حكم تارك الصلاة - الألباني

ناصر الدين الألباني

حكم تارك الصلاة

حكم تارك الصلاة بقلم العلامة المحدث محمد ناصر الدين الألباني دار الجلالين الرياض الطبعة الأولي

1412 - هـ

تقديم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أما بعد: فإن مما (لا يختلف [فيه] المسلمون أن ترك الصلاة المفروضة عمدا من أعظم الذنوب وأكبر الكبائر وأن إثمه أعظم من إثم قتل النفس وأخذ الأموال ومن إثم الزنا والسرقة وشرب الخمر وأنه معرض لعقوبة الله وسخطه وخزيه في الدنيا والآخرة) (1)

(1) كتاب الصلاة وحكم تاركها (ص 16) للعلامة ابن القيم C تعالى وقد وردت الآيات القرآنية تترى في تعظيم قدر الصلاة وبيان شديد إثم تاركها أو المتهاون بها: قال تعالى: {فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا إلا من تاب} [مريم: 59 - 60] وقال سبحانه: {فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراؤون ويمنعون الماعون} [الماعون: 4 - 7] وقال جل شأنه: {ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين} [المدثر: 42 - 43] إلى غير ذلك من آيات كريمات تقرع الآذان وتصك الأسماع وقد جاءت أحاديث عدة عن النبي A أخبر فيها عن عظيم الذنب الذي يتلبس به تارك الصلاة أو المتهاون بها أو المتخاذل عنها: [5]

فقال A: (بين العبد وبين الشرك ترك الصلاة) (1) وقال A: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر (2) وقال A: (من ترك الصلاة متعمدا فقد برئت منه ذمة الله) (3) قلت: وإزاء هذه النصوص القرآنية والنبوية: اختلف الأئمة والعلماء في تكفير متعمد ترك الصلاة: قال الإمام البغوي في " شرح السنة " (2 / 178 179) : اختلف أهل العلم في تكفير تارك الصلاة المفروضة عمدا

(1) رواه مسلم (82) عن جابر (2) رواه أحمد (5 / 346) والترمذي (2623) وابن ماجة (1079) وغيرهم عن بريدة وقال شيخنا في تعليقه على (كتاب الإيمان) (ص 15) لابن أبي شيبة: (إسناده صحيح على شرط مسلم) (3) رواه ابن ماجة (4034) والبخاري في " الأدب المفرد " (رقم: 18) وغيرهما وفي إسناده ضعف لكن له شواهد تقويه فانظر: (التلخيص الحبير) (2 / 148) للحافظ ابن حجر و (إراواء الغليل) (7 / 89 - 91) لشيخنا الألباني [6]

ثم ذكر طائفة من أسماء المختلفين في ذلك وقال الشوكاني في " نيل الأوطار " (1 / 369) تعليقا على حديث جابر المتقدم إيراده: الحديث يدل على أن ترك الصلاة من موجبات الكفر ولا خلاف بين المسلمين في كفر من ترك الصلاة منكرا لوجوبها إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام أو لم يخالط المسلمين مدة يبلغه فيها وجوب الصلاة وإن كان تركه لها تكاسلا مع اعتقاده لوجوبها - كما هو حال كثير من الناس (1) - فقد اختلف الناس في ذلك ثم نقل - بعد ذلك نبذا من الخلاف - مشهور قول " الجماهير من السلف والخلف - منهم مالك والشافعي - إلى أنه لا يكفر بل يفسق فإن تاب وإلا قتلناه حدا كالزاني المحصن. . . إلخ " وقال ابن حبان في " صحيحه " (4 / 324) : أطلق المصطفى A اسم الكفر على تارك الصلاة إذ ترك الصلاة أول بداية الكفر لأن المرء إذا ترك الصلاة واعتاده: ارتقى منه إلى ترك غيرها من الفرائض وإذا

(1) هذا في عصره فكيف اليوم [7] اعتاد ترك الفرائض: أداه ذلك إلى الجحد فأطلق A اسم النهاية التي هي آخر شعب الكفر على البداية التي هي أول شعبها وهي ترك الصلاة ثم قال C مبوبا: " ذكر خبر يدل على صحة ما ذكرنا: أن العرب تطلق اسم المتوقع من الشيء في النهاية على البداية " وبعد إيراده قول النبي A: " المراء في القرآن كفر " (1) قال: إذا مارى المرء في القرآن أداه ذلك - إن لم يعصمه الله - إلى أن يرتاب في الآي المتشابه منه فأطلق A اسم الكفر - الذي هو الجحد - على بداية سببه الذي هو المراء فترك الصلاة شأن كبير وأمر خطير يودي - عياذا بالله - إلى الردة عن الدين واللحوق بالكفار والمشركين وإذ اختلف العلماء والأئمة في هذه المسألة المهمة: كان الواجب على طلاب العلم التأني والتوقي لا أن يعالجوا كل تارك

للصلاة بالوصم بالتكفير والردة بكل غلاظة وشدة إذ (1) الحكم على الرجل المسلم بخروجه من دين الإسلام ودخوله في الكفر لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقدم عليه إلا ببرهان أوضح من شمس النهار فإنه قد ثبت في الأحاديث الصحيحة المروية من طريق جماعة من الصحابة (2) أن: " من قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما ". . . وفي لفظ في " الصحيح ": ". . . فقد كفر أحدهما " ففي هذه الأحاديث وما ورد موردها أعظم زاجر وأكبر واعظ عن التسرع في التكفير وقد قال الله D: {ولكن من شرح بالكفر صدرا} [النحل: 106] فلا بد من شرح الصدر بالكفر وطمأنينة القلب به وسكون النفس إليه " (3) نعم قد تدفع الغيرة والعاطفة بعض أهل العلم أو طلابه إلى الحكم بتكفير كل تارك للصلاة دون اعتبار لجحود أو كسل

(1) من هنا اقتباس من كلام الإمام العلامة الشوكاني في " السيل الجرار " (4 / 578) (2) رواه البخاري (10 / 428) ومسلم (60) عن ابن عمر. وفي الباب عن أبي ذر عند البخاري (10 / 388) (3) إلى هنا النقل عن الإمام الشوكاني [9]

حرصا - في ظنهم - على الترهيب الشديد من هذا العمل الجلل ورغبة - كما توهموا - في درء أي تساهل في الصلاة وحكمها (قد) يؤدي إلى التسيب في هذا الركن الإسلامي العظيم وقد يستدل (بعض) من هؤلاء العلماء أو الطلاب على ذلك بشيء من الأدلة القرآنية أو النبوية التي سبقت أو غيرها لكن دون جمع بين الدلائل الواردة في هذه المسألة سلبا أو إيجابا - حينا - أو بتقصير في هذه الجمع - أحيانا ولست في هذه المقدمة - فضلا عما سيأتي في رسالة شيخنا - بمستوعب القول في دلائل المختلفين في هذه المسألة العظيمة وتحقيق مدارك الخلاف والنظر فيها فإن لهذا موضعا آخر (1) ولكني أكتفي هنا بذكر تنبيهات علمية مهمة قد تغيب عن عدد من طلاب العلم فأقول: أولا: قال الإمام المبجل أحمد بن حنبل في وصيته لتلميذه الإمام الحافظ مسدد بن مسرهد (2) : ولا يخرج الرجل من الإسلام شيء إلا الشرك بالله

(1) انظر ما سيأتي (ص 64) (2) كما في طبقات الحنابلة " (1 / 343) وغير ولي شرح موجز على هذه (الوصية) عنوانه: (السبيل الممهد) وهو تحت الطبع [10]

العظيم أو يرد فريضة من فرائض الله D جاحدا بها فإن تركها كسلا أو تهاونا: كان في مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه. . . " (1) قلت: وهذا هو صريح ما جاءنا في الكتاب والسنة بعموم الحكم وخصوص مسألة ترك الصلاة: قال الله تعالى: [إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء]

وقال A: خمس صلوات كتبهن الله على العباد فمن جاء بهن ولم يضيع منهم شيئا استخفافا بحقهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة (2) ثانيا: قال الإمام محمد بن عبد الوهاب C تعالى

(1) وانظر " الإيمان " (ص 245) لشيخ الإسلام ابن تيمية لمعرفة الروايات عن أحمد في ذلك وما سيأتي (ص 16، 46، 58) (2) رواه أبو داود (425) والنسائي (1 / 230) وغيرهما. وانظر (صحيح الترغيب) (366) لشيخنا الألباني. ولابن عبد البر في (التمهيد) (23 / 289 - 301) بحث مهم جدا فيه [11]

كما في " الدرر السنية " (1 / 70) - جوابا على من سأله عما يكفر الرجل به؟ وعما يقاتل عليه؟ فقال C: أركان الإسلام الخمسة أولها الشهادتان ثم الأركان الأربعة إذا أقر بها وتركها تهاونا فنحن وإن قاتلناه على فعلها فلا نكفره بتركها والعلماء اختلفوا في كفر التارك لها كسلا من غير جحود ولا نكفر إلا ما أجمع عليه العلماء كلهم وهو الشهادتان ثالثا: يستدل بعض أهل العلم في تكفيرهم تارك الصلاة بآية من القرآن العظيم يجعلونها عماد أدلتهم في التكفير وهي قوله جل شأنه: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين} [التوبة: 11] قالوا: وجه الدلالة من الآية أن الله تعالى اشترط لثبوت الأخوة بيننا وبين المشركين إقام الصلاة فمن لم يقم بها فلا يعد أخا لنا في الدين فالجواب على هذا الاستدلال من وجهين: الأول: قال الإمام ابن عطية في " المحرر الوجيز " [12]

(8 / 139 طبع المغرب) : تابوا: رجعوا عن حالهم والتوبة منهم تتضمن الإيمان فإقامة الصلاة مشروطة ومسبوقة بالتوبة التي هي متضمنة للإيمان إذ ذكر الله التوبة قبل ذكر الصلاة أو الزكاة فدل ذلك على أنها هي قاعدة الأصل في الحكم بأخوة الدين لذا قال الطبري في " جامع البيان " (18 / 86) : يقول جل ثناؤه: فإن رجع هؤلاء المشركون - الذين أمرتكم أيها المؤمنون بقتلهم - عن كفرهم وشركهم بالله إلى الإيمان به وبرسوله وأنابوا إلى طاعته وأقاموا الصلاة المكتوبة فأدوها بحدودها وآتوا الزكاة المفروضة أهلها: فهم إخوانكم في الدين الذي أمركم الله به وهو الإسلام ويدل على ما سبق: الوجه الثاني: أنه قرن بالصلاة الزكاة فهل من تاب وأقام الصلاة لكنه لم يزك: لا يكون أخا في الدين عليه ما على المسلمين وله ما للمسلمين؟ إن قيل: لا بل هو أخ في الدين قلنا: ما هو دليل التفريق في الآية بين الصلاة والزكاة وهما مذكورتان بالترتيب والتساوي عقيب التوبة؟ [13]

وإن قيل: ليس أخا في الدين قلنا: هذا باطل من القول بيقين ليس عليه أي دليل رابعا: عن حذيفة بن اليمان Bهـ قال: قال رسول الله A: يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب حتى لا يدرى ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة وليسري على كتاب الله D في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية وتبقى طوائف من الناس: الشيخ الكبير والعجوز يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة: لا إله إلا الله " فنحن نقولها " رواه ابن ماجة (4049) والحاكم (4 / 473) من طريق أبي معاوية عن أبي مالك الأشجعي عن ربعي بن حراش عن حذيفة بن اليمان مرفوعا وصححه الحاكم ووافقه الذهبي وصححه - أيضا - البوصيري في " مصباح الزجاجة " وقواه الحافظ ابن حجر في " فتح الباري " (13 / 16) وقد أعل (بعضهم) الحديث وضعفه لكلام في أبي [14]

معاوية وهو غير ضاره ومع ذلك فقد خفيت (عليهم) متابعة جليلة: فقد روى الحديث عن أبي مالك: أبو عوانة بإسناده ومتنه كما قال البوصيري في " المصباح " (3 / 254) وأبو عوانة: ثقة ثبت رضى وقال شيخنا الألباني في كتابه المعطار " سلسلة الأحاديث الصحيحة " (1 / 130 - 132) تعليقا على هذا الحديث الصحيح: هذا وفي الحديث فائدة فقهية هامة وهي أن شهادة أن لا إله إلا الله تنجي قائلها من الخلود في النار يوم القيامة ولو كان لا يقوم بشيء من أركان الإسلام الخمسة الأخرى كالصلاة وغيرها ومن المعلوم أن العلماء اختلفوا في حكم تارك الصلاة خاصة مع إيمانه بمشروعيتها فالجمهور على أن لا يكفر بذلك بل يفسق وذهب أحمد [فيما يذكر عنه] إلى أنه يكفر وأنه يقتل ردة لا حدا وقد صح عن الصحابة أنهم لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة. رواه الترمذي والحاكم [15] وأنا أرى أن الصواب رأي الجمهور وأن ما ورد عن الصحابة ليس نصا على أنهم كانوا يريدون ب (الكفر) هنا الكفر الذي يخلد صاحبه في النار ولا يحتمل أن يغفره الله له كيف ذلك وحذيفة بن اليمان - وهو من كبار أولئك الصحابة - يرد على صلة ابن زفر وهو يكاد يفهم الأمر على نحو فهم أحمد له فيقول: ما تغني عنهم لا إله إلا الله وهم لا يدرون ما صلاة. . . " فيجيبه حذيفة بعد إعراضه عنه: " يا صلة تنجيهم من النار " ثلاثا فهذا نص من حذيفة Bهـ على أن تارك الصلاة - ومنها بقية الأركان - ليس بكافر بل هو مسلم ناج من الخلود في النار يوم القيامة فاحفظ هذا فإنك قد لا تجده في غير هذا المكان ثم وقفت على " الفتاوى الحديثية " (84 / 2) للحافظ السخاوي فرأيته يقول بعد أن ساق بعض الأحاديث الواردة في تكفير تارك الصلاة وهي مشهورة معروفة: ولكن كل هذا إنما يحمل على ظاهره في حق تاركها جاحدا لوجوبها مع كونه ممن نشأ بين المسلمين لأنه يكون حينئذ [16] كافرا مرتدا بإجماع المسلمين فإن رجع إلى الإسلام قبل منه وإلا قتل وأما من تركها بلا عذر بل تكاسلا مع اعتقاده لوجوبها فالصحيح المنصوص الذي قطع به الجمهور أنه لا يكفر وأنه - على الصحيح أيضا - بعد إخراج الصلاة الواحدة عن وقتها الضروري - كأن يترك الظهر مثلا حتى تغرب الشمس أو المغرب حتى يطلع الفجر - يستتاب كما يستتاب المرتد ثم يقتل إن لم يتب ويغسل ويصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين مع إجراء سائر أحكام المسلمين عليه ويؤول إطلاق الكفر عليه لكونه شارك الكافر في بعض أحكامه وهو وجوب العمل جمعا بين هذه النصوص وبين ما صح أيضا عنه A أنه قال: خمس صلوات كتبهن الله - فذكر الحديث وفيه: " إن شاء عذبه وإن شاء غفر له " وقال أيضا: " من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة " إلى غير ذلك ولهذا لم يزل المسلمون يرثون تارك الصلاة ويورثونه ولو [17]

كان كافرا لم يغفر له ولم يرث ولم يورث " ا. هـ خامسا: يجيب بعض أهل العلم على عدد من الأحاديث الواردة في هذه المسألة مما يفيد شمول عفو الله سبحانه ومغفرته ورحمته لبعض من تاركي الصلاة التي هي دون الشرك - كما قال جل شأنه: " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " - كمثل حديث البطاقة وحديث الشفاعة الآتي وغيرها من الأحاديث بأن يقول (هؤلاء) : " هذه أحاديث (عامة) وأحاديث تكفير تارك الصلاة (خاصة) " أقول: ولو عكس (هؤلاء) - وفقهم الله - قولهم لكانوا أقرب إلى الصواب كما هو معروف من قاعدة الوعد والوعيد عند أهل السنة فيما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية C في مواضع عدة من كتبه ك " مجموع الفتاوى " (4 / 484) (8 / 270) (11 / 648) (23 / 305) وغيره وخلاصة القول في هذه القاعدة: أن نصوص الوعيد داخلة تحت مشيئة الله سبحانه إما [18]

عفوا وإما تنفيذا وأما نصوص الوعد فإن الله منفذها كما كتب - سبحانه - على نفسه وفي ذلك يقول من يقول من أهل العلم مستدلا على أصل هذه القاعدة: وإني وإن أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي أنظر " شرح العقيدة الطحاوية " (ص 318) سادسا: من أعجب العجب - بعد ما سبق - أن يقول (البعض) واصفا القول بعدم تكفير تارك الصلاة مع إثبات فسقه وفجوره: بأنه إرجاء؟ فما هو الإرجاء عند هؤلاء؟ وما هي حدوده؟ وما هي ضوابطه؟ وبعد هذا السابق كله فإننا نؤكد ونبين بكل صراحة ووضوح أن تارك الصلاة مجرم فاجر وآثم فاسق يخشى عليه [19]

- عياذا بالله - من الردة والكفر والخروج من الإسلام والشرك إن لم يسارع بالتوبة والإنابة والاستغفار والهداية أو إن لم يتغمده الله - سبحانه - بعفوه وعنايته وأخيرا: فإن هذه المسألة من مسائل العلم الكبرى وقد تنازع فيها أهل العلم سلفا وخلفا فالبحث فيها يجب أن يكون بروح طيبة وعقل منير ونظر سديد بعيد عن التعصب مع اطراح التقليد إذ هذا كله يوصل إلى معرفة الحق والوقوف عليه والدعوة إليه وهذه الرسالة لشيخنا العلامة المحدث المحقق محمد ناصر الدين الألباني - حفظه الله سبحانه - مثال حسن على ما قدمته نقدمها للإخوة القراء رغبة في نشر العلم وطمعا في تحصيل الثواب واستجابة لأمر الله سبحانه بالرد - عند الاختلاف - إليه وإلى رسوله A: [فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا]

[20]

فلا يمنعن أحدا من قارئي هذه الرسالة إلفه أو عادته أو ما نشأ عليه أو تلقنه: من أن يقبل الحق وينصاع إليه ويجاهد دونه إذ الحق أغلى ما يطلب وأعز ما يرغب فالله العظيم نسأل التوفيق والسداد والرشد والرشاد وهداية من ضل من العباد وقصم من تلبس بالكفر والعناد وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين [21]

مقدمة المؤلف إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أما بعد: فهذا بحث علمي لطيف في تخريج وشرح حديث نبوي شريف أصله من أحاديث المجلد السابع من كتابي: (سلسلة الأحاديث الصحيحة) ورأيت إفراده بالنشر لأهميته وكبير فائدته وذلك بعد أن رآه بعض إخواننا فاقترح علي نشره مفردا من باب الاستعجال بالخير فوافق ذلك ما عندي فدفعت صورة منه إلى صاحبنا وتلميذنا الشاب علي بن حسن الحلبي ليقوم بتهيئته للنشر وإعداده للطبع مع كتابة مقدمة علمية له تقرب فوائده للقراء الأفاضل [22]

وقد فعل ذلك كله - جزاه الله خيرا - ثم أشرف على طباعته وتصحيحه ومراجعته وفي آخر هذه المقدمة الوجيزة أسأل الله سبحانه أن ينفع بهذا البحث العلمي من يقرؤه وينظر فيه إنه سميع مجيب فأقول وبالله التوفيق: [25]

متن الحديث: روى الإمام معمر بن راشد في (الجامع) (11 / 409 - 411 - الملحق ب (مصنف عبد الرزاق) عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري - Bهـ - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا خلص المؤمنون من النار وأمنوا ف [والذي نفسي بيده] ما مجادلة أحدكم لصاحبه في الحق يكون له في الدنيا بأشد من مجادلة المؤمنين لربهم في إخوانهم الذين أدخلوا النار قال: يقولون: ربنا إخواننا كانوا يصلون معنا ويصومون معنا ويحجون معنا [ويجاهدون معنا] فأدخلتهم النار قال: فيقول: اذهبوا فأخرجوا من عرفتم منهم فيأتونهم فيعرفونهم بصورهم لا تأكل النار صورهم [لم تغش الوجه] فمنهم من أخذته النار إلى أنصاف ساقيه ومنهم من أخذته إلى كعبيه [فيخرجون منها [26]

بشرا كثيرا] فيقولون: ربنا قد أخرجنا من أمرتنا قال: ثم [يعودون فيتكلمون ف] يقول: أخرجوا من كان في قلبه مثقال دينار من الإيمان [فيخرجون خلقا كثيرا] ثم [يقولون: ربنا لم نذر فيها أحدا ممن أمرتنا

ثم يقول: ارجعوا ف] من كان في قلبه وزن نصف دينار [فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها ممن أمرتنا. . .] حتى يقول: أخرجوا من كان في قلبه مثقال ذرة [فيخرجون خلقا كثيرا] قال أبو سعيد: فمن لم يصدق بهذا الحديث فليقرأ هذه الآية: [إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما] [سورة النساء: 4]

قال: فيقولون: ربنا قد أخرجنا من أمرتنا فلم يبق في [27]

النار أحد فيه خير قال: ثم يقول الله: شفعت الملائكة وشفعت الأنبياء وشفع المؤمنون وبقي أرحم الراحمين قال: فيقبض قبضة من النار - أو قال: قبضتين - ناسا لم يعملوا لله خيرا قط قد احترقوا حتى صاروا حمما قال: فيؤتى بهم إلى ماء يقال له: (الحياة) فيصب عليهم فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل [قد رأيتموها إلى جانب الصخرة وإلى جانب الشجرة فما كان إلى الشمس منها كان أخضر وما كان منها إلى الظل كان أبيض] قال: فيخرجون من أجسادهم مثل اللؤلؤ وفي أعناقهم الخاتم (وفي رواية: الخواتم) عتقاء الله قال: فيقال لهم: ادخلوا الجنة فما تمنيتم ورأيتم من شيء فهو لكم [ومثله معه] [فيقول أهل الجنة: هؤلاء عتقاء الرحمن أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه] قال: فيقولون: ربنا أعطيتنا ما لم تعط أحدا من العالمين قال: فيقول: فإن لكم عندي أفضل منه فيقولون: ربنا وما أفضل من ذلك؟ [قال:] فيقول: رضائي عنكم فلا أسخط عليكم

[28]

أبدا) تخريجه: وإسناده صحيح على شرط الشيخين وهو من رواية عبد الرزاق عن معمر: ومن طريق عبد الرزاق أخرجه أحمد (3 / 94) والنسائي (2 / 271) وابن ماجة (رقم: 60) وابن خزيمة في (التوحيد) (ص 184 و 201 و 212) وابن نصر المروزي في (تعظيم قدر الصلاة) (رقم: 276) وتابع عبد الرزاق: محمد بن ثور عن معمر به لم يسق لفظه وإنما قال: بنحوه يعني حديث هشام بن سعد الآتي تخريجه وتابع معمرا جماعة: أولا: سعيد بن أبي هلال عن زيد بن أسلم به أتم منه وأوله: (هل تضارون في رؤية الشمس والقمر. . .) الحديث بطوله أخرجه البخاري (7439) ومسلم (1 / 114 - 117) وابن خزيمة أيضا (ص 201) وابن حبان (7333 - الإحسان) [29]

ثانيا: حفص بن ميسرة عن زيد: أخرجه مسلم (1 / 114 - 117) وكذا البخاري (4581) ولكنه لم يسقه بتمامه وكذا أبو عوانة (1 / 168 - 169) ثالثا: هشام بن سعد عن زيد: أخرجه أبو عوانة (1 / 181 - 183) بتمامه وابن خزيمة (ص 200) والحاكم (4 / 582 - 584) وصححه وكذا مسلم (1 / 17) إلا أنه لم يسق لفظه وإنما أحال به على لفظ حديث حفص بن ميسرة نحوه وتابع زيدا: سليمان بن عمرو بن عبيد العتواري - أحد بني ليث وكان في حجر أبي سعيد - قال: سمعت أبا سعيد الخدري يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فذكره نحوه مختصرا وفيه الزيادة الثالثة أخرجه أحمد (3 / 11 - 12) وابن خزيمة (ص 211) وابن أبي شيبة في (المصنف) (13 / 176 / 16039) وعنه ابن ماجة (4280) وابن جرير في (التفسير) (16 / 85) ويحيى بن صاعد في (زوائد الزهد) (ص 448 / 1268) والحاكم (4 / 585) وقال: (صحيح الإسناد على شرط مسلم) [30]

وبيض له الذهبي وإنما هو حسن فقط لأن فيه محمد بن إسحاق وقد صرح بالتحديث فقهه: بعد تخريج هذا الحديث هذا التخريج الذي قد لا تراه في مكان آخر وبيان أنه متفق عليه بين الشيخين وغيرهما من أهل (الصحاح) و (السنن) و (المسانيد) أقول: في هذا الحديث فوائد جمة عظيمة منها: شفاعة المؤمنين الصالحين في إخوانهم المصلين الذين أدخلوا النار بذنوبهم ثم بغيرهم ممن هم دونهم على اختلاف قوة إيمانهم ثم يتفضل الله تبارك وتعالى على من بقي في النار من المؤمنين فيخرجهم من النار بغير عمل عملوه ولا خير قدموه ولقد توهم (بعضهم) أن المراد بالخير المنفي تجويز إخراج غير الموحدين من النار قال الحافظ في (الفتح) (13 / 429) : (ورد ذلك بأن المراد بالخير المنفي ما زاد على أصل الإقرار بالشهادتين كما تدل عليه بقية الأحاديث) قلت: منها قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أنس الطويل في الشفاعة أيضا: [31]

(فيقال: يا محمد ارفع رأسك وقل تسمع وسل تعط واشفع تشفع فأقول: يا رب ائذن لي فيمن قال: لا إله إلا الله فيقول: وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لأخرجن منها من قال: لا إله إلا الله) متفق عليه وهو مخرج في (ظلال الجنة) (2 / 296) وفي طريق أخرى عن أنس: (. . . وفرغ الله من حساب الناس وأدخل من بقي من أمتي النار فيقول أهل النار: ما أغنى عنكم أنكم كنتم تعبدون الله عز وجل لا تشركون به شيئا؟ فيقول الجبار عز وجل: فبعزتي لأعتقنهم من النار فيرسل إليهم فيخرجون وقد امتحشوا فيدخلون في نهر الحياة فينبتون. . .) الحديث أخرجه أحمد وغيره بسند صحيح وهو مخرج في (الظلال) تحت الحديث (844) وله فيه شواهد (843 - 843) وفي (الفتح) (11 / 455) شواهد أخرى وفي الحديث رد على استنباط ابن أبي جمرة من قوله [32]

صلى الله عليه وسلم فيه: (لم تغش الوجه) ونحوه الحديث الآتي بعده: (إلا دارات الوجوه) : أن من كل من مسلما ولكنه كان لا يصلي لا يخرج [من النار] إذ لا علامة له) ولذلك تعقبه الحافظ بقوله (11 / 457) : (لكنه يحمل على أنه يخرج في القبضة لعموم قوله: (لم يعملوا خيرا قط وهو مذكور في حديث أبي سعيد الآتي في (التوحيد) يعني هذا الحديث وقد فات الحافظ - C - أن في الحديث نفسه تعقبا على ابن أبي جمرة من وجه آخر وهو أن المؤمنين لما شفعهم الله في إخوانهم المصلين والصائمين وغيرهم في المرة الأولى فأخرجوهم من النار بالعلامة فلما شفعوا في المرات الأخرى وأخرجوا بشرا كثيرا لم يكن فيهم مصلون بداهة وإنما فيهم من الخير كل حسب إيمانهم وهذا ظاهر جدا لا يخفى على أحد إن شاء الله [33]

مباحث ومناقشات: وعلى ذلك فالحديث دليل قاطع على أن تارك الصلاة إذا مات مسلما يشهد أن لا إله إلا الله: أنه لا يخلد في النار مع المشركين ففيه دليل قوي جدا أنه داخل تحت مشيئة الله تعالى في قوله: [إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء] وقد روى الإمام أحمد في (مسنده) (6 / 240) حديثا صريحا في هذا من رواية عائشة Bها مرفوعا بلفظ: (الدواوين عند الله عز وجل ثلاثة. . .) الحديث وفيه: فأما الديوان الذي لا يغفره الله فالشرك بالله قال D: [من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة]] المائدة: 7 [ وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئا فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه من صوم يوم تركه أو صلاة تركها فإن الله D يغفر ذلك ويتجاوز إن شاء الحديث وقد صححه الحاكم (4 / 576) [34]

وهذا وإن كان غير مسلم عندي لما بينته في (تخريج الطحاوية) (ص 367 - الطبعة الرابعة) فإنه يشهد له هذا الحديث الصحيح فتنبه إذا عرفت ما سلف - يا أخي المسلم - فإن عجبي لا يكاد ينتهي من إغفال جماهير المؤلفين الذين توسعوا في الكتابة في هذه المسألة الهامة ألا وهي: هل يكفر تارك الصلاة كسلا أم لا؟ لقد غفلوا جميعا - فيما اطلعت - عن إيراد هذا الحديث الصحيح مع اتفاق الشيخين وغيرهما على صحته لم يذكره من هو حجة له ولم يجب عنه من هو حجة عليه وبخاصة منهم الإمام ابن القيم C تعالى فإنه مع توسعه في سوق أدلة المختلفين في كتابه القيم (الصلاة) وجواب كل منهم عن أدلة مخالفه فإنه لم يذكر هذا الحديث في أدلة المانعين من التكفير إلا مختصرا اختصارا مخلا لا يظهر دلالته الصريحة على أن الشفاعة تشمل تارك الصلاة أيضا فقد قال C: (وفي حديث الشفاعة: يقول الله عز وجل: (وعزتي وجلالي لأخرجن من النار من قال لا إله إلا الله) وفيه [35]

: فيخرج من النار من لم يعمل خيرا قط) قلت: وهذا السياق ملفق من حديثين: فالشطر الأول منه: هو في آخر حديث أنس المتفق عليه وقد سبق أن ذكرت (ص 33) الطرف الأخير منه والشطر الآخر هو في حديث الكتاب: (. . . فيقبض قبضة من النار ناسا لم يعملوا لله خيرا قط. . .) وأما أن اختصاره اختصار مخل فهو واضح جدا إذا تذكرت أيها القارئ الكريم ما سبق أن استدركته على الحافظ (ص 34) متمما به تعقيبه على ابن أبي جمرة مما يدل على أن شفاعة المؤمنين كانت لغير المصلين في المرة الثانية وما بعدها وأنهم أخرجوهم من النار فهذا نص قاطع في المسألة ينبغي به أن يزول به النزاع في هذه المسألة بين أهل العلم الذين تجمعهم العقيدة الواحدة التي منها عدم تكفير أهل الكبائر من الأمة المحمدية وبخاصة في هذا الزمان الذي توسع فيه بعض المنتمين إلى العلم في تكفير المسلمين لإهمالهم القيام بما يجب عليهم عمله مع سلامة عقيدتهم خلافا للكفار الذين لا يصلون تدينا وعقيدة والله سبحانه وتعالى يقول: [أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون] ؟ [36]

لما تقدم كنت أحب لابن القيم C أن لا يغفل ذكر هذا الحديث الصحيح كدليل صريح للمانعين من التكفير وأن يجيب عنه إن كان لديه - C - جواب وبذلك يكون قد أعطى البحث والإنصاف الفريقين دون تحيز لفئة نعم إنه لمما يجب علي أن أنوه به أنه - C - عقد فصلا خاصا (في الحكم بين الفريقين وفصل الخطاب بين الطائفتين) يساعد الباحث على تفهم نصوص الفريقين فهما صحيحا فإنه حقق فيه تحقيقا رائعا ما هو مسلم به عند العلماء أنه ليس كل كفر يقع فيه المسلم يخرج به من الملة فمن المفيد أن أقدم إلى القارئ فقرات أو خلاصات من كلامه تدل على مرامه ثم أعقب عليه بما يلزم مما يلتقي مع هذا الحديث الصحيح ويؤيد المذهب الرجيح لقد أفاد - C (أن الكفر نوعان: كفر عمل وكفر جحود واعتقاد وأن كفر العمل ينقسم إلى ما يضاد الإيمان وإلى ما لا [37]

يضاده فالسجود للصنم والاستهانة بالمصحف وقتل النبي وسبه يضاد الإيمان وأما الحكم بغير ما أنزل الله وترك الصلاة فهو من الكفر العملي قطعا) (قلت: هذا الإطلاق فيه نظر إذ قد يكون ذلك من الكفر الاعتقادي أحيانا وذلك إذا اقترن معه ما يدل على فساد عقيدته كاستهزائه بالصلاة والمصلين وكإيثاره القتل على أن يصلي إذا دعاه الحاكم إليها كما سيأتي فتذكر هذا فإنه مهم) ثم قال C: (ولا يمكن أن ينفى عنه اسم الكفر بعد أن أطلقه الله ورسوله عليه ولكن هو كفر عمل لا كفر اعتقاد وقد نفى رسول الله صلى الله عليه وسلم الإيمان عن الزاني والسارق وشارب الخمر وعمن لا يأمن جاره بوائقه وإذا نفى عنه اسم الإيمان فهو كافر من جهة العمل وانتفى عنه كفر الجحود والاعتقاد) (قلت: لكني أرى أنه لا يصح أن يطلق على أمثال هؤلاء لفظة الكفر فيقال مثلا: من زنى فقد كفر فضلا عن أنه لا يجوز أن يقال: فهو كافر حتى على تارك الصلاة - أي أن يقال: كافر - وعلى غيره ممن وصف في الحديث بالكفر وقوفا مع [38]

النص ومن باب أولى أن لا يقال: كافر حلال الدم) ثم قال - C - بعد أن ذكر الحديث الصحيح: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)) (ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم إنما أراد الكفر العملي لا الاعتقادي وهذا الكفر لا يخرجه من الدائرة الإسلامية والملة بالكلية كما لم يخرج الزاني والسارق من الملة وإن زال عنه اسم الإيمان وهذا التفصيل هو قول الصحابة الذين هم أعلم الأمة بكتاب الله وبالإسلام والكفر ولوازمهما) ثم ذكر الأثر المعروف عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: [ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون] قال: (ليس بالكفر الذي يذهبون إليه) (قلت: زاد الحاكم: (إنه ليس كفرا ينقل عن الملة كفر دون كفر) وصححه هو (2 / 313) والذهبي وهذا قاصمة ظهر جماعة التكفير وأمثالهم من الغلاة) ثم قال ابن القيم C: (والمقصود أن سلب الإيمان عن تارك الصلاة أولى من سلبه [39]

عن مرتكب الكبائر وسلب اسم الإسلام عنه أولى من سلبه عمن لم يسلم المسلمون من لسانه ويده فلا يسمى تارك الصلاة مسلما ولا مؤمنا وإن كان معه شعبة من شعب الإسلام أو الإيمان) (قلت: نفي التسمية المذكورة عن تارك الصلاة: فيه نظر فقد سمى الله تعالى الفئة الباغية مؤمنة في الآية المعروفة: [وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما. . .] مع قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم: (. . . وقتاله كفر) فكما لم يلزم من وصف المسلم الباغي بالكفر نفي اسم المؤمن عنه فضلا عن اسم المسلم فكذلك تارك الصلاة إلا إن كان يقصد بذلك النفي أنه مسلم كامل وذلك بعيد) قال: (نعم يبقى أن يقال: فهل ينفعه ما معه من الإيمان في عدم الخلود في النار؟ فيقال: ينفعه إن لم يكن المتروك شرطا في صحة الباقي واعتباره وإن كان المتروك شرطا في اعتبار الباقي لم ينفعه فهل الصلاة شرط لصحة الإيمان؟ هذا سر المسألة) قلت: ثم أشار - C - إلى الأدلة التي كان ذكرها [40]

للفريق الأول المكفر ثم قال: (وهي تدل على أنه لا يقبل من العبد شيء من أعماله إلا بفعل الصلاة) فأقول: يبدو لي جليا أن ابن القيم C بعد بحثه القيم في التفريق بين الكفر العملي والكفر الاعتقادي وأن المسلم لا يخرج من الملة بكفر عملي لم يستطع أن يحكم للفريق المكفر بترك الصلاة مع الأدلة الكثيرة التي ساقها لهم لأنها كلها لا تدل على الكفر العملي ولذلك لجأ أخيرا إلى أن يتساءل: (هل ينفعه إيمانه؟ وهل الصلاة شرط لصحة الإيمان؟) قلت: إن كل من تأمل في جوابه على هذا التساؤل يلاحظ أنه حاد عنه إلى القول بأن الأعمال الصالحة لا تقبل إلا بالصلاة فأين الجواب عن كون الصلاة شرطا لصحة الإيمان؟ أي: ليس فقط شرط كمال فإن الأعمال الصالحة كلها شرط كمال عند أهل السنة خلافا للخوارج والمعتزلة القائلين بتخليد أهل الكبائر في النار مع تصريح الخوارج بتكفيرهم [41]

فلو قال قائل بأن الصلاة شرط لصحة الإيمان وأن تاركها مخلد في النار فقد التقى مع الخوارج في بعض قولهم هذا وأخطر من ذلك أنه خالف حديث الشفاعة هذا كما تقدم بيانه ولعل ابن القيم - C - بحيدته عن ذاك الجواب أراد أن يشعر القارئ بأهمية الصلاة في الإسلام من جهة وأنه لا دليل على أنها شرط لصحة الإيمان من جهة أخرى وعليه فإن تارك الصلاة كسلا لا يكفر عنده إلا إذا اقترن مع تركه إياها ما يدل على أنه كفر كفرا اعتقاديا فهو في هذه الحالة - فقط - يكفر كفرا يخرج به من الملة كما تقدمت الإشارة بذلك مني وهو ما يشعر به كلام ابن القيم في آخر هذا الفصل فإنه قال: (ومن العجب أن يقع الشك في كفر من أصر على تركها ودعي إلى فعلها على رؤوس الملأ وهو يرى بارقة السيف على رأسه ويشد للقتل وعصبت عيناه وقيل له: تصلي وإلا قتلناك؟ فيقول: اقتلوني ولا أصلي أبدا) قلت: وعلى مثل هذا المصر على الترك والامتناع عن الصلاة مع تهديد الحاكم له بالقتل: يجب أن تحمل كل أدلة الفريق المكفر للتارك للصلاة وبذلك تجتمع أدلتهم مع أدلة المخالفين ويلتقون على كلمة [42]

سواء أن مجرد الترك لا يكفر لأنه كفر عملي لا اعتقادي كما تقدم عن ابن القيم وهذا ما فعله شيخ الإسلام ابن تيمية C - أعني أنه حمل تلك الأدلة هذا الحمل - فقال في (مجموع الفتاوى) (22 / 48) وقد سئل عن تارك الصلاة من غير عذر: هل هو مسلم في تلك الحال؟ فأجاب - C - ببحث طويل ملئ علما لكن المهم منه الآن ما يتعلق منه بحديثنا هذا فإنه بعد أن حكى أن تارك الصلاة يقتل عند جمهور العلماء مالك والشافعي وأحمد قال: (وإذا صبر حتى يقتل فهل يقتل كافرا مرتدا أو فاسقا كفساق المسلمين؟ على قولين مشهورين حكيا روايتين عن أحمد فإن كان مقرا بالصلاة في الباطن معتقدا لوجوبها يمتنع أن يصر على تركها حتى يقتل ولا يصلي هذا لا يعرف من بني آدم وعادتهم ولهذا لم يقع هذا قط في الإسلام ولا يعرف أن أحدا يعتقد وجوبها ويقال له: إن لم تصل وإلا قتلناك وهو يصر على تركها مع إقراره بالوجوب فهذا لم يقع قط في الإسلام [43]

ومتى امتنع الرجل من الصلاة حتى يقتل: لم يكن في الباطن مقرا بوجوبها ولا ملتزما بفعلها فهذا كافر باتفاق المسلمين كما استفاضت الآثار عن الصحابة بكفر هذا ودلت عليه النصوص الصحيحة كقوله صلى الله عليه وسلم: (ليس بين العبد وبين الكفر إلا ترك الصلاة) رواه مسلم فمن كان مصرا على تركها حتى يموت لا يسجد لله سجدة قط فهذا لا يكون قط مسلما مقرا بوجوبها فإن اعتقاد الوجوب واعتقاد أن تاركها يستحق القتل هذا داع تام إلى فعلها والداعي مع القدرة يوجب وجود المقدور فإذا كان قادرا ولم يفعل قط علم أن الداعي في حقه لم يوجد والاعتقاد التام لعقاب التارك باعث على الفعل لكن هذا قد يعارضه أحيانا أمور توجب تأخيرها وترك بعض واجباتها وتفويتها أحيانا فأما من كان مصرا على تركها لا يصلي قط ويموت على هذا الإصرار والترك فهذا لا يكون مسلما لكن أكثر الناس يصلون تارة ويتركونها تارة فهؤلاء ليسوا [44]

يحافظون عليها وهؤلاء تحت الوعيد وهم الذين جاء فيهم الحديث الذي في (السنن) [من] حديث عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خمس صلوات كتبهن الله على العباد في اليوم والليلة من حافظ عليهن كان له عهد عند الله أن يدخله الجنة ومن لم يحافظ عليهن لم يكن له عهد عند الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له)) فالمحافظ عليها: الذي يصليها في مواقيتها كما أمر الله تعالى والذي يؤخرها أحيانا عن وقتها أو يترك واجباتها فهذا تحت مشيئة الله تعالى وقد يكون لهذا نوافل يكمل بها فرائضه كما جاء في الحديث. . .)) وعلى هذا المحمل يدل كلام الإمام أحمد أيضا الذي شهر عنه بعض أتباعه المتأخرين القول بتكفير تارك الصلاة دون [45]

تفصيل وكلامه يدل على خلاف ذلك بحيث لا يخالف هذا الحديث الصحيح كيف وقد أخرجه في (مسنده) كما أخرج حديث عائشة بمعناه كما تقدم؟ فقد ذكر ابنه عبد الله في (مسائله) (ص 55) قال: (سألت أبي - C - عن ترك الصلاة متعمدا؟ قال: (. . . والذي يتركها لا يصليها والذي يصليها في غير وقتها أدعوه ثلاثا فإن صلى وإلا ضربت عنقه هو عندي بمنزلة المرتد. . .) قلت: فهذا نص من الإمام أحمد بأنه لم يكفر بمجرد تركه للصلاة وإنما بامتناعه عن الصلاة مع علمه بأنه يقتل إن لم يصل فالسبب هو إيثاره القتل على الصلاة فهو الذي دل على أن كفره كفر اعتقادي فاستحق القتل ونحوه ما ذكره المجد ابن تيمية - جد شيخ الإسلام ابن تيمية - في كتابه (المحرر في الفقه الحنبلي) (ص 62) : (ومن أخر صلاة تكاسلا لا جحودا أمر بها فإن أصر حتى ضاق وقت الأخرى وجب قتله) قلت: فلم يكفر بالتأخير وإنما بالإصرار المنبئ عن الجحود [46]

ولذلك قال الإمام أبو جعفر الطحاوي C في (مشكل الآثار) في باب عقده في هذه المسألة وحكى شيئا من أدلة الفريقين ثم اختار أنه لا يكفر قال (4 / 228) : (والدليل على ذلك أنا نأمره أن يصلي ولا نأمر كافرا أن يصلي ولو كان بما كان منه كافرا لأمرناه بالإسلام فإذا أسلم أمرناه بالصلاة وفي تركنا لذلك وأمرنا إياه بالصلاة ما قد دل على أنه من أهل الصلاة ومن ذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم الذي أفطر في رمضان يوما متعمدا بالكفارة التي أمره بها وفيها الصيام ولا يكون الصيام إلا من المسلمين ولما كان الرجل يكون مسلما إذا أقر بالإسلام قبل أن يأتي بما يوجبه الإسلام من الصلوات الخمس ومن صيام رمضان: كان كذلك ويكون كافرا بجحوده لذلك ولا يكون كافرا بتركه إياه بغير جحود منه له - ولا يكون كافرا إلا من حيث كان مسلما - وإسلامه كان بإقراره بالإسلام فكذلك ردته لا تكون إلا بجحوده الإسلام) قلت: وهذا فقه جيد وكلام متين لا مرد له وهو يلتقي تماما مع ما تقدم من كلام الإمام أحمد C الدال على أنه لا يكفر لمجرد الترك بل بامتناعه من الصلاة بعد دعائه إليها [47]

وإن مما يؤكد ما حملت عليه كلام الإمام أحمد ما جاء في كتاب (الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام المبجل أحمد بن حنبل) للشيخ علاء الدين المرداوي قال C (1 / 402) كالشارح لقول أحمد المتقدم آنفا: (أدعوه ثلاثا) : (الداعي له هو الإمام أو نائبه فلو ترك صلوات كثيرة قبل الدعاء لم يجب قتله ولا يكفر على الصحيح من المذهب وعليه جماهير الأصحاب وقطع به كثير منهم) وممن اختار هذا المذهب أبو عبد الله بن بطة كما ذكر ذلك الشيخ أبو الفرج عبد الرحمن بن قدامة المقدسي في كتابه (الشرح الكبير على (المقنع) للإمام موفق الدين المقدسي) (1 / 385) وزاد أنه أنكر قول من قال بكفره قال أبو الفرج: (وهو قول أكثر الفقهاء منهم أبو حنيفة ومالك والشافعي) ثم استدل على ذلك بأحاديث كثيرة أكثرها عند ابن القيم ومنها حديث عبادة المتقدم في كلام ابن تيمية فقال عقبه: (ولو كان كافرا لم يدخله في المشيئة) قلت: ويؤكد ذلك حديث الكتاب وحديث عائشة [48]

تأكيدا لا يدع شكا أو شبهة فلا تنس ثم قال أبو الفرج: (ولأن ذلك إجماع المسلمين فإننا لا نعلم في عصر من الأعصار أحدا من تاركي الصلاة ترك تغسيله والصلاة عليه ولا منع ميراث مورثه ولا فرق بين الصلاة من أحدهما مع كثرة تاركي الصلاة ولو كفر لثبتت هذه الأحكام ولا نعلم خلافا بين المسلمين أن تارك الصلاة يجب عليه قضاؤها مع اختلافهم في المرتد وأما الأحاديث المتقدمة (يعني التي احتج بها المكفرون كحديث: (بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة) فهي على وجه التغليظ والتشبيه بالكفار لا على الحقيقة كقوله صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر) . . . وأشباه هذا مما أريد به التشديد في الوعيد قال شيخنا C (يعني الموفق المقدسي) : وهذا أصوب القولين والله أعلم) قلت: ونقله الشيخ سليمان بن الشيخ عبد الله بن الشيخ [49]

محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله في حاشيته على (المقنع) (1 / 95 - 96) لابن قدامة مقرا له ومع تصريح الإمام الشوكاني في (السيل الجرار) (1 / 292) بتكفير تارك الصلاة عمدا وأنه يستحق القتل ويجب على إمام المسلمين قتله فقد بين في (نيل الأوطار) أنه لا يعني كفرا لا يغفر فقال بعد أن حكى أقوال العلماء واختلافهم وذكر شيئا من أدلتهم (1 / 154 - 155) : (والحق أنه كافر يقتل أما كفره فلأن الأحاديث صحت أن الشارع سمى تارك الصلاة بذلك الاسم () وجعل الحائل بين الرجل وبين جواز إطلاق هذا الاسم عليه هو الصلاة فتركها مقتض لجواز الإطلاق ولا يلزمنا شيء من المعارضات التي أوردها الأولون لأنا نقول: لا يمنع أن يكون بعض أنواع الكفر غير مانع من المغفرة واستحقاق الشفاعة ككفر أهل القبلة ببعض الذنوب التي سماها الشارع كفرا فلا ملجئ إلى التأويلات التي وقع الناس في مضيعتها) ولقد صدق C لكن ذهابه إلى جواز إطلاق اسم (الكافر) على تارك الصلاة هو توسع غير محمود عندي لأن الأحاديث التي أشار إليها ليس فيها الإطلاق المدعى وإنما فيها: [50]

(فقد كفر) وما أظن أن أحدا يستجيز له أن يشتق من هذا الفعل اسم فاعل فيقول منه: (كافر) إذن لزمه أن يطلقه أيضا على كل من قيل فيه: (كفر) كالذي يحلف بغير الله ومن قاتل مسلما أو تبرأ من نسب ونحو ذلك مما جاء في الأحاديث نعم لو صح ما رواه أبو يعلى (2349) وغيره عن ابن عباس مرفوعا بلفظ: (عرى الإسلام وقواعد الدين ثلاثة عليهن أسس الإسلام من ترك واحدة منهن فهو بها كافر حلال الدم: شهادة أن لا إله إلا الله والصلاة المكتوبة وصوم رمضان) أقول: لو صح هذا لكان دليلا واضحا على جواز إطلاقه على تارك الصلاة ولكنه لم يصح كما كنت بينته في (السلسلة الضعيفة) (94) والخلاصة: أن مجرد الترك لا يمكن أن يكون حجة لتكفير المسلم وإنما هو فاسق أمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له والحديث الذي هو عماد هذه الرسالة نص صريح في ذلك لا يسع مسلما أن يرفضه وأن من دعي إلى الصلاة وأنذر بالقتل إن لم يستجب فقتل فهو كافر - يقينا - حلال الدم لا يصلى عليه ولا يدفن في [51]

مقابر المسلمين فمن أطلق التكفير فهو مخطئ ومن أطلق عدم التكفير فهو مخطئ والصواب التفصيل فهذا الحق ليس به خفاء فدعني من بنيات الطريق وبعد: فإن أخشى ما أخشاه أن يبادر بعض المتعصبين الجهلة إلى رد هذا الحديث الصحيح لدلالته الصريحة على أن تارك الصلاة كسلا مع الإيمان بوجوبها داخل في عموم قوله تعالى: [. . . . ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء] كما فعل بعضهم أخيرا بتاريخ (1407 هـ) فقد تعاون اثنان من طلاب العلم - أحدهما سعودي والآخر مصري - فتعقباني في بعض الأحاديث من المئة الأولى من (سلسلة الأحاديث الصحيحة) منها حديث حذيفة بن اليمان Bهـ (برقم: 87) ولفظه: (يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب حتى لا يدرى ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة وليسرى على كتاب الله عز وجل في ليلة فلا يبقى منه آية وتبقى طوائف من الناس: الشيخ الكبير والعجوز يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة: (لا إله إلا الله) فنحن نقولها [52]

قال صلة بن زفر لحذيفة: ما تغني عنهم (لا إله إلا الله) وهم لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا نسك ولا صدقة؟ فأعرض عنه حذيفة ثم ردها عليه ثلاثا كل ذلك يعرض عنه حذيفة ثم أقبل عليه في الثالثة فقال: يا صلة تنجيهم من النار. (ثلاثا) قلت: فسودوا في تضعيف هذا الحديث ثلاث صفحات كبار في الرد علي لتصحيحي إياه ولم يجدا ما يتعلقان به لتضعيفه إلا أنه من رواية أبي معاوية محمد بن خازم الضرير بحجة أنه كان يرى الإرجاء وأن الحديث موافق لبدعة الإرجاء وهذا من الجهل البالغ ولا مجال الآن لبيانه إلا مختصرا فإن أبا معاوية مع كونه ثقة محتجا به عند الشيخين فإنه قد توبع من ثقة مثله وأن الحديث لا صلة له بالإرجاء مطلقا وهما إنما ادعيا ذلك لجهلهم بالعلم وكيف يكون ذلك وقد صححه الحاكم والذهبي وكذا ابن تيمية والعسقلاني والبوصيري ولئن جاز في عقلهما أن هؤلاء العلماء كانوا في تصحيحهم إياه جميعا مخطئين فهل وصل الأمر بهما أن يعتقدا بأنهم [53]

يصححون ما يؤيد الإرجاء؟ تالله إنها لإحدى الكبر أن يتسلط على هذا العلم من لا يحسنه وأن يضعفوا ما أهل العلم يصححونه وهذا الحديث الصحيح يستفاد منه أن الجهل قد يبلغ ببعض الناس أنهم لا يعرفون من الإسلام إلا الشهادة وهذا لا يعني أنهم يعرفون وجوب الصلاة وسائر الأركان ثم هم لا يقومون بها كلا ليس في الحديث شيء من ذلك بل هم في ذلك ككثير من أهل البوادي والمسلمين حديثا في بلاد الكفر لا يعرفون من الإسلام إلا الشهادتين وقد يقع شيء من ذلك في بعض العواصم فقد سألني أحدهم هاتفيا عن امرأة تزوجها وكانت تصلي دون أن تغتسل من الجماع وقريبا سألني إمام مسجد ينظر إلى نفسه أنه على شيء من العلم يسوغ له أن يخالف العلماء سألني عن ابنه أنه كان يصلي جنبا بعد أن بلغ مبلغ الرجال واحتلم لأنه كان لا يعلم وجوب الغسل من الجنابة وقد قال ابن تيمية في (مجموع الفتاوى) (22 / 41) : [54]

(ومن علم أن محمدا رسول الله فآمن بذلك ولم يعلم كثيرا مما جاء به لم يعذبه الله على ما لم يبلغه فإنه إذا لم يعذبه على ترك الإيمان بعد البلوغ فإنه [أن] لا يعذبه على بعض شرائطه إلا بعد البلوغ أولى وأحرى وهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المستفيضة عنه في أمثال ذلك. . .) ثم ذكر أمثلة طيبة منها المستحاضة قالت: إني أستحاض حيضة شديدة تمنعني الصلاة والصوم؟ فأمرها بالصلاة زمن دم الاستحاضة ولم يأمرها بالقضاء قلت: وهذه المستحاضة هي فاطمة بنت أبي حبيش Bها وحديثها في (الصحيحين) وغيرهما وهو مخرج في (صحيح أبي داود) (281) ومثلها أم حبيبة بنت جحش زوجة عبد الرحمن بن عوف واستحيضت سبع سنين وحديثها عند الشيخين أيضا وهو مخرج في (الصحيح) أيضا (283) وثمة ثالثة وهي حمنة بنت جحش وهي التي أشار إليها ابن تيمية فإن في حديثها: (إني أستحاض حيضة كثيرة شديدة فما ترى فيها؟ قد منعتني الصلاة والصوم. . .) الحديث [55]

هذا وهناك نص آخر للإمام أحمد كان ينبغي أن يضم إلى ما سبق نقله عنه لشديد ارتباطه به ودلالته أيضا على أن تارك الصلاة لا يكفر بمجرد الترك ولكن هكذا قدر قال عبد الله بن الإمام أحمد في (مسائله) (ص 56 / 195) : (سألت أبي عن رجل فرط في صلوات شهرين؟ فقال: (يصلي ما كان في وقت يحضره ذكر تلك الصلوات فلا يزال يصلي حتى يكون آخر وقت الصلاة التي ذكر فيها هذه الصلوات التي فرط فيها فإنه يصلي هذه التي يخاف فوتها ولا يضيع مرتين ثم يعود فيصلي أيضا حتى يخاف فوت الصلاة التي بعدها إلا إن كان كثر عليه ويكون ممن يطلب المعاش ولا يقوى أن يأتي بها فإنه يصلي حتى يحتاج إلى أن يطلب ما يقيمه من معاشه ثم يعود إلى الصلاة لا تجزئه صلاة وهو ذاكر الفرض المتقدم قبلها فهو يعيدها أيضا إذا ذكرها وهو في صلاة) فانظر أيها القارئ الكريم: هل ترى في كلام الإمام أحمد هذا إلا ما يدل على ما سبق تحقيقه أن المسلم لا يخرج من الإسلام بمجرد ترك تلك الصلاة بل صلوات شهرين متتابعين بل [56]

وأذن له أن يؤجل قضاء بعضها لطلب المعاش وهذا عندي يدل على شيئين: أحدهما: وهو ما سبق وهو أنه يبقى على إسلامه ولو لم تبرأ ذمته بقضاء كل ما عليه من الفوائت والآخر: أن حكم القضاء دون حكم الأداء لأنني لا أعتقد أن الإمام أحمد بل ولا من هو دونه في العلم يأذن بترك الصلاة حتى يخرج وقتها لعذر طلب المعاش والله سبحانه وتعالى أعلم واعلم أخي المسلم أن هذه الرواية عن الإمام أحمد وما في معناها هو الذي ينبغي أن يعتمد عليه كل مسلم لذات نفسه أولا ولخصوص الإمام أحمد ثانيا لقوله C: (إذا صح الحديث فهو مذهبي) وبخاصة أن الأقوال الأخرى المروية عنه على خلاف ما تقدم مضطربة جدا كما تراها في (الإنصاف) (1 / 327 - 328) وغيره من الكتب المعتمدة ومع اضطرابها فليس في شيء منها التصريح بأن المسلم يكفر بمجرد ترك الصلاة [57]

وإذ الأمر كذلك فيجب حمل الروايات المطلقة عنه على الروايات المقيدة والمبينة لمراده C وهي ما تقدم نقله عن ابنه عبد الله ولو فرضنا أن هناك رواية صريحة عنه في التكفير بمجرد الترك وجب تركها والتمسك بالروايات الأخرى لموافقتها لهذا الحديث الصحيح الصريح في خروج تارك الصلاة من النار بإيمانه ولو مقدار ذرة وبهذا صرح كثير من علماء الحنابلة المحققين كابن قدامة المقدسي كما تقدم في نقل أبي الفرج عنه ونص كلام ابن قدامة: (وإن ترك شيئا من العبادات الخمسة تهاونا لم يكفر) كذا في كتابه (المقنع) ونحوه في (المغني) (2 / 298 - 302) في بحث طويل له ذكر الخلاف فيه وأدلة كل ثم انتهى إلى هذا الذي في (المقنع) وهو الحق الذي لا ريب فيه وعليه مؤلفا (الشرح الكبير) و (الإنصاف) كما تقدم وإذا عرفت الصحيح من قول أحمد فلا يرد عليه ما ذكره [58]

السبكي في ترجمة الإمام الشافعي حيث قال في (طبقات الشافعية الكبرى) (1 / 220) : (حكي أن أحمد ناظر الشافعي في تارك الصلاة فقال له الشافعي: يا أحمد أتقول: إنه يكفر؟ قال: نعم قال: إن كان كافرا فبم يسلم؟ قال: يقول: لا إله إلا الله محمدا رسول الله قال: فالرجل مستديم لهذا القول لم يتركه قال: يسلم بأن يصلي قال: صلاة الكافر لا تصح ولا يحكم بالإسلام بها فانقطع أحمد وسكت) فأقول: لا يرد هذا على الإمام أحمد - C - لأمرين: أحدهما: أن الحكاية لا تثبت وقد أشار إلى ذلك السبكي - C - بتصديره إياها بقول: (حكي) فهي منقطعة والآخر: أنه ذكر بناء على القول بأن أحمد يكفر المسلم بمجرد ترك الصلاة وهذا لم يثبت عنه - كما تقدم بيانه وإنما يرد هذا على بعض المشايخ الذين لا يزالون يقولون بالتكفير بمجرد الترك وأملي أنهم سيرجعون عنه بعد أن يقفوا [59]

على هذا الحديث الصحيح - الذي بنينا هذه الرسالة عليه - وعلى قول أحمد - وغيره من كبار أئمة الحنابلة - الموافق له فإن تكفير المسلم الموحد بعمل يصدر منه غير جائز حتى يتبين منه أنه جاحد ولو لبعض ما شرع الله كالذي يدعى إلى الصلاة وإلا قتل - كما تقدم ويعجبني بهذه المناسبة ما نقله الحافظ في (الفتح) (12 / 300) عن الغزالي أنه قال: (والذي ينبغي الاحتراز منه: التكفير ما وجد إليه سبيلا فإن استباحة دماء المسلمين المقرين بالتوحيد خطأ والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك دم لمسلم واحد) هذا وقد بلغني أن (بعضهم) لما أوقف على هذا الحديث شكك في دلالته على نجاة المسلم التارك للصلاة من الخلود في النار مع الكفار وزعم أنه ليس له ذكر في كل الدفعات التي أخرجت من النار وهذه مكابرة عجيبة تذكرنا بمكابرة بعض متعصبة المذاهب في رد دلالات النصوص انتصارا للمذهب فإن الحديث صريح في أن الدفعة الأولى شملت المصلين بعلامة أن النار لم تأكل وجوههم فما بعدها من الدفعات ليس فيها مصلون بداهة [60]

فإن لم ينفع مثل هذا بعض المقلدين الجامدين فليس لنا إلا أن نقول: [سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين] والخلاصة: أن حديثنا هذا - حديث الشفاعة - حديث عظيم بكثير من دلالاته ومعانيه من ذلك - كما قدمت - دلالته القاطعة على أن تارك الصلاة - مع إيمانه بوجوبها - لا يخرج من الملة ولا يخلد في النار مع الكفرة والمشركين ولذلك فإني أرجو مخلصا كل من وقف على هذه الرسالة المتضمنة هذا الحديث - وغيره مما في معناه - أن يتراجع عن تكفير المسلمين التاركين للصلاة مع إيمانهم بها والموحدين لله تبارك وتعالى فإن تكفير المسلم أمر خطير جدا - كما تقدم - وعليهم - فقط - أن يذكروا بعظمة الصلاة في الإسلام بما جاء من ذلك في القرآن الكريم والأحاديث النبوية والآثار السلفية الصحيحة فإن الحكم قد خرج - مع الأسف - من أيدي العلماء فهم - لذلك - لا يستطيعون أن ينفذوا حكم الكفر والقتل في تارك واحد للصلاة بله جمع من التاركين ولو في دولتهم فضلا عن الدول الإسلامية الأخرى فإن قتل التارك للصلاة بعد دعوته إليها إنما كان لحكمة ظاهرة وهو لعله يتوب إذا كان مؤمنا بها فإذا آثر القتل عليها دل [61]

ذلك على أن تركه كان عن جحد فيموت - والحالة هذه - كافرا كما تقدم عن ابن تيمية فامتناعه منها في هذه الحالة هو الدليل على خروجه من الملة وهذا مما لا سبيل إليه اليوم مع الأسف فليقنع العلماء - إذن - من الوجهة النظرية بما عليه جمهور أئمة المسلمين بعدم تكفير تارك الصلاة مع إيمانه بها وقد قدمنا الدليل القاطع على ذلك من السنة الصحيحة فلا عذر لأحد بعد ذلك [فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم]

تنبيه: سبق النقل (ص 57 - 58) عن ابن قدامة وهو - C - من جملة الذين فاتهم الاستدلال بهذا الحديث الصحيح للمذهب الصحيح في عدم تكفير تارك الصلاة كسلا لكن العجيب أنه ذكر حديثا آخر لو صح لكان قاطعا للخلاف لأن فيه أن مولى للأنصار مات وكان يصلي ويدع ومع ذلك أمر صلى الله عليه وسلم بغسله والصلاة عليه ودفنه وهو وإن كان قد سكت عنه فإنه قد أحسن بذكره مع إسناده من رواية الخلال الأمر الذي مكنني من دراسته والحكم عليه بما يستحق من الضعف والنكارة ولذلك أودعته في كتابي [62]

(سلسلة الأحاديث الضعيفة) (6036) تنبيه ثان: بعد كتابة ما تقدم بأيام أطلعني بعض إخواني على كتاب هام بعنوان: (فتح من العزيز الغفار بإثبات أن تارك الصلاة ليس من الكفار) تأليف عطاء بن عبد اللطيف أحمد ففرحت به فرحا كبيرا وازداد سروري حينما قرأته وتصفحت بعض فصوله وتبين لي أسلوبه العلمي وطريقته في معالجة الأدلة المختلفة التي منها - بل هي أهمها - تخريج الأحاديث وتتبع طرقها وشواهدها وتمييز صحيحها من ضعيفها ليتسنى له بعد ذلك إسقاط ما لا يجوز الاشتغال به لضعفها والاعتماد على ما ثبت منها ثم الاستدلال به أو الجواب عنه وهذا ما صنعه الأخ المؤلف - جزاه الله خيرا - خلافا لبعض المؤلفين الذين يحشرون كل ما يؤيدهم دون أن يتحروا الصحيح فقط كما فعل الذين ردوا علي في مسألة وجه المرأة من المؤلفين في ذلك من السعوديين والمصريين وغيرهم أما هذا الأخ (عطاء) فقد سلك المنهج العلمي في الرد [63]

على المكفرين فتتبع أدلتهم وذكر ما لها وما عليها ثم ذكر الأدلة المخالفة لها على المنهج نفسه ووفق بينها وبين ما يخالفها بأسلوب رصين متين وإن كان يصحبه - أحيانا - شيء من التساهل في التصحيح باعتبار الشواهد ثم التكلف في التوفيق بينه وبين الأحاديث الصحيحة الدالة على كفر تارك الصلاة كما فعل في حديث أبي الدرداء في الصلاة: (. . . فمن تركها فقد خرج من الملة) فإنه بعد أن تكلم عليه وبين ضعف إسناده عاد فقواه بشواهده وهي في الحقيقة شواهد قاصرة لا تنهض لتقوية هذا الحديث ثم أغرب فتأول الخروج المذكور فيه بأنه خروج دون الخروج وله غير ذلك من التساهل والتأويل كالحديث المخرج في (الضعيفة) (6037) والحق: أن كتابه نافع جدا في بابه فقد جمع كل ما يتعلق به سلبا أو إيجابا قبولا أو رفضا دون تعصب ظاهر منه لأحد أو على أحد وأحسن ما فيه الفصل الأول من الباب الثاني وهو كما قال: (في ذكر أدلة خاصة تدل على أن تارك الصلاة لا يخرج من الملة) وعدد أدلته المشار إليها اثنا عشر دليلا [64]

ولقد ظننت حين قرأت هذا العنوان في مقدمة كتابه أن منها حديث الشفاعة هذا لأنه قاطع للنزاع عند كل منصف - كما سبق بيانه - ولكنه - مع الأسف - قد فاته كما فات غيره من المتأخرين أو المتقدمين على ما سلف ذكره غير أنه لا بد لي من التنويه بدليل من أدلته لأهميته وغفلة المكفرين عنه ألا وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (إن للإسلام صوى ومنارا كمنار الطريق. . .) الحديث وفيه ذكر التوحيد والصلاة وغيرها من الأركان الخمسة المعروفة والواجبات ثم قال صلى الله عليه وسلم: (. . . فمن انتقص منهن شيئا فهو سهم من الإسلام تركه ومن تركهن فقد نبذ الإسلام وراءه) وقد خرجه المومى إليه تخريجا جيدا وتتبع طرقه وبين أن بعضها صحيح الإسناد ثم بين دلالته الصريحة على عدم خروج تارك الصلاة من الملة وقد كنت خرجت هذا الحديث قديما في كتابي (سلسلة الأحاديث الصحيحة) (رقم: 333) منذ أكثر من ثلاثين سنة واستفاد هو منه كما هو شأن المتأخر مع المتقدم ولكنه لم يشر إلى ذلك أدنى إشارة ولقد كان يحسن به ذلك ولا سيما أنه خصني بالنقد في بعض الأحاديث وذلك مما لا يضرني ألبتة بل إنه [65]

لينفعني أصاب أم أخطأ وليس الآن مجال تفصيل القول في ذلك وختاما: فليراجع هذا الكتاب من كان عنده شك في هذه المسألة والله سبحانه - وحده - الموفق للصواب وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك [66]

§1/1