حياة محمد ورسالته

محمد علي اللاهوري القادياني

مقدمة

الجزء الأول مقدّمة لقد كانت فكرة وضع كتاب مسهب عن حياة مؤسس الاسلام العظيم ماثلة في ذهني منذ أن نهضت بعبء ترجمة القرآن الكريم إلى الانكليزية (*) قبل خمسة عشر عاما تقريبا، ولكني لم أوفّق إلى تنفيذها بسبب من ارتباطات أخرى. والواقع أن اللمحة المختصرة التي أنشرها اليوم ليست تحقيقا لتلك الفكرة بأية حال. إنها لا تعدو ان تكون عرضا متعجلا بالغ الايجاز لحياة حافلة بأنبل الدروس للانسانية، ونظرة طائر على أعظم تحوّل أنجز في تاريخ الانسان. ولست أدري هل سيفسح الله في أجلي إفساحا يمكّنني من القيام بعد بالمهمة الأشقّ، مهمة تقديم تلك القصة المشرّفة في تفاصيلها جميعا. وإلى أن تتاح لي فرصة ذلك أهدي هذه الدراسة المتواضعة إلى ذكرى من وقف حياته كلها لخدمة الانسانية على الوجه الافضل. أنا اؤمن، شأن كل مسلم، بأنه كان لكل أمة انسانها الامثل (سوبرمان) ، أو الكوكب الساطع الذي أعطاها النور، والمصلح الذي ألهمها فكرات نبيلة، والرسول الذي رفع من شأنها أخلاقيا. ولكن محمدا، صلى الله عليه وسلم، هو الرسول الأعظم parexcellence لأنه ليس رسول أمة واحدة بل رسول أمم العالم كافة، ولأنه هو- دون

_ (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: مَرّ بنا في التعريف بحال المؤلف ما نكرره هنا أن هذه الترجمة دس فيها اعتقاد فرقته القاديانية الضالة فلم يوافق الأزهر على نشرها، وأفتى علماء مصر حكومتهم بمنع الإذن بدخول المصحف المطبوع مع هذه الترجمة، وكذلك فعل مفتي بيروت. فقد ملأها بالأفكار القاديانية، مما جعل الكثير من الناس يقعون ضحية تلك الأفكار ظانين أنها ترجمة رجل مسلم لقد اتجه هذا الرجل في تفسيره للقرآن وجهة خطيرة لم يتورع فيها عن الكذب والتعسف ومخالفة أهل العلم واللغة والإجماع، وإنما فسره بمعان باطنية، فيها التركيز على إنكار الإيمان بالغيب وبالقدرة الإلهية، والأمثلة على ذلك كثيرة جدّاً، منها على سبيل المثال: 1. قوله تعالى لموسى: (اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً) البقرة/60، أي: أن الله أمر موسى بالمسير إلى جبل فيه اثنتا عشرة عيناً. 2. (وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) البقرة/63، أي: كنتم في منخفض من الأرض والجبل يطل عليكم. 3. (فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ) البقرة/65، أي: مسخت قلوبهم وأخلاقهم. 4. (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ) آل عمران/49، المراد بالطير هنا: استعارة، أي: رجال يستطيعون أن يرتفعوا من الأرض وما يتصل بها من أخلاق وأشياء، ويطيروا إلى الله ويحلقوا في عالم الروح. 5. المراد باليد البيضاء التي أُعطي موسى: أي: الحجة، والحبال والعصي في قوله تعالى: (فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ) الشعراء/44، أي: وسائلهم وحيلهم التي عملوها في إحباط سعي موسى. 6. وفي قوله تعالى: (فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ) سبأ/14 الآية، دابة الأرض: هو رجل اسمه "رحبعام بن سليمان" الذي تولى الملك بعده، وسمي دابة الأرض لقصر نظره، إذ كان لا يجاوز الأرض. والمنسأة التي هي العصا: كناية عن ضعف الحكومة وانقراضها. والجن: شعوب أجنبية بقيت في حكم بني إسرائيل إلى ذلك العهد. وهدهد سليمان: هو إنسان! كان يسمَّى الهدهد، وكان رئيس البوليس السري! في حكومة سليمان. وقد تلاعب بمعاني القرآن الكريم على هذا التفسير الباطني الهزلي المملوء بالأكاذيب والخرافات، وقد تلقفه المسلمون - خصوصاً من لم يعرف العربية - بكل سرور، لعدم علمهم بأن تفسير "محمد علي" للقرآن الكريم باللغة الإنجليزية، إنما يراد به هدم معاني الشريعة الإسلامية والمفاهيم الصحيحة، وقد ذكر الأستاذ الندوي في كتابه "القادياني والقاديانية" كثيراً من مثل هذا التلاعب بالقرآن للتحذير وإبراء الذمة.

غيره من الانبياء- أعلن الايمان بجميع رسل العالم جزآ أساسيا من العقيدة التي بشّر بها، وبذلك وضع الاساس لسلم سرمديّ بين مختلف الامم، ولأنه «هو أعظم المصلحين جميعا» (بوزوورث سميث (Bosworth Smith باعتبار انه أحدث تحوّلا نحو الافضل لم يحدث نظيره لا قبله ولا بعده، ولأنه- أخيرا- «أوفر الانبياء والشخصيات الدينية حظّا من النجاح» (الموسوعة البريطانية، تحت مادة: «قرآن» ) . إن أحكامنا على الرجال يجب أن تبنى على ما حققوه من أعمال، ولقد انجز محمد الرسول في مدى عشرين سنة ما عجزت عن انجازه قرون من جهود المصلحين اليهود والنصارى برغم السلطة الزمنية التي كانت تساندهم. لقد استأصل من بلد* كامل تراث أجيال من الوثنية، والخرافة، وسرعة التصديق، والجهل، والبغاء، والقمار، ومعاقرة الخمر، واضطهاد الضعيف، والحرب الضروس، ومئات من الشرور الأخرى. وليس في استطاعة التاريخ أن يدلنا على أي مصلح آخر وفّق إلى إحداث تحوّل في مثل هذه الروعة والتمّام، وعلى مثل هذا النطاق الواسع خلال فترة في مثل هذا القصر. «فلم يكن الاصلاح في أيما يوم من الايام ميؤوسا منه أكثر مما كان» عند ظهور الرسول، كما لاحظ ميووير Muir ولم يكن أكثر كمالا منه عندما التحق بالرفيق الأعلى. وبكلمة أخرى، «كان ذلك ولادة من الظلمة إلى النور» كما يقول كارلايل. وجياة في مثل هذه العظمة لا يمكن أن تكون خلوا من كمونيات potentialities عظيمة، بنسبة مماثلة، للمستقبل. إنها لا يمكن إلا أن توحي إلى أيما قلب من القلوب بأنبل الفكرات الدائرة حول خدمة الانسانية. وإذا كان في سمات خلقه سمة أكثر تميّزا من غيرها فتلك السّمة هي حدبه على اليتيم والأرملة، ونصرته للضعيف والمسكين، وحبه للعمل والسعي من أجل إغاثة الملهوف. إنها

_ (*) يقصد شبه الجزيرة العربية (المعرب)

حياة رجل عاش لله ومات في سبيل الله. «إن يكن قد قدّر لانسان على سطح هذه الأرض ان يجد الله في يوم من الايام، وإن يكن قد قدّر لانسان ان يقف حياته لخدمة الله بدافع خيّر وعظيم فليس من ريب في ان نبي بلاد العرب هو ذلك الرجل.» (لييونارد. (Leonard لقد كتبت هذا المؤلّف، في الاصل، باللغة الاوردية. وهذه الترجمة الانكليزية التي أقدّمها اليوم إلى القراء هي ثمرة جهد محبّ بذله الاستاذ محمد يعقوب خان، إمام مسجد ووكنغ Woking الحاليّ، الذي نهض بهذا العمل بالاضافة إلى مهامه كمبشر اسلامي في ووكنغ. وإني لأزجي اليه الشكر خالصا، كما أزجيه إلى خواجا كمال الدين، رئيس بعثة ووكنغ الاسلامية، الذي قدّم كل مساعدة إلى الاستاذ محمد يعقوب خان لأنجاز العمل؛ وأضع المخطوطة بين يدي مولانا صدر الدين (الذي يقوم اليوم بنشر الاسلام في المانية) كما سبق لي أن فعلت بترجمتي الانكليزية للقرآن الكريم، لتمثيل الكتاب للطبع، ومراجعته، وتصحيح تجاربه المطبعية. مباني الاحمدية، لاهور 25 آب، 1923 محمد علي

الفصل الأول بلاد العرب والعرب

الفصل الأول بلاد العرب والعرب «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ.» (القرآن الكريم، السورة 3 الآية 95) تحتل الأرض المعروفة ب «جزيرة العرب» موقعا متوسطا في نصف الكرة الذي يشمل قارات آسية وافريقية وأوروبة. انها تؤلّف، إذا جاز التعبير، قلب العالم القديم. وتلك هي البلاد التي انجبت محمدا، صلى الله عليه وسلم، آخر المصلحين الدينيين العظام الذين أنشأوا أديانا. إن المحيط الهندي ليغسل شواطئها من ناحية الجنوب، والبحر الابيض المتوسط والبحر الاحمر يغسلانها من ناحية الغرب. وإلى الشرق يقع الخليج الفارسي، ودجلة والفرات، وهذان الأخيران يخترقان جزأها الشمالي أيضا. وهكذا فهي محاطة من نواحيها الاربع كلها تقريبا بالبحار والأنهار، وهذا هو السبب الذي من أجله اعتبرها المؤرخون والجغرافيون،

لا شبه جزيرة، بل جزيرة تضمّ ضمن تخومها تلك الشّقّة من الارض المعروفة بما بين النهرين وسورية العربية أيضا. بيد ان خريطة العالم الحديثة لا تظهر هذين القطرين وكأنهما يؤلفان جزآ لا يتجزأ من الجزيرة، بل تخرجهما منها وبذلك تمتد بلاد العرب على مساحة مقدارها مليون ومئتا ألف ميل مربع. وحوالي ثلث هذه المساحة صحارى رملية، أكبرها تلك المعروفة ب «الدهناء» واقعة في وسط الجزء الجنوبي. وليس ثمة في البلاد كلها انهار جديرة بهذا الاسم. بيد أننا نقع ههنا وههناك على جداول وهيرات. وبعض هذه تفنى في رمال الصحراء، على حين يتمعج بعضها متخذا سبيله نحو البحر. وعبر البلاد كلها تمتد سلسلة جبال، من الجنوب إلى الشمال، تعرف بجبال السّراة، ويبلغ ارتفاع أعلى قمة من قممها ثمانية آلاف قدم. والتمر هو نتاج البلاد الرئيسي. أما في الايام الخالية فكانت بلاد العرب شهيرة بذهبها، وفضتها، وحجارتها الكريمة، وأفاويهها. ومن الحيوانات التي تعرفها تلك البلاد يعتبر الجمل أعظمها قيمة ونفعا، في حين ان الجواد العربي لا نظير له في العالم كله من حيث الجمال، والسرعة، والشجاعة. والواقع ان بلاد ما بين النهرين وسورية العربية تؤلفان جزآ لا يتجزأ، برغم أن التقسيم السياسي الحديث يظهرهما وكأنهما مستقلتان عن البرّ الرئيسي. فأما بلاد ما بين النهرين فتمتدّ في محاذاة فارس. وهناك أسست مدينتا البصرة والكوفة، اللتان ظلّتا طويلا مركزي الثقافة الاسلامية، خلال خلافة عمر الكبير [بن الخطاب] . * وأما سورية العربية فتقع إلى الشمال، ممتدّة حتى حلب. ومن هنا أظهر الجغرافيون

_ (*) الكلمات المحصورة بين معقفين هي من عند المترجم. وقد آثرنا ان نثبت في الحواشي نصوص الآيات الكريمة التي اكتفى المؤلف بالاشارة إلى مواضعها من السور القرآنية تعميما للفائدة. (المعرب)

العرب الفرات بوصفه التخم الشمالي لهذه الجزيرة. وفي هذا الجزء يقع جبل سيناء حيث تلقّى موسى الوحي الالهي. ولقد كان للعماليق في عهد ما مملكة قوية هناك. وبلاد العرب ذاتها تنقسم إلى اجزاء عديدة. منها الحجاز، وهو الأقليم الذي تقع فيه ارض «الحرم» المقدسة. و «الحرم» (الارض المحرّمة أو المقدّسة) إنما دعي بهذا الاسم لأنه كان منذ أقدم العصور موضع توقير وإجلال بالغين، وكل ضرب من ضروب القتال محظور هناك حظرا صارما. وفي نطاق هذا «الحرم» تقوم الكعبة المقدسة. والتوراة، كتاب اليهود المقدس، يطلق على الحجاز لفظ فارانParan. وأهم مدنه مكة، والمدينة، والطائف. وهذا الأقليم يمتد على طول البحر الأحمر على شكل شقّة مستطيلة. وجدّة وينبع هما ميناآه الرئيسيان، حيث الحجاج إلى مكة والمدينة يهبطون إلى البر على التوالي. ويحدّ الحجاز، من ناحية الشرق، اقليم نَجد، ومن ناحية الجنوب اقليم عسير، وهو جزء من اليمن. والاقليم الرئيسي الثاني من أقاليم بلاد العرب هو اليمن، وتقع في جنوب الجزيرة. وحضرموت والأحقاف تشكلان جزأين من هذا الأقليم. والواقع أن اليمن أخصب أقاليم بلاد العرب كلها، ومن أجل ذلك كانت أكثرها تمدنا. وحتى يوم الناس هذا، لا نزال نقع ههنا على بقايا مبان فخمة رائعة. وههنا أيضا انشئت في يوم من الايام سدود للسيطرة على ينابيع الماء المنبجسة من الجبال واصطناعها لأغراض الري. واشهر هذه السدود سدّ مأرب الذي أشار القرآن الكريم إلى خرابه أيضا* وكانت اليمن، فوق ذلك، مركز التجارة بالمعادن، والحجارة

_ (*) «لقد كان لسبأ في مسكنهم آية، جنتان عن يمين وشمال. كلوا من رزق ربكم واشكروا له، بلدة طيبة ورب غفور. فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وشيء من سدر قليل.» (السورة 34، الآية 14- 15)

الكريمة، والأفاويه التي اشتهرت بها بلاد العرب، في زمن ما، شهرة عظيمة. ومملكة عاد العظيمة، التي يتحدث عنها القرآن الكريم، إنما أسّست هناك* وهذه البقعة بالذات تعرف بالأحقاف. وحضرموت هي ذلك الجزء من اليمن الواقع في أقصى الجنوب، على ساحل المحيط الهندي. وصنعاء هي عاصمة هذا الاقليم، وعدن هي المرفأ الرئيسي. وإلى شمال صنعاء تقع نجران، حيث انتشرت النصرانية قبل انبثاق فجر الاسلام. والوفد النصراني المشهور الذي زار النبي الكريم والذي أجيز له أن ينزل في مسجد الرسول إنما أقبل من هذا الموطن. وإلى الشمال من نجران تقع عسير. والجزء الرئيسي الثالث من أجزاء بلاد العرب هو نجد التي تمتد من «جبل السّراة» شرقا، عبر داخلية البلاد. إنها سهل مرتفع غنيّ خصب يبلغ ارتفاعه عن سطح البحر نحوا من ثلاثة آلاف أو أربعة آلاف قدم. ههنا أقامت عشيرة غطفان التي تعيّن على الرسول الكريم أن يقود، في فترة ما، حملة لتأديبها. والصحراء تحدّ نجدا من جهات ثلاث، في حين تقع اليمن إلى جنوبها. وكان بنو حنيفة، القبيلة التي ينتسب اليها مسيلمة الكذاب، يقيمون هناك. وإلى الجنوب الشرقي من بلاد العرب، وعلى طول ساحل خليج عمان، تمتد الارض المعروفة بعمان. وعاصمتها مسقط حيث أقيمت اليوم سلطنة منفصلة، وإن تكن اسمية. وإلى شمال عمان يقع الجزء المعروف بالبحرين، - ويدعى أيضا الأحساء- وهو شهير بلآلئه. وفي محاذاتها تقع الحيرة، وكانت في يوم من الايام مملكة. وحجر، موطن ثمود التي ارسل الله اليها نبيّها صالحا، مكان آخر جدير بالذكر. إنها تقع إلى شمال المدينة. وفي زحفه على تبوك

_ (*) «وإلى عاد اخاهم هودا، قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره، أفلا تتقون.» (السورة 7، الآية 65)

اتفق للرسول الكريم ان اجتاز بذلك المكان. وتبوك وحجر، اليوم، محطتان واقعتان على خط الحجاز الحديدي. وإلى غربي حجر تقع المدائن، وهي موطن النبي شعيب. وإلى شمال المدينة تقع خيبر، التي كانت ذات يوم معقل اليهود. ومدن الحجاز الثلاث الرئيسية، كما سبقت منا الاشارة، هي مكة والمدينة والطائف. والطائف مدينة بشهرتها إلى كونها، وهي الواقعة على سفح الجبال، معتدلة الجو، غنية بالاخضرار، موفورة الينابيع والفاكهة. وهي تقع إلى الشرق من مكة، وتعتبر مصيف النبلاء من أهل الحجاز. ولكن اشهر مدن الحجاز مكة والمدينة. ومكة، أو بكّة، تعرف أيضا ب «أمّ القرى» ، أي أمّ المدن. وهي محاطة من جهاتها الأربع كلها بالجبال. ويبلغ عدد سكانها الحالي خمسين ألفا. ولقد كانت منذ أقدم العصور، ولا تزال، عاصمة بلاد العرب الروحية والدينية، إذ فيها يقوم بيت الله الحرام المعروف بالكعبة التي كانت قبلة الحجاج من كل ركن وزاوية في بلاد العرب منذ عهود ما قبل التاريخ. وهكذا يعلق السير وليم ميووير على قدم ذلك البيت في كتابه «حياة محمد Life of Muhammad «فيقول: «إن عراقة موغلة في القدم يجب ان تعزى لسمات الدين المكّي «الرئيسية.... وديودوروس سيكولوس» Diodorus Siculus الذي كتب هذه الكلمات قبل نصف قرن تقريبا من فجر «التاريخ الميلادي، يقول عن ذلك الجزء من بلاد العرب الذي «يغسل البحر الاحمر سواحله: «ان في هذه البلاد هيكلا «يقدسه العرب جميعا اعظم تقديس» . وهذه الكلمات تشير، «من غير ريب، إلى البيت الحرام في مكة، لأننا لا نعرف أيّ «بيت مقدّس آخر استطاع في يوم من الايام ان ينتزع إجلال

«بلاد العرب كلها على نحو إجماعي ... والتقليد يصوّر لنا «الكعبة قبلة للحجاج كانوا يقصدونها، منذ أقدم العصور، «من ارجاء بلاد العرب كلها: فمن اليمن، وحضرموت، «وشواطئ الخليج الفارسي، ومن بادية الشام، ومن ضواحي «الحيرة القصيّة ومن بلاد ما بين النهرين، تقاطر الناس إلى «مكة عاما بعد عام. ومثل هذا التقديس الشامل لا بدّ أن تكون «اوّليته راقية إلى حقبة عريقة في القدم إلى أبعد الحدود.» ولكي يقيم الدليل على قدم الكعبة يستند السير وليم على بعض الوقائع التاريخية والروايات الشفهية. وفي القرآن الكريم أيضا إشارة إلى المعنى نفسه. انه يتحدث عن اول بيت «وُضِعَ لِلنَّاسِ» *، وبكلمة أخرى، عن أول بيت على سطح الارض خصّص لعبادة الله. فمن هذا المكان انبثقت أشعة الوحي الالهي، أول ما انبثقت. ويا لها من مصادفة رائعة! فهذا المكان نفسه يزهو بأنه أنجب خاتم النبيّين المباركين. ومكة مدينة بمكانتها المقدسة إلى هذا البيت. فمنذ عهد يرقى إلى 2500 سنة ق. م. كانت محطة للقوافل المتردّدة ما بين اليمن وسورية. والقرآن الكريم أيضا يثبت ان البيت الحرام كان قائما قبل ابراهيم**. وحين خلّف ولده، اسماعيل، هناك، كانت هذه كلمات الدعاء الذي ضرع به الشيخ الجليل إلى الله: «رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ، رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ

_ (*) «إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين.» (السورة 3، الآية 95) . (**) «وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً، وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى، وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ.» (السورة 2، الآية 125)

لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ.» * وهذا يظهر ان الكعبة كانت قائمة هناك حتى في مثل هذا التاريخ الممعن في القدم. وكانت المدينة تدعى، في الاصل، يثرب. وفي ما بعد عندما اتخذها الرسول الكريم مقرا له أمست تعرف ب «مدينة النبي» ، وهو اسم ما لبث أن تقلّص، تدريجيا، فأمسى «المدينة» ثم انتهى إلى أن يصبح مجرد «مدينة» . ** وهذه أيضا مدينة عتيقة. وبعض القرائن التاريخية توحي بأن انشاءها يرقى إلى عام 1600 ق. م. وقد سكنها العماليق، بادئ الأمر، ثم اليهود، والأوس، والخزرج. وحين أقبل الرسول ليقيم فيها كان هؤلاء الاقوام الثلاثة هم أهلها. وفي ما بعد اكتسب الأوس والخزرج لقب «الأنصار» . وفي السنة الثالثة عشرة من البعثة، هاجر الرسول من مكة إلى المدينة، حيث قضى بقية أيام حياته. هناك لفظ النفس الأخير، وهناك يقوم ضريحة حتى يوم الناس هذا. وتقع المدينة على مبعدة مئتين وسبعين ميلا إلى الشمال من مكة، وهي على نقيض هذه ليست غير ذات زرع مئة بالمئة. ففيها بالاضافة إلى المزروعات الوافرة عدد غير قليل من الاشجار المثمرة. ومناخها في الشتاء أكثر اعتدالا من مناخ مكة. وعاد، وثمود، وطسم، وجديس هي، بقدر ما نعلم، أقدم أعراق بلاد العرب، وقد تحدّث القرآن الكريم عن العرقين الاولين [عاد وثمود] في بعض آياته. وهذه الأعراق الأوّلية تعرف ب «العرب البائدة» ، أي العرب القدامى. فبعد هلاك قوم نوح نشأت «عاد» التي امتدّت مساكنها إلى مواطن بعيدة خارج تخوم بلاد العرب. والبيّنات التاريخية تزكّي سيطرة «عاد» على بلاد العرب،

_ (*) السورة 14، الآية 37. (**) في اللغات الأجنبية ليس غير. اما في العربية فلم يجرد اسمها في أيما يوم من لام التعريف. (المعرب)

ومصر، ومواطن أخرى كثيرة، حتى إذا هلكت انتقلت السيادة إلى ثمود. بعد ذلك ظهر بنو قحطان الذين كانت اليمن موطنهم. وقد تمتّعوا في أيامهم بسلطان وسيادة عظيمين أيضا. وإنما كان الأوس والخزرج من ذرّيات هذه القبيلة. وجميع هذه الأعراق تعرف ب «العرب العاربة» أي العرب الخلّص. وأخيرا جاء اسماعيل، الذي عرفت ذرّيته ب «العرب المستعربة» ، أي المتعرّبة. وصدوعا بالأمر الإلهي ترك ابراهيم ابنه اسماعيل مع أمّه «هاجر» في الموضع الذي تقوم فيه الكعبة. * وليس ثمة ما يؤيد الاعتقاد بأن ابراهيم نفاهما نزولا عند رغبة زوجه الثانية، سارة. وفي حديث عن الرسول الكريم ما يدحض هذا الاعتقاد في قوة، إذ جاء في ذلك الحديث أن ابراهيم سئل هل خلّفهما هناك صدوعا بأمر الله فأجاب بالإيجاب. وقصتهم في القرآن تقود أيضا إلى الاستنتاج نفسه. وفي ما بعد، أعاد الاب والولد، نزولا عند الايعاز الإلهي، بناء الكعبة المقدسة التي كانت، على ما يبدو، في حال متهدّمة. ** حتى إذا تمّ لهما ذلك وجّها كلاهما هذا الدعاء المشترك إلى الله الكليّ القدرة: «رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ، إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.» *** وهو دعاء استجابه الله في شخص الرسول محمد صلوات الله عليه. ومن أجل ذلك يدعى الرسول الكريم أيضا «صلاة ابراهيم» .

_ (*) السورة 14، الآية 37؛ والسورة 2، الآية 125 الآنفتا الذكر. (**) «وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ، رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا، إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.» (السورة 2، الآية 127) (***) السورة 2، الآية 129.

وتكاثرت ذرية اسماعيل، وتشعبّت إلى قبائل متعددة. وإحدى هذه القبائل تعرف ب «قريش» ، وهي متحدرة من «النّضر» . وفي ما بعد انقسمت هذه القبيلة إلى عدد من البيوت، وكان الرسول سليل واحد منها هو بيت بني هاشم.

الفصل الثاني الجاهلية

الفصل الثاني الجاهلية «ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ.» (السورة 30، الآية 41) لقد أطلق القرآن على العهد الذي سبق ظهور الرسول اسم «الجاهلية» أو العصر المظلم، وهو اسم يجمل في لفظة واحدة ما قد يحتاج التبسّط فيه إلى مجلدات. * والصورة التي ترسمها الآية التي توّجنا بها هذا الفصل إنما تمثّل حالة الانحطاط التي تردّى فيها الوثنيون العرب، واليهود، والنصارى على حدّ سواء. لا، بل إنها تثبت ان الفساد كان متفشّيا في طول العالم وعرضه. بيد أن هذا لا يفترض ضرورة ان العالم لم يشهد قط من قبل وضعا أفضل، ولكنه يعني ان أيما حضارة وحياة أخلاقية قدّر لهما ان ينشآ في أيما مكان بفضل الأنبياء الذين

_ (*) السورة 30، الآية 41.

بعثهم الله الى مختلف الشعوب بين فترة وأخرى كانتا قد تلاشتا بالكلية بسبب من تطاول الاحقاب والازمان. لقد كانت جميع شعوب الارض محرومة، لذلك العهد، من حالة الحضارة الحقيقية. وإنما انبعثت هذه الكلمات من فم رجل كان، من غير ريب، أميا بكل ما في الكلمة من معنى. وهذا الرجل لم تتح له أية فرصة للضرب في أرجاء العالم لكي يدرس أحوال البلدان المختلفة، لا ولم يكن في ميسورة ان يفيد من مثل نظام الإعلام العصري الذي كان خليقا به [لو عرف في تلك الايام] ان يعرّفه إلى حال العالم في ذلك الزمان. ومع ذلك، فأن نظرة إلى صفحات التاريخ تعزّز صدق ذلك التوكيد على نحو رائع. فباستثناء هذه الواقعة التي تقول بأن اوروبة عرفت امبراطورية جبارة في الجزء الجنوبي الشرقي منها- امبراطورية رومة النصرانية- كانت الديار الاوروبية غارقة في حال من البربرية بالمعنى الحرفي للكلمة. وكانت آسية، من بين القارّات جميعا، هي مهد الحضارة في عهد ما. ولكن أيما دراسة لمختلف البلدان التي تؤلف مهد الفلسفات والاديان هذا لتظهر أن الفسوق المحض كان ههنا، شأنه في أيّ مكان آخر، هو القاعدة الغالبة. والهند، التي كانت ذات يوم مركز الثقافة الشرقية القديمة، تبد هنا بالصورة الرهيبة نفسها. كانت أشياء شنيعة، وضيعة، شائنة تعزى حتى إلى ما كان الناس يعتبرونهم أنصاف آلهتهم. كان الشرّ قد استبدّ بهم إلى درجة جعلتهم يصوّرون، حتى الأطهار الأعفّة، في ألوان قاتمة. وكانت فارس والصين، أيضا، تترديّان في الحمأة نفسها. ولعل مردّ ذلك إلى ان قرونا متطاولة تقضّت على ظهور آخر الاشخاص الأطهار الصالحين، وان الاصلاح والحضارة القديمين- إذا وجدا- كانا قد ضعفا تدريجيا، وانتهيا آخر الأمر إلى الزوال. يقول القرآن الكريم: «أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ

الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ.» * وكان يسوع أقرب الأنبياء إلى الرسول محمد عليه السلام من وجهة النظر الزمنية. وطبيعيّ أن يتوقع المرء أن يجد في الديار النصرانية، على الاقل، بعض آثار من الفضيلة والاخلاق. ولكن كيف كانت حال النصرانية في ذلك العهد؟ فلنرجع إلى شهادات الكتّاب النصارى أنفسهم في هذا الموضوع. فقد رسم احد الاساقفة صورة لتلك الأيام فقال ان المملكة الالهية كانت في اضطراب كلّي، بل إن حالة جهنمية حقيقية كانت قد أقيمت على سطح الارض، نتيجة للفساد الداخلي. وقد عالج السير وليم ميووير هذا الموضوع فانتهى إلى النتيجة نفسها. قال: «وفوق هذا فقد كانت نصرانية القرن السابع نفسها متداعية فاسدة. كانت معطّلة بعدد من الهرطقات المتنازعة، وكانت قد استبدلت بأيمان العصور الأولى السّمح صغارات الخرافة وصبيانياتها.» تلك صورة للنصرانية تمثّل وضعها العام [آنذاك] . كانت وحدة الذات الالهية قد احتجبت منذ عهد بعيد. وكانت عقيدة التثليث قد أدّت إلى نشوء تعقيدات متعددة. وتنافست الفرق والهرطقات المختلفة في قدح زناد الفكر لتفسير هذه العقيدة. وأدّى ذلك إلى انشاء جمهرة من المؤلفات أبعدت الانسان عن هدف الدين الحقيقي. و [المؤرخ] غيبون Gibbon في تعليقه على حادثة [حرق] مكتبة الاسكندرية الشهيرة من قبل المتعصبين من النصارى يبدي هذه الملاحظة الهامة: «ولكن إذا صحّ أن ركام الجدل الآريوسيّ والقائل بطبيعة المسيح الواحدة قد أحرق فعلا في الحمّامات العمومية فأن في ميسور الفيلسوف أن يذهب إلى القول، في ابتسامة، بأن ذلك كان في مصلحة الجنس البشري.» وكانت الشرور التي سادت العالم المسيحي، كالخمر والميسر والفسوق،

_ (*) السورة 57، الآية 16.

غالبة حتى في تلك الأيام. ويروي دوزي Dozy عن الخليفة علي قوله في حقّ تغلب، وهي قبيلة نصرانية، «إن كل ما اقتبسته عن تلك الكنيسة هو معاقرة الخمر» . وبكلمة مختصرة، فأن النصرانية- وهي آخر ديانات العالم المنزلة- كانت [في ذلك الحين] في حكم المفقودة. كانت قد فقدت كل قدرتها الدافعة التي تمكّنها من إحداث إصلاح أخلاقي. وإلى هذا، فأن الدّرك الذي تردّى فيه المجتمع الانساني كله، في طول العالم وعرضه، ليقيم الدليل على صحة التوكيد القرآني. * ولكن كيف كانت حال بلاد العرب نفسها؟ صحيح ان الشعر العربي كان في ذروة مجده، وان الشعر الجاهلي يتكشّف عن درجة رفيعة من المقدرة والبراعة. وصحيح أيضا ان الكتابة لم تكن مجهولة عند العرب، ولكنهم نادرا ما أفادوا منها أو سخّروها لأيما غرض نافع. وحتى شعرهم نفسه لم يدوّن تدوينا. والواقع ان قصائد العصر الجاهلي كلها تحدّرت الينا من طريق الرواية الشفهية، ما عدا القصائد المعروفة ب «المعلقات» التي دوّنت على ورق، وعلّقت على جدران الكعبة. وفيما يتصل بكون العرب قد طوّروا فن الشعر بحسبنا ان نقول ان مجرد الشعر، بما هو شعر، لا يقدّم لنا محكّا ثابتا للمنزلة التي بلغها الشعب في سلّم الحضارة. فالولوع بالشعر ملاحظ في جميع المجتمعات تقريبا، بالغا ما بلغ إمعانها في الفجاجة والبدائية. وتعليل ذلك ليس بالأمر العسير. فالأمة في مثل هذه المرحلة تنعم بقلة قليلة من الأشياء التي تثير شوقها- وهي أشياء لا تتضاعف إلا بنموّ الحضارة واستبحارها، ومن هنا فأن عنايتها البالغة تنصبّ على الشكل الوحيد الذي في متناولها من أشكال الفن الجميل، وليس ذلك الشكل غير الشعر. ولكن حتى الشعر العربي خلو من رحابة الرؤيا

_ (*) السورة 30، الآية 41.

وسمو الفكر اللذين لا يتيسّران إلا بفضل الثقافة. إن كل ما يستطيع ذلك الشعر أن يعتزّ به هو جمال اللغة. كانت ثمة، من غير ريب، بعض السّمات النبيلة في الخلق العربي. فقرى الضيف، وحبّ الحرية، والجراءة، والرجولة، والولاء القبليّ، والكرم، كانت بعض الصفات التي تفوّق بها العربيّ على اقرانه جميعا. ولكن هل تستطيع بضع فضائل، في ذات نفسها، وبخاصة حين ترجحها حالة من الامعان في البربرية والجلافة، أن تعتبر قواما لحضارة؟ فجنبا إلى جنب مع قرى الضيف وحسن وفادته كان من المألوف عند [بعض الجاهلين] ان يسلبوا عابري السبيل. وعاطفة الوطنية القبلية، برغم أنها محمودة في ذاتها، كانت قد شوّهت بالإفراط وإساءة التطبيق. فكانت المنازعات التافهة بين الافراد كثيرا ما تؤدي إلى إضرام نار الحرب الرهيبة وإلى تأريث الاحقاد والثارات الدامية المتوارثة من جيل إلى جيل. وقصارى القول، فأن الافق العالمي كله كان في تلك الفترة ملبّداً بأدكن غيوم الكفر والفسوق. كانت الفضائل الرفيعة مجهولة بالكلية. وليس من ريب في أن العرب أعلنوا ايمانهم بوحدانية الله، ولكن ايمانهم ذاك كان ضحلا إلى أبعد الحدود. لقد كذّبت حياتهم العملية إقرارهم الشفهي غير النابع من القلب. كانوا نزّاعين إلى الوثنية، متوهمين ان الله الكلّي القدرة قد عهد في أداء مختلف وظائف الكون إلى عدد من الآلهة، والآلهات، والاوثان. ومن هنا كانوا يتوجهون إلى هذه ملتمسين بركاتها كلما باشروا عملا أو فكروا بمشروع. وهكذا فأن ايمانهم بوحدانية الله كان عقيدة جوفاء، لا يكاد يجد لنفسه مكانا في نظام حياتهم العملية. وإلى جانب الأوثان اعتبروا الهواء، والسماء، والقمر، والنجوم مهيمنة على مصائرهم وأقدارهم، وعبدوها بوصفها ذاك. بل لقد انحدروا إلى درك أسفل فعبدوا الحجارة،

والاشجار، وأكوام الرمل. وكانوا يخرّون ساجدين أمام ايما حجر جميل قد تقع عليه أبصارهم. فاذا ما عدموا أيما حجر نزعوا إلى عبادة كثيب من الكثبان بعد أن يكونوا قد حلبوا ناقتهم على رماله. وكانوا يعتبرون الملائكة بنات الله. وحتى المشاهير من الرجال عبدهم العرب فنقشوا اوثانا وسمّوها باسمائهم. ولم يكن ضروريا عندهم أن تكون الحجارة منقوشة أو منحوتة كما ينبغي لها أن تنقش أو تنحت. حتى الحجارة الجافية غير المنحوتة كانت تفي عندهم بالغرض. وكانوا إذا ما انطلقوا في رحلة حملوا معهم اربعة أحجار، فأما الثلاثة الأولى فلكي ينصبوا بها موقدا، واما الرابع فلكي يسجدوا له ويعبدوه. وكانوا في بعض الأحيان لا يحملون حجرا مستقلا لأغراض العبادة. فما إن يفرغوا من طهو طعامهم حتى ينتزعوا ايما اثفيّة من الاثافي الثلاث ويسجدوا لها. وعلاوة على الثلاثمئة والستين وثنا المنصوبة في الكعبة كان لكل قبيلة وثن خاص بها. بل لقد كان ثمة في كل بيت وثن. وبكلمة موجزة، كانت عبادة الاوثان قد أمست عندهم طبيعة ثانية فرضت سلطانها على حياتهم اليومية بتفاصيلها كلها. وكانت الفكرة الرئيسية التي يقوم عليها ايمانهم ان الله قد أناط السيطرة على نظام الكون هذا وأناط إدارته بآلهة آخرين خوّلهم كامل القوة والسلطان، فهم قادرون على أن يشفوا المرضى، ويرزقوا الناس أولادا، ويقضوا على المجاعة والأوبئة. وليس من سبيل إلى الفوز بالرضوان الربّاني إلا من خلال هذه الاوثان وبفضل شفاعتها. كانوا يسجدون لها، ويطوّفون حولها، ويذبحون لها القرابين، ويفردون جزآ من نتاج حقولهم من حيواناتهم لتقديمه اليها. من حضيض هذه الوثنية المخزية انتشل الرسول محمد عليه السلام بلاد العرب كلها في فترة من الزمان قصيرة لا تعدو عشرين عاما. انه لم يستأصل الوثنية من بلاد العرب استئصالا نهائيا فحسب، بل اضرم في قلوب اولئك العرب أنفسهم

شرارة من الحماسة لوحدانية الله دفعتهم إلى الانطلاق بعيدا في كل رجا من أرجاء العالم المعروف آنذاك لرفع راية الاله الواحد، أيضا. وهذا الفطام لبلد برمّته- يمتد على مساحة هائلة مقدارها مليون ومئتا الف ميل مربع- عن لعنة الوثنية التي كانت تهيمن عليه هيمنة مطلقة نتيجة للارث والتقاليد الراسخة، في مدة لا تتجاوز خمس قرن، بحيث اكسبت ذلك البلد لقب «محطّم الاوثان» المشرّف- أقول أليس هذا الفطام هو أعظم معجزة قدّر للعالم أن يشهدها في تاريخه كله؟ ألا يستحق الرجل الذي أحدث هذا التحول التقدمي لقب «خير الأنام» استحقاقا لا مراء فيه؟ وبالاضافة إلى عبادة الاوثان، التي كانت القاعدة العامة آنذاك، رسخت جذور عبادة النجوم في بلاد العرب رسوخا مماثلا. فقد ربطت مصائر الانسان وأقداره بحركات مختلف النجوم. وعزيت ظواهر الطبيعة المتصلة بخير الانسان وشره إلى سلطانها ونفوذها. وكان ثمة أيضا أقوام لم يعرفوا أي دين، أو أقوام كانوا ملحدين بالمعنى المطلق للالحاد. فبينا استبد اسوأ شكل من أشكال الوثنية بالعقل العربي على العموم، كان ثمة بعض العرب الذين لم يكن لديهم أيما ايمان بوجود الله، وبخلود النفس البشرية، وبيوم الحساب. كان الدّين عندهم مجرد سخرية. فهم لا يفتأون يهزأون بنفس الاصنام التي زعموا انهم يعبدونها. ويروى عن الشاعر الشهير، امرئ القيس، انه يوم مصرع والده استشار عرافا- وفقا للعرف السائد بين العرب- لكي يتكهن له أيتعين عليه أن يثأر من قاتلي أبيه أم لا. وكانت العملية تقتضي الاتيان بثلاثة اسهم أو «أزلام» احدها موسوم بلفظ «نعم» ، والثاني موسوم بلفظ «لا» ، والثالث غفل. ثم يستقسمون بها، فاذا خرج السهم الأول وجب الثأر، وإذا خرج السهم الثاني لم يجب، وإذا خرج السهم

الثالث وجبت إعادة الاستقسام. * واستقسم امرؤ القيس ثلاث مرات، فخرج السهم الثالث فيها جميعا. عندئذ استبد الغيظ به فقذف بالسهم في وجه الصنم قائلا: «أيها الوغد، لو كان أبوك هو الذي صرع لما منعتني من الاثّئار له.» على هذه الحال من الكفر وعبادة الاوثان كانت بلاد العرب. فاذا جئنا إلى حياة الجاهليين الاجتماعية لم نجدها خيرا من ذلك. ومن هذه الناحية أيضا، كانوا على جهل مطبق بألفباء المبادئ الاجتماعية. كان اسلوب حياتهم يجعل نشوء أيما فضيلة اجتماعية امرا متعذرا. فقد استغرقت الثارات المهلكة انتباههم كله. والحياة المستقرة المسالمة، التي لا غنية عنها لتطوير المناقب الاجتماعية كانت مجهولة عندهم. وكان الذي يشغل أفكارهم، كل لحظة، هو المنازعات التي تنشب في أيما وقت بينهم وبين بعض القبائل الأخرى. لقد عاشوا حياة مترحلة، متنقلين مع أنعامهم من مكان إلى مكان. وكانوا يضربون خيامهم المصنوعة من وبر الجمال حيثما وجدوا ماء يشربونه، وكلأ تغتذي به أنعامهم. ولم يستقر منهم في قرى صغيرة غير قلة جدّ ضئيلة، أما الذين استقروا في مدن بعينها فكانوا أقلّ من ذلك أيضا. فكيف يدخل في باب الامكان، وتلك هي ظروفهم وأحوالهم، أن تؤول اليهم

_ (*) كان العرب في الجاهلية يستقسمون عند اصنامهم بالازلام. والزلم هو القدح الذي لا ريش عليه، والازلام كانت لقريش، وكان مكتوبا عليها أمر ونهي وافعل ولا تفعل، وقد زلمت وسميت ووضعت في الكعبة يقوم بها سدنة البيت فاذا أراد رجل سفرا أو نكاحا أتى السادن فقال أخرج لي زلما فيخرجه فاذا خرج قدح الامر مضى على ما عزم عليه، وان خرج قدح النهي قعد عما أراده. وربما كان مع الرجل زلمان وضعهما في قرابة فاذا أراد الاستقسام اخرج احدهما. ومعنى الاستقسام بها ان يطلب الانسان ما قسم له من جهتها. وكان في الكعبة صنم يمثل ابراهيم واسماعيل وبايديهما الازلام يستقسمان بها. - راجع محاضرات تاريخ الامم الاسلامية للشيخ محمد الخضري، ج 1 ص 85. (المعرب)

نعم المجتمع المنظّم المستقر. ثم إنه لم يكن لديهم حكومة مركزية تفرض القانون والنظام. كانت البلاد برمتها ممزقة إلى دويلات صغيرة لا حصر لها، إذا الّفت كل قبيلة وحدة سياسية مستقلة. وكانت الحكومات الاقليمية القليلة التي قامت ههنا وههناك أضعف من أن تقيم العدل بين الناس. فإن أراد المرء أن ينتصف لنفسه من امرئ آخر تعين عليه أن يعتمد على قوة ذراعه نفسها. وكان لكل قبيلة زعيم يقودها في القتال ضد القبيلة المعادية دفاعا عن حقوقها. ولكن لم يكن ثمة أيما قانون يشدّ الفرد إلى القبيلة، أو يشدّ القبيلة إلى الامة. كانت كل قبيلة مستقلّة لا تدين بالولاء إلى أيما سلطة مركزية. ثم جاء الاسلام بسلطانه الموحّد، كما اعترف ميووير: «كانت أولى الخصائص التي تلفت انتباهنا، اذن، هي انقسام «العرب إلى جماعات لا تعد ولا تحصى، خاضعة لقانون «في الشرف والاخلاق واحد، ومتمسكة بأهداب عادات «واحدة، ومتحدثة في الاعم الاغلب بلغة واحدة، ولكن «كلا منها مستقلة عن الاخرى. كانت تلك الجماعات لا «تعرف طمأنينة ولا استقرارا وكثيرا ما نشبت الحروب بينها. «وحتى لو اتفق ان جمعتها رابطة الدم أو رابطة المصلحة «فسرعان ما كانت تتفرق لاتفه الاسباب وتستسلم لعداواتها «الحقود. وهكذا كان خليقا بمن يرجع البصر، قبيل بزوغ «الاسلام، إلى التاريخ العربي، أن يرى- وكأنما بواسطة «مبداع Kaleidoscope *حالة من التمازج والتنافر لا «تفتأ تتغيّر وتتقلب، مما أدى إلى اجهاض ايما محاولة من

_ (*) آلة تحتوي على قطع صغيرة من الزجاج الملون يرى بها الناظر أشكالا شتى ذات نظام بديع.

«محاولات الوحدة الشاملة ... وكان لا بدّ لهذه المشكلة من «ان تحلّ من طريق ايما قوة توفّق إلى اخضاع العرب أو «جمع شملهم، ولقد حلّ محمد المشكلة.» ولقد لخّص القرآن الكريم هذا التفسّخ الكلّي، أحسن تلخيص، في جملة واحدة: «وَكُنْتُمْ (معشر العرب) عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها.» * حتى إذا نشبت المنازعات بينهم، مرة، استمرت أجيالا. وكثيرا ما أدّت بعض السفاسف، ككلمة ازدراء توجّه إلى بعضهم، أو إجحاف في الحكم في سباق للخيل، إلى مقتل آلاف وآلاف. واسوأ ما في الأمر ان المنتصرين في هذه الحروب كانوا يستعبدون المغلوبين والأسرى استعبادا سرمديا. تلك كانت هي الجماعة البشرية المنحطة التي رفعها الرسول إلى صعيد من الحياة الأخلاقية يغري بالحسد. لقد صهر العناصر المتنافرة في اخوّة متناغمة لا نعرف لها في تاريخ العالم نظيرا. ** يا له من تحوّل خيّر جبار! واحتلت المرأة مركزا وضيعا في المجتمع العربي. فباستثناء قصائد الغزل المنظومة في إطراء المحبوبات، وهي قصائد كانت ثمرة شهوة جسدية، كانت المرأة تعامل معاملة الحيوانات الدنيا. وكان تعدد الازواج Polyandry وهو من خصائص المجتمعات البشرية في مراحلها البدائية الأولى، شائعا بينهم أيضا. وإلى هذا، لم يكن ثمة أيّ حدّ لعدد الزوجات اللواتي يستطيع الرجل أن يقترن بهن. كان ذلك كله رهنا برغبته أو شهوته الخاصة. وبالاضافة إلى تعدد الزوجات كان في

_ (*) السورة 3، الآية 103. (**) «واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم اعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا.» - السورة 3، الآية 103 أيضا.

استطاعته ان ينشئ علاقات غير شرعية مع عدد من المعشوقات. وكان البغاء، بوصفه مهنة، متفشيا بينهم. وكانت الأسيرات يكرهن، بعد أن يجعلن خادمات، على اكتساب المال لأسيادهن من هذه الطريق الوضيعة. وكان الرجال يجيزون لزوجاتهم أن يتّصلن بالآخرين من أجل إنجاب الاولاد. وكان ذلك الصنيع يدعى «الاستبزاء» ، وهو شيء مشابه لما يعرف ب «نييوغا Niyoga «التي لا تزال سائدة بين الهندوس. وفوق هذا، فقد كان العرب ينظرون إلى المرأة وكأنها متاع. وكانوا يحرمونها أيما نصيب من إرث زوجها المتوفى، أو من إرث أبيها أو أيّ نسيب آخر من أنسبائها. بل انها هي نفسها كانت تورث كجزء لا يتجزأ من تركة الميت. وكان من حق الوريث أن يتصرف بها كيف شاء. كان في امكانه أن يتزوجها هو، أو ان يزوّجها من أيما امرئ يختاره. ليس هذا فحسب، بل ان الولد كان يستطيع، عند وفاة أبيه، أن يتزوج حتى من زوجة ذلك الأب، بوصفها جزآ من الارث. ولم يكن الطلاق الشائع عندهم أقل بربرية. ذلك بأنه كان في ميسور الرجل أن يطلق زوجته الف مرة وان يستردّها خلال مدّة معيّنة تعرف ب «العدّة» . وفي بعض الاحيان كان يقسم ان لا يقربها، وفي بعضها الآخر كان يعلن انه سوف ينظر اليها نظرته إلى أمّه، تاركا إياها في حال معلّقة، فلا هي بالمتزوجة ولا هي بالمطلقة. وهذه الطرائق إنما كانت تصطنع لمجرد إغاظتها ومكايدتها. ولم يكن لها، ويا لبؤسها، أيّ مفر من هذا المأزق المثير للاشفاق. وكانت اسوأ ضروب اللغة الفاحشة تصطنع في التعبير عن العلاقات الجنسية. وكانت قصص الحب والاتصال المحرّم تروى في غير ما حياء وبكثير من الاعتزاز في قصائد ليس أكثر منها امعانا في الاقذاع. وكان الخطاب يوجّه في القصائد الغزلية توجيها صريحا إلى نساء الأسر النبيلة. والواقع اننا إذا نظرنا إلى الاحوال السائدة بين العرب في ما

يتصل بوضع المرأة لم يكن من العسير علينا أن نقدّر أي دين عظيم يثقل أعناق الجنس الناعم لمحمد عليه السلام الذي انتشلها من حضيض الضعة وأحلّها مقاما عليّا. وحتى الحضارة الأوروبية الحديثة التي لا تحترم الجنس الناعم إلا احتراما سطحيا تقصّر عن منح المرأة هذه الحقوق. ان احترام المرأة الحقيقي يكمن في الاقرار بطهارتها وبمساواتها الكاملة في الحقوق مع الرجل، وهما أمران لا نقع عليهما- مع الأسف- في الثقافة الغربية البتة. وعلى سبيل المقارنة فلنلق نظرة على ما أدخله الاسلام على وضع المرأة من تحسين بالغ. كانت الوصية القرآنية، «وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ» * هي «الوثيقة العظمى Magna Charta «إذا جاز التعبير، التي أعلنت تحرير المرأة. وعلى الغرار نفسه أعلن الرسول الكريم: «خيركم خيركم لنسائه» . ذلك كان هو التغيير الذي أحدثه الاسلام في الجو كله، المشبع بالازدراء للمرأة. وليس من ريب في ان إرساء قواعد الاجلال للمرأة في أرض اعتبر فيها وأد المولود الانثى أمارة من امارات النبل هو خدمة للانسانية غير يسيرة بأية حال. كان الرجل الجاهلي إذا ما «بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ، يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ» . ** وهكذا كان يحمل ابنته إلى الصحراء، ويوقفها على شفا حفرة أعدّت قبيل ذلك، ويلقي بالطفلة المعولة بيديه الاثنين ويدفنها حية تحت ركام من التراب. ولقد أنبئ الرسول الكريم ذات مرة بحادثة من هذا الضرب، فاغرورقت عيناه بالدمع حزنا وإشفاقا. وفي بعض الأحيان كان الاتفاق يتمّ على نحو واضح صريح، عند عقد النكاح، على

_ (*) السورة 2، الآية 228. (**) السورة 16، الآية 58- 59.

وأد ما قد تضعه المرأة في حياتها الزوجية الجديدة من إناث. وفي مثل هذه الحال كان من واجب الأم نفسها أن ترتكب هذا العمل الهمجي. يا للمخلوقة البائسة! كان يتعين عليها أن تفعل ذلك في حضرة جميع أعضاء الاسرة الأناث اللواتي كنّ يدعين خصّيصا ليشهدن هذا الصنيع الكالح. كل هذه الأعمال البربرية، التي تنمّ عن شعور ميّت، ما لبث الاسلام ان وضع لها حدا، دفعة واحدة، بالآية القرآنية القائلة: «وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ» * ومن ثم لم تتكرر تلك الوحشية الفاجعة بعد ذلك قط، ولو مرة واحدة. وهكذا يكون محمد صلوات الله عليه قد أسدى إلى البشرية، في هذا المجال، خدمة لا تضارع في تاريخ العالم كله. وكان إدمان الخمر رذيلة أخرى انغمست فيها بلاد العرب كلها. وكانت الاشربة المسكرة تعاقر مرات عديدة كل يوم. ولم يكن ثمة بيت واحد لا يدّخر عددا من دنان الخمر. ولكن لم يكد التحريم القرآني** يعلن حتى حطّمت الاباريق نفسها تحطيما، وقذف بها ههنا وههناك. ويروى أن الخمر سالت كمنهمر المطر في شوارع المدينة المنورة. وهكذا زلزلت عادة معاقرة الخمر من آساسها، في الحال، وهي تبلغ من العمر مئات من الاعوام، وأصبح الامتناع عن المسكرات هو القاعدة العامة. والقمار أيضا كان لعنة أخرى عميقة الجذور في المجتمع العربي. والواقع ان القوم كانوا ينغمسون فيه بوصفه تسلية يومية شائعة. وكانوا يعتبرون كل من يجتنبه بخيلا شحيحا. ولكن سلطان محمد الروحي

_ (*) السورة 81، الآية 9. (**) «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ» . (السورة 5، الآية 90- 91)

سرعان ما قضى على هذه العادة، وأنقذ بلاد العرب من تلك الرذيلة العريقة أيضا. ولم تكن للعرب أيما ثقافة جديرة بهذا الاسم. كان اولئك القادرون على فك رموز الكتابة يعدّون على الاصابع. وأدى الجهل إلى نشوء الخرافة، فنزعوا إلى الايمان بمختلف ضروب المعتقدات الغربية. كانوا يؤمنون بوجود الجن والارواح الشريرة، فهم يستحضرونها في الاماكن المهجورة. واليها كانوا يعزون أيضا بعض الامراض، فيلجأون للفرار بأنفسهم منها إلى الرقى والعزائم. لقد آمنوا بأن الروح البشرية مخلوق ضئيل، وبأنها تدخل الجسد عند ولادة الانسان وتأخذ في النمو معه حتى إذا توفي فارقت الهيكل الجسدي وراحت تحوّم فوق قبره على نحو موصول. وفي أيام الجفاف كان من دأبهم ان يشدّوا بعض الاعشاب والشجيرات الجافة إلى ذيل بقرة ويضرموا النار فيها، ويسوقوا البهيمة إلى الجبال. لقد اعتقدوا ان لهب النار يشبه وميض البرق، وان من الخليق به- بسبب من هذا الشبه- أن يستنزل المطر. وكانوا إذا ما ألّمت بهم كارثة دخلوا البيت من الباب الخلفيّ. ليس هذا فحسب، بل كانوا يتفاءلون ويتشاءمون بحركات الطيور. فاذا اتفق ان اجتاز بهم الطير من الشمال إلى اليمين تيمّنوا بذلك، وإذا اجتاز بهم من اليمين إلى الشمال تشاءموا. * وكان الذين يعتقدون بحياة بعد الموت يربطون بعيرا إلى قبر ما، ويجوّعونه حتى الموت، متوهمين ان الميت سوف يمتطي متنه يوم الحشر. واعتقدوا أيضا ان روح الانسان تتخذ عند وفاته صورة بومة لا تفتأ تحوّم فوق قبره. فاذا كان الميت قتيلا ظلت تزقو

_ (*) كانوا يدعون الطير الذي يأتيهم من جانب اليمين «السانح» ، أما الذي كان يأتيهم من جانب اليسار فكانوا يدعونه «البارح» . ومن امثالهم: «من لي بالسانح بعد البارح» وهو يضرب في توقع المحبوب بعد المكروه. (المعرب)

«اسقوني! اسقوني!» حتى يثأر للقتيل. * وكانوا يؤمنون بالعرافين وكاشفي البخت، وكانوا يعتقدون اعتقادا لا يتزعزع بأقوال هؤلاء. وبكلمة موجزة، كان العربي في أيام الجهل التي سبقت انبثاق الاسلام يؤمن بهذه الخرافات ومئة من مثلها. ولكن محمدا، صلى الله عليه وسلم، حرّره في بضع سنين، من أصفاد العبودية الوراثية هذه جميعها، وسما به إلى قمة الاخلاق، والعلم، والحضارة. وعبثا سيقلّب التاريخ صفحاته بحثا عن اصلاح جمليّ وتثقيف شامل لشعب متفسّخ موازيين لذينك الاصلاح والتثنيف اللذين أحدثهما الرسول في أمة العرب التي كانت متردّية آنذاك في الدرك الأسفل من السقوط. أليس في ذلك المنجز الجبار ما يجعل محمدا، المصلح العظيم، جديرا بهذا اللقب الفخور: «خير الانام» ؟

_ (*) كانت العرب تطلق على هذه البومة لفظ «الهامة» . قال ذو الاصبع: يا عمرو ان لم تدع شتمي ومنقصيّ ... اضربك حتى تقول الهامة اسقوني أي اقتلك. ويقال: «هذا هامة اليوم أو غد» ، أي سيموت اليوم أو غدا. (المعرب)

الفصل الثالث موجات الإصلاح في بلاد العرب

الفصل الثالث موجات الإصلاح في بلاد العرب «لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ.» (القرآن الكريم، السورة 36، الآية 6) لقد بعث الله بالرسل إلى الناس في مختلف أجزاء بلاد العرب قبل بعثة النبي ابراهيم وبعدها على حد سواء. وفي القرآن الكريم أيضا اشارة إلى بعض هؤلاء الرسل. فقد بعث هود لهداية قبيلة عاد، التي استقرت في جزء من اليمن يعرف بالأحقاف، وبعث صالح لهداية ثمود الذين سكنوا الجزء المسمى «حجر» ، إلى الشمال من المدينة المنورة. وكلا المصلحين أقدم من ابراهيم عهدا، على حين ان اسماعيل وشعيب، وهما مصالحان بعثا في اليمن والمدائن على الترتيب، جاآ من بعده. وتظهر الروايات والنقوش ان «عادا» كانوا شعبا اولي بأس شديد. لقد اسسوا امبراطورية ضخمة امتدت رقعتها إلى مواطن قصية جدا خارج بلاد العرب. ويبدو ان الرسل بعثوا فيهم حتى قبل

مجيء هود، الذي ظهر في فترة غرقت فيها الامة في احطّ دركات التكالب على الدنيا. ولكنهم اعاروا هذا النبي أذنا صماء، فعاقبهم الله عقابا قاسيا؛ لقد أهلكهم بعاصفة رملية هبّت عليهم من الصحراء، التي تقع شماليّ الاحقاف والتي تدعى «الرّبع الخالي» ، أي الرّبع الجديب. وهكذا شخصت ثمود إلى الجبال فنحتت بيوتها في الصخور. * حتى إذا حانت ساعة هلاكهم عجزت معاقلهم عن إنجائهم. لقد لقوا حتفهم بزلزال أهلكهم. ونظرة إلى خريطة بلاد العرب ترينا ان الله بعث هودا واسماعيل لأهل الجنوب، وبعث صالحا وشعيبا لأهل الشمال. اما الجزء الأوسط، المعروف بالحجاز فظلّ من غير نبي. ولكن زيارة ابراهيم لمكة، وتركه اسماعيل هناك، وبناءه الكعبة بعد ذلك، كل اولئك قد ربط اسم ابراهيم ببعض مواطن الحجاز حتى يوم الناس هذا. وخلال بعثات الرسل الاسرائيليين بلغت عبادة الاوثان في بلاد العرب أوجها. ووفّق سليمان إلى إقناع ملكة اليمن [بلقيس] بوحدانية الله، وأتبع ذلك بتموّج واهن اعترى مياه الحياة الدينية في بلاد العرب، فقد هاجر اليهود واستقروا هناك، ربما حوالى القرن الخامس قبل الميلاد، عندما طردهم نبوخذ نصّر من ديارهم. وكانت النبوآت المتحدثة عن ظهور خاتم النبيّين من أرض بلاد العرب منتشرة بينهم أيضا. من أجل ذلك اتخذوا من هذه البلاد مفزعا لهم، وأمست خيبر مستعمرة يهودية خالصة. حتى إذا توطدت أقدامهم هناك شرعوا يدعون الناس إلى الدخول في دينهم. وحوالى القرن الثالث قبل الميلاد اعتنق ملك اليمن، ذو نواس، اليهودية. فكان في هذا ما أعطى حركة التهوّد زخما جديدا؛ ومع كرّ الايام اكتسبت اليهودية سلطانا كبيرا في الجزيرة العربية. ولكن الأمة العربية، ككلّ، ظلت متعلقة بأهداب الديانة الوثنية الموروثة

_ (*) «وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ.» (السورة 26، الآية 149)

عن الآباء والاجداد، وما هي إلا فترة يسيرة حتى ماتت الحركة الدينية اليهودية ميتة طبيعية، مخلّفة العرب كما كانوا من قبل. وعقبت ذلك موجة اصلاح أخرى. فقد شرع المبشرون النصارى يتدفقون على بلاد العرب في القرن الثالث للميلاد، واستقروا في نجران. وإنما عزّزت نشاطاتهم التبشيرية تعزيزا كبيرا بالسلطان الزمني الذي كان للدولتين النصرانيتين المجاورتين لبلاد العرب: الدولة الحبشية في الغرب، والامبراطورية الرومانية في الشمال. ومن ثم اعتنقت مقاطعة نجران كلها، الواقعة بين عسير وصنعاء، الديانة النصرانية. ولكن النصرانية لم توفّق إلى التقدّم إلى أبعد من ذلك. فباستثناء قلة قليلة من المتنصّرين المنتثرين ههنا وههناك لم تحدث النصرانية غير أثر ضئيل في بلاد العرب نفسها. وهكذا انتهت إلى اخفاق كليّ هذه المحاولة الثانية لاصلاح الجزيرة العربية. أما الموجة الاصلاحية الثالثة التي انطلقت في بلاد العرب فكانت حركة داخلية. فقبيل بزوغ الاسلام مباشرة، انبثقت «مدرسة فكرية» جديدة عرف أصحابها ب «الحنفاء» . لقد ازدرت هذه العصبة الصغيرة الوثنية، ولكنها لم تكن أكثر ميلا إلى اليهودية أو النصرانية. لقد عبد أفرادها إلها واحدا، بيد أنهم لم يجشّموا أنفسهم عناء العمل على اصلاح الحياة الاجتماعية في بلادهم. وليس من ريب في أن كراهية «الحنفاء» لعبادة الاوثان حملت بعضهم على الدخول في حظيرة النصرانية، من مثل ورقة بن نوفل، ابن عم خديجة، وعبد الله بن جحش، ابن اخي حمزة، ولكن عدد هؤلاء كان صغيرا لا يستحق الذكر. إن كثرة الحنفاء الكاثرة لم تجد ما يرضي نفوسها في النصرانية واليهودية على السواء. وأبرز هؤلاء زيد بن عمرو بن نفيل، عمّ عمر، وامية [ابن ابي الصلت] الشاعر الشهير وزعيم الطائف. ولم تكن لدى أيّ منهم حماسة شديدة لنشر معتقداتهم الجديدة، ومع ذلك فأنهم لم يكتموا

مقتهم للوثنية، وأعلنوا التوحيد عقيدة لهم، ذاهبين إلى ان هذه العقيدة هي الدين الذي جاء به ابراهيم. صحيح ان هذه الحركة كانت واهنة ضعيفة، ولكنها كانت هناك من غير ريب. إنها لم تلق بالا إلى آفات بلاد العرب الاجتماعية. ولقد كان مجرد الاقرار بوحدانية الله بدلا من عبادة الاصنام هي غاية غاياتها. ولكن هذه الحركة الداخلية عجزت، مثل سابقتيها، عن النفاذ إلى أبعد من السطح الظاهري، تاركة المجتمع العربي شبه ممتنع على التأثر كعهده من قبل. والواقع انها كانت أوهى من أيّ من الحركتين اليهودية والنصرانية. إنه لما يلفت النظر أن تنطلق، قبيل ظهور الرسول الكريم مباشرة، ثلاث حركات مختلفات، هدفت كلها إلى اصلاح بلاد العرب. وبرغم ان هذه الحركات واصلت العمل طوال قرون، معزّزة بجميع العوامل المساعدة التي يستطيع السلطان الزمني أن يقدّمها، فقد تلاشت كلها كما يتلاشى الدخان. ولكن ما إن تنقضي فترة حتى ينهض رجل فرد، لا عون له ولا نصير، وفي حال من الضعف المحض، فيحرز في رسالته نجاحا عجيبا. وما هي غير سنوات معدودات حتى يحدث تحوّلا خيّرا لا يضارعه في تاريخ العالم أيما تحوّل خيّر. فهو لم يجتثّ دين البلاد الوضيع- الوثنية- فحسب، بل أصلح البنية الاجتماعية كلها وحرّرها من فساد قديم العهد عميق الجذور. وكانت لليهود صلة نسب تربطهم بالعرب. فكلا الشعبين يتحدّر من أصل عرقي واحد. وكانت بين لغتيهما وأخلاقهما وعاداتهما مشابه كثيرة. ليس هذا فحسب، بل لقد كانا كلاهما يوقّران إبراهيم ويرفعانه مقاما عليا. وكان ملك اليمن، وهي أخصب أقاليم الجزيرة، قد دخل في الديانة اليهودية. وهكذا، وتبعا لكل تقدير وتخمين بشريين، كان لهذه القوى المختلفة العاملة في مصلحة اليهودية أثر

تراكميّ فعّال إلى درجة خليق بها أن تكفل تهوّد الجزيرة العربية كلها. ومع ذلك، فقد اثبتت بلاد العرب استعصاءها على جميع هذه المؤثرات الخارجية. ثم جاءت النصرانية برسالة جديدة بالكلية. فقد أشبهت «وحدانيتها» المفهوم العربي للذات الالهية. وكانت الوثنية السائدة بين العرب مماثلة للوثنية الاغريقية التي ولدت عقيدة التثليث النصرانية تحت تأثيرها. وكان القديس بولس، المؤسس الحقيقي للكنيسة المسيحية كما نعرفها، قد أضفى مسحة «وثنية» على عقيدة الانبياء الاسرائيليين الوحدانية لكي يجعلها فاتنة في أعين الامم الوثنية في عصره. ومن هنا اكتسبت النصرانية أعدادا ضخمة من الداخلين فيها من أبناء تلك الامم. وفوق هذا كله، فقد انطوت النصرانية على سمة اخرى جذّابة للعرب بخاصة. فقد أعفت أتباعها من ضرورة الالتزام [المتزمت] للقانون، وهو ترخّص يتساوق تساوقا كاملا واسلوب الحياة عند العرب. فقد كان أبناء الصحراء المتهورون هؤلاء- الذين لا تضبط مسالكهم أية قوانين دينية أو زمنية- قد انغمسوا في ملذات الحياة على نحو غير مكبوح. وكانت النصرانية تتيح لهم مجالا واسعا لارضاء نزعاتهم تلك. فهي، بهذا الوصف، عقيدة لا تكلّفهم غير أضأل قدر من مقاومة تلك النزعات، ومن ثم كان خليقا بهم أن يجدوا في اعتناقها أعظم اليسر. وبالاضافة إلى هذه المغريات الملازمة، تمتعت النصرانية بسلطان زمني يزيّنها في أعين العرب. فالامبراطورية الرومانية الكبرى في الشمال، والمملكة الحبشية في الغرب، وتنصّر احدى مقاطعات اليمن، والسيطرة التي كانت للنصرانية على دولتي الحيرة وغسّان- تلك هي المؤثرات المتعددة التي كانت تعمل لمصلحة النصرانية. وفي ظل هذه الظروف والملابسات بدا دخول الجزيرة العربية كلها في حظيرة الدين المسيحي مسألة أيام ليس غير. ومع ذلك فقد عجزت الكنيسة عن ان تخلّف أيّ أثر محسوس في المجتمع العربي، ما خلا تعزيزها

لنزوع العرب إلى الخمر والميسر وحب النساء. وكانت الحركة الثالثة، حركة الحنفاء، داخلية صرفا في أصلها، ولم تكن لتعنى إلا قليلا بالاصلاح الاجتماعي في بلاد العرب، قاصرة أهدافها وأغراضها على نقطة واحدة، هي احلال التوحيد محل الوثنية. ولكنها، برغم هذا البرنامج غير الطموح الذي التزمته، لم تجد في بلاد العرب تربة صالحة للنموّ أكثر من تلك التي وجدتها الحركتان الاوليان. بل لقد أثبتت الايام انها كانت أضعف الحركات الاصلاحية جميعا، ومن يدري فقد يكون مردّ ذلك إلى انها لم تكن تتمتع بأيما سند من سلطان دنيوي. وعلى ضوء هذا كله لا تستطيع العين الناقدة إلا ان تلمح أن يد الله الجبارة هي التي ساعدت، من وراء ستار، الرسول العربي الكريم على احداث ذلك التحول الجذريّ الخيّر في حياة الجزيرة العربية الدينية والاجتماعية والاخلاقية خلال مدة يسيرة لا تكاد تبلغ العشرين عاما- وهو تحوّل يعزّ نظيره في تاريخ العالم. ومن هنا تعيّن على السير وليم ميووير- وهو ناقد لم يكن بالعاطف على الرسول بأية حال- أن يقر بهذا التجديد الأعجوبي لوجه الحياة العربية، في الكلمات التالية: «كانت سمة المحافظة الشديدة هي الغالبة على شبه الجزيرة «العربية إبّان شباب محمد. ولعل الاصلاح لم يكن متعذرا «في أيما فترة من فترات تاريخها أكثر مما كان متعذرا في «تلك الفترة. وتلتمس الاسباب أحيانا لتعليل بعض النتائج «التي أحدثها عامل يبدو غير كاف لأحداثها. وظهر محمد، «وبذلك أوقظ العرب وفتحت أعينهم على ايمان روحي «جديد. ومن هنا الاستنتاج القائل بأن بلاد العرب كانت

«تختمر للتغيّر، ومستعدة لقبوله. أما نحن فيتبدّى لنا، «ونحن نراجع الماضي في أناة، أن تاريخ العرب قبل الاسلام «يكذّب هذا الا دعاء. فبعد خمسة قرون من التبشير بالنصرانية «لا نقع إلا على قلة قليلة من الداخلين في دين المسيح متناثرين «ههنا وههناك. «وبكلمة موجزة، فاننا إذا ما نظرنا إلى سطح بلاد العرب «على هذا النحو من زاوية دينية، وجدنا أنه تموّج بين الفينة «والفينة تموّجا رفيقا بفضل الجهود الواهنة التي بذلتها النصرانية. «أما نفوذ اليهودية الأشد فكان ملحوظا حينا بعد حين في تيار «أعمق وأكثر عكرا. ولكن مدّ الوثنية الأهلية والخرافة «الاسماعيلية، المنطلق من كل مكان في قوة وعنف نحو الكعبة «ينهض دليلا قاطعا على ان الايمان المكّي والعبادة المكية أبقيا «العقل العربي في حال من العبودية القاسية غير المنازعة.» ثم يمضي ميووير فيقول: «إن أوضاع بلاد العرب العامة، قبل ظهور محمد، لم تكن «تؤذن بأمكان القيام باصلاح ديني ناجح، بقدر ما كانت «غير مؤذنة بأمكان الاتحاد السياسي أو الاحياء القومي. فقد «كان أساس الايمان العربي وثنية عميقة الجذور، استطاعت «أن تصمد طوال قرون- من غير ان يبدو عليها أيّ عرض «واضح من اعراض الفساد- في وجه كل محاولة من محاولات «التبشير من مصر وسورية.» وهكذا بعث النبي محمد منذرا لشعب كان مستعصيا على كل إنذار، إذا جاز التعبير، شعب كان قد احبط جميع المحاولات

السابقة التي هدفت إلى خلقه خلقا آخر. ولكن نجاحا مذهلا رافق جهود الرسول لأحياء ذلك العرق نفسه الممتنع على التقويم. أليس في هذا شهادة تاريخية تزكّي الاعتقاد بأنه مهما تكن الأمة متردّية في درك السقوط فأن تعاليم الرسول الكريم، محمد، قادرة على نفخ الحياة فيها؟

الفصل الرابع النبوات المتصلة بظهور الرسول الكريم

الفصل الرّابع النبوات المتصلة بظهور الرسول الكريم «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ «الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ «فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ «وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ «الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ «وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ «الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ، فَالَّذِينَ آمَنُوا «بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي «أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.» (القرآن الكريم، السورة 7، الآية 157) لقد وردت في الكتب المقدسة السالفة نبوآت تتصل بظهور الرسول محمد، عليه الصلاة والسلام، وكانت بعيدة الذيوع بين الأمم. ولعل

هذه النبوآت نفسها هي التي أغرت اليهود والنصارى بالاستقرار في بلاد العرب، ذلك بأن ارض النبي الموعود كانت قد عيّنت في الكتب المقدسة باسمها تعيينا لا يحتمل اللبس. ولسوف نلمع في هذا الفصل إلى بعض من تلك النبوآت ليس غير. يؤكّد القرآن ان ظهور الرسول الكريم قد تنبأ به جميع الانبياء السالفين الذين أخذوا على شعوبهم ميثاقا بأن يؤمنوا به وينصروه. والسّمة المميّزة للرسول الموعود، كما بشّروا، هي انه سوف يجيء مصدّقا لجميع أنبياء العالم. * ويذهب القرآن الكريم أيضا إلى ان الكتب السماوية كلها تشتمل على نبوآت عن مجيء الرسول. ** وهذه التوكيدات القرآنية مؤيدة تأييدا كافيا برواية مماثلة نقع عليها في صفحات «العهد الجديد» (اعمال الرسل 3: 21) . والذي يبدو أن العناية الالهية قد استنسبت أن تبعث رسولا مستقلا لاصلاح كل أمة، في العصور الخالية، عندما كانت الامم المختلفة القاطنة هذا الكوكب في عزلة مطلقة احداها عن الاخرى، وعندما لم تكن وسائل المواصلات الحديثة قد وجدت بعد. ثم إنها لكي تصهر الانظمة الدينية المختلفة في نظام واحد يعتنقها كلها، ولكي تصهر الانسانية في إخوّة كونية، بعثت نبيا يحمل رسالة إلى الجنس البشري كله. وهكذا فيما أبلغ نبأ هذا النبي الكوني كلا من الرسل السابقين من ناحية، أمر الرسول الموعود، من ناحية ثانية، بأن يشهد بصدق رسالات الانبياء السابقين جميعا حيثما بعثوا وفي أيما وقت بعثوا، في ارجاء العالم كله. والرسول الكريم، محمد عليه الصلاة والسلام، هو النبي الذي

_ (*) «وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ، ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ، قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي، قالُوا أَقْرَرْنا، قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ» (السورة 3، الآية 81) (**) «وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ» (السورة 26، الآية 196)

ينطبق عليه هذا الوصف. فقد جعل من أركان الإسلام الاساسية أن يعلن المسلم ايمانه بجميع أنبياء العالم الآخرين بالاضافة إلى ايمانه به هو. ففي مستهل القرآن الكريم بالذات قوله تعالى: «الم، ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ. وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ.» * وفي ما يتصل ببعث مصلح لكل أمة يطلق القرآن الكريم هذا الحكم العام: «إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً، وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ.» ** وفي مناسبة أخرى يقول إنه يشير إلى بعض الانبياء، على حين ان ثمة آخرين لم يتحدث عنهم صراحة. وهكذا يكون الرسول الكريم محمد نسيج وحده من وجهتي النظر هاتين كلتيهما. إن نبوآت جميع الرسل الذين سبقوه تجد مصداقها في شخصه، من ناحية، على حين أنه كان هو وحده بين جميع الانبياء الرسول الذي فرض على أتباعه، في صلب العقيدة الاسلامية، أن يؤمنوا بجميع أنبياء العالم، من ناحية ثانية. وعلى هذا النحو يكون هو آخر عصبة الانبياء النبيلة، كما تنبأ جميع الرسل من قبله. وواضح ان الكتب الدينية القديمة قد أضيفت اليها اضافات كثيرة ليست منها. بيد ان «العهد القديم» و «العهد الجديد» سلما من ذلك، نسيبا، بوصفهما أقلّ إمعانا في القدم. ولقد احتفظ هذان الكتابان المقدسان، على نحو سليم، بعدد من النبوآت عن مجيء الرسول محمد، تلك النبوآت التي يلفت القرآن الكريم النظر اليها أيضا.

_ (*) السورة 2، الآية 1- 4. (**) السورة 35، الآية 24.

لقد تحدّر اليهود والاسماعيليون من جدّ أعلى واحد: - ابراهيم [الخليل] . وعلى الرغم من ان الكتاب المقدس الذي أنزل على ابراهيم لم يصلنا، فأن سفر التكوين من «العهد القديم» يلقي ضوآ كثيرا على وعود الله له في ما يتصل بمستقبل ولديه، اسحق واسماعيل. والقرآن الكريم نفسه يلمع إلى الوعود نفسها حين يقول: «وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ، قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً، قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي، قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ.» * وهكذا وعد ابراهيم بأن تكرّم ذرّيته بهبة النبوّة. ولكنها لا بدّ ان تنتزع منهم إذا ما ظلموا. وصلاة ابراهيم واسماعيل المشتركة في الكعبة تشير إلى المفاد نفسه أيضا: «رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ، إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.» ** وفي «العهد القديم» وعد إلهي بالمعنى ذاته فاز به ابراهيم، حتى قبل مولد اسحق واسماعيل: «فأجعلك امة عظيمة، وأباركك وأعظّم اسمك. وتكون بركة، وأبارك مباركيك ولا عنك ألعنة. وتتبارك فيك جميع قبائل الأرض.» (سفر التكوين 12: 2- 3) . إنّ قليلا من إنعام الفكر ليظهر في وضوح ان هاتين الآيتين تشيران بما لا يحتمل اللبس إلى ذرية اسماعيل، يعني إلى المسلمين. ذلك بأن المسلمين هم وحدهم، بين أقوام العالم كله، الذين يصلّون على ابراهيم خمس مرات كل يوم. والكلمات التالية تؤلف جزآ لا يتجزأ من صلوات المسلم اليومية: «اللهم صل على محمد، وعلى من استنّ بسنّة محمد، كما صليت على ابراهيم، وعلى آل ابراهيم» . وبعد ذلك بشير

_ (*) السورة 2، الآية 124. (**) السورة 2، الآية 129.

سفر التكوين نفسه إلى اسماعيل باسمه فيقول: «وأما اسماعيل فقد سمعت لك فيه. ها أنا أباركه وأثمره واكثّره كثيرا جدا. اثني عشر رئيسا يلد، وأجعله أمة كبيرة.» (سفر التكوين 17: 20) وهنا أعطي الوعد الخاص باسماعيل وذريته بالطريقة نفسها التي أعطي بها الوعد الخاص بابراهيم وذريته. والوعد الالهي في «سفر التكوين» ذو شقين. الأول: «هذا هو عهدي الذي تحفظونه بيني وبينكم وبين نسلك من بعدك. يختن منكم كلّ ذكر. فتختنون في لحم غرلتكم، فيكون علامة عهد بيني وبينكم.» (سفر التكوين 17: 10- 11) وهذا الختان كان، طوال مدة من الزمن، شائعا بين اليهود والاسماعيليين في آن معا. ولكن هذا الميثاق الالهي لا يوفى به اليوم إلا بين الاربعمئة مليون مسلم*، أبناء الرسول الكريم محمد الروحيين، على اعتبار ان عدد اليهود الذي لمّا تمت عندهم هذه العادة بعد لا يكاد يذكر، نسيبا. وهكذا يمسي واضحا ان المسلمين هم الآن ورثة الميثاق الالهي مع ابراهيم، إذ فيهم نقع على علامة الختان المنظورة. أما الجزء الثاني من الميثاق فيجري على هذا النحو: «وأقيم عهدي بيني وبينك وبين نسلك من بعدك في أجيالهم عهدا أبديا. لأكون الها لك ولنسلك من بعدك. وأعطي لك ولنسلك من بعدك ارض غربتك كل ارض كنعان ملكا أبديا. واكون الههم. (سفر التكوين 17: 7- 8) . وهذه علامة أخرى منظورة ترينا من هم الآن الورثة الحقيقيون

_ (*) هذا تقدير قديم لعدد المسلمين في العالم. وأرجح الآراء اليوم ان عدد المسلمين يبلغ ضعف هذا الرقم أو يزيد. (المعرب)

للوعد الالهي لابراهيم. ومن الحقائق التاريخية الثابتة انه ما إن جاء الرسول محمد حتى انتزعت أرض الميعاد من أتباع الانبياء الاسرائيليين ونقلت ملكيتها إلى المسلمين الذين بسطوا سلطانهم عليها طوال القرون الثلاثة عشرة الماضية. وإنما كان الغرض الأساسي من الحروب الصليبية هو انتزاع ارض الميعاد هذه من أيدي المسلمين. ولا ريب في انها ضاعت من أيدي المسلمين مؤقتا ولكنها سرعان ما أعيدت اليه بعد فترة يسيرة، وفاء بالوعد نفسه الذي وعد الله ابراهيم. ولو قد قدّر* لها بعد ان تضيع من أيدي المسلمين فلن يستمرّ ذلك غير برهة قصيرة. إن السيطرة السرمدية عليها سوف تكون دائما للمسلمين. وباختصار، فكلا مظهري هذا الميثاق الالهي مع ابراهيم، اعني الختان وملكية أرض الميعاد، ينهض دليلا قاطعا على الحقيقة القائلة بأن محمدا عليه السلام هو من غير ريب النبيّ الموعود. أما النبوءة الثانية المعلنة مجيء الرسول الكريم محمد فقد وردت على لسان موسى: «أقيم لهم نبيا من وسط إخوتهم مثلك وأجعل كلامي في فمه، فيكلمهم بكل ما أوصيه به.» (سفر تثنية الاشتراع 18: 18) . وهذا واضح وضوح الشمس في رابعة النهار. إن أيا من الانبياء الاسرائيليين الذي جاؤا بعد موسى في تعاقب متطاول، حتى ظهور يسوع، لم يدّع أنه النبيّ الموعود به في هذه النبوءة. ولأسباب جليّة لم يكن في ميسور خلفاء موسى، الذين جاؤا لتنفيذ شريعته ليس غير، ان يكونوا مثله. وكان أمر النبوءة معروفا لدى الخاصة والعامة من اليهود، الذين انتظروا، جيلا بعد جيل، ظهور نبيّ مثل موسى.

_ (*) مما يؤسف له ان هذا الاحتمال قد حدث يوم قيام «اسرائيل» على أرض فلسطين العربية في 15 نوار عام 1948. ولسنا نشك- مع المؤلف- في أن وعي الاجيال العربية الطالعة سوف يجعل أيام هذه الدولة الباغية معدودة، كما كانت أيام الممالك الصليبية في فلسطين معدودة ... (المعرب)

يؤيد هذا تأييدا كافيا ذلك الحديث الذي دار بين يوحنا المعمدان واولئك الذين وفدوا عليه ليسألوه: «من أنت؟ فاعترف ولم ينكر واقرّ اني لست أنا المسيح. فسألوه اذن ماذا؟ ايليا أنت؟ فقال لست انا. ذلك النبي أنت؟ فأجاب لا.» (سفر يوحنا 1: 19- 21) . وهذا يظهر على نحو يقينيّ ان اليهود كانوا يترقبون ظهور ثلاثة أنبياء مختلفين. اولهم ايليا الذي اعتقدوا انه سوف يظهر بشخصه كرة أخرى على هذه الأرض، وثانيهم المسيح، وثالثهم نبيّ ذو شهرة كليّة إلى درجة رأوا معها ان من غير الضروري نعته بأيّ وصف مميّز- كان قولهم «ذلك النبي» كافيا للدلالة على من يعنون. ذلك كان مدى الشيوع والانتشار اللذين حظيت بهما بين اليهود نبوءة موسى في ما يتصل بظهور نبيّ مثله. ومن هنا يتضح ان اليهود كانوا، قبيل ظهور يسوع مباشرة، يرتقبون ثلاثة أنبياء، وفقا لما تنبأ به كتابهم المقدس: - المسيح، وايليا للمرة الثانية، والنبي الذي هو مثل موسى. ولقد تحقّقت اثنتان من هذه النبوآت في شخصي يسوع ويوحنا، وقد أعلن الأول انه المسيح، وأعلن الثاني انه بعث في روح ايليا. ولكن أيا منهما لم يدّع أنه النبي الموعود، المماثل لموسى. لا، ولم يعتبرهما أحد من الذين آمنوا بهما ذلك النبيّ الموعود. وبظهور يسوع انقطعت سلسلة النبوّة بين اليهود. وهكذا ظلت نبوءة «سفر تثنية الاشتراع» حول نبيّ مثل موسى غير محقّقة بقدر ما يتعلق الأمر بالاسرائيلين. فأذا قلبّنا صفحات تاريخ العالم لم نجد أيما نبيّ غير محمد عليه السلام أعلن انه النبي الذي تنبأ موسى بظهوره، ولم نجد أيما كتاب مقدس غير القرآن الكريم أشار إلى تحقّق النبوءة في شخص امرئ ما. والوقائع أيضا تؤيد هذا الاستنتاج نفسه. فقد كان موسى صاحب شريعة، وكذلك كان محمد صلوات الله وسلامه عليهما. وليس بين الانبياء الاسرائيلين الذين خلفوا موسى أيما نبي جاء قومه بشريعة

جديدة. ومن هنا كان الرسول الكريم محمد، بوصفه النبي الوحيد الذي أعطى الناس شريعة، هو وحده النبي الذي هو مثل موسى. قال تعالى في القرآن الكريم: «إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا.» * إن كلمات النبوءة، «من وسط اخوتهم» لتلقي ضوآ اضافيا على هذه الحقيقة، وهي ان النبي الموعود كان مقدّرا له أن يطلع لا من بين الاسرائيليين أنفسهم، ولكن من بين إخوتهم، الاسماعيلين. وهكذا فأن نبوءة «تثنية الاشتراع» تشير بما لا يحتمل اللبس إلى الرسول محمد الذي وجدت فيه، في الواقع، مصداقها. وثمة نبوءة ثالثة نقع عليها، في تعابير لا تقلّ وضوحا وجلاء، في السفر نفسه، سفر «تثنية الاشتراع» . وهذه النبوءة تقول: «جاء الرب من سيناء، وأشرق لهم من سعير، وتلألأ من جبل فاران، واتى من ربوات القدس (مع عشرة آلاف من القديسين) ** وعن يمينه نار شريعة لهم.» (تثنية الاشتراع 33: 1) و «المجيء من سيناء» يشير إلى ظهور موسى، و «الاتيان من ربوات القدس» يشير إلى ظهور يسوع، لأن هذين النبيين تلقيّا النداء الالهي في هذين الموضعين. أما «فاران» فمن المسلّم به انه الاسم القديم لأرض الحجاز حيث ظهر محمد، عليه السلام، من بين حفدة اسماعيل. والكلمات «مع عشرة آلاف من القديسين» تفصح على نحو أكثر يقينيّة عن هويّة الشخص الذي تشير اليه. فالرسول الكريم محمد هو من بين جميع الابطال العالميين الشخصية التاريخية الوحيدة التي تسامع الخاص والعام بنبأ دخولها الظافر إلى مكة على رأس عشرة آلاف

_ (*) السورة 73، الآية 15. (**) لم نقع على جملة «مع عشرة آلاف من القديسين» التي يوردها المؤلف في هذه الآية. (المعرب)

من المريدين البررة. والشريعة التي قدّمها إلى العالم تعرف حتى يوم الناس هذا ب «الغرّاء» ، أو المشرقة، لأنها تلقي فيضا من الضياء على مختلف ضروب المسائل المتصلة بمصالح الانسان الدينية والاخلاقية والاجتماعية. وإلى ذلك تلمع كلمات الآية: «وعن يمينه نار شريعة لهم.» ليس هذا فحسب، بل ان ثمة نبوءة رابعة تنصّ صراحة على ان أرض النبي الموعود هي بلاد العرب: «وحي من جهة بلاد العرب. في الوعر من بلاد العرب تبيتين يا قوافل الددانيين. هاتوا ماء لملاقاة العطشان يا سكان ارض تيماء. وافوا الهارب بخبزه. فانهم من أمام السيوف قد هربوا. من أمام السيف المسلول ومن أمام القوس المشدودة ومن أمام شدة الحرب.» (اشعيا 21: 13- 15) إن لفظة «بلاد العرب» ، قبل كل شيء، هي في ذات نفسها ذات مغزى كاف. ثم إن الاشارة إلى «من هاجر» تلقي ضوآ اضافيا على من المقصود بالنبوءة. فتاريخ العالم لم يدوّن غير هجرة واحدة قدّر لها ان تكتسب أهمية الحدث الحاسم- هي هجرة الرسول محمد من مكة [إلى المدينة] . ومن ذلك اليوم بالذات يبدأ التقويم الاسلامي، ذلك بأنه كان في الواقع مستهلّ فصل جديد في تاريخ الاسلام، أو على الاصح في حضارة العالم كله. بيد أن في الكلمات التالية «من أمام السيوف قد هربوا» لشهادة أبلغ. فالتاريخ يثبت أن محمدا الرسول الكريم هاجر من مكة بينا كان بيته محاطا بأعدائه المتعطّشين للدماء، الشاهرين سيوفهم فعلا، المستعدين اتمّ استعداد للانقضاض عليه مجتميعن حالما يغادر بيته ذاك. وعبثا تقلّب صفحات التاريخ التماسا لهجرة أخرى تمخّضت عن نتائج في مثل هذه الخطورة وبعد الأثر، أو التماسا لنبي آخر هاجر ابقاء على حياته بعد أن سلّت في وجهه السيوف. وهاتان الواقعتان التاريخيتان اللتان لا يأتيهما الريب من بين

يديهما ولا من خلفهما، مردفتين بنصّ صريح على بلاد العرب بوصفها مسقطا لرأس النبي الموعود، تشكلان دليلا لا نزاع فيه على أن النبوءة تشير إلى الرسول محمد. وهناك نبوآت كثيرة أخرى مماثلة أطلقها الانبياء اليهود، من مثل داود، وسليمان، وحبقوق، وحقاي وغيرهم. ولكننا سنجتزئ، رغبة في الاختصار، بأن نشير إلى واحدة منها، هي تلك التي أطلقها آخر الانبياء الاسرائيليين، أعني يسوع، والتي تقول: «إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي. وانا أطلب من الآب فيعطيكم معزّيا آخر ليمكث معكم إلى الأبد. روح الحق الذي لا يستطيع العالم ان يقبله لأنه لا يراه ولا يعرفه.» (سفر يوحنا 14: 15- 17) وتقول: «وأما المعزّي، الروح القدس، الذي سيرسله الاب باسمي فهو يعلمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم.» (سفر يوحنا 14: 26) وتقول: «لكني أقول لكم الحق إنه خير لكم ان انطلق، لأنه ان لم أنطلق لا يأتيكم المعزّي. ولكن ان ذهبت ارسله اليكم.» (سفر يوحنا 16: 7) وتقول فوق ذلك: «إن لي أمورا كثيرة أيضا لأقول لكم، ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن. وأما متى جاء ذاك، روح الحق، فهو يرشدكم إلى جميع الحق.» (سفر يوحنا 16: 12- 13) هذه الكلمات النبوئية كلها تعلن بتعابير صريحة عن مجيء نبيّ آخر بعد يسوع. ومع ذلك فقد ارهق اللاهوتيون النصارى أنفسهم، وما يزالون، ابتغاء العدول بها عن قصدها بحيث تنطبق على الروح القدس.

والواقع ان صيغة النبوءة لا تجيز هذا الاستنتاج. فقوله «إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزّي» كلام هو من الوضوح بحيث يستغني عن كل تعليق. و «العهد الجديد» يذكر ان يوحنا كان مفعما بالروح القدس حتى قبل ان يرى النور. ثم يتكلم عن يسوع نفسه فيقول إنه تلقّى الروح القدس على شكل حمامة. وهكذا فقد كان من دأب الروح القدس أن يلمّ بالناس قبل يسوع كما ألمّ بهم في أيامه. واذن فالى من تشير هذه الكلمات: «ان لم انطلق لا يأتيكم المعزّي» ؟ لا ريب في انّها لا تشير إلى الروح القدس، لأن من التجديف، أو يكاد، أن نفكر ان يسوع لم يكن مزوّدا بروح قدس. فالاجلال الحقيقي ليسوع يقتضينا ان نؤمن بأن حوارييه أنفسهم، الذين طهّرت نفوسهم بيد معلمهم العظيم، كانوا من النقاء بحيث يستحقون أن يكونوا مفعمين بالروح القدس. والقرآن الكريم، على الأقل، ينسب إلى أصحاب الرسول محمد مثل هذا النقاء في تعابير واضحة، حيث يقول: «لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ، أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ، وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ، أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ، أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.» * لا ريب في ان كلمتي «الروح القدس» اللتين وردتا في النبوءة أيضا، إنما أريد بهما ان تشيرا إلى ان النبي الموعود سوف يكون متّحدا بالروح القدس اتحادا غير منفصم بحيث يجعل مجيئه، مجازيا طبعا، كمجيء الروح القدس نفسه. وفي النبوءة كلمات أخرى لا تنطبق إلا

_ (*) السورة 58، الآية 22.

على النبي محمد. فالسمات المميّزة التي تبيّنها النبوءة مجتمعة فيه برمّتها. وقول النبوءة «ليمكث معكم إلى الأبد» يدلّ على انه لن يكون بعد النبي الموعود أيما نبي جديد. وهذا هو عين ما يقوله القرآن الكريم عن الرسول محمد: «ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ، وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً.» *. وتقول النبوءة: «فهو يعلّمكم كل شيء» . وهذا أيضا عين ما يقوله القرآن الكريم عن رسالة النبي محمد: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً.» ** ثم إن النبي الموعود يدعى في النبوءة «روح الحق» ، وهو أمر يزكّيه القرآن الكريم أيضا بهذه الكلمات: «وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ، إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً.» *** وهكذا فأن دعوات ابراهيم واسماعيل، ونبوآت موسى وعيسى وغيرهما، حقّقت في شخص الرسول الكريم محمد عليه السلام إلى أبد الآبدين.

_ (*) السورة 33، الآية 40. (**) السورة 5، الآية 3. (***) السورة 17، الآية 81.

الفصل الخامس نسب الرسول ومولده

الفصل الخامس نسب الرسول ومولده «الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ، وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ.» (القرآن الكريم، السورة 26، الآية 218- 219) كان اسماعيل أكبر أولاد ابراهيم. وكان له اثنا عشر ولدا، كما يؤكد «العهد القديم» ، منهم قيدار الذي انتشرت ذريته في أرض الحجاز العربية. وليس من ريب، استنادا إلى «العهد القديم» أيضا، ان العرب هم أبناء قيدار. وإلى هذا فأن العرب جميعا يسلّمون بأن عدنان، الذي يرجع اليه نسب الرسول الكريم محمد على نحو لا يأتيه الريب من بين يديه ولا من خلفه، كان أيضا من أولاد اسماعيل في الجيل الاربعين من سلالته. ولم يكن ثمة في أيما يوم من الايام خلاف على تحدّر النبي محمد من عدنان مباشرة. وفي الجيل التاسع من سلالة عدنان يبرز النّضر بن كنانة، مؤسس البيت القرشي. وبعد اسم آخر في شجرة النسب يجيء في المقام التاسع قصيّ الذي أسندت اليه سدانة

الكعبة- وهي من أعظم المناصب شرفا في بلاد العرب. وكان قصيّ جدّ عبد المطّب، جدّ الرسول الكريم. ومن هنا نرى ان اسرة النبي تحتلّ، من حيث نبالة المحتد، المقام الأعلى. وكانت أمّ عبد المطّلب من بني النجّار، فهم أخوال النبي. وأنجب عبد المطّلب عشرة أولاد، أبرزهم ابو لهب الذي كان زعيم المعارضة الأكبر ضد الرسول، وابو طالب الذي كفله ونشّأه، وحمزة الذي كان من أول الناس اسلاما والذي استشهد في وقعة أحد، والعباس الذي كان شديد الحب للرسول برغم بقائه فترة طويلة خارج الحظيرة الاسلامية، وعبد الله والد الرسول. وكان عبد الله زوجا لآمنة بنت وهب ابن عبد مناف من بني زهرة. والواقع أن الزوجين احتلا في قومهما مقاما عليّا لا بسبب من كرم محتدهما فحسب، بل بسبب شيء آخر كان أرجح في ميزان القيمة في عصر الظلمة والفساد ذلك: لقد كانت لكل منهما نفس طاهرة. وبعد أيام قليلة انقضت على الزفاف السعيد، خرج عبد الله في رحلة تجارية إلى الشام. فبينا هو عائد من رحلته تلك مرض بالمدينة وتوفي فيها. وهكذا ولد الرسول الكريم يتيم الأب، ثم ماتت أمه وهو لا يزال في السادسة من العمر. وبذلك حرم حدب الأبوين وعنايتهما، ومع هذا فأنه لم ينشأ على أسمى الفضائل الخلقية فحسب، بل كان أعظم معلّم للاخلاق أيضا. ولم تشأ الاقدار له أن يفيد من المنافع التي تعود بها الثقافة الكتبية على أصحابها، ومع هذا فقد ترك للعالم تراثا غنيا من الحكمة البالغة لا يزال حتى يوم الناس هذا ينتزع الاحترام والاعجاب الكليّيّن. ويوم الاثنين، الثاني عشر من ربيع الاول، هو عند جمهور العلماء يوم ميلاد الرسول الكريم. وقد انتهى تحقيق علميّ آخر إلى جعله في اليوم التاسع من الشهر نفسه، وهو يوافق اليوم العشرين من

نيسان (ابريل) عام 571 من التقويم المسيحي. وقبل مولد الرسول، تلقّت أمه النبأ السعيد في رؤيا. ويرشح من بعض أحاديث الرسول ان جدّه سماه محمدا، وان أمه سمّته أحمد، وقد فعل كل منهما ذلك تبعا لرؤيا رآها. ولقد تحدث القرآن الكريم عنه بالاسمين جميعا* ويروي أحد الثقات ان الرسول نفسه قال: «أنا محمد وأحمد في آن معا.» وهو يخاطب في المنظومات الشعرية بكلا الاسمين أيضا. وليس يتسع مجال هذا الفصل للاسهاب في الكلام على الحادثات الاستثنائية التي رافقت مولد الرسول. من أجل ذلك سنكتفي بالاشارة إلى واحدة منها ليس غير، تنطوي في ذات نفسها على دلالة عظيمة. ففي نفس العام الذي ولد فيه الرسول شيد زعيم اليمن النصراني كنيسة فخمة في عاصمته، صنعاء، رجاة أن يحوّلها الى ملاذ عامّ لشعبه، زمنيّ وروحيّ، بدلا عن الكعبة التي كان قد عقد العزم على هدمها. ولقد كان ذلك، في الواقع، صراع حياة أو موت بين التثليث والتوحيد.

_ (*) «وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ، فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ.» (السورة 61، الآية 6) و «وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ، أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ، وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً، وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ.» (السورة 3، الآية 143) . و «ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ، وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً.» (السورة 33، الآية 40) . و «مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ، تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً، سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ، ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ، وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً.» (السورة 48، الآية 29)

وهكذا سار ذلك الزعيم، أبرهة [الأشرم] على رأس جيش عظيم قاصدا مكة لكي يدكّها دكا. وعسكر على مبعدة ثلاث مراحل من مكة، وبعث إلى المكيين رسولا يبلغهم الغرض الذي من أجله جاء. وفي غضون ذلك احتجز رجال ابرهة [مئة] بعير لعبد المطلب. فلم يكن من عبد المطلب إلا أن وفد بنفسه على الزعيم ليسأله ردّ إبله. وتأثر ابرهة تأثرا عظيما بمظهرة المهيب، فسأله ما الذي دعاه إلى الوفود عليه، معتقدا من غير ريب أنه أقبل ليلتمس منه الإبقاء على البيت المقدّس. فأجابه عبد المطلب انه إنما أقبل ليسأله ردّ إبله. فعجب أبرهة لهذا الجواب غير المتوقّع وأبدى استغرابه لقلق عبد المطلب البالغ على إبله وعدم قلقه على الكعبة [قائلا لترجمانه: «قل له لقد كنت اعجبتني حين رأيتك ثم زهدت فيك حين كلّمتني] أتكلّمني في مئة بعير أصبتها لك وتترك بيتا [هو دينك ودين آبائك] قد جئت لأهدمه لا تكلمني فيه؟» ، فقال له عبد المطلب: «اني أنا ربّ الابل، وإن للبيت الحرام ربا سيمنعه.» وإذ وجد القرشيون انفسهم أضعف من أن يقاوموا ابرهة أخلوا مكة ونصبوا خيامهم في الكثبان المجاورة. وفيما هم يغادرون مكة أخذ عبد المطلب بستار من أستار الكعبة، وراح يستنصر الله قائلا: «اللهم هذا بيتك. اننا نشعر اننا أضعف من أن نحميه، فتولّ أنت حمايته بنفسك.» ويقول المؤرخون ان الجدري تفشّى، في غضون ذلك، بجيش ابرهة تفشيا ليس أقوى منه ولا أعنف، محدثا في صفوفه ذعرا رهيبا، مهلكا القسم الاعظم من رجاله. أما سائره فلاذ بالفرار في اختلاط كامل وفوضى مطلقة. واليك وصف القرآن الكريم لهلاك جيش ابرهة: «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ. أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ. وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ تَرْمِيهِمْ

بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ، فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ.» * وهذا يظهر ان الجيش ولى الأدبار في ارتباك شديد إلى درجة جعلته لا يتريث لحظة حتى يدفن جثث القتلى، فأمست طعاما للنسور وغيرها من جوارح الطير. وقد وقعت هذه الحادثة الاعجوبية في آن واحد مع مولد الرسول الكريم. وتقول بعض الروايات ان هزيمة أبرهة تمّت يوم مولد محمد بالذات.

_ (*) السورة 105.

الفصل السادس قبل البعث

الفصل السادس قبل البعث «قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ «وَلا أَدْراكُمْ بِهِ، فَقَدْ لَبِثْتُ «فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ، أَفَلا «تَعْقِلُونَ.» (القرآن الكريم، السورة 10، الآية 16) كان من عادة أشراف العرب ان لا ترضع الأمهات أطفالهنّ. لقد كنّ، بدلا من ذلك، يدفعنهم إلى المراضع من أهل البادية. ولدن مولد محمد الطفل أرضعته أمه يومين، ثم أرضعته يومين أو ثلاثة أيام ثويبة جارية [عمه] ابي لهب. وبعد ذلك دفع إلى حليمة، وهي مرضعة من بني سعد. وبعد سنتين اثنتين أعادت حليمة الطفل إلى أمه، آمنة، التي عادت فأرسلته مع المرضع إلى البادية بعد أن تفشّى في مكة وباء من الاوبئة. وهناك لبث في عهدة حليمة حتى بلغ ربيعه السادس، وعندئذ أعيد إلى أمه. وفي هذه الفترة رغبت آمنة

في زيارة قبر زوجها، فخرجت إلى المدينة حيث دفن، مصطحبة الطفل معها. ولكن اليتيم حرم، في بعض الطريق، من أمه أيضا، إذ توفيت في مكان يدعى الأبواء* فدفنت هناك. وهكذا وجد النبي نفسه، وهو بعد طفل طري العود في السادسة، محروما من أبيه وأمه. إن قدره لم يشأ له أن ينشأ في رعاية أبيه العطوف، وحرمه حتى حنان أمه الرؤوم، ولم يتح له فرصة إظهار حبه البنويّ لأبويه. ومع ذلك فقد خصّ أمه بالرضاع، وأخواته [واخوته] بالرضاع، حين استوى شابا، بالمعاملة الحنون نفسها، فكأنهم كانوا من ذوي قرباه حقا. ولقد زارته حليمة، ذات يوم، بعد أن تلقّى النداء الالهي. فلم تكد تدخل على الرسول حتى نهض للترحيب بها- وهي أمارة على الاحترام العميق- ومدّ لها رداءه لكي تجلس عليه. ولقد أظهر احتراما خاصا، أيضا، لاخواته وأخوته بالرضاع، بل لبني سعد جميعا، لأن حليمة منهم. وعند وفاة أمه، كفله جدّه عبد المطّلب. ولكن ما ان انقضت سنتان حتى حرمته يدا الموت هذه الرعاية أيضا. وهكذا كفله، وهو في الثامنة من العمر، عمه ابو طالب. والواقع ان الرسول تمتّع، منذ طفولته نفسها، بفضائل أكسبته محبة ابي طالب العميقة. كان كل من يجتمع اليه، حتى في تلك السنّ المبكرة، يعجب بخصاله وعاداته. وكان ابو طالب يبقيه إلى جانبه دائما، ويصحبه حيثما ذهب، بل كان يضجعه ليلا في فراشه هو. حتى إذا بلغ الرسول الثانية عشرة اعتزم ابو طالب ان يخرج في تجارة له إلى الشام. وكان محمد شديد التعلق بعمه، فلم يطق مجرد التفكير بمثل هذا الفراق الطويل. وهكذا أجاز له ابو طالب أن يرافقه في تلك الرحلة الطويلة. وإنما تروي [كتب

_ (*) قرية بين المدينة والجحفة، بينها وبين المدينة ثلاثة وعشرون ميلا- راجع «حياة محمد» للدكتور محمد حسين هيكل، ص 111. (المعرب)

السيرة] انه التقى في هذه الرحلة راهبا مسيحيا يدعى بحيرى. فلم يكد هذا الراهب يرى إلى الغلام، كما تقول القصة، حتى استطاع أن يتبيّن في وجهه مخايل عظمته المقبلة، وهكذا أوصى أبا طالب بأن يبالغ في رعايته، لأنه سوف يتلقّى، ذات يوم، النداء الالهي. وفي العشرين من عمره، شارك الرسول في المعركة التي دارت بين قريش- وهي حرب الفجار، وقد دعيت بهذا الاسم لأنها نشبت خلال الاشهر الحرم التي يحظّر فيها القتال. بيد أنه لم يلطّخ يديه بدم أيما امرئ من اخوانه في الانسانية، فلم يزهق بيده هو روحا واحدة البتة. وبعد ذلك شارك في الحلف المعروف ب «حلف الفضول» ، الذي عقد لتوكيد حقوق الضعفاء والمظلومين وحمايتهم من الطغيان. فقد أخذ كل عضو من أعضاء الحلف على نفسه عهدا ليكوننّ مع المظلوم وليردّنّ عنه ضروب الاضطهاد على اختلافها. وإنما يرجع فضل المبادرة في وضع هذه المنظمة الانسانية إلى الرسول وإلى اسرته بني هاشم. وهكذا فأن نزوعه المبكّر إلى اسداء العون إلى المكروبين ليظهر أن الحنان الانساني كان مغروسا في فطرته نفسها. وفي هذه السنّ الغضة كانت استقامة الرسول قد اكتسبت شهرة بعيدة في مكة. كان يعرف عند الناس كلهم ب «الأمين» . وهذا اللقب لا يفيد معنى الأمانة في شؤون المال فحسب، بل إنّه كلّي الشمول يدل على الاستقامة في أشكالها جميعا. كان كل من اتفق له أن عامله في هذه الفترة لا يفتأ يثني عليه طوال حياته. وحوالى هذه الفترة أيضا نشأت الحاجة إلى اعادة بناء البيت الحرام، الكعبة. حتى إذا أعدّت جميع المواد الضرورية لذلك، نهضت قريش مجتمعة بعبء هذه المهمّة. وفي أثناء البناء نشب نزاع خطير بين بيوتات قريش: أيهم يكون له فخار وضع الحجر الأسود في مكانه. ولقد كان جائزا أن يفضي ذلك

إلى اندلاع نار الخصومة القبليّة، ومن ثم إلى هلاك عدد من الأسر، لولا أن نهض آخر الأمر رجل أشيب الرأس [ابو امية بن المغيرة المخزومي] فنصح للقوم بأن يحيلوا القضية إلى حكم، واقترح عليهم أن يجعلوا هذا الحكم أول رجل يدخل الكعبة في اليوم التالي [من باب الصفا] . ولقي الاقتراح قبولا إجماعيا. وكان القوم كلهم يرتقبون بزوغ الصباح التالي عندما دخل الكعبة محمد نفسه. فأثار ذلك ارتياحا في نفوسهم جميعا، وهتفوا بصوت واحد «هوذا الأمين! هوذا الأمين [وقد رضينا بحكمه] » . والحق ان ثقتهم العامة به سرعان ما وجدت مبرّرها الكامل. فقد قال محمد: هلمّ إليّ ثوبا، [فأتي به] فنشره وأخذ الحجر الأسود فوضعه فيه بيديه الاثنتين. ثم إنه دعا مقدّمي البيوتات كلها إلى الأخذ بأطراف الثوب الأربعة، وبذلك حظي كل منهم بنصيب من شرف وضع الحجر في موضعه. وهكذا حال محمد، وهو في التاسعة والثلاثين من عمره، دون تطور النزاع إلى حرب مهلكة. وكانت أرملة محترمة- هي خديجة [بنت خويلد] ، وقد عرفت في الجاهلية ب «الطاهرة» - قد سمعت بأمانة محمد، فكلّفته الانفراد في الاشراف على تجارتها. وعاد عليها نشاطه التجاري الأمين بربح وفير. وقد كشف هذا النشاط عن سمات من أخلاقه العالية فكان ذلك هو الذي حدا بها إلى ان تعرض عليه الزواج. وهكذا تزوّج، وهو في الخامسة والعشرين*، من أرملة تكبره بخمس عشرة سنة. ومن خديجة رزق النبي اربع بنات، وابنين اثنين. وكان أكبر أولاده جميعا القاسم، ومن أجل ذلك كنّي الرسول ب «أبي القاسم» ، ولكنه توفي طفلا في الثانية من العمر. وكانت بنته الكبرى هي زينب، التي تزوجت بعد من أبي العاص [بن الربيع بن عبد شمس] . تليها

_ (*) في الأصل، «في الخامسة والثلاثين» وهو خطأ ظاهر. (المعرب)

رقيّة، وقد تزوجت من عثمان [بن عفان] ، وتوفيت يوم انتصار المسلمين في معركة بدر. وكانت ابنته الثالثة هي امّ كلثوم التي زوّجت أيضا من عثمان بعد وفاة اختها رقيّة. أما صغرى بناته جميعا فكانت فاطمة، وقد أنجبت تلك الذرية التي عرف كل فرد من أفرادها بلقب «السيّد» . لقد زوّجت من عليّ. وكان أصغر أولاد خديجة غلاما توفي وهو بعد طفل. والواقع أن الرسول احتسب وهو على قيد الحياة جميع أولاده من خديجة ما عدا فاطمة التي لم تعش بعده إلا ستّة اشهر. ولم يرزق الرسول غير ولد واحد- ابراهيم- من زوجة أخرى، وقد توفي هذا الولد أيضا وهو طفل. وكان الرسول شديد الحب الخديجة، وكثيرا ما كان يتذكرها بتعابير تفيض حنانا، حتى بعد وفاتها. وذات يوم أطرى سجاياها، فطرحت عليه عائشة سؤالا محرجا جدا: ألم يعوّضه الله، في شخصها، زوجا خيرا من خديجة؟ فأجابها الرسول: «لا، لقد آمنت بي حين تخلّى عني الناس جميعا.» لقد وهب خديجة قلبه كله ونفسه كلّها بسبب من فضائلها الخلقية. وكان ينفق من مالها، بحرّية، في سبيل الله. ولم تعترض هي قط على إنفاقه ثروتها في أغراض الخير. ولقد اشترت من مالها الخاص عبدا للرسول، ولكنها سرّت عند ما أعتقه. وكان زيد، صاحب الرسول المشهور، عبدا رقيقا ذات يوم أيضا، وهكذا نعم بحريته بفضل كرم خديجة. وحين هبط عليه الوحي ناء الرسول تحت عبء المسؤولية الثقيلة، وتهيّب النهوض بالمهمة التي كلّف أداءها. في تلك اللحظة بالذات طيّبت نفسه المكروبة بهذه الكلمات المشجعة: « [أبشر يا ابن عمّ واثبت، فو الذي نفس خديجة بيده إني لأرجو ان تكون نبيّ هذه الأمة] ، وو الله لا يخزيك الله أبدا. إنك لتصل الرّحم، [وتصدق الحديث] ، وتحمل الكلّ، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.» وهذا يظهر إلى أي مدى تأثرت خديجة

باثرا عميقا بأخلاق الرسول وعطفه الانسانيّ. وهذا كان، في الحق، هو مبعث الحب العميق بين الزوج وزوجه. كان كل منهما مفعما بحسّ العطف الانساني. وليس في استطاعة امرئ ان يكون أكثر اطّلاعا على عادات رجل ما من زوجته، التي تكون في مركز يمكّنها من النفاذ. في حرية، إلى أعمق أعماق قلبه. واذن، فكون خديجة قد آمنت هذا الايمان الثابت الذي لا يتزعزع ينهض دليلا لا يحتمل الجدل على كمال خلقه. واشدّ النقاد عداوة لا يجرؤ، أمام هذا الدليل، على الارتياب في صدق الرسول واخلاصه. ذلك بأن الدجال أعجز من ان يوفق إلى انتزاع كامل الولاء والاحترام القلبيين من مخلوقة مطّلعة على أسراره هذا الاطّلاع كله. إن لشهادة خديجة على سموّ خلق الرسول أعظم الوزن من غير ريب. ولكن الآخرين الذين اتصلوا به لم يكونوا أقلّ تعلّقا به. فلم يكد والد زيد، رقيق الرسول المعتق، يسمع بفوز ابنه بحريته، حتى وفد على مكة ليعود به. ولم يكن في ميسور الرسول، وهو الرقيق القلب، أن يحول دون اجتماع شمل الوالد وولده. كان بالغ السعادة بأن يرى الابن يعاد إلى كنف أبيه المحبّ. ومع ذلك، فأنه لم يستطع ان ينفصل عن زيد برغم هذا الأخير. وهكذا ترك لزيد، حين سأله والده أن يقول له كلمة الوداع، حرية اتخاذ القرار الذي يشاء. وهل يطمع والد في أكثر من ذلك؟ والواقع انه لم يخطر بباله قط أن يغلب حبّ ابنه للرسول حبّه البنويّ له. كان زيد قد أمسى- على الرغم من تحرره من عبوديته المادية تحررا كاملا- مفتونا بشخصية الرسول الفاتنة. ومن هنا آثر- ويا لخيبة أمل الوالد! - أن يبقى في كنف الرسول. وكذلك فأن تعلّق ابي بكر بالرسول على نحو راسخ حقيقة يعرفها الخاص والعام. ولم يكن ابو طالب أقلّ اعجابا بنبل خلق الرسول. فعلى الرغم من تمسّكه بدين آبائه وأجداده، فقد

نصر الرسول في السراء والضراء، ودافع عنه، معرّضا شخصه لخطر عظيم، حين استبدّ الغيظ ببيوتات قريش مجتمعة. إلى ذلك الحد كان الانطباع الذي تركه سحر اخلاق محمد في نفسه عميقا. لقد اعتبر أن من الخسّة التي ما بعدها خسّة ان يتخلى عن رجل يتمتع بمثل هذا الخلق السامي. فهو يؤثر أن يتعرّض من أجله لمختلف ضروب المخاطر، مواجها أحوالا قاسية. وحين سألته قريش ان يتخلى عن محمد عنّفهم وردهم ردا جميلا. وبكلمة، لقد انتزع محمد اعجاب كل من قدّر له ان يتصل به. وأهمّ من ذلك وأحفل بالمغزى ان جميع الذين اتصلوا به كانوا رجالا ذوي صفات خلقية ممتازة إلى أبعد الحدود. وإلى جانب أصحابه المخلصين، المشهورين في تاريخ الاسلام بسموّ اخلاقهم، كان ثمة بين أصدقائه الاولين آخرون لا يقلّون عن هؤلاء نبل نفس وخلق، من مثل حكيم بن حزام، وهو زعيم قرشي محترم لم ينضو تحت لواء الاسلام إلا بعد سقوط مكة، وزيد بن ثعلبة. وكانا صديقين حميمين، ورجلين ذوي خلق متين. وهذا يحمل على الاعتقاد- كشأن اللمسة الذهبية في القصة المعروفة- أن كلّ من قدّر له أن يحتك بشخصية الرسول المغنطيسية، حتى في هذه المرحلة المبكّرة من حياته، كان يكهرب بسموّ أخلاقه ونبلها. ومن أنفس الجواهر في شخصية الرسول عطفه العظيم على الفقراء، والمساكين، والأيتام، والأرامل. فكان يبذل قصاراه لتزويدهم بما يحتاجون اليه. وقد اقرّ له بهذه الفضيلة أعداؤه وأصدقاؤه على السواء وأعجبوا به من أجلها. وكلمات خديجة التي سرّت بها عن نفسه تقوم دليلا على هذا الجانب من شخصيته. وقد أشار ابو طالب إلى ذلك في شرحه السبب الذي يوجب عليه ان ينصره على أعدائه. واشتراكه في «حلف الفضول» - وهو حلف وضع ابتغاء الدفاع عن المظلوم ليس

غير- يفيد المعنى نفسه. وتعاليم القرآن الكريم تجعل العناية بأمر اليتيم والمسكين جوهر الدين نفسه. فكل من ينكر اليتيم ولا يحثّ غيره على إطعام الفقير ينكر الدين نفسه. واسمى قمم الشرف الانساني، كما يقول القرآن الكريم، هي رعاية اليتيم* والمعوز. وهو يتوعد كل من لا يحترم اليتيم بالأذلال. وينص على ان السقوط القومي لا بدّ أن يكون هو النتيجة الطبيعية التي ينتهي اليها كل مجتمع يهمل اليتيم ولا يعطف على الفقير. وبكلمة مختصرة، فأن القرآن طافح بأمثال هذه التعاليم التي تؤكد ضرورة الاهتمام بأمر اليتيم والفقير. ونحن نستفيد من سيرة الرسول في سني حياته الأولى انه كان، منذ طفولته نفسها، يتمتع بأسمى مراتب الحياء والعفة. انه لم يكن نزّاعا إلى الأخذ بأسباب الطيش الصبياني الذي يغلب على الفتيان في مثل سنّه. وانما يشهد ابو طالب على هذا المعنى نفسه في حديث له عنه وجّهه إلى العباس، قال: «أنا لم أره يكذب، أو يعمد إلى المزاح، أو يصطنع لغة السوقة، أو يخالط صبيان الشوارع.» وكانت الحرب هي الوسيلة المفضلة للهو واضاعة الوقت في بلاد العرب، على أيامه، ولكن الرسول استشعر، بفطرته ذاتها، عزوفا عن ذلك ونفرة. وفي حرب الفجار لم يذهب إلى أبعد من دفع السهام وغيرها من أدوات القتال إلى أعمامه. وكانت الخرافات على اختلافها، الخرافات الشائعة في البلاد، بغيضة إلى نفسه. لقد مقت عبادة الاوثان منذ صباه الأول. وفي احدى المناسبات تشعب الحديث حتى انتهى إلى الصنمين العربيين الرئيسيين، اللات والعزّى، فأعلن انه لا يبغض أيما شيء

_ (*) «وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ، وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ، وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ، إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.» (السورة 2، الآية 220) «إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ. وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ. فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ.» (السورة 69، الآيات 33- 35)

كبغضه الوثنية. ولقد أبى أن يشارك في أداء شعائر عصره الإشراكية. ورفض أن يطعم من ذبيحة قصد بها أن تكون قربانا لأحد الأوثان. وتفطّر قلبه حزنا لما تردّت فيه الانسانية من انحطاط. واضطرمت في صدره رغبة موقدة في النهوض بأخوانه من بني البشر من هوة السقوط، ودفعهم في طريق الصلاح. وكان كثيرا ما يعتزل الناس متحنثا في غار حراء، ويسأل الله- بعينين تسفحان الدموع- إحياء الجنس البشري وإقالته من عثاره.

الفصل السابع البعث

الفصل السابع البعث «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. «خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ «وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ «بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ «يَعْلَمْ.» (القرآن الكريم، السورة 96، الآيات 1- 5) وقبيل بلوغ محمد، صلوات الله عليه، سن الأربعين تزايد انقطاعه للتحنّث والتأمل، فكان يخلو إلى نفسه في غار حراء ويفرغ للتّفكّر الروحي أياما متوالية. وفي غضون ذلك رأى في نومه رؤى عديدة صدقت كلّها بالحرف الواحد. وفيما هو مستغرق على هذا النحو في عبادة الله في غار حراء جاءه الملك جبريل ذات ليلة من ليالي رمضان (وكان ذلك في السنة التاسعة بعد الستمئة للميلاد) وقال له: «إقرأ» ، فأجابه النبيّ: «ما أنا بقارئ.» فضمّه الملك إلى

صدره ضما وثيقا، وسأل كرة أخرى أن يقرأ. لقد كرر الملك سؤاله هذا ثلاث مرات، وفي كل مرة كان الرسول يقول إنه لا يحسن ذلك. عندئذ تلا الملك عليه الآيات التي توّجنا بها هذا الفصل، والتي حملت معنى ذا شقين. لقد أكّد للرسول انه برغم عجزه عن القراءة فأن محاولته ذلك خليق بها- إذا ما تمّت باسم الله- أن تقترن بالنجاح. وقد انطوى هذا على درس عام يتلخص في ان أيما شيء يظنّه أعسر من ان يقوم به بنفسه لا بدّ أن يمسي هينا يسيرا بعون من الله. هذا أولا. واشتملت الآيات، ثانيا، على إلماع إلى الثقافة العريضة التي قدّر لها أن ترى النور بفضل النبي. وكان هذا هو اليوم الذي ألقيت فيه على منكبيه، أول ما القيت، تبعات النبوة الثقيلة. وهكذا انكشف له، آخر الأمر، السبيل القويم الذي طالما بحث هو عنه في كثير من الحيرة والارتباك. وأومض له النور الذي طالما سعى اليه في توق عظيم. بيد أنه أعلم في الوقت نفسه أن مهمة الاصلاح الانساني الضخمة سوف تقع على عاتقه. ولقد كان خليقا به، وهو الذي يشارك كلّ الناس ضعف الانسان الفطريّ، أن يستشعر ثقل المسؤولية حتى ولو كانت عادية. إن اصلاح الجنس البشري مهمة تثير في نفس المرء أعظم القلق وأبهظه. فقد كلّف موسى اصلاح أمة مفردة، ومع ذلك فقد وجد نفسه أعجز من أن يقوم بذلك من غير مساعدة، وهكذا صرخ طالبا العون الالهي: «وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي. هارُونَ أَخِي. اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي. وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي.» * أما الرسول الكريم، محمد، فقد كلّف بأحياء الجنس البشريّ كله، الغارق في الدّرك الاسفل من الانحطاط. ومع ذلك فأن قلبه الجريء لم يتكشّف لحظة واحدة عن أضأل قدر من الجزع، برغم ثقل المسؤولية القاصم للظهر أو يكاد. لقد نهض بالعبء كله،

_ (*) السورة 20، الآيات 29- 31.

منفردا، غير معتمد إلا على عون الله وحده. إنه لم يسأله أيّ مساعد. ولكن الوحي الالهي ظاهرة استثنائية، وهو موصد في وجه الخبرة الانسانية العادية. إنه يقتضي انفصال المرء، بالكلّية، عن بيئته. وفي أثناء هذه الخبرة يكون الهيكل الجسماني كله المتلقّي الوحي خاضعا للسلطان الالهي. وحتى عندما ألف الرسول هذه الخبرة كان جسده يتفصّد عرقا، وكان يمسي بالغ الثقل. ويروي أحد أصحابه أن فخذ الرسول اتفق ان كانت- في إحدى هذه المناسبات- على ركبته، فاذا بها تمسي ثقيلة جدا حتى لقد خشي على ركبته ان تسحق سحقا. والحق ان أول خبرة من خبرات الوحي كانت أشدّ ثقلا على جسده من سائرها، فأوقعت فيه الرعدة. وهكذا مضى إلى بيته وهو يرتجف؛ لقد دبّ البرد إلى يديه وقدميه، فسأل خديجة أن تزمّله. وبعد فترة قصيرة، حين زايلته الرعدة وزايله ما لا بد ان يصاحب الرعدة من شعور بالخوف، قصّ على خديجة الحكاية كلها. حتى إذا سمعت بالخبرة الجديدة التي تمّت له، شجعته وثبّتته بكلمات موحية قائلة له ان الله لن يتخلى عنه، وانه لا بدّ سيوفّق إلى اداء رسالته. ثم راحت تعدّد بعض فضائله العديدة، وصلته للرحم، وإغاثته الفقير، والمسكين، واليتيم، والأرملة، واكرامه للضعيف، ودفاعه عن الحق في أشد الظروف قسوة، واكدت له ان من يتمتع بهذه الفضائل كلها لا يمكن أن يخفق أبدا. * وكان ورقة بن نوفل، الذي سبقت منا الاشارة اليه، ابن عم خديجة. كان قد سئم الوثنية، وانشأ يبحث عن دين صحيح، حتى

_ (*) أثبتنا كلام المؤلف في المتن بحرفه، وها نحن اولاء ننقل هنا كلام خديجة كما ورد في كتب السيرة، قالت: «ابشر يا ابن عم واثبت، فو الذي نفس خديجة بيده إني لأرجو ان تكون نبي هذه الأمة، وو الله لا يخزيك الله ابدا. إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل- بفتح الكاف- وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. (المعرب)

اعتنق آخر الامر الديانة النصرانية. وكانت خديجة تدرك إدراكا حسنا ما يعتلج في صدر نسيبها من ألم مبرّح لعدم اهتدائه إلى دين يوقع اليقين في قلبه التائق إلى الحق. ولعلها ان تكون قد سمعته يتحدث عن ظهور النبي الموعود، «المعزّي» الذي كان يسوع قد تنبأ بمجيئة. فما إن وجدت محمدا يدعى إلى اداء هذه الرسالة حتى مضت معه إلى ابن عمها، شعورا منها- من غير ريب- مع هذا الأخير الذي كان قد فقد بصره وأمسى عاجزا عن الحركة بعد أن بلغ سنا عالية. ولم يكد ورقة يسمع ما نزّل على محمد من وحي وكيف نزّل حتى هتف: « [قدّوس، قدّوس! والذي نفس ورقة بيده لئن كنت صدقتني يا خديجة] لقد جاءه الناموس الذي كان يأتي موسى،» مشيرا بذلك كما هو واضح إلى النبوءة التي أطلقها موسى. ثم أضاف: « [ولتكذّبنّ، ولتؤذينّ، ولتخرجنّ، ولتقاتلنّ] ولئن أنا أدركت ذلك اليوم لأنصرنّ الله نصرا يعلمه.» فسأله النبي، في دهش، أتكون هذه هي المعاملة التي سيلقاها من أهله وعشيرته. فأجابه ورقة قائلا: «نعم، هذه هي المعاملة التي يلقاها كل نبيّ.» وما هي إلا فترة يسيرة، حتى توفي ورقة. وبسبب من هذا التوكيد الذي صدر عنه لصدق رسالة محمد اعتبره المسلمون واحدا من صحابة الرسول. وبعد هذا الوحي الاول الذي نزّل عليه في غار حراء انقطع جبريل عن زيارة محمد فترة من الزمان. وهذه هي المدة المعروفة ب «فترة انقطاع الوحي» . والعلماء مختلفون اختلافا كبيرا في مدى استمرار هذه الفترة، فذهب بعضهم إلى أنها دامت سنتين أو ثلاث سنوات، ولكن ما رواه ابن عباس من أنها لم تدم غير برهة قصيرة اجدر بالاعتماد، وهو معزّز بالبيّنة التاريخية. أما القصة القائلة بأن النبي كان يصعد خلال هذه الفترة إلى رؤوس الحبال ليلقي بنفسه من

حالق فليس لها سناد قويّ البتة. وهي، وفقا للمحك التقليدي الذي به تعرف صحة الروايات، رواية ضعيفة متهافتة، ذلك بأن الزّهري، الذي اسندت اليه، عاش في عهد متأخر؛ ولكي تكون أيما رواية موضع الثقة والاعتماد يتعيّن أن تسند إلى أحد صحابة الرسول مباشرة. ومن هنا فليس في استطاعتنا أن نعلّق عليها كبير أهمية. وفوق هذا، فأن الفكرة القائلة بأن الرسول فكّر في الانتحار غير متناغمة مع حال قلبه. فمنذ صباه الأول كان قلبه يتوهج بالرغبة في الاصلاح الانساني. فهل يعقل ان يفكر الآن بالانتحار بعد أن عهد الله اليه بأداء هذه الرسالة نفسها؟ وإذا صحّ ان القوم لاحظوا على الرسول في هذه الفترة أيما عمل غير مألوف، فما كان ذلك ليعدو اختلافه إلى الجبال أكثر من ذي قبل. ولكن علينا أن لا نقفز إلى استنتاج غير معقول، ولا تبرره المقدّمات، فنزعم انه مضى إلى هناك لكي ينتحر. لقد كان من دأبه أن ينطلق إلى الجبال قبل تلقّيه الوحي بزمن طويل. ولقد كان طبيعيا، وهو النزّاع إلى التأمّل، أن يلتمس العزلة في الجبال، وهي خير مكان يستطيع فيه أن يفرغ للتحنّث والتفكّر. وهكذا فليس ثمة أيما سبب يدعونا إلى الافتراض انه قصد إلى الجبال وفي نيته ان ينتحر. وإذا كان قد طوّف بها، في حال من الارتباك أقوى وأعنف من حاله السابقة- وهذا أقصى ما يستطيع المرء أن يزعمه- فليس من العسير الاهتداء إلى السبب الذي حمله على ذلك. فلم يكد النور الالهي، الذي طالما التمسه في لهفة بالغة، يومض لعقله حتى خبا. وزاده هذا قلقا على قلق. وتعاظم توق فؤاده إلى سماع الكلمات الالهية الحلوة، كرة أخرى. ومن هنا كان انطلاقه نحو الجبال التماسا لشيء عزيز على قلبه ليس غير. ولقد قام بذلك وهو خالي الذهن من فكرة الانتحار. وكل حدث من أحداث حياته التي تلت يكذّب مثل هذا الظن. ففي وجه أقسى الظروف وأدعاها إلى اثارة الحيبة لم يتزعزع ايمانه

بالعون الالهي لحظة واحدة، ولم يتراجع هو قيد شعرة أمام أدهى المصاعب وأكأدها. وأخيرا انتهت فترة انقطاع الوحي. لقد بدت، في عيني الرسول، طويلة إلى حد استثنائي، ذلك بأنها كانت فترة انفصال عن الذات التي أحبّها من صميم فؤاده. وبهذا المعنى بالذات اعتبر بعضهم تلك الفترة طويلة. والواقع ان انقطاع الوحي كان لحكمة الهية. فقد كان الأرهاق الذي لازمه قد أثّر في صحة الرسول تأثيرا سيئا. وكان من الجائز أن لا يقوى جسمه على احتمال تكرار له سريع. وهكذا كانت الفترة أمرا ضروريا حفاظا على عافيته الجسمانية. وحتى بعد انصرام مدة من الزمن لا يمكن أن تتجاوز بأية حال ستة أشهر، ظل الوحي مصحوبا بالشعور نفسه، وإن تكن وطأته قد خفّت بعض الشيء. وكرة أخرى: سأل خديجة، من غير ان يستبدّ به الرّوع بقدر ما استبدّ به من قبل، أن تدثّره. وكانت هذه أول مرة كلّف فيها أن يؤدي رسالته تكليفا جديا: «يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ.» * وهذا ما قاد إلى مرحلة أخرى في حياة الرسول- مرحلة اعلان كلمة الله، وابلاغ رسالته إبلاغا ناشطا للناس أجمعين.

_ (*) السورة 74، الآية 1- 2.

الفصل الثامن المؤمنون الأولون

الفصل الثّامن المؤمنون الأوّلون «وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ. أُولئِكَ «الْمُقَرَّبُونَ.» (القرآن الكريم، السورة 56، الآية 10- 11) كان أول من أقرّ بصدق رسالة النبي زوجه خديجة. إنها لم تشكّ أقل الشّكّ، ولو لحظة واحدة، في صدق نبوءته. بل لقد أثبتت انها كانت، في لحظات الكآبة والغمّ، مصدر عزاء له لا يخطىء البتة. وقبل ذلك بخمسة عشر عاما، حين لم تكن صلتها به هي صلة الزوجة ببعلها، رأت فيه- بعين المرء المجرّد عن الغاية- صفات نبيلة تركت في نفسها انطباعة عميقة. ولكن هذه الانطباعة الأولى ازدادت عمقا بتوثّق معرفتها به، من طريق حميمية العلاقة التي نشأت بعد بينهما بوصفهما زوجة وبعلا. وحين تلقّى الرسول الوحي الالهي أول مرة، ولم يدر كيف يؤدّي رسالة الاصلاح الثقيلة، ثبّتته هذه السيدة الفاضلة بشهادة فؤادها الخالصة. لقد لاحظت قائلة إن امرآ في

مثل خلق الرسول الرفيع وحنانه العظيم لا يمكن ان يخفق البتة. والحق ان أحدا لا يستطيع ان يزعم لنفسه نفاذا إلى خلق الرسول أبعد من نفاذ خديجة. فأدق تفاصيل حياة الزوج لا يمكن ان تخفى عن زوجته. وبمثل هذه المعرفة الحميمة لافكاره الاشدّ ايغالا في الباطن استشعرت انها مقتنعة بأن محمدا هو وحده الشخص المؤهل لتلقّي النداء الالهي لاصلاح البشر. وهكذا كانت خديجة أول من آمن برسالة النبي وأكثرهم غيرة وحماسة. وبعد خديجة يأتي ورقة [بن نوفل] في مقدمة المؤمنين الاولين. لقد التحق بالرفيق الأعلى خلال فترة انقطاع الوحي، وبذلك حرم الفرصة لاعلان اسلامه رسميا. ومع ذلك فقد شهد في أثناء اجتماعه بالرسول، ذلك الاجتماع الذي ألمعنا اليه من قبل والذي هيأته خديجة، أن محمدا هو من غير ريب النبي الموعود. وهذا وحده يؤهله لاحتلال مقام متقدم في لائحة المؤمنين. ثم يجيء أبو بكر، أحد وجوه المكّيين وأعيانهم. كان يتمتع عند القوم باحترام عظيم بالنظر إلى رجاحة عقله، وكان ينعم بشعبية واسعة بين مواطنيه. والواقع ان أبا بكر كان صديقا للرسول قبل أن يتلقّى الوحي بزمن طويل. وكان ايمانه بصدقه وأمانته وطيدا كأيمان خديجة بهما. ومثل خديجة، لم يتزعزع ايمان ابي بكر لحظة واحدة. فما ان سمع محمدا يدعو إلى دين جديد حتى أعلن انه هو رسول الله. لقد كان أول المؤمنين من الرجال. وكان عليّ، ابن عم الرسول ابي طالب، في طليعة المؤمنين الأولين أيضا. لقد عرف الرسول معرفة جدّ حميمة، ذلك بأنهما كانا قد ترعرعا معا في كنف والد عليّ ورعايته العطوف. فلم يتردد، وهو العالم بأن صدق الرسول لا يرقى اليه الشك، في تصديقه والايمان برسالته.

وكان زيد بن حارثة عتيقا* لرسول الله. ولقد سبق منا الألماع إلى حبّه العميق لسيده. إذ آثر الحياة مع الرسول على الحياة مع أهله وعشيرته، رافضا العودة مع أبيه إلى بيته. لقد كان هو أيضا من السابقين إلى الايمان. وكانت خديجة، وأبو بكر، وعليّ، وزيد على أوثق الصلة بالرسول، وكان لهم أعظم الاطلاع على حياته الخاصة. وبالنسبة نفسها آمنوا كلهم ارسخ الإيمان بنبوّته. إن أيا منهم لم يخامره أدنى الشك في صدق رسالته. كانوا قد عرفوا فيه «الأمين» طوال سني حياته السالفة. ولم بسمعوه طوال السنوات الاربعين التي سبقت تلقّيه النداء الالهي ينطق بكذبة واحدة. وهكذا كان مما يفوق التصور عندهم ان يفكروا لحظة واحدة أنه قد ينزع إلى ادعاء النبوّة كذبا وبهتانا. وليس من ريب في انهم كانوا لا يستطيعون ان ينظروا اليه نظرتهم إلى مخادع دجال. وإذ رافقوه منذ أيام صباه الأول فقد أتيحت لهم فرصة للنفاذ إلى سمات خلقه الاشدّ ايغالا في الباطن. كان المرء كلما ازداد معرفة بالرسول ازداد افتتانا به وتعاظم نزوعه إلى تصديق رسالته. وهذا المظهر من خلق الرسول يكره حتى نقادا من مثل ميووير Muir وشبرانغر على الاعتراف بأن محمدا، صلى الله عليه وسلم، كان صادقا كل الصدق في دعواه. كانت له ثقة كاملة في الصفة الالهية لما تلقّاه من وحي. ولو قد كان ثمة ظل من الرياء في دعواه اذن لكان خليقا بأولئك الذين كانوا على مثل هذه الصلة الحميمة به أن يكونوا هم أول من يرتاب به وينبذه. ولكنهم على العكس، كانوا هم السابقين إلى الاعتراف به رسولا صادق القول حقيقيا. وما ان اعتنق ابو بكر الاسلام حتى راح يبشّر الآخرين برسالة الحق. إلى هذا الحدّ كان ايمانه بصدق دعوى الرسول عميق الجذور!

_ (*) العتيق: العبد المعتوق الذي فاز بحريته.

وفي عهد جدّ مبكّر، دخل في الاسلام من طريق حماسته التبشيرية الناشطة رجال ذوو مكانة عليّة من مثل عثمان [بن عفان] ، والزبير [ابن العوام] ، وعبد الرحمن [بن عوف] وسعد [بن أبي وقاص] وطلحة [بن عبيد الله] قدّر لهم بعد أن يلعبوا دورا بارزا لا في تاريخ الاسلام فحسب بل في التاريخ العالمي أيضا. وانضمّ إلى جماعة المؤمنين في هذه الفترة المبكرة أيضا نفر ينتسبون إلى طبقة اجتماعية أدنى، ومن هؤلاء بلال [الحبشيّ] ، ويسار [غلام خديجة] وزوجته سميّة وابنه عمّار. وكان عبد الله بن مسعود وخبّاب من السابقين إلى الاسلام، وكذلك كان الأرقم [بن ابي الأرقم المخزومي] الذي جعلت داره مركز نشاط الرسول التبشيري، حوالى السنة الرابعة بعد البعث. وخلال السنوات الثلاث الأولى بلغ عدد الذين دخلوا في الدين اربعين رجلا وامرأة. وهذا ما ينسف الظنّ القائل بأن فترة انقطاع الوحي امتدت أكثر من ثلاث سنوات. إذ ان مثل هذا الافتراض يحتم ان تكون الدعوة إلى الايمان قد بدأت في السنة الرابعة، على حين ان الاسلام كان في الواقع قد اكتسب حتى ذلك الحين عددا من الأتباع كبيرا. والحق ان هذا النمو المطّرد الذي عرفه الاسلام هو الذي روّع المكيين وأثار معارضتهم الشرسة. ومن اجل هذا تعيّن على الرسول أن يشخص إلى موطن ناء عن المضايقات العدوانية لكي يتمكن من اداء رسالته على نحو أحفل بالأمن. ووقع الاختيار على دار الارقم لهذا الغرض. والحقيقة القائلة بأن عدد المسلمين في السنة الرابعة لم يكن أقلّ من أربعين ينهض دليلا قاطعا على ان فترة انقطاع الوحي لم تدم ثلاث سنوات بأية حال، بل لم تدم حتى سنة واحدة. وتواصل دخول الناس في الدين، وكان في إسلام بعض البارزين من رجال قريش ما زاد في قوة الجماعة الصغيرة. وإنما كان ابرز هؤلاء حمزة، عمّ الرسول وأخوه من الرضاع. وكان رجلا عسكري

الروح ذا ولع بالصيد. ولقد تمتّع، بشيء من خلقه الرفيع، باعتبار واحترام عظيمين بين مواطنيه. وكان يستشعر نحو محمد حبا خاصا. أما اسلامه فتمّ على النحو التالي: ذات يوم، كان أبو جهل يؤذي الرسول- جريا على مألوف عادته- عندما مرّت جارية حمزة بالمكان فارتاعت لمشهد تلك المعاملة الوحشية. وكان حمزة قد مضى في رحلة صيد، فلم يكد يرجع إلى بيته حتى روت عليه جاريته القصة المحزنة. وكان قد أعجب قبل ذلك بشخصية ابن عمه. حتى إذا سمع بما أخضع له من ضروب الاساآت على اختلاف أنواعها اخضاعا لا رحمة فيه غضب غضبا شديدا. ولقد اعتبر أن من اللامروءة إلى الحد الاقصى أن لا ينصر رجلا في مثل استقامة الرسول وصلاحه، بل لقد اعتبر ان من الخسّة المحض ان يقف من هذه الأعمال موقف المتفرج. وهكذا عقد العزم في تلك اللحظة وفي ذلك المكان على الانضمام إلى معسكر الحق، والدفاع عنه بكل ما يملك من قوة جسدية. فشخص لتوّه إلى الكعبة، حيث كان ابو جهل واشياعه يعقدون اجتماعا ابتغاء شنّ حملة على الاسلام، وأعلن على رؤوس الأشهاد اعتناقه الدين الاسلامي. وكان عمر هو الرجل العظيم الثاني الذي اثبتت الأيام أن انضواءه تحت لواء الرسول كان نصرا للاسلام وقوّة له. ولقد سبق له، بوصفه رجلا حادّ الطبع، أن كان شديدا، على نحو متكافئ، في مقاومته للاسلام. والواقع انه ذهب إلى حد عقد النية على قتل الرسول، مصدر الحركة الجديدة، ووضع حد للبلاء كله. وهكذا انتضى سيفه، ذات يوم، وانطلق إلى بيت الرسول. ومع ذلك فأنه لم يكن قد علم ان اخته فاطمة، وزوجها سعيد [بن زيد] قد أسلما. واتفق ان التقاه في بعض الطريق رجل من المسلمين [هو نعيم بن عبد الله] ، وإذ لاحظ الشرّ في عينيه سأله ما الذي يعتزم أن يفعله، فأجابه عمر بقوله:

«أريد ان اقتل محمدا» ، فقال له المسلم ان من الخير له أن يرجع إلى أهل بيته ويقيم أمرهم ثم يفكر بعد ذلك بقتل الرسول*، ذلك بأن أخته وبعلها كانا كلاهما قد اعتنقا الاسلام. ولم يكد عمر يسمع نبأ اسلامهما حتى استبدّ به أعظم الغيظ، واتخذ سبيله نحو بيتهما، أولا، لكي يصفي حسابه معهما. واتفق ان كان خبّاب يتلو عليهما آيات من القرآن الكريم عندما دخل عمر بيتهما. فسارعا، بسبب من خوفهما، إلى اخفاء الصحيفة التي خطّت الآيات عليها. وكان قد سمعهما يتلوان القرآن. فما إن اجتاز عتبة البيت حتى تساءل [ما هذه الهينمة التي سمعت؟ فلما أنكرا صاح بهما: لقد علمت انكما تابعتما محمدا على دينه] ، وأمسك بسعيد وأنشأ يوسعه ضربا. وتدخلت أخته محاولة ان تنقذ زوجها من غائلة غضبه، فضربها، فشجّها، فسال الدم منها. وأخيرا صاحت في نبرة متحدّية: «نعم! أسلمنا، فاقض ما أنت قاض!» وكان لهذه الجرأة التي تكشّفت عنها أخت عمر برغم تعنيفه إياهما أثر عظيم في فثأ غيظه. فاذا به يكفّ عن ضربهما، ويسألهما ان يرياه الصحيفة التي كانا يتلوان القرآن منها. وترددت أخته في ذلك خشية أن تبدر منه إهانة ما للكتاب الكريم، حتى إذا أكّد لها انه لن يؤذي مشاعرهما الدينية أكثر مما فعل قدّمت اليه الصحيفة التي اشتملت على سورة طه**. واليك مستهلّها: «طه، ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى. إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى. تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى.» *** فما ان

_ (*) جاء في كتب السيرة ان نعيم بن عبد الله قال لعمر: «والله لقد غشتك نفسك من نفسك يا عمر! أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على وجه الارض وقد قتلت محمدا؟! أفلا ترجع إلى أهلك وتقيم أمرهم!» (المعرب) (**) وهي السورة العشرون. (***) السورة 20، الآية 1- 4.

سمع جزآ من السورة حتى عجز عن مقاومة سلطان الحقيقة القرآنية الذي استحوذ عليه استحواذا. ومن ثم راح يتدبّر حماقة عدائه لما أظهرت له الروية أنه تعاليم فاتنة. ولم يتلكأ خبّاب، الذي ألجأه الخوف إلى الاختباء طوال تلك الفترة، عن اقتناص اللحظة السيكولوجية والافادة منها. فغادر مخبأه وأنشأ يدعوه إلى الدخول في الدين. وسرعان ما أذعن عمر الجبار لقوة الاسلام الروحية. وبعد أن سأل خبّاب أين يستطيع أن يلقى الرسول، مضى مباشرة إلى دار الأرقم التي كانت في تلك اللحظة تظل الرسول واربعين من صحابته، رجالا ونساء. وقرع عمر الباب، فاختلس أحد المسلمين النظر ليرى من القادم. حتى إذا بصر بعمر متقلّدا سيفه، استبدّ به الرعب، بعد ان توهم ان عمر أقبل إلى هناك لأمر مريب. بيد ان الرسول سأله ان يفتح الباب ويدخله. ولم يكد عمر يمثل بين يديه ويوجّه اليه محمد جملة واحدة ليس غير حتى أعلن قائلا: «يا رسول الله، أشهد ان لا إله إلا الله وانك رسول الله.» فغمر الجماعة الاسلامية كلها فرح بالغ، وهللوا وكبّروا حتى لقد ردّدت الهضاب المجاورة صيحاتهم: «الله اكبر! الله اكبر!» وكان في اسلام عمر منعة للجماعة الاسلامية الفتية التي كان عودها ما يزال أطرى من ان يواجه عاصفة المعارضة. وإنما اعزّ الله الاسلام بحمزة وعمر في السنة السادسة من رسالة محمد. فحتى ذلك الحين لم يجرؤ المسلمون على ممارسة شعائرهم علنا. وكانوا قد حصروا نشاطهم الديني ضمن جدران دار الأرقم الاربعة. حتى إذا أعلن عمر إسلامه استشعروا انهم أمسوا من القوة بحيث يخرجون من نطاق السّرّية، فأنشأوا يقيمون صلواتهم على نحو علنيّ في البيت الحرام (الكعبة) . وفي غضون ذلك دخل في كنف الاسلام كثير من أبناء الطبقات الدنيا. وكان أبناء الأسر النبيلة يوفقون في بعض الأحيان إلى اجتناب مساآت

المكيين واضطهاداتهم، ولكن المهتدين من العبيد المساكين كانوا في وضع يائس بائس. لقد أنزلت بهم في غير ما رحمة ضروب التعذيب على اختلافها من غير أن يجدوا من يحميهم من غضب ساداتهم. والواقع ان من مآثر أبي بكر التي يقوم عليها سموّ خلقه انه أنفق ثروته، بسخاء، في شراء هؤلاء العبيد المضطهدين من سادتهم الغلاظ القلوب، وإعتاقهم. وكان بلال، وعامر، ولبينى، وزنّيرة، ونهديّة، وامّ العبيس بعض اولئك الذين كانوا مدينين بحريتهم لجود ابي بكر وكرمه. ومن السّمات الرائعة جدا لانتشار الاسلام في أيامه الأولى أنه كان مقصورا في الأعم الاغلب على الفقراء. أما الارستوقراطية فقد اعارت الرسالة المحمدية أذنا تكاد ان تكون صماء. وفي القرآن الكريم حادثة تلقي ضوآ كافيا على الغرض الالهي من بقاء الطبقات العليا محرومة في طفولة الاسلام من نعمه وبركاته. * فقد كان الرسول منشغلا ذات يوم في دعوة نفر من نبلاء قريش إلى الدخول في الدين عندما جاءه رجل أعمى يدعى ابن امّ مكتوم. وإذ لم يكن يعلم ان الرسول في شغل شاغل فقد طرح بضعة أسئلة متوقعا من وراء ذلك ان يلفت نظر النبي اليه. ولم يرتح النبي، وهو المنهمك في ذلك الحديث الهام، لهذه المقاطعة. إنه لم يعنّف الاعمى ولم ينطق بأية كلمة من كلمات الاستياء، ولكن شيئا من العبوس ليس غير تبدّى على جبينه. بيد ان الله الذي أراد له ان يبلغ الذروة العليا في الخلق والأدب لم يدع هذه الحادثة تمرّ من غير تعليق. ومن ثمّ نزل عليه الوحي الالهي محذّرا: «عَبَسَ وَتَوَلَّى. أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى.» ** ثم تمضي الآيات الكريمة فتقول انه كان من الجائز جدا ان ينشرح صدر ذلك

_ (*) السورة 80. (**) السورة 80، الآية 1- 2.

الاعمى نفسه للدعوة المحمدية؛ ذلك بأن القرآن كان ناموس حياة يستطيع البسطاء من الناس ان يرتفعوا بفضله إلى الصعيد الاعلى. ولقد نصحت الرسول أيضا بأن لا يعلق أهمية كبيرة على العظماء من الرجال. فقد كان رسوخ الاسلام مرهونا بالفقراء والضعفاء الذين سوف يتحقّقون هم أنفسهم بالمجد بفضل نضالهم من أجل نصرة قضيته. والواقع أن هذه كانت هي الحكمة الالهية الكامنة وراء الحقيقة القائلة بأن العنصر الاضعف من أهل مكة هم الذين رحبوا أكثر من غيرهم بالهدي الاسلامي. لقد أريد بهم أن يكونوا دليلا ملموسا على ان في استطاعة العاديين من الناس، تؤيدهم روح الله، ان ينجزوا ما يعجز عن فعله أشد الناس قوة وأعزّهم نفرا. ونحن نعلم علم اليقين، في ضوء التاريخ، ان الاسلام لم يمكّن طبقة الضعفاء والمرذولين هذه نفسها من تقلّد صولجان الملكية فحسب، بل عدا ذلك إلى رفعهم في الوقت نفسه إلى اسمى مراتب الاخلاق، والفن، والعلم، والفلسفة، وإلى جعلهم حملة مشعال المعرفة في عصر كان العالم غارقا خلاله في ظلمات الجهالة. أليس في هذا أعظم شاهد على مقدرة التعاليم الاسلامية على النهوض بالناس ورفعهم [من درك المذلة إلى قمة المجد؟] . وحادثة الرجل الأعمى، على تفاهتها، تلقي فيضا من النور على مشكلة ذات خطر عظيم. إنها تزوّدنا بما نستطيع أن نقرر على ضوئه أمرا في قضية طالما اختلف فيها العلماء وتنازعوا، أعني طبيعة الوحي الالهي الذي قدّر للرسول أن يتلقّاه. هل كان صوتا نابعا من قلب الرسول نفسه، ام كان رسالة مستقبلة من مصدر خارجي؟ إن الآيات التي نزلت بعيد لا مبالاة الرسول بالرجل الكفيف تنهض دليلا على انه لا يمكن بأية حال ان يكون ثمرة عمل باطني قام به عقل الرسول نفسه. فقوامها لوم الهي للرسول لإعراضه عن الأعمى. وليس يطيق ايما امرئ ان نعرض اخطاؤه على أنظار الخاص والعام، إذا استطاع اجتناب ذلك، مهما

استشعر الندم والتوبة. وليس ثمة ما يدعو إلى الاعتقاد بأن الرسول، برغم كبر قلبه وشهامته، كان يستشعر أيما نزوع ملحّ إلى التشهير بنفسه، لهذا الإعراض، مهما يكن تافها، على رؤوس الأشهاد. وذلك يظهر ان الوحي جاء من مصدر خارجي ما- هو الذات الالهية نفسها. ولقد أذاعها في الناس، على الرغم من علمه بأنها استنكار الهي لعمله سوف يظل خالدا يتردد في آذان الناس إلى أبد الآبدين. والحق ان الاذعان البهيج لارادة الله العليا كان هو المبدأ الرئيسي في حياته كلها. وبالاضافة إلى إثبات مصدر الوحي الخارجي على نحو قاطع، فأن تلك الحادثة تغني عن تحبير مجلدات لتوكيد فناء الرسول الكلّي في الخضوع لمشيئة الله.

الفصل التاسع الاضطهاد

الفصل التاسع الاضطهاد «أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ «يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ.» (القرآن الكريم، السورة 29، الآية 2) كلما قضت الارادة الالهية بأن توحي إلى عصبة من الابرار أن يكونوا حملة مشاعل الحق لهداية الانسانية المتفسخة برزت بالضرورة عصبة من اولئك الذين يعقدون العزم على مقاومتهم حتى الموت، وانزال ضروب البلاء والتعذيب فيهم. والواقع ان عاصفة المعارضة الحقود أمر لا غنية عنه البتة في هذا المجال. والاضطهادات التي يخضع لها حملة مشاعل الحق إنما تكون بمثابة امتحان حاسم لصدق دواقعهم. إنهم يصبرون على الاهانات، ويتحملون المحن وضروب البلاء في ابتهاج وبشر، ولكنهم لا يتخلّون لحظة واحدة عن الحق الذي يمثّلون. والواقع انهم يعيشون- إذا استطاعوا- للحق، ويموتون- إذا تعيّن عليهم ذلك- في سبيل الحق. وإلى هذا، فالمحن هي حقل الاختبار

الوحيد لتنمية فضائل الثبات والمثابرة التي بدونها لا يستطيع الانسان بلوغ الكمال الخلقي. فما لم تحدق بالمرء من أقطاره جميعا عقبات غامرة، وما لم يبتل بضروب الشدائد المبرّحة، فأنه لن يقوى على التخلّق بهاتين السجيّتين. ومن هنا، فأن البلايا التي تصيب أمثال هؤلاء الناس هي، في الواقع، نعم مقنّعة، مقصود بها أن تفضي إلى تهذيبهم الخلقي. وهناك، فوق هذا وذاك، هدف ثالث مراد. ذلك بأن الله الكلّي القدرة يريد ان يوقع في نفوس البشر ان النبتة التي تتعهدها اليد الالهية، مهما بدت هزيلة، قادرة على أن تصمد في وجه أشرس هبّات الريح المعادية. ووفقا لهذا الناموس الالهي، تعيّن على الرسول وصحابته ان يقاسوا على أيدي المكيين محنا لا تعدّ ولا تحصى. في البدء، اتخذت معارضة المكيين لرسالة الاسلام شكل السخرية من الرسول والهزء به. إنهم لم يقيموا للحركة كبير وزن، متوهمين انها سوف تموت، في الوقت المناسب، ميتة طبيعية. لقد وقفوا منها موقف اللامبالاة والازدراء، وكأنها غير جديرة بأيّ اهتمام جدي. إنّ كل ما لقيه المؤمنون من إساآت المكيين، في تلك الايام، لم يعد السخرية المزدرية. كان اللجوء إلى العنف لا يزال، في اعتقادهم، أمرا لا ضرورة له. فكانوا إذا مرّوا بالمؤمنين ضحكوا وتغامزوا، هزؤا وسخرية. * وفي بعض الاحيان كانوا يزعمون أنه حالم متبطّل، نزّاع إلى نظم الشعر الركيك المضطرب، ولا بدان يهلك عما قريب. **

_ (*) «إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ. وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ. وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ. وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ. وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ. فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ.» (السورة 83، الآيات 30- 34) (**) «فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ. أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ.» (السورة 52، الآية 29- 30)

وكان من دأبهم ان يقولوا إنه مخالط في عقله. ولكن ما إن اتّبعه. تدريجيا، رجال أولو علم ووجاهة حتى استشعر المكيون الخطر المحدق بهم. إنهم ما عادوا يقنعون بالهزء اللامبالي، بل عمدوا إلى العنف وذات يوم، كان الرسول في الكعبة ساجدا يصلي، فطرح ابو جهل على عنقه أحشاء ناقة. وإذ كان من مألوف عادته ان يغادر بيته لاقامة الصلاة مع الفجر، فقد اصطنعوا لمناكدته طريقة جديدة: كانوا يلقون في طريقه أغصان نباتات شائكة لكي يتعثر بها في الظلام. لقد أخذوا يقذفونه بالاقذار حينا، ويرشقونه بالحجارة حينا. وذات يوم انقضّ عليه جمع من اشراف قريش. فطرح احدهم، عقبة بن ابي معيط، رداءه حول عنقه وفتله حتى كاد أن يخنقه به. واتفق أن مرّ أبو بكر، آنذاك، بالمكان، فتدخل وانقذ الرسول، قائلا: «أتريدون أن تقتلوا رجلا لا لشيء إلا لأنه يقول ربي الله؟» ولكن المؤمنين غير المنتسبين إلى بيت من بيوتات قريش النبيلة، وبخاصة العبيد منهم رجالا كانوا أم نساء، هم الذين قدّر عليهم أن يحملوا العبء الأكبر من اضطهاد المكيين. فقد أخضع هؤلاء لأفظع أشكال التعذيب. وبلال الحبشي، أخضعه سيده- لكي يحمله على الارتداد عن الاسلام- لأقسى أنواع الألم الجسدي وأبعده عن الرحمة. ولكن التعاليم الاسلامية كانت تتمتع بسحر يجعل معتنقيها أقوى من أن يتأثروا بهذه المحن كلها. كانوا يؤثرون الموت نفسه على التنكّر للاسلام الذي رسخ في أعماق قلوبهم. وكان اضطهاد بلال يجري على الوجه التالي: كان مولاه يكرهه على الاستلقاء على الرمل المتقد تحت شمس الصحراء المحرقة في الظهيرة. وكانت ألواح من الحجارة ثقيلة توضع على صدره، وعلى الرغم من هذا التعذيب المبرّح إلى أبعد الحدود كان لا يفتأ يردّد مغشيّا عليه: «أحد، أحد» ، أي ليس ثمة غير إله واحد. وعذّب والد عمّار، ياسر، وأمه سميّة، تعذيبا موغلا في البربرية. والواقع

ان قصة تعذيبهما تقشعر لهولها الابدان- لقد شدّت رجلا ياسر إلى بعيرين، ثم عمد مضطهدوه إلى سوق البهيمتين في اتجاهين معاكسين، وهكذا مزّق جسده تمزيقا وحشيا. وقتلت سميّة بطريقة لا تقلّ عن هذه وحشية ولكنّها أدعى إلى الخزي. وكانت لبينى جارية عمر [بن الخطاب] ، فكان قبل إسلامه يوسعها ضربا حتى يكلّ. وكان من دأبه بعد ذلك أن يقول: «سوف اتركك الآن. لا إشفاقا عليك، ولكن لأني تعبت من ضربك.» وحتى المؤمنون من ذوي المحتد النبيل لم ينجوا من التعذيب. كان أهلهم وعشيرتهم هم الذين ينزلون بهم ضروب الأذى. فعثمان [بن عفان] كان ينتسب إلى بيت كريم ويحتل منزلة اجتماعية رفيعة. ومع ذلك، فقد أوثقه عمه بحبل وضربه ضربا مبرّحا. أما معاملة عمر لأخته وصهره فقد سبقت منا الاشارة اليها. والزبير لفّ في حصيرة وأكره على استنشاق الدخان. وابو بكر نفسه لم ينج من الاذى. لقد اخضع المسلمون جميعا، من غير تمييز، لكل ضرب من ضروب القسوة يستطيع المرء أن يتخيله، ولكن أيما محنة مهما تكن لم تقو على تجريد قلوبهم من حب الاسلام. وذهل المكيون أنفسهم لهذا الولاء العنيد الذي تكشّفوا عنه. ولكن ثباتهم هذا ارّث غيظ معذبيهم فلجأوا إلى اضطهادهم على نحو أقسى من ذي قبل وأعنف.

الفصل العاشر الهجرة إلى الحبشة

الفصل العاشر الهجرة إلى الحبشة «وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ «ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا «حَسَنَةً، وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ «كانُوا يَعْلَمُونَ.» (القرآن الكريم، السورة 16، الآية 41) وأطلّ العام الخامس للدعوة المحمدية وقد جمع الرسول حوله عصبة مؤلفة من خمسين صحابيا متفانيا في ولائه له. كان ايمانهم المشترك قد جعل منهم جماعة صغيرة متراصة لم تزدها اضطهادات المكيين إلا تماسكا. وإلى هذا، فقد نمت قوتهم العددية يوما بعد يوم. وكان الرسول من رقة القلب بحيث يتفطر قلبه حتى لآلام خصومه. فكيف يستطيع ان يحتمل رؤية الأذى ينزل بأصدقائه؟ وليس من ريب في أن هؤلاء الاصدقاء كانوا مصدر قوة له عظيمة، وكانوا دعامة راسخة لرسالته، فخليق به ان لا يطيق الاستغناء عن ايما فرد منهم. ومع ذلك فلم

يكد يرى ان وحشية المكيين آخذة في الضراوة يوما بعد يوم حتى نصح لهم بالشخوص إلى موطن آمن. لقد آثر ان يتحدى اسوأ عاصفة من عواصف المعارضة المكية على رؤية اصحابه يعذّبون بمثل تلك القسوة البالغة. إنه لم يستشعر أيما قلق على نفسه، ولم يخامره أيما خوف من عدوّه المغضب المهتاج. وهكذا أشار عليهم ان يفزعوا إلى الحبشة قائلا لهم: «إن بها ملكا لا يظلم عنده أحد، وهي ارض صدق حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه.» وكان اهل الحبشة وملكهم الملقب بالنجاشي نصارى. وهكذا استعد أول فريق من المهاجرين، وعدّتهم احد عشر، للابحار إلى الحبشة، وقد اصطحب اربعة منهم زوجاتهم، وفي جملتهم عثمان وزوجه، رقيّة، بنت الرسول. وفي شهر رجب من السنة الخامسة للدعوة، فصل القوم من مكة، وبعضهم راكب وبعضهم راجل. حتى إذا بلغوا الثغر أبحروا على عجل، مغادرين شواطئ وطنهم الجميل التماسا للسلامة في أرض أخرى. وما ان تسامعت قريش بارتحالهم حتى وجّهت رجالها على جناح السرعة ابتغاء صدّهم عن سبيلهم. بيد أن المراكب- ويا لخيبة قريش! - كانت قد أقلعت، فتعيّن على مطارديهم ان يرجعوا بخفّي حنين. ولكن هذا لم يزد القرشيين إلا غيظا على غيظ. لقد كانوا يحرصون على ان لا يجد الاسلام موطئ قدم في أيما موطن آخر. فعقدوا العزم، آخر الأمر، على ان يوجهوا إلى النجاشي وفدا يسأله أن لا يسبغ على المسلمين حمايته وان يسلمهم إلى المكيين. واختير عبد الله بن ابي ربيعة وعمرو بن العاص لهذه السفارة، فمضيا إلى الحبشة ومعهما هدايا نفيسة. فكانت اولى الخطوات التي قاما بها لدن بلوغهما أرض الأحباش أن عمدا إلى التأثير في مشاعر الطبقة الاكليركية. لقد قالا لهم ان المسلمين ابتدعوا دينا معاديا للنصرانية أيضا، وعزّزا استثارتهما لأحقاد تلك الطبقة الدينية

بأغداق الهدايا الثمينة على رجالها. وهكذا وفّقا إلى إقناع رجال الدين بأن يصطنعوا نفوذهم لدى الملك لتيسير مهمّتهما، ثم اتخذا سبيلهما إلى بلاط النجاشي. وشرحا وجهة نظرهما القائلة بوجوب ردّ المهاجرين المسلمين إلى قومهم، اولئك المهاجرين الذين زعم السفيران انهم ابتدعوا دينا يتعارض مع ديانة العرب التقليدية ومع النصرانية سواء بسواء. عندئذ دعا النجاشي المسلمين إلى بلاطه، وسألهم أن يدلوا بردّهم ويدفعوا عن أنفسهم تهمة الهرطقة المنسوبة اليهم. فنهض أحدهم، جعفر بن ابي طالب، وخاطب النجاشيّ قائلا: «أيها الملك! كنّا قوما أهل جاهلية، نعبد الاصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الارحام، ونسيء الجوار، ويأكل القويّ منا الضعيف، فكنّا على ذلك حتى بعث الله الينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والاوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الامانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكفّ عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات [وأمرنا ان نعبد الله ولا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام فصدّقناه وآمنّا به، واتّبعناه على ما جاء به من عند الله، [فعبدنا الله وحده لا نشرك به شيئا، وحرّمنا ما حرّم علينا وأحللنا ما أحلّ لنا] فعدا علينا قومنا، فعذّبونا، وفتنونا عن ديننا ليردّونا إلى عبادة الاوثان من عبادة الله [وأن نستحلّ ما كنا نستحلّ من الخبائث] . فلما قهرونا وظلمونا وضيّقوا علينا [وحالوا بيننا وبين ديننا] خرجنا إلى بلادك [واخترناك على من سواك] ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك.» وبعد ذلك تلا عليه جعفر

آيات من القرآن الكريم أخذت بمجامع قلب النجاشي*، فقال للوفد القرشي: « [إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة] إنطلقا، والله لا أسلمهم اليكما.» وإذ خاب مسعى السفيرين، فقد حاولا التأتي للأمر بطريقة أخرى. وتفصيل ذلك أنهما عمدا، في اليوم التالي، إلى استثارة غضب الملك بأخباره أن الهراطقة لا يؤمنون بألوهية يسوع. ولكن هذه الخطة أيضا أخفقت إخفاقا كاملا. فقد أقرّ المسلمون بأنهم لا يعتبرون يسوع إلها ولكنهم يعتبرونه نبيا مختارا، فأخذ النجاشي عودا وأشار اليه قائلا: «والله ما عدا عيسى بن مريم مما قال المسلمون هذا العود.» وهكذا رجع الوفد القرشي صفر اليدين. وتعرف هذه الهجرة بالهجرة الاولى إلى الحبشة. وجدير بالذكر ان القرشيين استشعروا قلقا بالغا بسبب من هجرة المسلمين إلى الحبشة. لقد تعقّبوهم بادئ الامر حتى الثغر الذي أبحروا منه لكي يلقوا القبض عليهم، حتى إذا أخفقوا تبعوهم إلى بلاط النجاشي. فما الذي هاج قلقهم إلى هذا الحد؟ أتكون دعاية المسلمين المناهضة للوثنية هي التي أثارت حفيظة قريش هذه الاثارة كلها؟ ولكن المهاجرين كانوا الآن أبعد من أن يؤذوا مشاعرهم من طريق الطعن على آلهتهم. والواقع أن العداء الذي أثارته الخلافات الدينية كان قد أمسى الآن شخصيا. فلم يستطع المكيون أن يطيقوا التفكير في امكان نجاح المسلمين في ما وراء البحار وهم الذين أخرجوهم من منازلهم وديارهم. كانوا قد عقدوا العزم على إهلاكهم، ومن أجل ذلك اجتازوا الطريق

_ (*) تلا جعفر على النجاشي سورة مريم من أولها إلى قوله تعالى: «فأشارت اليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا. قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا. وجعلني مباركا أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا. وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا. والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا.» (المعرب)

كلها إلى بلاط النجاشي للايقاع بهم هناك. ومن أجل هذا السبب نفسه لم يدعوا النبي وأصحابه يرتاحون، حتى في المدينة، دار هجرتهم في ما بعد. ولم يكن في المدينة أيما سلطة تحمي المسلمين من أعدائهم القرشيين المتعطشين للدم، وذلك ما جرّأهم على التفكير بأبادتهم بحدّ السيف. فاذا بغريزة حفظ الذات تدفع المسلمين إلى الردّ على القوة بالقوة دفاعا عن أنفسهم. ومن هنا حدثت تلك المعارك التي خاض المسلمون غمارها كتدبير دفاعي محض. ان قريشا لم تدعهم وشأنهم، حتى بعد أن فصلتهم عن أهلهم وأخرجتهم من ديارهم. وهكذا لم يكن للمسلمين مناص من الدفاع عن أنفسهم ومواجهة مطارديهم على نحو يليق بالرجال. ومع ذلك فهناك نقّاد يتعامون عن هذه الحقائق التاريخية الثابتة، فيزعمون ان النبي كان هو البادئ في شنّ هذه الحرب، ومن أجل ذلك يصمون الاسلام بأنه دين قام بالسيف. والواقع ان أيما شيء لا يمكن أن يكون أبعد من ذلك عن الحقيقة. فالأحداث المتّصلة بالهجرة إلى الحبشة، كما بسطناها في الفقرات السابقة، تلقي ضوآ كافيا على هذه الواقعة الراهنة، وهي ان القرشيين- أيا ما كانت التعاليم الاسلامية، وسواء أمثّلت في نظرهم هرطقة أم لم تمثّل- كانوا مصمّمين على إبادة الجماعة الاسلامية عن بكرة أبيها، بأي ثمن. وحين عاد الوفد القرشي من الحبشة بخفي حنين تخطى غيظهم كل حدّ. لقد واصلوا اضطهادهم للمسلمين في اهتياج مضاعف. كانوا حتى ذلك الحين يشهدون صبر المسلمين على هذه المحن القاسية في دهش عظيم. ولكن الهجرة إلى الحبشة أعطتهم برهانا قاطعا على ان المسلمين مستعدون لمختلف ضروب المخاطر، ولتحمّل كل لون من ألوان التعذيب من أجل عقيدتهم، وعلى انهم لن يحجموا عن خوض غمار المخاطر كلها في سبيل الله. وفوق هذا، فعندما تسامع سائر المسلمين في مكة

بالرعاية الكريمة التي أسبغها النجاشي على اخوانهم شخص عدد منهم في العام الذي تلا إلى الحبشة. وتعرف هذه الهجرة بالهجرة الثانية إلى الحبشة. وبذل القرشيون قصارى جهدهم لكبح جماح هذه الهجرة، ولكن على غير طائل. وباستثناء الاطفال تقاطر على الحبشة مئة مسلم. ومسلمة، رجالا ونساء. ولقد استقروا هناك، جميعا، ما عدا عثمان. وزوجته اللذين عادا إلى مكة بعيد ذلك. ولم يلتحق المهاجرون باخوانهم المسلمين في المدينة إلا بعد انقضاء سبع سنوات على هجرة الرسول من مكة. فقد نصّ صلح الحديبية في العام السادس للهجرة على عقد هدنة بين المسلمين والقرشيين مدتها عشر سنوات. فأتاح ذلك للمسلمين قدرا من السلامة في أرض العرب، ويسّر للمهاجرين إلى الحبشة سبيل العودة إلى أهلهم وعشيرتهم. وان فيه كذلك لدليلا على الحقيقة القائلة بأن المسلمين، حتى في المدينة، لم ينعموا بالأمن حتى السنة السابعة للهجرة، عندما زوّدهم صلح الحديبية بفترة من الراحة قصيرة. ولم ينس المسلمون عطف النجاشي عليهم فبادلوه إحسانا بأحسان. وتفصيل ذلك أن نزاعا نشب بين النجاشي، خلال اقامتهم في مملكته، وبين إحدى الدول المعادية، فلم يكن منهم إلا ان وضعوا أنفسهم تحت تصرف جيشه. ليس هذا فحسب، بل لقد دعوا الله ان ينصره على عدوه. وهذا يظهر أيّ قوم معترفين بالجميل كانوا. إن شعارهم كان، منذ تلك الفترة المبكرة، هو الآية القرآنية التي تقول: «هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ.» * ومن الاحداث المتصلة بالهجرة الاولى إلى الحبشة حادثة يجمل بنا ان نقف عندها. فبعيد هذه الهجرة بقليل نزلت على الرسول سورة «النجم» ** التي وردت في خاتمتها الآية التي تأمر بالسجود لله-

_ (*) السورة 55، الآية 60. (**) هي السورة الثالثة والخمسون.

وكانت هذه أول مرة اصطنع فيها المسلمون «سجدة التلاوة» خلال تلاوة القرآن الكريم، تلك السجدة الشائعة اليوم بين المسلمين. ففيما كان الرسول يتلو هذه السورة سجد حالما انتهى إلى الآية التي تقول: « «فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا» * وتذهب بعض الروآيات الموثوقة إلى ان وثنيي المكيين الذين شهدوا مجلس النبي ذلك اليوم شاركوا في السجود. ذلك بأنهم آمنوا بالله برغم عبادتهم الاوثان. ولكن خصوم الاسلام عمدوا إلى روآية هذه الحادثة على نحو مشوّة. لقد زعموا ان الرسول- وقد بدا له أن من المستحسن ان يصل إلى تسوية مع الوثنيين- قد استرضى في هذه السورة عبدة الاوثان، وهذا هو السبب الذي من أجله سجد الوثنيون في مجلس الرسول. ولكن الروآية التي بني عليها هذا الزعم متهافتة كل التهافت. وليس ثمة أيما روآية أخرى موثوقة عن هذه الحادثة غير الروآية التي أشرنا اليها في الفقرة السابقة. ومجرد عودة المهاجرين من الحبشة لا يظهر ان الرسول كان قد توصل مع المكيين إلى تسوية. وجائز، من ناحية ثانية، ان يكون نبأ سجود الكفار قد أوقع في نفوس القوم أنهم أسلموا، حتى إذا ما تسامع المهاجرون إلى الحبشة بالنبأ عاد بعضهم إلى أرض الوطن. ولكن الواقع ان المهاجرين القلائل الذين عادوا إلى مكة إنما فعلوا ذلك لكي يحدّثوا سائر اخوانهم حديث الأمن والحرية اللذين تمتعوا بهما في ظل النجاشي، ولكي يقنعوهم بسبب من ذلك بمرافقتهم إلى هناك، وذلك ما حدث فعلا في الهجرة الثانية إلى الحبشة.

_ (*) السورة 53، الآية 62.

الفصل الحادي عشر محاولات لإطفاء نور الله

الفصل الحادي عشر محاولات لإطفاء نور الله «وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ «تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا.» (القرآن الكريم، السورة 17، الآية 74) ولم تقتصر المحاولات لوضع حد لانتشار الاسلام على ضروب التعذيب التي أنزلت بالرسول وأصحابه. فقد كانت الطرق التي اصطنعها الكفار لاطفاء نور الله كثيرة متنوعة. كانت الدعوة في بادئ الأمر سرية. ولكن النبي سرعان ما تلقّى الوحي الالهي بأن يعلن دعوته على روؤس الأشهاد وان ينذر عشيرته الاقربين. * ومنذ ذلك الحين جهر بالرسالة

_ (*) «وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ. كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ. الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ. فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ. فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ.» (السورة 15، الآيات 89- 94) . «فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ. وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ. وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ. وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ.» (السورة 26، الآيات 212- 217)

الالهية. لقد صعد الصّفا يوما ونادى: «يا معشر قريش!» قالت قريش: «محمد على الصّفا يهتف.» وأقبلوا عليه يسألون ما له؟ فسألهم الرسول: «هل سمعتموني ذات يوم أقول كذبا؟» فأجابوه بصوت واحد انهم لم يعرفوا منه غير الصدق والامانة. فسألهم الرسول: «أرأيتم لو اخبرتكم ان خيلا بسفح هذا الجبل أكنتم تصدقوني؟» فأجابوه مجمعين: «نعم! أنت عندنا غير متّهم، وما جرّبنا عليك كذبا قط.» قال: «فاني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. [يا بني عبد المطلب، يا بني عبد مناف، يا بني زهرة، يا بني تيم، يا بني محزوم: يا بني أسد. ان الله أمرني ان انذر عشيرتي الاقربين. وإني لا أملك لكم من الدنيا منفعة ولا من الآخرة نصيبا إلا ان تقولوا: لا إله إلا الله] ودعاهم إلى نبذ الوثنية، واجتناب الفواحش كلها، والايمان بوحدانية الله، وانتهاج سبيل الفضيلة. وعندئذ استبد الغضب بهم جميعا، ولكن ابا لهب كان أقساهم عليه وأشدّهم وطأة. [لقد نهض ابو لهب] فصاح: «تبّا لك سائر هذا اليوم، ألهذا جمعتنا؟» وأرتج على محمد فنظر إلى عمه، ثم ما لبث ان جاءه الوحي بقوله تعالى: «تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ. ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ، سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ. وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ. فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ.» * وشيئا بعد شيء أمست عداوة هذا الرجل للرسول أمرّ وأعنف. كان من دأبه ودأب زوجته أن يعذباه بكل وسيلة ممكنة. وفي أيام الحج، حين يجتمع الناس من كل حدب وصوب في بلاد العرب، كان الرسول يطوّف بينهم يدعوهم إلى الدخول في دين الله. وحيثما اتجه كان ابو لهب يمضي على آثاره، ويحرّض الناس أن لا يستمعوا له، لأنه مخالط في عقله. وحين رأت قريش ان ايا من الاضطهاد واقامة العقبات لم يوفق إلى

_ (*) السورة 111، الآيات 1- 5.

كبت الحركة الاسلامية، وان أتباع هذه الحركة لم يبالوا بتحمّل أيما قدر من العنت، من مثل مفارقة ربوعهم الجميلة مؤثرين ذلك على التنكّر للاسلام، عقدوا العزم، سرا، على التخلص من الرسول، مصدر «البلاء» كله وسببه الجذريّ. وهكذا بذلت كل جهد مستطاع للقضاء على حياته من طريق المكر والحيلة، حتى إذا أخفقت هذه الخطة وطنّت قريش النفس على اغتياله في وضح النهار. ولكن القانون الاجتماعي في بلاد العرب كان يلزم كل قبيلة، بمثل عهد الشرف، ان تمنع كل فرد من أبنائها. فخشي القرشيون ان تفضي محاولة اغتيال الرسول إلى حرب أهلية. وهكذا لم يكن بد من الفوز بموافقة ابي طالب، عم الرسول وحاميه، قبل الاقدام على تلك الخطوة الدموية. من أجل ذلك مشى رجال من أشرافهم، كان بينهم أبو جهل، إلى أبي طالب، ولكي يقنعوه بصواب خطتهم الشريرة خاطبوه على النحو التالي: «يا أبا طالب، ان ابن أخيك قد سبّ آلهتنا، وعاب ديننا، وسفّه أحلامنا، وضلّل آباءنا، فإما أن تكفّه عنا، وإما أن تخلّي بيننا وبينه، فأنك على مثل ما نحن عليه من خلاف فسنكفيكه.» بيد ان أبا طالب ردّهم ردا جميلا. وواضح ان التهم التي ساقوها ضد الرسول مبالغ فيها كثيرا. فهو لم يسبّ آلهتم في أيما يوم، ذلك بأن القرآن الكريم يحرم هذا الصنيع تحريما قاطعا: «وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ، كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ.» * وفي امكان المرء ان يراجع القرآن الكريم من الدفة إلى الدفة- وهو الكتاب الذي احتفظ حتى اليوم بصفائه الأصيل كله سليما لم يمسّ- ليستيقن أنه لا يشتمل على كلمة واحدة تهين آلهة الكفّار. كلّ ما يقوله القرآن الكريم عن تلك

_ (*) السورة 6، الآية 108.

الآلهة انها لا تستطيع ان تعود عليهم بأي نفع، أو ان تدفع عنهم أيما ضرّ، وان تعدد الآلهة والوثنية سبيلان وخيمان. [وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ، وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً.] * وإنما عمدت قريش إلى تشويه هذا النص، وأمثاله، وإلباسه صورة السّب لآلهتها، ابتغاء إهاجة ابي طالب وإيغار صدره على محمد. بيد ان الرسول أدى رسالته، كالمعتاد؛ ويوما بعد يوم استحوذت حقيقة الاسلام على عدد من قلوب العرب غير يسير. حتى إذا وجدت قريش أن تحذيرها السابق لأبي طالب لم يلق منه غير التجاهل عقدت النية على معاودة الكرة والالحاف في ذلك حتى يحسم الأمر بالكلّية. فمشى أشرافها إلى أبي طالب، إن لك سنّا وشرفا ومنزلة الأوّل لديه [قائلين: «يا أبا طالب، إن لك سنّا وشرفا ومنزلة فينا،] وقد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على هذا [من شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وعيب آلهتنا،] حتّى تكفّه عنا أو ننازله واياك حتى يهلك أحد الفريقين.» وهذا، إذا جاز التعبير، انذار لأبي طالب بالحرب. وكان الموقف، من غير ريب، بالغ الدقة. لقد وجد ابو طالب نفسه في مأزق حرج، كان أمامه سبيلان: إمكانية الحرب ضد أهله وعشيرته من ناحية وحبّه العميق لابن أخيه من ناحية، فلم يكن من اليسير عليه ان يقرر أيّ سبيل يختار. وفي هذه الحال من القلق والارتباك استدعى محمدا وشرح له الموقف من نواحيه جميعا، وقال له: «أبق عليّ، وعلى نفسك، ولا تحمّلني من الأمر ما لا اطيق. إنه لا قبل لي بمقاومة قريش كلها مجتمعة.» وضع حرج حقا! القبيلة كلها ظمأى للدم، ولولا تدخّل ابي

_ (*) السورة 25، الآية 55.

طالب إذن لقضت على حياته في وضح النهار. ولكن وا أسفا! إنّ باب ابي طالب أيضا ليوشك ان يوصد في وجهه. ولم يبق ثمة أية حماية أرضية تقية غضب عدوّه. ثم إن صحابته الخليق بهم ان يفتدوه بارواحهم العزيزة عليهم كانوا في بلد قصيّ من قارة افريقية. أفيعني هذا شيئا غير الهلاك المؤكد الوشيك؟ ولو قد غار قلب الرسول في صدره اذن لكان ذلك متفقا والسجية البشرية؛ ولو قد حسنّت له غريزة حفظ الذات ان يعقد مع خصومه تسوية، وبذلك ينقذ حياته ويشخص إلى مكان آخر يدعو فيه إلى الايمان بدينه، اذن لكان ذلك جدّ طبيعيّ. ولكن هل يتطرّق مثل هذا النزوع، المبرّر بكل ما في الكلمة من معنى في ظل ملابسات حرجة بهذا المقدار، إلى فؤاد الرسول؟ لا، لم يتطرق اليه طيف من ذلك. فقد كان يعمر نفسه ايمان بالرعاية الالهية لا يتزعزع، فهو لا يتراجع بوصة واحدة عن اداء رسالته التي هي، في الحق، غاية حياته كلها وكينونته كلها. فما ان انطلقت الكلمات المذكورة آنفا من شفتي ابي طالب حتى أعلن في غير ما جعجعة البتّة: «يا عمّ، والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على ان أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته.» ولكن عينيه ما لبثتا ان اغرورقتا بالدمع- بعد ان رأى إلى الخيبة التي أوقعها موقفه في نفس عمه الذي نشّأه في حنان بالغ وبسط عليه حمايته مخاطرا بكل شيء- وانصرف بقلب محزون. ولم يكن أبو طالب قد تخلى عن شكل الديانة الموروثة عن الآباء والاجداد، ولكن خلق الرسول الرفيع كان قد فتنه كثيرا. فبعث في طلب الرسول على التوّ، وقال له مؤكدا: «اذهب [يا ابن اخي] فقل ما أحببت، فو الله لا أسلمك لشيء تكرهه أبدا!» ولم يشكّ القرشيون، إلا قليلا، في أن أبا طالب سوف ينزل عند مطلبهم الموحّد. من أجل ذلك دهشوا دهشا بالغا عندما سمعوا

عزمه على أن يمنع الرسول الكريم بأيّ ثمن. وبدا لهم أن نشوب حرب ضروس في ما بينهم خليق به أن يكون مفعما بخطر عظيم. إن ذلك قد يقتضي على سلطان قبيلتهم وسيادتها إلى الأبد. وهكذا قاموا هذه المرة بمحاولة أخرى لحمل ابي طالب على الاذعان من طريق الاغراء بدلا من حمله على ذلك من طريق الوعيد. لقد مشوا إلى أبي طالب، مصطحبين عمارة بن الوليد [بن المغيرة] وكان فتى وسيما، وطلبوا اليه أن يتخذه ولدا ويسلمهم محمدا قائلين: «إن هذا الفتى أنهد فتى في قريش وأجمله فخذه فلك عقله ونصره واتخذه ولدا فهو لك، وأسلم الينا ابن أخيك هذا الذي خالف دينك ودين آبائك وفرّق جماعة قومه وسفّه أحلامهم، فنقتله فأنما هو رجل برجل!» فأجابهم أبو طالب: «لبئس ما تسومونني! أتعطوني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه!؟ ان ذلك لن يكون أبدا.» وهكذا خاب سعي القرشيين كرة أخرى. وخشي أبو طالب أن يتخذوا اجراآت عنيفة ضد اسرته، بني هاشم، فدعا اليه أعضاء الاسرة كلّهم، وحذّرهم من الخطر المرتقب. فأجمعت آراؤهم على ان الرسول الكريم لن يسلم إلى قريش أيا ما كانت الاجراآت التي قد تتخذها ضد بني هاشم. وباستثناء ابي لهب وحده، الذي كان قد انضم إلى قريش ضدهم، أعلنت الاسرة كلها استعدادها للدفاع عن النبي الكريم بقوة السلاح. إلى هذا الحد كانت شعبية الرسول قوية عند بني هاشم كلهم. لقد بجّلوه جميعا وأخلصوا الودّ له، قلبا وروحا، لخلقه العظيم. ولقد كانوا، برغم خلافاتهم الدينية معه، مستعدين لأن يمنعوه من قريش ولو هلكوا في ذلك. بيد ان القرشيين لم يكونوا قد استنفدوا بعد سبل الوصول إلى تسوية من غير ما لجوء إلى سفك الدماء. كان لا يزال في أيديهم ورقة أخيرة يلعبونها. لقد أثبتت التجربة أن الاضطهاد غير مجد، ولكن

من يدري؟ لعل الاغراء، إذا ما قدّم إلى الرسول الكريم مباشرة، ان يفيد حيث لم يفد الوعيد. وإذ تكشّف ابو طالب وبنو هاشم عن صلابة وعناد، فلم يبق أمامهم غير هذه الطريقة يجرّبونها. وهكذا شكلوا وفدا ابتغاء التفاهم مع الرسول على هذا الاساس، ومشوا إلى النبي [فخاطبه عتبة بن ربيعة، وكان من سادات العرب] بقوله: [ «يا ابن أخي، إنك منا حيث قد علمت من المكان في النسب، وقد أتيت قومك بأمر عظيم فرّقت به جماعتهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورا لعلك تقبل بعضها.] إن كنت إنما تريد بهذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا [حتى تكون أكثرنا مالا] . وان كنت تريد تشريفا سوّدناك علينا، فلا نقطع أمرا دونك. وإن كنت تريد ملكا ملّكناك علينا، [وان كان هذا الذي يأتيك رئيّا تراه لا تستطيع ردّه عن نفسك طلبنا لك الطبّ وبذلنا فيه أموالنا حتى تبرأ.] وان كنت مولعا بالجمال زوّجناك أجمل بنت يقع عليها اختيارك.» مغريات لا سبيل إلى مقاومتها من غير ريب! فما أكبرها نقلة أن ينقلب المرء بين عشية وضحاها من رجل معوز بائس مضطهد إلى عاهل ذي قوة وسلطان. ولكنّ قلب الرسول كان مبرّآ من زيف الوصولية براءة كاملة، فأجاب الوفد القرشيّ بكلام خيّب آماله تخييبا مطلقا، قال: «أنا لا أريد مالا أو سلطانا. لقد بعثني الله نذيرا إلى العالمين، واني لأحمل اليكم رسالته، فاذا آمنتم بها فزتم بالسعادة في هذه الدار وفي الدار الاخرى، وإذا رفضتم كلمة الله فسوف يحكم الله بيني وبينكم.» فكان في هذا ما أحبط آخر محاولة من محاولات قريش للوصول إلى تسوية. لقد أخفق الاغراء اخفاق الاضطهاد. وكان الاضطهاد ثقيلا لا يطاق، ولكن الاغراء كان أقوى من أن يقاوم. ولولا روح الثبات التي نفخها الله في صدر النبي الكريم لكان خليقا بصنوف التعذيب التي أنزلت به وصنوف الاغراء التي أغدقت عليه أن تزحزحه عن موقفه.

ولكنّه لزم ذلك الموقف، ثابتا مثل صخرة، محبطا جميع المحاولات الرامية إلى ثنيه عن اداء رسالته. وإلى هذا يشير القرآن الكريم في الآية التالية: «وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا.» * حتى إذا مني القرشيون بالخيبة في تلك المحاولات جميعا عزموا على اللجوء إلى سلاحهم الاخير. كان ذلك في السنة السابعة للدعوة، وكانت كثرة المسلمين قد وفقت إلى الفرار بأنفسها إلى الحبشة. وكان حمزة وعمر قد اعتنقا الاسلام، وكان ابو طالب قد رفض، صراحة، ان يخذل الرسول نزولا عند مطلب قريش. وباستثناء ابي لهب كان بنو هاشم كلهم قد عقدوا العزم على أن ينصروه ويقاتلوا دفاعا عنه حتى الرجل الأخير. وفوق هذا، فقد راح نور الاسلام ينتشر من قبيلة إلى قبيلة. من أجل ذلك قرر القرشيون ان يفرضوا حرما اجتماعيا على بني هاشم، فلا يتزوجون منهم ولا يزوجونهم ولا يبيعونهم شيئا ولا يبتاعون منهم شيئا. ثم انهم كتبوا صحيفة بهذا المعنى وعلّقوها في [جوف] الكعبة لكي يعطوها معنى القداسة. فلما سمع بنو هاشم بهذا شخصوا إلى موطن منعزل من مكة يعرف بالشعب. ولكن أبا جهل لم يدّخر جهدا للتثبّت من ان المقاطعة تنفّذ تنفيذا دقيقا. فحين حاول حكيم ابن حزام، مثلا، أن يحمل بعض الزاد إلى خديجة، وكانت من أقربائه الأدنين، اعترضاه ابو جهل وصدّه عن سبيله. ولكن عزم بني هاشم لم يتزعزع البتة طوال تلك المحنة القاسية. لقد احتملوا ذلك كله في بشر وابتهاج كرمة للرسول، وهو شيء ما كان خليقا بهم أن يفعلوه لو لم يكنّوا له احتراما عميق الجذور. وخلال فترة المقاطعة لم يتعدّ نشاط الرسول التبشيري جدران الشّعب الأربعة. أما في موسم الحج، وليس يحلّ فيه سفك الدم عند العرب، فكان من دأبه أن

_ (*) السورة 17، الآية 74.

يمضي إلى الكعبة ويدعو الناس المجتمعين ثمة من كل حدب وصوب إلى الدخول في دين الله. فكان ابو لهب يتبعه مثل ظلّه، ويحذر الناس من قبول رسالته. كان يقول لهم ان محمدا كذّاب. وان عليهم ان لا يصدّقوه. وهكذا كان الناس ينتهرون الرسول، حيثما مضى لاداء رسالته، متسائلين لم نبذه أهله أنفسهم إذا كان صادفا في دعواه؟ وعلى الجملة، فقد كانت هذه الفترة فترة محنة كبرى لبني هاشم وتعطيل لكل نشاط دعويّ. وفي غضون ذلك نشأت بين القرشيين معارضة للبأساء التي فرضت على بني هاشم. كان أصحاب القلوب الرقيقة من القرشيين قد شعروا بقسوة المقاطعة وفدحها، وما هي إلا فترة حتى شجبها بعضهم صراحة. وهكذا أجمع خمسة منهم أمرهم [هشام بن عمرو، وزهير ابن أبي أمية، والمطعم بن عديّ، وابو البختريّ بن هشام، وزمعة بن الأسود] وتعاهدوا على رفع الحرم وتمزيق الصحيفة إربا إربا. وفي غضون ذلك تجلّت علامة من العلامات الالهية. وتفصيل الأمر أن الصحيفة المعلقة في جوف الكعبة أكلتها الأرضة. وإنما لفت ابو طالب أنظار زعماء قريش إلى هذه الظاهرة، بوصفها أمارة على غضب الله وعدم رضاه. فتم الاتفاق على ضرورة اعتبار العهد المنصوص عليه في الصحيفة باطلا ولاغيا إذا ما وجد القوم أنها مأكولة. وهكذا مضوا إلى الكعبة ليفحصوا الصحيفة، فوجدوا ان الارضة قد أكلتها فعلا، [إلا فاتحتها «باسمك اللهمّ» ] . * وسارع اولئك الذين

_ (*) ورد خبر ذلك في كتب السيرة على النحو التالي: بعد أن تعاقد الاشراف القرشيون الخمسة على نقض الصحيفة قال زهير بن ابي أمية «أنا أبدؤكم» ، فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم، وغدا زهير وعليه حلة، فطاف بالبيت سبعا، ثم أقبل على الناس فقال: «يا أهل مكة، أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم والمطلب هلكى لا يباعون ولا يبتاع منهم؟ والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة الظالمة القاطعة. فقال ابو جهل بن هشام: «كذبت، والله لا تشق.»

استشعروا قسوة المقاطعة وفدحها إلى اغتنام هذه الفرصة. فتقلدوا سلاحهم ومشوا مجتمعين إلى باب الشّعب وأعلنوا على رؤوس الاشهاد معارضتهم لعهد المقاطعة. ثم انهم اخرجوا المسلمين من الشّعب وارسلوهم إلى بيوتهم. فلم يؤانس ايما امرئ في نفسه الجرأة على إبداء أيما مقاومة. وكانت المقاطعة قد استمرّت ثلاث سنوات. وبعيد مغادرة الشّعب مباشرة، لحق عم النبي ابو طالب، الذي كان حتى تلك اللحظة دعامته وسناده، بالرفيق الأعلى. صحيح انه لم يعتنق الاسلام، ولكن الرسول الكريم كان يكنّ له حبا عميقا. وهكذا كانت خسارته إياه صدمة قوية له. ولكن المصائب، كما يقولون، نادرا ما تأتي فرادى. فما هي غير فترة يسيرة حتى توفيت أيضا السيدة خديجة، زوجه الأمنية وصديقته الأكثر وفاء وإخلاصا. كانت طوال عهده بها قد خدمته من صميم فؤادها، وكانت أبدا مصدر سلوان له لا ينضب، في لحظات الحزن والأسى. ولقد مني بوفاتها بخسارة لا تعوّض. وإنما أصيب الرسول بكلتا هاتين الصدمتين في العام العاشر للدعوة، ذلك العام الذي عرف بسبب من ذلك، في التاريخ الاسلامي، ب «عام الحزن» . وبفقدان هذين المعزّيين والنصيرين الكبيرين تعيّن على الرسول الكريم أن يواجه مصاعب أدهى وأمرّ. لقد آذنت وفاتهما باستهلال عهد من البلاء جديد.

_ فقال زمعة بن الاسود: «أنت أكذب، ما رضينا كتابتها حيث كتبت.» فقال ابو البختري: «صدق زمعة لا نرضى ما كتب فيها ولا نقر به.» وقال المطعم ابن عدي: «صدقتما وكذب من قال غير ذلك! نبرأ إلى الله منها ومما كتب فيها.» وقال هشام بن عمرو نحوا من ذلك. فقال ابو جهل: «هذا أمر قضي بليل تشوور فيه بغير هذا المكان، وابو طالب جالس في ناحية المسجد. فقام المطعم بن عدي إلى الصحيفة ليشقها فوجد الارضة قد أكلتها إلا فاتحتها «باسمك اللهم» . (المعرب)

الفصل الثاني عشر العهد المكى المتأخر

الفصل الثّاني عشر العهد المكىّ المتأخّر «وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ «الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها، وَإِذاً «لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا.» (القرآن الكريم، السورة 17، الآية 76) كان على الرسول الآن ان يواجه، في اداء رسالته، عقبات أعظم من تلك التي واجهها في ما مضى. فقد انحسر الآن بعد وفاة ابي طالب وخديجة كل كبح قدّر لهما ان يفرضاه على خبث قريش ونزوعها إلى الشرّ. ذلك بأن أيدي القرشيين أمست منذ اليوم طليقة، فهم يستطيعون أن يخاشنوا الرسول ما شاء لهم حقدهم وضغينتهم. ولكن ايمان الرسول بالنصر المطلق لم يتزعزع، برغم الوضع المظلم، البتة. وفيما كان في بعض الطريق، ذات يوم، رمى [أحد سفهاء قريش] على رأسه ترابا، حتى إذا انقلب إلى داره انشأت ابنته [فاطمة] تغسل

رأسه وتذرف الدمع، في الوقت نفسه، جزعا على أبيها الحبيب من هذا البلاء. فواساها الرسول قائلا: «لا تبكي يا بنيّة، فأن الله مانع أباك!» إلى هذا الحد كان ايمانه بنجاح رسالته النهائي راسخ الجذور، في وجه هذه المعارضة العنيدة! ولم تراوده في أيما لحظة فكرة الشخوص، مثل سائر صحابته، إلى الحبشة حيث كان خليقا به ان يجد مفزعا آمنا. ولم يخامره اليأس، لحظة واحدة، من اخراج الارض التي ولد عليها من الظلمات إلى النور. فقد كان على مثل اليقين من ان الجزيرة سوف تدرك، ذات يوم، حقيقة الاسلام، إن عينه استطاعت، برغم ما اكتنفه من ضباب الاحداث الموئسة، أن تلمح شعاع أمل. كان الايمان بأن أعداءه الألداء سوف يصبحون، ذات يوم، أصدقاءه المتفانين، عميق الجذور في فؤاده. بيد أن قسوة قلوب المكيين اكرهته على الالتفات نحو الطائف، حيث رجا أن يعيره القوم أذنا واعية. فمضى إلى هناك، يصحبه زيد، واتصل بثلاثة من أشراف [ثقيف] ، وكانوا أخوة، [وهم عبد يا ليل، ومسعود، وحبيب، أبناء عمرو بن عمير] ، [ودعاهم إلى الله] ، ولكن الاخوة الثلاثة أعاروه، ويا لخيبته المريرة، أذنا صماء. ولبث ثمة نحوا من عشرة أيام بلّغ خلالها رسالته أناسا كثيرين، ولكنهم ردّوه- واحدا بعد آخر-[ردّا قبيحا] . لقد سخروا منه، في كل مكان، قائلين ان عليه، إذا كان صادقا في دعواه، أن يقنع عشيرته الأقربين أولا. وأخيرا سألوه أن يفارقهم، حتى إذا غادر البلدة أغروا به سفهاءهم فتبعوه ساخرين صائحين. لقد اصطفّوا على الطريق من جانبيها حتى مسافة بعيدة، ورشقوه بالحصى على رجليه. وحين سال الدم منه وعجز عن مواصلة السير، حاول أن يجلس فأقبل عليه أحد السفهاء فرفعه من يده وصاح به: «تابع سيرك، فليس لك حق في الاستراحة هنا.» وظل على هذه الحال، حتى اجتاز ثلاثة أميال كاملة، وأمطر

بوابل من الحجارة إثر وابل، إلى أن تلطّخت نعلاه نفساهما بالدم. وأخيرا، بعد أن تركه معذّبوه وشأنه، جلس [إلى ظل شجرة] في حديقة التماسا لشيء من الراحة. ورثا لحاله صاحب تلك الجنينة، عتبة ابن ربيعة، برغم انه كان كافرا، فبعث له بقطف من عنب [الحائط] مع مولاه النصراني عدّاس. فبسط الرسول يده إلى قطف العنب ونطق بهاتين الكلمتين: «باسم الله» ، وهما كلمتان يفترض في كل مسلم أن يردّدهما كلما باشر عملا من الأعمال. ودهش العبد النصراني لدن سماعه تينك الكلمتين، [وقال: «هذا كلام لا يقوله أهل هذه البلاد!» فسأله الرسول عن بلده ودينه، فلما علم انه نصرانيّ نينويّ قال له: «أمن بلدة الرجل الصالح يونس بن متّى؟» فسأله عدّاس: «وما يدريك ما يونس بن متّى؟» فقال الرسول: «ذاك أخي كان نبيا وأنا نبيّ» فأكبّ عدّاس على محمد يقبّل رأسه ويديه وقدميه] ، وبلّغه محمد رسالة الاسلام، فشرح الله صدره للحق، على التوّ. وإذ ألفى الرسول ان البشر يردّونه في كل بقعة، توجّه إلى الله الكليّ القدرة يلتمس منه العون في غمرة عجزه المطلق ذاك. ولكن صلاته لم تكن تعبيرا عن مشاعر القنوط والفجيعة، فقد كانت هذه المشاعر غريبة عليه بالكليّة. كان قلبه احفل بالايمان في العون الالهي من أن يجأر قائلا: «الهي! الهي! لم خذلتني؟» لا، لقد خاطب الله على النحو التالي: - «اللهم اليك أشكو ضعف قوّتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين. انت رب المستضعفين، وانت ربي. إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهّمني، أو إلى عدوّ ملّكته أمري؟ إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر

الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك أو تحلّ عليّ سخطك. لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك!» ألا ليت كان ثمة في بعض الصدور البشرية قلب رقيق لكي يدرك صفاء الروح التي اطلقت العنان لمشاعر في مثل هذا السموّ كله، وسط ظروف في مثل هذه القسوة كلها! وهل يتصور العقل ان في ميسور دجال من الدجالين ان يصدر قلبه عن هذه الأحاسيس النبيلة إلى هذا الحدّ، وبخاصة حين يعبّر عنها بعد معاناة هذا البلاء العظيم مباشرة؟ يا للهدوء الأعجوبيّ الذي احتمل به كل هذه المشاق التي لا يطيقها ابن انسان على وجه الارض البتة! أجل، لقد احتمل، بثبات مذهل، جميع تلك المصاعب التي كان خليقا بها ان تغري أيما امرئ آخر بالانتحار. أيّ ايمان راسخ بالله كان ايمانه، واي اذعان بهيج للمشيئة الالهية كان اذعانه، وأيّ سعادة روحية محضة كانت سعادته! إن هذه كلها، كذلك قال، لم تكن شيئا مذكورا ما دام يتمتّع برضا الله وارتياحه. وما هي غير أيام قليلة حتى انقلب إلى مكة بعد أن تعهّد المطعم ابن عديّ بأن يمنعه من عدوّه. وهناك ارتقب أن يرشده الوحي الالهي إلى السبيل التي يحسن به أن يسلكها: أيهاجر من مكة أم يقيم فيها؟ حتى إذا دخل الناس في موسم الحج، عرض نفسه على كلّ قبيلة من القبائل التي تقاطرت إلى هناك من أقطار بلاد العرب جميعا، [يدعوها إلى الحق، ويخبرها انه نبي مرسل ويسألها ان تصدّقه] . ولكنه كان كلما خاطب جماعة منهم، شارحا لها المبادئ الاسلامية، تبعه أبو لهب، سائلا الناس ان لا يصدّقوه، لأنه مبتدع يريد الإطاحة بسلطان «اللات» و «العزّى» الروحي. وهكذا لم يوفّق إلى اثارة اهتمام القوم إلّا قليلا. وردّته بعض القبائل ردا قبيحا. ولكنه لم ييأس. وعبّرت إحدى القبائل عن إعجابها بتعاليمه، ولكنها

اعتذرت بعجزها عن التنكّر لدين آبائها دفعة واحدة. وتساءلت قبيلة أخرى [بنو عامر] هل سيكون لهم في حال انتصاره نصيب في الملك الذي سيتمّ له إذا ما أيدته ودخلت في دينه، فأجابهم الرسول بقوله ان الله يؤتي الملك من يشاء [فلووا عنه وجوههم وردّوه كما ردّه غيرهم] . وهذه الحادثة، برغم تفاهتها، تغني عن مجلدات تؤلّف في نزاهة النبي واخلاصه. فلو قد كان السلطان الشخصي هو هدفه، كما زعم الزاعمون في كثير من الاحيان، اذن فما الذي كان يمنعه من اكتساب قبيلة برمّتها بمجرد إعطائها وعدا بتحقيق ما طلبت؟ ولكن الواقع هو أن الفوز بالسلطة الزمنية لم يكن في أيما يوم هدف جهوده. كان قلبه يتفطّر في جوانحه أسى على تفسّخ البشرية وانحطاطها. وكان السموّ بالانسان في مراقي انسانيته هو هدف حياته الأوحد. وكان يتطلّع في لهفة إلى العون الالهي، وهو عون لم يشكّ الرسول لحظة في انه آت لا محالة، أما متى سيتمّ ذلك فهذا ما لم يستطع تحديده. وفيما الرسول يبشّر مختلف القبائل بالاسلام، خلال موسم الحج، التقى مصادفة ببضعة رجال من الخزرج، إحدى قبائل المدينة. وبعد أن استيقن انهم خزرجيون، سألهم ما إذا كانوا من عشراء اليهود، فأجابوه أن نعم. ثم إنه بسط لهم رسالة الاسلام. وإذ كانت لهم صلة بالاوس والخزرج، واذ كانوا قد عاشوا في المدينة التي اشتمل سكانها على عدد من اليهود كبير، فقد سبق لهم أن سمعوا ان أوان ظهور النبي الموعود الذي تنبأت به كتب اليهود المقدسة أمسى قريبا. وهكذا فأن دعوى الرسول انه هو ذلك النبي الموعود لم تكن مفاجأة لهم البتة. وبفضل التعاليم الاسلامية التي شرحها الرسول لهم، وهي تعاليم ذات جمال فطريّ، من ناحية، وبفضل توقّعهم مجيء ذلك النبي، من ناحية ثانية، وقع في نفس اولئك الخزرجين أنه كان هو النبي حقا. ومن

هنا دخل الرجال الستة كلهم في الاسلام. وإنما حدث ذلك في السنة العاشرة من الدعوة. حتى إذا انقلبوا إلى المدينة سادتها حماسة بالغة للدين الجديد، وغدا اسم الرسول على كل شفة ولسان. وانضوى تحت راية الاسلام عدد من أهل المدينة كبير، وفي العام التالي شخص إلى مكة اثنا عشر منهم لاداء فريضة الحج. وبايعوا الرسول، في مكان يعرف بالعقبة «على أن لا يشرك أحدهم بالله شيئا، ولا يسرق، ولا يزني، ولا يقتل أولاده، ولا يأتي ببهتان يفتريه بين يديه ورجليه ولا يعصيه في معروف، [فأن وفى ذلك فله الجنة، وإن غشي من ذلك شيئا فأمره إلى الله، ان شاء عذّب وان شاء غفر] . وتعرف هذه البيعة ب «بيعة العقبة الأولى» . وأنفذ الرسول معهم مصعب بن عمير [ليقرئهم القرآن] ويعلّمهم الاسلام. وبفضل حهود مصعب انتشر الاسلام في المدينة انتشارا سريعا. فدخل في الدين عدد من وجوه الاوس والخزرج، بحيث وفد على مكة، في موسم الحج التالي، جماعة منهم كبيرة بلغت عدّتها خمسة وسبعين مسلما: ثلاثة وسبعين رجلا وامرأتين اثنتين. ولقيهم الرسول، ذات ليلة، في المكان نفسه: العقبة. وكان عمه العباس، وكان لا يزال على دين قومه، يصحبه في هذا اللقاء، وكان أول من تكلم فقال: « [يا معشر الخزرج] ، ان محمدا منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه، وهو في عز من قومه ومنعة في بلده. وقد أبي إلا الانحياز اليكم واللحوق بكم. فأن كنتم ترون انكم وافون له فيما دعوتموه اليه ومانعوه ممن خالفه فأنتم وما تحمّلتم من ذلك، وان كنتم مسلميه وخاذليه بعد خروجه اليكم فمن الآن فدغوه. إننا نرحب باصطحابكم إياه شريطة أن تكونوا على استعداد للصمود في وجه المقاومة المشتركة من جانب العرب وغير العرب.» فأجاب أهل المدينة، الذين عرفوا بعد في التاريخ الاسلامي

ب «الانصار» : [سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله، فخذ لنفسك ولربك ما أحببت] فأجاب محمد [بعد أن تلا القرآن ورغّب في الاسلام] : «أبايعكم على ان تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأولادكم.» عندئذ مدّ زعيمهم، البراء بن معرور، يده إلى الرسول وبايعه على ذلك قائلا: «بايعنا رسول الله، [فنحن والله أبناء الحروب وأهل الحلقة ورثناها كابرا عن كابر] » . حتى إذا تم ذلك [وفرغوا من البيعة، قال لهم النبي: «أخرجوا لي منكم اثني عشر نقيبا يكونون على قومهم بما فيهم كفلاء. فاختار القوم تسعة من الخزرج وثلاثة من الاوس، فقال النبي لهؤلاء النقباء: «أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم، وأنا كفيل على قومي. وكانت بيعتهم الثانية هذه أن قالوا: «بايعنا على السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا، ومنشطنا ومكرهنا، وان نقول الحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم.» ] فواضح اذن أن الرسول إنما توجّه إلى المدينة بدعوة من اهلها أنفسهم. وكان مألوفا في بلاد العرب، كلما انضمّ عضو من قبيلة ما إلى قبيلة أخرى أن يأخذ أفراد القبيلة الأخيرة على أنفسهم عهدا بحمايته، إذ كان العرف يقضي بأن تكون القبيلة مسؤولة عن حماية أبنائها دون غيرهم من الناس. ويستفاد من الحدث الذي وصفنا في السطور السابقة ان الرسول علم علم اليقين، كما علم العباس، ان المكيين لن يدعوه وشأنه حتى في المدينة نفسها. ومن هنا كان لا بدّ من أخذ العهد على «الأنصار» بأن يمنعوا الرسول إذا ما شنّ أعداؤه هجوما على المسلمين. وكان هذا التوقع في محلّه، ذلك بأن المكيين كانوا قد قدّموا براهين كافية على خبثهم حين ذهبوا إلى حد تعقّب المهاجرين المسلمين حتى بلاد الحبشة نفسها. وإنما يعرف هذا ببيعة العقبة الثانية، التي تمّت في العام الثاني عشر للدعوة. وإذ أحيط التفاهم الذي تمّ

الوصول اليه والبيعة التي أخذت بستار من الكتمان كثيف، فأن أحدا لم يطّلع عليهما غير العبّاس وقلة قليلة من المسلمين. وحتى أهل المدينة غير المسلمين لم يعرفوا ما الذي حدث على وجه الضبط. وهكذا عجز المكيون عن الفوز بأية معلومات حتى من هؤلاء. ولكن ما إن انقضى موسم الحج، وغادر الناس مكة، حتى ذاع النبأ، ذلك بأن الرسول نفسه لم يكن شديد الحرص على كتمانه. وانطلق المكيون يتعقّبون القافلة المدينية، ولكنهم لم يستطيعوا أن يدركوها. وأمسكوا برجلين اثنين، ففرّ أحدهما، على حين اقتيد الآخر، سعد بن عبادة، حتى مكة نفسها. ولكن سعدا كان قد أسدى إلى بعض المكيين في المدينة خدمة جليلة، فشفع له عند خصومه فأطلقوا سراحه. ومنذ ذلك الحين هاجر صحابة الرسول إلى المدينة، جماعات صغيرة، في كتمان تام عن المكيين. وأخيرا حان الوقت الذي خلّف فيه الرسول في مكة وليس معه غير اثنين من أصحابه، أبو بكر وعليّ، بعد أن وصل سائرهم إلى المدينة. وهذه الواقعة تلقي ضوآ إضافيا على ما عمر صدر الرسول من ايمان بالله وطيد. كانت عداوة المكيين له تتعاظم حدّتها يوما بعد يوم. ذلك بأن ترسّخ الاسلام التدريجي في المدينة اذكى غيظهم وأرّثه. وإذ كان الرسول وحيدا، أو يكاد، وسط أعدائه الألداء فقد تعرّض لخطر عظيم. ومع ذلك فأنه لم يقلق على نفسه بقدر ما قلق على أصحابه، الذين بعث بهم إلى موطن آمن على حين تخلّف هو وسط عدوّه المتعطشين إلى الدم. كان محاطا من جميع اقطاره بمثل اولئك الأعداء، الذين لم تزدهم هجرة المسلمين إلى المدينة ورسوخ قدمهم هناك إلا ضراوة على ضراوة. وفي هذا دليل لا يتّهم على عمق ايمان الرسول بالرعاية الالهية. لقد كان في طوقه أن يشخص إلى المدينة قبل أي امرئ آخر. وما كان أحد من أصحابه ليتذمر من مثل هذا المسلك، إذ كان كل منهم يعلم ان سلامة دينهم، الاسلام، الذي كانوا على

استعداد للتضحية من أجله بكل ما يملكون، رهن بسلامة الرسول. ولكن حبه العميق لصحابته أورثه قلقا عليهم أعظم من قلقه على نفسه. وهكذا وجّههم جميعا إلى المدينة، وبقي هو في مكة- يحيط به أعداء ألدّاء، مظهرا بذلك بالغ حرصه على سلامة أصحابه، وثقته الوطيدة بالعهد الالهي في ما يتصل بسلامته الشخصية.

الفصل الثالث عشر الهجرة

الفصل الثّالث عشر الهجرة «إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ «أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ «إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ «لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا، فَأَنْزَلَ «اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ «لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ «كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ «الْعُلْيا، وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.» (القرآن الكريم، السورة 9، الآية 40) وكرّت الأيام. وأطلّ العام الثالث عشر للدعوة، والرسول- وليس معه من صحابته غير أبي بكر وعليّ- متلبّث بمكة وسط أعدائه. كان سائر صحابته قد ودّعوا ديارهم وفزعوا إما إلى الحبشة وإما إلى

المدينة. ولكن محنة الرسول الكبرى لم تكن قد أزفت بعد. وإذ غودر على هذه الحال، سأله أبو بكر غير مرة ان يهاجر إلى المدينة، ولكن الرسول أجابه بقوله إن الله لمّا يأمره بذلك بعد. وهنا أيضا كانت تكمن حكمة إلهية تجلّت في قرار قريش النهائي. فحتى ذلك الحين، كان المكيون قد بذلوا جهودا فردية للتخلص من الرسول، وكانت تلك الجهود كلها قد منيت بالاخفاق. لقد قاوموه أشدّ مقاومة، واضطهدوه أقسى اضطهاد. ولكن كأس جرائمهم كانت ما تزال في حاجة إلى قطرة واحدة حتى تطفح. وأخيرا أزفت الساعة. وإذ ألفوا الرسول وحيدا، أو يكاد، عقدوا مؤتمرا كبيرا في دار النّدوة، حيث تعوّدوا أن يناقشوا مختلف القضايا القومية ويبتّوا فيها. وإنما اجتمع زعماء قريش هناك ليتشاوروا في ما ينبغي أن يفعل بالرسول. فاقترح بعضهم أن يحبس في الحديد، ويطرح في غيابة قبو، ويجوّع حتى الموت. ولكن هذا الاقتراح لم يحظ بالموافقة، على اعتبار ان صحابته قد يمسون أقوياء ذات يوم، وقد يوفّقون إلى اطلاق سراحه. واقترح آخرون ان ينفى من البلاد، ولكن هذا الاقتراح أيضا لم يقترن بالموافقة، خشية ان يتمكن الرسول، حيثما أبعد ونفي، من اكتساب قلوب القوم بتعاليمه المؤثّرة، وخشية ان تتمّ له هناك قوة تمكّنه آخر الأمر من التغلب على قريش في يوم من الايام. وأخيرا اقترح ابو جهل ان يختار من كل بيت من بيوتات قريش فتى شاب جليد كريم المحتد وان يعطى كل منهم سيفا باترا، فيضربوه جميعا ضربة رجل واحد. وهكذا يتفرق دمه بين القبائل، ولا تحمّل أيما قبيلة مفردة جريمة قتله. ويقنع بنو هاشم عندئذ بالدية بدلا من الثأر. وحظي هذا الاقتراح بقبول اجماعي. وفيما كان القرشيون يستكملون خطتهم هذه نزل الوحي على الرسول فأعلمه بالذي بيّتت له قريش، وأمره بأن لا يلزم فراشه تلك الليلة. ودعا الرسول عليّا، فحدّثه حديث الأمر

الالهي، وكلّفه ان [يتسجّى برده الحضرميّ الاخضر] وينام في فراشه، وأمره بأن يتخلف بعده في مكة حتى يؤدي عنه، صباح اليوم التالي، ودائع كانت عنده للناس، على أن يلحق بعد ذلك بالرسول إلى المدينة. ويا لها من ثقة لا تتزعزع بأمانته وطهارة ذمته! إن الناس لم يكفّوا عن ايداعه ودائعهم برغم مقاومة قريش العنيدة له! ومن أجل ردّ هذه الودائع امر عليا بالتخلّف في مكة، في حين كلف أبا بكر باعداد العدة الضرورية للرحيل، ذلك بأن الله كان قد أذن له في الهجرة. فلم يكد ابو بكر يتلقى هذا التكليف حتى ذرف دموعا ساخنة من فرط الجذل. ولكن علام هذا الابتهاج العارم كله في وجه المحن وضروب البلاء؟ إنما كان ذلك لمجرد انه سوف يرافق ذلك الذي طالما تاق ابو بكر في نفاد صبر إلى افتدائه بكل ما يملك. وكان ابو بكر، في الواقع، قد أعدّ راحلتين ارتقابا لهذه الساعة. وبعد أن تزوّدا بمختلف الضروريات الأخرى تواعدا على اللقاء في مكان بعينه. وما إن هبط الغسق، حتى القت عصبة المسلحين- المختارين من بين البيوتات القرشية كلها- الحصار على بيت الرسول، واستعدوا للانقضاض عليه حالما يغامر بمغادرة البيت. فقد كان مما يتعارض ومفهوم العرب للفروسية ان يقتل أيما امرئ داخل جدران منزله الأربعة. بيد ان عليا، المكلّف بردّ الودائع إلى أصحابها، كان في فراش الرسول. وهذا ما أوهم القرشيين بأن الرسول كان هناك، وخدّرهم بشعور من الاطمئنان إلى ان الضحية التي يريدون كانت في قبضة يدهم. وفي غضون ذلك، وبعد أن أدرك الرسول ان العتمة قد تكاثفت غادر بيته- واثقا من ان يد الله، الذي حماه طوال هذه السنوات الاثنتي عشرة وسط أعدائه سوف تحميه الآن أيضا- واندفع شاقا طريقه بين المتربصين به لقتله، ومضى إلى بيت ابي بكر وفقا للتدبير المقرّر. ثم إن الرجلين انطلقا نحو المدينة، فبلغا غارا يعرف ب «غار ثور» ، على مبعدة ثلاثة أميال

من مكة. ودخل ابو بكر الغار أولا، فنطّفه، وسدّ الثقوب التي استطاع تلمّسها في الغار المظلم. ثم ان الرسول تبعه فدخل الغار. وهكذا فأن الغارين يحتلان مركزا هاما في الاسلام. ففي غار حراء هبط الوحي أول ما هبط على الرسول الكريم، وها هو الاسلام يولد الآن من جديد في غار ثور. إن الهجرة يوم مشهود في تاريخ الاسلام إلى درجة جعلت المسلمين يستهلّون تقويمهم بها. ومن هنا، ففي طوق المرء ان يقول ان الاسلام انبثق من هذين الغارين. وفي اليوم التالي، عند انبثاق الفجر، ذهل القرشيون إذ ألفوا عليا يغادر فراش الرسول. وأجريت تحريّات دقيقة في كل مكان، ووضعت جوائز ضخمة. وانتهت جماعة من مطاردي الرسول وصاحبه، المتعقبين آثارهما، إلى فم الغار نفسه. حتى إذا سمع ابو بكر وقع أقدامهم، تملّكه الأسى، لا جزعا على نفسه، ولكن جزعا على الرسول الذي كانت حياته أعزّ عنده من حياته هو. يا لها من لحظة حرجة! كان سيف العدو المتعطش إلى الدم مصلتا فوق رأسيهما. وكانت نظرة واحدة يختلسها ذلك العدو إلى داخل الغار كافية لأن تجعل الصاحبين يوقنان انهما لا بدّ هالكان، وان جسديهما لا بد سيمزقان إربا إربا. وفي مثل هذه الحال يغور أشجع الافئدة، ويذهل ارجح العقول وأشدها هدوآ. إن العدو لمصمّم على قتلهما، وان الموت ليحدّق اليهما في وجهيهما. وليس إلى الفرار سبيل، ولم تبق ثمة أيما حماية أرضية. في هذه الساعة البالغة الحرج، الراشحة باليأس المطلق، انطلقت هذه الكلمات، دون غيرها، من شفتي الرسول: «لا تحزن، ان الله معنا!» ... كلمات تنبئ عن قلب عامر بالطمأنينة والسكينة. وليس من ريب في أن هذا الصوت لا يمكن أن يكون منطلقا من باطن. ذلك بأن قلب مخلوق بشري فان، كالرسول، ما كان في ميسوره ان يحتفظ- من غير ما عون الهي- بمثل هذا الهدوء المطمئن، في مثل

هذه الاحوال الخطرة حتى التطرف. إنه لم يكن صوتا منبعثا من باطن، لا، لقد كان هو الصوت العلوي، صوت الله، رب العالمين، أقبل ليواسي ويطمئن قلبا معذبا في سبيله. ومن غير الله، العليم بكل شيء، يستطيع أن يؤكد أن الاعداء، برغم وصولهم إلى فم الغار نفسه، لن يستطيعوا أن يدركوهما؟ وسلخ الرسول في الغار ثلاثة أيام بلياليها. وكان [عبد الله] بن ابي بكر [يتسمّع لهما ما يقول الناس فيهما نهاره، ثم يأتيهما إذا أمسى بما يكون في ذلك اليوم من الخبر] . وكانت ابنة ابي بكر، أسماء، تحمل اليهما الطعام [إذا أمست] . وكان مولاه، عامر بن فهيرة، يرعى غنمه فيسوقها إلى فم الغار فيحلبها لنزيليه. حتى إذا سكن الناس عنهما غادرا الغار في اليوم الرابع. وكان دليلهما في رحلتهما الآن رجلا غير مسلم يدعى عبد الله بن أريقط. واردف ابو بكر خلفه عامر بن فهيرة. وفيما هم في بعض الطريق غدت الحرارة لاهبة، فكفّوا عن السير التماسا للراحة. وهنا أخذ أبو بكر يكنس الأرض، في ظل صخرة، ونشر رداءه للرسول ليستلقي عليه، وانطلق يبحث عن شيء من طعام. وإذ مرّ ببدويّ يرعى شياهه، نظّف ثدي واحدة منها وحلبها في وعاء نظيف، ثم غطاه بقطعة من قماش، وحمله إلى الرسول. فقد كان أصحاب الرسول يعلمون مقدار حبه النظافة. وكانت قريش قد جعلت لكل من يردّ الرسول اليهم جائزة مقدارها مئة ناقة. وكان بين الذين انطلقوا للبحث عنه، طمعا في الجائزة، رجل اسمه سراقة بن مالك [بن جعشم] . فأنبأه رجل [من قريش] انه رأى ركبة ثلاثة متجهين إلى المدينة. وكان سراقة رجلا قويّ البنية. ومن غير ان يشعر بذلك أحدا، ليس درعه، وامتطى صهوة فرس جدّ رشيق، وانطلق يطاردهم. وفي بعض الطريق كبا الفرس، فألقى سراقة من فوق ظهره. وحين استقسم بالأزلام ليرى ما إذا كان عليه

ان يواصل المطارده أم لا، جريا على مألوف عادة القوم في مثل تلك الأحوال، جاءه الجواب بالنفي. ولكنه لم يبال بالنذير، فواصل الطّراد، ولكن الفرس كبا من جديد، وجاءت نتيجة الاستقسام بالنفي كرة أخرى. ومع ذلك فقد امتطى صهوة فرسه وانطلق به بأقصى السرعة حتى أمسى على مقربة من الرسول دانية، وكان على وشك ان يرميه بسهم عندما كبا الفرس كرة ثالثة، وغاصت قوائمه هذه المرة في الرمل. وفي حديث سراقة عن هذه الحادثة، بعد، قال: «عندئذ تجلى لي ان الله قضى بأن تنتصر قضية الرسول.» وهكذا اطّرح نيّة القتل، وأقبل على الرسول بقلب نادم، وسأله ان يغفر له، فلا يعاقب على فعلته حين ينتهي الرسول إلى مقام السلطة. فكتب له الرسول العهد الذي طلبه. وكان الصحابة يحتفظون في متناولهم، على نحو موصول، بأدوات الكتابة من أقلام وحبر لكي يدوّنوا الوحي الالهي حال نزوله على الرسول. ليس هذا فحسب، بل لقد بشر سراقة بأنه سوف يلبس دمالج كسرى الذهبية في يوم من الأيام. وكانت هذه رؤيا رائعة للحادثة التي كان مقدّرا لها أن تقع بعد اربع وعشرين سنة تقريبا ... وهي حادثة تستعصي على ملكة التخيّل عند الانسان، وبخاصة إذا كان صاحبها رجلا ينجو بنفسه من القتل. ففي مثل هذه الحال اليائسة يعلن الرسول، وحياته تتأرجح في الميزان، النبأ السعيد القائل بأن مملكة الاكاسرة سوف تؤول اليه. وقد تحققت نبوءة الرسول تلك، في خلافة عمر، عندما سقطت فارس في أيدي العرب، واستدعي سراقة ليحلّى معصماه بدمالج الاكاسرة. وإنما يرجع ثبات الرسول الاعجوبي، الذي أظهره وسط تلك المخاطرة الغامرة، إلى ما كان ينزّل عليه بين الفينة والفينة، من وحي الهي قصد به إلى التسرية عنه. وكان قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِي

فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ.» * (أي إلى مكة) تعزية أخرى تلقّاها الرسول خلال هجرته إلى المدينة. والواقع، ان الهجرة لم تكن شيئا غير متوقّع عنده. فقد أعلم منذ عهد بعيد أنه سوف يضطر إلى مغادرة مكة، وان نجم الاسلام سوف يبزغ من موطن آخر. والقرآن الكريم حافل بالنبوآت التي تفيد هذا المعنى. فلحظة كانت عاصفة المقاومة في ذروة قوّتها، ومحنة الرسول في أوج قسوتها، نزل الوحي بأن الاسلام لا بدّ أن ينتصر آخر الأمر، وحتى ولو افرغ اعداؤه كامل قواهم في قتاله. والحق ان قصص الأنبياء السابقين، والمعارضة التي جابهوها، ونجاحهم النهائي، كما رواها القرآن الكريم، إنما نزّلت في هذه الفترة من حياة الرسول كضرب من العزاء لتثبيته في وجه ضروب البلاء التي قاساها. وقبيل الهجرة رأى في ما يراه النائم انه هاجر إلى موطن غنيّ خصب. ولم يكن ذلك الموطن غير المدينة، التي لا تزال إلى اليوم شهيرة بجنائنها. إن السابقين من المسلمين لم يغفلوا عن ادراك اثر الهجرة في انتصار الاسلام؛ لقد علموا علم اليقين أن ذلك الانتصار كان رهنا بتلك الحادثة الحاسمة. وهكذا اعتبروها مولدا للاسلام، فاذا بالتقويم الاسلامي- كما سبقت منا الملاحظة- يبدأ لا من النداء الالهي الأول الذي تلقّاه الرسول في غار حراء، ولكن من هجرته إلى المدينة. من أجل ذلك يشير القرآن الكريم إلى هذه الحادثة بوصفها شاهدا على ان يد الله المسعفة كانت من وراء الاسلام، وانها كانت أيضا ضمانا لانتصاره النهائي. فهو يقول ما تفسيره: إن لم ينصره المكيون فقد نصره الله في محنته العظمى عندما تعيّن عليه أن يغادر مكة وليس معه غير رفيق واحد؛ ولقد تعيّن على الرفيقين أن يفزعا إلى غار، ولكنهما لم ينعما بالأمن حتى في ذلك الغار. كان المطاردون قد اقتصّوا آثارهم، فانتهوا إلى فم

_ (*) السورة 28، الآية 85.

الغار نفسه. وكان رفيقه قد خشي أن يدركهما القوم فابتأس وحزن. ولكن الرسول واسى صديقه، في تلك اللحظة الحرجة، وسأله ان لا يحزن لأن الله معهما. [إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى، وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا، وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.] * وهذا الايمان الوطيد العميق الجذور في العون الالهي كان في الحق هو سرّ تفاؤله في أشد الأحوال قسوة وأدعاها إلى اليأس. إن أيما لفظة قنوط أو خيبة لم تند من شفتيه قط. يا للمغايرة! لقد عرفت الدنيا نبيا لم يكد يواجه مثل هذه العقبات القاهرة حتى أطلق كلمات الخيبة، قائلا إنه يؤثر ان يلتحق بآبائه وأجداده. وعرفت نبيا آخر عبّر عن يأس مماثل في حال من العجز المطلق فقال: «الهي! الهي! لم خذلتني؟» أما محمد، صلوات الله وسلامه عليه، فلم يعرف أيما قنوط، أو يأس، أو فزع. كان كلما نابت الخطوب وادلهمّت توهج قلبه بالأمل. وفي هذه الساعة من ساعات العجز الأقصى، حين بدا- من الزاوية البشرية- أن الرسول قد حرم الأمن حتى في مفزعه الأخير بغار ثور، هتف بقلب مفعم بالأمل والثقة: «إن الله معنا.» وخلال الفترة المكية، الممتدة على ثلاث عشرة سنة ونيّف، تعيّن على الرسول أن يعمل في وجه مقاومة من أعنف المقاومات وأمرّها. لقد خلقت قوته الروحية نحوا من ثلاثمئة عملاق من عمالقة الروحانيّة، الذين لم يتزعزع ايمانهم به لحظة واحدة، والذين نصروه برغم ضروب التعذيب المبرّحة، والذين هجروا بيوتهم وممتلكاتهم ولكنهم لم يهجروه

_ (*) السورة 9، الآية 40.

هو. والواقع أن الانقلاب العجيب الذي أحدثه في فترة قصيرة لا تزيد على ثلاث عشرة سنة، برغم المعارضة الموحّدة التي أبدتها الأمة كلها، قد انتزع اعجابا عصيّا حتى من ناقد مثل السير وليم ميووير الذي رسم الصورة التالية لصحابته: «في فترة قصيرة إلى هذا الحد كانت مكة قد انشقت، بسبب من هذه الحركة الرائعة إلى حزبين كانا قد نظّما صفوفهما، غافلين عن المعالم القديمة للقبيلة والاسرة، في صراع تقابلا فيه على نحو مهلك. ولقد صبر المؤمنون على الاضطهاد بروح متأنية متسامحة، وعلى الرغم من ان الحكمة كانت تقتضيهم اتخاذ هذا الموقف، ففي امكاننا ان نعترف لهم، في غير ما تحفظ، بفضيلة الحلم الراشح بالشهامة وكرم الاخلاق. كان مئة رجل وامرأة منهم قد هجروا ديارهم، مؤثرين ذلك على ترك إيمانهم الغالي، والتمسوا الأمن والسلامة، ريثما تهدأ العاصفة، في منفى ببلاد الحبشة. وها ان عددا منهم أكبر من ذلك، وفيهم الرسول نفسه، يهاجرون الآن من مدينتهم الحبيبة ببيتها الحرام، الذي كان عندهم اقدس بقعة على الارض، ويفزعون إلى المدينة. وهناك كانت التعويذة العجيبة نفسها تنشئ لهم، طوال سنتين أو ثلاث سنوات، جماعة متآخية مستعدة لأن تحمي الرسول وأتباعه بدمائها. كانت الحقيقة اليهودية قد ترددت في آذان أهل المدينة منذ عهد طويل، ولكنهم لم يستيقظوا هم أيضا من سباتهم وينطلقوا فجاءة إلى حياة جديدة قويمة إلا بعد ان سمعوا بيان الرسول العربي الآخذ بمجامع القلوب. وقد وصف القرآن الكريم نفسه فضائل المسلمين فقال:

«وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً، وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً. «وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً. «وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً. «إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً. «وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً. «وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ، وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً. «يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً. «إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ، وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً. «وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً. «وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ، وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً. «وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً.

«وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً.» * والواقع ان هذه ومئات غيرها من الآيات القرآنية التي تصف شمائل الصالحين لا ترسم صورة خيالية. إنها تقدّم الينا وصفا حقيقيا لحياة صحابة الرسول. وإنما كان الفضل في هذا التحوّل الأعجوبي للسلطان الروحي الذي تكشّف عنه رجل فرد. ففي فترة قصيرة إلى حد غريب سما إلى ذروات الاخلاق العليا مئات من الناس الغارقين في الرذيلة والخرافة، المتسلمين لأحطّ أشكال الوثنية، المكبّلين بأصفاد أقذر العادات الاجتماعية وأشدّها قسوة. لقد نفخ فيهم روحا جديدة، فاذا بهم يتشبثون بمبادئ الحق والفضيلة والاحسان إلى الناس، تلك المبادئ التي ارتضوها، ويعضّون عليها بالنواجذ، برغم ما لقوه من إعنات ليس أفظع منه. لقد غرس فيهم حسّ المسؤولية والكرامة الانسانية. كان ههنا، فعلا، أعظم محسن للانسانية.

_ (*) السورة 25، الآية 63- 74.

الفصل الرابع عشر العهد الجديد (الأيام الاولى في المدينة)

الفصل الرّابع عشر العهد الجديد (الأيام الاولى في المدينة) «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا «بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ «اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ «بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ... » (القرآن الكريم، السورة 8، الآية 72) وأتمّ الرسول وصاحباه الرحلة إلى المدينة في ثمانية أيام- وهي رحلة تستغرق عادة احد عشر يوما- فبلغناها في الثاني عشر من ربيع الأول، من السنة الثالثة عشرة للبعثة، الموافق للثامن والعشرين من حزيران (يونيو) عام 622 للميلاد. وكانت أنباء اختفائه من مكة قد سبقته إلى هناك، ولكن اختباءه ثلاثة أيام في الغار لم يعرف به أحد. كانت البلدة تتوقع وصوله في لهفة. ففي كل صباح كان جماعة من أشدّ المؤمنين

حماسة يخرجون للقاء سيدهم، مجتازين أميالا من الطريق المفضية إلى مكة. وأخيرا انقضت ساعات الارتقاب النافد الصبر، بما انطوت عليه من ملل وسأم، وأطلّ الزائر العظيم على أفق المدينة. وعلى مسافة ثلاثة أميال من البلدة يقع موطن يعرف بقباء، ويعتبر ضاحية المدينة. هناك أقامت عدة أسر من الأنصار، كانت أسرة عمرو بن عوف أبرزها وأوجهها. وقبيل دخول الرسول المدينة، قبل دعوة عمرو هذا، فعرّج على قباء. وكان عدد من المهاجرين يقيمون هناك أيضا. فتدفّق المسلمون من يثرب إلى قباء، زرافات زرافات، ليلقوا زعيمهم المبجّل. ومكث الرسول، ثمة، اربعة عشر يوما. ولحق به عليّ إلى ذلك الموطن أيضا. وهناك أسس الرسول أول مسجد في الاسلام، وقد عرف بمسجد قباء. وإلى هذا المسجد يشير القرآن الكريم بقوله، في السورة التاسعة «لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ، فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا، وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ.» * ولقد بناه الرسول وصحابته بأيديهم، فكانوا يشتغلون كلهم في بنائه وكأنهم عمال عاديون. وبعد ذلك دخل الرسول إلى المدينة، التي رفلت جميع أحيائها بحلّة التهلّل والابتهاج. وانطلق القوم لتحيته، وقد ارتدوا أبهى ملابسهم. وصعدت النسوة إلى سطوح منازلهن، وغنّين بصوت واحد ترحيبا بالزائر النبيل. كان كل امرئ راغبا في ان يقيم الرسول في بيته هو. ولكن الرسول ألقى لناقته خطامها، تاركا إياها تمضي على هواها، وقال للحشود المتلهفة المتحلقة من حوله، إنه سوف ينزل حيث تبرك تلك الناقة. ومضت الناقة في سبيلها حتى وصلت إلى مربد** قبالة بيت أبي أيوب [خالد بن زيد الأنصاري] وثمة بركت. وكان المربد

_ (*) السورة 9، الآية 108. (**) المربد: فضاء وراء البيوت يرتفق به.

لغلامين يتيمين [هما سهل وسهيل ابنا عمرو] ، فقدّماه للرسول، بالمجان، لبناء مسجد عليه، ولكنه لم يرتض أن يقبله من غير ثمن. وهكذا تعين عليهما أن يقبلا الثمن. فكان أول عمل تمّ هناك هو بناء المسجد، وقد شيّده الرسول وأصحابه بأيديهم. والواقع ان كل امرئ اعتبر هذا العمل التطوّعي فخرا له وشرفا، فكانوا يردّدون مع الرسول، وهم يرفعون قواعد المسجد: «اللهم، لا سعادة إلا سعادة الدار الآخرة. اللهم، انصر المهاجرين والانصار!» وكان المسجد يتّسم بالبساطة الكاملة: فقد بنيت جدرانه الاربعة من الآجر، ودعم سقفه بجذوع النخيل، وغطي بسعف الشجر نفسه. ولم يكن قادرا، بوصفه هذا، على أن يذود المطر عن أرضه غير المعبّدة، فهو يجعلها موحلة. وللتغلب على هذه العقبة، فرشت أرضه بالحصى، وفي زاوية من الفناء أقيم ضرب من المنصّة المسقوفة لايواء من لا سكن لهم ولا أسرة. ولقد عرف الذين أقاموا هناك بأهل الصّفّة. وكان هذا، إذا جاز التعبير، ضربا من المدرسة الدينية ملحقا بالمسجد، ذلك بأن هؤلاء القوم كرّسوا وقتهم لدراسة الدين. وفي محاذاة المسجد بني مسكنان لأسرة الرسول. كان المسلمون، خلال مقامهم في مكة، لا يستطيعون اقامة الصلاة على رؤوس الاشهاد جماعة. أما وقد أجازت حال السلم في المدينة اقامة الصلوات جهارا فقد درست ذات يوم مختلف الطرائق التي يستطاع بها دعوة المؤمنين إلى الصلاة في مواقيتها. وفي الليلة نفسها كان عمر [ابن الخطاب] قد رأى في ما يرى النائم رجلا يردد «الله اكبر! الله اكبر!» - أي نص الأذان الذي أمسى منذ ذلك الحين ملء الأسماع. وفي صباح اليوم التالي قصّ رؤياه على الرسول. وكان صحابي آخر قد رأى الرؤيا نفسها أيضا. فلم يكن من الرسول إلا ان تبنّى هذا النصّ أذانا رسميا. وأقيمت هنا أول صلاة جمعة

جامعة يوم غادر الرسول قباء ودخل مدينة يثرب. حتى إذا نظّم الرسول الصلاة على هذا النحو التفت إلى مسألة إعالة اللاجئين. كان معظمهم، خلال مقامهم في مكة، يحيون في رغد وسعة، بيد انهم اضطروا بعد ذلك إلى ان يخلّفوا ثرواتهم وممتلكاتهم وراءهم. وهكذا عقد الرسول اخوة بين الأنصار والمهاجرين- أخوّة فريدة في تاريخ العالم. فجمع برباط الاخاء بين المرء من المهاجرين والمرء من الانصار. ولقد أخذ القوم باسباب التعاطف والحب اللذين بنيت عليهما هذه الأخوّة الجديدة أخذا رائعا لم يسبق إلى مثله. فآوى كل من الانصار أخا له من المهاجرين، فشاطره بيته، وقاسمه أمواله وأمتعته على نحو متكافئ. وكان الأنصار أصحاب زراعة، ولقد رغبوا في ان يقتسموا مزارعهم مع إخوتهم بالتساوي. وكان المهاجرون أصحاب تجارة، فهم يجهلون الزراعة جهلا كاملا. وحين أدرك الانصار ذلك قالوا انهم سوف ينهضون بالعبء كله بأنفسهم ويقدّمون نصف الغلال إلى المهاجرين. وبكلمة موجزة، فقد كانت الرابطة الجديدة من القوة بحيث بزّت حتى صلة الدم بين الاخوة الأشقاء. يدلك على ذلك أن ممتلكات أحد المتآخيين كانت، إذا ما توفاه الله إليه، لا يرثها أخوه من أبيه بل أخوه في الإيمان. ولكن القرآن الكريم حظّر أن يذهب بتلك الرابطة إلى هذا المدى، وأوصى بأن ينتقل الارث، بالطريق الطبيعي، إلى ذوي الارحام. [وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ. وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.] * ولئن كانت هذه هي روح التضحية الأصلية التي تلقّى بها الأنصار اخوانهم في الدين فأن المهاجرين، بدورهم، لم يستغلوا مشاركتهم

_ (*) السورة 8، الآية 75.

الوجدانية البتة. فحين عرض على عبد الرحمن بن عوف من قبل أخيه الأنصاريّ أن يأخذ نصف ممتلكات هذا الاخ كلها، عبّر عن شكره لهذا الكرم، واجتزأ بسؤاله أن يدلّه على سوق البلدة حيث سعى في سبيل اكتساب الرزق، وما هي إلا فترة حتى أنشأ تجارة رابحة خاصة به. وعلى نحو مماثل انصرف سائر المهاجرين إلى العمل في حقل التجارة. اما اولئك الذين لم يجدوا ما يتاجرون به فقد عملوا حمالين عاديين، وبذلك لم يقيموا اودهم وأود أسرهم فحسب، بل اقتصدوا شيئا يقدّمونه إلى «بيت المال» ، أو الخزانة العامة، لكي ينفق في خدمة المجموع. وسرعان ما ازدهرت تجارتهم ازدهارا عظيما، فاذا بقوافل بعضهم التجارية تتألف كل منها من سبعمئة بعير. وذات يوم، وكانت السنة سنة جدب، وفد على الرسول ضيف، وإذ لم يجد في بيته مؤونة ما سأل أبا طلحة، وكان من صحابته، أن يكرم وفادته، حتى إذا مضى ابو طلحة بالضيف إلى بيته، اكتشف ان ما عنده من طعام لا يكاد يكفي أطفاله. وتفاديا لحرج الموقف أطفأ ابو طلحة الضوء، وقدّم إلى الضيف أيما شيء تيسّر له تقديمه، وجلس هو وزوجته إلى المائدة، مع ضيفهما- وكان هذا واجبا يفرضه حسن الضيافة- رواحا يتظاهران من طريق تحريك يديهما وفميهما، بتناول الطعام مع الضيف. وإذ كان ذلك الطعام يسيرا ما يكاد يقيم صلب الضيف وحده، فقد باتت الاسرة كلها، تلك الليلة، على الطوى. وبعد ذلك عرف المسلمون، بفضل من الله، أيام خصب ورغد، وشرعوا يحيون حياة رخيّة. ولكنهم سلكوا في كلتا الحالين، حال الشدة وحال الفرج، مسلكا رائعا. إنهم لم يتذمروا في الأولى البتة، ولم يبذّروا ثروتهم في الاخرى على الاطلاق. لقد

أنفقوها في سبيل الله: في مدّ يد العون إلى الفقير، والمعوز، واليتيم، وأهل الصّفّة الذين كان عملهم الأوحد الاصغاء سحابة يومهم إلى تعاليم الرسول، والتهجّد سحابة ليلهم لله. ومن هؤلاء انبثقت عصبة المبشرين والمعلمين الدينيين الذين حملوا مشعل الاسلام إلى مختلف البلدان ومختلف الشعوب. وكان ابو هريرة الذائع الصيت، والذي تحدّرت الينا من طريقه جمهرة كبيرة من أحاديث الرسول، واحدا من هؤلاء أيضا. وإذ لم يكن لديهم أيما مورد رزق، فقد كان من دأب الموسرين من المسلمين ان يدعوهم لتناول الطعام على موائدهم. وفي الأخبار أن سعدا وحده كان يستضيف في بيته تمانين منهم أحيانا. وكانت المسألة الرئيسية الثالثة التي وجّه الرسول همّته اليها هي إقامة علاقات ودّية بين مختلف القبائل المقيمة في المدينة. وكان اليهود يتمتعون، ههنا، بسلطان غير يسير. كان من دأبهم ان يتحالفوا مع الاوس والخزرج، وان يشاركوا في حروبهم الطاحنة. ويبدو انهم كانوا من أصل عربي، ولكنهم شكلوا وحدة متميّزة بسبب من اعتناقهم اليهودية. وكانوا ينقسمون إلى عشائر ثلاث: بني قينقاع، وبني النّضيير، وبني قريظة. وكان باقي سكان البلدة من الاوس والخزرج، الذين كانوا يتفانون في حرب موصولة. واتفق، الآن، ان اعتنقت الكثرة العظمى من الاوس والخزرج الدين الاسلامي. وهكذا عقد الرسول بين المسلمين واليهود ميثاقا هذه بنوده الرئيسية: أولا، ان يتعايش المسلمون واليهود وكأنهم أمة واحدة. ثانيا، ان يلزم كل من الفريقين دينه وان لا يتدخّل في شوؤن الآخر الدينية. ثالثا، يتعين على كلا الفريقين، في حال نشوب حرب مع فريق ثالث، ان يهرع لنصرة الآخر شرط ان يكون هذا الفريق هو المظلوم وان لا

يكون معتديا. رابعا، في حال هجوم على المدينة يتعيّن على الفريقين ان يتعاونا في الدفاع عنها. خامسا، على الفريقين ان يتشاورا في الصلح إذا رغبا فيه. سادسا، يجب على الفريقين ان يعتبرا المدينة بلدا حراما، لا يحلّ فيه سفك الدم البتة. سابعا، في حال النزاع يكون الرسول هو الحكم الأخير.

الفصل الخامس عشر معركة بدر

الفصل الخامس عشر معركة بدر «وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ «أَذِلَّةٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ «تَشْكُرُونَ.» (القرآن الكريم، السورة 3، الآية 122) لم يلق المسلمون، منذ أن استقروا في المدينة، أيما مضايقة تحول بينهم وبين إقامة شعائرهم الدينية. فأنشئت المساجد، وأذّن للصلاة في حرية، ولكن على القارئ أن لا يفهم من هذا ان العداوة للاسلام قد امّحت. ففيما تمتّع المسلمون بكامل الحرية الدينية ضمن أسوار المدينة كانت نار الحقد ما تزال تتقد، بالعنف نفسه، في قلوب المكيين. كانت العداوة لا تفتأ تزداد حدّة وانتشارا. وليس ذلك بعجيب، فيوم هاجرت عصبة صغيرة من المسلمين إلى الحبشة استبدّ الحقد بقريش إلى حد جعلها لا تدعهم وشأنهم هناك، فتعقّبتهم حتى بلاط النجاشي نفسه لكي تقضي عليهم قضاء مبرما. أما وقد استقر

الرسول والمسلمون الآن آمنين في المدينة، وأخذوا يكتسبون سلطانا ونفوذا متعاظمين على نحو مطّرد، فطبيعيّ أن تعجز قريش عن الوقوف مكتوفة اليدين. وكان عبد الله بن أبيّ- أحد وجوه المدينة البارزين- يتمتّع بنفوذ ضخم هناك. وقبل هجرة الرسول كان أهل المدينة يعتبرونه سيّدهم الأعلى. فغير مستغرب ان يستشعر هذا الرجل، حين وفد الرسول على المدينة ليكسف شخصيته، حسدا للمسلمين وحقدا عليهم. وحرّضته قريش أيضا على طرد المسلمين من هناك. ولكن عددا كبيرا من أفراد قبيلته كانوا قد انضووا تحت راية الاسلام. ومن هنا كان خليقا بكل محاولة لمقاومة الرسول على نحو علنيّ أن تفضي إلى نشوب حرب أهلية بين أبناء شعبه. حتى إذا خابت آمال قريش في عبد الله بن أبيّ شرعت تحرّض سكان الرقعة الممتدة ما بين مكة والمدينة على الرسول والمسلمين. وكان القرشيون، بوصفهم سدنة الكعبة المقدسة، يتمتعون بالاحترام في بلاد العرب كلها. وهكذا كانوا في وضع يمكّنهم من ان يفرضوا على القبائل إرادتهم وسلطانهم إلى حدّ غير يسير. والحق ان نجاح الدعاية القرشية بين هذه القبائل حمل المسلمين على أن يأخذوا حذرهم من جديد. فقد كانوا محاطين بالاعداء من أقطارهم جميعا، وحتى ضمن جدران المدينة الاربعة تكوّن ضدهم تيار معارضة خفيّ عميق كان عبد الله بن أبيّ هو مطلقه. وعلى الرغم من الميثاق فلم يكن في مستطاع المسلمين ان يثقوا باليهود. لا، ولم يكن في امكانهم الركون إلى عبد الله بن أبيّ. وهكذا استشعر المسلمون قلقا بالغا على سلامتهم. لقد خافوا، أن يأتيهم الهجوم، كل لحظة، من خارج، وأن تفجأهم الخيانة من داخل. وكان من دأب بعض المفارز القرشية الصغيرة أن تنطلق في حملات سلب ونهب وأن تطوّف في البلاد حتى أرباض المدينة نفسها. وذات

مرة، اختطفت مفرزة قرشية بعض الإبل من مراعي البلدة بالذات. والواقع ان قريشا كانت- منذ الهجرة- تتطلع في لهفة إلى فرصة سانحة تمكّنها من ايقاع الأذى بالمسلمين والقضاء على الاسلام بحدّ السيف. وكانوا قد اتخذوا الاستعدادات كلها لغزو المدينة. وكان الموقف يقتضي المسلمين حذرا ويقظة بالغين. وكان الوحي الالهي قد نزل على النبي، مجيزا استلال السيوف من أغمادها دفاعا عن النفس. وكلمات القرآن الكريم في هذا الصدد ذات مغزى، وهي تستحق انتباها واعيا من النقّاد، الذين وصموا الاسلام، في مناسبة وغير مناسبة، بأنه دين السيف. يقول القرآن الكريم: «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا، وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ.» * ويقول في موضع آخر: «وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ.» ** وهكذا فأن الحرب مقيّدة بشرطين اثنين: يجب، أولا، ان لا تشنّ إلا ابتغاء الدفاع عن النفس. ويجب، ثانيا، أن تضع أوزارها لحظة تزول الضرورة التي دعت اليها. واذن فليس في استطاعه المسلم، وفقا لوصايا القرآن الكريم، ان يمثّل دور معتد في معركة. إن عليه أن ينتظر حتى يضرب العدوّ الضربة الاولى. هذا في ما يتصل بالبدء في القتال، وفي ما بعد يتعين عليه- في كل مرحلة من مراحل الحرب- أن يعتصم بضبط النفس الكامل، بحيث لا يكاد العدو يجنح للسّلم حتى يجنح هو لها، معلقا أعمال العنف في الحال. إن عليه ان لا يعدو الحدود. ومن هنا كان على الرسول، كأجراء من اجراآت الدفاع عن النفس، ان يصطنع بعض الطرائق والوسائل على سبيل الوقاية. كانت

_ (*) السورة 22، الآية 39. (**) السورة 2، الآية 190.

الضرورة تقضي، في تلك الظروف، أن يفوز بمعلومات دقيقة عن خطط قريش وتحرّكاتها. وكانت الحاجة ماسّة إلى اقامة علاقات ودّية مع مختلف القبائل البدوية النازلة في جوار المدينة. وتحقيقا لهذين الغرضين وجّه الرسول زمرا استطلاعية صغيرة لمراقبة حركات العدوّ، وللاتصال ببعض القبائل ضمانا لحيادها. ومن يدري، فقد يكون خليقا بمثل هذا التدبير الوقائي أن يفضي إلى كبح نيّات العدوّ العدوانية. كان على هذا العدو ان يدرك ان المسلمين غير غافلين، وعندئذ يفكّر مرتين قبل أن يخطو أية خطوة مشؤومة. وخليق بهذا أيضا أن يثير مخاوف القرشيين على تجارتهم الشامية التي كانت قوام ازدهارهم الاقتصادي كله. فقد كان في موقع المدينة، على طريق التجارة من مكة إلى الشام، ما يعرّض قوافلهم لخطر عظيم في حال توتّر العلاقات بينهم وبين المسلمين. وكان المسلمون يرجون أن يكون ذلك فعالا في تعطيل نيات عدوّهم العدوانية ولو مؤقتا. ولقد كان هذا بالذات هو جوهر التحذير الذي وجّهه سعد بن معاذ [الأشهليّ] ، وهو من الانصار، إلى القرشيين في موسم من مواسم الحج. فقد توعّده ابو جهل بأنه لو لم يكن في حمى رجل بعينه لما نجا من الموت، فردّ عليه سعد بقوله إن طريق التجارة المكية إلى الشام سوف تعترض إذا ما حيل بين المسلمين وبين أداء فريضة الحج. وهكذا أوعز إلى الزّمر الاستطلاعية أن تجتنب الاستفزاز وكل ما يثير النزاع. وأدّت المفاوضات المشار اليها آنفا إلى تفاهم عدد من القبائل المجاورة مع المسلمين، على الرغم من انها كانت تعبد الأوثان كالمكيين سواء بسواء. وهذه العهود كانت، كما ينبغي أن نلاحظ، ذات صفة دفاعية خالصة. فقد نصّ العهد الذي عقدة الرسول مع بني حمزة على ان أرواحهم وممتلكاتهم سوف تكون آمنة، وانه إذا ما هاجمهم عدوّ ما سارع المسلمون إلى نصرتهم، إلّا أن تكون حربا دينية. وانهم سوف

يهرعون لنصرة الرسول حين يدعون إلى ذلك. واتفق في أواخر جمادى الثانية، من السنة الثانية للهجرة، ان بعث الرسول إحدى تلك الزّمر [أو السرايا] بقيادة عبد الله بن جحش. ودفع إلى عبد الله هذا كتابا وأمره أن لا ينظر فيه إلا بعد يومين من مسيره [فيمضي لما أمره ولا يستكره من أصحابه أحدا.] حتى إذا فتح عبد الله الكتاب كما أمر، بعد يومين اثنين وجده يقول: «إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة* فترصّد بها قريشا وتعلّم لنا من أخبارهم.» لقد كان ذلك مجرد اجراء وقائي، خشية أن يأخذ العدوّ المسلمين على حين غرّة. فلم يكن في الامكان ان يكون ثمة أيما حافز آخر، أيما نية في الهجوم على مكة. فقد كان المسلمون أضعف من أن يفكروا بأيما خطة مماثلة. وكان النبي مسؤولا عن سلامة الجماعة الاسلامية الصغيرة. ومثل أي قائد عسكري بارع، أدرك الرسول أهمية مراقبة حركات العدوّ. حتى إذا وصل عبد الله بن جحش إلى نخلة، وفقا لتعليمات الكتاب المختوم، مرّت به عير لقريش في طريق عودتها من الشام. وخلافا لأوامر الرسول انصريحة انقضّ عبد الله على اولئك التجار القرشيين، فقتل [عمرو] بن الحضرميّ، وأسر اثنين من رفاقه. حتى إذا تسامع الرسول بالنبأ عنّف عبد الله لمخالفته أوامره تعنيفا شديدا. وهكذا أتيحت لقريش، التي تلهّفت على ذريعة تتذرّع بها، تلك الفرصة التي طالما انتظرتها لاطلاق العنان لغيظها. وما كان لحادثة عرضية، مثل مقتل ابن الحضرميّ، أن تثير- في الاحوال التي سادت المجتمع العربي آنذاك- اهتماما بالغا. فقد كانت، في الواقع، حادثة مبتذلة يقع نظيرها كل يوم. وكان العرف المتّبع في جميع الحالات المماثلة هو طلب الدية. ولكن قريشا كانت تبحث عن ذريعة تثير بها حفيظة

_ (*) موضع بين مكة والطائف. (المعرب)

الجمهور على المسلمين، فاذا بمصرع ابن الحضرمي يقدّم اليها هذه الذريعة. لقد سلخت نحوا من شهرين في اتخاذ الاستعدادات الضرورية، ثم هاجمت المدينة في شهر رمضان من السنة الثانية. وهكذا حدث ما يعرف في تاريخ الاسلام بمعركة بدر. ولقد شاءت المصادفة ان تكون إحدى قوافل قريش التجارية، بقيادة ابي سفيان، عائدة في ذلك الحين من الشام. وكان ابو سفيان قد بعث إلى مكة، قبل مسيره، رسولا [هو ضمضم بن عمرو الغفاري] يستنفر قريشا لحماية القافلة. وقاد هذا إلى اعتقاد لا مبرّر له بأن المسلمين راغبون في اعتراض القافلة، ومن ثم نشبت معركة بدر. وهذه الفكرة لا أساس لها من الصحة البتة. فقد مرّت هذه القافلة نفسها بالمدينة، في طريقها إلى الشام، من غير ان يتعرض لها احد منهم بسوء. ليس هذا فحسب، بل ان الزعماء القرشيين- في جميع محاولاتهم لتحريض الناس على الهجوم، وخلال استعداداتهم كلها من أجل ذلك- لم ينبسوا بكلمة تشير إلى الخوف المزعوم على سلامة القافلة. فقد كان مصرع ابن الحضرمي هو الحادثة الوحيدة التي استغلوها لاثارة اهتياج عارم يغري القوم بالانتقام. وإلى هذا، فقد كانت القافلة، بعد أن انحرفت عن طريقها المألوف، وساحلت البحر، قد بلغت مكة في سلام، قبل أن يلتقي الجمعان في بدر. واذن، فمن الافتراء المحض ان ينسب إلى المسلمين أيّ من مثل هذه الدوافع. لقد كان تشوّف قريش الموصول إلى سحق قوة الاسلام النامية هو السبب الأوحد الذي قاد إلى نشوب المعركة. والواقع ان المسلمين جرّوا اليها جرا. ومجرد الحقيقة القائلة بأن القوة الاسلامية لم تزد على ثلاثمئة وثلاثة عشر مقاتلا، في جملتهم الغلمان، وكلهم مسلّحون تسليحا رديئا، يظهر أنهم كانوا أبعد ما يكونون عن التفكير في التصدّي لقوة مؤلفة من ألف رجل مزودين بالسلاح الكامل. وقد صوّر القرآن الكريم ما كان يجول في خلد

المسلمين عندما دعوا إلى الصمود دفاعا عن أنفسهم فقال: «كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ، وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ. يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ. وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ.» * كان كثير منهم- كما يقول القرآن الكريم- يجدون في ذلك عنتا بالغا، معتقدين أنهم يدفعون إلى أشداق الموت دفعا. ومع ذلك فقد كان عليهم ان يضربوا ضربة ما، دفاعا عن النفس. ودعاهم الرسول، وشرح لهم الموقف، فلم يكن لهم مندوحة عن خوض غمار القتال ضد عدوّ مصمّم على أن يوجه إلى وجودهم نفسه ضربة قاضية. وكان الانصار قد عاهدوا الرسول على ان يمنعوه ضمن أسوار المدينة ليس غير، ولكن الموقف كان يفرض على المسلمين، الآن، ان يلقوا عدوّهم قبل أن يهاجم المدينة. ومع ذلك، فما ان استشارهم الرسول ليعرف وجهة نظرهم، حتى وجدهم على اتمّ الاستعداد للسير من ورائه، وللوقوف في صفّه بالغا ما بلغت المحنة من القسوة. وهكذا خرجت هذه العصبة الصغيرة من المسلمين- المعبّأة على عجل، المسلّحة تسليحا سيئا- وسارت نحو الطريق المفضية إلى مكة، لكي تصدّ غارة قريش. فقد كان من الخطل ان يتركوا لهب القتال يدنو من بيوتهم في المدينة. حتى إذا بلغوا بدرا، وهو موضع سمّي على اسم ماء فيه، ألفوا قريشا معسكرة هناك قبلهم. فعسكروا بدورهم. ومن حيث العدد كانت القوة الاسلامية لا تكاد تبلغ ثلث القوة

_ (*) السورة 8، الآية 5- 7.

القرشية. وإلى هذا، فقد كانت الأخيرة مؤلفة من محاربين مدربين بارعين، على حين كان المسلمون قد حشدوا حتى الشبان الذين لا خبرة لهم بالحرب ولا مراس. واذن، فلم يكن المسلمون- لا من حيث العدد ولا من حيث القوة والبراعة- أندادا لعدوّهم. وهذا ما أورث الرسول أعظم القلق. فانقلب إلى عريش كانوا قد بنوه له وابتهل إلى الله بعينين دامعتين قائلا: « [اللهمّ هذه قريش قد أتت بخيلائها تحاول أن تكذّب رسولك، اللهمّ فنصرك الذي وعدتني] . اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد!» وبعد أن [هتف بربّه مادّا يديه مستقبلا القبلة] خرج إلى الناس متهلل الوجه وجهر بتلاوة الآية القرآنية التي تقول، وكانت قد أنزلت اليه قبل ذلك بفترة غير يسيرة: «سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ.» * أما قريش فكانت قد خرجت بالسلاح الكامل. وعملا بالوصية القرآنية أحجم المسلمون عن الهجوم، ريثما يضرب العدو الضربة الأولى. وأخيرا خرج من صفوف المكيين ثلاثة من أبطال قريش [هم عتبة ابن ربيعة بن عبد شمس، وابنه الوليد، وأخوه شيبة] فطلبوا من يخرج للقائهم من صفوف المسلمين. وكانت العادة المتّبعة في الحروب العربية، في تلك الأيام، تقضي بأن يفتتح القتال بمبارزات فردية. وهكذا قبل التحدي ثلاثة من المسلمين [هم حمزة بن عبد المطلب، وعبيدة ابن الحارث بن المطلب، وعليّ بن ابي طالب] ، فخرجوا لمبارزتهم [فكان عبيدة بأزاء عتبة، وعليّ بأزاء الوليد، وحمزة بأزاء شيبة] . واتفق ان صرع الابطال القرشيون الثلاثة في المبارزة. وعقب ذلك بضع مبارزات أخرى، وسرعان ما أمسى القتال عاما. لقد حمل القرشيون على المسلمين، ولكن هؤلاء ثبتوا لهم، وردّوهم على أعقابهم.

_ (*) السورة 54، الآية 45.

وهنا حدثت ظاهرة رائعة من ظواهر العون الالهي. فقتل في المعركة أقطاب قريش كلهم تقريبا، زعماء الحملة المهلكة ضد الاسلام. ولقي أبو جهل حتفه بأيدي شابّين من الأنصار. وكانت جملة قتلى قريش في المعركة سبعين. حتى إذا رأى القوم إلى رؤسائهم وزعمائهم يسقطون صرعى، دبت الفوضى في صفوفهم وولّوا الأدبار. فطاردهم المسلمون وأسروا منهم نحوا من سبعين. أما شهداء المسلمين فلم يزيدوا على اربعة عشر. إن وقعة بدر لتمثل مشهدا فاتنا للعون الالهي لعله كان فريدا، من ناحية واحدة، في تاريخ الحرب كله. فكثيرا ما يحدث أن يوفّق جيش قليل العدد نسبيا ولكنه حسن التجهيز مؤلف من جنود بواسل يمتازون بانضباطيّتهم وببراعتهم في اصطناع السلاح ... أقول كثيرا ما يحدث أن يوفق مثل هذا الجيش إلى ايقاع الهزيمة بمجموع تفوقه عددا ولكن تعوزها مزايا متكافئة. بيد ان الذي يجعل وقعة بدر فريدة على نحو رائع هو أن وجوه الضعف كلها اجتمعت في ناحية، ووجوه القوة كلها اجتمعت في الناحية المقابلة. كان عدد أفراد الجيش القرشي ثلاثة أضعاف المسلمين الذين شهدوا تلك المعركة. وكان الموقع الذي احتله ذلك الجيش خيرا من موقع المسلمين. وكانت صفوفهم تضمّ جنودا أولي شهرة وصيت ... جنودا كان القتال حرفتهم التي احترفوها عمرهم كله. والسلاح أيضا كان موفورا في أيديهم بل أكثر من موفور. وكان كل منهم يلتئم بدرع سابغة. وكان فيهم مئة فرس عليها مئة فارس، وسبعمئة بعير. فما كانت قوة المسلمين؟ كان عددهم ثلث عدد عدوّهم. وكانت صفوفهم تضمّ نفرا من الفتيان الذين لم يبلغوا الحلم بعد، ومن المهاجرين الطاعنين في السن، وبعض الأنصار المدينيين، وكلهم ليسوا بأكفاء للمكيين المولعين بالحرب. فما كان عدد فرسانهم وجمالهم؟ فارسين وسبعين بعيرا ليس غير. وفي ما يتصل

بالعدد لم يكن ثمة مجال للمقارنة البتة. وهكذا قذف بالضعف المطلق في وجه القوة الغامرة. ولكن اليد الالهية امتدت لنصرة الضعفاء، نافخة في قلوبهم قوة- قوة غير قوة العدد أو العدّة أو السلاح- فاذا بالقوة الدنيوية تمنى بالهزيمة. وإلى هذه الظاهرة يلفت القرآن الكريم الانتباه في الآية التالية: «قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا، فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ، وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ.» * وأحسن المسلمون معاملة أسراهم، فأعجب كثير منهم بنبل الروح الاسلامية. وتذكّر أحدهم، حينما اعتنق الاسلام بعد، حسن المعاملة التي لقيها في الأسر، وحدّث بها معترفا بالجميل. لقد روى قائلا إن الذين عهد اليهم بالعناية بأمره قدّموا اليه خير ما في المنزل من طعام، على حين اجتزأ افراد الاسرة بالرّطب وما اليه يأكلونه. وعلى الرغم من أن حالة الحرب لم تكن قد زالت فقد أعيد الاسرى إلى أهلهم لقاء فدية افتدوهم بها. اما الفقراء الذين لم يجدوا ما يفتدون أنفسهم به فقد أطلق سراحهم من غير فدية. لقد سئل كل من القادرين على القراءة والكتابة ان يعلّم عشرة من أطفال المسلمين، واعتبر هذا الصنيع من جانبهم بمثابة فدية تكفل لهم حريتهم. والحق ان التنازل عن اربعة آلاف درهم كفدية مالية لكل أسير والاستعاضة عنها بتعليم القراءة والكتابة اطفال المسلمين، لينهض دليلا قويا على ما كان للعلم من قيمة في عيني الرسول. إنه لم يعامل العدوّ المهزوم معاملة خشنة البتة. ولقد كانت هي أول فرصة أتيحت للمسلمين، بعد الآلام الطويلة المريرة التي قاسوها على أيدي القرشيين، للانتقام من عدوّهم، لو

_ (*) السورة 3، الآية 13.

شاؤا. وكان بين الاسرى واحد [هو سهيل بن عمرو، وكان خطيبا] يتمتع بفصاحة بالغة اصطنعها في غير ما إبقاء، يوم كان في مكة، لاثارة الناس على الاسلام. [وكأنما عزّ على عمر بن الخطاب ان يفتدى وينجو من غير أن يصيبه مكروه] فقال: يا رسول الله دعني أنزع ثنيّتيه [فيدلع لسانه*] فلا يقوم عليك خطيبا في موطن أبدا. فأجابه الرسول: «لا أمثّل به فيمثّل الله بي [وإن كنت نبيا] » . وإنما كانت معركة بدر، من ناحية، ضربة قاضية وجّهت إلى قوة قريش، على حين أنها رسّخت، من ناحية ثانية، جذور الاسلام. وإلى هذا، فقد خلفت أثرا رائعا في نفوس اليهود، وفي نفوس القبائل البدوية المجاورة أيضا. لقد قالوا في ذات أنفسهم: كيف تأتّى للمسلمين ان يهزموا مثل هذا الجمع العظيم؟ لا ريب في ان الله قد أيدهم بروح منه. ثم إنهم دهشوا إذ رأوا كيف صرع ألدّ أعداء الاسلام في غير ما استثناء. أليس في ذلك ما يؤذن بأن يد الله قد عملت عملها؟ وثمة حقيقة أخرى ماتعة في معركة بدر، وهي ان الرسول كان في قلب الميدان يبتهل إلى الله بعينين دامعتين، على حين كان ابو جهل، من ناحية أخرى، يبتهل إلى الله أيضا أن يهزم أيا من الفريقين المتناحرين كان مسؤولا عن قطع صلة الرحم وعن البلاء المتطاول. وحتى قبل ان يفصل القرشيون من مكة، كانوا قد ضرعوا إلى الله في الكعبة أن ينصر من كانوا عن الحق. وهكذا كانت نتيجة معركة بدر، إذا جاز التعبير، حكما إلهيا على الباطل. لقد حظيّ الحقّ بالتأييد الالهي فانتصر. لقد أحبطت خطط العدو، بينا وجد المسلمون في إحباطها مصداقا للوعود الالهية التي أكدت لهم، طوال

_ (*) دلع لسانه: خرج من فمه.

هذه السنوات الاثنتي عشرة، أن الحق لا بدّ أن يسود آخر الأمر. فخلال فترة المحن والبلايا المتطاولة كانوا قد تلقّوا عزاء الهيا مفاده ان كل مقاومة [قريش] سوف تنهار، وان الاسلام سوف يخرج من الصراع منتصرا. وها هم الآن يرون إلى ما كانوا قد آمنوا به ايمانا راسخا يصبح حقيقة واقعة، فاذا بعدالة قضية الاسلام تتجلى لأعينهم كالشمس في رائعة النهار.

الفصل السادس عشر معركة أحد

الفصل السّادس عشر معركة أحد «وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ «الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.» (القرآن الكريم، السورة 3، الآية 139) كانت هزيمة بدر عارا ما كان لكرامة قريش أن تسكت عليه. فقد أنزلت بهم عصبة المبتدعين الصغيرة، المحتقرة، السيئة السلاح ضربة ما حقة. واذن، فقد كان الانتقام هو كلمة السر في ارجاء مكة كلها. وإذ كان زعماء قريش كلهم قد سقطوا صرعى في بدر، فقد انتخب ابو سفيان زعيما، وأخذ على نفسه عهدا غليظا ليغسلنّ عار بدر. وانعقد رأي قريش على ان يخصص ربح القافلة التي عادت من قريش برئاسة ابي سفيان، يوم بدر، لحملة الثأر المبيّتة. وحشد جيش مؤلف من ثلاثة آلاف مقاتل، بعد اثني عشر شهرا انقضت على هزيمة بدر، فيهم مئتا فارس مسلح، وسبعمئة بطل مسلح. وأجيز للنسوة أيضا ان يرافقن هذا الجيش، لكي يثرن حماسة الجند بأناشيدهن

الحربية. وهكذا زحف القرشيون، في السنة الثالثة للهجرة، نحو المدينة، وفي يوم الخميس، التاسع من شوال، عسكروا عند سفح أحد، وهو جبل يقع على مبعدة ثلاثة أميال من المدينة. ثم انهم استولوا على مراعي المدينة. لقد حصدوا محاصيل خصبة وقدّموها علفا لخيلهم، وأطلقوا إبلهم ترعى الحقول وتعيث فيها فسادا. وفي اليوم التالي، الجمعة، العاشر من شوال جمع الرسول صحابته ليتدارسوا أفضل السبل لمواجهة الموقف. وكان من عادته أن يشاور أصدقاءه قبل الاقدام على أيما عمل خطير. وقصّ عليهم بعض رؤاه. كان قد رأى، في ما يراه النائم، ان طرف سيفه قد ثلم. وأوّل ذلك بأنه نذير بأذى سوف يصيب شخص الرسول. ورأى أيضا انه لبس درعا. وأوّل ذلك بأن من الخير للمسلمين ان يلزموا حصون المدينة لا يغادرونها. وكانت ثمة رؤيا ثالثة ذبحت فيها بعض الثيران، فأوّلت بأن الأذى سوف يصيب أتباعه. واستنادا إلى هذه الرؤى، ذهب الرسول إلى ان عليهم ان لا يغامروا بالخروج للقاء العدو [حيث نزل] ، مؤثرين البقاء ضمن أسوار المدينة وردّ هجمات القرشيين عليها. وأقرّه على رأيه هذا أصحاب السن العالية والعقل الراجح من صحابته. حتى عبد الله بن أبيّ، الذي كان قد اعتنق الاسلام رياء ونفاقا بعد معركة بدر، قال بالرأي نفسه. ولكن الكثرة، المؤلفة في المقام الأول من شبان متقدين حماسة، مالوا إلى الخروج لمقارعة العدو في معركة ناضحة بالرجولة والشجاعة. وكانت حجتهم ان التحصن بالمدينة قد يحمل على محمل العجز والضعف وقد يجرّىء العدوّ عليهم. وإلى هذا، فقد كان مما يجرح احترامهم الذاتي أن يروا إلى حقولهم يعاث فيها فسادا دون أن يحركوا ساكنا. ومراعاة من الرسول لرأي الاكثرية أخذ بوجهة نظرهم، ولبس لأمته*، وفصل من المدينة قبيل المغيب

_ (*) درعه.

على رأس الف مقاتل لم يكن بينهم غير فارسين اثنين ومئة رجل مسلح. وقضى المسلمون الليل على مبعدة من المدينة يسيرة، ثم استأنفوا تقدمهم في اليوم التالي مع الفجر. ولم يكد عبد الله بن أبيّ يلمح العدوّ حتى انخذل مع رجاله الثلاثمئة، منقصا بذلك مجموع المقاتلين المسلمين إلى سبعمئة كان عليهم ان يواجهوا عدوا عدد رجاله أربعة أضعاف عددهم. وحتى هؤلاء لم يكونوا، بأية حال، بارعين في فنون القتال. كانت قوتهم الوحيدة كامنة في تفانيهم في الدفاع عن الحق. وكانت الحماسة قد أشربت قلوب الطاعنين في السنّ عزم الشباب وهمّتهم. وكذلك أشرب من لم يبلغوا الحلم بعد مثل هذا العزم وتلك الهمة. ويروى أن احد الغلمان تطوّع للقتال فرفض القوم قبوله لصغر سنه، فما كان منه إلا ان تمطّى ووقف على رؤوس اصابعه لكي يبدو أطول قامة. وأيا ما كان، فقد كفلت له حماسته مكانا بين صفوف المقاتلين. وتقدّم غلام آخر في مثل سنه مؤكدا حقه في الاشتراك في القتال. وألحّ قائلا ان في استطاعته، لو صارع زميله ذاك، أن يطرحه أرضا. فأتاحوا له فرصة يثبت فيها صدق دعواه، حتى إذا وفّق إلى جندلته أجابوا سؤله. وبعد ذلك تقدّم رجل طاعن في السن، لم يبق له في هذه الدنيا غير أيام معدودات، وقال: «انا، يا رسول الله، على قاب قوسين من القبر. فما أعظمه من مجد ان أختم حياتي بحمل السلاح دفاعا عن رسول الله!» وهكذا حشد المقاتلون السبعمئة، وقد استعاضوا عن القوة والبراعة بحماستهم العارمة للقضية الأثيرة على قلوبهم. ومثل قائد بارع، تقدّم الرسول للقاء الأعداء، وعدّتهم ثلاثة آلاف مقاتل أشداء مسلحين تسليحا حسنا، واتخذ مركزا متفوقا في ميدان القتال، جاعلا من صخور أحد وقاء يحمي به ظهور رجاله وراح يصفّ أصحابه بنفسه. بيد أنه كان في ناحية من نواحي الجبل شعب يمكّن العدوّ من الانقضاض على صفوف المسلمين من خلاف.

وهكذا وضع الرسول خمسين من الرماة على الرابية عند فم الشّعب، وأصدر اليهم أمرا جازما بأن لا يبرحوا مواقعهم أيا ما كان السبب، وأيا ما كانت نتيجة المعركة. كان عليهم ان لا يتزحزحوا عن مكانهم بوصة واحدة سواء أكتب للمسلمين النصر أم كتبت عليهم الهزيمة. وإلى جانب النسوة اللواتي صحبن الجيش القرشي لتحريضه على القتال رافق ذلك الجيش أيضا راهب نصراني، يدعى أبا عامر [عبد عمرو بن صيفيّ الأوسيّ] ليمثل دورا مماثلا. وكان ابو عامر هذا قد أقام، قبل ذلك في المدينة، حيث اكتسب احترام الشعب العميق، لتقواه وزهده. حتى إذا وفد الرسول على المدينة ورأى إلى الانصار يستقبلونه ذلك الاستقبال القلبيّ، لم يطق على ذلك صبرا. لقد غلب عليه الاستياء فانتقل إلى مكة. وكان قد زعم، في كثير من الاعتزاز، ان مجرد وجوده في صفوف القرشيين خليق به أن يوقع الرعب في أفئدة المدينيين، وعندئذ يخذلون المهاجرين لا محالة. وحين التقى الجمعان، وتواجها، تقدمت النسوة الجيش المكّي، واصطنعن كل ما أوتين من براعة لاثارة حماسة الجند [فكنّ يضربن بالدفوف والطبول، وعلى رأسهن هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان، وهنّ يقلن: ويها بني عبد الدّار ... ويها حماة الأدبار ضربا بكلّ بتّار! ويقلن: إن تقبلوا نعانق ... ونفرش النمارق أو تدبروا نفارق ... فراق غير وامق

ثم برز ابو عامر، وراح يذكّر الانصار بنفسه [قائلا: يا معشر الانصار أنا ابو عامر] بيد انهم ردّوه في ازدراء قائلين [لا أنعم الله بك عينا يا فاسق] ، فاضطر إلى الانسحاب. وبعد سلسلة من المبارزات قتل فيها حمزة طلحة [بن ابي طلحة] حامل لواء القرشيين*، أمسى القتال عامّا. وأبلى ابو دجانة [سماك ابن خرشة] ، وكان معروفا بشجاعته، وحمزة [عمّ النبي] ، بلاء حسنا. لقد شدّا على العدوّ، فأوقعا الاضطراب في صفوفه، وقتلا كل من لقياه. وأخيرا سقط حمزة صريعا بحربة «وحشيّ» ، وهو مولى [حبشيّ] زنجيّ كانت هند زوجة ابي سفيان قد استأجرته لهذا الغرض. ومع ذلك، قاتل المسلمون قتال اليائس. فصرع سبعة من حملة الألوية المكيين، واحدا إثر واحد، حتى دبت الفوضى المطلقة في صفوف قريش. وأخيرا ولوا الأدبار، فطاردهم المسلمون مطاردة حثيثة. وهكذا كان المسلمون، كرة أخرى، على وشك احراز نصر مؤزّر على المكيين. ولكن ثمة، كما يقولون، مزالق كثيرة بين الكأس والشفة. ذلك بأن عملا واحدا من أعمال الإخلال بالواجب، ارتكبه الرماة المسلمون الذين أمروا بأن يلزموا مواقعهم عند النقطة التي خشي الرسول أن يباغت صحابته منها، قلب سعودهم نحوسا. إذ ما كاد الرماة يرون إلى المكيين ينخذلون حتى سألوا قائدهم أن يأذن لهم في الاشتراك مع سائر أفراد الجيش الاسلامي بمطاردة العدوّ. وبرغم رفض القائد، غادر الرماة مواقعهم التي كان الرسول قد أمرهم أمرا جازما بأن يلزموها حتى النهاية، على حين لزمها عبد الله بن جبير وقليل آخرون. ولمح خالد بن الوليد، الذي كان على رأس الفرسان المكيين والذي كان يراقب الوضع مراقبة دقيقة، موطن الضعف

_ (*) في «حياة محمد» لمحمد حسين هيكل أن الذي قتله علي بن أبي طالب لا حمزة عم الرسول.

الذي ترك الآن من غير دفاع تقريبا. وسرعان ما اهتبل خالد الفرصة، فشدّ بفرسانه المئتين على الرماة المسلمين القلائل الذين ظلوا عند فم الشّعب، فأجلاهم عنه، وانقضّ على الجيش الاسلامي في وقت تراخت فيه صفوفه واضطربت اثر مطاردته للقرشيين مطاردة حثيثة. حتى إذا رأى المكيون المنهزمون المولّون الأدبار خالد بن الوليد يحمل على المسلمين من خلاف انقلبوا إلى الميدان أيضا، فأذا بالمسلمين يحصرون من أمام ومن وراء. وكان خليقا بكثرة العدو العددية الغامرة أن تسحقهم منذ البدء. سحقا كليا، لولا تدبير حربي وقائي كان الرسول قد اتخذه مقدّما. وتفصيل ذلك أنه كان قد أدخل في حسابه، حين صفّ رجاله للقتال، شأن القائد اليقظ، إمكان تطوّر الموقف لغير صالح المسلمين. والواقع انه إنما كان قد جعل ظهره وظهور أصحابه إلى أحد لمجرد الرغبة في ان يتخذ من الجبل مفزعا يلجأ اليه إذا ما ألّمت بهم كارثة. وكان الرسول، حين شغل المسلمون بمطاردة العدوّ، قد تخلّف هو وطلحة [بن عبيد الله] وسعد [بن ابي وقاص] فلم يبرحوا مواقعهم. فلم يكد يرى إلى خالد ينقضّ على المسلمين ويحتلّ الموقع الذي هجره الرماة حتى أدرك عظم الخطر المحدق بالجيش الاسلامي. ولم يكن أمامه، في تلك اللحظات، غير سبيلين اثنين يستطيع انتهاجهما: - إما أن يكفل سلامته الشخصية بالشخوص إلى مفزع ما، تاركا أصحابه لمصيرهم المقدور، وإما أن يناديهم مخاطرا بنفسه لكي ينقذهم من الخطر. ولقد اختار السبيل الثانية. وإذ وجدهم في ضيق صاح بأعلى صوته: «هلمّوا اليّ، انا رسول الله!» ولم يكد صوت الرسول يبلغ آذانهم حتى التفتوا، كلهم، نحوه وشقّوا طريقهم اليه عبر صفوف العدوّ. ولكن إذا كانت الصيحة قد جمعت المسلمين حول النبي، فأنها قد دلّت القرشيين، أيضا، على مكانه. لقد كان هو [في زعمهم] أصل البلاء كله. وكان غرض

الحرب الأوحد هو التخلص منه. وما هي إلا لحظة حتى أمسى هدف هجمات العدوّ. ولكن صحابته، المتفانين في اخلاصهم له، دافعوا عن حياته الغالية بأرواحهم فصرعوا حوله واحدا إثر واحد. وفي غضون ذلك، قتل مصعب بن عمير، وكانت طلعته شبيهة بطلعة الرسول. فانتشرت انتشار النار في الهشيم شائعة تقول إن الرسول قد قتل. فأوقع ذلك مزيدا من الذعر في صفوف المسلمين التي كان الاضطراب قد دبّ فيها قبل ذلك. واستبدّ الأسى بأحدهم إلى حد جعله عاجزا عن الضرب بسيفه. ودهش مسلم آخر، هو أنس بن النّضر، دهشا عظيما إذ وجده واقفا مكتوف اليدين. حتى إذا سأله عن سبب ذلك أجابه: «وأيّ فائدة ترتجى من القتال بعد أن توفي الرسول؟» فقال أنس: «وما جدوى الحياة إن لم يعد الرسول بيننا؟ فلنقاتل ولنمت على ما مات عليه!» [ثم استقبل القوم فقاتل قتالا شديدا وأبلى بلاء منقطع النظير حتى إنه لم يقتل إلا بعد أن ضرب سبعين ضربة] . وهكذا راح الصحابة يشجع بعضهم بعضا، ويشقّون طريقهم وسط صفوف العدوّ، متحلقين حول قائدهم المحبوب. وكان قد أصيب، آنذاك، بجراح بليغة، وسقط على الأرض [فشجّ في وجهه، وكلمت شفته، ودخلت حلقتان من المغفر الذي يستر به وجهه في وجنته] . واستمات أصدقاؤه المخلصون في الدفاع عنه، منشئين حول شخصه سورا بشريا. وانقضّ العدو بكامل قوته على الرسول. ولكن سور الجنود المسلمين كان أمنع من أن يخترق. فما إن تحدث فيه ثغرة بمصرع واحد منهم حتى. يندفع آخر فيحل محله ويسدّ الثغرة. وسرعان ما استردّ المسلمون رشدهم، بعد الصدمة التي أذهلتهم، ورصّوا صفوفهم، وشدّوا على العدو شدة عنيفة، مقابلين هجمات العدو العنيدة بمثلها. وإلى هذا، فقد كانوا الآن قد ارتدوا إلى موقع تحدّى كل المحاولات لتشتيتهم. وبذل

القرشيون قصارى جهدهم، وشنّوا هجمات متكرّرة، ولكنهم ردّوا في كل مرة على اعقابهم. ثم انهم فقدوا كل أمل في سحق المسلمين، الذين كانوا الآن قد تراصّوا كتلة متماسكة. وانهمرت نبال ابي طلحة، الرامي الشهير، عليهم في سرعة هائلة. ولقد كسر خلال ذلك ثلاث قسيّ. وكان سعد [بن أبي وقاص] يشارك في النضال أيضا. لقد أفرغ كنانة الرسول، وكبّد العدوّ خسائر فادحة. وفوق هذا، فقد كانوا الآن أكثر تعرّضا لنبال المسلمين وحجارتهم، بعد ان احتلوا مواقع ذات امتياز. وهكذا، بفضل حذق الصحابة في الرماية ومواقعهم التي كانت خيرا من مواقع عدوهم، من ناحية، وبفضل ما عرفه القرشيون من الجراءة المتهوّرة التي اتصف بها المسلمون، وجد المشركون ان من حسن الرأي ان ينقلبوا على أعقابهم. وبعد ان حبطت محاولات القرشيين، على هذا النحو، في القضاء على المسلمين، انصرفوا إلى إرواء ظمأهم إلى الثأر في أرض المعركة نفسها. لقد مثّلوا بالقتلى تمثيلا بربريا، وشوّهوا جثثهم جادعين الآذان والانوف. [وبقرت] هند [بطن حمزة] وجذبت بين يديها كبده وجعلت تلوكها لوكا. ليس هذا فحسب، بل لقد انتزعت أحشاءه واتخذت منها اكليلا لرأسها. وصاح ابو سفيان من بعيد: «هل محمد بينكم؟» فأشار النبي إلى أصحابه ليسكتوا. ثم نادى بصوت عال: «هل ابو بكر بينكم؟» فلم يردّ عليه أحد بجواب. فصاح للمرة الثالثة: «هل عمر بينكم؟» وأضاف: «لقد قتلوا كلهم. لو كانوا على قيد الحياة اذن لأجابوا.» وهنا لم يعد عمر قادرا على أن يتمالك نفسه. فأجابه: «يا عدوّ الله، انهم كلهم لا يزالون أحياء لكي ينزلوا بكم الويل!» وعندئذ صاح ابو سفيان: «أعل هبل!» فما كان من الرسول إلا ان قال لعمر: «قم فأجبه: الله أعلى وأجلّ!» لقد كان نزع الرسول إلى غضّ الطرف عن هذيان أبي

سفيان ما بقي ذلك الهذيان مسألة شخصية، وكان يؤثر تجاهله وعدم الرد عليه. ولكن ما إن عدا ابو سفيان نطاق الهذر الشخصي إلى التجديف على الله حتى عجز عن الاعتصام بالصمت. لقد حفزه احترامه لاسم الله العظيم إلى ان يرد على ابي سفيان ردا مناسبا. وكرة أخرى صاح ابو سفيان: «العزّى لنا! العزّى ليست لكم.» فسأل الرسول عمر أن يجيبه من جديد: «الله ناصرنا. أما أنتم فليس لكم من ناصر.» ومع ذلك، فقد كان للرسول فؤاد مفعم بالشفقة حتى على أعدائه. فبينا كانت النبال تنهمر عليه كان يتضرع إلى الله قائلا: «اللهمّ اغفر لقومي فانهم لا يعلمون!» ولم يوفق بعض المسلمين- بعد أن عزلوا عن اخوانهم وسط البلبلة العامة التي عصفت بصفوف المسلمين عند هجوم خالد المباعت- إلى شق طريقهم عائدين إلى مواقع الرسول وصحابته، فتركوا الميدان متوهمين ان جيشهم قد هزم. ولكن زوجاتهم حثون التراب في وجوههم عندما علمن انهم خلّفوا الرسول في الميدان. ثم إن عددا منهن هرعن لتوّهن إلى الميدان، وكلهن يسألن عن الرسول ماذا فعل؟ لقد كان قلقهن عليه أعظم من قلقهن على بعولتهن وأنسبائهن. ويروى ان امرأة من الانصار نعي لها أبوها فاجتزأت بترديد الآية القرآنية المألوفة: «إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ» * وتساءلت في لهفة: هل الرسول بسلام؟ عندئذ قيل لها إن أخاها استشهد أيضا. فردّدت الآية نفسها، ولكنها عاودت السؤال نفسه عن الرسول أهو بسلام؟ ثم إنهم حملوا اليها نبأ آخر موجعا: لقد قتل أبوها أيضا. فأطلقت زفرة عميقة وردّدت الكلمات نفسها. حتى إذا قيل لها: [ «هو بحمد الله كما تحبين» ] زايلها الكرب كله. [فقالت: «أرونيه حتى أنظر اليه» فأشير لها اليه] حتى إذا رأته تنفّست الصعداء وهتفت: «الآن وقد رأيتك فكل

_ (*) السورة 2، الآية 156.

مصيبة بعدك جلل.» * وبروح التسليم السامية نفسها صبرت النسوة الأخريات على مصابهن بأنسبائهن الذين صرعوا في المعركة ومثّل بهم. وكان بعضهن، وفيهنّ عائشة، قد لزمن الجيش في المعركة، فكنّ يسقين الجرحى ويضمدن جراحاتهم في غمرة القتال. وبارتداد المسلمين إلى الجبل يحتمون به أمست المدينة عرضة للهجوم بكل ما في الكلمة من معنى. ولكن أبا سفيان وجموعه لم يؤانسوا في أنفسهم الشجاعة للعودة اليها. إن حالهم لم تكن بأحسن من حال المسلمين، ولقد عزّوا أنفسهم بانسحاب أعدائهم. إنهم لم يجرؤا على متابعة الحرب حتى النهاية خشية ان يفضي ذلك- وكان لهم ملء الحق أن يخشوا- إلى هلاكهم. وهكذا انقلبوا عائدين، على جناح السرعة، إلى مكة، مجتازين عدة أميال في يوم واحد. وفي طريق عودتهم تساءلوا ما إذا كان يجوز لهم- من غير افتئات على الحقيقة- أن يزعموا أنهم رجعوا ظافرين. إنهم لم يكونوا يملكون أية غنيمة من غنائم النصر يعرضونها على أنظار شعبهم، ولم يكن في أيديهم أسير حرب واحد ... أفيعدّ هذا نصرا؟ وكان الجيش الاسلامي لا يزال مسيطرا على ميدان القتال ... أفيعتبر هذا نصرا؟ وكانوا قد عجزوا عن احتلال المدينة برغم انها تركت من غير دفاع ... أفيكون هذا نصرا؟ تلك كانت هي الخواطر التي راودتهم. واقترح بعضهم ان يرجعوا إلى المدينة ليحسموا المسألة، ولكنهم لم يوفقوا إلى استجماع الشجاعة للاقدام على ذلك. وفيما هم يتردّدون على هذا النحو لا يدرون ما يفعلون تسامعوا بأن الرسول يطاردهم بجيشه. والواقع ان القرآن الكريم أطرى البسالة التي أبداها المسلمون في تلك المناسبة إطراء عظيما. ** فهي تقول انهم استجابوا

_ (*) أي كل مصيبة بعدك هينة يسيرة. لأن «جلل» من الاضداد، وتعني الأمر العظيم والامر الحقير. (**) «إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ، وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ.» السورة 3، الآية 153 (المعرب)

في بشر لدعوة الرسول حين كلّفهم ان يخرجوا ويطاردوا العدو، على الرغم من غمّهم وبلواهم. ولقد تعقبوا العدو، في اليوم التالي نفسه، حتى موضع يدعى «حمراء الأسد» ، على مسافة ثمانية أميال من المدينة. ولكن أبا سفيان، الذي اعتبر الحصافة خير عناصر الشجاعة، نكص هو وجيشه على أعقابهم حالما بلغته أنباء المطاردة الاسلامية. إنه لمما ينمّ عن جهل بالوقائع التاريخية أن يستنتج المرء ان المسلمين هزموا في معركة أحد. صحيح من غير ريب ان المسلمين منوا بخسائر باهظة، ولكن من الثابت- بالقدر نفسه- ان قريشا أكرهت على العودة خائبة، أيضا. وهل نقع في صفحات التاريخ على حادثة انتصار واحدة أثبت فيها العدوّ المغلوب أقدامه في الميدان وانقلب الجيش المنتصر عائدا إلى وطنه من غير أن يأسر أسيرا واحدا ... ووجد فيها العدوّ المهزوم الجرأة على مطاردة المنتصرين في غد، بعد بضع ساعات من المعركة ليس غير، على حين ولى المنتصرون الادبار لدن سماعهم نبأ المطاردة؟ ليس من شك في ان المسلمين اجتازوا في هذه المعركة بمحن قاسية. لقد جرح الرسول نفسه جراحات بليغة، بل لقد سرت شائعة تقول إنه قتل، وبذلك خيّل إلى القوم ان أمر الاسلام قد انتهى قولا واحدا. ولكن هذا كله كان واجب الحدوث في حياة الرسول لكي يكون منارة أمل وشجاعة للأجيال الاسلامية اللاحقة، خشية أن تقنط وتضعف في ساعات الضّنك وخيبة الرجاء. إن العدو قد يهلل ابتهاجا لما يتراءى في ناظريه قضاء على الاسلام، ولكن القلب المسلم يجب أن يظل ناعما بالطمأنينة. فالاسلام خالد لا يموت. وكل مصيبة تلمّ به، مهما تكن عظيمة، لا بدّ أن تحمل اليه انتصاره الحقيقي متنكرا بقناع.

الفصل السابع عشر القبائل العربية والمسلمون

الفصل السّابع عشر القبائل العربيّة والمسلمون «لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ «يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ «ظالِمُونَ.» (القرآن الكريم، السورة 3، الآية 127) كان لموقعة أحد أثر جدّ مقلق في نفوس أبناء القبائل العربية على العموم: لقد حفزتهم إلى الجهر بمعاداة الاسلام ومقاومته. ذلك بأنهم اقتنعوا الآن بأن قريشا عازمة على تحطيم الاسلام وإلا لما تجشّمت عناء القيام بمثل تلك الحملة الضخمة وأنفقت ما أنفقت في سبيلها. واذ استوثقوا من تصميم القرشيين على ذلك، بدأ حقدهم المكبوت حتى ذلك الحين يعلن عن نفسه. لقد حسبوا ان القضية الاسلامية قد أخفقت، وان عليهم ان لا يتخلفوا عن المشاركة في شرف الاطاحة بها. وهكذا راحت القبائل، في كل مكان، تعدّ العدة للانقضاض على المسلمين.

كان تثقيف الشعب الاخلاقي والروحي هو، من غير ريب، هدف الرسول الأوحد. ولم تكن الحرب لتشكّل جزآ من برنامج حياته. ولم يكن في الامكان تحقيق هذا الهدف العظيم إلا على أيدي تلك العصبة الصغيرة النبيلة التي كان قد أعدّها لهذا الغرض. أما وقد تعرّض للخطر حتى وجود أولئك الذين عقدوا النية على وقف أنفسهم لتطهير الانسانية روحيا، أفلا يكون من واجبه أن يتخذ جميع الاجراآت الممكنة لحمايتهم؟ كانت مصلحة المثل الأعلى الذي رفعه أمامه تدعو إلى القيام بعمل حازم. وإلى هذا، فقد كان الرسول زعيم الجماعة الصغيرة، وكان- بوصفه هذا- مسؤولا عن سرّائهم وضرّائهم. إن مركزه كزعيم لهم كان يفرض عليه السهر على مصلحة شعبه. وفي هذه الناحية أيضا كان مثلا يحتذيه اولئك الذين أسندت اليهم مقاليد الحكم والسيطرة على الآخرين. وكما أظهر ذلك النموذج الكامل للجنس البشري*، يتعين على الزعيم ان لا يقبل منصبه لمجرد التمتع بالامتيازات التي يتيحها له، بل إن عليه أيضا أن يواجه المسؤوليات الشاقة التي يفرضها. إن واجبه الأخلاقي ليقتضيه ان يفكر في الاساليب والطرائق التي تمكّنه من الدفاع عن شعبه ضد العدوان، وان يتخذ التدابير التي تكفل مصلحتهم. ولو لم يكن للرسول غير هذه المأثرة الباهرة اذن لكانت كافية لأن تبوّئه مركزا فريدا في تاريخ البشرية. لقد وجد شعبه محاطا، من أقطاره جميعا، بأعداء ألدّاء. كان وجودهم كله يتأرجح، ليل نهار، في الميزان. ولقد وفّق، ببعد نظره وتضحيته بنفسه، إلى انقاذهم من جميع الأخطار؛ وتمكينهم من الفوز بأكليل النجاح. إن إنشاء أمة ما، يعتبر في جملة الاعمال العظيمة في التاريخ الانساني، وليس للعقبات الضخام التي ذلّلها الرسول لإنشاء أمة عظيمة نظير في حوليات بناء الامم.

_ (*) يقصد الرسول. (المعرب)

وكان من نتائج معركة أحد ان نكث يهود المدينة عهدهم، وانشأوا يتآمرون مع قريش لانزال الأذى بالمسلمين. ومن ناحية ثانية، فأن أذى المنافقين أمسى الآن أوضح وأصرح. لقد حرصوا على إعنات المؤمنين بكل سبيل. وكانت القبائل المجاورة قد عقدت العزم أيضا على توجيه ضربة قاضية إلى الاسلام، متوهمين انه كان على شفير الانقراض. لقد عدم المسلمون كل أمن وطمأنينة داخل المدينة وخارجها على السواء. وكانت الانباء تشعرهم كل يوم بهجوم يشنّ من هذه الناحية حينا، ومن تلك الناحية حينا. كان عهدا جدّ عصيب. ولم يكن المسلمون بقادرين على الخروج من بيوتهم عزّلا من غير سلاح. ونحن نعلم من بعض الروايات أنهم لم يستطيعوا التخلي عن أسلحتهم حتى في سكينة الليل. وأخيرا استنفد الارهاق صبرهم، ففتحوا قلوبهم للرسول واصفين عجزهم عن الصبر أكثر مما فعلوا بعد ان بلغ السيل الزبى. فكان من دأبه أن يطيّب خاطرهم مؤكدا لهم أن فجر السلام أمسى وشيكا. ولقد شاطرهم بنفسه رهق أيام المحنة هذه وعنتها، واتخذ كل اجراء وقائيّ لاجتناب خطر الهجمات الذي لاح الآن، في كل ناحية من الافق، شديدا عارما. وذات يوم، وكان الظلام لا يزال حالكا، سمعوا جلبة وهديرا، وخافوا أن يكون عدوّ ما قد أقبل لاقتحام المدينة، أو أن تكون ثمة غارة مبيّتة. واحتشد المسلمون من كل صوب، واستعدوا للخروج ابتغاء المقاومة. وكم كان دهشهم عندما بصروا بالرسول عائدا على صهوة جواده بعد أن راد أرباض المدينة كلها. وطمأنهم قائلا إنه ليس ثمة أيّ خطر، وانه لا داعي للقلق البتة. وهكذا أظهر الرسول انه لم يكن مجرد زعيم حكيم بل كان في الوقت نفسه جنديا باسلا يزدري الخطر في جراءة. وبكلمة مختصرة، كانت المدينة تحيا في غمرة خطر موصول. وكان على المسلمين ان يلتزموا الحذر واليقظة لحظة بعد لحظة. لقد عمدوا إلى

خنق أضأل الخطر في مهده. فاذا ما نمي اليهم أن ثمة بلاء يفرخ في ناحية ما، وأن المدينة عرضة لهجوم ما، سارعوا إلى توجيه كوكبة من الرجال لمعالجة الخطر قبل استفحاله. وهكذا كانوا يتلافون، بمجرد الوقاية العاجلة، ما كان خليقا به ان يفضي إلى إضرام نار الحرب على نحو رهيب. إن بعض النقاد المتعصبين على الاسلام يرمونه بتهمة الانتشار بحد السيف. وهو زعم يتنافى تنافيا كليا مع الحقيقة والواقع. فهداية الناس إلى الاسلام لم تتمّ، في أيما يوم من الأيام، من طريق السيف. ولم يسجل التاريخ حادثة واحدة كان فيها إسلام أيما امرئ ثمرة من ثمرات الحملات العسكرية. والحق أن الرسول كان يعيّن- ابتغاء نشر الدين- مبشرين أعدّوا خصيصا لهذا الغرض. فكان من دأب هؤلاء الفقهاء الذين حفظوا القرآن عن ظهر قلب أن ينشروا نور الاسلام في أوساط القبائل على اختلافها. وكان بعض ذوي الغدر يدعون هؤلاء المعلمين بحجة رغبتهم في التفقّه في تعاليم الاسلام، حتى إذا أمسوا تحت رحمتهم عمدوا إلى قتلهم في غير ما شفقة. وقد حدث مثل هذا الصنيع البربري الغادر في بئر معونة [بين ارض بني عامر وحرّة بني سليم] ، في شهر صفر من السنة الرابعة للهجرة. وتفصيل ذلك أن ابا براء [عامر بن مالك ملاعب الأسنّة] زعيم بني عامر وبني سليم وفد على الرسول حاملا بعض الهدايا، وسأله أن يوجّه بعض المعلمين إلى قومه لعلهم يقبلون رسالة الاسلام. فرفض الرسول الهدايا، وقال إنه يخشى غدر أهل نجد. ولكن ابا براء قال: «انا لهم جار، [فابعثهم فليدعوا إلى امرك. وكان ابو براء رجلا مسموع الكلمة في قومه لا يخاف من أجاره عادية أحد عليه] فوافق الرسول آخر الأمر على ان يرسل معه سبعين* من خيار المعلمين المسلمين. حتى إذا بلغوا مكانا يعرف ب «بئر معونة» وجدوا أنفسهم بين أشداق جيش كبير.

_ (*) في المصادر الأخرى أنه أرسل أربعين من هؤلاء المعلمين فقط. (المعرب)

وهناك قتل حملة الرسالة الالهية هؤلاء بحد السيف، ما خلا واحدا، هو عمرو بن أمية، وفّق إلى النجاة بنفسه ليروي على مسمع الرسول تلك القصة التي يتفطر لها الفؤاد. فأصيب الرسول من جراء هذا الغدر الوحشي بصدمة عنيفة [ووجد لقتلى بئر معونة أشد الوجد] . ويحدثنا التاريخ عن مأساة مماثلة وقعت في مكان آخر يدعى الرّجيع. فقد وجهت بعض القبائل رهطا منها إلى محمد يقولون له: «إن فينا اسلاما، فابعث معنا نفرا من أصحابك يعلموننا شرائعه ويقرئوننا القرآن.» فلم يكن من الرسول إلا ان بعث اليهم بعشرة* واجهوا المصير نفسه. لقد قتل ثمانية منهم وهم يقاتلون دفاعا عن النفس، على حين وثق اثنان، خبيب [بن عديّ] وزيد [بن الدّثنّة] ، بعهد الغادرين، فاستسلما. ولكنهم نكثوا بميثاقهم هذه المرة أيضا، وبدلا من أن يطلقوا سراحهما كما عاهدوهما، باعوهما للمكيين بيع الرقيق. فلم يكن من بني الحارث، الذين أمسى خبيب مولى لهم، إلا ان اقتادوه إلى خارج الحرم، وهو الارض المقدسة التى كان كل ضرب من ضروب العنف محظورا فيها حتى في الجاهلية، ليصلبوه. [فقال لهم: إن رأيتم ان تدعوني حتى أركع ركعتين فافعلوا، فأجازوه ما أراد. فركع الركعتين ثم أقبل على القوم وقال: أما والله لولا أن تظنوا اني إنما طوّلت جزعا من القتل لاستكثرت من الصلاة. ثم انهم رفعوه إلى خشبة وأوثقوه اليها، فنظر اليهم بعين مغضبة وصاح: اللهمّ أحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تغادر منهم أحدا] . أما زيد فاشتراه صفوان بن أمية للغرض نفسه. وشهد ابو سفيان وزعماء قريش المقدّمين كلهم مقتله. فلما استلّ [نسطاس، مولى صفوان بن أمية] السيف ليقطع به رأسه حاول ابو سفيان أن يغريه

_ (*) وفي بعض المصادر ان عددهم كان ستة. (المعرب)

إغراء لا يقاوم بأن قال له: «أنشدك الله يا زيد، أتحبّ ان محمدا الآن عندنا في مكانك تضرب عنقه وأنت في أهلك؟» وكم كان جواب زيد نبيلا جليلا في تلك الساعة الحرجة من حياته وقد حدّق الموت اليه في عينيه! لقد قال: «والله ما أحبّ ان محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأنا جالس في أهلي!» ، [فعجب ابو سفيان وقال: «ما رأيت من الناس أحدا يحبه أصحابه كما يحبّ اصحاب محمد محمدا.] والواقع ان هذا مثل نموذجي على تعلّق أصحاب الرسول به وحبهم العميق له. والحق أن سفك القبائل العربية الغادر لدماء المسلمين على هذا النحو الذي لا يرحم آلم الرسول إيلاما كبيرا. كان في ميسوره أن يصبر على مختلف ضروب المحن والمشاق، ما بقيت هذه المحن والمشاق مقصورة على شخصه هو. ولكنه لم يستطع صبرا على تعذيب اولئك الذين اعتنقوا دين الحق ولم يحجموا عن الوقوف إلى جانبه في السراء والضراء مضحّين في بشر وابتهاج بكل ما ملكت أيديهم في سبيل الله، مكتسبين بذلك- عند الله- مقاما عليا. وكان قتل المعلمين الدينيين صدمة له لا تحتمل، حتى لقد عقد النية ذات مرة على ان يتضرع إلى الله أن يأخذ المعتدين بجرائمهم الشنيعة. والواقع ان تلك القبائل كانت تستحق ان تلقى مثل ذلك القتل التعذيبي، ولكن الرسول اجتزأ، في أساه العميق ذاك، بأن دعا الله ان يتولى أمرهم. ولكن الله كان قد ارسله رحمة للجنس البشري كله، * ومن اجل ذلك لم يرض له ان يكون من القسوة بحيث يستنزل الغضب الالهي حتى على امثال هؤلاء المجرمين الكبار. كان يريده ان يكون تجسيدا للرحمة الكلية ... الرحمة التي لا تميّز بين صديق وعدوّ. ومن هنا نزل الوحي الالهي يقول: «لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ

_ (*) «وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ» ، السورة 21، الآية 107.

أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ.» * ولم يكد الرسول يتلقّى هذا اللوم الالهي حتى كفّ عن إضمار النقمة على الذين قتلوا المعلمين الدينيين الوادعين، في وحشية بالغة. يا للقلب الرقيق! هل يستطيع التاريخ أن يباهي بمثله؟ واختصارا لحكاية الويل والشقاء الطويلة هذه، نقول إن بلاد العرب بكاملها كانت تتميز بالغيظ والحقد على الاسلام. كان اليهود، والمنافقون، وعبدة الاوثان، كلهم- منفردين ومجتمعين- قد عقدوا العزم على إبادة الاسلام. ولولا الحذر الذي أبداه الرسول والذي تمثّل في كبته كل عاصفة من عواصف المعارضة قبل أن تقوى وتشتد إذن لكان من المعتذر على المسلمين ان يلبثوا يوما واحدا في المدينة. وهكذا لم يكن قد بقي للمسلمين، بحكم تلك الملابسات التي أحاطت بهم، غير سياسة عملية واحدة يستطيعون أن ينتهجوها: وهي ان يعمدوا إلى تفريق قوى العدوّ قبل ان يتّحد ويصبح من القوة بحيث يسحق الاسلام سحقا. والحق انه لم يكن في طوقهم ان يقعدوا مكتوفي الأيدي، ويشهدوا جموع العدو تحتشد حتى تمسي أقوى من أن يقدروا عليها. كان من الواضح ان مثل هذا الموقف خليق به ان يعني القضاء على الاسلام قضاء لا ريب فيه. وهكذا أكرههم حفظ الذات، مسوقين إلى ذلك بسلطان الظروف وحدها، إلى الامساك بالثور- إذا جاز التعبير- من قرنيه. ومن المناوشات الصغيرة التي حدثت في هذه الفترة مناوشة تعرف بمعركة «بدر الصغرى» ، أو «بدر الآخرة» . وتفصيل ذلك أن [أبا سفيان] كان قد تحدّى المسلمين، لدن مغادرته ميدان أحد، قائلا: «يوم بيوم بدر، والموعد العام المقبل.» وهكذا لم يحن ذلك الموعد حتى سار المسلمون إلى بدر، حتى إذا لم يجدوا القرشيين هناك انقلبوا عائدين بسلام، بعد أن باعوا، في السوق التي كانت تقام في ذلك الموطن

_ (*) السورة 3، الآية 127.

سنويا، جميع السلع التي حملوها معهم. وكانت موقعة «دومة الجندل» و «ذات الرّقاع» في السنة الخامسة للهجرة، وموقعة «بني لحيان» و «ذي قرد» في السنة السادسة للهجرة كلها من هذا الضرب. كان المسلمون لا يكادون يتلقّون أيما نبأ عن استعدادات العدو العسكرية حتى يبعثوا على التوّ بسريّة من رجالهم، فيتفرق شمل القوات المعادية على نحو آليّ، أو في بعض الاحيان اثر مناوشة يسيرة. وثمة عدد من المناوشات الأخرى المماثلة تلفت نظرنا منها، بخاصة، تلك التي تعرف بموقعة المريسيع أو موقعة «بني المصطلق» . وكان بنو المصطلق فرعا من خزاعة التي شدّها إلى القرشيين حلف وثيق، وكانوا يقيمون في موطن يعرف بالمريسيع، على مسيرة تسعة أيام من المدينة. وتفصيل الأمر ان زعيمهم الحارث بن ابي ضرار اعدّ العدة للهجوم على المدينة، بتحريض من قريش في أغلب الظن. وبلغ النبأ الرسول، فحقق فيه، فألفاه صحيحا. وسرعان ما أصدر أمره باتخاذ استعدادات مضادة لتشتيت قوى الحارث. وولىّ الحارث وجيشه الأدبار، ولكن أهل المريسيع قاتلوا المسلمين فانهزموا. لقد اسر المسلمون ستمئة منهم، وفيهم جويرية بنت الحارث. ووفد الحارث على الرسول لكي يفتدي ابنته. فترك الأمر لمشيئة جويرية، فآثرت البقاء مع الرسول. وفي هذا ما يغني عن مجلدات توضع في وصف المعاملة الرفيقة التي كان أسرى الحرب يلقونها من المسلمين في غير ما استثناء. ودفع الرسول الفدية من ماله هو، وبني بجويرية نزولا عند رغبتها. أما الأسرى الآخرون الستمئة، فأطلق سراحهم جميعا. وفي تلك المناسبة بالذات، لدن عودة المسلمين إلى المدينة، وجّهت تهمة ظالمة إلى عائشة.. تهمة تطعن في شرفها وعفافها. والواقع أن الأبرار طالما قاسوا من افتراآت أعدائهم وتخرّصاتهم. وقبل ذلك بزمن طويل رميت مريم، أمّ يسوع، بتهمة مماثلة دحضها القرآن الكريم. وهذه

المرة وجّهت التهمة، على لسان بعض المنافقين، إلى امرأة مثل مريم في الطهارة والشرف. وقد أظهر البحث في حقائق الاشياء أن هذه الفرية أيضا كانت ثمرة حقد وضيع. وإلى هذا، فقد نزل الوحي الالهي، كما نزل في حق مريم، لتبرئة عائشة من المظنّة. (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ. لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً، وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ. لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ. وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ. إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ. وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ. يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ. وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً، وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ

وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ. يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ.) *

_ (*) السورة 24، الآية 11- 25.

الفصل الثامن عشر معركة الأحزاب

الفصل الثامن عشر معركة الأحزاب «وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ «قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ «وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ «إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً.» (القرآن الكريم، السورة 33، الآية 22) وبينا كان الرسول منهمكا في كبت أذى القبائل العربية، لكي يتلافى نشوب الحرب على نطاق واسع، كانت قريش في شغل شاغل بأعداد حملة جديدة على المدينة. وكانت القبائل اليهودية المنفية من المدينة، والمقيمة الآن في خيبر، حليفة لهم أيضا في القضية المشتركة: قضية إبادة الاسلام. ولقد وفقوا إلى تحريض العشائر البدوية المقيمة على مقربة من مكة، فانضمت بدورها إلى الحلف المعادي للاسلام. وهكذا تضافرت قريش، واليهود، والبدو لضرب الاسلام ضربة قاضية.

حتى إذا كانت السنة الخامسة للهجرة حشدوا جيشا عظيما يتراوح عدد رجاله، وفقا لمختلف التقديرات، ما بين عشرة آلاف جندي وأربعة وعشرين الف جندي. وحتى القبائل اليهودية المقيمة داخل أسوار المدينة خانت المسلمين وتعاونت، في آخر لحظة ممكنة، مع المغيرين. ومن ثم لم يكن للمسلمين، إذا نظرنا للمسألة بمنظار بشري صرف، غير أضأل الحظ في النجاة من هذا السيل الزاخر من المهاجمين. وبلغ الرسول الكريم نبأ هذا الهجوم الوشيك المعدّ على نطاق لم يسبق إلى مثله من قبل. فسارع إلى دعوة أصحابه يشاورهم في الأمر ويتدارس معهم خير الطرق لمواجهة الموقف. فأشار سلمان الفارسي بتحصين المدينة من طريق حفر خندق عميق عريض يحيط بها من أقطارها جميعا. وكان للمدينة- من ناحية- حاجز طبيعي من الصخور الوعرة، وكان يصونها- من ناحية أخرى- جدران البيوت الحجرية المبنية على نحو مكتظّ، في استمرار غير منقطع، والتي كانت تؤلف في ذات نفسها خطا دفاعيا منيعا. وفي الحال بدئ بحفر الخندق في الناحية المعرّضة للهجوم. وقسم الرسول العمل بين جماعات من المسلمين، كل جماعة مؤلفة من عشرة رجال، وشارك هو نفسه في الحفر مثل عامل عاديّ. إن التاريخ لم يدوّن لنا غير حادثة مفردة عن شخصية كان لها سلطان روحي وزمني أيضا على امة من الامم، ومع ذلك فقد عملت مثل عامل عاديّ، جنبا إلى جنب مع أتباعها، في ساعة الحرج الوطني العظيم. إنه لمن سمات شخصية الرسول المميّزة أنه كان يضفي رواء على ايما شيء يشارك في صنعه. فحيثما وضعته أدى واجبه في كياسة عجيبة. ولئن كان، من ناحية، أكثر الملوك رجولة، لقد كان- في الوقت نفسه- أكثر الرجال جلالا ملكيّا. وفيما هم يحفرون انتهوا إلى حجر

صلد. وبذلوا كلهم قصارى جهدهم لتحطيمه. وهكذا اقترح على الرسول، الذي كان قد رسم حدود الخندق بيديه الاثنين، أن يجيز لهم الانحراف بعض الشيء عن الخطة الأصلية. فلم يكن منه إلا أن تناول معولا وانهمك في أداء المهمة التي أعجزت رجاله. لقد هبط إلى جوف الخندق وراح يقرع الصخرة بعنف، فانزاحت مطلقة في الوقت نفسه شرارة نار لم يكد الرسول يلمحها حتى صاح، يتبعه أصحابه، «الله اكبر!» وقال إنه رأى في الشرارة أن مفاتيح قصر الملك في الشام، قد آلت اليه. وضرب الصخرة كرة أخرى فانشقت، مطلقة شرارة النار نفسها. وكرة ثانية ارتفع التكبير: «الله اكبر!» ولاحظ الرسول انه وهب مفاتيح المملكة الفارسية. وعند الضربة الثالثة تناثرت الصخرة قطعا وأعلن الرسول انه رأى مفاتيح اليمن تصبح ملك يديه. ثم أوضح قائلا إنه، في المرة الأولى، أطلع على قصر قيصر، وفي المرة الثانية على قصر اكاسرة فارس، وفي المرة الثالثة على قصر صنعاء، وأنه أنبئ أن أتباعه سوف يمتلكون تلك البلاد كلها. ظاهرة رائعة! كانت قوة جبارة، تتألف من اربعة وعشرين الف رجل، تقف عند أبواب المدينة نفسها على أتم استعداد لسحق الاسلام. وكانت بلاد العرب كلها متعطشة لدماء المسلمين. وفي غمرة من سحب هذا الخطب الرهيب تلمح عين الرسول شعاعا قصيا يؤذن بالقوة التي ستتم للاسلام في المستقبل! أليس ذلك شيئا يتخطى أبعد طاقات الخيال البشري؟ ومن غير الرب الكلّي الحكمة والكليّ العلم يستطيع أن يكشف أسرار المستقبل هذه في لحظة كان الاسلام مهدّدا فيها بالفناء المطلق؟ ودب الذعر في نفوس المسلمين عندما انقضّت الاحزاب المتحالفة، بكامل قوّتها، على المدينة؛ لقد زلزلت آساس البلد نفسها. ولقد وصف ما ألمّ بالقوم، في تلك اللحظة، من كرب وارتباك، بهذه الكلمات:

«إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا. هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً.» * ولكن من خلال مشهد الرعب والذعر الظاهريّ استطاعت افئدة المؤمنين ان تقرأ مصداق ما وعدهم ورسوله. ولقد صوّر الله ما دار في خلدهم بالآية التالية: «وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً.» ** وعلى الرغم من أن الاحتمالات كلها كانت تشير، على نحو ساحق، إلى ان المسلمين سوف يبادون، وعلى الرغم من المخاوف التي عصفت بهم في تلك الحال الكالحة فقد أدركوا ان هذه المحاولة كانت المحاولة الأخيرة اليائسة يقوم بها عدوّ مختضر. إنها سوف تقصم ظهر العدو مرة وإلى الأبد، وتؤذن باستهلال عهد سعيد، عهد انتصار الاسلام. وعلى سبيل الوقاية من هجوم محتمل من الخارج، أو خيانة يهودية من الداخل نقل النساء والأطفال إلى مواطن حصينة. واستمر الحصار نحوا من شهر، قاسى المسلمون خلاله- وفيهم الرسول نفسه- من ويلات المجاعة شيئا كثيرا. لقد سلخوا أياما عديدة من غير أن يذوقوا ايما طعام، فتعيّن عليهم ان يشدوا إلى بطونهم قطعا من الحجارة. ولكن روحهم لم تقهر بسبب من ذلك البتة. وذات يوم، اقترح النبي رشوة قبيلة غطفان من طريق وعدها ثلث ثمار المدينة [إن هي

_ (*) السورة 33، الآية 10- 11. (**) السورة 33، الآية 22.

ارتحلت] . وكان خليقا بهذا الاقتراح ان يسهم إسهاما كبيرا في خضد شوكة العدوّ. وعلى الرغم من المجاعة التي قاساها المسلمون، والضيق الذي ألمّ بهم من جراء الحصار المتطاول والسهر والحراسة الموصولين فقد رأوا ان في القبول بمثل هذا الذل جرحا لكرامتهم. وقال الأنصار، الذين عنتهم المساومة المقترحة مباشرة، إنهم لم يدفعوا ايما جزية اليهم حتى في الجاهلية، فكيف يطيقون الاذعان لهم، خاصة وأن في الأمر مساسا بشرف الاسلام نفسه؟ إنهم سوف يقاتلون حتى آخر رجل من رجالهم، وليكن ما يكون! وكان اليهود والمنافقون يتحينون الفرصة للانقضاض من داخل، على نحو متواقت مع الهجوم من خارج. وجرت بادئ الامر مبارزات كتبت الغلبة فيها للمسلمين. كان عمرو بن ودّ، وهو بطل عربي شهير، يعتقد أنه كفؤ لألف رجل، [فتقدّم ينادي: «من يبارز؟» ولما دعاه عليّ بن أبي طالب إلى النزال قال في صلف: «لم يا ابن أخي؟ فو الله ما أحب أن أقتلك!» فقال عليّ: «لكني أحب والله أن أقتلك!» فتنازلا فقتله عليّ] . وأخيرا شنّت قريش، بكامل قوّتها، هجوما عاما، ولكنها لم تستطع أن تقتحم الخندق. بيد أن سهامها ونبالها انهمرت انهمار وابل رهيب، ولولا ثبات المسلمين الراشح بروح الانضباط لكسب العدو المعركة. لقد عجز الجيش العظيم، البالغ عدده اربعة وعشرين الف مقاتل، عن اختراق خط دفاعهم، فألمّ به الاعياء. كان الحصار قد أمسى مرهقا له. وإلى هذا، كانت مؤن العدو قد نفدت. ثم هبّت ريح عاتية فاقتلعت خيامهم، وكفأت قدورهم، فدبّ الاضطراب في صفوفهم. وإلى هذه الحادثة يشير القرآن الكريم بقوله: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا

عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها، وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً.» * لقد حققت الريح للمسلمين ما كان متعذرا عليهم أن يحققوه بقوة سلاحهم. وإذ رأت قريش وأحلافها أن الطبيعة نفسها كانت تعمل ضدهم دبّ الذعر في نفوسهم. لقد اعتبروا ذلك نذيرا بشؤم. وهكذا انسحبوا، يائسين، في تلك الليلة نفسها، وكم كان ابتهاج المسلمين عظيما، وشكرهم لله غامرا، حين لم يروا ايا من أعدائهم هناك، صباح اليوم التالي. هل كانت اليد العاملة من وراء الستار، والتي احبطت محاولات القوى المتفوقة الهادفة إلى سحق حفنة من المسلمين والتي أفسدت خطط اليهود والمنافقين الغادرة، غير يد الله نفسه؟ وعلى هذا النحو انتهت بالخيبة والذعر الشاملين أقوى حملة منظمة شنّت على الاسلام.

_ (*) السورة 33، الآية 9.

الفصل التاسع عشر العلاقات مع اليهود

الفصل التّاسع عشر العلاقات مع اليهود «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا «بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ «خَبالًا، وَدُّوا ما عَنِتُّمْ، قَدْ «بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ، «وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ، قَدْ «بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ «تَعْقِلُونَ.» (القرآن الكريم، السورة 3، الآية 118) كان اليهود، كما لا حظنا من قبل، يؤلفون عنصرا قويا من عناصر السكان في المدينة. ولقد تعاونت التجارة والربا على جعلهم أصحاب ثراء ضخم. وكان من دأب الأوس والخزرج، عامة، ان يقترضوا المال منهم. وفي حقل الثقافة أيضا، تفوق اليهود عليهم.

بل لقد تقدّموا جيرانهم في كل ميدان من ميادين الحياة تقريبا. ولدن وصول النبي إلى المدينة عقد اليهود اتفاقا مع المسلمين. ولكن ازدهار الاسلام المتعاظم اضرم في قلوب اليهود شرارة الحسد. ولقد وفّقوا، ببقائهم على اتصال بالمنافقين سرّيّ، إلى انزال أعظم الاذى بالمسلمين. ولم يتورّعوا حتى عن ايذاء الرسول نفسه، الذي كانوا يوجهون اليه كلمات بذيئة نابية. كانوا، مثلا، إذا ما تحدّثو اليه حرفوا كلمة «راعنا» التي تعني «أصغ الينا» إلى «رعينا» وتعني «إنه مجنون» بسبب من حذف حرف العلة. وكذلك كانوا يحرفون كلمة «السلام عليكم» فيلفظونها «السّام عليكم» أي الموت لكم. واصطنع اليهود خططا بارعة عديدة للاضرار بقضية الإسلام. فكان بعضهم يعتنقون الدين الجديد وكل قصدهم ان يخرجوا من حظيرته عددا من المسلمين كبيرا. وما كان في بادئ الأمر حسدا انتهى مع الايام إلى أن يغدو عداوة حقيقية. لقد عرّضوا بالسيدات المسلمات في أبيات من الشعر الفاحش، أيضا. بل لقد انحطوا إلى درك مضايقتهن في الشوارع. وقد أفضت إحدى هذه الحوادث إلى مقتل رجل يهودي وآخر مسلم في شارع بالمدينة، وإلى نشوب قتال حقيقي بين الطائفتين. وعمد بنو قينقاع، القبيلة اليهودية التي وقع الشر بينها وبين المسلمين، إلى تحذير هؤلاء زاعمين انهم ليسوا مثل قريش، وانهم سوف يلقون على أصحاب محمد درسا قاسيا. وهكذا نقضوا عهدهم، واعتصموا في حصونهم عاقدين العزم على مقاتلة المسلمين. وتعيّن على المسلمين أيضا أن يتأهبوا للحرب، فألقوا الحصار على تلك الحصون. وبعد خمسة عشر يوما انقضت على الحصار استسلم بنو قينقاع وأبدوا استعدادهم لقبول أيما عقوبة يرى الرسول إنزالها بهم، جزاء نقضهم عهده. لقد طلب اليهم أن يجلوا عن المدينة، ففعلوا، واستقروا في [أذرعات] من بلاد الشام. وإنما تم ذلك بعد شهر واحد، تقريبا،

من معركة بدر. وقامت قبيلة يهودية أخرى، هم بنو النّضير، على الرغم من تعاهدها مع المسلمين، بمفاوضات سرية مع قريش منذ البدء. لقد كتب القرشيون اليها، قبل موقعة بدر، يسألونها قتل الرسول. والواقع ان بني النّضير هؤلاء دعوا الرسول ذات يوم وحاولوا الغدر به، ولكن محاولتهم أخفقت. وإذ تجلّت خيانتهم من طريق أعمال كهذه لم يعد في طوق الرسول ان يجيز لمثل هذا العنصر الخطر أن يبقى في قلب المدينة من غير ان يعرّض سلامته وسلامة المسلمين للخطر. وهكذا خيّروا بين تجديد اتفاقهم مع المسلمين كتوكيد لنيّاتهم السلمية، أو الجلاء والاقامة في مكان آخر. وجدّد بنو قريظة، الذين لم يتهموا حتى الآن بأيما عمل جدّي غادر ضد المسلمين، عهدهم عن طيب نفس. ولكن بني النّضير، وكانوا نزاعين إلى الشر والأذى، رفضوا الاقدام على ذلك. ومن ثم أمسوا أعداء للاسلام على نحو صريح. ووعدهم عبد الله بن أبيّ، أيضا، العون والمساعدة، فزادهم ذلك ثباتا في مقاومتهم للمسلمين. ويتعيّن علينا ان لا ننسى هنا أن الاسلام كان يمرّ آنذاك بمرحلة حرجة جدا من مراحل حياته. كانت هي فترة معركة أحد، عندما تألّب الأعداء من كل صوب وشهروا السلاح لتسديد ضربة قاضية إلى الاسلام. كان الهجوم، يشنّ من الخارج، خطرا من غير ريب، ولكن الانفجار الداخلي المرتقب في كل لحظة كان أشدّ من ذلك خطرا. يقول المثل: الإنذار المسبّق يساوي التسلح المسبّق. وكان هذا ممكنا في حال هجوم خارجي، لما يتيحه للمسلمين من وقت يستعدون خلاله لمواجهة الوضع. أما الانفجار غير المرتقب في المدينة نفسها فخليق به أن يكون طعنة قاتلة توجّه إلى فؤاد الاسلام نفسه. وكان بنو النّضير على صلات ودية مع أعداء الاسلام. وهكذا كان رفضهم تجديد الاتفاق بمثابة اعلان للحرب.

وإلى هذا، فقد كانوا متهمين بمحاولة اغتيال الرسول. ونظرا لهذه الاعتبارات كلها لم يكن أمام المسلمين غير سبيل واحد: أن يعاملوهم معاملة أعداء جاهروا بعداوتهم. وهكذا ألقوا الحصار على حصونهم، ثم رفعوه شريطة أن يجلو بنو النّضير عن المدينة. فشخص بعضهم إلى خيبر واستقروا فيها. وإنما حدث ذلك في السنة الرابعة للهجرة. ومثّل بنو النّضير دورا هاما في معركة الأحزاب. فبالاضافة إلى تحريضهم بيوتات قريش، راحوا يطوّفون في الصحراء ملمّين بمضارب البدو، يثيرونهم على الاسلام. وتأثر بنو قريظة أيضا، وكان موقفهم من الاسلام حتى ذلك الحين ودّيا، بهذه الحملة الدعاوية. لقد رفض بنو قريظة هؤلاء، أول الأمر، أن يشاركوا في الحرب ضد الاسلام. ولكنهم تلقّوا تأكيدات تفيد أن المسلمين كانوا في وضع يائس لن يتمكنوا معه من البقاء. إنهم لن يستطيعوا، بأية حال، الصمود في وجه الأعداد الضخمة التي نجمت، مثل نبات الفطر، في كل ناحية، للقضاء على الاسلام. ولقد قيل لبني قريظة إنه قد آن لهم ان يختاروا بين الانحياز إلى المسلمين وبين التعاون مع الأحزاب. وهكذا أقنع بنو قريظة بالانضمام إلى صفّ سائر القبائل المعادية للاسلام. فنقضوا عهدهم الذي أعطوه للمسلمين، وتحالفوا مع الاحزاب، واعدين اياهم بأن يسدوا اليهم العون في النزاع المقبل: معركة الاحزاب. والحق أن الميثاق الجديد، برغم أنه عقد سرّا، لم يبق حرفا ميتا. فقد شارك بنو قريظة عمليا في القتال. وإلى هذا يشير القرآن الكريم بقوله: «وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً.» *.

_ (*) السورة 33، الآية 26.

والتاريخ، أيضا، يشهد على اشتراكهم في المعركة. بل لقد بيّتوا خطة للهجوم على نساء المسلمين أيضا. وكان في خيانة بني قريظة- وقد برز في الجانب الآخر من الخندق اربعة وعشرون الف مقاتل متحرقين لسحق الاسلام، وانهمك المنافقون في انزال الاذى بالمسلمين في الداخل- ما زاد في متاعب الرسول وأصحابه إلى حد بعيد. وهكذا رثي، عند انقضاء معركة الاحزاب، ان من المناسب أن تنزل ببني قريظة العقوبة التي يستحقّون، والتي قد تحول دون تكرّر مثل هذه الخيانة الغادرة في المستقبل. ومن ثم ألقى المسلمون الحصار على معاقلهم. فاستسلموا بعد مقاومة قصيرة. وإنما حدث هذا في السنة الخامسة للهجرة. وقد اختار بنو قريظة بأنفسهم سعد بن معاذ، وكان في ما مضى حليفهم، حكما يعيّن العقوبة التي يستحقون. ولو انهم فوّضوا أمرهم إلى الرسول اذن لعاملهم في أغلب الظن كما عامل أبناء عمومتهم بني قينقاع وبني النّضير. لقد كان خليقا به ان يحكم عليهم، في أسوأ الأحوال، بالنفي من المدينة. ولكن سعدا، الحكم الذي اصطفوه هم، كان ينظر إلى غدرهم الخطر، في لحظة الحرج، باشمئزاز بالغ. لقد ارتأى أن عظم الاذى الذي أنزلوه بالمسلمين يقتضي عقوبة نموذجية بدونها لن تحظى المواثيق، في المستقبل، إلا باحترام ضئيل، وقد يعتبرها أيّ من الفريقين المعنيّين عندئذ قصاصات ورق لا قيمة لها. ومن هنا انتهى إلى هذا القرار: ان جزاءهم العادل يجب ان لا يكون، بأية حال، أخفّ من تلك التي قضى بها كتابهم المقدس، العهد القديم، في حقّ العدو المهزوم. وهذا ما يقضي به «العهد القديم» في هذا الصدد: «وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحدّ السيف. وأما النساء والاطفال والبهائم وكل ما في المدينة، كل غنيمتها، فتغتنمها لنفسك وتأكل غنيمة اعدائك التي أعطاك الرب الهك.» (سفر

التثنية، 20: 13- 14) وهكذا حكم سعد، وفقا للشريعة الموسوية، بقتل ذكور بني قريظة، وعددهم ثلاثمئة، وبسببي نسائهم وأطفالهم، وبمصادرة ممتلكاتهم. ومهما بدت هذه العقوبة قاسية فقد كانت على وجه الضبط العقوبة التي كان اليهود ينزلونها، تبعا لتشريع كتابهم المقدس، بالمغلوبين من أعدائهم. وإلى هذا فأن جريمة الغدر الشائنة التي اتّهم بها بنو قريظة خليق بها، في مثل تلك الظروف، أن لا تجازى بأيما عقوبة أخفّ، حتى في عصر المدينة هذا. كان القاضي من اختيارهم، وكان الحكم منطبقا أشدّ انطباق مع شريعتهم المقدسة نفسها. وفوق ذلك، فقد أدينوا بخيانة من نوع خطير. فهل من المنطق في شيء أن ينتقد الرسول لهذا السبب؟ ان كل اعتراض على قسوة هذه العقوبة هو اعتراض على الشريعة الموسوية. إنه في الواقع انتقاد لا شعوريّ لتلك الشريعة، وتسليم بأن شريعة أكثر انسانية يجب أن تحلّ محلّها. وأيما مقارنة بالشريعة الاسلامية في هذا الصدد خليق بها أن تكشف، في وضوح بالغ، أيّ قانون رفيق، عطوف، رحيم قدّمه الاسلام إلى الناس. أما موقعة خيبر فقد حدثت بعد صلح الحديبية، في السنة السابعة للهجرة، ولكنا لا نحسب، بقدر ما يتعلق الأمر بأثرها في العلاقات الاسلامية اليهودية، أن من الخروج على الموضوع أن نتحدث عنها في هذا الفصل. فحين نفي بنو النّضير من المدينة، نزلت كثرتهم الكبرى، وبخاصة زعماؤهم وأعيانهم، في خيبر، معقل اليهود في بلاد العرب، على مبعدة مئّي ميل، تقريبا، من المدينة. وكان اليهود ينعمون ثمة بسلطان مستقلّ، وكانوا قد حصّنوا الموقع تحصينا قويا. حتى إذا وفد عليهم بنو النّضير غرست بذرة العداوة للاسلام في قلوبهم. وما إن نشبت معركة الأحزاب حتى راحوا يحرّصون

المكيين، وقبيلة غطفان، والقبائل البدوية، على المسلمين؛ بل لقد وفّقوا إلى اكتساب تعاون بني قريظة أيضا. ورسخت جذور القوة الاسلامية في المدينة بعد اخفاق حملة الأحزاب. ولكن الحقد اليهودي لم يزدد إلا ضراوة. لقد أجروا مفاوضات سرية مع عبد الله ابن أبيّ، زعيم المنافقين، الذي أكّد لهم توكيدا جازما انه لا يزال في امكانهم سحق القوة الاسلامية. وفي العام السادس للهجرة منع المكيون الرسول من أداء فريضة الحج، وتعيّن عليه ان يعقد معهم صالحا بشروط مذلّة بعض الشيء. وكان في هذا ما مكّن في نفوسهم الاعتقاد باضمحلال قوة الاسلام، فراودتهم آمال جديدة في القضاء على المسلمين نهائيا. عندئذ شرعوا يتآمرون كرة أخرى مع قبيلة غطفان، رجاة تسيير حملة جديدة على المدينة. وبلغت الرسول أنباء ما بيّتوه، حتى إذا تبيّن الأمر واستوثق من صحته، سيّر إلى خيبر قوة مؤلفة من الف وستمئة مقاتل. وعلى منتصف الطريق بين خيبر ومنازل غطفان يقع موطن يعرف بالرّجيع. ولاعتبارات استراتيجية اختير الرّجيع قاعدة للهجوم، إذ كان يقطع كل اتصال بين الموطنين. وهكذا لم يعد في امكان اليهود ان يرتقبوا أيما عون من غطفان. ليس هذا فحسب، بل ان غطفان- التي وعت خطورة ما أقدمت عليه- خشيت أن يشن المسلمون عليها هجوما، فهي من نفسها في شغل شاغل. لقد ظنّ أن اليهود سوف يتخلون عن فكرة المقاومة، ويجنحون إلى الاستسلام. حتى إذا تقدم المسلمون إلى خيبر تبدّى ان اليهود كانوا قد اتخذوا استعدادات كاملة لخوض معركة ضارية مع المسلمين. وبدأ القتال. ووفّق المسلمون إلى احتلال عدد من حصون اليهود، أما حصن «القموص» ، وكان منيعا جدا يحميه عدد من الرجال وافر، فامتنع عليهم. والواقع انه صمد لهجماتهم نحوا من عشرين يوما، ولم يسقط إلا بعد أن حمل عليه عليّ بن أبي طالب حملة ضارية.

ثم ان اليهود استسلموا، وطلبوا أن يبقيهم الرسول على أراضيهم شرط أن يقدّموا إلى المسلمين نصف ثمرها. فأجابهم الرسول إلى ما طلبوا، وأجاز لهم الاحتفاظ بأراضيهم، برغم ثقته من انهم لن يحجموا عن انزال الاذى بالمسلمين [حين تتاح لهم الفرصة] . وبعيد عقد هذه التسوية مباشرة، ائتمر زعماء اليهود بالرسول*، وحرّضوا زينب [بنت] الحارث [بن ابي زينب] ، وكانت زوجة [سلّام بن مشكم] الذي قتل في المعركة، على ان تدعو الرسول إلى طعام مسموم. ولكن العناية الالهية اشعرت الرسول بما بيّت له من غدر، فلم يكد [يلوك مضغة من الشاة المسمومة] حتى لفظها [وهو يقول: «إن هذا العظم ليخبرني انه مسموم» ] ، في حين أساغ أحد أصحابه، بشر بن البراء، ما طعم من الشاة وازدرده فمات من اثر السمّ. والحق أن المسلمين عاملوا بني النّضير بعد ذلك معاملة سمحة، ولكن ما فطروا عليه من غدر ونزوع إلى الاذى جعلهم في نجوة من التأثر بتلك المعاملة السمحة، فلم تنطفئ في قلوبهم نار العداوة للاسلام. لقد ظلوا مصدر ازعاج للمسلمين سرمديّ، فلم يكفّوا يوما عن التآمر عليهم وعن ايذائهم على نحو خسيس. ولقد واصلوا مؤامرانهم تلك حتى خلافة عمر بن الخطاب. وذات يوم قذفوا بابن عمر نفسه، عبد الله، من سطح بيت من البيوت. وإذ اثبتت الأيام اخفاق كل محاولة من المحاولات التي قام بها المسلمون لتألّفهم، نفوهم آخر الأمر إلى بلاد الشام. بيد ان الرسول حاسن يهود خيبر وعاملهم معاملة رحيمة. لقد بذل قصارى جهده لتألّفهم. وكان خليقا بالمحاولة التي قاموا بها لتسميمه أن تبرّر اتخاذ أقسى الاجراآت ضد الشعب اليهودي كله. ولكنه كان شديد الحرص على ان يراهم متحدين مع المسلمين برباط

_ (*) ائتمروا به: هموا به وأمر بعضهم بعضا بقتله

من المودة والصداقة. ومن هنا لم ينزل بهم أيما عقوبة. لقد اجتزأ بانزال عقوبة الموت بزينب وحدها، التي كانت الاداة المباشرة لتنفيذ تلك الجريمة الحقيرة، وهذه أيضا إنما قتلت في بشر الذي مات مسموما. وعفا الرسول عن المتآمرين- والشعب اليهودي كله تورّط في المحاولة الشنيعة- وتركهم ينعمون بالأمن والسلام. لقد استحقوا كلهم عقوبة الموت، ولكن الرسول رجا أن يفضي العفو إلى تغيير موقفهم المعادي. وبالاضافة إلى هذا كله، قام بخطوة أخرى في سبيل الصداقة معهم. فقد كان بين السبايا التي أخذها المسلمون [من حصون خيبر] صفيّة ابنة زعيم بني النّضير [حييّ بن أخطب] . فأعتقها الرسول وتزوّجها. ولقد زعم الزاعمون أن المسلمين غنموا عند فتحهم خيبر كنوزا أسطورية. ولكن هذه المزاعم كلها لا تعدو أن تكون حكايات خيالية في إمكان الباحث أن يدرك مقدار صحتها أحسن ما يكون الادراك إذا علم ان الرسول، يوم بنائه بصفية، لم يجد ما يمكّنه من دعوة أصدقائه، جريا على مألوف العادة، إلى وليمة عرس. ومن أجل ذلك سئل كل من الصحابة أن يحمل معه طعامه. فتشكّلت من مجموع هذا كله وليمة العرس. وكان ما وضع أمام الجماعة لا يعدو التمر ومسحوق الشعير. على هذا النحو احتفل بزواج ملك منتصر من أميرة!

الفصل العشرون صلح الحديبية

الفصل العشرون صلح الحديبية «إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً، لِيَغْفِرَ «لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما «تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ «صِراطاً مُسْتَقِيماً. وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ «نَصْراً عَزِيزاً.» (القرآن الكريم، السورة 48، الآية 1- 3) لقد أثبتت معركة الأحزاب أن الاسلام مؤيّد بروح الهية. فقد بذلت قريش قصارى جهدها للقضاء على الدين الجديد في معركتين متواليتين، بدر وأحد، ولكنها لم توفّق إلى أكثر من انزال بعض الاذى به. وناضلت القبائل البدوية المختلفة أيضا، كل بمفردها، لزعزعة قدمي الاسلام الراسختين، ولكنها عجزت عن ذلك. وسعى المنافقون واليهود إلى نسف الاسلام من داخل، ولكن عبثا. وأخيرا، قامت قريش، وقبائل البدو، والمنافقون، واليهود- يعني

الاعداء الخارجيين والاعداء الداخليين معا- بمحاولة مشتركة للأطاحة بالاسلام، ولكن النتيجة كانت هي هي، لم تتغير ولم تتبدل. وكان هذا هو النضال الأخير. ومنذ ذلك الحين لم يجد العدوّ في نفسه الجرأة على مهاجمة المدينة. إن هذه حقائق تاريخية، يسلّم بصحّتها الصديق والعدوّ على حد سواء، ومع ذلك يرفع بعض القوم عقائرهم قائلين ان الاسلام مدين بانتشاره للسيف. ولكن الوقائع والارقام، كما دوّنت في وضح التاريخ، تشير إلى عكس ذلك تماما. فالحقيقة هي ان الاسلام انتشر، لا بالسيف، ولكن برغم السيف. إن أيما دين لم يتكشّف قط عن مثل هذه البسالة. لقد سلّت السيوف على الاسلام من كل حدب وصوب، ولكنها بدلا من أن تهلكه ساعدت، إذا جاز التعبير، على نشره. لقد شنّت على المدينة ثلاث حملات متعاقبة، ابتغاء إبادة الاسلام، وكل منها أعنف من سابقتها وأقوى. ولكن ما كانت النتيجة؟ هل أوهنت قوة الاسلام بأية حال؟ على العكس، فنحن نلاحظ في كل مرة تزايدا في عدد المسلمين المعبّأين للقتال. ففي معركة بدر كان الجيش الاسلامي مؤلفا من ثلاثمئة رجل ليس غير، على حين ارتفع عدده بعد عام واحد، في معركة أحد، إلى سبعمئة، وأخيرا ارتفع ذلك العدد، في معركة الاحزاب، فبلغ نحوا من ألفين. وهكذا نشهد نموا في قوة الاسلام يتناسب واستفحال سورة الهجوم عليه. يعني ان ازدهار الاسلام كان يتعاظم كلما قويت المحاولة الرامية إلى سحقه، وأن قدمه كانت تزداد رسوخا كلما تنافس أعداؤه في السعي إلى كبته. ويوما بعد يوم اشتد ساعد الاسلام. لقد عجزت أيما عاصفة عن استئصاله، وعجزت ايما سموم عن تصويحه. كانت يد الله تعمل على دعمه. وكان قد انقضى على معركة الاحزاب نحو من عام عندما رأى الرسول نفسه، في ما يرى النائم، يؤدي فريضة الحج، مع أصحابه، في

الكعبة. لقد خيّل للمسلمين ان قريشا، وقبائل البدو التي بذلت أقصى جهدها لمقاومة الاسلام، قد أكبرت فيه قوته الفطرية. وظنوا كذلك ان القوم قد أعجبوا بصدق الاسلام، ومن أجل هذا لن يتعرضوا للمسلمين وهم يؤدون فريضة الحج. وفوق ذلك، فقد كان حجّ البيت حقا لم ينكر قطّ حتى على ألدّ الخصام. ومن هنا لم يكن ثمة أيما سبب يدعو القرشيين إلى اعتراض سبيل المسلمين. وهكذا خرج الرسول في السنة السادسة للهجرة، على رأس ألف وأربعمئة من صحابته، يريد الحج إلى مكة. وقد حظر على أصحابه، حذر أن يسيء القرشيون فهم دوافعه، ان يحملوا سلاحا. وكان خليقا بهذا أن يطامن شكوك القرشيين ويؤكد لهم نيات المسلمين السلمية. كانت السيوف المغمدة هي كل ما أجيز للمسلمين حمله. وكان السيف، في تلك الايام، شيئا عاديا يحمل على نحو موصول، مهما يكن الأمن مخيّما على الربوع. وساق المسلمون معهم الهدي [سبعين بدنة*] ، جريا على مألوف عادتهم، وانطلقوا كلهم- وعدّتهم كما ذكرنا ألف واربعمئة- نحو مكة. حتى إذا أمسوا على مقربة دانية من مكة ألفوا قريشا على استعداد لأن تصدّهم عنها بقوة السلاح. وحمل بديل [بن ورقاء] ، زعيم خزاعة- ولم يكن مسلما ولكنه كان يستشعر للاسلام مودة- هذا النبأ إلى الرسول، فكلفه أن ينقلب إلى قريش ليعلمها ان المسلمين أقبلوا ليؤدوا فريضة الحج لا ليقاتلوا. واقترح الرسول أيضا على قريش عقد صلح بينه وبينها إلى أجل بعينه. ومن ثم توقف المسلمون في الحديبية، على مسيرة يوم من مكة. وحمل بديل الرسالة إلى قريش. ونزعت العناصر الاكثر تعقّلا وخبرة إلى قبول ما عرضه الرسول من الصلح. فقد كانت لديهم أسباب وجبهة تدعوهم إلى الاعتقاد بأنهم عاجزون عن انزال ايما اذى بالاسلام.

_ (*) البدنة: الناقة المسمنة. (المعرب)

كانوا قد بذلوا قصارى جهدهم غير مرة، في تلك السبيل، ولكن على غير طائل. وإلى هذا، فأن عقد الصلح خليق به أن يمكّنهم من استئناف التجارة مع الشام، تلك التجارة التي عطّلت بسبب الحرب مع المسلمين المسيطرين على طريقها. وهكذا أوفد القرشيون عروة [ابن مسعود الثقفي] سفيرا يفاوض المسلمين في شروط الصلح. وخلال المناقشة قال عروة ان من الخير للرسول أن لا يطمئن إلى أصحابه اطمئنانا كثيرا، لأنهم سوف ينصرفون عنه في سهولة ويسر إذا ما ألمّ به خطب. فثارت ثائرة ابي بكر لدن سماعه هذا الكلام، وصاح به [منكرا ان ينصرف الناس عن رسول الله] وعامله في شيء من القسوة. واتفق ان أذّن لصلاة العصر وعروة هناك ما يزال. حتى إذا قام الرسول يتوضأ شاهد عروة أصحاب الرسول يبتدرون وضوءه فلا يدعون نقطة من الماء الذي توضأ به تسقط على الارض. إلى هذا المدى قادهم حبّهم لشخص الرسول. والواقع أن هذا المشهد ترك في نفس عروة اثرا عميقا. صحيح ان المفاوضات أخفقت آخر الأمر، ولكن عروة حمل إلى قريش انطباعته عن الاحترام العظيم الذي أكنّه الصحابة للرسول. لقد قال لهم: «يا معشر قريش، إني جئت كسرى في ملكه، وقيصر في ملكه، [والنجاشيّ في ملكه] وإني والله ما رأيت [ملكا] في قوم قط مثل محمد في أصحابه. [لا يتوضأ إلا ابتدروا وضوءه، ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه، وإنهم لن يسلموه لشيء أبدا، فروا رأيكم.] » وبعث الرسول إلى قريش بموفد آخر، ولكنهم أساؤا معاملته، وعقروا جمله. ليس هذا فحسب، بل لقد خرجت سريّة قرشية مسلحة ابتغاء أخذ المسلمين على حين غرّة، ولكن المسلمين أسروهم. وأيا ما كان فسرعان ما خلّى الرسول سبيلهم جميعا لأنه لم يأت ابتغاء القتال. وأخيرا عهد إلى عثمان [بن عفان] في مفاوضة قريش،

فاحتجزته قريش لديها. وسرت شائعة تقول إن عثمان قتل. وشرع المسلمون يعتقدون ان قريشا مصممة على القتال. لقد كان الموقف موقفا حرجا. فالمسلمون عزّل من السلاح تقريبا، وعددهم أقلّ من عدد القرشيين بكثير. كانت قريش تتمتع دونهم بكل مظهر من مظاهر التفوق والامتياز. ولكن يا للايمان الراسخ بالرعاية الالهية! فحين أخفقت المفاوضات كلها، وبدا تصميم العدو على سفك الدم، لم يكن لمسلم أن ينقلب على عقبيه. ودعا الرسول أصحابه اليه ليبايعوه من جديد، بالنظر إلى حرج الموقف إلى حدّ بعيد، على القتال حتى آخر رجل فيهم، دفاعا عن الدين. فبايعوه تحت شجرة ما، مجاورة، وملء نفوسهم البشر والابتهاج. وإنما تعرف هذه البيعة، في التاريخ، ب «بيعة الرضوان» . ولقد كانت عملا باسلا من أعمال التضحية بالذات في سبيل الحق، يعزّ نظيره، كما كانت حدثا بارزا في تاريخ الاسلام. وبعد وفاة الرسول، أخذ الناس يكثرون من الاختلاف إلى تلك الشجرة التي أحيت ذكرى ذلك القرار البطوليّ. فلم يكن من عمر، الخليفة الثاني، إلا أن أصدر أمره بقطعها مخافة أن تضفي عليها سلامة النية، آخر الأمر، ضربا من القداسة. إلى هذا الحد انتهت غيرة المسلمين الأولين على مبدأ وحدانية الله. فلم يكن في ميسورهم أن يتسامحوا بكل ما له نكهة كنكهة الوثنية، أيا ما كانت أهميته أو طرافته التاريخية. وكان في عزم المسلمين على اراقة آخر نقطة من دمهم دفاعا عن دينهم ما ردّ قريشا إلى صوابها. والحق ان تجربتها الماضية نفعتها في هذا المجال. فقد أمسى في ميسورها الآن أن تدرك ما يعنيه مثل هذا القرار يتخذه المسلمون. وكان في امكانها ان تستشف الكارثة العظمى المدّخرة لها إذا ما جدّ الجد، برغم ان المسلمين كانوا عزّلا من السلاح، وكانوا دون عدوّهم عددا. وحملها ضعف معنويّتها هذا

على ايفاد رجل منها، سهيل بن عمرو، إلى الرسول لاستئناف المفاوضات، [وقالت له: إئت محمدا فصالحه، ولا يكن في صلحه إلا ان يرجع عنا عامه هذا. فو الله لا تحدّث العرب عنا أنه دخلها علينا عنوة أبدا] . وتوصل الفريقان [بعد مفاوضات طويلة] إلى الاتفاق على شروط صلح يقرّ السلام بينهما عشر سنوات. واليك أهم مواد تلك المعاهدة: 1. يرجع الرسول عامه ذاك فلا يؤدي فريضة الحج. 2. يجوز للمسلمين ان يفدوا في العام القادم على مكة، ولكن لا يجوز لهم ان يلبثوا في مكة أكثر من أيام ثلاثة. 3. لا يحق للمسلمين ان يصطحبوا أيا من المسلمين المقيمين في مكة، ولا ان يعترضوا سبيل أيما امرئ منهم قد يرغب في التخلف في مكة. 4. من أتى محمدا من قريش من غير إذن وليّه ردّه عليهم، ومن جاء قريشا ممّن مع محمد لم يردّوه عليه. 5. من أحب من العرب ان يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب ان يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه. حتى إذا شرعوا في تدوين نصوص الاتفاق استهل عليّ العهد، وكان هو المكلّف بالكتابة، بهذه الكلمات: «بسم الله الرحمن الرحيم» . فاعترض سهيل على افتتاح الوثيقة بهذا الاستهلال الاسلامي، مصرّا على اصطناع الصيغة التقليدية الشائعة منذ عهد بعيد في بلاد العرب، أعني «باسمك اللهم.» فقال رسول الله لعلي: «اكتب باسمك اللهم» . [ثم قال: «اكتب: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو.» ] فاعترض سهيل على ذلك قائلا: «أمسك، لو شهدت انك رسول الله لم أقاتلك. ولكن اكتب اسمك واسم

أبيك.» ولكن عليا قال انه لن يشطب كلمتي «رسول الله» بيده هو. اما الرسول فلم يعلق أية أهمية على مثل هذا التفصيل التافه، فسأل عليا ان يدله على موضع الكلمتين المختلف عليهما. حتى إذا دلّه عليّ عليهما محاهما بيده هو وأملى بدلا منهما: «محمد بن عبد الله» . لقد أثارت شروط الصلح اشمئزاز المسلمين إثارة بالغة، ولكنهم لزموا الهدوء احتراما منهم لموقف الرسول. وفي غضون ذلك أقبل على المسلمين أبو جندل بن سهيل [بن عمرو] . كان قد اعتنق الاسلام في مكة، وكانت قريش قد عذّبته بسبب من ذلك. وأخيرا وفّق إلى الفرار من أيدي مضطهديه، وكان قد أقبل الآن إلى معسكر المسلمين متوقعا، طبعا، أن يلقى ثمة ترحيبا حارا. لقد أظهر المسلمين على آثار التعذيب في جسده، فتأثر الرسول لمشهدها، وحاول أن يدخل على المادة الرابعة من الاتفاقية تعديلا يكون في مصلحة أبي جندل. ولكن سهيلا أبى في عناد، وهكذا تعيّن على الرسول أن يذعن. وحرّكت محنة أبي جندل مشاعر المسلمين تحريكا بالغا. انهم لم يطيقوا ان يروا اليه يعاد إلى أشداق الاضطهاد. وبلغ التأثر بعمر ابن الخطاب حدا جعله أعجز من أن يضبط نفسه. فراح يجادل الرسول، ناطقا بلسان جمهرة المسلمين جميعا. لقد سأله: «ألست برسول الله؟» قال: «بلى» . قال: «أولسنا بالمسلمين؟» قال: «بلى» قال: «اوليسوا بالمشركين؟» قال: «بلى» . قال: «فعلام نعطي الدنيّة في ديننا؟» قال: «أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره [ولن يضيعني] .» فسأله عمر: «ألم تقل لنا إننا سوف نؤدي فريضة الحج؟» فأجابه الرسول: «أنا لم أقل لكم اننا سوف نؤدي فريضة الحج هذا العام.» وعلى النحو نفسه جادل عمر ابا بكر في الموضوع

نفسه، فكان جواب ابي بكر إن الرسول لا يخالف أمر الله في كل ما يفعله. وبكلمة موجزة، استشعر المسلمون قلقا عظيما من جراء ابي جندل ولكنهم لم يغيّروا من الأمر شيئا. ولاحظ الرسول ان هذه المحنة تنطوي على امتحان حاسم لعهد المسلمين ووعدهم، وان عليهم ان يحترموا كلمة الشرف التي أعطوها، مهما كلّفهم ذلك. ثم إنه واسى ابا جندل أيضا قائلا له: «إصبر واحتسب فأن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين مخرجا.» حتى إذا انقلب الرسول إلى المدينة نزل الوحي على الرسول [بسورة الفتح، فتلا على أصحابه] قوله تعالى: «إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً. لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ، وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً، وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً.» * إن ما اعتبره المسلمون صالحا شائنا كان في عيني الله نصرا حقيقيا. وعلى التوّ دعا الرسول عمر بن الخطاب ليزفّ اليه النبأ السعيد. وأوجس عمر في نفسه خيفة، ذلك بأنه كان قد انفعل أكثر مما ينبغي في نقاشه مع الرسول حول شروط الصلح، فحسب أنه إنما دعي لكي يلام على ما بدر منه ويؤنّب. ولكنه لم يكد يدخل على الرسول ويسمع الوحي الالهي حتى تبدّل خوفه بهجة. وسأل عمر الرسول: «هل نزلت هذه الآيات في صلح الحديبية؟» حتى إذا أجابه الرسول أن نعم آمن مع غيره من المسلمين بأن ذلك الصلح كان في الحقيقة نصرا لهم. كان كل امرئ، حتى ذلك الحين، ناقما على شروط المعاهدة المخزية؛ أما الآن فقد أمست سورة الفتح على كل شفة ولسان. والواقع

_ (*) السورة 48، الآية 1- 3.

أن تجاربهم في الماضي أقنعتهم بصدق الوحي. كان تاريخ الاسلام مفعما، حتى تلك الفترة، بأحداث مماثلة. والحق ان الايام أثبتت ان صلح الحديبية كان هو انتصار الاسلام أيضا. يدلك على ذلك ان الرسول، حين وفد على مكة بعد عام ونصف عام، رافقه عشرة آلاف من صحابته بدلا من الف واربعمئة وهو عدد من كان معه زمن ذلك الصلح. فكيف نعلل هذا الازدياد العظيم في عدد المسلمين؟ الواقع ان حالة الحرب التي سادت حتى ذلك الحين بين المسلمين والمشركين كانت قد أقامت بينهما برزخا عريضا. كان الحقد العام على الاسلام قد حال بين العرب وبين الامتزاج بالمسلمين، ومن هنا لم تتح لهم أيما فرصة للاحتكاك بالمسلمين، والتعرّف إلى الفضائل الاسلامية. فاذا بصلح الحديبية يعقد ما بين الفريقين- للمرة الاولى منذ انبثاق الحركة الاسلامية، ولمدة من الزمن غير يسيرة- جسرا على ذلك البرزخ القديم. لقد أتاح ذلك للمشركين فرصة التفكير الهادئ في فضائل الاسلام الفطرية. فأدركوا كيف هذّب جميع اولئك الذين تأثروا بسلطان الرسول الاخلاقي ورفعوا إلى صعيد أسمى. إن من طبيعة النفس البشرية أن يعمى المرء عن رؤية محاسن من يضمر لهم العداء ولو في أوهن أشكاله. وكان العرب قد عقدوا العزم على إبادة الاسلام، فهم في وضع لا يساعدهم على ان يقدروا تعاليم الاسلام حق قدرها. أما وقد أزبل ذلك الحاجز الآن، واستؤنف الاتصال السويّ بالمسلمين فقد أمسوا في مركز يمكّنهم من ان يدرسوا أخلاق المسلمين وعاداتهم. لقد تلاشت جميع انطباعاتهم الخاطئة عن الرسول، تلك الانطباعات التي خلقتها العداوة والبغضاء. وأدركوا بأنفسهم أنه لم يكن براغب في قطع صلة الرحم ولا بمثير للشقاق أو متاجر به، كما توهموا من قبل. لقد تجلّى لهم الآن نبل طبيعته وجمال أخلاقه. وأدركوا انهم كانوا ضحية التمويه والتضليل، وان شخصية الرسول كانت أسمى بكثير مما

صوّرت لهم. والواقع ان عددا كبيرا منهم أعجبوا بسموّ مثل الرسول العليا وطهارة مسالك أصحابه، فدخلوا في الجماعة الاسلامية. وهكذا تحقق الوحي الالهي الذي أنزل على الرسول في طريق عودته من الحديبية: «لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ.» * لقد محيت جميع الذنوب التي عزاها الحقد اليه، فتكشّفت للقوم، كرة أخرى، شخصيته الفاتنة بكامل الغنى المميّز لجمالها. وقوله تعالى «وما تأخّر» ينطوي أيضا على وعد خاص بالمستقبل. فهذه الكلمات النبوئية تعلن ان كل اتهام ضده، في المستقبل، لن يجاز له أن يصمد؛ لا، إنه سوف يتهافت هو الآخر، كما تهافتت الاتهامات السابقة. وليس على المرء إلا أن يلاحظ التغير اليومي الطارئ على نظرة اوروبة إلى الرسول حتى يدرك صحة هذا الجزء من الآية القرآنية. فالصورة الكاريكاتورية البشعة التي رسمها الاوروبيون له حتى الآن، سواء من طريق الجهل أو التضليل، تخضع اليوم- من ذات نفسها- لتغير ملحوظ. ان اوروبة لتدرك، يوما بعد يوم، نبل شخصيته وصفاءها. ولا بدّ أن يقرّ الناس، عاجلا أو آجلا، إقرارا جماعيا بسمو حياة الرسول، كما تنبأ القرآن. ومثل هذا الاقرار يجب ان يتمّ اليوم، كما تمّ من قبل، في أعقاب سلم شامل. أما وقد أشبع الآن نهم اوروبة إلى التوسع الإقليمي فقد أمسى في ميسور المرء أن يرجو انبثاق عهد من المثالية جديد. ان اتصال اوروبة بالاسلام قد غدا أوثق من ذي قبل، ولقد حان الوقت لأن يؤدي هذا الاتصال إلى تحريرها من فكراتها الخاطئة عن الاسلام، فتدرك، شأن أعداء الرسول قبل ثلاثة عشر قرنا، ان وجه الاسلام الوسيم بريء من أيما وصمة الصقها به الحقد والضغينة. انها قد تدرك، خلال بحثها الحاليّ عن الضياء الذي تفتقده في معتقداتها،

_ (*) السورة 48، الآية 2.

أن خلاصها كامن في ذلك الاسلام نفسه الذي دأبت منذ البدء على تصويره بألوان ليس أشدّ منها قتاما. عجيبة هي طرائق الله، فلا غرابة إذا ما أعاد تاريخ الاسلام نفسه. إن اولئك الذين عقدوا العزم على إبادته قد يسحرهم، عما قريب، سلطانه الاخلاقي كالذي حدث عند عقد صلح الحديبية. ومن يدري فقد تتجلّى قوة الله كرة أخرى، فاذا بما يبدو اليوم- وفقا لكل تقدير بشريّ- وكأنه قهر نهائيّ للاسلام ينقلب غدا ليصبح انتصار الاسلام الحقيقي. إن قبول الرسول لمثل هذه الشروط القاسية [التي انطوى عليها صلح الحديبية] لم يكن خلوا من حكمة الهية. فالحادثة نفسها شهادة بليغة على ان الرسول كان شديد المقت للحرب. كان المسلمون، حتى ذلك الحين، هم أصحاب اليد العليا في مختلف النزاعات التي نشأت بينهم وبين قريش. إنهم لم يعرفوا الهزيمة مرة واحدة قط، برغم تألب القبائل كلها عليهم وتعاونها ضدهم. لقد اعتبروا تلك الشروط ماسة بكرامة دينهم، وأصرّوا على رفضها. وكانوا قد أقسموا ليقاتلنّ حتى آخر رجل فيهم دفاعا عن شرف الاسلام. ومع ذلك، نجد الرسول- في حيثما بدا له اضأل دليل على جنوح العدو للسّلم- يرحب بتلك البادرة ترحيبا قلبيّا. إن المسلمين لم يهزموا، ولكن أحكام المعاهدة بدت وكأنها تعاملهم بوصفهم الفريق المغلوب، ومع ذلك قبلها الرسول. أفيمكن لمثل هذا الموقف أن يكون موقف رجل وطّن النيّة على التحكّم بالآخرين والاستبداد بهم، كما يزعم الزاعمون؟ أليس ذلك برهانا قاطعا على مدى حب الرسول للسلم وتعلّقه به؟ إن القرآن أيضا ليوصي بضرورة اتخاذ هذا الموقف نفسه حين يقول: «وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.» *

_ (*) السورة 8، الآية 61.

ولكن ما كانت، على أية حال، ثمرة الصلح الذي بدا مذلا حتى في أعين المسلمين أنفسهم؟ هل وضع حدا لدخول الناس في الدين، في مكة؟ لقد كان خليقا بذلك الصلح، وفقا لكل منطق بشريّ، أن يفضي إلى ذلك. ذلك بأنه كان برهانا جديدا على عجز المسلمين وقلة حيلتهم. كان في ميسور الداخلين في الدين، حتى ذلك الحين، ان يعتمدوا على العون يأتيهم من اخوانهم المسلمين في المدينة. ولكن المسلمين حرموا، بحكم شروط الصلح، حقّهم في نجدة معتنقي الدين الجديد، الذين كانوا في قبضة ظالميهم ومضطهديهم. ليس هذا فحسب، بل لقد أمسوا عاجزين عن إيواء هؤلاء المؤمنين الجدد إذا ما وفّقوا للفرار بأنفسهم إلى المدينة. إنه لعزاء عظيم للمرء أن يجد نفسه، في أيام المحنة، بين فريق من أصدقائه، برغم ان اولئك الاصدقاء أنفسهم قد لا يكونون في حال أفضل. إنه لمما يسريّ عن النفس أن يكون معهم في مركب واحد، كما يقولون. ولكن حتى مصدر السلوان الأخير هذا أنكره صلح الحديبية على الداخلين حديثا في الاسلام. فكيف يجد امرؤ في نفسه الجرأة، في ظل تلك الأحوال، على اعتناق الاسلام؟ كان المسلم يخضع، في موطنه [مكة] ، لضروب من العذاب رهيبة، ولكنه لم يعدّ يطمع في أن ينعم، الآن، في المدينة نفسها، بحال أفضل. إن ما أصاب أبا جندل لا يزال ماثلا في أذهان القوم، وخليق به ان يوهن عزيمة أكثر الناس حماسة. والواقع ان مثل هذا الوضع كان ينبغي أن يضع حدا لتقدّم الاسلام. ولكن أليس مما يروع المراقب ان يكون الضياء الاسلامي قد انتشر- على عكس ذلك- في هذه الفترة بالذات بسرعة تبلغ عشرة أضعاف سرعته السابقة؟ فما هو اذن الاستنتاج المنطقي الوحيد؟ إنه ليس شيئا أكثر من هذا: إن قيمة الاسلام الجوهرية لترجح رجحانا عظيما شبح التعذيب والاضطهاد

على اختلاف ضروبهما. إن جمال الاسلام الفاتن لينسي محبّه جميع الآلام التي قد يجرّها اعتناقه عليه. لقد عجز التنكّر في المدينة، بقدر ما عجز الاضطهاد في مكة، عن تثبيط همّتهم، فاذا بالآلام والمحن تتلاشى أمام حبّهم للحقيقة على نحو استغرق كل شيء. وتلك مناسبة أخرى تغري الناقد بالتأمّل والتفكير. أيتعيّن عليه أن يدعو هذا الوضع انتشار الاسلام بالسيف، أم انتشار الاسلام برغم سيف العدو؟ وحذا عتبة، وهو رجل جريء آخر اعتنق الاسلام فعذبته قريش من غير رحمة، حذو ابي جندل، ففرّ ناجيا بنفسه إلى المدينة. عندئذ عهدت قريش إلى رجلين اثنين في تعقّب آثاره، فطلبا إلى الرسول ردّه، وفقا لأحكام صلح الحديبية. فلم يكن من الرسول إلا أن أشار عليه، كما أشار على أبي جندل من قبل، أن ينقلب عائدا إلى مكة. فاحتج عتبة في دهش، قائلا: «يا رسول الله أتردّني إلى المشركين يفتنوني في ديني؟!» ذلك وضع حرج جديد: - عتبة يتضرع باسم الدين، من ناحية، وقريش نصرّ على تنفيذ المعاهدة، من ناحية أخرى. وهذه المرة كان مركز الرسول، بوصفه في المدينة، أشدّ منعة مما كان في قضية ابي جندل بالحديبية، يوم كان المسلمون حفنة ليس غير ... حفنة عزلاء من السلاح أيضا. ولكن قانون الشرف النبوي لا يجيز نقض العهد في استخفاف، حتى ولو أفضى ذلك إلى ارتداد مسلم عن دينه. وقال الرسول للرجل: «لا مناص لنا، يا عتبة، من ردّك إلى قريش. وإن الله لجاعل لك مخرجا.» إن احترام الرسول لعهده الذي قطع لرائع، ولكن حب عتبة للاسلام ليس أقل روعة. ما الذي يدعوه إلى المبالاة بالاسلام، بعد، وقد ردّه الرسول نفسه إلى أيدي المشركين؟ ولكنه لا يجيز لنفسه، وهو المفتون بسحر الاسلام،

أن يتساءل لماذا يفعل الرسول ذلك. وهكذا نزل عند ارادة الرسول، في اذعان لا يعرف التردد، ورافق الرجلين المكيّين عائدا إلى حيث كان الموت ينتظره ويحدّق إلى وجهه عن كثب. لم تكن ثمة قوة أرضية تقيه غيظ قريش، وكانت غريزة حفظ الذات تكرهه على النجاة بنفسه. لقد قال في ذات نفسه إن عليه، أيا ما كانت النتائج، ان يضرب الضربة التي تنقذ حياته. وهكذا اغتنم فرصة ملائمة أتيحت له فقتل واحدا من حارسيه، على حين ولى الآخر الأدبار فرارا من الموت. ولكن المدينة كانت لا تزال أرضا محرّمة عليه. إن عليه ان يبحث عن مفزع له في مكان آخر. وهكذا نزل العيص على ساحل البحر [في طريق قريش إلى الشام] ، وكان شبه منطقة محايدة. ومن ثم فزع سائر المسلمين المضطهدين في مكة، والذين أوصدت في وجوههم أبواب المدينة، إلى الموطن نفسه، فإذا به ينمو، شيئا بعد شيء، ليصبح آخر الأمر مستوطنا كبيرا للاجئين المسلمين. ولم يكونوا ثمة بخاضعين لأحكام صلح الحديبية. وسرعان ما أوقعت قوّتهم النامية الذعر في قلوب القرشيين، الذين خافوا ان يعمد هؤلاء المسلمون، في يوم من الايام، إلى اعتراض طريق تجارتهم مع الشام. وهكذا رأوا ان من الخير لهم أن ينسخوا المادة التي فرضت إعادة الفارين من مكة [إلى مكة] ، إذ وجدوا ان مثل هذا النّسخ خليق به أن يضعف مستوطن «العيص» إضعافا كبيرا.

الفصل الحادي والعشرون دعوة الملوك إلى الإسلام

الفصل الحادي والعشرون دعوة الملوك إلى الإسلام «قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى «كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا «نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً «وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ «دُونِ اللَّهِ، فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا «اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ.» (القرآن الكريم، السورة 3، الآية 64) والحق ان الحوادث التي تلت صلح الحديبية أثبتت إثباتا لا لبس فيه ان ذلك الصلح كان ايذانا بانتصار الاسلام. لقد تعاظمت قوّة الاسلام العددية أضعافا مضاعفة. وانضوى، الآن، تحت راية الاسلام فاتحون مشهورون- من مثل خالد بن الوليد وعمرو بن العاص- كانوا في يوم من الايام فخر قوّات العدوّ. وهكذا حقّق

السلم ما عجز عن تحقيقه أيّ نصر في ساحة القتال، مهما عظم. ولقد اعتبره الرسول بشيرا بمنجزات رائعة، وعدّل برنامج نشاطاته وفق ذلك. فلم يكد يرجع من الحديبية حتى دعا المسلمين كلهم إلى اجتماع عام، وأوضح لهم ان الاسلام قد جاء رحمة للناس كافة. وان الوقت قد حان لحمل رسالة الاسلام إلى كل حدب وصوب، إلى ملوك الممالك المجاورة: قيصر رومة، وكسرى فارس، وعزيز مصر، ونجاشيّ الحبشة، وبعض الزعماء العرب، ودعوتهم إلى الدخول في دين الله. ومن هذه الرسائل لم يكتشف في الفترة الأخيرة غير تلك التي وجّهت إلى المقوقس، ملك مصر، محفوظة في نصها الاصلي حتى يوم الناس هذا. وتقول الرواية أيضا ان المقوقس عني بصيانة الرسالة ضمن علبة حليّ نفيسة. ولقد نشر اليوم نصّها الاصلي، فاذا به ينطبق انطباقا حرفيا على ما أوردته الرواية. والحق ان المقوقس رحب بموفد الرسول ترحيبا عظيما، وأرسل إلى الرسول أيضا بعض الهدايا، على الرغم من انه لم يدخل في الدين الجديد. وقد اشتملت تلك الهدايا على بغلة [بيضاء] يركبها الرسول شخصيا، وعلى جاريتين اثنتين تزوّج الرسول احداهما، واسمها مارية، وبذلك ارتقت من وضع جارية مملوكة إلى مرتبة ملكة. أما الجارية الأخرى، [وتدعى سيرين] ، فقد [أهداها الرسول] إلى حسان [بن ثابت] الشاعر فتزوّجها. وبعث الرسول دحية [بن خليفة] الكلبي بكتاب إلى قيصر الروم. واتفق أن كان ابو سفيان آنذاك في الشام بعد أن ساق قافلته التجارية إلى هناك. فاستدعاه قيصر إلى بلاطه، وسأله عن الرسول. وفي الجواب عن مختلف الاسئلة التي وجّهت إلى ابي سفيان شهد، برغم انه كان لا يزال عدوا للاسلام لدودا، بصدق الرسول واستقامته. لقد قال إن الرسول يتحدّر من اسرة عريقة، وان أتباعه يتعاظم

عددهم يوما بعد يوم، وان كذبة واحدة لم تندّ من بين شفتيه في يوم من الايام، وأنه لم ينقض قط عهدا أو وعدا. وأنه ما تبعه أحد ثم تزعزع ايمانه وفارقه. كانت تعاليمه، باختصار، قوامها عبادة اله واحد، وعدم الاشراك به، والصلاة، والتقوى. وقول الصدق، والاحسان إلى الانسباء والجيران وكل فرد من افراد البشرية كافة. وتأثر القيصر تأثرا عظيما بما أورده ابو سفيان، وهو عدوّ من أعداء الاسلام. وكان قد رأى أيضا رؤيا ذات مغزى، متصلة بهذه المسألة. وهكذا جمع بطاركته وحاول ان يقنعهم بتبنّي رأيه في الاسلام، باذلا جهده لحملهم على الاعتقاد بأن هذا التبنّي سوف يعود عليهم بالخير. حتى إذا وجد انهم كارهون، جميعا، لفكرة التخلي عن عقيدتهم القديمة هدّأ من غيظهم بأن أكّد لهم انه إنما قال ما قال ليختبر صلابتهم في دينهم ليس غير. وواضح انه لم يكن في طوقه ان يثير الكنيسة كلها عليه. وهكذا لم يعلن اسلامه جهارا، ومات وهو على تلك الحال نفسها. واشتملت الرسالة الموجهة إلى كسرى، هي والرسائل الأخرى، على الآية التي توجّنا بها هذا الفصل. إنها تدعو أهل الكتاب إلى قبول ما هو مشترك بين عقيدتهم وبين الاسلام: أن لا يعبدوا إلا الله، وان لا يشركوا به شيئا، وأن لا يؤلهوا رجالا مثلهم. والواقع ان الآية تلفت الانتباه إلى مبدأ لو اصطنع اليوم اذن لوضع حدا لجميع المنازعات الدينية، صاهرا مختلف الانظمة في دين كونيّ واحد، وصاهرا البشرية كلها في اخوّة كليّة واحدة. إنه يقرّر، ابتغاء ازالة الفروق جميعا، ان كل ما هو مشترك بين جميع الأديان يجب أن يقبله الجميع، كأساس يبدأ به، ثم تشاد فوق هذا الأساس جميع التفاصيل الدينية المتاخمة مع هذه الحقيقة الأساسية. وهكذا تستطيع أديان العالم كلها ان تتلاقى على أرض مشتركة وتسوّي خلافاتها

بطريقة حبّية. والواقع ان فكرة الدين الانتقائي التي انبثقت مؤخرا تنسجم مع الحقيقة نفسها التي دعا اليها الاسلام منذ. ثلاثة عشر قرنا. وحمل عبد الله بن حذافة [السّهميّ] الرسالة إلى كسرى. وكانت مستهلّة بهذه الكلمات: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد ... » وكان كسرى لا يطيق ان يرى اسم ايما امرئ يذكر قبل اسمه. فاستشاط غضبا إذ رأى اسم محمد مقدّما على اسمه هو. فأساء الحديث عن الرسول، ومزّق الكتاب إربا إربا. وفي سورة غضبه هذه كتب إلى عامله على اليمن يأمره بأن [يبعث اليه برأس هذا الرجل الذي بالحجاز] . فلم يكن من العامل- وكان اسمه بازان- إلا ان بعث رجلين إلى المدينة لهذا الغرض. إن العرب لم يكن لهم، في أعين اولئك القوم، كبير شأن، وكان من غير النادر أن يعمد جنودهم إلى اعتقال أيما رجل من العرب. حتى إذا وصل هذان الرجلان إلى المدينة قال [احدهما للرسول ان شاهنشاه ملك الملوك كسرى قد كتب إلى بازان يأمره أن يبعث اليك من يأتيه بك وقد بعثني اليك لتنطلق معي، وقالا قولا يرشح بالوعيد] ، وكم كانت دهشتهما عندما قال لهما الرسول ان ملكهما، كسرى، نفسه لم يعد على قيد الحياة. فانقلبا عائدين، واستبدّ بهما الأسى إذ علما انه ليلة نطق الرسول بهذه الكلمات قتل كسرى بيد ابنه [شيرويه] . وأفضت هذه الحادثة إلى إسلام العامل. وكذلك خلعت اليمن نير الامبراطورية الفارسية، وما لبثت هذه الامبراطورية نفسها أن تفسّخت وتجزأت. أما نجاشيّ الحبشة فلم يكد يتلقى رسالة الرسول حتى دخل في دين الله على يد جعفر [بن ابي طالب] ، وهو مهاجر مسلم كان لا يزال في تلك الديار. ومن بين الرسائل الموجهة إلى الزعماء العرب تجدر بنا الاشارة إلى

تلك التي وجّهت إلى شرحبيل بن عمرو [عامل هرقل] على بصرى الواقعة عند تخوم الشام. لقد قتل موفد الرسول، الحارث بن عمير، منتهكا بذلك أعراف الاخلاقية القبليّة كلها، وهو عمل كان بمثابة اعلان حرب على الاسلام، ولقد اعتبره المسلمون اعلانا للحرب فعلا. وكان من الخطل ان يترك لشرحبيل متّسع من الوقت لحشد قواته والانقضاض على المسلمين. وهكذا جهّز جيش مؤلف من ثلاثة آلاف رجل للتوجه إلى العدو. واسندت قيادة هذا الجيش لزيد [بن حارثة] عتيق رسول الله، وهو مثل رائع على المساواة الاساسية بين البشر، تلك المساواة التي قرّرها الاسلام وأكّدها. لقد وضع المهاجرون القرشيون الفخورون والأنصار النبلاء كلهم تحت إمرة عبد رقيق. ورافق الرسول الجيش حتى مكان يعرف ب «ثنيّة الوداع» . وكان شرحبيل قد حشد، في غضون ذلك، جيشا عظيما [تذهب بعض الروايات إلى ان عدده] بلغ مئة الف رجل. وكان القيصر أيضا يتأهب للحرب. والتقى الفريقان في مؤتة، التي دعيت المعركة باسمها. فاستشهد زيد في الميدان، فخلفه في القيادة جعفر [بن ابي طالب] . وقاتل جعفر قتال المستميت أيضا، ثم استشهد بعد أن أصيب بنحو من تسعين جرحا؛ عندئذ أخذ عبد الله بن رواحة الراية فقاتل حتى قتل. وكان النبي هو الذي سمّى، مقدما، خلفاء زيد في القيادة، فقد كانت تلك عادته، يحدوه عليها رغبته في الاحتياط لكل طارئ. وبعد مصرع ابن رواحة اختار جند المسلمين خالد بن الوليد قائدا، فأظهر براعة عظيمة في إنقاذ جيشه الصغير، الذي كان هزيلا بالقياس إلى جموع العدوّ الضخمة. وإنما حدثت هذه المعركة في شهر جمادى الأولى من السنة الثامنة للهجرة. إن الظروف التي أحاطت بتوجيه هذه الرسائل إلى الملوك والامراء لتستحق شيئا من التأمل والاعتبار. فلو ان الرسول وجّهها بعد اخضاع

بلاد العرب برمتها إذن لكان في امكان الباحث أن يعتبرها اجراء أوحى به الطموح. ولكن ما الظروف التي كانت سائدة فعلا في تلك الآونة؟ كانت المدينة قد حوصرت قبل ذلك باثني عشر شهرا ليس غير، وكان ثمة امل ضئيل في نجاة نفس مسلمة واحدة. لقد كان المسلمون، حتى في ذلك الحين، أضعف من ان يشقوا طريقهم إلى مكة لأداء فريضة دينية هامة كالحج. وكان المشركون لا يزالون هم أصحاب السلطان، حتى لقد فرضوا شروط الصلح، منذ فترة يسيرة، على المسلمين. وفي كل ناحية من بلاد العرب كان الاسلام محاطا بالأعداء، وكان تناثر المسلمين ههنا وهناك لا يغيّر من الموقف إلا قليلا. ومع ذلك فأن ايمان الرسول بانتصار الاسلام النهائي لم يتزعزع لحظة واحدة، في وجه تلك الظروف الموئسة كلها. كان واثقا كل الثقة من ان الاسلام سوف يسود آخر الأمر، وكان في ميسوره أن يرى بعين بصيرته ذلك اليوم الذي سينير ضياؤه فيه كل زاوية من زوايا العالم. إلى هذا الحد كان ايمانه بقوة الاسلام عميق الجذور. وان في هذا لدرسا نافعا لبعض مسلمي العصر الحاضر الضعيفي الثقة بامكان انتشار الاسلام في ديار الغرب، ذلك بأنهم يعتقدون بأنه ليس ثمة امبراطورية جبارة تسنده وتدعمه. إن الحق لا يعتمد، في بقائه وانتصاره، على القوة. إن له من القوة الذاتية ما يمكّنه من الصمود. وهذه النقطة جديرة أيضا باعتبار الناقد العادي للاسلام. أمن الممكن لدجال من الدجالين أن ينعم بمثل هذا الايمان الراسخ بنجاحه النهائي؟ إن على اولئك النزاعين إلى القول بأن هذه الرسائل الطموح مردّها إلى عقلية منحرفة أن يتأملوا قليلا في النجاح العظيم الذي حظي به الاسلام بعد سنوات معدودات انقضت على توجيهها. وإذا كانت هذه الوقائع تشير إلى أن محمدا لم يكن لا دجالا ولا معتوها فلم يبق اذن غير استنتاج واحد يفرض نفسه على الناقد النزيه- أعني انه كان رسولا من رسل

الله. إن هذه الرسائل لتثبت أيضا الحقيقة القائلة بأن الرسول اعتبر الاسلام، منذ البدء، دينا عالميا. إن النصرانية لم تدّع العالمية. ويسوع نفسه لم يدّع مثل هذا الوضع. لقد قال، في وضوح، انه جاء لهداية خراف اسرائيل الضالة. بل لقد رفض أن يصلي على امرأة غير اسرائيلية. أما محمد، صلوات الله عليه، فقد أعلن على العكس منذ فجر بعثته بالذات، انه مرسل إلى البشر كافة. ولم تكن هذه دعوى فارغة. والحق أنه لم يدّخر وسعا لتحقيق هذا المثل الأعلى في حياته هو، فدعا مختلف الملوك إلى قبول الحق الذي جاء به الاسلام. وإنما وجهت هذه الرسائل إلى الملوك في السنة السابعة للهجرة. وكانت كلها تحمل خاتم الرسول مع هذه الكلمات: «محمد رسول الله» . وبعض الروايات تنصّ أيضا على الترتيب الذي نقشت به تلك الروايات على الخاتم. لقد جاءت في أعلاها كلمة «الله» ، وفي أدناها كلمة «محمد» ، وفي ما بينهما كلمة «رسول» . والرسالة التي وجّهت إلى المقوقس، والتي عثر عليها مؤخرا، تشهد على صحة الترتيب الذي وصفته الرواية. وفي ختام هذه السنة نفسها، السابعة للهجرة، وفد الرسول على الكعبة حاجا، وفقا لأحكام صلح الحديبية. وفي تلك السنة نفسها، أيضا، رجع إلى المدينة سائر المهاجرين المسلمين في الحبشة.

الفصل الثاني والعشرون فتح مكة

الفصل الثاني والعشرون فتح مكّة «قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ، «يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ، وَهُوَ أَرْحَمُ «الرَّاحِمِينَ.» (القرآن الكريم، السورة 12، الآية 92) بلغت اعتداآت قريش ذروتها. وكانت السنة الثامنة للهجرة تدنو من نهايتها. وكانت قد انقضت على إنفاذ صلح الحديبية سنتان اثنتان. وكان اقرار جوّ السلم قد أثبت صلاحه العظيم لنمو الاسلام. فلم يعد في طوق قريش ان تنظر بنفس مطمئنة إلى قوة الاسلام المتعاظمة يوما بعد يوم. وأخيرا نقضت الصلح. وكانت قبيلة خزاعة قد افادت من حرية الاختيار التي منحها صلح الحديبية فدخلت في عهد المسلمين، على حين دخل أعداؤها التقليديون، بنو بكر، في عهد المكيين. واتفق ان أغار بنو بكر، ذات ليلة، على خزاعة. فانتصرت قريش

لبني بكر. والتمست خزاعة مفزعا في الحرم، حيث يحظّر سفك الدماء- بحكم التقاليد العربية- تحظيرا صارما. ولكنهم لم ينجوا، حتى هناك، من عدوان المعتدين. لقد قتل عدد منهم كبير. ولم تكتف قريش بعدم صدّ حلفائها عن العدوان، بل ساعدتهم على ذلك منتهكة أحكام صلح الحديبية انتهاكا صريحا. وهكذا ذهب وفد من خزاعة ليستنصر الرسول، وفقا لأحكام التحالف. فبعث الرسول إلى قريش يخيّرها قبول واحد من الشروط التالية: إما ان تدفع ديات من قتلوا من خزاعة، وإما ان تحلّ نفسها من عهد بني بكر، وإما ان تعلن ان صلح الحديبية أمسى لاغيا. فردّت قريش قائلة انها قبلت الشرط الأخير، برغم ان ابا سفيان حاول، في ما بعد، ان يبرّر هذه الخطوة الخاطلة التي خطاها قومه، وان يعتذر عنها. فقد أدرك ابو سفيان ان مثل هذا النقض الصارخ للصلح محفوف بخطر عظيم، ومن أجل ذلك وفد على المدينة لتجديد المعاهدة. بيد أن الرسول لم يغفل عن المكيدة، ذلك أن أبا سفيان أصمّ اذنيه دون المطالب الاسلامية كلها. ومن ثم رفض الرسول تجديد المعاهدة، فتعيّن على ابي سفيان ان ينقلب إلى مكة خائب الرجاء. وهكذا اتخذ الرسول الاستعدادات الضرورية لفتح مكة، داعيا إلى ذلك جميع القبائل المتحالفة مع المسلمين. كانت قريش قد اضطهدت المسلمين طوال احدى وعشرين سنة. وكانت قد غزت المدينة، ثلاث مرات، للقضاء على الاسلام والمسلمين. فلا عجب إذا ما خيّل للمرء، إذ يرى إلى هذه الاستعدادات، أن الظالمين سوف يعاقبون على جرائمهم عقوبة عادلة. ولقد كان جد طبيعي ان يتوقع المرء أن يعمد الرسول، الآن، إلى مناقشة من ارتكبوا جرائم وحشية ضد الاسلام، الحساب. [وبينما الجيش الاسلامي على أهبة السير] كتب رجل مسلم [اسمه حاطب بن أبي بلتعة] ، بسبب من قلقه على انسبائه

في مكة، كتابا أعطاه [امرأة تسمى سارة] وأسرّ اليها بأن تبلّغه قريشا ليقفوا على ما أعد المسلمون لهم من غزو. ولو قد وصل الكتاب إلى أيدي المكيين اذن لعمدوا هم أيضا إلى اتخاذ الاستعدادات الضرورية لمقاومة المسلمين. ولكن حكمة الله شاءت ان يتم هذا الفتح العظيم من غير اراقة دم البتة. فقد احيط الرسول بكتاب حاطب خبرا. فسارع فبعث [عليّ بن ابي طالب والزبير بن العوام] لاعتقال حاملته، فأدركاها وردّاها والكتاب إلى المدينة. وكان في ذلك ما أثار ثائرة المسلمين على حاطب، الذي كان قد حاول ان يخون اخوانه في الدين. واعتقل حاطب وقدّم إلى النبي ليلقى جزاءه. ولكن الحكم عليه لم يصدر من شفتي ملك من ملوك الدنيا، أو قائد من القواد العسكريين، ولو قد صدر من أيهما اذن لقضى بقتل المجرم في الحال. لا، لم تكن الحملة حملة انتقام. لقد أريد بها أن تكون مثلا خالدا على العفو- العفو يجاد به على أعداء ألدّاء. فكيف يجوز أن يعامل حاطب، الذي كان دائما صديقا، غير هذه المعاملة؟ لقد قبل الرسول عذره، وعفا عنه. وأخيرا سار الرسول، على رأس عشرة آلاف من أتباعه البررة، إلى مكة، في العاشر من رمضان، من السنة الثامنة للهجرة، وهكذا تحققت النبوءة التي انطلقت، قبل ألفي عام، من بين شفتي موسى: «وأتى مع عشرة آلاف من القديسين.» (سفر التثنية 33: 2) . وليس في التاريخ بعد الموسوي أيما حادثة أخرى تتحقق بها هذه الكلمات النبوئية. يا لها من ظاهرة اعجوبية! لقد كان عدد المسلمين عشرة آلاف مقاتل، وكانوا في الوقت نفسه كلهم «بررة» كما جاء في النبوءة. إن هدفهم في الحياة لم يكن بأية حال خوض غمار الحرب وسفك الدماء، ولكن اقامة قواعد البر ولو كلّفهم ذلك حياتهم. وعسكروا في مرّ الظّهران، على مسيرة يوم من مكة. وأمروا جميعا

بأن يوقدوا النيران في كل معسكر. فخليق بذلك أن يبده قريشا بعظم قوة المسلمين العددية، وهكذا يتجنب محمد مقاومة قريش وما تستتبعه من إراقة دم. واستسلم المكيون من غير مقاومة. ومن عجب أن أبرز القرشيين الذين مثلوا بين يدي الرسول كان ابا سفيان نفسه، زعيم المعارضة بعد أبي جهل. لقد بذل قصارى جهده، على نحو موصول، لإبادة الإسلام. أجل، لقد أذن لأبي سفيان، أكبر المسيئين للاسلام، في المثول بين يدي الرسول لكي يغفر له! لقد بدا ذلك امرا متعذرا جدا ولكن طبيعة الرسول الرحيمة لم تكن لتميّز بين الصديق والعدو. وهكذا عفا عن ابي سفيان. لقد بدا- قبل سنة ونصف، عندما دعي إلى بلاط قيصر ليدلي برأيه في شخصية الرسول- وكأن نور الاسلام قد نفذ إلى قلبه. أما الآن، فقد كان في عجزه المطلق برغم قوته كلها، وبانتصار الاسلام النهائي برغم قلة موارده، وفوق ذلك كله في العفو الكريم الذي أسبغه الرسول عليه- كان في هذه الاعتبارات جميعا ما أقنعه بقوة الاسلام الفطرية. إن القلب الذي كان موصدا دون الاسلام طوال عشرين سنة كاملة انشرح الآن للحق، فاعتنق ابو سفيان الدين الجديد. وراع أبا سفيان جبروت القوة الاسلامية، فانقلب إلى قومه مسرعا لكي ينبئهم بأن كل مقاومة للرسول عبث لا طائل تحته. ونقل اليهم في الوقت نفسه كلمة الرسول: «من دخل دار ابي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن.» ولا ريب في ان النقاد الذين يصمون الاسلام بأنه دين انتشر بالسيف سوف يخيب فألهم حين يعلمون ان اعتناق الاسلام لم يشكّل جزآ من شروط هذا الامان. وأخيرا زحف الجيش الاسلامي على

المدينة، من كل جانب. وكان النبي قد جعل سعد بن عبادة [على أهل المدينة ليدخلوا مكة من جانبها الغربي] ، فلم يكد سعد هذا يمر بأبي سفيان حتى صاح: «اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحلّ الحرمة» فاغتاظ الرسول من ذلك، وأخذ الراية منه ودفعها إلى ابنه قيس لكي يجتنب اراقة الدماء. وكان على خالد [بن الوليد] ان يدخل مكة [من أسفلها] ، وكان يعتصم في ذلك الحي من أسفل مكة أشدّ قريش عداوة للاسلام، وهم الذين شاركوا في الحملة على خزاعة. وكان عكرمة بن ابي جهل يقيم مع هؤلاء. وعلى الرغم من الامان العام الممنوح لجميع المواطنين فقد أبي هؤلاء القوم على خالد ان يمرّ من غير مقاومة، فأمطروا جيشه بوابل من نبالهم. وهكذا اضطرّ خالد إلى ان يحمل عليهم. وقد قتل من قريش في هذه المناوشة ثلاثة عشر رجلا، في رواية، وثمانية وعشرون في رواية. على حين لم يستشهد من المسلمين غير رجلين اثنين. وفي غضون ذلك كان الرسول قد انتهى إلى مرتفع من مرتفعات مكة فأسف وجزع لدن رأى سيوف خالد ورجاله تلتمع [في اسفل المدينة] . وصاح مغضبا يذكر أمره الصارم بأن لا يكون ثمة سفك دماء أياما كان السبب. ثم إنه دعا خالدا ليبرر ما أقدم عليه من تمرّد ظاهريّ، حتى إذا علم بما كان [قال ان الخيرة في ما اختاره الله.] بعد ذلك تقدم الرسول نحو مكة، وطهر ذلك البيت المقدّس من جميع الأصنام. وكان كلما مسّ واحدا من تلك الاصنام بقضيب في يده يتلو هذه الآية القرآنية الكريمة التي نزلت عليه قبل ذلك بزمن طويل: «وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ، إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً.» * ولم تعرف منذ ذلك الحين قط ايما صورة أو ايما صنم

_ (*) السورة 17، الآية 81.

سبيلا إلى جدران ذلك الحرم المكرّس لوحدانية الله. ثم ان الرسول استدار إلى «مقام ابراهيم» وصلى هناك. عندئذ دعي عثمان بن طلحة، سادن الكعبة، وفتحت أبواب البيت الحرام، فدخله الرسول وصلى في الناس هناك أيضا. ثم إنه أعاد المفتاح إلى عثمان قائلا ان سدانة الكعبة سوف تظل فيه وفي أبنائه من بعده [حتى يرث الله الارض ومن عليها لا يأخذها منهم إلا ظالم.] حتى إذا أتم الرسول ذلك القى خطبة أكد فيها وحدانية الله واخوّة البشر الشاملة. وبعد ذلك وجه الخطاب إلى وجوه قريش المجتمعين حوله. كانوا كلهم في وضع المذنب الجاني. فكم قد عذّبوا المسلمين ونكّلوا بهم! لقد بدا وكأن ثرى مكة نفسه كان متعطشا للدم الاسلامي. وما كان أفظع الآلام التي أذاقوها المسلمين منتهكين في ذلك جميع النواميس الاخلاقية والتقليدية! إن مجرد ذكرى أشكال الاضطهاد الغريبة تلك ليوقع الرعدة في قلب المرء. ثم إن سلطانهم لم يكن مقصورا على ثرى مكة، بل لقد طاردوا المسلمين حيثما فروا بأنفسهم ملتمسين مفزعا. لقد هاجموا المدينة مرة بعد مرة لكي يسحقوهم سحقا. إلى هذا الحد كانت جريمة المكيين الواقفين الآن موقف المتّهم بين يدي الرسول، شائنة مخزية. وكانوا بما تكشّفوا عنه من حقد، وانتقام، ومحق لحقوق الانسان الاساسية، وتنكيل بالابرياء يستحقون أقصى عقوبة من عقوبات العبرة نص عليها أكثر قوانين العالم رحمة. وكان ارأف ضرب من ضروب القصاص يقضي بقطع رؤوس زعمائهم الكبار، وسجن عدد من الآخرين لكي يكون في ذلك تحذير لسائرهم وعبرة لهم في المستقبل. كان ينبغي لقوتهم أن تسحق سحقا كاملا لكي يمسوا عاجزين عن إحداث أيما متاعب في المقبل من الأيام. إن أكثر الطرق تمدينا في مواجهة أمثال هذه الجرائم هي انزال عقوبة من عقوبات العبرة في فريق من المعتدين سواء أكانوا مذنبين فعلا أم لم

يكونوا، واخضاع سائرهم لعبودية كاملة. ولقد كانت هذه هي المعاملة التي عامل بها المنتصرون مغلوبيهم دائما وأبدا، وبالطريقة نفسها تعامل الشعوب المغلوبة، اليوم، في ظل أعرق الحكومات في المدينة. فقوية هي غريزة الانتقام في الطبيعة البشرية، وانها لنزاعة إلى الاستفحال والطغيان، وبخاصة حين يكون العدو تحت رحمة المرء المطلقة. عندئذ تتخطّى التخوم الاخلاقية كلها. ولكن قريشا كانت تؤمن ايمانا لا يتزعزع بما فطر عليه الرسول من طبيعة نبيلة رحيمة. انهم لم يتوقعوا قط أن يلقوا على يديه أيما معاملة قاسية. ومن هنا لم يكد الرسول يسألهم: «يا معشر قريش، ما ترون اني فاعل بكم؟» حتى أجابوا: «خيرا، أخ كريم وابن اخ كريم!» . إنهم لم يكونوا غرباء عن كرم خلق الرسول. لقد كانوا على مثل اليقين من ان الشهامة، التي ميّزت شخصيته طوال اربعين سنة انقضت قبل جهره بالنبوّة، لم يتطرّق اليها أيما تغيير البتة. ولكن المعاملة التي أسبغها عليهم فاقت حتى ما كانوا يتوقعونه. لقد قال لهم: «لا تثريب عليكم اليوم.» يا لسموّ النفس! لقد أعفاهم حتى من اللوم على جرائمهم السوداء، بله العقوبة والقصاص. ليس هذا فحسب، بل إنه لم يطالبهم حتى بعهد يأخذونه على أنفسهم في ما يتصل بمسلكهم في المستقبل. وممتلكات المهاجرين المبعدين، التي كان المكيون قد استولوا عليها، لم تردّ اليهم. لقد طلب إلى المهاجرين أن يتنازلوا عن جميع حقوقهم السابقة. وحتى يوم دخل المسلمون مكة لم يتمالك عكرمة بن أبي جهل عن ايذائهم فهاجم سريّة خالد [بن الوليد] . وإذ خشي العقوبة القاسية التي كان يعلم انه يستحقها فقد فرّ بنفسه حذر الموت. وفي حال من الأسى البالغ وفدت زوجته على الرسول، والتمست منه العفو عن زوجها. وإذ كانت رحمة الرسول لا تعرف حدودا فقد منح عكرمة، ذلك العدوّ اللدود، العفو أيضا. وأسبغ

الرسول رأفته السخية، كذلك، على وحشيّ قاتل حمزة، عمه الحبيب، وعلى هند التي مضغت كبده. وحتى هيّار- الذي آذى [زينب] بنت الرسول في طريقها من مكة إلى المدينة أذى بالغا [أفزعها فأجهضها] وأفضى آخر الامر إلى وفاتها- عفي عنه. والواقع ان تاريخ العالم ليعجز عن تزويدنا بنظير لهذا الصفح الكريم الذي أغدقه الرسول على أمثال اولئك المجرمين الكبار. إن الضرب على وتر المواعظ الداعية إلى الصفح والغفران لا يكلف المرء شيئا كثيرا، ولكن عفو المرء عن معذّبيه هو ليحتاج إلى قدر من الشهامة عظيم وبخاصة حين يكون اولئك المعذبون تحت رحمته. وهذا الانفساح في مدى العطف الانساني والعفو الكريم لا نقع عليه في حياة يسوع. فالحق ان يسوع لم تتح له الفرصة لممارسة فضيلة العفو، ذلك بأنه لم يكتسب في أيما يوم السلطة التي تمكّنه من الرد على مضطهديه. لقد فتحت مكة، ولكن العفو العام الممنوح لأهل البلدة كان فتحا أعظم بكثير، فتحا وراء متناول اسلحة المسلمين. لقد أسر قلوب الناس. وحتى الأعداء الالداء، من طبقة ابي سفيان، سحرتهم الاخلاق الاسلامية. وأدى هذا المشهد الاخير من مشاهد الشهامة الاسلامية إلى تجريد المعارضة، على اختلاف ضروبها، من سلاحها. لقد رأى المكيون بأمّ العين كيف تحققت آخر الأمر جميع تلك الوعود الالهية التي وعد بها المسلمون يوم كانوا لا يزالون يئنّون تحت وطأة تعذيب أعدائهم لهم. إن قوى المعارضة المشتركة عجزت عن إضعاف الاسلام. فكان في هذا برهان قاطع على عدالة القضية وصدقها، برهان أزال كل شك كامن في أفئدتهم. واليوم، والاسلام يجد نفسه كرة أخرى في غمرة أيام عصيبة، وقد عقد الأعداء عزمهم على إبادته، بل وقد اتحدت دول العالم كلها لمحوه من على وجه الارض، يبدو للمرء وكأن القوة الالهية سوف تتجلى من جديد، كفعلها في

الايام السالفة، بحيث تقنع العالم بأن الايدي البشرية أعجز من ان تسحق الحق الالهي. وبكلمة موجزة، لقد تلاشت المعارضة كلها. ونفذت الحقيقة الاسلامية إلى أعماق قلوب المكيين. فانضووا تحت راية الاسلام زرافات زرافات. واستوى الرسول في مرتفع من جبل الصّفا ليتقبّل دخولهم في الجماعة الاسلامية. لقد أقبل الرجال يتبعهم النساء اللائي اعتنقن الدين الجديد بأعداد ضخمة. وإنما فعلوا كلهم ذلك على نحو تلقائيّ. فلم يكره أيّ منهم على اعتناق الاسلام بالقوة. وكان ثمة أيضا فريق لم ينشرح صدره للاسلام، ولكن أيما أذى، مهما ضؤل، لم ينزل بهم بسبب من ذلك. لقد تعلّقوا بأهداب عقيدتهم الوثنية الخاصة، ولكن المسلمين عاملوهم في إحسان بالغ. كانت تشدّهم إلى المسلمين صلات ودّ وصداقة، حتى لقد قاتلوا مع المسلمين كتفا إلى كتف عندما وقعت معركة حنين. وهكذا يعتبر فتح مكة دحضا قاطعا للتهمة القائلة بأن الاسلام لم ينتشر قط إلّا بالسيف، إذ هل كان في الامكان ان تنشأ لمثل هذا الادخال القسريّ في الدين فرصة خير من هذه الفرصة؟ فالواقع ان أيما حادثة من حوادث الإكراه لم تقع في تلك المناسبة. واليك اعتراف ميووير حول هذه النقطة: «على الرغم من ان البلدة رحبت بسلطانه ترحيبا بهيجا، فلم يكن جميع سكانها قد اعتنقوا الدين الجديد، ولم يكونوا قد اعترفوا رسميا بصحة دعواه النبوئية. ولعله عقد العزم على ان يسلك ههنا ذلك النهج الذي سلكه في المدينة، ويدع الناس يدخلون في الاسلام، شيئا بعد شيء، من غير ما إكراه.»

الفصل الثالث والعشرون معركة حنين

الفصل الثالث والعشرون معركة حنين «لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ «كَثِيرَةٍ، وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ «كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً «وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ «ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ.» (القرآن الكريم، السورة 9، الآية 25) لم يكد ينقضي شهر واحد على مغادرة الرسول المدينة حتى بلغه أن قبيلة هوازن، المقيمة في سفوح الجبال القائمة شرقيّ مكة، كانت تحتشد في أعداد كبيرة لشنّ هجوم على المسلمين. كان تعاظم قوة الاسلام بعد صلح الحديبية قد أزعجها وأقلقها. وكانوا قد شرعوا، قبل فترة طويلة من فتح مكة، يثيرون القبائل البدوية ويحرّضونها على الاسلام. حتى إذ سقطت مكة بدا لهم ان عليهم ان يغتنموا أول فرصة

لتسديد ضربة إلى الاسلام، خشية أن يمسي أقوى من أن يقدروا على كبته. وإذ كانوا أقوياء متمرسين بالحرب فقد وفقوا إلى حشد قواهم في أيام معدودات. ولم يكد نبأ تلك الاستعدادات يتصل بالنبي حتى بعث من يتبيّن حقيقة الأمر. فإذا بهذا الذي بعثه يؤكد له ان النبأ صحيح. وفي الحال انصرف الرسول إلى تعبئة جيش يشتّت به قوى هوازن. وكان تحت إمرة الرسول في تلك اللحظة عشرة آلاف مقاتل [هم الذين غزوا مكة وفتحوها] فانضاف اليهم ألفا متطوع ممن [أسلم] من قريش، وبذلك أمسى الجيش الاسلامي مؤلفا من اثني عشر ألفا، سار الرسول على رأسهم إلى وادي حنين حيث احتشدت هوازن. وبالاضافة إلى القوة البشرية زوّد المكيون المسلمين بقدر من الاسلحة كبير. وكان في القوة العددية، مردفة بالتجهيز الكامل، ما أوقع الزهو في قلوب فريق من المسلمين. ولكن الله شاء ان يظهر ان الفتوح الاسلامية كانت ثمرة العون الالهي ليس غير، ولم تكن بأية حال ثمرة قوة السلاح الاسلامي. فقد كانت ثمة مواقع وفّق فيها المسلمون. بتأييد من الله، إلى التغلب على جيوش عدوّة بلغ افرادها ثلاثة أضعاف أو أربعة أضعاف عددهم هم، بل عشرة اضعاف عددهم أيضا. أما عند انطلاق شرارة القتال في ساحة حنين فقد تعيّن على المسلمين أن يذوقوا طعم الانتكاس، برغم أعدادهم الكبيرة وأسلحتهم الموفورة. كان الازدهاء بتلك القوة قد خامر قلوب بعضهم. ولكن الله ما كان ليرضى لهم ان يستشعروا العجب والغرور؛ كان يؤثر ان يراهم دائما ينظرون اليه بوصفه سناد قوّتهم الأوحد. ولقد وصف القرآن الكريم هذا المشهد في الآية التي استشهدنا بها في مفتتح هذا الفصل. كان رجال هوازن بارعين في الرماية، وكانوا إلى ذلك قد احتلوا جميع المراكز الاستراتيجية الممتازة. لقد ركزوا خيرة رماتهم فوق

مختلف الهضاب. فكان على المسلمين أن يقنعوا باحتلال موقع غير ملائم. لقد انهال عليهم من كل جانب وابل من نبال، في حين انقضّ عليهم الجيش الرئيسي من أمام. وكان خالد بن الوليد في مقدمة جيش المسلمين، وتحت إمرته قوات المتطوعين المكيين، وفي جملتهم جماعة من غير المسلمين. وكانت هذه القوات هي التي تلقّت الصدمة الأولى، في المعركة، ولكنها لم تستطع الصمود لضراوة الهجوم. فاذا بتراجعها يوقع البلبلة في صفوف المسلمين. لقد انقلبت على أعقابها في اضطراب كليّ. وحتى سرايا المهاجرين والأنصار شاركت في الانكفاء العام. وهكذا ترك الرسول، مع [عمه] العباس ونفر آخرين، تحت رحمة جموع العدو الزاحفة. لقد رأى إلى الجيش الاسلامي ينكص على عقبيه، ولكنه ثبت في موقعه المحفوف بالخطر في رباطة جأش عجيبة. وكان العدو يشدّ عليه شدّة ضارية، وكان هو وحيدا أو يكاد، ولكن ذلك لم يعكّر صفاء ذهنه اضأل تعكير. ألم يكن آمنا في رعاية أقوى الاقوياء الكلية؟ إن معين السلوان الذي لا يخطئ- ذلك الايمان غير المتزعزع بالتأييد الالهي والثقة المطلقة بانتصار قضيته النهائي- قد ثبّته الآن كتثبيته إياه من قبل. فلزم الساحة منفردا، والعاصفة العدوّة تدوّم منقضة عليه، وأنشأ يصيح بأعلى صوته، على نحو مكرور: أنا النبيّ لا كذب أنا ابن عبد المطّلب! وهتف العباس أيضا بصوته الجهوريّ: «يا معشر الأنصار [الذين آووا ونصروا] ، يا معشر المهاجرين الذين بايعوا تحت الشجرة!» فجاءه الجواب من كل صوب، وقد أخذت القوات المشتتة تحتشد حول النبي، «لبّيك! لبّيك!» . لقد ترجّل المسلمون عن خيلهم

وإبلهم وانقضوا على العدو الزاحف انقضاضا مسعورا جعله لا يقوى على الثبات في وجههم. ففرّ فريق، وقاوم فريق فترة من الوقت يسيرة. حتى إذا صرع حامل رايتهم ولّوا هم أيضا الأدبار. وكان قائد هوازن، مالك [بن عوف النّصريّ] ، وهو شاب متهور في الثلاثين من عمره، قد أمر النساء والاطفال بمرافقة قواته. لقد خيّل اليه ان وجودهم سوف يبقي معنويات رجاله قوية، ويحول بينهم- إذا ما أصابتهم محنة- وبين الانقلاب على أعقابهم. بيد انهم سرعان ما غادروا كل شيء: نساءهم وأطفالهم وأنعامهم وولّوا الأدبار. فاذا بالغنيمة التي غنمها المسلمون تتألف من اربعة وعشرين ألف شاة، واربعة آلاف اوقية من الفضة. ليس هذا فحسب، بل لقد أسر المسلمون ستة آلاف مقاتل منهم. وبعد ان نقل الجيش الاسلامي تلك الغنائم إلى مكان آمن، واصل زحفه. وكان فريق من الجيش المهزوم قد فزع إلى معقله في أوطاس، فبعث الرسول حفنة من المسلمين إلى هناك لكي يشتّتوهم. أما الجمهرة العظمى من أفراد ذلك الجيش فاحتموا ضمن أسوار الطائف الحصينة ذات الشرفات. كانوا بارعين في صناعة الحرب، متمرسين باصطناع الاسلحة الحديثة، كالمنجنيق وغيره. وكانوا قد ادّخروا أيضا ضمن الاسوار مؤنا تكفيهم عاما كاملا، وأقاموا حاميات قوية حولها. واندفع الرسول بقواته إلى هناك، مباشرة، وألقى الحصار على البلدة. وبمساعدة بعض القبائل وفّق الجيش الاسلامي أيضا إلى اصطناع الاسلحة الجديدة. وتطاول الحصار. وأخيرا شاور الرسول أصحابه في الأمر. وأبدى أحد زعماء الأعراب المجرّبين ملاحظة هامة فقال: «إنما ثقيف في حصنها كالثعلب في جحره، لا سبيل إلى اخراجه منه إلا بطول المكث. فأن تركته لم يلحقك منه ضرّ.» وإذ استيقن الرسول ان العدوّ لم يعد قادرا على إنزال أيما أذى بالمسلمين، أمر برفع الحصار عن الطائف، ذلك بأن وقاية الاسلام

من الهجمات المعادية كان هو غرض الحملة الأوحد. وفيما الرسول ينسحب سئل ان يستنزل الغضب الالهي على العدو. فقد كان ذلك هو الموطن نفسه الذي رجم فيه، ذات يوم، حتى سال الدم من جسده. فما كان منه إلا ان دعا الله لهم بهذا الدعاء: «اللهمّ اهد ثقيفا، وقدهم إليّ.» ، يعني إلى الاسلام. واستجاب الله دعاء الرسول، وما هي غير فترة يسيرة حتى اعتنق الثقفيون الاسلام طائعين. وهذا مثل آخر على حب الرسول العميق للجنس البشري. هل شنّت هذه الحملة ابتغاء نشر الدين؟ إذا كان هذا، كما يزعم الزاعمون، هو الهدف من حروب الرسول، فلم رفع الحصار عن البلدة؟ هل فعل ذلك لأن الموقف كان ميؤوسا منه؟ لا! فلو انه أطال أمد الحصار بضعة أيام أخرى، اذن لاستسلم العدو وطرح السلاح. لماذا تركهم وشأنهم من غير ان يخضعهم لسلطانه أو يكرههم على الدخول في دين الله؟ ألم يكن الرسول يفقه الآية القرآنية التي تقول: «وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ.» * فاذا كانت هذه الكلمات: «وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ» تقضي، ضرورة، بفرض الاسلام على الناس، كما يساء فهمها اليوم، فلم خالف الرسول الأمر الالهي الصريح، بقبوله أحكام صلح الحديبية، عند فتح مكة، وبرفعه الآن الحصار عن الطائف؟ ولكن الواقع ان الرسول فهم مفاد الأمر الالهي. إن الكفّ عن الاضطهاد لم يعن شيئا أكثر من أن المسلمين لن يضطهدوا بعد اليوم من جراء اعتناقهم الاسلام. وقوله تعالى «وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ» لا يقضي بغير توطيد الحرية الدينية. يجب ان يصبح المرء حرا في اختيار الدين الذي يحبّ، لأن هذه مسألة بين الانسان وخالقه. هذا وليس شيئا أكثر هو المراد بقوله تعالى «وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ» . ولقد كان ذلك هو السبب الذي من أجله أصدر الرسول

_ (*) السورة 2، الآية 193.

أمره برفع الحصار عن البلد، حالما اقتنع بأن العدو لم يعد قادرا على إيذاء المسلمين. وإلى هذا، فقد كان الجيش الاسلامي ينتظم. آنذاك، جماعة من المكيين غير المسلمين أيضا. فلو قد كان نشر الدين بالقوة هو الهدف اذن لكان خليقا بهؤلاء القوم أنفسهم أن يكونوا هم أول من يستشعر حدّ السيف الاسلامي. وهذا يظهر بجلاء ان معركة حنين كانت مثل جميع معارك الرسول الأخرى. مجرد اجراء دفاعيّ قوميّ. صحيح ان الرسول أغار على العدوّ، ولكن ذلك لم يتمّ إلا بعد ان شرع ذلك العدو في الاعتداء على المسلمين وإلا بعد أن تعرضت السلامة الاسلامية للخطر. وما إن شتّتت قوى الأعداء ولم يبق ثمة أيما خوف من تعرض المسلمين لأذاهم حتى أوقف العمليات الحربية. وحتى لو كان التوسع الاقليمي هو هدف الرسول، بله نشر الإسلام بالسيف، اذن لما رجع من غير أن يخضع الطائف. وهذا يظهر أن التوسع الاقليمي نفسه لم يكن هدف حروب الرسول، فما قولك بنشر الدين بقوة السلاح! ولدن عودة الرسول من الطائف قسم الغنيمة بين أفراد الجيش الاسلامي، فاصلا الخمس، جريا على مألوف عادته، للخزانة العامة. وكانت بين السبايا أيضا أخت للرسول من الرضاعة، هي الشّيماء [بنت الحارث بن عبد العزّى] . وأدخلها القوم على محمد فلم يكد يعرفها حتى بسط لها رداءه لكي يجلسها عليه، وأحاطها بمجالي الكرم والاحترام. إن الشيماء لم تكن أخته الحقيقية. ولكن أيما أخت حقيقية لم تشرّف في أيما يوم على نحو أفضل وأسخى. ثم إنه اقنعها بمرافقته إلى المدينة، ولكنها قالت إنها تؤثر البقاء مع قومها. وهكذا أعيدت اليهم مزودّة بهدايا لطيفة. وقدم على الرسول وفد من [هوازن] يلتمس اطلاق الأسرى. وبسط الناطق بلسان الوفد، على مسمعي الرسول، جميع البلايا التي

ينوء بها قومه. فأي جواب كان يجدر بفاتح من أعرق الفاتحين في المدينة ان يكون؟ كان خليقا بذلك الفاتح ان يقول شيئا كهذا: «انا أدرك مصاعبكم، ولكن الأوان الآن قد فات. لقد كان قمينا بكم أن تفكروا في ذلك قبل ان تقدموا على الاغارة علينا لكي تسحقوا قوتنا. ولو انكم كسبتم انتم المعركة اذن لعاملتمونا على نحو اسوأ.» أليس هذا هو الجواب النموذجي الذي تردّ به توسّلات عدوّ مهزوم في عهود الحضارة هذه؟ ولكن فؤاد الرسول كان مفرغا في قالب أكثر نبلا. كانت رحمته لا تعرف حدودا. وكان من حق العدو ان يطمع في رأفة الرسول السابغة كما يطمع فيها أيما كائن بشري آخر. فقد كان من دأب فؤاد الرسول أن يتفطر حزنا لأضأل مشهد من مشاهد البؤس البشري. فكيف يطيق صبرا على رؤية الآلاف يجرعون كأس الألم؟ ومن هنا سارع إلى اطلاق سراح الاسرى الذين اتفق ان كانوا من نصيبه ونصيب أسرته. ولكنه قال إنه لا يستطيع ان يتعرض لحقوق الآخرين، وان في ميسور هؤلاء ان يتخلوا عن نصيبهم من الأسرى إذا شاؤا. يا له من مثل رائع على المساواة في الحقوق البشرية! وليس من ريب في ان اولئك الذين ضحّوا، في ابتهاج، بثروتهم، وبممتلكاتهم، بل حتى بأرواحهم، من أجله لن يحلموا البتة بأن يضنّوا عليه بهذا الفضل: فضل تسريح أسراهم تسريحا شاملا. ولكنه ما كان للرسول الذي جاء ليعزز المساواة بين البشر، أن يعتدي على حق الآخرين في ممارسة حقوقهم بحرية كاملة. إن الملك، أو الأمير، لا حق له- في الاسلام- على ممتلكات الفرد. ولكن قلب الرسول، في الوقت نفسه، يقطر ألما، في حنايا صدره، بسبب من اولئك القوم الذين ألمّ بهم بلاء عظيم. كان شديد التوق إلى مساعدتهم على الخروج من محنتهم. ولقد سألهم أن يفدوا كرة أخرى، قبيل صلاة العصر، وعندئذ يعرض مطالبهم على الجماعة الاسلامية، ويسألها أن تنظر فيه بعين العطف.

وهكذا وفدوا عليه في الميقات المضروب، فتمّ تسريح ستة آلاف أسير بفضل شفاعة الرسول. والواقع انها حادثة يعزّ نظيرها في تاريخ العالم كله. أن يغدق الرسول مثل هذه المعاملة الكريمة على وفد من الوثنيين، وأن يستشفع المسلمين لمصلحة المشركين! حتى مناظير التحيز النصراني المضلّلة تعجز عن تقديم تفسير لتحرير هؤلاء الأسرى الستة الآلاف من غير اشتراط الدخول في الاسلام. وإنه لمن المؤلم جدا ان نرى من كان تجسيدا للرحمة ورقّة القلب يصوّر وكأنه قاتل متعطش للدماء، القرآن في احدى يديه وسيف متدل من يده الأخرى لكي يضرب به رأس من يتردد في الايمان بالكتاب! وبعد قسمة الغنيمة أغدق الرسول الأعطيات على بعض الزعماء القرشيين والبدو من حصة الخزانة العامة. فكان في ذلك ما أثار بعض الدمدمات المكبوحة بين بعض الشبان من الأنصار. لقد تذمروا قائلين ان الرسول حابى عشيرته في توزيع الغنائم. وفي ميسور المرء، بسهولة ان يتخيّل بأية طريقة لا تعرف الرحمة كان خليقا بأحد الحكام المستبدين أن يعالج هذه الوقاحة. ولكن الرسول دعا الانصار وحدثهم في لطف بالغ قائلا: «يا معشر الأنصار، ما قالة بلغتني عنكم وجبدة وجدتموها في أنفسكم؟» وإذ كانوا قد نشّئوا في ظل سلطان الرسول الأدبي فقد وجدوا الجرأة على إنبائه بالحقيقة الصريحة، معترفين بأن فريقا منهم كان يتحدث بمحاباة الرسول زعماء قريش. عندئذ قال لهم الرسول: «ألم آتكم ضلالا فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألّف بين قلوبكم؟» فأجابه الأنصار: «بلى، الله ورسوله أمن وأفضل.» فتابع الرسول: «اما والله لو شئتم لقلتم فصدقتم وصدّقتكم: أتيتنا مكذّبا فصدّقناك، ومخذولا فنصرناك، وعائلا فآسيناك. يا معشر الأنصار! أوجدتم في لعاعة

من الدنيا تألّفت بها قوما ليسلموا* ووكلتكم إلى اسلامكم؟ ألا ترضون، يا معشر الأنصار، ان يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟ فو الذي نفس محمد بيده، لولا الهجرة لكنت امرآ من الأنصار. ولو سلك الناس شعبا وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار. [اللهم ارحم الأنصار، وابناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار!] والواقع ان تفجر فؤاد الرسول العفوي هذا ليظهر عزوفه عن عرض الحياة الدنيا. وتأثر الانصار لدن سماعهم كلامه تأثرا عظيما، وفاضت دموع الفرح من عيون كثير منهم، بعد أن أدركوا ان الرسول نفسه سيكون رفيقهم، وأنهم كانوا بذلك أوفر الناس حظا.

_ (*) أي هل غضبتم لأني أعطيت فريقا من الناس شيئا يسيرا من عرض الدنيا لكي أتألفهم فيسلموا.

الفصل الرابع والعشرون انتشار الإسلام العام في بلاد العرب

الفصل الرابع والعشرون انتشار الإسلام العام في بلاد العرب «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى «وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ «كُلِّهِ، وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً.» (القرآن الكريم، السورة 48، الآية 27) وفي طريق عودته من الطائف في شهر ذي القعدة في السنة الثامنة للهجرة زار الرسول مكة، وبعد ان أدى العمرة رجع إلى المدينة في أواخر العام. كانت مكة تعرف بأمّ القرى، أي أمّ المدن؛ وعلى الرغم من أنها لم تكن العاصمة الزمنية للجزيرة، فقد كانت بلاد العرب كلها تدين لها بالولاء الروحي. فخلال أشهر الحج كان الناس يتدفقون عليها، عاما بعد عام، من كل حدب وصوب. فطبيعي ان يكون لأهل مكة

سلطان عظيم على الجزيرة التي بايعت قريشا بالزعامة في شؤون الدين. وكان الرسول، في الأيام الغابرة، كلما دعا قبيلة إلى الدخول في الاسلام أجيب بأن عليه أن يقنع قومه أولا. وهكذا ما إن تم فتح مكة ودخل أهلها في الدين زرافات زرافات حتى ترك ذلك في نفوس العرب قاطبة أثرا أعجوبيا. وإلى هذا، فقد شهدوا بأمّ العين كيف كتب النصر آخر الامر للرسول، وهو الذي جابه معارضة قريش وحيدا والذي نبذته القبائل كلها. لقد حصحص الحق، فكان من ثمرات ذلك ان شرع الناس ينضوون تحت راية الاسلام. ذلك هو السبب الذي انتشر من أجله الاسلام، خلال السنتين التاسعة والعاشرة للهجرة، في طول بلاد العرب وعرضها. وإنما استهلت هذه الفترة، فترة اعتناق الاسلام على نحو جماعيّ، في السنة التاسعة، عندما أعلنت القبائل واحدة بعد أخرى دخولها في الدين. وفي تلك السنة نفسها نظّم الرسول جمع الزكاة من مختلف القبائل المسلمة. ونظّمت دائرة خاصة لهذا الغرض ووجّه جامعو الزكاة إلى مختلف المواطن. كانت الزكاة فرضا واجبا على كل مسلم. وإذ كانت الزكاة هي المورد الأساسي لبيت المال، أو الخزينة العامة، فقد اخضعت لسيطرة السلطة المركزية. وذات مرة وفد جامعو الزكاة على إحدى القبائل، وجمعوا قطيعا من الخراف والماشية، فأغارت عليه قبيلة مجاورة غير مسلمة، فاغتصبته. فلم يكن من عيينة [بن حصن] ، زعيم القبيلة المسلمة، إلا ان هاجم المغيرين، على سبيل الثأر، وأسر منهم خمسين شخصا. وكان بنو تميم قد أسدوا عونا إلى الرسول في معركة حنين. فأرسلوا وفدا إلى المدينة ليزوروا الرسول. وهنا دارت مفاخرة بين خطباء الفريقين وشعرائهما. ولكن بني تميم تعيّن عليهم ان يسلّموا بتفوق الخطيب والشاعر المسلمين، وكان الموضوع الوحيد هو، الآن،

الاسلام وليس شيئا آخر. [فلما انتهت المفاخرة قال الأقرع بن حابس: «وأبي ان هذا الرجل لمؤتّى له، لخطيبه اخطب من خطيبنا، ولشاعره اشعر من شاعرنا، ولأصواتهم أعلى من أصواتنا] . وكان بين بني تميم والمسلمين وثيق صلة، فعقدوا نيّتهم على اعتناق الاسلام. وبكلمة موجزة، كان الاسلام ينتشر في سرعة بالغة. وكانت العقبة الوحيدة هي هوى النفوس العميق الجذور. فحيثما خمد ذلك الهوى رسخت قدم الاسلام. وخلال هذه الفترة أظهر بنو طيّ بعض النزوع إلى الاذى. فكلّف عليّ، على رأس مئتي فارس، بأخضاعهم. وكانت بين الأسرى بنت حاتم الطائيّ، الذي اشتهر بكرمه وجوده. وحين علم الرسول بأسرها بعث في طلبها وأبدى رغبته في اطلاق سراحها باحترام واجلال. ولكن الفتاة الفاضلة بنت الأب الطائر الصيت لم تحبّ ان تفيد وحدها من هذا الامتياز. لقد قالت انها تؤثر الأسر على الحرية، ما بقيت رفيقاتها الأسيرات رازحات تحت نير العبودية. فأجابها الرسول إلى طلبها، وحرّر الاسيرات جميعا. وكان أخوها [عديّ] قد فرّ خوفا على حياته إلى ديار الشام. فشخصت هي إلى هناك تبحث عنه، وأخبرته بسابغ عطف الرسول وحنانه. فلم يكن من عديّ إلا ان وفد على الرسول، ودخل في الاسلام، فأسندت اليه زعامة قبيلته من جديد. وفي تلك الفترة أيضا اعتنق الدين الجديد كعب بن زهير- وهو شاعر شهير كان ذات يوم عدوا لدودا للاسلام- ونظم مدحته الشهيرة في الرسول، وتعرف ب «البردة» . لقد خلّدت تلك القصيدة* اسمه.

_ (*) ومطلعها: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ... متيم إثرها لم يفد مكبول (المعرب)

كان الاسلام قد اكتسب الآن شعبية عامة في طول بلاد العرب وعرضها. لقد انتشر نبأ انتصاره النهائي إلى أقصى زوايا الجزيرة. ولم يكن الناس غافلين عما جرى، طوال سنوات وسنوات، بين الرسول وقريش. لقد شهدوا، في لهفة وشوق، مراحل الصراع كلها. لقد عرفوا كيف عذّبته قريش وعذّبت أصحابه لتبشيرهم بالفضيلة وبوحدانية الله، وكيف قامت- بعد هجرتهم- بمحاولات متعددة استمرت ثماني سنوات، لسحق المسلمين. والواقع ان الذين شهدوا مواسم الحج السنوية حملوا هذه الأنباء إلى زوايا البلاد القصوى. وكان الناس على علم أيضا بنبوءة الرسول القائلة بأن كل مقاومة للاسلام سوف تتلاشى آخر الأمر. وهكذا أخذت الوفود تتدفّق على المدينة من كل حدب وصوب. فكان الرسول يستقبلها في حفاوة بالغة، ويعلمها مبادئ الاسلام في لطف ليس بعده لطف. وكان يبعث مع الذين يعتنقون الاسلام بمعلّم يفقّههم في الدين. وهكذا تقاطرت إلى المدينة في النصف الأول من هذه السنة بالذات وفود مقبلة من مواطن قصيّة كاليمن، وحضرموت والبحرين، وعمان، والتخوم الشامية والفارسية. يا لتحريف الحقائق! إن الجهل والهوى يعزوان انتشار الاسلام إلى اصطناع السيف. على حين ان الواقع يقول إن انتشار الاسلام ظلّ راكدا ما بقيت حالة الحرب بين المسلمين والمشركين. فما إن أقرّ السلام حتى انتشر الاسلام في كل ناحية بخطى واسعة. لقد بدا وكأن قوة غير منظورة كانت تعمل على إدخال الناس في دين الله أفواجا بعد أفواج. ولم يبعث في أيما يوم بحملة عسكرية إلى أيما بلد من تلك البلاد التي أقبلت الوفود منها تلك هي الحقيقة التي شاءت سخرية القدر ان تحرّف إلى اليوم تحريفا متعمّدا. فلطالما ساعدت الحرية والسلام، ولسوف يظلان يساعدان إلى الأبد، على انتشار الاسلام.

الفصل الخامس والعشرون معركة تبوك

الفصل الخامس والعشرون معركة تبوك «لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً «لَاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ «الشُّقَّةُ، وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ «اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ، يُهْلِكُونَ «أَنْفُسَهُمْ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ «لَكاذِبُونَ.» (القرآن الكريم، السورة 9، الآية 42) أثار انبثاق الاسلام في بلاد العرب قلق الدولة النصرانية المجاورة. لقد راقبت، بعين حسود، هذا النمو السريع الذي عرفه الاسلام. والواقع أن عواطف المسلمين كانت دائما مع اليهود والنصارى بوصفهم أعداء الوثنيين وعبّاد النار. فحين اكتسحت جيوش الفرس الاجزاء الآسيوية من الامبراطورية الرومانية ومصر وقرعت أبواب القسطنطينية

ولاحت النهاية المشؤومة لكل عين، تنبأ القرآن الكريم بأن الامبراطورية الرومانية سوف تهزم فارس قبل انقضاء تسعة أعوام: «الم. غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ. فِي بِضْعِ سِنِينَ، لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ. بِنَصْرِ اللَّهِ، يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ. وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ.» * وهكذا عندما انتصر المسلمون في بدر وفّقت الامبراطورية الرومانية إلى استرداد أراضيها المفقودة، واندفعت قواتها حتى بلغت تخوم فارس نفسها. ولكن الامبراطورية الرومانية لم تستطع أن تغضي عن تعاظم قوة الاسلام أو ترضى به. وكانت مناوشة قد حدثت ذات مرة، في مؤتة، بين المسلمين والبيزنطيين. حتى إذا تسامعت ديار الشام، الآن، بأن بلاد العرب كلها أنشأت تنضوي تحت لواء الاسلام، تطرّق الحسد الديني إلى نفوس النصارى. كان الأمل قد راودهم في أن يوفّقوا إلى تنصير بلاد العرب. ولقد خيّل لهم ان هجوما يشنّونه على الجزيرة خليق به على الأقل ان يعوق انتشار الاسلام. وبلغ المسلمين ان قيصر قد عبّأ قوة ضخمة لسحق الاسلام، وان القبائل النصرانية في بلاد العرب قد تضافرت معه. وكانت قبائل غسان، بخاصة، مصدر خطر على أمن الجزيرة العربية. فلم يكد النبيّ يتلقّى ذلك النّبأ حتى أمر بإعداد جيش يزحف إلى تخوم الشام. إن القرآن الكريم يوصي بتحصين الحدود، كاحتراز من غزو مفاجئ. والرسول، لم يدّخر، من ناحية روحية، وسعا لحماية قومه من جميع هجمات الشيطان المحتملة. وهكذا لم يكن في مستطاعه أن يستخفّ بالانباء المتوالية عن استعدادات قيصر الضخمة لأبادة الاسلام. وكانت

_ (*) السورة 30، الآية 1- 6.

الطريقة الفضلى للدفاع عن النفس هي ابقاء العدو خارج تخوم بلاد العرب، ومن ثمّ ضرورة تسيير حملة إلى تلك التخوم. وهكذا دعا الرسول القبائل جميعها إلى الدفاع عن وطنها. كان الخطر المحدق يهدد أمن بلاد العرب كلها. ولكن عقبات عديدة كانت تعترض هذه السبيل. كانت الرحلة طويلة، وكان الجو لاهبا. كانت المحاصيل قد نضجت، فهي تنتظر المنجل. وفوق هذا كله كان الخوف من مواجهة جيوش الامبراطورية الرومانية الحسنة الانضباط والتدريب يساور كثيرا من القلوب. وإلى هذا فلم يكن في امكان المسلمين ان يقوموا بمثل هذه الرحلة الطوية سيرا على الاقدام. وكان ثمة كثيرون لا يملكون من المال ما يمكنهم من شراء بعير أو جواد يستعينون به على الرحلة، ولم يكن الرسول بقادر على تزويدهم بشيء من ذلك. وهنا تبرّع عثمان [بن عفان] للحملة بألف بعير وعشرة آلاف دينار. وجهّز جيش مؤلف من ثلاثين ألف مقاتل، ففصل من المدينة في شهر رجب من السنة التاسعة للهجرة. حتى إذا بلغوا الحجر، موطن ثمود، أمرهم الرسول بأن يمروا بأطلالها في سرعة، معلّما إياهم بذلك درسا مفاده ان المسلم يجب ان لا تكون له أية علاقة بقوم خالفوا وصايا الله. وعند منتصف الطريق بين المدينة ودمشق، على مسيرة اربعة عشر يوما من المدينة الأخيرة، تقع تبوك. وهنا عسكر الجيش الاسلامي، وأنشأ ينتظر أنباء العدوّ. لقد بدا وكأن القوة الاسلامية الحالية، مردفة بذكرى بسالة الثلاثة آلاف مسلم في مواجهة مئة ألف [من الروم] في موقعة مؤتة السالفة، قد أوهنت قوى قبائل غسان، ولخم، وجذام وغيرهم. وتخلّى قيصر أيضا عن فكرة الهجوم. وحين انتهى الرسول إلى الحدود وجدها آمنة بالكليّة. فلو ان غرضه كان فرض الاسلام بالسيف، كما يزعم في مناسبة وغير مناسبة، فهل كان في الامكان ان تكون ثمة فرصة لذلك خير من هذه الفرصة؟ لقد كان ثمة

تحت إمرة الرسول ثلاثون ألف مقاتل مسلحون تسليحا حسنا ... ثلاثون ألف مقاتل أولو جراءة وتفان. وكان ينبسط أمامه حقل واسع لاشباع شهوته إلى اكراه الناس على الدخول في الدين، إن يكن لديه شيء من مثل هذه الشهوة. ولكن التاريخ لم يسجل ان أيما رجل اعتنق الاسلام نتيجة لهذه الحملة الضخمة. وحتى لو ان الرغبة في التوسع الاقليمي كانت مستحوذة على الرسول فهل كان في الامكان أن تتاح له فرصة مواتية لذلك أكثر من هذه الفرصة؟ لقد تحمّل مشاق الرحلة الطويلة المرهقة في قيظ الصيف العربي المحرق. وكان قد انتهى أخيرا إلى أبواب بلاد العدو نفسها، ذلك العدو الذي ألفاه الرسول غير مستعد لإبداء أيما مقاومة. إن اندفاعة واحدة إلى الأمام نحو سورية المنبسطة أمامه كان خليقا بها أن تملّكه رقعة من الأرض الخصبة واسعة. ولكن فؤاده كان بريئا من الرغبة في التوسع الاقليمي براءته من ادخال الناس في الدين عنوة. فعلى الرغم من كل ذلك الانفاق وتلك المشاق، لم يكد الرسول يقتنع بعد تريّث دام عشرين يوما بأنه لم يكن ثمة داع للقلق حتى انقلب عائدا تنفيذا للوصية القرآنية التي تقول: «وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ» *. لقد أبى العدو القتال. فكيف يقاتله الرسول؟ وهكذا عقدت بعض الاتفاقات مع عدد من الدويلات النصرانية، وأقرّ السّلم على الحدود.

_ (*) السورة 2، الآية 190.

الفصل السادس والعشرون المنافقون

الفصل السّادس والعشرون المنافقون «إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ «نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا «مُجْرِمِينَ.» (القرآن الكريم، السورة 9، الآية 66) على الرغم من ان الهجرة إلى المدينة أتاحت للرسول قدرا من الحرية فقد زادت معارضة المشركين لقضيته اضعافا مضاعفة. فيوم كان في مكة نفّست قريش عن حقدها بتعذيب المسلمين، أما الآن فقد عقدت العزم على سحقهم والقضاء عليهم. ليس هذا فحسب، بل إن القبائل البدوية، التي اكتفت حتى ذلك الحين بالتفرج على اضطهاد المسلمين، تحركت لمقاومتهم بعد أن رأت إلى نموّ الاسلام في المدينة. وإذ كان اليهود بعيدين عن مكة فقد لزموا حتى ذلك الحين أيضا جانب الهدوء، حتى إذا أمسى المسلمون على مقربة دانية منهم، في المدينة، لم يعد في طوقهم ان يشهدوا نموّ الاسلام المطرد مكتوفي الأيدي، فهبّوا لمقاومته

أيضا. ولكن موجة معارضة أخرى، ذات طبيعة غريبة سرعان ما انطلقت على نحو متميّز من الموجات السالفة، وكان أبطال هذه المعارضة الجديدة هم المنافقين، كما يعرفون في المصطلح الاسلامي. لقد كانوا هم اولئك الذين لم يؤانسوا في أنفسهم الجرأة على مقاومة المسلمين في وضح النهار. وهكذا اعتنقوا الاسلام وفي نيّتهم ان ينسفوه من داخل. وكان زعيمهم المقدّم هو عبد الله بن أبيّ. وكان هذا الرجل يتمتع، قبل هجرة الرسول، بنفوذ وسلطان عظيمين في المدينة. وكان الناس يفكرون في تنصيبه ملكا عليهم. ولكن وجود الرسول كسف أنوار شخصيته، فتضاءل حتى اللاشيئية. لقد قاوم الاسلام، في بادئ الأمر، بعض المقاومة، ولكنه لم يكد يرى إلى نمو الاسلام السريع حتى بدا له ان النفاق خليق به أن يكون هو السياسة الفضلى. وهكذا لبس قناع الاسلام، ومنذ ذلك الحين حتى وفاته في السنة التاسعة للهجرة لم يأل جهدا في سبيل انزال الاذى بالاسلام. إن المرء يستطيع ان يأخذ حذره من العدو الصريح، أما الاعداء المقنّعون بقناع الصداقة فليس أخطر من التعامل معهم. إنهم يخدّرون المرء بشعور من الأمن والسلامة، من طريق مظهرهم الودّي، حتى إذا سنحت لهم الفرصة الملائمة ضربوا ضربتهم على حين غرّة. ثم إنهم يكونون في وضع يمكّنهم من النفاذ إلى سريرة المرء، وهو ما يزيد خطرهم خطرا. إنهم يقيمون صلات سرية مع أعداء المرء، فيطلعونهم على جميع خططه وحركاته. وهكذا جوبه الاسلام بكل شكل يمكن ان يتصوره الانسان من أشكال المقاومة والمكيدة. ومن هنا كان انتصاره النهائي برهانا حسّيا على الحقيقة التي تقول بأن النبتة التي تتعهدها يد الله نفسه تثبت في وجه أقوى العواصف وأهوجها. واتخذ حقد عبد الله بن أبيّ مظهرا واضحا يوم معركة أحد. فلم يكد يستقين من أن قريشا عقدت العزم على سحق المسلمين وجهزت

من أجل ذلك جيشا مؤلفا من ثلاثة آلاف مقاتل حتى تخلّى عن الرسول وانسحب من الميدان مع رجاله الثلاثمئة وانقلب عائدا إلى المدينة. لقد خيّل اليه أن صنيعه هذا لن يضعف قوة المسلمين فحسب، بل انه سوف يضعف معنويتهم أيضا، وبذلك يصبح في مستطاع قريش أن تسحقهم على نحو أيسر. وفوق هذا، وعد بني النّضير بأن يساعدهم على إيذاء الاسلام والمسلمين. ففي معركة الأحزاب، يوم كانت قوات المشركين، وعدّتها اربعة وعشرون ألف رجل، تضرب الحصار على المدينة، لم يشارك المنافقون في الدفاع عن المدينة بدعوى انهم مضطرون إلى حماية منازلهم المعرّضة لهجمات العدوّ. وحين وجّهت الحملة الاسلامية على بني المصطلق أطلق عبد الله بن أبيّ العنان لحقده على المسلمين. لقد قام بمحاولة عابثة إلى ايقاع الشقاق بين المهاجرين والانصار. وفي طريق العودة من تلك المعركة لفّق عبد الله وأتباعه تهمة خطيرة ضد طهارة عائشة، الفاضلة. لقد تمنّوا، في كل مناسبة، أن يمنى المسلمون بأدهى الكوارث والارزاء. كانوا يتحيّنون الفرصة للوثوب من داخل، إذا ما قدّر لأيما عدوّ خارجي ان يتغلب على الاسلام، اضأل ما يكون التغلّب. وفي معركة تبوك أتاح لهم الحرّ اللاهب ذريعة قوية للاحجام عن الاشتراك في الحملة. وكان الدافع الحقيقي الذي حفزهم على التخلّف في المدينة هو التآمر على الاسلام، هناك، في غيبة المسلمين. ولكن جميع جهودهم الرامية إلى ايقاع الاذى بالاسلام ذهبت أدراج الرياح. ولعل تاريخ العالم الاخلاقيّ والديني لا يقدّم لنا غير مثل واحد على العمل بالقول المثالي «أحبّ عدوّك» . فلم يكن لدى الرسول ما يواجه به أعداء خطرين، كالمنافقين، غير ألطف المعاملة وأحسنها. إنه لم يعاقبهم، في أيما يوم، على جرائمهم. فحين انفضحت مؤامرة عبد الله الرامية إلى ايقاع الفرقة بين المهاجرين والأنصار قال عمر بن الخطاب

للرسول: [ «مر به بلالا] فليقتله» . فأجابه الرسول: «فكيف يا عمر إذا تحدّث الناس وقالوا إن محمدا يقتل أصحابه!» بيد انه حين بنى المنافقون، بتحريض من أبي عامر، مسجدا في المدينة وفي نيتهم أن يجعلوه ملتقى للمتآمرين على الاسلام، أصدر الرسول أمره، تنفيذا للأمر الالهي، بأحراقه. وإنما بني ذلك المسجد قبيل معركة تبوك. وطلب المنافقون إلى الرسول أن يفتتح المسجد بالصلاة فيه، فاستمهلهم حتى يعود من حملة تبوك. وفي غضون ذلك علم الرسول، من طريق الوحي الالهي، ان ذلك المبنى لم يكن مسجدا، ولكنه كان في الواقع مرتعا لتدبير المؤامرات للقضاء على الاسلام (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ، وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى، وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً، لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ، فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ. أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ، وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.) * وهكذا اضرم الرسول النار في ذلك المسجد لدن عودته من تبوك. وبعد شهرين اثنين توفي عبد الله. وكان يعرف بين المسلمين ب «زعيم المنافقين» ، وكانت عداوته العميقة الجذور للاسلام أوضح من أن يعتورها أضأل الشك. بيد أنه كان من دأبه في ما يبدو ان

_ (*) السورة 9، الآيات 107- 110.

يردّد الشهادتين وأن يدعو نفسه مسلما. وكان له ولد اسمه عبد الله أيضا، ولكنه كان مسلما صادق الايمان، فأقبل عبد الله هذا، لدن وفاة أبيه، على الرسول والتمس منه فضلين: أولا أن يعطيه رداءه كي يتخذ منه كفنا لأبيه، وثانيا ان يصلي بنفسه صلاة الجنازة عليه. ماذا؟ أمثل هذه المعاملة لعدوّ مثل عبد الله بن أبيّ! وهي معاملة مخصصة للأصدقاء. ولكن قلب الرسول كان أكرم من أن يضنّ، حتى على عدوّ لدود، بفضل. وهكذا أجاب عبد الله إلى ما طلب، فقدم اليه رداءه يكفّن به أباه، واستعد لاقامة الصلاة عليه. فلم يكن من عمر بن الخطاب إلا أن حاول ثنيه عن ذلك، مؤكدا ان الميت كان عدوّا للاسلام كبيرا. ولكن الرسول قال انه سوف يصلي، برغم ذلك، على جثمانه. فاحتج عمر لافتا نظر الرسول إلى الآية القرآنية التي تقول: «اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ. إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ» *. فأجابه الرسول بقوله: «اذن فسوف أستغفر له أكثر من سبعين مرة.» ولقد سبق منا القول ان كرمه نحو المكيين كان لا يعرف حدودا، وها إن موقفه من هذا العدو الداخلي الألدّ لا يقلّ عن موقفه من المكيين سماحة وكرما. يا للمشاركة الوجدانية السابغة! لا ريب في أنه الشخصية الوحيدة في التاريخ المؤهلة بحكم الوقائع والارقام الثابتة لأن ينادى به «رحمة للعالمين» . كان فؤاده يفيض رأفة رؤوما لا بأصدقائه فحسب، بل بألدّ أعدائه أيضا. وخمدت عداوة المنافقين للاسلام بوفاة عبد الله بن أبيّ. إن فضائل الاسلام ما لبثت أن تجلّت لهم، على نحو تدريجيّ، بعد أن أخفقت

_ (*) السورة 9، الآية 80.

جميع محاولاتهم لقهره. كانوا قد بذلوا، حتى ذلك الحين، قصارى جهدهم لايذاء الاسلام، ولكن جهودهم تلك ذهبت كلها أدراج الرياح. حتى إذا قضى زعيمهم نحبه أنشأوا يدركون أن يد الله كانت، بلا ريب، من وراء الاسلام تسنده وتدعمه. واقتنع كثير منهم بصدق الدعوة الاسلامية فأمسوا مسلمين أتقياء مخلصين. أما النفر القلائل الذين لم يشرح الله قلوبهم للدين فقد أبعدوا عن الجماعة الاسلامية، وفقا للأمر الالهي. ومما يستحق الاشارة ههنا، بخاصة، أن أيما قصاص لم ينزل بهؤلاء الرجال البتة. إنهم لم يقتلوا ولم ينفوا. كل ما تم في أمرهم هو تحذير المسلمين، على نحو علنيّ، من أذاهم. إن أيما زكاة لم تطلب منهم. * تلك، إن لم يكن من ذلك بدّ، هي العقوبة الوحيدة التي أنزلت بهم. وموقف الرسول هذا يلقي فيضا من النور على المعنى الحقيقي للجهاد في الاسلام. واليك الأمر القرآني في موضوع الجهاد: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ، وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» ** وإذا ما فسّرنا هذه الآية على ضوء معاملة الرسول الفعلية للمنافقين قادنا ذلك إلى هذا الاستنتاج: ان الجهاد يعني كل شيء إلا سفك الدماء من أجل نشر الدين. (***) وهكذا وضع حدّ للمتاعب التي سبّبها المنافقون، والرسول ما يزال على قيد الحياة. لقد أمن الاسلام مؤامرات الاعداء الداخليين والاعداء الخارجيين على حد سواء. إن في ميسورك ان تتأتّى للعدو الصريح في سهولة ويسر، ولكن من المتعذر على الطاقة البشرية ان تبقي أيما حركة عامّة في نجوة من أمثال هؤلاء الأعداء الداخليين. وفوق هذا كله،

_ (*) السورة 9، الآية 103. (**) السورة 9، الآية 73. (***) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: لا عجب إذا علمنا أن مؤلف الكتاب قادياني، من أصول مذهبه إلغاء فريضة الجهاد، فإن هذا الموضع هو الموضع ((الوحيد)) في كتابه الذي ورد فيه ذكر ((الجهاد)) ، وهذا الموضع الوحيد يقرر فيه أن: "الجهاد يعني كل شيء إلا سفك الدماء من أجل نشر الدين" (!!)

فأن العداوة للاسلام لم تمح من ارجاء الجزيرة كلها فحسب، ولكن اولئك الاعداء أنفسهم حوّلوا إلى أصدقاء متفانين. أكان ذلك شيئا في متناول البشر تحقيقه؟ لا، لقد حققته يد الله الذي كان قد قال قبل ذلك بفترة طويلة: «عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً، وَاللَّهُ قَدِيرٌ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.» *

_ (*) السورة 60، الآية 7.

الفصل السابع والعشرون عام الوفود

الفصل السّابع والعشرون عام الوفود «إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، وَرَأَيْتَ «النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ «أَفْواجاً. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ «وَاسْتَغْفِرْهُ، إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً.» (القرآن الكريم، السورة 110، الآية 1- 3) وفي أواخر السنة التاسعة وطوال السنة العاشرة للهجرة تدفقت على المدينة وفود تمثّل مختلف العشائر والقبائل. فقد أقبل وفد الطائف لزيارة الرسول، حوالى نهاية السنة التاسعة. ولقد سبقت منا الإشارة إلى انه يوم نشبت المعركة بين المسلمين وهوازن والتجأ فريق من العدوّ المهزوم إلى الطائف، اضطرّ الرسول إلى ضرب الحصار على البلدة. بيد أنه لم يكد يستيقن من أنهم لم يعودوا قادرين على ايقاع الاذى بالمسلمين حتى رفع الحصار عنها. وكان عروة [بن مسعود] زعيم

ثقيف، غائبا خلال ذلك في اليمن حيث راح يتمرّس بفنّ القتال. حتى إذا رجع من رحلته هذه شخص إلى المدينة مباشرة. وكان قد تعرّف قبل ذلك إلى فضائل الاسلام، وكان قد اجتمع إلى الرسول أيضا بمناسبة صلح الحديبية [إذ كان أحد الذين تفاوضوا وإياه عن قريش في ذلك الصلح] . ولدن وصوله إلى المدينة اعتنق الاسلام، وأمسى كل همّه منذ ذلك الحين أن يرى بني قومه ينعمون ببركات الدين الجديد. وحاول الرسول ان يثنيه عن محاولة دعوتهم إلى الدين الذي دخل هو فيه، ذلك بأنه كان قد خبر، شخصيا، تعصّب ثقيف وضراوتها. ولكن عروة كان واثقا، أكثر مما ينبغي، من سلطانه على قومه. لقد أكد للرسول انه يتمتع فيهم باحترام عظيم جدا [قائلا: «يا رسول الله، أنا أحبّ اليهم من أبصارهم» ] ومن ثم فلن يصيبه منهم أيما أذى. وشخص عروة إلى الطائف فجمع قومه ودعاهم إلى الاسلام. وحين ارتفع الضحى قام [على علّيّة له] ينادي للصلاة، فحاصر بعض الرعناء بيته وأمطروه بالنبال حتى صرع. وأفضى ذلك إلى وقوع مناوشة بين ثقيف، وهوازن التي كانت قد انضوت الآن تحت راية الاسلام. وأخيرا، وبعد أن رأى الثقفيّون إلى الاسلام وقد ساد في كل حدب وصوب، وبدت المعارضة عبثا لا طائل تحته، قرّروا الدخول في دين الله. وألّف وفد من ستة زعماء ونحو عشرين عضوا آخرين لزيارة المدينة. ولم يطلب الرسول منهم ولو توضيحا لمصرع عروة. وأبدوا رغبتهم في اعتناق الاسلام ولكنهم طلبوا إلى الرسول ان يدع لهم صنمهم اللات ثلاث سنين لا يهدمها لأن الجهلة والنساء لن يرتاحوا إلى ذلك. ولكن الرسول رفض مطلبهم هذا. وأخيرا سألوه ان يدعها لهم شهرا واحدا. ولكن كيف يجتمع الاسلام والوثنية؟ وهكذا بعث الرسول بالمغيرة [بن شعبة] ليقوم

بهدم الصنم، إذ خشيت ثقيف أن تلمّ بها كارثة إذا ما هدمته بأيديها. وخلال تلك السنة قام بزيارة الرسول، كما ذكرنا من قبل، وفد من بني تميم. وقبل انقضاء العام التاسع للهجرة كان الاسلام قد انتشر في جميع الأرجاء الجنوبية والشرقية من جزيرة العرب. وأسلمت الكثرة الكبيرة من زعماء اليمن، ومهرة، وعمان، والبحرين، واليمامة، سواء من طريق الوفود أو من طريق الرسائل. وكان العرب في عهودهم كلها أمة تعشق الحرية. وكانت القبيلة العربية تعتبر أن من العار عليها أن تدفع أيما جزية إلى قبيلة أخرى. ومن هنا فأن دفع الزكاة حال دون انضواء بعض القبائل تحت راية محمد. لقد أحبوا الاسلام، ولكنهم لم يستطيعوا ان يروضوا أنفسهم على الرضا بالهوان، كما خيّل اليهم ... هوان دفع ضريبة ما، ولو الهية. وأسلم نصارى مهرة واليمن أيضا حوالى نهاية ذلك العام. وبعث الرسول بأحد المتفقهين في الدين إلى المنذر، أمير البحرين، الذي دخل في الدين من غير ما تردّد البتة. وحوالى تلك الفترة أرسل بنو حنيفة، وهم قبيلة نصرانية، بوفد إلى النبي. وكذلك فعلت قبائل اليمامة. وكان ذلك هو الوفد الذي ضمّ مسيلمة الكذاب. لقد حسب ان الذي جعل محمدا نبيا لا يعدو أن يكون كلاما تافها عن أشياء الهية. فقاده ذلك إلى ادعاء النبوة، ولكنه صرع آخر الأمر في معركة حدثت في خلافة أبي بكر. وبعث بنو تغلب، وهم قبيلة نصرانية أخرى، بوفد إلى الرسول أيضا مؤلف من ستة عشر عضوا. ولكن أشهر هذه الوفود النصرانية كان ذلك الذي أقبل من نجران، وعدد أعضائه سبعون. وكان زعيماهم عبد المسيح وعبد الحارث، ممثّلين بني كندة وبني الحارث على التعاقب. وكان هؤلاء القوم من أتباع الكنيسة الرومانية الكاثوليكية

وبينا أنزلت الوفود الأخرى في بيوت عدد من المسلمين، أجيز لهذا الوفد أن ينزل في مسجد الرسول، حيث سمح لأفراده أيضا أن يؤدوا صلواتهم وفقا لطقوس دينهم. ودعي هؤلاء إلى الاسلام، ولكنهم كانوا راغبين في شيء من النقاش. حتى إذا رفضوا الحجج الواضحة السليمة التي قدّمت اليهم دعاهم الرسول إلى ما يعرف في المصطلح الاسلامي بالمباهلة. وقوام المباهلة التماس القرار الالهي- من طريق الصلاة- بعد أن يخفق الجدل في حسم مسألة من مسائل الخلاف الديني. وهكذا اتفق الفريقان على الدعاء إلى الله أن ينزل بلاء سماويا ما على الفريق المخطئ لكي يكون في ذلك تحذير للآخرين. ولكن زعماء النصارى كانوا قد أدركوا صدق الاسلام. من أجل ذلك لم يقبلوا تحدّي الرسول لاجراء تلك المباهلة، ولم يرغبوا في الوقت نفسه في التخلّي عن عقيدتهم. وأخيرا انقلبوا إلى قومهم، بعد أن عقدوا اتفاقا مع الرسول. (وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك بقوله: «الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ. فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ. إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ، وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ. قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ.» * وفي السنة العاشرة للهجرة زارت الرسول وفود من قبائل يمانية أخرى

_ (*) السورة 3، الآيات 60- 64.

كان أبرزها وفد بجيلة. وكان لهذه القبيلة هيكل خاص بها يدعى «ذا الخلصة» ، وكان يعتبر «كعبة» اليمن. ولقد هدم «الخلصة» أيضا، وهو الصنم الذي عرف الهيكل باسمه. ووفد وائل [بن حجر الكنديّ] والاشعث [بن قيس] ، وهما زعيمان من زعماء حضرموت، في جماعة كبيرة. كانوا يرتدون أردية حريرية. فسألهم الرسول هل يرغبون في اعتناق الاسلام. فأجابوه قائلين إنهم أقبلوا لهذا الغرض بالذات. عندئذ طلب اليهم الرسول أن يخلعوا ملابسهم الحريرية، ففعلوا، ودخلوا كلهم في الاسلام. والواقع ان الرسول لم يبعث لمجرد تعليم الناس بعض مبادئ الاخلاق. كانت رسالته تستهدف استئصال كل شرّ من الشرور الاخلاقية والاجتماعية. لقد ألغى جميع ضروب الفساد السائدة منذ عهد بعيد، وأضفى على نسيج المجتمع كله صبغة اسلامية متميّزة. لقد ارتفع، في سنوات قليلة، بأنسانية ساقطة من حضيض الخزي إلى [ذروة السموّ] وطهّرها من جميع عاداتها السيئة، وأشربها طرائق الحياة الاسلامية الصافية البسيطة. والحق انه نفخ فيها حياة جديدة بالكلية. وعلى هذا النحو بعثت القبيلة اثر القبيلة، والعشيرة اثر العشيرة، بوفودها إلى الرسول الكريم تعلن رغبتها في الانضمام إلى الجماعة الاسلامية. وكان من دأب هذه الوفود أن تسأل النبيّ، بعد ذلك، ان يوجّه معها معلما يفقّهها في الدين، وجابيا يجمع منها ما فرضته عليها الشريعة من زكاة. بيد أنه كان لا يزال ثمة جماعة لم تقطع الرجاء من توجيه ضربة إلى الاسلام قاضية. وعقد اثنان منهم، هما عامر [بن الطّفيل] وأربد [بن قيس] ، النية على قتل الرسول غيلة. وكان التدبير يقضي بأن يعمد عامر إلى إلهاء الرسول بالتحدث اليه، فيما يشهر أربد سيفه فيضربه به ضربة مميتة. وهكذا انطلقا لتنفيذ ما بيّتاه، حتى إذا لقيا

الرسول شرع عامر يحادثه، وفقا للخطة الموضوعة، ولكن أربد لم يجد في نفسه الشجاعة لاداء دوره في المؤامرة. وأخيرا، وبعد أن رأى عامر أن تلك الخطة لن تنجح، سأل الرسول أن يمنحه مقابلة شخصية، وكم كانت خيبته عظيمة عندما ضنّ الرسول عليه بذلك. وكان عامر زعيم قبيلة ذات بأس شديد. فلم يكد ينصرف من لدنه حتى هدد الرسول بقوله: «أما والله لأملانّها عليك خيلا ورجالا!» فاجتزأ محمد بأن سأل الله الحماية، قائلا: «اللهمّ اكفني عامر ابن الطّفيل!» ومن عجب ان عدو الاسلام هذا توفي بالطاعون في طريق عودته إلى بلده قبل أن يبلغ قومه. [وإنما أصابه الطاعون في عنقه وهو في بيت امرأة من بني سلول فقضى وهو يردّد: «يا بني عامر! أغدّة كغدّة البعير وموتة في بيت سلوليّة!» ] وبكلمة موجزة، فقد انقضت فترة الحرب ودخل الناس في دين الله أفواجا؛ فلم تكد تنقضي سنتان حتى لم يبق في طول جزيرة العرب المترامية الأطراف غير دين واحد- الاسلام- وبعض الجاليات اليهودية والنصرانية الضئيلة المتناثرة ههنا وههناك. لقد تردّدت صيحة «الله أكبر» في كل رجا من أرجائها. يا لها من ظاهرة اعجوبية! لقد أتى على الرسول عهد طاف فيه بمختلف القبائل- وكان ذلك في أشهر الحج- يدعوها إلى الاسلام، ولكن أحدا منهم لم يصغ اليه. أما الآن، فها هي ذي القبائل نفسها تبعث اليه بوفودها وتعتبر انضواءها تحت راية الدين الجديد شرفا لها عظيما. فخلال سنتين اثنتين ليس غير انقضتا على انتهاء حالة الحرب وفّق الرسول لا إلى ضمّ بلاد العرب كلها إلى الحظيرة الاسلامية فحسب، بل وفّق في الوقت نفسه إلى إحداث تحوّل جبار في حياة الأمة العربية أزال جميع مفاسدها ورفعها إلى أسمى مراتب الروحانية.

الفصل الثامن والعشرون حجة الوداع

الفصل الثامن والعشرون حجّة الوداع «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ «وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ «لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً.» (القرآن الكريم، السورة 5، الآية 3) كانت السنة التاسعة للهجرة تدنو من ختامها، ولكن جزيرة العرب لم تكن قد طهّرت من الوثنية تطهيرا كاملا. كان لا يزال ثمة اناس تشبّثوا بدينهم التقليديّ. ومن هنا فأن حجج الرسول حتى ذلك الحين كانت كلها من الضرب المعروف ب «العمرة» ، أو الحج الأصغر. بيد ان الاسلام كان قد انتشر الآن في كل رجا من أرجاء بلاد العرب، وكان عدد القبائل الوثنية قد أمسى أقلّ نسبيا. وهكذا وجّه الرسول جماعة من المسلمين، على رأسهم ابو بكر، إلى مكة ليؤدوا فريضة الحج على وجهها الصحيح. وسرعان ما أرسل عليّ بن ابي طالب إلى هناك ليعلن انه لن يحج إلى مكة بعد ذلك العام مشرك.

وكان هذا، في الواقع، ضربا من نبوءة تبشر باسلام شبه الجزيرة كلها، بحيث لا يبقى فيها مشرك حتى يحجّ البيت. ولقد انضوت الجزيرة برمّتها في السنة العاشرة، كما لاحظنا من قبل، تحت لواء الاسلام، وتوجّه الرسول بنفسه في تلك السنة إلى مكة ليؤدي فريضة الحج. يا له من مشهد مؤثّر! لقد احتشد مئة واربعة وعشرون ألف شخص من مختلف ارجاء بلاد العرب، ذلك الموسم، وليس فيهم مشرك فرد. إن الموطن نفسه الذي نبذ الرسول وأنكره، في مستهل بعثته، كان الآن مسرحا لتقديم أروع الولاء له. فحيثما سرّح طرفه رأى حشودا من الاصدقاء المتفانين في الاخلاص له. يا له مظهرا ملهما من مظاهر القوة الالهية! وإن في ميسور القارئ ان يتخيّل مدى تأثّر أولئك القوم كلهم بجلال الاله ورهبته. وفيما لاحظ الرسول هذا البرهان الرائع على انتصار الحق النهائي أفهم من طرف خفي ان رسالته على الارض قد أدّيت. لقد كلّلت جهوده بالنجاح، كما لم يقدّر قط، ولن يقدّر ابدا، لجهود الانسان أن تنجح. وهكذا كان الأوان قد حان لانسحابه من هذه الحياة الأرضية بعد أن أنجز هدفها الرئيسي: فمن ناحية، كانت «بلاد العرب» كلها قد اعتنقت الاسلام، في حين كان الدين نفسه، من ناحية ثانية، قد بلغ اسمى غايات الكمال. وهبط الوحي الالهي لينبئ الرسول: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً.» * وهكذا لم يعد ثمة، منذ اليوم، أيما حاجة لظهور رسول جديد. فقد احاط القرآن الكريم بحاجات الانسان الدينية كلها. وخليق بهذا القرآن أن يكون هو وحده معين المعرفة الالهية الانسانية الذي ستنهل منه إلى يوم يبعثون.

_ (*) السورة 5، الآية 3.

ولا ريب في انه لم يكن في الامكان اختيار فرصة أفضل لأعلان ذلك النبأ الخطير السعيد، نبأ إكمال الدين. فقد كان ذلك المكان هو الموطن الذي لم يشهد قط، في تاريخ العالم كله، أيما صراع زمنيّ أو أيما سفك للدماء. وكانت هذه هي الجماعة التي التقت هناك لتمجيد الاله ليس غير، قاطعة- مؤقّتا- كل صلة لها بالحياة الدنيوية. وكان ذلك اجتماعا هيمنت فيه المساواة الانسانية، وانعدم كل تمييز بين الملك والفلاح، حيث التقى القوم كلهم كأخوان في الانسانية، ليرفعوا آيات الولاء لربهم الذي في السماء، وحيث كان كل فؤاد مفعما بمخافة الله. وكانت الخطبة التي ألقاها الرسول في تلك المناسبة رائعة حقا. كان ممتطيا ناقته، وكان الناس قد تحلقوا حوله في منى. فكانت الكلمات المنطلقة من بين شفتيه تردّد عاليا لكي تبلغ أقصى أطراف ذلك الاجتماع الحاشد. وكانت جميع القبائل والعشائر البدوية ممثلة في ذلك الموقف، وهكذا حملت الرسالة إلى كل رجا من ارجاء الجزيرة. وكان هذا هو مستهلّها: «أيها الناس! اسمعوا قولي فأني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا.» وواضح ان الرسول كان قد استشعر دنوّ أجله من خلال الآية التي أعلنت إكمال الدين والتي أنزلت عليه في التاسع من ذي الحجة، في عرفات. لقد بعث- وهو يعلم ذلك علم اليقين- ابتغاء إكمال الشريعة الالهية. فلا عجب ان نجده يستنتج- حين أعلم ان الأكمال قد حقّق- ان وجوده على الارض لم يعد ضروريا. وبعد هذا الاستهلال مضى الرسول يقول: «أيها الناس، هل تدرون أي يوم هذا؟ إنه يوم النحر. هل تدرون أي شهر هذا؟ انه الشهر الحرام. هل تدرون أي بلد هذا؟ انه البلد الحرام. إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى ان تلقوا ربكم

كحرمة يومكم هذا، وكحرمة شهركم هذا. وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، وقد بلّغت. «فمن كانت عنده أمانة فليؤدّها إلى من ائتمنه عليها. «وإن كلّ ربا موضوع*. ولكن لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون. «قضى الله ان لا ربا. وأن ربا عباس بن عبد المطلب موضوع كله. «وان كل دم في الجاهلية موضوع. وإن أول دمائكم اضع دم ابن ربيعة بن الحارث ابن عبد المطلب. «اما بعد أيها الناس، فان الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبدا. ولكنه ان يطع في ما سوى ذلك فقد رضي به مما تحقرون على أعمالكم، فاحذروه على دينكم. [ «أيها الناس، ان النسيء زيادة في الكفر يضلّ به الذين كفروا يحلّونه عاما ويحرّمونه عاما ليواطئوا عدّة ما حرّم الله فيحلّوا ما حرّم الله ويحرّموا ما أحلّ الله.] [ «وان الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والارض. وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم، ثلاثة متوالية ورجب مفرد الذي بين جمادى وشعبان.] «أما بعد، أيها الناس، فأن لكم على نسائكم حقا ولهنّ عليكم حقا. [لكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه وعليهنّ ان ألّا يأتين بفاحشة أبدا. فأن فعلن فأن الله قد أذن لكم ان تهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضربا غير مبرّح. فأن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف.] واستوصوا بالنساء خيرا فأنهن عندكم عوان

_ (*) أي مهدر.

لا يملكن لأنفسهن شيئا. [وانكم إنما اخذتموهن بأمانة الله واستحللتم. فروجهن بكلمات الله.] وأما عبيدكم فاحرصوا على ان تطعموهم مما تأكلون، وتلبسوهم مما تلبسون. «فاعقلوا ايها الناس قولي فأني قد بلغت. [وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلّوا أبدا امرا بيّنا: كتاب الله وسنّة رسوله.] «أيها الناس، اسمعوا قولي واعقلوه. تعلمنّ ان كل مسلم أخ للمسلم، وان المسلمين اخوة فلا يحلّ لامرئ من اخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه، فلا تظلمنّ أنفسكم.» وبعد ذلك صاح الرسول بأعلى صوته: «اللهمّ هل بلّغت؟» فردّدت جنبات الوادي جوابا انطلق من عشرات الوف الألسنة معلنا: «نعم! نعم!» وليس من ريب في ان الرسالة كانت سامية، ولكن الحماسة التي القيت بها لم تكن أقلّ حماسة. اننا ههنا امام عظة أخرى على الجبل في تاريخ العالم، أعظم من الأولى وأيسر تطبيقا.

الفصل التاسع والعشرون وفاة الرسول

الفصل التاسع والعشرون وفاة الرسول «وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ، قَدْ خَلَتْ «مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ، أَفَإِنْ ماتَ أَوْ «قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ، «وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ «يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً، وَسَيَجْزِي اللَّهُ «الشَّاكِرِينَ.» (القرآن الكريم، السورة 3، الآية 143) منذ أن عاد الرسول من حجة الوداع، بعد ان بشّر بإكمال الدين وأدّى رسالته الأخيرة، وهو يتوقع كل لحظة أن يلقى وجه ربّه. وفي أواخر صفر، من السنة الحادية عشرة للهجرة، اعتل ومرض. وكان قد أمر قبل ذلك بتجهيز جيش [عرم] إلى تخوم الشام، تحت إمرة اسامة بن زيد، الذي استشهد أبوه في ذلك الموطن نفسه، في مؤتة. وعلى الرغم من مرض الرسول دفع الراية بنفسه إلى أسامة،

وانضوى رجال عظام من مثل ابي بكر وعمر تحت لوائه كجنود عاديين. وإنما قصد بذلك إلى ان يؤكد، عشية مفارقته الحياة الأرضية، مبدأ المساواة بين البشر. وعسكر الجيش [في الجرف] خارج المدينة، ولكن اشتداد المرض بالرسول حال دون مسيره. ودعا الرسول نساءه واستأذنهن أن يمرّض في بيت عائشة فأذنّ له في الانتقال. وحتى آخر لحظة من لحظات حياته لزمت عائشة فراشه ومرّضته. ولم ينقطع، وهو في مرضته هذه، عن الشخوص إلى المسجد ليصلي بالناس جريا على مألوف عادته، ولكنه استشعر أنه اضعف من ان يقدر على الكلام. وذات يوم طلب إلى ازواجه ان يرقن عليه [سبع قرب] قبل أن يوفق للخروج إلى الناس، وان يعصبن رأسه. وبعد ان صلى بالناس خاطب المصلين قائلا: «ان عبدا من عباد الله خيّره الله بين الدنيا والآخرة وبين ما عنده فاختار ما عند الله.» وفي الحال أدرك أبو بكر أن الرسول كان يشير إلى نهايته الوشيكة، فلم يتمالك عن البكاء [وقال: «بل نحن نفديك بأنفسنا وأبنائنا!» ] وعندئذ أمر الرسول أن تقفل جميع الأبواب المؤدية إلى المسجد إلا باب أبي بكر. ثم سأل المهاجرين أن يستوصوا بالأنصار خيرا. وفي اليوم التالي ازداد الرسول ضعفا. وحين اذّن بلال للصلاة حاول ان ينهض ويتوضأ، ولكنه ألفى نفسه عاجزا عن ذلك. عندئذ قال: «مروا ابا بكر فليصلّ بالناس.» فاعتذرت عائشة عن أبيها قائلة ان ابا بكر رجل رقيق القلب، وخليق به ان ينفجر بالبكاء وهو يرتل القرآن. وإلى هذا فقد كان ضعيف الصوت. ولكن الرسول كرر قوله: «مروا ابا بكر فليصلّ بالناس!» وكرة أخرى اعتذرت عائشة عن أبيها، ولكن الرسول أصرّ على رأيه، وهكذا صلى ابو بكر بالناس. وذات يوم أحسّ بشيء من الراحة فأزاح ستارة بيته جانبا وخرج إلى المسجد. وكان [ابو بكر] ساعتئذ يصلي

بالناس، فلم يكد الرسول يرى اليهم حتى غمر البشر وجهه. لقد رأى بأم عينه بأي ورع بالغ سجد اولئك الذين عهد اليه في هدايتهم. لله، حتى في غيابه هو. والحق أن هذا المشهد أوقع في نفسه سعادة غير يسيرة. ولكن قوّته خانته، فتعيّن عليه ان يرتدّ على آثاره. وإنما حدث ذلك يوم الاثنين، ولقد أوهم المسلمين. أن الرسول في سبيله إلى الشفاء. وهكذا استأنفوا أعمالهم المختلفة، فمضى أبو بكر لزيارة أسرته في السّنح [بأطراف المدينة] . ولكن صحة الرسول ما لبثت ان ساءت من جديد فراحت عائشة تسعفه [واضعة رأسه في حجرها] . وفي غضون ذلك دخل الحجرة أحد أنسبائها وفي يده سواك. فنظر الرسول اليه نظرا دل على انه يريده [فأخذته عائشة من قريبها ومضغته له حتى لان وأعطته اياه] فاستاك به جيدا. وفجأة تغيّر حاله، ودخل في النزع الأخير. وكانت آخر كلماته التي نطق بها في صلاته الخاشعة المهموسة «بل الرفيق الأعلى من الجنة!» [فقالت له عائشة: خيّرت فاخترت والذي بعثك بالحق.] لقد أدّى واجباته نحو رفاقه الأرضيين فانقلب الآن إلى صدر رفيقه الأعلى المفعم محبة وحنانا. وإنما كانت وفاته يوم الاثنين في الثاني من شهر ربيع الأول، وعمره ثلاث وستون، صلى الله عليه وسلّم أزكى ما تكون الصلاة وأطيب ما يكون التسليم! وانتشر نبأ وفاة الرسول انتشار النار في الهشيم، فتدفق الناس على المسجد أفواجا أفواجا. وخيّل إلى عمر ان النبأ مجرد اشاعة أطلقها بعض المنافقين الاشرار. ألم يكن الرسول معهم في المسجد منذ فترة يسيرة ليس غير؟ ألم يبد وقد اتخذ سبيله إلى الشفاء؟ وهكذا خاطب عمر الناس وأصرّ على ان الرسول لم يمت. وأعلن، وقد شهر سيفه، انه سوف يقطع رأس كل من يزعم ان الرسول قد مات. وكان القوم كلهم يصيخون إلى عمر عند ما برز ابو بكر وقصد لتوّه إلى بيت

عائشة. وهناك كشف عن وجه الرسول، فاستيقن من أن النبأ الفاجع كان صحيحا. [ثم انه أخذ رأس الرسول بين يديه] وانشأ يقبّل صديقه الراحل ويصيح: «بأبي أنت وأمي! أمّا الموتة التي كتب الله عليك فقد ذقتها ثم لن تصيبك بعدها موتة أبدا!» وخرج ابو بكر إلى المسجد وارتقى المنبر، وراح يخاطب القوم قائلا: «أيها الناس، من كان يعبد محمدا فأن محمدا قد مات. ومن كان يعبد الله فأن الله حي لا يموت!» والحق أن إطلاق هذه الكلمات في جو الاهتياج السائد آنذاك كان يقتضي شجاعة أدبية بالغة. كان عمر واقفا هناك شاهرا سيفه ليضرب به رأس كل من يجرؤ على القول إن محمدا قد مات. ولكن المسلمين، وقد نشّئوا في ظل سلطان الرسول العظيم، كانوا قد وهبوا أنفسهم لعبادة الاله الواحد. ولو لم يكن الأيمان بوحدانية الله الخالصة قد ملك عليهم وجدانهم كله اذن لأنكروا أعظم الانكار كلمات ابي بكر الجريئة تلك. ثم ان أبا بكر راح يتلو الآية القرآنية التي توجّنا بها هذا الفصل: «وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ، قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ، أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ، وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً، وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ.» * إن رسالة النبي، إبلاغ مشيئة الله إلى الجنس البشري، قد أدّيت. واذن فأن وفاته لا يمكن ان تعني ان خللا قد ألمّ بالدين. فلا داعي البتة إلى الاسراف في الحزن والأسى. ألم يمت الرسل من قبله في غير ما استثناء؟ إن محمدا أيضا ميّت، ولا بدّ له من ان يلقى مصير البشر المشترك. فليس في مستطاع الانبياء ان يزعموا انهم مستثنون من قانون الطبيعة الساري على الناس جميعا على حد سواء. ولو أن أيا

_ (*) السورة 3، الآية 143.

من الانبياء السالفين نجا من الموت اذن لكان ثمة ما يبرّر للمسلمين حزنهم وأساهم. ولكن جميع اسلافه من الانبياء قضوا نحبهم، فلم يكن في وفاة محمد أيّ شيء استثنائي. لقد كان لكلمة ابي بكر اثر جد ملطّف في نفوس الجماعة، فاذا بهذه الآية القرآنية على كل شفة ولسان. لقد حملت العزاء إلى قلوب المسلمين المكلومة في ذلك الرزء الفادح. فاستسلموا، في بشر، لمشيئة الله. انه لا مناص لكل امرئ نبيا كان أو غير نبيّ، ان يغادر هذا المثوى الأرضي، عاجلا أم آجلا. والله وحده، لا أحد غيره، هو الحي الذي لا يموت. وعلى أية حال، فأن انسحاب الرسول من الدنيا، بعد اداء رسالته أتمّ ما يكون الأداء، حادثة فريدة في تاريخ العالم.

الفصل الثلاثون أزواج النبي

الفصل الثّلاثون أزواج النبيّ «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ «كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها «فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ «سَراحاً جَمِيلًا.» (القرآن الكريم، السورة 33، الآية 28) تزوّج الرسول، أول ما تزوج، وهو في الخامسة والعشرين. وكانت خديجة، زوجته الأولى، آنذاك أرملة في الأربعين. وباستثناء ابنه ابراهيم كان أولاد الرسول جميعا من زوجه خديجة. ولقد التحقت بالرفيق الأعلى قبل ثلاث سنوات من الهجرة. وكان الرسول، يوم وفاتها، في الخمسين من عمره. وهكذا يكون الزوجان قد عاشا معا خمسة وعشرين عاما كاملة. وعلى الرغم من ان العادة جرت في بلاد العرب بأن يتخذ الرجل لنفسه عدة زوجات، فأن الرسول لم يفئ- حتى بلوغه سن الخمسين- إلى أيما زوجة غير خديجة.

ومنذ البدء كانت خديجة سنادا للرسول كبيرا. ومن هنا أصابته وفاتها بصدمة قاسية. وكان لا يفتأ، منذ ذلك الحين، يذكرها ويتحدث عن ذكرياته السعيدة معها. واحتراما لذكراها كان يبعث بالهدايا، بعد وفاتها، إلى صديقاتها. وبعد فترة يسيرة زوّجه ابو بكر ابنته عائشة. وإذ كانت عائشة صغيرة السن، آنذاك، فقد لزمت بيت أبيها إلى ما بعد الهجرة بسبعة أشهر أو ثمانية عندما شخصت هي أيضا إلى المدينة وعاشت مع النبي. ومن بين نساء النبي جميعا كانت هي وحدها عذراء لم يسبق لها الزواج من رجل آخر. وبعد خطبته لعائشة تزوج الرسول في مكة سودة [بنت زمعة] ، وهي أرملة متقدمة في السنّ. وكانت سودة قد هاجرت مع زوجها إلى الحبشة. حتى إذا عادا منها توفي زوجها [السّكران بن عمرو بن عبد شمس] في بعض الطريق، مخلّفا اياها في بلاء عظيم، وإذ كانت الجماعة الاسلامية صغيرة في تلك الفترة فلم يكن في امكانها أن تجد مفزعا لائقا إلا في رحاب الرسول. وهكذا سألته أن يتزوجها فقبل. وخلّفت حفصة بنت عمر ارملة بعد معركة بدر، إذ استشهد زوجها خنيس في الميدان. وعرض عمر على ابي بكر ثم على عثمان أن يتزوجا بنته. وهذا يظهر فقدان الرجال المؤهلين للزواج، بين الجماعة الاسلامية، في تلك الفترة. ولكن كلا من الرجلين اعتذر عن ذلك، ولعل هذا كان بسبب من حدّة يسيرة كانت في مزاج حفصة. وأخيرا تزوجها الرسول في السنة الثالثة للهجرة. وفي السنة نفسها استشهد عبد الله بن جحش في أحد، فتزوج الرسول الكريم أرملته زينب أيضا. وبعد عام واحد، عند وفاة ابي سلمة، ضمّ الرسول زوجته امّ سلمة إلى أهله. وكانت زينب بنت عمة الرسول اميمة بنت عبد المطلب. فاقترح

الرسول على أخيها ان يزوّجها زيدا، مولاه المعتق. ولكن كلا من الأخ والأخت نفر من ذلك لأن زيدا لم يكن غير عبد عتيق فليس في استطاعته، بوصفه ذاك، وفقا لمفهوم الجاهليين للمكانة الاجتماعية، ان يتزوج امرأة كريمة المحتد مثل زينب. لقد رغبا إلى الرسول نفسه أن يتزوجها. ولكنّهما ما لبثا ان نزلا عند إلحاح الرسول الذي كان تواقا إلى الغاء التمييز الزائف بين الطبقات. وعلى أية حال، فأن ذلك الزواج لم يكن سعيدا. فنشأ الخلاف بين الرجل وامرأته وساءت العلاقة حتى نقطة الافتراق. وبعد أن أخفقت جميع الجهود الرامية إلى التوفيق بينهما لم يبق غير سبيل واحد: الطلاق. وهكذا تم الفراق بينهما آخر الأمر. وفي ما بعد بنى الرسول نفسه بزينب، إذ كانت هذه هي رغبة السيدة ورغبة أنسبائها. وكان الرسول قد استشعر أنه ملزم، معنويا، بالنزول عند رغبتهم بعد أن رأى ان الزواج الذي كان هو الساعي إلى عقده بين زينب وزيد قد أخفق. وإنما تم زواج الرسول من زينب في السنة الخامسة للهجرة. وفي السنة نفسها، اثر معركة بني المصطلق، وقع في أيدي المسلمين عدد كبير من الأسرى والأسيرات. وكانت بينهم جويرية وهي بنت زعيم عربي هو الحارث [بن ابي ضرار] . ووفد الحارث على الرسول ليفتدي ابنته، فاعتنق الاسلام مع ولديه. وكان زوج جويرية قد قضى نحبه، وهكذا رغب الحارث إلى الرسول في الزواج من جويرية، فقبل. وكان من نتائج هذا الزواج ان اطلق المسلمون سراح اسرى بني المصطلق جميعا، وعددهم نحو من مئة أسرة. لقد قالوا ان القبيلة التي شرّفها الرسول بالإصهار اليها يجب أن لا تظلّ في الأسر. وبين المهاجرين إلى الحبشة، كانت بنت ابي سفيان ام حبيبة أيضا. وكان زوجها عبيد الله [بن جحش] قد دخل في النصرانية

هناك. وعند وفاته، وكانت ام حبيبة لا تزال في الحبشة، تزوجها الرسول. ولقد وفدت على المدينة في السنة السابعة للهجرة. وفي معركة خيبر، في السنة السابعة للهجرة، كانت صفيّة [بنت حييّ بن أخطب النّضيرية] احد زعماء اليهود، بين السبايا. وكان زوجها قد صرع في المعركة. وكان اليهود مصدر متاعب للمسلمين لا نهاية لها. وحسب الرسول ان إصهاره اليهم قد يضع حدا لأذاهم مرة وإلى الأبد. وهكذا أمست صفيّة إحدى زوجات الرسول. وفي تلك السنة ذاتها انضمت إلى البيت النبوي مارية القبطية التي أهداها المقوقس إلى الرسول. ولقد وضعت ولدا سمّي ابراهيم. وفي السنة نفسها عرضت أرملة أخرى هي ميمونة، [خالة خالد بن الوليد] على الرسول ان يا بني بها، ففعل. وتوفيت خديجة وزينب والرسول على قيد الحياة، حتى إذا التحق بالرفيق الأعلى خلّف وراءه تسع أزواج. هذه الحقائق تقودنا إلى استنتاجات ثلاثة: أولها أن أزواج الرسول، ما عدا عائشة، كنّ كلهنّ أرامل أو مطلّقات. وثانيها أن الرسول لم يتخذ، حتى بلوغه الثالثة والخمسين، غير زوجة واحدة. وثالثها ان خمسا من أزواجه كنّ أرامل بائسات مات عنهن أزواج مسلمون فهو ملزم، أدبيا، بأن يدخلهن في كنفه، بينا كانت ثلاث منهن ينتمين إلى قبائل عدوّة، وكنّ ذوات أثر فعال في توثيق العلاقات بين المسلمين وتلك القبائل. إننا نقع على تعدّد الزوجات في حيوات كثير من الشخصيات الدينية العظيمة. فأبراهيم، الذي يتمتع بأجلال أكثر من نصف الجنس البشري، لم يقتصر على زوجة واحدة. وكذلك فعل يعقوب، وموسى، وداود. ويروى عن سليمان انه قد أسرف فاتخذ من الزوجات مئات. وكان هؤلاء هم أسلاف يسوع. أما يسوع نفسه فلم يتزوج حتى امرأة

واحدة، كما تظهر الأناجيل. ومن هنا فأن المثل الذي ضربه في هذه المسألة غير وارد. إذ لو جعلت العزوبة هي مثل الحياة الأعلى وأمست هي القاعدة اذن لا نتهى العالم وشيكا. وهكذا فأن تعدد الزوجات لا ينطوي على شرّ أصيل، ومجرد تزوّج الرسول من عدد من النساء ليس موضع اعتراض بأية حال. لقد كانت هذه هي عادة «البطاركة» القدامى. وحتى سن الثالثة والخمسين، وهي سنّ عالية حقا، عندما يتحرر المرء من سلطان نزوات الشباب، عاش الرسول وليس له غير زوج واحدة، ضاربا المثل بذلك على ان اللاتعدّد في الزوجات يجب أن يكون قاعدة الحياة في الأحوال السويّة. والواقع ان هذا هو مفاد التعاليم القرآنية. ولكن الاسلام، بوصفه دينا كونيا، محتاج لأن يحتاط لمختلف ضروب الحالات الاستثنائية غير السوية. وتعدد الزوجات هو أحد هذه الاحتياطات، التي لا يسمح بها إلا حين تدعو إلى ذلك بعض الحالات الشاذة. فحين تنشأ حالات مثل هذه فعلا، يصبح تعدد الزوجات ضرورة لا بدّ منها، حتى إذا لم يجز ذلك في تلك الحال كانت النتيجة هي الاتصال الجنسي الآثم. وعندئذ يفسد المجتمع. وتصبح الأمهات غير المتزوجات والابناء غير الشرعيين جزآ منه. إن تعدد الزوجات هو، في مثل تلك الظروف، سبيل الوقاية الأوحد. سمّه شرا لا بدّ منه، أو ما شئت، فأنه يظل على أية حال الحاجز الوحيد دون المخازي الأخلاقية. وكان على الرسول ان يكون قدوة كاملة للجنس البشري كله. ومن هنا كان ضروريا، بصرف النظر عن انفاقه كامل شبابه بل الجزء الأعظم من شيخوخته مع زوجة مفردة، ان يتخذ عدة زوجات عندما أفضت الحرب إلى جعل عدد الاناث أكثر من عدد الذكور، بين المسلمين. لقد عاش، قبل اربعين سنة كاملة من البعثة، في أرض كان السيف يصطنع فيها بمثل

الحرية التي تصطنع بها العصا، وكانت مسرحا للوحوش الضارية المنقضّ بعضها على رقاب بعض، حيث القتال والأخذ بالثأر هما الزيّ الشائع، وحيث لم يكن لمن لا يحسن الضرب بالسيف كبير أمل في البقاء. ومع ذلك فأنه لم يسدّد في أيما مرة لكمة واحدة إلى عدوّ. وحتى بعد البعث، عندما لجيء إلى القتال على سبيل الدفاع عن النفس وشارك الرسول بنفسه في كثير من المعارك، فأن سيفه لم يسلّ على عدوّ ما البتة، إلا مرة واحدة عندما اضطرّ، في معركة أحد، إلى أن يسلّه على عدوّ حمل عليه حملا عنيفا. ثم إنه كان محبا للسلم بالفطرة حتى لقد آثر صلح الحديبية على اراقة الدماء، برغم ان ذلك الصلح عامل المسلمين وكأنهم فريق مغلوب. وبرغم ان الحرب كانت غريبة عن طبيعته إلى هذا الحد فقد أكره، بحكم الظرف القاهر ليس غير، على خوض غمار القتال. ذلك بأن الحرب شر آخر لا بدّ منه، وقد يجيء زمان يصبح فيه اجتنابها أمرا متعذرا. ولم يكن في امكان المرء ان يعتبر الرسول قدوة كاملة لو أغفل ضرب المثل في ميدان القتال أيضا، ابتغاء هداية الجنس البشري. ولقد نشأت أحوال ساقته إلى ساحة الحرب ليظهر كيف يتعين على الجندي العادي وعلى قائد الجيش أن يتصرف ويسلك. ونحن نلاحظ أيضا أنه عاش، في بلد شديد القيظ مثل بلاد العرب، حياة عفيفة، بوصفه عزبا حتى الخامسة والعشرين من عمره. إن طهارة خلقه قد طبّق ذكرها الآفاق. وبعد ذلك عاش مع زوجة واحدة- زوجة كانت أرملة أيضا، أرملة أكبر منه بخمس عشرة سنة- حتى بلغ الخمسين. هذه الحقائق كلها تفرض علينا ان نخلص إلى القول ان عفته كانت ممتنعة امتناعا كاملا على الشق والشهوة. ومع ذلك فقد تعيّن عليه- في كهولته تلك، عندما يعجز العقل الراجح عن اتهامه بالشهوانية إلا إذا أعماه الهوى- أن يتخذ أكثر من زوجة لكي لا يظل هذا المظهر الذي لا سبيل إلى اجتنابه من

مظاهر الحياة البشرية غير ممثّل في حياة «القدوة الكاملة» . ومما يلقي ضوآ اضافيا على الحقيقة القائلة بأن جميع ضروب النزوات والشهوات الحقيرة المميّزة للطبيعة البشرية تمييزا صارخا كانت محمدة عند الرسول، تلك البساطة البالغة التي غلبت على طريقة حياته. فبرغم عيشه في هذا العالم أبدى تعلّقا يسيرا بالمفاتن التي يعرضها على الناس. فمن المهد إلى اللحد تقلّب الرسول في شكول من الأحوال والظروف متباينة- شكول يندر ان يقع عليها المرء في حياة رجل فرد. إن اليتم هو أقصى الشقاء والعجز على حين ان الملك هو أقصى القوة والسلطان. لقد استهل حياته يتيما، ومن هذا الدرك ارتقى إلى ذروة المجد الملكي، ولكن ذلك لم يحدث أيما تغيّر في اسلوب عيشه. فقد ظل يحيا على نفس الطعام المتواضع الذي اغتذى به من قبل، ويرتدي عين الملابس البسيطة التي ارتدادها دائما، ولزم في كل شأن من شؤونه اسلوب الحياة ذاته الذي اصطنعه يوم أن كان مجرد يتيم بائس. ان من العسير على المرء ان يتخلى عن عرش ملكيّ ويحيا حياة ناسك، ولكن أصعب من ذلك بكثير أن يتقلد صولجان الملك ويحيا في الوقت نفسه حياة ناسك، أن يملك السطوة والثروة ثم لا يصطنعهما إلا لخير البشر، أن تكون أكثر المفاتن اغراء معروضة أمام ناظريه ثم لا يجيز لها ان تأسره لحظة واحدة. فحين تمت للرسول السلطة المطلقة على المدينة وضواحيها كان أثاث بيته مؤلفا من فراش عاديّ وحصير من سعف النخل وابريق ماء فخاريّ. لقد كان يبيت، في بعض الليالي، على الطوى. وكانت النار كثيرا ما لا تضرم في بيته، طوال أيام موصولة، لطهو الطعام، بسبب من ان الأسرة كلها كانت تحيا على التمر ليس غير. وما كان ذلك لأن الرسول عدم أسباب العيش في سعة ورفه. فقد كان بيت المال في تصرّفه. وكان خليقا بالمثرين من أصحابه- اولئك الذين لم يحجموا عن التضحية بحيواتهم

من أجله- أن يسعدوا أعظم ما تكون السعادة بتزويده بكل متارف الحياة، لو شاء أن ينعم بها. ولكنه لم يكن ليقيم وزنا لكل الأشياء الدنيوية. إن أيما توق إلى كل ما هو أرضيّ لم يستحوذ عليه في أيما يوم من الأيام، لا في فترات العوز ولا في فترات الرخاء. وكما ازدرى عرض الحياة الدنيا، كالسلطان والمال والجمال، الذي حاولت قريش إغراءه به عندما كان في حال من البؤس المطلق، كذلك ظل ينظر إلى ذلك كله نظرة لا مبالية حتى بعد أن منحه الله هذه الأشياء كلها من فضله. ولكن ثمة حجة أكثر حسما في هذا الموضوع تزوّدنا بها حادثة أشير اليها في الآية التي توّجنا بها هذا الفصل. وتفصيل ذلك أن أحوال المسلمين تحسّنت بعيد هجرتهم إلى المدينة. وإلى هذا، فأن الغنائم التي وقعت في أيديهم، بالأضافة إلى أموال افتداء الاسرى التي نالوها في معركة بدر، جعلتهم يؤثرون الرّفه، نسبيا. وهكذا طرأ بعض التغير على طريقة حياتهم. ولكن بيت الرسول ظل في نجوة من التأثّر بهذه النّعمة الطارئة. ولكن ضربا من الهوى البشريّ الطبيعيّ خامر أفئدة أزواج الرسول وزيّن لهنّ ان من حقهنّ ان ينعمن، شأن غيرهن من نساء الأسر الاسلامية، بنصيبهن من المتارف. وهكذا اتصلن بالرسول مجتمعات لأقناعه بأن يجيز لهن التمتع بنصيبهن من الرفه الدنيوي، عندئذ هبط الوحي الالهي يأمر الرسول بأن يقول لنسائه انهن لا يستطعن ان يبقين زوجاته إذا أردن الحياة الدنيا وزينتها. وهكذا يتعين عليهن أن يخترن إحدى خطتين: إما التمتع بالمناعم الدنيوية وإما البقاء في عصمة الرسول. فاذا ما آثرن الخطة الأولى فعندئذ يفزن بوافر مما يطمعن فيه ولكنهن يفقدن في الحال شرف العيش في كنف الرسول بوصفهن أزواجه. أفيمكن أن يكون هذا جواب رجل شهواني؟ ان الهمّ الاعظم لمثل هذا الرجل هو السعي لأشباع أضأل نزوات من يحبّ.

ولا ريب في أن الرسول كان يحبّ أزواجه حبا جما ويحترمهن احتراما كثيرا. لقد روي عنه أنه قال: «خيركم خيركم لنسائه» . وهذا يمثّل موقفه نحو المرأة. ومع ذلك، فما إن وفدت عليه زوجاته يسألنه مطلبا مشروعا حتى قيل لهن إن بيت الرسول والمتارف الدنيوية لا يسيران جنبا إلى جنب. إن عليهن ان يخترن إما هذا وإما تلك. فهل من شيمة من كان عبدا لشهواته أن يغفل رغبات أزواجه على هذا النحو؟ إن هذا ليظهر بما لا يحتمل أدنى الشك إلى أي حد كان فؤاد الرسول مبرّآ من كل نزعة خسيسة شهوانية. فهو يؤثر التخلي عن نسائه جميعا على الاستسلام لما يعتبره غير لائق بهن، أي النزوع نحو الاشياء الدنيوية. ألا ينهض ذلك دليلا حاسما على ان غرضه من زواجه المتعدد قد يكون أيما شيء إلا الانسياق مع هوى النفس؟ وقد يتساءل المرء: أيّ شيء يمكن ان يكون غرضه من ذلك؟ إن القرآن الكريم ليجيب عن هذا السؤال على هذا النحو: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا. وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً ... وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ، إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً.» * وهكذا أوضح هنا بأجلى بيان ان بيت الرسول ليس هو المكان الذي يجوز فيه الاستسلام لأهواء الجسد. كان الغرض أسمى من ذلك بكثير- كان هو حفظ ما سمعن وتعلّمن من طريق اتصالهنّ المستمر بالرسول لمصلحة الجنس البشري بعامة، وبنات جنسهن بخاصة. ومن هنا طلب اليهن ان يزدرين جميع مفاتن هذه الحياة ويفرغن قلبا وروحا

_ (*) السورة 33، الآية 28- 29؛ 34.

لتحقيق الغرض الحقيقي. ويا له من غرض سام! إن ثمة مئة مظهر ومظهر من أخلاق الرجل لا تتجلى إلا في صلته بالجنس الناعم. ثم إن ثمة نقاطا في الشريعة الاسلامية خاصة بالنساء دون غيرهن، ولا سبيل إلى نشرها إلا من طريق افراد الجنس الواحد. ولكي لا يحرم العالم من تلك الاقوال والأفعال التي لا يمكن ان تجد تعبيرها إلا في البيوت، ولكي يكون في الامكان نقل هذه الأشياء إلى الذريّة عهد إلى نساء النبي في أن يحفظن كل ما سمعن أو رأين، وإبلاغ النساء الأخريات ذلك كلّه. وهكذا فأن زواج الرسول المتعدّد قصد به إلى أن يكون وسيلة لتحقيق غرض ديني ذي أهمية بالغة. فما أكثر النقاط الشرعية الاسلامية التي لم يستطع الرسول شرحها للنساء مباشرة. لقد وفّق إلى ذلك من طريق أزواجه. والروايات تحدثنا عن نساء وفدن على الرسول، في مناسبات عديدة، ليسألنه عن أمور خاصة تتصل بجنسهن. فأحالهنّ إلى واحدة من زوجاته قادرة على اعطائهن المعلومات الضرورية. وفوق هذا، فأن كثيرا من مفاهيم الرسول الاخلاقية التي لم يكن في الامكان تطبيقها إلا ضمن نطاق الأسرة تحدّرت الينا من طريق زوجاته. والقول بأن امرأة مفردة تستطيع أن تقوم بذلك إنما ينطوي على اسراف في تقدير قوة الذاكرة البشرية. فقد كان الموقف يقتضي وجود نسوة ذوات أمزجة متباينة، ومن ثم ذوات اهتمامات وأشواق متباينة، لكي يفهمن ويحفظن أحسن ما يكون الفهم والحفظ مختلف الأشياء التي تقع تحت أبصارهن. فليس من ريب في أن ذلك كله كان خليقا به أن يكون أكثر من أن يحيط به عقل بشريّ واحد. وهذا هو أيضا أحد الأسباب التي حملت جميع الأنبياء العظام، تقريبا، على الزواج من أكثر من امرأة. وإنما كان هذا أعظم أهمية بالنسبة إلى خاتم النبيين، لكي تحفظ كلماته وأفعاله وتسلم إلى الذرية بكامل تفاصيلها، ذلك بأن تلك الكلمات والافعال كان مقدّرا لها أن تكون

هاديا للجنس البشري إلى آخر الدهر. وهكذا قضت حكمة الله بأن تجري الأمور على هذا النحو لضمان صيانة التعاليم النبوية، من الوجهتين النظرية والعملية. وعلى الرغم من أن الغرض من اتخاذ الرسول عدة زوجات كان ما ذكرناه آنفا فأن الأسباب كانت متنوعة. كان نطاق الجماعة الاسلامية، آنذاك، جدّ ضيّق. فقد أحدثت حالة الحرب السرمدية تفاوتا بين عدد النساء وعدد الرجال في المجتمع. لقد استشهد الرجال في ميدان القتال، فكان لا بدّ من إعالة اراملهن. ولكن الخبز والزبدة ليسا الغذاء الوحيد المطلوب في أمثال هذه الحالات، كما يحسب بعض رجال السياسة القصيري النظر. كان من الضروري العمل على إشباع حاجاتهن الجنسية، وإلا نتج عن ذلك- ضرورة- فساد أخلاقي يفضي آخر الأمر إلى خراب الأمة كلها. ولم يكن في ميسور المصلح الذي يعتبر الأخلاق كل شيء أن يجتزئ بمجرد تزويدهن بما يحتجن اليه من طعام وشراب. والحق ان الرسول كان على طهارتهن وعفافهن أحرص منه على حاجاتهن الجسدية. وهكذا أمسى من الضروري، في ظل تلك الأحوال، إجازة تعدد الزوجات. وهذا هو السبب الذي من أجله تعيّن على الرسول ان يتخذ عددا من الأزواج في الفترة المدينية من حياته. ومن واجبنا ان ننص على ان جميع زوجاته كنّ إما أرامل أو مطلّقات. ولا حاجة إلى القول ان اختيار المرء نادرا ما يقع على الأرامل حين يكون الانسياق مع الهوى هو رائده. إن الشهوة لفي حاجة إلى البكارة تشبعها وترضيها. ولم يكن المجتمع الاسلامي يشكو ندرة في العذارى. وكان من دواعي الفخر الباعثة على الحسد أن يصبح أيما مسلم عما للرسول. ولكن الغرض كان أنبل من ذلك بكثير: أعني حماية أرامل أصدقائه ووقايتهن. وهكذا كانت خمس من زوجاته نساء فقدن أزواجهن في ميدان القتال أو بطريقة أخرى. والواقع ان

مدى العسر الذي انطوى عليه تزويج المرأة المسلمة، في تلك الأيام، يتمثّل بوضوح في مسألة حفصة، وهي بنت رجل في مثل مكانة عمر ابن الخطاب ونفوذه ترمّلت [في معركة بدر] ، كما أوضحنا آنفا. وهكذا كان تعدد الزوجات هو السبيل الأوحد لصيانة المجتمع الاسلامي، في وضعه ذاك، من وجهة النظر الاخلاقية. ثم إن بعض الأسباب السياسية أفضت أيضا إلى زواج الرسول من بعض نسائه. فزواجه من جويرية مثلا كان نعمة عظمى على قومها. إنه لم يضع حدا لعداوة بني المصطلق المريرة فحسب، ولكنه شدّهم إلى المسلمين برباط من الصداقة قويّ أيضا. وفوق هذا، فقد كان من النتائج المباشرة لذلك الزواج اطلاق سراح مئات الاسرى من أبناء تلك القبيلة. فهل كان غرضه من هذا الزواج شيئا آخر غير الغرض الديني؟ وكذلك كان اليهود ألدّ أعداء الاسلام في بلاد العرب. وقد حاول الرسول ان يتألّف قلوبهم أيضا من طريق البناء بامرأة من نبيلاتهم. ولكن حقد اليهود أثبت هذه المرة أنه أقوى من أن يتأثر بأجراآت الرسول الاسترضائية. لقد أصرّوا على عداوتهم، ولم يكفّوا في أيما يوم عن انزال الأذى بالاسلام. ومع ذلك فقد بذل الرسول قصارى جهده لتألّفهم. وكانت ميمونة أرملة أيضا، وكانت تنتسب إلى قبيلة معادية، برغم ان الظروف التي قادت إلى زواجها من الرسول كانت مختلفة بعض الشيء. كانت اختها قد تزوجت العباس، عم الرسول، ومن هنا لم تكد تعرض على الرسول الزواج منها حتى وجد نفسه غير قادر على الرفض. وفي حين كان هدف الرسول من الزواج من هذا العدد الكبير من الأرامل هو مجرد حمايتهن بضمهنّ إلى أهل بيته كان الدافع إلى زواجه من زينب [بنت جحش] مختلفا جدا. لقد رمى بذلك إلى محو لطخة العار التي تصم المرأة المطلّقة في نظر الناس. فليس من ريب في ان

الطلاق هو ثمرة الكراهية التي تلبس المرأة، بحكم الطبع، لباس الخزي إلى حد ما. إن الناس لينظرون اليها في ازدراء، وهي كثيرا ما تفقد الامل في الزواج كرة أخرى، وبخاصة من جانب أبناء عشيرة زوجها السابق. والواقع ان علاقة زيد بالرسول كانت تتسم بمودّة عميقة متبادلة، حتى لقد عرف زيد بابن محمد. والحق أن الرسول هو الذي زوّجه من زينب، وكانت سيدة كريمة المحتد تشدّها إلى الرسول صلة نسب. ولكن الزوجين لم يستطيعا العيش في تناغم وانسجام. فعقد زيد النية على تطليقها، ولكن الرسول ثناه عن ذلك، وهو ما نصّ عليه القرآن الكريم في وضوح. [وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ. فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً، وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا. ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ، سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً.] * ولكن لم يكن من الطلاق، في آخر الأمر، مناص. فبنى الرسول بها لكي يزيل الفكرة القائلة بأن الطلاق يحطّ من قدر المرأة. وهكذا رفع طبقة النساء المطلّقات كلها، تلك الطبقة التي كان خليقا بها لولا ذلك ان تعاني إذلالا من جانب المجتمع يستمر مدى الحياة. وإنه لمن الخطأ المحض ان يزعم ان الرسول فتن بزينب ومن أجل ذلك حمل زيد على تطليقها. بل ان ذلك سخف ينفيه ظاهر القصة نفسه. فهل يعقل،

_ (*) السورة 33، الآية 37- 38.

إذا صح ذلك الزعم، ان يظل زيد بعدها مخلصا للرسول بقدر ما كان في أيما وقت مضى؟ لا، بل إنه كان خليقا به، لو صحّ ذلك الزعم، أن يعجز حتى عن البقاء على الدين الاسلامي. ولكن الواقع يقول إن محبته للرسول، وايمانه به، لم يتزعزعا قيد شعرة. ولقد تمتّع، كدأبه دائما، بثقة الرسول المطلقة، حتى لقد أمّره على قوّاته. ثم إن الرسول كان يعرف زينب منذ طفولتها نفسها معرفة جيدة، بوصفها ابنة عمته. وكان أخوها يتمنى على الرسول لو يتزوّجها هو نفسه، ومع ذلك فقد زوّجها زيدا. ولو قد كان يجد في نفسه ميلا اليها، كما يزعم، فما الذي منعه من الزواج منها وهي بعد عذراء؟ لقد تزوّجها بعد أن طلّقت، وبعد أن انخفضت منزلتها بسبب من ذلك في نظر الجمهور. إن رفضه الزواج منها في الحال الأولى ثم قبوله اياه في الحال الثانية ليظهر على نحو قاطع ان الذي حفزه إلى هذا الزواج لم يكن الانسياق مع الهوى على الاطلاق. لقد كان، في الواقع، رغبته في الارتفاع بمنزلة المرأة المطلّقة في نظر المجتمع. وإنما كانت هذه، في الحق، خطوة أخرى نحو تعزيز وضع الجنس اللطيف بعامة. وقد يتساءل متسائل لماذا تزوّج الرسول، اذن، من مارية القبطية التي لم تكن لا أرملة ولا امرأة مطلّقة؟ فنقول إن هذا الزواج تم لسبب آخر مختلف جدا. وتفصيل الأمر ان الرسول اتخذ ازواجا من قريش ومن قبائل عربية غير قرشية على حد سواء. وبرغم ان صفيّة كانت يهودية، فقد كانت في الوقت نفسه سيدة عربية. ولكن الرسول، الذي بعث للانسانية كلها، كان عليه أن يوضح، بالمثل الصالح، أنه يكنّ للقوميات الأخرى مثل الذي يكنّه لقوميته من إجلال واحترام. وهكذا لم يكد مقوقس مصر يبعث اليه بمارية حتى ضمّها، رغم كونها أجنبية، إلى بيته على أساس المساواة المطلقة مع زوجاته العربيات.

ومن هنا نرى أن زيجات الرسول كلها كانت تستهدف غرضا أخلاقيا باطنا. فقد نشأت في حياته ظروف لم يكن في ميسوره تجاهها، انسجاما منه مع رسالة حياته الاخلاقية والدينية، ان يقصر نفسه على زوجة واحدة. لقد كان خير البشرية مرهونا بسلوك هذه السبيل، فلم يحجم عن سلوكها. وإنما قضى زهرة حياته، بل القسم الأعظم من كهولته، في كنف امرأة مفردة، مظهرا بذلك أن الزواج من واحدة هو القاعدة في الأحوال السويّة. حتى إذا تهدّد الخطر طهارة النساء وعفافهن، ومسّ الأمر وضعهن الاجتماعيّ، لم يتقاعس عن الأخذ بالبديل الأوحد- أعني تعدد الزوجات. ولكن علينا ان لا ننسى ان ذلك كان مجرد استثناء للقاعدة قصد به إلى مواجهة حالات شاذة، وليس القاعدة نفسها.

الفصل الحادي والثلاثون أخلاق الرسول وعاداته

الفصل الحادي والثلاثون أخلاق الرسول وعاداته «لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ «أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ «وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً.» (القرآن الكريم، السورة 33، الآية 21) «كان خلقه القرآن» ، بهذه الكلمات لخصت عائشة، زوجة الرسول، وأكثر الناس اطلاعا على دخلية نفسه، جمّاع اخلاقه وعاداته. وبكلمة أخرى، كانت حياته اليومية صورة صادقة للتعاليم القرآنية. لقد كان هو تجسيدا، إذا جاز التعبير، لكل ما أوصى القرآن الكريم به. وكما ان كتاب الله دستور اخلاق سامية لأنماء ملكات الانسان المتعددة كذلك فأن حياة الرسول معرض عمليّ لتلك الاخلاق كلها. وهكذا فأن لدى المسلم هاديا مزدوجا: القرآن الكريم من الناحية النظرية، وحياة الرسول كمثل كامل. كانت البساطة والاخلاص قوام الخلق المحمدي. فقد أحب الرسول

الفضيلة لذاتها. والاخلاق السامية التي شكلت سمة جذابة من سمات شخصيته لم تكن شيئا مكتسبا؛ لا، لقد كانت مغروسة في صميم فطرته. وكان ينزع إلى أداء مختلف الأعمال بيديه هو. فاذا ما أراد ان يتصدق على فقير، وضع الصدقة بيده في يد المتسول مباشرة. وكان يساعد أزواجه في النهوض بعبء واجباتهن المنزلية. كان يحلب شاءه، ويرفو ملابسه، ويرقع نعليه. ليس هذا فحسب، بل لقد كان يكنس بيته بنفسه، ويعقل ناقته ويعنى بأمرها بنفسه. إنه لم يكن ليجد غضاضة في أيما عمل يقوم به. لقد اشتغل مثل عامل عادي في بناء المسجد. وكذلك يوم حفر الخندق لتحصين المدينة ضد غزو تهدّدها راح يعمل في الحفر مع سائر الجماعة. وكان يتسوّق حاجاته المنزلية لا لبيته فحسب، بل لجيرانه وأصدقائه أيضا. وباختصار، فأنه لم يزدر أيما عمل من الأعمال، مهما يكن حقيرا، بصرف النظر عن سمو مكانته كرسول وأمير. وهكذا اقام البرهان، من خلال المثل الذي كان يضربه بنفسه، على ان مهنة المرء، رفيعة كانت أو وضيعة، ليست هي المحك الذي تتقرر به مكانته الاجتماعية. إن استقامته ومعاملته للناس هما الخصلتان اللتان تقرران ما إذا كان نبيلا أو وضيعا. فمعبد الطرق والخطاب وماتح الماء أعضاء محترمون في المجتمع الاسلامي كالتاجر الكبير والموظف الخطير سواء بسواء. كانت أعمال الرسول وحركاته كلها تتسم ببساطة ساذجة. فقد كان ينفر بطبعه من كل ما يشتمّ منه التصنّع والتكلف. فاذا ما امتطى متن دابة لم يجد حرجا في أن يردف شخصا آخر خلفه. روى قيس بن سعد [بن عبادة] ان الرسول وفد على أبيه سعد. وفي طريق عودتهما قرّب له سعد حماره لكي يركبه وأوصى ابنه، قيسا، بأن يرافقه سيرا على القدمين. بيد ان الرسول اصرّ على ان يشاركه قيس ظهر الحمار، وعلى ان يركب أمامه لأن للمالك حق التقدّم والأولوية. وكان يكره أن

يقف أصحابه له عند دخوله عليهم. وذات مرة نهاهم عن ذلك قائلا: «لا تقوموا كما تقوم الاعاجم يعظّم بعضهم بعضا» وأضاف انه عبد حقير من عباد الله يأكل كما يأكل الناس، ويجلس كما يجلس الناس. واراد رجل مرة ان يقبّل يده فقبضها عنه قائلا ان تلك عادة من عادات الأعاجم في التذلل لملوكهم. وكان إذا ما دعاه عبد إلى طعام أجاب دعوته. وكان يتناول طعامه مع مختلف طبقات الأمة، حتى مع العبيد الأرقاء. وكثيرا ما كان يلزم الهدوء، في مجالسه، فترة من الزمان طويلة، حتى إذا بدا له ما يستحق القول تحدّث، ذلك بأنه لم يكن يحبّ الكلام لمجرد الكلام. وكان لا يفضّل نفسه على غيره بشيء. فاذا ما مشى في الاسواق مشى الناس أمامه ومشوا خلفه على حد سواء. وإذا ما جلس بين الناس لم يكن ثمة ما يلفت النظر اليه، ومن ثم يعجز الغريب عن تمييزه من سائر الجماعة ويتعين عليه أن يسأل القوم أيّهم رسول الله. فقد كان مفطورا على التواضع البالغ. وكان حريصا، إذا ما جلس القرفصاء، أن تتقدّم ركبته ركب مجالسيه. وكان لا يقطع على أحد حديثه. ليس هذا فحسب، بل كان يشارك أصحابه ضحكهم، ببساطة كلّية، إذا اقتضى المقام أن يضحك. وكان يتحدث في اناة بالغة بحيث يستطيع المرء ان يحصي كلماته. وكان يسرع في المشي حتى ليضطرّ أصحابه في بعض الأحيان إلى الركض لكي. لا يتخلفوا عنه. وكانت طريقة حياته تتسم بالبساطة أيضا، فاذا ما دعي إلى اي طعام أجاب الدعوة في ابتهاج. فان ألفى فيه علة امتنع عن تناوله، ولكن من غير أن يعمد إلى انتقاده. وكان يأكل الرّطب، والشعير، والقمح، واللحم، واللبن وأيما شيء يوفق إلى الحصول عليه. وكان إذا ما دعي إلى وليمة دسمة شارك فيها، ولكنه كان لا يسرف في الطعام البتة. كان يحب النظافة. وكان مولعا بالعسل. ومن بين

الخضر كان يؤثر الكوسا. وكان يكره كل ما تنبعث منه رائحة بغيضة كالبصل. وكان إذا ما جلس للطعام لم ينحن أو يتكىء. حتى إذا ما رافقه رجال اضافيون، عند دعوته إلى طعام ما، لم يحرج المضيف، بل عمد إلى الأيماء في كياسة لكل من المضيف والمتطفلين الذين لا يلبثون ان يلمحوا ذلك الأيماء. وأخيرا كان من دأبه ان يغسل يديه قبل الطعام وبعده وينظف فمه. وكان لباسه بسيطا أيضا. ولم يكن يجد أيّ غضاضة في ارتداء ثوب مرقّع، أو يتحرّج من الظهور ببزة حسنة. وكان لا يحب ان يرى الذكور يلبسون الحرير، إذ كان يريدهم أن يظهروا بمظهر الرجال. وكان الرسول جد حريص على نظافة ثيابه. ولم يأمر بأن يصنع له خاتم إلا عندما احتاج إلى ذلك لختم رسائله إلى الملوك، ثم إنه أخذ يلبس ذلك الخاتم منذ ذلك الحين. وفي عاداته كلها كانت النظافة تنصهر مع البساطة انصهارا رائعا. وكان بيته يتألف من حجرات صغيرة، بنيت من اللّبن، وليس فيها من الأثاث غير فراش وابريق. على هذا النحو عاش حتى عندما فتح خيبر. وحتى يوم زواجه من صفيّة لم يجد في بيته من الزاد ما يساعده على دعوة أصحابه إلى الطعام. فكلفهم ان يحملوا معهم طعامهم، ولقد تألفت وليمة الزفاف من الشعير والتمر. وكانت النار لا تضرم في بيته، أحيانا، طوال أيام موصولة، فكانت اسرته كلها تحيا على التمر والماء ليس غير. وكان يعتبر هذه الدنيا دارا مؤقتة. ولقد قال مرة ان مثله كمثل مسافر يتوقف عند الظهيرة في ظل شجرة، لمجرد الراحة برهة قصيرة ليس غير، ليواصل السير بعد ذلك. ولا عجب، فقد كان ينظر إلى عرض الحياة الدنيا، إلى الثروة والمتارف، نظرة ازدراء. وكان من دأبه ان يصطنع السّواك في تنظيف أسنانه عدة مرات يوميا. وكان يحافظ على نظافة جسده محافظة شديدة ويكثر من

الاغتسال ومن تسريح لحيته وشعره على نحو أنيق. وكان يحب الطّيب أيضا [حتى انه لم يكن يمر في طريق فيتبعه أحد إلا عرف أنه سلكه من طيبه. وكان يصافح المصافح فيظلّ يومه يجد ريح كفّه.] وكان الرسول يحب أصحابه حبا جما. وكان إذا ما صافح أحدا منهم لم يسحب يده إلا بعد ان يسحبها صاحبه. وكان لا يلقى الناس إلا بوجه باسم. وفي رواية عن جرير بن عبد الله انه لم ير النبي إلا وعلى وجهه ابتسامة. وكان في بعض الإحيان يمازح أصحابه ويداعبهم مداعبات بريئة. وكان يتحدث اليهم تاركا نفسه على سجيّتها غير مصطنع أيما تحفّظ قد يوقع في نفوسهم أنه أسمى منهم مقاما. لا، ولم يكن ليتمدّح أو يثني على نفسه البتة. وكان يحمل أولاد أصحابه بين يديه ويحتضنهم. وكانوا يوسخون ملابسه في بعض الأحيان ولكن أيما مسحة من الاستياء لم تكن لتطيف بوجهه. وكان يكره الاغتياب ويحظّر على زائريه أن يذموا أحدا من أصحابه، إذ كان كما قال حسن الظن بهم جميعا. وكان يبدأ أصحابه، إذا لقيهم، بالسلام ويبدأهم بالمصافحة أيضا. وكان يناديهم أحيانا بأسماء التحبب تعبيرا عن مودّته لهم. وكان لا يصادقه أحد منهم إلا رعى صداقته وقدرها حق قدرها. وكان ابو بكر خليله وصفيّه حتى اللحظة الأخيرة. وكان من دأب الرسول ان يتذكر- في تأثّر غضّ- وفاء خديجة واخلاصها، حتى بعد انقضاء سنوات طويلة على وفاتها. وكان زيد، عبده المعتق، شديد التعلق به إلى حدّ جعله يؤثّر البقاء في كنفه على الذهاب مع أبيه إلى مسقط رأسه. وكان يتغاضى عن مناحي الضعف عند الناس ولا يلمع اليها مجرد إلماع. حتى إذا وقف في المسلمين خطيبا تحدّث عن الوسيلة إلى التخلص من عيب معيّن من غير ان يدع أيما امرئ يشعر ان الرسول يشير اليه. وكان يمقت الكذب ويكره الكاذبين. وكان يغضّ

الطرف عن الاساءة، مهما عظمت. ففي معركة أحد، عندما غادر الرماة الموقع الذي كان قد عيّنه لهم، مما أدّى إلى مصرع نفر من أصحابه الأثيرين عنده وإلى اصابته هو بأذى، لم يحلهم إلى مجلس حربيّ ولم يعاقبهم. بل انه لم يعنّفهم البتة. ولاولئك الذين فروا من ميدان القتال لم يقل أكثر من انهم ذهبوا إلى أبعد مما ينبغي بعض الشيء. وسماحة الرسول نحو أعدائه يعز نظيرها في تاريخ العالم. فقد كان عبد الله بن أبيّ عدوا لدودا للاسلام، وكان ينفق أيامه ولياليه في وضع الخطط لايقاع الاذى بالدين الجديد، محرّضا المكيين واليهود تحريضا موصولا على سحق المسلمين. ومع ذلك فيوم توفي عبد الله دعا الرسول ربه ان يغفر له، بل لقد قدّم رداءه [إلى أهله] كي يكفّنوه به. والمكيون الذين أخضعوه وأصدقاءه، دائما وأبدا، لأشد التعذيب بربرية منحهم عفوا عاما. وفي امكان المرء ان يتخيل المعاملة التي كان يجدر بفاتح دنيويّ النزعة ان يعاملهم بها. ولكن صفح الرسول كان لا يعرف حدودا. فقد غفر لهم ثلاثة عشر عاما من الاضطهاد والتآمر. وكثيرا ما أطلق سراح الأسرى في سماحة بالغة، برغم ان عددهم بلغ في بعض الاحيان ستة آلاف أسير. وفي رواية عن عائشة انه لم ينتقم في أيما يوم من الايام من امرئ أساء اليه. صحيح انه انزل العقوبة ببعض أعدائه في أحوال نادرة جدا، وفي فترات جدّ متباعدة. ولكن تلك الحالات كانت تنطوي كلها على خيانات بشعة قام بها أناس لم يعد الصفح يجدي في تقويمهم وإصلاحهم. والحق ان ترك أمثال هؤلاء المجرمين سالمين غانمين كان خليقا به أن يعني استحسان الاذى والتشجيع عليه. والرسول لم يلجأ إلى العقوبة قط في حيثما كان ثمة مجال لنجاح سياسة الصفح كرادع، إن لم نقل كأجراء إصلاحي. ولقد أسبغ عفوه على أتباع الاديان جميعا- يهود،

ونصارى، ووثنيين وغيرهم. إنه لم يقصر إحسانه على أتباع دينه فحسب. وفي إقامة العدالة كان الرسول منصفا حتى التوسوس. كان المسلمون وغير المسلمين، والاصدقاء والأعداء، كلهم سواء في نظره. وحتى قبل أن يبعث إلى الناس كانت امانته وتجرّده واستقامته معروفة لدى الخاص والعام، وكان الناس يرفعون منازعاتهم اليه حتى يحكم فيها. وفي المدينة رضي الوثنيون واليهود به حكما في منازعاتهم كلها. وعلى الرغم من حقد اليهود العميق الجذور على الاسلام فأن الرسول حكم- عندما عرض عليه ذات مرة نزاع بين يهودي ومسلم- لليهودي بصرف النظر عن ان المسلم قد ينفّر، بذلك، من الاسلام بل ربما بصرف النظر عن ان قبيلته كلها قد تنفّر بذلك من الاسلام. ولا حاجة بنا إلى تبيان أهمية خسارة كهذه بالنسبة إلى الاسلام في أيام ضعفه ومحنته تلك، فالأمر أوضح من ان يحتاج إلى بيان. وباختصار، فقد كان تجسيدا للآية القرآنية التي تقول: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ، وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا، اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى، وَاتَّقُوا اللَّهَ، إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ.» * ولقد نبّه ابنته، فاطمة، إلى ان أعمالها وحدها سوف تشفع لها يوم القيامة. وقال أيضا: «لو ان فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها.» وفيما كان على فراش الاحتضار، قبيل وفاته بقليل، سأل كل من له عليه دين ان يتقاضاه ذلك الدين، وكل من أساء اليه ذات يوم ان يثأر لنفسه منه. وفي معاملاته مع الآخرين لم يكن يضع نفسه على مستوى أرفع من

_ (*) السورة 5، الآية 8.

غيره البتة. كان يضع نفسه على قدم المساواة مع سائر الناس. وذات يوم، وكان قد احتل في «المدينة» مقاما أشبه بمقام الملك، وفد عليه يهودي يقتضيه دينا ما، وخاطبه في جلافة وخشونة قائلا ان بني هاشم لا يردّون أيما مال اقترضوه من شخص آخر. فثارت ثائرة عمر لوقاحة اليهودي، ولكن الرسول عنّفه ذاهبا إلى ان الواجب كان يقتضي عمر ان ينصح كلا من المدين والدائن: ان ينصح المدين- الرسول- بردّ الدين مع الشكر، وان ينصح الدائن بالمطالبة به بطريقة أليق. ثم دفع إلى اليهودي حقه وزيادة، فتأثر هذا الأخير تأثرا عظيما بروح العدل والانصاف عند الرسول، ودخل في الاسلام. وفي مناسبة أخرى وكان مع أصحابه في أجمة من الآجام، حان وقت إعداد الطعام، فعهد إلى كل امرئ في القيام بجانب من العمل، وانصرف هو نفسه إلى جمع الوفود. لقد كان برغم سلطانه الروحي والزمني يؤدي قسطه من العمل مثل رجل عادي. وكان يراعي، في معاملته خدمه، مبدأ المساواة نفسه. وقال انس: «خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي افّ قط، وما قال لشيء صنعته لم صنعته، ولا لشيء تركته لم تركته.» ولم يبق أيما عبد على عبوديته. فما إن يؤول اليه عبد رقيق حتى يسارع إلى إعتاقه. وطوال حياته كلها لم يضرب قط خادما أو امرأة. ويروى ان الرسول لم يخيّب رجاء سائل قط. إنه ما كان ليردّه ردا صريحا، بل يؤثر أن ينتظر ريثما تقع يده على شيء يسدّ حاجته. وكان يلبي هذه المطالب على حساب مطالبه الشخصية نفسها. كان يطعم الجائع، ثم يبيت هو على الطوى. وكان لا يبقي في حوزته مالا ما. وحين حضرته الوفاة طلب إلى أهله ان يجمعوا ما في بيته من مال وتصدّق به على الفقراء. وحتى على مخلوقات الله العجماوات فاض قلب الرسول حنانا ورحمة. فقد تحدّث عن رجل متح الماء من بئر ليطفئ ظمأ

كلب فقال إنه كسب الجنة بعطفه هذا على مخلوق عاجز من مخلوقات الله. وأشار يوما إلى امرأة متوفاة فقال انها دخلت النار في قطة احتبستها فلا هي أطعمتها ولا تركتها تأكل من خشاش الارض. ومنذ صباه الأول كان يبدي عطفا عميقا على الارامل والايتام والبائسين. وكان يقول: «أنا ومن يعطف على يتيم متقاربان كهاتين الاصبعين» ، ويبسط سبابته واصبعه الوسطى معا. والقرآن الكريم حافل أيضا بمثل هذا العزاء لليتامى والضعفاء والبائسين. فهو يقول: «أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ. فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ. وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ.» * كان هو نفسه مستعدا لأن يحتمل أعظم الأرزاء في جلد وصمت، ولكن أضأل الألم يصيب شخصا غيره كان خليقا به ان يفطّر فؤاده. كان يأخذ أبدا بناصر المظلوم. ولقد أيّد حقوق النساء على الرجال، والعبيد على سادتهم، والمحكومين على الحكام، والرعية على الملك. وكان جدّ مولع بالأطفال. فما إن يلقى أحدا منهم في طريقه حتى يربّت على خده ويلاطفه. وكان يعود المرضى، في غير انقطاع، فيتفقد حالهم ويواسيهم. وكان يشيّع جنائز الموتى أيضا. وبلغ حسن الوفادة أوجه عند الرسول. فقد كان يبذل قصارى جهده لاكرام ضيوفه على أحسن وجه يستطيعه. كان يخدمهم بنفسه. فاذا اتفق ان كان عدد الوافدين عليه أكبر من ان يتسع بيته لايوائهم وزّع العدد الفائض على أصحابه الذين كانوا يكرمونهم- مثل سيدهم- ويحسنون وفادتهم. وكانوا يقدمون أحيانا كل ما عندهم من طعام إلى ضيوفهم، في حين يبيتون هم على الطوى. ولم تندّ من شفتيه، طوال حياته، أيما لفظة بذيئة. بل إنه لم ينطق قط حتى بلفظة قاسية واحدة. وكان يحظّر على الآخرين أيضا ان يصطنعوا اللغة الفظة. فاذا ما أراد تحذير أحد فعل ذلك بلهجة جدّ

_ (*) السورة 107، الآية 1- 3.

رقيقة مفعمة بالمودة والحنان. وكان من دأب اليهود أن يحيّوه قائلين «السّام عليكم» ، اعني الموت لكم، بدلا من «السلام عليكم» . وإذ سمعت عائشة ذلك لم تتمالك نفسها عن القول «الموت لكم أنتم!» ولكن الرسول لم يقرّ ذلك قائلا ان الله لا يحبّ الكلام الفظ. وكانت أمانته واستقامته واخلاصه قد طبّقت آفاق بلاد العرب كلها، حتى لقد عرف ب «الأمين» . ولقد تعيّن على كبير أعدائه، ابي جهل، ان يقرّ بأنه لا يستطيع ان يتهمه بالكذب، ولكنه كان يعتبر الرسالة التي جاء بها باطلة. وشهد عدوّ له آخر، هو النّضر بن الحارث، على امانة الرسول، فقال على مسمع من أصحابه: «لقد كان محمد غلاما فيكم، فكان أصدق الجميع وأعظمهم أمانة. والآن وقد شبّ فيكم وحمل اليكم رسالة تزعمون أنه ساحر؟ وحق الاله انه ليس بساحر!» كان إذا ما أعطى عهدا وفي به مهما تحرّجت الحال وغلا الثمن. فقد الزم نفسه، في إحدى مواد اتفاق الحديبية، بأن يردّ إلى قريش أيما مسلم مكّي يفد على المدينة لاجئا. فما كان منه إلا أن نفذ ذلك الاتفاق بأمانة واخلاص في ظروف فجّرت الدم من أعين المسلمين نفسها، كما روينا من قبل. أما في العفة والتقوى فقد كان نموذجا كاملا. فقد عاش حياة طاهرة إلى أبعد الحدود، طوال عهد عزوبته حتى الخامسة والعشرين. وحتى منتقصو قدره الأشدّ تعصبا عليه لا يستطيعون ان يشيروا إلى أيما لطخة، مهما ضؤلت، في صفحة أخلاقه. وكان العفو جوهرة أخرى بالغة الأشعاع في شخصية الرسول. لقد وجدت فيه تجسّدها الكامل. ولقد أوصاه القرآن الكريم ب «أن يأخذ بالعفو ويأمر بالعرف ويعرض عن الجاهلين.» * ولقد جاءه تفسير ذلك من لدنه تعالى على هذا النحو: «صل من قطعك، وأعط

_ (*) السورة 7، الآية 199.

من حرمك، واغفر لمن أساء اليك.» والحق ان هذه الوصية لم تبق عند الرسول حرفا ميتا أو موعظة رخيصة. لقد عاش وفقها حتى في أحرج المواقف. وفي معركة أحد، عندما جرح وسقط على الارض، سأله أحد الصحابة ان يستنزل اللعنة على العدو، فأجاب: «أنا لم أبعث لعّانا للعالمين ولكن بعثت هاديا ورحمة. اللهم اهد قومي فأنهم لا يعلمون.» وذات مرة جذبه بدوي طارحا دثاره حول عنقه، وحين سئل الرسول لم لم يعامله بالمثل أجاب قائلا إنه لا يردّ على الشرّ بالشرّ أبدا. وليس من ريب في أن ما أظهره عند فتح مكة من عفو كريم شيء يعزّ نظيره في تاريخ العالم كله. كان المشركون قد بذلوا كل جهد يمكن تصوّره للقضاء على الاسلام واغتيال الرسول. ولكنه لم يوجّه اليهم أيّ كلمة تعنيف على هذه الجرائم الرهيبة كلها. لقد أسبغ عفوه الجزيل حتى على أعداء من مثل ابي سفيان الذي لم يدّخر وسعا في العمل على ايذاء الاسلام، وعلى زوجته هند التي لم تتورّع عن مضغ كبد حمزة على نحو بربري شنيع. وكان الرسول حييّا حتى التطرف. وكان أصحابه يقولون انه كان اشد خفرا من عذراء. والقرآن الكريم نفسه يشهد على ذلك أيضا. فقد اوذي، ذات مرة، ايذاء بالغا بسبب من جهالة بعضهم، ولكنه لم ينطق بأيما كلمة تنمّ عن الاستنكار، فاذا بالقرآن الكريم يقول في هذه الحادثة: «إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ، وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ.» * ولم يكن ليشير إلى نقائض الناس باسمائها. لا، لقد كان يعبّر عن استهجانه اياها بطريقة عامة. وذات مرة لمح لطخة على رداء رجل فسأل بعضهم أن يلفتوا نظره إلى ضرورة ازالتها بالغسل. فقد كان الحياء، عنده، بضعة من الدين. أما في المسائل الدينية، فكان يسارع إلى التصريح بما في

_ (*) السورة 33، الآية 53.

نفسه إذا ما ارتكب شخص خطأ ما. ويوم وفاة ابنه ابراهيم ألمّ بالشمس كسوف تامّ فقال بعض المسلمين انها انكسفت لموته. ولكن الرسول لم يرتح لهذه الفكرة الخرافية. فخطب الناس قائلا: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تخسفان لموت أحد ولا لحياته. فاذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكر الله بالصلاة.» وكان الرسول رقيق القلب ودودا. لقد تفطّر فؤاده حزنا للفساد الذي غلب على اخوانه في الانسانية. والقرآن الكريم يشهد على ذلك حين يقول: «لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ.» * لقد عني عناية بالغة بمصلحة أتباعه وخيرهم. وكان دائم الدعاء لهم، بل لقد صوّر لهم الأرزاء التي كان مقدّرا لها ان تلمّ بهم في عهد متأخر، وعزّاهم عنها. وكان إذا ما أسدى اليه امرؤ يدا حفظها له وذكرها من ثمّ أبد الدهر. وإجلالا منه لذكرى خديجة كان لا يفتأ يبعث بالهدايا إلى صديقاتها. وحين زار المدينة وفد من قبل نجاشي الحبشة سهر هو بنفسه على راحتهم. وتطوّع أصحابه لخدمتهم بكل سبيل، ولكنه قال إنه يؤثر أن يخدمهم هو بيديه الاثنتين، ذلك بأنهم كانوا قد آووا المهاجرين من صحابته. وحين سبيت ابنة حاتم الطائي في من سبي من النساء قال إن بنت رجل جواد مثل حاتم يجب ان لا تبقى سبيّة، وهكذا سرّح عددا كبيرا من الأسرى اكراما لها. وكان يبدي الاحترام للكهول والصغار على حد سواء. وكان من دأبه أن ينهض كلما دخلت عليه أمه بالرضاع واخته بالرضاع، ويبسط لهما رداءه لكي تجلسا عليه. وكان يضفي على ابنته مثل هذا الاحترام أيضا. وكان يوصي أصحابه بأن يحترموا أولادهم، وكان يحترم الأمومة احتراما عظيما. لقد قال: «ألجنّة تحت أقدام الأمهات.»

_ (*) السورة 26، الآية 3.

وكان برغم تواضعه ووداعته البالغين شجاعا كأشجع ما يكون الرجال. إنه لم يستشعر في يوم من الأيام أيّ خوف من أعدائه. وحتى عند ما بيّتت المؤامرات في مكة للقضاء على حياته كان لا يكفّ عن التطواف بالبلد ليلا ونهارا. لقد سأل جميع أصحابه ان يهاجروا من مكة، على حين لبث هو هناك بين أعدائه وحيدا أو يكاد. وعندما انتهى مطاردوه إلى فم الغار بالذات لم يعرف الخوف سبيلا إلى قلبه. لقد عزّى صاحبه قائلا: «لا تحزن ان الله معنا.» وفي معركة أحد عندما وقع جيشه كله في ضرب من الشرك، صاح بأعلى صوته، غير مبال بالخطر المحدق به، ليجمع شتات جنوده. وفي مناسبة أخرى، عندما ولى أفراد جيشه الأدبار، تقدّم وحده نحو العدو، وهتف: «أنا رسول الله!» وحين خاف المسلمون، مرة، أن يغار عليهم ليلا كان هو أول من خرج يستكشف ضواحي المدينة، ممتطيا جواده من غير ان يسرجه. وفي رحلة قام بها الرسول، وبينا كان قاعدا وحده في ظل شجرة، انقضّ عليه عدوّ من أعدائه وصاح وهو شاهر سيفه: «من الذي يستطيع أن ينقذك، الآن، من يديّ؟» ومن غير أن يتطرق اليه الفزع البتة أجابه قائلا: «الله» . ومن عجب أن سيف عدوّه ما لبث أن سقط من يده. فتناول الرسول السيف الساقط وطرح على الرجل السؤال نفسه، فاذا به يتكشّف عن جبانة بالغة. وأيا ما كان، فقد خلّى الرسول سبيله. إن تراجم الرسول، التي كتبها أصدقاء له وأعداء على حد سواء، لتجمع كلها على الاعجاب بعزمه الراسخ وثباته الذي لا يتزعزع، في أشد المحن قسوة. كان اليأس والقنوط لا يعرفان إلى قلبه سبيلا. فعلى الرغم من ان المستقبل المظلم والمقاومة العنيدة كانا يكتنفانه من أقطاره جميعا فأن ايمانه بالنصر النهائي لم يهن لحظة واحدة. لقد عجزت أعتى عاصفة من عواصف الشدائد عن ان تزحزحه عن موقفه قيد

شعرة. كان من دأبه ان يتخذ للأمر كل عدة ممكنة وأن يصطنع للنجاح كل وسيلة متيسّرة، ثم يتوكل على الله. ولم تكن صروف الزمان وتقلّبات الايام لتقوى على إخماد عزيمته. فلم تكد تنقضي على كارثة أحد الرهيبة أربع وعشرون ساعة ليس غير حتى انطلق مطاردا العدوّ. وبكلمة، فقد كان قلبه، مهما قست المحن، متوهجا أبدا بأيمان راسخ بأن الحق لا بدّ ان ينتصر في آخر الشوط.

الفصل الثاني والثلاثون صفات الرسول المميزة كمصلح

الفصل الثاني والثلاثون صفات الرسول المميزة كمصلح «وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً «لِلْعالَمِينَ.» (القرآن الكريم، السورة 21، الآية 107) منذ فجر الحياة البشرية وهذا الكوكب يستقبل الانبياء والمصلحين في أعصار مختلفة، ومواطن متباينة. وكان آخرهم هو الرسول الكريم محمد ابن عبد الله، صلوات الله وسلامه عليه. وإنما نودّ في ما يلي أن ننصّ على أبرز النقاط التي تميّز بعثته. وأول هذه النقاط ذلك النجاح المذهل الذي حقّقه في رسالته، والذي سلّم به الاصدقاء والأعداء على حد سواء. وثمة جملة مفردة في دائرة المعارف البريطانية، الطبعة الحادية عشرة، تحت مادة «القرآن» ، كافية لأقامة الدليل على هذا الرأي. فقد جاء في دائرة المعارف تلك قولها: «كان محمد، بين شخصيات العالم الدينية جميعا، أوفرهم حظا من

النجاح.» والواقع ان أيما مصلح لم يجد قطّ شعبه غارقا في الدرك الاسفل من الجهالة بقدر ما كان العرب غارقين عند ظهور الرسول. كانوا يجهلون المبادئ الحقّة في الدين والسياسة والحياة الاجتماعية على حد سواء. ولم يكن لديهم فنّ عظيم أو علم وافر يتباهون بهما؛ لا ولم يكن لهم أيّ اتصال بسائر أجزاء العالم. وكان التماسك القومي شيئا مجهولا لديهم، إذ كانت كل قبيلة من قبائلهم تشكل وحدة مستقلة بينها وبين زميلاتها ما صنع الحداد. وكانت اليهودية قد بذلت قصارى جهدها لاصلاحهم، ولكن على غير طائل. وكانت النصرانية أيضا قد أخفقت في محاولات مماثلة. كذلك فشلت حركة الأحناف، التي نشأت على نحو واهن، كفشل الحركتين السابقتين، وتلاشت من غير ان تخلّف أيما أثر في المجتمع العربي. وإنما بعث الرسول الكريم لانتشال شعب كهذا الشعب الضائع من وهدة الجهالة. فما هي غير سنوات معدودات حتى محا جميع ضروب الفساد الديني والاخلاقي والاجتماعي الراسخة الاصول في بلاد العرب، وحتى خلق تربة تلك الديار- إذا جاز التعبير- خلقا آخر. لقد حلّ أصفى شكل من أشكال الوحدانية محل صنوف الخرافات وأشكال الوثنية المنحطة. فاذا بأبناء الصحراء نصف البرابرة أنفسهم يفعمون بحميّة جديدة لقضية الحق إفعاما حملهم إلى أقاصي العالم ليؤدوا رسالة الله. وفي ما يتصل بعبادة الخالق، بزّوا أعظم الزهاد والنسّاك، من غير أن يرفضوا العالم أو يتخلوا عنه. فما إن يطرق الأذان مسامعهم، في غمرة من حياتهم اليومية الناشطة، حتى يطّرحوا همومهم الدنيوية ويسجدوا خاشعين للرب. وكانوا ينفقون معظم لياليهم في عبادة الله. وهكذا فقد كانوا، برغم وجودهم في هذا العالم، منفصلين عن هذا العالم. وبالتالي فأن صلواتهم كان يلازمها دائما إيمان حيّ لم يعرفه أيما ناسك معتزل في صومعته البتة.

ولئن كان العرب قد بلغوا هذه المرتبة من السمو الروحي فأن منجزاتهم الدنيوية لم تكن أقلّ عظمة بحال. لقد احتلوا مقام الصدارة بين فاتحي العالم الجبارين. كانت الامبراطوريات العظيمة تذوب كالثلج أمام جحافلهم. وهم لم يخضعوا مقاطعات مترامية الأطراف فحسب، بل أنشأوا اسلوبا في السياسة أيضا حفظ عليهم قوّتهم طوال اثني عشر قرنا كاملة، بصرف النظر عن استهتار الاجيال المتأخرة. وبكلمة موجزة، كانوا أتقى عابدي الله وأكثر الفاتحين حظا من النجاح، على حد سواء. وبالاضافة إلى منجزاتهم في هذين الحقلين طوّروا فروعا من العلم مختلفة نوّرت العالم، الغارق آنذاك في ظلام دامس. بل إن ثمة ما هو أعجب من ذلك، وهو ان هذا كله أنجز في عقدين من الزمان ليس غير. وهكذا يتضح أن تعاليم الرسول كانت تتسم بطابع الشمول الكليّ، وانها كانت معدّة لتطوّر ملكات الانسان تطويرا كاملا. فليس ثمة أيما علة بشرية إلا وفي تلك التعاليم علاج لها. وكما ان أعظم الاطباء ليس هو ذلك الذي يدّعي هذا ولكن الذي يشفي أشدّ الامراض استعصاء في أكبر عدد من الحالات، كذلك فان أعظم المصلحين ليس هو ذلك الذي قد يدّعي هذا، ولكن الذي يحدث اعظم قدر من الاصلاح. وهذا هو المحك الذي يرفع الرسول الكريم مقاما عليّا في عين أصحاب الحصافة والعقل الراجح. والنقطة الثانية التي تميّز محمدا من سائر المصلحين الروحيين العظام وأنبياء العالم تتصل بعالميّة رسالته. فقد كانت رسالة كل من اولئك الانبياء مقصورة على شعب بعينه. فقد حمل كل نبي رسالة النور والهداية إلى أمة مخصوصة أو بلد مخصوص. وليس من ريب في أن تطهير النفس البشرية كانت هي رسالة كل منهم، ولكن هذه الرسالة كانت محدودة دائما. أما رسالة محمد فكانت كونية، ونوره كان عالميا، ونطاق مشاركته الوجدانية كان يستغرق البشرية كلها. قال

تعالى: «وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ.» * وقال: «وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ.» ** وقال: «تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً.» *** وقال: «قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً.» **** والواقع ان هذه الآيات لا تعدو ان تكون قلا من كثر نصّ فيها القرآن الكريم على أن الرسول قد بعث للنهوض بالجنس البشري كله. وفوق هذا، فأن القرآن الكريم يتحدث عن نفسه فيقول: «وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ، إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ.» ***** لقد أتى على الانسانية حين من الدهر كانت مجزّأة فيه إلى عدة «مقصورات» كتيمة، إذا جاز التعبير. كانت كل أمة منكمشة على نفسها ضمن تخوم وطنها، منعزلة كل الانعزال عن سائر الأمم. كانت وسائل المواصلات محدودة. وطبيعيّ ان لا يتوقع المرء في مثل هذه الاحوال اتساعا في العقلية كبيرا. فقد كان استشراف كل أمة مقصورا على بيئتها المباشرة، فهي تحسب نفسها الكلّ في الكل. وهكذا لم يكن في مستطاع الحكمة الالهية الا ان تبعث إلى كل أمة بنبيّ مستقل كيّفت رسالته وفق حاجاتها وأحوالها الخاصة. ولقد أدى هؤلاء الانبياء المختلفون مهمّتهم المخصوصة: أعني احياء أمة بعينها. ولكنّ طاقتهم الروحية كانت، مثل حقل رسالتهم، محدودة النطاق. فكانت الشعلة

_ (*) السورة 21، الآية 107. (**) السورة 34، الآية 28. (***) السورة 25، الآية 1. (****) السورة 7، الآية 158. (*****) السورة 12، الآية 104.

تتوهج فترة من الزمان ثم تخبو شيئا بعد شيء، حتى انطفأت آخر الأمر انطفاء كاملا. وعندئذ كانت الحاجة تنشأ إلى مصلح روحيّ ينير العصر المظلم، ومن ثم إلى بعثة نبوية اثر بعثة نبوية. ولكن بينا حققت العناية الالهية مصلحة الانسان الروحية، باختيارها الرسل حينا بعد حين من بين مختلف الأمم، أدّى ذلك إلى نشوء انطباعة شديدة الأذى. فقد شرعت كل أمة، لجهلها بما أغدق الله على الأمم الأخرى من أفضال مماثلة، تعتقد انها هي شعب الله المختار. وهذا ما غذّى الفكرة الضارة القائلة بالمحاباة الالهية وما رافق ذلك من شرور ملازمة. ولتقويم هذا الشعور بالتمييز العنصري، وإزالة الأحقاد التي خلقتها التخوم الجغرافية والاجتماعية وبعض الحواجز المصطنعة، ولصهر الانسانية في كلّ واحد متراصّ، شاءت الحكمة الالهية ان تبعث نبيا عالميا ذا رسالة إلى الجنس البشري كله، نبيا لا تتخطى قوّته الروحية كل تخم فحسب، بل تحتفظ فوق ذلك بفعاليتها إلى آخر الدهر أيضا. وهكذا ما إن تمّت سلسلة الأنبياء الملّيين بظهور حلقتها الاخيرة، يسوع، الذي أرسل- ونحن نستعمل هنا كلماته نفسها- «إلى خراف الاسرائيليين الضالة» حتى آن الأوان لأن تشرق شمس الروحانية على الافق الديني. لتضيء العالم كله. وهكذا ظهر الرسول الذي كان «رحمة للعالمين» ، وحرّر الانسانية من أصفاد الجهل والخرافة والفساد. وإنما كان الأنبياء السابقون أشبه بمصابيح الهية كثيرة ذات ضياء يكفي هذه الحجرة أو تلك، ومن هنا مسّت الحاجة إلى مصابيح مختلفة تطابق مختلف المناطق الجغرافية والقومية. لقد سفحت نورها حولها، فاذا بكل ما هو واقع ضمن نطاقها مشرق متألق. ولكن ما إن بزغت الشمس من رمال بلاد العرب حتى أمست البشرية في غير ما حاجة إلى تلك المصابيح. ولكن ضياء الشمس لا يمكن أن يحل محلّه ايما ضياء آخر، وهو كاف لأنارة العالم إلى يوم يبعثون.

وإنه لمن الأمور المعروفة بالتجربة العامة أننا لا نستطيع تحقيق أيما ضرب من التقدم في أي حقل من حقول الحياة إلا وضعنا نصب أعيننا هدفا محددا، ومثلا أعلى واضحا، لكي يستحثنا ذلك على بذل أقصى الجهد وأشقّه. والواقع ان كل رسول من الرسل السابقين أقام نصب عينيه مصلحة شعبه هو، على اعتبار ان خدمة تلك المصلحة كانت رسالة حياته المحدّدة. ولو قد حذا الرسول الكريم حذوهم فجعل من مصلحة بلاد العرب هدف حياته الأوحد إذن لأحبط الهدف نفسه الذي من أجله بعث. كان عليه أن يمحو جميع هذه الاحقاد القومية والجغرافية، وان يضع الاساس «لدين كونيّ» ، ويصهر الجماعات المتعددة في كلّ متناغم- في اخوّة انسانية شاملة. لقد كافحت الاديان السالفة لصهر الافراد في جماعات- وهو صنيع يشكّل في ذات نفسه خدمة جليلة- ولكن الاسلام، دين الفطرة، إنما جاء ليصهر هذه القوميات الصغيرة في أخوّة كونية عريضة. وهكذا، بينا قصر الانبياء المتعددون الذين ظهروا قبل البعثة المحمدية رسالتهم على هذه الطائفة من الناس أو تلك قيّض للرسول الكريم شرف صهر هذه المجموعات المتنافرة من الكائنات البشرية في اخوّة متناغمة واحدة. وهكذا فأن ميزة الرسول الثالثة تقوم على هذه الحقيقة: وهي أنه فيما جاء الانبياء الآخرون ليعلّموا الناس سرّ الوحدة والتقدم القوميين فصّل هو الحقيقة العظمى القائلة بوحدانية الجنس البشري كله، ورسم سبل الحياة الرئيسية والفرعية كلها للذرية، لا ذرية هذه الامة أو تلك، ولكن لذراري الجنس البشري برمته. وإلى هذا، فان رسالة كل من الانبياء السالفين كانت مقصورة على تنمية وجه بعينه من وجوه الخلق البشري. وهكذا فأن حياة كل منهم تعتبر نموذجا لهذا الجانب من جوانب الاخلاق الانسانية أو ذاك. ولكن الرسول الكريم بعث لتطوير الفطرة البشرية بوصفها كلّا كاملا،

ولأبراز كل ملكة من ملكاتها المتعددة وتثقيفها. فقد تجلّت في حياته جميع مظاهر الاخلاق الانسانية تجليا كاملا. ومن هنا كان هو القدوة الكاملة للانسانية. ففي ما يتصل بالبعثة الموسوية ظهر الأنبياء واحدا إثر آخر، ولكن كلا منهم كان نموذجا يحتذى في ناحية بعينها. أما الرسول محمد فجمع في شخصه هو، وعلى نحو أسمى بكثير، جماع فضائل الانبياء الاسرائيليين كافة: - رجولة موسى، ورقة قلب هارون، وبراعة يشوع في قيادة الجيوش، وصبر أيوب، وجرأة داود، وعظمة سليمان، وبساطة يوحنا، ووداعة يسوع. وكان أول الانبياء الاسرائيليين- موسى- هو تجسيد القوة والمجد، وكان آخرهم- يسوع- هو تجسيد التواضع والوداعة. أما محمد فعبّر في شخصه عن هذين المظهرين جميعا. وهكذا فأن كل كوكب من كواكب الروح تلك كان يرسل شعاعا واحدا ليس غير في ناحية بعينها، على حين كان الرسول هو المركز الذي انبعثت منه الأشعة في كل ناحية. وهذه هي الميزة الرابعة. خامسا: وبينا نجد منجزات كلّ رجل عظيم مقصورة على حقل معيّن، نلاحظ ان منجزات الرسول الكريم تستغرق حقول النشاط الانساني كلها. فاذا كانت العظمة، مثلا، تقوم على اصلاح شعب متردّ في مهاوي الانحطاط، فمن ذا الذي يستطيع أن يدّعي حقّ احتلال مقام الصدارة في هذا الميدان أكثر من ذلك الذي نهض بأمة كالأمة العربية من حضيض الجهالة وجعل منها حاملة مشعال الحضارة والمعرفة؟ وإذا كان قوام العظمة توحيد عناصر المجتمع المتنافرة وصهرها في كلّ متساوق فمن أجدر بهذا اللقب من ذلك الذي صهر أمة كالعرب كانت ممزقة قبائل متقاتلة بسبب من ثارات متوارثة منذ أجيال وأجيال؟ كان العرب متناثرين، مثل رمال الصحراء، عندما ظهر الرسول، فجمعهم في وحدة متراصة مزوّدة بالقوة على تحدي أشدّ

الصدمات وأقساها. وإذا كان قوام العظمة إقامة مملكة الله على الارض فأن الرسول يتمتع حتى ههنا بمركز لا سبيل إلى مضاهاته. لقد محا الوثنية والشرك من بلاد العرب كلها وأضاءها بالنور الالهي. وإذا كان قوامها التخلق بالاخلاق السامية فمن ذا الذي يستطيع ان يبزّ ذلك الذي أقرّ العدوّ والصديق بأنه «الأمين» ؟ وإذا كانت عظمة الانسان كامنة في الفتح فليس من ريب في ان التاريخ لا يستطيع أن يفخر بنظير للرسول الذي ارتفع من منزلة يتيم بائس لا حول له ولا طول إلى منزلة فاتح جبار، بل إلى منزلة ملك أسس امبراطورية عظيمة صمدت طوال ثلاثة عشر قرنا لمحاولات عالمية متحدة هدفت إلى تقويضها والقضاء عليها؟ وإذا كانت الروح الدافعة الحية التي ينفخها زعيم في أتباعه هي محكّ العظمة فان اسم النبي لا يزال يفعل، حتى في يوم الناس هذا، مثل فعل السحر في نفوس اربعمئة مليون* انسان منتشرين في أرجاء العالم كله، فهو يشدّهم جميعا برباط قوي من الاخاء، بصرف النظر عن الطبقة الاجتماعية، أو اللون، أو المنطقة. وتتمثل ميزة الرسول السادسة في أنه لم يكن ثمرة بيئته. والواقع ان حالة المجتمع السائدة هي التي تخلق رجله العظيم. فكلما استبدّ بشعب ما، مثلا، توق عام إلى الحقيقة الماورائية (الميتافيزيقية) ظهر فيهم بالضرورة فيلسوف من الفلاسفة. وإذا ما عصف بجماعة ما حبّ الفتح كان ظهور الفاتح أمرا محتوما. وكذلك يبرز المعلمون الاخلاقيون، والشعراء، والنحاتون، وبكلمة مختصرة، النوابغ في كل حقل من حقول الحياة، في كل بيئة تتطلب بروزهم لاداء هذه المهمة أو تلك تطلّبا عاما. وإنما يجسّد هؤلاء الزعماء في ذواتهم

_ (*) ذلك كان تعداد المسلمين عند تأليف هذا الكتاب. وليس من ريب في انه اليوم يبلغ ضعفي هذا الرقم، أو يكاد. (المعرب)

روح العصر نفسها. وبكلمة أخرى، انهم يظهرون، إذا جاز التعبير، في سياق التطور العادي. أما الرسول محمد فقد مثّل كل ما كان متناقضا أكمل التناقض مع حالة المجتمع العربي آنذاك. لقد تعين عليه أن يؤدي رسالته في غمرة من الفكرات السائدة لعهده. كانت الوثنية والشرك هما القاعدة الغالبة في تلك الايام. ولكن الرسول تكشّف، وهو بعد في السادسة عشرة من عمره، عن مقت شديد للاصنام. وكانت الخرافة تحجب ضياء العقل. ومن ثم كان المجتمع مغلّفا بطبقات من الجهل كثيفة. فهل في مستطاع جوّ كهذا أن يخلق عقلا فلسفيا كعقل الرسول محمد؟ وفي طول بلاد العرب وعرضها كان الافراد يفتخرون بالثورة على قبائلهم، في حين كانت هذه القبائل تكره، بدورها، فكرة السلطة المركزية. وليس بأمكان المرء أن يتوقع- في ظل هذه الاحوال، وخلال سير الأحداث العادي- ظهور رجل ينادي بمبدأ التناغم والوحدة. وكانت الخمر، والميسر، والزنا مألوفة عند العرب ينفقون فيها أوقات فراغهم كلها. وكان قتل الأولاد (الوأد) شائعا بينهم أيضا، وكانت المرأة تعامل معاملة المتاع، وواضح ان هذه الأوضاع كانت عاجزة في ذات نفسها عن إقامة قلعة أخلاقية أو إطلاع محرر للمرأة. والحق أن اليد الالهية نفسها، التي تعدّ الجوهرة الصافية في أشد الاعماق ظلاما، هي التي ابدعت واحتضنت هذا النور بعنايتها المباشرة لكي ينفذ خلل تلك السحب الكثيفة من الفساد الغامر، ويضيء كلّ بقعة على ظهر الارض. أما ميزة الرسول العظمى والأخيرة فهي انه وضع الاساس لسلم كونيّ. انه لم يكتف بتعليم الناس كيف يستطيع المرء ان يحيا في سلام مع امرئ آخر، بل علّمهم أيضا كيف تستطيع الأسر المختلفة وشعوب الجنس البشري المتباينة ان تحيا في سلام وتناغم بعضها مع

بعض، وعلّمهم فوق هذا كله ما لم يحاوله أيما رجل آخر في العالم مجرد محاولة، اعني كيف يمكن اشاعة الوثام بين أديان العالم المتنازعة. فعلى الرغم من انه كان، بأقرار الجميع، أعظم البشر فقد اعتبر نفسه مجرد عضو عادي من أعضاء الجنس البشري بعامّة: «إن أنا إلّا بشر مثلكم» . فللرجل والمرأة، والسيد والخادم، والملك والرعية، لهؤلاء جميعا حقوقهم المتبادلة. وهذه المساواة بين الانسان والانسان لم تشكّل موضوعا للعظات اللفظية فحسب، بل طبّقت بكثير من الدقة «الحنبلية» في الحياة اليومية أيضا. ففي الصلوات التي تؤدى خمس مرات كل يوم يقف الملك والفلاح كتفا إلى كتف في حضرة ربهما المشترك الذي في السماء. والعبد الرقيق يجب ان يتمتع بنفس الحقوق المدينة التي يتمتع بها الرجل ذو المحتد الكريم، وهو مبدأ حرص الرسول على إظهاره فأمّر زيدا، عبده المعتق، على جمهرة من القرشيين المعتزين بأحسابهم. وفي ما يتصل بالمساواة بين القبائل والأمم لم يجعل الله الناس شعوبا وقبائل لكي تكون لبعضها أية أفضلية على بعضها الآخر. لا، لقد جعلهم كذلك ليتعارفوا. فالقومية، كما علّم الرسول، ليست هي محك العظمة، إذ أن «اكرمكم عند الله أتقاكم» . ليس هذا فحسب، بل لقد وفّق فوق ذلك كله إلى إيقاع الانسجام بين أديان العالم المتعارضة بأن جعل في جملة مبادئ الايمان الأساسية المفروضة على كل مسلم أن يؤمن بأنبياء العالم كلهم، أيا ما كان الاقوام الذين بعثوا اليهم، ايمانه بمحمد نفسه. لقد علّم الناس- وهذه الحقيقة لم تجد تعبيرها عند أيما نبيّ آخر- أنه ليس من أمة على وجه الارض إلا ولها من أبنائها رسول الهي. والواقع، ان الايمان بجميع المصلحين الدينيين، الذين بعثوا بين حين وآخر، هو المبدأ الوحيد الذي يستطيع ان يكون «حقل لقاء» بين أنظمة العالم الدينية على اختلافها. كذلك علّم اتباعه ان يحجموا عن الطعن حتى

بآلهة الآخرين الذين لا يخفى زيفهم على كل ذي بصيرة. قال تعالى: «وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ.» * وهذه خطوة عملية أخرى نحو خلق روح من الوثام والمحبة بين الأديان. ليس هذا فحسب، بل لقد قدّم القرآن الكريم أيضا طريقة، أكثر وضوحا وتحديدا، لتسوية جميع الخلافات الدينية عندما قال: «قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ.» ** وبكلمة أخرى، إننا بأخذنا ما هو مشترك بين مختلف الأديان كأساس، نستطيع ان نتقدم إلى اقامة بنية فوقية جامعة. وهكذا يمسي في امكاننا ان نقيم دينا مشتركا. وباختصار، فأن الرسول الكريم لم يدّخر وسعا في إقامة وحدانية الله ومجده، من ناحية، واقامة الاخوّة الانسانية الشاملة في ظل عناية الاله الواحد الكلّية، من ناحية أخرى. فليغدق الله عليه أطيب تحياته وخير بركاته!

_ (*) السورة 6، الآية 108. (**) السورة 3، الآية 64.

فهرست الاعلام

فهرست الاعلام ملاحظة: لم نورد في هذا الفهرست اسم الرسول الكريم بسبب من وروده في كل صفحة من صفحات الكتاب تقريبا. أآسية 9، 19 آمنة (ام الرسول) 54، 58 ابراهيم 14، 16، 25، 33، 34، 36، 44- 46، 52، 53 ابراهيم (ابن الرسول) 62، 249، 252، 275 ابراهيم، مقام 205 ابرهة الاشرم 56، 57 الأبواء 59 ابو طلحة، طلحة بن 147 الابيض المتوسط، البحر 9 أبي، عبد الله بن 132، 144، 145، 172، 176، 227، 228، 230، 269 أحد، وقعة 54، 143، 144، 148، 153، 156، 160، 172، 179، 180، 227، 250، 254، 269، 274، 276، 277 الاحزاب، موقعة 173- 176، 179، 180، 228 الأحساء 12 الاحقاف 11، 12، 33، 34 الاحمر، البحر 9، 11، 13 أخطب، حيي بن 178 أذرعات 171 الأرقم (ابن ابي الارقم المخزومي) 76 الارقم، دار 76، 79 أريقط، عبد الله بن 117 اسحق 44 أسد، بنو 95 الأسد، حمراء (موضع) 153 اسرائيل 46، 199 اسرائيل، بنو 55

الاسرائيليون 47، 48، 283 الاسرائيليون، الانبياء 46، 47، 284 الاسكندرية، مكتبة 20 الإسلام 12، 29، 30، 32، 35، 39، 43، 49، 64، 75- 81، 84- 86، 88، 90، 93، 94، 96، 97، 101، 103، 105، 106، 108- 111، 116، 119، 125، 129، 131- 133، 136، 139- 142، 144، 153، 154، 156، 157، 160، 164، 166، 168، 169، 171- 177، 179- 181، 183، 187- 191، 193- 204، 207- 210، 212- 216، 218- 223، 225- 232، 234- 240، 253، 260، 269- 271، 274، 283 الاسلامية، الشريعة 175، 258 الاسلامية، العقيدة 43 اسماء (بنت ابي بكر) 117 اسماعيل 14- 17، 25، 33، 34، 44، 45، 48، 52، 53، الاسماعيليون 44، 45، 48 الاسود، الحجر 60، 61 الأسود، زمعة بن 102، 103 افريقية 9، 98 الأكاسرة، مملكة 118 المانية 7 أم حبيبة (بنت ابي سفيان) 251، 252 أم العبيس (عتيقة ابي بكر) 80 ام القرى (انظر: مكة المكرمة) أم كلثوم (بنت الرسول) 62 ام مكتوم، ابن 80 أمية، صفوان بن 158 أمية، زهير بن ابي 102 أمية، عمرو بن 158 الانجيل 41، 55 أنس (خادم الرسول) 271 الأنصار 15، 110، 126، 127، 134، 137، 139، 146، 147، 151، 211، 216، 217، 228 اوروبة 9، 19، 188 الاوروبية، الحضارة 29 الأوس 15، 16، 108- 110، 129، 170 أوطاس 212 ايليا 47 أيوب 284 ب بازان (عامل اليمن) 196 بجيلة 237 البحرين 12، 221، 235 بحيرى (الراهب) 60 بدر الصغرى (أو الآخرة) 160 بدر، معركة 62، 131، 136، 137، 139، 141، 143، 144، 160، 172، 179، 180، 223، 250، 256، 260، البدو 164، 173 البدوية، القبائل 176، 179، 181، 226 بديل بن ورقاء 181

براء، ابو (انظر: ملاعب الاسنة) البراء، بشر بن 177، 178 البردة (قصيدة) 220 البصرة 10 بصرى 197 بكر، أبو 63، 74، 75، 80، 85، 86، 111، 113- 117، 150، 182، 185، 186، 235، 239، 245- 248، 250، 268 بكر، بنو 200، 201 بكة (انظر: مكة المكرمة) بلال (مؤذن الرسول) 76، 80، 85، 245 بلتعة، حاطب بن أبي 201، 202 بلقيس 34 بولس، القديس 37 بيت المقدس (انظر القدس) البيزنطيون 224 ت تبوك 12، 13، 222، 224، 228، 229 تغلب 21، 235 تميم، بنو 219، 220، 235 التوراة 11، 41، 55 تيم، بنو 95 تيماء 49 ث ثعلبة، زيد بن 64 ثقيف 105، 212، 234، 235 الثقفيون 213، 234 ثمود 12، 15، 16، 33، 34، 224 ثنية الوداع 197 ثور، غار 115- 117، 120، 124 ثويبة (جارية ابي لهب) 58 ج الجاهلية 18، 25 الجاهليون 22، 25 جبير، عبد الله بن 147 جبريل 67، 70 جحش، زينب بنت 250- 252، 260، 261 جحش، عبد الله بن 35، 135، 250، 251 الجحفة 59 جديس 15 جدة 11 جذام 224 الجرف 245 جندل، أبو 185، 186، 190، 191 جهل، أبو 77، 85، 96، 101- 105، 134، 139، 141، 203، 273 جويرية 161، 251، 260 ح حابس، الأقرع بن 220 حاتم الطائي 220، 275 الحارث، بنو 158، 235 الحارث، زينب بنت 177، 178

الحارث، عبد (زعيم تغلب) 235 الحارث، عبيدة بن 138 الحارث، النضر بن 273 حارثة، زيد بن 62، 63، 75، 105، 197، 251، 261، 262، 268، 287 الحبشة 88، 90- 93، 101، 105، 110، 113، 121، 131، 194، 196، 250، 251 الحبشة، المملكة 37 حبقوق 50 الحجاز 11، 13، 34، 48، 53، 196 حجر (موطن ثمود) 12، 13، 33، 224 حجر، وائل بن 237 الحديبية، صلح 92، 175، 179، 281، 186- 194، 199، 200، 201، 209، 213، 234، 254، 273 حذافة، عبد الله بن 196 حراء، غار 66، 67، 70، 116، 119 حزام، حكيم بن 64، 101 الحزن، عام 103 حصن، عيينة بن 219 حضرموت 11، 12، 14، 221، 237 الحضرمي، عمرو بن 135، 136 حفصة (بنت عمر) 250، 260 حقاي 50 حلب 10 حليمة السعدية 58، 59 حمزة، بنو 134 حمزة (عم الرسول) 35، 54، 76، 77، 101، 138، 147، 150، 207، 274 الحنفاء 35، 38، 279 حنيفة، بنو 12، 235 حنين، وادي 210 حنين، معركة 208- 210، 214، 219 الحواريون 110 «حياة محمد» (لميووير) 13 «حياة محمد» (لهيكل) 59 الحيرة 12، 14، 37 خ الخالي، الربع 34 خباب 76- 79 خبيب 158 خديجة (زوجة الرسول) 35، 61، 62- 64، 69، 70، 72- 76، 101، 103، 104، 249، 250، 252، 275 خزاعة 161، 181، 200، 201 الخزرج 15، 16، 108- 110، 129، 170 الخضري، محمد 25 الخطاب، عبد الله بن عمر بن 177 الخطاب، عمر بن 10، 35، 77- 79، 86، 101، 118، 126، 141، 150، 151، 177، 183، 185، 186، 228- 230، 245- 247، 260، 271

الخلصة، ذو 237 خنيس (زوج حفصة) 250 خيبر 13، 34، 164، 175- 178، 252، 267 د دائرة المعارف البريطانية 278 داود (النبي) 50، 252 الدثنة، زيد بن 158، 159 دجانة، أبو 147 دجلة 9 دحية الكلبي 194 دمشق 224 الدهناء 10 دوزي 21 دومة الجندل 161 ر ربيعة، شيبة بن 138 ربيعة، عتبة بن 100، 105، 138 ربيعة، عبد الله بن ابي 88 الرجيع (موضع) 158، 176 الرسول، مسجد 12 الرضوان، بيعة 183 الرقاع، ذات 161 رقية (بنت الرسول) 62، 88، 92 رواحة، عبد الله بن 197 الروم 223 الرومانية، الامبراطورية 37، 222- 224 رومة، امبراطورية 19 ز زنيرة (عتيقة ابي بكر) 80 زهرة، بنو 54، 95 الزهري 71 زهير، كعب بن 220 زيد، أسامة بن 244 زيد، خالد بن 125 زيد، سعد بن 77، 78 زينب (بنت الرسول) 61، 207 س سارة 202 سبأ 11 السراة، جبال 10، 12 سعد، بنو 58، 59 «سفر تثنية الاشتراع» 46- 48، 174، 202 «سفر التكوين» 44، 45 «سفر يوحنا» 47 سفيان، أبو 136، 143، 146، 147، 150، 151، 153، 158، 159، 194، 195، 200، 201، 203، 204، 207، 274 السكران بن عمرو 250 سلمان الفارسي 165 سلمة، ابو 250 سلمة، أم 250 سلول، بنو 238 سليم، بنو 157 سليمان (النبي) 34، 50، 284

سميث، بوزوورث 6 سمية (زوجة غلام خديجة) 76، 85، 86 السنح 246 سودة بنت زمعة 250 سورية 10، 14، 39، 54، 59، 134- 136، 166، 171، 177، 182، 192، 194، 197، 220، 223، 225 سيرين (زوجة حسان بن ثابت) 194 سيكولوس، ديودوروس 13 سيناء 11، 48 ش الشام (انظر: سورية) الشام، بادية 14 شرحبيل (بن عمرو) 197 شعبة، المغيرة بن 234 شعيب (النبي) 13، 33، 34 شيرويه (ابن كسرى) 196 الشيماء بنت الحارث 214 ص صالح (النبي) 12، 33، 34 صدر الدين، مولانا 7 الصفا 95، 208 الصفة، أهل 126، 229 صفية (بنت حيي بن أخطب) 178، 252، 262، 267 الصلت، امية بن أبي 35 الصليبية، الحروب 46 صنعاء 12، 35، 55، 166 صيفي، عبد عمرو بن 146، 147 الصين 19 ض ضرار، الحارث بن أبي 161، 251 ط الطائف 11، 13، 35، 105، 135، 213- 214، 218، 233، 234 طالب، أبو 54، 59، 63- 65، 74، 96، 97- 104، 168 طالب، جعفر بن أبي 89، 196، 197 طالب، علي بن أبي 21، 74، 75، 111، 113- 116، 138، 168، 176، 184، 185، 202، 220، 239 طسم 15 طفيل، عامر بن 237، 238 طلحة، أبو 128، 150 طلحة (بن عبيد الله) 148 طلحة، عثمان بن 205 طي، بنو 220 ع عائشة (زوجة الرسول) 152، 161، 162، 228، 245- 247، 250، 252، 264، 269، 273 عاد 12، 15، 33 العاص، عمرو بن 88، 193 العاص، ابو (ابن الربيع بن عبد شمس) 61 عامر، أبو 229 عامر، بنو 108، 157، 238

عامر (عتيق ابي بكر) 80 عبادة، قيس بن سعد بن 204، 265 عبادة، سعد بن 111، 204 العباس (عم الرسول) 54، 65، 109، 110، 211، 242 عبد الله، جرير بن 268 عبد الله (والد الرسول) 54 عبيد الله، طلحة بن 76 عبد الله، نعيم بن 77، 78 عبد مناف، بنو 78 عتبة، الوليد بن 138 عداس 106 عدن 12 عدنان 53 العدواني، ذو الأصبع 32 عدي، المطعم بن 102، 103، 107 العرب 21- 28، 32، 36- 39، 53، 58، 89، 101، 109، 115، 118، 184، 187، 196، 219، 284، 286 العرب البائدة 15 العرب، بلاد 7، 10- 15، 21، 23، 25، 30، 31، 33- 39، 42- 50، 54، 65، 95، 96، 107، 110، 132، 160، 166، 175، 184، 198، 218، 219، 221- 224، 238- 240، 249، 254، 260، 273، 279، 282، 283، 285، 286 العرب المستعربة 16 العربية، الأمة 284 العربية، الجزيرة (انظر: العربية، شبه الجزيرة) العربية، شبه الجزيرة 6، 9، 34، 35، 38، 105، 221، 223، 232، 238- 240 عرفات 241 العزى 65، 107، 151 عسير 11، 12، 35، عفان، عثمان بن 62، 76، 86، 88، 182، 183، 224، 250 العقبة 109 العقبة الأولى، بيعة 109 العقبة الثانية، بيعة 110 عكرمة (ابن ابي جهل) 204، 206 العماليق 11، 15 عمان (بضم العين) 12، 221، 235 عمان، خليج 12 عمرو، هشام بن 102، 103 عمار 76، 85 عمرو، سهل بن 126 عمرو، سهيل بن 126، 141، 184، 185 عمرو، ضمضم بن 136 عمير، الحارث بن 197 عمير، عمرو بن 105 عمير، مصعب بن 109، 149 «العهد الجديد» 42، 43، 51 «العهد القديم» 43، 44، 53، 174 عوف، عبد الرحمن بن 76، 128 عوف، عمرو بن 125

عوف، مالك بن 212 العوام، الزبير بن 76، 86، 202 عيسى (انظر: المسيح) العيص 192 غ غسان 37، 223، 224 غطفان 12، 176 غيبون 20 ف فاران، جبل 48 فارس 10، 19، 118، 166، 194، 223 الفارسي، الخليج 9، 14 الفارسية، الامبراطورية 196 الفارسية، المملكة 166 فاطمة (اخت عمر) 77، 78 فاطمة (بنت الرسول) 62، 104، 270 الفجار، حرب 60، 65 الفرات 9 الفرس 222 الفضول، حلف 60، 64 فلسطين 46 فهيرة، عامر بن 117 ق القاسم (ابن الرسول) 61 قباء 125، 127 قباء، مسجد 125 قحطان، بنو 16 القدس 48 القرآن الكريم 5، 7، 11، 12، 14- 16، 19، 27، 33، 42- 44، 47، 48، 51، 52، 55، 56، 65، 78، 80، 81، 90، 93، 94، 96، 101، 104، 109، 110، 119، 121، 125، 127، 133، 136، 140، 152، 157، 159، 161، 173، 188، 189، 210، 223، 257، 261، 264، 272- 275، 281، 288 قرد، ذو 161 القرشيون 56، 90- 92، 96، 98، 96، 101، 102، 104، 114- 116، 132، 134، 140، 141، 144، 146، 148، 150، 154، 161، 172، 181، 192، 203، 287 قريش 17، 25، 60، 64، 76، 80، 85، 88، 90، 91، 95، 97، 99، 101، 104، 114، 115، 117، 131- 139، 141- 143، 147، 153، 154، 156، 161، 164، 168، 169، 172، 179، 181- 184، 189، 192، 200- 206، 210، 216، 219، 221، 226- 228، 234، 256، 273

قريظة، بنو 129، 172- 176 القسطنطينية 224 قصي 53، 54 القموص، حصن 176 قيدار 53 قيس، اربد بن 237، 238 قيس، الاشعث بن 237 القيس، امرؤ 24، 25 قيصر 194، 195، 203، 223 قينقاع، بنو 129، 171، 174 ك كارلايل 6 كسرى 194- 196 الكعبة 11، 14- 16، 25، 34، 39، 54- 56، 60، 61، 77، 101، 102، 132، 141، 199، 205، 240 كمال الدين، خواجا 7 كنانة، النضر بن 53 كنعان، أرض 45 الكنيسة الرومانية الكاثوليكية 235 الكوفة 10 ل لبينى (جارية عمر) 86 لبينى (عتيقة ابي بكر) 80 لحيان، بنو 161 لخم 224 اللات 65، 107، 234 لهب، أبو 54، 58، 95، 99، 101، 102، 107 لييورنارد 7 م مؤتة 197، 223، 224، 244 مأرب، سد 11 مارية القبطية 194، 252، 262 مالك، سراقة بن 117، 118 متى، يونس بن 106 «محاضرات تاريخ الأمم الاسلامية» (كتاب) 25 مخزوم 95 المدائن 13، 33 المدينة المنورة 11- 13، 15، 30، 33، 49، 54، 59، 108- 112، 114، 115، 117، 119، 121، 124- 127، 129- 134، 136، 137، 144- 146، 152، 153، 157، 161، 164، 165، 171، 172، 174- 176، 180، 186، 190- 192، 198، 199، 201، 202، 204، 208، 209، 214، 218، 221، 224، 226- 228، 234، 246، 256، 265، 271، 273، 275، 276 المدينة، أهل 132، 146 مر الظهران 202 المريسيع 161 المريسيع، أهل 161 مريم 161، 162 مسعود، عبد الله بن 76

مسعود، عروة بن 182، 233، 234 مسقط 12 المسلمون 44- 46، 62، 76، 86، 88- 91، 93، 101، 103، 110، 111، 116، 119، 121، 125، 126، 128، 129، 131- 141، 144، 145، 147- 156، 159- 161، 165- 169، 171- 174، 176، 177، 180- 187، 189- 192، 194، 200- 203، 205- 214، 220- 224، 226- 229، 231، 233، 236، 239، 243، 246- 248، 251- 254، 256، 260، 268- 270، 273، 275، 276 المسيح 20، 39، 47، 48، 50، 51، 55، 70، 90، 110 199، 207، 252، 282، 284 المسيح، عبد (زعيم تغلب) 235 المسيحي، الدين (انظر: النصرانية) المسيحي، العالم 20 مسيلمة الكذاب 12، 235 المشركون 185، 187، 191، 216، 221، 226، مشكم، سلال بن 177 مصر 16، 39، 194، 222 المصطلق، بنو 161، 228، 251، 260 المطلب، عبد 54، 56، 95، 211 المطلب، اميمة بنت عبد 250 المطلب، بنو عبد 95، 102 معاذ، سعد بن 134، 174، 175 معرور، البراء بن 110 المعلقات 21 المعمدان، يوحنا 47 معونة، بئر 157، 158 معيط، عقبة بن أبي 85 المغيرة، أبو أمية بن 61 المقوقس 194، 199، 252، 262 مكة المكرمة 11، 13- 15، 34، 48، 49، 56، 60، 63، 64، 81، 88، 91- 93، 101، 107، 109، 111- 113، 115، 119، 121، 124- 127، 132، 134- 137، 141، 143، 146، 152، 164، 181، 184، 190- 192، 198، 200- 202، 204- 210، 213، 218، 219، 226، 239، 240، 274، 276 المكيون 56، 76، 80، 84، 85، 87، 88، 90، 93، 102، 110، 111، 114، 119، 131، 134، 139، 148، 158، 176، 202، 203، 205- 208، 214، 230، 269 ملاعب الأسنة 157 منى 241 مناف، بنو عبد 95 المنافقون 160، 169، 171، 174، 176، 179، 226، 227،

229- 231 المنذر (امير البحرين) 235 المهاجرون 88، 89، 92، 110، 126- 128، 139: 146، 199، 211، 228، 245، 251 مهرة 235 موسى (النبي) 11، 46- 48، 52، 68، 70، 90، 202، 252، 284 الموسوية، الشريعة 175 ميمونة (خالة خالد بن الوليد) 252، 260 ميووير، السير وليم 6، 13، 14، 20، 26، 38، 39، 121 208 ن فبوخذ نصر 34 النجار، بنو 54 النجاشي 88- 93، 131، 182، 194، 196، 275 تجد 11، 12 نجد، أهل 157 نجران 12، 35 نخلة (موضع) 135 الندوة، دار 114 نسطاس 158 النصارى 18، 30، 42، 223، 223، 236، 270 النصرانية 13، 20، 21، 35، 37، 39، 70، 88، 89، 251 279 النضر 17 النضر، أنس بن 149 النضير، بنو 129، 172- 175، 177، 178، 228 نفيل، زيد بن عمرو بن 35 نهدية (عتيقة أبي بكر) 80 النهرين، ما بين 10، 14 نوح 15 نوفل، ورقة بن 35، 69، 70، 74 هـ هاجر (أم اسماعيل) 16 هرون (اخو موسى) 68، 284 هاشم، بنو 17، 99، 100- 102، 114، 271 هبل 150 الهجرة 119، 133، 217، 226، 249 هرقل 197 هريرة، أبو 129 هشام، ابو البختري بن 102، 103 هند (زوجة ابي سفيان) 146، 147، 150، 274 الهند 19 الهندوس 28 الهندي، المحيط 9، 12 هوازن 209، 210، 212، 214، 233، 234 هود 12، 33، 34 هيكل، محمد حسين 59 هيار 207

والوثنية 239، 285، 286 الوثنية، القبائل 239 الوثنيون 216، 222، 270 وحشي (قاتل حمزة) 147، 207 الوداع، حجة 239، 244 ود، عمرو بن 168 وقاص، سعد بن أبي 76، 129، 148، 150 الوليد، خالد بن 147، 148، 151، 193، 197، 204، 206، 211، 252 الوليد، عمارة بن 99 ووكنغ 7 ووكنغ، مسجد 7 ي يا ليل، عبد 105 يثرب (انظر: المدينة المنورة) ياسر 76، 85، 86 يسوع (انظر: المسيح) يشوع 284 يعقوب 252 يعقوب خان، محمد 7 اليمامة 235 اليمن 11، 12، 14، 33، 34، 36، 37، 196، 221، 234، 235، 237 ينبع 11 اليهود 11، 13، 15، 18، 34، 36، 42، 44، 45، 47، 108، 129، 132، 141، 160، 164، 168- 171، 175- 179، 222، 226، 252، 260، 269، 270، 273 اليهود، الانبياء 50 اليهودية 34- 36، 39، 279 اليهودية، القبائل 164، 165 يوحنا 284

فهرست مقدمة 5 1. بلاد العرب والعرب 9 2. الجاهلية 18 3. موجات الاصلاح في بلاد العرب 33 4. النبوآت المتصلة بظهور الرسول الكريم 41 5. نسب الرسول ومولده 53 6. قبل البعث 59 7. البعث 67 8. المؤمنون الأولون 73 9. الاضطهاد 83 10. الهجرة إلى الحبشة 87 11. محاولات لاطفاء نور الله 94 12. العهد المكي المتأخر 104 13. الهجرة 113

14. العهد الجديد، الايام الأولى في المدينة 124 15. معركة بدر 131 16. معركة أحد 143 17. القبائل العربية والمسلمون 154 18. معركة الأحزاب 164 19. العلاقات مع اليهود 170 20. صلح الحديبية 179 21. دعوة الملوك إلى الاسلام 193 22. فتح مكة 200 23. معركة حنين 209 24. انتشار الاسلام العام في بلاد العرب 218 25. معركة تبوك 222 26. المنافقون 226 27. عام الوفود 233 28. حجة الوداع 239 29. وفاة الرسول 244 30. أزواج النبي 249 31. أخلاق الرسول وعاداته 264 32. صفات الرسول المميزة كمصلح 278 فهرست الاعلام 289

§1/1