حماية الرسول صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد

محمد بن عبد الله زربان الغامدي

مقدمة

مقدمة ... حماية الرسول صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد تأليف: د. محمد بن عبد الله زربان الغامدي شكر وتقدير الحمد لله والصلاة والسلام على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه. وبعد: يطيب أن أتقدم بوافر الشكر والتقدير لحكومة هذه البلاد وعلى رأسها خادم الحرمين الشريفين على ما تقدمه لخدمة الإسلام وأهله، ومن ذلك هذه الجامعة الإسلامية التي تستقبل أبناء المسلمين من أرجاء المعمورة. كما أتقدم بالشكر لمعالي رئيس الجامعة على جهوده المتواصلة للسير بهذه الجامعة إلى تحقيق الأهداف التي من أجلها أسست وإلى قسم الدراسات العليا بالجامعة، وإلى فضيلة المشرف الدكتور أحمد بن عطية الغامدي الذي بذل وقته وجهده على متابعته لهذا البحث حتى تم إنجازه بتوفيق الله. كما أشكر كل من ساعدني على ذلك. وأسأل الله أن يجزي الجميع خيرا، وأن يجعل العمل خالصا لوجهه، إنه جواد كريم, وصلى الله على محمد بن عبد الله، وعل آله وصحبه وسلم.

الفصل الثالث: أنواع التوحيد. ويشتمل على عدة مباحث: المبحث الأول: توحيد الربوبية. المبحث الثاني: توحيد الألوهية. المبحث الثالث: توحيد الأسماء والصفات. المبحث الرابع: منهجه عليه الصلاة والسلام في الدعوة إلى التوحيد. وقبل هذه المباحث بيان أصل هذا التقسيم. الفصل الرابع: أنواع الشرك. ويشتمل على ثلاثة مباحث. المبحث الأول: الشرك الأكبر. المبحث الثاني: الشرك الأصغر. المبحث الثالث: الشرك الخفي. الفصل الخامس: منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في حماية التوحيد. ويشتمل على عدة مباحث: المبحث الأول: حمايته لتوحيد الربوبية. المبحث الثاني: اهتمامه عليه الصلاة والسلام بتوحيد الألوهية وحمايته له. المبحث الثالث: حمابته لتوحيد الأسماء والصفات. الخاتمة: وقد ذكرت فيها أهم النتائج التي توصلت إليها في هذا البحث.

وقد بذلت جهدي في هذا الموضوع مستعينا بالله وحده لا شريك له، ثم بما كتبه علماء الإسلام المخلصون، واجتهدت في ذلك رغم قلة الوقت والعلم. وأرجو أنني قد أديت شيئا مما يستحقه هذا البحث، وأرجو الله تعالى أن يتقبل عملي هذا ويجعله خالصا لوجهه، ولا شك أن كل عمل بشري عرضة للقصور والخطأ، وحسبي أنني قد اجتهدت، فما كان فيه من كمال وتوفيق للحق فمن الله، وما كان من قصور وخطأ فمني ومن الشيطان. وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه.

مقدمة الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد: فبفضل الله تعالى وتوفيقه يسر لي القبول في الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، ولما كان من نظامها تقديم بحث علمي في مجال التخصص لنيل درجة الماجستير. ولأن تخصصي في علم العقيدة الإسلامية، الذي هو أشرف العلوم قدرا وأرفعها مكانة، فقد اجتهدت كثيرا في اختيار الموضوع المناسب، وبتوفيق الله تعالى وقع اختياري على موضوع: (حماية الرسول صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد) وذلك للأسباب الآتية: أولا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو الذي علمنا توحيد ربنا عز وجل، كان أول ما دعا إليه، وحياته كلها كانت دعوة إليه، وحماية له، حرصا على أمته وخوفا عليها وبيان ذلك من أعظم ما يهم كل مسلم موحد. ثانيا: أن هذا الموضوع – فيما أعلم – لم يكتب عنه في بحث مستقل شامل لهذه الحماية منه صلى الله عليه وسلم وإنما ورد ضمن غيره في كتب بعض العلماء.

ثالثا: التذكير بهذه الحماية، وأنها أمانة في عنق كل مسلم حسب استطاعته الشرعية، ولعل هذا البحث المتواضع أداء لبعض هذه الأمانة. وقد رتبت هذا البحث على: مقدمة، وخمسة فصول وخاتمة: المقدمة: بينت فيها معنى التوحيد، والمفاهيم الخاطئة في هذا المعنى. الفصل الأول: نماذج من دعوة الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام. ويشتمل على عدة مباحث: المبحث الأول: دعوة نوح عليه السلام. المبحث الثاني: دعوة هود عليه السلام. المبحث الثالث: دعوة صالح عليه السلام. المبحث الرابع: دعوة إبراهيم عليه السلام. المبحث الخامس: دعوة موسى عليه السلام. المبحث السادس: دعوة عيسى عليه السلام. الفصل الثاني: دعوة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم. ويشتمل على عدة مباحث: المبحث الأول: حال الناس قبل بعثه عليه الصلاة والسلام. المبحث الثاني: بعثته عليه الصلاة والسلام. المبحث الثالث: دعوته عليه الصلاة والسلام: أ - المرحلة المكية. ب - المرحلة المدنية. المبحث الرابع: أهمية التوحيد وأنه أول واجب على العبد.

تمهيد

تمهيد أرى من المناسب قبل الدخول في موضوعات البحث أن أقدم بين يديه تعريفا للتوحيد لغة واصطلاحا، مع بيان ما حصل من مفاهيم خاطئة لمدلول التوحيد الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأما لغة: فالتوحيد: مصدر وحد الشيء يوحده توحيدا، إذا أفرده، والوحدة: الانفراد، والله تعالى هو الواحد والأحد: ذو الوحدانية والتوحيد، والفرق بينهما أن الأحد بني لنفي ما يذكر معه من العدد، تقول: ما جاءني أحد. والواحد: اسم بني لفتح العدد، فتقول: جاءني واحد من الناس، ولا تقول: جاءني أحد، فالواحد منفرد بالذات في عدم المثل والنظير، والأحد منفرد بالمعنى1. قال ابن الأثير: "في أسماء الله تعالى (الواحد) هو الفرد الذي لم يزل وحده، ولم يكن معه آخر"2. قال الأزهري: "وأما اسم الله عز وجل – أحد – فإنه لا يوصف شيء بالأحدية غيره، لا يقال: رجل أحد، ولا درهم أحد، كما يقال: رجل وحَدُ أي فرد، لأن أحدا صفة من صفات الله عز وجل استخلصها لنفسه، ولا يشركه فيها شيء، وليس كقولك: الله واحد، وهذا شيء واحد "3.

_ 1 لسان العرب لابن منظور مادة (وحد) . 2 ابن الأثير - النهاية في غريب الحديث والأثر 5/159. 3 الأزهري تهذيب اللغة 5/197.

ومما تقدم يتبين أن مادة (وحد) تدل عل الانفراد، فالواو والحاء والدال أصل واحد يدل على الانفراد، يقال: هو واحد في قبيلته، إذا لم يكن مثله. قال الشاعر: يا واحد العرب الذي ... ما في الأنام له نظير1 فوَحَد تدل على التفرد وعدم النظير والمثيل للشيء فيم كان واحداً فيه، والله عز وجل هو الواحد الأحد، المتصف بصفات الكمال، فهو واحد أحد في ذاته، وأفعاله، وفي أسمائه وصفاته، لا نظير له في ذاته وصفاته، ولا ند له في إلهيته ولا شريك له في ربوبيته وملكه2. التوحيد في الاصطلاح: مادة (وَحَدَ) كما تقدم في المعنى اللغوي تدل على التفرد، والتوحيد مصدر وحد، يوحد، توحيداً، أي جعله واحدا. والتوحيد في الاصطلاح: إفراد الله تبارك وتعالى بالعبادة، وإخلاصها له وحده لا شريك له وهذاهو دين الرسل الذي أرسلهم الله إلى عباده3. فإفراد الله سبحانه بالعبادة يقتضي أن تصرف جميع العبادات له عز وجل خالصة له دون من سواه كائنا من كان، لأنه الواحد الأحد الذي لا شريك له ولا مثيل ولا كفء ولا ند في ذاته وأفعاله وأسمائه وصفاته، قال

_ 1 انظر معجم مقاييس اللغة 6/90. 2 انظر: تيسير العزيز الحميد لسليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب ص 33. 3 انظر: كشف الشبهات – للشيخ محمد بن عبد الوهاب، مجموعة التوحيد ص 93 ط دار البيان.

تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلا هُوَ} 1. وقال عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} 2. وقال جل شأنه: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِه} 3. وقال تبارك وتعالى: {إياك نعبد وإياك نستعين} 4. وقال سبحانه: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} 5. وقال عز من قائل: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ*اللَّهُ الصَّمَدُ*لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ*وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} 6. وقال جل وعلا: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 7. ومن كان هذا شأنه وهذه صفته كان هو المستحق أن يفرد بالعبادة

_ 1 الآية 31 من سورة التوبة. 2 الآية 5 من سورة البينة. 3 الآية 14 من سورة الزمر. 4 الآية 5 من سورة الفاتحة. 5 الآية 65 من سورة مريم. 6 سورة الإخلاص. 7 الآية 11 من سورة الشورى.

وحده لا شريك له، وكان صرف شيء منها لغيره شركا وجهلا وضلالا. والعبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة. وبهذا المعنى فهي حق له تعالى على عباده لا يستحقها أحد سواه، كما جاء في حديث معاذ رضي الله عنه حيث قال: "كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار، قال: "يا معاذ، أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ " قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله: أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا". قلت: يا رسول الله أفلا أبشر الناس؟ قال: "لا تبشرهم فيتكلوا" 1. ومما تقدم نعلم أن إفراد الله عز وجل بالعبادة واعتقاد أنه سبحانه لا شريك له ولا ند ولا مثيل في ربوبيته وإليته وأسمائه وصفاته، حق واجب له تعالى على عباده، بل أول الواجبات وأعظمها وأساسها. وهذا هو دين الله عز وجل الذي أرسل به رسله جميعا من نوح إلى محمد عليهم الصلاة والسلام، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 2.

_ 1 صحيح البخاري مع الفتح10/397، وصحيح مسلم مع شرح النووي 1/5958. 2 الآية 36 من سورة النحل.

وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} 1. وقال عز وجل: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} 2. فجميعهم جاءوا يدعون إلى عبادة الله وحده، ونبذ عبادة غيره منذ أن ظهر أول شرك في الأرض حتى بعث الله خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، فالعجب كل العجب ممن يشرك بالله بعد ذلك وله أدنى بصيرة، ولكن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء. المفاهيم الخاطئة في معنى التوحيد: ومع وضوح الرؤية وظهور الأدلة في هذا الجانب، فقد وجدت طوائف فهمت التوحيد فهما خاطئا وضلت في ذلك ضلالا بعيدا، وجعلت هذا الفهم الخاطئ غاية توحيدها، وأساس معتقدها. والسبب في ذلك هو البعد عن كتاب الله تعالى وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، والاعتماد على العقل وحده، وتقديمه على النصوص، ومعلوم تباين العقول واختلاف الأفهام.

_ 1 الآية 25 من سورة الأنبياء. 2 الآية 13 من سورة الشورى.

ومن أهم الطوائف التي سلكت هذا المسلك: المعتزلة: وهم الذي سموا أنفسهم أهل التوحيد، وجعلوه الأصل الأول من أصولهم، وغاية هذا التوحيد عندهم: نفي صفات الله عز وجل، فيثبتون له سبحانه ذاتا مجردة عن الصفات، ووجودا مطلقا بشرط الإطلاق، لاعتقادهم أن إثباتها يوجب مشابهة الله لخلقه، وهذا شرك1. فكل من أثبت لله تعالى علما أو قدرة أو أنه يرى في الآخرة، أو أن القرآن كلامه منزل غير مخلوق، أو أنه سميع بصير، مستو على عرشه بائن من خلقه، وغير ذلك من الصفات الثابتة بالكتاب والسنة، فهو عندهم مشبه وليس بموحد. فالحكم عندهم هو العقل فما وافقه قبلوه، وما لم يوافقه ردوه وأنكروه أو فوضوه أو أولوه، ولإيضاح هذا المنهج يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: ومثل هذا القانون الذي وضعه هؤلاء يضع كل فريق لأنفسهم قانونا فيما جاءت به الأنبياء عن الله، فيجعلون الأصل الذي يعتقدونه ويعتمدونه هو ما ظنوا أن عقولهم عرفته، ويجعلون ما جاءت به الأنبياء تبعا له، فما وافق قانونهم قبلوه وما خالفه لم يتبعوه "2.

_ 1 انظر: شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار ص 149، وما بعدها، وفتح الباري للحافظ ابن حجر 13/344 ط دار المعرفة. 2 ابن تيمية – درء تعارض العقل والنقل 1/6 ط الأولى تحقيق د. محمد رشاد سالم.

والمعتزلة متفقون جميعا على نفي صفات الله تعالى، ويسمون ذلك توحيدا ولكنهم يختلفون في التعبير عن ذلك: فمنهم من يقول: إنها نفس الذات، فيقول: إن الله عالم بعلم هو ذاته وقادر بقدرة هي ذاته ونحو ذلك، ومن هؤلاء أبو الهذيل العلاف1. ومعنى ذلك عندهم: أن الذات تسمى باعتبار تعلقها بالمعلوم علما، ونحو ذلك في بقية الصفات، لا أن الصفات شيء غير الذات. ومنهم من يعبر عنها بالسلب ونفي الضد، فمعنى كونه علما – عندهم – ليس بجاهل، وقادرا ليس بعاجز، ونحوه، ومن هؤلاء النظام2. ومنهم: من يعبر عنها بأنها أحوال وراء الذات، فيقول مثلا: لله عالمية وقادرية، لا علما ولا قدرة، ثم يقول: وهذه الأحوال ليست بموجودة ولا معدومة، وأشهر من قال بذلك: أبو هاشم، حتى نسبت إليه فقيل: أحوال أبي هاشم3. وقوله هذا محال، إذ لا يتصور حصول شيء وقيامه، وهو لا موجود ولا معدوم. وقد اعتمد المعتزلة في نفيهم صفات الله سبحانه وتعالى على قاعدة فاسدة، اتخذوها من عند أنفسهم مبعثها: بعدهم عن كتاب الله عز وجل،

_ 1 انظر الملل والنحل للشهرستاني 1/49، ومقالات الإسلاميين لأبي الحسن الأشعري 1/245. 2 انظر مقالات الإسلاميين 1/247. 3 انظر الملل والنحل للشهرستاني 1/82.

وتقديمهم العقل على النص، ثم الأقيسة الفاسدة، والتأويلات الباطلة التي درجوا عليها، فقالوا: لو أثبتنا الصفات وقلنا: إنها زائدة على الذات، فإن قلنا: إنها محدثة لزم من ذلك قيام الحوادث بذاته تعالى. وإن قلنا: بأنها قديمة، لزم من ذلك تعدد القدماء، والقائل بذلك يقع في أشد مما وقعت فيه النصارى فإنهم قالوا بقدماء ثلاثة، وهو يقول بأكثر من ذلك! وبناء على قولهم هذا، فمن أثبت صفات الله على حقيقتها فقد شبه الله بخلقه، وهذا شرك، أو يقول بتعدد القدماء وهذا شرك – عندهم – أشد من شرك النصارى الدين قالوا: {إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} . وسبب ضلالهم هذا كما سلف ذكره هو عدم اعتصامهم بالكتاب والسنة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وعامة هذه الضلالات إنما تطرق من لم يعتصم بالكتاب والسنة، كما كان الزهري يقول: كان علماؤنا يقولون: الاعتصام بالسنة هو النجاة، وقال مالك رحمه الله: السنة سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق، ثم يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "والعجب أن من هؤلاء من يصرح بأن عقله إذا عارضه الحديث – لا سيما في أخبار الصفات – حمل الحديث على عقله، وصرح بتقديمه على الحديث، وجعل عقله ميزانا للحديث فليت شعري هل عقله هذا مصرحا بتقدميه في الشريعة المحمدية، فيكون من السبيل

المأمور باتباعه، أم هو عقل مبتدع جاهل ضال حائر خارج عن السبيل، فلا حول ولا قوة إلا بالله"1. ومن جهلهم بكتاب الله تعالى تشبيههم لمن أثبت صفات الله تعالى وقال إنها قديمة بالنصارى حيث قالوا: {إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} وهذا تشبيه باطل وقياس فاسد، فإن سبب كفر النصارى أنهم قالوا بثلاثة آلهة كما قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاّ إِلَهٌ وَاحِدٌ} 2، فقد كذبهم الله بقوله عز وجل: {َمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاّ إِلَهٌ وَاحِدٌ} ولم يقل: وما من قديم إلا قديم واحد3. وقد جعلوا لفظ (القديم) من أسماء الله تعالى، والحق أنه ليس من أسماء الله الحسنى، وهي التي تدل على خصوص ما يمدح به، والقديم في لغة العرب التي نزل بها القرآن هو المتقدم على غيره، ولم يستعمل فيما لم يسبقه عدم، والأمثلة على ذلك في كتاب الله تعالى كثيرة. قال عز من قائل: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} 4 والعرجون القديم هو الذي يبقى إلى حين وجود العرجون الثاني، فإذا وجد قيل للأول قديم.

_ 1 ابن تيمية – الفتاوى 4/56،57. 2 لآية 73 من سورة المائدة. 3 انظر كتاب ابن تيمية السلفي، لمحمد خليل هراس ص 93. 4 الآية 4 من سورة يس.

وقال جل شأنه: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} 1 ومعناه التقدم في الزمان ... وغير ذلك من الأدلة. وقد جاء الشرع باسم (الأول) ، وهو أحسن من (القديم) فهو يشعر بأن ما بعده راجع إليه وتابع له بخلاف القديم. قال الله تبارك وتعالى: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 2. والله تعالى وحده له الأسماء الحسنى، {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 3. وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا، من أحصاها دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر" 4 ولفظ القديم ليس من أسماء الله تعالى الثابتة في الكتاب والسنة5. وقد لجأ المعتزلة إلى هذا القول فرارا من التشبيه، الذي يرونه لازما لإثبات صفات الله تعالى كما يزعمون، فيرون أن من أثبت صفات الله تعالى على الحقيقة فقد شبه الله بخلقه، وهذا شرك، فهم قد فروا من أمر

_ 1 الآية 11 من سورة الأحقاف. 2 الآية 3 من سورة الحديد. 3 الآية 180 من سورة الأعراف. 4 صحيح البخاري مع الفتح 11/214، وصحيح مسلم مع شرح النووي 4/206. 5 انظر كتاب شرح الطحاوية لابن أبي العز الحنفي ص 112-113.

ووقعوا في أعظم منه وهو التعطيل، إذ عطلوا صفات الله سبحانه التي أثبتها لنفسه وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم وجعلوا ذلك غاية التوحيد عندهم. ولا شك أن من شبه الله بخلقه فقد أشرك، ولكن ذلك ليس لازما من إثبات صفات الله تعالى، فله سبحانه صفاته التي تليق بجلاله وعظمته ووحدانيته، والمخلوق له صفاته التي تناسبه، ولا يلزم من توافقها في الاسم توفقها في الحقيقة، بل إن المخلوقات نفسها قد تتوافق في الأسماء مع تباين الحقائق واختلافها كما هو معلوم. والواقع أن المعتزلة أنفسهم بقولهم هذا قد وقعوا في التشبيه أيضا، بل في أقبحه، فهم حين أثبتوا لله تعالى ذاتا مجردة من الصفات، وهذا لا يتصور إلا في الأذهان ولا حقيقة له في الخارج، فهم بفعلهم هذا قد شبهوا الله تعالى بالمعدومات، مما قد يؤدي بهم إلى نفي وجود الله سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا. الجهمية: الجهمية هم أتباع الجهم بن صفوان تلميذ الجعد بن درهم، أول من قال بتعطيل الصفات، وأخذها عنه الجهم، وأظهرها فنسبت إليه، وقيل إن الجعد بن درهم أخذ عن أبان بن سمعان، وأبان أخذها عن طالوت ابن أخت لبيد بن الأعصم، وهو اليهودي الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم، فهي ترجع في أصلها إلى اليهود. ولما أظهر الجعد بن درهم مقالته في نفي الصفات في زمن هشام بن عبد الملك، وكان الجعد في مدينة واسط، وعامل هشام عليها خالد

ابن عبد الله القسري، فقتله في يوم الأضحى كما ورد عنه أنه قال للناس يوم الأضحى: "ارجعوا فضحوا تقبل الله منكم، فإني مضح بالجعد بن درهم، فإنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما، تعالى الله علوا كبيرا عما يقول ابن درهم"،ونزل وذبحه1. ويتبين مما ذكر أن أساس مذهب الجهمية بما فيه من كفر وإلحاد قد نبع أصله من اليهود أعداء الله تعالى وأنبيائه ورسله عليهم الصلاة والسلام كما نبع الرفض منهم على يدي عبد الله بن سبأ اليهودي. وخلاصة قول الجهمية في التوحيد: إنكار أسماء الله عز وجل وصفاته، وتعطيلها، فيقولون: لا يجوز أن يوصف الله بصفة يوصف بها خلقه، لأن ذلك تشبيه لله بخلقه2، فهم في نفي الصفات متفقون مع المعتزلة، وقد تقدم الكلام عن معنى التوحيد عندهم، وهم تلامذة الجهمية، وكل هذا ناتج عن كيدهم للإسلام وبعدهم عن كتاب الله سبحانه وتعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وجهلهم بهما واعتمادهم على ما تمليه عقولهم، فمعرفة الإنسان للحق والهدى بقدر قربه وفهمه لكتاب الله تعالى وسنة رسوله، وسلامته من الأغراض والمقاصد الخبيثة. فهؤلاء وأمثالهم ظنوا أن كل صفة يمكن أن يوصف الله بها المخلوق لا

_ 1 انظر: كتاب خلق أفعال العباد للإمام البخاري ص 7، وكتاب لوامع الأنوار البهية لمحمد بن أحمد السفاريني 1/164. 2 انظر: الرد على الزنادقة والجهمية للإمام أحمد ص 20، والفرق بين الفرق للبغدادي ص 211، والملل والنحل للشهرستاني 1/86.

يجوز أن يوصف الله بها، لزعمهم أن ذلك يستلزم تشبيه الله بخلقه، وهذا لازم فرضوه على أنفسهم من عند أنفسهم نتيجة ما تمليه عليهم عقولهم البعيدة عن الكتاب والسنة، والمعلوم عند أهل الحق أن لكل شيء صفة تناسبه، حتى بين المخلوقات نفسها. والجهمية شر الطوائف المبتدعة، وقد مكث زعيمها جهم أربعين يوما لا يعرف ربه، قال الإمام أحمد رحمه الله: "فكان مما بلغنا من أمر الجهم عدو الله أنه كان من أهل خراسان، من أهل ترمذ، وقد كان صاحب خصومات وكلام، وكان أكثر كلامه في الله تعالى، فلقي أناسا من المشركين يقال لهم السمنية1، فعرفوا الجهم فقالوا له: نكلمك فإن ظهرت حجتنا عليك دخلت في ديننا، وإن ظهرت حجتك علينا دخلنا في دينك، فكان مما كلموا به الجهم أن قالوا له: ألست تزعم أن لك إلها؟ قال الجهم: نعم، فقالوا له: فهل رأيت إلهك؟ قال: لا، قالوا: فهل سمعت كلامه؟ قال: لا، قالوا: فشممت رائحته؟ قال: لا، قالوا: فما يدريك أنه إله؟ قال: فتحير الجهم، فلم يدر من يعبد أربعين يوما. ثم إنه استدرك حجة مثل حجة زنادقة النصارى، وذلك أن زنادقة النصارى يزعمون أن الروح الذي في عيسى هو روح الله من ذات الله، فإذا أراد أن يُحدث أمرا دخل في بعض خلقه، فتكلم على لسان خلقه، فيأمر بما يشاء، وينهى عما يشاء، وهو روح غائبة عن الأبصار، فاستدرك

_ 1 السُّمَنية: بضم السين وفتح الميم: فرقة من عبدة الأصنام تقول بالتناسخ، وتنكر وقوع العلم. ابن منظور – لسان العرب 13/220.

الجهم حجة مثل هذه الحجة، فقال للسمني: ألست تزعم أن فيك روحا؟ فقال: نعم، فقال: هل رأيت روحك؟ قال: لا، قال: فسمعت كلامه؟ قال: لا، قال: فوجدت له حسا أو مجسا؟ قال: لا، قال: فكذلك الله: لا يرى له وجه، ولا يسمع له صوت، ولم يشم له رائحة، وهو غائب عن الأبصار، ولا يكون في مكان دون مكان، ووجد ثلاث آيات من المتشابه، قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 1، {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} 2 {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَار} 3 فبنى أصل كلامه على هذه الآيات، وتأول القرآن على غير تأويله، وكذب بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وزعم أن من وصف الله بشيء بما وصف به نفسه في كتابه، أو حدث عنه رسوله، كان كافرا، وكان من المشبهة، فأضل بكلامه بشرا كثيرا، وتبعه على قوله رجال من أصحاب أبي حنيفة4، وأصحاب عمروبن عبيد5

_ 1 الآية 11 من سورة الشورى. 2 الآية 3 من سورة الأنعام. 3 الآية 103 من سورة الأنعام. 4 هو الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت رحمه الله تعالى، أحد الأئمة الأربعة، ولد سنة 80هـ، وتوفي سنة 150 هـ، رأى أنس بن مالك رضي الله عنه. وكان إماما ورعا عالما عملا متعبدا كبير الشأو. انظر: تذكرة الحفاظ للذهبي 1/167، والأعلام للزركلي 9/4. 5 هو عمرو بن عبيد بن باب التيمي بالولاء أبو عثمان البصري شيخ المعتزلة في عصره، ولد سنة 80هـ، وتوفي سنة 144هـ. انظر: كتاب الأعلام للزركلي 5/252.

بالبصرة، ووضع دين الجههمية"1. فغاية توحيد الجهمية وأمثالهم من المعطلة نفي صفات الله تعالى بدعوى تنزيهه عن مشابهة الخلق، فيعطلونه سبحانه من صفات الكمال الثابتة له عز وجل بهذه الدعوى الباطلة، ويقعون في شر مما فروا منه، وهو تشبيه الله تعالى بالمعدومات، وهذا من أجهل الجهل وأضل الضلال، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا. قال الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله: "وتوحيد الجهمية والفلاسفة مناقض لتوحيد الرسل من كل درجة، فإن مضمونه إنكار حياة الرب وعلمه وقدرته وسمعه وبصره، وكلامه واستوائه على عرشه، ورؤية المؤمنين له بأبصارهم عيانا من فوقهم يوم القيامة، وإنكار ما أخبر به الرسول عنه، ومعلوم أن هذا التوحيد هو نفس تكذيب الرسول بما أخبر به عن الله، فاستعار له أصحابه اسم التوحيد"2. ولخطورة هذه الفرقة الضالة المضلة، التي هي أول من أظهر التعطيل الذي هو أعظم من شرك عباد الأصنام والأوثان والكواكب، فقد تصدى

_ 1 الإمام أحمد بن حنبل – الرد على الزنادقة والجهمية ص 19، 20. وانظر: فتح الباري 13/345، وكتاب الرد على الجهمية لأبي سعيد الدارمي ص 106-107، وكتاب خلق أفعال العباد للإمام البخاري ص 7-8. 2 ابن قيم الجوزية – مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة ص 183.

لهم علماء الإسلام المخلصون، وحماة التوحيد الصادقون، فكشفوا خباياهم وفضحوا باطلهم، وحذروا المسلمين شرورهم، فما تجد كتابا من كتب العقيدة إلا وتجد الرد على هؤلاء المعطلة أبرز موضوعاته وأبوابه وفصوله، بل وهناك من العلماء من كتب كتبا خاصة في الرد على الجهمية، ومنها: كتاب الرد على الجهمية لابن أبي حاتم، وكتاب الرد على الزنادقة والجهمية للإمام أحمد بن حنبل، وكتاب خلق أفعال العباد والرد على الجهمية وأصحاب التعطيل للإمام البخاري، وكتاب الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة للإمام ابن قيم الجوزية، وكتاب الشهب المرمية في الرد على المعطلة والجهمية لشيخ الإسلام ابن تيمية. وقد فند هؤلاء الأئمة العظام والعلماء الأعلام أقوالهم وكفروا من قال بها، قال عبد الله بن المبارك رحمه الله: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ونستعظم أن نحكي قول جهم، وقال رحمه الله: ولا أقول بقول الجهم إن له ... قولا يضارع قول الشرك أحيانا ولا أقول تخلى من بريته ... رب العباد وولى الأمر شيطانا ما قال فرعون هذا في تجبره ... فرعون موسى ولا فرعون هامانا1 وقال رحمه الله: "كل قوم يعرفون من يعبدون إلا الجهمية"2.

_ 1 انظر فتح الباري 13/345، وخلق أفعال العباد للإمام البخاري ص 8. 2 الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة لابن قيم الجوزية، تحقيق د. على بن محمد دخيل الله 4/1409 ن 1410.

وسئل وكيع رحمه الله عن الجهمية فقال: "يكفرون من وجه كذا، ويكفرون من وجه كذا، حتى أكفرهم من كذا وكذا وجها، وقال رحمه الله: الرافضة شر من القدرية، والحرورية شر منهما، والجهمية شر هذه الأصناف، قال الله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} 1 ويقولون: لم يكلمه، ويقولون: الإيمان بالقلب"2. وقال سعيد بن عامر3: "الجهمية أشر قولا من اليهود والنصارى، قد اجتمعت اليهود النصارى وأهل الأديان أن الله تبارك وتعالى على العرش، وقالوا هم: ليس على العرش شيء "4. وقال الإمام أبو حنيفة رحمه الله: "بالغ جهم في نفي التشبيه حتى قال: إن الله ليس بشيء"5. وأقوال العلماء فيهم كثيرة مشهورة6، قال أبو سعيد عثمان الدارمي رحمه الله: "وأي زندقة بأظهر ممن ينتحل الإسلام في الظاهر، وفي الباطن يضاهي قوله في القرآن قول مشركي قريش الذين ردوا على الله ورسوله

_ 1 الآية 164 من سورة النساء. 2 ابن قيم الجوزية – المرجع السابق. 3 هو سعيد بن عامر الضبعي البصري الزاهد الحافظ، أبو محمد مولى بني عجيف، ولد بعد العشرين ومائة، قال عنه أحمد بن حنبل: ما رأيت أفضل منه ومن حسين الجعفي. انظر سير أعلام النبلاء 9/385. 4 البخاري – خلق أفعال العباد ص 9. 5 الحافظ بن حجر – فتح الباري 13/345. 6 انظر مختصر العلو للعلي الغفار، للألباني ص 135 وما بعدها.

فقالوا: {إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاقٌ} 1 و {إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} 2 و {إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ} 3 كما قالت الجهمية سواء: إن هذا إلا مخلوق، ولهم في ذلك أئمة سوء أقدم من مشركي قريش، وهم عاد قوم هود الذين قالوا لنبيهم: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ إِنْ هَذَا إِلاَّ خُلُقُ الأَوَّلِينَ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} 4 فأي فرق بين الجهمية وبينهم، حتى نجبن عن قتلهم وإكفارهم؟! ولو لم يكن عندنا حجة في قتلهم وإكفارهم إلا قول حماد ابن زيد، وسلام بن أبي مطيع، وابن المبارك، ووكيع، ويزيد بن هارون، وأبي توبة، ويحيى بن يحيى، وأحمد بن حنبل، ونظرائهم رحمه الله عليهم أجمعين، لجبنا عن قتلهم وإكفارهم بقول هؤلاء حتى نستبرئ ذلك عمن هو أعلم منهم وأقدم، ولكنا نكفرهم بما تأولنا فيهم من كتاب الله عز وجل، وروينا فيهم من السنة، وبما حكينا عنهم من الكفر الواضح المشهور، الذي يعقله أكثر العوام، وبما ضاهوا مشركي الأمم قبلهم بقولهم في القرآن فضلا على ما ردوا على الله ورسوله، من تعطيل صفاته،

_ 1 الآية 7 من سورة ص. 2 الآية 25 من سورة الأنعام. 3 الآية 25 من سورة المدثر. 4 الآيات 136-138 من سورة الشعراء.

وإنكار وحدانيته، ومعرفة مكانه واستوائه على عرشه بتأويل ضلال، به هتك الله سترهم، وأبدى سوءتهم، وعبر عن ضمائرهم، كلما أرادوا به احتاجا، ازدادت مذاهبهم اعوجاجا، وازدادوا أهل السنة بمخالفتهم ابتهاجا، ولما يخفون من خفايا زندقتهم استخراجا"1. التوحيد عند الفلاسفة: كان المأمون العباسي شديد الشغف بالعلوم القديمة، وانتشرت في عهده ترجمة كتب غير المسلمين، وغير العرب، ونقلت إلى بلاد المسلمين، وكان من بينها كتب الفلاسفة، إذ بعث إلى بلاد الروم من ترجم له كتبهم، ونقلها إليه فانتشر مذهب الفلاسفة بانتشار كتبهم في أكثر الأمصار الإسلامية، وأقبل عليها المعتزلة والقرامطة والجهمية وغيرهم، وأكثروا النظر فيها، وقراءتها، وازدادوا بها بلاء إلى بلائهم، ودخل على المسلمين بذلك، من آراء الفلاسفة وضلالهم ما لا يعلم مداه إلا الله، وزاد به ضلال أهل البدع والانحراف2. وكان ممن اشتهر بذلك، وتكلم به، ودعا إليه، الرازي، والفارابي، وغيرهما ممن فتنوا بآراء الفلاسفة، كسقراط وأفلاطون، وأرسطو، وغيرهم. وخلاصة معنى التوحيد عندهم: أن الله عز وجل موجود ولا ماهية له ولا حقيقة، فلا ماهية عندهم زائدة على الوجود، ولا يعلم الجزئيات، ولا

_ 1 الرد على الجهمية والزنادقة للدارمي ص 116-117. 2 انظر الخطط المقريزية لتقي الدين أبي العباس أحمد بن علي المقريزي 2/357، وانظر الفتاوى لابن تيمية 4/21.

يفعل بقدرته ولا مشيئته، والعالم لازم له أزلا وأبدا، وإن سموه مفعولا له، فذلك مصانعة للمسلمين، وأخص خصائص الألوهية عندهم وجوب الوجود بالذات لله سبحانه، وينفون عن الله سبحانه جميع صفات الكمال، والقرآن عندهم فيض فياض فاض من العقل الفعال على قلب بشر زاكي النفس طاهر، ومتميز عن النوع الإنساني بثلاث خصائص: قوة الإدراك وسرعته، وقوة النفس، وقوة التخييل. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وأما زعم المتفلسفة إنه بالعقل الفعال، فمن الخرافات التي لا دليل عليها وأبطل من ذلك زعمهم أن ذلك هو جبريل، وزعمهم أن كل ما يحصل في عالم العناصر من الصور الجسمانية وكمالاتها فهو من فيضه وبسببه، فهو من أبطل الباطل1. ولا يثبتون لله سبحانه صفة، فلا يكلم ولا يتكلم، كما ينفون عنه سائر صفاته تعالى، فلا سمع ولا بصر ولا قدرة ولا حياة ولا إرادة، ولا وجه ولا يدين وحجتهم أنه لو كان كذلك لكان مركبا وكان جسما مؤلفا، ولم يكن واحدا من كل وجه. فغاية توحيدهم إنكار أسماء الله الحسنى وصفاته العلى، وإثباتها عندهم تشبيه لا توحيد2.

_ 1 ابن تيمية – الفتاوى 4/35. 2 انظر الفتاوى لابن تيمية 3/100، وكتاب الصواعق المنزلة البن قيم الجوزية تحقيق د. على بن محمد الدخيل الله 3/929، 930، وكتاب شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز ص 297، 298، وكتاب الدين الخالص لصديق حسن خان 1/96.

وقد وقعوا في هذا الباطل والضلال نتيجة تأثرهم بكتب الفلاسفة المليئة بالإلحاد والكفر، وكانوا يظنون أن أولئك الفلاسفة هم أهل الصواب لأنهم يعتمدون على التجارب والبراهين، ثم حالوا التلفيق بين هذه الفلسفة وبين عقيد الإسلام، فضلوا في ذلك ضلالا مبينا. وقد تصدى لهم علماء الإسلام بالرد عليهم وكشف باطلهم، كما فعل شيخ الإسلام ابن تيمية في كثير من كتبه ومنها: نقض تأسيس الجهمية، ومنهاج السنة، ودرء تعارض العقل والنقل – المعروف بموافقة صحيح المنقول لصريح المعقول … وغيرها. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى عن الفلاسفة: "وهم مخطئون في المنقول والمعقول، أما المنقول: فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يخبر قط بقدم ذات مجردة عن الصفات والأفعال، بل النصوص الإلهية متظاهرة باتصاف الرب بالصفات والأفعال، وهذا معلوم بالضرورة لمن سمع الكتاب والسنة، وهم يسلمون أن هذا هو الذي يظهر من النصوص، ولكن أخبر عن الله بأسمائه الحسنى وآياته المثبتة لصفاته وأفعاله، وأنه {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْش} 1 فمن قال الأفلاك قديمة أزلية "فقوله مناقض لقول الرسول صلى الله عليه وسلم بلا ريب.

_ 1 الآية 3 من سورة يونس.

كما أن من قال: "أن الرب تعالى لا علم له ولا قدرة ولا كلام ولا فعل" فقوله مناقض لقول الرسول صلى الله عليه وسلم. فليس لواحد منهما عقل صريح يدل على قوله، بل العقل الصريح مناقض لقوله، كما قد بين في موضعه من وجوه كثيرة، مثل ما يقال: "إن العقل الصريح يعلم أن إثبات عالم بلا علم وقادر بلا قدرة ممتنع كإثبات علم بلا عالم، وقدرة بلا قادر، وأعظم امتناعا من ذلك أن يكون العلم هو العالم، والعلم هو القدرة، فهذا قول نفاة الصفات"1. التوحيد عند الأشاعرة: الأشاعرة فرقة تنتسب إلى أبي الحسن الأشعري، وقد تتلمذ أبو الحسن على أبي علي الجبائي، من كبار علماء المعتزلة، ولازمه قريبا من أربعين عاما، فكان من أكبر الناس معرفة بمذهب المعتزلة، ثم انتقل إلى مذهب الكلابية أتباع عبد الله بن سعيد بن كلاب، وألف في بيان فساد آراء المعتزلة، والرافضة، والفلاسفة، وغيرهم من النحل الباطلة، والفرق المنحرفة، ثم رجع إلى مذهب أهل السنة والجماعة، وتخلى عما كان عليه، وبقي الأشاعرة ينتسبون إليه رغم رجوعه عن المذهب الذي يتشبثون به، والذي يمثل المرحلة الوسطى من حياته. ومذهب الأشعرية يجمع خليطا من مذهب الجمهية والمعتزلة والكلابية، فيثبتون لله تعالى سبعا من الصفات وهي التي يسمونها صفات المعاني،

_ 1 ابن تيمية – درء تعارض العقل والنقل 2/150، 151.

وهي: العلم، والقدرة، والإرادة، والحياة، والسمع، والبصر، والكلام، وينكرون ما عدا ذلك من الصفات بتأويلاتهم الباطلة. فالتوحيد عندهم نفي التثنية أو التعدد، ونفي التبعيض والتركيب والجزئة1، ويقولون كما يقول إخوانهم من المتكلمين: واحد في ذاته لا قسيم له، وواحد في صفاته لا شبيه له، وواحد في أفعاله لا شريك له، ويفسرون معنى الإلهية بالقدرة على الاختراع2 ويجعلون ذلك هو التوحيد المطلوب، ويرون أن توحيد الأفعال وهو قولهم واحد في أفعاله لا شريك له، هو الذي بعث الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام بالدعوة إليه، وأنه يتضمن توحيد الألوهية، وأطالوا في بحثه، وأقاموا الأدلة والبراهين العقلية في إثباته، وأتعبوا أنفسهم فيه، وهو من الأمور المسلمة بين المسلمين وخصومهم - سوى الملحدين منهم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والإلهية تتضمن أشخاص للعبادة والدعاة لا أنها بمعنى القدرة على الاختراع كما يذكر ذلك عن الأشعري، فإن هذا هو الربوبية التي كان المشركون يقرون بها"3. ومعلوم أن المشركين الذي بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يقرون بذلك وأن الله تعالى خالق كل شيء، ولا ينازعون في ذلك، ولكن ذلك لم

_ 1 انظر كتاب الإرشاد لأبي المعالي الجويني ص 69. 2 انظر الفتاوى لابن تيمية 3/98، وما بعدها، وبيان تلبيس الجهمية لابن تيمية 1/469. 3 ابن تيمية - بيان تلبيس الجهمية 1/480.

ينفعهم شيئا، بل هم مع ذلك مشركون بالله تعالى، حيث لم يحققوا معنى الألوهية الحقة له سبحانه وتعالى، وهذا هو التوحيد الأعظم الذي بعث الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام بالدعوة إليه، وفيه قامت الخصومة بينهم وبين أممهم، وهذا ما لا ذكر له ولا اهتمام في كتب الأشاعرة1. "وليس المراد بـ (الإله) هو القادر على الاختراع، كما ظنه من ظنه من أئمة المتكلمين، حيث ظن أن الإلهية هي القدرة على الاختراع دون غيره، وأن من أقر بأن الله هو القادر على الاختراع دون غيره فقد شهد أن لا إله إلا الله، فإن المشركين كانوا يقرون بهذا وهم مشركون – كما تقدم بيانه – بل الإله الحق هو الذي يستحق أن يعبد، فهو إله بمعنى مألوه، لا إله بمعنى آله، والتوحيد أن يعبد الله وحده لا شريك له، والإشراك أن يجعل مع الله إلها آخر. وإذا تبين أن غاية ما يقرره هؤلاء النظار، أهل الإثبات للقدرة المنتسبون إلى السنة إنما هو توحيد الربوبية، وأن الله رب كل شيء، ومع هذا فالمشركون كانوا مقرين بذلك، مع أنهم مشركون"2. التوحيد عند الصوفية: الصوفية من الفرق التي انحرفت وضلت عن المعنى الصحيح للتوحيد، وهي فرق وطوائف كثيرة منهم المعتدل ومنهم الغالي المنحرف، والتوحيد

_ 1 انظر: الفتاوى لابن تيمية 3/100-101، وشرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز ص 81، وكتاب دعوة التوحيد لخليل هراس ص 274. 2 ابن تيمية – الفتاوى 3/101.

عندهم مراتب أدناها ما يسمونه توحيد العامة، وهو الشهادة بأن لا إله إلا الله، وأعلاها ما يسمونه: الفناء في التوحيد وهو: أن لا يرى في الوجود إلا واحدا، وهو عندهم الغاية التي لا غاية وراءها1. قال الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى: "و (الفناء) الذي يشير إليه القوم ويعملون عليه: أن تذهب المحدثات في شهود العبد، وتغيب في أفق العدم، كما كانت قبل أن توجد، ويبقى الحق تعالى كما لم يزل، ثم تغيب صورة المشاهد ورسمه أيضا، فلا يبقى له صورة ولا رسم، ثم يغيب شهوده أيضا، فلا يبقى له شهود، ويصير الحق هو الذي يشاهد نفسه بنفسه، كما كان الأمر قبل إيجاد المكونات، وحقيقته: أن يفني من لم يكن، ويبقى من لم يزل"2. وقد قسم الغزالي التوحيد عند الصوفية إلى أربع مراتب: "الأولى: أن يقول الإنسان بلسانه: لا إله إلا الله. الثانية: أن يصدق بمعنى اللفظ بقلبه، كما صدق به عموم المسلمين، وهو اعتقاد العوام. الثالثة: أن يشاهد بطريق الكشف بواسطة نور الحق، وهو مقام المقربين. الرابعة: أن لا يرى في الوجود إلا واحدا، فلا يرى نفسه أيضا، وهو مشاهدة الصديقين، كما تسميه الصوفية، لأنه من حيث أنه لا يرى إلا واحدا، فلا يرى نفسه أيضا "3.

_ 1 انظر فتح الباري لابن حجر 13/348، والفتاوى لابن تيمية 3/101، 102. 2 ابن قيم الجوزية – مدارج السالكين 1/148. 3 انظر الإحياء للغزالي 4/245 وما بعدها.

وقد شرع الصوفية لأنفسهم من الدين ما لم يأذن به الله، فانحرفوا عن المنهج الإسلامي القائم على الاعتدال، والبعد عن الغلو والتطرف، حيث لم يجدوا فيه ما يوافق أهواءهم المنحرفة، وأذواقهم الفاسدة، وأفهامهم المعوجة، فاتخذوا لأنفسهم سبيلا جمعوا فيه خليطا من الديانات اليهودية والنصرانية والمجوسية، وغير ذلك مما دخل على المسلمين من الدخائل والعقائد الباطلة، وادعوا لأنفسهم أحوالا، وأذواقا ومواجد لم يعرفها الدين، ولا اتباع الأنبياء والمرسلين، وفتحوا على الإسلام والمسلمين باب شر دخلت منه عظائم الفتن، وكبرى المحن، وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل، فكان كثير منهم ممن يصدق عليهم قوله الحق تبارك وتعالى: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} 1 وقوله جل شأنه: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ، وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} 2. وتمادوا في غيهم وضلالهم فقالوا بالحلول وأن الله تعالى حال في كل شيء وقالوا بوحدة الوجود وأنه لا موجود إلا الله فيرون أن وجود الكائنات هو عين وجود الله تبارك وتعالى، وليس وجودها غيره ولا سواه البتة.

_ 1 الآية 30 من سورة الأعراف. 2 الآية 37 من سورة الزخرف.

ومن أقوالهم في ذلك: قول ابن عربي: الرب حق والعبد حق ... يا ليت شعري من المكلف إن قلت عبد فذاك رب ... أو قلت رب أنى يكلف وقول ابن الفارض: إلي رسولا كنت مني مرسلا ... وذاتي بآياتي عليك استدلت وقوله أيضا: لها صلواتي بالمقام أقيمها ... واشهد فيها أنها لي صلت كلانا مصل واحد ناظر إلى ... حقيقته بالجمع في كل سجدة وماكان لي صلىسواي فلم تكن ... صلاتي لغيري في أداءكل ركعة1 وقول آخر: أنا الحق. وقول غيره: سبحاني. وقسم الصوفية الدين إلى ظاهر وباطن وشريعة وحقيقة، فالظاهر والشريعة علم عامة الناس ودينهم، ومنهم الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، والباطن والحقيقة علم الصوفية ودينهم. قال ابن الجوزي رحمه الله: "لما انقسم هؤلاء بين متكاسل عن طلب العلم، وبين ظان أن العلم هو ما يقع في النفوس من ثمرات التعبد، وسموا ذلك العلم: العلم الباطن، نهوًّا عن التشاغل بالعلم الظاهر"2.

_ 1 انظر مجموعة الرسائل والمسائل لابن تيمية 4/83، والتصوف بين الحق والخلق لمحمد فهر شقفة ص 64. 2 ابن الجوزي تلبيس إبليس ص 328.

وجعلوا للأولياء درجة فوق درجة الأنبياء، وقالوا: مقام النبوة في برزخ ... فويق الرسول ودون الولي ويقولون: إن الولي يأخذ عن الله تعالى بلا واسطة، كما يقولون: حدثني قلبي عن ربي. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ومن أدعى من الأولياء الذي بلغتهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم أن له طريقه إلى الله لا يحتاج فيها إلى محمد فهو كافر ملحد، وإذا قال: أنا محتاج إلى محمد في علم الظاهر دون علم الباطن أو في علم الشريعة دون علم الحقيقة فهو شر من اليهود والنصارى الذين قالوا: إن محمدا رسول إلى الأميين دون أهل الكتاب"1. وغلاتهم يلتقون مع غلاة الشيعة في تقديس أئمتهم واعتقاد العصمة فيهم، ووجوب طاعتهم في كل ما أمروا به أو نهوا عنه حلالا كان أو حراما، طاعة أو معصية، ويعتقدون بحصول الكرامات لهم حتى بعد موتهم وأقوالهم في ذلك أكثر من أن تحصر، ليس هذا مقام الحديث عنها. وكلا الطائفتين - الصوفية والشيعة - منفذ شر وباب فتنة وضلال ومعول هدم للإسلام وأهله، ومطية لأعداء الإسلام في الوصول إلى مآربهم الخيبيثة في الماضي والحاضر. ومن أقوال الصوفية في التوحيد: قول بعضهم: أصولنا في التوحيد خمسة أشياء: رفع الحدث، وإقرار القدم، وهجر الإخوان، ومفارقة الأوطان ونسيان ما علم وجهل.

_ 1 ابن تيمية – الفتاوى 11/225.

وقول الآخر: من اطلع على ذرة من علم التوحيد ضعف عن حمل بقة لثقل ما حمله. وقول أحدهم: علامة حقيقة التوحيد نسيان التوحيد. وغير ذلك من الأقوال الضالة التي لا يقرها شرع ولا عقل1. وبعد هذا العرض اليسير لمفاهيم بعض الفرق الطوائف الضالة في معنى التوحيد وكيف زلت أقدامهم وانحرفت أفهامهم عن المعنى الحق للتوحيد الحق لله رب العالمين، تبين لنا مما سبق أن السبب الأول في ذلك الزيغ عن الحق إنما حصل لهم بسبب أعراضهم عن كتاب الله عز وجل وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وتقديمهم عقولهم على هذين الأصلين العظيمين اللذين عما النجاة من الضلال والملاذ والمرجع عند الانجراف والاختلاف. وكذلك تأويل النصوص تأويلات باطلة ناتجة عن أفهام سقيمة معوجة ظنوا أنها هي الحق الذي لا يجوز العدول عنه، فكانوا كما قال الله جل شأنه: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} 2 وكثير منهم من أقر بذلك واعترف عند موته. قال ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى عن ضلال هؤلاء وانحرافهم: "وإذا تأمله العارف وجده كلحم جمل غث، على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى، ولا سمين فينتقى فيطول عليك الطريق، ويوسع لك العبارة،

_ 1 انظر كتاب التصوف بين الحق والخلق لمحمد فهر سقفة ص 53ن 54. 2 الآية 39 من سورة النور.

ويأتي بكل لفظ غريب، ومعنى أغرب من اللفظ، فإذا وصلت لم تجد معك حاصلا طائلا، ولكن تسمع جعجعة ولا ترى طحنا، فالمتكلمون في جعاجع الجواهر والأعراض والأكوان والألوان، والجوهر والفرد، والأحوال والحركة والسكون، والوجود والماهية والانحياز والجهات والنسب والإضافات والغيرين والخلافين، والضدين والنقيضين، والتماثل والاختلاف، والعرض وهل يبقى زمانين وما هو الزمان والمكان؟ ويموت أحدهم ولم يعرف الزمان والمكان، ويعترف بأنه لم يعرف الوجود هل هو ماهية الشيء، أو زائد عليها؟ ويعترف أنه شاك في وجود الرب، هل هو وجود، أو وجود مقارن للماهية، ويقول: الحق عندي الوقف في هذه المسألة، ويقول أفضلهم - عن نفسه - عند الموت: أخرج من الدنيا وما عرفت إلا مسألة واحدة، وهي أن الممكن يفتقر إلى واجب، ثم قال: الافتقار أمر عرضي، فأموت ولم أعرف شيئا، وهذا أكثر من أن يذكر، كما قال بعض السلف: أكثر الناس شكا عند الموت: أرباب الكلام"1. وكما قال عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "انقسموا إلى أصحاب نظر وفكر وبحث واستدلال، وأصحاب إرادة وعبادة وتأله وزهد، وفكان منتهى أولئك الشك، ومنتهى هؤلاء الشطح، فأولئك يشكون في ثبوت واجب الوجود، أو يعجزون عن إقامة الدليل عليه، إلى أن قال: ... والآخرون يجعلون كل موجود واجب الوجود، ويجعلون

_ 1 ابن قيم الجوزية – مدارج السالكين 3/437.

وجود كل موجود هو نفس وجود واجب الوجود، ثم يقول بعدد ذلك: هذا مع أن إثبات الموجود الواجب الغني الخالق، وإثبات الموجود الممكن المحدث الفقير المخلوق، وهو من أظهر المعارف، وأبين المعلوم"1. ولا شك أن انحرافهم عن المعنى الصحيح نتيجة حتمية لكل من لم يكن مرجعه الكتاب والسنة وقدم على ذلك عقله وهواه ولا يظلم ربك أحدا.

_ 1 ابن تيمية – درء تعارض العقل والنقل 3/264، 265.

الفصل الأول: نماذج من دعوة الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام

الفصل الأول: نماذج من دعوة الأنبياء والرسل (عليهم الصلاة والسلام) . خلق الله تعالى الخلق وفطرهم على معرفته سبحانه، وتوحيده لا شريك له، قال عز وجل مخاطباً رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 1 وقال تبارك وتعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} 2. وجاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة – وفي رواية على الملة – فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تولد البهيمة جمعاء3، هل تحسون فيها من جدعاء" 4 5.

_ 1 الآية (30) من سورة الروم. 2 الآيتان (172، 173) من سورة الأعراف. 3 الجمعاء: سليمة من العيوب، مجتمعة الأعضاء كاملتها فلا جدع بها ولا كي. النهاية لابن الأثير 1/ 296. 4 الجدعاء: مقطوعة الأطراف أو واحدها. النهاية لابن الأثير 1/ 227. 5 البخاري مع الفتح 3/ 219.

وعن عياض بن حمار رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله: إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم" 1. وهذا دليل واضح أن الأصل في الناس أنهم مفطرون على الإسلام، وتوحيد الله تبارك وتعالى، وأن الشرك والانحراف طارئ فيهم، ودخيل عليهم. وحفاظاً على سلامة هذه الفطرة، وبقائها على توحيد الله عز وجل ومعرفته بعث الله تعالى أنبياءه ورسله عليهم الصلاة والسلام، وأنزل عليهم كتبه، هداية للناس إلى الصراط المستقيم، الموافق للفطرة التي فطرهم الله عليها، وحماية لهم من الضلال والانحراف عن سبيله القويم، قال جل شأنه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 2. كما جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: " أنا أولى الناس بعيسى بن مريم في الأولى والآخرة، قالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: الأنبياء أخوة من علات3 وأمهاتهم شتى، ودينهم واحد فليس بيننا نبي" 4.

_ 1 مسلم بشر ح النووي 17/ 197. 2 الآية 36 من سورة النمل. 3 أولاد العلات: بفتح العين المهملة وتشديد اللام هم الأخوة لأب من أمهات شتى، والمعنى: أن أصل إيمانهم واحد وهو التوحيد، وشرائعهم مختلفة. 4 مسلم بشرح النووي 15/ 119.

وفي هذا الفصل سأذكر – بإذن الله تعالى – نماذج من دعوة الرسل إلى توحيد الله عز وجل وأن الدعوة إلى توحيد الله كانت أول ما دعوا إليه أممهم وأن دعوتهم جميعاً متفقة على هذا الأمر، وسائرة على هذا الطريق.

المبحث الأول: دعوة نوح عليه الصلاة والسلام

المبحث الأول: دعوة نوح عليه الصلاة والسلام وهو أول الرسل وأحد أولي العزم منهم، بعثه الله تعالى حين انحرف الناس عن الدين الصحيح والتوحيد الحق، وظهر الشرك فيهم أول ما ظهر بعد أن كانوا على التوحيد الصحيح عشرة قرون بعد آدم عليه السلام كما جاء في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام"1. ولما رأى الشيطان ذلك ما زال يوسوس ويزين ويلبس حتى استطاع أن يصل بهم في نهاية الأمر إلى تعظيم تلك الصور وعبادتها من دون الله، ثم انتقلت بعد ذلك إلى العرب ليقعوا فيما وقع فيه من سبقهم من الشرك ولانحراف. كما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد، أما ود فكانت بدومة الجندل، وأما سواع فكانت لهمدان، وأما يغوث فكانت لمراد، ثم بني غطيف بالجرف عند سبأ، وأما نسر فكانت لآل ذع الكلاع، أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا إلى مجالسهم التي يجلسون أنصاباً، وسموها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تُعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت2.

_ 1 أخرجه ابن سعد في الطبقات 1/ 42 والطبري في تفسيره 29/ 99 وقال: هذا إسناده موقوف صحيح، رجاله كلهم ثقات. 2 صحيح البخاري مع الفتح 8/ 667.

فلما ظهر الشرك بعد أن لم يكن بعث الله نبيه ورسوله نوحاً عليه السلام يدعو الناس إلى عبادة الله تعالى وحده ويحذرهم من الشرك الذي وقعوا فيه، ويبين لهم خطورة ما هم عليه1، وقص الله تعالى علينا دعوة رسوله نوح عليه السلام في مواضع كثيرة من القرآن الكريم2، ويمكن أن نلخص دعوته عليه السلام إلى توحيد الله تعالى في المواقف التالية: الأول: بداية بدء الدعوة بدأ عليه السلام دعوته بالتوحيد، والتحذير من الشرك وبيان خطورته ووخيم عاقبته، قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} 3. وقال عز وجل: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} 4.

_ 1 انظر: البداية والنهاية لابن كثير 1/ 94. 2 منها سورة الأعراف، وهود، والأنبياء، والمؤمنون، والشعراء، والعنكبوت، والصافات، والقمر، وسورة كاملة هي سورة نوح. 3 الآيات من (25 – 28) من سورة هود. 4 الآية (59) من سورة الأعراف.

وآيات أخرى تبين أن الدعوة إلى توحيد الله عز وجل والنهي عن الشرك كانت أول ما بدأ به نوح عليه السلام دعوته، وسار على ذلك الأنبياء والمرسلين من بعده1، ذلك أن التوحيد أول ما فرضه الله على عباده، وهو الذي من أجله بعث الأنبياء والرسل وأنزلت عليهم الكتب والرسالات، فكلما انحرف الناس عن هذا الطريق وزاغوا عنه، وظهر فيهم الشرك بالله تعالى بعث الله إليهم من يجدد لهم معالم هذه العقيدة، ويردهم إلى الصراط المستقيم وينقذهم من خطر الشرك والانحراف. الثاني: براءة نوح من قومه ودعاؤه عليهم ما رأى نوح عليه السلام إصرار قومه على الكفر وتمسكهم به ودفاعهم عنه، ومكابرتهم للحق، رغم صبره على أذاهم، ومضيه في دعوته إلى دين الله تعالى ليلاً ونهارا ً، ذلك الزمن الطويل، وأن ذلك لم يزدهم إلا عتواً واستكباراً2 توجه إلى ربه: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلاَّ فِرَاراً وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً} 3، فأعلمه ربه عز وجل بقوله: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} 4.

_ 1 انظر كتاب دعوة التوحيد لخليل الهراس ص 128. 2 انظر كتاب دعوة الرسل لمحمد أحمد العدوي ص 17. 3 الآيات من (5 – 7) من سورة نوح. 4 الآية (36) من سورة هود.

عند ذلك أعلن نوح براءته من قومه ودعا الله تعالى أن يهلكهم وأن يطهر الأرض من شركهم وضلالهم: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَاراً} 1. وكما قال عنه ربه تعالى: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} 2، وقد استجاب له ربه سبحانه وتعالى كما قال عز وجل: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} 3. وقال سبحانه: {وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} 4. وأهلك الله قومه الكافرين ومنهم ابنه الذي لم يفتأ يدعوه إلى الإيمان إلى أن أدركه الغرق، وكان يراجع ربه فيه حتى قال له ربه عز وجل: {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} 5. عندها تبرأ نوح منه وسأل ربه المغفرة والرحمة، لأن علاقة النسب وكل علاقة دون علاقة الإيمان لا عبرة بها، إذا لم تكن علاقة الإيمان بالله تعالى.

_ 1 الآيات من (26 – 28) من سورة نوح. 2 الآية (10) من سورة القمر. 3 الآية (75) من سورة الصافات. 4 الآية (76) من سورة الأنبياء. 5 الآية (46) من سورة هود.

وقد عوض الله نبيه نوحاً بأن جعل في ذريته إبراهيم عليهما السلام النبوة والكتاب، فما بعث نبي إلا وهو من ذريتهما قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} 1. قال ابن كثير رحمه الله عند تفسير هذه الآية: "يخبر الله تعالى أنه منذ بعث نوحاً عليه السلام لم يرسل بعده رسولاً ولا نبياً إلا من ذريته، وكذلك إبراهيم عليه السلام خليل الرحمن لم ينزل كتاباً ولا أرسل رسولاً ولا أوحى إلى بشر من بعده إلا هو من سلالته، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} 2، حتى كان آخر أنبياء بني إسرائيل عيسى بن مريم الذي بشر من بعده بمحمد صلوات الله وسلامه عليهما"3. وهكذا من ترك شيئاً لله تعالى عوضه الله خيراً منه، والولاء لله تعالى مطلوب من كل مؤمن، والبراءة من كل كافر ومشرك مطلوب ولو كان أقرب الناس إليه، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ

_ 1 الآية (26) من سورة الحديد. 2 الآية (27) من سورة العنكبوت. 3 الحافظ ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 4/ 315.

الظَّالِمُونَ} 1. وقال جل شأنه: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 2. الثالث: أهم الدروس والعبر من دعوة نوح عليه السلام 1- أن التوحيد كان أول ما دعا إليه نوح عليه السلام قومه، وبدأ به دعوته، وكذلك الرسل من بعده. 2- أن عقيدة التوحيد هي الأصل الذي كان عليه الناس من آدم عليه السلام إلى أن ظهر الشرك في قوم نوح عليه السلام بعد عشرة قرون، فقد كانوا قبل ذلك على التوحيد الصحيح الموافق للفطرة التي فطر الله الناس عليها، والشرك حادث طارئ بعد أن لم يكن، وهذا معنى قوله عز وجل: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا

_ 1 الآية (23) من سورة التوبة. 2 الآية (22) من سورة المجادلة.

جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 1. وقد جاء في تفسير هذه الآية الكريمة أن معنى قوله عز وجل: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} أي على الهدى والتوحيد، ثم اختلفوا بأن ظهر فيهم الشرك، فبعث الله تعالى رسله عليهم الصلاة والسلام وأولهم نوح عليه السلام، وبهذا القول قال ابن عباس رضي الله عنهماومجاهد وعكرمة وقتادة. ومنهم من قال: إن معنى الآية: أنهم كانوا كفاراً، وروي هذا القول عن العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما. والقول الأول هو الصحيح لما يأتي: أ- ما جاء في الحديث الصحيح سالف الذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن الناس كانوا عشرة قرون على التوحيد بعد آدم عليه السلام. ب– ما ثبت عن ابن مسعود وأبي بن كعب رضي الله عنهما أنهما كانا يقرءان هذه الآية: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا} وهما ممن أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤخذ القرآن عنهما2.

_ 1 الآية (213) من سورة البقرة. 2 وهو: قوله صلى الله عليه وسلم: "خذوا القرآن عن أربعة عن ابن أم عبد، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وسالم مولى أبي حذيفة " صحيح مسلم بشرح النووي 16/ 17 – 18. وابن أم عبد هو عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

جـ – ما جاء في الآية الأخرى في سورة يونس وهي قوله تعالى: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} 1. قال ابن كثير رحمه الله تعالى عند تفسير هذه الآية الكريمة: "ثم أخبر تعالى أن هذا الشرك حادث في الناس، كائن بعد أن لم يكن، وأن الناس كلهم على دين واحد، وهو الإسلام، قال ابن عباس رضي الله عنهما: "كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام"، ثم وقع الاختلاف بين الناس وعبدت الأصنام والأنداد والأوثان، فبعث الله الرسل بآياته وحججه البالغة وبراهينه الدامغة {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} "23. د – القول الأول أصح سنداً عن ابن عباس رضي الله عنهما من القول الثاني. هـ – القول الثاني لا يناسب سياق الآية الكريمة، فقوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} مدح يشعر بالقوة والترابط والوحدة، وهذا لا يكون إلا بالإيمان والتوحيد، أما الكفر والشرك ففرقة وشتات كما قال

_ 1 الآية (19) من سورة يونس. 2 الآية (42) من سورة الأنفال. 3 ابن كثير تفسير القرآن العظيم 2/ 411.

عزَّ وجل: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} 1. وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْء} 2. وبهذا يتضح أن الأصل هو التوحيد الموافق للفطرة والشرك طارئ حادث، وأن الدعوة إلى التوحيد دعوة بالناس إلى الأصل الذي كانوا عليه، والفطرة التي فطرهم الله عليها، والشرك خروج عن ذلك وانحراف عنه، ولذلك اقتضت حكمة الله الحكيم الخبير أن يبعث أنبياءه ورسله وينزل الكتب للعودة بالبشرية إلى هذا المنهج القويم، وحمايتها من كل انحراف عنه وأول ذلك وأخطره الشرك بالله تعالى. 3- من الدروس والعبر في عودة نوح عليه السلام: أن أول شرك ظهر في الأرض كان سببه الغلو في الصالحين، وتجاوز الحد في تعظيمهم، ولا يزال كذلك إلى يومنا هذا سبباً في وقوع كثير من الناس في الشرك بالله تعالى، والمطية الأولى التي يركبها الشيطان لفتنة بني آدم في دينهم وإيقاعهم في الشرك، وأول وسائله إلى ذلك تزيين إقامة الأنصاب والتماثيل والصور حتى يتعلقوا بها ثم لا يزال بهم حتى يعبدوها، كما جاء في الحديث عن عائشة رضي الله عنها أن أم سلمة رضي الله عنها ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة يقال لها: مارية، فذكرت له ما

_ 1 الآية (14) من سورة الحشر. 2 الآية (159) من سورة الأنعام.

رأت فيها من الصور، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح، أو الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله تعالى" وفي لفظ آخر في الصحيحين: "أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها" 1. فانظر كيف كان الغلو في الصالحين طريقاً إلى الشرك بالله تعالى مع طول الفارق الزمني، ولا يزال الشيطان يدخل على كثير من ضعفاء الإيمان من هذا الباب حتى يصل في نهاية الأمر إلى الشرك، نعوذ بالله من ذلك. 4- من الدروس والعبر في دعوة نوح عليه السلام: تشابه صور الشرك وأعمال أهله في كل زمان ومكان مهما كان التفاوت الزمني في ذلك، فالأصنام التي ظهرت في قوم نوح أظهرها الشيطان للعرب فكانت فيهم يوم أن أظهرها عمرو بن لحي الخزاعي أخزاه الله، وما عمله المشركون في عهد نوح ويعمله المشركون في كل زمن من التعلق بالصالحين والغلو فيهم، ثم عبادتهم من دون الله عز وجل. 5- من الدروس والعبر في هذه الدعوة: أن رابطة الإيمان والعقيدة هي الرابطة الأولى التي تغني عن كل رابطة ولا تغني عنها رابطة مهما كانت قوتها أو قربها، وأن موالاة المؤمنين والبراءة من الكافرين أمر مطلوب من

_ 1 البخاري مع الفتح 1/ 523.

كل مؤمن، قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} الآية1. وقال سبحانه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْض} 2، وقال عز وجل: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} 3.

_ 1 الآية (22) من سورة المجادلة. 2 الآية (71) من سورة التوبة. 3 الآية (73) من سورة الأنفال.

المبحث الثاني: دعوة هود عليه السلام

المبحث الثاني: دعوة هود عليه السلام أرسل الله عز وجل نبيه ورسوله هوداً عليه الصلاة والسلام إلى قومه عاد وكانوا يسكنون الأحقاف. قال ابن عباس رضي الله عنهما: "واد بين عُمان وأرض مَهْرَه". وقال ابن إسحاق: "الأحقاف رمل فيما بين عُمان إلى حضرموت". وقال قتادة: "الأحقاف دمال مشرفة على البحر بالشحر من أرض اليمن". ولا خلاف بين هذه الأقوال، فهي تدل على مكان واحد جنوب الجزيرة وقرب حضرمت1. وقد ظهر فيهم الشرك بالله تعالى وكانوا أول من أظهره وعبد الأصنام بعد هلاك قوم نوح عليه السلام بالطوفان، فأرسل الله تعالى إليهم رسوله هوداً عليه السلام يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له وينهاهم عن عبادة غيره2. ونلخص دعوته عليه السلام في المواقف التالية: 1- بداية دعوته عليه السلام: وقد بدأها بالدعوة إلى توحيد الله تبارك وتعالى، كما بدأها قبله نوح عليه السلام، وكما هي بداية دعوة جميع الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، كما سيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى. قال الله عز وجل:

_ 1 انظر معجم البلدان لياقوت الحموي 1/ 115. 2 انظر البداية والنهاية 1/ 113.

{وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} 1. وقال سبحانه: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ} 2. فبينت هاتان الآيتان أن بداية دعوته كانت الدعوة إلى توحيد الله عز وجل وإفراده بالعبادة وحده لا شريك له، وردهم إلى الصراط المستقيم الذي انحرفوا عنه. 2- إعلامه قومه أنه لا طمع له في أجر منهم إنما أجره من الله تعالى وحده: فقد بين لهم أنه لا يريد منهم أجراً على هذه الدعوة، إنما يريد منهم الاستجابة لما جاء به من عند الله تعالى: {يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ} 3. وهذا منهج الأنبياء والرسل جميعاً، وإنك لو قرأت دعوة الرسل جميعهم لرأيتهم جميعهم يواجهون قومهم بهذا القول، ليعرفوا أن شأن الرسل تمحيض النصح لأقوامهم، وذلك لا يكون إلا خلت دعوتهم عن

_ 1 الآية (65) من سورة الأعراف. 2 الآية (50) من سورة هود. 3 الآية (51) من سورة هود.

المطامع، وتمحضت لإرضاء الله تعالى، والرغبة فيما عنده من ثواب، ولذلك عقب ذلك بقوله: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} إذ ترون نصيحة من لا يطلب أجراً إلا من الله1. وما من شك أن هذا أبلغ في الدعوة وأدعى للاستجابة وأشرف لجانب الدعوة وصاحبها، فكم من دعوة حطمتها الأطماع الشخصية، والأهداف الدنيئة. 3- صبره عليه السلام على أذى قومه فقد ناصبوه العداء واتهموه بالسفه وضعف العقل، وكذبوا دعوته، وأصروا على ما هم عليه من الشرك والضلال، وهو صابر على أذاهم، مستمر في دعوتهم إلى الله تعالى مرشد لهم إلى ما فيه نجاتهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة، محذر لهم عذاب الله الأليم إن هم أصروا على إعراضهم وكفرهم وتكذيبهم لرسوله، قال الله تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ

_ 1 محمد أحمد العدوي دعوة الرسل ص 21.

وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ} 1. وقد جاءت قصة دعوة هود قومه في آيات كثيرة من كتاب الله الكريم2. 4- نهاية عاد: كانت عاد أول من أحدث الشرك في الأرض بعد الطوفان، بعد أن أهلك الله الشرك وأهله بالطوفان، ومع ما قام به هود عليه السلام من دعوتهم وتذكيرهم بنعم الله عليهم وتحذيرهم من عذابه، مع ذلك كله لم يزدادوا إلا عتواً واستكباراً وسخرية به وبدعوته واستهزاءاً، فأرسل الله تعالى عليهم عذابه ريحاً شديدة، وسحاباً ظنوه مطراً ورحمة وهو العذاب الأليم. قال الله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ

_ 1 الآيات من (65 – 72) من سورة الأعراف. 2 في سورة الأعراف، وفي هود، والشعراء، والعنكبوت، وفصلت، والأحقاف، وق، والذاريات، والقمر، والحاقة، والفجر.

مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} 1. وقال سبحانه: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} 2. وقال جل شأنه: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ عَاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} 3. فقد أهلكهم الله عز وجل لما كذبوا رسوله وأصروا على شركهم وضلالهم ونزل بهم عذابه وبأسه الذي لا يرد، جزاءاً وفاقاً، وما ربك بظلام للعبيد. وهكذا نهاية كل من أشرك بالله تعالى غيره ورد دعوة أنبيائه ورسله. جاء في الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضاحكاً حتى أرى منه لهواته، وإنما كان يبتسم، وقالت: وكان إذا رأى غيماً أو ريحاً عرف في وجهه، قالت: يا رسول الله إن الناس إذا رأوا

_ 1 الآيات من (21 – 26) من سورة الأحقاف. 2 الآيات من (6 – 8) من سورة الحاقة. 3 الآيات من (58 – 60) من سورة هود.

الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرف في وجهك الكراهية؟ فقال: "يا عائشة ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب؟ عُذِّب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب فقالوا: هذا عارض ممطرنا" 1.

_ 1 البخاري مع الفتح 8/ 578، 10/ 504. ومسلم بشرح النووي 6/ 197.

المبحث الثالث: دعوة رسول الله صالح عليه الصلاة والسلام

المبحث الثالث: دعوة رسول الله صالح عليه الصلاة والسلام بعثه الله تعالى إلى ثمود، وكانوا بعد عاد، وكانوا يعبدون الأصنام، وكانت مساكنهم في وادي الحجر شمال الجزيرة العربية بين المدينة والشام1، وهي مجاورة لمدينة العلا وتابعة لها. وقد مر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في سيره إلى غزوة تبوك عام ثمانية من الهجرة النبوية، ونهى أصحابه أن يشربوا منها أو يستقوا، وأمرهم أن يهريقوا الماء وأن يعلفوا العجين الذي عجنوه بمائها للدواب. عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "لما نزل بالحجر في غزوة تبوك أمرهم أن لا يشربوا من بئرها ولا يستقوا منها، فقالوا: قد عجنا منها واستقينا، فأمرهم أن يطرحوا ذلك العجين، ويهريقوا ذلك الماء" 2. وعنه رضي الله عنه أن الناس نزلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أرض ثمود، الحجر، واستقوا من بئرها واعتجنوا به، "فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهريقوا ما استقوا من بئرها، وأن يعلفوا الإبل العجين، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كان تردها الناقة" 3. وعنه رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مر بالحجر قال: "لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا، إلا أن تكونوا باكين

_ 1 انظر معجم البلدان لياقوت الحموي 2/ 221. 2 البخاري مع الفتح 6/ 378. 3 البخاري مع الفتح 6/ 378.

أن يصيبكم ما أصابهم" ثم تقنع بردائه وهو على الرحل" 1. وكانت ثمود كما سبق ذكره يعبدون الأصنام كما كان أسلافهم عاد، فأرسل الله إليهم نبيه ورسوله صالحاً عليه السلام فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وترك ما هم عليه من عبادة غيره، وكان يذكرهم بأسلافهم عاد وكيف كانت نهايتهم، وكيف أن الله تعالى أورثهم الأرض من بعدهم، وأغدق عليهم النعم الكثيرة، ولكنهم ردوا دعوته، وأعلنوا معارضته، وتحدوه بطلب آية من الله عز وجل تدل على صدقه، وقد جاءت قصة صالح عليه السلام مع قومه في مواضع كثيرة من كتاب الله عز وجل2. وفيما يلي أهم المواقف في دعوته عليه السلام: 1- بدء دعوته عليه السلام: بدأ صالح عليه الصلاة والسلام دعوته قومه بالدعوة إلى التوحيد ونبذ ما هم عليه من الشرك وعبادة غير الله عز وجل من الأصنام وغيرهم فكان يذكرهم بنعمة الله تعالى عليهم ويحذرهم وينذرهم عاقبة الذين كذبوا الرسل من قبل وما حصل لقوم عاد، قال الله تبارك وتعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ

_ 1 صحيح البخاري مع الفتح 6/ 378. 2 منها: سورة الأعراف، وهود، والحجر، والإسراء، والشعراء، والنمل، وفصلت، والقمر، والشمس.

وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} 1. فقد بدأهم بالدعوة إلى التوحيد الذي انحرفوا عنه، كما دعا إليه من قبله من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام. - موقف قومه من دعوته: كانت ثمود من الأمم المفرطة في اللذات من مطعم ومشرب ومسكن، وبلغوا في ذلك الترف مبلغاً أوقعهم في السرف والعصيان والتمرد على كل دعوة حق لظنهم أن ما هم فيه دائم لا يزول، فعاثوا في الأرض فساداً وسخروا من صالح عليه السلام ودعوته ومن آمن معه، وناصبوهم العداء وأعرضوا عن الصراط المستقيم الذي جاء به. قال الله عز وجل: {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ} 2. كما قال سبحانه: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ وَتَنْحِتُونَ

_ 1 الآية (61) من سورة هود. 2 الآيتان من (62 - 63) من سورة هود.

مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ} 1. ومع تلطفه في دعوته طمعاً في هدايتهم، وتذكيره لهم بنعمة الله تعالى عليهم، ومكانته المعروفة لديهم واشتهاره بينهم بالصدق والأمانة وحسن الخلق فيهم مع ذلك كله اتهموه بالسحر، والسفه، وسخروا منه ومن دعوته، وأنهم كان لهم فيه رجاء وطمع قبل أن يظهر عليهم بهذه الدعوة الجديدة، وهذا منطق أعداء الرسل عليهم الصلاة والسلام جميعاً من قبل صالح عليه السلام ومن بعده {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} 2، {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ مَا أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} 3. واستمر عليه السلام في دعوته يلح عليهم ويخوفهم عذاب الله ولم يتبعه منهم إلا القليل المستضعفون فلما رأوا ذلك منه طلبوا منه آية، فأسل الله تعالى الناقة آية وابتلاءاً لهم وحذرهم وأخذ عليهم المواثيق، أن لا يمسوها بسوء4، وأنذرهم أن عذابهم مرتبط بذلك وحذرهم أشد التحذير، ولكنهم خالفوه وعصوا أمره وعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم.

_ 1 الآيات من (141 – 152) من سورة الشعراء. 2 الآية (62) من سورة هود. 3 الآيتان (153 – 154) من سورة الشعراء. 4 انظر كتاب الكامل في التاريخ لابن الأثير 2/ 229.

1- نهاية قوم صالح: طلب قوم صالح أن يأتيهم بآية تحدياً له وتعللا في رد دعوته، فأرسل الله تعالى لهم الناقة فتنة لهم، وبين لهم أن لها شرب يوم ولهم شرب يوم وحذرهم من المساس بها بأي نوع من أنواع السوء، وأنهم إن فعلوا ذلك فإن العذاب واقع بهم. ولكنهم خالفوا ذلك وارتكبوا ما نهاهم الله عنه وعقروا الناقة فجاءهم العذاب صيحة من السماء ورجفة من الأرض فاضت بها أرواحهم وزهقت لها نفوسهم وهلكوا جميعاً إلا صالحاً ومن آمن معه، وهكذا انتهوا إلى هذه النهاية الأليمة جزاء تكذيبهم وردهم لدعوته إلى الله تعالى، وهي نهاية كل مشرك مكذب، ولعذاب الآخرة أكبر1. قال الله جل شأنه: {وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ} 2. هكذا نزل بهم ما حذرهم منه رسولهم صالح عليه السلام، فكانت نهايتهم الأليمة وعاقبتهم الوخيمة عبرة وعظة لكل معتبر متعظ، فتلك

_ 1 انظر تفسير ابن كثير 2/ 229. 2 الآيات من (61 – 68) من سورة هود.

ديارهم خاوية على عروشها باقية إلى زماننا هذا. فليحذر أهل الشرك والضلال أن يحل بهم ما حل بأولئك فإن الله يمهل ولا يهمل، فإذا أخذ الظالم لم يفلته. {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} 1. آيات وعبر من دعوة صالح عليه السلام: - البدء في دعوته بالتوحيد كما هي دعوة الرسل جميعاً عليهم الصلاة والسلام. - أن نعم الله عز وجل على عباده إذا لم تصرف في طاعته سبحانه وطاعة رسله فإنها تنقلب نقمة وعذاباً على أهلها. - أن الله تعالى ناصر رسله وأتباعهم وإن كانوا قلة مستضعفين، وأن الكثرة لا قيمة لها ولا عبرة بها إذا لم تكن على الحق. - أن طلب المعجزات والآيات إذا لم يتبعه الإيمان الصادق فإن العقوبة على ذلك تنزل عاجلة. - أن آثار المعاصي والآثام قد تمتد إلى أزمنة بعيدة ليتعظ بها من بعدهم. - أن آثار المعاصي والآثام قد تصل إلى الأراضي والمياه وغيرها، ولذلك نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه عن دخول أرضهم إلا وهم باكون، ونهاهم عن الشرب من مائها، والأكل مما عجن بذلك الماء.

_ 1 الآية (102) من سورة هود.

المبحث الرابع: دعوة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام

المبحث الرابع: دعوة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام هو أبو الأنبياء وخليل الرحمن إبراهيم بن آزر عليه الصلاة والسلام، جعل الله تعالى في ذريته النبوة والكتاب، فما نزل كتاب من السماء بعده عليه السلام إلا كان في ذريته وشيعته، وهذه مرتبة عظيمة ومقام رفيع اختص الله بها خليله إبراهيم عليه السلام1. قال عز وجل: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} 2. وقال جل شأنه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} 3. وقد بعث الله تعالى خليله إبراهيم عليه السلام في فترة من الرسل عم فيها الشرك بأنواعه الأرض وسادت الوثنية واستحكم الجهل والضلال، فاختار الله رسوله إبراهيم واصطفاه لهذه المهمة العظيمة، فقام بها خير قيام، وأدى الأمانة خير أداء، وهو أحد أولي العزم من الرسل، دعا الله عز وجل أن يبعث رسولاً في هذه الأمة فاستجاب الله تعالى دعوته وبعث

_ 1 انظر البداية والنهاية لابن كثير 1/ 156. 2 الآية (27) من سورة العنكبوت. 3 الآية (26) من سورة الحديد.

خاتم الأنبياء والمرسلين محمداً عليه الصلاة والسلام، وكان من إكرام الله تعالى لخليله عليه السلام أن أمر رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم وأمته باتباع ملة إبراهيم عليه السلام، وقص الله تعالى دعوة إبراهيم عليه في سور كثيرة من كتابه1. والحديث عن إبراهيم عليه السلام ودعوته طويل، والمواقف والعبر فيها كثير، أكتفي بذكر أهمها: 1- في دعوة أبيه2: كان أبوه أول المكذبين بدعوته، والمعرضين عنها، والمعارضين لها، وقد بذل إبراهيم عليه السلام جهده في دعوة أبيه إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وتخليصه من عبادة غير الله تعالى، واتسمت دعوته لأبيه بالأدب الجم والتواضع العظيم، مع بلاغة في الحجة، وقوة في البرهان، وقص الله تعالى ذلك في كتابه الكريم فقال سبحانه: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً إِذْ قَالَ لأبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ

_ 1 منها: سورة الأنعام، وإبراهيم، ومريم، والأنبياء، والشعراء، والصفات، والممتنحة. 2 اسمه: آزر بن ناحور، وقيل: اسمه تارح، والصواب آزر لما ورد من التصريح به في آية الأنعام، {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَر} . وما جاء في البخاري مع الفتح 6/ 387 من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يلقى إبراهيم أباه آزر وعلى وجه آزر قترة وغبرة". وقيل: له اسمان علمان، أو أحدهما لقب والآخر علم. انظر: البداية والنهاية لابن كثير 1/ 132 – 134.

شَيْئاً يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً} 1 يعرض القرآن الكريم هذا الحوار بين إبراهيم عليه السلام وأبيه أبلغ العرض وأحسنه، وقد تجلت فيه حكمة إبراهيم الخليل عليه السلام وأدبه مع أبيه، وحرصه على هدايته إلى الصراط المستقيم، وما قابله به أبوه من التكذيب والتهديد والوعيد الذي لم يزد إبراهيم عليه إلا أدباً إلى أدبه وحرصاً وصبراً على دعوة أبيه ووعده بأن يستغفر الله تعالى له، وقد وفى بوعده عليه السلام، حتى نهاه الله تعالى عن ذلك فانتهى. ولم يقتصر حرصه على هداية أبيه في الدنيا بل سيكون ذلك حتى في يوم القيامة، فقد أخرج البخاري رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة، وعلى وجه آزر قترة وغبرة، فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك لا تعصني؟ فيقول له أبوه: فاليوم لا أعصيك، فيقول إبراهيم: يا رب، وعدتني أن لا تخزني يوم

_ 1 الآيات من (41 – 48) من سورة مريم.

يبعثون، وأي خزي أخزى من أبي الأبعد؟ فيقول الله: إني حرمت الجنة على الكافرين ثم يقال: يا إبراهيم ما تحت رجليك؟ فينظر فإذا هو بذبح متلطخ، فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار"1. وهذا الحرص من الخليل عليه السلام على هداية أبيه يشبه حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على هداية عمه أبي طالب، وحرصه الشديد على ذلك حتى وهو في سكرات الموت، وهو يقول:"يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله"2،ولكن جلساء السوء ما زالوا به يذكرونه ما كان عليه من دين آبائه وأجداده حتى مات وهو على كفره، ووعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاستغفار له حتى نزل قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} 3. ونزل في أبي طالب خاصة: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} 4.

_ 1 البخاري مع الفتح 6/ 387. 2 البخاري مع الفتح 8/ 506، ومسلم بشرح النووي 1/54 من حديث المسيب بن حزن رضي الله عنه. 3 الآيتان من (113 – 114) من سورة التوبة. 4 الآية (56) من سورة القصص.

وحين رأى إبراهيم عليه السلام إصرار أبيه على الكفر، وإعراضه وعداءه للحق، وعدم استجابته لدعوته، عند ذلك أعلن البراءة منه، كما بينت ذلك الآية التي سبق ذكرها، وكما جاء في قوله تعالى: في براءته عليه السلام مما كان أبوه وقومه: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} 1. وهذه البراءة التي أعلنها الخليل عليه السلام من الشرك وأهله، وأولهم أقرب الناس إليه أبوه، هذه البراءة من أول لوازم تحقيق التوحيد وإخلاصه لله عز وجل، وهي مرتبة عالية يصل إليها من رزقه الله تعالى إيماناً صادقاً وعملاً صالحاً خالصاً لله وحده، وكلمة التوحيد لا إله إلا الله معناها الولاء والبراء، وهي العروة الوثقى، قال الله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} 2. وقد أولى القرآن الكريم والسنة النبوية عقيدة الولاء والبراء اهتماماً كبيراً، قال الله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ

_ 1 الآية (26) من سورة الزخرف. 2 الآية (256) من سورة البقرة.

وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 1.وقال جل شأنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} 2. وقال سبحانه: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} 3. ومن السنة ما جاء في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين" 4. وما جاء في الصحيحين أيضاً عنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في

_ 1 الآية (22) من سورة المجادلة. 2 الآية (23) من سورة التوبة. 3 الآية (24) من سورة التوبة. 4 البخاري مع الفتح 1/ 58، ومسلم بشرح النووي 1/ 67.

الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، كما يكره أن يقذف في النار" 1. فهذان الحديثان وغيرهما يدلان على أن المسلم يجب أن تكون ولايته ومحبته لله تعالى، ولرسوله صلى الله عليه وسلم، لا يجوز له أن يشرك فيهما أحداً مهما كانت قرابته أو مكانته، كما ورد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "لأنت يا رسول الله أحب إلي من كل شيء إلا نفسي، فقال: "والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك"، فقال له عمر: فإنك الآن أحب إلي من نفسي، فقال: "الآن يا عمر"2. والآيات والأحاديث وأقوال السلف في هذا الباب كثير، في الأمر بالولاء والبراء لله تعالى والنهي عما يخالفه، وبيان لمن يكون الولاء3. 2- دعوته قومه: دعا إبراهيم عليه السلام قومه إلى توحيد الله تعالى وعبادته وحده لا شريك له، واجتهد في ذلك أعظم اجتهاد، وسلك كل طريق ظنه موصلاً إلى هدايتهم، وقبولهم للحق الذي جاء به، وبعدهم عن الباطل، وأتاه الله عز وجل الحجة البالغة على قومه، ومن أساليبه وطرقه في دعوة قومه:

_ 1 البخاري مع الفتح 1/ 60، ومسلم بشرح النووي 1/ 66. 2 البخاري مع الفتح 11/ 523. 3 انظر تفسير ابن كثير 2/ 69 – 72، وكتاب فتح المجيد ص 289 – 300، والفتاوى لابن تيمية 1/ 146 – 147

أ) دعوتهم بطرق الاستدراج: فحين جَن عليه الليل رأى كوكباً من الكواكب، فقال لقومه على سبيل الاستدراج والتهكم {هَذَا رَبِّي} ، فلما غاب عنه قال: {لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} فكيف يصلح هذا الكوكب أن يكون رباً وإلهاً وهو يحضر أحياناً ويغيب أحياناً؟. وكذلك قال لما رأى القمر، والشمس، قال الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ فَلَمَّا رَأى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} 1. فقد استدرجهم عليه السلام حتى كشف لهم بطلان

_ 1 الآيات من (75 – 83) من سورة الأنعام.

ما هم عليه من عبادة الكواكب من دون الله تعالى1. وهذه مهارة ودهاء وحكمة منه عليه السلام، إذ جعلهم بأنفسهم يقيمون الحجة على أنفسهم، ووضع أيديهم على مواطن الضعف منهم، وظهر لهم في موقف الباحث لئلا ينفروا منه، حتى أبطل حججهم، وأظهر باطلهم، وبعد ذلك أعلن لهم عقيدته الحقة، وبراءته منهم ومن شركهم، وولاءه وتوحيده لله تعالى وحده لا شريك له، وثقته به سبحانه، وعدم خوفه مما يشركون، وأن الخوف لهم وفيهم لشركهم بالله تعالى وعبادتهم غيره، وهذه القوة في الحجة والبلاغة في البرهان نعمة وفضل تفضل الله به خليله إبراهيم عليه السلام2. وفي هذه الآيات وعد بالأمن والهداية من الله تعالى لنبيه إبراهيم عليه السلام ولكل موحد، وذلك في قوله تعالى: {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} ، وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم المقصود بالظلم في الآية، حين شق ذلك على أصحابه رضي الله عنهم وقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: وأينا لم يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس بالذي تعنون، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح:

_ 1 انظر تفسير البغوي 4/ 30. 2 انظر بداية والنهاية لابن كثير 1/ 134 – 135، والتفسير لابن كثير 2/ 150 – 153، وكتاب دعوة الرسل لمحمد أحمد العدوي ص 44.

{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} إنما هو الشرك"1. وقصة إبراهيم عليه السلام مع عباد الكوكب، زعم بعض المؤرخين أنها وقعت حين خرج من السرب وكان صغيراً، وممن ذكر ذلك ابن إسحاق. وذلك غير صحيح مصدره أخبار إسرائيلية، والصحيح أن ذلك كان في دعوته ومناظرته لأهل حران عباد الكواكب. قال ابن كثير رحمه الله تعالى: "والظاهر أن موعظته هذه في الكواكب لأهل حران فإنهم كانوا يعبدونها، وهذا يرد على من زعم أنه قال هذا حين خرج من السرب لما كان صغيراً، كما ذكره ابن إسحاق وغيره، وهو مستند إلى أخبار إسرائيلية لا يوثق بها، ولاسيما إذا خالفت الحق، وأما أهل بابل فكانوا يعبدون الأصنام، وهم الذين ناظرهم في عبادتها، وكسرها عليهم، وأهانها وبين بطلانها"2. ومن أساليبه عليه السلام في دعوته قومه: ب) بيان عجز آلهتهم وضعفها: بين عليه السلام ضعف آلهتهم وعجزها، وأنها جمادات لا تملك لنفسها ولا لغيرها نفعاً ولا ضراً، وعزز ذلك بالدليل المادي على ذلك إذ كسرها وعلق الفأس في رقبة كبيرها، فلم تستطع دفع الضرر عن نفسها، قال الله

_ 1 البخاري مع الفتح 6/ 465. 2 ابن كثير – البداية والنهاية 1/ 135.

سبحانه: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإبْرَاهِيمَ إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأسْفَلِينَ} 1. وقال جل شأنه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاعِبِينَ قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ وَتَاللَّهِ لأكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ قَالُوا سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا

_ 1 الآيات (83 – 98) من سورة الصافات.

يَنْطِقُونَ فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأخْسَرِينَ} 1. وفي هذا الموقف أقام إبراهيم عليه السلام الحجة بالغة على قومه، وقدم لهم الدليل الحسي المادي على بطلان عبادتهم لهذه الأصنام، وكيف أنها عجزت عن دفع الضر عن نفسها، فكيف يطمعون أن تدفع عنهم ضراً، أو تجلب لهم نفعاً، ويصرفون لها العبادة من دون الله تبارك وتعالى الذي يملك النفع والضر وحده لا شريك له، فهو المستحق للعبادة دون سواه. ولكنهم مع ذلك كله أبوا إلا المكابرة والإصرار على الباطل رغم وضوح الحجة وظهور البرهان، وانكشاف بطلان عبادتهم، واستحكم الجهل في نفوسهم، وسيطر التعصب للباطل على عقولهم، وقررا الانتقام من إبراهيم عليه السلام بإحراقه ولكن الله تعالى نجاه من كيدهم

_ 1 الآيات م (51 – 70) من سورة الأنبياء.

ومكرهم، وأكرمه، وجعل في ذريته النبوة والكتاب، وخذل أعداءه وأهلكهم بما ظلموا. 3- موقفه عليه السلام مع مدعي الربوبية: ذكر المفسرون أن مدعي الربوبية هذا هو النمرود بن كنعان، ملك بابل، ونقل ذلك مجاهد وغيره1، وقد دارت بينه وبين إبراهيم عليه السلام مناظرة انتهت بهزيمة عدو الله، الذي ظن أنه بقتله رجلاً وعفوه عن آخر قد تحتم قتلهما، ظن ذلك الجاهل أنه يحيي ويميت، ولكن إبراهيم عليه السلام وقد آتاه الله عز وجل قوة الحجة، أفحمه من أول وهلة، إذ طلب منه ما دام أنه يدعي الربوبية أن يأتي بالشمس من المغرب بدلاً من المشرق، فالرب لابد أن يكون قادراً على التصرف كيف شاء، ولكن ذلك الكافر المكابر عجز وبهت، كما قال الله تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} 2. وهكذا شأن الطغاة يظنون أنهم بتلبيسهم على بعض عوام الناس وجهلتهم قادرون على تحقيق مقاصدهم الشيطانية، وأطماعهم الفاسدة، كما فعل فرعون مع قومه، وكما هو شأن الطغاة في كل زمان ومكان،

_ 1 انظر البداية والنهاية 1/ 139، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 3/ 283، 284. 2 الآية (258) من سورة البقرة.

ولكنه ما إن تشرق شمس الحق ونوره، يتبدد ظلام باطلهم، وينهزم كبرياؤهم، وتدحض حجتهم ويفضح الله أمرهم1. بعض الدروس والعبر من دعوة خليل الله إبراهيم عليه السلام: الدروس والعبر من دعوة إبراهيم عليه السلام كثيرة أكتفي بذكر بعضها: - الصبر العظيم: وقد كان هذا أعظم زاد تزود به إبراهيم عليه السلام، وأقوى سلاح تسلح به، حتى كان من أولي العزم من الرسل، فمع عناد قومه وإيذائهم له وردهم لدعوته ومحاربتهم لها، وفي مقدمتهم أبوه، وكانت العداوة منهم جميعاً لإبراهيم عليه السلام على كافة مستوياتهم، ولم يؤمن به أحد منهم، فصبر وصابر وجاهد، وأخبر الله تعالى عنه أنه أمة، قال عز وجل: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 2. - قوة الحجة: وهي نعمة عظيمة تفضل الله عز وجل بها عليه، فكان كثير ما يناظر قومه فيظهره الله عليهم، قال تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ

_ 1 انظر معالم التنزيل للبغوي 1/ 242. 2 الآية (120) من سورة النحل.

نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} 1. وهذه النعمة يؤتيها الله ويمتن بها على أنبيائه وأتباعهم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. - تنوع أساليب الدعوة وطرقها في دعوته: وهذا ظاهر في دعوته عليه السلام، فتارة بالاستدراج، كما فعل مع عباد الكواكب، وتارة بإقامة الأدلة الحسية على بطلان عبادتهم لغير الله، كما فعل بأصنامهم حين كسرها وعلق الفأس في رقبة كبيرهم، وأحياناً بالمناظرة كما فعل بالذي ادعى الربوبية، ومرة بإظهار الشفقة والخوف عليهم من العذاب كما فعل مع أبيه. وهذا التنويع مطلوب في الدعوة إلى الله تعالى حتى تصل إلى قلوب الناس، والدعاة محتاجون إلى هذه الأساليب لاختلاف أفهام الناس ومداركهم. - الولاء والبراء في دعوته عليه السلام: فقد كان إبراهيم في دعوته لهم وتنوعه أساليب هذه الدعوة، يظهر لهم في كل موقف أن ولاءه لله وحده لا شريك له وخوفه منه وحده، وبراءته منهم ومما هم عليه من الشرك والضلال، حتى جعل الله ذلك أسوة للمؤمنين من هذه الأمة: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ

_ 1 الآية (83) من سورة الأنعام.

إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} 1. وسبق الكلام عن ذلك عند الحديث عن دعوته أباه. وجاءت الآيات في أكثر من سورة تبرئ إبراهيم من الشرك، وتشهد له بالتوحيد، وهذا أول ما يجب أن يتحلى به كل داعية أن يعلن ولاءه لله تعالى، وبراءته من كل ما سواه، وهو كذلك أول ما يجب أن يتحلى به كل مسلم كما قال الله تعالى لرسوله محمدصلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} 2.

_ 1 الآية (4) من سورة الممتحنة. 2 الآيتين (162، 163) من سورة الأنعام.

المبحث الخامس: دعوة موسى عليه الصلاة والسلام

المبحث الخامس: دعوة موسى عليه الصلاة والسلام وهو نبي الله ورسوله موسى عليه الصلاة والسلام ابن عمران بن لاهب بن عازر بن لاوي بن يعقوب عليه السلام، قال الحافظ في الفتح: لا اختلاف في نسبه1. وهو أحد أولي العزم من الرسل، كليم الله ورسوله إلى بني إسرائيل، بعثه الله وقد طغى فرعون واستكبر في الأرض بغير الحق، وبلغ شره البلاد والعباد {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} 2. والطائفة المذكورة في الآية هم بنوا إسرائيل، وقد بلغ فرعون من الفساد والإلحاد والطغيان مبلغاً فاق به كل كفر وإلحاد، فقد ادعى الربوبية والألوهية على قومه، وأنه لا إله غيره، كما أخبر الله تعالى عنه: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} 3.

_ 1 انظر فتح الباري للحافظ ابن حجر 6/ 422. 2 الآية (4) من سورة القصص. 3 الآية (38) من سورة القصص.

وقال جل شأنه: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى} 1.وقال مهدداً لرسول الله موسى عليه السلام: {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لأجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} 2. فدعاه موسى عليه السلام إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وشد الله أزر موسى بأخيه هارون عليه السلام وأناط بهما دعوة بني إسرائيل وتخليصهم من عبودية فرعون وجبروته واستذلاله لهم، رغم ما بذله فرعون لصد هذه الدعوة والقضاء عليها منذ أن أخبره الكهان والمنجمون عن أمر موسى، ولكن الله تعالى غالب على أمره، وناصر رسله وأتباعهم، نصر موسى وهارون وأهلك فرعون وجنوده، وأورث بني إسرائيل الأرض من بعدهم: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} 3. وقد ذكر الله تعالى قصة موسى ودعوته في مواضع كثيرة من كتابه الكريم4.

_ 1 الآية (24) من سورة النازعات. 2 الآية (29) من سورة الشعراء. 3 الآيتان (5 – 6) من سورة القصص. 4 في سورة المائدة، والأعراف، ويونس، وإبراهيم، وطه، والمؤمنون، والشعراء، والنحل، والقصص، وغافر، والزخرف، والدخان.

والحديث عن موسى عليه السلام ودعوته طويل والمواقف فيه كثيرة، أكتفي بذكر أهمها: 1- تكليم الله تعالى له وبدء الرسالة: بعد أن قضى موسى الأجل الذي اتفق عليه مع صاحب مدين، وكان عليه السلام قد قضى أتم الأجلين وأكملهما، كما ورد عن سعيد بن جبير رحمه الله قال: "سألني يهودي من أهل الحيرة، أي الأجلين قضى موسى؟ قلت: لا أدري حتى أقدم على حبر العرب فأسأله، فقدمت فسألت ابن عباس فقال: "قضى أكثرهما وأطيبهما، إن رسول الله إذا قال فعل"1. بعد ذلك سار موسى عليه السلام بأهله في ليلة مظلمة مطيرة باردة، وتاهوا عن الطريق المألوف، وفي تلك الحال رأى ناراً عن بعد، في جانب جبل الطور، فأمر أهله بالمكوث وذهب يلتمس خبر النار، فلما وصل كان وعد الله في ذلك المكان، وسمع النداء الإلهي من الشجرة، وأراه ربه عز وجل من الآيات والمعجزات ماشاء سبحانه، وحصلت له أمور عظيمة في تلك البقعة، وهي: كلام الله عز وجل له، وجعله رسولاً، وإظهار المعجزات على يديه2. قال الله عز ووجل: {إِذْ قَالَ مُوسَى لأهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَاراً سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ

_ 1 البداية والنهاية لابن كثير 1/ 229. 2 انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير 3/ 387، 388، ومعالم التنزيل للبغوي 3/ 144، والبداية والنهاية لابن كثير 1/ 230 – 231.

أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} 1. وقال سبحانه: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ لأهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلإهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} 2. وقال جل شأنه: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ رَأى نَاراً فَقَالَ لأهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ

_ 1 الآيات من (7 – 14) من سورة النمل. 2 الآيات من (29 – 32) من سورة القصص.

يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} 1. وقال تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} 2. فقد بينت الآيات السابقة ما حصل لموسى عليه السلام بعد خروجه بأهله من مدين إلى مصر، وما رأى من آيات ربه تعالى إعداداً له تهيئة لحمل الرسالة، وما سيلاقيه في سبيلها. وفي فهم هذه الآيات زلت أقدام أقوام وانحرفت أفهامهم عن الطريق المستقيم في فهم كتاب الله تعالى، فزعموا أن الله تعالى خلق الكلام في الشجرة، وسمع ذلك موسى من الشجرة، لا أن الله سبحانه هو المتكلم فعلاً3.

_ 1 الآيات من (9 – 16) من سورة طه. 2 الآيات من (15 – 19) من سورة النازعات. 3 أول من أنكر تكليم الله تعالى لموسى هو الجعد بن درهم، الذي تتلمذ عليه الجهم ابن صفوان مؤسس الجهمية، وقد قتله – أي الجعد – خالد بن عبد الله القسري، فالجهمية ينكرون صفة الكلام حقيقة، ومنهم من يقر باللفظ ولكن يقول بأن الله خلق الكلام في غيره كقول المعتزلة الذين يقولون: إن الله تعالى كلم موسى حقيقة وتكلم حقيقة، وحقيقة الكلام عندهم أنه خلق الكلام في غيره كما خلقه في الشجرة حين كلم موسى. والأشاعرة يقولون: الكلام هو المعنى القائم بالنفس، والحروف والأصوات عبارة عنه. انظر: الفتاوى لابن تيمية 12/ 502 – 531، ودرء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 5/ 159-161 تحقيق د. محمد رشاد سالم، وشرح العقيدة الطحاوية ص 183، 184.

وهذا من الضلال المبين في فهم كتاب الله تعالى، ومن تقديم العقول العاجزة القاصرة عليه، إذ لم يفهموا معنى النداء، وأنه الكلام من بُعْد، كما لم يفهموا معنى قوله تعالى: {فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ} فأنت حين تقول: سمعت كلام فلان من البيت، ليس معنى ذلك أن البيت هو المتكلم. وكذلك ضلوا عن فهم ما بعد ذلك، فلو كان الأمر كما زعموا أن الكلام مخلوق في الشجرة، فمن الذي يقول: {يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} ؟ هل تقول ذلك الشجرة؟ وهل تقول: {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} ؟. وعلى فهمهم ففرعون لم يكن مخطئاً حين قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} وهذا من فساد العقول وانحراف الأفهام، نعوذ بالله من ذلك. قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: "وأما إطلاق القول بأن الله لم يكلم موسى، فهذه مناقضة لنص القرآن، فهو أعظم من القول بأن القرآن

مخلوق، وهذا بلا ريب يستتاب فإن تاب وإلا قتل، فإنه أنكر نص القرآن، وبذلك أفتى الأئمة والسلف في مثله، والذي يقول: القرآن مخلوق هو في المعنى موافق له، فلذلك كفره السلف"1. الموقف الثاني: بدء دعوة موسى عليه السلام ما تقدم ذكره مما حصل لموسى عليه السلام من آيات ربه سبحانه وكلامه له، كان تهيأة للمهمة العظيمة التي اختاره الله تعالى لها، وإشعاراً بالرسالة التي اصطفاه الله لحملها، وعدة له في دعوته فرعون وملأه. قد أدرك عليه السلام ثقل هذه المسئولية، وجسامة العبء، وشكى ذلك لربه سبحانه مع ما سلف منه من قتل القبطي، إضافة إلى ما يشعر به من عدم فصاحة اللسان ومشيراً إلى فصافحة أخيه هارون، فأوحى إليه ربه بأنه معه وناصره في دعوته ومؤيده في مسيرته. {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلإهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآياتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآياتِنَا

_ 1 ابن تيمية: الفتاوى 12/ 508.

بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلاَ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} 1. هذه الآيات البينات تحكي قصة دعوة موسى، منذ بدايتها ووعد الله له بالتأييد، ثم ما واجهه من فرعون من الطغيان والتكبر، فقد أعلن ادعاه للربوبية معارضاً به دعوة موسى عليه السلام ومستنكراً لها، ومتهماً أنها سحر مختلق من عند موسى، ثم كيف كانت نهايته وعاقبة تكذيبه لهذه الدعوة. وتكبره على رسول الله موسى عليه السلام واستخفافه بأمور الله، وله يوم القيامة عذاب وخزي فوق ذلك2. وكان موسى عليه السلام قد بدأه بتذكيره بعظمة الخالق سبحانه، مستدلاً ومذكراً لهم ببعض هذه الآيات التي يشاهدونها، وأن الذي أوجدها هو الإله الحق المستحق للعبادة وحده.

_ 1 الآيات من (32 – 40) من سورة القصص. 2 انظر دعوة الرسل للعدوي ص 274.

الموقف الثالث: مناظرة موسى لفرعون وقد قص الله تعالى في القرآن في أكثر من موضع مناظرة موسى عليه السلام لفرعون، وكيف كان فرعون يلجأ فيها إلى المكابرة والتهديد بالقوة والبطش، وهذه حيلة العاجز عن المناظرة. قال الله تعالى: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ قَالَ كَلاَ فَاذْهَبَا بِآياتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرائيلَ قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائيلَ قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لأجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ قَالَ

لِلْمَلأِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ} 1. لقد كانت هزيمة فرعون في هذه المناظرة من أول الوهلة، ولكنه كان يسترها بتجاهله لموسى عليه السلام، والامتنان عليه بما قام به من الإنفاق عليه يوم كان رضيعاً وطفلاً، وتذكير موسى بقتله الرجل القبطي، ثم بتجاهله ربوبية الله عز وجل، وإعلانه أنه هو الرب، وتهديد إن اتخذ إلهاً غيره، وتأييد بطانة السوء له في كل ما يقول. كل ذلك كان من فرعون تغطية لهزيمته التي أحس بها أمام موسى عليه السلام، وهو في قرارة نفسه يعلم أن الله تعالى هو الإله الحق، وهو رب العالمين سبحانه، كما بين الله تعالى ذلك بقوله: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} 2. وكما ذكره موسى عليه السلام بذلك بقوله: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلأ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} 3.

_ 1 الآيات من (10 – 40) من سورة الشعراء. 2 الآية (14) من سورة النمل. 3 الآية (102) من سورة الإسراء.

ثم كان من عجزه أن التجأ إلى بطانة السوء من حوله يستشيرهم في أمر موسى بعد أن أعلن لهم أنه ساحر، فأشاروا عليه بجمع السحرة، وكانت نتيجتها حجة أخرى على فرعون، وهزيمة لم يكن يتوقعها1. وهذه حالة كثير من الطغاة الذين يقفون أنفسهم على عداوة دعوة الله تعالى، وإيذاء حملتها، يلصقون بهم التهم، ويبررون لأنفسهم كل أنواع الانتقام منهم والاتهام لهم، وبطانة السوء تزين ذلك لهم، وتعينهم على الإثم والعدوان. الموقف الرابع: إسلام السحرة اتهم فرعون موسى عليه السلام بالسحر، واستشار ملأه في ذلك فأشاروا عليه بجمع السحرة من أنحاء البلاد، وكان السحرة منتشراً فيها، ثم التقوا بموسى عليه السلام في جمع مشهود، وفرعون يعدهم ويمنيهم، وموسى عليه السلام يعظمهم وينصحهم: {قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} 2. ولكنهم لم يستجيبوا، فقد ركبهم ما ركب فرعون من الطغيان. وتقابل الفريقان، وألقى السحرة ما عندهم من باطل، وألقى موسى عصاه بأمر ربه تعالى له، فإذا هي كما قال عز وجل: {تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} ،

_ 1 انظر تفسير ابن كثير 3/ 333. 2 الآية (61) من سورة طه.

وحين رأى السحرة ذلك علموا يقيناً أن ذلك ليس من صنع البشر ولا من صنع موسى، وإنما هو من الله وحده، عندها أعلنوا إسلامهم لله تعالى وتوحيدهم له وحده لا شريك له، وإيمانهم به، وإذا هم ينتقلون هذه النقلة الكبيرة العظيمة من عبودية فرعون لا إلى عبودية موسى، ولكن إلى عبادة رب موسى سبحانه الذي رأوا آياته تجري على يد موسى عليه السلام، وأعلنوا ذلك على فرعون ومن معه بعد أن خروا ساجدين لله تعالى: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} 1. وجن جنون فرعون، إذ جاءته الهزيمة من حيث أراد النصر، وقبل أن يتهدد ويتوعد يعلن السحرة تحديهم لذلك وثباتهم أمامه. قال ابن عباس وعبيد بن عمير: "كانوا أول النهار سحرة، وآخره شهداء بررة"2. قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَاناً سُوَىً قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحىً فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى

_ 1 الآيات من (46 – 48) من سورة الشعراء. 2 ابن كثير: البداية والنهاية 1/ 242.

قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} 1. لقد كان هذا أول انتصار لدعوة التوحيد التي جاء بها موسى عليه السلام، وأول هزيمة لشرك فرعون وكفره أمام ملائه، وعلى مرأى

_ 1 الآيات من (56 – 76) من سورة طه.

ومسمع كثير من الناس الذين جمعهم لشهود هذه المناظرة التي كان جازماً أنها لصالحه، وكان يتمنى لو أن ما فعله السحرة تم بإذنه، أو بعيداً عن أعين الناس، كما يفهم ذلك من قوله: {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} . ثم اتهم السحرة بالاتفاق مع موسى عليه السلام على ما حدث، وهو أمر مرفوض، إذ لم يكن موسى على معرفة ولا صلة بهم، إنما هذه التهم من فرعون حين أسقط في يده بإسلام السحرة، فمرة يعتب عليهم أنهم آمنوا قبل إذنه، ومرة يتهمهم بتآمرهم مع موسى عليه السلام، ثم يرجع إلى تهديده ووعيده، كل ذلك ليخفف على نفسه وقع الهزيمة المرة، ووقع المصيبة العظيمة، كما هو شأن الطغاة، إذا تكشف باطلهم وانفضح طغيانهم1. وكان إيمان السحرة مدعاة لافتضاح فرعون، لأنهم كانوا علماء لهم مكانتهم، فكان لإيمانهم ضجة كبرى، أحدثت في حاشية فرعون هزة عنيفة، وزلزالاً كبيراً {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} 2، 3.

_ 1 انظر: البداية والنهاية 1/ 239 – 240، وكتاب دعوة الرسل لمحمد أحمد العدوي ص 186. 2 الآيات من (53 – 56) من سورة الشعراء. 3 محمد بن أحمد العدوي – دعوة الرسل ص 257 – 258.

ولكن العبرة ليست بالكثرة أو القلة، بل باتباع الحق، فأتباع الحق هم الأكثرون ولو كانوا قليلي العدد، وهم الجماعة ولو كان واحداً1. الموقف الخامس: موقف ملأ فرعون من دعوة موسى عليه السلام ملأ فرعون هم بطانته وأعوانه وكبراء قومه الذين يعيشون حوله، يزينون له الباطل ويحببونه إليه، ويظهرون له الحق في صورة الباطل ويكرهونه إليه، ويتفانون في سبيل ذلك، خشية أن يكشف الحق باطلهم وكذبهم، لأنهم يعيشون على حساب غيرهم، ويعلمون أنهم لا بقاء لهم إلا مع بقاء الباطل، وهم في كل زمان ومكان، ومع كل رسول ونبي وداع ومصلح هم حجر عثرة في سبيل دعوة التوحيد سلاحهم الكذب والنفاق والوشاية بأهل الحق، والتحريض عليهم وتلفيق التهم حولهم2. وملأ فرعون من أشد هؤلاء فتنة، وأعظمهم شراً، وباختصار اذكر بعض مواقفهم من دعوة التوحيد التي جاء بها موسى عليه السلام: 1- الاستهزاء والسخرية بموسى ودعوته: وكان ذلك منذ بداية الدعوة حين قابلوا هذه الدعوة بالاستهزاء والازدراء بموسى، وكانوا ينفخون ذلك في فرعون، الذي كان يعتز بهم ويفاخر ويشاورهم في أمر موسى ودعوته. قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآياتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلإِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَلَمَّا جَاءَهُمْ

_ 1 انظر: البداية والنهاية لابن كثير 1/ 242، ودعوة الرسل للعدوي ص 278. 2 انظر المرجعين السابقين.

بِآياتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلآخِرِينَ} 1. فلقد كان لهؤلاء الملأ الدور الأول في وصول فرعون إلى ما وصل إليه من الطغيان والضلال، ولذلك ترى أنه لا يذكر فرعون إلا معه ذكر الملأ غالباً، لكثرة ملاحقتهم وملازمتهم له. 2- هم السبب في جمع السحرة حين شاورهم فرعون ظناً منهم أن في ذلك القضاء على موسى ودعوته، لكن الله غالب على أمره، فقد جاءهم عكس ما أرادوا وخططوا، إذ آمن السحرة على مشهد من الناس الذين اجتمعوا لذلك، وهذا ما لم يكن لفرعون وملائه في حسبان. 3- لم يكفهم ما كان من جمع السحرة وهزيمتهم في ذلك حين أعلن السحرة إسلامهم، بل بالغوا في عداوة موسى عليه السلام ودعوته

_ 1 الآيات من (46 – 56) من سورة الزخرف.

خوفاً على أنفسهم وطمعاً في مآربهم الدنيئة، فاستعدوا فرعون واستفزوه بأسلوب يعلمون تأثيره عليه، وهو زوال ملكه وسلطانه. قال الله جل شأنه: {وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} 1. لكن موسى تسلح بسلاح لا يغلب وأوصى قومه بذلك: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} 2. الموقف السادس: مؤمن آل فرعون كان من نصر الله عز وجل لموسى عليه السلام أن بعث له ناصراً من داخل أسرة فرعون، آمن به ولكنه كان يكتم إيمانه عن فرعون وملائه، وقد كان له موقف عظيم تجلى فيه النصح الخالص والحرص على موسى، والحكمة البالغة في وعظ فرعون وملائه، وبدأهم بقوله على وجه المشاورة لهم: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} 3. ثم تدرج في وعظهم يجمع لهم بين الترغيب والترهيب، ويخوفهم بزوال

_ 1 الآية (127) من سورة الأعراف. 2 الآية (128) من سورة الأعراف. 3 الآية (28) من سورة غافر.

ملكهم الذي هو أغلى ما يحرصون عليه، ويبين لهم أنه يدعوهم إلى النجاة والسعادة، بينما هم يدعونه إلى الشرك والكفر والهلاك، ويذكرهم بمن سبقهم من الأمم وكيف كان مصيرها1. قال الله تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} 2 إلى آخر الآيات. الموقف السابع: نهاية فرعون وقومه اشتد أذى فرعون وقومه لموسى ومن معه، وكان موسى يقابل ذلك بالصبر، ويوصي أتباعه بذلك، وبالتوكل على الله وحده، وأمرهم بوحي من الله تعالى أن يجعلوا بيوتهم قبلة، لتكون معروفة بينهم، وليتمكنوا من الصلاة فيها إذا اشتد عليهم الأذى. ثم أمره ربه تعالى بأن يسير ببني إسرائيل، فاشتد غيظ فرعون فتبعهم بقومه، فأدركهم قرب ساحل البحر، وكاد أتباع موسى عليه السلام أن ييأسوا حين رأوا البحر أمامهم والجبال تحيط بهم وفرعون وقومه يطلبونهم، وقالوا لموسى: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} ولكن موسى ذكرهم بالتوكل على

_ 1 انظر: البداية والنهاية 1/ 243 – 247. 2 الآية (28) سورة غافر، والآيات إلى آية (46) في شأن مؤمن آل فرعون.

الله تعالى وأنه معه سبحانه، وبوحي من الله تعالى ضرب موسى بعصاه البحر، فانفلق وجعل الله تعالى لهم طريقاً يبساً في البحر فسلكوه حتى دخلوا جميعاً، فانطبق عليهم بعد أن خرج موسى ومن معه، ولما رأى فرعون ذلك أدرك تمام الإدراك أنها لهلاك المبين نزل به وبمن معه، فأعلن ما كان يجحده من توحيد الله عز وجل والاعتراف له بالربوبية والألوهية، وأعلن توبته بعد فوات الأوان، ولم تقبل، وأخرج الله جسده ليكون عبرة وعظة، ووردت قصة هلاكه وقومه في أكثر من موضع من القرآن الكريم: {وجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرائيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} 1. وقال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرائيلَ فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلاَ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ

_ 1 الآيات من (90 – 92) من سورة يونس.

فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} 1. وبهذه النهاية والأليمة تنتهي حياة أكبر طاغوت نشأ على الأرض، وهي نهاية كل طغاة أعداء الرسل ودعوتهم إلى توحيد الله تعالى وعبادته وحده لا شريك له، ثم يوم القيامة يكون حال فرعون كما أخبر الله تعالى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ} 2. فنهاية أليمة في الدنيا وخزي عظيم يوم القيامة، نعوذ بالله من ذلك. الموقف الثامن: بنوا إسرائيل بعد خروجهم من البحر: بعد خروج بني إسرائيل من البحر ونجاتهم من فرعون وجنوده، وهلاك فرعون ومن معه بالغرق، وقد رأى بنو إسرائيل من آيات الله تبارك وتعالى ما يكفي لترسيخ الإيمان وعقيدة التوحيد في قلوبهم، وما بذله موسى عليه السلام من أجل ذلك، مع هذا كله ما أن تجاوزوا البحر، ورأوا قوماً لهم أصنام يعبدونها، يزعمون أنها تنفع وتضر حتى طلبوا من

_ 1 الآيات من (52 – 68) من سورة الشعراء. 2 الآيتان (98 – 99) من سورة هود.

موسى عليه السلام أن يجعل لهم إلهاً كما لأولئك آلهة، ولكن موسى رد عليهم بوصفهم بالجهل، وأي جهل أعظم من جهل من يتخذ آلهة من دون الله يزعم فيها النفع والضر من دون الله تعالى، وهكذا لا ييأس الشيطان من فتنة العبد عن دينه، فقد يجد الشيطان بعض النفوس الضعيفة، يحقق من خلالها أهدافه وآماله التي عاهد الله تعالى على تحقيقها، ولكن وجود الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام يفوت على الشيطان مراده، ويحمي الناس من خطر الشرك وأهله1. قال الله سبحانه: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرائيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} 2. وشبيه بهذا الموقف ذلك الموقف من أصحاب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهم في طريقهم إلى حنين وكانوا حدثاء عهد بكفر، فرأوا سدرة للمشركين يعلقون بها أسلحتهم يسمونها ذات أنواط، فطلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم مثلها، فذكَّرهم وشبه قولهم بقول بني إسرائيل لموسى.

_ 1 انظر: البداية والنهاية لابن كثير 1/ 259. 2 الآيات (138 – 140) من سورة الأعراف.

كما روى أبو واقد الليثي1 رضي الله عنه قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين، ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها، وينوطون بها أسلحتهم يقال لها ذات أتواط، فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الله أكبر، إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} لتركبن سنن من قبلكم" 2. وسيأتي الكلام عن ذلك إن شاء الله عند الحديث عن دعوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. الموقف التاسع: سؤال موسى رؤية ربه تعالى لما كلم الله تعالى رسوله موسى عليه السلام تطلعت نفسه أن يرى ربه سبحانه، فسأل الله تعالى ذلك، ولما كان موسى لا يطيق تحمل ذلك، أمره ربه تبارك وتعالى أن ينظر إلى الجبل، فسوف يتجلى الله تعالى للجبل، فإن بقي الجبل وثبت فلعل موسى عليه السلام يثبت لذلك، وإن لم يثبت مع كبره وقوته، فموسى من باب أولى، فما أن تجلى الله عز وجل للجبل حتى اندك على أوله، فلما رأى موسى ذلك لم يطق تحمله فخر مغشياً عليه،

_ 1 اسمه الحارث بن عوف بن أسيد بن جابر الليثي صحابي جليل شهد بدراً والفتح وحنين وغيرها من المشاهد والغزوات، توفي رضي الله عنه سنة 68 هـ وقيل: 85 هـ. انظر: الإصابة لابن حجر 4/ 212. 2 مسند الإمام أحمد 5/ 218، والترمذي في السنن 4/ 475، وقال: حديث حسن صحيح، وصححه الألباني. انظر: صحيح سنن الترمذي 2/ 235.

فلما أفاق أعلن توبته لربه تعالى معترفاً بضعفه وعجزه1. قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} 2. وقد فهم بعض المتكلمين من هذه الآية نفي رؤية المؤمنين لربهم في الدنيا والآخرة، وأن معنى قوله تعالى: {لَنْ تَرَانِي} يدل على ذلك، ومن هؤلاء الجهمية والمعتزلة3. وهذا تحريف لكلام الله عز وجل، وتأويل له بالباطل، والحق أن رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة ثابتة بالآيات الظاهرة والأحاديث المتواترة، قال الله عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 4. وقال سبحانه مخبراً عن حال الكفار يوم القيامة: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} 5. وقال

_ 1 انظر: تفسير ابن كثير 2/ 245. 2 الآية (143) من سورة الأعراف. 3 انظر: كتاب رسائل العدل والتوحيد 1/ 105، 106، وكتاب شرح أصول الخمسة للقاضي عبد الجبار ص 232 وما بعدها. 4 الآيتان (22، 23) من سورة القيامة. 5 الآية (15) من سورة المطففين.

جل شأنه: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} 1. والحسنى هي الجنة، والزيادة هي رؤيتهم ربهم عز وجل، كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه صهيب رضي الله عنه قال: "إذا دخل أهل الجنة الجنة قال: يقول الله تعالى: تريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقولون ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتجنبنا النار، قال: فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم، وهي الزيادة"2. ثم تلا هذه الآية: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} . وعن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما أن ناساً قالوا: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال:"هل تضارون في رؤية الشمس والقمر ليس دونهما سحاب؟ " قالوا: لا، قال: "إنكم ترون ربكم كذلك" 3. وعن جرير رضي الله عنه قال: كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القمر ليلة البدر فقال: "إنكم ترون ربكم كما ترون هذا القمر، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا" 4.

_ 1 الآية (2) من سورة يونس. 2 صحيح مسلم بشرح النووي 3/ 17. 3 البخاري مع الفتح 13/ 419، ومسلم بشرح النووي 3/ 25. 4 البخاري مع الفتح 13/ 419.

فهذه الأحاديث تدل دلالة لا تقبل الشك على أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة، وهذا من عظيم نعمة الله عز وجل على عباده المؤمنين يوم القيامة. أما ما استدل به من نفى الرؤية من قوله تعالى: {لَنْ تَرَانِي} فغير صحيح، فالله تعالى قال: {لَنْ تَرَانِي} ولم يقل لا أرى، أو لا تجوز رؤيتي، ثم لو كانت الرؤية غير ممكنة لما سألها موسى عليه السلام، وهو العالم بربه سبحانه، ولذلك لم ينكر عليه ربه سبحانه سؤاله، ولو كان باطلاً لأنكر عليه كما أنكر على نوح عليه السلام سؤاله في ابنه، وإنما بيَّن لموسى عليه السلام عدم قدرته على تحمل رؤيته تعالى في الدنيا، وعلق الرؤية بالجبل الذي لم يتحمل ذلك مع قوته، فكيف بموسى وهو البشر الضعيف أمام ربه تعالى، وإذا كانت الرؤية تجوز للجماد فهي للإنسان المؤمن أولى. و"لن" لا تدل على تأبيد النفي في الدنيا والآخرة، فإن الله عز وجل قال عن الكفار {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً} 1، ثم قال عنهم في الآخرة: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} 2. قال ابن مالك: ومن رأى النفي بلن مؤبداً ... فقوله أردد وسواه فاعضدا3

_ 1 الآية (95) من سورة البقرة. 2 الآية (77) من سورة الزخرف. 3 انظر: شرح العقيدة الطحاوية ص 189 – 194، ولوامع الأنوار البهية للسفاريني 2/ 240 وما بعدها.

الموقف العاشر: بنو إسرائيل وعبادة العجل لما ذهب موسى عليه السلام لميقات ربه سبحانه، استغل السامري غيبة موسى عليه السلام وجهل بني إسرائيل، وإِلْفَهم الوثنية أيام فرعون، فصنع لهم من حلي القبط الذي استعاره منهم هيكلاً على صورة العجل1، إذا مرت الريح من داخله أحدثت صوتاً يشبه خوار العجل، وقال لهم: إن هذا هو إله موسى نسيه هنا وذهب يبحث عنه في الطور، وبين لهم هارون أن ذلك كذب مفترى من السامري ليضلهم عن طريق التوحيد الذي جاء به موسى عليه السلام، ولكنهم أصروا على قبول ما جاء به السامري واستمرارهم على ذلك حتى يرجع موسى، وأخبر الله رسوله موسى بما فعل قومه من بعده، فرجع إليهم غاضباً آسفاً لما وقعوا فيه من الشرك بالله تعالى، الذي كان ينهاهم عنه ويحذرهم منه، وعوقب السامري بأن لا يمسه أحد ولا يمس أحداً في الدنيا. قال الله عز وجل: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ

_ 1 انظر: فتح القدير للشوكاني 2/ 247.

أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَبذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} 1. وقال جل شأنه: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي

_ 1 الآيات من (148 – 153) من سورة الأعراف.

قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلاَ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً} 1. وعجب أمر بني إسرائيل الذين ما كادوا يفلتون من قبضة فرعون وبطشه واستعباده لهم أنقذهم الله من الشرك والكفر إلى التوحيد والإيمان على يد رسوله عليه السلام، فإذا هم يريدون استبدال التوحيد بالشرك ويطلبون موسى عليه السلام إلهاً حين رأوا قوماً يعبدون الأصنام، ويغيب عنهم موسى بعض الوقت فيتخذون العجل إلهاً، ولما ذهب بهم إلى ميقات ربه ليعتذروا عما حصل منهم، قالوا لموسى: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، وذلك إِلْفهم الوثنية، وما تأصل في نفوسهم من المكر والخداع، وهو باق فيهم، فهم الذين حرفوا الكتب، وقتلوا الأنبياء والرسل، وهم أهل المكر والخداع قديماً وحديثاً.

_ 1 الآيات من (83 – 97) من سورة طه.

المبحث السادس: دعوة عيسى عليه الصلاة والسلام

المبحث السادس: دعوة عيسى عليه الصلاة والسلام وهو عيسى بن مريم ابنت عمران، عبد الله ونبيه ورسوله، أحد أولي العزم من الرسل، آخر الرسل قبل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وآخر الرسل من بني إسرائيل، وأمه مريم ابنت عمران، عليها وعلى ابنها السلام، كان أبوها عالماً كبيراً، وصاحب صلاة بني إسرائيل، وقدكانت مريم من العابدات1، وقصتها وقصة عيسى عليه السلام وولادته ودعوته قد قصها القرآن الكريم في أكثر من موضع2. وقد بعثه الله عز وجل إلى بني إسرائيل بعد أن انحرفوا عن منهج الله تعالى الذي جاء به موسى عليه السلام فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وذكر بما جاء به موسى عليه السلام من قبله من الهدى والبينات. وقد اخترت من دعوته عليه السلام عدداً من المواقف: 1- بدء دعوته عليه السلام ظهرت علامات نبوته ومظاهر فضله عليه السلام منذ ولادته، وجرت على يديه منذ صغره معجزات وانتشر خبره في الناس، واختاره الله تعالى

_ 1 انظر: البداية والنهاية لابن كثير 2/ 52. 2 منها: سورة آل عمران، وسورة المائدة، وسورة مريم، والزخرف، والحديد، والصف.

لرسالته، والله أعلم حيث يجعل رسالته1، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة التي اصطفاه الله لحملها، وجاء إلى بني إسرائيل وقد غيروا الشريعة التي جاء بها موسى عليه السلام، وحرفوا التوراة، فمنهم المكذبون المنكرون للبعث والحساب، ومنهم المنغمسون في لهوهم وملذاتهم المعرضون عن طاعة الله تعالى، فكانوا في أمس الحاجة إلى رسول من الله تعالى يعيدهم إلى جادة الصواب وينقذهم من الضلال والشرك، ويردهم إلى ما تركهم عليه موسى عليه السلام. وقد بين عيسى عليه السلام لبني إسرائيل دعوته التي جاء بها أول الأمر كما أخبر الله عنه: {وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} 2. بين لهم عيسى عليه السلام الذي جاء به، وأهم ذلك توحيد الله عز وجل إفراده بالعبادة فهو الصراط المستقيم الذي يسير عليه الأنبياء والرسل جميعاً ويدعون الناس إليه، كما جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أنا أولى الناس بابن مريم، والأنبياء

_ 1 انظر: نفس المصدر 2/ 72. 2 الآيتان (50 – 51) من سورة آل عمران.

أبناء علاة1، ليس بيني وبينه نبي" 2. وقال عز وجل: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} 3. واستمر عيسى عليه السلام في دعوته لبني إسرائيل، يبين لهم الحق ويدعوهم إليه، ويحذرهم العواقب الوخيمة لما هم عليه من الباطل والضلال إن لم يرجعوا عنه وكانت معارضتهم له على أشدها، وعداؤهم له ولأتباعه كذلك، والله عز وجل يؤيده بأنواع التأييد من حفظه له ولأتباعه، وإظهار المعجزات التي بهرتهم ووقفوا حائرين عاجزين أمامها، ورأوا أنها لا تصدر من مخلوق من عند نفسه. قال الله تعالى: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ

_ 1 أولاد العلات: الأخوة من الآباء أمهاتهم شتى. انظر: فتح الباري للحافظ ابن حجر 6/ 489. 2 البخاري مع الفتح 6/ 478. 3 الآيتان (46 – 47) من سورة المائدة.

فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 1. وقال جل شأنه: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَ سِحْرٌ مُبِينٌ} 2. ومن المعجزات التي آتاها الله تعالى رسوله عيسى عليه السلام، ما طلبه أتباعه الحواريون من إنزال المائدة، وقد نصحهم عيسى بأن يعدلوا عن سؤالهم، ولكنهم أصروا على ذلك فسأل الله تعالى ذلك فاستجاب الله تعالى له3، قال الله عز وجل: {إذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ

_ 1 الآيتان (48 – 49) من سورة آل عمران. 2 الآية (110) من سورة المائدة. 3 قيل: إن المائدة نزلت فعلاً. وقيل: إنها لم تنزل فقد عدل الحواريون عن طلبهم، حين عرض عليهم العذاب إن كفروا. وقيل: هي مثل ضربه الله. وكل هذه الأقوال مروية عن السلف. انظر: تفسير ابن كثير 2/ 116 – 118.

يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} 1. ومع هذه المعجزات العظيمات والآيات البينات فقد أصر قومه على ما هم فيه من الشرك والضلال، فأعلن عليه السلام في قومه: من أنصاري إلى الله فاستجاب له الحواريون وهم أنصاره، كما ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ندب الناس يوم الأحزاب فانتدب الزبير، ثم ندبهم فانتدب الزبير رضي الله عنه فقال النبي صلى الله عليه وسلم "لكل نبي حواري، وحواري الزبير" 2. قال الله عز وجل: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} 3. وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ

_ 1 الآيات من (112 – 115) من سورة المائدة. 2 صحيح البخاري مع الفتح 7/ 80، وصحيح مسلم بشرح النووي 15/ 188. 3 الآيتان (52 – 53) من سورة آل عمران.

مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} 1. وكما فعل عيسى عليه السلام فعل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حين أصر كفار مكة على ما هم عليه، فقد كان يعرض نفسه على القبائل في مواسم الحج، ويطلب منهم من يقبل دعوته ويؤيده حتى يبلغ رسالة ربه حيث أبتْ قريش ذلك، فأيده الله تعالى بالأنصار رضي الله عنهم جميعاً2. 2- عقيدة أهل الكتاب في عيسى عليه السلام: بين الله عز وجل أن عيسى بن مريم عليه السلام عبد من عباده اصطفاه لرسالته، وأنه كلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وقص ذلك وبينه لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم فقال سبحانه: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 3. ومما أمر الله تعالى عبده ورسوله عيسى عليه السلام أن يقول لقومه: {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} 4. وهي دعوة الأنبياء

_ 1 الآية (14) من سورة الصف. 2 انظر: تفسير ابن كثير 4/ 362. 3 الآيتان (34 – 35) من سورة مريم. 4 الآية (36) من سورة مريم.

والرسل جميعاً عليهم الصلاة والسلام، ولكنهم كانوا كما قال الله عز وجل: {فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} 1. ولقد ضل في عيسى بن مريم عليه السلام طائفتان: الأولى: اليهود عليهم لعنة الله تعالى عليهم الذين قالوا عنه: إنه ابن زنية، أخزاهم الله تعالى، فهو رسول الله تعالى الطاهر ابن الطاهرة مريم عليها السلام التي قال الله تعالى عنها: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} 2. وقال عنهم: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً} 3. والطائفة الثانية: التي قابلت اليهود في الكفر هم النصارى لعنهم الله تعالى، قالوا عنه: إنه الله تعالى، ومنهم من قال: ابن الله، ومنهم من قال: ثالث ثلاثة: الأب والابن والروح القدس، وقد توعد الله تعالى الطائفتين بقوله سبحانه: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} 4.

_ 1 الآية (37) من سورة مريم. 2 الآيتان (42 – 43) من سورة آل عمران. 3 الآية (156) من سورة النساء. 4 الآية (37) من سورة مريم.

وهدى الله عز وجل أهل الحق والإيمان إلى القول الحق في ذلك فقالوا: هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه. وقد أكذب الله تعالى النصارى وأخبر عن كفرهم بما قالوه في عيسى عليه السلام1، قال عز وجل: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 2.كما قال سبحانه: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 3. ثم بين سبحانه القول الحق في ذلك فقال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ

_ 1 انظر: تفسير القرطبي 6/ 249 –252، والبداية والنهاية لابن كثير 2/ 67، 68، ودعوة الرسل للعدوي ص 344. 2 الآية (17) من سورة المائدة. 3 الآيات (72 – 74) من سورة المائدة.

أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَ

_ انَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} 1. {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} 2. وقال جل شأنه: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} 3. وقد بيَّن رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم لأمته المنهج الحق والصراط المستقيم الذي ضلت عنه اليهود والنصارى في شأن عيسى عليه السلام، فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من شهد أن لا إله إلا الله

وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل"1. ونهى صلى الله عليه وسلم عن مشابهة النصارى، وحذر من الوقوع مما وقعوا من الغلو في عيسى عليه السلام، فقال: صلى الله عليه وسلم: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله"2. وسيأتي الكلام عن ذلك عند الحديث عن الإطراء والغلو إن شاء الله تعالى. رفع عيسى عليه السلام إلى السماء، وبطلان عقيدة الصلب بقي عيسى عليه السلام دائباً في دعوته، مجاهداً في سبيلها، يلاقي من بني إسرائيل الإعراض والصدود والأذى، مع ما أتاه الله من الحجج والآيات والمعجزات. بدأ الناس يقبلون على دعوته، وأتباعه وأنصاره المؤمنون بدعوته يزيدون يوماً بعد يوم، وتحرك في نفوس اليهود مكرهم المعهود، وأخذوا يتآمرون على عيسى عليه السلام لاستئصال دعوته والقضاء عليها، وعزموا على قتله، كما هو طبعهم وشأنهم مع أنبياء الله تعالى ورسله

_ 1 البخاري مع الفتح 6/ 414. 2 البخاري مع الفتح 1/ 478.

عليهم الصلاة والسلام، {فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} 1. ودخلوا عليه وهو عليه السلام جالس مع بعض أصحابه ليقتلوه، فألقى الله تعالى شبهه على بعض أصحابه ورفعه إليه وأخذ اليهود ذلك الشاب وقتلوه وصلبوه ظانين أنه عيسى، وضلوا في ذلك ضلالاً بعيداً2. قال الله عز وجل: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} 3. وللمفسرين في معنى قوله تعالى: {مُتَوَفِّيكَ} أقوال، أرجحها، أن المراد بالوفاة هنا النوم، كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} 4. وكما قال سبحانه: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} 5.

_ 1 الآية (87) من سورة البقرة. 2 انظر: البداية والنهاية لابن كثير 2/ 825. 3 الآية (55) من سورة آل عمران. 4 الآية (60) من سورة الأنعام. 5 الآية (42) من سورة الزمر.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من النوم يقول: "الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور" 1. وهذا يرجح القول بأن المراد بالتوفي النوم على قول من قال: إن الله أماته ساعات ثم أحياه، أو قول من قال: إن الله تعالى أماته ثلاثة أيام ثم أحياه، وغير ذلك من الأقوال2. وقد أكذب الله تعالى اليهود في زعمهم قتل عيسى عليه السلام فقال سبحانه: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} 3. فقد فضح الله تعالى كيد اليهود ومكرهم وكذبهم أنهم قتلوا عيسى، أما النصارى فمع كونهم لم يشاهدوا ذلك، فإن عامتهم قد سلموا بذلك، وضلوا فيه ضلالاً مبيناً، وصار الصليب شعار عبادتهم ورمز تعارفهم وتفاخرهم. نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان: سبق الكلام عن رفع عيسى عليه السلام إلى السماء، وسينزل عليه

_ 1 البخاري مع الفتح 7/ 16، ومسلم بشرح النووي 17/ 35. 2 انظر: تفسير ابن كثير 1/ 366، وأضواء البيان لمحمد الأمين الشنقيطي 1/ 245. 3 الآيتان (157 – 158) من سورة النساء.

السلام في آخر الزمان، ويقيم العدل في الأرض، ويحكم بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ويقتل الدجال، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويفرض الجزية، كما ثبت ذلك بالأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنها: ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً عدلاً، فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد" 1. ثم يقول أبو هريرة: واقرؤا إن شئتم {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلأَ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} 2. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً بين ظهراني الناس المسيح الدجال فقال: "إن الله ليس بأعور، ألا إن المسيح الدجال أعور العين اليمنى، كأن عينه عنبة طافية3، وأراني الله عند الكعبة في المنال رجلاً آدم4 كأحسن ما يرى من أُدم الرجال، يضرب لمته5 بين

_ 1 البخاري مع الفتح 6/ 490، ومسلم بشرح النووي 2/189. 2 الآية (159) من سورة النساء. 3 الحبة التي قد خرجت عن حد نبتة أخواتها فظهرت من بينها وارتفعت. وقيل: أراد الحبة الطافية على وجه الماء شبه عينه بها. النهاية لابن الأثير 3/ 130. 4 الأدمة البياض مع سواد المقلتين. المصدر السابق 1/ 32. 5 اللمة: من شعر الرأس دون جمة، سميت بذلك لأنها ألمت بالمنكبين، فإذا زاد فهي الجمة. انظر: المصدر السابق 4/ 273.

منكبيه، ورَجْل الشعر، يقطر رأسه ماء، واضعاً يديه على منكبي رجلين، وهو يطوف بالبيت، فقلت: من هذا؟ قالوا: هو المسيح بن مريم، ورأيت رجلاً وراءه قططاً1 أعور العين اليمنى، كأشبه من رأيت بابن قطن2، وضعاً يديه على منكبي رجل يطوف بالبيت، فقلت: من هذا؟ قالوا: المسيح الدجال" 3. وفي رواية البخاري: "بينما أنا نائم أطوف بالكعبة، وإذا رجل آدم سبط الشعر، يُهَوِّد4 بين رجلين، ينظف رأسه ماءاً، أو يهرق ماءاً، فقلت: من هذا؟ قالوا: هذا المسيح ابن مريم، فذهبت التفت فإذا رجل أحمر حسيم جعد الرأس، أعور العين اليمنى، كأن عينه عنبة طافية، قلت: من هذا؟ قالوا: الدجال، وأقرب الناس به شبهاً ابن قطن" 5. وعن النواس بن سمعان رضي الله عنه في حديث طويل عن الدجال وما يكون من أمره، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح بن مريم، فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق في

_ 1 القطط: الشعر القصير المستجد. 2 ابن قطن بن عبد العزى رجل من بني المصطلق من خزاعة هلك في الجاهلية على الصحيح. انظر: فتح الباري 13/ 98 – 100. 3 مسلم بشرح النووي 2/ 235، 236. 4 المشي الرويد المتأني. النهاية لابن الأثير 4/ 273. 5 البخاري مع الفتح 13/ 90.

مهروذين1، واضعاً كفيه على أجنحة ملكين، إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رفعه تحدر منه جمان2 كاللؤلؤ، ولا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات، ونفسه حيث انتهى طرفه، فيطلبه حيث يدركه بباب لد3 فيقتله، ثم يأتي عيسى ابن مريم قوماً قد عصمهم الله منه فيمسح عن وجوههم ويحدثهم عن درجاتهم في الجنة" 4. الحديث. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيف أنتم إذا نزل فيكم عيسى بن مريم وإمامكم منكم" 5. وهذه الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تدل صراحة على أن رسول الله عيسى عليه السلام سوف ينزل في آخر الزمان، ويقع منه ما أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وترد على الذين أنكروا ذلك، وقدموا عقولهم وتأويلاتهم الباطلة على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.

_ 1 تُروى بالدال المهملة والذال المعجمة، والمهملة أكثر: وهما ثوبان مصبوغان بورس ثم بزعفران، وقيل: هما شقتان والشقة نصف الملاءة. لسان العرب مادة: (هرد) . 2 الجمان: بضم الجيم وتخفيف الميم حبات من الفضة تصنع على هيئة اللؤلؤ الكبار، والمراد يتحدر منه الماء على هيئة اللؤلؤ في صفائه. انظر: المصدر السابق مادة: (جمن) . 3 بلدة قريبة من قدس. 4 مسلم بشرح النووي 18/ 67 – 68. 5 البخاري مع الفتح 6/ 491.

الفصل الثاني: دعوة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم

الفصل الثاني: دعوة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم المبحث الأول: حالة العرب قبل بعثته صلى الله عليه وسلم ... المبحث الأول: حالة العرب قبل بعثته صلى الله عليه وسلم العرب: هم ذرية إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، أسكن إبراهيم ابنه إسماعيل وأمه بمكة وتوجه إلى ربه قائلا: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} 1. وكان نزوله بإسماعيل وأمه إلى مكة وتركهما فيها بأمر ربه، روى البخاري رحمه الله عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "أول ما اتخذ النساء المنطق2 من قبل أم إسماعيل اتخذت منطقا لتعفى أثرها على سارة، ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه، حتى وضعهما عند البيت عند درجة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد وليس بها مار، فوضعهما هنالك، ووضع عندهما جرابا فيه تمر وسقاء فيه ماء، ثم قضى إبراهيم منطلقا، فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس به أنس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارا وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذا

_ 1 الآية 37 من سورة إبراهيم. 2 المنطق: بكسر الميم وسكون النون وفتح الطاء. وجمعه نُطق: بضم النون والطاء وهو ما يشد به الوسط. انظر فتح الباري 6/400، والقاموس المحيط 3/295.

لا يضيعنا، ثم رجعت، فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الدعوات ورفع يديه فقال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي ... إلى قوله: {يَشْكُرُونَ} 1. وكانت ولاية البيت في بني إسماعيل من بعده حتى انتزعتها قبيلة جرهم، ثم انتزعتها منهم خزاعة، ثم عادت إلى قصي وبنيه حتى بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبقي بنوا إسماعيل من بعده على دين إسماعيل وإبراهيم عليهما السلام زمنا، ثم بدأ الشرك يدب فيهم حينما خرج بعضهم من مكة وقد ضاقت بهم، فكان من أراد أن يسافر أخذ معه حجرا من الحرم تعظيما له، فأينما نزل وضعه وطاف به ثم خلف من بعدهم خلوف تمادى بهم الغلو فعبدوا هذه الحجارة وغيرها، حتى جاء عمرو الخزاعي2 فكان أول من جاء بالأصنام إلى مكة سواء منها ما جاء به من البلقاء أو التي كانت من عهد قوم نوح، فكان – أخزاه الله – أول من نصب الأوثان وغير دين إسماعيل وأول من سيب السوائب3. كما أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض

_ 1 البخاري مع الفتح، 3/396، 398. 2 هو عمر بن لحي بن حارثة بن عمر بن عامر الأزدي من قحطان أول من غير دين إسماعيل ودعا العرب إلى عبادة الأوثان، كنيته أبو ثمامة، وفي نسبه خلاف شديد. 3 السوائب: جمع سائبة، وهي التي كانوا يجعلونها لآلهتهم فلا يحمل عليها شيء، ولا تمنع من ماء ولا مرعى ولا تحلب ولا تركب. والسائبة: هي أم البحيرة. انظر النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 2/431.

أحاديثه فقال: "رأيت جهنم يحطم بعضها بعضا ورأيت عمرا يجر قصبه وهو أول من سيب السوائب" 1. وفي حديث آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار، كان أول من سيب السوائب ". فانتشرت عبادة الأصنام والأوثان في جزيرة العرب وعادت تلك الأصنام التي كانت في عهد قوم نوح مرة أخرى وظهرت في جزيرة العرب وعبدت من دون الله تعالى كما سبق أن ذكرنا ما أخرجه الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد: أما ود فكانت لكلب بدومة الجندل، وأما سواع فكانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد، ثم بني غطيف بالجرف عند سبأ، وأما يعوق فكانت لهمدان، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع، أسماء رجال صالحين من قوم ... الحديث"2. ولم تقتصر عبادة الأصنام في الجزيرة على هذه المذكورة في حديث ابن عباس رضي الله عنهما، بل ظهرت أصنام كثيرة وصارت عبادتها مسيطرة عليهم لا يرون الاستغناء عنها في حضر أو سفر، مع اعترافهم بوجود الله

_ 1 البخاري مع الفتح 6/547. 2 تقدم تخريجه ص 55.

تعالى ولكنهم كانوا يقولون كما قال الله تعالى عنهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 1 وكانوا كما سلف ذكره يحملون حجارة الحرم إذا سافروا خارجه، وأكثر من ذلك ما ورد في صحيح الإمام البخاري رحمه الله عن رجاء العطاردي قال: "كنا في الجاهلية إذا لن نجد حجرا جمعنا حثية من التراب وجئنا بالشاة فحلبناها عليه ثم طفنا بها "2. ودخلت عبادتها في كل دار، فجعلت لها صنما تعبده مع عبادة أصنامهم الكبيرة المشهورة، قال ابن إسحاق: "واتخذ أهل كل دار في دارهم صنما يعبدونه، فإذا أراد الرجل منهم سفرا تمسح به حين يركب، فكان ذلك آخر ما يصنع حين يتوجه إلى سفره، وإذا قدم من سفره تمسح به فكان ذلك أول ما يبدأ به قبل أن يدخل على أهله "3. وكانوا إذا أهلّوا بالتلبية قالوا: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك، فأشركوا مع الله غيره، فدعوا أصنامهم معه سبحانه، وجعلوا ملكها بيده. قال السهيلي: "وكانت التلبية من عهد إبراهيم: لبيك لا شريك لك لبيك حتى كان عمرو بن لحي، فبينما هو يلبي تمثل له الشيطان في صورة

_ 1 الآية 3 من سورة الزمر. 2 البخاري مع الشرح 8/90. 3 ابن هشام، السيرة النبوية 1/85.

شيخ يلبي معه، فقال عمرو: لبيك لا شريك لك، فقال الشيخ: إلا شريكا هو لك، فأنكر ذلك عمرو، وقال: وما هذا؟ فقال الشيخ قل: تملكه وما ملك، فإنه لا بأس بهذا، فقالها عمرو، فدانت بها العرب"1. وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يكره هذه التلبية وينكرها قبل أن يبعث، فقد أخرج الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان المشركون يقولون: لبيك لا شريك لك، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ويلكم قدٍ قدٍ"2، فيقولون: إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك، يقولون هذا وهم يطوفون بالبيت "3. قال ابن إسحاق: "واستبدلوا بدين إبراهيم وإسماعيل غيره، فعبدوا الأوثان، وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم قبلهم من الضلالات، وفيهم مع ذلك بقايا من عهد إبراهيم يتمسكون بها، من تعظيم البيت، والطواف به، والحج والعمرة، والوقوف على عرفة والمزدلفة وهدي البدن، والإهلال بالحج والعمرة، مع إدخالهم فيه ما ليس منه، فكانت كنانة وقريش إذا أهلّوا قالوا: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك"فيوحدونه بالتلبية، ثم يدخلون معه أصنامهم، ويجعلون ملكها بيده، يقول الله تبارك وتعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ

_ 1 أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله السهيلي، الروض الآنف 1/102. 2 قدٍ قدٍ: روى بإسكان الدال وكسرها مع التنوين ومعناه كفاكم. 3 صحيح مسلم بشرح النووي 8/90.

وَهُمْ مُشْرِكُونَ} 1 أي ما يوحدونني لمعرفة حقي إلا جعلوا معي شريكا من خلقي2. وقد بلغت عبادة الأصنام في جزيرة العرب مبلغا لم تبلغه من قبل، فأصنام خاصة وأصنام عامة وأحجار وأشجار وبيوت بل أدخلوها داخل الكعبة وعلقوها عليها وحولها، ومنها هبل الذي كان على صورة إنسان من ذهب داخل الكعبة أمامه القداح وأساف ونائلة وغيرها كثير. قال ابن الكلبي في كتاب الأصنام: "واستهترت3 العرب في عبادة الأصنام، فمنهم من اتخذ بيتا، ومنهم من اتخذ صنما، ومن لم يقدر عليه، ولا على بناء بيت نصب حجرا أمام الحرم، وأمام غيره مما استحسن، ثم طاف به كطوافه بالبيت، وسموها الأنصاب، فإذا كانت تماثيل دعوها الأصنام والأوثان، وسموا طوافهم الدوار، فكان الرجل إذا سافر فنزل منزلا أخذ أربعة أحجار فنظر إلى أحسنها فاتخذه ربا، وجعل ثلاثا أثافي لقدره، وإذا ارتحل تركه، فإذا نزل منزلا آخر فعل مثل ذلك، فكانوا ينحرون ويذبحون عندها ويتقربون إليها وهم مع ذلك عارفون بفضل

_ 1 الآية 106 من سورة يوسف. 2 أبو محمد عبد الملك بن هسام. السيرة النبوية 1/80. 3 الاستهتار بالشيء: الولوع والشغف به، فلان مستهتر بالشراب مولع به، ولا يبالي ما قيل، وكذلك يقال استهتر فلان فهو مستهتر إذا كان كثير الأباطيل. انظر لسان العرب لابن منظور5/250، وكل ما تقدم فمعناه يصدق على عباد الأصنام.

الكعبة عليها يحجونها ويعتمرون إليها "1. وأكثر ما كان عليه المشركون قبل بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام وفي مبعثه دعوى الشريك لله تعالى والولد، ولذلك جاءت آيات كثيرة في القرآن الكريم تنزه الله تعالى عن هذين الشركين، كقوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} 2. وكقوله سبحانه: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} 3 وسورة الإخلاص وآيات كثيرة أخرى في كتاب الله تعالى4. ولم يقتصر الشرك في جزيرة العرب على الأصنام المشار إليها، وإن كانت هي الكثرة الغالبة عليهم، بل وجدت بينهم ديانات وعبادات أخرى من أشهرها: الصائبة، وهم عبدة الكواكب والنجوم، ولكل جماعة أو قبيلة منهم كوكب يعبدونه ويتقربون إليه ويعتقدون أنها تنفعهم تضرهم. ومنها ما دب إليها من بلاد الفرس من عبادة المجوس واعتقاد في النار وعبادة لها وأكثر ما كانت في قبيلة تميم، ومعها كذلك تسربت الزندقة

_ 1 أبو المنذر هشام بن الكلبي. الأصنام ص 33. 2 الآية 100 من سورة الأنعام. 3 الآية 111 من سورة الإسراء. 4 انظر كتاب النبوات لابن تيمية ص 28 وما بعدها.

التي اعتنقها الدهريون الملحدون الذين لا يقرون بإله1 وهم كما قال الله تعالىعنهم: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} 2. ومنها المسيحية وقد دخلت على الجزيرة من بعض البلاد المجاورة من بلاد الشام والعراق ومن الحبشة إلى اليمن، ثم انتشرت في بعض نواحي الجزيرة ومنها طيء ودومة الجندل ونجران وغيرها، وقد بقيت في نجران حتى بعد بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث وفدوا عليه وفرض عليهم الجزية حيث لم يسلموا. أخرج الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه عن حذيفة رضي الله عنه قال: "جاء العاقب والسيد صاحبا نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدان أن يلاعناه3 قال: فقال أحدهما لصاحبه: لا تفعل فوالله لئن كان نبيا فلاعننا

_ 1 الدهريون: جماعة من معطلة العرب أنكروا الخالق والبعث والإعادة وقالوا بالطبع المحيي والدهر المفني. انظر الملل والنحل للشهرستاني 2/235، وكتاب تلبيس إبليس لابن الجوزي ص 63، وكتاب تاريخ العرب قبل الإسلام للدكتور السيد عبد العزيز سالم 1/427، وكتاب الجاهلية قديما وحديثا، أحمد أمين عبد الغفار ص 50. 2 الآية 24 من سورة الجاثية. 3 يلاعناه: أي يباهلاه وهو المراد بقوله تعالى: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} (آل عمران:61) .

لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا، قالا: إنا نعطيك ما سألتنا، وابعث معنا رجلا أمينا، ولا تبعث معنا إلا أمينا، فقال: "لأبعثن معكم رجلا أمينا حق أمين"، فاستشرف له أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "قم يا أبا عبيدة بن الجراح"، فلما قام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا أمين هذه الأمة" 1. ومنها: اليهودية التي وجدت في شمال الجزيرة في يثرب وخيبر ووادي القرى وفي جنوب الجزيرة في اليمن، ولكن على الرغم من وجود اليهود وتعايشهم مع العرب واشتغالهم بأنواع كثيرة من الحرف، فإن اليهودية لم تنتشر في العرب، ولعل من أسباب ذلك عدم اهتمامهم بنشر عقيدتهم، واعتقادهم أنهم شعب الله المختار كما يزعمون، واحتقارهم للعرب، وانشغالهم بجمع الأموال واحتكار الأعمال. وقد هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وبها ثلاث قبائل منهم وهم بنو قينقاع، وبنو قريظة وبنو النظير وقد عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أول ما قدم المدينة، ولكنهم نكثوا وغدروا كما هي سجيتهم، فكانت نهايتهم القتل أو الجلاء، حتى كان آخر جلائهم في خلافة عمر رضي الله عنه. ومع هذا الخليط من العقائد والديانات والوثنيات التي انتشرت في جزيرة العرب، مع هذا كله كانت جماعة من الناس قد نبذت هذا كله، ولم يكن له قبول عندها فترفعوا عما كان عليه المشركون والكفار من الكفر والضلال، وتمسكوا ببقايا من دين إبراهيم عليه السلام2، وقد

_ 1 البخاري مع الفتح 7/92، ومسند الإمام أحمد 1/18. 2 انظر: كتاب تلبيس إبليس لابن الجوزي ص 63، 64.

اجتمع عدد منهم وتشاوروا فيما عليه قومهم من الباطل وما الذي يجب عليهم للحفاظ على أنفسهم، فتفرق بعضهم في البلاد التماسا للحق، وهي الحنفية ملة إبراهيم، ولهذا فقد سمي هؤلاء بالحنفاء، والمتحنفين، وكان منهم من تنصر وكان عنده قسط كبير من علم أهل الكتاب، مثل ورقة بن نوفل، ابن عم خديجة بنت خويلد زوج النبي صلى الله عليه وسلم، الذي طمأنها بما نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان يتمنى أن يبقى ألى مبعثه ليناصره ويؤازره، وكان يستبطئ مبعثه ويقول: حتى متى؟ ومنهم زيد بن عمرو بن نفيل الذي بقي على ما هو عليه مما بقي من الحنفية ملة إبراهيم، وخرج إلى بلاد الشام والعراق يبحث فيها عن دين إبراهيم ثم عاد إلى مكة وكان يلوم قومه على ما يفعلونه من عبادة الأصنام والأوثان ومما قال في ذلك: أربا واحدا أم ألف رب ... أدين إذا تقسمت الأمور عزلت اللات والعزى جميعا ... كذلك يفعل الجلد الصبور فلا العزى أدين ولا ابنتيها ... ولا صنمي بني عمرو أزور ولا هبلا أدين وكان ربا ... لنا في الدهر إذا حلمي يسير عجبت وفي الليالي معجبات ... وفي الأيام يعرفها البصير بأن الله قد أفنى رجالا ... كثيرا كان شأنهم الفجور وأبقى آخرين ببر قوم ... فيربل منهم الطفل الصفير

وبينا المرء يفتر ثاب يوما ... كما يتروح الغصن المطير ولكن أعبد الرحمن ربي ... ليغفر ذنبي الرب الغفور فتقوى الله ربكم احفظوها ... متى ما تحفوظوها لا تبوروا ترى الأبرار دراهم جنان ... وللكفار حامية سعير وخزي في الحياة الدنيا وإن يموتوا ... يلاقوا ماتضيق به الصدور1 وأخرج الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه عن عبد الملك بن عمر رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي زيد بن عمر بن نفيل بأسفل بلدح2 قبل أن ينزل عليه الوحي، فقُدِّمت إلى النبي صلى الله عليه وسلم سفرة3 فأبى أن يأكل منها، ثم قال زيد: إني لست آكل مما تذبحون على أنصابكم4، ولا آكل إلا مما ذكر اسم الله عليه، وإن زيد بن عمرو يعيب على قريش ذبائحهم تذبحها على غير اسم الله، إنكارا لذلك وإعظاما له "5.

_ 1 أبو محمد عبد الملك بن هشام – السيرة النبوية 1/241، 242. 2 بلدح: فتح الباء، وسكون اللام والحاء: اسم موضع قرب مكة. 3 السفرة: طعام يتخذه المسافر، وأكثر ما يحمل في جلد مستدير، فاستعمل اسم الطعام إلى الجلد وسمي به كما سميت المزاده راويه وغير ذلك من الأسماء المنقولة، النهاية 2/373. 4 الأنصاب: جمع نصب بضم الصاد وسكونها: حجر كانوا ينصبونه في الجاهلية ويتخذونه صنما فيعبدونه. وقيل: هو حجر كانوا ينصبونه ويذبحون عليه فيحمر بالدم. النهاية 5/60. 5 البخاري مع الفتح 7/142، ومسند الإمام أحمد 3/69.

ومن هؤلاء قس بن ساعدة بن عمرو بن عدي بن مالك الأيادي، الذي كان يخبر عن قرب بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورآه الرسول صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وهو يخطب في سوق عكاظ1 يعظ الناس ويذكرهم، ويبشرهم ببعثته محمد صلى الله عليه وسلم، وكان أحد حكماء العرب وخطبائهم، أول من خطب متوكئا على سيف أو عصا، وأول من قال أما بعد.

_ 1 عكاظ: موضع بقرب مكة كانت تقام بالجاهلية سوق، ويقيمون فيه أيام. النهاية في غريب الحديث 3/284.

المبحث الثاني: بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم

المبحث الثاني: بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت الحال وقت بعثته صلى الله عليه وسلم امتدادا لتلك الحال التي كانت تعيشها جزيرة العرب ومن حولها، والتي أشرت إليها في المبحث السابق، بل زادت على ذلك حيث استحكم الشر وتغلغل الشرك والضلال وسرى الفساد، فوثنية جائرة ظالمة تتخذ الأحجار والأشجار آلهة مع الله، تدعوها وتحتكم إليها وتتقرب لها، ودهرية زنادقة لا يعرفون غير شهواتهم وأهوائهم، لا يؤمنون بشيء غير ما يرونه في هذه الحياة الدنيا، ومسيحية ضالة تقول على الله ما لم يقله أحد، وتتخذ رهبانها أربابا من دون الله تعالى، ويهودية ماكرة، مخادعة لا تعرف غير الغدر والخيانة، والاستغراق في جمع المادة من أي طريق وبأي وسيلة تتعالى على الناس وتحتقرهم، وعباد كواكب يعتقدون فيها التأثير في الكون، وجلب النفع ودفع الضر. وغير هذا من الشرك والكفر التي بلغ غايته ومنتهاه والناس مشتتون ممزقون بين هذه الأهواء والضلالات، كل حزب بما لديهم فرحون. وإلى جانب هذا الضلال المبين ذلك الانحراف والفساد الخلقي والاجتماعي من القتل والنهب والسلب وارتكاب الفواحش والمنكرات وشرب الخمور ووأد البنات وغير ذلك من الفساد الذي استحقوا به مقت الله وغضبه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "اعلم أن الله سبحانه بعث محمدا صلى الله عليه وسلم إلى الخلق على فترة من الرسل، وقد مقت1

_ 1 المقت: أشد البغض.

أهل الأرض عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب ماتوا أو أكثرهم قبيل مبعثه، والناس إذ ذاك أحد رجلين: إما كتابي معتصم بكتاب إما مبدل وإما منسوخ، ودين دارس، بعضه مجهول، وبعضه متروك، وإما أمي من عربي وعجمي، مقبل على عبادة ما استحسنه، وظن أنه ينفعه: من نجم أو وثن أو قبر أو تمثال أو غير ذلك، والناس في جاهلية جهلاء، من مقالات يظنونها علما وهي جهل، وأعمال يحسبونها صلاحا وهي فساد، وغاية البارع منهم علما عملا، أن يحصل قليلا من العلم الموروث عن الأنبياء المتقدمين قد اشتبه عليهم حقه بباطله1. وأخرج الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه بسنده عن عياض بن حمار المجاشعي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته وذكرها وفيها: "وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب، وقال إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك وأنزلت عليكم كتابا لا يغسله الماء تقرؤه نائما ويقظانا" 2 ثم ذكر بقية الخطبة. ولقد كانت تلك الفترة التي سبقت بعثة محمد صلى الله عليه وسلم فترة اختلطت فيها العقائد والأهواء والتبس الدين الحق على الناس، فتاهوا في الضلال وغرقوا في بحور الجهل، وبلغت مشاكل الناس حدا عجزت أماه كل الثقافات والعادات والأعراف عن حلها، وأصبحوا في أمس الحاجة إلى من ينقذهم

_ 1 ابن تيمية: اقتضاء الصراط المستقيم 1/63 ت د. ناصر عبد الكريم العقل. 2 صحيح مسلم بشرح النووي 17/197-198.

من هذا الهلاك الذي يحبط بهم ويأخذ بأيديهم إلى سبيل النجاة بعد ما أخذ منهم الباطل كل مأخذ، فأينما يممت وجدت الضلال والجهل ضارباً أطنابه، والناس سكارى يتخبطون في ذلك الظلام الحالك، الذي خيم عليهم، فهم أحوج ما يكونون إلى نور يهتدون به إلى السبيل القديم الذي يخرجهم من الظلمات إلى النور. وهذه سنة الله في خلقه إذ يسبق الفرج استحكام الضيق والكرب، ويسبق النور حلكة الظلام، ويسبق النصر شدة تبلغ بالقلوب الحناجر، وكلما اشتد الأول كان للثاني قوته ووقعه وقيمته، وبينما الناس يتجرعون هذا كله، إذ الفرج والنور والنصر يطل عليهم ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم. قال الشيخ محمد خليل هراس:"وبينما البشر على حالتهم هذه قد غرقوا في بحر لجي من الظلمات المتراكمة إذا بالنور المحمدي يشرق من مكة فيملأ الكون هدى وضياءً، سطع نور خاتم الرسل والأنبياء صلى الله عليه وسلم لينقذ البشر من هذا الجحيم الذي أججوه لأنفسهم ثم ألفوا العذاب فيه، ويقيهم من التردي في مجاهل الانحطاط البشري البهيمي، ويرشدهم إلى السبيل السوي للحياة يهديهم سبل السلام بإذن الله تعالى ويوضح لهم أسباب السعادة كاملة دنيا وأخرى "1. وشب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاش عمره ما قبل الأربعين في قومه مشهورا بينهم بالصدق والأمانة، لم يصبه شيء من دنس الجاهلية التي كان يغرق

_ 1 محمد خليل الهراس – دعوة التوحيد ص 262.

فيها قومه، وأولها الإشراك بالله تعالى، ثم تزوج بتلك المرأة المشهورة بمكانتها وعفافها – خديجة بنت خويلد – رضي الله عنها، فكانت له نعم المعاون والنصير1. وقبيل الأربعين من عمره زاد انتشار خبر بعثته وصارت حديث علماء أهل الكتاب، فيما يجدونه في كتبهم، وكثير من العرب الذين يسمعون ذلك منهم، كما قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ} 2 {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} 3 {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ} 4. كما أخذ الله الميثاق على النبيين من قبله إن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه، وأن يأخذوا هذا الميثاق على أممهم، قال تعالى:

_ 1 في هذا المبحث انظر المراجع الآتية: السيرة لابن هشام 1/249-254، والبداية والنهاية لابن كثير 1/284، 2/3، 4، ودلائل النبوة لأبي نعيم 1/275، ونور اليقين / محمد الخضري ص 25-27. 2 الآية 157 من سورة الأعراف. 3 الآية 6 من سورة الصف. 4 الآية 29 من سورة الفتح.

{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} 1. قال ابن عباس رضي الله عنهما: "ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهي حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ على أمته الميثاق، لئن بعث الله محمدا وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه "2. فيتضح مما سبق أن البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم كانت على ألسنة الأنبياء والرسل جميع، وقد كان من دعاء خليل الله إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام كما قص الله ذلك في القرآن الكريم فقال: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 3 وكانت بعثته صلى الله عليه وسلم حين بلغ من العمر أربعين سنة، وكان أول ما بدئ من ذلك الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا في نومه إلا جاءت كفلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء والبعد عن الناس، فكان يذهب إلى غار حراء خارج مكة وينقطع فيه الأيام والليالي يعبد الله على دين إبراهيم، ثم يعود إلى زوجه خديجة ويتزود لمدة أخرى ويعود إلى خلوته، حتى كان

_ 1 الآية 91 من سورة آل عمران. 2 ابن كثير – تفسير القرآن العظيم 1/378. 3 الآية 129 من سورة البقرة.

ذلك اليوم الذي أشرق فيه النور وبزع فجر الحق على العالمين، وهم في تلك الظلمة الحالكة والحيرة المتناهي، فجاءه رسول الله إلى أنبيائه ورسله، أمين الملائكة، جبريل عليه السلام مرسل من ربه إلى محمد صلى الله عليه وسلم ليلقى عليه أول أنوار هذه الرسالة التي بها نجاة الناس وفلاحهم وسعادتهم. ولنسمع كيف تصف عائشة رضي الله عنها بدء نزول الوحي عليه صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الإمام البخاري رحمه الله بسنده عنها رضي الله عنها أنها قالت: "أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي، الرؤيا الصادقة في النوم، وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء، فيتحنث فيه – وهو التعبد – الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: "اقرأ، فقال: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَم عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} 1 فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد، فقال: "زملوني"2، فزملوه حتى

_ 1 الآيات من 1-5 من سورة العلق. 2 التزميل: الإخفاء واللف في الثوب، وتزمل تلفف. انظر القاموس المحيط3/401.

ذهب عنه الروع، فقال لخديجة: - وأخبرها الخبر- "لقد خشيت على نفسي"، فقالت خديجة: "كلا، والله لا يخزيك الله أبدا- إنك لتصل الرحم، وتقري الضيف، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق"، فانطلقت به خديجة حتى أتت ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة، وكان امرأ قد تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني1، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي، فقالت له خديجة: يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي كان ينزل على موسى، ياليتني فيها حذعا، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أو مخرجي هم؟ " فقال: نعم، لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا" 2.

_ 1 وفي رواية أخرى للبخاري: يكتب الكتاب العربي، فكتب بالعربية. 2 البخاري مع الفتح 1/22.

المبحث الثالث: بدء دعوته صلى الله عليه وسلم

المبحث الثالث: بدء دعوته صلى الله عليه وسلم بعد نزول الوحي عليه صلى الله عليه وسلم بدأت شمس الهداية تسطع على البشرية تضيء لها الطريق إلى ربها، فمنهم من هدى الله، ومنهم من حقت عليه الضلالة، وقد جاء الأمر للرسول صلى الله عليه وسلم ليبدأ هذه المسيرة العظيمة التي سار فيها الأنبياء والمرسلون من قبله عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام، وكلهم كانوا لأممهم خاصة، أما محمد صلى الله عليه وسلم فقد جاء للناس جميعا كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} 1، {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعا} 2، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} 3، وقال عليه الصلاة والسلام: "وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة" 4. وجاء الأمر له من ربه عز وجل: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} 5. فبدأ عليه الصلاة والسلام دعوته سرا يفضيها إلى من يثق في قناعته وتصديقه وقبوله لهذا الدين، فسبق إليها أولئك السابقون الذين أكرمهم

_ 1 الآية 28 من سورة سبأ. 2 الآية 158 من سورة الأعراف. 3 الآية 107 من سورة الأنبياء. 4 البخاري مع الفتح من حديث جابر رضي الله عنه 1/435. 5 الآيات من 1-7 من سورة المدثر.

الله بالإيمان بهذه الرسالة، وأولهم أبو بكر الصديق، وخديجة زوجه صلى الله عليه وسلم وعلي بن أبي طالب وزيد بن حارثة، وبلال وغيرهم من السابقين رضي الله عنهم أجمعين، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم الإسلام أول ما يعلمهم نبذ عبادة غير الله وإخلاص العبادة لله وحده، وفي سرية من قريش لئلا يفتنوهم عن دينه، وبدأ هذا النور يسري وسط ذلك الظلام الدامس الذي يحيط به من كل جانب. قال ابن إسحاق: "ثم تتام الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مؤمن بالله مصدق بما جاء منه، قد قبله بقبوله، وتحمل منه ما حمله على رضا العباد وسخطهم، والنبوة أثقال ومؤنة، لا يحملها ولا يستطيع بها إلا أهل القوة والعزم من الرسل بعون الله تعالى وتوفيقه، لما يلقون من الناس، وما يرد عليهم مما جاءوا به عن الله سبحانه وتعالى، فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر الله، على ما يلقى من قومه من الخلاف والأذى "1 أ- دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة إلى التوحيد وموقف المشركين منها: تقدم الكلام عن دعوة الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام وأنها متفقة جميعا في الدعوة إلى التوحيد، بل كان أول ما دعوا إليه أممهم. قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 2.

_ 1 ابن هشام، السيرة النبوية 1/256. 2 الآية 36 من سورة النحل.

وبعث الله نبيه ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم خاتما للنبيين وجعل رسالته خاتمة الرسالات، فكانت الدعوة إلى التوحيد أول أمرها وأعظم مقصودها ومفتاح الدخول إليها، وعنيت به أعظم عناية، فكانت حياته صلى الله عليه وسلم كلها دعوة إلى التوحيد وجهادا في سبيله حتى بنى تلك القاعدة المتينة الراسخة من أصحابه رض الله عنهم في مكة قبل هجرته إلى المدينة ثم في المدينة بعد الهجرة، فآمنوا بها بصدق وحملوها بجد وتلقوا كل التكاليف بعد ذلك وهم في غاية الامتثال والخضوع والمحبة والطاعة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وبذلوا أموالهم وأنفسهم رخيصة في سبيل الله حتى دخل الناس في دين الله أفواجا، وبلغت هذه الدعوة أرجاء المعمورة، وشهد التاريخ منهم ما لم يشهده من قبل ولن يشهده من بعد، وأتت تلك الدعوة التي أسسها رسول الله صلى الله عليه وسلم في خلال الفترة المكية ثمارها اليانعة في المدينة، فجنى المؤمنون ثمارها إلى يومنا هذا وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وسأذكر فيما يلي نبذة عن دعوته عليه الصلاة والسلام في مكة وطبيعة هذه الدعوة وموقف المشركين منها. وقد سبق الكلام بالتفصيل عما كانت عليه الحال في جزيرة العرب قبل بعثته صلى الله عليه وسلم وتاريخ الشرك فيها، وأن جزيرة العرب وبما فيها قريش التي كانت لها ولاية البيت وضيافة الحجيج، كانت فيها صور شتى من الشرك من عبادة الأصنام والأوثان من أشجار وأحجار وعبادة الكواكب والنار، وديانة يهودية ونصرانية، مع وجود بقايا للحنفية ملة إبراهيم عليه السلام، وإن كانت الأصنام والأوثان تحتل المقام الأول عندهم، إلا أن جميع هذه

الأصناف كانت موجودة، وما لم يكن منها موجودا في قريش فقد كان موجودا عند غيرهم من العرب. طبيعة الدعوة إلى التوحيد في العهد المكي: أشرت في المبحث السابق إلى الحالة التي كان عليها المجتمع المكي خاصة والعربي عامة قبيل بعثته صلى الله عليه وسلم ووقته، وما كان من ألوان الشرك المختلفة، وصلت بالبشرية وقتئذ إلى دركات الضلال والفساد حتى مقتها الله تعالى، كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم إنه قال في إحدى خطبه: "وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء، تقرؤه نائما ويقظانا" 1. وفي هذا الوسط المخيف، والمجتمع المتخبط في دياجير الظلم سطع نور الهداية للبشرية ببعثته محمد عليه الصلاة والسلام، ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، ومن الضلال والحيرة إلى الهدى والرشاد، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يفضي بهذا الأمر ويدعو إليه من يثق به ويتوسم فيه القبول، فآمن به نفر كان لهم فضل السبق، وأولهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وخديجة بنت خويلد، وزيد بن حارثة رضي الله عنهم أجمعين، وسارت دعوة التوحيد هذا المسار مدة ثلاثة سنوات وآمن عدد من الناس من مختلف الطبقات ولكن أكثرهم من

_ 1 تقدم تخريجه ص 159.

الضعفاء والرقيق، والقرآن ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم مبينا هذه الدعوة داعيا الناس إليها ومحذرا لهم من مخالفتها. الجهر بالدعوة: ثم بعد ذلك جاء الأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بإعلان هذه الدعوة لجميع الناس كما قال تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} 1، وقال: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} 2 فأعلنها على الناس ودعاهم إلى عبادة الله وحده وحذرهم من عذاب الله إن هم أعرضوا، كما أورد ذلك الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه في عدة روايات منها: ما رواه بسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما نزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا فقال: "يا فاطمة بنت محمد، يا صفية بنت عبد المطلب، يا بني عبد المطلب لا أملك لكم من الله شيئا سلوني من مالي ما شئتم" 3. ما رواه بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل عليه {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} : "يا معشر قريش اشتروا أنفسكم

_ 1 الآية 94 من سورة الحجر. 2 الآية 214 من سورة الشعراء. 3 صحيح مسلم بشرح النووي 3/80-81.

من الله لا أغني عنكم من الله شيئا، يا بني عبد المطلب لا أغني عنكم من الله شيئا، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا، يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا، يا فاطمة بنت رسول الله سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئا" 1. وما رواه بسنده عن قبيصة بن المخارق وزهير بن عمرو2 قالا: لما نزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} قال انطلق نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى رضمة3 من جبل فعلا أعلاها حجرا ثم نادى: "يا بني عبد مناف إني نذير إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل رأى العدو فانطلق يربأ أهله فخشي أن يسبقوه فجعل يهتف ياصباحاه" 4. وما رواه بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ورهطك منهم المخلصين} 5خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد

_ 1 صحيح مسلم بشرح النووي 3/81. 2 قبيصة بن المخارق: هو ابن عبد الله بن شداد الهلالي أبو بشر، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه ولده قطن قال البخاري: له صحبة. انظر الإصابة 3/215. وزهير بن عمرو: هو الهلالي نزيل البصرة، قال البغوي: لا أعلم له إلا حديث الإنذار، انظر الإصابة 1/536. 3 الرضمة: واحة الرضم والرضام وهي دون الهضاب، وقيل صخور بعضها على بعض. 4 صحيح مسلم بشرح النووي 3/81. 5 قال النووي رحمه الله في شرحه هذا الحديث: "فظاهر هذه العبارة أن قوله: "ورهطك منهم المخلصين" كانت قرآنا أنزل ثم نسخت تلاوته، ولم تقع هذه الزيادة في روايات البخاري". المصدر السابق 3/83.

الصفا فهتف يا صباحاه، فقالوا: من هذا الذي يهتف؟ قالوا: محمد، فاجتمعوا إليه فقال: "يا بني فلان، يا بني فلان، يا بني فلان، يا بني عبد مناف، يا بني عبد المطلب"، فاجتمعوا إليه، فقال: "أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مصدقي؟ " قالوا: ما جربنا عليك كذبا، قال: "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد" قال: فقال أبو لهب: تبا لك أما جمعتنا إلا لهذا، ثم قام فنزلت هذه السورة {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} كذا قرأ الأعمش ... إلى آخر السورة "1 أساليب الدعوة: بعد إعلان الدعوة إلى توحيد الله تبارك وتعالى، بدأت الدعوة تأخذ موقف المواجهة مع مشركي قريش، وبدأت تقض مضاجعهم وتقلق راحتهم، فانبرى كثير منهم لمعارضتها وتلفيق التهم بأهلها، ولم يقفوا عند هذا الحد، بل امتدت أيديهم إلى المؤمنين بهذه الدعوة، ممن تحت أيديهم وغيرهم كذلك بأنواع من الأذى، وقابله أولئك المؤمنون بالصبر وقوة الإيمان ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصبرهم ويشد عزائمهم، والقرآن ينزل يدعو الناس إلى عبادة ربهم وحده ويبشرهم وينذرهم ويعدهم ويوعدهم ويقص عليهم أنباء الأمم الماضية ونجاة المؤمنين وهلاك الكافرين والمكذبين، مما نجده واضحا جليا في المكي من القرآن الكريم.

_ 1 صحيح مسلم بشرح النووي 3/83، 82.

وقد سلكت الدعوة في تلك الفترة سبلا كثيرة في الدعوة إلى التوحيد، ومنها: لفت النظر إلى الآيات الكونية المحسوسة والتذكير بنعم الله تعالى على عباده: وقد جاء ذلك كثيرا في آيات القرآن الكريم التي تدعو إلى النظر في آيات الله تعالى في الكون والتي تدل دلالة بينة على خالقها سبحانه وأنه المستحق للعبادة وحده، كما قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} 1 وكثيرا ما تأتي تلك الآيات مذيلة بطلب التفكر والتذكر والاعتبار بألوان من الأساليب البلاغية، كما تأتي أحيانا باللوم والتوبيخ والإنكار على من لم يتعظ بذلك أو يتفكر أو يعتبر. قال تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاّ بِشِقِّ الأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ

_ 1 الآية 53 من سورة فصلت.

وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} 1. ثم يقول تعالى عقب ذلك مباشرة: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} 2.

_ 1 الآيات من 3-16 من سورة النحل. 2 الآيات من 17-23 من سورة النمل.

فالله تعالى يذكر عباده ويلفت أنظارهم إلى ما أنعم به عليهم وسخره لهم من نعم، في السماوات والأرض والبر والبحر مما يعجزون عن عده ولا يستغنون عن شيء منه، ويدعوهم إلى التفكر والتدبر ليعلموا أن ذلك من ربهم وخالقهم الذي بجب عليهم أن يفردوه بالعبادة، إذ هو المستحق لها وحده، فكما أنه الخالق الرازق المحيي المميت وحده، فكذلك هو المعبود المتفرد بالعبادة وحده لا شريك له1. ومن الآيات التي تذكر العباد بنعم الله عليهم وتدعوهم إلى توحيد المنعم بها سبحانه وتنكر عليهم إعراضهم عن ذلك وغفلتهم عنه، ما جاء في سورة النمل، قال تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ

_ 1 انظر كتاب منهج القرآن في الدعوة إلى الإيمان للدكتور على ين محمد ناصر فقيهي ص 57 وما بعدها.

وَالأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} 1. فانظر كيف يدعوهم الله في القرآن إلى توحيد الله وإفراده بالعبادة، ويستدل لذلك ويحتج عليهم بما يرونه ويقرون به من توحيد الربوبية، وأن أحدهما لا يكفي عن الآخر، بل هما متلازمان كل منهما يقرر الآخر ويدعو إليه، ويعيب عليهم عبوديتهم لغير الله مع إقرارهم بربوبيته. ولو تتبعنا ما نزل في الفترة المكية في هذا الموضوع لطال الكلام، إذ السور المكية زاخرة بذلك تبين كيف كانت دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفترة منصبة إلى تقرير التوحيد وغرسه في قلوب الناس بألوان شتى من أساليب الدعوة، هذا الذي تقدم ذكره أحدها. ضرب الأمثلة: ومن الأساليب التي سلكها رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوة الناس إلى توحيد الله تعالى ضرب الأمثلة، وهو من الأساليب التي تقرب الحقائق إلى الأفهام فتظهرها في صورة المحسوس فيسهل فهمها وتزداد الحجة بذلك، وقد أنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم أنواعا من الأمثلة في القرآن الكريم ليبلغها للناس،

_ 1 الآيات من 59-66 من سورة النمل.

بيانا لهم لإقناعهم بخطأ ما هم عليه من الشرك والضلال، وأن ما يدعونه من دون الله باطل وضلال، وأنه تعالى هو المستحق للعبادة وحده دون ما سواه. ومن هذه الأمثلة: قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْد ُلِلَّه ِبَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} 1. جاء ضرب هذا المثل عقب قوله تعالى عن المشركين الذين كفروا بالله الذي بيده ملكوت كل شيء، ويتعلقون بالأصنام والأوثان لا تملك لنفسها ولا لهم نفعا ولا ضرا، {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} 2. ثم جاء ذكر المثل، وهذا دليل على جهلهم وضلالهم واتباعهم لأهوائهم وانظر كيف حتمت الآيتان بالشهادة عليهم بعدم العلم، فالآية الأولى ختمت بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} والثانية بقوله تعالى:

_ 1 الآية 75 من سورة النحل. 2 الآية 74 من سورة النحل.

{الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} ولا ريب أنهم كما قال الله عنهم لا يعلمون، أما الذين يعلمون فهم المؤمنون الموحدون لله تعالى كما قال عنهم: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ} 1 وقال: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} 2. قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً ... } الآية. قال ابن نجيح عن مجاهد: هو مثل مضروب للوثن وللحق تعالى، فهل يستوي هذا وهذا؟ ولما كان الفرق بينهما واضحا بينا لا يجهله إلا كل غبي قال الله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} 3 اهـ. ومن الأمثلة التي ضربها الله تعالى للناس وبلغها رسوله صلى الله عليه وسلم في دعوته الناس إلى توحيد ربهم، قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً

_ 1 الآية 18 من سورة آل عمران. 2 الآية 6 من سورة سبأ. 3 ابن كثير – تفسير القرآن العظيم 2/578.

لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} 1. فالله تعالى يبين لهم عجز هذه الأصنام والأوثان التي سموها آلهة، وهي لا تملك أن تخلق أضعف المخلوقات وأحقرها، فكيف يدعونها من دون الله ويرجونها لنفع أو ضر، وهذا لأنهم ما قدروا الله حق قدره. قال القرطبي عند تفسير هاتين الآيتين:"قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} هذا متصل بقوله: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانا} وإنما قال: ضرب مثل لأن حجج الله تعالى عليهم بضرب الأمثال أقرب إلى أفهامهم. ثم قال بعد ذلك: "وخص الذباب لأربعة أمور تخصه: لمهانته، وضعفه، واستقذاره وكثرته، فإذا كان هذا الذي هو أضعف الحيوان وأحقره لا يقدر من عبدوا من دون الله عز وجل على خلق مثله، ودفع أذيته، فكيف يجوز أن يكونوا آلهة معبودين وأربابا مطاعين، وهذا من أقوى حجة وأوضح برهان"2.

_ 1 الآيتان 73، 74 من سورة الحج. 2 أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري الرطبي – الجامع لأحكام القرآن – 12/96-97.

وقد تحداهم الله تعالى وهو خالق كل شيء في قوله تعالى لهم: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} 1. ووبخهم بقوله تعلى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} 2. وبعد هذا فلا خالق إلا الله وحده فهو المستحق للعبادة وحده {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} 3. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى ذلك ويبين لهم هذه الأمثال التي ضربها الله لهم، ولكن أكثرهم كانوا كما قال الله عنهم: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلاّ دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} 4. ومن الأمثلة المضروبة للدعوة إلى توحيد الله تعالى وبيان عجز الآلهة التي يدعون من دونه تعالى قوله سبحانه: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} 5.

_ 1 الآية 11 من سورة لقمان. 2 الآية 17 من سورة النحل. 3 الآية 102 من سورة الأنعام. 4 الآية 171 من سورة البقرة. 5 الآية 41 من سورة العنكبوت.

وهذا مثل عظيم في غاية الوضوح يبين جهل من يتخذ من دونه آلهة ويظن أنها تغني عنه شيئا، وبمثل هذه الأمثال المضروبة يتعظ كل عاقل لبيب، كما قال تعالى: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ} وقد ورد عن بعض السلف أنه قال: "ما مررت بآية من كتاب الله لا أعرفها إلا أحزنني لأني سمعت الله تعالى يقول وذكر الآية السابقة1. وما تقدم من الأمثلة وغيرها كثير في القرآن الكريم يبين نوعا من أساليب دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة إلى توحيد الله تعالى حرصا على هدايتهم للحق الذي جاء به ليخرجهم من الظلمات إلى النور، ومن الغي إلى الرشاد.

_ 1 انظر تفسير ابن كثير 3/414.

3- من أساليب الدعوة إلى التوحيد في الفترة المكية: - الدعوة إلى التوحيد، وتقرير الألوهية بالأدلة العقلية: جاء هذا الأسلوب كثيرا في القرآن الكريم – والمكي منه خاصة – وعرض للناس أنواعا كثيرة من الأدلة والحجج القلية الدامغة، ودعاهم إلى النظر فيها وتأملها، وليتبين صواب هذه الدعوة وفساد ما هم عليه، فيمنهم من هدى الله، ومنهم من حقت عليه الضلالة، كبرا وعنادا، وطاعة للهوى والشيطان، كما قال تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} 1. وقال سبحانه: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} 2. وهم في قرارة أنفسهم وباطن أمرهم يعترفون بصدق هذه الدعوة، ونفاذ أمرها، وقوة حججها، وثبات اتباعها. 1- ومن هذه الأدلة: قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} 3.

_ 1 الآية 33 من سورة الأنعام. 2 الآية 50 من سورة القصص. 3 الآية 22 من سورة الأنبياء.

وهذا الدليل هو المسمى لدى علماء الكلام (بدليل التمانع) وهو سلامة الكون من الخلل، وانتظام حركاته والاستدلال بذلك أنه من إله واحد. ومعناه: أنه لو كان في السماوات والأرض آلهة متعددة لأدى ذلك إلى اختلال نظام الكون، لأنه لا بد من حصول اختلاف وتباين في إرادة إله وإله آخر غيره، فيمتنع اجتماع الإرادتين للمتضاد بينهما، كما عدم حصول إرادتهما دليل على العجز والواجب لا يكون عاجزا، وإذا حصل مراد أحدهما دون الآخر كان الغالب هو الواجب والإله الحق، والآخر مغلوب ممكنا، والواقع يثبت صلاح الكون وانتظامه وسلامته من الخلل، وهذا دليل على وحدانية الله تعالى وبطلان ما سواه، وإنه لا معبود بحق إلا هو، وإن تعدد الآلهة يقتضي الفساد للكون ومن فيه1. والآية دليل على توحيد الألوهية لا على توحيد الربويبة كما يقول بعض المتكلمين، ومثلها قوله تعالى في هذه الآية: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} 2.

_ 1 انظر شرح العقيدة الطحاوية ص 87، 88، وكتاب منهج القرآن في الدعوة إلى الإيمان للدكتور على ناصر فقيهي ص 125-126. 2 الآية 91 من سورة المؤمنون.

2- ومن الأمثلة على الدعوة إلى التوحيد بالأدلة العقلية قوله تعالى في هذه الآية: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ} 1. وهذا من الأدلة العقلية التي تدعوهم إلى توحيد الله تعالى، فمن غير المقبول عقلا أن يوجدوا من غير موجِد وخالق، وكذلك من غير المقبول عقلا أن يكونوا أوجدوا أنفسهم، فالأمران مستحيلا عقلا، فتعين أن يكون هناك خالق متفرد بالربوبية على كل شيء قدير، وكما تفرد بالربوبية فمن لازم ذلك أن يتفرد بالألوهية وحده وبالأسماء الحسنى والصفات العلى، إذ ليس كمثله شيء سبحانه وتعالى. قال جبير بن مطعم:"لما سمعتها – أي هذه الآية – أحسست بفؤادي قد تصدع"2. والأمثلة لهذه الأدلة كثيرة جدا في الكتاب والسنة النبوية، والسور المكية حافلة بذلك، كسورة الأنعام ... وغيرها. - من أساليب دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى التوحيد في مكة: الاحتجاج عليهم بما يقرون به ويعترفون من توحيد الربوبية، وإن ذلك مستلزم لتوحيد الألوهية، وإلا فلا معنى لما يقرون به من توحيد الربوبية وقد جاء ذلك في آيات كثيرة من كتاب الله الكريم ومن أشد

_ 1 الآيتان 35، 36 من سورة الطور. 2 ابن تيمية – الفتاوى 1/11.

ذلك ما جاء في سورة النحل في آيات متتالية، وهو قوله تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 1. فبعد ذكر آيات ربوبيته سبحانه يعقب بذكر إلهيته في صورة سؤال لهم. فهم يعترفون بذلك كله الذي هو من خصائص ربوبيته سبحانه، كما أخبر الله عنهم في آيات أخرى، منها قوله تعالى في سورة المؤمنون: {قُلْ

_ 1 الآيات 59-64 من سورة النحل.

لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} 1 ولكنهم لم يعترفوا بألوهيته فلم ينفعهم ذلك. وكما في قوله سبحانه في سورة يونس: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} 2 وغير ذلك من الآيات. قال الإمام ابن كثير في تفسيره: "أي هم معترفون بأنه الفاعل لجميع ذلك وحده لا شريك له، ثم هم يعبدون معه غيره مما يعترفون أنه لا يخلق ولا يرزق، وإنما يستحق أن يفرد بالعبادة من هو المتفرد بالخلق والرزق، ولهذا قال: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} أي أإله مع الله يعبد؟ وقد تبين لكم ولكل ذي لب مما يعترفون به أيضا أنه الخالق الرازق "3

_ 1 الآيات 84-89 من سورة المؤمنون. 2 الآية 22 من سورة يونس. 3 الحافظ عماد الدين ابن كثير – تفسير القرآن العظيم 3/369.

ولكنهم مع اعترافهم بربوبيته سبحانه أبى عليهم كبرهم وعنادهم أن يعبدوه وحده، مع اعترافهم أيضا بأن معبوداتهم لا تغني بنفسها شيئا، كما قال الله عنهم: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 1. وكما كانوا يقولون في تلبيتهم: "لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك "وهذا غاية العناد والضلال وضعف العقول، ولهذا نعى الله عليهم عقولهم، ووصفهم بعدم العلم، وعدم الفهم والتذكر وغير ذلك من الصفات التي يتصف بها كل من حرم نعمة توحيد الله تعالى. هذه أهم الأساليب التي سلكها رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوته إلى التوحيد في المجتمع المكي، ولو ذهبنا نستقصي هذه الأساليب لطال الحديث عن ذلك، إذ الفترة المكية كانت كلها دعوة إلى التوحيد وإقرار الألوهية لله سبحانه وتعالى، خلال ثلاث عشرة سنة، لم يفرض فيها شيء من الفرائض إلا الصلاة في أواخر هذه الفترة، إذ التوحيد لله تعالى وإفراده بالعبادة أساس الإسلام وقاعدته، لا يقبل من أحد عبادة قبل تحقيق ذلك، وعلى هذا اتفقت دعوة الأنبياء والرسل جميعا عليهم الصلاة والسلام.

_ 1 من الآية 3 من سورة الزمر.

موقف المشركين في مكة من هذه الدعوة: وقف كفار قريش موقف العداء من هذه الدعوة وصاحبها عليه الصلاة والسلام من أول لحظة أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوته وبين لهم منهجه يوم وقف على الصفا ودعا قريشاً حتى اجتمعوا وبعد أن قررهم على صدقه، أعلن عليهم دعوته وقال: "إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد" طارت أول شرارة عداء من لسان عمه أبي لهب فقال له: تبا لك ألهذا جمعتنا؟ واستمر – أخزاه الله – في عداوته حتى أهلكه الله شر إهلاك وزهقت نفسه الخبيثة بعد مرض نفر لأجله منه أقرب الناس إليه، وفي الآخرة عذاب شديد، وأنزل الله فيه قرآنا يتلى إلى قيام الساعة يحمل له الويل والوعيد الشديد هو وامرأته: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} 1،2. وبدأت معه قريش في عداوتها وكيدها لهذه الدعوة وأهلها من أول خطوة من خطوات هذه الدعوة، ومارس كفار قريش للقضاء على هذه الدعوة وأهلها، أو صدهم عما هم عليه ألوانا من أساليب الأذى، وسلكوا لذلك سبلا مختلفة للوصول إلى ما أرادوا، وزاد ذلك حين رأوا

_ 1 انظر مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ص 60. 2 سورة المسد.

تزايد أعداد المؤمنين بهذه الدعوة وصاحبها يوما بعد يوم، واستعملوا كل وسائلهم وممارساتهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع المؤمنين، فلم يروا لها نتيجة تسرهم، بل زادت المؤمنين قوة وصلابة وتمسكا بإيمانهم، وصبرا على ما يلاقونه من الأذى، وأذن الله لهم بالهجرة إلى الحبشة فخرجوا إليها مرتين وآواهم النجاشي ملك الحبشة ونصرهم ورد عروض قريش وسفراءها وخيب آمالهم، فازداد أذاهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين في مكة، ومن ذلك ما فعلوه برسول الله صلى الله عليه وسلم إذ وضعوا عليه سلى الجزور وهو ساجد كما أخرج ذلك الشيخان بسندهما عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "بينا النبي صلى الله عليه وسلم ساجد وحوله ناس من قريش، جاء عقبة بن أبي معيط بسلى جزور فقذفه على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يرفع رأسه، فجاءت فاطمة عليها لسلام فأخذته من ظهره ودعت على من صنع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم عليك الملأ من قريش أبا جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأمية بن خلف – أو أبي بن خلف – شعبة الشاك"، فرأيتهم قتلوا يوم بدر، فألقوا في بئر، غير أمية بن خلف أو أبي تقطعت أوصاله فلم يلق في البئر" 1 وتآمروا على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاصروه وأصحابه في شعب أبي طالب وكتبوا صحيفة المقاطعة وعلقوها في الكعبة ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم على ذلك ثلاث سنوات وجدوا فيها من الشدة

_ 1 البخاري مع الفتح 7/165، ومسلم مع شرح النووي 12/53.

والضيق أقساه، فصبروا على ذلك، وسلط الله على صحيفة قريش الأرضة فأكلتها، وسعى بعضهم لفك هذا الحصار، وخرج رسول الله وأصحابه أكثر صبرا وأقوى عزيمة على نشر هذه العقيدة والجهاد في سبيلها1. إلى غير ذلك من أنواع الأذى المستمر المتواصل الذي لقيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم في سبيل دعوة التوحيد في تلك الفترة وفي ذلك المجتمع المعاند المكابر الذي صار يلاحق هذه الدعوة وأهلها ويشوه سمعتها وسمعة أهلها بين الناس، لما رأوا خطرها على أصنامهم وأوثانهم، وما قدموا لرسول الله صلى الله عليه وسلم من عروض مادية وغيرها في سبيل صده عن دعوته وما عرضوا من مصالحة يريدون عقدها معه صلى الله عليه وسلم حين يئسوا من قبوله أو التغلب عليه، فلم يجدوا لكل ذلك طريقا ولا مكانا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، فضاعفوا من عداوتهم ومكرهم وعنادهم، فوصفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة بأنه شاعر، ومرة بأنه ساحر، وكاهن، وتناقضوا في ذلك واضطربوا وأذوا أصحابه أشد الأذى مما لا يتسع المقام لذكره2. واستمر الحال على ذلك طيلة تلك الفترة المكية التي بلغت ثلاثة عشر عاما حتى أذن الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالهجرة إلى المدينة، فكانت

_ 1 انظر: دلائل النبوة للحافظ الأصبهاني ص 349، 349، وص 356-367. 2 انظر: السيرة لابن هشام 1/420 وما بعدها.

نصرا من الله لدينه ورسوله وخذلانا لأعدائه، وتحولا كبيرا في تاريخ هذه الدعوة التي بعث بها خاتم المرسلين إلى الناس أجمعين. ثمرات دعوة التوحيد في الفترة المكية: استمرت دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة قبل الهجرة ثلاث عشرة سنة كاملة كلها دعوة إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له وحده، ونبذ ما سواه، ولم تنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم تفصيلات الشريعة بل كانت هذه الفترة كلها تعالج قضية واحدة وهي قضية العقيدة والإيمان بالله تعالى، وما يتعلق بذلك من أمور هذه العقيدة وترسيخها في القلوب، ونزل أكثر القرآن الكريم في تلك الفترة في تقرير هذه الحقيقة ومعالجة هذه القضية التي هي أهم القضايا والغاية من إرسال الرسل، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 1. ولقد كانت هذه الفترة في مكة تربية لأولئك المؤمنين الأوائل، وتثبيتا لهذه العقيدة في قلوبهم، حتى رسخ فيها توحيد الله تعالى وحده والبراءة مما سواه، وتلك حكمة عظيمة من الحكيم الخبير آنت بعد ذلك ثمارها الطيبة بإذن ربها، ورأى الناس نتائج تلك التربية على توحيد الله التي غُرست وسُقيت في مكة وآتت أكلها طيبة على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأيدي أصحابه

_ 1 انظر كتاب منهج القرآن في تربية المجتمع للدكتور / عبد الفتاح عاشور ص 148.

صفوة الخلق بعد الأنبياء والرسل رضي الله عنهم ثم التابعين وأتباعهم بإحسان بعد ذلك. ومن أهم ثمرات تلك الدعوة والتربية في مكة: أولا: تلك العناية الفائقة والتربية الفريدة التي نالتها تلك الفئة من المؤمنين الأولين، فكان لها نوع مميز من التربية على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ رباهم هذه الفترة كلها على عقيدة التوحيد التي جعلت من أولئك المؤمنين في مكة قاعدة ثابتة راسخة انطلق منها الإسلام بعد ذلك إلى أرجاء الأرض، ولقد ظهرت الآثار الطيبة المباركة لتلك التربية المميزة على أولئك الأخيار الذين اختارهم الله تعالى لصحبه رسوله صلى الله عليه وسلم، وضربوا أروع الأمثلة في الصبر والشجاعة والإقدام والصدق والإخلاص والنصح لله تعالى ولكتابه ولرسوله صلى الله عليه وسلم في الحرب والسلم والشدة والرخاء، مما تزخر به كتب السير ويقرؤه الناس وكأنه ضرب من الخيال، ولكنه نتاج التربية على العقيدة الصحيحة التي كانت أول ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كانت أول ما دعا إليه إخوانه من الأنبياء والمرسلين عليهم صلوات الله وسلامه، الذين اصطفاهم الله واختارهم لحمل هذه الأمانة، وأدائها إلى الناس، والله تعالى أعلم حيث يجعل رسالته وقد سار على هذا المنهج القويم

اتباعهم وأنصارهم في حياتهم وبعدها طاعة لله تعالى ولرسله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً} 1. وهذه سبيل الناجحين، فمن رأى السلامة في غيره كان ممن قال الله فيهم: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} 2. ثانيا: ومن ثمار هذه الدعوة إلى توحيد الله تعالى في الفترة المكية ما حصل من غرس شجرة هذه العقيدة في قلوب أولئك المؤمنين غرسا يتناسب مع قوة هذه الرسالة وعظمتها وامتدادها مدى الحياة، فهي آخر الرسالات السماوية وخاتمتها، فكان حقا أن تأخذ الدعوة إلى هذه العقيدة وتثبيتها في قلوب المؤمنين بعد إزالة ما فيها من أدران الجاهلية، كان حقا أن تأخذ أكثر من نصف عمر هذه الدعوة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن ينزل فيها أكثر القرآن الكريم، وأن تعنى بترسيخ عقيدة التوحيد الخالص في قلوب المؤمنين فأخرجتهم من الظلمات إلى النور، ومن حضيض الباطل إلى علياء الحق، ومن رعاة للغنم إلى رعاة للأمم. والله غالب على أمره.

_ 1 الآيتان 69، 70 من سورة النساء. 2 الآية 115 من سورة النساء.

ثالثا: وثمرة ثالثة من أهم ثمار هذه الدعوة في مكة وهي: أن هذا التوحيد أول واجب على المكلف، ولولا ذلك لما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الوقت كله وهذا الجهد كله في أول عمر هذه الدعوة في دعوة الناس إلى ذلك، ولولا ذلك لما مرت تلك الفترة في مكة لم يؤمر المؤمنون بأمر ولم يكلفوا بتكليف غير أمر التوحيد والعقيدة، إلا فريضة الصلاة في أواخر هذه الفترة1. ولو كان غير هذا الأمر أولى بالدعوة والإصلاح منه لكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أسبق الناس إليه، فلقد بعث والناس في حال يرثى لها من الفساد والانحطاط الخلقي والاجتماعي والسياسي، ولوجد أنصارا كثيرين لو اتجه لإصلاح هذه المفاسد في ذلك المجتمع، ولكن ذلك لا يخرج الناس من ظلم ولا يخرج منهم رجالا تقوم عليهم رسالة للعالمين2. ولأهمية هذا الأمر كان أول ما دعا إليه الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وكان أول ما يطلب من العبد، وهو أول ما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر به رسله من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، كما قال صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا إلا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله" 3

_ 1 انظر: كتاب مصرع الشرك والخرافة – خالد علي الحاج ص 163. 2 انظر: كتاب منهج القرآن في تربية المجتمع، د. عبد الفتاح عاشور ص 149. 3 البخاري مع الفتح 1/496، 197، ومسلم بشرح النووي 1/206.

وكما قال عليه الصلاة والسلام حين بعث معاذا إلى اليمن: "إنك تأتي قوما من أهل الكتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم الأموال واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب" 1. وهذا هو سبيل الرسول عليه الصلاة والسلام في دعوته وسبيل أتباعه من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، كما قال تعال: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 2. وهذا أمر مهم غاية الأهمية يجدر بكل داعية وطالب علم أن يعنى به أتم عناية ويحذر من مخالفته لأي سبب كان من استحسان أو اتباع هوى أو إعجاب برأي أو تقليد أو غير ذلك، وقد عقدت لذلك مبحثا من هذه الرسالة.

_ 1 البخاري مع الفتح 3/261، ومسلم بشرح النووي 1/196، 197 واللفظ له. 2 الآية 108 من سورة يوسف.

ب- دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى التوحيد في المدينة: بعد أن قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الصحابة في مكة تلك الفترة في الدعوة إلى توحيد الله وسط ذلك الجو المليء بالعداوة والأذى الشديدين وقد أذن الله للصحابة في الهجرة فهاجر كثير منهم هجرتين إلى الحبشة، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، فلم يجد إلا كأذى أهل مكة أو أشد، واشتدت قريش في إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فأذن الله لرسوله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالهجرة إلى المدينة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قابل وفدين من أهلها في العقبة بمنى في موسم الحج، وعقد معهم البيعتين الأولى والثانية، فكان الإذن بالهجرة فرجا من عند الله للرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فبدأ الصحابة يهاجرون إلى المدينة حتى هاجر أكثرهم، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرا ومعه أبو بكر الصديق رضي الله عنه. وبهذه الهجرة النبوية الكريمة إلى المدينة تدخل الدعوة إلى توحيد الله تعالى مرحلة أخرى في إبلاغها للناس، وتمهيد السبيل لانتشارها، ووقوفها في وجه الأعداء، فلقد كان الشرك يبسط نفوذه ويُحكم سلطانه على الجزيرة العربية. ولم تنته عداوة المشركين للمؤمنين بالهجرة والخروج من مكة، بل ازدادت فقد رأى المشركين أن رسول الله وأصحابه قد قامت لهم دولة في المدينة، فبدأت قريش ومن شايعها تحيك المؤامرات والدسائس لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، بدأت منذ بدأ أصحابه في الهجرة وعزم عليه الصلاة

والسلام على الهجرة، فأحاطوا ببيته وحفظه الله منهم، ولما علموا بذلك جدوا في البحث عنه وجعلوا الجوائز لمن يأتي به، ولما نجاه الله من كيدهم واستقر في المدينة، صبوا على المستضعفين من المؤمنين الذين لم يقدروا على الهجرة إلى المدينة، ألوانا من الأذى والتنكيل، وبدأوا يفكرون في الانتقام من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهذه الدعوة في المدينة، وأذن الله تعالى لرسوله والمؤمنين بالقتال، وكان أول لقاء بين التوحيد والشرك في غزوة بدر الكبرى، التي ظهرت فيها قريش بشركها في غاية الفخر والخيلاء كما أعلنها أبو جهل – وقد أشير عليه بالعودة إلى مكة ما دامت العير قد نجت – فقال: "والله لا نرجع حتى نرد بدرا1 – وكان بدر موسما من مواسم العرب يجتمع لهم به سوق كل عام – فنقيم عليه ثلاثا، فننحر الجزور، ونطعم الطعام، ونسقي الخمر، وتعزف علينا القيان2، وتسمع بنا العرب، وبسيرنا جميعا، فلا يزالون يهابوننا أبدا بعدها، فامضوا"3.

_ 1 بدر: ماء مشهور بين مكة والمدينة أسفل وادي الصفراء. ويقال: إنه ينسب إلى بدر بن يخلد بن النظر من كنانة. وقيل: بل هو رجل من بني صخرة سكن هذا الموضع فنسب إليه ثم غلب اسمه عليه. وكانت موسما من مواسم العرب. انظر معجم البلدان لياقوت الحموي 1/357. 2 القيان: الجواري. 3 ابن هشام – السيرة النبوية 2/270.

فكانوا كما قال الله عنهم: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} 1. وقد كانت عزوة بدر الكبرى في السنة الثانية من هجرته عليه الصلاة والسلام في شهر رمضان أعز الله فيها جنده، وهزم أعداءه شر هزيمة، ولقنت الشرك والمشركين درسا، علموا من خلاله أن النصر والغلبة لا تنال بالخيلاء ولا قوة العدة أو كثرة العدد، ولقد أهلك الله في الغزوة صناديد الشرك والكفر الذين كانوا عقبة في سبيل هذه الدعوة يصدون الناس عنها، ويؤذون من آمن بها. ثم تتابعت الغزوات بين التوحيد والشرك بعد ذلك فكانت عزوة أحد في السنة الثالثة من الهجرة ثم الأحزاب في السنة الخامسة من الهجرة ثم صلح الحديبية في السنة السادسة من الهجرة إلى أن جاء الفتح الأعظم في السنة الثامنة من الهجرة، فلفظ الشرك في مكة أنفاسه وعلت كلمة التوحيد، وحطمت الأصنام وطهرت منها الكعبة المشرفة بيت الله، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحطم الأصنام التي على الكعبة وهو يتلوا قوله تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} 2.

_ 1 الآية 47 من سورة الأنفال. 2 الآية 81 من سورة الإسراء.

كما حُطِّمت الأصنام الأخرى المتفرقة في الجزيرة إذ بعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم من هدمها وحطمها أو أحرقها، ودخل الناس بعد ذلك في دين الله أفواجا كما قال تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابا} 1. وتحقق وعد الله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم في رؤياه، إذ يقول تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَهسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً} 2. ثم غزوة حنين عقب فتح مكة لقتال مشركي الطائف وهوازن وغيرهم، هذا إلى جانب الغزوات الأخرى والسرايا الكثيرة التي كان يبعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة تتبع فلول المشركين وتمهد الطريق لدعوة التوحيد حتى لا يبقى في الجزيرة صوت غير صوت الإسلام ولا عقيدة سوى عقيدة التوحيد. "ولقد كان لسقوط معقل الوثنية، وتسليم أهل مكة للجيش المنتصر، ودخولها في دين الله أثره في تلك القبائل التي وقفت متحفزة للهجوم، مستعدة للانقضاض والتي جربت قوة الإسلام، وثبات المسلمين، فإذا

_ 1 سورة النصر. 2 الآية 27 من سورة الفتح.

بالمسلمين صخرة صلبة لا تلين، لذا سارعت أكثر القبائل بالطاعة، وانضوت تحت لواء الدين الحنيف، وخاصة بعد هزيمة هوازن وثقيف، وبد أن أرهبوا جيوش الروم في تبوك، وأظهروا قوة الإسلام في كل مكان، وجاء العام التاسع، وخرج أبو بكر رضي الله عنه يحج بالناس، وحول البيت الذي تحطمت الأصنام من حوله، اجتمع المؤمنون والمشركون: للمؤمنين شعائرهم، وللمشركين عاداتهم وقبائحهم وضلالهم، ومثل هذا التناقض يأباه الإسلام، ولابد أن يضع له حدا، بعد أن علت راية الإيمان، لذلك كان لابد أن يمنع المشركين من دخول بيت الله الحرام، وأن يعلن عليهم الحرب الدائمة، حتى يستسلموا لأمر الله، إذا لا يؤمن لهم جانب ولا يبقى لهم عهد"1. وبعد هذا فقد آن الأوان للبراءة العامة من الشرك وأهله وإعلان ذلك على الناس جميعا، فبعد عودته صلى الله عليه وسلم من عزوة تبوك همَّ بالحج وذكر حضور المشركين الحج بما هم عليه من شرك وضلال فبعث أبابكر الصديق على الحج. قال ابن كثير رحمه الله عند تفسير الآيات الأولى من سورة التوبة وهي قوله تعالى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} إلى قوله: {الكَافِرِينَ} 2 قال: "وأول هذه السورة الكريمة نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم

_ 1 د. عبد الفتاح عاشور، منهج القرآن في تربية المجتمع ص 640. 2 الآيتان 1، 2 من سورة التوبة.

لما رجع من عزوة تبوك وهم بالحج ثم ذكر أن المشركين يحضرون عامهم هذا الموسم على عادتهم في ذلك، وإنهم يطوفون بالبيت عراة، فكره مخالطتهم، وبعث أبا بكر الصديق رضي الله عنه أميرا على الحج تلك السنة، ليقيم للناس مناسكهم، ويعلم المشركين أن لا يحجوا بعد عامهم هذا وأن ينادي في الناس {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} فلما قفل أتبعه بعلي بن أبي طالب ليكون مبلغا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لكونه عصبة له "1. وأعلن ذلك أبو بكر الصديق رضي الله عنه في المشركين، ثم تبعه علي رضي الله عنه وأعلن على الناس في منى ما نزل من آيات علىرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قوله تعالى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} 2 وآيات أخرى بعدها. أخرج البخاري رحمه الله بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "بعثني أبو بكر في تلك الحجة في المؤذنين بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى أن لا يحج بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، قال حميد بن

_ 1 ابن كثير – تفسير القرآن العظيم 2/331. 2 الآيات من 1-3 من سورة التوبة.

عبد الرحمن: ثم أردف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعلي بأبي طالب وأمره أن يؤذن ببراءة، قال أبو هريرة: فأذن معنا علي يوم النحر في أهل مني ببراءة، وأن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان"1. وبهذا أعلنت البراءة من المشركين في ذلك اليوم العظيم والموقف العظيم وانكسرت شوكة الشرك والمشركين وارتفعت كلمة التوحيد ورايته، وانفتح الطريق لهذه الدعوة لتصل إلى الناس تخرجهم من ظلمات الشرك إلى نور التوحيد، واستقرت في نفوسهم هذه الدعوة وهذا الدين، وتهيأت النفوس لقبول ذلك إيمانا وطاعة لله تبارك وتعالى واتباعاً لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الطريق القويم للدعوة الذي ينبغي لدعاة الإسلام أن يسلكوه في دعوتهم للناس، وهي دعوة الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام وإمامهم نبينا محمدصلى الله عليه وسلم الذي قال له ربه عز وجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 2. "إن الدعوة إلى التوحيد الخالص أساس كل إصلاح، فمن واجب دعاة الإصلاح أن يجاهدوا في تقويم العقائد، فإن العقائد السليمة مصدر كل خير، والعقائد الزائفة منشأ كل شر"3

_ 1 البخاري مع الفتح 8/317. 2 الآية 108 من سورة يوسف. 3 خالد محمد على الحاج، كتاب مصرع الشرك والخرافة ص 164.

وهكذا كانت دعوته صلى الله عليه وسلم إلى التوحيد في المدينة جهادا متواصلا باللسان والسنان، دعوة إلى هذه العقيدة ونشرا لها ودفاعا عنها وحماية لها، حتى انتشرت في أرجاء الجزيرة فعلا صوت التوحيد واختفى صوت الشرك ودخل الناس في دين الله أفواجا، ووقف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم حماة لهذه الدعوة وهذه العقيدة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبين لهم فضل الله عليهم بنعمة التوحيد وما للموحدين من عظيم الأجر ورفيع الدرجات عند ربهم، ويبين لهم خطر الشرك ويحذرهم منه ويسد كل طريق يوصل إليه، قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} 1. وقال سبحانه: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 2.

_ 1 الآية 164 من سورة آل عمران. 2 الآية 128 من سورة التوبة.

المبحث الرابع: التوحيد أول واجب على العبد

المبحث الرابع: التوحيد أول واجب على العبد التوحيد أول ما يجب على العبد معرفته والإقرار به، وأول ما فرضه على عباده، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 1. وقوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّه} 2. وقوله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا إلا إله إلا الله وإني رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله" 3. وقوله عليه الصلاة والسلام لما بعث معاذا إلى اليمن: "إنك تأتي قوما أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة ألا إله إلا الله فإن هم أطاعوك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة ... " 4 إلى آخر الحديث.

_ 1 الآية 36 من سورة النحل. 2 الآية 19 من سورة محمد. 3 تقدم تخريجه ص 197. 4 تقدم تخريجه ص 197.

والأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم كان التوحيد أو ما دعوا إليه أممهم التي أرسلهم الله إليها، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} . وقص الله علينا في القرآن الكريم دعوتهم فكان أول ما قالوا لأممهم: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} . فهو مفتاح دعوة الناس إلى ربهم، كما سبقت الأدلة على ذلك. وهو قبل ذلك الفطرة المستقرة في النفوس في الأصل، والانحراف أمر طارئ بسبب ما يقع فيه الناس من زيغ وضلال يفسد فطرتهم، عما فطروا عليه، والرسل عليهم الصلاة والسلام إنما جاءوا ليعيدوا الناس إلى ما فطرهم الله عليه من توحيده سبحانه كما قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} 1. وكما قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 2.

_ 1 الآيتان 172، 173 من سورة الأعراف. 2 الآية 30 من سورة الروم.

وفي الحديث: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه " 1. وفي الحديث الآخر: "خلقت عبادي حنفاء فأخذتهم الشياطين فاجتالتهم" 2 الحديث. قال صاحب معارج القبول: "أول واجب فرضه الله عز وجل على العبيد معرفة الرحمن، أي معرفتهم إياه بالتوحيد التي خلقهم له، وأخذ عليهم الميثاق به، ثم فطرهم شاهدين مقرين به، ثم أرسل به رسله إليهم، وأنزل به كتبه عليهم"3. وقال ابن قيم الجوزية رحمه الله: "ولما تغيرت فطر الناس بعث الله الرسل بصلاحها وردها إلى حالتها التي خلقت عليها، فمن استجاب لهم رجع إلى الأصل، ومن لم يستجب لهم استمر على تغيير الفطرة وفسادها4". وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى: "وقال أبو محمد عبد الله بن أحمد الخليدي في كتابه: "شرح اعتقاد أهل السنة" لأبي علي الحسين بن أحد الطبري، وهذا لعله ممن أدرك أحمد وغيره، قال الخليدي في معرفة

_ 1 تقدم تخريجه ص 51. 2 تقدم تخريجه ص 52. 3 حافظ بن محمد حكمي، معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول في التوحيد 1/53. 4 ابن قيم الجوزية – إغاثة اللهفان 2/158.

الله: "وهي أول الفرض الذي لا يسع المسلم جهله، ولا تنفعه الطاعة – وإن أتى بجميع طاعة أهل الدنيا – ما لم تكن معه معرفة وتقوى، فالمسلم إذا نظر في مخلوقات الله تعالى، وما خلق من عجائبه، مثل دوران الليل والنهار، والشمس والقمر، وتفكر في نفسه، وفي مبدئه ومنتهاه فتزيد معرفته بذلك، قال تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} 1. ثم يقول: "وقال شيخ الإسلام الأنصاري: في أول "اعتقاد أهل السنة وما وقع عليه إجماع أهل الحق من الأمة ": أول ما يجب على العبد معرفة الله، لحديث معاذ لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "إنك تقدم على قوم أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله، فإذا عرفوا الله – سبحانه – فأخبرهم أن افترض عليهم" الحديث رواه مسلم هكذا ورواه البخاري2. قال: فاعلم أن معرفة الله والإيمان به إنما يجب ويسمع، ويلزم بالبلاغ ويحصل بالتعريف. ثم قال بعد ذلك قلت: قد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قيل له: بماذا عرفت ربك؟ فقال: من طلب دينه بالقياس، لم يزل دهره في التباس، ضاعنا في الاعوجاج، زائغا عن المنهاج أعرفه بما عرف نفسه، وأصفه بما وصفه به نفسه"3 اهـ

_ 1 الآية 21 من سورة الذاريات. 2 صحيح البخاري مع الفتح 3/322، وصحيح مسلم بشرح النووي 1/196. 3 ابن تيمية، الفتاوى 2/2، 3 الحاشية.

ومعرفة الله التي سلف ذكرها المقصود بها توحيده سبحانه وتعالى أول ما يجب على العبد كما علم من الأدلة السابقة. ولا شك أن هذه الفطرة مستقرة في النفوس وما يطرأ عليها مما يحدثه شياطين الجن والإنس هو الذي يزيغ بها عن جادة الحق، ومهما بلغ الإنسان في الطغيان والكفر والعناد تبقى هذه الفطرة لا يستطيع القضاء عليها مهما كابر في ذلك، وتظل دلائلها تظهر وهو يشعر أو لا يشعر، كما قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} 1 وفرعون أعظم طاغية في البشر أنكر وجود الله، ودعا الناس إلى عبادته، وهدد موسى عليه السلام أن اتخذ إلها غيره، قال له موسى عليه السلام كما قص الله تعالى: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلاّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً} 2. ثم قال وهو في أحضان الموج وقد أدركه الغرق: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} 3.

_ 1 الآية 14 من سورة النمل. 2 الآية 102 من سورة الإسراء. 3 الآية 90 من سورة يونس.

والفطرة هي الإسلام، فطر الله عليه عباده، وأرسل الرسل عليهم الصلاة والسلام وأنزل الكتب لإزالة ما ران عليها من الباطل وتقويم ما اعوج، وحمايتها من كل فساد وانحراف، إذ الانحراف طارئ على الناسن حين تفسد فطرتهم التي فطرهم الله عليها1. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟ " 2. ثم يقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} 3. وتفسير الفطرة بالإسلام هو المعروف عند عامة السلف رضي الله عنهم، لما تقدم وغيره من الأدلة الكثيرة على ذلك من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. قال أبو هريرة: "الفطرة الإسلام" وكذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وقتادة وأحمد وابن عبد البر وغيرهم4.

_ 1 انظر: إغاثة اللهفان لابن قيم الجوزية. 1/106، 107، ومنهج القرآن في الدعوة إلى الإيمان للدكتور علي بن محمد ناصر فقيهي ص 39 وما بعدها. 2 البخاري مع الفتح 3/219. 3 الآية 30 من سورة الروم. 4 انظر: مجموعة الرسائل الكبرى، لابن تيمية 2/333.

ومع وضوح هذه الأدلة من الكتاب والسنة، وما ورد عن الصحابة رضوان الله عليهم والتابعين لهم بإحسان خلف من بعدهم خلف منهم من أعرض عن نصوص الكتاب والسنة وحكم عقله، ومنهم من علمها وأولها تأويلا باطلا ناتجا عن الفهم المعوج المخالف لفهم سلف هذه الأمة. ونتيجة لذلك فقد اختلفت أقوالهم وآراؤهم في أول واجب على المكلف اختلافا كبيرا، وأطالوا الكلام فيه. فمنهم من قال: أول واجب على المكلف المعرفة. ومنهم من قال: أول واجب النظر. ومنهم من قال: القصد إلى النظر. ومنهم من حاول الجمع بين ذلك فقال: أول واجب خطابا ومقصودا: المعرفة، وأول واجب اشتغالا وأداء: القصد إلى النظر. وأشهر من اختلف في هذه المسألة: الأشاعرة والمعتزلة، وأصلها من المعتزلة كما نقل عن أبي جعفر السنماني – وهو من كبار الأشاعرة – قوله: إن هذه المسألة بقيت في مقالة الأشعري من مسائل المعتزلة، وقد خاض في هذه المسألة خلق كثير، وفرعوا عليها بعض المسائل، وأطالوا في الكلام عنها، وخرج بعضهم عن الصواب فقال: أول واجب على العبد الشك والعياذ بالله. قال الحافظ ابن حجر- رحمه الله – في الفتح: "وأفضى الكلام بكثير من أهله إلى الشك، وببعضهم إلى الإلحاد، وببعضهم إلى التهاون بوظائف العبادات، وسبب ذلك إعراضهم عن

نصوص الشارع وتطلبهم حقائق الأمور من غيره، وليس في قوة العقل ما يدرك ما في نصوص الشارع من الحكم التي استأثر بها، وقد رجع كثير من أئمتهم عن طريقهم حتى جاء عن إمام الحرمين أنه قال: "ركبت البحر الأعظم وغصت في كل شيء نهى عنه أهل العلم في طلب الحق فرارا من التقليد، والآن فقد رجعت واعتقدت مذهب السلف " ... هذا كلامه أو معناه وعنه أنه قال عند موته: يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام، فلوا عرفت أنه يبلغ بي ما بلغت ما تشاغلت به.. إلى أن قال القرطبي: ولو لم يكن في الكلام إلا مسألتان هما من مبادئه لكان حقيقا بالذم: إحداهما: قول بعضهم: إن أول واجب الشك، إذ هو اللازم عن وجوب النظر، أو القصد إلى النظر، وإليه أشار الإمام بقوله: ركبت البحر. ثانيهما: قول جماعة منهم: أن من لم يعرف الله بالطرق التي رتبوها، والأبحاث التي حرروها لم يصح إيمانه، حتى لقد أورد على بعضهم إن هذا يلزم منه تكفير أبيك وأسلافك، وجيرانك، فقال: لا تشنع علي بكثرة أهل النار، وقد رد بعض من لم يقل بهما على من قال بهما بطريق من الرد النظري وهو خطأ منه، فإن القائل بالمسألتين كافر شرعا، لجعله الشك في الله واجبا، ومعظم المسلمين كفار حتى يدخل في عموم كلامه السلف الصالح من الصحابة والتابعين، وهذا معلوم الفساد من الدين بالضرورة وإلا فلا يوجد في الشرعيات ضروري.

وختم القرطبي كلامه بالاعتذار عن إطالة النفس في هذا الموضع لما شاع بين الناس من هذه البدعة، حتى اغتر بها كثير من الأغمار، فوجب بذل النصيحة والله يهدي من يشاء "1. والحق الذي دلت عليه الأدلة من الكتاب والسنة – كما سلف – أن أول واجب على المكلف التوحيد ومفتاحه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وهو الذي فهمه سلف الأمة رضوان الله عليهم والذين اتبعوهم بإحسان الذين رزقهم الله الفهم الصحيح والفقه في الدين، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. قال الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله في تعليقه على كتاب فتح الباري شرح صحيح البخاري: "الصواب ما ذكره المحققون من أهل العلم أو أول واجب هو شهادة ألا إله إلا الله علما وعملا، وهي أول شيء دعا إليه الرسل، وسيدهم وإمامهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أول شيء دعا إليه أن قال لقومه: "قولوا لا إله إلا الله تفلحوا". ولما بعث معاذا إلى اليمن قال له: فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله. ولأن التوحيد شرط لصحة جميع لعبادات كما يدل عليه قوله تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} "2.

_ 1 فتح الباري شرح صحيح البخاري – الحافظ ابن حجر العسقلاني 13/350. 2 صحيح البخاري مع الفتح 1/70.

الفصل الثالث: أنواع التوحيد

الفصل الثالث: أنواع التوحيد التوحيد ثلاثة أنواع: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات. وهذه الأنواع الثلاثة ترجع إلى قسمين هما: أولا: توحيد المعرفة والإثبات، وهو التوحيد العلمي الخبري: وهو معرفة الله وأسمائه وصفاته، وهذا يتضمن توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات. ثانيا: توحيد القصد والطلب وهو التوحيد الطلبي الإرادي: ويتضمن توحيد الألوهية. وفيما يلي نبذة عن أصل هذا التقسيم ثم تعريف بكل نوع من هذه الأنواع الثلاثة للتوحيد: أصل هذا التقسيم: هذا التقسيم للتوحيد ليس أمرا مستحدثا اخترعه بعض العلماء من عند أنفسهم، وإنما هو تقسيم يدل عليه القرآن الكريم نفسه، فمن يتدبر آياته يجد ذلك واضحا جليا من أول سورة من سوره وهي أم الكتاب، التي ما نزل في الكتب السماوية أعظم منها، فإنها وحدها تتضمن هذه الأنواع الثلاثة للتوحيد، وهي في الوقت نفسه تتضمن القرآن الكريم كله، فقد اشتملت على الأخبار عن الله تعالى وأسمائه وصفاته، والدعوة إلى إخلاص العبادة له سبحانه، وهذه هي أنواع التوحيد.

والقرآن كله اشتمل على هذه الأنواع وبينها في أكثر من سورة، بل القرآن توحيد كله، فهو إما خبر عن الله وأسمائه وصفاته، وهذا هو التوحيد العلمي الخبري الذي يتضمن توحيد الربوبية والأسماء والصفات، وإما دعوة إلى عبادة الله تعالى وحده لا شريك له والأمر بصرف العبادة له دون ما سواه، وهذا هو التوحيد الطلبي الإرادي الذي يتضمن توحيد الألوهية والعبودية، أو بيان حقوق التوحيد، وإكرام أهله وثوابهم، وأخبار الشرك وأهله وبيان جزائهم وعقابهم. ومن العلماء من كتب في ذلك واستنبطه وبينه ونص على هذه الأنواع، ومنهم أبو جعفر الطحاوي المتوفي سنة 321هـ الذي بين عقيدة أهل السنة والجماعة على مذهب الإمام أبي حنيفة وصاحبيه، أبي يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني فقال: "نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: إن الله واحد لا شريك له، ولا شيء مثله ولا شيء يعجزه، ولا إله غيره"1. وهذا الذي ذكره يشمل أنواع التوحيد الثلاثة فقوله: "لا شيء مثله": أي في أسمائه وصفاته. وقوله: "ولا شيء يعجزه "أي في ربوبيته، وهذا توحيد المعرفة والإثبات. وقوله:"ولا إله غيره"أي في ألوهيته، وهذا هو توحيد القصد والطلب.

_ 1 أبو جعفر الطحاوي، العقيدة الطحاوية 17-19.

ومنهم الإمام الحافظ أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى ابن مندة – رحمه الله – المتوفى سنة 395هـ في كتابه: "التوحيد ومعرفة أسماء الله عز وجل وصفاته على الاتفاق والتفرد"حيث قسم التوحيد إلى أربعة أقسام: توحيد الربوبية، توحيد الألوهية، وهو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، وتوحيد أسماء الله الحسنى، وتوحيد الصفات، فجعل أسماء الله الحسنى قسما، والصفات قسما آخر. ثم شارح الطحاوية ابن أبي العز الحنفي رحمه الله المتوفى سنة 746هـ يقول في شرح الطحاوية: "ثم التوحيد الذي دعت إليه رسل الله ونزلت به كتبه نوعان: توحيد في الإثبات والمعرفة، وتوحيد في الطلب والقصد1. وشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية، وقد بينا ذلك في غالب كتبهما أتم بيان وفصلا الكلام عنه، وكل ما يتعلق به، وصارت كتبهما مرجع كل مطلع وباحث في ذلك. وممن قسم التوحيد إلى الأقسام الثلاثة الشيخ ملا علي بن سلطان القاري الحنفي المتوفى سنة 1014هـ إذ يقول في شرحه الفقه الأكبر للإمام أبي حنيفة رحمه الله: "أقول: فابتداء الكلام سبحانه وتعالى في الفاتحة بالحمد لله رب العالمين، يشير إلى تقرير توحيد الربوبية المترتب عليه توحيد الألوهية المقتضي من الخلق تحقيق العبودية". ثم يقول بعد ذلك: "بل غالب سور القرآن متضمنة لنوعي التوحيد، بل القرآن كله من أوله إلى آخره في بيانهما وتحقيق شأنهما، فإن القرآن

_ 1 المصدر السابق ص 88.

إما خبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله فهو التوحيد العلمي الخبري، وإما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له وخلع ما يعبد من دونه فهو التوحيد الإرادي الطلبي، وإما أمر ونهي وإلزام بطاعة فذلك من حقوق التوحيد ومكملاته، وإما خبر عن إكرامه لأهل التوحيد وما فعل بهم في الدنيا، وما يكرمهم به في العقبى فهو جزاء توحيده، وإما خبر عن أهل الشرك وما فعل بهم في الدنيا من النكال، وما يحل بهم في العقبى من العذاب والسلاسل والأغلال، فهو جزاء من خرج عن حكم التوحيد، فالقرآن كله في التوحيد وحقوق أهله وثوابهم، وفي شأن ذم الشرك وعقوق أهله وجزائهم"1. ثم من بعده ممن قسم التوحيد إلى هذه الأقسام كل العلماء الذين نهجوا منهج سلف هذه الأمة ومن أشهرهم شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله مجدد القرن الثاني عشر الذي بين ذلك ودعا إليه وجاهد في سبيله ومن بعده أولاده، وأحفاده رحمهم الله. ومنهم العلامة محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني المتوفى سنة 1182هـ رحمه الله تعالى2، والعلامة محمد بن علي الشوكاني المتوفى سنة 1255هـ رحمه الله تعالى3، وغيرهم كثير من علماء السلف قديما وحديثا.

_ 1 ملا علي بن سلطان القاري الحنفي، شرح الفقه الأكبر ص 9-10. 2 انظر رسالة تطهير الاعتقاد لمحمد بن إسماعيل الصنعاني ص 270، مجموعة الرسالة الكمالية رقم 13. 3 انظر الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد ص 232 مجموعة الرسائل الكمالية رقم (3) .

المبحث الأول: توحيد الربوبية

المبحث الأول: توحيد الربوبية ومعناه: الاعتقاد بأن الله تعالى هو الرب المتفرد بالخلق والرزق، وأنه المالك المدبر الذي بيده ملكوت كل شيء، وهو توحيد الله تعالى بأفعاله1. وهذا النوع من أنواع التوحيد قد أقر به الكفار، وشهد لهم القرآن بذلك، ولكن ذلك لم ينفعهم شيئا فلم يخرجهم من الكفر ولم يدخلهم في الإسلام. قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} 2 وقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهم لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 3. وقال: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} 4.

_ 1 انظر تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد ص 33، ودعوة التوحيد للهراس ص 32. 2 الآية 79 من سورة العنكبوت. 3 الآية 61 من سورة الزخرف. 4 الآية 31 من سورة يونس.

وقال: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ َسَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} 1. والآيات في هذا كثيرة كلها تدل على إقرار الكفار واعترافهم بربوبية الله تعالى، ولكن ذلك لم ينفعهم شيئا إذ لم يعترفوا بألوهيته ويخلصوا له العبادة سبحانه. طريقة القرآن الكريم في إثبات الربوبية لله تعالى: القرآن الكريم آخر الكتب السماوية وناسخها، فكان لابد لأن يأتي مشتملا على الحجج والبراهين الواضحة والأدلة القاطعة التي تدعوا إلى الإيمان بالله وربوبيته وألوهيته لخلقه، وتقطع في الوقت نفسه شبه المعاندين وتحريف المنحرفين وزيغ الزائفين في كل زمان ومكان كما قال سبحانه: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْء} . وكما قال سبحانه: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} 2.

_ 1 الآيات من 84-89 من سورة المؤمنون. 2 الآية 88 من سورة الإسراء.

وقال سبحانه: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} 1. فلوا ظهر الإلحاد يوما في أي صورة وتحت أي شعار وجد في أدلة القرآن القاطعة وحججه الدامغة ما يكشف زيفه ويفضح باطله ويدحض حجته، ليأخذ بأيدي الناس إلى الحق المبين الذي يصلهم برب العالمين. وأدلة القرآن الكريم في بيان ربوبية الله تعالى لخلقه كثيرة: منها: 1- دليل الفطرة: وهذا أمر داخل الإنسان نفسه مستقر في قلبه، فهو مفطور على الإقرار بأن له خالقا، وهذا هو الأصل الذي فطر عليه البشر، وما يحصل من ضلال أو انحراف أمر طارئ على هذه الفطرة السليمة. قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} 2. فهذه شهادة أخذها الله على بني آدم وهم في عالم الذر أنه تعالى ربهم وخالقهم3، فاستقرت معرفته فطرة في قلوب البشر، وإن دنسها

_ 1 الآية 33 من سورة الفرقان. 2 الآيتان172، 173 من سورة الأعراف. 3 انظر: كتاب الدين الخالص لصديق حسن خان 1/391.

أو حجبها الباطل يوما ما، فإنها تظهر وتتجلى ويزول عنها هذا الحجاب والغشاوة إما إجابة ً لداعي الإيمان، أو تحت ضغط شدة ومصيبة، كما قال تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} 1. وقوله تعالى: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} 2. وقوله تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} 3. وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} 4. فالفطرة هي الأصل في البشر، والانحراف والضلال طارئ عليها بشهادة القرآن كما سبق، والأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها حديث

_ 1 الآية 22 من سورة يونس. 2 الآيات 63، 64 من سورة الأنعام. 3 الآية 32 من سورة لقمان. 4 الآية 201 من سورة الأعراف.

أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مولود يولد إلا على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه، أو يمجسانه" 1 ولم يقل يسلمانه لأن الإسلام موافق للفطرة. ومنها حديث عياض بن حمار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم فكان مما جاء في خطبته: "إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني في يومي هذا، كل مال نحلته (منحته) عبدا حلال، وأني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فأضلتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا" 2. بل إن توحيد الله تعالى أمر فطري كذلك، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 3. ولهذا كان قول الرسل عليهم الصلاة والسلام لأممهم: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} 4 وتجد أسلوب القرآن في آيات المعرفة الفطرية

_ 1 البخاري مع الفتح 3/219. 2 صحيح مسلم مع شرح النووي 17/197. 3 الآية 30 من سورة الروم. 4 الآية 10 من سورة إبراهيم.

أسلوب التذكير بهذه الفطرة التي فطر الله الناس عليها والتي لأجلها أشهدهم على أنفسهم في الأزل، وشهدوا بذلك1. 2- دليل الخلق والتدبير: تناول القرآن الكريم قضية الخلق والتدبير تناولا فريدا، وعني بتوجيه العقول إلى النظر في آفاق الكون وآيات الله الكثيرة، وأهاب بالعقل أن يستيقظ من سباته ليتفكر في ملكوت السماوات والأرض، وما أودع فيهما من الآيات، ويكرر القرآن ذلك في أساليب متنوعة ليرى هذا الإنسان ويسمع في آفاق الكون ما يقوده إلى الإيمان بخالقه سبحانه وتعالى ويعلم أن هذا الكون لم يكن وليد الصدفة كما يزعم الملحدون الجاحدون، بل هو صنع الله الخالق المدبر، المستحق للعبادة وحده لا شريك له. فوا عجبا كيف يعصى الإله ... أم كيف يجحده الجاحد وفي كل شيء له آي

_ ة ... تدل على أنه واحد2 وقد جاء الحديث في القرآن الكريم عن قضية الخلق في أغلب سوره عن خلق الإنسان وخلق السماوات والأرض والجبال والأنعام وغير ذلك

من الآيات وبين ما فيها من عجائب وحكم وإحكام ودقة نظام، وهي آيات كثيرة يضيق المقام عن حصرها والإحاطة بها. ومن هذه الآيات قوله تعالى عن خلق الإنسان: {فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} 1. وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً} 2. وقوله سبحانه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} 3. ودعا سبحانه إلى التفكير في الخلق المتقن المتناسق فقال: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} 4.

_ 1 الآيات من 5-7 من سورة الطارق. 2 الآية 5 من سورة الحج. 3 الآياتمن 12-14 من سورة المؤمنون. 4 الآية 21 من سورة الذاريات.

وقال: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} 1. وقال: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُون} 2. ومنها قوله تعالى عن خلق السموات والأرض: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} 3. وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} 4. وقوله سبحانه: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعاً لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} 5.

_ 1 الآية 53 من سورة فصلت. 2 الآية 6 من سورة الزمر. 3 الآيتان 163، 164من سورة آل عمران. 4 الآية 41 من سورة فاطر. 5 الآيات من 27-33 من سورة النازعات.

وقوله تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 1. وقوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآياتٍ لِقَوْم يَعْقِلُونَ} 2. وهذه قد جمعت مع خلق السموات والأرض آيات أخرى من آيات الله تعالى التي يراها البشر ويحسونها تتجلى فيها عظمة خالقها سبحانه، وآيات كثيرة تجمع عددا كبيرا من آيات الله تعالى ويعرضها القرآن للناس دلائل على الخالق سبحانه وعظمته وتدبيره وعنايته وأنه خالق كل شيء ومالكه وهو المستحق للعبادة وحده لا شريك له. ومن هذه الآيات قوله سبحانه: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُون وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ

_ 1 الآية 57 من سورة غافر. 2 الآيتان 163، 164 من سورة البقرة.

مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} 1. ومنها قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} 2. فبعد أن ذكر بعض آياته ونعمه بالتخصيص ذكرهم بأنه هو خالقها وخالقهم وخالق كل شيء وغيره ليس له شيء من ذلك، ثم ذكر عموم نعمته عليهم وعجزهم عن الإحاطة بها، ثم قال بعد ذلك: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ

_ 1 الآيات 37-40 من سورة يس. 2 الآيات من 10-18 من سورة النحل.

مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُون إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونََ} 1. والآيات في هذا كثيرة جدا ومعظم السور المكية مليئة من هذه الآيات لمن تدبرها، كلها تبين آياته سبحانه ومخلوقاته وعظيم نعمته بذلك، وتدعوهم إلى التفكر في ذلك والتدبر، وأن هذه المخلوقات والآيات العظيمة لها خالق مدير عظيم، وأن غيره لا يملك من ذلك شيئا فكلهم مربوبون مخلوقون، وأنه سبحانه هو المستحق للعبادة سبحانه دون ما سواه، وقد أمر الله الناس بالنظر في هذا الملكوت الكبير وما فيه من الآيات العظيمة، أمرهم بذلك في آيات كثيرة من كتابه الكريم، وذم من لم ينظر في ذلك ويتفكر ليقوده ذلك إلى معرفة ربه الخالق المدبر ليعلم أنه المستحق للعبادة وحده. ومن هذه الآيات قوله تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} 2. وقوله: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 3.

_ 1 الآيات 20 – 22 من سورة الحج. 2 الآية 101 من سورة يونس. 3 الآية 20 من سورة العنكبوت.

وقوله: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} 1. وقوله: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} 2. المنكرون لربوبية الله تعالى: سبق الكلام على أن معرفة الله تعالى والإقرار به أمر فطري، وأن الله قد أخذ الميثاق علىعباه وهم في الأزل وهم في عالم الذر أنه ربهم فشهدوا بذلك على أنفسهم كما قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} 3.

_ 1 الآية 185 من سورة الأعراف. 2 الآيات 6-11من سورة ق. 3 الآيتان 172، 173 من سورة الأعراف.

وأقر الكفار بربوبية الله تعالى وشهد الله لهم بذلك، ولكن ذلك لم ينفعهم شيئا حيث أشركوا في ألوهيته واتخذوا شركاء وآلهة من دون الله زعموا أنها تشفع لهم عند الله. ومع هذا فقد وجد في البشر من أنكر ربوبية الله وجحدها، ونسبها إلى نفسه أو اعتقدها في غيره، وقائد هؤلاء جميعا فرعون موسى الذي ادعى الربوبية لنفسه وأرغم قومه على الاعتراف بها وأعلن ذلك فيهم كما قال الله حكاية عنه: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} 1. وقال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} 2. وقال موجها الخطاب إلى رسول الله موسى عليه الصلاة والسلام حين دعاه إلى عبادة الله وحده: {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} 3. وبلغ به الفساد والمكابرة إلى أن قال كما حكى الله عنه: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً} 4.

_ 1 الآية 38 من سورة القصص. 2 الآية 24 من سورة النازعات. 3 الآية 29 من سورة الشعراء. 4 الآية 36، 37 من سورة غافر.

{فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} 1 ومثله ذلك الذي حاج إبراهيم عليه السلام في ربه وناظره إبراهيم عليه السلام فأفحمه، كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} 2. وكذلك الرسل احتجت بالمعجزات على أشد الخلق عنادا، وكان هذا الذي أفحم به إبراهيم عليه السلام خصمه الكافر الذي زعم أنه يحيي ويميت، فقال إبراهيم: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} 3 وهو الذي احتج به موسى عليه الصلاة والسلام على فرعون، وسماه موسى شيئا بينا كما جاء في سورة الشعراء حيث قال

_ 1 الآية 38 من سورة القصص. 2 الآية 258 من سورة البقرة. 3 الآية 258 من سورة البقرة.

فرعونك: {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} فقال موسى عليه الصلاة والسلام: {أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ ... } 1 الآية. ومن هؤلاء المنكرين الجاحدين لربوبية الله تعالى: الدهريون: الذين يزعمون أن العالم يسير بنفسه، وهم الذين قال الله عنهم: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} 2. فكذبهم الله تعالى في زعمهم هذا، وبين أنهم لا علم لهم بذلك، وأن مصدرهم في ذلك الظن، وغاية حجة هؤلاء حين يدعون إلى الحق، ويسمعون آيات الله غاية حجتهم طلب إخراج آبائهم وإعادتهم، ورد الله عليهم في الآية التي بعد الآية السابقة فقال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 3. وهؤلاء الملحدون منهم، فوصفهم – سبحانه- بعدم العلم مرة أخرى.

_ 1 أبو عبد الله بن الوزير، ترجيح أساليب القرآن على الأساليب اليونان ص 92. 2 الآية 24 من سورة الجاثية. 3 الآية 26-27 من سورة الجاثية

والعجب من هؤلاء كيف يغالطون أنفسهم، ويكابرون ويجحدون فطرهم التي تقر بوجود الله تعالى، وأنه خالقهم وربهم، فينكرون ذلك وينسبونه إلى غيره كفرا وإلحادا. فصورة هؤلاء الملاحدة أن جميع الموجودات وجدت بغير موجد، وجدت مصادفة من طبيعة عمياء لا علم ولا قصد ولا شيء من الشعور الإرادي، فلو صورت المحالات والممتنعات بأوضح من هذا التصوير، وأشد مكابرة للعقول لم يهتد المصور إلى تعبير شيء ممتنع أبلغ من هذا المنطق الجنوني، وهذا جزاء من جاءه الحق فرده، {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} 1،2. ومنهم: الثنوية3: من المجوس الذين يجعلون للعالم خالقين، خالقا للخير وهو النور، وخالقا للشر وهو الظلمة4. وكذلك: النصارى: القائلون بالتثليث، فيجعلون الآلهة ثلاثة: الأب، والابن، والروح القدس.

_ 1 الآية 110 من سورة الأنعام. 2 عبد الرحمن بن ناصر السعدي – الأدلة القواطع والبراهين في إبطال أصول الملحدين ص 63-64. 3 الثنويه: هم أصحاب الاثنين الأزليين يزعمون أن النور والظلمة أزليان قديمان. انظر الملل والنحل للشهرستاني على هامش الفصل في الملل والأهواء والنحل 2/80. 4 انظر الفتاوى لابن تيمية 3/97.

ولما وجد في الناس من ينازع في توحيد الربوبية، ويجعل لغير الله عز وجل شيئا من الشركة معه في الخلق والتدبير، لم يهمل القرآن الكريم الاحتجاج له، بل قرره أبدع تقرير في سورة المؤمنين {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} . يقول شارح الطحاوية عن هذه الآية: "فالآية الكريمة موافقة لما ثبت واستقر في الفطر من توحيد الربوبية، دالة مثبتة مستلزمة لتوحيد الإلهية"1. ولكن هؤلاء المنكرين الجاحدين لربوبية الله جميعا وإن أنكروا ذلك وجحدوه فإن الحقيقة التي ينبغي أن تعرف أنهم في أنفسهم يقرون بأن الله خالقهم وإن أنكروا ذلك في الظاهر، فهم كما قال الله: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} 2. وأول هؤلاء فرعون، الذي كشف له موسى عن حقيقته التي يخفيها ويتنكر لها، فقال له موسى كما حكى الله عنه: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلاّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً} 3.

_ 1 محمد خليل الهراس، دعوة التوحيد ص 33-35. 2 الآية 14 من سورة النمل. 3 الآية 102 من سورة الإسراء.

وكذلك موسى يجيبه في مناظرته له وتجاهله لخالقه وربه تجاهل العارف، قال الله تعالى: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} 1 ولما وجهه موسى بهذه الحجج والحقائق الدامغة التي لا يستطيع فرعون المغالطة فيها كانت إجابته لا تعدوا الاستهتار والمكابرة ولما ظهر عجزه أطلق سلاح الجبابرة المعروف، وهو التهديد فقال: {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} 2 فكان فرعون يعلم ويتيقن أن الله ربه وخالقه ولكن كبره وعناده وغروره وتزيين الملأ من حوله الذي كان يوجه القول إليهم حين يسأله موسى، كل ذلك أبى عليه إلا أن يتمادى في طغيانه وضلاله وإضلاله قومه {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} 3. ولقد أفصح فرعون عن هذه الحقيقة التي كان يجحدها، أفصح عنها في غير وقتها، حين عاين الموت، وأيقن بالهلاك كما قال الله عنه: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ

_ 1 الآيات 23-28 من سورة الشعراء. 2 الآية 29 من سورة الشعراء. 3 الآية 54 من سورة الزخرف.

آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} 1. ومثل فرعون كل الملاحدة والدهريين، فهم في قرارة أنفسهم يعترفون بأن الله ربهم وخالقهم، ولكنهم يغالطون ويكابرون هذه الحقيقة، فمعرفة الله تعالى مستقرة في الفطر، ولم يعرف عن أحد من الطوائف أنه قال: إن للعالم صانعين متماثلين في الصفات والأفعال، والثنوية من المجوس، والنصارى القائلون بالتثليث مع ما في قولهم من الكفر لم يقولوا بالتساوي بين الآلهة، فالمجوس لا يسوون بين النور والظلمة، فالنور هو الأصل عندهم وهو الذي سيغلب في النهاية، والنصارى لا يقولون بتساوي الأقانيم الثلاثة، بل متفقون على أن صانع العالم واحد، ويقولون: باسم الابن والأب وروح القدس إله واحد2. والقرآن قد بين أتم بيان وأقطع حجة أن الله تعالى هو وحده الخالق المالك المدبر رب كل شيء ومليكه كما سبق ذكره في الآية السابقة وهي قوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُون عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 3.

_ 1 الآية 90، 91 من سورة يونس. 2 انظر: شرح الطحاوية لابن أبي العز الحنفي ص 80، ومدارج السالكين لابن قيم الجوزية 1/62، ودعوة التوحيد لخليل الهراس ص 33. 3 الآيتان 91، 92 من سورة المؤمنون. 4 الآيتان 21، 22 من سورة الأنبياء.

وقوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاّ اللهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} 4. وبهذه الطريقة البينة الواضحة المستقيمة، بين القرآن ربوبية الله تعالى للناس، ودعاهم إلى ربهم وخالقهم ليعبدوه وحده لا شريك له بأوضح أسلوب وأسهل طريق. أما ما سلكه كثير من المتكلمين من مسالك عقلية لإثبات الربوبية، كالاستدلال على وجود الله تعالى عن طريق الجواهر والأعراض، إلى آخر ما يقولون في ذلك من أمور يصعب فهما حتى على المتخصص فضلا عن الجمهور، مع ما عليها من اعتراضات وما فيها من اختلاف. وكذا ما سلكه الفلاسفة في هذا الباب من تقسيم الموجود إلى ممكن الوجود، وواجب الوجود، وما لهم من كلام حول ذلك ليس هذا مكان استقصائه ويجعلونه دليلا على وجود الله تعالى، ويسمونه علم ما بعد الطبيعة، وإمامهم في ذلك أرسطو، الذي يلقبونه المعلم الأول، وتبعهم في بعض ذلك بعض الفلاسفة المنتسبين إلى الإسلام كابن سينا وغيره، وخلطوا في ذلك بين ما سلكه المتكلمون وما سلكه الفلاسفة1. وكلا المسلكين انحراف عن الصراط المستقيم، ينتهي بأهله إلى الشك والشطح والانحراف.

_ 1 انظر درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 8/135، والفتاوى1/49.

والطريقة الشرعية تتضمن الخبر بالحق والتعريف بالطرق الموصلة إليه النافعة للخلق. وأما الكلام على كل ما يخطر ببال كل أحد من الناس من الشبهات السوفسطائية فهذا لا يمكن أن يبينه خطاب على وجه التفصيل، والعلوم الفطرية الضرورية حاصلة مع صحة الفطرة وسلامتها، وقد يعرض للفطرة ما يفسدها ويمرضها فترى الحق باطلا، كالبدن إذا فسد أو مرض فإنه يجد الحلو مرا، ويرى الواحد اثنين، فهذا يعالج بما يزيل مرضه. والقرآن فيه شفاء لما في الصدور من الأمراض، والنبي صلى الله عليه وسلم علم أن وسواس التسلسل في الفاعل يقع في النفوس، وإنه معلوم الفساد بالضرورة، فأمر عند وروده بالاستعاذة بالله منه، والانتهاء عنه كما في الصحيحين – واللفظ لمسلم – عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئا فليقل: آمنت بالله". وفي لفظ آخر: "يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق السماء؟ من خلق الأرض؟ فيقول الله، ثم ذكر بمثله، وزاد ورسله" وفي لفظ آخر يقول: "من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق ربك؟ فإذا بلغ ذلك فيستعذ بالله ولينته" هذا لفظ البخاري1 أو نحوه2. ثم ذكر أحاديث أخرى في هذا المعنى.

_ 1 البخاري مع الفتح 6/336، ومسلم بشرح النووي 2/153، 154. 2 ابن تيمية، درء تعارض العقل والنقل 3/306-307.

1- أن ربوبية الله تعلى أمر فطري مستقر في النفوس، والإلحاد والكفر طارئ عليها. 2- طريق القرآن الكريم في إثبات ربوبية الله تعالى هي الطريقة الأصوب والأقرب للإفهام، والموافقة لأصل الفطرة، وطريقة المتكلمين والفلاسفة ومن نحا نحوهم طريقة تثير الشك أكثر مما تدعو إلى الإيمان. 3- وجود من يجحد الربوبية لله ويدعيها لنفسه أو ينسبها لغيره، وجاء القرآن بالرد القاطع على هؤلاء وأمثالهم. 4- جحود المنكرين للربوبية مخالف لما في نفوسهم، إذ هم في قرارة نفوسهم يعترفون بأن الله خالقهم. 5- الحق أنه لم يوجد في البشر من يقول بوجود خالقين متماثلين متكافئين في الصفات والأفعال. 6- المشركون كانوا يقرون بالربوبية لله تعالى والقرآن شهد لهم بذلك، وإقرارهم هذا لم ينفعهم، لعدم إقرارهم بألوهية الله عز وجل. 7- بيان القرآن الكريم للربوبية دعوة إلى توحيد الألوهية. 8- خطأ من جعل توحيد الربوبية هو المطلب الأول في التوحيد. ومما تقدم يتضح أن هذه الشواهد التي سلف ذكرها قد جاءت لترسيخ هذا النوع من أنواع التوحيد، وحفظهم من مزالق الإلحاد، والاستدلال به على توحيد الألوهية، التي جاءت الرسل بالدعوة إليه، ولهذا فإن حماية توحيد الربوبية وبيانه للناس مطلوب للدعوة إلى توحيد الألوهية وحمايته.

المبحث الثاني: توحيد الألوهية

المبحث الثاني: توحيد الألوهية. ومعناه: إفراد الله تعالى بجميعأنواع العبادة وإخلاصها له وحده لا شريك له ظاهرا وباطنا، وهو توحيد الله تعالى بأفعال العباد. ويسمى توحيد العبادة، لأن الألوهية والعبودية بمعنى واحد، إذا معنى الإله: المعبود، قال ابن عباس رضي الله عنهما: "الله ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين"1. مكانته وأهميته: هذا التوحيد أعظم أنواع التوحيد وأهمها، والمتضمن لها جميعا، ولا يصير العبد مؤمنا إلا بتحقيقه، وهو الذي لأجله خلق الله عباده، وأنزل كتبه، وبعث أنبياءه ورسله عليهم الصلاة والسلام، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} 2 وقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} 3. وقال: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 4.

_ 1 خليل الهراس، دعوة التوحيد ص 37. 2 الآية 56 من سورة الذاريات. 3 الآية 36 من سورة النحل. 4 الآية 5 من سورة البينة.

وهو أول واجب على العبد، والذي من أجله قامت الخصومة بين الرسل وأممهم، إذ هو أول ما دعا إليه أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام فهو مفتاح الجنة ومفتاح دعوة كل نبي إلى قومه، إذ يقول لهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} . "وهذا التوحيد هو أول الدين وآخره، وباطنه وظاهره، وهو أول دعوة الرسل وآخرها، وهو معنى قول لا إله إلا الله، فإن الإله هو المألوه المعبود بالمحبة والخشية، والإجلال والتعظيم وجميع أنواع العبادة، ولأجل هذا التوحيد خلقت الخليقة، وأرسلت الرسل، وأنزلت الكتب، وبه افترق الناس إلى مؤمنين وكفار، وسعداء أهل الجنة، وأشقياء أهل النار، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 1 فهذا أول أمر القرآن2. وهو أول واجب على المكلف، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه حين بعثه إلى اليمن: "إنك تأتي قوما من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله – وفي رواية – إلى أن يوحدوا الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات ... إلى آخر الحديث" 3.

_ 1 الآية 22 من سورة البقرة. 2 سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد ص 31. 3 تقدم تخريجه ص 198.

وكما قال عليه الصلاة والسلام: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله ... إلى آخر الحديث" 1. والأدلة على ذلك كثيرة من الكتاب والسنة، كلها تبين أن هذا التوحيد هو لب الإسلام وحقيقته وأساسه، كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله" 2 الحديث. أدلة توحيد الألوهية: الأدلة على هذا النوع من أنواع التوحيد كثيرة جدا من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا تكاد تخلو سورة من سور القرآن الكريم من هذا التوحيد. ومن هذه الأدلة: قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 3. وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} 4

_ 1 تقدم تخريجه ص 197. 2 البخاري مع الفتح 1/49، ومسلم بشرح النووي 1/176. 3 الآية 36 من سورة النحل. 4 الآية 25 من سورة الأنبياء.

وقوله: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ منْ أَمْرِهِ عَلَى منْ يَشَاءُ منْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ} 1. وقوله: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 2. وقوله: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} 3. وقولهِ: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} 4. وقوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 5. وقوله: {وَما أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إلا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} 6 وسورة الكافرون بكاملها.

_ 1 الآية 1،2 من سورة النحل. 2 الآية 18 من سورة آل عمران. 3 الآية 45 من سورة الزخرف. 4 الآية 3 من سورة الزمر. 5 الآية 5 من سورة البينة. 6 الآية 31 من سورة التوبة.

والآيات في هذا كثيرة، والأحاديث سبق ذكر بعضها، وغيرها كثير في الدلالة على هذا النوع العظيم من التوحيد والأمر به، وبيان تحقيقه والتحذير من مخالفته. منهج القرآن الكريم في الدعوة إلى توحيد الألوهية: سبق الكلام على أن القرآن كله توحيد، وتوحيد الألوهية أعظم التوحيد، بل هو التوحيد كله، إذ هو متضمن له. ولهذا جاء القرآن الكريم مبينا لهذا التوحيد، وآمرا به وداعيا إليه بأساليب متنوعة ومناسبة لمعالجة ما كان عليه الناس وقت نزول القرآن، وما يأتي بعد ذلك، من صورة ترجع في كثير من الأحيان إلى تلك الصورة الأولى التي كان عليها المجتمع الجاهلي وقت نزول القرآن من فساد في العقيدة وضلال عن الصراط المستقيم، وانحراف عن العبودية الحقة لله تعالى التي هي أشرف مقام. "ولما كان توحيد الألوهية هو مناط الإيمان بالله ورسله كان لابد أن يعنى القرآن بتقريره والبرهنة عليه بالأدلة العقلية والبراهين الصحيحة، لأن الشرك الذي وقع فيه جميع الأمم، كان في هذا النوع، فإن عامة مشركي الأمم كانوا مقرين بالصانع، ويعترفون بتوحيد الربوبية، ولكنهم مع إقرارهم بربوبيته قد أشركوا بعبادته غيره، وكان ما عابه مشركو العرب على محمد "أن جعل الآلهة إلها واحدا"وقالوا له: "إن هذا لشيء عجاب".

ولا شك في وجب الإيمان بتوحيد الربوبية إلا أنه ليس كل الواجب، وليس هو مناط الإيمان والكفر، ولا مناط التوحيد والشرك، وليس بمجرد الإقرار به يكون الفرد موحدا "1 وإليك أهم الأساليب التي جاء بها القرآن الكريم في الدعوة إلى هذا النوع من التوحيد: منها: بيان آيات ربوبيته سبحانه التي يراها الناس، ويقرون بها، وإنه سبحانه هو خالقها، ثم يختمها بالدعوة إلى أفراده سبحانه بالعبادة، فكما أنه المتفرد بهذا الخلق، فيجب أن يكون وحده سبحانه المتفرد بالعبادة لا شريك له، ومن ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا للهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 2. وقوله: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَفَذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} 3.

_ 1 ابن تيمية، كتاب التوحيد وإخلاص العمل لله عز وجل، تحقيق د. محمد السيد الجليندي ص 58، 59 2 الآيتان 21، 22 من سورة البقرة. 3 الآيتان 31،32من سورة يونس.

وقوله: {قُلِ الْحَمْدُ للهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ َ} 1. وقوله تعالى: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُون قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ َ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُون بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ مَا اتَّخَذَ اللهُ

_ 1 الآيات من 59-64 من سورة النمل.

مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 1. والآيات في هذا كثيرة جدا، وأنت ترى أن الله تعالى يبين للناس آيات ربوبيته ودلائل خلقه التي يعترفون بها ويعلمون أن الله سبحانه هو خالقها وحده ولكنهم مع ذلك يشركون في ألوهيته سبحانه غيره، فالآيات تحتج عليهم بما أقروا به من توحيد الرببوبية، فإن ذلك في الوقت نفسه دليل على توحيد الألوهية، إذ هما متلازمان، ولا يكفي الإقرار بتوحيد الربوبية وحده، بل هم كما قال الله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ} فإن الله تعالى كما أنه الواحد في ربوبيته لا شريك له، فكذلك الواحد في ألوهيته لا شريك له، وهذا حق الله تعالى على عباده كما جاء في حديث معاذ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ " فقلت: الله ورسوله أعلم، قال: "حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا"، فقلت: يا رسول الله أفلا أبشر الناس؟ قال: "لا تبشرهم فيتكلوا" 2.

_ 1الآيات من 84-92 من سورة المؤمنون. 2 البخاري مع الفتح 6/58، ومسلم بشرح النووي 1/230.

"وحاجتهم إليه في عبادتهم إياه وتألهم كحاجتهم وأعظم في خلقه لهم، وربوبيته إياهم، فإن ذلك هو الغاية المقصودة لهم، وبذلك يصيرون عاملين متحركين، ولا صلاح لهم ولا فلاح، ولا نعيم ولا لذة بدون ذلك بحال، بل من أعرض عن ذكر ربه فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى، ولهذا كان الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، ولهذا كانت لا إله إلا الله أحسن الحسنات، وكان التوحيد بقول: لا إله إلا الله رأس الأمر"1.

_ 1 ابن تيمية – الفتاوى 1/23.

* ومن أساليب القرآن الكريم في الدعوة إلى الألوهية: بيان عجز الآلهة التي يدعونها من دون الله تعالى، وإنها لا تملك لنفسها كما لا تملك لغيرها نفعا ولا ضرا من دون الله، وجاء ذلك في آيات كثيرة من كتاب الله تعالى: منها: قوله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين َ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ} 1. وقوله في سورة النحل في موضعين: الأول قوله: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} 2.

_ 1 الآيات من 191-195 من سورة الأعرف. 2 الآيتان20، 21 من سورة النمل.

والآخر: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ} 1. وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} 2. وقوله: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} 3. والآيات في هذا كثيرة تبين عجز هذه الآلهة التي اتخذوها من دون الله تعالى وأنها لا تملك لنفسها ولا لغيرها نفعا ولا ضرا، بل إن الذين اتخذوها هم أنفسهم أكمل وأقدر من آلهتهم التي يعبدونها، ومنهم من يعرف عجزها وضعفها، ولكنه مع ذلك قد ارتضى ذلك لنفسه، ليعيش في حضيض الشرك وحمأة الكفر بدلا من كرم التوحيد وعزة الإيمان4، كما

_ 1 الآية 73 من سورة النحل. 2 الآية 73 من سورة الحج. 3 الآية 13، 14 من سورة فاطر. 4 انظر معارج القبول لحافظ حكمي 1/359-360، وكتاب دعوة التوحيد لخليل الهراس ص 40-41

ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل حصينا والد عمران قبل إسلامه "كم تعبد اليوم من إله؟ قال سبعة آلهة، ستة في الأرض وواحد في السماء، قال صلى الله عليه وسلم: فمن تعد لرغبتك ورهبتك؟ قال: الذي في السماء، قال: ألا تسلم فأعلمك كلمات، فأسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قل: اللهم ألهمني رشدي، وقني شر نفسي" 1. ومن أساليب القرآن الكريم في الدعوة إلى توحيد الألوهية: بيان حال عباد هذه الآلهة، والتنديد بهم، والتشنيع عليهم، ووصفهم بالضلال والغي والعمى، والبعد عن الهدى والرشاد، فآلهتهم عاجزة قاصرة وقد اتخذوها من دون الله، فهم قاصروا الأفهام ضالوا العقول، وإلا لما عبدوا آلهة هم أكمل منها وأقوى. ومن ذلك قوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} 2. وقوله: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} 3.

_ 1 أخرجه ابن خريمة في كتاب التوحيد ص 120، والبيهقي في الأسماء والصفات ص 534، وابن قدامة في إثبات صفة العلو رقم (6) ص 78. 2 الآيتان 5، 6 من سورة الأحقاف. 3 الآية 41 من سورة العنكبوت.

وقوله: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} 1. والآيات في هذا كثيرة تبين قصور أفهام من يشرك بالله ويتخذ من دونه آلهة عاجزة وقاصرة ليعبدها مندون الله أو يجعلها واسطة وشافعة تقربه من الله كما كان المشركون يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 2. * ومن أساليب القرآن الكريم في الدعوة إلى توحيد الألوهية: بيان ما يقع يوم القيامة بين هؤلاء المشركين وآلهتهم من براءة بعضهم من بعض، وتخليهم عن عابديهم وتنكرهم لأتباعهم، في حال هم أحوج ما يكون إلى من يشفع لهم ويدافع عنهم، ومن ذلك قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ وَقَالَ

_ 1 الآية 3 من سورة الفرقان. 2 من الآية 3 من سورة الزمر.

الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} 1. وقوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} 2. * ومن أساليب القرآن الكريم في الدعوة إلى توحيد الألوهية: ما جاء في قصص الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام في دعوتهم أممهم إلى توحيد الله تعالى وإفراده وحده بالعبادة، وكان ذلك مفتاح دعوة كل نبي ورسول منهم، وما جرى بينهم وبين أقوامهم لأجله من خصومة وما دارت بسببه من معارك عظيمة بالبيان والسنان، وما كان من ذلة وهلاك لأعداء الله وأعداء رسله، ونصر ومنعة وغلبة للرسل وأتباعهم، وتلك سنة الله في خلقه، وهو الذي يقول بعد ما قص دعوة عدد من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} 3.

_ 1 الآيات من 165، 167 من سورة البقرة. 2 الآيتان 28، 29 من سورة يونس. 3 الآية 83 من سورة هود.

والآيات عن قصص الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام مع أممهم كثيرة جدا نكتفي بمثال واحد لذلك وهو قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاّ اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ وَمَا لَنَا أَلاّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} 1.

_ 1 الآيات 9-4 من سورة إبراهيم.

والحديث عن قصص الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام مع أممهم في دعوتهم يوضح أن توحيد الله وإفراده بالعبادة وحده لا شريك له، هو المهمة الأولى للرسل عليهم الصلاة والسلام كما قال لله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} 1. ومما تقدم يتبين أهمية توحيد الألوهية المتضمن لأنواع التوحيد جميعا والمطلوب من الناس كافة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "وإنما التوحيد الذي أمر الله به العباد هو توحيد الألوهية المتضمن توحيد الربوبية بأن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا، فيكون الدين كله لله لا يخاف إلا الله ولا يدعو إلا الله، ويكون الله أحب إلى العبد من كل شيء، فيحبون لله، ويبغضون لله، ويعبدون الله، ويتوكلون عليه، والعبادة تجمع غاية الحب وغاية الذل، فيحبون الله بأكمل محبة ويذلون أكمل ذل، ولا يعدلون به ولا يجعلون له أندادا ولا يتخذون من دونه أولياء ولا شفعاء كما قد بين القرآن هذا التوحيد في غير موضع، وهو فطب رحى

_ 1 الآية 36 من سورة النحل.

القرآن الذي يدور عليه القرآن، وهو يتضمن التوحيد في العلم والقول، والتوحيد في الإرادة والعمل "1. فتوحيد الربوبية وحده لا يكفي، وإلا لما بعث الرسل لأن أممهم كانت مقرة به وإنما انحرافهم في جانب توحيد الألوهية، وإذاً فلا بد مع توحيد الربوبية من توحيد الألوهية المتضمن له، وتحقيق ذلك بصرف جميع العبادات لله تعالى وحده لا شريك له وإخلاصها له سبحانه دون من سواه، وذلك يشمل جميع العبادات القولية والقلبية والعملية والمالية. فالعبادات القولية: هي ما يتعلق باللسان من الدعاء والذكر والاستعاذة والاستعانة والاستغاثة والحلف وغير ذلك، فلا يصرف شيئا منه لغير الله سبحانه، وإن شابت ذلك شائبة من الشرك فقد أشرك مع الله على قدر ما اقترف من ذلك. والعبادات القلبية: وهي التي تتعلق بالقلب، وهي أهم العبادات كلها فهي أساسها وأصلها، ومن هذه العبادات الحب، والخوف، والإخلاص، والصبر، والرغبة، والرهبة… وغيرها من العبادات المتعلقة بالقلب، وأدلة ذلك كثيرة ومعروفة من الكتاب والسنة، تأمر بإخلاصها لله وتنهى عن صرفها لأحد غيره.

_ 1 ابن تيمية – منهاج السنة النبوية 2/62.

والعبادات البدنية: وهي المتعلقة بالجوارح كالصلاة والصيام والحج وغير ذلك، فكلها يجب إخلاصها لله تعالى وحده لا شريك له. والعبادات المالية: وهي ما يتعلق بأموال العباد، وما يجب عليهم فيها عبادة لله تعالى وحده لا شريك له كالزكاة والنذر والصدقات المالية والذبح وغير ذلك مما يتعلق بالأموال1. والعبادات التي شرعها الله كلها تتضمن إخلاص الدين كله لله تحقيقا لقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} 2 فالصلاة لله وحده، والصدقة لله وحده، والصيام لله وحده، والحج لله وحده، وإلى بيت الله وحده3. ومما تقدم من الكلام عن هذين النوعين من التوحيد وما جاء فيهما من الأدلة والشواهد يتبين لنا أن الله سبحانه وتعالى قد جعل ذلك صيانة لهذا التوحيد وترسيخا له في النفوس، وحفظا له نقيا صافيا بعيدا عن

_ 1 انظر: كتاب مدارج السالكين لابن القيم 1/100 وكتاب دعوة التوحيد لمحمد خليل هراس ص 47-69. 2 الآية 5 من سورة البينة. 3 ابن تيمية – اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أهل الجحيم 2/830 – تحقيق د. ناصر ابن عبد الكريم العقل.

مزالق الشرك والإلحاد، يربط الناس بخالقهم وإلههم وحده لا شريك له فيخلصوا له العبادة وحده، وقد بين ذلك رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ودعا إليه وحمى جانبه، وحذر من كل ما يدنسه أو يشوبه، وسد كل طريق يؤدي إلى الشرك، ونهى عن كل وسيلة تؤدي إليه وإن لم تكن شركا، كل ذلك حماية لجناب التوحيد الذي هو أول واجب على العبد، وأول ما دعا إليه الأنبياء والرسل عليهم صلوات الله وسلامه، وإمامهم وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم.

المبحث الثالث: توحيد الأسماء والصفات

المبحث الثالث: توحيد الأسماء والصفات ومعناه: الإيمان بما أثبته الله تعالى لنفسه في كتابه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته من الأسماء الحسنى والصفات العلى، وأنه تعالى موصوف بها على الحقيقة كما يليق بجلاله من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل فهو توحيد الله تعالى بأسمائه وصفاته. الأسس التي يقوم عليها توحيد الأسماء والصفات: من هذا التعريف لهذا النوع من التوحيد يتبين لنا أنه يقوم على ثلاثة أسس: الأول: أن أسماء الله تعالى وصفاته توقيفية، فلا نثبت لله تعالى ولا ننفي عنه إلا بدليل من الكتاب أو من السنة، إذ لا سبيل إلى معرفة ذلك إلا من هذا الطريق. الثاني: الإيمان بأن الله تعالى لا يشبه أحدا من خلقه في أسمائه ولا صفاته كما لا يشبهه أحد من خلقه، وإن سمى أو وصف أحدا من المخلوقين بتلك الأسماء والصفات، فذلك اشتراك في اللفظ لا يوجب مماثلة المخلوقين له فيما دلت عليه هذه الأسماء والصفات، فأسماء الله تعالى وصفاته على ما يليق به سبحانه وتعالى وما يسمى به من المخلوقين أو يوصف من ذلك فعلى ما يليق بالمخلوق نفسه، فكل على ما يليق به.

وإذا علم هذا فلا حاجة إلى ما سلكه أهل الكلام من تعسف في تأويل النصوص وصرفها عن معانيها بحجة تنزيه الله تعالى عن مشابهة المخلوقين1. قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 2. وهذا الموضع من فهمه فهما جيدا وتدبره، زالت عنه عامة الشبهات وانكشف له غلط كثير من الأذكياء في هذا المقام3. قال نعيم بن حماد4 شيخ الإمام البخاري رحمهما الله تعالى: "من شبه الله بخلقه كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه أو وصفه رسوله كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله تشبيه ولا تمثيل"5. الثالث: أن صفات الله كلها صفات كمال، فله سبحانه الكمال المطلق، وهو المنزه عن كل نقص، وكل صفة كمال تثبت للمخلوق

_ 1 انظر: فتاوى ابن تيمية. 2 الآية 11 من سورة الشورى. 3 ابن تيمية – نفس المصدر 3/76. 4 هو نعيم بن حماد بن معاوية بن الحارث الخزاعي، أبو عبد الله المروزي، نزيل مصر فقيه عارف بالفرائض مات سنة 228هـ. انظر تقريب التهذيب للحافظ ابن حجر 2/305. 5 ابن أبي العز شرح الطحاوية ص 117، 118.

وأمكن أن يتصف به الله سبحانه وتعالى فهو أحق بها وأولى، وكل نقص تنزه عنه المخلوق فالله أولى وأحق بالتنزه عنه، ومما ينبغي معرفته في الإيمان بأسماء الله وصفاته أن يقطع الطمع في كيفيتها وألا يسأل عن ذلك، إذ لا يسأل عن صفات الله تعالى بكيف وأن يعلم مع ذلك ويعتقد أن هذه الصفات معلومة المعنى، فلم يخاطب الله تعالى عباده ويتعبدهم بأمور لا يعلمون معناها، ولهذا قال الإمام مالك رحمه الله وغيره من السلف لمن سأل عن كيفية استواء الله تعالى على عرشه: "الاستواء معلوم والكيف مجهول، والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة". وقال ربيعة شيخ مالك قبله: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، ومن الله البيان، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا الإيمان"1. أدلة هذا النوع من التوحيد: الأدلة عليه من الكتاب الكريم والسنة النبوية الصحيحة كثيرة، فقد لا تخلو سورة من سور القرآن الكريم من ذكر اسم من أسماء الله تعالى أو صفة من صفاته ومن ذلك سورة الإخلاص فهي بكاملها عن أسماء الله وصفاته، قال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} 2.

_ 1 انظر فتاوى ابن تيمية 3/58. 2 سورة الإخلاص.

وقد وردت أحاديث في فضل هذه السورة العظيمة منها ما أخرجه البخاري رحمه الله في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه "أن رجلا سمع رجلا يقرأ قل هو الله أحد يرددها، فلما أصبح جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك، وكان الرجل يتقالها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده إنها تعدل ثلث القرآن" 1. ومن أدلة هذا النوع من التوحيد: قوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} 2. وقد اشتملت على عدد من أسماء الله تعالى وصفاته، وهي أعظم آية في القرآن كما أخبر عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا المنذر: أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟ "قال: الله ورسوله أعلم، قال: قلت: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} قال فضرب في صدري: "والله ليهنك العلم أبا المنذر" 3.

_ 1 البخاري مع الفتح 9/58، 59. 2 الآية 255 من سورة البقرة. 3 صحيح مسلم بشرح النووي 6/93.

ومنها قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 1. والآيات في هذا كثيرة جدا. ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم رب السماوات السبع والأرض رب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، فالق الحب والنوى، منزل التوراة والإنجيل والقرآن، أعوذ بك من شر نفسي، ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، أقض عني الدين واغنني من الفقر" 2. ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: "ينزل ربنا إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى تلك الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له" 3. والأحاديث في ذلك أيضا كثيرة جدا.

_ 1 الآيات من 22-24 من سورة الحشر. 2 صحيح مسلم بشرح النووي 17/36. 3 صحيح البخاري مع الفتح 3/29.

مناهج المتكلمين في أسماء الله وتعالى وصفاته: تقدم فيما سبق الكلام عن مذهب السلف في أسماء الله تعالى وصفاته، وأنه المنهج الحق الذي لا يجوز العدول عنه، فهو الموافق لما جاء عن الله عز وجل، وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، وتشهد له الفطر السليمة والعقول المستقيمة، ناهيك عما في القرآن والسنة من أدلة دامغة. إلا أن أقواما ساءت أفهامهم وزلت أقدامهم، وعميت بصائرهم عن معرفة هذا الحق وسلوك سبيله وسلكوا في هذا الباب مناهج مختلفة مرجعهم فيها عقولهم القاصرة وأفهامهم العاجزة، فخبطوا في ذلك خبط عشواء حتى انتهى الأمر بأكثرهم إلى الحيرة والشك، ومن اشهر مناهجهم: منهج أهل التشبيه: وهم الذين جعلوا صفات الله تعالى من جنس صفات المخلوقين، وقاسوها عليها، فلم يفهموا منها إلا مثل للمخلوقين، وأنه لا حقيقة لها سوى ذلك، وأن هذا هو ما يعقل منها، والله لا يخاطب الناس بما لا يعقلون1. ولا شك أن هذا فساد في الفهم وانحراف في الاعتقاد، وعمى في البصائر، إذ يحصرون ذلك فيما يشبه المخلوق، ولو رزقوا صحة في الفهم وسلامة في الاعتقاد لعلموا يقينا أن صفات الله سبحانه ثابتة له على ما

_ 1 انظر: كتاب الصواعق المنزلة لابن قيم الجوزية 1/251.

يليق بجلاله وعظمته لا بشبه صفات المخلوق، إذ صفاتهم على ما يليق بهم، قال سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . أهل التأويل: ومنهم الجهمية والمعتزلة، ومنهجهم: "أن النصوص الواردة في الصفات لم يقصد بها الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعتقد الناس الباطل، ولكن قصد بها معاني، ولم يبين لهم تلك المعاني، ولا دلهم عليها، ولكن أراد أن ينظروا فيعرفوا الحق بعقولهم، ثم يجتهدوا في صرف تلك النصوص من مدلولها ومقصوده امتحانهم وتكليفهم واتعاب أذهانهم وعقولهم في أن يصرفوا كلامه عن مدلوله ومقتضاه، ويعرفوا الحق من غير جهته، وهذا قول المتكلمة والجهمية والمعتزلة، ومن دخل في شيء من ذلك"1. فحقيقة مذهبهم أنهم يقررون أن الصفات لا تدل على حقائق معانيها، فيؤولون ذلك إلى معان أخرى، كتأويلهم اليد بالنعمة، والاستواء بالاستيلاء وغير ذلك، وبناءً عليه فإن صفات الله لا تدل على ما وصف به نفسه حقيقة بل مجازا، فحكموا عقولهم في ذلك واضطربوا فيه اضطرابا كبيرا،"وهم أشد الناس اضطرابا، إذ لم يثبت لهم قدم في الفرق بين ما يتأول وما لا يتأول، ولا ضابط مطرد منعكس تجب مراعاته، وتمتنع مخالفته"2.

_ 1 ابن تيمية – الفتوى الحموية الكبرى ص 37-38. 2 انظر: كتاب الصواعق المنزلة لابن قيم الجوزية 1/245.

ولا ريب أن هذا تحكيم للعقل في نصوص الكتاب والسنة، بل تقديم له عليهما، وفتح لباب الضلال والانحراف، فكل طائفة لا تقبل عقول أهلها أمرا تؤوله ليوافق العقل، وهذا باب واسع لا ينحصر، يفقد معه الفهم الصحيح لمعاني كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتنعدم الثقة بدلالتهما، وإرشادهما للعباد، إذ اصبح الميزان هو العقل، والعقول تختلف وتتفاوت1. أهل التفويض: ومنهجهم: أن نصوص الصفات من آيات وأحاديث لا تعقل معانيها، ولا يعلمها إلا الله، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم معانيها ولا جبريل ولا السلف السابقون، ثم تناقضوا في ذلك: فمنهم من قال: تجري على ظواهرها وتأويلها بما يخالفه باطل، ولا يعلم تأويلها إلا الله. ومنهم من يقول: المعنى المراد بها خلاف مدلولها الظاهر، ولا يعلم هذا المعنى أحد من الأنبياء ولا غيرهم. وهذا تناقض عجيب، إذ يقولون تجري على ظاهرها، ثم يقولون الظاهر غير مراد، ويقولون مع هذا لها تأويل لا يعلمه إلا الله، وهذا يخالف معنى التفويض الذي حقيقته ألا يحكم المفوض بنفي ولا إثبات.

_ 1 انظر شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي ص 216

ومنشأ غلطهم وتناقضهم أنهم جعلوا نصوص الصفات من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله، فضلوا بذلك عن الفهم الصحيح الذي فهمه سلف الأمة وأتباعهم بإحسان، إذ لم يرد عنهم أنهم جعلوا نصوص الصفات من المتشابه، وفهموا وبينوا معنى قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} وعقلوا المعنى الصحيح للتأويل من تفسير الشيء أو حقيقته التي يؤول إليها. ومنهج أهل التفويض هذا له نتائجه الخطيرة التي من أخطرها: أ - أن الله أمر الناس بألفاظ مجردة لا يعلمونها ولا يعقلون معانيها، وهو في الوقت نفسه يأمرهم بالتدبر والتفكر في أمور لا يعلمها حتى الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام فضلا عن غيرهم. ب - أن الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم جاهلون بربهم لا يعلمون ما وصف به نفسه، وكانوا يكلمون الناس ويبلغونهم ما لا يعلمون معناه. ت - أن هذا يؤدي إلى إنكار صفات الله تعالى الثابتة بالكتاب والسنة وتعطيلها ورد ما رضيه الله تعالى لنفسه ورضيه له رسوله عليه الصلاة والسلام1.

_ 1 انظر: موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول بهامش منهاج السنة لابن تيمية 1/116و118

المبحث الرابع: منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته إلى التوحيد

المبحث الرابع: منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته إلى التوحيد سبق الكلام عن الحالة التي وصلات إليها جزيرة العرب قبيل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وما بلغته من انحطاط عقدي وخلقي واجتماعي، حتى مقت الله تعالى أهل الأرض عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب، ثم تدارك من شاء منهم برحمته إذ بعث نبيه ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين بشيرا ونذيرا، فهدى به من شاء هدايته فأخرجهم من الظلمات إلى النور ومن الضلال إلى الهدى ومن الغي إلى الرشاد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، وبلغ رسول الله عليه الصلاة والسلام دعوة ربه كما أمره ربه وجاهد في سبيله حق الجهاد حتى أتاه اليقين وانتشرت هذه الدعوة في العالمين، وربى عليها أصحابه رضي الله عنهم في مكة ثلاث عشر سنة ثم في المدينة فكانوا خير من حمل لواء هذه الدعوة دعوة التوحيد وبلغوها إلى الناس وجاهدوا في سبيلها وحموا حماها يقودهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن بعده خلفاؤه الراشدون الذين أوصى عليه الصلاة والسلام باتباع هديهم، واقتفاء أثرهم، وكذلك سائر الصحابة جاهدوا في سبيل هذه الدعوة ونشرها والدفاع عنها وحمايتها من كل شك وشرك كما علمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورباهم. وفيما يلي سأتحدث عن المنهج الذي نهجه رسول صلى الله عليه وسلم في دعوته إلى توحيد الله تعالى وإفراده بالعبادة وترسيخ هذا النوع من التوحيد في نفوس الأمة، وتحصينها من الوقوع فيما يناقضه أو يخالفه، إذ هو أول واجب

على العبد، وأساس إيمانه وإسلامه، كما هو محور دعوة الرسل جميعا عليهم الصلاة والسلام. والحديث عن ذلك فيما يلي: أولا: بيان أن دعوته صلى الله عليه وسلم إنما كانت تدور حول تحقيق التوحيد تقدم الكلام عن دعوة الأنبياء والرسل وأنها كانت كلها إلى التوحيد، كما جاء بيان ذلك في القرآن الكريم، فكلما انحرف الناس عن عقيدة التوحيد واندرست معالمه، بعث الله رسولا يجدد هذه الدعوة، ويعيد الناس إلى الصراط المستقيم، ويجدد لهم ما اندرس من هذه العقيدة، التي هي أول واجب عليهم، وأساس كل عمل يعملونه طاعة لربهم، فمن أجل ذلك خلق الله الخلق، وبعث الرسل وأنزل الكتب، وبسببه قامت الخصومة بين الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وبين أعدائهم في كل زمان ومكان، وفي سبيله جاهد الرسل وأتباعهم، وكذلك كان رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم فهو خاتم الأنبياء والرسل ورسالته خاتمة الرسالات، وبعثته لجميع العالمين، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} 1. وقال عليه الصلاة والسلام: "أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي، وذكر منها: وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة" 2.

_ 1 الآية 28 من سورة سبأ. 2 صحيح البخاري مع الفتح 1/435.

فكانت دعوته عليه الصلاة والسلام أعظم دعوة إلى التوحيد، فالقرآن كله يدعو إلى التوحيد ويأمر به ويبين الأدلة ويضرب الأمثلة لتقريره والنهي عما يخالفه من الشرك وغيره، ويحكي أخبار أهل التوحيد من الرسل وأتباعهم وكيف كانت العاقبة لهم، وأخبار أعدائهم، وكيف كانت الدائرة عليهم، وما وعد الله أهل توحيده من ثواب ونعيم وما توعد به أعداءهم من عقاب وعذاب. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو ذلك على الناس ويبينه لهم قولا وعملا في مكة ثلاث عشرة سنة، وعشر سنوات في المدينة كلها كانت في سبيل دعوة التوحيد، باللسان والسنان، والحجة والبيان، يرسل الرسل ويأمرهم بأن يكون التوحيد أول ما يدعون إليه الناس كما بعث معاذا رضي الله عنه إلى اليمن وقال له: "فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله"1. وكان يكتب الرسائل إلى الملوك يدعوهم وأقوامهم إلى توحيد الله ويحذرهم من الشرك به سبحانه ويحملهم إثم من تبعهم على ما هم عليه. وحين أذن الله له في الجهاد أعلن في الناس قوله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله" 2 وفي الوقت نفسه يبين لأصحابه مكانة هذا التوحيد وفضله، وينهاهم عن كل

_ 1 تقدم تخريجه ص 198. 2 تقدم تخريجه ص 197.

ما يدنسه أو يكون ذريعة إلى ما يخالفه، صيانة لهذا التوحيد وحماية له من كل ما يعارضه. ثانيا: الدعوة إلى التوحيد والتحذير من الشرك وهذا أساس دعوةته عليه الصلاة والسلام ومن قبله جميع المرسلين، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوت} 1. {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} 2. وكما سبق ذكره أن دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت كلها إلى التوحيد، وتفصيل ذلك سيأتي، وفي هذا المبحث سأذكر أمثلة مما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في دعوته لهذا التوحيد ونهيه وتحذيره من الشرك. منها: قوله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله ... " الحديث3. وقوله عليه الصلاة والسلام كما سبق ذكره في بعثه لمعاذ رضي الله عنه: "إنك تأتي قوما أهل كتاب ... "الحديث4.

_ 1 الآية 36 من سورة النحل. 2 الآية 25 من سورة الأنبياء. 3 سبق تخريجه 197. 4 سبق تخريجه 198.

وقوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه معاذ رضي الله عنه قال: "كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار فقال لي: "يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ "فقلت: الله ورسوله أعلم، قال: "حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به"، فقلت يا رسول الله: أفلا أبشر الناس، قال: "لا تبشرهم فيتكلوا". وما رواه عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله حرم الله عليه النار" 1. وما رواه جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئا دخل النار" 2. وما رواه ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من مات وهو يدعو لله ندا دخل النار" 3. وما رواه أبو هريرة رضي الله عنه وقد كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عزوة تبوك ثم ذكر من حديثه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أشهد أن لا إله إلا الله وإني رسول الله لا يلفى الله بهما عبد غير شاك فيحجب عن الجنة" 4.

_ 1 صحيح مسلم بشرح النووي 1/57، 58. 2 صحيح مسلم بشرح النووي 1/94. 3 صحيح مسلم بشرح النووي 8/176. 4 صحيح مسلم بشرح النووي 1/55، 57.

وما رواه جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: "أني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، أني أنهاكم عن ذلك" 1. وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله" 2. والأحاديث في هذا الموضوع كثيرة جدا، منها ما يأمر بالتوحيد، ومنها ما يحذر من الشرك وينهى عنه، ومنها ما يحذر من الوسائل والذرائع المفضية إلى الشرك حتى ولو لم تكن شركا، كل ذلك لتقرير هذا التوحيد وترسيخه في القلوب وصيانته من كل ما يخالفه.

_ 1 صحيح مسلم بشرح النووي 1/377، 378. 2 صحيح البخاري مع الفتح 6/478.

الفصل الرابع: أنواع الشرك

الفصل الرابع: أنواع الشرك المبحث الأول: الشرك الأكبر ... كما أن التوحيد أنواع فكذلك الشرك أنواع بيّنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وحذّر من الوقوع فيها حماية لجناب التوحيد وحرصاً على أهله من الشرك أيا كان نوعه لأنه إما أن يخرج صاحبه من الإسلام ويحرمه نعمة التوحيد، ويورده النار وبئس المصير، وإما أن ينافي كماله فيحرم العبد تمام نعمة التوحيد، وقد ينتهي به إلى الخروج من الإسلام آخر الأمر، أو يخدش توحيده ويلوث صفاءه. المبحث الأول: الشرك الأكبر وهو اتخاذ الأنداد من دون الله، ودعوتهم ومحبتهم والتقرب إليهم من دون الله تعالى، وهو أعظم الذنوب، وأشد المحرمات لا يغفره الله تعالى لمن لم يتب منه توبة نصوحا، ولا يقبل منه صرفا ولا عدلا. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً} 1. وقال: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} 2. وقال: {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} 3.

_ 1 الآية 116 من سورة النساء. 2 الآية 151 من سورة الأنعام. 3 الآية 72 من سورة المائدة.

وقال: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} 1. وقال: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} 2. وفي الحديث عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من مات وهو يدعو لله نداً دخل النار" 3. وعنه رضي الله عنه قال: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم؟ قال: "أن تجعل لله نداً وهو خلقك" 4. وهذا النوع من أنواع الشرك ينقسم إلى أقسام: أحدها: شرك الدعاء: كما قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} 5. وهذا إخبار عن حال المشركين وأنهم في حال الرخاء يدعون غير الله ويسألون غيره، فإذا نزلت بهم مصيبة لجأوا إلى الله وسألوه كشف الضر عنهم، حتى إذا كشفه عنهم واستجاب لهم وتحقق مطلبهم عادوا إلى ما

_ 1 الآية 13 من سورة لقمان. 2 الآية 48 من سورة النساء. 3 تقدم تخريجه ص 288. 4 صحيح البخاري مع الفتح 8/163. 5 الآية 65 من سورة العنكبوت.

كانوا عليه من الشرك بالله والإعراض عنه، ثم خلف من بعدهم خلف أشد منهم شركا وإعراضا فهم على شركهم وعنادهم في الرخاء والشدة فهم أسوأ حالا من أسلافهم. فهؤلاء أشركوا مع الله تعالى غيره في الدعاء الذي هو العبادة، كما يفعله مشركوا اليوم ممن ينتسبون إلى الإسلام، وهو منهم براء كغلاة المتصوفة والرافضة وأضرابهم. الثاني: شرك النية والقصد والإرادة: ومن أدلته قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 1. وقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً وَمَنْ أَرَادَ الاخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} 2.

_ 1 الآية 15 من سورة هود. 2 الآيات من 18- 20 من سورة الإسراء.

الثالث: شرك في الطاعة: وذلك بطاعة غير الله تعالى في معصيته سبحانه، كطاعة العلماء والأمراء والسلاطين وغيرهم، إذ "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق" و"إنما الطاعة في المعروف ". فمن أطاع أحداً في تحليل ما حرم الله تعالى أو تحريم ما أحله فقد اتخذ ذلك المطاع ربا من دون الله بقدر طاعته له، قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} 1. الرابع: شرك المحبة: بأن يصرف المحبة لغير الله تعالى مما يجب أن يكون لله، ومن أدلته قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّه} 2. وقوله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود إلى الكفر بعد أن أنقذه الله منه، كما يكره أن يقذف في النار" 3.

_ 1 الآية 31 من سورة التوبة. 2 الآية 165 من سورة البقرة. 3 البخاري مع الفتح 1/60، ومسلم بشرح النووي1/66.

فهذه أقسام الشرك الأكبر الذي يخرج صاحبه من الملة، ويخلده في النار إذا لم يتب منه ولا يقبل الله منه عملا، كما قال تعالى عن المشركين: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} 1. وقال مخاطبا رسوله صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} 2. وقال بعد ذكر عدد من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 3.

_ 1 الآية 23 من سورة الفرقان. 2 الآيتان 65، 66 من سورة الزمر. 3 الآية 88 من سورة الأنعام.

المبحث الثاني: الشرك الأصغر

المبحث الثاني: الشرك الأصغر. وهو دون الشرك الأكبر لا يخرج من الملة، ولا يخلد صاحبه في النار، ولا يحبط غيره من الأعمال، وهو مع هذا أكبر الكبائر، ومن أشد الذنوب، وصاحبه على خطر عظيم قد يصل به على الشرك الأكبر، وأنواعه كثيرة - منها: الحلف بغير الله تعالى: قال صلى الله عليه وسلم: "من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك" 1. وقول: ما شاء الله وشئت: لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان" 2. ولما قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت. قال: "أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده" 3. ومنها: الرياء وهو العمل أو تحسينه أو تركه من أجل الناس، وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر"، فسئل عنه

_ 1 مسند الإمام أحمد 2/34. وقد صححه الحاكم وأقره الذهبي. 2 مسند الإمام أحمد 5/384. وسنن البيهقي 3/216 وهو حديث صحيح. 3 مسند الإمام أحمد 1/214، وهو حديث حسن.

فقال: "الرياء"1. قال شداد بن أوس رضي الله عنه: "كنا نعد الرياء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الشرك الأصغر" 2. وغير ذلك من الشرك في الأمثال والأقوال فيما هو دون الشرك الأكبر، وقد يكون هذا شركا أكبر حسب قصد فاعله أو قائله.

_ 1 مسند الإمام أحمد 5/428. النسائي وابن معين وغيرهم. 2 تيسير العزيز الحميد ص 532.

المبحث الثالث: الشرك الخفي

المبحث الثالث: الشرك الخفي وهو الشرك في الإرادة والنيات كالرياء والسمعة، وهو الذي لا يكاد يسلم منه أحد إلا من عصمه الله تعالى، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس اتقوا هذا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل"، فقال له من شاء الله أن يقول: وكيف نتقيه يا رسول الله؟ قال: قولوا: "اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئا نعلمه ونستغفرك لما لا نعلمه" 1. ويمكن تقسيم الشرك بالنسبة إلى أنواع التوحيد إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: الشرك في الربوبية: وهو نوعان: شرك التعطيل: وهو أعظم أنواع الشرك وأقبحها، فالتعطيل أصل كل شرك وإلحاد، كشرك فرعون، وشرك الفلاسفة ومن شابههم من الملاحدة وأهل وحدة الوجود كابن عربي، وابن سبعين وابن الفارض، وكذا من عطل أسماء الرب وصفاته كغلاة الجهمية والقرامطة. وشرك من جعل مع الله إلها آخر ولم يعطل أسماؤه ولا صفاته ولا ربوبيته: كشرك النصارى والقائلين بأن الله ثالث ثلاثة، والمجوس الذين يقولون بإلهين للخير والشر وهما النور والظلمة. ومثلهم عباد الكواكب وغلاة عباد القبور الذين يرون الأولياء لهم

_ 1 مسند الإمام أحمد 4/403 من حديث أبي موسى. وهو حديث حسن.

قدرة بعد موتهم على تفريج الكربات وقضاء الحاجات1. القسم الثاني: الشرك في الألوهية: وهو شرك الجاهلية الذي كانوا يعترفون بربوبية الله تعالى ولكنهم يشركون معه في ألوهيته أصنامهم ومعبوداتهم ويقولون كما حكى الله عنهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 2. فلم يقبل ذلك منهم ولم ينفعهم إقرارهم واعترافهم بربوبية الله تعالى مع شركهم في ألوهيته، وهذا الشرك أكثر شرك أهل الأرض، وهو الذي من أجله بعث الرسل عليهم الصلاة والسلام وأنزلت الكتب وقامت بسببه الخصومة بين الرسل وأممهم، ويدخل تحت هذا القسم من الشرك: الشرك الأكبر، والأصغر، واللذان سلف الكلام عنهما3. القسم الثالث: الشرك في الأسماء والصفات: وهو نوعان: أولهما: شرك من شبه الله تعالى بخلقه كمن يقول: له يد كيدي، أو استواء كاستوائي، أو سمع كسمعي أو نحو ذلك، وهذا هو شرك المشبهة.

_ 1 انظر: كتاب التوضيح عن توحيد الخلاق في جواب أهل العراق وتذكرة أولي الألباب في طريقة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، تأليف سليمان ابن عبد الله بن محمد ابن عبد الوهاب ص 163، 164 وص 168، 169، وكتاب تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد للمؤلف نفسه ص 43، 44. 2 الآية 3 من سورة الزمر. 3 انظر المصدرين السابقين.

وثانيهما: تسمية الآلهة بأسماء الله تعالى كتسمية المشركين آلهتهم بأسماء مشتقة من أسماء الله تعالى، وهو معنى قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الاسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 1. قال ابن عباس رضي الله عنه: يلحدون في أسمائه: يشركون، سموا اللات من الإله، والعزى من العزيز

_ 1 الآية 180 من سورة الأعراف.

الفصل الخامس: منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في حماية التوحيد

الفصل الخامس: منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في حماية التوحيد تقدم الكلام عن منهجه عليه الصلاة والسلام في دعوته إلى التوحيد، وجهاده في سبيله، وكيف كانت دعوته عليه الصلاة والسلام كلها تدور حول التوحيد، وتحقيقه، وترسيخه في النفوس، لأنه أول واجب على العبد، وأساس إيمانه، كما كان مفتاح دعوة الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وفي الوقت نفسه بيّن الشرك المضاد لهذا التوحيد وحذّر منه، ونهى عنه وبيّن أنواعه، وخطورته على الناس وعواقبه الوخيمة في الدنيا والآخرة. سار عليه الصلاة والسلام على هذا المنهج وربى عليه أصحابه رضي الله عنهم حتى علت كلمة التوحيد، ورفرفت راية العقيدة، واختفى الشرك، وتحطمت معاقله، وسار الناس على المحجة البيضاء ليلها كنهارها. واستمر جهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في حماية هذا التوحيد، وحراسة حماه، وكان عليه الصلاة والسلام دائم التعليم لأصحابه يبين لهم فضل الله عليهم بهذا التوحيد وما أعد لأهله من الأجر العظيم والثواب الجزيل، ويحذرهم وينهاهم عن كل ما يخالفه أو يخل به، أو يكدر صفوه، أو يكون ذريعة إلى شيء من ذلك، وما توعد الله به أعداء توحيده، وخصوم أنبيائه ورسله عليهم الصلاة والسلام الذين أرسلهم ليخرجوا الناس من ظلمات الشرك إلى نور التوحيد.

وقام صرح عقيدة التوحيد واشتد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على حمايته خير قيام وأعظمه وأكمله، وسطع نور التوحيد وظهر في أنصع صوره وأجملها وأنقاها، وما ترك عليه الصلاة والسلام شيئا يخل بهذه الصورة إلا حذر منه ونهى عنه وإن لم يكن في نفسه شركا، سدا للذريعة، وحماية لجانب هذا التوحيد، وحراسة لحماه بكافة أنواعه.

المبحث الأول: منهجه عليه الصلاة والسلام في حماية توحيد الربوبية

المبحث الأول: منهجه عليه الصلاة والسلام في حماية توحيد الربوبية عني الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا النوع من التوحيد عناية كبيرة مع أنه بعث في مجتمع لا ينكر ربوبية الخالق سبحانه وتعالى، فأكد على هذا النوع من التوحيد، وبيّن دلائله، وشواهده، وجاءت الآيات والأحاديث تبيّن ذلك وتؤكده لأمور أهمها: 1) بيان أن الله تعالى هو المتفرد بالربوبية المطلقة التي لا يشاركه فيها أحد، فهو رب كل شيء ومليكه، وهو القادر على كل شيء، وله الخلق والأمر كلهم مخلوقون مربوبون، وهذا يستدعي العناية والحماية له لما له من أهمية في معرفة العبد ربه عز وجلّ، ولما له من ارتباط بغيره من أنواع التوحيد الأخرى. 2) أنه وجد من أنكر ربوبية الله تعالى، ونسب ما يجب لله لغيره، وإن كان ذلك قليلا، فكان لا بد من بيان ذلك والرد عليه. 3) أنه قد يأتي في زمن من الأزمنة من يقع في مثل ذلك، كما هو الحال في زماننا الذي انتشر فيه الإلحاد وإنكار ربوبية الله عز وجل، كالشيوعية الملحدة، وما يعتقده غلاة الصوفية في أوليائهم وغلاة الرافضة في أئمتهم، فكان من الضروري، العناية بهذا النوع من التوحيد. إلزام الذين يقرون بهذا النوع بالإقرار بأنواع التوحيد الأخرى وإلا فلا معنى لإقرارهم بتوحيد الربوبية ولا ينفعهم ذلك، فقد كانت

1) الآيات من القرآن الكريم تنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم تدعوهم إلى التفكر في آيات الله في الكون وأنه تعالى خالق كل شيء ومدبره ليؤكد ما يقرون به، من هذا التوحيد، ويحتج عليهم به، ويعيب عليهم تفريقهم بين توحيد الربوبية والألوهية، مع تلازمهما. فلا يكفي توحيد الربوبية دون توحيد الألوهية، ولا يتأتى توحيد الألوهية دون توحيد الربوبية، بل هما متلازمان، فتوحيد الربوبية يستلزم توحيد الألوهية، وتوحيد الألوهية والعبادة يتضمن توحيد الربوبية ولا يتم إلا به.

المبحث الثاني: منهجه عليه الصلاة والسلام في حماية توحيد الألوهية

المبحث الثاني: منهجه عليه الصلاة والسلام في حماية توحيد الألوهية كان لتوحيد الألوهية والعبادة الاهتمام الأول في العناية والحماية، فهو الذي كان ينكره المشركون ويردّون دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام إليه، ويعجبون منها، كما قال الله تعالى حكاية عن المشركين: {أَجَعَلَ الالِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} 1. ولهذا فقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا التوحيد أتم بيان ودعا إليه أعظم دعوة، وجلُّ القرآن الكريم نزل ليقرر هذا النوع من التوحيد ويدعو إليه، وجاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك أعظم جهاد، وقام في حمايته وصيانة حماه حتى أتاه اليقين، بل إنه وهو في الرمق الأخير، وهو يعالج نزع الروح يبين لأمته أهمية هذا التوحيد، كما ربى أصحابه رضي الله عنهم على ذلك ليكونوا جنودا وحماة لهذا التوحيد ويسلّموا هذه الأمانة إلى من بعدهم صافية نقية، وقد كانوا كذلك رضي الله عنهم وأرضاهم. وفيما يلي بعض الأمثلة من حماية رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذا النوع من التوحيد وبيانه والنهي عن كل ما يضاده من شرك أو بدعة أو يكون وسيلة وذريعة إلى ذلك وإن لم يكن في نفسه شركا.

_ 1 الآية 5 من سورة ص.

أولا: النهي عن الغلو والإطراء الغلو أصل كل شر وبلاء في الدين، فهو أصل الشرك والانحراف الذي صار طريق كل هالك وسبيل كل ضال، والإطراء باب من أبوابه ووسيلة من أعظم وسائله، فالغلو هو الذي كان سببا في وقوع الشرك في الأرض بعد أن لم يكن، ثم صار بعد أساس كل شرك يقع في كل زمان ومكان، فهو سبب كفر النصارى، وشركهم الذين قال الله عنهم: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} 1. ولهذا حذر الرسول صلى الله عليه وسلم أمته من ذلك، ومن كل وسيلة قد توصل إليه خوفا على أمته وحماية لجناب التوحيد، فنهاهم عن الغلو في الدين وحذرهم منه، وعن إطرائه أو تجاوز الحد في مدحه والثناء عليه، لئلا يقعوا فيما وقع فيه غيرهم، فكان سبب هلاكهم، فذم التنطع وحذر منه وهو أول سهم من سهام الغلو، فقال صلى الله عليه وسلم: "هلك المتنطعون" 2 قالها ثلاثا. وكان صلى الله عليه وسلم لا يحب المتعمقين، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال في الصوم فقال رجل من المسلمين: إنك تواصل يا رسول الله، قال: "وأيكم مثلي؟ إني أبيت يطعمني ربي ويسقين".

_ 1 الآية 171 من سورة النساء. 2 صحيح مسلم بشرح النووي 16/220.

فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال أقبل بهم يوما ثم يوما، ثم أراد الهلاك، فقال: "لو تأخر لزدتكم"، كالتنكيل لهم حين أبوا أن ينتهوا"1. وكان الصحابة أقل الأمة تكلفا، اقتداء بنبيهم صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} 2. وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "من كان مستنا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد، كانوا أفضل هذه الأمة: أبرها قلوبا واعمقها علما، وأقلها تكلفا، اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم على أثرهم وسيرتهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم"3. وقال أنس رضي الله عنه:"كنا عند عمر رضي الله عنه فسمعته يقول: نهينا عن التكلف". وقال مالك: قال عمر بن عبد العزيز: "سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمور بعده سننا، الأخذ بها تصديق لكتاب الله، واستكمال لطاعة الله، وقوة على دين الله، ليس لأحد تبديلها ولا تغييرها، ولا النظر فيما خالفهما، من اقتدى بها فهو مهتد، ومن استنصر بها فهو منصور، ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا"4.

_ 1 صحيح البخاري مع الفتح 4/206. 2 الآية 86 من سورة ص. 3 ابن قيم الجوزية مدارج السالكين 3/436. 4 الآجري – الشريعة 1/48.

وقال مالك: بلغني أن عمر بن الخطاب كان يقول:"سُنتْ لكم السنن، وفرضت لكم الفرائض، وتُرِكتم على الواضحة، إلا أن تميلوا بالناس يمينا وشمالا"1. وقال صلى الله عليه وسلم: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين" 2. فأخبر أن الغالين يحرفون ما جاء به، والمبطلين، ينتحلون بباطلهم غير ما كان غير ما كان عليه، والجاهلون يتأولونه على غير تأويله، وفساد الإسلام من هؤلاء الطوائف الثلاثة، فلولا أن الله تعالى يقيم لدينه من ينفي عنه ذلك لجرى عليه ما جرى على أديان الأبياء مثله من هؤلاء3. وحذر عليه الصلاة والسلام من الغلو فقال: "إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو" 4، وسد الذرائع الموصلة إليه، فنهى عن الإطراء وقال: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله" 5.

_ 1 انظر إغاثة اللهفان 1/159. 2 الكامل لابن عدي 1/152،153، من طرق كثيرة ضعيفة كما ذكر ذلك الدارقطني وأبو نعيم، ويمكن أن يتقوى بتعدد الطرق. 3 ابن قيم الجوزية، إغاثة اللهفان 1/159. 4 مسند الإمام أحمد 1/215، وغيره، حديث صحيح. 5 تقدم تخريجه ص 289.

فقد كان الإطراء والغلو سببا لكفر النصارى وقولهم في عيسى عليه السلام غير الحق. وأخبر عن هلاك المتنطعين فقال: "هلك المتنطعون" 1. وأنكر على أصحابه المبالغة في المدح والثناء عليه خوفا عليهم من مجاوزة الحد إلى النهي عنه، وحماية لعقيدة التوحيد من أن يمسها دنس واحتياطا في الحفاظ عليها حتى من الأمور التي قد لا تكون في الواقع شركا أو بدعة، روى عبد الله بن الشخير رضي الله عنه قال: "انطلقت في وفد بني عامر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا: أنت سيدنا، فقال: "السيد الله تبارك وتعالى"، قلنا: وأفضلنا فضلا، وأعظمنا طولا، فقال: "قولوا بقولكم أو بعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان" 2. وروى أنس رضي الله عنه: أن أناسا قالوا: يا رسول الله، يا خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، فقال: "يا أيها الناس قولوا بقولكم ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد عبد الله ورسوله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل" 3. فالنبي صلى الله عليه وسلم لما أكمل الله له مقام العبودية صار يكره أن يمدح صيانة لهذا المقام، وأرشد أمته إلى ترك ذلك نصحا لهم وحماية لمقام التوحيد أن يدخله ما يفسده، أو يضعفه من الشرك ووسائله4.

_ 1 صحيح مسلم بشرح النووي 334/2055. 2 مسند الإمام أحمد 4/24، 25، حديث صحيح. 3 مسند الإمام أحمد 3/153، حديث صحيح. 4 سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، تيسير العزيز الحميد ص 732، 733.

والنهي عن الغلو عام في كل أمر من أمور الدين وأول ذلك أمر العقيدة التي هي أساس الدين وأصله. والنهي عن الإطراء ومجاوزة الحد في شخصه عليه الصلاة والسلام، وغيره من باب أولى أيا كان ذلك الغير ملكا أو نبيا أو صالحا أو غير ذلك، وما أكثر من استزلهم الشيطان فوقعوا فيما نهى الله عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم، وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل، وأضلهم عن الهدى بدعوى المحبة والوسيلة، والتقرب إلى الله تعالى، حتى صدق على كثير منهم قوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} 1. وقوله: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} 2. وقوله: {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} 3.

_ 1 الآيات من 103-105 من سورة الكهف. 2 من الآية 30 من سورة الأعراف. 3 الآية 37 من سورة الزخرف.

وإنما المحبة الصحيحة والوسيلة الصالحة في اقتفاء أثر رسوله صلى الله عليه وسلم وصحابته والتابعين لهم بإحسان والسير على طريقهم الذي هو صراط الله المستقيم كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 1. وكما قال سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} 2. وقال بعد ذكر عدد من الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} 3.

_ 1 الآية 31 من سورة آل عمران. 2 الآية 21 من سورة الأحزاب. 3 الآية 90 من سورة الأنعام.

ثانيا: زيارة القبور والنهي عن اتخاذها مساجد: وهذا الموضوع له أهمية عظيمة نظرا لما له من الأثر المباشر في عقيدة التوحيد قديما وحديثا، وما حصل بسببه من الفتن التي أدت بكثير من أهلها إلى الشرك بالله سبحانه وتعالى، ولهذا فقد كان له أهميته العظيمة، ومن أهم ما اهتم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبيّن الهدى فيه وأمر به، وحذر من الانحراف عنه وما يترتب على ذلك من عواقب وخيمة وفتن عظيمة. والكلام عن هذا الموضوع الهام يتلخص في عدة أمور: الأمر الأول: الحكمة من زيارة القبور لقد بيّن عليه الصلاة والسلام الحكمة التي من أجلها شرعت زيارة القبور وهي أمران: أحدهما: تذكر الآخرة، والاعتبار بحال أهل القبور وما سينتهي إليه كل إنسان كما قال صلى الله عليه وسلم: "فزوروا القبور فإنها تذكركم الموت" 1. فقد بيّن عليه الصلاة والسلام الغاية من زيارة القبور وأنها تذكر بالآخرة، وما ينبغي للزائر أن يكون قصده من زيارته للقبور، وهذه حكمة عظيمة تبعث في نفس المؤمن الاستعداد للموت والدار الآخرة، وتحذر من الغفلة والاغترار بالدنيا، وهذه حكمة عظيمة لو عقلها المسلمون.

_ 1 صحيح مسلم بشرح النووي 7/46.

ثانيهما: من الحكمة في زيارة القبور: الدعاء للميت والاستغفار له والترحم عليه، وهذه حكمة أخرى من زيارة القبور، وهي حق للميت على الحي، إذ الميت قد انقطع عمله، وهو في أمس الحاجة وأشدها إلى من يدعو الله له بالمغفرة والرحمة. فالزائر للقبور على الوجه المشروع تتحقق له هذه الحكمة، ويجمع بين خيرين له وللميت، فله بتذكر الآخرة والاستعداد لها، ونيل ثواب الزيارة وأجرها، وللميت بما حصل له من الاستغفار والدعاء. هذا هو الذي شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في زيارة القبور والحكمة منها. ولكن المشركين عكسوا ذلك فجعلوا الزيارة لدعاء الميت والتوسل به وليس للدعاء له فيعود الزائر مأزورا لا مأجورا، فيجمع بين شرين، ويحرم الميت من حصول الدعاء له بسبب مخالفة هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته1. الأمر الثاني: الزيارة الشرعية بين رسول الله صلى الله عليه وسلم كيفية الزيارة الشرعية للقبور بقوله وعمله، وعلمها أصحابه وعملوا بها كما علمهم عليه الصلاة والسلام، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: أن جبريل عليه السلام أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم"، قالت: قلت: كيف أقول لهم يا رسول الله؟ قال: "قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم

_ 1 انظر إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان لابن قيم الجوزية 1/198-199.

لاحقون" 1. وعنها رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما كان ليلتها منه يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم ما توعدون غدا مؤجلون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل البقيع الغرقد" 2. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى عن زيارة القبور أول الأمر سدا للذريعة، ثم أذن فيها حين تمكن التوحيد في القلوب، وبين الزيارة المشروعة وأمر بها، ونهى عن كل ما يخالفها وحذر منه أشد التحذير. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "زوروا القبور فإنها تذكر الموت" 3. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال: "استأذنت ربي أن أستغفر لها فلم يأذن لي، واستأذنته في أن أزورها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكر الموت" 4. وعن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فمن أراد أن يزور فليزر، ولا تقولوا هجرا" 5.

_ 1 صحيح مسلم بشرح النووي 7/44. 2 صحيح مسلم بشرح النووي 7/40، 41. 3 صحيح مسلم بشرح النووي 7/46. 4 تقدم تخريجه ص316. 5 مسند الإمام أحمد 1/452، 5/361. وقد أخرج الشافعي في الأم عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ونهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ولا تقولوا هجرا" وإسناده صحيح. انظر الأم 1/278. والهجر: هو الفحش، يقال: أهجر في منطقة يهجر اهجارا إذا أفحش. انظر النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير 5/245.

فقد بين صلى الله عليه وسلم الزيارة الشرعية قولاً وعملاً أتم بيان، وأتبعه على ذلك أصحابه رضي الله عنهم في حياته وبعد مماته. فالزيارة الشرعية يقصد بها السلام عليهم والدعاء لهم، كما يقصد الصلاة على أحدهم إذا مات فيصلى صلاة الجنازة، فهذه الزيارة الشرعية1. فالحي محتاج إلى اتباع السنة، والحصول على الأجر والثواب، وتذكر الآخرة، والميت محتاج أمس الحاجة إلى من يدعو له ويستغفر أو يترحم عليه، وتحقيق هاتين المصلحتين كانت هدف الشارع من مشروعية زيارة القبور، وما خرج عن ذلك فهو ابتداع لا اتباع وشرك أو ذريعة له. فهذه الزيارة الشرعية المستفادة من الأحاديث النبوية، وعليها درج الصحابة والتابعون وتابعوهم بإحسان، إنما فيها التذكر بالقبور والاعتبار بأهلها والدعاء لهم والترحم عليهم، وسؤال الله العفو عنهم، فمن ادعى فيها غير هذا طولب بالبرهان، وأنى له ذلك، ومن أين يطلبه، بل كذب

_ 1 ابن تيمية – الفتاوى 1/236. انظر النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير 5/245.

وافترى، وقفا ما ليس له به علم، بل إن العلوم الشرعية دالة على ضلاله وجهله. الأمر الثالث: الزيارة غير الشرعية وهي إما شركية كزيارة المشركين للقبور لدعاء الموتى وسؤالهم الحوائج من دون الله عز وجل، واعتقاد أنهم يقدرون على ذلك. وأما بدعية مفضية إلى الشرك كتحري الدعاء عند القبور واعتقاد أنه افضل منه في مكان آخر، أو أن التوسل بهم إلى الله تبارك وتعالى يقتضي الإجابة. وكلا الزيارتين باطلتان مخالفتان لما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في زيارة القبور، وما سار عليه سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان رضي الله عنهم، كما تقدم من الأحاديث الصريحة الصحيحة. إذ الناس في هذا الباب – أعني زيارة القبور – ثلاثة أقسام: قوم يزورون1 الموتى فيدعون لهم، وهذه هي الزيارة الشرعية، وقوم يزورونهم يدعون بهم وهؤلاء المشركون في الألوهية والمحبة، وقوم يزورونهم فيدعونهم أنفسهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد" 2، وهؤلاء المشركون في الربوبية3.

_ 1 حافظ بن أحمد حكمي – معارج القبول 1/479. 2 مسند الإمام أحمد 2/246. وهو حديث صحيح. 3 تقي الدين المقريزي – تجريد التوحيد المفيد ص 19-20.

وهذه الزيارة هي التي فتحت أبواب الشرك والبدع على المسلمين، إذ جعل أهلها القبور مقصدا لمن أراد الدعاء وطلب الحاجات وتفريج الكربات، وعظموها أشد من تعظيم بيوت الله تعالى فيعطونها من التعظيم والاحترام والخشوع والخضوع ما لا يفعلون بعضه في المساجد التي هي مكان العبادة والصلاة وذكر الله وسؤاله، فبذلك سعوا إلى عمارة القبور والمشاهد والبناء عليها واسراجها والدعوة إليها، وخراب المساجد وهجرها، وتقليل مكانتها وعظمتها في نفوس المسلمين. وقد آل الأمر بهؤلاء الضلال المشركين إلى أن شرعوا للقبور حجا، ووضعوا له مناسك، حتى صنف بعض غلاتهم في ذلك وسماه "مناسك حج المشاهد" مضاهاة منه بالقبور للبيت الحرام، ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين الإسلام، ودخول في دين عبادة الأصنام، فانظر إلى هذا التباين العظيم بين ما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقصده، من النهي عما تقدم ذكره في القبور، وبين ما شرعه هؤلاء وقصدوه، ولا ريب أن في ذلك من المفاسد ما يعجز العبد عن حصره1. والذين هذا حالهم في زيارتهم للقبور قد تنكبوا الصواب، وغفلوا عن الرشد، وكان أولى لهم من زيارة قبور من يعتقدون صلاحهم للتوسل كان أولى لهم أن يقتدوا بهم في أعمالهم ويتبعوا سبيلهم، يخافون من الله كما يخافون، ويرجون رحمته كما كانوا يرجون. قال الله جل شأنه:

_ 1 ابن قيم الجوزية – إغاثة اللهفان 1/197.

{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} 1. وقبلها قوله سبحانه وتعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} 2. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "وهؤلاء الفضلاء من الأئمة إنما ينبغي محبتهم واتباعهم، وإحياء ما أحيوه من الدين، والدعاء لهم بالمغفرة والرحمة والرضوان، ونحو ذلك. وأما اتخاذ قبورهم أعيادا، فهو مما حرمه الله ورسوله، واعتياد قصد هذه القبور في وقت معين، أو الاجتماع العام عندها في وقت معين، وهو اتخاذها عيدا –كما تقدم – ولا أعلم بين المسلمين، أهل العلم في ذلك خلافا، ولا يغتر بكثرة العادات الفاسدة، فإن هذا من التشبه بأهل الكتابين، الذي أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أنه كائن في هذه الأمة. وأصل ذلك إنما هو اعتقاد فضل الدعاء عندها، وإلا فلو لم يقم هذا الاعتقاد بالقلوب انمحي ذلك كله، فإذا كان قصدها للدعاء يجر هذه المفاسد كان حراماً، كالصلاة عندها وأولى، وكان ذلك فتنة للخلق، وفتحا لباب الشرك، وإغلاقا لباب الإيمان"3.

_ 1 الآية 57 من سورة الإسراء. 2 الآية 56 من سورة الإسراء. 3 ابن تيمية – اقتضاء الصراط المستقيم 2/ 732 تحقيق د. ناصر العقل.

ولقد كان حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الباب شديدا، فبين المشروع من ذلك بياناً واضحاً جلياً وأمر به وحث عليه، وحذر مما يخالفه أو يكون وسيلة وذريعة إليه أشد التحذير، إذ هو سبب كل شر، وأصل كل شرك في الأرض منذ ظهر الشرك أول ما ظهر في قوم نوح عليه السلام. الرابع: بعض ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في التحذير والنهي عن ذلك: فمن ذلك ما روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها وأم حبيبة رضي الله عنها ذكرتا لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة وما فيها من الصور، فقال: "أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجد، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله" 1 متفق عليه. ولهما أيضا عنها رضي الله عنها قالت: "لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة على وجهه فإذا اغتم كشفها فقال وهو كذلك: "لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، يحذر ما صنعوا ولولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا2. وعن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: "إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله قد اتخذني خليلا، ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ألا وإن

_ 1 البخاري مع الفتح 1/531، ومسلم بشرح النووي 1/375. 2 البخاري مع الفتح 1/532، ومسلم بشرح النووي 1/377.

من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك" 1. واتخاذ القبور مساجد يشمل ثلاثة معاني: الأول: السجود إليها واستقبالها عند الصلاة والدعاء فقد كانوا يسجدون لها تعظيما، ويتوجهون إليها في صلاتهم، فلذلك لعنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونهى أمته عن مشابهتهم بعمل مثل هذه الأعمال كما جاء في الأحاديث السابقة وكما في حديث أبي مرثد الفنوي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها" 2. الثاني: بناء المساجد على القبور وقصد الصلاة فيها وهذا يشمل بناء المساجد على القبور أو إدخال القبور في المساجد، فالعلة الموجودة للنهي قائمة على كلا المعنيين، وقد ذكر البخاري رحمه الله تعالى ذلك في بابين: أحدهما: باب ما يكره من اتخاذ القبور، وأورد تحته حديث عائشة رضي الله عنها المتقدم، والذي فيه لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهود والنصارى، وأثرا عما حدث لامرأة الحسن بن الحسن بن عليّ رضي الله عنهما ونصه: "لما مات الحسن بن الحسن بن عليّ رضي الله عنهم ضربت امرأته

_ 1 تقدم تخريجه ص 289. 2 صحيح مسلم بشرح النووي 3/62.

قبة على قبره سنة، ثم رُفعت، فسمعوا صائحا يقول: ألا هل وجدوا ما فقدوا؟ فأجابه الآخر: بل يئسوا فانقلبوا". والآخر: باب بناء المسجد على القبر، وأورد فيه حديث عائشة رضي الله عنها فيما رأته أم سلمة وأم حبيبة رضي الله عنهما في أرض الحبشة، وقد تقدم نصه. وفي شرح حديث عائشة رضي الله عنها في الباب الأول أورد الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى قول الكرماني: "مفاد الحديث منع اتخاذ القبر مسجدا، ومدلول الترجمة اتخاذ المسجد على القبر، ومفهومهما متغاير، ويجاب بأنهما متلازمان وإن تغاير المفهوم"1. الثالث: من معاني اتخاذ القبور مساجد: الصلاة على القبور والسجود عليها: كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يبنى على القبور أو يقعد عليها أو يصلي عليها" 2. والأحاديث الواردة في النهي عن ذلك تشمل هذه المعاني الثلاثة لأنها جميعا مما ورد النهي عنه، وهي إما شرك أو ذريعة إليه. وتخصيص قبور الأنبياء في كثير من الأحاديث، لأن اتخاذها مساجد وقصد الصلاة والدعاء عندها أكثر من غيره، وتعلق الناس بها أعظم. ومن الأحاديث في التحذير من ذلك إضافة إلى ما سبق:

_ 1 فتح الباري شرح صحيح البخاري 3/200، 201، 208. 2 مسند أبي يعلى 2/66، وإسناده صحيح.

حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتدّ غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" 1. وقد استجاب الله دعاء رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وحمى قبره من أن يتخذ عيدا أو وثنا، فما هذه الحماية التي يسخر الله لها من شاء إلا استجابة له عليه الصلاة والسلام، قال ابن القيم الجوزية في النونية: فأجاب رب العالمين دعاءه ... وأحاطه بثلاثة الجدران حتى غدت أرجاؤه بدعائه ... في عزة وحماية وصيان وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجعلوا بيوتكم قبورا، ولا تجعلوا قبري عيدا، وصلوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم" 2. فقوله عليه الصلاة والسلام: "لا تجعلوا بيوتكم قبورا" معناه: بعدم الصلاة وقراءة القرآن والدعاء فيها، وهذا حث منه صلى الله عليه وسلم على إعطاء البيوت قسطا من نوافل العبادات لما في ذلك من الحكم والمنافع العظيمة، ومفهوم هذا القول منه صلى الله عليه وسلم أن القبور يجب أن تكون خالية من هذه الأمور. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "أي لا تعطلوها من الصلاة فيها والدعاء والقراءة، فتكون بمنزلة القبور، فأمر بتحري العبادة في البيوت، ونهى عن تحريها عند القبور، عكس ما يفعله المشركون

_ 1 تقدم تخريجه ص 321. 2 مسند الإمام أحمد 2/367 وهو حديث صحيح.

من النصارى ومن تشبه بهم من هذه الأمة"1 وعن ابن عمر رضي الله عنهما مر فوعا: "اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا" 2. وعن أبي هريرة صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تجعلوا بيوتكم مقابر، فإن الشيطان يفر من البيت الذي يسمع سورة البقرة تقرأ فيه" 3. وهان الحديثان يدلان على ما دل عليه الحديث الأول من النهي عن تشبيه البيوت بالمقابر في عدم الصلاة والدعاء وقراء القرآن فيها، والحث على تخصيص شيء من النوافل في البيوت، وذلك يتضمن – كم سبق ذكره – النهي عن فعل شيء من ذلك عند القبور. وعن عبد الله بن مسعود صلى الله عليه وسلم أن رسول الله قال: "إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون قبور أنبيائهم مساجد" 4. وعن جابر رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تجصيص القبر، وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه بناء" 5. ومن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة

_ 1 ابن تيمية – اقتضاء الصراط المستقيم 2/657ت د. ناصر العقل. 2 صحيح البخاري مع الفتح 1/528، وصحيح مسلم بشرح النووي 6/67. 3 صحيح مسلم بشرح النووي 6/68. 4 مسند أحمد بن حنبل 1/435. 5 مسلم بشرح النووي 2/ 667.

مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى" 1. وهذه الأحاديث وغيرها كثير كلها تنهى وتحذر أشد التحذير من الغلو في القبور والتوسل بأهلها، واتخاذها مساجد ومجاوزة الحد المشروع في تعظيمها وتخصيصها بالدعاء، واعتقاد أفضلية شيء من العبادة عندها، واتخاذها أعيادا ورفعها والبناء عليها وتجصيصها واتخاذ السرج عليها، وشد الرحال لزيارتها- عدا ما ورد في الحديث السابق- وكل ما خرج عن الحدّ الشرعي الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كل ذلك كان حرصا منه عليه الصلاة والسلام على عقيدة التوحيد لتبقى طاهرة صافية نقية، وسد كل طرق الشرك أو ذرائعه حتى ولو لم تكن شركا في نفسها، لئلا يمس جانب هذه العقيدة دنس من الشرك، أو بدعة، وعلى الأخص ما يتعلق بالقبور وأهلها فقد اهتم به أعظم اهتمام حتى في اللحظات الأخيرة من حياته عليه الصلاة والسلام، وفي وقت النزع والاحتضار لأن هذا الباب هو الذي دخل منه الشرك على الناس على مدار التاريخ وأخطر معول يهدم بناء التوحيد الذي بناه الأنبياء والمرسلون عليهم الصلاة والسلام بوحي من ربهم جل شأنه وتعالى ذكره، وتوحيد العبادة على وجه الخصوص وهو التوحيد الذي كان أول ما دعا غليه الرسل جميعا عليهم الصلاة والسلام أممهم وقامت بينهم الخصومة فيه بل وقد يفضي غلو بعض الناس في القبور وأهلها إلى الإخلال بتوحيد الربوبية والعياذ بالله تعالى.

_ 1 البخاري مع الفتح 3/63، ومسلم بشرح النووي 9/167، 168.

وكما حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهى عن الشرك وذرائعه في هذا الباب الخطير بين الطريق المشروع ووضحه ودعا إليه الناس جميعا، وسار عليه هو وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين، ورباهم حماة لهذه العقيدة مجاهدين في سبيلها، ودعاة إليها، على ذلك المنهج القويم والصراط المستقيم الذين أنزله ربهم تبارك وتعالى، وبينه رسوله صلى الله عليه وسلم. "فلو كان الدعاء عند القبور والصلاة عندها والتبرك بها فضيلة أو سنة أو مباحا لنصب المهاجرون والأنصار علما لذلك، ودعوا عنده، وسنوا ذلك لمن بعدهم، ولكن كانوا أعلم بالله ورسوله ودينه من الخلوف التي خلفت بعدهم، وكذلك التابعون لهم بإحسان راحوا على هذا السبيل، وقد كان عندهم من قبور أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمصار عدد كثير، وهم متوافرون، فما منهم من استغاث عند قبر صاحب، ولا دعاه ولا دعا به، ولا دعا عنده ولا استشفى به، ولا استسقى به ولا استنصر به، ومن المعلوم أن مثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله، بل على نقل ما هو دونه1. بل الثابت ضد ذلك أنهم كانوا ينهون عن اقل من ذلك، كما ثبت أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قطع الشجرة التي بايع تحتها أصحاب رسول الله: وكما أنكر رضي الله عنه على أنس صلاته عند القبر، وقال له: "القبر، القبر"2.

_ 1 ابن قيم الجوزية – إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان 1/204. 2 البخاري مع الفتح 1/523.

وكما فعل الصحابة رضي الله عنهم بقبر دانيال لما فتحوا تستر1، إذا حفروا قبورا متفرقة ودفنوه ليلا في إحداها وسووا القبور جميعا لئلا يعرفه الناس2. وهذه ثمرة تربية رسول الله صلى الله عليه وسلم لهؤلاء الأخيار الذين كانوا جنودا أقوياء لهذه العقيدة، وحراسا أوفياء لها، يحبون ويعظمون ما أحبه الله ورسله وعظمه ويكرهون ويحرمون ما كرهه الله ورسوله وحرمه. وإنما دين الله تعالى تعظيم بيوت الله وحده لا شريك له، وهي المساجد التي تشرع فيها الصلوات جماعة وغير جماعة، والاعتكاف وسائر العبادات البدنية والقلبية من القراءة والذكر والدعاء لله، وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} 3. وقال تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} 4.

_ 1 تستر: بضم التاء الأولى وفتح الثالثة وبينهما سين ساكنة: مدينة بالإقليم خوزستان فتحها أبو موسى الأشعري رضي الله عنه في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه. انظر معجم البلدان لياقوت الحموي 2/29. 2 انظر كتاب اقتضاء الصراط المسقيم 1/680 ت د. ناصر العقل، وإغاثة اللهفان لابن قيم الجوزية 1/203. 3 الآية من سورة الجن. 4 الآية 29 من سورة الأعراف.

وقال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخر وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} 1. وقال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالاصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ والأبصار لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} 2.

_ 1 الآية 18 من سورة التوبة. 2 الآيات من 36- 38 من سورة النور.

ثالثا: التبرك: وهو اعتقاد البركة في شيء من الأشياء والتماسها منه سواء كان ذلك الشيء شخصا، أو غيره من شجر وحجر، وبقعة، وقبر وغير ذلك. وهو باب خطير، دخلت منه على الإسلام والمسلمين شرور كثيرة لبست ثوب الحق والخير والاتباع، فزلت أقدام كثير من الناس، ووقع في الشرك كثير منهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، ولفقت لذلك الأكاذيب وزوّرت في ذلك أحاديث نسبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كذبا وبهتانا، ونسجت الأقاويل والأباطيل، وعزيت إلى كثير من سلف الأمة وعلمائها زورا وضلالا، كما كان المشركون من الأمم السابقة يعكفون على قبور الأنبياء والصالحين ويتخذونها أعيادا ويعتقدون فيها جلب البركة والنفع ودفع الضر، وسرى ذلك في هذه الأمة مصدقا لقوله صلى الله عليه وسلم: "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا حجر ضبٍّ لدخلتموه"، قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: "فمن؟ " 1. وقوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي واقد الليثي رضي الله عنه الآتي ذكره "الله أكبر إنها السنن". "ولقد عمت البلوى بذلك وطمت في كل زمان ومكان حتى في هذه الأمة، لاسيما في زماننا هذا، ما من قبر ولا بقعة يذكر لها شيء من الفضائل، ولو كذبا، إلا وقد اعتادوا الاختلاف إليها والتبرك بها حتى

_ 1 البخاري مع الفتح 6/495، ومسلم بشرح النووي 16/219، 220.

جعلوا لها أوقاتا معلومة يفوت عيدهم بفواتها، ويرون من أعظم الخسارات أن يفوت الرجل ذلك العيد المعلوم، وآل بهم الأمر إلى أن صنفوا في أحكام حجهم إليها كتبا سموها مناسك حج المشاهد، ومن أخل بشيء منها فهو عندهم أعظم جرماً ممن أخلَّ بشيء من مناسك الحجّ إلى بيت الله الحرام، وجعلوا لها طوافا معلوما، كالطواف بالبيت الحرام، وشرعوا تقبيلها كما يقبل الحجر الأسود حتى قالوا: إن زحمت فاستلم بمحجن أن أو أشر إليه، قياسا على فعل النبي صلى الله عليه وسلم بالحجر الأسود، وشرعوا لها نذروا من المواشي والنقود، ووقفوا عليها الوقوف من العقارات والحرث وغيرها، وغير ذلك من شرائعهم الشيطانية، وقواعدهم الوثنية"1. وكما حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيان الطريق المشروع فيما يتعلق بالقبور، وحذر من مخالفته واهتم بذلك أعظم اهتمام، كذلك كان عليه الصلاة والسلام في أمر التبرك وارتباطه بالقبور واضح جلي، إذ هو هدف كثير ممن يقصد القبور والمشاهد ويتمسح بها ويتحرى الصلاة عندها. روى أبو واقد الليثي رضي الله عنه قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قِبَل حنين، ونحن حديثوا عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون حولها وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها – ذات أنواط – فمررنا بسدرة فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الله أكبر، إنها

_ 1 حافظ حكمي – معارج القبول 1/475-476.

السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنوا إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، لتركبن سنن من كان قبلكم" 1. فقد شبه عليه الصلاة والسلام قول أصحابه – اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط – بقول بني إسرائيل لموسى عليه الصلاة والسلام بعد خروجهم من البحر، وقد مروا على قوم يعكفون على أصنام لهم فطلبوا من موسى عليه الصلاة والسلام أن يجعل لهم آلهة مثل أولئك كما قال الله عز وجل: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرائيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} 2. "فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم مجرد مشابهتهم للكفار في اتخاذ شجرة يعكفون عليها، معلقين عليها سلاحهم، فكيف بما هو أعظم من ذلك من مشابهتهم المشركين، أو هو الشرك بعينه؟ فمن قصد بقعة يرجوا الخير بقصدها، ولم تستحب الشريعة ذلك، فهو من المنكرات، وبعضه أشد من بعض، سواء كانت البقعة شجرة أو عين

_ 1 سنن الترمذي 4/475، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي 1/235. 2 الآيات 138- 140 من سورة الأعراف.

ماء أو قناة جارية، أو جبلا، أو مغارة، وسواء قصدها ليصلي عندها أو يدعوا عندها، أو ليذكر الله سبحانه عندها، أو ليتنسك عندها، بحيث يخص تلك البقعة بنوع من العبادة التي لم يشرع تخصيص تلك البقعة به لا عينا ولا نوعا. وأقبح من ذلك أن ينذر لتلك البقعة دهنا لتنور به ويقال: إنها تقبل النذر، كما يقال بعض الضالين، فإن هذا النذر نذر معصية باتفاق العلماء، ولا يجوز الوفاء به، بل عليه كفارة يمين عند كثير من أهل العلم"1. وقد لا يكون الدافع أو الأمر شركا، ولا يقصد به ذلك ولكن الشيطان ما يلبث أن يزين للناس تلك المخالفة ويحببها إلى قلوبهم، وإن لم يجد لها أهلا في جيل وجد في الجيل الآخر، حتى يصل بأهلها إلى الشرك بالله تعالى، ثم يتبرأ منهم كما أخبر الله عنه، ولأجل ذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد الحرص على حماية هذه العقيدة، وسد كل ثغرة مهما كانت صغيرة لئلا تكون مدخلا للشيطان وهو يعلم عليه الصلاة والسلام أن الصحابة رضي الله عنهم، لم يقصدوا بطلبهم ذات أنواط أن يفعلوا شركاً بعد أن أنعم الله عليهم بنعمة التوحيد، ولم يقصدوا ما قصد غيرهم، بل ظنوا ذلك أمرا محبوبا أرادوا التقرب به، وهم أجل من أن يقصدوا مخالفته صلى الله عليه وسلم، ولكنه مع ذلك استعظم طلبهم ذلك وشبهه بطلب بني إسرائيل من

_ 1 ابن تيمية – اقتضاء الصراط المستقيم تحقيق د. ناصر العقل 2/644.

موسى عليه الصلاة والسلام، وسمى تعظيم هذه الشجرة والعكوف عندها تألها، خوفا عليهم من الشرك، وحماية لجناب العقيدة وسدا لكل أبواب الشرك وذرائعه. "فإذا كان اتخاذ هذه الشجرة لتعليق الأسلحة والعكوف حولها اتخاذ إله مع الله تعالى، مع أنهم لا يعبدونها ولا يسألونها، فما الظن بالعكوف حول القبر والدعاء به ودعائه، والدعاء عنده، فأي نسبة للفتنة بشجرة إلى الفتنة بالقبر؟ لو كان أهل الشرك والبدعة يعلمون. قال بعض أهل العلم من أصحاب مالك: فانظروا رحمكم الله أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس ويعظمونها ويرجون البرء والشفاء من قبلها، ويضربون المسامير والخرق فهي ذات أنواط فاقطعوها"1. فاعتقاد حصول البركة من غير الله تعالى من قبر أو صنم أو شجرة، أو غيرها شرك حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذا تحري الدعاء في هذه الأماكن لأجل القبول والبركة. والتبرك بآثار الصالحين، واعتقاد ذلك فيهم، لم يفعله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا التابعون لهم بإحسان، وهم القدوة والأسوة، إلا ما كان يفعله الصحابة رضوان الله عليهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم وحده دون غيره في حياته عليه الصلاة والسلام، فإن لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته خصائص لم يشاركه فيها غيره، وهو المقطوع عليه الصلاة والسلام، وهذا هو التبرك المشروع، ولم يعرف عن الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا يفعلون ذلك مع غيره

_ 1 ابن قيم الجوزية – إغاثة اللهفان 1/205.

عليه الصلاة والسلام، مهما كان فضله ومنزلته، وهم خير الأمة وأفضل الناس بعد الأنبياء والرسل، وأشدهم تمسكا، وخيرهم إيمانا وأحسنهم وأصفاهم عقيدة، ولو كان ذلك خيرا لكانوا اسبق الناس إليه وأحرصهم عليه رضوان الله تعالى عليهم، بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رباهم وعلمهم كل خير وحذرهم من كل شر، فكان يرشدهم ويوجههم ويبين لهم كما بين لهم عند ما طلبوا منه ذات أنواط وظنوا ذلك حسنا. فإذا كان بعض الصحابة ظنوا ذلك حسنا، من النبي صلى الله عليه وسلم حتى بين لهم أن ذلك كقول بني إسرائيل: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} فكيف لا يخفى على من هو دونهم في العلم والفضل بأضعاف مضاعفة، مع غلبة الجهل وبعد العهد بآثار النبوة، بل عليهم عظائم الشرك في الإلهية والربوبية، فأكثروا فعله، واتخذوه قربة1. ومن الناس من يترك عمل الصالحات ويتعلق بالآثار والأشخاص معتقدا البركة فيهم، ويفوت عمره في طلب ذلك، وإنما البركة والخير كل الخير في الإيمان الصادق والعمل الصالح والعلم الصحيح من كتاب الله تعالى والسنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

_ 1 عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ – فتح المجيد ص 114.

رابعا: الرقى والتمائم: والمقصود بالرقى غير المشروع منها وهي التي تسمى العزائم، التي يعتقدون فيها دفع الآفات والحفظ من المكروهات، وهي المقصود في قول الرسول صلى الله عليه وسلم كما رواه ابن مسعود رضي الله عنه: "إن الرقى والتمائم والتولة شرك" 1. أما ما كان منها من المشروع والمأثور من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يدخل في ذلك، لما جاء في الحديث عن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: كنا نرقي في الجاهلية، فقلنا: يا رسول الله كيف ترى في ذلك؟ فقال: "اعرضوا عليّ رقاكم، لا بأس بالرقى ما لم تكن شركا" 2. والرقى المشروعة هي التي توفرت فيها شروط ثلاثة: الأول: أن تكون بكلام الله أو بأسمائه وصفاته. الثاني: أن تكون باللسان العربي وبمعان معروفة. الثالث: أن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها بل بتقدير الله عز وجل. أما التمائم: فهي جمع تميمة وهي: ما يعلق عادة على الصبيان من خرز أو عظام أو جلد أو نحو ذلك لاعتقاد دفع العين عنهم، وقد نهي عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فيها من شرك، أو ذريعة إليه.

_ 1 مسند الإمام أحمد بن حنبل 1/381. وقد صححه الحاكم على شرط الشيخين وأقره الذهبي. 2 صحيح مسلم بشرح النووي 1/187.

أما التولة: بكسر التاء وفتح الواو فهي ما يصنع بزعم أنه يحبب المرأة إلى زوجها1، كما فسر ذلك ابن مسعود رضي الله عنه قالوا: يا أبا عبد الرحمن هذه الرقى والتمائم قد عرفناها، فما التولة؟ قال: "شيء تصنعه النساء يتحببن إلى أزواجهن". وقال الحافظ رحمه الله تعالى: "التولة بكسر التاء وفتح الواو واللام مخففا شيء كانت المرأة تجلب به محبة زوجها وهو ضرب من السحر"2. ومن ذلك ما يعلق على الإبل من قلائد ونحوها باعتقاد أنه ترد عنها العين، كما جاء في الحديث عن أبي بشير الأنصاري رضي الله عنه كان مع رسول الله في بعض أسفاره، فأرسل رسولاً: "أن لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر، أو قلادة إلا قطعت" 3. وهذه الأحاديث وغيرها التي تنهى عن هذه الأمور، التي فيها توكل على غير الله تعالى، واعتقاد جلب نفع أو دفع ضر من دونه عز وجل، والله تعالى يقول: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} 4.

_ 1 انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير 1/200. 2 انظر: تيسير العزيز الحميد ص 169. 3 صحيح البخاري مع الفتح 6/141 ومسلم بشرح النووي 14/95. 4 الآية 107 من سورة يونس.

ويقول جل شأنه: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} 1. ويقول جل جلاله: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} 2. وأمر سبحانه رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بأن يقول لمن توكل والتجأ إلى غيره من دونه لجلب نفع أو دفع ضر {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} 3. ولما لهذه من الكثرة والانتشار بين الناس قديما وحديثا، وما يعتقد أن تفضي إليه من مخالفة لعقيدة التوحيد، ومنافاة لصحة التوكل على الله عز وجل واعتقاد في غيره فيما لا يقدر عليه إلا هو سبحانه، فقد حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على حماية التوحيد من مثل الأمور التي قد يتساهل فيها المرء مع خطورتها.

_ 1 الآية 106 من سورة يونس. 2 الآيتان 17، 18 من سورة الأنعام. 3 الآية 56 من سورة الإسراء.

فمن تعلق بالله، وأنزل حوائجه به، والتجأ إليه، وفوض أمره إليه، كفاه وقرب إليه كل بعيد، ويسر له كل عسير، ومن تعلق بغيره أو سكن على رأيه وعقله ودوائه وتمائمه ونحو ذلك وكله الله إلى ذلك وخذله، وهذا معروف بالنصوص والتجارب. قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُه} 1،2.

_ 1 من الآية 3 من سورة الطلاق. 2 عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ – فتح المجيد ص 105.

خامسا: الاستسقاء بالأنواء: ومعناه نسبة السقيا ونزول المطر إلى الأنواء، والأنواء: جمع نوء، وهي منازل القمر، وسميت بذلك: لأنه إذا سقط الساقط منها ناء الطالع بالمشرق أي: نهض، وهي ثمان وعشرين منزلة كما قال تعالى: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} 1. وقد كان العرب في الجاهلية يزعمون أنه مع سقوط منزلة وظهور أخرى من منازل القمر يكون مطرا، وينسبون ذلك إليها فيقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا. "فإنهم يعتقدون أن لمطالع الكواكب ومغاربها وسيرها، وانتقالها واقترانها وافتراقها تأثيرا في هبوب الرياح وسكونها، وفي مجيء المطر وتأخره، وفي رخص الأسعار وغلائها، وغير ذلك، فإذا وقع شيء من الحوادث نسبوه إلى النجوم فقالوا: هذا بنوء عطارد أو المشتري أو المريخ أو كذا أو كذا2. "ورد الله تعالى عليهم، وأكذبهم بما أنزله على رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُوَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ

_ 1 الآية 39 من سورة يس. 2 انظر تيسير العزيز الحميد ص 451.

إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 1. وقال تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الأرض رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيم هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} 2،3. وقد حرص الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبين لأمته ما كان عليه أهل الجاهلية من شرك وضلال، وأمرهم بالحذر من ذلك والبعد عنه، وأهم ذلك وأعظمه ما كان متعلقا بأمور الاعتقاد، ومن ذلك ما كان شائعا في الجاهلية من نسبة نزول المطر إلى النجوم ومطالعها ومغاربها، وبين عليه الصلاة والسلام ما في ذلك من الشرك المنافي للتوحيد، كما جاء في حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أربع في أمتي من أمر الجاهلية

_ 1 الآيات 48-50 من سورة الروم. 2 الآيتان 10، 11 من سورة لقمان. 3 حافظ حكمي – معارج القبول 2/ 382، 383.

لا يتركونهن: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم والنياحة". وقال: "والنائحة إذا لم تتب قبل موتها تقوم يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب" 1. فبين عليه الصلاة والسلام أن مما سيكون في هذه الأمة وهو من أمر الجاهلية وعمل أهلها أمورا منها الاستسقاء بالنجوم، وحذر منه لكونه من أمر الجاهلية وشركها الذي كانت عليه، وكونه من أمر الجاهلية كاف في النهي والزجر عنه. كما جاء في حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من ضرب الخدود وشقّ الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية" 2. وهذا يقتضي تجنب ما كان من أمور الجاهلية وخصالها المخالفة لهدي الإسلام وشرعه. "وهذا كله يقتضي أن ما كان من أمر الجاهلية، وفعلهم فهو مذموم، في دين الإسلام، وإلا لم يكن في إضافة هذه المنكرات إلى الجاهلية ذم لها، ومعلوم أن إضافتها إلى الجاهلية خرج مخرج الذم، وهذا كقوله سبحانه وتعالى: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولى} 3، فإن في ذلك ذما للتبرج، وذما

_ 1 صحيح مسلم بشرح النووي 2/644. 2 صحيح البخاري مع الفتح 3/163، وصحيح مسلم بشرح النووي 1/99. 3 الآية 33 من سورة الأحزاب.

لحال الجاهلية الأولى، وذلك يقتضي المنع من مشابهتهم في الجملة"1. وهذا من معجزاته عليه الصلاة والسلام، وحرصه على حماية هذه العقيدة، وحراستها من كل شرك أو ذريعة إليه. وعن زيد بن خالد2 رضي الله عنه قال: "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل فلما انصرف أقبل على الناس فقال: "هل تدرون ماذا قال ربكم؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي، كافر بالكواكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب" 3. وهذا الحديث القدسي العظيم يخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل أن من الناس من ينسب نعمه سبحانه وتعالى إلى غيره، ويضيف أفعاله إلى سواه، وهو تعالى المنعم وحده الذي يجب أن تنسب إليه وحده جميع النعم، ونسبتها إلى غيره شرك به جل شأنه، فهو المتفرد بالرزق، المستحق أن تنسب إليه النعم ويفرد بالشكر عليها وحده لا شريك له.

_ 1 ابن تيمية اقتضاء الصراط المستقيم 1/205، 206، تحقيق د. ناصر العقل. 2 زيد بن خالد: هو الجهني، مختلف في كنيته صحابي جليل روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعثمان وأبي طلحة وعائشة، كان معه لواء جهينة يوم الفتح. مات سنة 78هـ. انظر الإصابة 1/547. 3 صحيح البخاري مع الفتح 2/522، وصحيح مسلم بشرح النووي 1/83، 84.

وهذا البيان من رسول الله حماية منه لجناب التوحيد وحرصا على أمته من الشرك، ومنه ما كان يعتاده أهل الجاهلية من نسبة المطر إلى النجوم والأنواء، وإن كان فيهم من يقر بأن ذلك من الله تعالى كما قال سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأرض مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} 1. وفي حديث آخر عن ابن عباس رضي الله عنهما بمعنى حديث زيد بن خالد الذي تقدم آنفا وفيه: وقال بعضهم: لقد صدق نوء كذا وكذا، فأنزل الله هذه الآيات: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} 2،3 فبين في هذا الحديث أن سبب نزول هذه الكريمات من كتاب الله تعالى نسبتهم المطر إلى الأنواء والنجوم، وأقسم بها سبحانه، فالمقسم به مواقع النجوم وجواب القسم {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} ولعل في ذلك إشارة إلى حكمة إلهية عظيمة وهي أن الله قد جعل لهم النجوم ليهتدوا بها في ظلمات البر والبحر، كما جاء

_ 1 الآية 63 من سورة العنكبوت. 2 الآيات من 75- 82 من سورة الواقعة. 3 صحيح مسلم بشرح النووي 1/84.

ذلك صراحة في آيات أخرى، وجعل القرآن هداية لهم كذلك من ظلمات الكفر والشرك والضلال. والله أعلم. والحديث عن الاستقاء بالنجوم والأنواء يدفع إلى الكلام عن التنجيم وما جاء فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر، زاد ما واد" 1. فهذا الحديث يبين أن التنجيم نوع من أنواع السحر الذي عده رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اجتنبوا السبع الموبقات "، قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: "الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات" 2. وهناك أحاديث أخرى في التحذير من ذلك حرصا منه عليه الصلاة والسلام على حماية التوحيد وسلامته من دنس الشرك ووسائله وطرقه. وقد نزل القرآن الكريم على رسول الله صلى الله عليه وسلم يبين الحكمة من خلق النجوم. قال عز وجل: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً

_ 1 مختصر أبي داود للحافظ المنذري 5/371، حديث صحيح. 2 صحيح البخاري مع الفتح 5/393، وصحيح مسلم بشرح النووي 1/92.

لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} 1. وقال تبارك وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} 2. فهذه ثلاث حكم جعلها الله سبحانه وتعالى في خلق النجوم فهي زينة للسماء، ورجوم ترجم بها الشياطين عند استراقهم السمع، ووسيلة للاهتداء في ظلمات البر والبحر. قال قتادة: "خلق الله هذه النجوم لثلاث: زينة للسماء، ورجوما للشياطين، وعلامات يهتدى بها، فمن تأول فيها غير ذلك أخطأ وأضاع نصيبه وكلف ما لا علم له به"3. والتنجيم الذي يدخل تحت هذا النهي والوعيد ما كان فيه ادعاء علم الغيب وربط الأشياء وتأثيرها بالتنجيم، أما ما يحتاج إليه مما يدرك بالمشاهدة كمعرفة ظل الشمس، وجهة القبلة، ونحو ذلك، فلا يدخل تحت النهي. وقد رخص في تعلم المنازل أحمد وإسحاق.

_ 1 الآية 5 من سورة الملك. 2 الآية 97 من سورة الأنعام. 3 سليمان بن عبد الله بن محمد عبد الوها تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد ص442.

وروى ابن المنذر عن مجاهد "أنه كان لا يرى بأسا أن يتعلم الرجل منازل القمر". وقال ابن رجب: "والمأذون في تعلمه علم التسيير لا علم التأثير، فإنه باطل محرم قليله وكثيره، وأما علم التسيير فيتعلم ما يحتاج إليه من الاهتداء ومعرفة القبلة، والطرق، جائز عند الجمهور"1.

_ 1 انظر كتاب بيان فضل علم السلف على علم الخلف لابن رجب – ت محمد ابن ناصر العجمي ص 26.

سادسا: الذبح لغير الله تعالى: وهذا من عمل الجاهلية، وأهل الشرك في كل زمان ومكان، وهو شرك أكبر يخرج صاحبه من ملة الإسلام إلى الكفر. وقد أمر الله جل شأنه رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم أن يعلن على المشركين: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} 1. وهذه هي درجة الكمال في العبودية لله تعالى لا شريك له، والولاء الخالص له سبحانه وتعالى، وهي مفاصلة كاملة عما عليه أهل الجاهلية. قال ابن كثير رحمه الله عند تفسير هذه الآية:"يأمره تعالى أن يخبر المشركين الذين يعبدون غير الله، ويذبحون لغير اسمه، أنه مخالف لهم في ذلك، فإن صلاته لله، ونسكه على اسمه وحده لا شريك له، وهذا كقوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} 2. أي: اخلص له صلاتك وذبحك، فإن المشركين كانوا يعبدون الأصنام، ويذبحون لها، فأمره الله تعالى بمخالفتهم، والانحراف عما هم فيه، والإقبال بالقصد والنية والعزم على الإخلاص لله تعالى"3.

_ 1 الآيتان 161، 162 من سورة الأنعام. 2 الآية 2 من سورة الكوثر. 3 الحافظ ابن كثير – تفسير القرآن العظيم 2/ 198.

وقد حقق رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أمره به ربه تبارك وتعالى حقق ذلك قولا وعملا وعلم ذلك أمته، وشدد في النهي عن مخالفته كما في حديث عليّ رضي الله عنه:"حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات: "لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من لعن والديه، لعن الله من آوى محدثا، لعن الله من غير منار الأرض" 1. واللعن معناه: الطرد والإبعاد من رحمة الله تعالى. وهذا دليل على خطورة هذه الأمور التي نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعظمها خطرا الذبح لغير الله عز وجل، من الأصنام والأولياء والسادة والكهان والسحرة والمنجمين، أو الأشجار والكواكب، وجميع ما أهل به لغير الله تعالى، وكل ما كانت الجاهلية تفعله من هذا الأمر، كالفرع والعتيرة2ونحوهما، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا فرع ولا عتيرة" 3،4. قال الشوكاني رحمه الله عند تفسير قوله عز وجل: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّه} : "والمراد هنا ما ذكر عليه اسم غير الله، كاللات والعزى، إذا كان

_ 1 صحيح مسلم بشرح النووي 3/141. 2 الفرعة والفرع: أول ما تلد الناقة، كانوا يذبحونه لآلهتهم. انظر النهاية في غريب الحديث 3/435. 3 العتيرة: وجمعها عتائر، وهي الشاة تذبح في رجب، وكان أهل الجاهلية ينذرون ذلك لأصنامهم. انظر النهاية 3/ 178. 4 صحيح البخاري مع الفتح 9/596، وصحيح مسلم بشرح النووي 13/135.

الذابح وثنيا، والنار إذا كان الذابح مجوسيا، ولا خلاف في تحريم هذا وأمثاله ومثله ما يقع من المعتقدين للأموات من الذبح على قبورهم، فإنه مما أهل به لغير الله، ولا فرق بينه وبين الذبح للوثن"1. وقال القرطبي رحمه الله في تفسير الآية السالفة الذكر:"أي: ذكر غير اسم الله تعالى، وهي ذبيحة المجوسي، والوثني، والمعطل، فالوثني يذبح للوثن، والمجوسي للنار، والمعطل لا يعتقد شيئا فيذبح لنفسه"2. فالذبح لله تعالى تقربا إليه سبحانه من أفضل وأعظم القربات، كما أن الذبح لغيره تقربا من أعظم الذنوب والآثام، إذ هو الشرك الأكبر المخرج من الملة الذي لا يغفره الله تعالى لمن مات عليه ولم يتب، كما قال جل شأنه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء} 3. وقال تبارك وتعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} 4. وسواء أكان المتقرب به كبيرا أو صغيرا عظيما أو حقيرا، فإن المقصود عمل القلب، ولهذا حرص الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبين ذلك لأمته، ليحترسوا منه

_ 1 محمد بن عليّ الشوكاني – فتح القدير 1/ 170. 2 القرطبي – الجامع لأحكام القرآن 2/223. 3 الآية 48 من سورة النساء. 4 الآية من سورة المائدة.

كما روى طارق1 بن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "دخل الجنة رجل في ذباب، ودخل النار رجل في ذباب"، قالوا: كيف ذلك يا رسول الله؟ قال: "مر رجلان على قوم لهم صنم، لا يجوزه أحد حتى يقرب له شيئا، فقالوا لأحدهما: قرب، قال: ليس عندي شيء أقرب، قالوا له: قرب ولو ذبابا، فقرب ذبابا، فخلوا سبيله، فدخل النار، وقالوا للآخر: قرب. فقال: ما كنت لأقرب لأحد شيئا دون الله عز وجل، فضربوا عنقه فدخل الجنة" 2. ففي هذا الحديث بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أمورا عظمية منها: 1- أن صرف شيء من العبادة لغير الله تعالى شرك، وإن كانت تلك العبادة يسيرة في نظر فاعلها. 2- أن أعظم مقصود الشيطان وأوليائه أن يقبل العبد شركهم ذلك، إذ المقصود عمل القلب. 3- شدة خطر الشرك، وإنه محبط لعمل صاحبه، ومورد له إلى النار. 4- عظمة منزلة التوحيد في قلوب المؤمنين، حتى ولو قدموا حياتهم في سبيله.

_ 1 طارق بن شهاب بن عبد شمس البجلي الأحمسي أبو عبد الله صحابي جليل مات سنة 82هـ. انظر الإصابة 2/211، 212. 2 كتاب الزهد للإمام أحمد ص 15، 16. والحلية لأبي نعيم 1/203 عن طارق بن شهاب عن سلمان موقوفا بسند صحيح.

2- شدة حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على أمته وما من الله به عليها من نعمة التوحيد، وحمايته عليه الصلاة والسلام لهذا التوحيد من كل شرك أو ذريعة إليه. ومن حرصه صلى الله عليه وسلم وحمايته لجناب التوحيد، أنه كان يعلم أصحابه لا يفعلوا شيئا من القربات لله تعالى في مكان كان يتقرب فيه لغير الله عز وجل، أو يعتاده المشركون في أعمالهم الجاهلية، سدا لذريعة الشرك ووسائله والتذكير بأهله وأعمالهم، وإن كان العمل في نفسه ليس شركا. فقد جاء في الحديث عن ثابت1 بن الضحاك رضي الله عنه قال: "نذر رجل أن ينحر إبلا ببوانة2 فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ " قالوا: لا، قال: "فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ " قالوا: لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم" 3. فقد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل الذي نذر أن يذبح لله في ذلك المكان سأله تلك الأسئلة، سدا للذريعة، وخوفا من مشابهة المشركين أيا

_ 1 هو ابن خليفة بن ثعلبة الأنصاري الأشهلي شهد بدرا، وبيعة الرضوان، وفي سنة موته خلاف، انظر الإصابة 1/195. 2 بُوانة: بضم الباء: هضبة من وراء ينبع. انظر: النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 1/164. 3 مسند الإمام أحمد 5/353، 356، حديث صحيح. مختصر سنن أبي داود للحافظ المنذري 4/382، حديث صحيح.

كانت تلك المشابهة، ولو كانت تلك الأوثان أو الأعياد قد زالت واندثرت، كل ذلك حماية منه عليه الصلاة والسلام لحمى التوحيد أن يصل إليه شرك، أو مشابهة لأهله، ولذلك لما علم بخلوّ ذلك المكان من هذه الأمور قال للرجل "أوف بنذرك" ثم عقب على ذلك بقوله: "فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم". قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: "وهذا يدل على أن الذبح بمكان عيدهم وكل أوثانهم معصية لله من وجوه: أحدها: أن قوله: "أوف بنذرك" تعقيب للوصف بالحكم بحرف الفاء، وذلك يدل على أن الوصف سبب الحكم، فيكون سبب الأمر بالوفاء: وجود المنذر خاليا من هذين الوصفين، فيكون الوصفان مانعين من الوفاء، ولو لم يكن معصية لجاز الوفاء به. الثاني: أنه عقب ذلك بقوله: "لا وفاء لنذر في معصية الله" ولولا اندراج الصورة المسؤول عنها في هذا اللفظ العام، وإلا لم يكن في الكلام ارتباط. والمنذور في نفسه – وإن لم يكن معصية- لكن لما سأله النبي صلى الله عليه وسلم عن الصورتين قال له: "فأوف بنذرك" يعني: حيث ليس هناك ما يوجب تحريم الذبح هناك، فكان جوابه صلى الله عليه وسلم فيه أمر بالوفاء عند الخلو من هذا، ونهى عنه عند وجود هذا، وأصل الوفاء بالنذر معلوم، فبين ما لا وفاء فيه. واللفظ العام إذا ورد على سبب، فلابد أن يكون السبب مندرجا فيه.

الثالث: أنه لو كان الذبح في موضع العيد جائزا لسوغ النبي صلى الله عليه وسلم للناذر الوفاء به، كما سوغ لمن نذرت الضرب بالدف، أن تضرب به، بل لأوجب الوفاء به، إذ كان الذبح بالمكان المنذور واجبا، وإذا كان الذبح بمكان عيدهم منهيا عنه، فكيف بالموافقة في نفس العيد، بفعل بعض الأعمال التي تعمل بسبب عيدهم؟. إلى أن قال رحمه الله: "فإن كان من أجل تخصيص البقعة – وهو الظاهر – فإنما نهى عن تخصيص البقعة لأجل كونها موضع عيدهم، ولهذا لما خلت من ذلك أذن في الذبح فيها، وقصد التخصيص باق، فعلم: أن المحذور تخصيص بقعة عيدهم، وإذا كان تخصيص بقعة عيدهم محذورا، فكيف نفس عيدهم؟. هذا كما أنه لما كرهها لكونها موضع شركهم بعبادة الأوثان كان ذلك أدل على النهي عن الشرك وعبادة الأوثان ... ثم قال رحمه الله: "فليس بعد حرصه صلى الله عليه وسلم على أمته ونصحه لهم غاية – بأبي هو وأمي – وكل ذلك من فضل الله عليه وعلى الناس، ولكن أكثر الناس لا يعلمون "1.

_ 1 ابن تيمية – اقتضاء الصراط المستقيم ت د. ناصر العقل 1/440، 445.

سابعا: السحر والكهانة: السحر والكهانة من أشد الأخطار على عقيدة التوحيد، وأكثرها انتشارا بين الناس، وتلبيسا عليهم وتغريرا بهم، أدت بكثير منهم إلى الشرك من حيث يشعر أولا يشعر، والخطر فيهما لا يقتصر على الساحر والكاهن وحدهما فكفرهما وشركهما معلوم، ولكن ذلك يصل إلى كل من يأتيهما، وكل من يصدقهما، ومثلهم العرافون، فالكل تجمع بينهم الولاية للشياطين يطيعونهم من دون الله تعالى وتخدمهم الشياطين في بعض ما يريدون، فيلبسون على الناس، ويكذبون ويحتالون عليهم، ويدعون بذلك الولاية والكرامة وعلم الغيب، وينخدع بهم ضعفاء العقول وناقصو الإيمان، إذ يلبسون عليهم في دينهم، ويفتنونهم في عقيدتهم. وشرهم وخطرهم عظيم قديماً وحديثاً، ولذلك فقد شدد رسول الله صلى الله عليه وسلم في التحذير منهم بإتيانهم أو تصديقهم أو تعلم شيء مما يعملون. من ذلك: ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اجتنبوا السبع الموبقات" قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: "الشرك بالله والسحر ... " الحديث1. وكل الأحاديث التي وردت في عدد الكبائر وبيانها كان منها السحر. وعن بجالة بن عبده قالَ: "كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن اقتلوا كل ساحر وساحرة، قال: فقتلنا ثلاث سواحر"2.

_ 1 تقدم تخريجه ص 349. 2 مسند الإمام أحمد 1/190،191، أبو عبيد – كتاب الأموال ص 35.

وعن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوما" 1. أي لا ثواب له عليها. وعن معاوية بن الحكم السلمي2 رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله أمورا كنا نصنعها في الجاهلية، كنا نأتي الكهان. قال: "فلا تأتوا الكهان" قال: قلت: كنا نتطير. قال: "ذاك شيء يجده أحدكم في نفسه فلا يصدنكم" 3. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى كاهنا – قال موسى في حديثه -: فصدقه بما يقول أو أتى امرأة – قال مسدد: امرأته حائضا أو أتى امرأة – قال مسدد: يعنى امرأته في دبرها، فقد برئ مما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم" 4. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسو الله صلى الله عليه وسلم: "من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم"5. والسحر: رقى وعزائم وعقد يفعلها السحرة تؤثر في القلوب وفي الأبدان بمرض

_ 1 صحيح مسلم بشرح النووي 14/227، ومسند الإمام أحمد 4/68، 5/380. 2 معاوية بن الحكم السلمي، سكن المدينة، قال البخاري: له صحبة ويعد في أهل الحجاز. انظر الإصابة 3/411. 3 صحيح مسلم بشرح النووي 14/223. 4 مسند الإمام أحمد 2/408 حديث صحيح. 5 مسند الإمام أحمد 2/429، الحاكم – المستدرك 1/8.

أو قتل أو تفريق بين المرء وزوجه، وغير ذلك، كما أخبر الله عن ذلك في كتابه الكريم فقال: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِه} 1 ويقع ضرره بمشيئة الله عز وجل: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ} 2. والسحر حقيقة، وقد أمر الله بالاستعاذة من أهله إذ يقول عز وجل: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَد وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} 3 والنفاثات هن: السواحر. والسحر أنواع كثيرة ليس هذا مقام الحديث عنها، وكلها شرك وكفر بالله تبارك وتعالى كما قال سبحانه وتعالى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} 4. قال أبو بكر ابن العربي رحمه الله: "وما كفر سليمان قط ولا سحر، ولكن الشياطين كفروا بسحرهم، وأنهم يعلمون الناس، ومعتقد السحر كافر، وقائله كفر، ومعلمه كافر، ويعلمون الناس ما أنزل على الملكين

_ 1 الآية 102 من سورة البقرة. 2 الآية 102 من سورة البقرة. 3 سورة الفلق. 4 الآية 102 من سورة البقرة.

ببابل هاروت وماروت، وما كان الملكان يعلمان أحدا حتى يقولا: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ} 1"2. وقد ذم الله عز وجل السحر وأهله في كتابه الكريم، وبين بطلان عملهم، وأنهم لا خلاق لهم في الآخرة وجاء ذلك في آيات كثيرة من كتابه منها: قوله عز وجل: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} 3. وقوله تعالى: {فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} 4. وقوله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} 5.

_ 1 الآية 102 من سورة البقرة. 2 أبو بكر ابن العربي – أحكام القرآن 1/28. 3 الآية 102 من سورة البقرة. 4 الآية 81 من سورة يونس. 5 الآية 69 من سورة طه.

أما الكاهن: فهو الذي يخبر عن المغيبات، يأخذها عن مسترق السمع من الشياطين يصدقونه مرة ويكذبون معها مائة كذبة كما جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فُزِّع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال الحق وهو العلي الكبير، فيسمعها مسترق السمع، ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض – ووصف سفيان بكفه فحرفها وبدد بين أصابعه – فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، فربما أدرك الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مائة كذبة، فيقال: أليس قال لنا يوم كذا أو كذا كذا وكذا، فيصدق بتلك الكلمة التي سمع من السماء" 1. والعراف: أعم من الكاهن إذ يشمله ويشمل المنجم والرمال ونحوهم، والعرافة من السحر. قال الإمام أحمد رحمه الله: "العرافة طرف من السحر، والسحر أخبث"2.

_ 1 صحيح البخاري مع الفتح 8/537. 2 عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ – فتح المجيد 256.

وهم جميعا تجمعهم ولاية الشيطان، وادعاء علم الغيب، واستخدام الشياطين وادعاء أنهم أولياء الله وإن ما يعملونه كرامة، والحق بأنهم أولياء الشيطان وعملهم كذب وشعوذة، يلبسون به على جهلة المسلمين. "ولا ريب أن من ادعى الولاية، واستدل بأخباره ببعض المغيبات، فهو من أولياء الشيطان، لا من أولياء الرحمن، إذ الكرامة أمر يجريه الله على يد عبده المؤمن التقي، إما بدعاء، أو أعمال صالحة، لا صنع للولي فيها، ولا قدرة له عليها، بخلاف من يدعي أنه ولي ويقول للناس: اعلموا أني أعلم المغيبات، فإن هذه الأمور قد تحصل بما ذكرنا من الأسباب، وإن كانت أسبابا محرمة كاذبة في الغالب، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في وصف الكهان: "فيكذبون معها مائة كذبة" فبين أنهم يصدقون مرة، ويكذبون مائة، وهكذا حال من سلك سبيل الكهان ممن يدعي الولاية والعلم بما في ضمائر الناس، مع أن نفس دعواه دليل على كذبه، لأن في دعواه الولاية تزكية النفس المنهي عنها بقوله تعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} 1 وليس هذا من شأن الأولياء، فإن من شأنهم الإزراء على نفوسهم وعيبهم لها وخوفهم من ربهم، فكيف يأتون الناس ويقولون: اعرفوا أننا أولياء، وإنا نعلم الغيب"2.

_ 1 من الآية 32 من سورة النجم. 2 عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ – فتح المجيد ص 256-257.

والكلام عن السحر والكهانة والعرافة وأهلها طويل يحتاج أكثر من هذا وليس هذا مقام التفصيل في ذلك، والقصد بيان خطر ذلك على عقيدة التوحيد قديما وحديثا، واغترار كثير من الناس بما يلبسونه عليهم ليوقعوهم به في الشرك والكفر والضلال، فيفسدون على الناس توحيدهم ويصرفونهم عن عبادته سبحانه وتعالى إلى عبادة الجن والشياطين وغيرهم والتعلق بهم من دون الله تعالى. وبيان حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على أمته وعقيدتها وتحذيره أشد التحذير من هذه الأمور وأهلها، حفاظا على هذه العقيدة وحماية لها من الشرك وأهله.

ثامنا: الشفاعة: الشفاعة من أهم الوسائل التي اتخذها المشركون قديما وحديثا طريق للعبادة، فكانت سببا في وقوعهم في الشرك، وهم يظنون أنهم بذلك قد أصابوا الحق، وسلكوا الصراط المستقيم في اتخاذهم هذه الوسائل والوسائط، ورأوا أن هذا هو الذي يليق مع الله، والطريق الصحيح الذي يوصل إليه. وهم في حقيقة الأمر قد أخطأوا الطريق، وفاتهم الصواب، وظنوا بربهم ظن السوء، وهو الذي أمرهم بإفراده بالعبادة وإخلاصها له وحده سبحانه لا شريك له. قال جل شأنه: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 1. وقال عز وجل: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} 2. وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 3.

_ 1 الآية 18 من سورة يونس. 2 الآية 22 من سورة سبأ. 3 من الآية 3 من سورة الزمر.

فهذه الآيات الكريمات تبين ما عليه المشركون من اتخاذ الشفعاء من دون الله تعالى، فيدعونهم ويتوجهون إليهم من دون الله عز وجل، ويرون أن ذلك هو الطريق الصحيح للعبادة، وقد أخبر الله تعالى عن عملهم ذلك أنه شرك، وذمهم، وذم فعلهم، فذلك دعوة غيره من دونه سبحانه، وهذا هو عين الشرك1. وقد بعث الله تعالى رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم والمشركون على ذلك، فدعاهم إلى التوحيد الخالص لله تعالى، وترك ما هم عليه من اتخاذ الشفعاء والأنداد من دونه سبحانه بدعوى أنها تقربهم إلى الله، ونزلت عليه الآيات الكثيرة التي تبين بطلان هؤلاء الشفعاء وشفاعتهم بكل صورها، وأنه ليس لأحد من العباد ولي ولا شفيع من دون الله عز وجل، قال سبحانه: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} 2. وقال تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ} 3.

_ 1 انظر: بيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد، لسليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب ص 273-274. 2 الآية 4 من سورة السجدة. 3 الآيتان 12، 13 من سورة الروم.

وقال عز وجل: {وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 1. وآيات أخرى كثيرة تنفي كل شفاعة فيها شرك بالله تعالى، وتبطل ما يدعيه المشركون من اتخاذ الشفعاء، وآيات أخرى تبين أن الشفاعة كلها لله تعالى وحده لا شريك له، يعطيها لمن يشاء ويرضى كما قال تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} 2. وقال جل شأنه: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} 3. وقال سبحانه: {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} 4. وقال تبارك وتعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} 5. وقال عز وجل: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} 6.

_ 1 الآية 86 من سورة الزخرف. 2 الآية 44 من سورة الزمر. 3 الآية 23 من سورة سبأ. 4 الآية 109 من سورة طه. 5 الآية 255 من سورة البقرة. 6 الآية 26 من سورة النجم.

فنزلت هذه الآيات على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبين أن الشفاعة لله يأذن فيها لمن رضي عنه، كما بينت الآيات السابقة بطلان دعوى المشركين واعتقادهم في شفعائهم وشركائهم. فتبين أن الشفاعة التي نفاها الله سبحانه في القرآن هي هذه الشفاعة الشركية التي يعرفها الناس، ويفعلها بعضهم مع بعض، ولهذا يطلق نفيها تارة بناء على أنها هي المعروفة والمشاهدة عند الناس، ويقيدها تارة بأنها لا تنفع إلا من بعد إذنه، وهذه الشفاعة في الحقيقة هي منه، فإنه الذي أذن، والذي قبل، والذي رضي عن المشفوع له، والذي وفقه لفعل ما يستحق به الشفاعة وقوله فمتخذ الشفيع مشرك، لا تنفعه شفاعته، ولا يشفع فيه، ومتخذ الرب وحده إلهه ومعبوده ومحبوبه، ومرجوه، ومخوفه الذي يتقرب إليه وحده، ويطلب رضاه، ويتباعد من سخطه، هو الذي يأذن الله سبحانه للشفيع أن يشفع فيه، قال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ} 1. وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 2.

_ 1 الآية 44 من سورة الزمر. 2 الآية 18 من سورة يونس.

فبين سبحانه أن المتخذين شفعاء مشركون، وأن الشفاعة لا تحصل باتخاذهم وإنما تحصل بإذنه للشافع، ورضاه عن المشفوع له "1. والرسول صلى الله عليه وسلم بين ذلك لأمته وأمرهم بسلوك الصراط المستقيم الذي يصلهم بربهم دون شفعاء ولا وسائط، وهو طريق التوحيد الخالص لله عز وجل وإفراده سبحانه بالعبادة دون ما سواه، أما الشفاعة المثبتة التي أثبتها القرآن الكريم وبينها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلها شرطان: أولهما: الإذن من الله تعالى للشافع. قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} 2. وثانيهما: الرضا عن المشفوع له: قال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} 3. وقد جمع هذين الشرطين قوله عز وجل: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} 4. وهذه الشفاعة خص الله تعالى بها أهل توحيده وعبادته تفضلا منه وكرما، فهذه خاصة بهم لأنهم لم يتخذوا من دون الله وليا ولا شفيعا،

_ 1 ابن قيم الجوزية – إغاثة اللهفان 1/222. 2 الآية 255 من سورة البقرة. 3 الآية 28 من سورة الأنبياء. 4 الآية 26 من سورة النجم.

وقد رضي الله قولهم وعملهم كما جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "من أسعد الناس بشفاعتك؟ فقال عليه الصلاة والسلام: "من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه" 1. وأول الشافعين رسول الله صلى الله عليه وسلم إمام الموحدين وخاتم المرسلين صلوات الله عليهم أجمعين والذي اختصه الله تعالى وأكرمه بشفاعات عظيمة في ذلك اليوم تفضلا وتكريما منه سبحانه لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم ورحمة بأمته عليه الصلاة والسلام كما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لكل نبي دعوة مستجابة، وأني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئا" 2. فله عليه الصلاة والسلام الشفاعة العظمى يوم القيامة والتي يتخلى عنها أولو العزم من الرسل عليهم الصلاة والسلام، وهي كما بين أنها لأهل التوحيد من أمته. وهو الذي يشفع في دخول المؤمنين الجنة، وفي إخراج عصاة الموحدين من النار، وله شفاعة في عمه أبي طالب. وهذا من كريم فضل الله تعالى على خاتم رسله محمد صلى الله عليه وسلم نسأل الله أن يرزقنا صدق الاتباع له في الدنيا، وأن يسعدنا بشفاعته في الآخرة.

_ 1 البخاري مع الفتح 11/418، ومسند الإمام أحمد 2/308. 2 صحيح البخاري مع الفتح 13/447، ومسلم بشرح النووي 3/74.

والشفاعة إنما تكون وتنفع أهل التوحيد، أما غيرهم فهم كما قال عز وجل: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} 1. قال ابن القيم الجوزية رحمه الله تعالى عن الكلام عن حديث أبي هريرة السابق: "تأمل هذا الحديث كيف جعل أعظم الأسباب التي تنال بها شفاعته تجريد التوحيد، عكس ما عند المشركين أن الشفاعة تنال باتخاذهم أوليائهم شفعاء وعبادتهم وموالاتهم، فقلب النبي صلى الله عليه وسلم ما في زعمهم الكاذب، وأخبر أن سبب الشفاعة تجريد التوحيد، فحينئذ يأذن الله للشافع أن يشفع، ومن جهل المشرك اعتقاده أن من اتخذ وليا أو شفيعا أن يشفع له وينفعه عند الله، كما يكون خواص الولاة والملوك تنفع من والاهم، ولم يعلموا أنه لا يشفع عند أحد إلا بإذنه في الشفاعة، ولا يأذن في الشفاعة إلا لمن رضي قوله وعمله"2. وهذا الحرص الشديد من رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر الشفاعة، حماية لعقيدة التوحيد من كل شرك أو ذريعة إليه، أو تشبه بأهله، إذ الشفاعة- كما سبق ذكره – كانت من أول الأسباب التي أوقعت المشركين في الشرك بالله عز وجل وذلك باتخاذهم الشفعاء، واعتقادهم أن عبادة الله تعالى لا تتم إلا عن طريقهم وبواسطتهم، فبين عليه الصلاة والسلام الطريق القويم، الموافق لتوحيد الله تعالى في هذه الشفاعة لئلا تقع أمته في شيء من ذلك،

_ 1 الآية 48 من سورة المدثر. 2 ابن قيم الجوزية مدارج السالكين 1/341.

وليعلموا أن الشفاعة لله جميعا بإذن فيها لمن يشاء ممن يرضى قوله وعمله، لا كما يفعله المشركون ويعتقدونه. "وسر ذلك: أن الأمر كله لله وحده، فليس لأحد معه من الأمر شيء، وأعلى الخلق وأفضلهم وأكرمهم عنده هم الرسل والملائكة المقربون، وهم عبيد محض لا يسبقونه بالقول، ولا يتقدمون بين يديه، ولا يفعلون شيئا إلا بعد إذنه لهم وأمرهم، ولا سيما يوم لا تملك نفس لنفس شيئا، فهم مملوكون مربوبون، أفعالهم مقيدة بأمره وإذنه، فإذا أشرك بهم المشرك، واتخذهم شفعاء من دونه ظنا أنه إذا فعل ذلك تقدموا وشفعوا له عند الله، فهو من أجهل الناس بحق الرب سبحانه وما يجب له، ويمتنع عليه، فإن هذا محال ممتنع، شبيه قياس الرب تعالى على الملوك والكبراء، حيث يتخذ الرجل من خواصهم وأوليائهم من يشفع له عندهم في الحوائج، وبهذا القياس عبدت الأصنام واتخذ المشركون من دون الله الشفيع والولي1.

_ 1 ابن قيم الجوزية – إغاثة اللفهان 1/221.

تاسعا: التوسل: معنى التوسل: التوسل والتوسيل في اللغة واحد، يقال: وسَّل فلان إلى ربه وسيلة، وتوسَّل إليه بوسيلة أي تقرب إليه بعمل. والواسل: الراغب إلى الله. قال الشاعر: أرى الناس لا يدرون ما قدر أمرهم ... بلى كل ذي دين إلى الله واسل1 وهو في الشرع: التقرب إلى الله تعالى بالإيمان به وطاعته سبحانه وتعالى والإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم وطاعته. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} 2. وقال جل شأنه: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} 3. "فالوسيلة التي أمر الله أن تبتغي إليه، وأخبر عن ملائكته وأنبيائه أنهم يبتغونها إليه هي: ما يتقرب به إليه من الواجبات والمستحبات، فهذه الوسيلة التي أمر الله المؤمنين بابتغائها تتناول كل واجب ومستحب، وما

_ 1 انظر الصحاح – إسماعيل الجوهري 5/1841. 2 الآية 35 من سورة المائدة. 3 الآيتان 56،57 من سورة الإسراء.

ليس بواجب ولا مستحب لا يدخل في ذلك سواء كان محرما أو مكروها أو مباحا، فالواجب والمستحب هو ما شرعه الرسول فأمر به أمر إيجاب أو استحباب، وأصل ذلك الإيمان بما جاء به الرسول، فجماع الوسيلة التي أمر الله الخلق بابتغائها هو التوسل باتباع ما جاء به الرسول، لا وسيلة لأحد إلى الله إلا ذلك "1. وهذا التوسل أصل الدين ومطلوب من كل أحد، جاء الأمر به من الله عز وجل في الآية الكريمة السابقة، وهو الطريق الصحيح الذي يصل العبد بربه، قال ابن كثير رحمه الله تعالى عند تفسير قوله عز وجل: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} : "قال سفيان الثوري عن طلحة عن عطاء عن ابن عباس أي: القُربة وكذا قال مجاهد وأبو وائل والحسن وقتادة وعبد الله بن كثير والسدي وابن زيد وغير واحد، وقال قتادة: أي تقربوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه، وقرأ ابن زيد: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} وهو الذي قاله هؤلاء الأئمة لا خلاف بين المفسرين فيه"2. والتوسل بهذا المعنى هو التوسل الصحيح الذي علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه وهو تعليم لجميع الأمة، وهو شامل لأنواع كثيرة بينها عليه الصلاة والسلام أتم بيان وليس هذا مقام التفصيل في ذلك.

_ 1 ابن تيمية – قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ص 48. 2 ابن كثير – تفسير القرآن العظيم 2/52.

أما التوسل به عليه الصلاة والسلام الذي أقره وكان الصحابة رضي الله عنهم يفعلونه فهو إما التوسل بالإيمان به وطاعته أو بدعائه وشفاعته عليه الصلاة والسلام وكلا الأمرين جائز بإجماع المسلمين كما قال عمر رضي الله عنه: "اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبيك وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا"1، أي بدعائه. أما التوسل بذاته صلى الله عليه وسلم والإقسام به على الله تعالى فهذا هو التوسل الممنوع ولم يفعله أحد من الصحابة رضي الله عنهم في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ولا بعد مماته، فإذا كان التوسل بهذا الوجه ممنوع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمع غيره من باب أولى. روى أبو هريرة رضي الله عنه أنه لما أنزلت هذه الآية: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا فعم وخص فقال: "يا بني كعب بن لؤي، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة أنقذي نفسك من النار، فإني لا أملك لكم من الله شيئا، غير أن لكم رحما سأبلها ببلاها" 2.

_ 1 صحيح البخاري مع الفتح 2/494. 2 أي سأصلها، والعرب تستعمل لفظ البلل لمعنى الوصل، واليبس لمعنى القطيعة، انظر النهاية لابن الأثير 1/153.

وفي رواية عنه: "يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله، فإني لا أغني عنكم من الله شيئا، يا بني عبد المطلب، لا أغني عنكم من الله شيئا، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا، يا صفية – عمة رسول الله – لا أغني عنك من الله شيئا، يا فاطمة بنت رسول الله سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئا" 1. وعنه رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم الغلول2 فعظمه وعظم أمره ثم قال: "لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بغير له رغاء يقول: يا رسول الله أغثني. فأقول: لا أملك لك شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على

_ 1 صحيح البخاري مع الفتح 8/501. 2 الغلول: بضم الغين واللام وهو الخيانة في المغنم سمى بذلك لأن آخذه يغله أي يخفيه. انظر النهاية لابن الأثير 3/380.

رقبته رقاع تخفق1 فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة2 فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول لا أملك لك شيئا، قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا، قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت3 فيقول: يا رسو الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا فقد أبلغتك" 4. فقوله عليه الصلاة والسلام لا أملك لك شيئا: أي من المغفرة لأن الشفاعة أمرها إليه فهو كقول إبراهيم عليه السلام: {لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} 5 فلا عذر بعد الإبلاغ منه صلى الله عليه وسلم. وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين، فقال بعضهم: قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله" 6. وهذا تعليم منه عليه الصلاة والسلام لأمته وحماية منه لجانب التوحيد، فقد أنكر على أصحابه رضي الله عنهم قولهم ذلك، وإن كان في شيء يقدر عليه في حياته صلى الله عليه وسلم فيكف إذا كان في شيء لا يقدر عليه إلا الله، أو كان بعد وفاته عليه الصلاة والسلام. يقول صاحب فتح المجيد: "كره صلى الله عليه وسلم أن يستعمل هذا اللفظ في حقه، وإن كان مما يقدر عليه في حياته، حماية لجناب التوحيد، وسدا لذرائع الشرك، وأدبا وتواضعا لربه، وتحذيرا للأمة من وسائل الشرك في الأقوال

_ 1 والمراد بالرقاع ما عليه من الحقوق المكتوبة في الرقاع. انظر النهاية 2/251. 2 الحمحمة: صوت الفرس عند العلف وهو دون الصهيل. انظر النهاية1/436. 3 ما لا روح فيه من المال والمقصود به هنا الذهب والفضة. انظر النهاية3/52. 4 البخاري مع الفتح 6/185، وصحيح مسلم بشرح النووي 12/216 واللفظ له. 5 الآية 4 من سورة الممتحنة. 6 رواه الطبراني في المعجم الكبير كما في مجمع الزوائد 10/159، والحديث ضعيف.

والأفعال، فإذا كان هذا فيما يقدر عليه النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، فكيف يجوز أن يستغاث به بعد وفاته، ويطلب منه أمور لا يقدر عليها إلا الله عز وجل "1. وأما شفاعته ودعاؤه صلى الله عليه وسلم في حياته ويوم القيامة فهي نافعة لأهل التوحيد من أمته، كما سبق في سؤال أبي هريرة رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أسعد الناس بشفاعتك؟ وكان الصحابة يطلبون منه عليه الصلاة والسلام الدعاء فيدعو، ويوجههم إلى ما ينفعهم في الدنيا والآخرة. ولم يكن صلى الله عليه وسلم يطلب منهم أن يدعوه، أو يدعوا الملائكة أو الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام ولا غيرهم أو يستشفعوا بهم، بل كان ينهاهم عن ذلك ولا يقر أحدا فعل ذلك منهم، ويبين لهم الطريق القويم والسبيل الحق الذي يصلهم بربهم وقد رضيه وشرعه لهم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "وعلم أنه لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم، بل ولا أحد من الأنبياء قبله شرع للناس أن يدعوا الملائكة والأنبياء والصالحين، ولا يستشفعوا بهم، لا بعد مماتهم، ولا في مغيبهم، فلا يقول أحد: يا ملائكة الله اشفعوا لي عند الله، سلوا الله أن ينصرنا أو يرزقنا أو يهدينا، وكذلك لا يقول لمن مات من الأنبياء والصالحين: يا نبي الله، يا رسول الله، ادع الله لي، سل الله لي، استغفر الله لي، سل الله أن يغفر لي،

_ 1 عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ – فتح المجيد ص 149.

أو يهديني أن ينصرني، أو يعافيني، ولا يقول: أشكو إليك ذنوبي، أو نقص رزق، أو تسلط العدو علي، أو أشكو إليك فلانا الذي ظلمني، ولا يقول: أنا نزيلك أنا جارك، أو: أنت تجير من يستجير، أو أنت خير معاذ يستعاذ به، ولا يكتب ورقة يعلقها عند القبور ... إلى أن قال: ولا ذكر أحد من الأئمة لا في مناسك الحج ولا غيرها أنه يستحب لأحد أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عند قبره أن يشفع له أو يدعو لأمته، أو يشكو ما نزل بأمته من مصائب الدنيا والدين، وكان أصحابه يبتلون بأنواع من البلاء بعد موته فتارة بالجدب، وتارة بنقص الرزق، وتارة بالخوف وقوة العدو، وتارة بالذنوب والمعاصي، ولم يكن أحد منهم يأتي إلى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم ولا قبر الخليل ولا قبر أحد من الأنبياء فيقول نشكو إليك جدب الزمان، أو قوة العدو، أو كثرة الذنوب، ولا يقول: سل الله لنا أو لأمتك أو يرزقهم أو ينصرهم أو يغفر لهم، بل هذا وما يشبهه من البدع المحدثة التي لم يستحبها أحد من أئمة المسلمين، فليست واجبة ولا مستحبة باتفاق أئمة المسلمين"1. ولم يقتصر رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعليمه أمته ألتوحيد، وتحذيرها من الشرك، وحمايته حمى التوحيد، لم يقتصر على بيان الشرك الأكبر المنافي للتوحيد، والتحذير منه وحده، بل بين عليه الصلاة والسلام ما دون ذلك من الشرك الأصغر ووسائله، كما لم يقتصر التحذير من الشرك على ما

_ 1 ابن تيمية – الفتاوى 1/160-162.

يقع في الأعمال فحسب، بل شمل مع ذلك ما كان في الأقوال أو المقاصد والنيات، حرصا منه صلى الله عليه وسلم على حماية هذه العقيدة، وسلامتها من كل خلل أيا كان نوعه، كما أنه صلى الله عليه وسلم قد حذر من أمور ليست في نفسها شركا ولكنها قد تؤدي إليه أو إلى شيء من وسائله. والأمثلة على ذلك كثيرة، منها: النهي عن الحلف بغير الله تعالى: وهو من الشرك الأصغر – إن لم يعتقد الحالف مساواة المحلوف به لله عز وجل، وهو وإن سمي شركا أصغر فهو أكبر من الكبائر وأشد، لا يخرج من الملة، وقد يحبط العمل إذا زاد. روى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك" 1. وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أدرك عمر ابن الخطاب رضي الله عنه يسير في ركب يحلف بأبيه فقال: "ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت" 2. وعنه رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان حالفا فلا

_ 1 مسند أحمد 2/34،86،وأخرجه الترمذي 1/290، وأبو داود برقم (23251) وهو حديث صحيح، انظر إرواء الغليل للألباني حديث (2561) . 2 صحيح البخاري مع الفتح 11/530، وصحيح مسلم بشرح النووي 3/1266، 1267.

يحلف إلا بالله" وكانت قريش تحلف بآبائها فقال: "فلا تحلفوا بآبائكم" 1. وعن بريد رضي الله عنه مرفوعا: "من حلف بالأمانة فليس منا" 2. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حلف باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله" 3. فهذه الأحاديث وغيرها يبين فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الحلف بغير الله شرك، وينهى عنه عليه الصلاة والسلام، وبين أنه لا يجوز أن يحلف ِغلا بالله تعالى أو صفة من صفاته، لأن الحلف تعظيم، والمسلم لا يجوز له أن يعظم غير الله عز وجل. وبين عليه الصلاة والسلام لمن وقع في شيء من ذلك ماذا يفعل وذلك بأن يقول: لا إله إلا الله، وتلك حكمة عظيمة، فالمخالف أخل بتوحيده فكانت كفارته أن يتذكر حكمة التوحيد الذي أخل به، وينطق بها ليتذكر عظمة الله واستحقاقه أن يفرد وحده بالعبادة ولوازمها، ومن ذلك تعظيمه سبحانه وتعالى. ولذلك فقد ورد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "لأن أحلف بالله كاذبا، أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقا"4.

_ 1 تقدم تخريجه ص. 2 مسند الإمام أحمد 5/352، وسنن أبي داود حديث (3253) وهو حديث صحيح انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني حديث (94) . 3 صحيح البخاري مع الفتح 8/611، وصحيح مسلم بشرح النووي 11/106. 4 أخرجه عبد الرزاق في المصنف 8/469، وابن أبي شيبة في المصنف 3/79، والطبراني في المعجم الكبير 9/183، وإسناده صحيح موقوفا.

"وإنما رجح ابن مسعود رضي الله عنه الحلف كاذبا على الحلف بغيره صادقا، لأن الحلف بالله توحيد، والحلف بغيره شرك، وإن قدر الصدق في الحلف بغير الله فحسنة التوحيد أعظم من حسنة الصدق، وسيئة الكذب أسهل من سيئة الشرك، ذكره شيخ الإسلام1، وفيه دليل على أن الحلف بغير الله صادقا أعظم من اليمين الغموس، وفيه دليل على أن الشرك الأصغر أكبر من الكبائر، وفيه شاهد للقاعدة المشهورة وهي: ارتكاب أقل الشرين ضررا إذا كان لابد من أحدهما2. ومما ينبغي أن يعلم أن الحالف لو اعتقد أن ما حلف به أعظم من الله عز وجل أو مثله، فإن ذلك شرك أكبر مخرج من ملة الإسلام نعوذ بالله من ذلك، وهذا هو شرك الجاهلية الأولى، الذي كانوا يعظمون معبوداتهم من دون الله ويحلفون بها، والذي يفعله بعض عباد القبور أعظم إذ يخشى أن يحلف بشيخه كذبا، ولا يخشى من الله ذلك. فالذي يفعله عباد القبور إذا طلبت من أحدهم اليمين بالله، أعطاك ما شئت من الأيمان صادقا أو كاذبا، فإذا طلبت منه اليمين بالشيخ أو تربته أو حياته ونحو ذلك، لم يقدم على اليمين به إن كان كاذبا.

_ 1 يريد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، ولعله يشير إلى ما جاء في الفتاوى 2/204، من قوله: "قال عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر: "لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقا، وذلك لأن الحلف بغير الله شرك، والشرك أعظم من الكفر"اهـ. 2 سليمان بن عبد الله بن عبد الوهاب – تيسير العزيز الحميد ص 594، 595.

فهذا شرك أكبر بلا ريب، لأن المحلوف به عنده أخوف وأجل وأعظم من الله. "وهذا ما بلغ إليه شرك عباد الأصنام، لأن جهد اليمين عندهم هو الحلف بالله كما قال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} 1 فما كان جهد يمينه الحلف بالشيخ أو بحياته أو تربته فهو أكبر شركا منهم2. ومن الأمثلة أيضا نهيه صلى الله عليه وسلم عن الألفاظ التي فيها شرك أو تحتمل الشرك ولو لم يقصد ذلك قائلها، حماية منه لجناب التوحيد، ومنها: النهي عن قول ما شاء الله وشئت: عن قتيلة3 رضي الله عنها أن يهوديا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إنكم تشركون، تقولون: ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبةِ، وأن يقولوا: ما شاء الله ثم شئت" 4.

_ 1 الآية 38 من سورة النحل. 2 سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب – تيسير العزيز الحميد ص 593، 594. 3 قتيلة: هي بنت صيفي الجهنية، ويقال الأنصارية من المهاجرات الأرامل، قيل ليس لها غير هذا الحديث انظر الإصابة 4/378. 4 الإمام أحمد – المسند 4/371، 372، النسائي – السنن 7/6، وقد صححه الحاكم ووافقه الذهبي والحافظ في الإصابة 4/389.

فقد سمى ذلك اليهودي هذه الألفاظ شركا، وكانوا يعرفون ذلك، وأقره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر أصحابه رضي الله عنهم باستعمال الألفاظ الصحيحة البعيدة عن الشرك أو مشابهته. وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فكلمه في بعض الأمر، فقال: ما شاء الله وشئت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أجعلتني لله ندا، ما شاء الله وحده" 1. فقد أنكر صلى الله عليه وسلم على الرجل هذه التسوية، وبين له كيف ينبغي أن يقول، وصحح له ما قاله خوفا من الشرك وألفاظه وحماية لعقيدة التوحيد من كل ما يخل بها مهما كان قصد قائله. وعن الطفيل – أخي عائشة رضي الله عنها لأمها – قال: "رأيت كأني أتيت على نفر من اليهود، قلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: عزير ابن الله، قالوا: وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد، ثم مررت بنفر من النصارى، فقلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: المسيح ابن الله، قالوا: وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد فلما أصبحت أخبرت بها من أخبرت، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: "هل أخبرت بها أحداً؟ " قلت: نعم. قال: فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أما بعد فإن طفيلا رأى رؤيا أخبر بها من

_ 1 مسند الإمام أحمد 1/214، حديث صحيح، وأخرجه ابن ماجة (2117) وغيره.

أخبر منكم، وإنكم قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها، فلا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله وحده" 1. فقد أقره الرسول صلى الله عليه وسلم، وأمر أصحابه رضي الله عنهم باللفظ الصحيح الموافق لعقيدة التوحيد، ونهاهم عما كانوا يقولون من ألفاظ فيها مخالفة لذلك حماية لهذه العقيدة، وسدا لكل ذريعة تخل بها أيا كان نوعها، أو قصد فاعلها. النهي عن قول عبدي وأمتي: وهذا اللفظ نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما فيه من اشتراك في اللفظ، احتراسا من الشرك ولو في الفظ، وأدبا مع الله تعالى، وابتعادا بالمؤمن عن الشرك وما يشابهه، من ألفاظ وإن لم تكن في نفسها شركا. حاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقل أحدكم: أطعم ربك، وضئ ربك، وليقل: سيدي ومولاي، ولا يقل: أحدكم: عبدي وأمتي، وليقل: فتاي وفتاتي وغلامي" 2. ففي إطلاق هاتين الكلمتين على غير الله تشريك في اللفظ، فنهاهم عن ذلك تعظيما لله تعالى، وأدبا وبعدا عن الشرك، وتحقيقا للتوحيد، وأرشدهم إلى أن يقولوا: "فتاي وفتاتي وغلامي" وهذا من باب حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد، فقد بلغ صلى الله عليه وسلم أمته كل ما فيه نفع لهم، ونهاهم

_ 1 مسند الإمام أحمد 5/393، حديث صحيح. 2 البخاري مع الفتح 5/177، ومسلم بشرح النووي 4/1764، 1765.

عن كل ما فيه نقص في الدين، فلا خير إلا دلهم عليه وأوله تحقيق التوحيد، ولا شر إلا حذرهم منه، وأوله ما يقرب من الشرك لفظا وإن لم يقصد به1. فإرشاده عليه الصلاة والسلام بأن يقولوا: سيدي ومولاي، وفتاي وفتاتي وغلامي من باب سد ذرائع الشرك ووسائله اللفظية وإن لم يقصد القائل بها شركا. النهي عن قول "لو": المقصود بها التي تقال ندما وأسفا وجزعا، لما في ذلك من عدم الرضى والتسليم بما قدره الله عز وجل وقضاه، فالمؤمن مأمور بالتسليم والرضى لأقدار الله، والصبر على بلائه، وفي ذلك خير له، وقول (لو) يتنافى مع ذلك المطلوب من المؤمن، مع ما قد يصاحبها من نوع اعتراض على أقدار الله تعالى وأحكامه. ولذلك فقد نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، حماية للتوحيد أن يمسه ما يقدح فيه ِأو يكون ذريعة إلى ذلك ولو رآه الناس يسيرا. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أنني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فقل، فإن لو تفتح عمل الشيطان" 2.

_ 1 عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ – فتح المجيد ص 412. 2 مسلم بشرح النووي 16/215.

فقد أمر عليه الصلاة والسلام وحث على الحرص على ما ينفع المسلم مستعينا بالله تعالى، ثم نهاه عما يفتح عمل الشيطان، ويؤدي إلى التسخط وعدم الرضى بأقدار الله تعالى، ويؤثر في سلامة التوحيد، وإخلاصه لله عز وجل، ثم بين ما يقوله المرء إذا وقع له شيء من البلاء من الألفاظ الموافقة للحق والمتفقة مع التوحيد الصحيح، والدالة على تسليم المؤمن ورضاه بما قدره ربه وقضاه. وقد ذم الله تعالى أصحاب هذه المقولة في كتابه الكريم فقال جل شأنه: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} 1. وقال عز وجل: {الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} 2. والذين قالوا ذلك هم المنافقون قالوه في عزوة أحد لما نزل بهم من خوف وجزع، كما جاء في الحديث عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال: "لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتد الخوف علينا، أرسل الله علينا النوم، فما منا رجل إلا ذقنه في صدره، فوالله إني لأسمع قول معتب ابن قشير ما أسمعه إلا كالحلم: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا فحفظتها منه، وفي ذلك أنزل الله عز وجل: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} لقول معتب"3.

_ 1 من الآية 154 من سورة آل عمران. 2 الآية 168 من سورة آل عمران. 3 ابن كثير – التفسير 1/418.

التحذير من الرياء: لم يقف حرض رسول الله صلى الله عليه وسلم على حماية جناب التوحيد، من الشرك وذرائعه في الأقوال والأفعال فحسب كما تقدمت الأمثلة على ذلك فيما سبق بل كان حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك على المقاصد والنيات أن تكون خالصة لله سبحانه وتعالى وحمايتها من كل ما يصرفها عنه من شرك أو بدعة أو شبهة أو ذريعة للشرك، إذ النية أساس صحة العمل أو بطلانه، وأمرها عظيم، فهي سر بين العبد وبين ربه، كما في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه" 1. ومن الأمثلة على حرصه عليه الصلاة والسلام على سلامة النيات وخلوها لله عز وجل: عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: "قال الله تعالى:"أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه" 2.

_ 1 البخاري مع الفتح 1/9،135. 2 مسلم بشرح النووي 4/2289.

وعن محمود بن لبيد1 رضي الله عنه قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أيها الناس، إياكم وشرك السرائر"، قالوا: يا رسول الله: وما شرك السرائر؟ قال: "يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته جاهدا، لما يرى من نظر الرجل إليه، فذلك شرك السرائر" 2. وعن محمود بن لبيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر"، فسئل عنه فقال: "الرياء" 3. هذه الأحاديث وغيرها تبين خطر الرياء على الأعمال، فهو ينقص ثواب العمل، وقد يحبطه حسب نية فاعله، وقد سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الشرك الأصغر، وحذر منه أمته تحذيرا شديدا حماية لحمى التوحيد، من الشرك أيا كان نوعه، وحرصا على سلامة قول المؤمن وعمله ونيته وقصده من كل ما لا يحبه الله تعالى وأول ذلك الشرك به جل شأنه. "وإذا كان هذا الشرك الأصغر مخوفا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كمال علمهم، وقوة إيمانهم فيكف لا يخافه وما فوقه من هو دونهم في العلم والإيمان بمراتب؟ خصوصا إذا عُرف أن أكثر علماء الأمصار اليوم

_ 1 محمدو بن لبيد: بن رافع بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل الأنصاري، قال البخاري: له صحبة، وأكثر روايته عن الصحابة. انظر الإصابة للحافظ بن حجر 3/367. 2 سنن البيهقي 2/290، 291، وحسنه الذهبي في المهذب 2/261. 3 مسند الإمام أحمد 5/428، 429، وشرح السنة للبغوي 14/323، 423. وهو حديث حسن.

لا يعرفون من التوحيد إلا ما أقر به المشركون، وما عرفوا معنى الإلهية التي نفتها كلمة الإخلاص عن كل ما سوى الله1. فإذا كان الباعث على العمل ابتغاء ما عند الله تعالى، وسلم من الرياء فهو العمل الصحيح المقبول عند الله عز وجل، وإن كان القصد والنية بالعمل إرادة غير الله عز وجل فذلك نفاق اعتقادي قد يخرج صاحبه من الإسلام. قال عز وجل: {كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} 2. وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاءَ قَرِيناً} 3. أما إذا كان الباعث على العمل ابتغاء وجه الله تعالى وطلب ما عند من الأجر والثواب، ثم دخل عليه الرياء، فهو الذي سماه رسو الله صلى الله عليه وسلم الشرك الأصغر، وبينه عليه الصلاة والسلام بقوله: "يقوم الرجل فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل إليه" كما تقدم، فهذا لا يخرج من الملة،

_ 1 عبد العزيز بن حسن آل الشيخ – فتح المجيد ص 63. 2 الآية 264 من سورة البقرة. 3 الآية 38 من سورة النساء.

ولكنه ينقص من ثواب العمل وقبوله، وقد يزيد فيحبط العمل، نعوذ بالله من ذلك. وقد يعمل المسلم العمل خالصا لوجه الله تعالى، ثم يحصل له الثناء الجميل والذكر الطيب من الناس، لم يطلبه ولم يقصده بعمله، فليس ذلك من الرياء بل خير من الله وفضل منه سبحانه1، كما في حديث أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يعمل العمل من الخير، يحمده الناس عليه فقال: "تلك عاجل بشرى المؤمن" 2. إرادة الإنسان بعمله الدنيا: وهو أن ينوي بعمله الصالح، عرضا دنيويا، ويكون ذلك قصده الباعث على ذلك العمل، وهو أخطر من الرياء، فالرياء قد يعرض للعمل ثم يزول بالمجاهدة إما إرادة الإنسان الدنيا بعمله فهي الباعث له على عمله الملازمة له في ذلك العمل وكلاهما خطر عظيم وداء ووبال. "وقد يظن بعض الناس أن هذا الباب داخل في الرياء، وأن هذا مجرد تكرير فأخطأ، بل المراد بهذا أن يعمل الإنسان عملا صالحا يريد به الدنيا، كالذي يجاهد للقطيفة والخميلة ونحو ذلك، ولهذا سماه النبي صلى الله عليه وسلم عبدا لذلك، بخلا ف المرائي، فإنه يعمل ليراه الناس ويعظموه. والذي يعمل لأجل الدراهم والقطيفة ونحو ذلك أعقل من المرائي، لأن ذلك عمل لدنيا

_ 1 انظر تيسير العزيز الحميد ص 531، ومعارج القبول 2/454. 2 مسلم بشرح النووي 4/2034.

يصيبها، والمرائي عمل لأجل المدح والجلالة في أعين الناس، وكلاهما خاسر، نعوذ بالله من موجبات غضبه وأليم عقابه"1. ولخطورة هذا الأمر على عقيدة التوحيد فقد حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد التحذير في أحاديث كثيرة، فهو بتعلق بنية العبد وقصده لا يعلم ذلك منه إلا الله وحده. ومن هذه الأحاديث ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة تعس عبد الخميلة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا اتنقش، طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة في الحراسة، وإن كان في الساقة في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع" 2. وهذا دعاء من رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بصيغة الخبر الماضي الذي يدل على تحقيق الوقوع، ولا ريب أن من كانت الدنيا ومتاعها الزائل قصده ونيته، وهدفه وغايته، فإنه خاسر هالك في الدنيا والآخرة، وقد سماه عليه الصلاة والسلام – عبدا – وهو الاسم والوصف المناسب له، إذ لو كان عبدا لله تعالى لطلب ذلك منه سبحانه وتعالى وهو الله الذي له الخلق والأمر

_ 1 سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب – تيسير العزيز الحميد ص 534-535. 2 البخاري مع الفتح 6/81.

سبحانه، ليستعين بها على طاعته وعبادته وحده، ورضي بما اختاره الله له ورضيه، ولكنه قطع تعلقه بربه، وتعلق بغيره من أعراض الدنيا وحطامها الفاني، حتى كان كما أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط". "فإذا تعلق قلبه بها صار مستعبدا لها، وربما صار مستعبدا معتمدا على غير الله فيها، فلا يبقى معه حقيقة العبودية لله، ولا حقيقة التوكل عليه، بل فيه شعبة من العبادة لغير الله، وشعبة من التوكل على غير الله، وهذا من أحق الناس بقوله صلى الله عليه وسلم: "تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة" وهذا هو عبد لهذه الأمور، ولو طلبها من الله، فإن الله إذا أعطاه إياها رضي، وإن منعه إياها سخط، وإنما عبد الله من يرضيه ما يرضي الله، ويسخطه ما يسخط الله، ويحب ما أحب الله ورسوله، ويبغض ما أبغض الله ورسوله، ويوالي أولياء الله، ويعادي أعداء الله، فهذا الذي "استكمل الإيمان" 1. وهذا الحرص الشديد من رسول الله صلى الله عليه وسلم والتحذير من هذه الأمور، ودعاؤه عليه الصلاة والسلام على من هذا حاله، نظرا لما لها من عظيم الخطر على حمى التوحيد، ولشدة الرغبة والمحبة لهذه الأشياء التي جبل الناس على حبها، والحرص عليها، حتى صارت لكثير منهم هدفا وقصدا استحق بسببه دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سبق في الحديث، إذ وصفهم

_ 1 ابن تيمية – العبودية ص 27.

بعبوديتهم لغير الله تعالى، تحذيرا من الشرك ووسائله وطرقه، وحماية لجناب التوحيد، وحرصا على أهله. هذه بعض الأمثلة على بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم لتوحيد العبادة وبيان ما يضاده وينافيه وحمايته صلى الله عليه وسلم لهذا النوع من التوحيد، الذي هو لب التوحيد والغاية التي لأجلها خلق الله الناس وبعث فيهم الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام وأنزل فيهم الكتب، وهو حق الله عز وجل على عباده وأول فرض على المكلف، وأول ما دعا إليه الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام أممهم. لذا كان جديرا أن يكون له هذا الاهتمام من رسول الله صلى الله عليه وسلم والبيان الواضح والحماية العظيمة من كل ما يضاده أو يدنسه ويشوبه من شرك أو بدعة أو شك أو شهوة أو شبهة، فحقق عليه الصلاة والسلام هذا التوحيد، وحسم عنهم مواد الشرك، وربى أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين على ذلك، فكانوا بعد الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام خير من عرف توحيد الله تعالى ودعا إليه وحماه، ومن بعدهم التابعون ومن تبعهم بإحسان في كل زمان ومكان.

المبحث الثالث: حماية الرسول صلى الله عليه وسلم توحيد الأسماء والصفات

المبحث الثالث: حماية الرسول صلى الله عليه وسلم توحيد الأسماء والصفات. توحيد الأسماء والصفات أحد أنواع التوحيد الذي بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالدعوة إليه، ودعا إليه الأنبياء والرسل جميعاً قبله عليهم الصلاة والسلام. وهو توحيده سبحانه وإفراده عز وجل بإثبات ما أثبته لنفسه في كتابه الكريم وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته الشريفة من الأسماء الحسنى والصفات العليا على ما يليق بجلاله وعظيم سلطانه من غير تحريف ولا تكييف ولا تمثيل ولا تعطيل. وقد أنزل الله عز وجل كتابه الكريم بياناً وهدى للناس كما قال جل شأنه: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} 1. وتوحيده سبحانه والإيمان بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أعظم الأشياء وأهمها وأولاها، وقد بينها سبحانه أعظم بيان وأتمه وأكمله.

_ 1 الآية (89) من سورة النحل.

كما بين ذلك ووضحه على أكمل وجه وأتمه رسوله محمد صلى الله عليه وسلم الذي قال له ربه تبارك وتعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} 1. وكما قال له: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} 2. وقال له كذلك: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 3. وأدلة التوحيد وبيانه أعظم الهدى، وهو الذي وقع فيه الاختلاف، وقد بين ذلك رسوله بما لا مجال للشك أو اللبس فيه لمن رزقه الله فقها في الدين، واتباعا لسبيل المؤمنين، كما ختم الآية الكريمة بقوله سبحانه: {وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} . وكما قال عز وجل: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 4.

_ 1 الآية (44) من سورة النحل. 2 الآية (67) من سورة المائدة. 3 الآية 64 من سورة النحل. 4 الآيتان 15، 16 من سورة المائدة.

وكقوله سبحانه: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَاراً} 1. وقد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الرسالة وأدرى الأمانة، وجاهد في الله حق الجهاد، حتى أتاه اليقين، وأول ذلك وأهمه توحيد الله تبارك وتعالى، والإيمان بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، وما مات عليه الصلاة والسلام حتى أكمل الله الدين وأتم به النعمة، وترك الناس على المحجة البيضاء التي ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك. عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نذكر الفقر ونتخوفه فقال:: "آلفقر تخافون؟ والذي نفسي بيده لتصبن عليكم الدنيا حتى لا يزيغ قلب أحدكم إلا هيه، وأيم الله فقد تركتكم على مثل البيضاء ليلها ونهارها سواء" 2. وأساس الدين ومفتاحه وقاعدته توحيد الله تعالى، ومعرفته بأسمائه وصفاته، والله عز وجل قد بين ذلك ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فمن المحال في العقل والدين أن يكون السراج المنير، الذي أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور، وأنزل معه الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وأمر الناس أن يردوا ما

_ 1 الآية 82 من سورة الإسراء. 2 سنن ابن ماجة 1/6 حديث حسن.

تنازعوا فيه من أمر دينهم إلى ما بعث به من الكتاب والحكمة، وهو يدعو إلى الله وإلى سبيله بإذنه على بصيرة. وقد أخبر الله بأنه أكمل له ولأمته دينهم، وأتم عليهم نعمته – محال مع هذا وغيره – أن يكون قد ترك باب الإيمان بالله والعلم به ملتبسا مشتبها لم يميز بين ما يجب لله من الأسماء الحسنى والصفات العليا، وما يجوز عليه، وما يمتنع عليه، فإن معرفة هذا أصل الدين، وأساس الهداية، وأفضل وأوجب ما اكتسبته القلوب، وحصلته النفوس، وأدركته العقول، فكيف يكون ذلك الكتاب وذلك الرسول، وأفضل خلق الله بعد النبيين لم يحكموا هذا الباب اعتقادا وقولا؟. ومن المحال أيضا أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم، وقد علم أمته كل شيء حتى الخراءة1 وقال: "إني قد تركتم على مثل البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك" 2، وقال فيما صح عنه أيضا: "ما بعث الله من نبي ولا رسول إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه، وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم" 3. وقال أبو ذر رضي الله عنه: "لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما من طائر يطلب جناحه في السماء إلا ذكر لنا منه علما ".

_ 1 الخراءة: آداب دخول الخلاء والخروج منه. 2 سنن ابن ماجة 1/16، وصحيح ابن ماجة للألباني 1/6 وقال عنه: حسن. 3 صحيح مسلم بشرح النووي 12/233.

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاما فذكر بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم، وأهل النار منازلهم، حفظ ذلك من حفظه ونسيه من نسيه " 1. ومحال مع تعليمهم كل شيء لهم فيه منفعة في الدين وإن دقت، أن يترك تعليمهم ما يقولونه بألسنتهم، ويعتقدونه في قلوبهم في ربهم ومعبودهم، رب العالمين الذي معرفته غاية المعارف، وعبادته أشرف المقاصد، والوصول إليه غاية الطالب. بل هذه خلاصة الدعوة النبوية، وزبدة الرسالة الإلهية، فكيف يتوهم من في قلبه أدنى مسكة من إيمان وحكمة أن لا يكون بيان هذا الباب قد وقع من الرسول صلى الله عليه وسلم على غاية التمام، ثم إذا كان قد وقع ذلك منه، فمن المحال أن يكون خير أمته، وأفضل قرونها قصروا في هذا الباب زائدين فيه أو ناقصين عنه "2. وقد نقلت كلام شيخ الإسلام ابن تيمية هذا نظرا لما اشتمل عليه من بيان أهمية هذا النوع من التوحيد، وما قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيله من بيان له وحماية لحماه، ولم يقصر فيه أو يتركه لآراء الناس واجتهاداتهم. وإليك أمثلة يسيرة مما ورد في كتاب الله الكريم وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم في بيان أسماء الله عز وجل وصفاته، لنرى كيف بين رسول الله صلى الله عليه وسلم الطريق

_ 1 البخاري مع الفتح 6/286. 2 ابن تيمية – الفتوى الحموية الكبرى ص 11،12.

المستقيم في هذا الباب – باب الإيمان بأسماء الله وصفاته – أتم بيان مما أنزل الله تعالى عليه من الكتاب والحكمة. قال تبارك وتعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 1. وقال جل شأنه: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} 2. وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لله تسعة وتسعين اسما، مائة إلا واحدا، من حفظها دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر" 3. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أصاب مسلما قط همّ ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك وابن عبدك، وابن أمتك ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي وجلاء حزني، وذهاب همي وغمي، إلا أذهب الله عنه همه، وأبدله مكان

_ 1 الآية 180 من سورة الأعراف. 2 الآية 110 من سورة الإسراء. 3 البخاري مع الفتح 5/354.

همه فرحا"، قالوا: يا رسول الله ِألا نتعلم هذه الكلمات؟ قال: "بلى ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن" 1. فدل الحديث الأول على عدد أسماء الله الحسنى التي من حفظها دخل الجنة وأجر من حفظها، ودل الحديث الثاني على أن هناك أسماء أخرى أكثر من هذا العدد، وهو الصحيح والله أعلم. وإنما المراد بالحصر في الحديث الأول أن من أحصى هذه الأسماء دخل الجنة وليس المراد حصر الأسماء في هذا العدد الوارد في الحديث، كما دل على ذلك الحديث الثاني – حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه – وغيره من الأحاديث والله أعلم. وقد جاءت هذه الأسماء الحسنى والصفات العليا في كتاب الله عز وجل، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن الأمثلة على أسمائه الحسنى سبحانه وتعالى: "الله، الأحد، الصمد". قال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} 2. وهذه السورة العظيمة اشتملت على عدد من أسماء الله تعالى وصفاته عز وجل ردا على الذين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: صف لنا ربك.

_ 1 مسند الإمام أحمد 1/391. وصححه الألباني. 2 سورة الإخلاص.

وأخبر عليه الصلاة والسلام أنها تعدل ثلث القرآن كما روى أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيعجز أحدكم أن يقرأ في ليلة ثلث القرآن". قالوا: وكيف يقرأ ثلث القرآن؟ قال: "قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن" 1. ومنها: هذه الأسماء في قوله عز وجل: 2. وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كا {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ن يقول إذا آوى إلى فراشه: "اللهم رب السماوات ورب الأرض رب كل شيء فالق الحب والنوى، منزل التوراة والإنجيل والقرآن، أعوذ بك من شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء"زاد وهب: "اقض عني الدين وأغنني من الفقر" 3. ومنها: "الخالق": قال تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} 4.

_ 1 صحيح مسلم بشرح النووي 6/94 2 الآية 3 من سورة الحديد. 3 مسلم بشرحه 17/36. 4 الآية 62 من سورة الزمر.

وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} 1. وقال جل شأنه: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 2. وآيات أخرى كثيرة. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: "خلق الله التربة يوم السبت، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة آخر الخلق في آخر ساعات الجمعة، فيما بين العصر إلى الليل" 3. ومنا: "الملك والمليك "وهما بمعنى واحد: قال الله تبارك وتعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ} 4. وقال عز وجل: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقّ} 5 وقال جل شأنه: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} 6.

_ 1 الآية 3 من سورة فاطر. 2 الآية 54 من سورة الأعراف. 3 صحيح مسلم بشرح النووي 17/133. 4 الآية 23 من سورة الحشر. 5 الآية 116 من سورة المؤمنون. 6 الآية 55 من سورة القمر.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقبض الله تعالى الأرض يوم القيامة، ويطوي السماء بيمينه ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض" 1. واسم الملك: يجمع المالك والملك والمليك2، وقد وردت الأحاديث بهذه الأسماء جمعيا. والآيات كثيرة في إثبات أسماء الله الحسنى، ومنها آيات جمعت أسماء كثيرة منها، مثل آية الكرسي، وأول سورة الحديد، وآخر سورة الحشر، وكذلك الأحاديث الكثيرة جاءت تثبت ذلك، ليس هذا محل استقصائها. ومن الأمثلة على صفاته العليا سبحانه وتعالى: صفة الكلام: قال الله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} 3. وقال عز وجل: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} 4. وقال سبحانه: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} 5.

_ 1 صحيح البخاري مع الفتح 8/551. 2 انظر كتاب التوحيد لابن منده، ت: د. علي بن محمد ناصر فقيهي 2/54. 3 الآية 353 من سورة البقرة. 4 الآية 164 من سورة النساء. 5 الآية 143 من سورة الأعراف.

وقال جل شأنه: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} 1. وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال الحق وهو العلي الكبير، فيسمعها مسترق السمع، ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض – ووصف سفيان بكفه فحرفها وبدد بين أصابعه – فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، فربما أدرك الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مائة كذبة، فيقال أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا كذا وكذا، فيصدق بتلك الكلمة التي سمع من السماء" 2. ومنها: الاستواء: قال الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 3.

_ 1 الآية 51 من سورة الشورى. 2 تقدم تخريجه ص 365. 3 الآية 5 من سورة طه.

وقال عز وجل: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} 1. وقال تبارك اسمه: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} 2. عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من آمن بالله ورسوله، وأقام الصلاة، وصام رمضان، كان حقا على الله أن يدخله الجنة هاجر في سبيل الله، أو جلس في أرضه التي ولد فيها"، قالوا: يا رسول الله، أفلا ننبئ الناس بذلك؟ قال: "إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله، كل درجتين ما بينهما كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة" 3. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عند الكرب: "لا إله الله العليم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم" 4.

_ 1 الآية 4 من سورة السجدة. 2 الآية 59 من سورة الفرقان. 3 البخاري مع الفتح 13/404. 4البخاري مع الفتح 13/405.

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يصعقون يوم القيامة، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش" 1. ومنها: اليد والأصابع: قال الله تبارك وتعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِم} 2. وقال سبحانه: {يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ} 3 وقال عز وجل: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} 4. وقال جل شأنه: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِه} 5. والآيات في ذلك كثيرة. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يد الله ملآى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار". وقال: "أرأيتم ما أنفق الله منذ خلق

_ 1صحيح البخاري مع الفتح 13/405، وصحيح مسلم بشرح النووي 15/132. 2 الآية 10 من سورة الفتح. 3 الآية 75 من سورة ص. 4 الآية 71 من سورة يس. 5 الآية 67 من سورة الزمر.

السماوات والأرض، فإنه لم يغض ما في يده، وقال: عرشه على الماء، وبيده الأخرى الميزان يخفض ويرفع" 1. وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله يقبض يوم القيامة الأرض، وتكون السماوات بيمينه ثم يقول: أنا الملك" 2. وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن المقسطين على منابر من نور، عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا" 3. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ينزل الله في السماء الدنيا لشطر الليل، أو لثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له ويسألني فأعطيه، ثم يبسط يديه تبارك وتعالى ويقول: من يقرض غير عدوم ولا ظلوم" 4. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن يهوديا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا محمد، إن الله يمسك السماوات على إصبع، والخلائق على إصبع، ثم يقول: أنا الملك، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه ثم

_ 1 صحيح البخاري مع الفتح 3/393. 2 صحيح البخاري مع الفتح 3/393. 3 صحيح مسلم بشرح النووي 3/1458. 4 صحيح مسلم بشرح النووي 3/176.

قرأ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} 1،2. والأحاديث في هذا كثيرة جدا كلها تثبت هذه الصفة لله سبحانه على ما يليق بجلاله عز وجل ولا يدع مجالا لشاك أو متردد، ولا ينكره إلا منحرف مكابر. والأمثلة كثيرة من أسماء الله الحسنى وصفاته العليا وأدلتها الثابتة بكتاب الله الكريم وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم واضحة بينة، وتلقاها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمنوا بها مقتدين برسول الله مهتدين بهديه، وساروا على الصراط المستقيم الذي بينه لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان نورا وهدى لمن بعدهم من التابعين لهم بإحسان الذي ساروا على هذا الصراط المستقيم، والسبيل القويم، في إيمان صادق وثبات عليه وطمأنينة به. وزاغت عن هذا السبيل أبصار أقوام وبصائرهم فتخبطوا واختلفوا وحرفوا وأولوا وعطلوا وشبهوا، فاختلفوا وتفرقوا، وهدى الله أهل الحق لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه سبحانه وتعالى، مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم: "وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة ... الحديث "3.

_ 1 الآية 67 من سورة الزمر. 2 صحيح البخاري مع الفتح 13/393. 3 سنن الترمذي 3/367، وسنن ابن ماجة 2/479، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي 2/364.

وقد بين ذلك عليه الصلاة والسلام أتم بيان وسار على هديه من بعده أصحابه رضي الله عنهم أجمعين، وأتباعهم بإحسان. ومع هذا البيان الواضح في كلام الله تعالى وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، وهما المنبع الأصيل لهذا الدين الحنيف، وما بذل رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا السبيل وما بذل أصحابه رضي الله عنهم مع ذلك كله، فقد خرجت عن هذا الصراط المستقيم فرق وطوائف نتيجة لتحكيم العقول القاصرة، والأفهام المختلفة وتقديمها على كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وفهمت خلاف ما فهمه خير الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم، فمنهم من أنكر أسماء الله عز وجل وصفاته فشبهه بالعدم كالجهمية ومن سار في طريقهم، ومنهم من أثبت الأسماء وأنكر الصفات كالمعتزلة، ومنهم من أنكر بعض الصفات كالأشاعرة ومن وافقهم، وغيرها من الفرق التي انحرفت في الفهم عن الحق والصراط المستقيم، وخالفت سلف الأمة من الصحابة الذين رضي الله عنه ورضوا عنه، ومن تبعهم بإحسان، ورأوا أن هذا الفهم المنحرف، والفكر المعوج هو غاية التوحيد لله سبحانه الذي يجب على كل مسلم أن يعتقده، ومن خالفه لم يعرف التوحيد وقد أوقع نفسه في الشرك بالله تعالى، فكانوا كما قال الله تبارك وتعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} 1.

_ 1 الآية 8 من سورة فاطر.

ولكن هذه الأهواء المعوجة، والأفهام المنحرفة، وإن أعجب بها أهلها لا تثبت أمام الحق المبين المعتمد على العلم والفهم الصحيح المستمد من كتاب الله تعالى والسنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله عز وجل: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} 1. وكما قال جل شأنه: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ} 2. وكما قال عز وجل: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} 3 فالناس قسمان: أهل علم بما أنزل الله تعالى، وفهم صحيح مستقيم، وأهل عمى حرموا العلم والفهم الصحيح4. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فإذا افتقر العبد إلى الله ودعاه وأدمن النظر في كلام الله وكلام رسوله وكلام الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين، انفتح له طريق الهدى، ثم إن كان قد خبر نهايات إقدام المتفلسفة والمتكلمين في هذا الباب، وعرف أن غالب ما يزعمونه برهانا

_ 1 الآية 14 من سورة محمد. 2 الآية 17 من سورة الرعد. 3 الآية 19 من سورة الرعد. 4 انظر مفتاح دار السعادة ص 88.

هو شبهة، ورأى أن غالب ما يعتمدونه يؤول إلى دعوى لا حقيقة لها، أو شبهة مركبة من قياس فاسد، أو قضية كلية لا تصح إلا جزئية، أو دعوى إجماع لا حقيقة له، أو التمسك في المذهب والدليل بالألفاظ المشتركة. ثم إن ذلك إذا ركب بألفاظ كثيرة طويلة غيبة عمن لم يعرف اصطلاحهم – أوهَمَت الغر ما يوهمه السراب للعطشان – ازداد إيمانا وعلما بما جاء به الكتاب والسنة فإن "الضد يظهر حسنه الضد" وكل من كان بالباطل أعلم كان للحق أشد تعظيما، وبقدره أعرف إذا هدي إليه إلى أن قال رحمه الله: "ومن كان عليما بهذه الأمور: تبين له بذلك حذق السلف وعلمهم وخبرتهم حيث حذروا عن الكلام ونهوا عنه، وذموا أهله وعابوهم، وعلم أن من ابتغى الهدى في غير الكتاب والسنة لم يزدد من الله إلا بعدا"1. ومن حفظ الله تعالى لدينه قيض له رجالا من العلماء العاملين المخلصين، بينوا للناس الحق، ودعوهم إليه، وردوا على المخالفين باطلهم، وكشفوا زيفهم وكذبهم وانحرافهم، وزادوا عن حمى هذه العقيدة، مقتدين برسولهم صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، ومنهم إمام دار الهجرة الإمام مالك ,وإمام أهل السنة الإمام أحمد، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن قيم الجوزية، وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وغيرهم من العلماء على مر السنين، تحقيقا لبشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي

_ 1 ابن تيمية الفتاوى 5/118-120.

ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك" 1. وكما جاء في الحديث عن عون بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة فواحدة في الجنة وسبعون في النار، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، فإحدى وسبعون في النار وواحدة في الجنة، والذي نفس محمد بيده لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، واحدة في الجنة، واثنتان وسبعون في النار"، قيل: يا رسول الله من هم؟ قال: "الجماعة" 2. والجماعة: ما وافق الحق وهم الكثرة وإن قلوا، والحق في اتباع الكتاب والسنة. والكلام حول الانحراف في توحيد الأسماء والصفات ذو شجون ليس هذا مقام التفصيل فيه، ولكن الذي يهمنا معرفته أن الرسول صلى الله عليه وسلم بين ما يجب على الإنسان المسلم أن يعتقده في ربه وما يصفه به، غاية البيان وأوضحه غاية الإيضاح بما لا يدع مجالا لإعمال فكر أو إمعان رأيه إلا في تأمل عظمة الخالق وأنه سبحانه لا مثل له ولا شبيه ولا نظير، فكل عقل أو فهم قاصر عن إدراك كنهه وكيفيته، ولكن الواجب الحتمي معرفة أنه له الأسماء الحسنى والصفات العلى، أما المتكلمون فمهما تفلسفوا فهم مفلسون بشهادتهم على أنفسهم، إذ أن مشاهيرهم اعترفوا

_ 1 البخاري مع الفتح 6/632، ومسلم بشرح النووي 13/65، واللفظ له. وقد ورد بأكثر من رواية في الصحيحين. 2 صحيح سنن الترمذي 2/364.

في نهاية أمرهم بالإفلاس والحيرة وعدم العلم، لأنهم لم يسلكوا طريقه الصحيح، فهذا إمام الحرمين يقول: "ركبت البحر الأعظم، وغصت في كل شيء نهى عنه أهل العلم في طلب الحق فرارا من التقليد، والآن فقد رجعت، واعتقدت مذهب السلف". وقال عند موته: "يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفت أنه يبلغ بي ما بلغت ما تشاغلت به " والرازي يقول في كتابه "أقسام اللذات ": نهاية إقدام العقول عقال ... وغاية سعي العالمين ضلال وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وحاصل دنيانا أذى ووبال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا إلى آخر الأبيات.... ثم يقول: لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلا، ولا تروي غليلا، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن.. إلى آخر كلام. والغزالي انتهى إلى الحيرة، ثم رجع عن ذلك وأقبل على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ... وغيرهم كثير. كما وصفهم الشهرستاني بقوله: لعمري لقد طفت المعاهد كلها ... وسيرت طرفي بين تلك المعالم

فلم أر إلا واضعا كف حائر ... على ذقن، أو قارعا سن نادم1 ولا ريب أن هذه النهاية هي التي تنتظر كل من أعرض عن كلام الله تبارك وتعالى، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وقدم عليهما عقله القاصر، وفهمه العاجز، قال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} ،ومن كان هذا حاله فهو هالك خاسر ولا يظلم ربك أحدا، نسأل الله الفقه في الدين والثبات على الحق.

_ 1 انظر فتح الباري للحافظ ابن حجر 13/350، وشرح الطحاوية ص 208،209.

الخاتمة وهكذا يتم هذا البحث بتوفيق من الله وعون منه، وقد توصلت من خلاله إلى نتائج عدة أهمها: أولا: أن التوحيد مع وضوح معناه وظهور أدلته من كتاب الله الكريم، والثابت من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، والفهم الصحيح لدى الصحابة رضي الله عنهم، مع هذا كله، وجدت طوائف ضلت عن هذا السبيل القويم في معنى التوحيد، وأن السبب الأول في ذلك الاعتماد على العقل وحده وتقديمه على نصوص الكتاب والسنة. ثانيا: أن الناس مفطورون على الإسلام وتوحيد الله عز وجل، والشرك والانحراف طارئ فيهم ودخيل عليهم. ثالثا: أن الدعوة إلى توحيد الله تعالى وإفراده بالعبادة كانت أول ما دعا إليه الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وأن دعوتهم إلى ذلك متفقة وإن اختلفت فيما سوى ذلك. رابعا: تشابه صورة الشرك ومنطق أهله وإن تباعدت الأزمنة، وتغايرت الأمكنة واختلفت اللغات. خامسا: أن بعثة الرسل عليهم الصلاة والسلام تكون إذا اندرست معالم التوحيد وظهر الشر في الناس. سادسا: أن توحيد الألوهية والعبادة كان محور دعوة الرسل جميعا عليهم الصلاة والسلام.

سابعا: أن التوحيد أول واجب على العبد، وخطأ من قال غير ذلك لمخالفته نصوص الكتاب والسنة. ثامنا: أن الفترة المكية من دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت في الدعوة إلى التوحيد وترسيخ العقيدة في نفوس المؤمنين، وإنقاذهم من الشرك وأهله. تاسعا: أن الفترة المدنية من دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت نشرا لهذه العقيدة في الناس وجهادا في سبيلها، وحماية لها ولأهلها، وبيانا يما يضادها ويخالفها. عاشرا: أن تقسيم التوحيد ليس أمرا مستحدثا، بل دل عليه القرآن الكريم، والعلماء استنبطوا ذلك وبينوه للناس منذ القرون الأولى. الحادي عشر: أن المشركين كانوا يقرون ويعترفون بربوبية الله عز وجل، ولم ينفعهم ذلك لعدم تحقيقهم لتوحيد الألوهية. الثاني عشر: وجود من أنكر ربوبية الله تعالى وجحدها ظاهرا، مع اعترافه بذلك في قرارة نفسه. الثالث عشر: أن بيان القرآن الكريم للربوبية من أول أهدافه الدعوة إلى الألوهية. الرابع عشر: خطأ من جعل توحيد الربوبية هو المطلب الأول، إذ المشركون كانوا يقرون بذلك فلم ينفعهم ولم يخرجهم من الكفر، ولو كان الأمر كذلك لما بعث الرسل وأنزلت الكتب.

الخامس عشر: أن دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت كلها تدور حول تحقيق التوحيد، وحماية حماه والتحذير الشديد من الشرك بجميع أنواعه وسد الذرائع الموصلة إليه، وإن لم تكن شركا في نفسها. السادس عشر: أن الغلو كان وما يزال هو الباب الأول إلى الشرك، ولهذا شدد الرسول صلى الله عليه وسلم في التحذير منه، وسد الطرق الموصلة إليه كالتنطع والاطراء. السابع عشر: أن اتخاذ القبور مساجد بجميع معانيه، موجود في الناس قديما وحديثا وهو من أعظم الشرك الذي حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى في آخر رمق من حياته. الثامن عشر: أن الجهل بالدين، والانحراف عن الفهم الصحيح له، هما أهم أسباب وقوع كثير من الناس في الشرك. التاسع عشر: ظهور ما أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمور تدخل حمى التوحيد. العشرون: أن حماية حمى التوحيد من الشرك وذرائعه، أهم ما كان يعنى به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، ويجب أن تكون أهم ما يعني به كل مسلم دعوة، وبيانا، وجهادة وحماية. نسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يرد المسلمين إلى عقيدتهم ردا جميلاً، وأن يحفظ علينا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وآخر دعوانا أن الحميد لله رب العالمين.

مصادر ومراجع

مصادر ومراجع ... فهرس المصادر القرآن الكريم. 1- ابن تيمية السلفي، محمد خليل هراس، ط. دار الكتب العلمية. 2- أبو حامد الغزالي والتصوف، عبد الرحمن الدمشقية، ط. دار طيبة. 3- أحكام القرآن، أبو بكر بن العربي، ط. دار الفكر. 4- إثبات صفة العلو، ابن قدامة، ط: الأولى. 5- الأسماء والصفات، البيهقي، ط. دار الكتب العلمية. 6- الأصنام، الكلبي، ط. المطبعة الأميرية. 7- أضواء البيان، محمد الأمين الشنقيطي، ط. الثانية. 8- الأعلام، الزركلي، ط. الثالثة. 9- إغاثة اللهفان، ابن قيم الجوزية، ط. دار المعرفة. 10- اقتضاء الصراط المستقيم، ابن تيمية، ط. الأولى. 11- الأدلة القواطع والبراهين، عبد الرحمن بن سعدي، ط. مكتبة المعارف. 12- الإصابة، الحافظ ابن حجر، ط. 13- الإيمان في القرآن، د. مصطفى عبد الواحد، ط. دار الرائد العربي. 14- البداية والنهاية، الحافظ ابن كثير، ط. دار الكتب العلمية. 15- بيان تلبيس الجهمية، ابن تيمية، ط. الأولى. 16- بيان فضل علم السلف على علم الخلف، ابن رجب، ط. الأولى.

1- تاريخ الطبري، ابن جرير الطبري، ط. دار سويدان. 2- تاريخ العرب قبل الإسلام، د. عبد العزيز سالم، ط. مؤسسة شباب الجامعة. 3- تجريد التوحيد المفيد، أحمد بن علي المقريزي، ط. الأولى. 4- ترجيح أساليب القرآن على أساليب اليونان، ابن الوزير، ط. الجمعية العلمية الأزهرية. 5- تطهير الاعتقاد، محمد بن إسماعيل الصنعاني، ط. مكتبة المعارف. 6- تفسير القرآن العظيم، الحافظ ابن كثير، ط. دار الفكر. 7- تقريب التهذيب، الحافظ ابن حجر، ط. دار المعرفة. 8- تلبيس إبليس، ابن الجوزي، ط. دار الكتب العلمية. 9- تهذيب اللغة، الأزهري، ط. الدار المصرية للتأليف والترجمة. 10- توحيد الخلاق، سليمان بن عبد الله آل الشيخ، ط. الأولى. 11- التوحيد مع إخلاص العمل لوجه الله عز وجل، ابن تيمية، ت/د. محمد الجلينيد، ط/ الثالثة. 12- تيسير العزيز الحميد، سليمان بن عبد الله آل الشيخ، ط. المكتب الإسلامي. 13- الجامع الصحيح، محمد بن إسماعيل البخاري، ط. دار المعرفة. 14- الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ط. الثالثة، دار الكتاب العربي.

1- الجاهلية قديما وحديثا، أحمد أمين عبد الغفار، ط. شركة الشعاع للنشر. 2- الخطط المقريزية، أحمد بن علي المقريزي،ط. دار الصادر. 3- خلق أفعال العباد، محمد بن إسماعيل البخاري، ط. الأولى دار الرسالة. 4- درء تعارض العقل والنقل، ابن تيمية، ت/د. محمد رشاد سالم، ط. الأولى. 5- الدر النضيد، محمد بن علي الشوكاني، ط. مكتبة المعارف. 6- دعوة الرسل، محمد العدوي، ط. مصطفى البابي الحلبي. 7- دعوة التوحيد، محمد خليل هراس، ط. مكتبة الصحابة. 8- دلائل التوحيد، جمال الدين القاسمي، ط. دار الكتب العلمي. 9- دلائل النبوة، أبو نعيم، ط. الأولى. 10- الدين الخالص، صديق حسن خان، ط. مكتبة الفرقان. 11- الرد على الزنادقة والجهمية، أحمد بن جنبل، ط. المطبعة السلفية. 12- الرد على الجهمية، الدارمي، ط. المكتب الإسلامي. 13- رسائل العدل والتوحيد، القاضي عبد الجبار، ط. درا الهلال. 14- الروض الآنف، السهيلي. ط. دار المعرفة. 15- سنن النسائي، النسائي، ط. دار الكتب العلمية. 16- السيرة النبوية، ابن هشام، ط. مصطفى البابي الحلبي. 17- سير أعلا النبلاء، الذهبي. ط. الأولى مؤسسة الرسالة.

1- شرح العقيدة الطحاوية، ابن أبي العز، ط. الثامنة، المكتب الإسلامي. 2- شرح الأصول الخمسة، القاضي عبد الجبار. ط. دار الهلال. 3- شرح الفقه الأكبر، ملاعلي القاري، ط. مصطفى البابي الحلبي. 4- شرح السنة، البغوي، ط. المكتب الإسلامي, 5- صحيح مسلم بشرح النووي، مسلم بن الحجاج القشيري، ط. دار إحياء التراث العربي. 6- الصحاح، إسماعيل الجوهري، ط. الثالثة. 7- الصواعق المنزلة، ابن قيم الجوزية، ت/د. علي فقيهي، د. أحمد الغامدي، ط. الأولى. 8- الصواعق المرسلة، ابن قيم الجوزية، ت/د. علي الدخيل الله، ط. دار المعرفة. 9- العبودبة، ابن تيمية، ط. دار الكتب العلمية. 10- العقيدة في الله، د. عمر الأشقر، ط. الخامسة. 11- الفتاوى، ابن تيمية، ط. مكتبة المعارف بالمغرب. 12- فتح المجيد، عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ، ط. مكتبة الرياض. 13- فتح القدير، محمد بن علي الشوكاني، ط. دار الفكر. 14- الفتوى الحموية الكبرى، ابن تيمية، ط. مطبعة المدني.

1- الفرق بين الفرق، البغدادي، ط. دار المعرفة. 2- قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة، ابن تيمية، ط. الثالثة. 3- القاموس المحيط، الفيروز آبادي، ط. دار الجيل. 4- الكامل في التاريخ، ابن الأثير، ط. دار صادر. 5- كتاب الأموال، القاسم بن سلام. 6- كتاب الإرشاد، أبو المعالي الجويني، ط. الأولى. 7- كتاب التوحيد، ابن خزيمة، ت/د. عبد العزيز الشهوان، ط. دار الرشد. 8- كتاب التوحيد، ابن مندة، ت/د. علي محمد ناصر فقيهي، ط. الأولى. 9- كشف الشبهات، محمد بن عبد الوهاب، ط. دار البيان. 10- لسان العرب، ابن منظور، ط. دار صادر. 11- لوامع الأنوار البهية، السفاريني، ط. المكتب الإسلامي، مكتبة أسامة. 12- مدارج السالكين، ابن قيم الجوزية، ط. دار الكتاب العربي. 13- مجموعة الرسائل والمسائل، ابن تيمية، ط. دار الكتب العلمية. 14- مجموعة الرسائل الكبرى، ابن تيمية، ط. دار إحياء التراث العربي. 15- مختصر سنن أبي داود، الحافظ المنذري، ط. مكتبة السنة المحمدية.

1- مختصر السيرة النبوية، محمد بن عبد الوهاب، ط. الجامعة الإسلامية. 2- مختصر الصواعق المرسلة، ابن قيم الجوزية، ط. مكتبة المثنى. 3- المستدرك، الحاكم، ط. مطبعة الرياض. 4- مسند أبي يعلى، أبو يعلى الموصلي، ط. دار المأمون. 5- مصرع الشرك والخرافة، خالد علي الحاج. ط. إدارة الشؤون الدينية بقطر. 6- معالم التنزيل، البغوي، ط. دار المعرفة. 7- معارج القبول، حافظ حكمي، ط. المطبعة السلفية. 8- معجم البلدان, ياقوت الحموي، ط. دار إحياء التراث العربي. 9- معجم مقاييس اللغة، أبو الحسين بن زكريا، ت: عبد السلام هارون، ط. دار الكتب العلمية. 10- مقالات الإسلاميين، أبو الحسن الأشعري. 11- الملل والنحل، الشهرستاني، ط. دار الفكر. 12- منهاج السنة، ابن تيمية ط. دار الكتب العلمية. 13- منهج القرآن في الدعوة إلى الإيمان، د. علي بن محمد ناصر فقيهي، ط. الأولى. 14- منهج القرآن في تربية المجتمع، د. عبد الفتاح عاشور، ط. الأولى.

1- موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول، ابن تيمية، ط. الأولى، دار الكتب العلمية. 2- النهاية في غريب الحديث والأثر، ابن الأثر ط. دار الفكر. 3- نور اليقين، محمد الخضري، ط. دار الفكر. 4- هذه هي الصوفية، عبد الرحمن الوكيل، ط. مكتبة أسامة.

§1/1