حكم الإسلام فيمن زعم أن القرآن متناقض

ابن باز

مدخل

مدخل ... حكم الإسلام فيمن زعم أن الإسلام متناقض عبد العزيز بن عبد الله ابن باز أو مشتمل على بعض الخرافات، أو وصف الرسول - صلى الله عليه وسلم- بما يتضمن تنقصه، أو الطعن في رسالته، والرد على الرئيس أبي رقيبة فيما نسب إليه من ذلك. الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد: فقد نشرت صحيفة "الشهاب" اللبنانية في عددها الصادر في 23/ربيع الأول 1394هـ، الموافق 1/نيسان 1974 م فقرات خطيرة من خطاب الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة، الذي ألقاه في مؤتمر المدرسين والمربين، لمناسبة الملتقى الدولي، حول الثقافة الذاتية والوعي القومي، يتضمن الطعن في القرآن الكريم بأنه متناقض، ومشتمل على بعض الخرافات، ووصف الرسول محمدا - صلى الله عليه وسلم - بأنه إنسان بسيط يسافر كثيرا في الصحراء، ويستمع إلى الخرافات البسيطة السائدة في ذلك الوقت، وقد نقل تلك الخرافات إلى القرآن، وهذا نص ما نشرته الصحيفة المذكورة:

بورقيبة في خطاب بالملتقى الدولي حول الثقافة القرآن متناقض حوى خرافات، مثل قصة أهل الكهف، وعصا موسى؟! عُقد في تونس، أواخر الشهر الماضي، مؤتمر للمدرسين والمربين، لمناسبة الملتقى الدولي حول الثقافة الذاتية، والوعي القومي، وقد ألقى الرئيس بورقيبة - رئيس الجمهورية التونسية، الحالي، والرئيس المرتقب للجمهورية العربية الإسلامية، التي أعلن عن قيامها، على أساس الإسلام بين ليبيا وتونس - خطابا طويلا بالمدرسين نشرته الصحف التونسية على فقرات، وقد تعرّض - الرئيس بورقيبة - لقضايا فكرية هامة، وأجرى عملية نقد جريئة وعلنية لنصوص قرآنية ثابتة، خلص إلى أنها متناقضة، حينا، وخرافية، حينا آخر، وقد نشرت نص الخطاب جريدة "الصباح" التونسية على جزأين في عددين صدرا بتاريخ 20 , 21 من شهر آذار، مارس الماضي، وعد عملت وسائل الإعلام الرسمية على حذف النقاط النافرة في الخطاب، وسنورد النقاط المحذوفة التي سمعت حية من الرئيس التونسي، ثم نورد ما نشرته جريدة "الصباح" حرفيا: 1- إن في القرآن تناقضا لم يعد يقبله العقل بين {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} ، و {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} 2 - الرسول محمد كان إنسانا بسيطا يسافر كثيرا عبر الصحراء العربية، ويستمع إلى الخرافات البسيطة السائدة في ذلك الوقت، وقد نقل تلك الخرافات إلى القرآن، مثال ذلك: عصا موسى، وهذا شيء لا يقبله العقل، بعد اكتشاف باستور، وقصة أهل الكهف. 3 - إن المسلمين وصلوا إلى تأليه الرسول محمد، فهم دائما يكررون محمد - صلى الله عليه وسلم - الله يصلي على محمد -، وهذا تأليه لمحمد، وقد دعى, في ختام خطابه، المربين وأهل التعليم إلى تلقين ما قاله حول الإسلام إلى تلاميذهم.

انتهى المقصود مما ذكرته صحيفة "الشهاب" عن خطاب الرئيس أبي رقيبة، وقد أفزع هذا المقال كل مسلم قرأه أو سمعه لما اشتمل عليه من الكفر الصريح، والجرأة على الله سبحانه وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم- من رئيس دولة تنتسب إلى الإسلام، كان المفروض عليه أن يدافع عن دينه، وعن كتاب ربه، وعن رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - لو سمع مثل هذا المقال، أو ما هو أخف منه من أي أحد، ولكن الأمر كما قال الله سبحانه: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَْبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} , {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} . ولما قرأت هذا المقال في صحيفة "الشهاب" بادرت بإرسال برقية للرئيس المذكور بتاريخ7/4/1394هـ، هذا نصها: فخامة الرئيس الحبيب بورقيبة نشرت صحيفة "الشهاب" بعدد 23/ ربيع الأول /1394 هـ حديثا نسب إليكم غاية في الخطورة، يتضمن الطعن في القرآن الكريم بالتناقض، والاشتمال على الخرافات والطعن في مقام الرسالة المحمدية العظيم. وقد أزعج ذلك المسلمين واستنكروه غاية الاستنكار، فإن كان ذلك قد صدر منكم فالواجب - شرعا - المبادرة إلى التوبة النصوح منه وإعلانها بطرق الإعلان الرسمية، والأوجب إعلان بيان رسمي صريح بتكذيبه واعتقاد خلافه كي يطمئن المسلمون، وتهدأ ثائرتهم من هذه التصريحات الخطيرة. ونسأل الله تعالى أن يوفق الجميع لما فيه الخير والصلاح في الدنيا والآخرة، والتوبة من جميع الآثام , سرها وجهرها، وأن يعز الإسلام وأهله وأوطانه إنه سميع مجيب. رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة عبد العزيز بن عبد الله بن باز

ثم أرسلت برقية مني ومن المشايخ: حسنين محمد مخلوف، وأبي الحسن علي الحسني الندوي، وأبي بكر محمود جومي، والدكتور محمد أمين المصري، وذلك بتاريخ 16/4/1394 هـ، هذا نصها: السيد الحبيب بورقيبة، رئيس الجمهورية التونسية - تونس. نسبت إليكم صحيفة "الشهاب" بعددها الصادر بتاريخ 23/ربيع الأول/ تصريحات مكفّرة لما فيها من الطعن في القرآن الكريم، والمصطفى صلى الله عليه وسلم، ودعوتكم لرجال التعليم لنشرها بين الطلاب. فإن كنتم قد اقترفتموها، فالواجب عليكم المبادرة إلى التوبة والعودة إلى الإسلام، والأوجب عليكم المبادرة إلى التكذيب الصريح، ونشره في العالم بجميع وسائل النشر، وإعلان عقيدتكم الإسلامية الصحيحة في الله تعالى وكتابه ورسوله، تبرئة من الكفر، وتسكينا للفتن، وتطمينا للمسلمين في سائر الدول، وتقريرا لصلاحيتكم لحكم أمة إسلامية عريقة في الإسلام، وإن عدم التكذيب دليل على الإصرار والردة، ومثار فتن لا يعلم عواقبها إلا رب العالمين، تحمل وزرها ووزر من يرتكس فيها إلى يوم الدين، {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} أبو الحسن علي الحسني الندوي عبد العزيز عبد الله بن باز أمين عام ندوة العلماء لكنوا الهند رئيس الجامعة الإسلامية وعضو رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة بالمدينة المنورة أبو بكر محمود جومي الدكتور محمد أمين المصري قاضي قضاة ولايات شمال نيجيريا جامعة الملك عبد العزيز بمكة حسين محمد مخلوف مفتي الديار المصرية سابقا ثم اطلعت على صحيفة "الصباح" التونسية فألفيتها قد ذكرت، في عددها الصادر في 21/مارس/1974م، طبق ما نقلته عنها صحيفة "الشهاب" فيما يتعلق بعصا موسى، وقصة أهل الكهف، كما ألفيتها قد نصّت على منكر شنيع،

في عددها الصادر في 20/مارس/1974م، وقع في خطاب الرئيس المذكور، لم تشر إليه صحيفة الشهاب وهذا نصه: على أني أريد أن ألفت نظركم إلى نقص سأبذل كل ما في وسعي لتداركه، قبل أن تصل مهمتي إلى نهايتها، وأريد أن أشير بهذا إلى موضوع المساواة بين الرجل والمرأة، وهي مساواة متوفرة في المدرسة، وفي المعمل، وفي النشاط الفلاحي، وحتى في الشرطة، لكنها لم تتوفر في الإرث، حيث بقي للذكر حظ الأنثيين، إن مثل هذا المبدأ يجد ما يبرره، عندما يكون الرجل قواما على المرأة، وقد كانت المرأة، بالفعل، في مستوى اجتماعي لا يسمح بإقرار مساواة بينها وبين الرجال، فقد كانت البنت تدفن حية، وتعامل باحتقار , وها هي اليوم تقتحم ميدان العمل، وقد تضطلع بشؤون أشقائها الأصغر منها سنا، فزوجتي - مثلا - هي التي تولّت السهر على شؤون شقيقها المنذر، وتكبدت - من أجل ذلك - كل متاعب العمل الفلاحي، ووفرت له سبل التعلم، وحرصت على تحقيق أمنية والدها الذي كان يرغب في توجيه ابنه نحو المحاماة، فهل يكون، من المنطق، في شيء أن ترث الشقيقة نصف ما يرثه شقيقها في هذه الحالة، فعلينا أن نتوخى طريق الاجتهاد في تحليلنا لهذه المسألة، وأن نبادر بتطوير الأحكام التشريعية، بحسب ما يقتضيه تطور المجتمع، وقد سبق أن حجرنا تعدد الزوجات بالاجتهاد في مفهوم الآية الكريمة، ومن حق الحكام - بوصفهم أمراء المؤمنين - أن يطوروا الأحكام بحسب تطور الشعب، وتطور مفهوم العدل، ونمط الحياة. هكذا في الصحيفة المذكورة، وهذا - إن صحّ صدوره منه - فهو نوع آخر من الكفر الصريح، لأنه زعم أن إعطاء المرأة نصف ما يعطاه الذكر نقص، وليس من المنطق البقاء عليه، بعد مشاركة المرأة في ميدان العمل - كما ذكر - أنه حجر تعدد النساء بالاجتهاد، وأنه يجب تطوير الأحكام الشرعية بالاجتهاد حسب تطور المجتمع، وذكر أن هذا من حق الحكام لكونهم أمراء المؤمنين، وهذا من أبطل الباطل، وهو بتضمن شرا كثيرا، وفسادا عظيما سيأتي التنبيه عليه - إن شاء الله -.

ثم في يوم الأربعاء الموافق 1/5/1394 هـ زارني، في مقر الجامعة الإسلامية بالمدينة، سعادة السفير التونسي لدى المملكة، وسلّم لي رسالة من الوزير مدير الديوان الرئاسي، الشاذلي القليبي، برقم 406 وتاريخ 11/ماي/1974م،وهذا نصها: فضيلة الشيخ السيد عبد العزيز بن عبد الله بن باز، رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة - المملكة العربية السعودية. أما بعد: فأتشرف بإعلامكم أن فخامة الرئيس الجليل قد اطلع على برقيتكم المؤرخة 23/ربيع الأول/1394هـ، وهو إذ يشكر لكم حسن عنايتكم، وقيامكم بالنصيحة لله، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم. يرجو أن لا يغيب عن أذهان سائر إخواننا المسلمين أن الحبيب بورقيبة إنما جاهد فرنسا لإعلاء كلمة الله والوطن، وإرجاع تونس دولة مستقلة، دينها الإسلام، ولغتها العربية، وهو أول بند من بنود دستورها، وما كان ليدور بخلد فخامته الطعن في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا في مقام الرسول الأكرم - عليه أفضل الصلاة والتسليم - وهو الذي نصر الحق بالحق، وهدى إلى الصراط المستقيم وإني أرسل إليكم، صحبة هذا، نص خطاب فخامة الرئيس، بمناسبة المولد النبوي الشريف، حتى تكونوا على بينة من الأمر. نسأل الله تعالى أن يعين الجميع على ما فيه خير الدين والدنيا، وأن يهدينا إلى ما فيه خير أمتنا الإسلامية وصلاحها. وتفضلوا بقبول أزكى تحياتي…. الشاذلي القليبي الوزير مدير الديوان الرئاسي وقد أجبت معاليه بما نصه:

بسم الله الرحمن الرحيم من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة المكرم معالي الوزير مدير الديوان الرئاسي، الشاذلي القليبي وفقه الله لما فيه رضاه. أما بعد: فيسرني أن أذكر لمعاليكم أن رسالتكم رقم 406 وتاريخ 11/ ماي / 1974م قد وصلتني بيد سعادة السفير التونسي لدى المملكة العربية السعودية، وعلمت ما تضمنته من الإفادة عن اطلاع فخامة الرئيس على برقيتي المتضمنة نصيحته بإنكار ما نسب إليه من الطعن في كتاب الله العزيز، وفي مقام الرسول الأمين - صلى الله عليه وسلم - إن كان لم يقع منه ذلك - أو إعلان التوبة، إن كان وقع منه ذلك، كما علمت منها ما ذكرتم عن فخامته من شكري على ما قمت به من واجب النصيحة، ورغبة فخامته في أن لا يغيب عن أذهان سائر المسلمين أن الحبيب بورقيبه إنما جاهد فرنسا لإعلاء كلمة الله والوطن وإرجاع تونس دولة مستقلة، دينها الإسلام، ولغتها العربية، وهو أول بند من بنود دستورها، إلى آخر ما ذكره معاليكم. وإني لأرجو من معاليكم تبليغ فخامته شكري له على ما أبداه من الشكر والمحبة للنصيحة، وما قام به من الجهود الطيبة لصالح تونس وشعبها، وسؤالي المولى - عز وجل - أن يجزيه، عن الجهود التي بذلها في صالح البلاد التونسية وشعبها, خيراً, مع إعلام فخامته بأن ما ذكر لايكفي في إنكار ما نسب إليه - إن كان لم يقع -، كما أنه لا يكفي عن إعلان التوبة بطرق الإعلام الرسمية، إن كان قد وقع، لأن ذلك هو الواجب عليه، ولأن في عدم إعلان ذلك دلالة على وقوعه والإصرار عليه، مع ما في ذلك من الدعاية إلى الكفر والضلال، والتنقص لكتاب الله وللرسول - عليه الصلاة والسلام - وقد علم بالأدلة الشرعية أن المنكر إذا أعلن وجب إنكاره علنا، أو إعلان التوبة منه، إن كان واقعا، كما قال الله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ الآعِنُونَ إِلاَّالَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} ، وليس في إعلان ذلك نقص

على فخامته ولا غضاضة، بل ذلك شرف له، ودليل على إنصافه وعلو همته، وعلى رغبته في إيثار الحق، ولا يخفى أن التمادي في الباطل نقص ورذيلة، وأن الرجوع إلى الحق وإعلانه شرف وفضيلة، بل فريضة من أهم الفرائض، ولا سيما مثل هذا المقام الذي يترتب عليه كفر وإسلام، وقد يقتدي به في ذلك الكفر غيره فيكون عليه مثل آثامه كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم-: " من دعى إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعى إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا "، ولأن في عدم إعلان التكذيب أو التوبة تأييدا للطاعنين في الإسلام، وسيرا في ركابهم، ومشاركة لهم في الجريمة، وإني أربأ بفخامته أن يصرّ على أمر يغضب الله ورسوله، ويخرجه من دائرة الإسلام، إن كان قد وقع منه، ويجرئ أعداء الإسلام على النيل من حماه، والطعن في دستوره. وقد اطلعت، أخيرا، على صحيفة "الصباح" التونسية فوجدتها تن، في عددها الصادر في 20/مارس/1974م، على تصريح خطير للرئيس، لم تشر إليه صحيفة "الشهاب"، مضمونه اعتبار إعطاء المرأة نصف حظ الذكر، في الميراث، نقصا ليس من المنطق البقاء عليه، بعد مشاركة المرأة في ميدان العمل، كما يتضمن التصريح بأنه قد حجر تعدد النساء، بالاجتهاد، وأنه يجوز للحكام تطوير الأحكام بالاجتهاد، حسب تطور المجتمع، لكونهم أمراء المؤمنين، وهذا منكر شنيع، وكفر صريح لما فيه من الطعن في القرآن، واتهامه بأن بعض أحكامه لا تناسب تطور المجتمع، وهو مخالف لإجماع أهل العلم، لكونهم قد أجمعوا على أن الاجتهاد إنما يكون في المسائل الفرعية التي لا نص فيها، أما الأحكام الشرعية التي نص عليها القرآن الكريم، أو السنة الصحيحة كإعطاء الزوجة والأنثى، من الأولاد والأخوة لأبوين أو لأب في الميراث، نصف الذكر وكتعدد النساء، فإنه لا مجال للاجتهاد في ذلك، لأن الله - سبحانه - هو الذي شرع الأحكام وفصلها، وهو العالم بأحوال عباده، وبما تتطور إليه مجتمعاتهم، والحكام ليس لهم تغيير الأحكام، وإنما الذي إليهم تنفيذها وإلزام الرعايا بمقتضاها لقول الله، سبحانه، يخاطب نبيه - صلى الله عليه وسلم -: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ

الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} , إلى أن قال سبحانه: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} . فأرجو تبليغ الرئيس ما ذكرته، وأن عليه تكذيب هذا الخبر - إن كان لم يصدر منه - أو إعلان التوبة، إن كان قد صدر منه، كالمطاعن الأخرى التي سبق أن أبرقت أنا وبعض العلماء لفخامته في شأنها، وقد كتبت، في هذه المسائل، مقالا مفصلا إليكم نسخة منه لإطلاع الرئيس عليه. والله المسؤول أن يهدينا، جميعا، صراطه المستقيم، وأن لا يزيغ قلوبنا عن الهدى، كما أسأله - عز وجل - أن يهدي فخامته للحق، وأن يعينه على تنفيذه وأن يرزقنا وإياه وسائر المسلمين إيثار الآخرة والعمل لها على الحظ الأدنى، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وتفضلوا بقبول تحياتي…. رئيس الجامعة الإسلامية

بيان الأدلة على كفر من طعن في القرآن وفي الرسول صلى الله عليه وسلم

بيان الأدلة على كفر من طعن في القرآن وفي الرسول صلى الله عليه وسلم ... بيان الأدلة على كفر من طعن في القرآن أو في الرسول - عليه الصلاة والسلام - إذا علم ما تقدم، فإن الواجب الإسلامي والنصيحة لله ولعباده، كل ذلك، يوجب علينا بيان حكم الإسلام فيمن طعن في القرآن بأنه متناقض، أو مشتمل على بعض الخرافات، وفيمن طعن في الرسول، صلى الله عليه وسلم - بأي نوع من أنواع الطعن غيرة لله سبحانه، وغضبا له - عز وجل - وانتصارا لكتابه العزيز، ولرسوله الكريم، وأداء لبعض حقه علينا، سواء كان ما ذكر، عن الرئيس المذكور، واقعا أم كان غير واقع، وسواء أعلن إنكاره له، أو التوبة منه، أم لم يعلن ذلك، إذ المقصود بيان حكم الله فيمن أقدم على شيء مما ذكرنا من التنقص لكتاب الله، أو لرسوله - صلى الله عليه وسلم - فنقول: قد دلّ كتاب الله، عزّ وجلّ، وسنة رسوله، عليه الصلاة والسلام، وإجماع الأمة على أن كتاب الله، سبحانه، محكم غاية الإحكام، وعلى أنه، كله، كلام الله - عزّ وجلّ - ومنزل من عنده، وليس فيه شيء من الخرافات والكذب، كما دلت الأدلة المذكورة على وجوب تعزير الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتوقيره، ونصرته، ودلت - أيضا - على أن الطعن، في كتاب الله أو في جناب الرسول - صلى الله عليه سلم - كفر أكبر، وردة عن الإسلام، وإليك - أيها القارئ الكريم - بيان ذلك. قال الله تعالى في أول سورة يونس: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} ، وقال في أول سورة هود: {ألر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} ، وقال عز وجل - في أول سورة لقمان: {الم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} ، وذكر علماء التفسير - رحمهم الله - في تفسير هذه الآيات، أن معنى ذلك أنه متقن الألفاظ والمعاني، ومشتمل على الأحكام العادلة، والأخبار الصادقة، والشرائع المستقيمة، وأنه الحاكم بين العباد فيما يختلفون فيه، كما قال الله سبحانه: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيه} الآية، وقال

سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} الآية.. فكيف يكون محكم الألفاظ والمعاني، وحاكما بين الناس وهو متناقض مشتمل على بعض الخرافات، وكيف يكون محكما وموثوقا به إذا كان الرسول الذي جاء به إنسانا بسيطا لا يفرق بين الحق والخرافة، فعلم بذلك أن من وصف القرآن بالتناقض أو بالاشتمال على بعض الخرافات، أو وصف الرسول - صلى الله عليه وسلم - بما ذكرها فإنه متنقص لكتاب الله، ومكذب لخبر الله، وقادح في رسول الله، صلى الله عليه وسلم،- إن كان مسلما قبل أن يقول هذه المقالة-، وقال الله سبحانه، في أول سورة يوسف: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} ، وقال سبحانه، في سورة الزمر: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ} الآية، ومعنى {مُتَشَابِهاً} في هذه الآية - عند أهل العلم - يشبه بعضه بعضا، ويصدّق بعضه بعضا فكيف يكون بهذا المعنى، وكيف يكون أحسن الحديث وأحسن القصص وهو متناقض، مشتمل على بعض الخرافات، سبحانك هذا بهتان عظيم. وصح عن رسول الله صلى الله عليه سلم أنه كان يقول في خطبه: أما بعد: " فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد، صلى الله عليه سلم " فمن طعن في القرآن، بما ذكرنا أو غيره من أنواع المطاعن فهو مكذب لله عز وجل في وصفه لكتابه بأنه أحسن القصص وأحسن الحديث، ومكذب للرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: "إنه خير الحديث"، وقال سبحانه وتعالى في وصف القرآن الكريم: {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، وقال: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} ، وقال: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} , وقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ، وقال: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} إلى أمثال هذه الآيات الكثيرة في كتاب الله، فمن زعم أنه متناقض أو مشتمل على بعض الخرافات التي أدخلها فيه الرسول صلى الله عليه وسلم

مما تلقاه عن بادية الصحراء أو غيرهم، فقد زعم أن بعضه غير منزل من عند الله وأنه غير محفوظ، كما أنه، بذلك، قد وصف الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه كذب على الله وأدخل في كتابه ما ليس منه، وهو - مع ذلك - يقول للناس: إن القرآن كلام الله، وهذا غاية في الطعن في الرسول صلى الله عليه وسلم ووصفه بالكذب على الله وعلى عباده، وهذا من أقبح الكفر والضلال والظلم، كما قال الله سبحانه: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ} ، وقال عز وجل: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} الآية، وقال تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تسْتَهْزِئُونَ، لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} الآية. ذكر علماء التفسير - رحمهم الله - أن هذه الآية نزلت في جماعة كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، قال بعضهم: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا، ولا أكذب ألسنا، ولا أجبن عند اللقاء. وقال بعضهم: أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضا، والله لكأنا بكم غدا مقرنين في الحبال. وقال بعضهم: يظن هذا أن يفتح قصور الروم وحصونها، هيهات هيهات، فأنزل الله قوله، سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} الآية، فجاءوا إلى الرسل صلى الله عليه وسلم يعتذرون ويقولون: إنما كنا نخوض ونلعب، ونتحدث حديث الركب نقطع به عنا الطريق، فلم يعذرهم، بل قال لهم - عليه الصلاة والسلام: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} ، فإذا كان هذا الكلام، الذي قاله هؤلاء، يعتبر استهزاء بالله وآياته، ورسوله، وكفرا بعد إيمان، فكيف بحال من قال في القرآن العظيم: إنه متناقض أو مشتمل على بعض الخرافات، أو قال في الرسول صلى الله عليه وسلم إنه إنسان بسيط لا يميّز بين الحق والخرافة، لا شك أن من قال هذا هو أقبح استهزاء، وأعظم كفرا.

ذكر كلام العلماء فيمن طعن في القرآن والرسول

ذكر كلام العلماء فيمن طعن في القرآن والرسول ... ذكر كلام العلماء فيمن طعن في القرآن الكريم، أو الرسول عليه أفضل الصلاة والتسليم أو استهزأ بما، أو سب الله أو الرسول صلى الله عليه وسلم: قال الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي في تفسيره - الجامع لأحكام القرآن - عند تفسير هذه الآية ما نصه: " قال القاضي أبو بكر ابن العربي: لا يخلو أن يكون ما قالوه في ذلك - جداً أو هزلاً - وهو كيف ما كان كفر، فإن الهزل بالكفر كفر لا خلاف فيه بين الأمة" انتهى المقصود. وقال القاضي عياض بن موسى- رحمه الله- في كتابه "الشفاء بتعريف حقوق المصطفى" ص/325/ ما نصه: "واعلم أن من استخف بالقرآن أو المصحف، أو بشيء منه، أو سبهما أو جحده أو حرفا منه أو آية، أو كذب به أو بشيء مما صرح به فيه من حكم، أو خبر أو أثبت ما نفاه، أو نفى ما أثبته على علم منه بذلك، أو شك في شيء من ذلك فهو كافر عند أهل العلم بإجماع، قال الله تعالى: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌلا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} " انتهى المقصود. وقال القاضي عياض - أيضا - في كتابه المذكور في حكم سب النبي - صلى الله عليه وسلم - ص/233/ ما نصه: " اعلم، وفقنا الله وإياك، أن جميع من سب النبي - صلى الله عليه وسلم - أو عابه، أو ألحق نقصا في نفسه أو نسبه أو دينه أو خصلة من خصاله أو عرّض به، أو شبهه بشيء، على طريق السب له أو الإزراء عليه، أو التصغير لشأنه، أو الغض منه والعيب له، فهو ساب له، والحكم فيه حم الساب، يقتل - كما نبينه -، ولا نستثني فصلا من فصول هذا الباب على هذا المقصد، ولا نمتري فيه تصريحا أو تلويحا، وكذلك من لعنه أو دعا عليه أو تمنى له أو نسب إليه ما لا يليق بمنصبه، على طريق الذم، أو عبث في جهته العزيزة بسخف من الكلام وهجر ومنكر من القول وزور، أو عيّره بشيء مما جرى من البلاء أو المحنة عليه، أو غمصه ببعض العوارض البشرية الجائزة، والمعهودة لديه، وهذا كله إجماع العلماء وأئمة الفتوى من

لدن الصحابة - رضوان الله عليهم إلى هلم جرا ". قال أبو بكر بن المنذر: أجمع عوام أهل العلم على أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم يقتل، وممن قال ذلك مالك بن أنس، والليث، وأحمد، واسحاق وهو مذهب الشافعي. انتهى. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- في كتابه (الصارم المسلول على شاتم الرسول) ص/3/ما نصه: " المسألة الأولى: أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم من مسلم وكافر، فإنه يجب قتله، هذا مذهب عليه عامة أهل العلم، ثم نقل كلام أبي بكر بن المنذر - المتقدم ذكره في كلام القاضي عياض - ثم قال شيخ الإسلام - رحمه الله - ما نصه: وقد حكى أبو بكر الفارسي، من أصحاب الشافعي، إجماع المسلمين على أن حدّ من سب النبي - صلى الله عليه وسلم - القتل، كما أن حد من سب غيره الجلد، وهذا الإجماع الذي حكاه هذا، محمول على إجماع الصدر الأول من الصحابة والتابعين أو أنه أراد به إجماعهم على أن ساب النبي - صلى الله عليه وسلم - يجب قتله، إذا كان مسلما، وكذلك قيده القاضي عياض فقال: أجمعت الأمة على قتل متنقصه من المسلمين، وسابّه، وكذلك حكى عن غير واحد الإجماع على قتله وتكفيره، وقال الإمام إسحاق بن راهويه - أحد الأئمة الأعلام - رحمه الله -: أجمع المسلمون على أن من سب الله، أو سب رسوله - صلى لله عليه وسلم -، أو دفع شيئا مما أنزل الله - عز وجل - أو قتل نبيا من أنبياء الله - عز وجل - أنه كافر بذلك، وإن كان مقرا بكل ما أنزل الله، قال الخطابي - رحمه الله -: لا أعلم أحدا من المسلمين اختلف في وجوب قتله، وقال محمد بن سحنون: أجمع العلماء على أن شاتم النبي صلى الله عليه وسلم والمتنقص له كافر، والوعيد جاء عليه بعذاب الله له، وحكمه - عند الأمة - القتل، ومن شك في كفره وعذابه كفر، ثم قال شيخ الإسلام أبو العباس - رحمه الله -: وتحرير القول فيه أن الساب - إن كان مسلما - فإنه يكفر ويقتل بغير خلاف، وهو مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم، وقد تقدم ممن حكى الإجماع على ذلك إسحاق ابن راهويه وغيره، ثم ذكر الخلاف فيما إذا كان الساب ذميا، ثم ذكر - رحمه الله- في آخر الكتاب، ص/512/ ما نصه:

" المسألة الرابعة في بيان السب المذكور، والفرق بينه وبين مجرد الكفر، وقبل ذلك لا بد من تقديم مقدمة، وقد كان يليق أن تذكر في أول المسألة الأولى، وذكرها هنا مناسب - أيضا - لنكشف سر المسألة، وذلك أن نقول: إن سب الله، أو سب رسوله - صلى الله عليه وسلم - كفر ظاهرا وباطنا، سواء كان الساب يعتقد أن ذلك محرم أو كان مستحلا له، أو كان ذاهلا عن اعتقاده، هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول وعمل " إلى أن قال - رحمه الله - في ص/538/ ما نصه: " التكلم في تمثيل سب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكر صفته ذلك مما يثقل على القلب واللسان، ونحن نتعاظم أن نتفوه بذلك ذاكرين، لكن، للاحتياج إلى الكلام في حكم ذلك، نحن نفرض الكلام في أنواع السب مطلقا من غير تعيين، والفقيه يأخذ حظه من ذلك، فنقول: السب نوعان: دعاء وخبر، فأما الدعاء فمثل أن يقول القائل لغيره، لعنه الله أو قبحه الله أو أخزاه الله، أو لا رحمه الله أو لا رضي الله عنه أو قطع الله دابره، فهذا وأمثاله سب للأنبياء ولغيرهم وكذلك لو قال عن نبي لا صلى الله عليه أو لا سلم , أو لا رفع الله ذكره ,أومحى الله اسمه ونحو ذالك من الدعاء عليه , بما فيه ضرر عليه في الدنيا أو في الدين أو في الآخرة، فهذا كله، إذا صدر من مسلم أو معاهد فهو سب، فأما المسلم فيقتل به، بكل حال، وأما الذمي فيقتل بذلك إذا أظهره". إلى أن قال - رحمه الله - ص540: النوع الثاني: الخبر، فكل ما عده الناس شتما، أو سبا أو تنقصا، فإنه يجب به القتل - كما تقدم - فإن الكفر ليس مستلزما للسب، وقد يكون الرجل كافرا ليس بساب، والناس يعلمون علما عاما أن الرجل قد يبغض الرجل ويعتقد فيه العقيدة القبيحة ولا يسبه، وقد يضم إلى ذلك مسبة، وإن كانت المسبة مطابقة للمعتقد، فليس كل ما يحتمل عقدا يحتمل قولا، ولا ما يحتمل أن يقال سرا يحتمل أن يقال جهرا، والكلمة الواحدة تكون في حال سبا، وفي حال ليست بسب، فعلم أن هذا يختلف باختلاف الأقوال والأحوال، وإذا لم يكن للسب حد معروف في اللغة ولا في الشرع، فالمرجع فيه إلى عرف الناس، فما كان في العرف سبا للنبي فهو الذي يجب أن ننزل عليه كلام الصحابة والعلماء، ومالا فلا. انتهى المقصود.

كشف الشبه المذكورة في الخطاب المنسوب إلى أبو رقيبة

كشف الشبه المذكورة في الخطاب المنسوب إلى أبو رقيبة ... كشف الشبه المذكورة في الخطاب المنسوب إلى الرئيس أبي رقيبه: وقع في خطاب المنسوب إلى الرئيس التونسي ستة أمور شنيعة: الأول: القول بتناقض القرآن، وقد مثل لذلك بقوله تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} ، وقوله - عز وجل -: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} . الثاني: إنكار قصة عصا موسى، وقصة أهل الكهف، والتصريح بأنهما من الأساطير. الثالث: أن الرسول محمدا - عليه الصلاة والسلام - كان إنسانا بسيطا يسافر كثيرا عبر الصحراء العربية ويستمع إلى الخرافات البسيطة، السائدة في ذلك الوقت، وقد نقل تلك الخرافات إلى القرآن، مثال ذلك عصا موسى، وقصة أهل الكهف. الرابع: إنكار إعطاء المرأة نصف ما يعطى الذكر، في الميراث، وزعمه أن ذلك ليس من المنطق، وأنه نقص يجب البدار إلى إزالته، لأنه لا يناسب تطور المجتمع وذكر أنه ينبغي للحكام أن يطوروا الأحكام، حسب تطور المجتمع. الخامس: إنكار تعدد النساء وحجره ذلك على الشعب التونسي، لأنه لا يناسب تطور المجتمع. السادس: قوله: إن المسلمين وصلوا إلى تأليه الرسول محمد، فهم دائما يكررون محمد - صلى الله عليه وسلم -، الله يصلي على محمد، وهذا تأليه لمحمد. انتهى. ونحن - إن شاء الله - نبين بطلان ما ذكره في هذه الأمور الستة، ونكشف الشبه بالأدلة القاطعة، وإن كان الأمر في ذلك واضحا، بحمد الله، لكل من له أدنى بصيرة، ولكن مقصودنا من ذلك إنكار هذا المنكر وإيضاح الحق لمن قد تروج عليه بعض هذه الشبه ويحار في ردها، والله المستعان.

فنقول: أما قوله: إن القرآن متناقض، فهذا من أقبح المنكرات، ومن الكفر الصريح - كما سبق بيانه - لأنه تنقص للقرآن، وسب له، لأن السب هو التنقص للمسبوب ووصفه بما لا يليق، وقد بينا - فيما مضى بالأدلة القاطعة - أن القرآن بريء من ذلك، وأنه، بحمد الله، في غاية الإحكام والإتقان، كما قال الله سبحانه، {ِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِير} وقال: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عزُيزٌ لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} وقال - عز وجل -: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} إلى غير ذلك من الآيات السابقات الدالة على إحكامه وإتقانه، وأنه أحسن الحديث، وأحسن القصص، وتقدم ذكر إجماع العلماء على ذلك، وعلى كفر من تنقصه أو جحد شيئا منه، أما الآيتان المذكورتان وما جاء في معناهما من الآيات الدالة على إثبات القدر، وعلى تعليق المسببات بأسبابها فليس بينها تناقض، وإنما أتى من زعم ذلك من جهة فساد فهمه، ونقص علمه، كما قال الشاعر: وكم من عائب قولاً صحيحاً ... وآفته من الفهم السقيم وقد أجمع، كل من لديه علم وإنصاف وبصيرة باللغة العربية من علماء الإسلام، وخصومه، أن كتاب الله في غاية من الإحكام والإتقان، وأنه خير كتاب وأفضل كتاب، وأنه لم ينزل كتاب أفضل منه، لما اشتمل عليه من العلوم النافعة والأحكام العادلة، والأخبار الصادقة، والشرائع القويمة، والأسلوب البليغ المقنع، كما قال الله سبحانه: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} أي صدقا في الأخبار، وعدلا في الشرائع والأحكام، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} الآية.. قال العلماء: الهدى: هو ما فيه من العلوم النافعة والأخبار الصادقة، ودين الحق: هو ما فيه من الشرائع القويمة والأحكام الرشيدة، إذا علم هذا فالجمع بين الآيتين المذكورتين وما جاء في معناهما هو أن الله، سبحانه، قد قدّر مقادير الخلائق، وعلم ما مهم عاملون، وقدر أرزاقهم وآجالهم، وكتب ذلك كله لديه، كما قال تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} الآية، وقال سبحانه: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي

السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} ، وقال سبحانه: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} ، والآيات في هذا المعنى كثيرة، وفي الصحيحين عن علي - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار، فقالوا: يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل، فقال - صلى الله عليه وسلم -: اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما من كان من أهل السعادة فييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة فييسر لعمل أهل الشقاوة ثم قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} ، وفي صحيح مسلم عن عمر بن الخطاب، وأبي هريرة - رضي الله عنهما - أن جبريل سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان، فقال- عليه الصلاة والسلام -: "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره"، هذا لفظ عمر، ولفظ أبي هريرة: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتابه، ولقائه ورسله، وتؤمن بالبعث وتؤمن بالقدر كله" وفي صحيح مسلم - أيضا - عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه على الماء". وفي صحيح مسلم - أيضا - عن عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كل شيء بقدر حتى العجز والكيس" والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وفي هذه الآيات والأحاديث الدلالة على أن الله، سبحانه، قد قدر الأشياء وعلمها وكتبها، وأن الإيمان بذلك أصل من أصول الإيمان الستة التي يجب على كل مسلم الإيمان بها، ويدخل في ذلك أنه، سبحانه، خلق الأشياء كلها، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، كما قال - عز وجل -: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} ، وقال سبحانه: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} ، وقال سبحانه: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إَِّلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} ، فعلمه، سبحانه،

محيط بكل شيء، وقدرته شاملة لكل شيء، كما قال سبحانه: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} وهو، مع ذلك سبحانه، قد أعطى العباد العقول والأسماع والأبصار والأدوات التي يستطيعون بها أن يفعلوا ما ينفعهم، ويتركوا ما يضرهم، وأن يعرفوا بها الضار والنافع، والخير والشر، والضلال والهدى، وغير ذلك من الأمور التي مكنّ الله العباد من إدراكها بعقولهم وأسماعهم وأبصارهم، وسائر حواسهم، وجعل لهم، سبحانه، عملا واختيارا ومشيئة، وأمرهم بطاعته ونهاهم عن معصيته وأمرهم بالأسباب، ووعدهم على طاعته الثواب الجزيل في الدنيا والآخرة، وعلى معاصيه العذاب الأليم، فهم يعملون ويكدحون وتنسب إليهم أعمالهم وطاعاتهم ومعاصيهم لأنهم فعلوها بالمشيئة واختيار، كما قال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} , {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} ، {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} ، وقال سبحانه: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} الآيات. وقال سبحانه: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} ، وقال سبحانه: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلاً} والآيات في هذا المعنى كثيرة وفي الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك مالا يحصى ولكنهم، مع ذلك، لا يخرجون عن مشيئة الله بهذه الأعمال وإرادته الكونية، كما قال عز وجل: {كلاََّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} ، وقال سبحانه: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} وقال - عز وجل-: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} ، وبما ذكرنا من هذه الآيات يتضح معنى قوله سبحانه: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} وقوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} ، فالآية الأولى دلت على أن جميع ما يصيب العباد، مما يحبون ويكرهون، كله مكتوب عليهم، ودلت الثانية على أن الله سبحانه قد رتّب على أعمال العباد وما يقع

منهم من الأسباب، مسبباتها وموجباتها، فالمؤمن، عند المصيبة، يفزع إلى القدر فيطمئن قلبه، وترتاح نفسه به لإيمانه بأن الله سبحانه، قد قدر كل شيء، وأنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له، ويحارب الهموم والغموم والأوهام، ويصبر ويحتسب رجاء ما وعد الله به الصابرين بقوله سبحانه: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} ، ولا يمنعه ذلك من الأخذ بالأسباب والقيام بما أوجب الله عليه، وتركه ما حرم الله عليه عملاً بقول الله عز وجل: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} الآية.. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجزن، فإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت لكان كذا وكذا، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل، فإن {لو} تفتح عمل الشيطان" خرجه مسلم في صحيحه، وبذلك يستحق المدح والثناء والثواب العاجل والآجل، على أعماله الطيبة وأخذه بالأسباب النافعة، وابتعاده عن كل ما يضره ويستحق الذم والوعيد، وأنواع العقوبات، في الدنيا والآخرة، على ما يفعله من المعاصي والمخالفات، وعلى تفريطه في الأخذ بالأسباب وعدم إعداده لعدوه ما يستطيع من القوة، وقد جرت سنة الله في عباده أنهم إذا استقاموا على دينه وتباعدوا عن أسباب غضبه، وجاهدوا في سبيله، أنه ينصرهم على عدوهم، ويجمع كلمتهم ويجعل لهم العاقبة الحميدة، كما قال، سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} ، وقال سبحانه: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} ، وقال عز وجل: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} ، وقال سبحانه: {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} أما إذا ضيعوا أمره وتابعوا الأهواء واختلفوا بينهم، فإن الله سبحانه، يغير ما بهم، من عز واجتماع كلمة، ويسلط عليهم الأعداء، ويصيبهم بأنواع العقوبات من القتل والخوف ونقص الأموال والأنفس والثمرات، وغير ذلك جزاءاً وفاقاً وما ربك بظلام للعبيد، وهذا هو معنى قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا

بِأَنْفُسِهِمْ} والمعنى: أنه سبحانه، لا يغير ما بالعباد، من عز ورغد عيش واتحاد كلمة وغير ذلك من صنوف النعم، إلا إذا غيروا ما بأنفسهم، من طاعة الله والاستقامة على دينه والأخذ بالأسباب النافعة وإعداد المستطاع من القوة، والقيام بالجهاد، فإذا فعلوا ذلك غير الله ما بهم، فصاروا بعد العزة أذلة، وبعد الاجتماع والاتحاد متفرقين ومختلفين، وبعد رغد العيش وأمن السبل إلى فقر وحاجة واختلال أمن، إلى غير ذلك من أنواع العقوبات، وهذا هو معنى قوله عز وجل في الآية الأخرى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} فإذا تابوا إلى الله سبحانه، وبادروا إلى الأعمال الصالحات والأخذ بالأسباب الشرعية والحسية وأعدوا لعدوهم ما استطاعوا من القوة وجاهدوا في الله حق جهاده، أعطاهم الله العزة بعد الذلة، والقوة بعد الضعف، والاتحاد بعد الاختلاف، والغنى بعد الفقر، والأمن بعد الخوف، إلى غير ذلك من أنواع النعم، وكما أن النصوص من الكتاب والسنة، قد دلت على ما ذكرنا، فالواقع التاريخي شاهد بذلك، ومن تأمل أحوال هذه الأمة، في ماضيها وحاضرها، وما جرى عليها من أنواع التغير والاختلاف عرف ما ذكرنا واتضح له معنى الآيتين، وأوضح شاهد على ذلك ما جرى لصدر هذه الملة من العز، والتمكين والنصر على الأعداء بسبب قيامهم بأمر الله وتعاونهم على البر والتقوى وصدقهم في الأخذ بالأسباب النافعة وجهاد الأعداء، فلما غيروا غير عليهم، وفي واقعة بدر، وأُحد شاهد لما ذكرنا، فإن المسلمين لما صدقوا مع نبيهم صلى الله عليه وسلم في جهاد العدو، يوم بدر نصرهم الله مع قلتهم وكثرة عدوهم، وصارت الدائرة على الكافرين، ولما أخل الرماة، يوم أحد، بموقفهم وفشلوا وتنازعوا وعصوا نبيهم صلى الله عليه وسلم في أمره لهم بلزوم موقفهم جرى ما جرى من الهزيمة، وقتل سبعين من المسلمين، وجرح عدد كثير منهم، ولما استنكر المسلمون ذلك واستغربوه أنزل الله في ذلك قوله سبحانه: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فإذا كان خير الأمة وأفضلهم وفيهم سيد الخلق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إذا غيروا غير

عليهم، فكيف بغيرهم من الناس، لا شك أن غيرهم من باب أولى أن يغير عليه إذا غير، وهم, في ذلك كله, لم يخرجوا عن قدر الله، سبحانه، وما كتبه عليهم لقوله عز وجل: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} الآية.. وقوله: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} وبهذا يتضح - لطالب الحق- معنى قوله، سبحانه،: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} وقوله، سبحانه: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} الآية، ويعلم أن كلا منهما حق ليس بينهما تناقض، مع العلم بأن الله عز وجل قد يبتلي عباده المؤمنين بالسراء والضراء ليمتحن صبرهم وجهادهم وليكونوا أسوة لغيرهم، ثم يجعل لهم العاقبة كما قال، سبحانه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} وقال سبحانه: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} والآيات في هذا المعنى كثيرة. وأما الثاني والثالث من الأمور المنكرة التي وقعت في خطاب المنسوب إلى الرئيس أبي رقيبه، التي أسلفنا ذكرها، فهما زعمه أن قصة عصا موسى، وقصة أهل الكهف من الأساطير، ومن الخرافات التي نقلها الرسول صلى الله عليه وسلم إلى القرآن، لأنه عليه الصلاة والسلام في زعم هذا القائل كان إنسانا بسيطا يسافر في الصحراء العربية، ويستمع إلى الخرافات البسيطة السائدة في ذلك الوقت التي منها بزعمه القصتان المذكورتان. ولا ريب أن هذا الكلام الشنيع مما يثقل على القلب واللسان ذكره، لما اشتمل عليه من أنواع الكفر الصريح، والردة الكبرى عن الإسلام - كما تقدم بيان ذلك، ونقل الإجماع عليه-، ولكن لمسيس الحاجة إلى كشف شبهة قائله، اضطررنا إلى نقله وكتابته، وشبهته، فيما افتراه، من هذا الزعم الباطل، هي أن هاتين القصتين لا يقبلهما العقل، لكون العصا جماداً لا تقبل الحياة، ولأن نوم أهل الكهف طويل جداً، وهذه الشبهة باطلة من وجوه، الأول: أن العقل

لا مجال له في هذا المقام، وإنما الواجب، على جميع العقلاء، التصديق بما أخبر الله به ورسوله واتباعه، وعدم التكذيب بشيء منه، وليس لأحد أن يحكّم عقله في الإيمان ببعض المنزل وإنكار بعضه، لقول الله، سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} الآية.. وقوله سبحانه: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} وقال - عز وجل-: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} ، وقد أثنى الله، سبحانه، على الرسول والمؤمنين بالتصديق بما أنزل إليهم من ربهم، ووصف المتقين بذلك وأخبر أنهم هم أهل الهدى والفلاح، فقال سبحانه: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} ، وقال سبحانه: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ، وحكم سبحانه على من آمن ببعض وكفر ببعض بأنه هو الكافر - حقا -، فقال تعالىـ {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً} ، وأنكر؛ سبحانه، على اليهود هذا التفريق وتوعدهم عليه، فقال - سبحانه -: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُون} . الوجه الثاني: أن الله سبحانه، لا أصدق منه، وهو العالم بكل ما كان وما سيكون، وكتابه هو أحسن الحديث، وأحسن القصص، وقد ضمن حفظه وأخبر أنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، كما قال - عز وجل -: {اللَّهُ لا إِلَهَ إلا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً} ، وقال تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} وقال سبحانه: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ

الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً} الآية، ومعنى قوله {مُتَشَابِهاً} في هذه الآية: يشبه بعضه بعضا، ويصدق بعضه بعضا - كما سبق بيان ذلك - وقال - جل وعلا -: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ} الآية.. وقال سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيز لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} وقال تعالى: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} فكيف يجوز - بعد هذا - لأحد من الناس أن يُحكّم عقله في التصديق ببعض الكتاب، والكفر ببعضه، ثم الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو أصدق الناس وأعلمهم بما أنزل عليه، وأكملهم عقلاً وأزكاهم نفساً - بالنص والإجماع - وقد وصفه الله سبحانه، بأزكى الصفات وأفضلها، وأخبر أنه لا ينطق عن الهوى، كما قال - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} وقال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} وقال سبحانه: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} الآيات، وقد أجمع العلماء على أنه - عليه الصلاة والسلام - وجميع المرسلين، معصومون في كل ما يبلغونه عن الله - عز وجل - من الكتب والشرائع، وقد توعده الله سبحانه بالوعيد الشديد لو تقول عليه ما لم يقل، فقال - سبحانه -: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} وقد حماه الله من ذلك وصانه وحفظه ونصره وأيده حتى بلّغ الرسالة أجمل تبليغ، وأدى الأمانة أكمل أداء، فكيف - بعد هذا كله - يجوز لأحد من الناس أن ينكر شيئا مما جاء به - عليه الصلاة والسلام - من كتاب الله العظيم وشرعه الحكيم، ويزعم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أدخل في كتاب الله ما ليس منه، سبحانك هذا بهتان عظيم، وكفر صريح عامل الله قائله بما يستحق. الوجه الثالث: أن وظيفة العقول هي التدبر للمنزل، والتعقل لما دل عليه من المعنى بقصد الاستفادة والعمل والاتباع، كما قال الله سبحانه: {كِتَابٌ

أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ} ، وقال سبحانه: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} أما تحكيمها في الإيمان ببعض المنزل ورد بعضه فهو خروج بها عن وظيفتها، وتجاوز لحدودها، وعدوان من فاعل ذلك - كما سبق بيانه-. الوجه الرابع: أن العقول الصحيحة الصريحة لا تخالف المنقول الصحيح ولا تضاده، لأن الرسل- عليهم الصلاة والسلام- لا يأتون بما تحيله العقول الصحيحة، ولكن قد يأتون بما تحار فيه العقول لقصورها وضعف إدراكها، فيجب عليها أن تسلم للصادق الحكيم العليم بكل شيء، خبره وحكمه، وأن تخضع لذلك وتؤمن به، وقصة عصا موسى، وقصة أهل الكهف ليستا مما تحيله العقول، لأن قدرة الله، سبحانه عظيمة، وشاملة، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، كما قال سبحانه: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً} ، وقال سبحنه: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} ، ولما سبق من الآيات الكثيرات، في هذا المعنى، وقد جعل الله هذه العصا معجزة باهرة لرسوله وكليمه موسى - عليه الصلاة والسلام- وأيده بها على عدوه فرعون ليقيم الحجة عليه وعلى قومه، فكانت من الآيات العظيمة التي خرق الله بها العادة من أجل تأييد الحق، وإبطال ما جاء به السحرة من السحر العظيم الذي سحروا به أعين الناس، واسترهبوهم، فلقفت هذه العصا في صورة ثعبان عظيم، جميع حبالهم وعصيهم، وعرف السحرة أن هذا شيء من عند الله لا طاقة لمخلوق به، فآمنوا برب موسى وهارون وخروّا لله سجداً، كما قال سبحانه وتعالى في سورة الأعراف: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} ، ولأنه قد ثبت، بالنقل المعصوم والمشاهد المعلوم، ما هو من جنس قصة عصا موسى أو أعجب منها، فأما النقل المعصوم فهو ما ذكره الله، سبحانه، في قصة آدم والجان، وأن الله - عز وجل - خلق آدم من الطين، من صلصال كالفخار، وخلق الجان من مارج من نار، ثم نفخ في آدم من روحه، والطين

جماد كالعصا، ولما نفخ الله فيه الروح صار إنساناً عاقلاً سميعاً بصيراً، وهكذا النار جماد محرق وقد خلق الله منها الجان وجعله سميعاً بصيراً، فالذي قدر على ذلك هو الذي جعل في عصا موسى الحياة حتى صارت بذلك حية تسعى، ولقفت ما ألقاه السحرة من العصي والحبال، وربك على كل شيء قدير، أما المشاهد المعلوم فجميع بني آدم كلهم مخلوقون من ماء مهين، كما قال الله - عز وجل - في سورة السجدة: {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الأِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} ، وهذا الماء هو النطفة المتكوّنة من ماء الرجل وماء المرأة، ثم تكون - بعد ذلك - علقة، ثم مضغة وهي في أطوارها الثلاثة جماد، ثم ينفخ الله فيها الروح فتكون، بعد ذلك خلقاً آخر حياً ذا سمع وبصر وعقل، كما قال الله سبحانه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} ففي خلق آدم وذريته آيات بينات على قدرة الخالق، سبحانه، وأنه على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم، وأنه - سبحانه - لا يعجزه شيء، ومن المشاهد المعلوم - أيضاً - البيضة، فإنها مخلوق جماد، ثم يجعل الله في ذلك الجماد الذي في داخلها - بالأسباب التي قدرها وعلمها عباده - طائراً حياً سميعاً بصيراً والشواهد، من مخلوقاته - عز وجل - على قدرته العظيمة وحكمته وعلمه الشامل، كثيرة لا تحصى، وبما ذكرناه يتضح - لطالب الحق - بطلان هذه الشبهة التي شبه بها الرئيس التونسي في الخطاب المنسوب إليه، ويعلم بذلك أنها من أبطل الباطل - نقلاً وعقلاً وحساً -، ومن الدلائل القطعية - أيضاً - على بطلانها أن الله، سبحانه، قد خلق السماوات والأرض، وخلق جميع المخلوقات، الجامدة والمتحركة، بقدرته العظيمة وذلك أعظم وأكبر وأعجب من جعل عصا موسى حية تسعى، كما قال الله سبحانه: {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} ، وقال سبحانه: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} ، وقال تعالى:

{أَوَلَمْ يَرَ الأِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} وأما قصة أهل الكهف فليس فيها - بحمد الله - ما تحيله العقول، بل أمرها أسهل وأيسر من قصة العصا، والله - سبحانه - قد أرانا شاهداً لها في أنفسنا وذلك بما منّ به على العباد من النوم الذي قدره عليهم وجعله رحمة لهم لما يترتب عليه من إجمامهم من التعب، واستعادة قواهم بعد الكلال والمشقة وضعف القوى، وجعل ذلك من آياته الدالة على قدرته العظيمة، وكمال إحسانه ولطفه بعباده، وجعله دليلاً على الحياة، بعد الموت، كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمّىً ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وقال سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} ، وقال - عز وجل -: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} ، وقال تعالى: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ، والآيات في هذا المعنى كثيرة، وقد أوضح فيها سبحانه أن النوم وفاة ونعمة ورحمة وآية باهرة على قدرته العظيمة، فالذي قدر على ذلك وجعل ذلك نعمة عامة ورحمة لجميع عباده، في ليلهم ونهارهم، عند الحاجة إليه، وجعله دليلا على البعث والنشور والحياة بعد الموت، هو الذي قدر على أهل الكهف النومة الطويلة، لحِكمٍ كثيرة، وأسرار عظيمة، قد بيّن بعضها في كتابه العزيز حيث قال - سبحانه - في سورة الكهف: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً} إلى قوله سبحانه:

{وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً} ، فذكر سبحانه، في هذه الآية أن من الحكمة في إيوائهم إلى الكهف أن ينشر لهم من رحمته ويهيئ لهم من أمرهم مرفقاً، لمّا اعتزلوا قومهم وهجروهم لله بسبب شركهم وكفرهم، ثم قال - عز وجل - بعد آيات: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا} الآية، فأبان - سبحانه في هذه الآية - أن في قصة أهل الكهف وإعثار الناس عليهم، إقامة الحجة على صدق وعد الله بالبعث، والنشور وقيام الساعة، وأن الذي يحيي النائم، بعد نومه الطويل ووفاته بالنوم، وهو الذي يحيي العباد بعد موتهم وتفرق أوصالهم، ومعلوم أن البعث والنشور قد أخبر به جميع الأنبياء، ودل عليه كتاب الله في مواضع كثيرة، وأجمع عليه المسلمون وغيرهم، ممن آمن بالرسل الماضين، فالذي يقدر على إحياء الموتى ومجازاتهم بأعمالهم هو القادر، سبحانه، على إنامة الأحياء ثم بعثهم، من باب أولى، فكل واحدة من الوفاتين - وفاة النوم، ووفاة الموت - دليل على الأخرى، وقد بين الله، سبحانه، في سورة البقرة إحياءه الموتى، في الدنيا قبل الآخرة، في خمسة مواضع ليقيم الحجة على المنكرين للبعث والنشور، وليوضح لهم - سبحانه - أنه القادر على إحياء الموتى في الدنيا والآخرة. الموضع الأول: قوله سبحانه: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} . الموضع الثاني: قوله سبحانه: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ، والمعنى: أن الله سبحانه، أمرهم بضرب القتيل الذي اختلفوا في قاتله، ببعض البقرة التي أمر بنو إسرائيل بذبحها، فضربوه بجزء منها، فرد الله عليه روحه فتكلم وأخبرهم بقاتله، وبين - سبحانه - أن في هذه القصة دليلا على إحيائه الموتى لذوي العقول.

الموضع الثالث: قوله سبحانه: {ألَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} . الموضع الرابع: قوله سبحانه: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} الآية.. الموضع الخامس: قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} ، ففي هذا المواضع الخمسة، من كتاب الله، بيانه سبحانه لعباده إحياءه الموتى قبل يوم القيامة، فالذي قدر على ذلك هو القادر على إطالة مدة النائم ما شاء، سبحانه، من الوقت ثم بعثه متى شاء من باب أولى وأحرى، لأن إطالة النوم ثم بعث النائم من نومه أسهل بكثير من إحياء الموتى بعد انقطاع مادة الحياة منهم ومصيرهم جماداً لا إحساس فيه، كما أن ذلك أسهل وأيسر - أيضا - من إحياء الموتى يوم القيامة بعد تفرق أوصالهم ومصيرهم رفاتاً وتراباً وقد دلت الدلائل القطعية، والكتب السماوية، والعقول الصحيحة على البعث، والنشور، كما جاءت به الرسل ونطق به الرسل ونطق به أفضل الكتب وأفضل الرسل، وأجمع عليه المسلمون، فكيف يبقى - بعد ذلك - شبهة لمن لديه أدنى عقل في قصة أهل الكهف، وقدرة الله- سبحانه- على ما أخبر به عنهم، فنسأل الله العافية من زيغ القلوب، والضلال بعد الهدى، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.. وأما الرابع والخامس من المنكرات الواقعة في الخطاب المنسوب إلى الرئيس أبي رقيبه - حسب ما ذكرته صحيفة "الصباح" التونسية في عددها الصادر في 20/3/1974م - فهما اعتراضه على إعطاء الأنثى، في الميراث، نصف ما للذكر، واعتراضه على تعدد النساء وزعمه أن إعطاء المرأة - في الميراث - مثل نصف الذكر نقص يجب تداركه، وأن الواجب - في هذا العصر - مساواة المرأة للذكر في الميراث، كما ساوته في المدرسة والمعمل والفلاحة والشرطة،

وذكر أنه ليس من المنطق - في هذا العصر - أن يفضل الذكر على الأنثى، وزعم أن هذا المبدأ، وهو التفضيل، يجد ما يبرره عندما يكون الرجل قواما على المرأة، حين كانت المرأة في مستوى اجتماعي لا يسمح لها بمساواة الذكر، حين كانت تدفن حية وتحتقر، أما اليوم فقد اقتحمت ميدان العمل، وشاركت الرجال في ذلك، وذكر أن علينا أن نتوخى طريق الاجتهاد، في تحليلنا لهذه المسألة، وأن نبادر بتطوير الأحكام التشريعية، بحسب ما يقتضيه تطوّر المجتمع، وقد سبق لنا أن حجرنا تعدد الزوجات، والاجتهاد في مفهوم الآية الكريمة، وذكر أن من حق الحكام - بوصفهم أمراء المؤمنين - أن يطوروا الأحكام بحسب تطور الشعب وتطور مفهوم العدل ونمط الحياة. انتهى المقصود من كلامه الذي نشرته صحيفة "الصباح" التونسية، ولم تشر إليه صحيفة "الشهاب" اللبنانية - فيما نقلته من الخطاب المذكور، وفي هذا التصريح الخطير أنواع من الكفر والضلال منها اتهامه الله، سبحانه، في حكمه ودعوته الصريحة للحكام إلى أن يتلاعبوا بأحكام الشريعة، حسب عقولهم، واجتهادهم، وتطور الشعوب، وأساليب الحياة في نظرهم، ولا شك أن هذا من أبطل الباطل، وفيه تشبه باليهود والنصارى في تلاعبهم بشرائع أنبيائهم وافترائهم على الله، سبحانه، ما لم يشرعه ونسبتهم إلى أحكامه – سبحانه - ما ليس منها، ومقتضى ما ذكره هذا الرجل أن الله، سبحانه، لم يعلم ما تنتهي إليه الشعوب في آخر الزمان وما ستصل إليه مجتمعاتهم من التطور، فلهذا دعا الحكام إلى أن يبادروا إلى تطوير الأحكام، ومن المعلوم - بالأدلة القطعية من الكتاب والسنة وإجماع الأمة - أن الله سبحانه يعلم ما كان وما سيكون، ويعلم أحوال عباده، في ماضيهم وفي حاضرهم، وقت التنزيل، وفيما سيصلون إليه في المستقبل، كما قال - عز وجل -: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} وقال سبحانه: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} ، كما أن من المعلوم - أيضا - بالنص والإجماع - أن الله، سبحانه، حكيم عليم، وأنه الرحمن الرحيم لا يظلم ولا يجور، بل هو الحكيم العليم بأحوال عباده، واللطيف بهم،

وقد شرع لهم من الأحكام ما فيه صلاحهم ورحمتهم وإقامة العدل بينهم، في المواريث وغيرها، فهو سبحانه أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين وهو العالم بأحوال عباده وما يصلحهم في آخر الزمان، كما أنه العالم - سبحانه - بما يصلحهم في وقت التشريع، ومن زعم خلاف ذلك فقد اتهم الله في حكمته وعلمه، ولو أراد، سبحانه، أن يقوم الحكام أو العلماء بتطوير الأحكام، في وقت من الأوقات، لبين ذلك لعباده في كتابه أو على لسان رسوله - عليه الصلاة والسلام - فلمّا لم يقع شيء من ذلك علم أن ما شرعه من الأحكام يجب الأخذ به والسير عليه والحكم به في وقت التشريع وفيما يأتي من الزمان إلى قيام الساعة، كيف وقد بين الله في كتابه أن الواجب اتباع ما أنزل والاستمساك به، والحكم بين الناس بذلك، والحذر من الخروج عنه، فقال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} وقال سبحانه: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ، وقال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} ، وقال تعالى - يخاطب نبيه عليه الصلاة والسلام-: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} . أوجب سبحانه، في هذه الآيات الكريمات الحكم بما أنزل، والحذر من مخالفته، كما حذر، سبحانه، من متابعة أهواء الناس في خلاف الحق وأخبر أن حكمه هو أحسن الأحكام، وأنه لا حكم أحسن منه، وبين أن ما خالف حكمه فهو من حكم الجاهلية، وبين في آية أخرى أن ما خالف حكمه فهو

حكم الطاغوت، كما في قوله - عز وجل -: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} ففي هذا أعظم بيان لمن يؤمن بالله واليوم الآخر، أن كل ما خالف ما أنزل الله على رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - من الأحكام فهو من حكم الطاغوت، ومن عمل المنافقين، وأنه في غاية البعد عن الهدى، وحكم - سبحانه - في آيات أخرى - على أن من لم يحكم بما أنزل على نبيه - صلى الله عليه سلم - فهو كافر ظالم فاسق، وأخبر تعالى - في موضع آخر من كتابه - أنه ليس لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم، فقال عز وجل - في سورة الأحزاب: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} ، فهل يجوز-بعد هذا البيان العظيم والتحذير الشديد-لحاكم أو عالم أو غيرهم أن يخالف ما أنزل الله وحكم به في المواريث أو غيرها، وهل يجوز له أن يدعو الحكام إلى تطوير الأحكام باجتهادهم وآرائهم كلما تطورت الشعوب والمجتمعات وهل هذا إلا الكفر والضلال والاعتراض على الله، سبحانه، واتهامه في حكمه، والخروج عن شريعته والتلاعب بدينه. ما أشنع هذا القول، وما اشدّ بعده عن الحق، وما أعظم كفر من استجازه أو استحسنه، أو دعا إليه، ثم يقال - أيضا -لهذا الرجل وأمثاله قد أجمع علماء المسلمين - من عهد الصحابة، رضي الله عنهم، إلى يومنا هذا - على أن الاجتهاد محله المسائل الفرعية التي لا نص فيها، أما العقيدة والأحكام التي فيها نص صريح، من الكتاب، أو السنة الصحيحة، فليست محلاً للاجتهاد، بل الواجب على الجميع الأخذ بالنص، وترك ما خالفه، وقد نص العلماء على ذلك في كل مذهب من المذاهب المتبعة، ثم الاجتهاد - حيث جاز - إنما يكون من أهل العلم بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - الذين لهم قدم راسخ في معرفة أصول الأدلة الشرعية وأصول الفقه، والحديث، ولهم باع واسع في معرفة اللغة

العربية، وليس ذلك لغيرهم من الحكام، لأنه ليس كل حاكم يكون عالماً يصحّ منه الاجتهاد، كما أنه ليس كل حاكم - سواء كان ملكا أو رئيس جمهورية - يسمى أمير المؤمنين، وإنما أمير المؤمنين من يحكم بينهم بشرع الله ويلزمهم به، ويمنعهم من مخالفته، هذا هو المعلوم بين علماء الإسلام والمعروف بينهم فليعلم الرئيس التونسي هذا الأمر على حقيقته، وليبادر إلى التوبة إلى الله مما نسب إليه، وليرجع إلى طريق الهدى فالرجوع إلى الحق شرف وفضيلة، بل واجب وفريضة، أما التمادي في الباطل فهو ذل وهوان واستكبار عن الحق وسير في ركاب الشيطان، والله -سبحانه- يتوب على التائبين، ويغفر زلات المذنبين، إذا صدقوا في التوبة إليه، كما قال الله سبحانه: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَف} الآية.. وقال في حق النصارى: {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما صح عنه: "الإسلام يهدم ما كان قبله، والتوبة تهدم ما كان قبلها" والله المستعان وهو سبحانه، ولي التوفيق والهادي إلى سواء السبيل. تنبه عام: قد علم بالأدلة الكثيرة - من الكتاب والسنة وبإجماع العلماء - أن الله- سبحانه- حكيم عليم في كل ما شرعه لعباده، كما أنه حكيم عليم في كل ما قضاه وقدّره عليهم، ولذلك أكثر - سبحانه - في كتابه العزيز من ذكر حكمته وعلمه ليعلم العقلاء من عباده أنه- سبحانه- عليم حكيم في كل ما قدّر وشرع، فتطمئن قلوبهم للإيمان بذلك وتنشرح صدورهم للعمل بشريعته وحكمه، ولهذا لما ذكر -سبحانه –ميراث الأولاد والأبوين،وتفضيل الذكر على الأنثى- ختم ذلك بقوله سبحانه {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} فأوضح- سبحانه- في هذه الآية، أنه العالم بأحوال عباده، أما العباد فلا يدرون أي أقاربهم أقرب نفعاً لهم، وبيّن سبحانه أن تفصيل هذه المواريث صدر عن علم وحكمة، لا عن جهل وعبث، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، ثم ختم ما ذكره، من ميراث الزوجين وتفضيل الزوج

على الزوجة وما ذكره من ميراث الأخوة من الأم والمساواة بينهم، بقوله سبحانه: {وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} ، كما ختم تفضيله الذكر على الأنثى، في ميراث الأخوة للأبوين أو لأب بالعلم، فقال: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فبيّن بذلك أنه فصّل هذه المواريث عن علم بأحوال عباده وما هو لائق بهم وأنه حليم لا يعاجل من عصى بالعقوبة لعله يندم ويتوب، ثم أخبر - عز وجل - بعدما ذكر أحكام المواريث، أن ذلك من حدوده، وتوعد من تعداها فقال سبحانه: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} ثم يقال، لهذا الرجل وأمثاله، إن مساواة المرأة بالرجل، في كل شيء، لا يقره شرع ولا عقل صحيح، لأن الله - سبحانه - قد فاوت بينهما، في الخلقة والعقل وفي أحكام كثيرة، وجعل الرجل أفضل منها وقواما عليها لكونه يتحمل من المشاق والأعمال ما لا تتحمله المرأة –غالبا-،ولأن عقله أكمل من عقلها – غالبا- اولذلك جعله الله -سبحانه- قائماً عليها حتى يصونها ويحفظها مما يضرها ويدنس عرضها وجعل شهادة المرأتين تعدل شهادة الرجل، لكونه أكمل عقلاً وحفظاً منها، وخصها- سبحانه- بأن تكون حرثاً للرجل ومحلّ الحمل، والولادة والرضاع، فهي - في هذه الأحوال - مطالبة بأمور لا يطالب بها الرجل، وهي - في نفس الوقت - تعجز عن الأعمال التي يقوم بها الرجل، لأن حملها وولادتها وما أوجب الله عليها من العناية بأطفالها وتربيتهم وإرضاعهم، عند ضرورتهم إلى إرضاعها لهم، يمنعها من الكثير من الأعمال، ولأن الرجل في حاجة شديدة إلى بقاء المرأة في البيت لتربية أطفالها والعناية بشؤون بيتها وإعداد ما يحتاجه زوجها - في الغالب، وليس كل أحد يجد من يقوم مقام زوجته، في العناية بهذه الشؤون، ثم المرأة هي موضع طمع الرجال للاستمتاع بها ويقف سداً منيعاً دون عبث السفهاء بها، أمّا ما ذكره من اختلاطها بالرجال، في المدرسة

والعمل والشرطة وغير ذلك، فليس أمراً جائزاً على إطلاقه، بل فيه تفصيل، وهو أنه لا يجوز لها ذلك إلا في حدود الشريعة حيث تأمن على نفسها وعرضها وتتمكن من الحجاب الشرعي وحيث تسلم من خلوة الرجل الأجنبي بها لقول النبي صلى الله عليه وسلم - "ماخلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما" ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم ولا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم"، ولأن الله سبحانه قد جعل الرجال قوّامين على النساء بما فضلهم الله به عليهن في الخَلق والخُلق والعقل - كما تقدم - ولما ينفقونه من الأموال عليهن، كما قال سبحانه: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} الآية، فأطلق - سبحانه - في هذه الآية قيام الرجال على النساء، ولم يخص ذلك بوقت دون وقت، وهو سبحانه يعلم ما يكون في آخر الزمان، فلو كان الحكم يتغير لبّين ذلك سبحانه، ولم يهمله أو لبيّنه رسوله - صلى الله عليه وسلم - في سنته فلمّا لم يقع شيء من ذلك علم أن قيام الرجال على النساء حكم مستمر إلى يوم القيامة، وقد علم كل من له أدنى بصيرة بأحوال العالم الحاضر، ما قد ترتب على اختلاط المرأة بالرجل، في المدرسة والمعمل وغيرهما، من الفساد الكبير، والشر العظيم، والعواقب الوخيمة، وكل ذلك يبيّن فضل ما جاءت به الشريعة، وأن الواجب هو الالتزام بأحكامها في جميع الأحوال، في كل زمان ومكان، والحذر من خلافها، ومما ينبغي أن يعلم أن هذا التفضيل إنما هو للجنس على الجنس، ولا يلزم من ذلك أن يكون كل فرد من أفراد الرجال أفضل من كل واحدة من النساء، بل قد يكون بعض النساء أفضل من بعض الرجال من وجوه كثيرة - كما هو معلوم من النقل والواقع في كل زمن - فعائشة وخديجة وحفصة، وغيرهن من أمهات المؤمنين - رضي الله عنهن جميعا - أفضل من كثير من الرجال، وهكذا في كل زمان يوجد في النساء من تفوق بعض الرجال، في علمها وعقلها ودينها، ولكن ذلك كله لا يلزم منه مساواة المرأة للرجل في كل شيء، كما لا يلزم منه الدعوة إلى مساواتها في الميراث والأحكام، وقد سبق فيما ذكرنا من الأدلة عند الكلام على قصة عصا موسى وأهل الكهف، أن الواجب على جميع المكلفين هو الإيمان بالمنزّل، والخضوع له والتصديق به

والعمل بمقتضاه، وأنه لا يجوز رده أو بعضه، أو التكذيب بشيء منه، لأن الله - سبحانه- هو أصدق قيلا من خلقه، وهو العالم بأحوال عباده وما يصلحهم، ولأنه سبحانه أمر باتباع المنزّل ولم يجعل لعباده الخيرة في ردّ شيء منه، ولأن رسوله - صلى الله عليه وسلم - هو أصدق الخلق وأكملهم عقلاً وأزكاهم نفساً، وهو الأمين على وحيه- سبحانه- وقد أخبر - عز وجل - أنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، وقد بلّغ كلام ربه كما أنزل، وبلّغ شريعته كما أمر بذلك فلا يجوز لأحد، بعد ذلك، مخالفة المنزّل أو تغيير المشروع برأي أو اجتهاد، وقد أجمع العلماء كافة على أنه لا يجوز لأحد التكذيب بشيء مما أنزل الله أو دفعه، وعدم الرضى به أو العدول عمّا شرع، وذكروا أن ذلك كفر صريح وردة عن الإسلام، لما سبق من الأدلة، ولقوله سبحانه في هذا المعنى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} ، وقد سبق ما نقله الإمام الكبير إسحاق بن راهويه والقاضي عياض بن موسى، وشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمة الله عليهم - من إجماع العلماء على ما ذكرنا فراجعه تجد ما يشفي ويكفي.. وأما اعتراضه على تعدد الزوجات وحجره على الشعب التونسي أن يجمع بين زوجتين فأكثر، وزعمه أنه فعل ذلك بالاجتهاد في مفهوم قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم} الآية.. فجوابه أن يقال: هذا من الغلط الكبير، والجهل العظيم، لأنه ليس لأحد من الناس أن يفسر كتاب الله بما يخالف ما فسره به رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - أو فسره به أصحابه - رضي الله عنهم - أو أجمع عليه المسلمون، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو أعلم الناس بتفسير كتاب الله وأنصحهم لله ولعباده، وقد أباح الجمع لنفسه ولأمته، وأمر بالعدل بين النساء وحذّر من الميل، وهكذا أصحابه - رضي الله عنهم - هم أعلم الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بتفسير كتاب الله - عز وجل - كما أنهم أعلم الناس بسنته، وهم أنصح الناس للناس، بعد الأنبياء، ولم يقل أحد منهم بتحريم الجمع، فكيف يجوز - بعد ذلك -

لحاكم أو عالم أن يقدم على خلافهم، وأن يقول على الله خلاف ما علموه، من شرع الله وأجمع عليه العلماء بعدهم، هذا من أبطل الباطل، ومن أقبح الكفر والضلال، ومن أعظم الجرأة على كتاب الله وعلى شريعته بغير حق، ثم إن من تأمل ما شرعه الله- سبحانه- من إباحة التعدد علم أن في ذلك مصالح كثيرة، للرجال والنساء وللمجتمع نفسه - كما سيأتي بيان ذلك إن شاء الله - وعلم - أيضا - أن ذلك من محاسن الشريعة الإسلامية التي بعث الله بها رسوله محمدا - صلى الله عليه وسلم - إلى الناس كافة وجعلها مشتملة على ما فيه صلاحهم وسعادتهم، في المعاش والمعاد، واتضح له، من ذلك، - أيضا - أن إباحة التعدد من كمال إحسان الله لعباده ولطفه بهم، وله فيه الحكمة البالغة، لمن تدبر هذا المقام وعقل عن الله شرعه وأحكامه، وما ذاك إلا لأن المرأة عرضة لأشياء كثيرة، منها المرض والعقم، وغير ذلك، فلو حرّم التعدد لكان الزوج بين أمرين، إذا كانت زوجته عاقرا أو كبيرة السن أو قد طال بها المرض وهو في حاجة إلى من يعفه ويصونه ويعينه على حاجاته، أو في حاجة إلى الولد أو غير ذلك، فإما أن يطلقها - وذلك مضرة عليه وعليها - وإما أن يبقيها في عصمته فيحصل له من الضرر والتعب الكثير، والتعرض لما حرّم الله من الفاحشة وغير ذلك من الأمور التي لا تخفى على المتأمل، وكلا الأمرين شرّ لا يرضى بهما عاقل، وقد يكون الرجل - أيضاً - لا تعفّه المرأة الواحدة فيحتاج إلى ثانية أو أكثر ليعفّ نفسه عمّا حرّم الله، وقد تكون المرأة التي لديه قليلة النسل، وإن لم تكن عاقراً، فيحتاج إلى زوجة ثانية أو أكثر لطلب تكثير النسل الذي حثّ عليه النّبي - صلى الله عليه وسلم - ورغّب فيه الأمة، وقد تكون المرأة عاجزة عن الكسب وليس لها من يقوم عليها ويصونها فتحتاج إلى زوج يقوم عليها ويعفّها، إلى غير ذلك من المصالح العظيمة للرجل والمرأة وللمجتمع نفسه، في تعدد الزوجات، وقد تكثر النساء بسبب الحرب أو غيرها فيقل من يقوم عليهن فيحتجن إلى زوج يعفهن ويرعى مصالحهن ويحصل لهن بسببه، الولد الشرعي، وقد علمت - مما ذكرنا سابقا - أن الله- سبحانه- هو الحكيم العليم في كل ما شرعه لعباده وأباحه لهم، كما أنه الحكيم العليم في كل ما قضاه

وقدره فلا يجوز لأحد - كائنا من كان - أن يعترض عليه في حكمه أو يتهمه في شرعه، كما أنه لا يجوز لأحد أن يزعم أن غير حكم الله أحسن من حكمه، أو أن غير هدى الرسول - صلى الله عليه وسلم - أحسن من هديه، كما قال الله - عز وجل -: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في خطبه: " أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة" والآيات والأحاديث في هذا الباب كثيرة، وقد كان بعض أهل الجاهلية يجمعون بين العدد الكثير من النساء فجاء الإسلام وقصرهم على أربع، كما في قصة غيلان بن سلمة - رضي الله عنه - فإنه أسلم وتحته عشر نسوة، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يختار منهن أربعا ويفارق سائرهن، وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على أن الله- سبحانه- أباح لنبِيَيْهِ الكريمين، داود وسليمان، -عليهما السلام - أكثر من أربع، فجاءت الشريعة الإسلامية المحمدية الكاملة العامة لجميع البشر على يد أفضل الخلق وخاتم الرسل - عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام - بأمر وسط يجمع المصالح كلها وهو إباحة الجمع بين أربع من النساء، ومنع ما زاد على ذلك، وقد أجمع العلماء - رحمهم الله - على إباحة الجمع بين أربع - كما تقدم - وأجمعوا - أيضا - على تحريم ما زاد على ذلك، وقد شذ عنهم، في جواز الزيادة على ذلك، من لا يعتد بخلافه ما عدا النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن الله خصّه بخصائص، منها جواز الجمع بين تسع نسوة، لأسباب وحكم كثيرة ليس هذا موضع ذكرها، ومن تأمل حال من أنكر التعدد، كالنصارى وأشباههم، علم - من واقع الكثير منهم - أنهم وقعوا فيما حرم الله من الزنا، واتخذوا الخدينات الكثيرات فاعتاضوا الحرام عن الحلال، والخبيث عن الطيب، وشابهوا من قال الله فيهم: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} ومعلوم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو أعلم الناس بتفسير كتاب الله، وقد فسر قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} ، المراد من ذلك إباحة الجمع بين أربع من النساء فأقل دون ما زاد على ذلك، وهكذا

أصحابه، رضي الله عنهم - لم يحفظ أن أحدا منهم أنكر الجمع بين أربع أو نكح أكثر من أربع، وهو أعلم الناس - بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتفسير كتاب الله، كما أنهم أعلم الناس بسنته - عليه الصلاة والسلام - كما سبق بيانه، وفي ذلك كفاية ومقنع لطالب الحق، والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا به. وأما المنكر السادس، من المنكرات الستة التي سبق ذكرها، وهو زعمه أن المسلمين في إكثارهم من الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد ألهّوهُ بذلك، فجوابه أن يقال: إن هذا ليس بتأليه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - والعبادة له، بل ذلك عبادة لله وحده وامتثال لأمره عزوجل - حيث قال في سورة الأحزاب: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} فقد أخبر- سبحانه- أنه وملائكته يصلون على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم أمر المؤمنين بالصلاة والسلام عليه، فدل ذلك على شرعية الإكثار من الصلاة والسلام عليه - صلى الله عليه وسلم - وأن ذلك من أفضل القربات، وقد أجمع علماء الإسلام على ذلك وصح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر بذلك ورغب فيه فقال: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت له الشفاعة" وفي الصحيحين - واللفظ للبخاري -عن كعب بن عجرة - رضي الله عنه - أن الصحابة - رضي الله عنهم - قالوا: يا رسول الله أمرنا الله أن نصلي عليك فكيف نصلي عليك؟ فقال: "قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد"، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، والصلاة من الله سبحانه، معناها: الثناء على عبده في الملأ الأعلى بذكر صفاته الحميدة، وأعماله الجليلة، ومن العباد طلبهم ذلك من الله سبحانه، ويراد بالصلاة - أيضا - الثناء من الله سبحانه على عبده

ورحمته إياه، كما في قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} ، وهذه المسألة من أوضح المسائل لصغار طلبة العلم، وعامة المسلمين، فكيف خفي هذا على زعيم كبير؟ فالله المستعان. فإن قيل: إذا كان الإكثار من الصلاة والسلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس تأليها له، فما هو التأليه للرسول - صلى الله عليه وسلم - والعبادة له؟ قلنا: إن التأليه للرسول - صلى الله عليه وسلم - ولكثير ممن يسمون بالأولياء وغيره، واقع من كثير من الجهال، ومنتشر في أنحاء الأرض، يعلم ذلك من خبر واقع الناس، وعرف دين الله الذي بعث به رسله وأنزل به كتبه، وخلق الثقلين من أجله،وهذا التأليه - الذي وقع من كثير من الجهال - هو صرف بعض العبادة للنبي - صلى الله عليه وسلم - أو لغيره من المخلوقين، كدعائه والاستغاثة به وطلبه المدد والشفاء للمرضى، والنصر على الأعداء، ونحو ذلك من أنواع العبادة، والله سبحانه أوجب على عباده أن يخصوه بالعبادة، ونهاهم عن الشرك به، وبعث الرسل وأنزل الكتب لبيانها وبيان ما يضادها، كما قال - عز وجل - {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} ، وقال- سبحانه-: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَنْ لا تَعْبُدُوا إَِّلا اللَّهَ} الآية.. وقال - عز وجل -: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} ، وقال سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} ، والآيات في هذا المعنى كثيرة، فالله سبحانه، هو الذي يشفي المرضى، وينصر على الأعداء، ويكشف الكروب، يجيب المضطر، وينزل المدد على عباده، - إذا لجؤوا إليه واستغاثوا به - كما قال سبحانه: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} ، وقال سبحانه: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} ، وقال - عز وجل -: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} الآية، وقال سبحانه: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ

يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} ، وقد عرف المشركون ذلك في جاهليتهم، فكانوا يشركون في حال الرخاء، وأما في حال الشدائد فيخلصون لله العبادة، كما قال - عز وجل -: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} ، كما اعترفوا - أيضا - أن الله- سبحانه- هو الخالق الرازق، النافع، الضار، المدبر لأمور العباد، وأنهم ما عبدوا غيره - من الأنبياء، والأولياء والملائكة والجن والأصنام والأوثان - إلا ليشفعوا لهم عند الله وليقربوهم لديه زلفى، كما ذكر الله عنهم ذلك في كتابه المبين حيث قال- عز وجل- في سورة يونس: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} الآية، وقال في سورة الزمر: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} ففي هذه الآيات وغيرها من الآيات الكثيرة، الدلالة الصريحة على أن الله سبحانه هو الإله الحق، المستحق للعبادة، وأنه لا يجوز تأليه غيره ولا صرف شيء من ذلك لسواه، كما قال -عز وجل -: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إَلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} وقال سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} ، وقد أخبر سبحانه، في غير موضع من كتابه، أنه حرّم الشرك على عباده وأنه لا يغفره لمن لقيه به، كما أخبر أن صرف شيء من العبادة لغيره شرك به وعبادة لسواه كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً} ، وقال - عز وجل - في سورة المائدة: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} ، وقال تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} ، فبيّن سبحانه في هذه الآية، أن دعاءهم

غيره شرك به - عز وجل - كما أوضح - سبحانه - أن ذلك من الكفر الأكبر فقال - عز وجل -: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} ، وأخبر - عز وجل - أنه لا أضل ممن دعى غير الله وأن المدعوين من دونه - من الملائكة والأنبياء وغيرهم - يتبرءون من عابديهم وداعيهم، وأنهم غافلون عن ذلك لا شعور لهم به، فقال سبحانه: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} وقال سبحانه: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} والآيات في هذا المعنى كثيرة معلومة، وفيما ذكرناه كفاية ودلالة صريحة على أن العبادة حق الله وحده وأنه لا يجوز صرف شيء منها لغيره- سبحانه- فالواجب على أهل العلم أن يبينوا ذلك للناس وأن يشرحوا لهم حقيقة التوحيد الذي بعث الله به رسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم - ومن قبله من الرسل، وأن يعلِّموهم ما جهلوا من ذلك، وأن يحذّروهم من الشرك بالله - عز وجل -، وعلى الحكام أن يُنفّذوا أمر الله، وسنة رسوله، - صلى الله عليه وسلم - مستعينين بعلماء الحق على معرفة ما جهلوا من كتاب الله، أو سنة رسوله - عليه الصلاة والسلام-، وفي ذلك عزهم وشرفهم، ونجاتهم، في الدنيا والآخرة، وقد صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين"، وقال - عليه الصلاة والسلام - "خيركم من تعلّم القرآن وعلمه"، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "من دل على خير فله مثل أجر فاعله"، وفي الأثر المشهور عن عثمان - رضي الله عنه - وهو مروي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أيضا -: "إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن"، وقال الإمام مالك - رحمه الله -:" لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها"، وهذه الكلمة العظيمة هي قول جميع أهل العلم، والذي صلح به الأولون وصاروا به

قادة الناس وأئمة الهدى وحكام الأرض، هو اتباع كتاب الله وسنة رسوله - عليه الصلاة والسلام - ورد ما تنازعوا فيه إليهما، لا إلى آراء الناس واجتهاداتهم، ولن يصلح آخرهم إلا بهذا الأمر، الذي صلح به أولهم، فنسأل الله أن يوفق أئمة المسلمين، وعلماءهم لذلك، وأن يجمع كلمتهم على الحق، وأن يصلح عامة المسلمين ويمن عليهم بالفقه في الدين، ويولي عليهم خيارهم إنه جواد كريم.

ماذا يجب على رؤساء الدول الإسلامية إزاء ما نسب إلى الرئيس أبي رقيبة

ماذا يجب على رؤساء الدول الإسلامية إزاء ما نسب إلى الرئيس أبي رقيبه؟؟ لا شك أن ما نسب إلى الرئيس أبي رقيبه، من القول بتناقض القرآن وإنكار عصا موسى وقصة أهل الكهف، والتنقص للرسول - صلى الله عليه وسلم - ونسبته إلى الكذب على الله- سبحانه- أنواع من الكفر الصريح والردة عن الإسلام، وهكذا دعوته الحكام إلى تطوير الأحكام وزعمه أن إعطاء الأنثى - في الميراث - نصف الذكر، نقص تجب إزالته، لأنه ليس منطقيا ولا يناسب تطور المجتمع، وهكذا حجره تعدد النساء، لكونه لا يناسب تطور المجتمع، كل ذلك من الكفر الصريح والاعتراض على الله- سبحانه- والاتهام له في حكمه - كما تقدم بيان ذلك - فالواجب - على جميع رؤساء الدول الإسلامية - قطع العلاقات السياسية معه حتى يعلن التوبة الصريحة مما نسب إليه، أو التكذيب لذلك بطرق الإعلام الرسمية، حتى يعلم الناس حقيقة ما هو عليه، وحتى يعاملوه بما يجب أن يعامل به، وحتى لا يتأسى به غيره، من الحكام أو غيرهم، لأن ما نسب إليه من أنكر المنكرات التي يجب إنكارها على من وقعت منه - حسب القدرة -. ولا شك أن قطع العلاقات معه من إنكار المنكر المستطاع، من الدول الإسلامية، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان"، وقال - عليه الصلاة والسلام-: "ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون

وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل"، وأبلغ من ذلك وأشد في التحذير من السكون على المنكر قول الله - عز وجل -: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} ، والله المسؤول سبحانه، أن يهدينا وسائر المسلمين لما فيه صلاح الدين والدنيا، وأن يوفق حكام المسلمين للتمسك بكتابه، وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، والحكم بشريعته، والتحاكم إليها، والإنكار على من خالفها، وأن يجمع كلمتهم على الهدى إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله على عبده ورسوله وخيرته، من خلقه، نبينا وإمامنا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين… رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة عبد العزيز بن عبد الله بن باز

§1/1