حلول التعب والآلام

سليمان المحاسني

بسم الله الرحمن الرحيم، وهو حسبي ونعم الوكيل

بسم الله الرحمن الرحيم، وهو حسبي ونعم الوكيل الحمد لله مؤيد شريعة نبيه سيد الأنام، رافع أعلام كلمة التوحيد بالحق المتين إلى يوم الحشر والقيام، ناصر لواء من اختاره إما للعباد من الدولة العادلة العثمانية، المستمرة إن شاء الله على توالي الليالي والأيام، المرتبطة أحكامها بالشريعة المطهرة، المحافظة على ما فيه رضاء الملك العلام، القامعة لظلم وكفر من بغى وطغى في سالف العصور والأعوام، وإنها هي الدولة الباقية الوارثة كما استنبط من له قوة في العلم والإفهام، من قوله سبحانه وتعالى في كتابه المكنون (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون) ، ألا وهم آل عثمان، ذوو الشوكة والرحمة والإيمان، أيد الله خلافتهم إلى انقضاء الدوران، وأيدهم بنصره ورفعته على ممر الأوقات والأزمان، لا سيما سلطاننا الآن من هو صفوة الدولة العثمانية، مالك سرير الخلافة الخاقانية، ملك ملوك الممالك الإسلامية، خادم الحرمين الشريفين، سلطان البرين والبحرين، سيف الله المسلول على أعداء الدين، المتوشح بنور الإيمان والعلم واليقين، ملك ملوك العالمين، السلطان بن السلطان بن السلطان الملك المؤيد الغازي مصطفى خان، دام محروساً مؤيداً أبد الآباد، بعزٍّ مديد ماله من نفاد، وسيف قهر سلطنته محكماً في رقاب الطغاة البغاة اللئام، آمين. أحمده سبحانه على نعم لا تحصى، من الإكرام، وأشكره على أن منحنا يقيناً وتثبيتاً على الحق والشهادة من فيض فضله الكريم الإنعام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تدفع عنا الأهوال، وتكون ذخيرة لنا يوم الزحام. وأشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله، المؤيد بالمعجزات العظام، الذي جاهد في الله حقَّ جهاده، حتى نصر كلمة التوحيد، ومحا قتام الجور والظلام وعلى آله وأصحابه الكرام، الذين أسهروا في نصرته أعين رضاء للملك السلام، وطلباً لثوابه العميم بدار المقام، وسلم تسليماً ما فرجت شدة من لطف ذي الجلال والإكرام. وبعد، فيقول العبد المفتقر إلى مولاه، الراجي من ربه سبحانه حسن الختام في دنياه، المحترق بسعير هذه النار الموقدة من الفتن العظيمة، والداهية التي لم تصب بمثلها دمشق الشام، من سالف الدهور القديمة، من حين فتح السادة الصحابة، وتمهيد البلاد على أحسن إصابة، ولكن قدر ذلك الحكم العدل، الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، إنا لله وإنا إليه راجعون. وأنا الفقير سليمان بن أحمد المحاسيني التميمي، المدرس والخطيب بجامع بني أمية، لطف الله به وبالمسلمين أجمعين، وسميتها "حلول التعب والآلام بوصول أبي الذهب إلى دمشق الشام" صانها الله عن الكفرة الطغاة، على أبد الأيام آمين. فأقول كما وقع على التحقيق وبالله سبحانه التوفيق إلى أقوم طريق: إن أعظم ما توالت به المحن والآلام، ورمت به الحوادث الليالي والأيام، ما قدر ربه الباري وأراد، ليظهر حقيقة المتمسك بدينه وسلطانه على اليقين، ولا يبالي بضرب السيوف الحتوف ولا يموت على الحق ولو رغمت منهم الأنوف، ممن يظهر الخديعة والنفاق، ويبطن الكفر ويجنح إلى الشقاق، المتوطنون بدمشق الشام، الداخلون في صدقات وخيرات ملك ملوك الإسلام. أنه توالى المحن، وخُيِّلَ للباغي الفعل السيئ أنه حسن، وتوجهت عساكر مصر بمن معها من البغاة أعداء الدين، أولاد ظاهر العمر اللعين، واجتمعوا في عدة أشهر تقدمت، وغير خافي ذلك عن مسامع الدولة العلية والحضرة السلطانية. وكان عثمان باشا سبباً لما أرادوا أن يتوصلوا إليه من البلية، وضبط البلاد بالكلية، وفعلوا العام الماضي ببيت الله الحرام، ما فعلوه من الكفر والإهانة والقتام، واستباحوا حرم مكة ولم يبح لأحد في الإسلام وجاؤوا مجتمعين إلى ان وصلوا إلى فناء دمشق الشام، وصربوا سرادقاتهم خارجها على رؤوس الأشهاد والأعلام، واستباحوا دماء المسلمين وأموالهم وبلاد الإسلام، المقدسة المطهرة معدن الأنبياء والولياء العظام، وذلك يوم الإثنين تسعة عشر صفر سنة 1185، وكان قائد عسكرهم محمد بيك المكنى بأبي الذهب، ذي المكايد والتعب، ومعه تسعة سناجق وخمسة من اولاد ظاهر العمر، الشقي الخبيث محرك الفساد، ومتعب البلاد والعباد، ومشايخ المتاولة والصفدية أهل البدع والرفض والكفر والفساد ومعه نحو ثمانون مدفعاً ونحو أربعين ألف مقاتل.

ففي ثاني يوم الثلاثة حصل الجنك منهم، وخرج إليهم متصرف حلب عبد الرحمن باشا ومتصرف كِلِّز خليل باشا وعساكر عثمان باشا، وولده متصرف طرابلس الشام محمد باشا. ففي أقل من ساعة فرَّ هارباً خليل باشا وعبد الرحمن باشا وعساكر والينا وولده، وقتل منهم شرذمة قليلة. وبقي والينا عثمان باشا وولده محمد باشا، وعسكر الشام اليرليه والقبقول، وحصل القتال معهم ثلاثة أيام وأحرقوا في محلة التركمان بيوتاً وحاراتاً. ثم في ليلة الجمعة 24 صفر، ذهب عثمان باشا فاراً وولده محمد باشا ليلاً لطرف حماة مالكاناته. ويوم الجمعة ورد مكتوب من ابي الذهب للأعيان والعلماء يطلبهم لمواجهته. فذهب إليه علي أفندي محدث الشام الداغستاني وأسعد افندي بكري زاده، والسيد محمد العاني المدرس بجامع بني أمية. فحين واجهوه طلب منهم تسليم البلاد، وإن ما سلموا يأخذها قهراً وحرباً وقتالاً، ويحرق جميع الشام. فأخذوا منه المهلة لصباح يوم السبت لأجل المشاورة مع بقية العلماء وأهل الشام والأوجاقات. ففي تلك الليلة ليلة السبت 25 صفر بعد العشا فرَّ هارباً يوسف آغا جبري زاده آغاة اليرليه، واليرليه جميعاً وجميع القبقول، ما عدا من في القلعة فإنهم حافظوها، ومعهم آغتهم مصطفى آغا، وسكَّروا باب القلعة، واهتموا بأمر القتال بأدوات الحرب والمدافع. وكذلك ذهب السيد حسين أفندي المرادي المفتي، وأسعد أفندي البكري، وحسين أفندي ابن حمزة لطرف حماة ليلاً، ونقيب أفندي العجلاني فرَّ هارباً لطرف الجبل والدروز، وعمادي زاده السيد على أفندي لطرف القريا، وآلاي بيك، وكومش زاده، وبقية الأوجاقات. ولم يبق في البلدة مدافع للعساكر أو مقاتل. وبقت (كذا) أهل الشام مترقبين الحرق والنهب، والقتل وسبي النسا، وماتوا جوعاً وخوفاً من ذهاب والينا عثمان باشا وذهاب الأعيان وتخلية البلدة. فحينئذ خرج شيخ المحدثين الداغستاني، ومؤلف الرسالة كاتبه سليمان المحسني الخطيب، ومفتي الشافعية، والشيخ خليل الكاملي المدرس، والشيخ عبد الخالق المدرس، وبعض أهل العلم، وأوقفنا عساكر أبي الذهب المرسلة للهجوم على البلدة إلى حين نواجهه. فحين واجهناه تكلمنا معه بما قدره الله من المدافعة عن أهل الشام وأخذنا منه أماناً ورأياً للرعايا. وثاني يوم الأحد العصر جاء منه مرسوم مضمونه أنه نهار غداً الإثنين مع الصباح تبادر لأردينا وديواننا. وهم علي أفندي الداغستاني، واسماعيل أفندي المنيني، وكانبه سليمان المحاسني، وشاكر أفندي العمري، والشيخ أحمد المدرس العطار، والشيخ أبو الفتح العجلوني المدرس، والشيخ خليل الكاملي المدرس، والسيد محمد العاني المدرس، والشيخ حسين العطار، ومن موجود من وجوه البلدة، وكتخدا اليرليه، والإيباشيا، والشرابجة، والأدباشية، والزعما، والسباهية، وأرباب التمارات، وبيوك كاتب، وكوجك كاتب والمقابلجي، وكتاب خزينة دمشق الشام، لأجل نظام البلدة على حسب الشرع الشريف. ففي ثاني يوم 26 صفر توجهنا جميعاً لأرديه وديوانه، والسيف بين يديه والعساكر محيطة بنا. فقال لنا: مرادي أنصب قاضياً ومفتياً وآغاة يرليه. فقالوا له الجميع: يا مولانا! أنت خاطبتنا على حسب الشرع الشريف، والشرع مقتضاه أن هذه البلدة بلدة حضرة مولانا السلطان مصطفى خان، نصره العزيز الرحمن، وتوجيه هذه المناصب له، ولا يصح من غيره، ونحن في بيعة حضرة السلطان ورعاياه، وندعو باسمه، ومعاشنا من خيره، ولكن يمكن أن تأذنوا لأمين فتوى المفتي الغائب الشيخ إبراهيم الغزي أن يكون قيِّمقام عنه، ولشاكر أفندي نائب الشرع أن يكون من طرف القاضي لحين وصوله، ولحموي زاده وكالة عن يوسف آغا جبري، فانفعل كثيراً وظهر الغضب على وجهه، وبعد ذلك ألبس حموي زاده فروة، وأمين الفتوى فروة، وشاكر أفندي فروة، وقرأنا الفاتحة، وخرجنا من عنده من تحت السيف. ثم ثاني يوم الثلاثاء 27 صفر نصب القنابر على القلعة وعلى البلدة، ووقع على سقف الجامع الأموي وأخرقوه، وهدم من الجامع ما هدم إلى ثاني يوم الأربعاء. فعند الظهر ضاجت العالم وانتقلت، واشتد الرعب والخوف والاضطراب، وسَكَّرت البلدة. فلما رأينا ذلك توجه كاتبه سليمان المحسني إلى أرديه وقابلته، وقلت له:

ولم يقدر أحد يتكلم ويعلم الدولة العلية بذلك.

أنت أعطيت أماناً ورأياً لأهل الشام، وحينئذ نصبت القنابر، وأظهرت العذاب على أمة محمد صلى الله عليه وسلم وسكان بلاد الله المقدسة، ومعدن الأنبياء والأولياء، وأرض المحشر والمنشر، وما من نبي إلا من الشام أو هاجر إلى الشام. وقال صلى الله عليه وسلم: لا تزال من أمتي فرقة على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة، ألا وهم بالشام. وفي بعض الأحاديث القدسية: "يا شام من أمَّكِ بسوء قصمته. أنت صوط (كذا) الله في الأرض، ينتقم بك ممن يشاء من عباده". فلو كنا مجوساً ما فعل بنا هكذا. فإما أن ترفع العذاب عنا وإلا نستأذنك ونأخذ كل أهل الشام من فقرا، ونسا، وأولاد وكبار وصغار، ونتوجه على وجهنا إلى أي مكان قدَّر الله تحت التهلكة، وافعل بعد ذلك بالبلدة ما شئت. فحينئذ حصل له توقف من طرف الله، وأرسل نادى بالأمان، ورفع العذاب بعد الإحراق والنهب والقتل ونهب غالب ما في قرايا الشام ومواشيهم، ونهب سراية ودايرة عثمان باشا ما عدا سرتية الحرم. واستقر الأمر إلى يوم الإثنين رابع ربيع الأول فجاء منه كتاب وفرَّج الكريم الوهاب. ومضمونه: "إنه كان سبب مجيئنا لهذه البلاد الشامية لأجل مقابلة عثمان باشا. فلو خرج لنا للخارج ما قارشناكم، وتعرضنا للقلعة أخبرونا أن بها عثمان باشا وأمواله، فلما تحققنا غيابه وأنه ليس بها رفعنا التعرض، وما مرادنا بلدتكم ولا إضراركم وأذيتكم، وهذه بلدة مولانا السلطان الأعظم مصطفى خان، والقلعة قلعته، أيَّد الله خلافته إلى يوم الدين. وقد عزمنا على التوجه والعود إلى طرف مصر، ولم يقع من عسكرنا أذية لأحد من أهل الشام، فنرجو أن تبتهلوا بالدعا لحضرة مولانا السلطان ولنا بالتبعية، وتذكرونا بالخير والجميل والسلام". وطلب منا الجواب عن مكتوبه. فكتبنا له: "إنه وصل كتابكم، وعرفتونا أن سبب مجيئكم لأجل عثمان باشا وقد ذهب، وأن البلدة بلدة حضرة مولانا السلطان، وما مرادنا البلدة، والآن عازمين على العود إلى مصر، فتوجهوا إلى حيث شئتم والسلام". وثاني يوم الثلاثة بكرة النهار رحل متوجهاً إلى طرف مصر. وكانت مدة إقامة أبو الذهب من حين مجيئه للشام إلى يوم سفره ستة عشر يوماً تماما. والله سبحانه فرَّج بمنِّه وكرمه. فعند ذلك اجتمعنا جميع علماء البلدة بالسرايا، واستأجرنا ساعياً، وكتبنا كتاباً لوالينا عثمان باشا إلى حماه وأخبرناه بما وقع، وقيام أبو الذهب من الشام، وأرسلنا له صورة مكتوب أبي الذهب، وفتحت البلدة كما كانت أولاً. ثم في يوم الخميس سادس عشر من ربيع الأول جاء عثمان باشا، وولده محمد باشا، ومعه عسكر من حماه، وجاء قاضي الشام معه مكي أفندي، والأفندية، وجاء النقيب من عند الدروز، وجاء يوسف آغا جبري أوغلي من جبل الدروز ومعه نحو خمسة آلاف درزي، أنزلهم في البلدة بأمر من عثمان باشا. وعاد خليل باشا بعسكره، ونزل خارج البلدة. وهذا ما وقع على وجه الصدق. واستمرت أهل الشام بعد ذلك في عظيم الشدة والضيق لذهاب أموالهم وخراب قرايا الشام. وكان قبل ذلك أخذ منهم عثمان باشا نحو ألف كيساً (كذا) من البازركان على سبيل القرض ليوفيهم إياها بواسطة يوسف آغا جبري زاده. وكان سبب جميع ما وقع بقضاء الله تعالي على أهل هذه البلدة المقدسة سببه الظلم التعدي، وتولية الأمور من عثمان باشا لغير أهلها لرعاع الناس. قال صلى الله عليه وسلم: "إذا وسِّد الأمر لغير اهله فارتقبوا الساعة". وقال الله تعالى: "إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها". ولم يقدر أحد يتكلم ويعلم الدولة العلية بذلك. وحضرة الدولة العلية غير عالمة بأهل الشام والذي حلَّ بها.

وكان السبب مع الجل في موت مفتي الشام السيد علي أفندي المرادي ما حلَّ بدمشق من البلايا، ولم يجسر أن يعلم الدولة العلية بالواقع خوفاً من أمور يلحقه بها الضرر من بعض الأشخاص، فمات همَّاً وغمَّاً وحزناً وخوفاً. رحمه الله رحمة واسعة، وعوضه الجنة، فإنه كان صادقاً في خدمة الدولة العلية. فنسأل الله سبحانه بالأنبياء العظام، بالملائكة الكرام، أن يلهم الدولة العلية الانتقام ممن كان السبب في تحريك هذه الأمور وتخريب البلاد وإيذاء العباد، ونهب الأموال، حيث بقت أهالي الشام في أسوأ حال، رمتهم حوادث الليالي بالنبال، فيا أسفا عليها مذ توالت الخطوب إليها، وأن يشملوا أهل هذه البلدة المقدسة بعميم أنظارهم ويخرجونهم (كذا) من ظلمات الظلم إلى النور، ويكشفوا عنهم عظيم ما حلَّ بهم من البلاء المسطور، فإن ذلك عند الله تعالى أعظم أجراً من الحج المبرور والسعي المشكور، ولله سبحانه وتعالى مقاليد الأمور. قال صلى الله عليه وسلم: " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته". إلى هنا جف القلم، بما وقع وزحم، والله سبحانه لطيف قدير، ولا ينبئك مثل خبير. والحمد لله وحده، وصلى الله على من لا نبي بعده، وآله وأصحابه، وسلم تسليماً كثيراً. وكان الفراغ من تسويدها يوم الجمعة سابع عشر من ربيع الأول الأنور سنة خمس وثمانين وماية وألف على يد مؤلفها الفقير سليمان بن أحمد المحسني التميمي المدرس والخطيب في جامع بني أمية بدمشق الشام صينت من الآلام على أمد الأيام، ما ناح حمام وهطل غمام آمين.

§1/1