حكم التمثيل

بكر أبو زيد

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه. أما بعد: فإن التمثيل أصبح في الحياة المعاصرة (فناً) له رواده، ومدارسه، وطرائقه، بمسلسلاته، ومسرحياته، على اختلاف وسائل نشره في: الإذاعة، والتلفاز، وعلى خشبات المسارح، وردهات النوادي. فصار بهذا يشغل حيّزاً كبيراً في حياة المسلمين: حرفة، أداءاً، وسماعاً، ومشاهدة. فكل مدرسة من مدارس التمثيل تجلب من التمثيليات والمسلسلات ما يُروجها ويُكسبها سمعة وانتشاراً. إذ هي جواد رابح ُتحاز من ورائه الأموال. ويندر أن ترى الفرق بين أن تكون الممارسات والعرض في دار إسلام، أو دار كفر. وقد استشرى هذا في البيوتات، والأماكن العامة، فملأ أفئدة عوام الأمة: رجالاً ونساءاً وولدانا. حتى أن من يمجها ولا يهرع إليها، يُوصف بأنه (فاقد

الخيال) . لهذا: رأيت أن أبّين للمسلمين منزلة هذا (التمثيل) من العلم والدين، لأن تصرفات المسلم لا بد أن تكون محفوفة برسم الشرع، في دائرة نصوصه وقواعده، وآدابه. ولنرى بعد: هل من يستمزجها؟ (له خيال) أم فيه (خبال) ؟ . وينتظم ذلك سبعة أبحاث هي: المبحث الأول: ذكر ما كُتب في هذه النازلة تبعاً أو استقلالاً. المبحث الثاني: في حقيقة التمثيل وأسمائه. المبحث الثالث: تاريخه وأصله في الاعتياد والتعبد. المبحث الرابع: أنواعه. المبحث الخامس: غايته وأهدافه. المبحث السادس: المدرك الفقهي الشرعي لحكمه. المبحث السابع: شبه وجوابها. ومن هذه الأبحاث سيعلم الناظر مما جلبته فيها: أنها ليست نازلة مستجدة من كل الوجوه، لتقادم العهد بوجود وقائع لها، ومقابلتها من العلماء بالإنكار منذ القرن الثالث.

وإن الإمام النووي المتوفي سنة 676هـ - رحمه الله تعالى - ذكر تمثيل الوعاظ، وتمثيل المعلمين، في كتابه (الروضة) ، وعنه ابن حجر الهيثمي في (الإعلام) . و (قصة التمثيل) للوعظ، ذكرها ابن عبد ربه في (العقد الفريد) وعنه البكري في (الوفاقات) كما في (صهاريج اللؤلؤ) . و (خيال الظل) ضرب من ضروب التمثيل، وإلى ابن الجوزي - رحمه الله تعالى - يُنسب البيتان المشهوران. وقد جمع العلامة أحمد تيمور فيه ما وقع له من قصص وحكايات وموقف العلماء والحكام منها مما سيمر نظرك عليه في هذا الكتاب - إن شاء الله تعالى -. لكن صار اعتباره (نازلة) عصرنا، لأنه أصبح (فناً) له رواده، ومدارسه، ويشكل ظاهرة منتشرة في الأمة. فمن الواجب إذاً البيان للناس عن حكم هذه الظاهرة، لنعلم هل هي اعتلال في حياتها، أم داعية استقامة على صراطها. والله الموفق. بكر أبو زيد

المبحث الأول: ما كتب في هذه النازلة

المبحث الأول: ما كتب في هذه النازلة في أخريات القرن الرابع عشر الهجري صار التمثيل فناً يمارس بشكل يتبارى فيه المخرجون له، والكتب الغثائية التي تشرح هذا وتبينه متكاثرة جداً، وذكرها هنا لا يعنينا. والذي يقصد هو بيان الحكم الشرعي للتمثيل، والتي تكشف عن تاريخه وأصله في الأمم. وقد تم الوقوف على جملة من الرسائل، والأبحاث، والفتاوى، هذا بيانها: أولاً: الرسائل والمؤلفات استقلالاً في التمثيل: 1- طيف الخيال. لابن دانيال الموصلي. م سنة 760هـ مطبوع في آخر كتاب إبراهيم حمادة الآتي. 2- خيال الظل، واللعب والتماثيل المصورة عند العرب، تأليف / أحمد تيمور باشا. طبع دار الكتاب العربي بمصر عام 1376هـ. 3- خيال الظل وتمثيليات ابن دانيال: تأليف / إبراهيم

حمادة، طبع وزارة الثقافة بمصرعام 1961م. ويقع في 246 صفحة. 4- الوفاقات في العادات. تأليف / محمد توفيق البكري. رسالة طبعت بحاشية كتابه (صهاريج اللؤلؤ) ، ص / 258 - 262. طبع بمصر بلا تاريخ. شرحه أحمد بن الأمين الشنقيطي. 5- إقامة الدليل على حرمة التمثيل. تأليف/ أحمد بن الصديق الغماري. رسالة تقع في / 35 صفحة. طبع دار مرجان يمصر. قبل عام 1356هـ. 6- إزالة الإلتباس عما أخطأ فيه كثير من الناس. تأليف / عبد الله بن الصديق الغماري. طبع في آخر رسالة أخيه المتقدمة، من ص / 38 إلى ص 43. 7- فن التمثيل عند العرب. تأليف / محمد حسين الأعرجي.

ثانياً البحوث تبعاً أو استقلالاً: 8 - مبحث مهم في (دائرة معارف القرن العشرين) لفريد وجدي 2/ 716- 720. وفي (شفاء الغليل) للخفاجي ص / 44 ذكر من اخترع خيال الظل. وأنه رجل اسمه جعفر. لكنه قول مضعف لنا ستراه في آخر المبحث الثاني. 9- مقال للشيخ عبد الله بن الصديق الغماري، طبع في آخر الرسالتين المذكورتين ص / 44 - 48 بعنوان: (ماذا في طنجة) . 10 - الشريعة الإسلامية والفنون. تأليف / الشيخ أحمد بن مصطفى القضاة. طبع عام 1408هـ. نشر دار عمار في عمان الأردن. وفيه عقد الباب الثالث عن التمثيل ص / 316 - 367. 11 - الإيضاح والتبيين لما وقع فيه الأكثرون من مشابهة المشركين. للشيخ حمود التويجري. طبع عام 1405 هـ بالرياض. ص / 244 - 245.

12 - بحث في حكم تمثيل الصحابة رضي الله عنهم. مطبوع على الآلة الراقمة في عشرين صفحة، إعداد الرئاسة العامة للإفتاء بالرياض. 13 - وفي كتاب (الرحلة الحجازية) ص / 53 - 54، للسنوسي: بحث تاريخي في ذلك. 14 - وفي كتاب (المخرج من الفتنة) للوادعي، بحث في التمثيل الديني لدى الجماعات الإسلامية. 15 - تعليق للشيخ محمد كنعان، على تفسير الجلالين، طبع المكتب الإسلامي، عند قول الله تعالى في سورة لقمان} ومن الناس من يشتري لهو الحديث {الآية 9. ص / 539. 16 - ظاهرة فن التمثيل. مطبوع على الآلة الراقمة في / 32 صفحة. بقلم محمد عبد اللطيف بن صالح الفرفور، من بحوث / مجمع الفقه الإسلامي بجدة. 17 - فن التمثيل. مطبوع على الآلة الراقمة في 14 صفحة. بقلم / الحاج شيت محمد الثاني من بحوث / مجمع الفقه الإسلامي بجدة. 18 - فن التمثيل. عبد العزيز الخياط. مطبوع على

الآلة الراقمة في / 16 صفحة. من بحوث / مجمع الفقه الإسلامي بجدة. 19 - فن التمثيل في الإسلام. التيجاني صابون محمد. في / 12 صفحة. من بحوث / مجمع الفقه الإسلامي بجدة. 20- حكم الإسلام في وسائل الإعلام. لعبد الله ناصح علوان. ص / 40 - 51. 21 - البيان المفيد عن حكم التمثيل والأناشيد. فتاوى ومناقشات لعدد من العلماء وطلاب العلم. جمعها عبد الله السليماني. ثالثاُ: وفي المجلات: 22 - الرد على مصطفى الزرقاء في إباحته التمثيل. للشيخ وهبي سليمان الغاوجي. نشر في مجلة (منار الإسلام) . 23 - تاريخ المسرح عند العرب. نشر في مجلة الدارة، العدد الأول عام 1980م. 24 - الترويح في الإسلام.

نشر في مجلة (الوعي الإسلامي) بالكويت، العدد 246.758 25 - التمثيلية ودورها في خدمة الإسلام. نشر في مجلة (الوعي الإسلامي) بالكويت، العدد / 251. 26 - مشكلة فيلم إسلامي. لفهمي هويدي. نشر في جريدة (الدستور) الأردنية. في 9 / 8 / 1988 م. 27 - 32 في مجلة الأزهر الأبحاث التالية: التمثيل والأنبياء م / 26 ص / 960، 701. المسرح الإسلامي. نقل لفيلم الرسالة. العرب والمسرح. تمثيل الرسول (صلى الله عليه وسلم) . عرض القصص القرآني عن طريق السينما والمسرح. حكم تمثيل الشخصيات الإسلامية. أنظر من المجلة الأعداد الآتية / م / 26 ص/ 960، 701 م / 50 ص/ 758

م /46 ص/ 105، 227 م/ 44 ص / 572 م / 48 ص 584، 42، 381، 785، 372 م / 34 ص 119 وقصص الأنبياء في السينما بقلم / محمد على ناصف عام 1382هـ. 32 - 36 وفي مجلة (العربي) : خيال الظل مسرح عربي قبل أن تكون المسارح. العدد / 19. من الممثل العربي: العدد / 166 الكوميديا في مسرحنا العربي. العدد / 178. المسرحية العابثة وظهور المسرح العابث. العدد / 190. من هو الفنان. العدد / 142. 37 - وفي مجلة (مواقف) اللبنانية. العدد رقم / 46 لعام 1983م، شهر ربيع الأول، مقال بعنوان مسألة فن التمثيل في المجتمع الإسلامي. عساف. رابعاً: الفتاوى: 38 - قرار رابطة العالم الإسلامي في مكة " حرسها الله

تعالى " في تحريم النبي (صلى الله عليه وسلم) . 39 - قرار صدر من المنظمات الإسلامية أثناء دورتها المنعقدة في مكة " حرسها الله تعالى " عام 1390هـ. 40 - 43 ثلاث فتاوى للشيخ محمد رشيد رضا في (الفتاوى) ، 3 / 1090، 4 / 1418، 6 / 2348 برقم 504، 548. وفي (مجلة المنار) 14 / 1911 / 827 - 830. 44 - فتاوى شلتوت. 45 - فتوى اللجنة المختصة في مجلة الأزهر. عام 1374 هـ في تحريم تمثيل الأنبياء عليهم السلام. 46 - فتوى لجنة الفتوى بالأزهر، في: حكم تمثيل الشخصيات الإسلامية. عام 1379هـ. نشرت في مجلة الأزهر. عام 1379 هـ. 47 - الفتاوى الإسلامية من دار الإفتاء المصرية 4 / 1297، بعنوان: عدم التعرض لشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم في الأفلام.

المبحث الثاني: في حقيقة التمثيل وأسمائه

المبحث الثاني: في حقيقة التمثيل وأسمائه المثل، والشبيه، كلاهما بمعنى واحد، تقول العرب: مثل الشيئ بالشيئ: إذا سوى به، وقدر تقديره، قال الزمخشري: (¬1) . " وفي حديث آخر: لا تمثلوا بنامية الله ". أي: بخلقه. وقيل: المراد التصوير، والتمثيل بخلق الله، من قولهم: مثل الشيئ بالشيئ، ومثل به: إذا سوى به.. والمحاكاة: هي و (التمثيل) بمعنى، يقال: حكيت، وأحكيه حكاية، إذا أتيت بمثله على الصفة التي أتى بها غيرك فأنت كالناقل عنه، فالمثلية معنى جامع بين مادتي: حكى، ومثل. وفي اصطلاح العصر. (عرض حي لقصة وأصحابها، واقعة أو متخيلة) الأسماء: 1 - التمثيل: هو الإسم الغالب عليه حتى لا يكاد يُعرف إلا به. ¬

(¬1) الفائق 3 / 345.

2 - التقليد. 3- المحاكاة. 4- التشخيص (¬1) . 5- المسلسلات. 6- المسرحيات. واحدتها مسرحية. وأصلها من مادة (سرح) ، والسارحة الماشية، ولذا قيل للمرعى (مسرح) . وفي حديث الثلاثة المشهور (يغدوا عليهما بسارحة له) . وقد تفاصح بعضهم، فقال: صوابها (مرسح) بتقديم الميم، وهذه لا يساعد أصلها اللغوي عليها، فإنها من (رسح) بمعنى (قل لحمه) فالعلاقة منتفية بين المعنيين اللغوي والإصطلاحي. 10 - يُقال للتمثيلية (بابة) ومنه في أبيات وجيه الدين ضياء بن عبد الكريم، وقيل: لابن الجوزي: تجيئ وتمضي بابة بعد بابة ... وتَفْنى جميعاً والمحرك باقي ¬

(¬1) - أنظر أم القرى للكواكبي.

ولعل هذه التسمية مأخوذة من تقسيم التمثيلية على الأبواب (¬1) . 11 - ويُقال لخيال الظل أيضاً: (القراقوز) في اللغة التركية (كرة - كوز) ، وكأنها تعني التنظير بالوزير الأيوبي (قراقوش) . 12 - ومنه أيضاً: (الآراجوز) : وهو لهجة عامية تركية للاسم قبله (كرا - كوز) لكنه هنا أشبه بالسينما. 13 - الملهاة. جمعها: ملاهي. 14 - 15- وأما عند المتقدمين فيقرب منه ما يسى لديهم باسم (خيال الظل) . وإضافته مقلوبة عن (ظل الخيال) . وفي المبحث الثالث نقْل مطول مهم عنه فلينظر. 16- 21- وأما في الاصطلاح الدخيل فله من الأسماء: الدراما، أو الميلودراما. ¬

(¬1) - أنظر: خيال الظل لحمادة ص / 56- 58.

المبحث الثالث: تاريخه

التقليد. التراجيديا. المأساة. التياترو. الكوميديا. ويأتي بيانها في المبحث الرابع: (أنواع التمثيل) . المبحث الثالث: تاريخه، وأصله في الاعتياد والتعبد أصل حدوثه عند غير المسلمين: ابتداع في العبادات، ثم انتقل إلى العادات للتسلية والترفيه.. ثم تسرب التمثيل بنوعيه إلى المسلمين فشكل ظاهرتين في قالبين: 1- التمثيل الديني. 2- التمثيل الترفيهي. وعن حدوثه في التعبد لدى غير المسلمين، فقد رجح بعض الباحثين أن نواة التمثيل من شعائر العبادات الوثنية لدى اليونان. ففي (المعجم المفصل 2 / 1149 - 1150) بحث دقيق ومهم فلينظر. والله أعلم. وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - في

تنبيه مهم: في حكم إهداء الزهور للمرضى

(اقتضاء الصراط المستقيم 1/ 478) ما يفعله النصارى في عيدهم المسمى (عيد الشعانين) من أنهم يخرجون بورق الزيتون ونحوه بزعم المشابهة لما جرى للمسيح - عليه السلام - حين دخل بيت المقدس - في هيئة يطول ذكرها - وهم يقلدونه - عليه السلام - في ذلك يوم عيدهم المذكور. ثم امتدت هذه البدعة لدى العرب إلى تهادي الزهور أيام المواسم والأعياد. وشاهده قول النابغة: رقاق النعال طيب حجزاتهم ... يحيون بالريحان يوم السباسب وهو لدى الفرنجة اليوم كذلك. وفي هذه السنين أخذ تهادي الزهور شكلاً آخر من إهدائة للمرضى، وما كاد الكفار يفعلونه إلا وتقوم له الدعاية على قدم وساق، حتى انتشر لدى المسلمين. وما كنت أظن أن العرب داراً ونسباً ولساناً - ستبلغ بهم التبعية الماسخة إلى فعلته، ومن أثقل المظاهر أن ترى المريض في عقله يحمل الزهور - مستقل ومستكثر - إلى المريض في بدنه وكان العكس أولى؟ فالله أكبر إنها السنن (لتتبعن سنن من كان قبلكم) .

تحقيق نسبة البيتين المشهورين في خيال الظل

ثم انتشر التمثيل في المعابد الكنسية، يمثل جزءاً من تعبداتهم الكنسية، ويحمل إسم: (التراجيديا) ، و (المأساة) ، و (التياترو) . وفي العقود الأخيرة من القرن الرابع عشر الهجري تسربت التمثيليات الدينية، والهزلية إلى المدارس النظامية، والدينية منها إلى الجماعات الإسلامية، فتألفت فيها فرقة (التمثيل الديني) ، ثم أخذت تتطور إلى تمثيل أشخاص بعينهم، ثم إلى العظماء في الإسلام، ثم إلى طبقة الصحابة رضي الله عنهم، ثم إلى أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام، ثم إلى العوالم الغيبية كملائكة الرحمن، وهكذا. وقد وجد لدى بعض الإخباريين ذكر السوابق في تاريخ العرب الترفيهية، والدينية، وكان يسمى لديهم (خيال الظل) فقيلت فيه أشعار، ونقلت عنه أخبار. وكان الولاة بين المنع والجواز. وهنا بيتان يُنسبان إلى ابن الجوزي رحمه الله تعالى، في (خيال الظل) كما في (النجوم الزاهرة) : (6 / 176) رأيت خيال الظل أكبر عبرة ... لمن هو في علم الحقيقة راقي

شخوص وأشباح تمر وتنقضي ... وتفني جميعاً والمحرك باقي وفي (كناشة النوادر) للأستاذ عبد السلام هارون (1/9) قال: (خيال الظل: وهو الأصل الأول للسينماء المعاصرة، إذ تتحرك الأشخاص والأشكال خلف ستر، وقد سلط عليها الضوء، فتبدو صورها متحركة من خلف الستر. . ومن أقدم النصوص التي سجلت فيها هذه الظاهرة، قول ابن الجوزي، المتوفى سنة 597 هـ أي منذ ثمانية قرون، فذكرهما عن (النجوم الزاهرة 6/176) انتهى. وهما بنحوهما مع غيرهما - منسوبة في (المستطرف) للأبشيهي إلى وجيه الدين ضياء بن عبد الكريم والمتأخرون يتناقلون نسبتهما إلى الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى - ولم أقف في هذا العزو على مصدر قديم، والله أعلم. ولتيمور في (خيال الظل) ص/19- 23 مبحث ممتع في ذلك، وإنكار العلماء له فلينظر. والله أعلم. وفي (العقد الفريد) لابن عبدربه، وعنه بدون عزو في (الوفاقات) للبكري، كما في حاشية (صهاريج اللؤلؤ)

له ص/ 258- 259 ذكر قصة طويلة لبعض الوعاظ، حيث كان يقف على تل مرتفع فيقول قم: يا أبا بكر فيقوم شخص بمثابة أبي بكر - رضي الله عنه - وهكذا. ومن الذين اشتهروا بذلك، إبن دانيال الموصلي: شمس الدين محمد بن دانيال بن يوسف الخزاعي المولود سنة 646هـ والمتوفى سنة 711هـ، ثم المصري والذي عاش على أنقاض العدوان الهولاكي التتري، وفي حياته الإنتقالية إلى مصر احترف الطب وامتهن الكحالة. وكانت له مواقف وأشعار وحكايات وقصص ماجنة، وحياته مملوءة بهذا. ثم ترقت به الحال إلى (خيال الظل) وقد ألف كتابه (طيف الخيال) (¬1) . وأمام هذه البدوات، فقد قابله الفقهاء بالمنع والتحريم كما رأيت نقلا عن (خيال الظال) ، وما يأتي عن النووي، وابن حجر الهيثمي. هذا ما أمكن الوقف عليه عن (تاريخ التمثيل وأصل حدوثه) . وأما بشكله التنظيمي المعاصر، وتطوره الراهن فإن ¬

(¬1) - أنظر خيال الظل وتمثيليات ابن دانيال ص 80- 104.

هذه النواة نمت بحكم اتصال المشارق بالمغارب، وكان أول حدوثه في ديار الإسلام - بوصفه الحاضر- على يد نصراني هو: مارون النقاش اللبناني، إذ عمل أول تمثيلية عام 1840م أي قبل 150 عاماً، كما في (تاريخ الأدب) ص/427- للزيات، ثم في بلاد الشام، فمصر، على يد أحد الممثلين الدماشقة المتوفي 1320هـ، وهو: أبو خليل القباني: أحمد بن محمد آغا آقيق. قال الزركلي في (الأعلام 1 /235) في ترجمته له: (من أوائل منشئي المسرح التمثيلي العربي في الشام ومصر ... أنشأ مسرحاً للتمثيل بدمشق عرض فيه بضع روايات غنائية من وضعه وتلحينه، وأنكر عليه بعض الشيوخ إتيانه بهذه البدعة، فشكوه إلى حكومة الأستانة، ومنع من الاستمرار، فاحترف التجارة بما يسمى (مال القبان) وعرف بالقباني. وولي دمشق أحد رجال الإصلاح المشهورين من الترك (مدحت باشا) ، فدعاه إليه، وأذن له بالعودة إلى ماكان قد بدأ به. وأقصى مدحت عن دمشق، فرحل أبو خليل إلى مصر سنة 1884م، ومعه (جوقه) من الممثلين والمنشدين، فبدأ بتمثيل (أنبس الجليس) ، وعلت

المبحث الرابع: أنواع التمثيل

شهرته، وكثر الآخذون عنه، واقتبس من الأدب الغربي قصصاً عن كورونيه الفرنسي وغيره. وسافر إلى العاصمة العثمانية (الأستانة) وأمريكا، ولقي نجاحاً ثم عاد إلى دمشق..) انتهى. وأما حدوثه في (العادات) فهو في بلاد الكفر من أوروبا، وأمريكا، وغيرهما لأغراض متعددة وتحت ألقاب متنوعة، وهذا ما يأتيك خبره في المبحث بعده وهو (المبحث الرابع) . المبحث الرابع: أنواع التمثيل تبين من المبحث قبله أن التمثيل في أصل حدوثه ديني لدى وثنية اليونان، ولدى النصارى، واعتيادي كما في فرنسا وأوربا وأمريكا وغيرها، ويمكن تصنيف نوعيه إلى ما يلي: الأول: التمثيل الديني: وهو قسمان: أالتراجيديا، أو (المأساة) وهما للمحزن منها. ب التياترو، وأصل معناه: النظر بإعجاب. الثاني: في محيط العادات واللعب، وهما قسمان: أالكوميديا، أو (الملهاة) للمضحك منها.

المبحث الخامس: الغاية منه

ب الميلودراما، و (دراما) للمزعج منها. وأنواعه بحسب الواقع من عدمه: 1- طبعية: أي واقعية تحكي واقعاً فعلياً. 2- متخيلة: أي من نسج الخيال. 3- رمزية: تعتمد التعبير المثير. ثم أنواعه بحكم أدائه بالوسائل الحديثة هي: إذاعية، تلفزة، سينما، مسرحية. ثم هي: نثرية، أو شعرية، أو مرتجلة، أو معدة. المبحث الخامس: الغاية من التمثيل هي باختصار يجمعها (قصد التأثير بإصلاح أو إفساد) وينبغي التنبيه إلى أن (الفاسد منها) يظهر بقصد: شغل الفراغ. الترفيه. وتصاغ له الأساليب: ترفيه هادف. ترفيه برئ، وهكذا.

المبحث السادس: المدرك الفقهي لبيان حكم نازلة التمثيل

المبحث السادس: المدرك الفقهي لبيان حكم نازلة التمثيل لما لم نر فيها كلاماً لمتقدمي العلماء، نظراً لأنها لم تدخل محيط العبادات، ولم تنتشر في العادات، صار تقليب النظر في تنزيلها على أي من أحكام التكليف على النحو الآتي: 1- هل التمثيل: محرم لذاته تحريم غاية فيشمل جميع أقسامه وأنواعه سواء في العبادات أو العادات؟ 2- أم أن أصله الإباحة، والحكم عليه بحسب موضوعه، فيتنزل الحكم التكليفي عليه بحسب موضوعه؟ 3- أم الإباحة لأصله وموضوعه، والنهي لما يحف به من بعض المحرمات، فيكون من باب تحريم الوسائل؟ هذه هي القسمة التي يمكن تصورها للمدرك الفقهي، حتى يتسنى بيان موجبات الحكم الشرعي في (التمثيل) . واعلم أن القسم الثالث لا أعلم به قائلاً ولا أحسب له قائلاً من علماء الملة، بل إن موجبات التحريم العارضة فيه هي زيادة لحكم الحضر، سواء قيل لذاته أو

لموضوعه. إلا أن القسم الثاني ينتظم الأقسام الثلاثة على التفصيل الآتي: فيكون التمثيل في موضوع محرماً لذات الموضوع. ويكون التمثيل في موضوع جائزاً، ويحرم بحكم ما يحف به من أمور أخرى. ويكون التمثيل في موضوع جائزاً، ولا يحف به ما يرقيه إلى رتبه النهي. وإذا كان الأمر كذلك، فإلى سياق الأدلة الحكمية في قوالب ثلاثة: الأول: أدلة تحريم التمثيل لذاته. الثاني: أدلة تحريم التمثيل لموضوعه. الثالث: أدلة تحريم التمثيل لما يفضي إليه. توجيه تحريم التمثيل لذاته: إذا علمت أن التمثيل منقطع الصلة بتاريخ المسلمين في خير القرون، وأن وفادته إليهم كانت طارئة في فترات، وأنه في القرن الرابع عشر الهجري استقبلته دور اللهو، وردهات المسارح، ثم تسلل من معابد النصارى، إلى فريق (التمثيل الديني) في المدارس، وبعض الجماعات

الإسلامية. إذا علمت ذلك فاعلم أن قواعد الشريعة وأصولها، وترقيها بأهلها إلى مدارج الشرف والكمال تقضي برفضه، ورده من حيث أتى، وهذا بيانها: أولا ً: معلوم أن الأعمال، إما عبادات أو عادات. فالأصل في العبادات لا يشرع منها إلا ما شرعه الله، والأصل في العادات لا يحظر منها إلا حظره الله (¬1) . وعليه: فلا يخلو التمثيل، أن يكون على سبيل التعبد (التمثيل الديني) ، أو من باب الاعتياد، على سبيل (اللهو والترفيه) . فإن كان على سبيل التبعد، فإن العبادات موقوفة على النص ومورده، و (التمثيل الديني) لاعهد للشريعة به، فهو سبيل محدث، ومن مجامع ملة الإسلام قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ماليس منه فهو رد) . ولهذا فما تراه في بعض المدارس والجامعات من فرق ٍ للتمثيل الديني، فإن في حقيقته (التمثيل البدعي) لما علمت من أصله، وحدوثه لدى المسلمين خارجاً عن دائرة المنصوص عليه بدليل شرعي، وأنه من سبيل التعبد لدى أهل الأوثان من اليونان، ومبتدعة النصارى، فلا أصل ¬

(¬1) - الفتاوي 4/ 196.

له في الإسلام بإطلاق، فهو إذا ً محدث، وكل أمر محدث في الدين فهو بدعة، تضاهي الشريعة، فصدق عليه حسب أصول الشرع المطهر: إسم (التمثيل البدعي) . وأسوق إليك هنا أمرين مهمين: أحدهما: هذا النوع من التمثيل (التمثيل الديني) إنما وجد في أمم الكفر، لأنهم خواء ليس لهم شرع قائم يرجعون إليه، أما أهل الإسلام فلديهم الشرع المعصوم من التبديل (الكتاب، والسنة) فهم في غناء عن هذه الواردات، قال الله تعالى:} وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً {الفرقان / 33 ثانيهما: إنما يحصل العدول عن هدي الكتاب والسنة إلى أمثال هذه الوفادات، إذا ضعف أهل الإسلام عن تحمل العلم الشرعي، وأعياهم تحمله، والفقه فيه، فيذهب بهم العجز والخواء كل مذهب، وحينئذ تصادف هذه الواردات قلباً خالياً من نور العلم الشرعي الموروث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيتشرب هذه المحدثات. وقد بلغ الحال بالمسلمين من التمثيل لعظماء الإسلام على خشبات المسارح، من رجال القرون المتأخرة إلى

القرون المفضلة، إلى أنبياء الله ورسله، إلى عوالم الغيب. وقد ثبت بالمشاهدة في معقل من معاقل العلم الشرعي، قيام تمثيلية دينية - زعموا - يمثل فيها مسلم دور مشرك بالله، فيسجد لشجرة من دون الله ... لبيان فضل التوحيد ... وهكذا كما هو معلوم ومشاهد. فنعوذ بالله من الحور بعد الكور، ومن العماية بعد الهداية، ومن الضلالة بعد الرشد. وإن نشر الفضائل، وإظهار عظمة الإسلام، تلتقي فيها الوسائل مع الغايات، بوقفها على منهاج النبوة، وهذا منابذ لها، أجنبي عنها. وأما إن كان التمثيل في (العادات) ، فهذا تشبه بأعداء الله الكافرين، وقد نهينا عن التشبه بهم. إذ لم يعرف إلا عن طريقهم، والنهي عن التشبه بهم (أمر بمخالفتهم) ، وقد نهى الله سبحانه عن الخوض فيما يخوضون فيه، فقال تعالى:} كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ

فِي الُّدنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ {التوبة / 69. والله تعالى قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -} إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ {الأنعام / 59 فقوله سبحانه} لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ {يقتضي البرآءة منهم في جميع الأشياء. والمتابعة في بعض الأشياء يكون التابع له من المتبوع في ذلك الشيئ. وإذا كان الله قد برأ نبيه - صلى الله عليه وسلم - من جميع أمورهم، فمن كان متبعاً لنبيه - صلى الله عليه وسلم - حقيقة كان متبرئاُ منهم كتبرؤه - صلى الله عليه وسلم - منهم، ومن كان موافقاً لهم كان مخالفاً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقدر موافقته لهم (¬1) . قال ابن حجر الهيثمي م. سنة 974هـ - رحمه الله تعالى - في رسالته: (الإعلام بقواطع الإسلام) ص / 362 المطبوعة في آخر (الزواجر) : (ومنها - أي من المكفرات - لو حضر جماعة، وجلس أحدهم على مكان رفيع تشبيهاً بالمذكرين، فسألوا المسائل وهم يضحكون، ثم يضربونه بالمجراف. ¬

(¬1) اقتضاء الصراط المستقيم ص/ 46.

أو تشبه بالمعلمين، فأخذ خشبة، وجلس القوم حوله كالصبيان، فضحكوا، واستهزؤا. أو قال: قطعة من ثريد خير من العلم: كفر. زاد في الروضة - يعني النووي - قلت: الصواب أنه لا يكفر، في مسألتي التشبيه) انتهى. ولا يغتر بذلك، وإن فعله أكثر الناس، حتى من له نسبه إلى العلم، فإنه يصير مرتداً على قول جماعة، وكفى بهذا خسارة وتفريطاً) انتهى. ثانياً: لا يخلو (التمثيل) أن يكون أسطورة متخيلة، فهذا كذب، والنفوس واجب ترويضها على الصدق، ومنابذة الكذب، والأساطير المختلقة المكذوبة، تشرب النفوس الكذب، وعدم التحرز منه. وعن معاوية بن حيدة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال: (ويل للذي يحدث فيكذب، ليضحك به القوم، ويل له، ويل له) . رواه أحمد، والترمذي، والحاكم. أو أن يكون (التمثيل) حقيقة بتمثيل معين، فهذا محاكاة، والمحاكاة منهي عنها بإطلاق، كما في حديث

عائشة - رضي الله عنها - أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال: (ما أحب أني حكيت إنساناً، وأن لي كذا وكذا) رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن الجعد. قوله: (حكيت إنساناً) أي: قلدته في حركاته، وأقواله فهي غيبة فعليه، وهي كالغيبة القولية في التحريم سواء. ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث: (وأن لي كذا) أي: وأن لي على تلك المحاكاة، وهذا من أدلة التحريم. قال النووي - رحمه الله - في (الأذكار) (ص/ 490) (ومن ذلك - أي الغيبة - المحاماة، بأن يمشي متعارجاًً، أو مطأطئاً، أو غير ذلك من الهيئات، مريداً حكاية من يتنقصه بذلك. فكل ذلك حرام بلا خلاف) إنتهى. فظهر أن (المحاكاة) ، (التمثيل) مبغضة في الإسلام، والمحاكاة فيها إيذاء في جميع الأحوال. إذ أن الطباع تنفر من مشاهدة من يحاكيها حتى في مواطن المحمدة. وكم في هذا من هضم وإيذاء. وإن عشاق اللهو من العظماء والمترفين لا يمكن التجاسر بمحاكاتهم على ملاً من

الناس، ولو في مواطن الشجاعة والكرم، فكيف تهدم حرمات ناس مضوا، وبقي علينا واجب النصرة لهم بالإسلام، فلننتصر لحفظ حرمتهم، والإبقاء على كرامتهم (وكل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه) ، فكيف إذا كان فيه مواقف من الإيذاء والسخرية والاغتياب، والكذب عليه بقول ٍ وماقال، وفعل ٍ وما فعل؟ وإن السؤال ليرد على من يعتني بها، وعلى من يستخرجها، ويتلذذ بتمثيل غيره معيناً، هل يرضى أن يُمثل في مشاهدته، وهو يتحدث مع زوجته، أو قائم في صلاته، أو في حال تلبسه بخطيئة، أو في أي دور من أدوار حياته. وفي (الديارات) للشايشتي، ذكر عن الشاعر: دعبل الخزاعي م / 250هـ قوله: (وما غلبني إلا مخنث، قلت له: والله لأهجونك، قال: والله لئن هجوتني لأخرجن أمك في الخيال) انتهى (¬1) . ¬

(¬1) - بواسطة: خيال الظل لحمادة. ص / 45.

فانظركيف كان وسيلة للنكاية والسخرية والتشفي من أي شخص يُراد الإنتقام منه. فهو بالجملة يحوي مجموعة (مفاتيح سوء) توصل إلى مقصد يراد منها. فيا لله كم في هذا من وثبات على حرمات أناس مضوا، وكم فيه من جراءة على حرمتهم، وإسقاط لها، وتوهين لمكانتها، والله المستعان. ثالثاُ: المروءة من مقاصد الشرع، وخوارمها من مسقطات الشهادة قضاء، والشرع يأمر بمعالي الأخلاق، وينهي عن سفاسفها. فكم رأى الراءون (الممثل) يفعل بنفسه الأفاعيل، في أي عضو من أعضائه، وفي حركاته، وصوته، واختلاج أعضائه، بل يمثل: دور مجنون، أو معتوه، أو أبله، وهكذا. وقد نص الفقهاء " في باب الشهادة " على سقوط شهادة " المضحك " و " الساخر " و " المستهزئ " و" كثير الدعابة ". وهذا منتشر في كلام الفقهاء من المذاهب الأربعة وغيرهم. وفي مجموع " فتاوي شيخ الإسلام ابن تيمية ": (32/255 - 256) سُئل عن الرجل يتحدث بين الناس بحكايات كلها كذب، فقال: (وأما المتحدث بأحاديث

مفتعلة ليضحك الناس، أو لغرض آخر، فإنه عاص لله ولرسوله. وقد روى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الذي يحدث فيكذب ليُضحك القوم ويلٌ له، ويلٌ له، ثم ويلٌ له ". وقد قال ابن مسعود: " إن الكذب لا يُصلح في جد ٍ ولا هزل، ولا يَعد أحدكم صبيّه شيئاً ثم لا يُنجزه " وبكل حال ففاعل ذلك مستحق للعقوبة الشرعية التي تردعه عن ذلك) انتهى. وعليه فلا يمتري عاقل، أن (التمثيل) من أولى خوارم المروءة، ولذا فهو من مسقطات الشهادة قضاء، وما كان كذلك، فإن الشرع لا يُقرّه في جملته. ومن المسلمات أن (التمثيل) لا يحترفه أهل المروءات، ولا من له صفة تذكر في العقل والدين. رابعاً: الإسلام ينشد لأهله الترقي في مدارج الشرف، والإبتعاد بهم عن إيجاد طبقة ساذجة، دأبها اللهو، والتفاهة، ونشر هذا التدني في الأمة. والتمثيل لا يمكن أن نرى في الإسلام عظيماً في خلقه، ودينه، وشرفه، وكرامة أصله يعتمله، ما لم يكن في مقوماته الأصلية أو المكتسبة اختلال. والإسلام لما

أبيح فيه: المزاح، والضحك، واللهو، أبيح في قوالب معينة، وحف بضوابط. أما مطلقاً فلا ... لا. والتمثيل لا يكون في حبائله إلا نوع من نزع الحياء منه، والحياء من الإيمان، ولا إيمان لمن لا حياء له. وفي الحديث (إذا لم تستح، فاصنع ما شئت) . وقد سُمي المزاح مزاحاً، لأنه مُزيح عن الحق، ومُزيح للهيبة عن معتمله. وللبدر الغزي المتوفي سنة 984هـ - رحمه الله تعالى - كتاب (المراح في المزاح) ذكر فيه جملة من وقائع المزاح في عصر النبي (صلى الله عليه وسلم) ثم لدى الصحابة - رضي الله عنهم -، ثم لدى التابعين - رحمهم الله - وهكذا. وأن المزاح المشروع كان يأتي عرضاً، وليس حرفة تستهلك الحياة، وأنه محفوف بضوابطه الشرعية، من الصدق، وعدم الإعتداء على عرض وغيره، أو الكذب، أو الغيبة، وهكذا. وبهذا تجتمع النصوص الواردة في مدحة وذمه. وقدم - رحمه الله - لكتابه هذا بمقدمة كاشفة عن أدب الشرع في المزاح ص/ 8 - 13 فلتنظر فإنها مهمة جداً. خامساً: الوقت عصب الحياة، يُنفق في تحصيل ما

يعود بالفائدة من دين أو دنيا، كمال ٍ يُكسب من حله، ويُبذل في غير إسراف ولا مخيلة. والتمثيل في مسلسلاته ومسرحياته التي تستغرق الساعات الطوال، عدو كاسر على وقت المسلم، وامتصاص للأموال، ولا سيما وقد صار حرفة، بل فناً له رواده ومدارسه ومسارحه.. فكم بذل فيها من جهود، وكم أنفق فيها من مال، والنتيجة هُراء في هُراء، ورعونات يأنف من مشاهدتها الفضلاء. وأما إن كانت بدعية، إي (دينية) على حد تعبيرهم الفاسد، فكم فيها من ثِقل ٍ في العرض وسماجة في الأداء. ولهذا فمن المشهور أن أكثر الخلق يعرضون عنها إلى مجالس لغو أخرى، ولا لوم، إذ يسمعون (سقط المتاع) يقول بصوته التقليدي على خط وهمي (أنا القاضي شريح) ، ويرون ماجناً يقول (أنا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب) ، نعوذ بالله من عقول لا تستهجن ذلك. وقد حُدثت عن إحصائية لبعض الدول الكافرة في أقل الناس، ومتوسطهم، وأكثرهم مشاهدة للتلفاز أسبوعياً، فوجد أن أكثرهم مشاهدة من شخص أو أسرة في الأسبوع بمعدل ساعتين لبرامج معينة، أما لبني

جلدتنا فقد استغرقوا في مشاهدته، أبصار شاخصة وألباب فارغة، تستلهم جميع برامجه فتمتص من دينه ومقومات جياته بقدر ما يبث فيها، ويستلهمه هذا المسكين، فالله المستعان. سادساً: التمثيل، لا ينفك عن (الكذب) ، بحال في الفعال، والأقوال، بل كم من يمين غموس، وزواج، وطلاق.. وكله اختلاق. والكذب أدوى الأدواء، ويطبع المؤمن على كل شيئ خلا الخيانة والكذب. ووجه عدم انفكاكه عن الكذب على ما يلي: 1 - إن كان أسطورة، فهذا من أساسه اختلاق، وبئس المطية لتوجيه الأمة وترفيهها بما هو كذب عليها، وملاعبة لعقولها. 2 - وإن كان يمثل معيناً كصلاح الدين الأيوبي، وغيره من العظماء من قبل ومن بعد، فإنهم سيقولون (قال) وما قال، و (فعل) وما فعل، وهكذا في حركات وتصرفات هي محض افتراء، وتقوّل عليه. وإذا حرم الله شيئاً مثل الكذب، حرم ما بني عليه،

وأوصل إليه، والتمثيل سبيل إليه، فيحوي من الكذب ما تراه، فالله المستعان. وعجيب - والله - أن يتهافت الناس على مشاهدة الكذب وسماعه. وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (لا تقوم الساعة حتى تظهر الفتن، ويكثر الكذب..) الحديث رواه أحمد في المسند، من رواية أبي هريرة - رضي الله عنه -. والخلاصة: أن الممثل (قتيل التمثيل) في الابتداع أو التشبه، وفي الكذب، وخرم المروءة، ووأد الحياء والتضحية بوقته لحياة هزلية. سابعاً: التمثيل بنوعيه: الديني والترفيهي، ردة فعل لدى المنهزمين من المسلمين، لمحاكاة ما لدى الأمم الكافرة من أساطير و (إلياذات) وهمية، منسوجة يهرع إليها الناس. فلدى (اليونان) : (إلياذة هوميروس) وهي مطبوعة في مجلدين. ولديهم (التراجيديا اليونانية) التي اختلقها (أيسكولوس) ولدى الرومان أساطيرهم ونسجهم.

ثم يأتي المنهزمون من المسلمين فيلتقطوا من موائد هؤلاء ومن غيرهم، فيهيمون في التمثيل الترفيهي إلى حد بلغ القضاء المبرم على سمة المسلم، ووقته، وقواه، وتفكيره. وعندئذ يأتي اختلاق (ألف ليلة وليلة) و (سيرة عنترة) و (البطال) و (السيد البطل) . وعلى غرارها في (العصر الحاضر) : الإستدلال من سيرة الأبطال، ومضاعفتها بالكذب والأوهام، كما في قصة (وضاح) و (عبيد بن الأبرش) ، وغيرهما من أحاديث العرب وأخبارها في جاهلية وإسلام. وفي (التمثيل الديني) يأتي التسلق إلى تمثيل أنبياء الله ورسله، والصحابة من المهاجرين والأنصار، وإلى عظماء الإسلام كافة. وكان من أبشع ما رأى الراؤون ما عمله ذاك الشقي طه حسين في كتابه (على هامش السيرة) : إنه ليس في حقيقتها، ولكن على هامشها بالاختلاق للتسلية. إنها محاكاة دينية لإلياذة اليونان، وأساطير الرومان. فجعل هذا العابث: سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - مسرحاً للأساطير والكذب، وإدخال الباطل، وسل

الصحيح. واختراع ما يسيئ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وإلى جميع المسلمين. فانظر إلى هذا العنوان الأثيم (على هامش السيرة) ، وإلى ما احتوته من الاختلاق العظيم، وحسبنا الله ونعم الوكيل. ثامناً: ولما نشأت ظاهرة (القصص الكاذب) في عهد أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - بغية الوعظ والتذكير، منع ذلك عمر - رضي الله عنه - وشدّد النكير على القصاص والمذكرين. وقد توالت كلمة العلماء على إنكار ذلك، وأنه دجل وتلاعب بالعقول، وكذب مختلق لا يجوز، وتشويه لصورة الإسلام وشيوع للموضوعات والمختلقات. وإنه وإن ظهر بمظهر الوعظ وإيقاظ النفوس، فهو مرض شهوة، حب المال، ... والجاه، والظهور. وقد أغنانا الله بقرآن يُتلى، فيه أنواع القصص والعبر، بل فيه أحسن القصص. وقد ألف العلماء في الإنكار عليهم - أي الوضاعين - تآليف مفردة لشدة خطرهم، وعظيم ضررهم. واليوم: يعود الكذب بمسلاخ آخر (التمثيل) ،

فبالأمس (الحديث الموضوع) واليوم (التمثيل المكذوب) كلا ً أو بعضاً، وجعله قربة يحبب الإسلام إلى النفوس؟ ألا إنها السنن المرفوضة فاحذروا (¬1) . تاسعاً: التمثيل (محاكاة) ، والمحاكاة خاصية (القردة) من الحيوانات، والمسلم منهي عن التشبه بالحيوانات، والله تعالى يقول:} وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ { ... الإسراء/ 70. قال الحافظ ابن حجر في (الفتح 7/160) : (ومن خصاله أي القرد: أنه يُضحك، ويُطرب، ويحكي ما رآه) انتهى. فهلا نترفع بالمسلمين فضلاً عن آدميتهم، عن هذا المستوى. عاشراً: أجمع القائلون بالجواز المقيد، على تحريمه في حق أنبياء الله ورسله - عليهم والصلاة والسلام - وعلى تحريمه في حق أمهات المؤمنين زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم، وولده - عليهم السلام - وفي حق الخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم - فنسأل المجيز مقيداً والرسول صلى الله عليه وسلم قد قال:) كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه) ¬

(¬1) - أنظر التراتيب الإدارية 2 / 225- 227، 335 - 338، 345 - 347، 351 - 362.

وهو الذي حرم - صلى الله عليه وسلم - المحاكاة، وحرّم الكذب، فلماذا نهدر هذه الحرمات في حق بقية سلف هذه الأمة وصالحها، وفيهم العشرة المبشرون بالجنة، وأعمام النبي صلى الله عليه وسلم، ولحمة قريش وسداها - ممن أسلموا - هم عشيرته وقراباته - صلى الله عليه وسلم -، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد اوصى بعترته " أهل بيته " وهكذا في كوكبة الصحابة - رضي الله عنهم - والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أقول: اللهم إني أبرأ إليك من إهدار حرمات المسلمين أو النيل منهم. الحادي عشر: إن التمثيل الديني (البدعي) لا أظن وجود قائل يفتي بمزاولته في بيتٍ من بيوت الله، كصحن المسجد الحرام، وأروقة المسجد النبوي الشريف، وهكذا في سائر المساجد. وهذه حلق التدريس والوعظ تعقد في المساجد كابراً عن كابر إلى يومنا هذا، والتمثيل في نظر المجيز

(درس هادف) ومُستحب ومرغوب فيه، فهل يقول عاقل سليم الفطرة بعقدها في رحاب المساجد؟ اللهم لا، وإن فطرة المسلمين تأبى هذا، ولا عبرة بمن مالت به الأهواء فتردّى. توجيه تحريمه لموضوعه وما يفضي إليه: ثم اعلم أن قاعدة الشريعة: أن الشيئ إذا كان في أصله مباح ثم احتوى على محرم أو أفضى إليه أنه يكون حراماً. وهكذا التمثيل، إذا قيل أنه في الأصل يلتحق باللهو المباح ثم خالطه محرم أو أفضى إليه فإنه يكون حراماً: أداءاً، وعرضاً، ومشاهدة، طرداً لقاعدة الشريعة المذكورة. ومن هذه الفعلات المحرمة، والأقوال المنكرة، والنتائج المؤلمة، التي قد يشتمل التمثيل على واحدة منها فأكثر، ما يلي: 1- أن يحوي القيام بفعل أو قول عن الله سبحانه وتعالى وتقدس عن أن يشبهه شيئ. 2- أن يكون فيه القيام بدور عن أحد من أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام.

3- أو عن أحد من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الخلفاء الراشدين وزوجاته أمهات المؤمنين - رضي الله عن الجميع. 4- أو عن معيّن من المسلمين حيّ أو ميّت. 5- أو مسلم يقوم بدور شيطان، أو كافر بالله تعالى. 6- أو عكسه من كافر يقوم بدور مسلم. 7- أو مسلم عن حيوان. 8- أو رجل يمثل إمرأة أو عكسه. 9- أو محاكاة معّين على سبيل الإضحاك، أو السخرية، أو الإيذاء، أو محاكاة مجرّدة. 10- أو تبني غير الرشدة. 11- أو يكون التمثيل مركباُ من رجال ونساء، وما وراء ذلك من خلوة، واختلاط، ومصافحة، وسفر بلا محرم. 12- عرض دور ولدان ٍ شباب مرد حسان. 13- كشف عورة مغلظة او غير مغلظة من رجل، أو إمرأة. 14- إشتماله على المعازف، والغناء المحرم، والرقص من نساء ورجال.

15- إشتماله على التصوير. 16- التزيي بزي يُسخر منه، كاللحي المصطنعة ووصل الشعر. 17- القيام بأفعال فيها رعونة، وسخرية، وخرم مروءة. 18- إشتماله على قول ٍ محرم ٍ من السباب، والشتم، واللغو، والقذف، والغزل.. 19- إحتواءه على الكذب، والاختلاق، أو في فرع منها مثل دعوى الزواج، والهزل بالطلاق.. 20- قيامها على اختلاق أسطورة مكذوبة في مشوار طويل من الكذب والوهم. 21- إشتماله على تعظيم شعائر الكفر كالمعابد الكنسية والوثنية، وبيوت النار. 22- إشتماله على مواقف الشعوذة، والدجل، كالوقوع في النار وتحت الأثقال ... 23- نشر أخلاق وعادات الكافرين، والمبتدعة، والفاسقين. 24- الخوض، واللعب، والإستهزاء، وأي من الهزل في أي من أحكام دين الله وشرعه. 25- إشتماله على أي ناقض للعبادة من الخوف،

والرجاء، والحب، والبغض، والولاء، والبراء.. 26- تمثيل قصص وحكايات عن أشخاص لا تصح عنهم، فهي قلب لحقائق التاريخ وتشويه له. 27- إفضاؤه إلى نشر رذيلة، أو إشاعة فساد ومنكر. 28- نشر الرعب، والخوف، والقنوط، واليأس. 29- إلحاق الأذى بالشخص الممثل عيناً، في لباس، أو نطق، أو شعور مصطنعة، أو هيئة معينة، مثل العلماء، والزهاد، والفرسان.. 30- إثارة الشبهات، والشهوات. 31- إنه مخطط رهيب لتخدير الأمة، وتكوين جيل ساذج تافه، بُسام كما ُتسام بهيمة الأنعام. وهكذا في عدد من هتك الحرمات، وما يفضي إليه من المحرمات، وبه يظهر: أن التمثيل قد يجمع أسباب التحريم الثلاثة: 1- لذاته. 2- ولموضوعه. 3- ولما يفضي إليه. وإنه لا تنفك الحرمة عنه، إن حالاً أو مالاً. وفي الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الأشَرَة ُ شَرٌّ) والأشَرَة: العبث

شبهة المجيزين والجواب عنها

شبهة المجيزين والجواب عنها لا أعلم قائلاً بجواز (التمثيل) مطلقاً، ومن أجازه حفه بشروط وضوابط، وفي هذه الحال فللمجيز جوازاً مقيداً بشروط: شبَه أفضت به إلى القول بالجواز بشروطه. يمكن تصنيفها على ما يلي: 1- التمثيل ترفيه بريئ، ولهو مُباح. 2- التمثيل هادف إلى: بث الوعي، ومعالجة القضايا الأخلاقية، والمشاكل الإجتماعية،، فهو: وسيلة تربوية. 3- التمثيل وسيلة إظهار لعظمة الإسلام، ومجد عظمائه. 4- التمثيل من باب ضرب الأمثال بالمحسوسات وتقرير الحقائق، والدلالة عليها. وفي القرآن والسنة من هذا شيئ كثير، والله تعالى يقول:} وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ {الحشر/21. قالوا: فهكذا التمثيل، لإيضاح وتجسيد للغاية التي يُقام من أجلها، فحسنه حسن، وقبيحه قبيح بحسب غايته.

5- قياسه على تمثيل جبريل - عليه السلام - لمريم في صورة بشر، وكذا في مواضع أخر، ولنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -. 6- مادرج عليه جماعة من المؤلفين مثل الحريري في مقاماته، وابن المقفع في كليلة ودمنة. 7- مزاولته لدى بعض المتقديم باسم (خيال الظل) . والجواب عنها على ما يلي: (1) أما أن التمثيل ترفيه بريئ ولهو مباح، فهذا لا يمكن قبوله، لما رأيت في توجيه التحريم لذاته وموضوعه، وآثاره، فأنّى له البراءة، فضلاً عن الإباحة. (2) أما أنه وسيلة دينية لإظهار مجد الإسلام، فإن ما يُؤدي إلى خدمة الدين مطلوب، بشرط عدم الإحداث والإبتداع} وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً {مريم / 64، والدعوة إلى الله توقيفية في وسيلتها، وغايتها، والوسيلة لا تبررها الغاية، وهذه وسيلة تعبدية محدثة، فسبيلها الرد ابتداء. إضافة إلى ما يُحيط بها في موضوعها ونتائجها مما تقدم لك بيانه، ينتج من هذا أنها وسيلة محدثة

فهي رد، والله أعلم. (3) وأما أنها وسيلة تربوية وهادفة.. فهذا مقدوح بما تقدم لك من علة التشبه، وما يمازجها من محاذير شرعية، وكما أن قاعدة الشريعة منع التشبه، فقاعدة الشريعة أيضاً دفع المفاسد وتقليلها، وجلب المصالح وتكثيرها، وقد علمت ما ينطوي عليه التمثيل هنا من مضامين يرفضها الشرع، فسبيل هذه الوسيلة المنع، والله أعلم. (4) وأما قياسه على ضرب الأمثال في الكتاب والسنة، فهذا قياس مقدوح فيه بقيام الفارق بين المقيس والمقيس عليه، إذ الأمثال قولية، أما (التمثيليات) فهي فعليه تمارس بالذوات، فكيف يُقاس هذا، على هذا مع عدم تطابقهما، فثبت فساد القياس ... ثم إن ضرب الأمثال في القرآن الكريم قد تنوعت، فضرب المثل بالأعمى والأصم، وبالعنكبوت، ورؤوس الشياطين، والكلب، والحمار، والأنعام، والعبد المملوك، وهكذا. فهل يقول المستدل على جواز التمثيل بضرب الأمثال، بجواز تمثيل المسلم بدور الشياطين،

والكلاب، والحمير، والأنعام. وهذا إلزام وارد، على سبيل التنزل، وإلا فأصل القياس غير سليم، والله أعلم. (5) أما تمثيل جبريل - عليه السلام - في صورة دحية الكلبي وغيره، فقياس فاسد لما يلي: وهو أن القدرة على التشكل من خصائص عالم الغيب عن عالم الشهادة، فقد جعل الله سبحانه وتعالى للملائكة القدرة على أن يتشكلوا بغير أشكالهم تشكلاً حقيقياً، كما في نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية. ففي القرآن، أرسل الله تعالى جبريل إلى مريم في صورة بشر} فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً {مريم / 17. وجاءت الملائكة إلى إبراهيم في صورة بشر. وجاء جبريل إلى نبينا ورسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم - في صور وأشكال متعددة، في صورة دحية الكلبي، وفي صورة أعرابي.. ومن إعطاء الله لهم القدرةعلى التشكل ما في قصة:

الأقرع، والأبرص، والأعمى. وقد أعطى الله الشياطين والجان القدرة على التشكل بأشكال الإنسان والحيوان. ومنها: مجيئ الشيطان إلى المشركين يوم بدر في صورة سُراقة بن مالك. كما تتشكل في صورة كلب.. أو حيات. والشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم. فهذه تشكلات حقيقية أقدر الله عليها عالم الغيب من الملائكة الأبرار، والشياطين والجن الأشرار، واختصهم بها لعلة الإمتحان والإبتلاء والإختبار في بعضها. ولعلل وأحكام لا يعلمها إلا من قدرها. ولم تكن هذه التشكيلات الحقيقية لآدمي قط، فهي قاصرة على محلها في (عالم الغيب) . بناءاً على هذا، فقياس (عالم الشهادة) على (عالم الغيب) في ذلك قياس فاسد، لأنه قياس تشكل جزئي وهمي كاذب، على تشكل كلي حقيقي صادق. ولأن العلة الجامعة قاصرة على محلها في عالم الغيب، وتوفرها في طرفي القياس ركن في صحته، وفقدانها هنا ظاهر، فضلاً عن شرط تساويهما في الفرع والأصل، لو وجدت،

فهي مفقودة أصلاً في النوع المقيس. ولو اشتركا في العلة فشرطها أن تكون بوصف ظاهر، وليست في عالم الغيب كذلك. فنخلص من هذا أنه قياس فاسد لاختلال ركنه وشرطه، والله أعلم. 5 - أما ما درج عليه بعض الأدباء في تأليف غريب اللغة بمقامات على لسان شخصيات وهمية متخيلة مثل (مقامات الحريري) وغيرها، فهذا أيضاً من القياس الباطل، الفاقد لشروطه، المختل ركنه. إذ أنه مقدوح فيه، وذلك بالفرقان بين المقيس والمقيس عليه. حيث أن الحريري في سياقته لمقاماته، لم يتقمص شخصية معيّنه ولا وهمية، بخلاف التمثيل. ثم هذا من باب القول لا من باب الفعل، ثم هو من باب المحاورة والتعليم لا من باب التمثيل والتشبيه، كالشأن فيما هو أبعد من ذلك، كحديث تعليم جبريل عليه السلام للنبي - صلى الله عليه وسلم - الإسلام والإيمان والإحسان. وهكذا. ثم أرونا أثراً واحداً مرفوضاً شرعاً يترتب على هذا.

وأما كليلة ودمنة، فهو ليس من تأليف ابن المقفع المتوفي سنة 145هـ، وإنما هو من ترجمته، وحسبك أنه ابن المقفع الذي ليس له رواية في الإسلام مع تقادم عهده في صدر عصر الرواية. وعلى كل حال فهذه الكتب: مقامات الحريري، وألف ليلة وليلة، وسيرة عنترة، جميعها من باب ضرب الأمثال، لا من باب التمثيل. وقد ألمح إلى ذلك ابن حجر الهيثمي في " فتاويه " ونقله عنه الكتاني في " التراتيب الإدارية " (2 / 226 - 227) . 6 - وأما ما تقدم في تاريخ التمثيل من وجود لعب وحكايات في هذا كانت معروفة باسم (خيال الظل) ، فهذه وإن وُجدت في عصور متأخرة، فهي منقطعة الإتصال بصدر هذه الأمة. ثم وجودها في طبقة الصعاليك والمترفين، وهؤلاء ليسوا بحجة على الدين. ثم وجد من أنكرها من العلماء، فاستجاب له الأمراء. والله أعلم.

الخاتمة

الخاتمة والخلاصة أن التمثيل: حرفة ً، وأداءً، وتكسباً، وعرضاً، ومشاهدة، لا يجوز. لأنه إن كان تمثيلاً دينياً فهو بدعي: لوقف العبادات على النص ومورده، ولما علمت من أصله لدى النصارى واليونان. وإن كان غير ذلك، فهو لهو مُحَرّم، لما فيه من التشبه، ولما رأيته من تفاريق الأدلة، وما يحتوي عليه، ويترتب عنه من الآثار المعارضة لآداب الشريعة، وناموس الترقي، وانحلال ربقة الآداب. وأن ما فيه من عظات، وفضائل مزعومة، فهي ضائعة مغمورة في حَلبة تلك الملهيات التي توقض نائم الأهواء، وتحرك ساكن الشهوات. كما ينطق به الواقع المرير، لتمرير الفحش والخناء، والفسوق والعصيان، وتهديم البيوت داخل أسوارها. فهو يُمثل مخاطر على العقائد، والأخلاق، والفضائل، والآداب. وبالجملة فإن انتشار التمثيل بصفته التي ُتشاهد وُتسمع كل يوم وليل، يُمثل إعتلال في الأمة،

ونهم في اللهو واللعب، ووهن في الدين، وفراغ من العلم، وعجز عن تحصيله، وتحطيم للأمة في قوتها ووقتها وتنمية طاقاتها ومواهبها، فماهي إلا وسيلة عدوان على الأمة، وتخطيط رهيب لتعيش سادرة، تخوض فيما لا ينفعها في دينها ولا في دنياها، بل هو ضرر محض عليها في الدين والدنيا. وإفساد الإنسان، وانهيار أخلاقه، بغرض السيطرة عليه: مخطط تخريبي، يهودي. وفي (بروتكولات يهود) : (يجب أن نعمل لتنهار الأخلاق في كل مكان، فتسهل سيطرتنا، إن (فرويد) منا، وسيظل يعرض العلاقات الجنسية في ضوء الشمس لكي لا يبقى في نظر الشباب شيئ مقدّس، ويصبح همه الأكبر إرواء غرائزه الجنسية، وعندئذ ٍ تنهار أخلاقه) انتهى. والتاريخ يحفظ في سطوره أن الهيام في المضحكات والترفيهات من علائم الإنحطاط وانقراض الدول. فهذا المستعصم آخر خلافاء بني العباس في بغداد، كان مولعاً بالتفرج على " المساخرة " المضحكة، وكان يقضي أكثر زمانه معها، كما في (الفخري ص / 144) وتاريخ أبي الفداء 3 / 176) ، وغيرهما.

وهكذا، إذا ماتت السنن ظهرت البدع، وإذا ضعف الجد والعزم، تفشى في الأمة الهزل والضعف، لتصل إلى محطة الشيخوخة في دائرة قطيع يُسام، وسلع تساوم، وإن الحياة لحادث جَلل، فما بمثل هذا تعمر الحياة، ويكون (التمثيل) ناموساً ورمزاً لمجدها. وبالجملة، فالتمثيل يحوي مفاتيح هذه المقاصد الهابطة، ويتضمن " محاضن تفريخ لها ". وهنا أذكّر من ابتلي بشيئ من أمر الفتيا، أن يبصر حال أمته، ويبصر أوضاعها، وماذا يُراد بها، ليتوقى عند إصدار الفتوى من فتيا تكون سلماً لتلك المآرب المهينة. ولا أرى الفتيا بالجواز المقيد بشروطه، إلا ومُصْدِرها - مع التقدير - في غياب عن الساحة وما يجري فيها من توظيف " التمثيل " لهدم مقومات الأمة. فستكون الفتيا " تكأة " ينطلق منها الآثمون، مستبعدين لضوابطها الشرعية عند من أفتى بها - وقد فعلوا! وأقول أخيراً: إن التمثيل لو كان جائزاً بشروطه، لوجب في هذا الزمان الإفتاء بمنعه وتحريمه، لما يُشاهد في بلاد المسلمين من زحم التمثيليات المهول التي تفرز خطورة على مقومات المسلمين كافة، ولا ينازع في الواقع

إلا جاهل به، أو ممالي. أيقظ الله المسلمين من غفلتهم، وهداهم، وأصلح بالهم، والله الموفق وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم بكر أبو زيد

§1/1