن إسحاق: نزلت براءة فى نقض ما بين رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وبين المشركين من العهد الذى كانوا عليه فيما بينه وبينهم ألا يصد عن البيت أحد جاءه، ولا يخاف أحد فى الشهر الحرام. وكان ذلك عهدا على ما بينه وبين الناس من أهل الشرك، وكانت بين ذلك عهود بين رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وبين قبائل العرب خصائص إلى آجال مسماة فنزلت فيه، وفيمن تخلف من المنافقين عنه فى غزوة تبوك، وفى قول من قال منهم، فكشف الله تعالى فيها سرائر أقوام كانوا يستخفون بغير ما يظهرون، وظاهر هذا الكلام أن سورة براءة كلها نزلت عقب غزوة تبوك، وأن نصوصها السامية كلها تؤكد هذا المعنى وتوضحه، فهى كما رأينا عند الدعوة إليها تتبين فيها حال مؤمنهم ومنافقهم فى هذه الغزوة عندما دعا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إليها، وحال المخلفين، وأعذار المستضعفين، وما ينبغى أن يكون بالنسبة للجهاد. وإننا إذا تركنا ظواهر هذه الرواية فإنا نقول: إنها نزلت كلها عقب غزوة تبوك، ولكن ما يحمل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عليا، إلا ببعض من أولها- الذى فيه منع المشركين من البيت الحرام، وصدهم عنه، لأنه لا يعمر مساجد الله إلا من آمن بالله واليوم الآخر، وذلك ما صرح به ابن إسحاق إمام السيرة، فقد قال رضى الله عنه: ولأن ذلك كان يشتمل على ما كلف عليا أن يبلغه، وهى الأمور التى ذكرناها آنفا. وعبارات ابن إسحاق بعد تعميمه الأول تفيد تخصيصا بأول سورة براءة. فقد قال: «دعا عليه الصلاة والسلام على بن أبى طالب رضوان الله تعالى عليه، فقال له اخرج بهذه القصة من صدر براءة، وأذن فى الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنى، أنه لا يدخل الكعبة المشرفة كافر ولا يحج بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عهد، فهو إلى مدته. وهذا النص يدل على أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم حمله صدر سورة براءة، ولم يحمله السورة كلها.

ما اشتملت عليه سورة براءة:

ما اشتملت عليه سورة براءة: 699- وإن الروايات كلها أنها قد نزلت بعد غزوة تبوك، وقد تعد من أواخر السور نزولا، وظاهر الروايات أنها نزلت دفعة واحدة، وأن ما اشتملت عليه يدل على أنها نزلت بعد غزوة تبوك، ففيها أخبار المتخلفين والمعتذرين، ومن ليس عليه حرج، وإنها إذا كانت قد ابتدأت بذكر عهود المشركين، وتحريم دخوله على غير الذين يؤمنون بالله وأنه واحد أحد لا شريك له. قد توسطتها أخبار المخذلين والمنافقين، وما يجب أن يكون عليه المجاهدون، والدعوة إلى استمرار الجهاد فإنه ماض إلى يوم القيامة، وتركه ذل، أو يؤدى إليه. لقد ابتدأت السورة الكريمة بذكر منع المشركين من البيت الحرام، ووجوب قتالهم، ونبذ عهودهم إليهم، وأن العهد واجب الوفاء بشروط ثلاثة ألا ينقص المعاهد من التزاماته، وألا يظاهر على المؤمنين، وألا يكون مخالفا للقواعد المقررة فى القرآن الكريم. وجاءت بعد ذلك ببيان جهاد المشركين فى الأرض العربية، بشرط ألا ينتهكوا حرمة من الحرمات، كحرمة الشهر الحرام، وأن الدماء يحميها العهد إذا استقام المعاهد، فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ، ويحميها الأمان والجوار: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ، ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ وقد بين سبحانه وتعالى ضلال الشرك، وأنه لا يصح لهم أن يشفعوا لأنفسهم بأنهم تولوا عمارة البيت وتولوا سدانته وسقايته، فإن الإيمان بالله تعالى هو الأول، ولا يمكن أن يكون هذا كذلك، وأن لهم فضلا فى العمارة إن آمنوا بالله واليوم الآخر، إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ (التوبة) وإذا كانت عمارة المسجد لا تعادل الإيمان بالله واليوم الآخر، وأن عمارة المساجد لا ثواب لها مع الكفر فإنه لا يمكن أن يكون للمشركين ماثر فى أى عمارة، لأن ما يفعله المشرك من خير هباء لا أثر له، إذ يكون كمثل وابل من المطر أصاب أرض قوم، فنزل على أحجار لا تنبت، ولم ينزل على ما ينبت. ولذلك كان الواجب جهاد المشركين، ولأنهم لا يؤمنون بشيء لا عهد له ولا ذمة، وليس لمؤمن أن يرقب فيهم إلّا ولا ذمة، لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً (التوبة) ولا طريق إلا الجهاد، وإن الجهاد يوجب أن يكون كله لله تعالى لا يؤثر عليه أحدا من مال أو زوج أو ولد، أو راحة، فإذا كان الجهاد قوة بشرية ونفسية، أو تقديما للنفس والمال، فهو تجرد روحى،

وخصوصى لله تعالى، وصدق رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذ يقول: «لكل أمة رهبانية ورهبانية أمتى فى الجهاد» ، ولذلك أمر الله تعالى عند البدء فى الكلام فى الجهاد بعد أن بين أن المشركين يصدون عن سبيل الله ويعادون المؤمنين، وينتهزون فرصة لينقضوا، قال تعالت كلماته: قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ، وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها، وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ، فَتَرَبَّصُوا، حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ، وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ. وذكرهم سبحانه وتعالى بأن الكثرة، وقوة العدة لا تغنى عن الاتجاه إلى الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم شيئا، ثم ذكرهم بموقعة حنين، إذ لم تغن شيئا، إذ لم يكن الاتجاه إلى الله من الجيش كله كاملا، وإن كان كاملا كل الكمال فى بعضه فأولئك الذين ناداهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد اشتدت الشديدة، وكثر الفرار، وقل الإقدام، حتى كان المجاهدون الأبذال الذين بدلوا بالهزيمة نصرا، وبالفرار إقداما. وكان الجهاد فى هذا الموضع تتميما للكلام فى البيت، وبيان أنه لا يحميه إلا الجهاد فهو الذى يمنع دخول المشركين، ولذلك ختم آيات البيت الحرام بقوله تعالت كلماته: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا، وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (التوبة) 700- وقد بين الله سبحانه وتعالى معاملة أهل الكتاب من الكفار، بأنه لا يجوز لأهل الإيمان السكوت عن دعوتهم، وإن كانوا فى الجزيرة العربية أهون على أهل الإيمان من المشركين الذين إذ كانوا أقل خطرا وعددا، وإن كان اليهود شرا فى أنفسهم. ولقد أمر سبحانه وتعالى فى سورة التوبة أن يقاتلوهم، فقال الله تعالى: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (التوبة) وبين سبحانه فى السورة حالهم من اتخاذهم المسيح إلها، واتخاذ اليهود عزيرا إلها، وأنهم بذلك يضاهئون قول المشركين فى اتخاذهم الأوثان، فإن الشرك كما يكون بعبادة الأوثان يكون بعبادة الأشخاص. وذكر سبحانه وتعالى العماد الذى قام عليه انحراف الذين قالوا إنا نصارى عن الوحدانية، وهو أن قام الأحبار والرهبان بين المسيحيين، وبين إدراك الحقائق المسيحية، فقد اتخذ الأحبار والرهبان أربابا ثم ذكر ما

غزوة تبوك فى سورة براءة:

كان عليه الأحبار والرهبان، فقال الله تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ، وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ. يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ، وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ. هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ، وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ، وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ. يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ، فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ، فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ. (التوبة) وإن الله تعالى إذ بين وجوب الجهاد لكل من يعتدى على الحق ويعاند أهله، وينابذهم على سواء، بين سبحانه وتعالى أن الأشهر الحرم القتال فيها حرام، فذكر السنة فى التقويم المتصل بالقمر والشمس والأشهر الحرم منها. فقال تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ، فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ، وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ. إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً، وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً، لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ، فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ، زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ، وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (التوبة) غزوة تبوك فى سورة براءة: 701- قلنا إن سورة براءة من آخر السور نزولا، ويبدو من سياقها كما قلنا أنها نزلت دفعة واحدة، لمناسبة ما كان من العهود فيها ابتداء وما كان من عمل المنافقين، ولمناسبة تطهير البيت من رجس الجاهلية ومنع المشركين من دخوله، ولكن الشطر الأكبر منها كان يتعلق بغزوة تبوك التى كانت آخر غزوات النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. وقد امتازت هذه الغزوة أنها كانت بعد أن أوشك الإسلام أن يعم البلاد العربية أو عمها، وإنها كانت وقد خفض العرب الذين كانوا يتاخمون الفرس والرومان من نفوذهم، ورضوا بالإسلام دينا، وخلصوا بذلك من ربق الفرس والرومان واعتزوا بعزة الإسلام.

وامتازت أيضا هذه الغزوة بأن ظهر التخاذل فى أولها، حتى كان التثاقل، وبث الظنون فى المسلمين من المنافقين، وضعاف الإيمان، ثم فيها بيان حال الذين ينتحلون الأعذار ولا عذر لهم، وحال الذين يستأذنون فى التخلف، فيؤذن لهم أو لا يؤذن، وفيها عمل التخذيل فى جيوش الحق من أين تجيء، وإلى أين تتجه. وإذا كانت غزوة تبوك آخر الغزوات المحمدية ففيها العبر التى توجب على كل جيش أن يتعرفها، ويأخذ بعظاتها، حتى يكون الجيش الإسلامى قويا، قد تجنب أسباب الخور وأسباب التردد والهزيمة، والتخاذل، والآفات التى تعترى الجيوش من أهل التردد والنفاق، وما يحدثه من تخاذل. وقد كانت سورة براءة وعاء هذه التجارب النبوية فى تلك الغزوة التى لم تشتمل على قتال، ولكن كشفت فيها النفوس كشفا، وابتلى فيها المؤمنون بالنفاق، والتثاقل ودعاة الخذلان، وكيف عالج محمد صلى الله تعالى عليه وسلم تلك الأحوال بهداية ربه. وإذا كان الجهاد ماضيا إلى يوم القيامة، فقد كانت سورة براءة تصويرا للآفات التى تعترى الجيوش فى تكوينها، وفى سيرها، وفى الاتجاه إلى غايتها من غير التواء. ولقد بينت نفوس المترددين، وعدم إيمانهم بالحق الذى يؤيدونه، وفيها بيان للمجاهدين المعتز بهم وأول الآفات عدم العزيمة الموجهة المدافعة، والتثاقل عندما يحق الجهاد، وقد قال تعالى فى ذلك: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ، أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ. إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً، وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها، وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى، وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا، وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا، وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (التوبة) وتستمر الآيات الكريمة السامية فى بث الهمم ودفع العزائم، لأن تكوين الجيش يكون بإيجاد دفعة قوية عازمة، والاستعداد لتحمل المكاره والوثوق بتأييد الله تعالى إن خلصت النيات، واستحصدت العزائم. ولقد بين سبحانه وتعالى بالإشارة السبب فى تثاقل حركتهم وهو توقع المشقة، وإن توقع المشقة يجب أن يكون فى تقدير المجاهد، وعزمه الحديد.

لمز المنافقين فى الصدقات وغيرها:

وبين سبحانه وتعالى أن الخور يعترى النفوس ويخلق المعاذير للاستئذان فى التخلف، ولا يستأذنك مؤمن إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (التوبة) وقد بين الله سبحانه وتعالى أن المنافقين والمترددين يثيرون روح الضعف والهزيمة لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (التوبة) وقد كشف الله نفوس أولئك المخذلين من أهل التردد وضعاف المؤمنين، وبين ما تنطوى عليه نفوس المنافقين من أنهم يتمنون الهزيمة للمؤمنين. إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ. قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (التوبة) وقد كان منهم من يؤثر أن ينفق فى الجيش فرارا من أن يكون فى ضمن المجاهدين، فبين الله تعالى أنه لن تقبل نفقاتهم، لأنهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، وما منعهم أن تقبل نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى، ولا ينفقون إلا وهم كارهون. لمز المنافقين فى الصدقات وغيرها: 702- النفاق هو داء الجماعات فى السلم وفى الحرب، ففى الحرب يخذلون، ويبثون روح التردد، والتشكيك فى الدعوة، الدعوة إلى الأثرة، والجهاد إيثار، وإلى الحرص، والجهاد فداء، وإلى متع الدنيا، والجهاد رهبانية إيجابية، يدفع إلى الحياة العاملة المكافحة. أما فى السلم، فإنهم يشككون فى تصرفات الأبرار المخلصين، ليوهموا الناس، أن كل الناس مثلهم، ليس فيهم أخيار منزهون، وأبرار متقون. فهم يلمزون كل عمل صالح، ويوهنونه، ويثيرون الريب، وإن اتقاءهم بعدم السماع لهم، فهم أثاروا القول حول الصدقات التى يوزعها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، يقول سبحانه وتعالى فى ذلك: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ، فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا، وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ. وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ، إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ.

وقد بين الله تعالى للأمة كلها مصارف الصدقات، حتى لا يمارى منافق وليطمئن كل مؤمن، وقد وزعها سبحانه وتعالى توزيعا فيه التكافل الاجتماعى الكامل. والمنافقون يؤذون النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ويؤذون كل داعية للخير، لأنهم والخير نقيضان، إذا كشف أمرهم لا يقولون كشف الله تعالى سرهم، بل يقولون إن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، يسمع أخبارهم، ويتعرف أسرارهم، وأن له من يسعى عليهم، ويقول سبحانه وتعالى فى ذلك: «ومنهم الذين يؤذون النبى، ويقولون هو أذن، قل أذن خير لكم، يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين، ورحمة للذين آمنوا منكم، والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم» . والمنافق دائما كثير الحلف بالله لضعفه النفسى، إذ النفاق منشؤه ضعف النفس لا مجرد إرادة النفع، فهو يحلف لستر موقفه، ولأنه مهين يريد رضا من ينافق معهم، ويخشى أن ينفضح سره، ويعرف أمره. وإنهم مع كفرهم، وعدم إذعانهم للحق لفرط ضعفهم، يخشون أن تنزل سورة تكشف حالهم يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ، قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ ومع هذا الهلع من أن يكشف سترهم يحادون الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، ويستهزئون بايات الله تعالى، ويتخذونها فى مجامعهم هزؤا وسخرية، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ، إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ، قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ والمنافقون أشرار قد استمكن الشر فى نفوسهم، لأن الكتمان تفرخ فيه الرذائل، والضوء يكشفها، ولأن محاولتهم ستر أحوالهم، توقعهم فى رذائل مترادفة رذيلة بعد رذيلة وكل واحدة تجر أختها، حتى يستمرئوا الشر، ويكون دينهم، ويختم الله على قلوبهم فلا يصل إليها خير، ولا ينضح منه ومن اللسان إلا الشر، ولذلك قال الله تعالى: الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ، وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ، فَنَسِيَهُمْ، إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ وقد بين سبحانه وتعالى عقابهم، وأنه عقاب الذين من قبلهم، وكانوا أشد قوة، واستمتعوا بالشر، ونالوا من الدنيا، وخاضوا فى أهل الإيمان مثل الذى خاضوا.

جهاد النفاق والكفر:

ويضرب الله تعالى الأمثال من قوم نوح، وعاد وثمود، وقوم إبراهيم، وأصحاب مدين والمؤتفكة، فإن هؤلاء كفروا برسلهم، وكان النفاق والمنافقون من ورائهم، والنفاق غذاء الجحود، إذ يدفع الجاهلين إلى الكفر والعناد. وفى مقابل ما توعد الله به المنافقين كان وعد الله تعالى للمؤمنين. جهاد النفاق والكفر: 703- إذا كان النفاق يفعل فى الجماعات ذلك الفعل، فإن جهاده يكون فى مرتبة جهاد الكفر، بل يكون قبل جهاد الكفر، وذلك لأن الكفر لا يستغلظ سوقه إلا بالنفاق، والمنافقون هم الذين يفسدون العقول فيصورون الحسن قبيحا والقبيح حسنا، ولذا أمر الله تعالى نبيه الكريم، وأمته فقال تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ، وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (التحريم) ويبين سبحانه وتعالى ما يفعله المنافقون فى الجماعات الإسلامية، ووجوب جهادهم، وذلك الجهاد يكون بألا يسمع لقولهم، ولو كانوا يحلفون، فذلك دأبهم يقولون وينكرون ما يقولون، ويحلفون أنهم ما قالوا. ومن جهادهم أن يكشف أمرهم، ومن جهادهم أن يحذر منهم، ومن جهادهم ألا نخوض فى خوضهم، ومن جهادهم ألا نمكنهم من الجماعات الإسلامية. وقد ذكر سبحانه أمارات النفاق أو بعضها، وأولها الكذب، وثانيها نقض العهد، والشح على الخير، ويقول سبحانه وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ، وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ. فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ. فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ، وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ. أى أنهم فى نفاق مستمر، نافقوا عندما أعطوا العهد، ولما اختلفوا زاد نفاقهم بسبب أنهم يكذبون، ويكذبون على الله سبحانه وتعالى، وهو يعلم سرهم وما يتجاوبون به بينهم، وأن المرء إذا سار فى الشر أوغل فيه، وكلما سار زاد فسادا. وإنهم لا يكتفون بأن يشحوا على الخير، بل يتجاوزون ذلك إلى أن يلمزوا فى القول موهنين شأن الذين يتصدقون الصدقات المفروضة ويتطوعون بأكثر مما فرض، وهكذا يكون أهل الخير فريسة أهل النفاق، يصغرون، ويهجنون ما يكون منهم، ويستضحكون من أعمالهم. ولكن فَلْيَضْحَكُوا، قَلِيلًا، وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (التوبة)

أعذار النفاق:

والنبى عليه الصلاة والسلام يغضى عن سيئاتهم، ويستغفر لهم رجاء أن يهداهم الله، فيبين الله تعالى لنبيه الكريم صلى الله تعالى عليه وسلم، أن النفاق إذا استمكن فى النفس، غلق باب الهداية، وكان حجابا كثيفا لا يصل إليه النور قط: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ، إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً، فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (التوبة) وإن من جهاد النفاق أن يحتاط النبى صلى الله تعالى عليه وسلم والمخلصون للجيش الإسلامى، فلا يمكنوا أحدا من المنافقين من الدخول فيه، لأنهم يلقون فيه بروح الهزيمة والفشل، ولذلك قال سبحانه: فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ، فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ، فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً، وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا، إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (التوبة) هذا أمر قاطع لخير خلق الله تعالى فى هذا الوجود الإنسانى، وقد أمر سبحانه وتعالى كشفا لأمرهم وجزاء لهم بما ارتكبوا فى الدنيا، بمنع الصلاة عليهم، فقال تعالى: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً، وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ، إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (التوبة) وقد بين سبحانه وتعالى أن الرضا بالشر، إذا توالى طبع الله تعالى على قلب صاحبه، فأصبح غير قابل لأن ينفذ نور الإيمان إليه، ولذلك قال تعالي رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ، وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ؛ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (التوبة) وقد ذكر سبحانه وتعالى من بعد ذلك جهاد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم والذين جاهدوا معه، فبين أن لهم الخيرات، وأنهم الفائزون، وأنه سبحانه أعد لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها. أعذار النفاق: 704- أعذار النفاق دائما واهية، لأنه لا عذر لهم، فهم ينتحلونها، وكان النفاق ابتداء فى المدينة المنورة عندما دخلها الإسلام، ووجد نفاق فى الأعراب عندما عم الإسلام، فهو يتسع باتساع عموم الإسلام وشموله، لأن النفاق يكون إذا كان كفر مع وجود قوة للحق، ولم يخرج الأعراب الذين كانوا يحيطون بالرومان، لم يخرجوا كلهم للحرب فى تبوك، ولذلك قال تعالي: وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (التوبة)

وقد بين الله سبحانه وتعالى الأعذار التى من شأنها أن تقبل، والأعذار التى لا يمكن أن تقبل، وبذلك يتميز العذر الحقيقى عن أعذار المنافقين التى لم يكن لها مسوغ، فقال تعالت كلماته: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ، إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (التوبة) هؤلاء هم الذين يكون لهم عذر، ولا يؤاخذون فى التخلف، وهم الذين فيهم ضعف فى القوة، أو فى المال بألا يجدوا ما ينفقون منه، ولا يكون مع الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ما يعينهم به. أما غير ذلك فلا يعد عذرا، ولكن يعد تخلفا وقعودا فى وقت يجب أن تتضافر فيه القوى كلها وتجمع الجموع دائما. وقد أخرج إلى التجمع من التقدم للرومان الذين تعد جيوشهم بمئات الألوف لا بالعشرات منها. ولذلك ذكر سبحانه وتعالى أنه لا تقبل منهم أعذار، وإنما عليهم السبيل فهم مسئولون عن تقاعدهم، وهو يدل على أن الإيمان لم يدخل قلوبهم. وقد أشرنا إلى أن النفاق لم يكن من الخزرج الذين كانوا بالمدينة المنورة، بل كان منهم، وكان من الأعراب الذين دخلوا فى الإسلام، ولما يدخل الإيمان قلوبهم، وكانوا فى مجموعهم أميل إلى الكفر. وإن كان فى بعضهم إيمان، وقد قسمهم الله سبحانه وتعالى إلى ثلاثة أقسام: أولها: قسم لم يدخلوا فى الإسلام بقلوبهم، وإن خضعوا له بأبدانهم. وأظهروا الطاعة، وقد قال تعالى فيهم: الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (التوبة) وأولئك علموا الإسلام ممن هم فى باطن الصحراء وحول المدينة المنورة وخضعوا ولم يستجيبوا لداعى الإيمان، وذلك لأنهم حديثو عهد بالدخول، ولأنهم خضعوا للقوة، وحيثما كان الخضوع للقوة كان النفاق والكفر. والقسم الثانى: دخلوا فى الإسلام، كما يدل ظاهر القرآن الكريم ولكنهم برموا بالصدقات، وعدوها مغرما، ولم يعدوها مغنما، وهؤلاء، إن كانوا مسلمين يعدون من ضعفاء الإيمان، وهذا القسم

ما بين الإيمان والضعف والنفاق:

قال تعالى فيه: وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً، وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ، وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (التوبة) والقسم الثالث: المؤمن الصادق فى إيمانه، المتعرف لأحكامه، وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ، أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ، سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (التوبة) وهؤلاء هم الذين أشربوا حب الإيمان. وقد ذكر سبحانه وتعالى أن النفاق فى داخل المدينة المنورة، وقد علم أمر الكثيرين منهم، وأحوالهم، وكادوا يعرفون باستخفافهم وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ (التوبة) وذكر سبحانه وتعالى أن النفاق من الأعراب حول المدينة المنورة، ولقد ذكر الاثنين، فقال سبحانه وتعالى: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ، وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ (التوبة) ما بين الإيمان والضعف والنفاق: 705- إن الإيمان فى قوة تدفع فيعمل، فأولئك هم المهاجرون والأنصار ومن اتبعوهم بإحسان، والضعف تردد وقد يتجه إلى الله تعالى فيعترف بتقصيره أو ذنبه، فيكون منه الندم، ورجاء الخير، وقد ذكرهم سبحانه وتعالى بقوله: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً، وَآخَرَ سَيِّئاً، عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ (التوبة) وهؤلاء تطهر بعضهم التوبة والصدقات ولذلك قال تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ، وَتُزَكِّيهِمْ بِها (التوبة) وذلك لأن الصدقة تطفيء المعصية، كما يطفيء الماء النار. وأولئك الذين لم يعترفوا بذنبهم، فى التخلف عن القتال من غير معذرة هؤلاء مرجئون إلى رحمة الله تعالى إما أن يعترفوا، ويتوبوا كإخوانهم ممن تخلفوا من غير معذرة تسوغ التخلف، وإما أن يستمروا فى غيهم يعمهون، وهؤلاء يعذبهم الله بذنوبهم، ولقد قال الله تعالى: وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ، وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (التوبة) ولقد ذكر سبحانه من بعد ذلك أن المنافقين فى المدينة المنورة الذين مردوا على النفاق لم يكتفوا بالقعود عن الجهاد. وتثبيط المؤمنين عنه، بل تعدوا وأرادوا التفريق بين المؤمنين، فأنشأوا مسجدا لا ليقيموا فيه الصلوات، بل ليكون وكرا لهم، وليجروا فيه خياناتهم، واتصالاتهم بأعداء الإسلام من الرومان، وليفرقوا بين

المؤمنين، وسمى هذا المسجد مسجد الضرار، ولقد قال الله تعالى فى مسجدهم هذا وفيهم: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ، وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى، وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً، لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ، فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ. أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ، فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ، وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (التوبة) هذا شأن المنافقين، وذلك شأن ضعفاء الإيمان. وأما شأن المؤمنين، فإنهم قد باعوا أنفسهم لله تعالى وأموالهم، فيقتلون ويقتلون وينفقون غير مدخرين نفسا ولا مالا فى سبيل الله، ولقد وصفهم الله أكرم وصف، فقال تعالي: التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ، الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (التوبة) ووصفهم بالسائحين هنا يراد به المجاهدون الذين يضربون فى الأرض جهادا فى سبيل الله سبحانه وتعالى، ولقد قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم «سياحة أمتى فى الجهاد» . وبين سبحانه وتعالى من بعد أن العمل الصالح هو الذى يرفع إلى الله تعالى لا القرابة: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ، وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ، وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ (التوبة) مع ذلك لم يغفر الله تعالى لأبى إبراهيم. وإن من المؤمنين ناسا تخلفوا، وأحسوا أنهم ارتكبوا كبرا، وما أبدوا معذرة، لأنهم لا يريدون أن يكذبوا على الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، حتى لا يرتكبوا جريمتين: جريمة التخلف والكذب على الله، وأولئك لا بد أن يتطهروا، فقاطعهم المؤمنون تربية لنفوسهم، وتزكية لقلوبهم، وقد ذكرنا أمرهم فى قصة غزوة تبوك، فرضوا أن يعذبوا بالهجران عن أن يكذبوا على الله ورسوله، حتى تاب الله تعالى عليهم: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا، حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ، بِما رَحُبَتْ، وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ، وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ، ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (التوبة) وبعد ذلك التقسيم الحكيم، والخير العظيم ذكر سبحانه ما كان واجبا على المؤمنين والأعراب، فقال تعالى: ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ

رَسُولِ اللَّهِ، وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ، وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ، وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا، إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ، إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ. وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً، وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ، لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (التوبة) . وقد أشار سبحانه وتعالى إلى الوفود، الذين يجيئون ليتعلموا من المسلمين فذكر سبحانه وتعالى أنه ليس للمؤمنين جميعا أن ينفروا إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد جاءت الوفود، كما أشرنا فى السنة التاسعة والعاشرة، حتى قبض صلى الله تعالى عليه وسلم، ولقى الرفيق الأعلى، فقال تعالى: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً، فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (التوبة) ثم ذكر سبحانه وتعالى وجوب الجهاد فى ختام السورة، كما أوجبه فى أولها فقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ، وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (التوبة)

بعض ما في سورة براءة من حكم وعبر

بعض ما في سورة براءة من حكم وعبر 706- نزلت سورة براءة عند حج الصديق رضى الله تعالى عنه، وعقب غزوة تبوك، ويلاحظ أنه أول حج تولى إمرته مؤمن من المؤمنين، ونفذ فيه مناسك الحج على مقتضى حكم الإسلام، وقد حطمت الأصنام، فكان الحج إسلاميا بالنسبة للمسلمين، ولكن المشركين كانوا يسيرون على ما كانوا عليه، ولم يمنعوا، لأنه لم يكن قد جاء الأمر بمنعهم، والإسلام لا يطبق إلا ما ينزل به الوحى، ولم يكن قد نزل الوحى بهذا المنع. ولكن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم امتنع عن أن يتولى بنفسه القيام بالحج، حتى لا يكون فى ذلك إقرار لما يفعلون، فأناب أبا بكر عنه. ولما كانت هذه السورة مبينه لمنع المشركين من الحج، لأن هذا الحج أول حج إسلامى، وإن رنق بفعل أهل الجاهلية، وكانت مشتملة على أول المنع، وكانت هذه السورة بعد آخر غزوة غزاها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وقد اشتملت على منع المشركين أن يدخلوا المسجد بعد عامهم هذا، واشتملت على ما يجب لحفظ الجيوش الإسلامية وحمايتها، والحذر من الدخلاء فيها وكانت غزوة تبوك التى أخذت منها العبرة. واشتملت السورة على ما يجب أن يتوقاه المؤمنون فى بناء جماعتهم، وما يجب أن يتحلوا به من صفات ليتكون منهم بناء اجتماعى قوى. وأول ما يستفاد منه هو التوقى من أهل النفاق فإنهم العنصر المخرب فى بناء المجتمع، ولا يمكن أن يتماسك مجتمع إذا ساده النفاق، أو تحكم فيه المنافقون، ولذا أكثرت السورة الكريمة من ذكر النفاق وأحواله، وأن أهله لا يلتئمون، ولا يندمجون فى أهله، بل يكونون بمنأى عن شعوره، وعما يحس به، فهم يؤذون فضلاءه، ويستهزئون بفعل الخير، ويخوضون فى شؤون أهل الفضل والخير، وإذا قيل لهم فى ذلك، قالوا إنا نخوض ونلعب، وإن قلوبهم دائما تكون فى جانب، والمجتمع يكون فى جانب آخر. ولذلك وجب أن يكون الجيش خاليا من المنافقين، فلا يخرجوا فيه لأنهم يخذلون المجاهدين، ويثبطون هممهم، ويتخذون من الضعفاء وأهل التردد، والهزيمة فريسة ينفثون فيها سمومهم، وإنهم يتخاذلون فى وقت الشدة، ويفرحون بما ينزل بأهل الحق من مصيبة تسوءهم، فإن تصبهم مصيبة يفرحوا بها، وإن تصبهم حسنة تسوءهم. وإن الضعفاء إن اعترفوا بذنوبهم، وتابوا قبل الله سبحانه وتعالى، وإن كانوا قد خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، فإذا كانوا قد أساؤا بالقعود، فقد أحسنوا بالاعتراف ومع الاعتراف الندم ومع الندم التوبة، فهم لم

يصروا على الشر، وفرق بينهم وبين الذين انتحلوا أعذارا، وكذبوا، وحلفوا وهم يعلمون أنهم كاذبون، وما قصدوا إرضاء الله، بل قصدوا إرضاء العباد، فلم يتوبوا، وارتكبوا الشر وأصروا عليه إصرارا. وإنه إذا كانت التوبة الصادقة جبت ما قبلها. وبينت السورة الكريمة أمورا ثلاثة تدخل فى بناء المجتمع الصالح، وإذا لم تكن تخريب. أولها: أن الجهاد تجريد النفس عن أعلاق الدنيا، وما يتعلق بالأحباب والمحبوبات من الأشياء والمتع، وأن المجاهد إن لم يتجرد ذلك التجرد، فإن على الأمة أن تتربص حينها، وتذهب قوتها، إن الأمة التى تريد الحياة يجب أن تتسربل سربال الجهاد، وتستشعر حياته، ولا جهاد مع الأثرة، ولا جهاد مع التعلق بالحياة، فإن لم تفعل فإنها تذل وتهون، ويتحقق فناؤها فى غيرها، وتعيش ذليلة مهينة. ثانيها: أن النفاق كما أشرنا هو مقوض الجماعات يمنع توافر الثقة بين آحادها، والثقة أساس بنيانها، فما لم توجد الثقة لا توجد المحبة، والمحبة هى الرباط الذى يربط بين الآحاد، ويربط الجماعة، ولا يقطع حبال المودة والمحبة إلا أن يظن الإنسان بأخيه شرا ولا يمكن أن يكون التئام بين الأمة إذا كان كل واحد يتظنن بأخيه، والنفاق هو المادة التى بها تقطع الصلات. ولذلك وصف الله تعالى المنافقين والكافرين بأنهم يقطعون ما أمر الله به أن يوصل، وما أمر الله به أن يوصل هو المودة والمحبة والأخوة، وإن النفاق يفسد نفوس المنافقين، فيأمرون بالمنكر، وينهون عن المعروف ويفسدون الناس فتسرى عدواهم إلى الضعفاء ويلقون بالفرقة بين الأقوياء وما ساد النفاق فى قوم إلا تقطعوا فرقا ومزقوا مزقا. ولقد بين القرآن الكريم صور النفاق فى هذه السورة بما لم يبين به فى سورة أخرى، وإذا كانت سورة (المنافقون الصغرى) قد بينت خلالا للمنافقين فى أطواء نفوسهم وانحرافاتهم، ومعاملتهم فسورة براءة، وقد أسميها سورة النفاق الكبرى قد بينت حالهم عندما تشتد الشديدة وعندما تكون الحرب وعندما تكون الأزمات. وبينت أن النفاق قد يتجاوز العلاقات الإنسانية إلى مظاهر العبادات، فهم ينشئون مسجدا يكون ملتقى لاجتماعاتهم المريبة، ويبنونه إرصاد للاتصال بينهم وبين الرومان فى الشام، فهو إرصاد لمن حارب الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، ويتظاهرون بأنه مسجد، فيكشف الله سترهم، ويكون فى التاريخ الإسلامى مسجد الضرار. وإنه يجب لكى تكون الجيوش مجتمعة القوى لا بد أن تكون مجتمعة العزم، وذلك بإبعاد المنافقين وعدم دعوتهم فإنهم يريدون الفتنة، ويبتغونها والفتنة فى الجيوش طريق مؤكد لهزيمتها.

الأمر الثالث: الذى ذكرته السورة الكريمة وأكدته، أمر المترددين والضعفاء فى إيمانهم لا فى أبدانهم فإن أولئك يجب أن يخلو الجيش منهم، لأنهم يكونون العش الذى يفرخ فيه المنافقون، ويبثون فيهم روح الفزع والخوف، والفرار يوم الزحف. وإن أمر هؤلاء مرجأ، عساهم أن يتوبوا، ولكنهم لا يكونون فى جيش قوى يخط خطوط النصر. وأخيرا إن سورة براءة درس حكيم للأمة المجاهدة وقد جعل سبحانه وتعالى من غزوة تبوك التى لم يحدث فيها قتال، بل رجع المسلمون منها ولم يلقوا كيدا، وقد جعلها تعالى درسا فى ذلك فكان التكوين انتقاء للأقوياء، ومن تسلل فيه من الضعفاء وأهل النفاق كشف أمرهم. وفى سورة براءة بيان حال الذين وصل إليهم الإسلام، فاعتنقوه بحكم اتباع القوى، لا بحكم الاقتناع كأولئك الأعراب الذين كانوا يتغلغلون فى البلاد العربية، فدخلوا فى الإسلام، ولما يدخل الإيمان قلوبهم، وبينت السورة الكريمة أن مظاهر الخضوع الكامل الزكاة، فإن دفعها من يدفعها مغرما، سواء أكان الدفع طوعا أم كرها، فهو ليس من أهل الإيمان، وإن قدم الطاعة، وإن دفعها قربات إلى الله تعالى فإنه يكون مؤمنا مخلصا لله تعالى وللجماعة الإنسانية. هذه كلمات موجزة فى حكمة نلتمسها فى نزول سورة براءة عقب غزوة تبوك، وعند حج الصديق رضى الله تبارك وتعالى عنه بتأمير النبى صلى الله تعالى عليه وسلم له، والله سبحانه وتعالى هو الحكيم الخبير، لا يسأل عما يفعل، وكلنا نسأل عما نفعل، وإذا تلمسنا الحكمة فإنما نقرب إلى الأفهام ولا نتعرف الأسباب فنحن نقارب، ونطلب المعرفة من الله العلى الحكيم.

انتشار الدعوة الإسلامية

انتشار الدعوة الإسلامية 707- ابتدأ نور الإسلام فى قلوب تقبلت حقيقته، كما تتقبل الأرض الطيبة النقية البذر الصالح، والماء الذي يسقى ويغذي، وكما يتقبل الأحياء ضياء الشمس، فتهتدي بها في الدجنة الحالكة، فتقبله الضعفاء لأنهم وجدوا فيه المعاذ والملجأ والنور والبصر، والهداية إلي الحق في وسط الظلمات المتكاثفة عليهم، والظلم المرهق وتبعوه طائعين، راضين. وإنه إذا كان الفقر قد أرهقهم فيه ظلم الظالمين، فقد أعطاهم قوة احتمال للعذاب والأذي الذي نزل بهم ممن أظلمت نفوسهم، وختم علي قلوبهم، ولعل الله سبحانه وتعالي يختار المؤمنين الأولين لكل نبي من هؤلاء الفقراء والعبيد، لأنهم هم الذين لقوا الصدمة الأولي فيما نالوا من ألم الفقر في حياتهم يتحملون ألم الأذي، ويكونون نواة الاستجابة، وكذلك كان الحواريون لعيسي عليه السلام، فلم يكونوا من الأقوياء الأشراف، بل كانوا من الصيادين والعشارين، وغيرهم من الضعفاء. ولقد كان الأقوياء الذين دخلوا في الإسلام ابتداء عددا قليلا، كأبي بكر وعثمان وحمزة بن عبد المطلب ثم عمر بن الخطاب، وأبي عبيدة عامر بن الجراح، وغيرهم في عدد قليل كانوا يداوون ندوب النفوس الفقيرة لتصبر وتصابر، وليكونوا قوة نسبية هادية. والنبي صلي الله تعالى عليه وسلم يؤذي في نفسه ويتطامن ليكون الهادي الرشيد المرشد، وليكون النذير العريان، كما قال عن نفسه عليه الصلاة والسلام، فلا سيطرة تفرض الدين والرأى، كما قال تعالي: لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (الغاشية) حتي إذا اشتد الطغيان ولم يعد في قوس الصبر منزع، وسمع مقالة الله تعالى لنوح: لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ استيأس من إيمان أهله اتجه إلي القبائل في موسم الحج، يعرض عليها دعوة الإسلام، وأن ينصروه وأن يحموا دعوته من قومه، فاستعد لإجابته من استعد ونفر منه من نفر، ولكن قد بلغت دعوته القبائل كلها أو جلها، ما بين منكر جاف، وما بين مؤات مؤتلف راض غير مختلف، والذين اختلفوا كان السبب الأكبر اختلاف قومه عليه، فكانوا ينتظرون ولا يعادون استقلالا، ولكن ربما يعادون تبعا وتقليدا لقريش أقوي قبائل العرب، وأشدها نفوذا وسلطانا. فما سوغت لغيرهم من الذين يتبعونهم أن يخالفوهم، ولكن الله تعالي هدي أهل يثرب، فامنوا وبايعوه علي النصرة والإيواء، وفتحوا الصدور للضعفاء وآووا ونصروا.

ولكن قريشا هي القوي، وهي البعيدة النفوذ فى البلاد العربية قاصيها ودانيها، وهي في البيت الحرام الذي جعله الله تعالي مثابة للناس وأمنا، وهو أول بيت للعبادة وضع للناس وهم الذين يتولون فتنة المؤمنين الذين آمنوا، وهم الذين اضطهدوا محمدا صلى الله عليه وسلم وصحبه، وهم الذين هموا بقتل النبي صلي الله تعالى عليه وسلم فكان حقا عليه الهجرة وأن يحمي المؤمنين الذين لا يزالون في مكة المكرمة، فكان لا بد أن ينازلهم بالحق كما اعتدوا عليه بالباطل، وأن يمنعهم من الاسترسال في الشر: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ، وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (البقرة) ودفع الشر بمجازاة أهله ليس شرا بل خير كله، وهو الخير القوي الغالب، وليس الخير المستسلم الذليل. وإن الإسلام فضائله إيجابية، وليست سلبية، فضائله عاملة قوية وليست ضعيفة مستكينة فلا بد إذن من المغالبة. فكانت المقابلة وكانت الدعوة وبيان الحقائق الإسلامية والشرائع التي تبني بها المدينة الفاضلة، وتقوم فيها الإنسانية الكاملة وتكون مثلا ساميا. كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في هذه الفترة المجاهدة، يجاهد في ميدانين متكاملين غير متنافرين يحارب أعداء الحق، ليجعل كلمة الذين كفروا السفلى، وكلمة الله تعالي هي العليا، ويبث السرايا داعية إلى الحق، وفي يدها السيف لقمع الشر، إن حال دون الحق حائل، ويرسم الخطط للجيوش الإسلامية الهادية غير الباغية. وإن الغزوات الكبري كانت من المشركين، والنبي صلي الله تعالي عليه وسلم يدافع، ولا يهاجم، فالمدينة المنورة كانت مقصدهم، والوقائع كانت علي مقربة منها، فغزوة بدر كانت علي مقربة من المدينة المنورة، وقد جاءت قريش بقضها وقضيضها، نعم إن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم هم بأن يصادر عيرهم، كما صادروا أموال المؤمنين، ولكنهم هم الذين جاؤا بالجيش ليحاربوا، وقد ردوا خاسرين. ثم كانت غزوة أحد، وقد جاؤا بها للثأر، وأرادوا اقتلاع الإسلام من مأمنه، وأصاب المسلمين جراح، ولكنهم هم نكصوا علي أعقابهم لم ينالوا خيرا، وإن جرحوا. ثم لما عجزت قريش أن تنال من محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وحدها جمعت الجموع، وحزبت الأحزاب من البلاد العربية، وذهبوا لإزالة المدينة المنورة والإسلام، ولكن هزموا بالريح والرعب فعادوا علي أعقابهم خاسرين مذعورين.

الحديبية:

هذا هو الميدان الأول لجهاد النبى صلي الله تعالى عليه وسلم. أما الميدان الثاني فهو تربية المؤمنين وتعليمهم أحكام الدين، وبيان الشريعة الإسلامية، وتنظيم المجتمع على أساس العدل والفضيلة ومكارم الأخلاق، وهو ميدان الرسالة المحمدية، وهو غايتها ومقصدها، وما كان القتال إلا لحماية الدعوة الإسلامية، وتوصيلها للقلوب والمجتمعات، الآحاد والجماعات. وإنه في أثناء اللقاآت الحربية كانت المبادئ الإسلامية تسري إلي النفوس وسط صليل السيوف، فكانت تصل إلي القلوب، والمقاتل متأثر بالمقاتل مأخوذ به، وخصوصا إذا رأوا من خوارق العادات، ما لا عهد لهم به، لقد كانت غزوة الأحزاب من قبائل متفرقة، ورأوا عيانا أن الهزيمة لم تكن بسيف ولا بقوة، ولكن بريح عاصف اقتلع أخبيتهم وألقي الفزع والذعر في نفوسهم، وأمامهم رجل يقول إنه رسول من عند الله سبحانه وتعالي، فهلا يفتح ذلك قلوبا مغلقة، وآذانا تستمع إلي صوت الحق، إنهم لا بد أن يعودوا إلي أقوامهم، ويذكروا لهم ما عاينوا أو شاهدوا، وما رأوا بعين البصر، وإن ذلك لا بد أن يصل شئ منه إلي البصيرة. ولقد كانت غزوة الخندق آخر الغزوات التي غزتها قريش للمدينة المنورة، وقد استيأسوا من بعد ذلك وعلموا أن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم غير مخذول، وأن أحجارهم التى لا تسمع ولا تبصر، ولا تضر ولا تنفع، ولا تغني عنهم، حتي أخذ بعض عقلائهم يدركون ما هم فيه من ضلال، وأنه لا بد لهم من أن يسمعوا صوت العقل والضمير، وقد بدا ذلك في بعض كبرائهم كما أشرنا. الحديبية: 708- كانت الحديبية خطوة للدعاية إلى الإسلام من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فقد ذهب إلي مكة المكرمة بجيش عدته نحو خمسمائة وألف أو يزيدون وما ذهب ليقتلع مكة المكرمة، كما كانوا يذهبون إلي المدينة المنورة، بل ذهب ليقيم شعائر الله تعالي، ولتعظيم البيت، وعلى ألا يسألوه خطة فيها تعظيم البيت إلا سلكها. وقد تم عقد الاتفاق علي مدة عشر سنين، لا يقاتلهم، وعلي أن يعود من عامه هذا، وقد سمي الله تعالى ذلك فتحا مبينا. وإنه حقا كان فتحا للإسلام، فقد لانت قلوب كانت مستعصية، وتفتحت آذان كان فيها وقر عن سماع الحق، فإذا كانت لم تفتح إلا آجلا، فقد فتحت القلوب نور هذه المدينة، وكان من قريش أنفسهم من يتجه إلي الإسلام ويتعرف غاياته، ومراميه، وأنه الحق والعقل، وملة إبراهيم عليه السلام والقبائل التى كانت ترى أمارات النبوة، ولكن تنتظر قريشا، ورأيها فى محمد صلى الله تعالى عليه وسلم- أخذت

قلوبهم تصغي، وأفئدتهم تتجه نحوه، فأسلم الكثيرون، وتهيأت للإسلام قلوب كثيرين، ولما اتجه عليه الصلاة والسلام إلى خيبر لاقتلاع اليهود من بلاد العرب، كان العرب جميعا مناصرين. وعندما اتجه محمد صلى الله تعالى عليه وسلم إلي الرومان أحسوا بعزة العرب تغالب سلطان بني الأصفر، وقد كان أمرهم مرهوبا مخوفا، قد استكان بعضهم له رهبا لا رغبا، فلما رأوا محمدا صلي الله تعالى عليه وسلم الهاشمي القرشي العربي يغزو بنى الأصفر، أحسوا بعزة عربية لا بد أن يكونوا معها، وإذا كانوا مع الروم في بؤسهم فقد هداهم التفكير فى عزتهم إلي ألا يكونوا معهم في تبوك، وإن ذلك بلا ريب يفتح قلوبهم لأن يدركوا الإسلام، ويتدبروا في أمره وغايته، ورأوا أنه السبيل الوحيد لعزتهم، ورفع نير الرومان ونفوذهم. ولقد ذكر كتاب السيرة أنه دخل فى الإسلام ما بين فتح مكة المكرمة وغزوة الحديبية ناس كثيرون بلغوا أضعاف ما دخلوا من وقت البعث المحمدي، إلي الحديبية، أي بلغ فى سنتين أضعاف أضعاف من دخل فيه في مدي تسع عشرة سنة. ولما كان فتح مكة المكرمة، ودخلت قريش في الإسلام، دخل فيه الذين يترددون وقد لانت قلوبهم، لأنهم رأوا أهل مكة المكرمة، الذين كان لهم مكان المتبوع يدخلون فدخلوا. ولذلك جاءت الوفود تتري في العام التاسع، بعد أن فتحت في رمضان من العام الثامن، ولقد جاءت تلك الوفود مسلمة معلنة إسلامها، تريد معرفة أحكام دينها وما يجب أن يقوم به المسلم، وما يجوز له وما لا يجوز. وكان النبي صلي الله تعالي عليه وسلم يرسل البعوث لتعليمهم، ولتأديب الذين يحاولون إيذاء المؤمنين أو العبث بالمقومات الدينية، فكان أحيانا يرسل السرايا، وأحيانا يرسل فقهاء الصحابة، كما أرسل أبا موسي الأشعري ومعاذ بن جبل ولما أرسل خالد بن الوليد، وهو القائد المحارب كان مكلفا أن يدعو إلى الإسلام، لا أن يجرد سيف القتال، ثم أرسل علي بن أبي طالب عالم الصحابة، فتولي تعليمهم، وأخذهم بأحكام الإسلام، ثم ولاه القضاء، فانفتق ذهنه بدعوة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، ونطق لسانه بالحكمة وفك عقدا من مشكلات القضاء وأقره النبي صلى الله تعالى عليه وسلم. وهكذا نري أن البلاد العربية- أهل الوبر وأهل المدر- قد دخلها الإسلام، وتقبله قلوب مؤمنة مذعنة، وعلم أمره بعض الناس، ولكن لم يدخل قلوبهم فأطاعوا وخضعوا، ولكن لم تؤمن قلوبهم، وإن علم الإسلام، كان الإسلام كالغيث يصيب أرضا نقية فيمدها بالزرع وتأتي بأطيب الثمرات، وكان

يصيب أرضا تحفظ الماء ولا تنتفع به، ولكنها تكون موردا لطالبه، وكان يصيب أرضا مجدبة لا تحفظه ليكون مصدر سقي ورعي، ولا تنتفع به. ولقد كان الناس بعد أن علموا الإسلام علي هذه الأنواع الثلاثة، فكان منهم الذين آمنوا وأخلصوا دينهم لله تعالي، وأولئك الذين كانوا في المدينة المنورة، وبعض مدائن البلاد العربية، ورجال كانوا في البادية. ومنهم من علموا الإسلام وحفظوه، ولكن لم يعملوا به، وأطاعوا، ولكن لم تذعن قلوبهم، ومنهم الذين مر عليهم الإسلام فعرفوا أن هناك دينا يحارب الوثنية، ويدعو إلي الوحدانية، وإحياء ديانة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ولكن التدين لم يكن موضع اهتمامهم، فمر عليهم علم الإسلام كما يمر الماء فى الميزاب يتحدر ولا يبقي منه شئ، وأكثر هؤلاء كان فى أعراب البادية، ولهذا قال الله تعالي: الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ (التوبة) ومهما تكن حال الذين علموا الإسلام، ووصلتهم الدعوة الإسلامية كاملة، فإن التبليغ قد تم وكمل العلم. وما علي النبي صلى الله تعالي عليه وسلم أن يدخل الهداية في القلوب، ولكن عليه أن يبلغ، وينذر ويبشر كما قال تعالي: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ، وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ إن عليه أن يبين المورد العذب وعلي الناس أن يردوه، فمن ورده استقي، ومن لم يرده شقي، وإن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، أكمل رسالته في أمرين: أولهما: أن الشريعة نزلت عليه كاملة، فأصولها كلها قد نزلت عليه، وعلمها أصحابه ليحملوا العبء كاملا من بعده، فبين أحكام العبادات، والزواجر الاجتماعية والعلاقات الإنسانية فى معاملات بين الناس وعلاقات بين الدولة الإسلامية وغيرها، وأحكام الحروب الفاضلة، وغير ذلك مما يسير بالإنسانية في طريق السلام والكمال. وثانيهما: أبلغ الدعوة كاملة لقومه العرب، ليكونوا المبلغين للناس كافة، أو حماة هذا التبليغ، ويتولي علماؤهم الدعوة، ويتولي سائرهم حماية هذه الدعوة، والله بكل شئ عليم، وإنه لم يبق بعد الكمال إلا الوداع.

حجة الوداع

حجة الوداع 709- كانت حجة الوداع فى آخر التبليغ المحمدى، إذ عم العلم بالدعوة الإسلامية البلاد العربية كلها، وخرج نور الإسلام إلى الشام، فدخل فيه من العرب الذين كانوا يخضعون لحكم الرومان، وسميت حجة الوداع، لأن النبي صلي الله تعالى عليه وسلم انتقل إلي الرفيق الأعلي بعدها بأمد قصير، ولأن العبارات فى خطبة الوداع كانت تفيد بأن النبي صلي الله تعالي عليه وسلم لا يلقاهم بعد عامهم هذا، وسميت حجة البلاغ. لأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان يذكر فى خطبتها عبارة التبليغ، ونحن نرى أنها سميت حجة البلاغ، لأنها خاتمة البلاغ إلى البلاد العربية، فعمهم العلم بالدعوة الإسلامية، ودخلوا في الإسلام وأشرب حبه في قلوب بعضهم، حتى صاروا مؤمنين، وقدم بعضهم الطاعة له ولأحكامه، ولما يدخل الإيمان قلوبهم. وقد حمل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عبء الدعوة وتبليغ ما علموا وما أدركوا من حضرة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، فحمل الأمانة الذين شاهدوا وعاينوا وقبسوا من نور الوحى الإلهي، وإن كان قد ختم الوحي برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وهم الذين رضي الله تعالي عنهم ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم فى بيعة الرضوان، كأبى بكر وعمر وعثمان وعلي، وأبي عبيدة وغيرهم من الذين كانوا كالحواريين لعيسي عليه الصلاة والسلام، حمل هؤلاء الأطهار الأمانة، ورعوها حق رعايتها، وكانت البلاد العربية كلها بعد أن ارتد من ارتد، قد تجردت لحماية الدعوة، حتي أشربوا حب الإيمان، فكانت القيادة الحربية أحيانا لغير أهل البيعة، ولكن يكون بجوارهم مرؤسون لهم من بعض أهل البيعة، كأبي عبيدة، كان بجوار خالد بن الوليد، وإن كنا نعتقد أن خالدا ممن دخل الإيمان قلبه، ولكن لم يكن كأهل البيعة في العلم بالإسلام، وأحكامه وفرائضه. وأحيانا تكون القيادة لأهل البيعة كما كان في فتح فارس، فقد كان القائد سعد بن أبي وقاص أحد العشرة المبشرين بالجنة. الخروج لحجة البلاغ، وما قام به من مناسك: 710- يقول ابن القيم: إن الحج فرض في السنة التاسعة، وما كان من حج الناس قبلها إنما كان على العادة التي كانت عند العرب، ولذلك لم يرسل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أميرا علي الحج إلا في السنة التاسعة، ولم يحج هذا العام، لأن المشركين كانوا يحجون علي عادة الجاهلية، فأرسل أبا بكر ولم يذهب بنفسه، حتي لا يكون فى سكوته إقرار لهذه الأمور الجاهلية، ولما منعت بمنع المشركين من القرب من المسجد الحرام، قام صلى الله تعالى عليه وسلم بالحج وتولي إمرته بنفسه.

وقد اعتزم الخروج من المدينة المنورة ميمما وجهه شطر المسجد الحرام لست بقين من ذى القعدة ولما عزم أعلن على الحج في المدينة المنورة وما حولها- فقدموا يريدون الحج مع رسول الله صلى الله تعالي عليه وسلم، ولما شاع الخبر في البلاد العربية، وافاه في الطريق خلق كثير، لا يحصون فكانوا من بين يديه، وعن يمينه وعن شماله على قدر رؤية البصر. خرج بمن حول المدينة المنورة نهارا في التاريخ الذى أشرنا إليه وخطب الذين صحبوه من المدينة المنورة وعلمهم مناسك الحج، وكان كلما وفد عليه، وهو فى طريقه، وفد علمه مناسك الحج، وأبعدهم عن بقايا الجاهلية التي كان المشركون يتخذونها في بيت الله الحرام كالطواف عرايا. وبين لهم كيف يكون الإحرام، ومواقيت الحج، وبين لهم أنواع الإحرام وما يلزم في كل نوع فبين لهم أن من أحرم بالحج والعمرة فعليه أن يسوق الهدي، ولا يتحلل إلا يوم النحر بعد أداء الحج، فيتحلل بنحر الهدي يوم النحر، ومن نوي العمرة ولم يسق الهدي فله أن يتحلل بنحر بعد السعي بين الصفا والمروة، والطواف بالبيت سبعا، يجب في ثلاث منها الهرولة، ويستلم في ابتداء كل واحدة الحجر الأسود تعرفا لكمالها. وفى السعي سبعا بين الصفا والمروة يرمل بين الميلين الأخضرين، وأنه يلبي بعد الإحرام بأن يقول لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك، والملك لا شريك لك لبيك. ثم بعد أن علم هذه المناسك قولا، وأراهم إياها عملا من بعد أن أحرم من ذي الحليفة ميقات المدينة المنورة، وعلمهم المواقيت كلها، وأنه يحرم عندها أو قبلها ولا يمر عليها إلا محرما. وأهل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بعد إحرامه بالحج والعمرة، وأهل بعض من معه، بالحج فقط، لأن العمرة تدخل فيه، وبالعمرة فقط، وقد فهم بعض الناس من إهلاله بالحج والعمرة أنه كان قارنا أى جامعا بينهما لأنه ساق الهدي ومن أهل بالحج كان مفردا أي لم ينو العمرة في حجته، ومن أهل بالعمرة فقط فإنه متمتع. لأنه المتمتع، يهل بالعمرة، ويؤديها ثم يتحلل منها، ثم ينوي الحج، ويذبح الهدي يوم النحر، وقد سمي القرآن القران تمتعا فجمع بينه وبين التمتع في عبارة واحدة، وهي قول الله تعالى: فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ، وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ، تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ، ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ، وَاتَّقُوا اللَّهَ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ. وإن الروايات تتضافر علي أن حجه صلي الله تعالى عليه وسلم كان قرانا وأنه عليه الصلاة والسلام يرتضي لنفسه أشدها كلفة، ولا شك أن القران يجمع كمالين: الهدى يساق ويعلم من أول إهلاله

والاستمساك بالتحريم في مناسك الحج، حتي تؤدي كلها من السعي والطواف والوقوف بعرفات ثم بالمزدلفة، ثم الذهاب إلي مني بعد المشعر الحرام، والتمتع فيه رخصة في أحد الأمرين ففيه رخصة التحلل قبل الحج، ثم الإحرام له، والحج بإفراده من غير عمرة معه فيه رخصة من عدم الالتزام بالهدي، فاختار سبحانه وتعالي القران، لأنه لا سهولة فيه أولا، ولأن فيه تعليم العمرة عملا ثانيا، ولأن فيه سوق الهدي من أول الحج، وإشعاره بوضع مزادة فيه، فقد وضع المزادة وشق جانبا من سنام زاملته، كان ذلك كله تعليما، وما كان ليعلم ذلك عمليا لو كان قد أحرم بالحج مفردا، أو أحرم متمتعا، فكان القران فيه كمال التعليم. ومع أنه صلي الله تعالي عليه وسلم اختار لنفسه القران نسكا فى الحج فقد رخص للناس، من غير بيان أيها أفضل فى أن يختاروا بين الأنساك الثلاثة. القران، أو التمتع، أو الإفراد، ولكنه اشترط في حال القران سوق الهدى، وفى التمتع الهدي يوم النحر. وقد حدث فى أثناء سير ركب النبي صلي الله تعالى عليه وسلم أن أصاب الحيض أم المؤمنين عائشة، فأمرها بالاستمرار فى حجها علي ألا تدخل المسجد الحرام، وتطوف، وولدت أسماء بنت عميس زوج أبي بكر ولده محمد بن أبى بكر، وقد أمرها أن تغتسل لإحرامها، كما أمر عائشة رضي الله عنها وعن أبيها. مضي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لحجته، والمسلمون وراءه يتعلمون من عمله، وهو يلبى، كلما تحول من مكان إلي مكان، وكلما علا مرتفعا، أو انخفض في واد. وقد منع أن يصاد حيوان من الحرم، وأن يؤكل صيد الحرم، لأنه حرام فما يؤدي إليه يكون حراما، ولكن أباح للمحرمين أن يأكلوا صيد غيرهم ممن يكونون في حل. وفى أثناء سيره، كان يبين العبر فيما مر به من أرض، وبوادى عسفان فقال لصاحبه أبي بكر، يا أبا بكر أي واد هذا؟ قال: وادي عسفان، فقال صلي الله تعالى عليه وسلم. «لقد مر به هود وصالح» . 711- ومن الروايات الراجحة يثبت أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان قارنا جمع بين الحج والعمرة فى إهلال واحد، وقد ساق الهدي وكان ثلاثا وستين بدنة، ولما جاء إليه علي من اليمن أشركه في بدنه. وقد قلد البدنة وأشعرها. ولكن لم يكن من معه قارنين، بل قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها كان منهم من كان قارنا كالرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ومنهم من أفرد بالحج، ومنهم من تمتع، فقد روي ابن أبى شيبة أن عائشة رضي الله عنها قالت: «خرجنا مع رسول الله صلي الله تعالى عليه وسلم، للحج علي ثلاثة

أنواع، فمنا من أهل بعمرة وحجة، ومنا من أهل بحج مفرد، ومنا من أهل بعمرة مفردة، فمن كان أهل بحج وعمرة معا، لم يحلل من شئ مما حرم منه، حتي يقضي مناسك الحج، ومن أهل بعمرة مفردة فطاف بالبيت، وبالصفا والمروة حل ما حرم منه، حتي يستقبل حجا. وإن هذا يدل علي أمرين: أحدهما: أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان قارنا، ولم يدع الناس جميعا إلي القران، لأنه ربما يكون فيهم من لا يستطيع الهدي، ومن لا يحتمل تحريم محرمات الحج مدة طويلة، فأجاز لهم التمتع والقران والإفراد، وبين لهم ما يلزم كل نوع من هذه النسك، ولم ينه عن واحد منها، بل لم يبين أفضلها، وإن كان الأفضل يعرف من اختيار النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لا من قوله، وربما يفهم من التخيير من غير مفاضلة المساواة فيها. وإن الحق أن كلا له فضله في حاله، ففي حال الضعف، أو عدم القدرة علي الهدي يكون الأيسر، هو الأفضل، لأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان يختار الأيسر، فما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثما. وقد رأي عمر وعثمان رضي الله عنه قد تبعه أن يكون الإفراد أولي، حتي لا يخلو البيت الحرام من قاصديه طول العام، لأنه إذا شاع اجتماع العمرة والحج في أشهر الحج، ما قصد البيت في أثناء العام، وعمر يريد ألا يخلو البيت طول العام من قاصديه. ولقد تبع ذلك عثمان رضي الله عنه، لأنه قد تعهد عند مبايعته أن يعمل بكتاب الله تعالي وسنة رسوله صلي الله تعالي عليه وسلم، وسنة الشيخين أبي بكر وعمر، واختيار الإفراد في الحج كان من سنة عمر رضي الله عنه، ولم يقره علي ذلك كثير من الصحابة كسعد بن أبي وقاص وعلى بن أبى طالب وعبد الله بن عباس، وعائشة رضي الله تعالي عنها. وقد روي أبو داود والإمام أحمد أن معاوية قال وكان في ملأ من أصحاب رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم: أنشدكم بالله أتعلمون أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم نهي عن جلود النمور أن يركب عليها؟ قالوا اللهم نعم، قال: وتعلمون أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم نهي عن لباس الذهب إلا مقطعا، قالوا: اللهم نعم، قال أتعلمون أنه نهي عن الشرب فى أواني الذهب والفضة؟ قالوا اللهم نعم، قال: «وتعلمون أنه نهى عن المتعة (أي الجمع بين العمرة والحج) قالوا اللهم لا» . «قال فوالله إنها لمعهن» . وإن هذا يدل على أن معاوية اتبع ما سار عليه عثمان اتباعا لعمر، للمقصد الاجتماعي الذي رآه، ولعل معاوية ظن، أو أراد أن يوهم أن عمله وعمل ذي النورين عثمان لنهي النبي صلى الله تعالى عليه

وسلم. والحقيقة- أن لا نهي عن نوع من الأنساك الثلاثة «القران والتمتع والإفراد» وخصوصا أن التمتع بالجمع بين العمرة والحج قد نص عليه في القران الكريم، وما كان لأحد مهما تكن مكانته بين المسلمين أن ينهي عن أمر أجازه القرآن الكريم وبين أحكامه. ولكن عمر رضى الله تعالي عنه اختار الإفراد لهذا المعنى الاجتماعي الذي ذكرناه، وخالفه فيه كثيرون من الصحابة، حتي إن ابنه عبد الله لم يوافقه. وخالف علي عثمان رضى الله تعالي عنه، ورد نهيه عن التمتع ردا شديدا وأعلن التمتع أمامه وفي حضرة جمع من الصحابة. ولقد روي أن عبد الله بن عمر كان يري التمتع بالقران، أو مجرد الجمع في أشهر الحج بين العمرة والحج قارنا أو متمتعا، فقال قائل إن أباك نهي عن العمرة «أي مع الحج» فقال الصحابي التقي: «أمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أحق أن يتبع أم أمر أبي؟! ولقد قال ابن عباس لمن كان يعارضه في القران والتمتع بعمل عمر «يوشك أن ينزل عليكم حجارة من السماء. أقول لكم قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وتقولون: قال أبو بكر وعمر» .

الأماكن التى نزلها، والأدعية التى ذكرها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم

الأماكن التى نزلها، والأدعية التى ذكرها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم 712- نهض رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وسار فى الطريق إلي مكة المكرمة بعد إهلاله من ذي الحليفة بالعمرة والحج، أي قارنا وسار في طريقه حتي نزل بذي طوي وصلي بها الصبح. ثم اغتسل، من يومه، ونهض إلى مكة المكرمة فدخلها من الثنية العليا التي تشرف على الحجون، ثم سار حتي دخل المسجد الحرام واستقبل الكعبة الشريفة، وقال: «اللهم زد بيتك هذا تشريفا وتعظيما ومهابة» . ويروي أنه كان عند رؤيته البيت الحرام يقول هذا الدعاء: «اللهم أنت السلام ومنك السلام، حينا ربنا بالسلام، اللهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما وتكريما ومهابة» . ولقد طاف، ولما حاذي الحجر الأسود استلمه، ثم أخذ عن يمينه، وجعل البيت عن يساره، ولما فرغ من طوافه، جاء خلف المقام، وقال «واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى» وصلي ركعتين، والمقام بينه وبين البيت. فلما فرغ من صلاته، أقبل إلي الحجر الأسود فاستلمه مرة أخرى. ثم اتجه إلي الصفا من الباب الذي يقابله، وقرأ قوله تعالى: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ، فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ، فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما (البقرة) . بعد السعي، استمر صلى الله تعالى عليه وسلم ممسكا بإحرامه، فلم يتحلل، وفعل مثل من أفرد بالحج، أما من تمتع بالعمرة إلي الحج، وكان مهلا بالعمرة فقط فإنه تحلل، واستمر متحللا، حتى نوي الحج من بعد ذلك. استمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على إحرامه، حتي تحلل يوم النحر، والذين كانوا معه ولم يسوقوا الهدي، وقد أهلوا بالعمرة تحللوا بعد طوافها حتي إذا كان يوم التروية وهو اليوم الثامن من ذي الحجة أهلوا بالحج، وصاروا فى إحرام، حتى تحللوا يوم النحر. ثم اتجه صلى الله تعالى عليه وسلم إلي مني، ومعه من صحبه من المسلمين، ومنهم من كان يلبي، ومنهم من كان يكبر، والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم لم ينه أحدا. وقد صلي عليه الصلاة والسلام بالمسلمين في مني صلاة الظهر والعصر وجمع بينهما جمع تقديم في وقت الظهر، وقد سار من بعد ذلك إلي عرفة.

ويقول ابن القيم: ضربت له قبة بنمرة، وهي فى شرقي عرفات فنزل بها حتي إذا زالت الشمس أمر بناقته القصواء فرحلت ثم سار حتي أتى بطن الوادي، فخطب الناس وهو علي راحلته خطبة عظيمة قرر فيها قواعد الإسلام، وهدم فيها قواعد الشرك والجاهلية، وقرر فيها تحريم المحرمات التى اتفقت الملل على تحريمها، وهي الدماء والأموال والأعراض، ووضع فيها أمور الجاهلية تحت قدميه، ووضع فيها ربا الجاهلية كله وأبطله، وأوصاهم بالنساء خيرا، وذكر الحق الذي لهن وعليهن، وأن الواجب لهن الرزق والكسوة بالمعروف، ولم يقدر ذلك بتقدير، وأباح للأزواج ضربهن إذا أدخلن إلى بيوتهن من يكره أزواجهن، وأوصي الأمة فيها بالاعتصام بكتاب الله، وأخبر أنهم لن يضلوا ما داموا معتصمين به، ثم أخبرهم أنهم مسئولون عنه، واستنطقهم بماذا يقولون، وبماذا يشهدون، فقالوا نشهد أنك قد بلغت وأديت، ونصحت، فرفع أصبعه إلي السماء، أن يبلغ شاهدهم غائبهم. ذكر ابن القيم خلاصة الخطبة التي كانت بعرفة، ولم يذكر نصها، ولا ندري لماذا لم يذكر النص، وقد ذكر النص ابن إسحاق في السيرة، فقد قال: «مضى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على حجته، فأرى الناس مناسكهم، وأعلمهم سنن حجهم، وخطب الناس خطبته التى بين فيها ما بين. فحمد الله تعالى وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس اسمعوا قولى، فإنى لا أدرى لعلى لا ألقاكم بعد عامى هذا فى هذا الموقف أبدا. أيها الناس إن دماءكم وأموالكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا، وكحرمة شهركم هذا، وإنكم ستلقون ربكم، فيسألكم عن أعمالكم، وقد بلغت، فمن كانت عنده أمانة، فليؤدها إلى من ائتمنه عليها. وإن كل ربا موضوع، ولكن لكم رؤوس أموالكم، لا تظلمون ولا تظلمون، قضى الله تعالى أنه لا ربا، وإن ربا عمى العباس بن عبد المطلب موضوع كله. وإن كل دم كان فى الجاهلية موضوع، وإن أول دم أضعه دم ابن عمى ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وكان مسترضعا فى بنى ليث فقتله هذيل، فهو أول ما أبدأ به من دماء الجاهلية. أما بعد أيها الناس، فإن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه أبدا، ولكنه إن يطع فيما سوى ذلك فقد رضى به مما تحقرون من أعمالكم، فاحذروه على دينكم.

أيها الناس، إنما النسيء زيادة فى الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما، ويحرمونه عاما، ليواطئوا عدة ما حرم الله، فيحلوا ما حرم الله، ويحرموا ما أحل الله، وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا فى كتاب الله منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات ورجب مضر الذى بين جمادى وشعبان. أما بعد أيها الناس، فإن لكم على نسائكم حقا، ولهن عليكم حقا، لكم عليهن ألا يوطئن «1» فرشكم أحدا تكرهونه وعليهن ألا يأتين بفاحشة مبينة فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن فى المضاجع، وتضربوهن ضربا غير مبرح فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف، واستوصوا بالنساء خيرا، فإنهن عندكم عوان، لا يملكن لأنفسهن شيئا، وإنكم إنما أخذتموهن، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، فاعقلوا أيها الناس قولى، فإنى قد بلغت، وقد تركت فيكم ما إن استعصمتم به، فلن تضلوا أبدا، أمرا بينا، كتاب الله وسنة نبيه. أيها الناس اسمعوا قولى واعقلوه تعلمن أن المسلم أخو المسلم، وإن المسلمين إخوة، فلا يحل لامريء من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه، فلا تظلمن أنفسكم. اللهم هل بلغت. ويقول ابن إسحاق: «ذكر لى أن الناس قالوا: اللهم نعم.. فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: اللهم اشهد» . وهنا ننبه إلى أمرين آخرين يتعلقان بالخطبة. أولهما: أن الجمع كان حاشدا، والخلق كانوا مزدحمين ازدحاما لم يكن له مثيل من قبل، فقد جاء الناس من كل فج من الجزيرة العربية ليسعدوا بصحبة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم فى حجته. ولذلك لم يكن من الممكن أن يسمع الناس جميعا صوت النبى صلى الله عليه وسلم، وهو يتكلم، فكان بجواره صارخ يصرخ للناس بما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن إسحاق: كان الرجل الذى يصرخ فى الناس بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ربيعة بن أمية بن خلف يقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قل يا أيها الناس، إن رسول الله يقول: هل تدرون أى شهر هذا فيقولون الشهر الحرام..» .

_ (1) معناها يدخلن بيوتكم من لا تريدون دخولهم.

وهكذا كان ذلك الصارخ ينطق بما قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ليسمع القاصى والدانى، والقريب والبعيد من حضرة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. ثانيهما: إنه روى عن بعض الثقات زيادة عما روينا من الخطبة الجامعة وزيادة الثقة مقبولة ومن الزيادات التى رويت قول النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وذلك قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: أيها الناس، إن الله قد أدى لكل ذى حق حقه، وإنه لا يجوز وصية لوارث، والولد للفراش وللعاهر الحجر، فمن ادعى إلى غير أبيه، أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا. 713- بعد أن وقف بعرفات وألقى خطبته الجامعة، لما غربت الشمس، واستحكم غروبها، كما قال ابن القيم، بحيث ذهبت الصفرة- اتجه إلى المزدلفة فأفاض من عرفة إليها، وأردف إليه على ناقته أسامة بن زيد، وهو يقول: «أيها الناس عليكم بالسكينة، فإن البر ليس بالإيضاع «1» ، ثم جعل يسير العنق وكان فى مسيره هذا لا ينقطع عن التلبية كلما علا، أو انحدر» . وقد صلى المغرب والعشاء فى وقت العشاء فجمع بينهما جمع تأخير، بأذان واحد، وإقامتين. ثم سار من بعد ذلك إلى منى بعد أن نام، ولما اتجه إلى منى أمر من معه ألا يرموا الجمار إلا بعد طلوع الشمس. وقد رمى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الجمار ثم نحر، ثم تحلل من الإحرام، وقد كان معه بدن كثيرة، نحر بيده منها ثلاثا وستين فى النحر بمنى، ثم نحر على بن أبى طالب رضى الله تعالى عنه الباقى، وأمره أن يتصدق بلحومها وجلودها فى المساكين. وقد ذكر ابن القيم أنه خطب فى منى خطبة عظيمة بليغة، وكل كلامه عليه الصلاة والسلام بليغ، وقال ابن القيم فى هذه الخطبة، أعلمهم فيها بحرمة يوم النحر، وفضله عند الله تعالى، وحرمة مكة المكرمة على جميع البلاد وأمر بالسمع والطاعة، لمن قادهم بكتاب الله تعالى، وأمر الناس أن يأخذوا مناسكهم عنه، وقال: لعلى لا أحج بعد عامى هذا، وعلمهم مناسكهم، وأنزل المهاجرين والأنصار منازلهم، وأمر الناس ألا يرجعوا بعده كفارا يضرب بعضهم رقاب بعض، وأمرهم بالتبليغ عنه وأخبر أنه رب مبلغ أوعى من سامع، وقال فى خطبته: لا يجنى جان إلا على نفسه، وأنزل المهاجرين عن يمين القبلة والأنصار عن يسارها، والناس حولهم، وفتح الله تعالى أسماع الناس حتى سمعها أهل منى فى منازلهم.

_ (1) أى ليس بالإسراع، وهو المسير بين الإسراع والإبطاء.

وقال فى خطبته قلت: «اعبدوا ربكم، وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأطيعوا ذا أمركم تدخلوا جنة ربكم» وودع حينئذ الناس. ويفهم من كلام ابن القيم هذا أن خطبة الوداع ليست التى ألقيت فى عرفات، إنما خطبة الوداع هى هذه لأنها متأخره عن الأولى، والوداع للأخيرة، ولأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ذكر فيها الوداع والذى أراه أن الحجة كانت حجة الوداع، فكل ما فيها من كلام يتضمن معنى الوداع. وبعد أن نحر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حلق وفعل أصحابه ما فعل، اتجه إلى البيت الحرام، فطاف طواف الإفاضة، وهو طواف الزيارة، وهو الركن من الحج. وشرب من زمزم، ثم عاد إلى منى، وبعد الزوال رمى الجمار، فابتدأ بالأولى التى تلى مسجد الخيف ثم الوسطى، ثم العقبة. وتكرر ذلك فى أيام التشريق، الثلاثة التى تلى يوم النحر. وقد خطب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم خطبة ثانية فى منى، وهى ثالثة الخطب باحتساب خطبة عرفة، ويقول ابن القيم فى هذه الخطبة: خطب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم الناس بمنى خطبتين، خطبة يوم النحر، وقد تقدمت، والخطبة الثانية فى أواسط أيام التشريق قبل ثانى يوم النحر، قال فيها: «وهل تدرون أى شهر هذا، قالوا الله ورسوله أعلم قال هذا الشهر الحرام، ثم قال إنى لا أدرى لعلى لا ألقاكم بعد هذا، ألا فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا فى بلدكم هذا حتى تلقوا ربكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا فليبلغ أدناكم أقصاكم، ألا هل بلغت» . ويروى أنه نزلت بعرفة آية: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً. ويروى أنه نزلت بمنى سورة إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ. وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً. لقد انتهى حج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وهى الحجة الأولى والأخيرة لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فلم يحج قبلها فى مكة المكرمة لما كان يحوط الكعبة الشريفة من أوثان، وما كان يفعله أهل الجاهلية من ذلك، ويلاحظ أن حج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان قرانا كما ذكرنا، ولم يلزم الناس، ولم يذكر للناس أنه أفضل من غيره، وإن كان أفضل لأن النبى صلى الله تعالى

دعاؤه صلى الله تعالى عليه وسلم فى عرفة:

عليه وسلم قد اختاره، وأنه مع ذلك ترك الناس أحرارا يختارون من أنواع الحج الثلاثة ما يكون أسهل عليهم، فمن ساق هديا يختار القران إن أراد، ومن لم يسق وأهل بالعمرة، لم يسق هديا، فقد اختار التمتع، ومن أهل بالحج ابتداء، فقد اختاره ولا يسوق هديا. وقد كان المسلمون الذين صحبوا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى حجته منهم من اختار القران، ومنهم من اختار التمتع، ومنهم من اختار الإهلال بالحج، ولا حرج ما دام يختار ما يستطيعه، ولا يشق عليه. وما يروى من أن عمر اختار للمسلمين الإفراد فى خلافته، لم يكن ذلك إلزاما، وكيف يلزم مؤمن المسلمين بغير ما ألزمهم به الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، ولم يعرف عنه أنه وضع عقابا على من قرن أو تمتع، وكيف ذلك وابنه عبد الله لم يوافقه، ولكن عمل عمر كان رأيا. وهو رأى له وجهه، وهو ألا يخلو البيت الحرام من زواره. دعاؤه صلى الله تعالى عليه وسلم فى عرفة: 714- لقد كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كثير الدعاء فى حجه، لأنه فى ضيافة الرحمن وفى أرض الله، ففى كل منسك من مناسك الحج كان يدعو الله تعالى، ولقد كان يدعو عندما أهل بالعمرة والحج، وكان يدعو فى طوافه، وفى سعيه، ويدعو فى عرفة وفى الشهر الحرام. ولقد روى عن على رضى الله عنه أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان دعاؤه على عرفة فى الموقف: اللهم لك الحمد كالذى نقول، وخير مما نقول، اللهم لك صلاتى ونسكى ومحياى ومماتى، أعوذ بك من عذاب القبر ووسوسة الصدر، وشتات الأمر، اللهم إنى أعوذ بك من شر ما تهب به الريح. وروى عن على أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم دعا أيضا فقال على: «إنه دعانى يوم عرفة أن أقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللهم اجعل فى بصرى نورا وفى سمعى نورا، وفى قلبى نورا اللهم اشرح لى صدرى ويسر لى أمرى اللهم إنى أعوذ بك من وسواس الصدر وشتات الأمر، وشر فتنة القبر، وشر ما يلج فى الليل، وشر ما يلج فى النهار، وشر ما تهب به الرياح، وشر بوائق الدهر» .

العودة إلى المدينة المنورة

وروى عن ابن عباس أنه كان فيما دعا به النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى حجة الوداع. «اللهم إنك تسمع كلامى، وترى مكانى، وتعلم سرى وعلانيتى، ولا يخفى عليك شيء من أمرى، أنا البائس الفقير المستغيث المستجير، الوجل المشفق، المعترف بذنبه، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل ابتهال الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، من خضعت لك رقبته، وفاضت لك عبرته، وذل لك جسده، ورغم لك أنفه، اللهم لا تجعلنى بدعائك رب شقيا، وكن بى رؤوفا رحيما، يا خير المسئولين» . وروى أبو داود الطيالسى فى سنده عن ابن عباس قال: رأيت أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم دعا عشية عرفة لأمته بالمغفرة والرحمة، فأكثر الدعاء فأوحى إليه أنى قد فعلت إلا ظلم بعضهم بعضا، وأما ذنوبهم فيما بينى وبينهم فقد غفرتها، فقال: يا رب إنك قادر على أن تثيب هذا المظلوم خيرا من مظلمته. وتغفر لهذا الظالم. فلم يجب تلك العشية. هذه أخبار عن أدعية النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وهى سامية فى معناها، وقد رويت، وفى بعض رجالها ضعف عند رجال الحديث والله سبحانه وتعالى أعلم. العودة إلى المدينة المنورة 715- عاد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى المدينة المنورة بعد أن أدى مناسك الحج، وبينها للناس، وفى أثناء عودته عند غدير خم وهو قريب من الجحفة، وصله شكوى الشكاة من على كرم الله وجهه فى الجنة. ويقول الحافظ ابن كثير إنه خطب فى اليوم الثامن عشر من ذى الحجة، خطبة عظيمة وكان بغدير خم تحت شجرة هناك فبين فيها أشياء كثيرة، وذكر من عدل على رضى الله تعالى عنه وأمانته وقربه إليه ما أزاح به ما كان فى نفوس كثيرة من نفوس كثيرين من الناس عنه. لقد أقبل أهل اليمن يشكون عليا من شدته فى منع ركوب إبل الصدقة، وتوزيع حلل البز فى غيبته، ونزعها منهم. فجاء فى خطبة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ما وافق فيه على مسلك على كرم الله وجهه فى الجنة، فقال: أيها الناس، لا تشكو عليا، فوالله إنه لأخشى فى ذات الله من أن يشكى. وفى بعض الروايات الصحيحة أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أخذ بيد على، فأقامه عن يمينه، وقال: ألست أولى من كل امريء من نفسه، قالوا بلى، قال فإن هذا مولى أنا مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه.

الوداع بعد التمام

فلقى عمر بن الخطاب عليا، فقال له: «هنيئا لك أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة» وقد روى حديث من كنت مولاه فعلى مولاه اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه. رواه أصحاب السنن الأربع والإمام أحمد بطرق صحيحة. فكان حقا أن يكون أولى أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد بينا ذلك فيما مضى، وبينا أنه مع صحته لا يدل على أنه أولى بالخلافة من الشيخين أبى بكر وعمر، فالخلافة تقتضى النظر إلى أمور كثيرة، يصح أن يكون بعضها محبة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ولكن ليست كلها، فمحبة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لا تجعل غيره ليس أهلا للخلافة. والله تعالى أعلم. الوداع بعد التمام 716- نزل قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ، وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي، وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً قال الرواة فى الصحاح، إن نزولها كان والمسلمون واقفون بعرفة يوم الجمعة، فلما سمعها عمر بكى فقيل له ما يبكيك؟ قال ما بعد الكمال إلا النقصان، والنقصان هو وداع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الدنيا، وكأنه فهم رضى الله عنه بعقله المدرك وبصيرته النافذة. أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بلغ رسالة ربه، وأنه إذ بلغها، فلم يبق إلا أن يذهب إلى ربه وقد أدى واجبه وبلغ وأنذر وبشر وعلم الناس علم الشريعة، وعلم القرآن الكريم. وأنه صلى الله تعالى عليه وسلم علم بعلم ربه أنه قد آن الوداع فكان فى خطبه فى الحج: لعلى لا ألقاكم بعد عامى هذا. ولقد نزل وسط أيام التشريق سورة النصر: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ. وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً وقالوا إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد عرف إنه الوداع وقد فسر ابن عباس فى حضرة جمع من الصحابة بأن السورة تدل على أجل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ووافق عليه عمر رضى الله عنه، ولم يعترض عليه أحد، وذلك بطريق الإشارة أو التظنن لأنه إذا تم النصر، وعم الاسلام فقد آن أوان المفارقة. وإن آيات القرآن الكريم تدل على أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مبعثه وحياته لأجل محدود، وأنه ليس بمخلد وأن وفاته كغيره من البشر أقرب إليه من حبل الوريد لبشره.

بعث أسامة بن زيد

1- ومنها قوله تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ. ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ. 2- ومن ذلك قوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ، وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً، وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ، فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ، وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ. 3- ومنها قوله تعالى: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ، أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ، وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ، فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ هذه قبسة من الآيات القرآنية، وغيرها كثير. ومن الأحاديث التى تنبأ فيها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بقرب أجله ولقاء ربه قوله لابنته فاطمة: «إن جبريل كان يعارضنى القرآن الكريم فى كل سنة مرة وإنه عارضنى به العام مرتين وما أرى ذلك إلا اقتراب أجلي» . 4- وروى البخارى، كان يعتكف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى رمضان عشرة أيام فلما كان العام الذى توفى فيه اعتكف عشرين يوما. وهكذا تتضافر الأخبار عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أنه توقع وفاته فى العام الذى حج فيه، أو بعده بقليل. بعث أسامة بن زيد 717- ومع أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان يتوقع الموت القريب وقد ظهرت أماراته كان قائما بواجب التبليغ وإعزاز الإسلام لآخر لحظة من لحظاته فالواجب مستمر لا يعوقه مرض إن كان قادرا على الإرسال والبعث، ولا يعوقه توقع الموت وقربه، لأنه مادامت الحياة، فالواجب قائم. بعث اسامة إلى أرض فلسطين: وقد أجمع الرواة على أنه عليه الصلاة والسلام جعل فى إمرته الشيخين أبى بكر وعمر ولقد بنى الشيعة على ذلك أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وقد توقع الموت ودخل جسمه المرض وأذن بوداع بعثهما فى جيش أسامة ليخلوا الجو لعلى كرم الله وجهه ولا ينازعانه الخلافة.

ولا نحسب أن ذلك يصلح تعليلا، أو حكمة لتولى أسامة إمرة الشيخين، وقد كان يمكن أن يولى أحدهما الجيش، والآخر يعاونه، فإن ذلك قد يتحقق فيه ما فرضوه مقصدا للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، والحق أن اختيار النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لأسامة يمكن أن تتعرف حكمته بغير ذلك. فأبوه زيد بن حارثة- كان القائد الأول للمسلمين الذى كان يحمل الراية، وقد قتله الرومان، فكان من حكمة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يمكنه من قتلة أبيه، فيكون أكثر حمية من غيره، وأشد حماسة، وأيضا فإن أسامة كان شابا، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم وقد توقع الموت عزم أن يولى الشباب. وأن زيدا لم يكن قرشيا، بل كان أبوه من الموالى أعتقه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وتبناه، حتى ألغى التبنى بحكم القرآن الكريم من بعد الهجرة، وإن تعيينه وهو بهذه الحال، بيان لأن السيادة لا تكون دائما للقرشيين، وتوكيدا لهذا المعنى السامى جعل شيخين من شيوخ قريش والمسلمين فى إمرته وكانت لهما مكانتهما فى قريش جاهلية وإسلاما، فكان جعله أميرا عليهما منعا للسيطرة القرشية، ومنعا للأرستقراطية الإسلامية. وإن هذه الأمور تلمس لحكمة فعل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ليست تعليلا دقيقا ولقد كان هذا البعث آخر سرية أرسلها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وكأنها كانت إشارة إلى أن يتجه المسلمون بالدعوة الإسلامية إلى خارج الجزيرة العربية، ولقد شدد عليه الصلاة والسلام فى تنفيذ هذه السرية، شدد فيها وهو حى وشدد فى التوصية بتنفيذها إذا مات ولكن لم تنفذ إلا بعد مماته. وتخلف عنها الشيخان أبو بكر وعمر، فأما أبو بكر، فقد اختبره الله بالخلافة، وارتداد الأعراب، وكان لا بد أن يبقى ليحمى المدينة المنورة، وليحمى العقيدة، وليحمل المرتدين على التوبة. وأما عمر فلأنه كالوزير لأبى بكر، استأذن أسامة فى أن يبقى بجواره فى هذه الشديدة لتكون قوة المسلمين المؤمنين متضافرة، فى دفع هذا البلاء والشديدة شديدة، والبلاء بلاء، فقد اجتمع أبو بكر وعمر وعلى والزبير وطلحة، وعبيدة وعبد الرحمن بن عوف ليصدوا الردة، ويتحقق قول الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ، فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ، يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ،

الوداع

الوداع 718- عاد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لخمس بقين من ذى الحجة فى السنة العاشرة، وعاش أكرمه الله تعالى بقية ذى الحجة، والمحرم كله، واعتراه بعد ذلك وجع مرض الموت متجها إلى لقاء الرفيق الأعلى فى صفر من السنة الحادية عشرة، روى أن ذلك ابتدأ فى الليلة الحادية عشرة منه وروى أنه ابتدأ لليال بقين منه فى آخره، ثم كانت الوفاة بعد حياته المباركة للبشرية كلها فى ربيع الأول، وروى فى أوله فى ليال مضت منه، وروى أنه فى الثانى عشر منه، ويرجح ذلك الأكثرون من الرواة، وكان ذلك فى يوم الاثنين من ذلك الشهر الذى كان فيه ميلاده ومبعثه، وهجرته، ثم توديعه الدنيا إلى لقاء ربه الكريم. وكانت أمارات الوداع ظاهرة بينة، ونذكر أمورا ثلاثة كانت فى أول مرضه. أولها: أنه روى عبد الله بن عمرو بن العاص عن أبى مويهبة مولى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. قال: بعثنى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من جوف الليل، وقال إن الله تعالى أمرنى أن أستغفر لأهل هذا البقيع فانطلقت. وفى رواية الإمام أحمد عن أبى مويهبة أنه قال: «أمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن يصلى على أهل البقيع، فصلى عليهم ثلاث مرات، فلما كانت الثالثة قال يا أبا مويهبة أسرج دابتى، فركب ومشيت حتى انتهت إليهم فنزل عن دابته، وأمسكت الدابة، فوقف فقال: ليهنكم ما أنتم فيه مما فيه الناس، أتت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع بعضها بعضا، الآخرة أشد من الأولي، فليهنكم ما أنتم فيه مما فيه الناس ثم رجع فقال يا أبا مويهبة إنى خيرت بين مفاتيح ما يفتح على أمتى، ولقاء ربى فاخترت لقاء ربى. وإن هذه الرواية تدل على أن الصلاة على أهل البقيع من موتى الصحابة كانت قبل ذهابه عليه الصلاة والسلام إلى قبورهم، وخطابه إياهم. وقد روى ابن إسحاق عن ابن مسعود عن عائشة أنها قالت: رجع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من البقيع، وأنا أجد صداعا فى رأسى وأقول وارأساه، فقال: بل أنا والله يا عائشة وارأساه، ثم قال: وما ضرك لو مت. قلت: والله لكأنى بك لو فعلت ذلك لقد رجعت إلى بيتى، فأعرست فيه إلى بعض نسائك. وفى هذا الخبر نجد أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد أعلن تقديره وتكريمه لصحابته، وهم أموات كما كانوا أحبابه، وهم أحياء.

الأمر الثانى:

الأمر الثانى: الذى يجب التنبيه إليه أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أوصى بالأنصار خيرا. روى البيهقى بسنده أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه فى مرض موته وقد اشتد به وعكه خرج فجلس على المنبر فكان أول ما ذكر بعد حمد الله تعالى والثناء عليه ذكر أصحاب أحد فاستغفر لهم ثم قال: «يا معشر المهاجرين، إنكم أصبحتم تزيدون، والأنصار على هيئتها لا تزيد وإنهم عيبتى التى أويت إليها، فأكرموا كريمهم، وتجاوزوا عن مسيئهم. ثم قال عليه الصلاة والسلام: أيها الناس إن عبدا من عباد الله تعالى قد خيره الله تعالى بين الدنيا، وبين ما عند الله فاختار ما عند الله، ففهمها أبو بكر رضى الله تعالى عنه من بين الناس فبكى، وقال: «بل نحن نفديك بأنفسنا وأبنائنا وأموالنا يا رسول الله» . وإن هذه الرواية فيها الوصية بالأنصار، لأنهم قوة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وهم الذين آووا ونصروا وقد نفذت هذه الوصية فى عهد الراشدين وعمر بن عبد العزيز، أما ما كان من بنى أمية نحو الأنصار فالله أعلم بهم وهو مجازيهم عليه. الأمر الثالث: ما رواه البخارى عن الفضل بن عباس أنه قال: أتانى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو يوعك وعكا شديدا وقد عصب رأسه، فقال خذ بيدى يا فضل، فأخذت بيده حتى قعد على المنبر ثم قال: ناد فى الناس، فناديت الصلاة جامعة فاجتمعوا فقام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خطيبا فقال: أما بعد أيها الناس قد دنا منى خلوف من بين أظهركم، ولن أفى هذا المقام فيكم، وقد كنت أرى أن غيره غير مغن عنى حتى أقوم فيكم، ألا فمن كنت قد جلدت له ظهرا، فهذا ظهرى فليستقد منه ومن كنت أخذت له مالا فهذا مالى، فليأخذ منه، ومن كنت قد شتمت له عرضا، فهذا عرضى فليستقد منه، ولا يقولن قائل إنى أخاف الشحناء من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ألا وإن الشحناء ليست من شأنى ولا من خلقى، وإن أحبكم إلى من أخذ حقا كان له على، أو حللنى، فلقيت الله عز وجل، وليس لأحد على مظلمة، فقام رجل، وقال: يا رسول الله لى عندك ثلاثة دراهم فقال عليه الصلاة والسلام، أما أنا فلا أكذب قائلا، ولا أستحلفه على يمين، فيم كانت لك عندى؟ قال أما تذكر أنه مر بك سائل فأمرتنى، فأعطيته ثلاثة، قال عليه الصلاة والسلام: «أعطه يا فضل» . ثم عاد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مستمرا فى مقالته الأولى وقال: أيها الناس من عنده من الغلول شيء فليرده، فقام رجل فقال يا رسول الله عندى ثلاثة دراهم غللتها فى الله فقال عليه الصلاة والسلام، فلم غللتها؟ قال: كنت محتاجا إليها. قال عليه الصلاة والسلام: خذها منه يا فضل.

توديعه لابنته:

ثم عاد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مستمرا فى مقالته الأولى وقال: يا أيها الناس من أحس من نفسه شيئا فليقم أدعو له. فقام إليه رجل، فقال: «إنى لمنافق، وإنى لكذوب، وانى لشؤوم» فقال عمر بن الخطاب: ويحك لقد سترك الله لو سترت على نفسك؟. فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: مه يا ابن الخطاب فضوح الدنيا أهون عند الله من فضوح الآخرة، اللهم ارزقه صدقا وإيمانا وأذهب عنه الشؤم إذا شاء. توديعه لابنته: 719- اختبر الله نبيه عليه الصلاة والسلام وهو بشر بفقد أولاده، واحدا بعد الآخر، لقد رزقه تعالى من خديجة أحب أزواجه إليه ستة: ذكران وأربع بنات، فقد القاسم والطيب وهو فى قوة شبابه، وفقد بعد ذلك وهو فى دار الهجرة ثلاث بنات من بناته، فقد رقية وهو فى غزوة بدر الكبرى ثم فقد زينب ثم أم كلثوم. وأصيب وهو فى كهولته بموت إبراهيم أصغر أولاده، وكان قرة عين، وقال بعد دفنه متحاملا على أصحابه ناظرا إلى أحد: يا جبل إنك لا تحمل ما أحمل. وقال نبى البشر ذلك، وهو هاديء، فبكى عليه الصلاة والسلام والبكاء من الرحمن، والصراخ من الشيطان. لم يبق له من أولاده إلا فاطمة الزهراء زوج أحب أصحابه إليه، فتجمع حب من فقدوا جميعا إذ صارت هى الوحيدة، والمستأثرة بالأبوة المحبة العطوف. وكان لا بد أن يخصها بوداع لها بعد ذلك الوداع العام الذى ذكرناه. وروى فى الصحيحين عن عائشة رضى الله تعالى عنها قالت: اجتمع نساء رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عنده، لم يغادر منهن امرأة فجاءت فاطمة (رضى الله عنها) تمشى، لا تخطيء مشيتها مشية أبيها، فقال عليه الصلاة والسلام مرحبا يا بنتى فأقعدها عن يمينه (أو شماله) اختلاف فى الرواية، ثم سارّها بشيء فبكت، ثم سارها فضحكت، فقلت لها خصك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بالسرار، وأنت تبكين فقلت أخبرينى ما سارك، فقالت ما كنت لأفشى سر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فلما توفى عليه الصلاة والسلام قلت: أسألك لما لى عليه من الحق لما أخبرتنى. قالت أما الآن فنعم، فقد سارنى فى الأولى، قال لى إن جبريل كان يعارضنى فى القرآن الكريم كل سنة مرة وقد عارضنى فى هذا العام مرتين ولا أدرى ذلك إلا لاقتراب أجلى، فاتقى الله واصبرى فنعم السلف أنا لك فبكيت ثم سارنى فقال أما ترضين أن تكونى سيدة نساء المؤمنين أو سيدة نساء هذه الأمة، فضحكت.

إنك ميت وإنهم ميتون

هذا وداع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لابنته، ويروى أنه قال لها إنها ستكون أول أهله لحاقا به. هذا وداع الأب البار لابنته الزهراء سيدة نساء هذه الأمة. إنك ميت وإنهم ميتون 720- روى البخارى أن عبد الله بن مسعود دخل على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فقال له: إنك لتوعك وعكا شديدا!! فقال له النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أجل، إنى أوعك كما يوعك الرجلان منكم، قلت إن لك أجرين!! قال عليه الصلاة والسلام نعم: نعم، والذى نفسى بيده، ما على الأرض مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه، إلا حط الله عنه خطايا كما تحط الشجرة ورقها. وروى عن أبى سعيد الخدرى أنه وضع يده على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم إنى لا أستطيع أن أضع يدى عليك لشدة حماك، فقال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: «إنا معشر الأنبياء يضاعف لنا البلاء، كما يضاعف لنا الأجر» . وروى البخارى فى صحيحه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال فى مرضه: «أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون، ثم الأمثال فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان فى دينه صلابة شدد عليه» . أخذ المرض يدب إلى جسم نور الوجود محمد صلى الله تعالى عليه وسلم حتى ضعف، ومن قرابته من يحسب أن ما فيه من ذات الجنب، وكان هذا رأى أقرب أهله إليه العباس وكان من طبهم لذلك أن يلد المريض فى فمه، وقد لدوا رسول الحق صلى الله تعالى عليه وسلم وهو فى غفوة منه، فلما صحا أحس بأثره فى فمه، فأمر بأن يلد من كان فى حضرته واستثنى العباس، ولعله لمكانته من كبر السن، وفعل ذلك مع علمه بأن الذى أمر بلده هو عمه العباس رضى الله تعالى عنه، وقال عليه الصلاة والسلام فى اللد والتخوف من ذات الجنب: «إنها من الشيطان وما كان الله تعالى ليسلطه على» . اشتد المرض برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولزم فراشه، فاستأذن نساءه فى أن يمرض فى بيت عائشة وقد روى البخارى خبرها فى ذلك قالت لما ثقل المرض على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم واشتد، استأذن أزواجه أن يمرض فى بيتى، فأذن له، فخرج، وهو بين الرجلين تخط رجلاه الأرض بين العباس بن عبد المطلب وبين رجل آخر. ولقد سئل ابن عباس عن الرجل الآخر الذى لم

صلاة أبى بكر:

تذكر اسمه فقال السائل- لا- قال ابن عباس هو على بن أبى طالب. لم تذكر اسم على فعفا الله عنها، ورضى عنها. نقل الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم إلى بيت عائشة، وقد اشتدت الحمى، فكان يقول: أهريقوا الماء على، فأراقوا عليه صلى الله تعالى عليه وسلم ماء كثيرا، حتى لقد روت أم المؤمنين عائشة أنه أهريق عليه سبع قرب من الماء، لم تحل أو كيتهن. ولقد قالت عائشة رضى الله تعالى عنها فيما رواه البخارى كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا اشتكى نفث على نفسه بالمعوذات، ومسح عنه بيده، فلما اشتكى وجعه الذى توفى فيه طفقت أنفث عليه بالمعوذات التى كان ينفث بها. صلاة أبى بكر: 721- اشتد المرض على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وشق عليه أن يؤم الناس للصلاة، فكان لا بد أن ينيب أحدا من المؤمنين الأولين الذين كانوا من أول الناس إسلاما، وكان خليله وصديقه وصفيه أبو بكر أول الرجال إسلاما هو المختار، فاختاره ليصلى بالمسلمين فلا تتعطل الإمامة للصلاة، ويخشى أن تتعطل الصلاة، وهى عمود الإسلام، ولا دين من غير صلاة. روى الامام أحمد أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لم يخرج للصلاة فصلى بالناس عمر رضى الله تعالى عنه، وكان ذلك استجابة لقول رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذ قال مروا من يصلى بالناس، فلم يكن من كبار الصحابة إلا عمر وزير رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الثانى، وكان عمر رضى الله تعالى عنه رجلا مجهرا، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأين أبو بكر، فبعث إلى أبى بكر، وهذا الخبر يدل على أن الإمام عمر ما صلى إلا فى غيبة أبى بكر، والاستجابة لأمر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أمرا عاما، إذ يقول: مروا من يصلى بالناس، ثم عين من بعد صلاة عمر من يؤم الناس وهو أبو بكر رضى الله تعالى عنه. روى البخارى عن الأعمش عن عائشة قالت لما مرض النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مرضه الذى مات فيه فحضرت الصلاة، فأذن بلال، فقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس، فقيل له: إن أبا بكر رجل أسيف إذا قام مقامك لم يستطع أن يصلى بالناس. وأعاد عليه الصلاة والسلام أمره فأعادوا كلامهم، فقال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: إنكن صواحب يوسف مروا أبا بكر فليصل، فخرج أبو بكر فوجد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى نفسه خفة، فخرج يهادى بين رجلين، كأنى أنظر إلى رجليه تخطان من

لكل أجل كتاب:

الوجع، فأراد أبو بكر أن يتأخر فأومأ إليه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن مكانك ثم أتى حتى جلس إلى جانبه، قيل للأعمش الراوى عن عائشة: فكان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وأبو بكر يصلى بصلاته، والناس يصلون بصلاة أبى بكر فأومأ برأسه. نعم. وقد استمر أبو بكر طول مدة مرض النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يصلى بالناس، حتى توفى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وانتهى إلى الرفيق الأعلى، تاركا وراءه ذلك الميراث الإنسانى الخالد، وهو شريعة الله تعالى التى بلغها، وعلم الناس بها ما بين مشرق ومغرب فى الجزيرة العربية، ثم ترامى أمرها إلى ما وراءها. وقد انقطع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى مرضه ثلاثة أيام لم يخرج إلى الناس فيها، وكان يصلى بهم أبو بكر كما ذكرنا، وقد كانت آخر صلاة صلى مع الناس صلاة الظهر، قبل الثلاث. وروى البخارى عن أنس بن مالك رضى الله تعالى عنه، وكان ملازما للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن أبا بكر كان يصلى بهم فى وجع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم الذى توفى فيه، حتى إذا كان يوم الاثنين وهم صفوف فى الصلاة، فكشف النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ستر الحجرة ينظر إلينا، وتبسم يضحك، فهممنا أن نفتتن من الفرح برؤيا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ونكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف، وظن أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم خارج للصلاة، فأشار إلينا أن أتموا صلاتكم، وأرخى الستر، وتوفى من يومه. هكذا كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قائما على تبليغ رسالة ربه، حتى آخر جزء من حياته، فهو إذ يحتضر ينظر إلى مقدار استجابة الناس لدعوته إلى ربه، حتى إذا اطمأن تبسم ضاحكا، ثم أسلم نفسه لله تعالى، الذى قبضه إليه، ففاضت روحه الطاهرة، وانتقل إلى الرفيق الرحيم، انتقل إلى الملأ الأعلى. لكل أجل كتاب: 722- استبشر المسلمون خيرا عندما أزاح عليه الصلاة والسلام الستر لينظر إليهم وهم يصلون وقد تبسم ضاحكا، فظنوا البرء والسلامة، وقد فرحوا، حتى كادوا يخرجون من الصلاة فرحا، ولم يظنوا أنها الوداع الأخير، ورؤية البلاغ الكامل الذى اعتقد أنه قد أتم تبليغ الرسالة. كان ذلك فى يوم الاثنين إذ كانت هذه الرؤية المودعة، الأجل المكتوب، وكان أبو بكر الصديق الأمين قد اطمأن بهذه النظرة، فذهب إلى السنح حيث يقيم، ولكن ما لبث إلا قليلا، حتى نعى الناعى

رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فجاء لتكتحل عيناه برؤية الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم الذى كان ملء السماء والأرض وكان مسجى فى فراشه، ولنترك الخبر الأليم كما وصفته أم المؤمنين عائشة حب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، لنترك لها البيان: بينما رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على منكبى، إذ مال رأسه نحو رأسى فظننت أنه يريد من رأسى حاجة فخرجت من فيه نقطة باردة، فوقعت فاقشعر لها جلدى فظننت أنه غشى عليه، فسجيته ثوبا فجاء عمر، والمغيرة بن شعبة فاستأذنا فأذنت لهما، وجذبت إلى الحجاب. فقال عمر واغشياه ما أشد غشى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ثم قاما، فلما دنوا من الباب قال المغيرة لقد مات رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال عمر: كذبت، بل أنت رجل تحوطك فتنة، إن رسول الله لا يموت حتى يفنى المنافقين، فكأن عمر رضى الله تعالى عنه كبر أن يموت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كما يموت الناس، وقد دفعه إلى ذلك فرط محبته، وجاء أبو بكر الصديق، فنظر إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال إنا لله وإنا إليه راجعون. مات رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ثم أتاه وقبل رأسه وقبل جبينه، وقال واصفياه، ثم قبل جبهته، وقال: واخليلاه، مات رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. خرج عمر رضى الله عنه إلى المسجد يخطب فى الناس، ويقول: إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لا يموت حتى يفنى المنافقين. عندئذ تقدم أبو بكر ثم قال: إِنَّكَ مَيِّتٌ، وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ. ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ، وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ، وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً، وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (آل عمران) فمن كان يعبد الله فإن الله حى لا يموت، ومن كان يعبد محمدا، فإن محمدا قد مات. وروى أن أبا بكر عندما قبل جبهة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قال: فداك أبى وأمى ما أطيبك حيا وميتا. وروى أن عمر رضى الله عنه توعد بالقطع أو القتل من يقول إن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم قد مات. وروى أن خطبة أبى بكر كانت أطول مما ذكرنا، ويروى أنه رضى الله عنه، حنى على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقبله وبكي، وكل هذه أخبار ثقات، يجمع بينها، ولا تنافر فيها، فكل حفظ ما سمع، وشهد بما رأى، والناس جميعا كانوا فى فزع وجزع.

غسل الجثمان الطاهر ودفنه:

وخطبة أبى بكر التى هى أطول مما ذكرنا ابتداء، قال فيها: ليس ما يقول ابن الخطاب شيئا، توفى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ثم قال باكيا، والذى نفسى بيده، رحمة الله عليك يا رسول الله، ما أطيبك حيا وميتا، ثم غشاه بالثوب، ثم ذهب إلى المسجد سريعا، وقال: إن الله عز وجل نعى نبيه إلى نفسه، وهو حى بين أظهركم، ونعاكم إلى أنفسكم، وهو الموت حتى لا يبقى منكم أحد إلا الله عز وجل قال تعالى: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ، وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً، وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (آل عمران) وقال تعالى لمحمد إِنَّكَ مَيِّتٌ، وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ وقال تعالى كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ. وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (الرحمن) وقال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ (آل عمران) . إن الله عمر محمدا وأبقاه حتى أقام دين الله، وأظهر أمر الله، وبلغ رسالة الله، وجاهد فى سبيل الله، ثم توفاه الله على ذلك، وقد ترككم على الطريقة، فلن يهلك هالك إلا من بعد البينة والشفاء، فمن كان يعبد الله ربه، فإن الله حى لا يموت فاتقوا الله أيها الناس، واعتصموا بدينكم، وتوكلوا على ربكم، فإن دين الله تعالى قائم، وإن كلمة الله تامة، وإن الله ناصر من ينصره، ومعز دينه، وإن كتاب الله تعالى بين أظهرنا، وهو النور والشفاء، وبه هدى الله تعالى محمدا، وفيه حلال الله تعالى وحرامه، والله لا يبالى من أجلب علينا من خلق الله، إن سيوف الله تعالى لمسلولة ما وضعناها بعد، ولنجاهدن من خالفنا، كما جاهدنا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فلا يبغين أحد إلا على نفسه. هاتان خطبتان للصديق رضى الله تعالى عنه، فى يوم الفزع الأكبر، ولعله كان يكرر قوله كلما رأى هلعا، وجزعا، ليرد إليها شارد لبها، وقد طاشت أحلام، وهلعت قلوب، فكان يكرر التثبيت. غسل الجثمان الطاهر ودفنه: 723- اتجه المؤمنون إلى إقامة خليفة لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قبل أن يغسل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ويوارى جثمانه الطاهر، فقد اجتمع الأنصار، وعلى رأسهم سعد ابن عبادة ليفكروا فى هذا، فأسرع إليهم أبو بكر وعمر رضى الله عنهما خشية أن يتفرق أمر المؤمنين، فى سقيفة بنى ساعدة، وأنهوا أمر الخلافة باختيار أبى بكر رضى الله تعالى عنه خليفة لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ولم يحضر الاجتماع أحد من بنى هاشم أو أقرباء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم

الأدنون، العباس وعلى وغيرهما من بنى هاشم، ولعل ذلك كان لانشغالهم بأمر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. وقد انتقل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى ضحى يوم الاثنين، فمكث بقية يوم الاثنين وبعض يوم الثلاثاء، حتى إذا تمهدت الأمور وتمت كما ذكر الحافظ بن كثير شرعوا فى تجهيز النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. ويقول ابن إسحاق: لما بويع أبو بكر أقبل الناس على جهاز رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقد كانت وفاته يوم الاثنين، وغسله ودفنه ليلة الأربعاء. اجتمع الناس لغسل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وليس فى البيت إلا أهله، وعمه العباس ابن عبد المطلب، وعلى بن أبى طالب، والفضل بن عباس، وقثم بن العباس، وأسامة بن زيد بن حارثة، ودخل من بعد أوس بن خولى الأنصارى البدرى الخزرجى نادى عليا، فقال: يا على ننشدك الله، وحظنا من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال له على: ادخل فحضر الغسل. وغسل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وعليه قميصه، وتولى الغسل على كرم الله وجهه فأسنده إلى صدره، وعليه قميصه، وكان العباس وفضل وقثم يقلبونه مع على، وكان أسامة بن زيد وصالح مولاه يصبان الماء، وجعل على يغسله، ولم ير منه شيئا، وهو يقول بأبى أنت وأمى ما أطيبك حيا وميتا، وكانوا يغسلونه صلى الله تعالى عليه وسلم بالماء، والسدر، جففوه، ثم صنع به مما اختلط بالماء. وقد كفنوه صلى الله تعالى عليه وسلم فى ثلاثة أثواب اثنان أبيضان وثالث حبرة. ودفن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى بيت عائشة حيث مات، لخبر نسب إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن الأنبياء يدفنون حيث يموتون. وقد تولى دفنه عليه الصلاة والسلام أربعة من أهله ومواليه العباس وعلى، والفضل ابن عباس، وصالح مولاه، لحدوا له لحدا، ونصبوا اللبن نصبا. هكذا انتهت الحياة الدنيوية لأكرم خلق الله على الله، وأكرم إنسان للإنسانية، عاش حياته مجاهدا منذ خلقه الله تعالى إلى أن قبضه سبحانه وتعالى إليه، جاهد الرذيلة غلاما، فكان الفاضل فى صباه، وكان الأمين فى شبابه لم تكن الحياة أمامه رخاء سهلا، بل ذاق اليتم، وإن لم يقهر، كما يقهر اليتامى، وذاق طعم الفقر، وإن لم يترب نفسه، حتى إذا كلف أداء الرسالة حمله، حمل عبئها، وذاق مرارة الأذى فى

تركة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم

سبيلها، وهو صابر مصابر، حتى إذا هاجر حمل السيف مجاهدا، كما حمل القرآن الكريم هاديا معلما، يعلى الإنسانية ويكرمها، ويسامح ويواد، حتى كان الإنسان الكامل فى هذا الوجود؛ وإذا كان قد دفن جسده فلن تدفن شريعته. تركة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم 724- لم يترك النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مالا. ولم يكن لديه فى آخر حياته عند وعكة الموت إلا ذهبة تصدق بها فى آخر حياته، فلم يكن مالكا لمال، ولكن إذا كان مال كان لما يقدمه للبر، فكان يعيش على خبز الشعير، ويمر المال بيده، مرور الماء، ويسيل إلى الضعفاء والمساكين، وأبناء السبيل واليتامى فلا يبقى فى يده شيء، وإذا بقى لا يكون ميراثا لأهله، وهو يقرر فى شريعته «نحن معاشر الأنبياء لا نورث وما تركناه صدقة» ، فكأن كل ما يتركه صدقة لا يملكه ولد ولا عم، بل فى مصرف الخير والبر، فما كان الأنبياء ليختزنوا مالا، ولا يورثوا تراثا، ولكن يورثون علما، وشرعا، وبلاغا للناس، فذلك ميراثهم، وهو خير تركة زاخرة، وهى العلم الكامل. ولقد كان ثمة خلاف فى أرض «فدك» ذكرناه فى موضعه، ولم تكن فدك كما يصور التاريخ ملكا للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، بل كان على حكم ملك اليتامى والمساكين والفقراء، وأبناء السبيل، يصرف النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ما يفيء إليه من غلاتها فى مصارفها، وكان لأهل البيت وذوى القربى حظ مقسوم، ولما جرى الخلاف بين سيدة نساء المؤمنين فاطمة الطاهرة بنت أطهر من أقلته الأرض، وأظلته السماء، لم يكن خلافا على الملكية، كما توهم عبارات المؤرخين، بل كان خلافا على إدارتها، وصرفها فى مصارفها، إذ كان فيها نفقات لأمهات المؤمنين، فيتولى ذوو القربى ما كان يتولاه هو عليه الصلاة والسلام، فعارض فى ذلك الصديق رضى الله عنه. ثم كان من بعده أن وافق عمر رضى الله تعالى عليه، على أن تكون الإدارة بين العباس وعلى، على ما ذكرنا من قبل. وإن الميراث العظيم الذى تركه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم شريعته، وهى محفوظة بحفظ القرآن الكريم إذ يقول سبحانه وتعالي: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ، وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (الحجر) .

زوجات النبي صلى الله تعالى عليه وسلم

زوجات النبي صلى الله تعالى عليه وسلم 725- يحلو لبعض الكتاب غير المسلمين أن يقولوا، إن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم كان رجلا شهوانيا، بدليل أنه تزوج نحو ثلاث عشرة، وتوفى عن تسع وقد أسرفوا على أنفسهم فى القول، وعلى الحقيقة فطمسوها فى زعمهم، ولكن الحق أبلج، نير يكشف دائما ما يكون من غمة يحاول أصحابها أن يعموا الحق ويدلسوا على أهله. لقد زعموا أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم شهوانى، لزواجه، ونحن نتخذ من زواجه دليلا على أنه لم يكن شهوانيا، بل كان أقرب إلى أن يكون سلبيا، لا تغلبه شهوة، ولا يسيطر عليه هوى فى أى ناحية من النواحى. لقد تزوج أم المؤمنين خديجة وهو شاب مكتمل القوى فى الخامسة والعشرين من عمره، وكانت هى فى الأربعين من عمرها، وعاش معها نحو ست وعشرين سنة، أى تجاوزت نحو السادسة والستين، وأنجب منها ستة أولاد، ولم يفكر فى أن يتزوج عليها، وكان معروفا بالعفة، والشهوات تتقزز فى نفس أمثاله ممن هم فى مثل سنه، وهو بالنسبة لهم العفيف النزيه الذى لم يزن بريبة قط، ونساء قريش يتمنين أن يكون ضجيعا لهن، ولكنه كان فى عزوف عن كل شهوة، ونظرة إلى النساء. حتى إذا توفيت أم المؤمنين خديجة وقد تكاثرت مشاغله، فكان مشغولا بالدعوة إلى التوحيد ومكابدة الأذى الذى تفاقم بعد وفاة خديجة وعمه أبى طالب. ولقد كان التعدد من بعد ذلك، ولمقاصد ليست هى الشهوة، كما أن الشهوة ليست بعض هذه العناصر، والدلائل تدل على أنها كانت بعيدة كل البعد. وإنا نذكر أن هذا التعدد كان إما لأن امرأة بعض الصحابة الذين جاهدوا معه قد قتل وهو يهاجر، وكانت امرأته أهلها فى الشرك، فإما أن تعود إليهم فتتعرض للعذاب والردة ولا أحد معها فى دار الهجرة من قومها، فيتحمل هو عبء الزواج منها حفاظا لها ورعاية، ولا ينظر فى ذلك إلى أنها يرغب فى الزواج منها، أو ليس فيها ما يرغب إلا رعايتها وحمايتها، إما هذا، وإما ليربط بها مع معين له فى التبليغ، فيرتبط معه برباط المصاهرة مع رباط الإيمان، وإما لإنقاذ امرأة من الرق، من غير نظر إلى كونها جميلة أو غير ذلك. وإما لبيان أحكام شريعة فيطبقها عملا، ليكون أسوة للناس فى محاربة أمر جاهلى قد اعتادوه، وإن لم يقره الإسلام، فيفعله النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لكيلا يكون حرج على الناس أن يفعلوه. وإما ليرتبط بالقبائل العربية، ليتخذ منها دعاة للإسلام. وإما لإزالة النفرة، وجلب المودة.

هذه بعض مقاصد التعدد وكلها أو جلها لحماية المرأة من الضياع، فقد حمل نفسه عليه الصلاة والسلام بأمر ربه عبء ذلك، فكان الزواج تكليفا، لا للرغبة بله الشهوة. وهذا إجمال، ولنذكر تفصيله فى زواج كل امرأة من أمهات المؤمنين بعينها. لقد كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعد أن يعقد زواجه ممن كتب عليه أن يتزوجها، لا يدخل بها إلا بعد أن يتأكد رضاها بهذا الزواج، وأنها راغبة فيه راضية، فيطلب إليها أن تهب نفسها له. 726- وعدد زوجات النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ثلاث عشرة وكانت له جاريتان مارية القبطية وريحانة بنت زينب، وقد أعتق ريحانة فأسلمت، ولحقت بأهل لها، وبقيت مارية، وروى أنه أعتقها وتزوجها، وبقيت عنده، حتى توفى صلى الله تعالى عليه وسلم. وأول أزواجه صلى الله تعالى عليه وسلم أم المؤمنين خديجة، وقد ذكرنا خبر هذا الزواج فى موضعه من حياة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد بقى معها نحو ست وعشرين سنة كما أشرنا، وكان له منها أولاده الستة، القاسم والطيب، وقد ماتا قبل الهجرة، أو قبل البعثة، ورقية وأم كلثوم وزينب وفاطمة، وماتا قبله، ولم يمت بعده إلا فاطمة، وقد ماتت رضى الله عنها بعد وفاته بستة أشهر، وبأولادها حفظت العترة المحمدية فى ولديها الحسن والحسين وهما سيدا شباب أهل الجنة، كما ورد بذلك الأثر عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. ولم يتزوج فى حياتها غيرها، كما ذكرنا. وتزوج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من بعدها قبل الهجرة سودة بنت زمعة، وكانت نحو سن خديجة أى فى ست وستين من عمرها، ولم تكن فى جمال خديجة. وكانت قد أسلمت مع زوجها، وهاجرا إلى الحبشة فرارا من أذى الجاهليين من قريش، ومات بعد أن عادا، وكان أهلها لا يزالون على الشرك، فإذا عادت إليهم فتنوها فى دينها، فتزوجها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم حماية لدينها من الفتنة. وتزوج من بعدها أم المؤمنين عائشة بنت صاحبه الصديق، وكانت فى نحو التاسعة من عمرها فما كانت لتشتهى لأنها كانت ضاوية، حتى يقال إنه تزوجها للشهوة، ولم يدخل بها إلا بعد الهجرة، وما كان الزواج إذن لشهوة يبتغيها، ولكن لصحبة بالصديق يوثقها، بالمصاهرة، وهى تشبه النسب، وقد كان أحد وزيريه. ويروى أنه تزوجها قبل سودة، ولكن الرواية الراجحة ما ذكرنا، ولعل التقارب فى الزمن بين الزواجين لم يعين السابق منهما تعيينا دقيقا فى الروايات.

3- وبعد الهجرة تزوج عليه الصلاة والسلام حفصة بنت عمر بن الخطاب وكانت زوجا لخنيس بن حذافة مات عنها مؤمنا. وكان الزواج لتوثيق الصحبة بأبيها رضى الله عنه، فقد كان الوزير الثانى للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم. وما أحاط بزواجه يدل على أن مودته عليه الصلاة والسلام هى التى دفعت إلى هذا الزواج، ذلك أن عثمان رضى الله تعالى عليه لما ماتت زوجته رقية وغزوة بدر قائمة، رغب عمر رضى الله عنه فى أن يزوج ابنته حفصة من عثمان رضى الله تعالى عنه، فعرض عليه، فسكت عثمان، فشكا عمر ذلك للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال سيتزوجها من هو خير من عثمان، وسيتزوج عثمان من هى خير من حفصة، فتزوج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم حفصة، وتزوج عثمان أم كلثوم بنت النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. وترى من هذا أن زواجه عليه الصلاة والسلام منها كان ربطا للمودة وإرضاء للقلوب. 4- وتزوج عليه الصلاة والسلام والحرب قائمة بينه صلى الله تعالى عليه وسلم وبين المشركين بقيادة كبيرهم أبى سفيان، تزوج أم حبيبة رملة بنت أبى سفيان هذا. كانت قد سافرت مع زوجها عبد الله بن جحش إلى الحبشة، ولكنه تنصر، وخرج عن الإسلام فكانت بين أن ترجع لأبيها زعيم الشرك فتفتن فى دينها، وبين أن تعود إلى المدينة المنورة لا مأوى لها، فاواها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بزواجه منها، فبعث النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عمرو بن أمية الضمرى إلى أرض الحبشة فخطبها عليه الصلاة والسلام، فزوجها منه عثمان بن أبى العاص، ودفع النجاشى صداقها. وهو أربعمائة دينار. وبعث بها إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. وبهذا الزواج أصاب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم هدفين: أحدهما أنه وقاها من الشرك وأن تفتن فى دينها، وأصهر من أبى سفيان الذى سر منه، ورحب به، وروى أنه قال: نعم الفحل محمد. 5- وتزوج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم زينب بنت خزيمة، وهى من بنى عبد مناف بن هلال بن عامر بن صعصعة، ويقال لها أم المساكين، وقد قتل زوجها يوم أحد، وكان ذلك إيواء لها، وتشجيعا لها على إعانة المساكين، ولكنها لم تلبث إلا قليلا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ثم توفيت فى حياته عليه الصلاة والسلام. 6- وتزوج النبى عليه الصلاة والسلام زينب بنت جحش، وكانت زوجا لزيد بن حارثة، وقد تزوجته على أنه ابن محمد صلى الله تعالى عليه وسلم إذ أطلق النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك الاسم، لما رفض أن يعود مع أهله، ورضى أن يبقى مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فلما أنزل الله

سبحانه وتعالى على نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم: وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ، وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ. ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ، فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ (الأحزاب) تململت ببقائها مع زيد، إذ تبين أنه ليس بقرشى، وقد تململ زيد من كبريائها واستأذن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى طلاقها، فقال له: اتق الله وأمسك عليك زوجك، وقد أمر الله تعالى نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم أن يتزوجها بعد أن يطلقها زيد، ولكنه أخفى ذلك، وخشى مقالة الناس أن يقولوا تزوج محمد زوجة ابنه. ولكن الله تعالى أمره بقوله تعالى: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ (الأحزاب) وإن الله تعالى أمره بذلك لكى لا يكون على المؤمنين حرج فى أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا فأمر النبى عليه الصلاة والسلام بذلك الزواج لكى تزول تلك العادة المستحكمة فيهم وهى عادة التبنى التى سرت إليهم من الرومان، وليست من طبائع القرابة، بل هى كذب، وافتراء وفساد للأسرة، إذ يدخل فيها ما ليس منها. 727- واقرأ الآيات التى اشتملت على ذلك: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً. وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ، أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ، وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ، وَتَخْشَى النَّاسَ، وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ، فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها، لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ، إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً، وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا. ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ، وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً. الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ، وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ، وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً. ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ، وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً» (الأحزاب- 36: 40) . هذا أمر زينب بنت جحش، وزيد بن حارثة كما ساقها القرآن الكريم، وهى تدل: أولا: أنه فى الجاهلية كان يعتبر الدعى- أى المتبنى- ابنا وألغى الله تعالى حكم هذه العادة، وقد تلونا من قبل فى أول سورة الأحزاب ما يدل على ذلك.

ثانيا: على أن الله تعالى اقتضت حكمته أن يؤكد إبطال ذلك الحكم الجاهلى الذى يدخل فى الأسرة بحكم النسب من ليس منها، فلا تتعاطف بحكم الفطرة، وتفسد الأسر، واقتضت حكمته أن يكون تأكيد الإبطال بالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم يتزوج زوجة دعيه، وقد فسدت العلاقات بينهما بتململ القرشية من أن تكون تحت غير قرشى هو عتيق وليس ابنه، فاستكبرت، وتململ زيد من كبريائها فأراد تطليقها، فقال له الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم أمسك عليك زوجك، وهو يعلم أن الله كتب أن يطلقها، وكتب على محمد صلى الله تعالى عليه وسلم أن يتزوجها، ولكنه يخفى فى نفسه ما لا يبديه من أن الله تعالى كتب الطلاق من زيد، وللزواج منه صلى الله تعالى عليه وسلم لأنه يخشى أن يجابه العرب، بمخالفة ما ألفوا. ولقد أمر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بأن يتزوجها بعد الطلاق لكيلا يكون على المؤمنين حرج فى أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهم وطرا. كما دلت الآيات: ثالثا: على أن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم لم يكن أبا لأحد من رجال العرب، إن انتفت أبوة الأدعياء، هذا ما تدل عليه الآيات الكريمات بظاهرها، ومقصدها ومرماها. ولكن الذين يفسدون المعانى، ويريدون الكيد للإسلام اخترعوا هذا اختراعا فى العهد الأموى، اخترعها يوحنا الدمشقى ونشرها بين المسلمين ليقولها أتباعه، وينشروها بين بعض التابعين، وقد توهم صدقها بعض الذين تبهرهم الروايات من غير تمحيص، ومع الأسف كان من بين هؤلاء أبو جعفر بن جرير فنقلها مصدقا لها، ونقلها أكثر المفسرين عنه، حتى بين كذبها وافتراءها ابن كثير فى كتابه تفسير القرآن العظيم، رضى الله تعالى عنه، وعفا الله عن الطبرى فى أن نشر ذلك الضلال، وإن نقل الكذب لا يحوله إلى صدق، ولو كان الطبرى ناقله. ومن الغريب أن حملوا الآية الفرية التى افتروها، وكان المتعصبون من غير المسلمين هم الذين ادعوها، لقد ادعوا أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم رآها تغتسل، فوقع فى قلبه حبها، فأراد من زيد أن يطلقها ليتزوجها، وادعوا أن ذلك هو ما أخفاه، وخشى من الناس، وأن الله أبداه، وإن ذلك لا يمكن أن ينطبق بحال من الأحوال على معانى الآية وظواهرها، إلا أن يكون ذلك اختراعا اخترعوه، ويدل على مناهضة الآية لهذه المعانى الفاسدة ما يأتى: أولا: أن الزواج منها لم يكن كما تدل الآية برغبة من النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، حتى تكون الشهوة هى المحركة، بل إن الزواج كان بأمر الله تعالى وذلك بنص الآية بقوله تعالى: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ.

ولأن الله تعالى نسب التزويج إلى ذاته العلية، بأن الله تعالى هو الذى قال: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها وذكر سبحانه وتعالى السبب فى هذا الزواج الذى فرضه الله تعالى وتولى تعالى عقده ليس الشهوة، وإنما هو ألا يكون على المؤمنين حرج فى أن يتزوجوا أزواج الذين يتبنونهم وليس شهوة، ولا ما يشبهها. والخشية التى خشيها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم هى مجابهة ما عليه الجاهلية، فعاتبه سبحانه وتعالى على هذه الخشية بأن الله تعالى أحق بأن يخشاه فيطيع أوامره. وثانيا: أن الله تعالى قال: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ فيقولون هو العشق الذى أخفاه، والآية تناقض ذلك، لأن الله تعالى ما أبدى عشقا، ولكن أبدى الأمر بالزواج، فكان هو الذى أخفاه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم على زيد، وقال: أمسك عليك زوجك واتق الله. وثالثا: أن الآية الكريمة تدل بنصها ومغزاها على أن موضوعها منع أن يكون المتبنى ابنا، ولذلك أمر الله تعالى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يتزوج امرأة دعيه، ليكون بيانا للشرع عمليا، كما بينه النص القرآنى، قولا مفروضا بالمنع المؤكد. ولذلك أكد سبحانه وتعالى النفى بقوله تعالى: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ، وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ هذا هو المعنى الجلى من غير تلبيس كذاب، ولا اتباع متوهم. وكنا نود أن يدرك المفسرون، والذين يتكلمون فى معانى القرآن الكريم، وأخبار النبى صلى الله تعالى عليه وسلم حقيقة هذه الفرية، ومصدرها، الذى أراد إفشاءها كيدا للمسلمين بعد أن بين ابن كثير الحافظ للسنة، كذب هذه الرواية، ورد كلام ابن جرير ردا قويا. وكنا نود أن يتعرف الذين يكذبون الآن فى السيرة ذلك، وكنا نحسب أن لهم ذوقا بيانيا، وعمقا فى دلالات الألفاظ ومراميها، كنا نود منهم أن يمحصوا القول ويدركوه، ولكن غلبت النزعة الروائية التى نسمع أمثالها منسوبا إليهم، فكتبوا فيما تصدوا له من كلام فى السيرة عنوانا يقول: النبى العاشق، وقد كتبوا تحت العنوان تلك الفرية المفتراة على أنها وقائع وقعت، وكأنها قصة من الروايات التى كتبوها. وتبعهم من يقلدونهم من غير أن يفرقوا بين حق وباطل، ولا أقول عفا الله عنهم، لأن أقوالهم لا تزال تردد منسوبة إليهم، ولهم فى المجتمع الأدبى مكانة، جزاهم الله تعالى بمقدارها.

زواجه عليه الصلاة والسلام ببقية نسائه:

زواجه عليه الصلاة والسلام ببقية نسائه: 728- 7- وتزوج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أم سلمة واسمها هند بنت أبى أمية بن المغيرة، وهى مخزومية، وقد مات عنها زوجها، أبو سلمة، وهو عبد الله بن عبد الأسد. وعند موت زوجها، وقد توفى عنها وهى شابة طلب إليها أن تتزوج من بعده، ودعا لها مخلصا أن يتزوجها من هو خير منه، وقد رأى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أنها ذات عيال، ويحتاجون إلى من يرعاهم، وكانت هى وزوجها مهاجرة، فانقطعت عن ذويها، ولا بد لها هى وأولادها من يحوطهم ويرعاهم، فكان عليه الصلاة والسلام، وتزوجها لرعايتها ورعاية أولادها. 8- وتزوج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم جويرية بنت الحارث ويقول ابن هشام فى زواجها: «لما انصرف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من غزوة بنى المصطلق، ومعه جويرية بنت الحارث- دفع بجويرية إلى رجل من الأنصار وديعة عنده- وأمره بالاحتفاظ بها، وقدم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم المدينة المنورة، فأقبل أبوها الحارث بن أبى ضرار بفداء ابنته، فلما كان بالعقيق نظر إلى الإبل التى جاء بها للفداء، فرغب فى بعيرين منها، فقال: يا محمد أصبتم ابنتى، وهذا فداؤها، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: فأين البعيران اللذان غيبتهما بالعقيق فى شعب كذا. فقال الحارث: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله صلى الله تعالى عليك وسلم، فو الله ما اطلع على ذلك أحد. فأسلم الحارث، وأسلم معه ابنان له......» . وإن الغزاة كانوا قد أسروا من قومها نحو مائة، فلما تزوجها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من أبيها، وكانت قد أسلمت أطلق كل من كان فى يده أحد من الأسرى أسراه. وقال: كيف نسترق أصهار رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فعتق بزواجه عليه الصلاة والسلام أهل مائة من بيوت بنى المصطلق، وتقول أم المؤمنين عائشة فى ذلك: «ما كانت امرأة أبرك على قومها من جويرية، لقد عتق بها مائة بيت من بيوت قومها» . ونرى من هذا أن زواج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان بقصد عام، وهو أن يعتق هؤلاء الناس وألا يسجل على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إنشاء الرق، فيكون ممنوعا إلى الأبد، ولو كان الأعداء يسترقون منا، ومن غير أن يتركهم يسترقون، فيكون مباحا إلى الأبد. فما كان الزواج شهوة، بل كان للعتق.

9- وتزوج صلى الله تعالى عليه وسلم صفية بنت حيى بن أخطب، وقد سيقت مع أختها، ومرّ بهما بلال على قتلى خيبر، والذين أسروا فيمن أسر منهم، فلام النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بلالا، وقال له: أليس فى قلبك رحمة، أتمر بالفتاتين على قتلى قومهما. وعرض الفتاتين ليتزوجهما بعض الصحابة فتزوجت أختها وبقيت هى فتزوجها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ليطيب نفسها وليرقأ جرحها. 10- وتزوج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ميمونة بنت الحارث بن حزن الهلالية وقد اختارها زوجا له العباس بن عبد المطلب لتوثيق ما بينه عليه الصلاة والسلام وبين القبائل العربية وقد أصدقها العباس رضى الله عنه من ماله أربعمائة درهم ويروى أنها هى التى وهبت نفسها للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك أنها لما علمت خطبة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قالت للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم: البعير وما عليه لله ولرسوله. وكانت على بعير عندما انتهت إليها الخطبة وقد قال الله تعالى: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ...... 729- هؤلاء عددهن عشر وهن بعد خديجة وبضمهن إليها يكون العدد إحدى عشرة وكلهن دخل بهن ولذلك يعدون أمهات المؤمنين ولا يتزوجن أحدا بعده ولذلك قال تعالى: «وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ» (الأحزاب) وقال فى منع زواجهن من بعده: وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً (الأحزاب) . ويقول الرواة إن عدد أزواج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ثلاث عشرة فهن أمهات المؤمنين ومات عن تسع إذ ماتت فى حياته خديجة وزينب أم المساكين. وتزوج باثنتين لم يدخل بهما وهما- أسماء بنت النعمان الكندية تزوجها فوجد بها بياضا فى إبطها فسرحها بمعروف ومتعها بعد أن طلقها وقد كانت كندية وقبائل كندة كانت بعيدة عن المدينة المنورة، وقد أسلمت فكان لا بد أن يربط النبى صلى الله تعالى عليه وسلم برباط بينها وبينه ليؤنسها بهذه المصاهرة فى هذا البعد المترامى. والثانية: امرأة من سلالة النعمان اسمها أميمة بنت النعمان بن شرحبيل وقد أراد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يتزوجها لأنها من أطراف الجزيرة العربية فى الجنوب وهو عليه الصلاة والسلام يريد أن يقرب البعيد ويزيل الوحشة وقد كانت المصاهرة رباطا وثيقا بين كبراء القبائل تنهى حربا أو تدفع قتالا وما كان على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من غضاضة فى أن يوثق ما بينه وبين القبائل بهذه المصاهرة.

العبرة

ويروى فى زواجه منها أنه عليه الصلاة والسلام عندما دخل بها وكان عليه الصلاة والسلام إذا تزوج امرأة طلب منها أن تهب نفسها له عليه الصلاة والسلام استيثاقا من رضاها به زوجا فقد كان يعقد أولياء المرأة وخشية ألا يكون ذلك برضا حر فيه اختيار كامل فلما اختلى بها قال لها هبى نفسك لى اعترتها نعرة جاهلية فقالت وهل تهب الملكة نفسها للسوقة ثم قالت أعوذ بالله فقال عليه الصلاة والسلام لقد عذت بمعاذ عظيم فطلقها وسرحها سراحا جميلا. العبرة 730- هذه زيجات النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بلغت عدتهن ثلاثة عشر من الأزواج ماتت اثنتان فى حياته الكريمة الطاهرة وهما أم المؤمنين خديجة أفضلهن وأكثرهن عطفا وقد سمى عام موتها مع عمه الحانى الكريم عام الحزن والثانية زينب أم المساكين رضى الله عنها. واثنتان لم يدخل بهما وطلقهما قبل الدخول لعيب جسمانى فى إحداهما ولنفرة من الثانية بدت فى قولها وقد عاشت إلى ستين عاما بعد الهجرة وكانت تسمى نفسها الشقية لحرمانها من جوار أكرم من فى الوجود من خلق الله سبحانه وتعالى. وقد كان يعتزل بعضهن أحيانا ويرجيء الاتصال بهن أحيانا وعلى أى حال فقد انتهى الحل له صلى الله تعالى عليه وسلم بهذا العدد إذ تحققت فيه كل المقاصد الاجتماعية التى تتعلق بالدعوة وقال تعالى فى ذلك: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ، ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ، وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً. لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ، وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً. وإن هذا النص الكريم يدل على أمرين جليلين: أولهما: منع الحل بعد هذا العدد، إذا استوفى التعدد بالنسبة لتعدد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مقصده وإن هذا العدد خاص بالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم فقد قال تعالى من قبل فى تحليل هذا القدر من العدد: خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ (الأحزاب) .

ثانيهما: أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لم يكن يتصل بنسائه جميعا كل ليلة- كما توهم عبارات بعض المحدثين- مما أخذ منه أعداء الإسلام ادعاء أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان شهوانيا واستندوا إلى أقوال هؤلاء وإلى تهافت بعضهم فى القول حتى إنه ليقول كان عند النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قوة أربعين رجلا، فالآية ترد كل هذا، فقد كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يرجيء من يشاء منهن ويؤوى إليه من يشاء ويعتزل بعضهن ويبتغى من يعتزل من بعد ذلك، مما ينافى ما ادعاه بعض المحدثين من أنه عليه الصلاة والسلام كان يمر عليهن ويتصل بهن واحدة واحدة كل ليلة مما فتح الباب للمغرضين والكذابين من أعداء الإسلام والمنحرفين ممن تسموا بأسماء المسلمين. بقى أن نتكلم فى بعض أسباب هذا التعدد: قد أشرنا من قبل إلى أن تعدد زوجات النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان لإيواء الضعيفات من أزواج المهاجرين اللائى لا مأوى لهن فى هذه الغربة التى انقطعن فيها عن أهليهن، ولربط الصلات بينه وبين كبار أصحابه، ولمنع تحكم الوثنيين فيمن تربطهم رابطة نسب من نساء المهاجرين الذين يقتلون أو يموتون أو يرتدون وقد أشار الله سبحانه وتعالى إلى ذلك فى قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ (الأحزاب) ويستفاد من هذا النص أن زواج المهاجرات كان للرحم التى تربطه بهن من عمومة أو خؤولة وأن ذلك يشمل قرابته لقريش فلا يضيعهن عند موت أزواجهن شهداء بل لا بد أن يتولى هو إيواءهن فى ظله الظليل. وقد رأيت أن بعضهن تزوجها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بأمر ربه تبيينا للشرع وتنفيذا لأحكامه وقد تعرض النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بأمر ربه لمجابهة العرب فيما كانوا يألفون ويرونه أمرا طبيعيا لا يخالف وقد تأثر به بعض المؤمنين حتى إن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد حدث منه ذلك قبل الحكم بالمنع فبين الله تعالى أنه ضد الحقيقة وأن البنوة تكون من الصلب لا من الادعاء وأشار سبحانه وتعالى إلى أنه إدخال فى النسب ما ليس منه إذ قال سبحانه: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ (الأحزاب) . 731- وهناك أمران آخران فى حكمة تعدد زوجات النبى صلى الله تعالى عليه وسلم غير ما

سبق ذكره أو أشير إليه من أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان يتزوج لتوثيق المعاونة بمن يحب من أصحابه وإعانة الضعيفات من النساء حتى إنه كان يتحمل عبء من ليس له ولى من قريب أو ذى حسب ولكيلا ترتد بعد إيمان، والارتباط بالمصاهرة بين من تنأى ديارهم وقد يلحون فى العداوة بينهم وبينه صلى الله تعالى عليه وسلم. نقول هناك أمران غير هذا الذى ذكرناه أو أشرنا إليه. أحدهما: أن يتولى نساء النبى صلى الله تعالى عليه تعليم نساء المسلمين فى أمور دينهن فما كان النساء بعد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى عهد الصحابة والتابعين يغشين مجالس العلم يتعلمن أمور الدين بل كن يذهبن إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يسألنه فى حياته، ومن بعده كن يسألن أزواجه أمهات المؤمنين، كعائشة وأم سلمة وغيرهما ممن عمرن بعد الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ولعله من فضول القول أن نقول إن كثيرا من الأحكام الخاصة بالمرأة رويت عن أم المؤمنين عائشة رضى الله تعالى عنها وعن أبيها الصديق. وإن حفصة أم المؤمنين كانت الأمينة على المصحف الذى انتهت كتابته فى عصر أبيها الإمام الفاروق رضى الله تعالى عنه وجزاه عن الإسلام خيرا. ولعل الأمر الإلهى بألا ينكحن من بعده أبدا كما تلونا من قبل كان لهذا المعنى وليتفرغن لتعليم النساء أحكام الدين وفضائله وآدابه وروحه ومعناه وأخبار النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى أهله وفى ذاته الطاهرة وإنك لترى من ذلك الشئ الكثير فى رواية عائشة رضى الله عنها فقد كان لها ذكاء يندر فى نساء العرب وإنه قد نزكى ما روى من أنه يؤخذ منها نصف الدين وهو النصف الخاص بأحكام النساء. ثانيها: أن نساء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كن يتخذن قدرة حسنة للنساء فى عفتهن واحتسابهن وآدابهن لأنهن أخذن باداب النبوة والمرأة تتأثر بالمرأة أكثر مما تتأثر بالرجال وتصلح بصلاح صواحبها من النساء وتفسد بفساد صواحبها منهن، فالمرأة تصلح المرأة أو تفسدها. وإنا لنرى ذلك واضحا اليوم وإنه كان كذلك فى الماضى فالإنسان ابن الإنسان. وإن الله تعالى تعهد نساء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بالإرشاد والتأديب لأنهن الأسوة والقدوة قال تعالى: وهو أصدق القائلين: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا. وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً. يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً. وَمَنْ

يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً. يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً. وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً. وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً. فنساء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بهذا التأديب الإلهى الذى لم يخرجن عن نطاقه كن بالنسبة للنساء الصورة المثالية والقدوة القائمة الثابتة لنساء المؤمنين بل نساء العالمين ولأنهن المثل السامى عقب ذلك بما يجب أن تكون عليه المؤمنات المقتديات بنساء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فقال تعالى عقب ما أمر به نساء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بما أمر به من إرشاد. وتهذيب. وتوجيه للعلو: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ. وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ. وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ. وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (الأحزاب) . هذا وإن الاقتران فى التلاوة بين إرشاد نساء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ومنزلتهن وبين أوصاف المؤمنات يشير إلى أن أخلاق نساء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مثل أعلى لنساء المؤمنين ويوعز باتباعهن واتخاذهن مثلا ساميا غاليا لأنهن القدوة الصالحة الطيبة. وإذا كان فى الآيات أمر بأن يقرن فى بيوتهن بألا يخرجن إلى الطرقات متبرجات متزينات يبدين زينتهن ما ظهر منها وما خفى، بل يلتزمن القرار فى البيت لا يخرجن إلا لمصلحة تقتضى الخروج فلا يقررن فى البيت إلا للاستعداد للخروج فتغص الطرقات بهن. هذا وإن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بتفرق نسائه فى القبائل والعشائر من بعض وفائه قد عم تعليمه وعمت الآداب الإسلامية والأخلاق الكريمة نساء المسلمين. وكلما كثر العدد عم الهدى المحمدى وشاع وسار فى الأمة سريان النور فى الأرضين.

أما بعد

أما بعد 732- فهذه سيرة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم خاتم النبيين، لا ندعى أننا وصلنا إلى الغاية من تصويرها أو توضيحها أو أزلنا غشاوة عنها ولا ندعى أننا تسامينا حتى أدركناها وعلمنا أسرارها وكنهها ونورها فى هذا الوجود ولكنا رأيناها فوق طاقاتنا وأدركنا منها ما استطعنا إدراكه وسددنا وقاربنا وإذا لم تبلغ الشأو ونصل إلى الغاية فإننا قصدنا وأردنا واحتسبنا النية ومثلنا كمثل من أراد أن يبلغ قمة تتصل بالسماء فعجز عن بلوغها فرضى بأن يقف على السطح ويرى النور فوقها فحسبه منها المشاهدة دون الوصول ولقد رأينا فيما رأينا قمة العلم النبوى وإن لم نستوعبه واستغرقنا نور الهداية وإن لم ندرك كل ما جرى. اللهم اغفر لنا تقصيرنا فإن منشأه قصورنا وإنا نتلمس ونقرب ولا نعلو فإن ذلك فوق طاقتنا وتجاوز وسعنا وهو فوق تكليفنا فإنك قلت وقولك الحق لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ولا تكلفنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عدد ما كان وعدد ما يكون وعدد ما هو كائن إلى يوم القيامة إنك نعم المعين ونعم النصير وإنك الموفق والهادى وما توفيقنا إلا بك وهو يشد العزم فى محيط قدرتنا ويقرب البعيد يا أرحم الراحمين. تم الكتاب بأجزائه الثلاثة بحمد الله وتوفيقه فى 3 مجلدات

فهرس المحتويات

فهرس المحتويات المجلد الأول الموضوع الصفحة مقدمة 5 تمهيد 9 الاضطراب الفكرى 9 المجوسية 10 المانوية- المزدكية 11 البراهمة 12 البوذية 16 الكونفوشيوسية 18 وثنية اليونان والرومان 21 مزج الفلسفة بالدين 21 العرب- دخول الوثنية أرض العرب 26 أرض النبوة الأولى 30 إبراهيم أبو العرب 34 بناء الكعبة 35 موسى كلف الرسالة فى أرض العرب 37 أرض العرب مأوى الفارين بدينهم 39 اختصاص الجزيزة العربية 43 الله أعلم حيث يجعل رسالته 44 مكة المكرمة 47 المكان والزمان 55 البشارات 61

الموضوع الصفحة محمد فى التوراة 65 محمد فى الإنجيل 68 على فترة من الرسل 69 محمد من أوسط قريش نسبا 73 النسب الطاهر 78 الجنين المبارك 93 أصحاب الفيل 94 ولد الهدى 98 ظواهر تعلن مكانته صلى الله عليه وسلم 100 تاريخ مولده صلى الله عليه وسلم 103 إرضاعه صلى الله عليه وسلم 108 أخبار شق الصدر 112 موت الطهور آمنة 116 فى حضن عبد المطلب 120 فى كنف أبى طالب 121 إلى العمل 123 حماية الله تعالى 124 التجارة 125 سفره مع عمه صلى الله عليه وسلم 126 إرهاص وبشارة بالنبوة 127 محمد التاجر 131 مشاركته فى الأمور الجامعة 132 حرب الفجار 133

الموضوع الصفحة حلف الفضول 135 الزواج 137 إرهاصات الرحلة 141 الإملاك 142 أغناه الله وواساه 146 إعادة بناء الكعبة 149 بناء قريش 152 الحمس 156 التكامل الإنسانى فى محمد صلى الله عليه وسلم 161 وفور عقله صلى الله عليه وسلم 162 بلاغته صلى الله عليه وسلم 165 الخلق الكامل 174 العابد- عبادته قبل البعثة 201 عبادته بعد البعثة 206 الزاهد- قبل البعثة 208 زهده بعد البعثة 210 الصابر المصابر 216 العادل 224 بعد البعثة 225 الشجاع 229 بعد البعثة 230 الرجل 234 خاتم النبوة 240

الموضوع الصفحة تقدمه صفات النبى صلى الله عليه وسلم 241 البشارات بالنبى المنتظر 242 ما كان يروج بين العرب من أخبار نبى يرسل 248 علم النبوة عند سكان الفارس قبل أن يلقاه 252 يهود تخبر عن النبى (صلى الله عليه وسلم) المنتظر 255 البعثة المحمدية- التجلى الأعظم 265 التقى بالروح القدس 272 فترة غياب روح القدس 275 الشهر الذى نزل فيه الوحى 278 أول ما نزل من القرآن الكريم 279 مراتب الوحى وشكله 281 دعوة الحق 285 مراتب الدعوة 286 أول من أسلم 288 أول أسرة فى الإسلام 292 فرضية الصلاة 297 وأنذر عشيرتك الأقربين 299 بين أبى طالب وأبى لهب 304 فاصدع بما تؤمر 305 استجابته صلى الله عليه وسلم لأمر ربه 309 السابقون السابقون 311 الإسلام يخرج إلى القبائل 313 المناوأة 315

الموضوع الصفحة تلقى الناس الدعوة 322 الذين استجابوا لله والرسول 325 إسلام حمزة 328 إسلام عمر 330 بين عهدين 333 جدل المشركين 338 الاستغانة بأهل الكتاب 343 إسماعهم القرآن الكريم 346 الإيذاء والفتنة 349 مهابة محمد عليه الصلاة والسلام 356 الهجرة إلى الحبشة 360 النضال والمصابرة فى مكة 372 المقاطعة والصحيفة 375 الرسول صلى الله عليه وسلم مستمر فى دعوته 379 سعى فى نقص الصحيفة 383 نقض الصحيفة فعلا 386 انطلاق الدعرة الإسلامية 387 عام الحزن 389 ما كان بعد موت أبى طالب 397 فى الطائف 402 سماع الجن له 406 انشقاق القمر 409 الإسراء والمعراج 413

الموضوع الصفحة انتشار الإسلام فى البلاد العربية 423 وفد نصارى نجران 425 عرض الرسول نفسه على القبائل 426 ما بين الروم والفرس 431 اللقاء بالأوس والخزرج 433 بدء إسلام الأنصار 435 أول جمعة أقيمت بالمدينة المنورة 439 ابتداء الهجرة 447 هجرته صلى الله عليه وسلم 452 وصول النبى صلى الله عليه وسلم إلى قباء 465 دخول المدينة 467 خطبة لرسول صلى الله عليه وسلم 468

المجلد الثانى

الموضوع الصفحة المجلد الثانى مقدمة 477 إنشاء دولة الإسلام 479 مع اليهود 485 أول أعماله صلى الله عليه وسلم الإخاء 490 عهده- صلى الله عليه وسلم مع اليهود 498 الأذان 500 الإذن بالقتال 504 الحرب الفاضلة 511 حربه (صلى الله عليه وسلم) عبادة 524 أدوار الحرب المحمدية 527 بدر الأولى 531 القتال فى الشهر الحرام 534 تحويل القبلة وفرض الصوم 538 فريضة زكاة الفطر 543 يوم الفرقان، بدر العظمى 545 التقاء الجمعين يوم الفرقان 554 نتائج المعركة وأعقابها 564 الأنفال 574 أثر المعركة فى المدينة المنورة 575 اليهود 577 إفساد اليهود بين المسلمين 580 المجادلة بالتى هى أحسن 586

الموضوع الصفحة بين بدر وأحد 590 المعاقل والديات 593 بناء على بن أبى طالب بفاطمة رضى الله عنها 594 حروب فى الفترة بين الغزوتين الكبيرتين 596 كعب بن الأشرف اليهودى 603 غزوة أحد- القوة بدل العير 608 استشهاد حمزة رضى الله عنه 619 الغنائم القاتلة 621 وصف المعركة فى القرآن الكريم 628 تمام المعركة 631 أعقاب أحد 639 أحكام مستفادة 643 صدى أحد- والرايا 647 غزوة بنى النضير 658 أحكام شرعية 661 غنائم بنى النضير والحكم العام فى الغنائم كلها 664 تحريم الخمر 666 غزوة ذات الرقاع 669 صلاة الخوف 672 النبى بين أصحابه 675 غزوة بدر الآخرة 676 النبى فى المدينة 679 غزوة الخندق- أسبابها 681

الموضوع الصفحة اللقاء 689 عين من اليهود حول أطم آل النبى صلى الله عليه وسلم 695 الجيشان 695 نتائج غزوة الخندق 701 غزوة بنى قريظة 702 أحكام شرعية 707 زواج النبى صلى الله عليه وسلم بأم المؤمنين زينب 713 غزوات أخرى 713 إثارة فتنة وإطفاؤها 722 حديث الإفك 728 أحكام شرعية 738 الحديبية 742 بيعة الرضوان 748 صلح وهدنة 749 أحكام ثبتت فى الحديبية 753 كانت الحديبية فتحا 758 حد الحرابة 767

المجلد الثالث

الموضوع الصفحة المجلد الثالث مقدمة 773 رسائله صلى الله عليه وسلم 775 إلى خيبر 776 الصلح والغنائم 780 فدك 786 حوادث ذات مغزى فى خيبر 789 زواجه (صلى الله عليه وسلم) بأم المؤمنين صفية 793 قدوم جعفر من الحبشة 796 صلح تيماء وإجلاء عمر لليهود 800 أحكام شرعية تقررت فى خيبر 801 شرعية الجزية 822 سرايا النبى صلى الله عليه وسلم 827 عمرة القضاء فى القرآن الكريم 835 إسلام خالد بن الوليد 838 إسلام عمرو بن العاص 842 سرايا التعرف فى البلاد 845 غزوة مؤتة 846 بعث الرسائل إلى الملوك 857 الذمى 874 الفتح المبين 877 ذل الغدر 881 حرمه مكة المكرمة 898

الموضوع الصفحة محطم الأوثان 899 أحكام فقهية شرعت فى الفتح 904 المبايعة على الإسلام 911 غزوة هوازن وحنين 917 أحكام شرعية فى غزوة حنين وهوازن 930 غزوة الطائف 934 عمرة الجعرانة 941 السرايا بعد هوازن 945 غزوة تبوك 950 كتاب قيصر إلى النبى صلى الله عليه وسلم 961 عصمة الله لنبيه صلى الله عليه وسلم 966 مسجد الضرار 969 الثلاثة الذين خلفوا 970 الوفود 977 رسول ملك حمير 998 المغزى فى هذه الوفود 1028 بعث معاذ بن جبل 1031 تولية على قضاء اليمين 1040 بعث الصديق ليكون أمير الحج 1043 سورة براءة 1049 غزوة تبوك فى سورة براءة 1053 جهاد النفاق والكفر 1057 الحكم والعبر من سورة براءة 1063

الموضوع الصفحة انتشار الدعوة الإسلامية 1066 الحديبية 1068 حجة الوداع- البلاغ 1071 العودة إلى المدينة 1082 بعث أسامة بن زيد 1084 الوداع 1086 إنك ميت وإنهم ميتون 1089 زوجاته عليه الصلاة والسلام 1096 العبرة 1104 أما بعد، ختام 1108

§1/1