حقيقة العبودية

مجدي الهلالي

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: ففي يوم من الأيام ذهب ثلاثة من الصحابة - رضوان الله عليهم - إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليسألوا عن عبادته حتى يحذوا حذوه، فلما أُخبروا بقدر تلك العبادة كأنهم تقالُّوها (أي اعتبروها قليلة)، وقالوا: أين نحن من النبي عليه الصلاة والسلام وقد غُفِر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟! ثم بدأ كل واحد منهم يتحدث عن عبادته، فقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدًا، وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر أبدًا ولا أفطر، وقال الآخر: وأنا اعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا، فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم جاء إليهم فقال: «أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» (¬1). هذا الحديث العظيم يعلمنا أن العبرة في سباق السائرين إلى الله ليست بكثرة عبادات الجوارح، بل العبرة بما في القلوب من معاني العبودية لله عز وجل «أما إني لأخشاكم لله وأتقاكم له». وغني عن البيان أن عبادات الجوارح هي المظهر والشكل الذي من خلاله يُظهر ما في القلب من معاني العبودية لله عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]. فعبادات الجوارح على درجة بالغة من الأهمية كمظهر وشكل ينبغي الالتزام به في تقربنا إلى الله عز وجل. ومع ذلك؛ فإن الجهد الأكبر الذي ينبغي أن يُبذل في العبادة هو الاجتهاد في إظهار معاني العبودية لله عز وجل من خلالها؛ وكما أخبرنا سبحانه: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج: 37]. إن السباق إلى الله عز وجل إنما هو سباق قلوب، والقلب الذي يسبق هو الذي يحوي القدر الأكبر من العبودية الحقيقية له سبحانه {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، ولقد جاء في الأثر: ما سبقكم أبو بكر بكثرة صلاة، ولا صيام، ولكن بشيء وقر في صدره .. فإن كان الأمر كذلك: فما العبودية؟ وما حقيقتها؟ وما طريقها؟ هذا ما تُحاول - بإذن الله - الصفحات التي بين يديك - أخي القارئ - الإجابة عليه بصورة إجمالية. نسأل الله عز وجل العون والتوفيق والسداد والتجاوز عن الزلات، إنه سبحانه ولي ذلك والقادر عليه {سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة: 32]. ¬

_ (¬1) متفق عليه: البخاري (5/ 1949، رقم 4776)، ومسلم (2/ 1020، رقم 1401).

الفصل الأول معنى العبودية

الفصل الأول معنى العبودية

الجنة تنتظرك

معنى العبودية كرَّم الله عز وجل الإنسان تكريمًا عظيمًا، وفضله على كثير من خلقه {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70]. هذا التكريم العظيم للإنسان يعكس مدى حب الله عز وجل له، ومنزلته عنده. ولقد علمت الملائكة بهذه المنزلة فجعلت جزءًا من عبادتها: دعاءها واستغفارها للناس، وهي بذلك تريد التقرب إلى الله - سبحانه - وتطمع في نيل رضاه {وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الشورى: 5]. ويزداد دعاؤهم واستغفارهم لمن لهم مكانة خاصة عنده - سبحانه - من البشر المؤمنين لعلمهم بحب الله لهم: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ* رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [غافر: 7 - 9]. الجنة تنتظرك: ومن أعظم الدلائل التي تؤكد على المنزلة الخاصة للبشر عند الله: إعداده - سبحانه - الجنة لتكون لهم دارًا أبدية .. يقيمون فيها إقامة دائمة بلا تعب ولا نصب ولا تكاليف يؤدونها .. بل نعيم مقيم لا يحول ولا يزول {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزخرف: 71]. ولقد جعل سبحانه دخول هذه الجنة مرتبطًا بالنجاح في اختبار يُعقد على ظهر الأرض لجميع البشر .. جوهر هذا الاختبار: عبادته سبحانه بالغيب، والقيام بحقوق العبودية له: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21]. أحب الخلق إلى الله: يلاحظ المتدبر لآيات القرآن أن الله عز وجل عندما يمتدح أحداً من رسله وأنبيائه، فإنه سبحانه يصفه بوصف العبودية، كقوله تعالى عن نبيه داود: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:17]. وقوله تعالى عن سليمان: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:30]. وقد تكرر وصف رسولنا صلى الله عليه وسلم بهذه الصفة {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا} [الإسراء:1]. {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدً} [الجن: 19] معنى ذلك أن العبودية هي الصفة التي يحب الله عز وجل أن تتمثل في الإنسان: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ} [ص:45 - 47]. فأحب الخلق إليه - سبحانه - أكثرهم عبودية له. جوهر العبودية: العبد عكس الحر وهو المملوك لسيده، وأصل العبودية: الخضوع والتذلل (¬1) فالطريق «مُعَبَّد» إذا كان مذللا بكثرة الوطء (¬2). فالعبودية إذن صفة ينبغي أن يعيش المرء حقيقتها، وأن تُظهرها صورة تعامله مع ربه من ذل وانكسار وخضوع وافتقار، وطاعة وهيبة وإجلال، وتعلق تام به، وفوق هذا كله: حبٌ عظيمٌ له .. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: " فمن خضع لإنسان مع بغض له لا يكون عابداً له، ولو أحب شيئا ولم يخضع له لم يكن له عابدًا" (¬3). ¬

_ (¬1) لسان العرب لابن منظور (3:271) - دار صادر بيروت. (¬2) المصدر السابق. (¬3) العبودية لابن تيمية، ص (34) - مكتبة دار الأصالة - الإسماعيلية - مصر.

تكوين الإنسان

تكوين الإنسان: الله عز وجل يريد الخير لعباده جميعًأ {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: 7]، يريد لهم دخول الجنة {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 221]. ولأن دخول الجنة مرتبط بالنجاح في اختبار العبودية؛ فقد خلق الله عز وجل الإنسان بطريقة وهيئة تعينه وتيسر له ارتداء رداء العبودية ومن ثمَّ النجاح في اختبارها، فجعل أصله من التراب ولم يجعله من معدن نفيس كالذهب والفضة، فالتراب هو أقل الأشياء وأوضعها .. هذا التراب هو التربة التي ينمو فيها النبات فيأكل منه الإنسان، وينشأ من خلاصته المَني والذي من خلاله يتم التكاثر، ومن ثم يتكون الجنين الذي يصبح بعد ذلك ذكراً أو أنثى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا} [فاطر:11]. ولو نظر أحدنا إلى المنيّ واشتم رائحته لأعرض عنه ولعافه ولتقززت نفسه منه، وصدق الله العظيم: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [المرسلات:20]. هذا الأصل الحقير للإنسان من شانه أن يساعده على الاتصاف بصفة العبودية، فابن التراب والماء المهين ليس له أن يتكبر أو يتعالى أو يرفع رأسه أمام سيده وخالقه. نظر مطرف بن عبد الله بن الشخير إلى المهلَّب بن أبي صُفرة وعليه حُلة يسحبها، ويمشي الخيلاء، فقال: يا أبا عبد الله، ما هذه المشية التي يبغضها الله ورسوله؟ فقال المهلَّب أما تعرفني؟ فقال: بل أعرفك: أولك نطفة مَذِرة، وآخرك جيفة قذرة، وحشوك فيما بين ذلك بول وعذرة (¬1). ومع هذا الأصل الحقير؛ كان الحجم الصغير الذي ينسجم مع كونه عبدا: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [غافر:57]. فلو كان الإنسان طويلًا .. أطول من الجبال والأشجار، لكان ذلك مدعاة لعلوه وتكبره: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} [الإسراء:37]. الضعيف العاجز: ومع الأصل الحقير، والحجم الصغير، فإن الضعف صفة أصيلة في الإنسان: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:28]. فمع أن كل ما في الأرض مخلوق للإنسان: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة:29]، إلا أنه ليس الأقوى فيها، فهناك من المخلوقات من هو أقوى منه في البنيان أو في التحمل أو في البطش. وجوانب ضعف الإنسان كثيرة ومتعددة، فهو لا يمكنه أن يتحمل الألم ولا الجوع ولا العطش، بل إنه لا يستطيع مقاومة سلطان النوم فترة طويلة. قوة إبصاره وسمعه وبطشه محدودة .. لا يمكنه أن يحمي نفسه من هجمة حيوان مفترس أو حتى لدغة حشرة صغيرة. ضعيف أمام رغبات نفسه من حب للشهوات، ونفور من التكاليف والمشاق. هذا الضعف المتعدد الجوانب من شأنه أن يجعله دوما بحاجة إلى مصدر للقوة يلجأ إليه ليحتمي به ويدفع عنه كل ما يثير مخاوفه ويعكر صفوه. ولو تخيلنا أن الإنسان خُلق قويا .. أقوى من كل شيئ في الأرض، هل تظنه سيلجأ يوما إلى ربه يطلب منه العون والمدد؟! ولماذا يفعل ذلك وهو يرى قوته تحقق له ما يريد: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6، 7]. ¬

_ (¬1) أدب الدنيا والدين للماوردي، ص (231) - دار الكتب العلمية - بيروت.

الجاهل الفقير

إن من رحمة الله بالناس وحبه لهم أن خلقهم ضعفاء وابتلاهم بالأمراض ليسهل عليهم القيام بالمهمة التي خُلقوا من أجلها، ومما يؤكد هذا المعنى ما حدث مع قوم عاد الذين ابتلاهم الله عز وجل بأن حباهم مزيداً من القوة فأساءوا استخدامها، بل كانت وبالاً عليهم وجعلتهم ينسون حقيقتهم: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت:15]. ومع الضعف الشديد للإنسان، واحتياجه الدائم لقوة تحميه فإنه كذلك عاجز، لا يستطيع إنفاذ إرادته .. يريد أن ينام سريعا فلا يستطيع .. يريد أن يسهر فيغلبه النعاس .. يريد تذكر شيء ما فلا يتذكره .. يتمنى أن تلد زوجته ذكراً فتلد أنثى .. كل هذا ليستشعر مدى عجزه واحتياجه لمن بيده القدرة على فعل كل شيء، ومن يفعل ما يريد وقتما يريد فيستسلم له ويذعن بين يديه. الجاهل الفقير: ومن سمات الإنسان كذلك أنه جاهل بعواقب الأمور، وعدم علمه الغيب، ولا حتى ما سيحدث بعد جزء من الثانية .. فهو لا يدري حين ينام هل سيستيقظ أم لا، وإذا ما استيقظ هل يكون معافى أم مريضاً. هل العملية الجراحية التي ستُجرى له ستنجح أم لا؟! هل هذا الطعام الذي يأكله سيسبب له مرضا أم لا؟! هل .. هل؟! {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:34]. ومع عجزه وضعفه وجهله الملازم له، فهو كذلك لا يستطيع أن يتولى إدارة شئون جسمه وتدبير أموره ولو للحظة واحده. فالقلب يحتاج إلى تعهد دائم ومطلق ليستمر في الخفقان وضخ الدم إلى جميع أنحاء الجسم، والدم يحتاج لأن يظل في درجة ما من السيولة لو انخفضت لحدثت جلطات وانسدت الشرايين، ولو زادت لحدث نزيف. العضلات تحتاج دوماً إلى من يتعاهد انقباضها وانبساطها، ولو لم يحدث ذلك لشُل الجسم. الرئتان .. الكليتان .. المخ .. جهاز الهضم والامتصاص .. جهاز الإخراج .. جهاز المناعة .. الغدد، بل كل خلية من خلايا الجسم البالغ عددها عدة تريليونات تحتاج إلى إمداد مستمر، وإلا توقفت عن العمل .. كل ذلك ينبغي أن يتم بصورة دائمة، فلو توقف إمداد المخ بالدم عدة دقائق لتوقفت الحياة، ولو تخلت الكليتان عن عملهما لتسمم الدم، ولو، ولو، ولو ... إلخ. معنى ذلك أن الجسم يحتاج إلى من يقوم عليه ويمده بما يحفظه ويكفل له الاستمرار في وظائفه، ويدير عملياته الحيوية لينتج عن ذلك: نطق باللسان، ورؤية بالعين، وحركة بالأطراف، وهضم للطعام، وإخراج للفضلات، وشهيق وزفير، و ... ومن منا يقدر أن يقوم بذلك ولو للحظة واحدة، فنحن نضع اللقمة في الفم ولا ندري ماذا يجري لها داخل الجسم، ولو تُرك لنا هضمها وتوزيع خلاصتها وإخراج فضلاتها لما استطعنا أبداً. إننا بحاجة إلى من يقوم بإدارة شئون أجسادنا وإمدادها بما يصلحها، ويحافظ عليها، وذلك دونما توقف ليلاً أو نهاراً بل ولا لحظة واحدة، ويستوي في ذلك جميع البشر، القوي منهم والضعيف .. الغني والفقير .. الصغير والكبير. لا يملك شيئا: وبالإضافة إلى هذا كله، فلقد خلق الله عز وجل الإنسان ولم يعطه أي ملك ذاتي ولو مثقال ذرة، فنحن جميعاً ملك لله: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:156]، وما عندنا من أموال وأولاد وأثاث و ... فهي ملك له سبحانه، وهبها لنا في حياتنا الدنيا ثم يؤول كل شيء إليه بعد ذلك {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا} [مريم:40]. فكل ما تراه عيناك ليس له إلا مالك واحد هو الله سبحانه وتعالى {وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ} [النمل:91].

هذه هي حقيقتك

وبالإضافة إلى عدم وجود أي شيء يملكه الإنسان ملكا حقيقيا، فلقد خلقه الله بلا قوة ذاتية مهما صغرت، فالقوة كلها لله يمنح جزءا منها للناس ويسلبها منهم متى شاء: {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [البقرة:165]. وكذلك القدرة، فالله على كل شيء قدير، أما الإنسان فلا يقدر على شيء إلا بما قدره له ربه، فلا يمكن له أن يخلق ولو ذبابة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج:73]. فلا ملكاً ذاتياً، ولا قوة أو قدرة ذاتية للإنسان، ولا صلاحية له في هذا الكون تجعله يستطيع أن يضر أحداً، أو ينفعه إن أراد ذلك .. وهذا الأمر ينطبق على جميع الخلق بمن فيهم الرسل والأنبياء .. تأمل معي قوله سبحانه لرسوله الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران:128]. ومما يؤكد هذا المعنى ما حدث لزوجتي نوح ولوط عليهما السلام: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [التحريم:10]. هذه هي حقيقتك: هذه هي حقيقتك أيها الإنسان: أصلك حقير، حجمك صغير، جاهل بالغيب وعواقب الأمور، ضعيف تحتاج إلى قوة تحميك، عاجز لا تستطيع إنفاذ إرادتك .. فقير فقراً مطلقاً وذاتياً، تحتاج دوماً إلى من يقيم حياتك، ليس لك من الأمر شيء .. لا تملك شيئا .. لا قوة لك .. لا قدرة لك .. فأنت لا شيء ولن تكون شيئاً بدون ربك، ولقد خلقك الله عز وجل بهذه السمات رحمة بك، لكي يسهل عليك ارتداء رداء العبودية له سبحانه، ومن ثَمَّ تنجح في الاختبار وتدخل الجنة. وكيف لا وأنت بهذه الصفات تحتاج دوما إلى من يحميك، ويطعمك ويسقيك .. بحاجة إلى من تعتمد عليه في تصريف أمورك .. بحاجة إلى من يعلم ما خفي عنك فيوجهك لما فيه مصلحتك .. بحاجة إلى من يمدك بالقوة والقدرة والمال والصحة والولد و .. والذي يملك هذا كله هو الله وحده لا شريك له، فله ملك السماوات والأرض، وهو على كل شيء قدير، ومحيط، وعليم .. يعلم ما بين أيدينا وما خلفنا .. يصحبنا في حلنا وترحالنا .. قريب مجيب .. يحبنا ويريد لنا الخير، وينتظر منا التفاتة صادقة إليه ليقبل علينا ويصلح شأننا: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة:143]. تأمل معي قوله سبحانه في الحديث القدسي: " يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم .. " (¬1). فإن كنا جميعا لا نساوي شيئا بدون الله، وأنه لا يوجد مصدر يمدنا بالحياة والقوة والهداية والعصمة سواه فماذا عسانا أن نفعل معه؟! وما هي الصورة الصحيحة التي ينبغي علينا أن نعامله بها؟!! أليس من الطبيعي أن نتذلل دوماً له، ونظهر له سبحانه عظيم فقرنا واحتياجنا له؟! ألا ينبغي أن نتمسكن بين يديه، ونعترف أمامه بمدى حقارتنا، وضعفنا، وعجزنا، وأننا لا شيء بدونه؟! لقد كان هذا بالفعل حال الرسل والأنبياء مع ربهم .. كانوا يعيشون في حقيقة عبوديتهم بكل ما تحمله هذه الحقيقة من معان .. تأمل معي ما قاله رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم في دعائه لربه عشية عرفة: ¬

_ (¬1) رواه مسلم (2577).

العبودية والفطرة

" أنا البائس الفقير، المستغيث، المستجير، الوجل، المشفق، المقر، المعترف بذنبه، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، دعاء من خضعت لك رقبته، وفاضت لك عيناه، وذل لك جسده، ورغم أنفه لك " (¬1). وهذا إبراهيم عليه السلام يقول لأبيه: {وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [الممتحنة:4]. وتأمل معي ما قاله نوح عليه السلام لربه: {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود:47]. أما هذا الموقف الذي حدث مع موسى عليه السلام فهو موقف يظهر مدى شعوره بحقيقته كعبد يتصرف فيه مولاه كيفما شاء: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} [الأعراف:155]. وتأمل حال يوسف الصديق وهو يناجي ربه ويسأله العون على كيد النسوة: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف:33]. هذا العبد الصالح ماذا قال لربه عندما مكنه في الأرض: {رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:101]. العبودية والفطرة: من فضل الله على عباده أن جعل معاني العبودية مركوزة فيهم، ومهما حاول المرء إظهار استغنائه عن ربه، ومهما اغتر بما حباه الله عز وجل من إمكانات إلا أنه يظهر على حقيقته كعبد ضعيف أمام الشدائد .. حينئذ تراه يتجه بكليته إلى الله يطلب منه النجاة والحماية: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [يونس:22]. فالشدائد والابتلاءات رحمة من الله عز وجل بالناس، ووسيلة يأخذهم بها إلى حظيرة العبودية: {فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} [الأنعام:42]. السعادة الحقيقية: من هنا ندرك سر شعور الإنسان الذي لا يعيش في حقيقة العبودية بأن هناك شيئا ما ينقصه مهما كان معه من إمكانات. فتجده كثيراً ما يمر بلحظات يتملكه فيها الخوف من المستقبل المجهول، خاصة على أولاده من بعده. في صدره ضيق ووحشة مهما بدا عليه من مظاهر الفرح والسعادة .. تأتيه أوقات يشعر فيها بضعفه وعجزه واحتياجه إلى قوة تحميه .. هذه الأمور لا يمكن للإنسان أن يتغلب عليها، أو إغلاق الأبواب دونها بالأسباب المادية، ولو أُوتي مالاً مثل مال قارون، أو قوة وسلطاناً بلا حدود، بل إن هذه الأمور ستزيده شعوراً بالوحشة والاضطراب وعدم الأمان. ¬

_ (¬1) رواه الطبراني عن ابن عباس. قال الشيخ الألباني: (ضعيف)، انظر حديث رقم: 1186 في ضعيف الجامع.

عجزي كنزي

فلا سبيل لحدوث السلام الداخلي، والشعور بالسعادة والطمأنينة والسكينة إلا من خلال العيش في حقيقة العبودية والتجلبب بجلبابها، ولِمَ لا ومن خلالها يشعر المرء بالأمان وهو يعيش في كنف ربه المقتدر الذي يملك كل شيء، ويقدر على فعل أي شيء يريده، ويستطيع أن يحفظه من كل سوء، ويؤمن مخاوفه، ويحميه ويستره: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62، 63]. فعلى سيبل المثال: الخوف على مستقبل الأولاد وهو أمر يتملك مشاعر الكثير من الناس فيجعل كل همهم جمع المال ليؤمنوا لأولادهم مستقبلهم .. هذا الخوف لا يتملك من يرتدي رداء العبودية لله عز وجل، وكيف يتملكه وقد طمأنه ربه وقال له: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء:9]. وما دام العيد يوقن أن الله هو الذي يكفل الجميع ويكلؤهم بالليل والنهار ففيم الخوف؟! ويؤكد ابن القيم على هذا المعنى فيقول: ففي القلب شَعْث لا يلمه إلا الإقبال على الله، وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس به في خلوته. وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته وصدق معاملته. وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه والفرار إليه. وفيه فاقه لا يسدها إلا محبته والإنابة إليه ودوام ذكره، وصدق الإخلاص له، ولو أُعطي الدنيا وما فيها لم يسد تلك الفاقة منه أبدًا (¬1). عجزي كنزي: معنى ذلك أن خير أوقات المرء هي تلك الأوقات التي يحدث فيها سلام داخلي بين جوهر حقيقته كعبد وبين ما يعيشه من معاني العبودية .. يقول ابن عطاء: خير أوقاتك وقت تشهد فيه وجود فاقتك، وترد فيه إلى وجود ذلتك. وفي نفس المعنى يقول ابن تيمية: من أراد السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية. فبالعبودية يدخل المرء جنة الدنيا ونعيمها الذي لا يشبهه أي نعيم آخر. يقول ابن القيم: فمحبة الله تعالى، ومعرفته، ودوام ذكره، والسكون إليه، والطمأنينة إليه، وإفراده بالحب، والخوف، والرجاء، والتوكل، والمعاملة، بحيث يكون هو وحده المستولي على هموم العبد وعزماته، وإرادته، هو جنة الدنيا، والنعيم الذي لا يشبهه نعيم، وقرة عين المحبين، وحياة العارفين. ويحكي عن شيخه - ابن تيمية - أنه قال مرة: ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، أني رحت فهي معي لا تفارقني، إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة. ويستطرد ابن القيم قائلا: وعلم الله ما رأيت أحداً أطيب عيشاً منه قط، مع ما كان فيه من ضيق العيش، وخلاف الرفاهية والنعيم، بل ضدها، ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشا، وأشرحهم صدرا، وأقواهم قلبا، وأسرهم نفسا، تلوح نضرة النعيم على وجهه. فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل، فآتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم والمسابقة إليها (¬2). ¬

_ (¬1) تهذيب مدارج السالكين، ص (566، 567). (¬2) الوابل الصيب، ص (96 - 98) بتصرف - مكتبة المؤيد - الرياض.

أهمية العبودية

وفي كتابه - مقومات التصور الإسلامي - يؤكد سيد قطب - رحمه الله - على هذا المعنى فيقول: إن الطمأنينة إلى الله، بعد معرفته بصفاته كما يعرضها القرآن، لا تعدلها طمأنينة، ولا يعدلها شيء من أشياء هذه الدنيا، وإنه لتمر بالإنسان أحداث ولحظات يشعر فيها بقيمة هذه المعرفة شعوراً كاملاً واضحاً عميقاً، ولكنه قد ينسى أو يغفل حتى تذكره تلك اللحظات والأحداث! وإن الرضا والأنس والبشاشة والتوجه والطمأنينة والثقة والراحة التي تسكبها تلك المعرفة لأمور تذاق ولا توصف، وأقرب ما يصورها المنهج القرآني في مثل تلك الإشارات: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]. أهمية العبودية: إن العبودية هي الحالة التي يحب الله عز وجل أن يراها متمثلة في عباده، وعلى قدر تمثلها فيهم يكون رضاه عنهم، وقربه منهم. ومما يؤكد هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم: " ما من حالة يكون العبد عليها أحب إلى الله من أن يراه ساجدا يُعفر وجهه في التراب " (¬1). بل إن أي وقت يحدث فيه للعبد انكسار فإن الله عز وجل يعامله في هذا الوقت معاملة خاصة، فالمريض - على سبيل المثال - يكسره المرض، لذلك تجده - سبحانه - قريبًا منه، بل ويحثنا على عيادته للتخفيف عنه كما جاء في الحديث: «أن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يابن آدم مرضت فلم تعدني، قال: يارب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلان مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده .. » (¬2). يقول ابن القيم: (وهذا - والله أعلم - هو السر في استجابة دعوة الثلاثة: المظلوم والمسافر والصائم، للكسرة التي في قلب كل واحد منهم. فإن غربة المسافر وكسرته مما يجد العبد في نفسه، وكذلك الصوم فإنه يكسر سَوْرَة النفس السبعية الحيوانية ويذلها) (¬3). ومما يؤكد أن العبودية من ذل وانكسار، وخضوع وتواضع هي الحالة التي يحبها الله عز وجل من العبد ما حدث للمرأة البغي التي سقت الكلب الظمآن وما تلا ذلك من مغفرة الله لها. فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " بينما كلب يطيف بركية كاد يقتله العطش إذ رأته بغي من بغايا بني إسرائيل، فنزعت موقها فسقته، فغُفر لها به " (¬4). (فما قام بقلب البغيّ التي رأت الكلب وقد اشتد به العطش يأكل الثرى ما حملها على أن غررت بنفسها في نزول البئر، وملء الماء في خفها ولم تعبأ بتعرضها للتلف، وحملها خفها بفيها، وهو ملآن، حتى أمكنها الرقي من البئر، ثم تواضعها لهذا المخلوق التي جرت عادة الناس بضربه، فأمسكت له الخف بيدها حتى شرب، من غير أن ترجو منه جزاء ولا شكورا. فأحرقت أنوار هذا القدر من التوحيد ما تقدم منها من البغاء، فغفر لها) (¬5). من هنا ندرك قول أحد الصالحين: دخلت على الله من أبواب الطاعات كلها، فما دخلت من باب إلا رأيت عليه الزحام. فلم أتمكن من الدخول، حتى جئت باب الذل والافتقار، فإذا هو أقرب باب إليه وأوسعه، ولا مزاحم فيه ولا معوق .. فما هو إلا أن وضعت قدمي في عتبته، فإذا هو - سبحانه - قد أخد بيدي وأدخلني عليه. وكذلك قول أحدهم: لا طريق أقرب إلى الله من طريق العبودية (¬6). ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن. (¬2) أخرجه مسلم (4/ 1990، رقم 2569). (¬3) تهذيب مدارج السالكين، ص (169 - 170). (¬4) رواه البخاري (3467) وركية: أي بئر، وموقها: أي خفها. (¬5) تهذيب مدارج السالكين، ص (188). (¬6) المصدر نفسه، ص (229).

التمرد على العبودية

التمرد على العبودية: العبودية هي الحالة التي يحب الله عز وجل أن يراها بادية على خلقه، وعلى قدر تمثلها فيهم تكون ولايته ونصرته لهم: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر:36]، وفي المقابل فإن من أكثر الأمور التي تغضبه سبحانه هو تمرد المرء على ارتداء رداء العبودية، واستبداله برداء العز والكبر .. ففي الحديث: " العز إزاري، والكبرياء ردائي، فمن ينازعني عذبته " (¬1). فالكبر مناف للعبودية، لذلك فهو من أكبر الذنوب وأخطرها، وصاحبه يحرم من المعية والتوفيق والولاية والنصرة الإلهية: {سَأَصْرِفُ عَنْ آَيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف:146]. إن الشرف العظيم للإنسان أن يكون عبدا لله عز وجل، يسأله دوما حاجته، ويطلب منه الحماية والنصرة، والعون والمدد، فإذا ما استكبر عن ذلك، وظن أن بمقدوره العيش في الحياة دون معونة من الله فقد ظلم نفسه، وطغى طغيانا لا حدود له، ومن ثَمَّ كان العقاب الأليم في انتظاره: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60]. تضخم الذات: هناك أسباب كثيرة لارتداء العبد رداء العزة والكبر، وتمرده على رداء العبودية، لعل من أهمها وأخطرها على المسلم: الشعور بالعزة والرفعة على غيره وذلك بسبب ما حباه الله من الامكانات، وبما أكرمه وهداه إلى فعل الطاعات، فينخدع بذلك، ويظن أن عنده شيئا ذاتيا يملكه ليس عند غيره، فيتكبر به ويتعاظم في نفسه فتصبح هذه الإمكانات وتلك الطاعات التي أكرمه الله بأدائها حجة عليه لا له ... قال صلى الله عليه وسلم: " لا يزال الرجل يذهب بنفسه حتى يُكتب في الجبارين، فيصيبه ما أصابهم" (¬2). بل إن صاحب الذنب المنكسر الذي يرى نفسه أقل الناس شأنا قد يكون عند الله أفضل منه. تأمل معي - أخي القارئ - هذا الحديث: قال صلى الله عليه وسلم: " كان رجلان في بني إسرائيل متواخيان، وكان أحدهما مذنبا، والآخر مجتهدا في العبادة، وكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب، فيقول: أقصر. فوجده يوماً على ذنب، فقال له: أقصر. فقال: خلِّني وربي، أبُعِثْت عليَّ رقيبا؟ فقال: والله لا يغفر الله لك، أو لا يدخلك الله الجنة، فقُبض روحهما فاجتمعا عند رب العالمين، فقال لهذا المجتهد: أكنت بي عالماً، أو كنت على ما في يدي قادراً؟! وقال للمذنب: اذهب فادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر: اذهبوا به إلى النار" (¬3). ويؤكد على هذا المعنى ابن عطاء الله بقوله: معصية أورثت ذلاً وانكساراً، خيرٌ من طاعة أورثت عزاً واستكباراً. وكذلك قال بعض السلف - كما ينقل عنهم ابن القيم-: إن العبد قد يعمل الذنب فيدخل به الجنة، ويعمل الطاعة فيدخل بها النار. قالوا: كيف ذلك؟ قال: يعمل الذنب فلا يزال نصب عينيه، إن قام، وإن قعد، وإن مشى: ذكر ذنبه، فيحدث له انكساراً، وتوبة، واستغفاراً، وندماً، فيكون ذلك سبب نجاته. ويعمل الحسنة فلا تزال نصب عينيه، إن قام، وإن قعد، وإن مشى، كلما ذكرها أورثته عجباً وكبراً ومنة، فتكون سبب هلاكه. فيكون الذنب موجبا لترتيب طاعات، وحسنات، ومعاملات قلبية، من خوف الله، والحياء منه، والإطراق بين يديه منكساً رأسه خجلاً، باكياً، نادماً، مستقيلاً ربه، وكل واحد من هذه الآثار أنفع للعبد من طاعة توجب له صولة، وكبراً وازدراء بالناس، ورؤيتهم بعين الاحتقار. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (2620). (¬2) رواه الترمذي وقال: حديث حسن. ويذهب بنفسه أي: يرتفع ويتكبر. (¬3) رواه الإمام أحمد، وأبو داود عن أبي هريرة، وصححه الألباني في صحيح الجامع، ح رقم (4455).

ولا ريب أن هذا المذنب خير عند الله، وأقرب إلى النجاة والفوز من المعجب بطاعته، الصائل بها، المانّ بها وبحاله على الله عز وجل وعباده، وإن قال بلسانه خلاف ذلك، فالله شهيد عل ما في قلبه. فإذا أراد الله بهذا العبد خيراً ألقاه في ذنب يكسره به، ويعرفه قدره، ويكفي به عباده شره، وينكس به رأسه، ويستخرج منه داء العجب والكبر والمنة عليه وعلى عباده. فيكون هذا الذنب أنفع لهذا من طاعات كثيرة، ويكون بمنزلة شرب الدواء ليستخرج به الداء العضال (¬1). وخلاصة القول أن الله عز وجل قد خلقنا بهذا التكوين وما فيه من ضعف وعجز وجهل واحتياج دائم ليسهل علينا أداء واجبات العبودية، ويحدث الانسجام بين ما هو مركوز في فطرتنا وبين ما ينبغي أن نقوم به من تواضع، وتذلل، وانكسار، وتضرع، وحب، وخشية، وهيبة له سبحانه، فإذا ما تمرد المرء على ارتداء رداء العبودية فإنه بذلك يخرج من كنف ربه ورعايته، وتكون له المعيشة الضنك في الدنيا، والعذاب في الآخرة. ¬

_ (¬1) تهذيب مدارج السالكين، ص (170).

الفصل الثاني بين العبادة والعبودية

الفصل الثاني بين العبادة والعبودية

العبودية لا تتغير

بين العبادة والعبودية (¬1) لو تأملنا في معاني العبودية لله عز وجل من تعظيم ومهابة، وذل وانكسار، وحب ورجاء، وخشية وإجلال، لوجدنا أنها عبارة عن مشاعر ووجدانات، ولأن القلب هو الذي تجتمع فيه مشاعر الإنسان ووجداناته فالعبودية إذن محلها القلب، وبالتالي فإن أكثر الناس عبودية لله عز وجل هو أعظمهم تعبيدا لقلبه، وتوجيهاً لمشاعره نحوه سبحانه حتى يصير حبه أحب الأشياء إليه، وخشيته أخوف الأشياء عنده ... {وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165]. ومع كون العبودية محلها القلب إلا أن آثارها قد تظهر على الجوارح، فالإخلاص عبادة قلبية تظهرها الجوارح على صورة إخفاء الأعمال، والهرب من مواطن الشهرة، وعدم تزكية النفس أو المباهاة بها ... والتواضع عبادة قلبية تظهر آثارها على أفعال صاحبها بخفض الجناح للمؤمنين، والمشي على الأرض هونا، وعدم الاستنكاف من الجلوس مع الفقراء والمساكين ... العبودية لا تتغير: منذ بدء الخليقة وهبوط آدم - عليه السلام - على الأرض، وحتى قيام الساعة فإن المطلوب من الإنسان في كل زمان ومكان أن يكون عبداً لله عز وجل. هذه هي الوظيفة التي خُلق جميع البشر من أجل القيام بها مدة وجودهم على الأرض وذلك من سن البلوغ حتى نهاية الأجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21]. المطلوب من الجميع أن يتجه بمشاعره نحو الله ... أن يحبه ويخافه ويتذلل إليه ويهابه ويجله ويتقيه .. . هذه العبودية المطلوبة من البشر جميعا تحتاج بلا شك إلى مظاهر تظهرها، وأعمال بالجوارح تُعبر عنها ... من هنا كانت الشرائع السماوية التي تحدد للناس أشكال الأعمال التي ينبغي عليهم أن يقوموا بها إظهاراً لعبوديتهم لله عز وجل.

_ (¬1) اتفق العلماء على أن هناك عبادات محلها القلب من حب وخوف ورجاء وتوبة وإخلاص .. وعبادات محلها الجوارح كالصلاة والصيام والذكر والحج. وقد أدرج بعضهم القسمين تحت مسمى العبادة، وإن كانوا قد فرقوا بينهما بعد ذلك فسموهما: عبادة القلب، وعبادة الجوارح، أو أعمال القلب وأعمال الجوارح، والبعض الآخر أدرج عبادات القلب تحت مسمى (العبودية)، وعبادات الجوارح تحت مسمى (العبادة). والملاحظ أن جوهر التقسيم واحد وإن اختلفت المسميات، ونحن في هذا الكتاب نتبنى الرأي الثاني.

لا بديل عن الاتباع

والملاحظ أن الشرائع السماوية مختلفة في بعض أعمالها وهيئاتها {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48]؛ إلا أنها تشترك جميعها في كونها تعبر عن معاني العبودية لله عز وجل، والتي لا ينبغي أن تختلف من شخص لآخر مهما كان وضعه أو مكانه أو زمانه الذي يحيا فيه. ومن أمثلة اختلاف شرائع من قبلنا عن شريعتنا قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [الأنعام:146]. وأخرج الإمام أحمد في الزهد أن وهب بن منبه سُئل: ما كان شريعة أيوب عليه السلام؟ قال: التوحيد وصلاح ذات البين، وإذا أراد أحدهم حاجة إلى الله عز وجل خر ساجدا ثم طلب حاجته (¬1) .. لا بديل عن الاتباع: قد يقول قائل: ولماذا لا يُترك الناس للتعبير عن عبوديتهم لله عز وجل حسب ما يرون؟ لو تُرك للناس تحديد الأعمال التي يظهرون من خلالها عبوديتهم لله عز وجل لحدث اختلاف كبير بينهم، ولتشدد البعض وتسيب البعض الآخر. فعلى سبيل المثال: قد يرى إنسان أن إظهار المسكنة لله عز وجل يستلزم أن يظل واقفا تحت أشعة الشمس فترة طويلة من الوقت، أو ألا ينام أو يأكل أو يتزوج. وقد يرى بعض الناس مثلا أنه ما دام القلب متجها إلى الله فليس من الضروري القيام بأعمال أو طاعات له سبحانه ... ، وهكذا. من هنا تظهر قيمة الالتزام بالعبادات والشرائع التي جاءت بها الرسل والتي شرعها الله عز وجل لعباده، وهو أعلم بهم، وبما يناسبهم من أعمال تُعبر عما في قلوبهم تجاهه سبحانه. بل إن من أهم مظاهر العبودية: الانقياد والاستسلام لله عز وجل وطاعة رسوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]. قيمة عبادات الجوارح: إذن فالعبادة التي نؤديها بالجوارح ما هي إلا شكل ووعاء علينا أن نُظهر من خلاله معاني العبودية لله عز وجل من ذل وانكسار وافتقار، وحب وخوف ورجاء، وخضوع واستكانة. فالصلاة بالهيئة التي طالبنا الله بها علينا أن تُظهر من خلالها التواضع والانكسار والذل والخضوع له سبحانه. . . تأمل معي هيئة السجود وما فيها من معاني الذل والخضوع ... قال صلى الله عليه وسلم: " أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا من الدعاء " (¬2). أما الزكاة والصدقة فهي عبادات تُظهر مدى حبنا لله عز وجل ومدى انتصار هذا الحب على حب المال الذي تعشقه النفس. والصوم عبادة تُظهر مدى تضحيتنا وحبنا لله عز وجل أكثر من حبنا للطعام والشراب .. أما الحج فيظهر مدى استسلامنا، وانقيادنا لأمره سبحانه. والذكر كذلك: فالتسبيح يعبر عن تعظيم الله وتنزيهه، والاستغفار يُعبر عن الشعور بالتقصير في جنبه سبحانه، والحوقلة تُظهر الإفتقار والمسكنة إليه ... وهكذا. فالعبادات إذن ما هي إلا منظومة تُظهر معاني العبودية لله عز وجل. ولكي تؤدي هذه العبادات دورها في إظهار العبودية، لا بد من حضور القلب وتفاعله معها .. حضور مشاعر الحب والخوف والرجاء، ليزداد خلالها خشوعه وخضوعه لله عز وجل كما قال تعالى واصفا عباده الصالحين: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء:109]. ¬

_ (¬1) الزهد للإمام أحمد، ص (42) - دار الكتب العلمية - بيروت. (¬2) رواه مسلم (2: 49 - 50).

بين الشكل والمضمون

يقول د. محمد سعيد رمضان البوطي: العبادة هي الوظائف البدنية التي كلف الله عباده بها، من صلاة وصيام وحج وغيرها من العبادات. أما العبودية فهي الذل الذي يهيمن على كيان الإنسان ومشاعره لخالقه، فيقوده إلى تعظيمه ومهابته، وإلى الالتجاء الدائم إليه بالاستغفار والدعاء والرجاء، ومن ثم فهو لا يدين بالولاء والتعظيم لأي كائن غيره. وعلاقة ما بين العبادة والعبودية أن العبادة وعاء للعبودية، ومن ثَمَّ فإن قيمة العبادة تكمن في القدر الذي تنطوي عليه من معنى العبودية. ذلك لأن الذي يقرب العبد إلى الله تحققه بمعنى العبودية له، وإنما شُرعت العبادات وسيلة لذلك (¬1). ويقول كذلك: ثم اعلم أن للطاعات والقربات المتنوعة التي شرعها الله وأمر بها، ثمرة واحدة لا ثانية لها، وهي سر قبول الله لها وإثابته عليها، ألا وهي ثمرة الافتقار إلى الله والتوجه إليه بذل العبودية والضراعة والانكسار. بل المطلوب من الإنسان أن يكون في كل أحواله وتقلباته مستشعراً حقيقة الافتقار إلى الله متصفاً بذل العبودية لله، ملتصقاً بأعتاب جوده وكرمه، وما شُرعت العبادات والطاعات إلا لتكون تذكرة لهذا المطلوب، وترسيخاً لمشاعر العبودية لله والافتقار إليه في نفس الإنسان (¬2). بين الشكل والمضمون: من هنا يتبين لنا أن القيمة العظمى للعبادة هي إظهارها لمعاني العبودية لله عز وجل، مع الأخذ في الاعتبار أنه لا يجوز ابتداع شكل آخر غير الأشكال التي طالبنا الله بها وبينها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالطرق إلى الله كلها مسدودة إلا الطريق الذي يقف عليه محمد صلى الله عليه وسلم. وإليك أخي القارئ مثالاً يوضح أهمية الشكل ونسبته إلى المضمون: عندما يذهب الواحد منا إلى مصلحة كمصلحة الأحوال المدنية ليستخرج بطاقة للأحوال الشخصية أو مستخرجاً رسمياً لشهادة الميلاد، فإنه يقدم طلبه على نموذج معد لذلك، ويستوفي الشروط المطلوبة لصحة الطلب، ثم يكتب ما يريده بعد ذلك. فإذا قام بتقديم طلبه على ورقة أخرى غير هذا النموذج، فلن يُلتفت إلى طلبه مهما كتب فيه. وإن قدم النموذج المطلوب واستوفى شروطه ولكنه لم يكتب فيه شيئا مما يريد، فسيُطرح طلبه جانباً من قِبل المختصين لأنهم لم يعرفوا ماذا يريد. إذن فالنموذج مطلوب، وملؤه بالبيانات كذلك مطلوب .. فلابد من الإثنين معاً. كذلك العبادة بالجوارح والعبودية بالقلب. فالعبادة مهمة جداً كشكل ونموذج طالبنا الله عز وجل أن ندخل عليه من خلاله. ولكن إذا اجتهدنا في تحصيل الشكل الظاهري لتلك العبادة، وبالغنا في إتقانه دون أن نملأه بمعاني العبودية، فقد ضاع تعبنا ... تأمل معي قوله صلى الله عليه وسلم: "رُب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورُب قائم ليس له من قيامه إلا السهر" (¬3). ولو قمنا بإظهار معاني العبودية لله عز وجل ولكن بشكل مبتدع مخالف للذي ارتضاه لنا فلن يُقبل منا، وسيُرَد علينا كما قال صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَد" (¬4)، فلو أن شخصا اتجه في صلاته متعمداً لغير القبلة وكانت صلاته خاشعة متذللة متمسكنة فلن تُقبل منه، وفي المقابل لو صلى في اتجاه القبلة، وأتى بجميع حركات الصلاة الصحيحة وقلبه غافل لاهٍ ساهٍ فما قيمة صلاته؟! ألم يقل صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا ينظر إلى أجسادكم، ولا صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم" (¬5). ¬

_ (¬1) شرح الحكم العطائية (3:142) - دار القلم - دمشق. (¬2) شرح الحكم العطائية (3:151). (¬3) سنن ابن ماجه (1680). قال الشيخ الألباني: (صحيح) انظر حديث رقم (3488) في صحيح الجامع. (¬4) صحيح البخاري (2499). (¬5) أخرجه مسلم (8/ 11).

النسبة بين الشكل والمضمون

يقول ابن القيم: ولا ريب أن مجرد القيام بأعمال الجوارح، من غير حضور ولا مراقبة، ولا إقبال على الله: قليل المنفعة، دنيا وأخرى، كثيرة المؤونة .. فهكذا العمل الخارجي القشوري بمنزلة النخالة، كثيرة المنظر قليلة الفائدة (¬1). ويقول الإمام البنا رحمه الله: وعمل القلب مقدم على عمل الجارحة وتحقيق الكمال في كليهما مطلوب وإن اختلفت مرتبتا الطلب (¬2). النسبة بين الشكل والمضمون: إذا كان الشكل مهما وضروريا للدخول على الله عز وجل إلا أن الأهم والأهم هو مدى إظهاره معانى العبودية والتي من أجلها خُلق الإنسان. ومما يؤكد ذلك أن الله عز وجل قد بيَّن لنا في كتابه أن المقصود الأعظم من العبادة هو زيادة عبودية القلب له سبحانه، تأمل معي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21]، وقوله: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:37]. فإراقة الدماء في الحج ليست غاية في حد ذاتها بل هي شكل من أشكال العبادة التي ينبغي أن تظهر من خلالها تقوانا لله عز وجل ... فما قيمة إراقتها دون أن يصاحبها زيادة في التقوى؟! وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: إنما الصلاة تَمسكُن وتواضع وتضرع وتَأوُه وتنادُم وتضع يديك فتقول: اللهم اللهم. فمن لم يفعل فهي خداج" (¬3). لابد إذن من أن يوضع الشكل - مع أهميته القصوى - في حجمه الصحيح، فوظيفته الأساسية إظهار العبودية وزيادتها في قلب العبد .. فإن كنت في شك من هذا فتدبر معي قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:177]. فهذه الآية الجامعة قد نزلت بعد تحويل القبلة تجاه الكعبة، وما صاحب ذلك من جدل طويل من اليهود وغيرهم .. نزلت هذه الآية لتضع الأمر في حجمه الصحيح عند المسلم، وأن المقصد الأهم من العبادات هو الإيمان الذي يزيد في القلب فينعكس أثره على الأعمال. ¬

_ (¬1) تهذيب مدارج السالكين، ص (153). (¬2) رسالة التعاليم، من مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا - دار التوزيع والنشر الإسلامية. (¬3) أخرجه الترمذي والنسائي بنحوه من حديث الفضل بن عباس بإسناد مضطرب. وخداج أي ناقصة.

العبادة المؤثرة

ولصاحب الظلال تعليق على هذه الآية فيقول - رحمه الله-: إنه ليس المقصد من تحويل القبلة، ولا من شعائر العبادة على الإطلاق؛ أن يولي الناس وجوههم قِبل المشرق والمغرب .. نحو بيت المقدس أو نحو البيت الحرام .. وليست غاية البر - وهو الخير جملة - هي تلك الشعائر الظاهرة، فهي في ذاتها - مجردة عما يصاحبها في القلب من المشاعر وفي الحياة من السلوك - لا تحقق البر، ولا تُنشئ الخير .. إنما البر تصور وشعور، وأعمال وسلوك، تصور ينشئ أثره في ضمير الفرد والجماعة، وعمل ينشئ أثره في حياة الفرد والجماعة. ولا يغني عن هذه الحقيقة العميقة تولية الوجوه قِبَل المشرق والمغرب .. سواء في التوجيه إلى القبلة هذه أم تلك، أو في التسليم في الصلاة يميناً وشمالاً، أو في سائر الحركات الظاهرة التي يزاولها الناس في الشعائر (¬1). العبادة المؤثرة: مما لا شك فيه أن قيام الجوارح بالعبادة مع حضور القلب وتفاعل مشاعره معها له أثر كبير في زيادة الإيمان والعبودية في القلب، وفي المقابل فإن تحرك الجوارح بالعبادة دون تحريك القلب قليل النفع، ضعيف الأثر، فالرجلان قد يكون مقامهما في صف الصلاة واحداً ولكن بين صلاتهما كما بين السماء والأرض، وليس ذلك لتفاوتهما في حركات الجوارح، ولكن لتفاوت حركة المشاعر في قلبيهما من الخشوع والذل والانكسار والمحبة لله عز وجل. معنى ذلك أن مجرد الإكثار من العبادة بالجوارح ليس دليلا على قرب صاحبه من الله، بل دليل القرب هو مقدار العبودية في القلب والتي لا يعلم مقدارها إلا الله عز وجل {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]. والدليل على ذلك الثلاثة الذين ذهبوا إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، يسألون عن عبادته صلى الله عليه وسلم، فلما أُخبروا بها كأنهم تقالُّوها (أي عدُّوها قليلة)، وقالوا: أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم فقد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبداً، وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر ولا أُفطر، وقال الآخر: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني" (¬2). هنا نجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يصلي الليل أو يصوم الدهر كله، ومع ذلك كان أكثر الخلق خشية وتقوى لله عز وجل، بالرغم من وجود من يصلي الليل ويصوم الدهر كله. وقس على ذلك ما وُصف به أبو بكر الصديق رضي الله عنه بأنه"ما سبقكم أبو بكر بكثرة صلاة ولا صيام، ولكن بشيء وقر في صدره" (¬3). وفي الصحيحين عن أنس بن مالك أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: متى الساعة يا رسول الله؟ قال: "وما أعددت لها؟ " قال: ما أعددت لها من كبير صلاة ولا صيام ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنت مع من أحببت". قال أنس: ففرحنا يومئذ فرحاً شديداً (¬4). ومما يؤكد هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "والله لقد سبق إلى جنات عدن أقوام ما كانوا أكثر الناس صلاة ولا صياماً ولا اعتماراً، ولكنهم عقلوا عن الله مواعظه، فوجلت قلوبهم واطمأنت إليه النفوس، وخشعت منه الجوارح، ففاقوا الخليقة بطيب المنزلة وبحسن الدرجة عند الناس، وعند الله في الآخرة" (¬5). ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن لسيد قطب (1: 159) - دار الشروق - القاهرة. (¬2) صحيح البخاري (4675). (¬3) المحجة في سير الدلجة لابن رجب، ص (53) - دار البشائر - بيروت. (¬4) البخاري 3485 (¬5) رواه ابن السني وابن شاهين والديلمي عن علي.

أين الأثر؟

والمتأمل في كتب السير والتراجم يجد أن الصحابة رضوان الله عليهم لم يكونوا أكثر صلاة وصياما ممن جاءوا من بعدهم، ولم يؤثر عن أحدهم أنه كان يصلي الفجر بوضوء العشاء كذا وكذا سنة، بل كانوا ينامون ويستيقظون بالليل .. يصومون ويفطرون .. يضحكون ويبكون .. ومع ذلك كانوا أكثر الخلق بعد الأنبياء قرباً من الله عز وجل وعبودية له بقلوبهم. يقول ابن مسعود مخاطباً نفراً من التابعين: أنتم أكثر صلاة من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وهم كانوا خيراً منكم، قالوا: وبم ذلك؟ قال: كانوا أزهد منكم في الدنيا، وأرغب في الآخرة (¬1). أين الأثر؟ ومع قيمة العبادة العظمى في كونها تظهر معاني العبودية لله عز وجل من ذل وافتقار وانكسار وخضوع واستسلام؛ فإنها أيضًا تقوم بوظيفة كبيرة في تحسين السلوك، والاستقامة على أمر الله، وذلك من خلال زيادة الإيمان التي تصاحب تحرك القلب وتجاوب المشاعر مع تلك العبادة ليقوم الإيمان بدوره في دفع المرء للقيام بالأعمال الصالحة: {(ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32]. فأسرع الناس إلى فعل الخيرات هم أكثر الناس إيماناً وخشية وتعبيداً لمشاعرهم وقلوبهم لله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون:57 - 61]. ولئن كان إظهار العبودية لله عز وجل من أهم مقاصد العبادات، فإن من مقاصدها كذلك تحسين السلوك، ودفع المرء إلى الاستقامة على أمر الله. فالصلاة من شأنها أن تُشعر المسلم بخضوعه وانكساره لربه، وهي وسيلة عظيمة للاتصال به - سبحانه -، ومناجاته، واستشعار القرب منه، والأنس به، والشوق إليه، فتكون نتيجتها زيادة خضوع المشاعر لله عز وجل {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 109]. وبذلك تقرب الصلاة العبد من ربه {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19]. ومن نتائجها كذلك: زيادة الإيمان في القلب، فإذا ما زاد الإيمان: تحسن السلوك، فتزداد مسارعته لفعل الخير، ويقوى وازعه الداخلي ومقاومته لفعل المعاصي أو الاقتراب منها فيتحقق بذلك قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45]. فإن لم تفعل الصلاة ذلك، ولم يظهر أثرها في سلوك المرء، فإن هذا يعني عدم زيادتها للإيمان، وعدم إظهارها لمعاني العبودية، ومن ثَمَّ فقد فقدت روحها والمقصد الأعظم منها. المشاعر أولاً: من هنا تتضح لنا أهمية العبودية وضرورة تمكنها من المشاعر أولًا لتأتي العبادة فتعبر عنها وتزيدها رسوخاً في القلب ومن ثَمَّ انعكاساً على السلوك، ومما يؤكد هذا المعنى أن التربية الربانية للجيل الأول كانت تركز على العبودية وزيادة الإيمان في القلب أولاً قبل تشريع العبادة، فكما قيل بأن الإسلام بدأ مشاعر ثم شعائر ثم شرائع. إنه لأمر عجيب أن تُفرض الصلاة في رحلة الإسراء والمعراج، ويفرض الصيام وسائر التشريعات في المدينة بعد سنوات من البعثة .. فما كان الذي يفعله المسلمون الأوائل في مكة إذن؟ ماذا كان يفعل الواحد منهم عندما يستيقظ من نومه ولم يكن عليه ساعتها تكاليف يؤديها أو محظورات يجتنبها؟! ¬

_ (¬1) حياة الصحابة.

تربية الأبناء على العبودية

نعم، كان هذا هو الواقع الذي عاشه المسلمون الأوائل .. ومع عدم وجود تكاليف إلا أنه كان يتم في هذه الفترة أخطر مرحلة من مراحل بناء الفرد المسلم، وهي مرحلة تأسيس القاعدة الإيمانية، وارتداء رداء العبودية لله عز وجل .. مرحلة تعبيد المشاعر له سبحانه، لتأتي الشعائر بعد ذلك فتُحسن التعبير عن هذه المشاعر. تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: أول ما نزل من القرآن سورة من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول الأمر: لا تزنوا لقالوا: لا ندع الزنا أبداً، ولو نزل أول الأمر لا تشربوا الخمر لقالوا: لا نترك الخمر أبدا .. أُنزل على النبي صلى الله عليه وسلم وأنا جارية ألعب {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر:46]، وهي من سورة القمر، وما نزلت البقرة والنساء إلا وأنا عنده في المدينة (¬1). ويؤكد على هذا المعنى جندب بن عبد الله - رضي الله عنه - بقوله: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فتيان حزاير (¬2)، فتعلمنا الإيمان قبل القرآن، ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانا (¬3). وليس معنى هذا أن نترك العبادة، أو نقول: لابد أن نفعل مثل ما فُعل مع الصحابة، فلقد اكتمل التشريع كما قال تعالي: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة:3]. فنحن مطالبون بأداء كل ما افترضه الله علينا، ومع ذلك فلابد من التركيز على القلب وزيادة الإيمان والعبودية لله فيه، وأن نعطي هذا القدر الكافي من الاهتمام، وبخاصة في بداية تكوين الفرد المسلم، لتصبح العبادة مؤثرة تُزيد العبودية في القلب، ومن ثَم تُقرب صاحبها إلى الله أكثر وأكثر. تربية الأبناء على العبودية: ولعلنا من ذلك نستخلص طريقة تربوية في تربية أبنائنا على العبودية لله عز وجل قبل سن التكليف، فمع تحبيبهم والعمل على تعويدهم على أداء العبادات إلا أن الجهد الأكبر ينبغي أن ينصب على تعريفهم بالله عز وجل، وتعظيم قدره في نفوسهم، وتعريفهم بأنفسهم، وأنهم لا شيء بدون ربهم .. انظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوجه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما لذلك بقوله: "يا غلام إني أعلمك كلمات؛ احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك. إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفِعت الأقلام، وجفت الصحف" (¬4). اقتران العبادة بالعبودية: إن الطاعات التي فرضها الله علينا كلها أنوار، ووسائل يتقرب من خلالها العبد إلى الله عز وجل .. قال صلى الله عليه وسلم: "الصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء" (¬5). ولا يمكن أن يتقرب العبد إلى ربه إلا من خلالها، فهي تعد بمثابة المركبات التي تتحرك بمن يركبها فتقربه إلى مولاه .. هذه المركبات تحتاج إلى وقود يُحركها ويدفعها للأمام وإلا لما تحركت .. وهنا يأتي الدور العظيم لمعاني العبودية والتي تُعد بمثابة الوقود لهذه المركبات. فالدعاء على سبيل المثال وسيلة وطاعة يتقرب بها العبد إلى ربه كما قال صلى الله عليه وسلم: "الدعاء هو العبادة" (¬6). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري رقم 4707. (¬2) جمع حزير، وهو الشاب الممتلئ نشاطا وقوة. (¬3) رواه ابن ماجه بسند صحيح. (¬4) صحيح، سنن الترمذي (2440). (¬5) صحيح مسلم (328). (¬6) رواه الترمذي (3369)، وأبو داود (1449)، وصححه ابن حبان (2396).

خطورة الإهتمام بالشكل دون المضمون

هذا الدعاء يحتاج إلى تضرع وحضور قلب حتى يتقبله الله عز وجل كما طالبنا سبحانه وتعالى بذلك: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف:55]. وإذا غاب الوقود توقفت المركبة بصاحبها، فظل مكانه كما أخبرنا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأعلموا أن الله لا يقبل الدعاء من قلب غافل لاه" (¬1). فلابد إذن من الاثنين معا: المركبة والوقود .. الشكل والمضمون .. العبادة والعبودية، وكلما اقترن الإثنان معاً ازداد القرب من الله عز وجل: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق:19] .. والحديث القدسي الذي يجمع كل ذلك: إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع بها لعظمتي، ولم يستطل بها على خلقي، ولم يبُت مصراًً على معصيتي، وقطع نهاره في ذكري، ورحم المسكين وابن السبيل، والأرملة والمصاب .. " (¬2). خطورة الإهتمام بالشكل دون المضمون: مما يدعو للأسف أن الكثير من المسلمين قد أصبح اهتمامه بالشكل دون المضمون .. يهتم ويجتهد ويبالغ ويدقق في دقائق الشكل، ولا يفكر في المضمون بنفس الطريقة، بل قد لا يفكر فيه أساسا .. فعلى سبيل المثال: العلم، فلقد فُضِّل العلم لأنه وسيلة عظيمة لمعرفة الله وخشيته وتقواه: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} [الحج:54]، وإذا لم يُثمر ذلك فهذا هو العلم الذي تعوذَّ منه النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان يقول: "اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها" (¬3). وقديماً حذر الإمام ابن الجوزي من الانشغال بصورة العلم دون فهم مقصوده، فقال: رأيت أكثر العلماء مشتغلين بصورة العلم، دون فهم حقيقته ومقصوده. فالقارئ مشغول بالروايات، عاكف على الشواذ، يرى أن المقصود نفس التلاوة، ولا يتلمح عظمة المتكلم، ولا زجر القرآن ووعده .. وربما ظن أن حفظ القرآن يدفع عنه، فتراه يترخص في الذنوب، ولو فهم لعلم أن الحجة عليه أقوى ممن لم يقرأ (¬4). زخرفة المساجد: والمثال الآخر الذي يدل على الإهتمام بالشكل دون المضمون: هيئة المساجد: فالمساجد هي بيوت الله، ومِن ثَمَّ فينبغي لمن يدخلها من العباد ويصلي فيها لله أن يُظهر استكانته، وخضوعه وذله لصاحب البيت الذي هو ربه وولي نعمته. هذه الحالة ينبغي أن تنسجم معها هيئة تلك المساجد، لكن الحادث غير ذلك، فقد بالغ الناس في زخرفتها، وفرشها، وإضاءتها وتزيينها، يقول أبو الدرداء: إذا حليتم مصاحفكم، وزوقتم مساجدكم فالدمار عليكم (¬5). فزخرفة المساجد تعكس انشغال الناس عن حقيقة العبودية واهتمامهم بالشكل دون المضمون مما يعرضهم إلى مقت الله عز وجل، ومما يؤكد هذا المعنى ما رواه الإمام أحمد في الزهد عن أبي حصين قال: كان يقال: إذا ساء عمل أمة زينوا مساجدهم (¬6). فتزيين المساجد عمل سهل يقدر عليه الجميع، ويظنون من خلال قيامهم به أنهم يخدمون الدين ويؤدون حقه عليهم، ومن ثَم فلا عليهم بعد ذلك ملامة فيما يقصرون فيه. يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله: إن مكانة المسجد في المجتمع الإسلامي، تجعله مصدر التوجيه الروحي والمادي، فهو ساحة للعبادة، ومدرسة للعلم، وندوة للأدب، لكن الناس لما أعياهم بناء النفوس على الأخلاق الجليلة استعاضوا عن ذلك ببناء المساجد السامقة التي تضم مصلين أقزاما!!! ¬

_ (¬1) رواه الترمذي والحاكم وابن حبان وغيرهما مرفوعا، وأورده الألباني في السلسلة الصحيحة (594). (¬2) رواه البزار. (¬3) رواه مسلم. (¬4) صيد الخاطر لابن الجوزي، ص (552). (¬5) فضائل القرآن للفرياني، ص (248) - مكتبة الرشد - الرياض. (¬6) الزهد للإمام أحمد، ص (86).

أما الأسلاف الكبار فقد انصرفوا عن زخرفة المساجد وتشييدها إلى تزكية النفوس وتقويمها، فكانوا أمثلة صحيحة للإسلام (¬1). ¬

_ (¬1) فقه السيرة لمحمد الغزالي، ص (178) بتصرف يسير - دار القلم - دمشق.

الفصل الثالث ملامح عامة لطريق العبودية

الفصل الثالث ملامح عامة لطريق العبودية

لماذا لا تتجه القلوب إلى الله؟

ملامح عامة لطريق العبودية كان الحديث في الصفحات السابقة عن حقيقة العبودية وأنها تعني ذل العبد وانكساره لربه، وارتباط حياته به، وافتقاره التام إليه، مع حبه وخشيته ودوام الإنابة والاستعانة به .. ولو دققنا النظر في هذه المعاني لوجدنا أنها عبارة عن معاملات ينبغي أن يتعامل بها المرء مع الله عز وجل، بمعنى أنه يجب على العبد أن يعامل ربه بحب واشتياق، وأن يعامله بصدق وإخلاص، وأن يتعامل معه وهو يرهبه ويخشاه، وأن يعامله وهو يطمع فيما عنده، وأن يتعامل معه بتذلل وانكسار، وأن يتعامل معه كذلك وهو يستشعر افتقاره، وعظيم احتياجه إليه .. هذه المعاملات لا يمكن أن تتم بصورة تلقائية إلا إذا انطلقت المشاعر، فعلى سبيل المثال: لا يمكن لشخص أن يحب شخصاً آخر لمجرد أنه أُمر بذلك، فلغة القلوب لا يمكن تكلفها. فالقلوب بصفة عامة تحب من يحسن إليها ويكرمها، ويحرص عليها، ويرأف بها. والقلوب تخاف ممن تتأكد أنه يملك عقابها وحرمانها مما تحب. والقلوب تفتقر وتتجه إلى من يملك احتياجاتها وما تريد. والقلوب تطمئن وتسكن لمن تشعر بالحماية والأمن في جواره. والقلوب تستعين بمن تراه قادراً على أن يفعل ما تريد ... وهكذا. لماذا لا تتجه القلوب إلى الله؟ فإن كان الأمر كذلك فلماذا لا تتجه القلوب إلى الله وتتعامل معه بما هو أهله مع أنه سبحانه وتعالى يحسن إليها ويكرمها، ويملك احتياجاتها كلها، وهو القادر على فعل أي شيء، ويستطيع عقابها وحرمانها مما تحبه؟ .. لماذا تتجه القلوب إلى بعض المخلوقين بالتعظيم والتوقير ولا تتجه إلى الخالق العظيم ذي الجلال والإكرام؟ السبب وراء ذلك هو الجهل به سبحانه، وبمقامه الجليل، وبقدره العظيم، والجهل كذلك بالطريقة التي يتعامل بها معنا من ود، وحب، وشفقة .. تأمل معي هذه الآية: {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} [الحشر:13]، فعدم معرفة هؤلاء بالله جعلتهم يرهبون البشر أكثر من رهبتهم لله. يقول صلى الله عليه وسلم: "إن الله قد أذن لي أن أحدث عن ديك قد مرقت رجلاه الأرض وعنقه مثنية تحت العرش، وهو يقول: سبحانك ما أعظمك، فيرد عليه: لا يعلم ذلك من حلف بي كاذبا" (¬1). المعاملة على قدر المعرفة: تخيل أنك ذهبت إلى السوق ودخلت حانوتًا من الحوانيت وقابلت فيه رجلاً يتسوق مثلما تتسوق، ودار بينكما حديث ومن خلاله عرفت أن هذا الرجل يعمل وزيراً في حكومة بلدك، هل ستستمر في الحديث معه بنفس الطريقة التي بدأت بها أم ستتغير ليكسوها الاحترام والحذر؟! .. بلا شك أن معرفتك به ستدفعك إلى تغيير معاملتك له .. فطريقة المعاملة تحددها درجة المعرفة، وكلما ازدادت المعرفة تغيرت المعاملة، وهذا ما حدث مع سيدنا موسى - عليه السلام - عندما رأى آثار جلال الله على الجبل الذي اندك فخر - عليه السلام - صعقاً، فلما أفاق ماذا قال لربه؟! {فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:143]، فإن كان هذا قوله عند رؤية أثر جلال الله على الجبل، فكيف لو رأي الله عز وجل؟!

_ (¬1) صحيح، أخرجه الحاكم والطبراني في الأوسط، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (1714).

أهمية المعرفة

في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قوماً يذكرون الله عز وجل تنادوا: هلموا إلى حاجتكم، فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء، قال: فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم: ما يقول عبادي؟ قال: يقولون: يسبحونك، ويكبرونك، ويحمدونك، ويمجدونك، فيقول: هل رأوني؟ فيقولون: لا والله ما رأوك، فيقول: كيف لو رأوني؟ قال: يقولون: لو رأوك كانوا أشد لك عبادة ... ، وأشد لك تمجيداً، وتحميداً، وأكثر لك تسبيحاً ... " الحديث. أهمية المعرفة: إذن فالسبب الرئيس لعدم معاملة الله عز وجل بما هو أهله: عدم معرفته معرفة صحيحة: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:91]، وهذا ما أنكره نوح - عليه السلام - على قومه عندما قال لهم: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح:13]، ثم بدأ في تعريفهم بربهم لعل قلوبهم تتجه إليه: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا} [نوح:14 - 20]. معنى ذلك أن نقطة البداية في طريق العبودية والسير إلى الله هي معرفته سبحانه، وكلما قويت تلك المعرفة، ازدادت العبودية أكثر وأكثر، وهذا ما يؤكده قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:190، 191]. فهؤلاء الصالحون الذين ذكرتهم الآيات، عندما تفكروا في خلق الله، ازدادت معرفتهم به ومن ثَم َّ انعكس ذلك على تعاملهم معه بمزيد من التنزيه والخشية: {سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:191]. يقول ابن رجب: وكلما قويت معرفة العبد لله قويت محبته له، ومحبته لطاعته، وحصلت له لذة العبادات من الذكر وغيره على قدر ذلك (¬1). غاية المعرفة: وغاية معرفة الله عز وجل في الدنيا هي الحضور القلبي الدائم معه، أو بمعنى آخر: أن نتعامل معه - سبحانه - ونعبده كأننا نراه، فنناجيه من قريب، ونتحدث معه كأننا نشاهده ... أن نستشعر دوما قربه منا، فنأنس به ونكثر من مناجاته. أن نجده دائماً يتجلى بصفاته وراء كل حدث من أحداث حياتنا، فنربط أمورنا كلها به، مثل ما قال يوسف - عليه السلام - لأبويه وهو يخبرهم عما حدث له: {وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف:100]. مع أن ظاهر الأمر أن ملك مصر هو الذي أمر بإخراجه من السجن، لكنه يرى الأمور على حقيقتها، وأن الله هو الذي أخرجه، وما الملك إلا ستار للقدر، وجندي ينفذ الأمر الإلهي ... ¬

_ (¬1) استنشاق نسيم الأنس للحافظ ابن رجب، ص (50).

لوجدتني عنده

يقول ابن رجب: الوصول إلى الله نوعان: أحدهما في الدنيا، والثاني في الآخرة. فأما الوصول الدنيوي فالمراد به: أن القلوب تصل إلى معرفته، فإذا عرفته أحبته وأنست به، فوجدته منها قريباً، ولدعائهاً مجيباً، كما في بعض الآثار: ابن آدم، اطلبني تجدني، فإن وجدتني وجدت كل شيئ وإن فتك فاتك كل شيء. وأما الوصول الأخروي فالدخول إلى الجنة التي هي دار كرامة الله لأوليائه، ولكنهم في درجاتهم متفاوتون في القرب بحسب تفاوت قلوبهم في الدنيا في القرب والمشاهدة (¬1). أي أن الوصول الدنيوي يمثله قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن تعبد الله كأنك تراه"، أما الأخروي- في الجنة- ففيها الرؤية الحقيقية والقرب والمشاهدة. لوجدتني عنده: إن غاية المعرفة أن نجد الله عز وجل .. {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:110]. نجد صفاته العلى تتجلى في أحداث حياتنا. نجده قريباً فنأنس به ونناجيه. نجده حكيماً في كل مشيئة يشاؤها لنا فنرضى بقضائه. نجده سريع الحساب يعاقب على الذنب ويعفو عن كثير، فنسارع بالتوبة إليه كلما وقعنا في الخطأ. نجده لطيفاً في قدره. نجده سميعاً قريباً يجيب دعاءنا في دقائق الأمور وتفصيلاتها التي دعوناه بها ولم يعرفها سواه فنشعر بالأمان في جواره. نجده قهاراً ينفذ مشيئته فنستسلم له. نجده قادراً مقتدراً فنستعين به دوماً على تنفيذ كل ما نريد. نجده حليماً ستيراً فنحبه ونستحي منه. نجده معنا في كل وقت وحين، فنكلمه ونبث إليه أشواقنا، ونُسِرُّ إليه بخصوصياتنا. نجده حين نأكل، وحين نشرب، وحين ننام، وحين نستيقظ، وحين نركب دوابنا، فهو الذي يطعمنا ويسقينا، وهو الذي يتوفانا حين النوم ويوقظنا، وهو الذي يحملنا ويسيرنا في البر والبحر والجو ... {وَآَيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [يس:41]. تأمل معي أخي القارئ هذا الحديث النبوي: قال صلى الله عليه وسلم: "ما من بعير إلا وفي ذروته شيطان، فإذا ركبتموها فاذكروا نعمة الله تعالى عليكم، ثم امتهنوها لأنفسكم، فإنما يحمل الله تعالى" (¬2). فما الدابة التي نركبها إلا ستار وسبب لا قيمة له بدون الله عز وجل، فهو سبحانه الذي سخرها لنا، وهو الذي يحركها لحظة بلحظة، وآناً بآن، وكذلك كل شيء يحدث في هذه الحياة معنا أو مع غيرنا. فعندما نضحك نجده من وراء الضحك حياً قيوماً قد علم برغبتنا في الضحك فمكننا من ذلك: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم:43]. وعندما نأكل: نستشعر ربوبيته وقيوميته علينا فنقول: الحمد لله الذي أطعمني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة. وعندما يأتينا عطاء من أحد الناس نرى أن الله عز وجل هو الذي أعطانا إياه من خلال هذا الشخص، وعندما نُحرم من شيء، أو يُضيَّق علينا البعض نرى الحقيقة واضحة أمامنا وهي أن الله هو الذي حرمنا على يد هؤلاء بسبب ذنب أذنبناه أو لحكمة يعلمها سبحانه. نجد الله في كل خير نفعله: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [الدخان:58]، ولو شاء منعه لمنعه: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الإسراء:86]. نجد الله الهادي في كل طاعة نقوم بها: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ} [الأنبياء:73]. ¬

_ (¬1) المحجة في سير الدلجة للحافظ ابن رجب، ص (80). (¬2) حسن، رواه الإمام أحمد والحاكم، وأورده الألباني في صحيح الجامع (5699).

الله مقصدنا وغايتنا

نجد الله عند المريض ... يشمله بعطفه وحنانه ورعايته الخاصة. جاء في الحديث القدسي أن الله عز وجل يقول يوم القيامة: " يا ابن آدم مرضت فلم تعدني! قال: يا رب، كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت إن عبدي فلان مرض فلم تعده؟ أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟ ... " (¬1). وبالجملة نرى الله وراء كل حدث يحدث في الحياة ... عند هبوب الريح، وعند طلوع الشمس وعند غروبها .. عند نزول المطر .. عند الكسوف والخسوف {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} [النور: 44]. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم ذو ريح وغيم عُرف ذلك في وجهه صلى الله عليه وسلم فأقبل وأدبر، فإذا مُطرت سُرِّي عنه، وذهب عنه ذلك، فسألته عائشة - رضي الله عنها - في ذلك فقال: "إني خشيت أن يكون عذابا سُلِّط على أمتي" (¬2). وكان أحد الصالحين إذا ذهب إلى المسجد ليلقي درسه، وجد جموعاً غفيرة من الناس تنتظره فيناجي الله ويقول: اللهم إنك تعلم أنهم يقصدونك أنت، ولكنهم وجدوني عندك. الله مقصدنا وغايتنا: نعم، أخي هذه هي غاية المعرفة التي ينبغي أن نسعى إليها ... أن نجد الله يتجلى بصفاته العلى في كل شيء لينعكس ذلك على جميع تصرفاتنا، فتصبح إرادة وجهه الكريم هي مقصدنا في كل أعمالنا {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115]، فعلى سبيل المثال إطعام الطعام للفقراء والمساكين وغيرهم ينبغي أن يكون المقصود منه رضاه سبحانه: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الإنسان:9] وتكريم أهل الصلاح ينبغي أن يكون الهدف منه إجلال الله عز وجل، كما في الحديث: "إن من إجلال الله: إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن، غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام السلطان المقسط" (¬3). قال محمد بن إسحاق: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج من مكة مهاجراً إلى الله يريد المدينة قال: "الحمد لله الذي خلقني ولم أك شيئاً. اللهم أعني على هول الدنيا، وبوائق الدهر، ومصائب الليالي والأيام. اللهم اصحبني في سفري، واخلفني في أهلي، وبارك لي فيما رزقتني، ولك فذلِّلْني، وعلى صالح خلقي فقوّمني، وإليك رب فحببني، وإلى الناس فلا تكلني. رب المستضعفين وأنت ربي، أعوذ بوجهك الكريم الذي أشرقت له السماوات والأرض، وكشفت به الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن تُحلَّ علي غضبك، أو تنزل بي سخطك. أعوذ بك من زوال نعمتك، وفجأة نقمتك، وتحول عافيتك، وجميع سخطك. لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك" (¬4). التوحيد الخالص: قال صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا مبلغ، والله يهدي، وإنما أنا قاسم، والله يعطي" (¬5). وقال يوما لأصحابه: "ما أنا حملتكم، ولكن الله حملكم ... " (¬6). وكان صلى الله عليه وسلم إذا غزا قال: "اللهم أنت عضدي ونصيري، بك أحول، وبك أصول، وبك أقاتل" (¬7). فهذه الأحاديث تدل على الحقيقة التي ينبغي أن نشاهدها من وراء أحداث الحياة: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17]. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (2569). (¬2) متفق عليه. (¬3) حسن، رواه أبو داود، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (2199). (¬4) أخرجه أبو نعيم، وعبد الرزاق في مصنفه (5:156)، وقال الشيخ الألباني في تعليقه على فقه السيرة للشيخ محمد الغزالي (1:165): ضعيف. (¬5) صحيح رواه الطبراني، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2347). (¬6) صحيح الجامع (5554). (¬7) رواه أبو داود (2632)، والترمذي (3584)، وقال: حديث حسن.

الاكتفاء بالله

{وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} [الفتح:24]. وهذا هو العلم النافع، والتوحيد الخالص، الذي ينبغي أن نسعى جميعاً إلى تحصيله: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19]. إنه العلم بالله، وربط أحداث الحياة - مهما تنوعت - به سبحانه: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18]. وفي هذا المعنى يقول ابن عطاء: الغافل إذا أصبح ينظر ماذا يفعل، والعاقل ينظر ماذا يفعل الله به. ويقول سيد قطب: "شهادة أن لا إله إلا الله" .. تتطلب أن يصل الإحساس بوجود الله - سبحانه - ووحدانيته حد اليقين الناشئ من مثل الرؤية والمشاهدة، فهي رؤية ومشاهدة لهذه الحقيقة - بآثارها - في أغوار النفس المكنونة، وفي صفحة الكون المنشورة .. رؤية واضحة، ومشاهدة مستيقنة، تقوم عليها "شهادة" (¬1). الاكتفاء بالله: فإذا ما وجد المرء ربه، وربط أحداث حياته كلها به، فإن هذا من شأنه أن يجعله يوحد معاملاته، ويجعلها مع الله .. فهو يدعو ويجاهد من أجل أن يراه ربه فيحبه ويرضى عنه ... يتكلم بحساب، فهو يعلم أن الكلمة التي تخرج من فمه يسمعها ربه قبل أن يسمعها الناس. ينفق النفقة ولا يهمه كثيراً من يأخذها - مادام حاله في الظاهر يدل على أنه محتاج - لأنه يعلم أنها تقع في يد الله أولا: {ألَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} [التوبة:104]. فالله عز وجل هو الحاضر معه في كل صفقة أو بيعة يجريها، فيستشعر أنها تتم معه - سبحانه - أولاً: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح:10]. لا يهمه كثيراً رضا الناس عنه أو سخطهم عليه، فليس هذا مطمعه ولا ما يسعى إليه، بل مطمعه في رضاه سبحانه، كما قال الشاعر: فَلَيْتَكَ تَحْلُو وَالحَيَاة ُ مَرِيرَة ٌ ... وَلَيْتَكَ تَرْضَى وَالأَنَامُ غِضَابُ وَلَيْتَ الّذي بَيْني وَبَيْنَكَ عَامِرٌ ... و بيني وبينَ العالمينَ خرابُ إذا صَحَّ مِنكَ الوُدّ فالكلُ هَيّنٌ ... وَكُلُّ الذي فَوْقَ التّرَابِ تُرَابُ ينتظر الفرصة التي يخلو فيها المكان، وتهدأ الأصوات ليخلو بربه، ويبث إليه أشواقه، ويعرض عليه شكايته، ويطلب منه حاجته .. يسارع في استرضائه، إذا ما وقع منه تقصير أو تجاوز. إنه باختصار قد اكتفى بالله واستغنى به عمن سواه. قال أحمد بن عاصم الأنطاكي: من عرف الله عز وجل اكتفى به، ومن لم يعرفه اكتفى بخلقه دونه، فطال غمه، وكثرت شكايته (¬2). وهذه هي الحياة الحقيقية .. الحياة مع الله .. كان ابن عطاء يقول في مناجاته: إلهي ماذا وجد من فقدك، وما الذي فقد من وجدك .. لقد خاب من رضي بدونك بدلاً، ولقد خسر من بغى عنك متحولاً. وهذا إبراهيم بن ادهم يقول: اتخِذِ الله صاحبا، ودع الناس جانباً (¬3). ¬

_ (¬1) مقومات التصور الإسلامي ص (192). (¬2) استنشاق نسيم الأنس للحافظ ابن رجب، ص (80 - 81) -المكتب الإسلامي -بيروت. (¬3) استنشاق نسيم الأنس للحافظ ابن رجب، ص (77).

المعرفة المؤثرة

وكان يقول: أعلى الدرجات أن تنقطع إلى ربك، وتستأنس إليه بقلبك، وعقلك، وجميع جوارحك حتى لا ترجو إلا ربك، ولا تخاف إلا ذنبك، وترسخ محبته في قلبك حتى لا تؤثر عليها شيئًا، فإذا كنت كذلك لم تُبال في بَرٍّ كنت أو في بحر، أو في سهل، أو في جبل، وكان شوقك إلى لقاء الحبيب شوق الظمآن إلى الماء البارد، وشوق الجائع إلى الطعام الطيب، ويكون ذكر الله عندك أحلى من العسل، وأحلى من الماء العذب الصافي عند العطش في اليوم الصائف (¬1) المعرفة المؤثرة: فإن قلت: ولكننا نعرف الله عز وجل، ونعرف قدرته وعظمته وفضله علينا ومع ذلك لا نتعامل معه بما يستحقه - سبحانه - ولا نشعر بقربه ولا نأنس به ... ؟! نعم، أغلبنا يشتكي من جفاء في علاقته ومعاملته مع الله، مع ما ندعي من معرفته سبحانه وأن الأمر كله بيده، والسبب في ذلك هو أن المعرفة المطلوبة والتي من شأنها أن تغير طريقة المعاملة، وتحسن العلاقة بين العبد وربه، لابد أن تكون معرفة قوية ترسخ في يقين الإنسان وتؤثر في قلبه، أو بعبارة أخرى: تؤثر في مشاعره باعتبار أن القلب هو مجمع المشاعر داخل الإنسان، ومن ثَمَّ تشكل هذه المعرفة جزءاً أصيلاً من إيمانه، كما قال الله عز وجل: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} [الحج:54]. أما المعرفة المحدودة العابرة فلا يمكنها أن تؤثر تأثيراً مستمراً في حياة العبد، والدليل على ذلك أننا عندما نسمع محاضرة عن فضل الله علينا وتوالي نعمه وإمداده، فإن المشاعر تتجه بالحب إليه سبحانه، ثم بعد ذلك تخفت حرارة تلك المشاعر بانتهاء أثر الكلام الذي سمعناه، وهذا هو الفارق بين الحالة الإيمانية العارضة، وبين الحالة الإيمانية المستقرة. فالحالة العارضة هي الحالة الشعورية العابرة التي تنتاب المرء عندما تُستثار مشاعره في اتجاه ما. هذه الحالة سرعان ما تزول وذلك عندما تعود المشاعر إلى حالتها الأولى، فنجد الشخص يتأثر بالموعظة المؤثرة وقد ويبكي وينتحب ثم بعد ذلك يعود إلى سابق عهده من الانشغال بالدنيا والغفلة عن الآخرة، فإذا استمر الطرق على المشاعر بدوام الوعظ والتذكير: استمرت الحالة الشعورية للشخص، وشيئا فشيئا تستقر في المشاعر، أي تُشكل هذه الحالة جزءاً ثابتاً من المشاعر، ومن ثَم يسهُل استثارتها بأدنى مؤثر، وتصبح منطلقا دائما للسلوك. وهذا هو الفارق بين الإيمان الأصيل الثابت الذي يستقر في القلب وتصدقه الأعمال، وبين الإيمان اللحظي العابر الذي يُنتج أعمالاً آنية وغير مستمرة. يقول الحسن: ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقته الأعمال (¬2) .. معنى هذا أننا بحاجة إلى أن نجعل معرفتنا بالله تتحول إلى إيمان يستقر في القلب ويرسخ فيه وينمو شيئا فشيئا حتى يشكل الجزء الأكبر من المشاعر، فيصير حبه سبحانه أحب الأشياء لدينا وخشيته أخوف الأشياء عندنا، وهكذا في بقية المشاعر فتظهر تبعاً لذلك الثمار الطيبة لهذه المعرفة النافعة كما قال صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كُن فيه وجد حلاوة الإيمان، أن يكون اللهُ ورسولهُ أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يُقذف في النار" (¬3). فإذا ما اكتفت المعرفة بمخاطبة العقل فقط، ولم تصل إلى المشاعر، ولم يستقر مدلولها فيها، ستظل هذه المعرفة حبيسة العقل، ولن تظهر ثمارها في السلوك. ¬

_ (¬1) جامع العلوم والحكم ص 84، دار ابن الجوزي. (¬2) شعب الإيمان للبيهقي (1:80). (¬3) متفق عليه.

نور الإيمان

نور الإيمان: إن كنا نريد أن نتعامل مع الله عز وجل بما ينبغي أن نعامله به؛ فلابد أن نعرفه أولاً، وأن تنتقل هذه المعرفة من العقل إلى القلب، وأن تكون مستمرة ومتتابعة حتى يرسخ مدلولها في مشاعر الإنسان وقلبه وتصبح إيماناً راسخاً فتشكل بذلك منطلقاً للسلوك. وكلما ازدادت مساحة المعرفة المؤثرة: ازداد انجذاب المشاعر لله عز وجل، وتمكن الإيمان من القلب، وتجلت فيه أنواره، وظهر أثر ذلك على معاملة المرء لربه، فيعبده وكأنه يراه، فيكتفي به، ويوحد معاملته معه، ويربط جميع أحداث حياته به سبحانه. تأمل معي - أخي القارئ - ما قاله حارثة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والذي يؤكد هذا المعنى: عن الحارث بن مالك الأنصاري أنه مر بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال له: "كيف أصبحت يا حارثة؟ "قال: أصبحت مؤمناً حقاً. قال: "انظر ما تقول، فإن لكل قول حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟ قال: عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزاً، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها، قال: "يا حارثة عرفت فالزم" (¬1)، وفي رواية: "أصبت فالزم، مؤمن نور الله قلبه" (¬2). ويقول ابن رجب: غاية الحاصل للقلوب في الدنيا هو تجلي أنوار الإيمان في القلب، وحتى يصير الغيب كأنه شهادة (¬3). مفتاح المعرفة: فإن قلت: وما هي الوسائل التي يمكنها أن تفعل ذلك وتصل بنا إلى هذه الآفاق؟! كيف يمكن للإنسان أن يتعرف على ربه معرفة يقينية تؤثر في المشاعر بالرغم من أنه لا يراه، ولن يمكنه أن يراه في حياته الدنيا؟! نعم، الله عز وجل لا تدركه الأبصار، ولا يمكن لأحد من البشر أن يراه: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام:103]، وفي الوقت نفسه فإنه يتحتم على العبد أن يعرف ربه لكي يعبده عبادة صحيحة، تليق به سبحانه وتعالى .. فما السبيل إلى ذلك؟! السبيل إلى معرفة الله عز وجل هو استخدام النعمة العظيمة التي أكرم الله بها الإنسان واختصه بها، ألا وهي نعمة العقل .. هذا العقل به من الإمكانات والقدرات ما لا يمكن تصوره، والتي يستطيع الإنسان - أي إنسان - حين يستخدمها أن يصل إلى معرفة الله عز وجل لدرجة لم يصل إليها مخلوق من قبل. هذه المعرفة تمكنه من معاملته وعبادته سبحانه كأنه يراه. ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في الكبير .. انظر مجمع الزوائد (1/ 220). (¬2) رواه البزار عن أنس بن مالك .. انظر المصدر السابق. (¬3) استنشاق نسيم الأنس، ص (98).

مجالات استخدام العقل

وليس أدل على أن العقل هو مفتاح المعرفة، وأنه من خلاله يمكن للمرء الوصول إلى معرفة الله لدرجة لم يصل إليها مخلوق قط؛ ما حدث في قصة آدم - عليه السلام - وإخباره سبحانه وتعالى للملائكة أنه سيخلق مخلوقاً جديداً يعبده بالغيب في الأرض، فماذا قالوا له: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة:30]. فكان الجواب من الله: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30]. ثم كان البيان العملي الذي ظهرت من خلاله القدرات العقلية لهذا المخلوق: {وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:31 - 33]. إن الوظيفة الأساسية للعقل هي استخدامه في معرفة الله عز وجل ومن ثََمَّ عبادته. والمتدبر للقرآن الكريم يجد فيه الكثير من الآيات التي تحث القارئ على استخدام عقله للاستدلال على وجود الله وعلى أسمائه وصفاته كقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [المؤمنون:80]، وقوله: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد:4]، بل ويؤكد علينا أن من لا يستخدم عقله فيما خُلق من أجله فقد هوى وأصبح من أشر الدواب: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} [الأنفال:22]. ويذكرنا بأن أهل النار سيتأكدون من هذه الحقيقة ولكن بعد فوات الأوان: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:10]. مجالات استخدام العقل: أودع الله عز وجل في عقل الإنسان إمكانات هائلة تمكنه من القيام بالمهمة التي خُلق من أجلها، ومما يؤكد على وجود هذه الإمكانات تلك الاختراعات التي اخترعها العقل البشري في شتى المجالات مما أفاد البشرية كثيراً، ويسَّر على الناس سبل الحياة، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أننا لو أحسنا استخدام عقولنا في اتجاه معرفة الخالق سبحانه وتعالى لارتفعنا إلى آفاق عُلا، ولتمكنا - بإذن الله - من عبادته وكأننا نراه .. فإن قلت: وكيف لنا أن نستخدم عقولنا في معرفة الله، وبخاصة أنه لا يمكن لأحد من الخلق أن يحيط به علما؟! نعم، الله عز وجل لا يمكن لأحد أن يحيط به علماً، فلا يعرف الله إلا الله: {الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان:59]، وكما في الحديث: "لا أُحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك" وفي الوقت نفسه فإن معاملة الله بما يليق بجلاله، وإظهار صورة العبودية الحقة له لن تتم إلا من خلال معرفته .. فكيف يستطيع العبد معرفة ربه وهو لا يراه، ولا يحيط به علماً؟! لابد أن تكون هناك سُبل لمعرفته سبحانه وإلا لما استطعنا القيام بحقوق العبودية ..

تجليات الرب

لابد أن يكون الله عز وجل قد أتاح لنا طرقاً ووسائل نتعرف عليه من خلالها، ولم لا وهو الرءوف الرحيم الذي يريد بعباده الخير: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:43]. نعم، لقد أتاح الله عز وجل لعباده جزءاً من المعلومات عنه سبحانه وتعالى لكي يتمكنوا من معرفته بالدرجة التي تتحملها عقولهم، ومن ثَمَّ يتمكنون من عبادته كما أمرهم، ولقد أودع - سبحانه - هذه المعلومات في كونه ومخلوقاته: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت:53]. ولله في كل تحريكة وتسكينة أبداً شاهد ... وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد فكل ما يحدث في الحياة، وكل مخلوق من مخلوقات الله يُعد بمثابة آية ودليل على الله، وما على البشر إلا أن يستخدموا عقولهم، ويتعرفوا على ربهم من خلال التفكر في تلك المخلوقات: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة:164]. ارأيت أخي القارئ بماذا ختمت الآية: {لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}: لآيات ودلائل ورسائل تعريف بالله لمن يستخدمون عقولهم في التفكير في هذه المخلوقات. فالحكمة الأساسية من خلق العقل بما يحتويه من إمكانات جبارة هي استخدامه في التعرف على الله، وذلك من خلال التفكر في مخلوقاته، وقراءة ما تحتويه من رسائل تعريف بالله عز وجل: {وَمِنْ آَيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (} [الروم:24]. تجليات الرب: إن كل شيء يحدث حولنا ما هو إلا آيات ودلائل ووسائل تعرفنا بالله عز وجل، وما الحياة التي نعيش أحداثها المتعاقبة إلا مشهد عظيم تتجلى فيه دلائل وحدانية الله وقيوميته، وقدرته، وعزته، ولطفه، وحكمته، ورحمته، وعدله، والسعيد من استخدم عقله في المهمة التي خُلق من أجلها، وأحسن قراءة الرسائل الإلهية، وتحليل أحداث الحياة فيزداد معرفة بربه ومن ثم تتحسن معاملته له فيزداد له حباً وخشية وإنابة وتوكلاً: {سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت:53]. وصدق من قال: تأمل سطور الكائنات فإنها ... من الملأ الأعلى إليك رسائل وقد خُط فيها لو تأملت خطها ... ألا كل شيء خلا الله باطل تشير بإثبات الصفات لربها ... فصامتها يهدي ومن هو قائل حاكمية الوحي: ومع أهمية العقل في التفكر في الكون وأحداث الحياة والاستدلال من خلالها على الله عز وجل، إلا أن العقل قد يسير وراء ظنونه وأوهامه، فينحرف عن الوجهة الصحيحة، ويسلك سبل الضلال .. من هنا تأتي أهمية الوحي وما له من حاكمية على العقل، فيكبح جماح شطحاته، ويصحح تصوراته، ويضعه على الطريق الصحيح. ويؤكد على هذا المعنى سيد قطب - رحمه الله - فيقول:

التفكر يقود إلى المعرفة

فهذه القضية - قضية الألوهية - الدليل الهادي فيها هو دليل الوحي. وما لم يستصحبه العقل، فهو عرضة للأوهام والتخليطات بين الصحيح فيها وغير الصحيح. مما يفسد العقل ذاته، ويفسد استقامته على الطريق (¬1). (إن كل ما ينشئه العقل البشري من عند نفسه عن هذه الحقيقة - حقيقة الألوهية - إنما هو ظن وخرص، فهو لم ير الله، ولا يمكن أن يراه في الحياة الدنيا، والحقيقة الإلهية أكبر من هذا العقل، ومن هذا الكون. فلا سبيل لمعرفتها إلا عن طريق ما يعرفنا صاحبها - سبحانه وتعالى - في حدود ما يعلم هو أن العقل البشري قادر على تصوره وإدراكه) (¬2). (إن القرآن وهو يصحح صورة الألوهية في عقول البشر، كان يصحح في الوقت ذاته منهج التفكير العقلي بجملته، ويُعلم الإنسان كيف يفكر تفكيراً صحيحا، فيعتمد على عقله فيما هو من شئون العقل، ويستصحب دليل الوحي فيما وراء ذلك ليهتدي العقل بهذا الدليل القطعي، ولا يعتمد على الظن في قضية كبرى كهذه القضية) (¬3). التفكر يقود إلى المعرفة: معنى ذلك أن توجيه العقل للتفكر في خلق الله والاعتبار بأحداث الحياة، وربطها به سبحانه، هو الطريق الأساسي للمعرفة: {وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَأَيَّ آَيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ} [غافر:81]. والمتدبر لآيات القرآن يجدها في مواضع كثيرة تحث الناس على الانتفاع بالآيات والرسائل الإلهية والاعتبار بها؛ لأنها الطريق الأكيد لمعرفة الله عز وجل ومن ثَمَّ عبوديته .. تأمل قوله تعالى: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآَيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الجاثية:3 - 6]. وفي مقابل الحث القرآني على الانتفاع بالآيات والاستدلال من خلالها على أسماء الله وصفاته، نجد الترهيب الشديد لمن كذب بهذه الآيات أو غفل عنها ولم يعتبر بها: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} [السجدة:22]. وما أكثر الآيات التي يغفل عنها الناس: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آَيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف:105]. جاء في بعض الآثار أن الله تعالى أوحى إلى بعض أنبيائه: "أدرك لي لطيف الفطنة، وخفي اللطف، فإني أُحب ذلك، قال: يا رب ما لطيف الفطنة؟ قال: إن وقعت عليك ذبابة فاعلم أني أنا أوقعتها فاسألني رفعها. قال: وما خفي اللطف؟ قال: إذا أتتك حبة فاعلم أني أنا ذكرتك بها" (¬4). ¬

_ (¬1) مقومات التصور الإسلامي ص (292). (¬2) المصدر السابق. (¬3) المصدر السابق. (¬4) إغاثة اللهفان لابن القيم (1:54) طبعة المكتب الإسلامي.

عبادة التفكر

عبادة التفكر: من هنا ندرك أهمية عبادة التفكر، وندرك مغزى قول الحسن البصري: تفكر ساعة خير من قيام ليلة (¬1)، باعتبار أن التفكر يقود إلى زيادة المعرفة بالله، ومن ثَمَّ زيادة العبودية له، وحسن التعامل معه، ومما يؤكد هذا المعنى قول السيدة عائشة رضي الله عنها لما نزلت هذه الآية: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران:190]، على النبي صلى الله عليه وسلم قام يصلي، فأتاه بلال يؤذنه للصلاة، فرآه يبكي، فقال: يا رسول الله، تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال: "يا بلال، أفلا أكون عبداً شكوراً، ومالي لا أبكي وقد نزل علي الليلة: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} ثم قال: ويل لمن قرأ هذه الآية ثم لم يتفكر بها" (¬2). دليل المعرفة: ومع أن الكون هو الوسيلة الأساسية لمعرفة الله عز وجل إلا أن هذه الوسيلة تحتاج إلى دليل يدل عليها، ويفك شفرتها، ويبين كيفية التعامل معها .. إن الذي يتعامل مع جهاز كهربائي يحتاج إلى وجود الدليل الخاص به بجواره ليتمكن من استخدمه الاستخدام الأمثل، فكيف بالكون وما فيه من بلايين المخلوقات المختلفة في أشكالها وأحجامها، وطرق معيشتها، وبيئاتها؟! وكيف بأحداث الحياة المتشابكة والتي تكون مبهمة أحيانا؟! إذن فمن الضروري وجود دليل يدلنا على كيفية التفكر والاعتبار بمخلوقات الله وأحداث الحياة والاستدلال من خلالها على الله عز وجل. لابد وأن يكون هذا الدليل قد جاء من عند الله فلا يختلف عليه أحد، ولا يتشكك فيه أحد. من هنا يأتي دور القرآن العظيم الذي أنزله الله عز وجل إلى الناس كدليل يدلهم عليه ويعرفهم به: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} [النساء:174]. فلا يعرف الله إلا الله، وهو سبحانه قد تولى تعريف نفسه إلى عباده بالقدر الذي تتحمله عقولهم وذلك من خلال رسائله لهم، والتي خُتمت بالقرآن. فآيات القرآن تعرفنا بالله عز وجل، وتدلنا كذلك على كيفية التطبيق العملي لهذه المعرفة في الكون .. ألم يقل سبحانه: {الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان:59]. وقد أورد ابن كثير عن شمر بن عطية أنه قال في تفسيره لهذه الآية: هذا القرآن خبير به (¬3)، وهذا ما أكده ابن عباس بقوله: "عرفت ربي بربي، ولولا ربي ما عرفت ربي"، أي: هو الذي عرفني بنفسه من خلال حديثه عن نفسه في كتابه، ولولا هذا الوحي الذي أنزله الله لما عرفت الله (¬4). طريقة فريدة: والمتدبر لآيات القرآن يجد فيها طريقة فريدة في تعريف الناس بربهم وبأسمائه وصفاته، وآثارها في الكون والنفس مع ربط المعرفة بأحداث الحياة قدر المستطاع، لينتقل القارئ بسهولة من آيات الله المقروءة في كتابه إلى آيات الله المرئية في كونه، فيحدث لديه الانسجام بين الإثنين ويتأكد مدلولهما في يقينه، فإذا ما صاحب ذلك تأثر وتجاوب قلبي شكل هذا المدلول إيمانا يظهر أثره في السلوك. ¬

_ (¬1) إحياء علوم الدين (5:5) - دار الحديث - القاهرة. (¬2) رواه ابن حاتم وابن حبان في صحيحيهما. قال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم. وقال الشيخ الألباني: حسن. (¬3) تفسير القرآن العظيم (3:304) - مكتبة العبيكان - الرياض. (¬4) أسماء الله الحسنى لعمر الأشقر، ص (11) - دار النفائس - الأردن.

التدبر والاعتبار

تأمل معي قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} [الملك:3] فهنا تعرفنا الآية بالله وأنه هو الخالق القدير، وبعد ذلك تدعونا لكي نتأكد بأنفسنا من هذه الحقيقة: {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك:3، 4]. والآيات التي تقرر حقائق المعرفة بالله عز وجل كثيرة .. هذه الآيات كثيراً ما نجدها تنتهي بالحث على استخدام العقل والتفكر والنظر في الكون لرؤية تلك الحقائق رأي العين: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ} [السجدة:26، 27]. يقول سيد قطب - رحمه الله-: ويشعر المتدبر لهذا القرآن أن هذا موضوعه، وأن هذه غايته، وكل آية فيه، وكل فقرة، وكل توجيه فيه، وكل تعليم .. هو في الحقيقة جانب من جوانب التعريف بالله .. تعريف الناس بحقيقة ذاته سبحانه، وحقيقة صفاته .. على قدر ما يعلم سبحانه أنهم يدركون منها ويطيقون (¬1). فعلى سبيل المثال قوله تعالى: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [الأحزاب:26، 27]. يعلق سيد قطب - رحمه الله - على قوله: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} فيقول: فهذا هو التعقيب المنتزع من الواقع، وهو التعقيب الذي يرد الأمر كله إلى الله، وقد مضى السياق في عرض المعركة كلها يرد الأمر كله إلى الله، ويسند الأفعال فيها إلى الله مباشرة، تثبيتاً لهذه الحقيقة الكبيرة التي يثبتها الله في قلوب المسلمين بالأحداث الواقعة، وبالقرآن بعد الأحداث، ليقوم عليها التصور الإسلامي في النفوس. وهكذا تصبح الأحداث مادة للتربية، ويصبح القرآن دليلاً وترجماناً للحياة وأحداثها (¬2). التدبر والاعتبار: إن القرآن الكريم هو الدليل الذي أنزله الله عز وجل ليدل الناس عليه ويقودهم إلى معرفته: {هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:203]. هذا الدليل يقوم بدور عظيم في تعريف الناس بربهم - بالقدر الذي تتحمله عقولهم - ويعلمهم كيف يستدلون عليه سبحانه من خلال مخلوقاته، ومن خلال أحداث الحياة التي تمر بهم .. ولا يكتفي القرآن بعرض صفات الله وآثاره مرة أو مرتين، بل يعرضها مرات ومرات بأساليب مختلفة لترسخ - من خلال التكرار - في العقل الباطن للقارئ، وتشكل جزءاً رئيساً من يقينه، وهذا لا يوجد في أي كتاب آخر سوى القرآن. ¬

_ (¬1) مقومات التصور الإسلامي ص (191 - 192). (¬2) في ظلال القرآن (5:2849).

ألوان العبودية

ومع التكرار في عرض حقائق المعرفة بالله عز وجل تأتي لغة الخطاب المعجز الذي لا يخاطب العقل فقط كما يحدث في الكثير من الكتب التي تعرض الحقائق العلمية - مثلا - والتي من شأنها أن تُضخم العقل دون أن يواكب ذلك تأثير واضح على المشاعر، مما يجعلها ضعيفة الأثر على السلوك .. فالمتأمل لخطاب القرآن يجده يمزج الفكر بالعاطفة .. يستثير كوامن العقل، ويستجيش المشاعر في وقت واحد مما يزيد الإيمان ويولد الطاقة، ويدفع صاحبه للقيام بمقتضى ذلك الإيمان من أعمال البر المختلفة. يقول محمد الغزالي - رحمه الله-: هذا الكتاب يعرف الناس بربهم على أساس من إثارة العقل، وتعميق النظر، ثم يحول هذه المعرفة إلى مهابة لله، ويقظة في الضمير، ووجل من التقصير، واستعداد للحساب (¬1). تأمل معي هذه الآيات وما فيها من حقائق تخاطب العقل وتستثير العاطفة: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [الرعد:12، 13]. ومما يساعد العبد كذلك على تحويل الحقائق التي يطرحها القرآن إلى إيمان يرسخ في القلب: قيامه بقراءة القرآن بالطريقة التي أمرنا الله بها: {وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا} [المزمل:4] فترتيل القرآن والتغني به وتحسين الصوت عند تلاوته مع فهم المراد منه له وظيفة كبيرة في استثارة المشاعر ومزج الفكر بالعاطفة ومن ثَمَّ زيادة الإيمان في القلب. ألوان العبودية: عندما تستثار العاطفة تجاه قضية ما فإن هذا يعني دخول صاحبها في حالة إيمانية، فإذا ما استمر الطرق على مشاعره في نفس الإتجاه استقرت تلك الحالة المشاعرية، أو بمعنى آخر وقر الإيمان بهذه القضية في القلب، وهذا من شأنه أن يثمر سلوكاً يُصَدِّق هذا الإيمان، وهذا ما يفعله القرآن بمزجه الدائم بين الفكر والعاطفة، وبشدة طرقه على المشاعر، وتكرار هذا الطرق، أي أنه يُنشئ الإيمان في القلب ويجعل المشاعر تتجه إلى الله. مع الأخذ في الاعتبار أن القرآن يفعل ذلك مع كل ما ينبغي الإيمان به، فعلى سبيل المثال: لا يكتفي القرآن بتوجيه مشاعر الخوف من الله فقط بل يوجه جميع المشاعر من حب وخوف ورجاء وطمع وفرح وسكينة إليه سبحانه، أي أن القرآن يُنشئ الإيمان في القلب بقاعدته العريضة، ويجعل صاحبه يتقلب في جميع صور العبودية لله عز وجل حسب الظرف القائم أمامه، فهو أمام السراء تجده يشعر بالامتنان تجاه ربه، وأمام الضراء تجده راضياً مستسلماً للقضاء .. يعيش دوما في حالة الافتقار إلى الله والانكسار الدائم له، والشعور بأنه لا قيام له ولا حياة ولا رشاد إلا به سبحانه. منهج القرآن في التعريف بالله: ولقد أفاض سيد قطب - رحمه الله - في كتابه مقومات التصور الإسلامي في بيان منهج القرآن في التعريف بالله، وتحويل هذه المعرفة إلى إيمان حي يدفع للسلوك القويم فكان مما قاله: ¬

_ (¬1) المحاور الخمسة في القرآن - للشيخ محمد الغزالي، ص (120).

منهج فريد

" والمنهج القرآني يزحم الشعور الإنساني بحقيقة الألوهية، ويأخذ على النفس أقطارها جميعا بهذه الحقيقة وهو يتحدث عن ذات الله - سبحانه - وصفاته، وآثار قدرته وإبداعه، فتتمثل في الضمير البشري تلك الحقيقة .. حقيقة الذات الخالقة لكل شيء، المالكة لكل شيء، المحيطة بكل شيء، المهيمنة على كل شيء، المدبرة لكل شيء، المؤثرة في كل شيء، وتشغل مشاعر الإنسان وحسه، وضميره وعقله وكيانه كله بهذه الحقيقة وخصائصها، وقدرتها وقوتها، ورحمتها ورعايتها، وجلالها ومهابتها، وأنسها وقربها، وإحاطتها بالكون والناس في كل وضع وفي كل حال، بحيث تستشعر النفس - كما هو الأمر في الواقع - أن لا ملجأ من الله إلا إليه، وأن ليس مهرب منه ولا فوت، وأن ليس سواه عون ولا سند، وأن ليس هناك وجود لشيء - قائم بذاته - إلا ذات الله سبحانه، القوامة على جميع الخلائق الفانية. وهذا هو الشعور القوي الغامر الحي الذي يخرج به الإنسان من قراءة القرآن الكريم .. منهج فريد: (والمنهج القرآني في التعريف بحقيقة الألوهية منهج فريد .. إنه يوقع على أوتار النفس البشرية جميعها، ويدخل عليها من منافذها كلها، يوقع على أوتار الخوف والحذر والرجاء والطمأنينة، وعلى أوتار المهابة والجلال والأنس والود، وعلى أوتار القهر والجبروت والرأفة والرحمة، وعلى أوتار النقمة والعذاب والنعمة والعطاء) (¬1). القرآن وشهادة التوحيد: " .. ولقد جلى القرآن للناس حقيقة الألوهية من خلال آثار فاعليتها المتجلية في الكون والحياة المصرفة لأقدار العباد، وعرض لهم من هذه الآثار في الأنفس والآفاق ما يملأ الكينونة البشرية بالإجلال والحب، وبالخشية والتقوى، وبالرجاء والثقة، وبالأنس والقرب، وبالحذر واليقظة، وبالشعور الدائم بوجود الله - سبحانه - وحضوره، بحيث لا يملك القلب المؤمن أن ينسى، أو أن يغفل عن ذلك الوجود وعن هذا الحضور لحظة في أي وضع وفي أي حال. وشهادة أن لا إله إلا الله .. تتطلب أن يصل الإحساس بوجود الله - سبحانه - ووحدانيته حد اليقين الناشئ من مثل الرؤية والمشاهدة، فهي رؤية ومشاهدة لهذه الحقيقة بآثارها في أغوار النفس المكنونة، وفي صفحات الكون المنشورة .. رؤية واضحة ومشاهدة مستيقنة، تقوم عليها شهادة (¬2) ". المنة الكبرى: (إن حقيقة الألوهية - كما يجلوها المنهج القرآني - ذات أثُر إيجابي في ضمائر المؤمنين وعقولهم، وفي واقعهم وحياتهم، بقدر ما هي في ذاتها حق، وبقدر ما هي ذات بهاء وجمال وكمال. إن الضمير البشري لا يستقيم بغير هذه الحقيقة. إن العقل البشري لا يستقيم بغير هذه الحقيقة. إن الحياة البشرية لا تستقيم بغير هذه الحقيقة. ولئن امتن الله على عباده أن خلقهم، ورزقهم، وكفلهم .. فإن جلاء حقيقة الألوهية في القرآن على هذا النحو - وجلاء سائر الحقائق الأخرى - لهو المنة الكبرى التي تعدل .. بل ترجح كل تلك المنن. ولا عجب أن يذكر - سبحانه - في مقدمة الآلاء في سورة الرحمن، والتي عدد فيها آلاءه في الأنفس والآفاق وفي الدنيا والآخرة، نعمة تعليم القرآن) (¬3). ¬

_ (¬1) مقومات التصور الإسلامي ص (190 - 191). (¬2) مقومات التصور الإسلامي ص (192). (¬3) المصدر السابق ص (332).

نموذج لا ينسى

نموذج لا يُنسى: وقبل أن نختم الحديث في هذا الفصل نسوق كلاما للشهيد سيد قطب حول النموذج الذي صنعه القرآن، والذي تمثل في الجيل الأول، وكيف وصلوا إلى معرفة الله وتحققوا بصفات الربانيين .. يقول رحمه الله: لقد كنت - وأنا أراجع سيرة الجماعة المسلمة الأولى - أقف أمام شعور الجماعة الأولى بوجود الله - سبحانه - وحضوره في قلوبهم وفي حياتهم، فلا أكاد أُدرك كيف تم هذا؟ كيف أصبحت حقيقة الألوهية حاضرة في قلوبهم وفي حياتهم على هذا النحو العجيب؟ كيف امتلأت قلوبهم وحياتهم بهذه الحقيقة هذا الامتلاء؟ كيف أصبحت هذه الحقيقة تأخذ عليهم الفجاج والمسالك والإتجاهات والآفاق، بحيث تواجههم حيثما اتجهوا، وتكون معهم أينما كانوا وكيفما كانوا؟ كنت أدرك طبيعة وجود هذه الحقيقة وحضورها في قلوبهم وفي حياتهم .. ولكني لم أكن أُدرك كيف تم هذا؟! حتى عُدت إلى القرآن أقرأه على ضوء موضوعه الأصيل وهو: (تجلية حقيقة الألوهية، وتعبيد الناس لها وحدها بعد أن يعرفوها .. ). وهنا فقط أدركت كيف تم هذا كله! أدركت ولا أقول - أحطت - سر الصناعة! عرفت أين صُنع ذلك الجيل المتفرد في تاريخ البشرية وكيف صُنع! إنهم صُنعوا ها هنا بهذا القرآن! بهذا المنهج المتجلي فيه! بهذه الحقيقة المتجلية في هذا المنهج! حيث تحيط هذه الحقيقة بكل شيء، وتغمر كل شيء، ويصدر عنها كل شيء، ويتصل بها كل شيء، ويتكيف بها كل شيء. لقد وُجدت هذه الحقيقة في نفوس الناس وفي حياتهم كما لم توجد من قبل قط في نفوس الناس وفي حياتهم .. وُجدت بكل مقوماتها، وبكل إيحاءاتها، وبكل تأثيراتها .. وُجدت حية فاعلة قوية شاملة .. تتعامل مع الناس - كما تتعامل مع الوجود كله - ويتعامل معها الناس - كما يتعامل معها الوجود كله. الله هو الأول والآخر. والله هو الظاهر والباطن. والله هو الخالق والرازق. والله هو المسيطر والمدبر. والله هو الرافع والخافض. والله هو المعز المذل. والله هو القابض والباسط. والله هو المحيي والمميت. والله هو النافع والضار. والله هو المنتقم الجبار. والله هو الغفور الودود. والله هو العلي الكبير. والله هو القريب المجيب. والله هو الذي يحول بين المرء وقلبه. والله هو الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء. والله هو العليم بذات الصدور. وهو معهم أينما كانوا. وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو. وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته. وهو الذي يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل. ويخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي. لا ملجأ من الله إلا إليه. وما لهم من دونه من وال، وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً. وهكذا .. وهكذا .. جعلت هذه الحقيقة تملأ على الناس حياتهم، وتواجههم في كل درب، وتتراءى لهم في كل صوب، وتأخذ على أنفسهم أقطارها، وتعايشهم وتساكنهم بالليل والنهار، وبالغدو والأسحار، وحين يستغشون ثيابهم، وحين تهجس سرائرهم، وحين يستخفون من الناس. بل حين يستخفون من نفوسهم التي بين جنوبهم. حقيقة الربانية: بهذا كله وُجدت - في الأرض وفي دنيا الناس - حقيقة أخرى .. " حقيقة الربانية " متمثلة في ناس من البشر. وُجد " الربانيون " الموصولون بالله العائشون بالله ولله .. الذين ليس في قلوبهم وليس في حياتهم إلا الله، الذين فرغت قلوبهم من حظ أنفسهم، ولم يعد لهم حظ إلا في الله، ولله. وُجدت حقيقة " الربانية " هذه في الناس، حينما وُجدت حقيقة الألوهية بصورتها في عالم الناس. حينما وُجدت بهذه القوة، وبهذا الوضوح، وبهذا العمق وبهذا الشمول، وبهذه الإحاطة التي تحجب كل وجود غيرها، وتكشف كل مؤثر سواها، وترد الأمر كله - كما هو في حقيقته - لله.

وحينما وُجدت حقيقة " الربانية " هذه في دنيا الناس، ووجد " الربانيون " الذين هم الترجمة الحية لهذه الحقيقة .. حينئذ انساحت الحواجز الأرضية، والمقررات الأرضية، والمألوفات الأرضية .. ودبت هذه الحقيقة على الأرض، حرة من الحواجز .. حرة من المقررات .. حرة من المألوفات، وصنع الله ما صنع في الأرض، وفي حياة الناس، بتلك الحفنة من العباد، الذين تمثلت فيهم تلك الحقيقة الكبيرة، التي ليس ورائها حقيقة إلا ما اتصل بها واستُمد منها فأصبح له وجود مؤثر في هذا الوجود. وبطلت الحواجز التي اعتاد عليها الناس أن يروها تقف في وجه الجهد البشري وتحدد مداه. وبطلت المألوفات التي يقيس بها الناس الأحداث والأشياء .. بطلت المقررات التي كان الناس يحكمونها في الأوضاع والأحداث. وثبتت هذه القيمة الجديدة - في عالم الواقع - لأنها وحدها القيمة ذات الوجود الحقيقي الكبير! ووُجد الواقع الإسلامي الجديد .. وولد معه الإنسان الحقيقي الجديد (¬1). ¬

_ (¬1) مقومات التصور الإسلامي ص (193 - 194).

الفصل الرابع نقطة البداية

الفصل الرابع نقطة البداية

التمسك بالدليل هو البداية

نقطة البداية خلصنا مما سبق بيانه أنه لكي يُحقق المرء في نفسه صفات العبودية لله عز وجل، ويرتدي رداءها لابد له من معرفة عميقة به سبحانه .. هذه المعرفة تحتاج إلى معلومات .. هذه المعلومات بثها الله عز وجل في الكون المحيط بنا، من مخلوقات تراها أعيننا، ومن أحداث تمر بنا في حياتنا. كما أرسل سبحانه وتعالى لعباده دليلاً يدل عليه، ويقود من يستخدمه إلى معرفته، وإلى الانتفاع بآياته المبثوثة في كونه .. هذا الدليل هو الكتاب الخالد .. القرآن الكريم: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة:15، 16]. التمسك بالدليل هو البداية: إن القرآن الذي بين أيدينا وتراه أعيننا قادر - بإذن الله - على أن يعرفنا بربنا معرفة يقينية، وأن يُنشئ الإيمان بقاعدته العريضة في قلوبنا، وأن يجعلنا نربط حياتنا به سبحانه، وأن يعلمنا كيف نعتبر بآياته المنظورة، وكيف نستدل من خلالها على الله عز وجل فتزداد بذلك المعرفة ومن ثَمَّ المعاملة والقرب. كل ذلك يفعله القرآن وأكثر وأكثر: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9]. إذن فنقطة البداية في رحلة المعرفة والسير إلى الله هي اتخاذ الدليل الذي يدلنا على الله ويعرفنا به ... وهذه هي وظيفة القرآن المتفردة. ويؤكد على هذا المعنى ابن القيم - رحمه الله - فيقول: لا شيء أنفع للقلب من قراءة القرآن بالتدبر والتفكر؛ فإنه جامع لجميع منازل السائرين، وأحوال العاملين، ومقامات العارفين، وهو الذي يورث المحبة والشوق، والخوف والرجاء، والإنابة والتوكل، والرضا، والتفويض، والشكر والصبر، وسائر الأحوال التي بها حياة القلب وكماله (¬1). ولكي يقوم القرآن بهذه الوظيفة لابد وأن نتعامل معه على حقيقته ... وأنه أعظم وسيلة تعرف بالله وتُنشئ الإيمان في القلب ... تأمل معي تعليق الإمام البخاري على قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:77 - 79]. يقول: "لا يجد طعمه إلا من آمن به."

_ (¬1) مفتاح دار السعادة لابن القيم (1:553) - دار ابن عفان - الخُبر - السعودية.

وسائل معينة

لابد إذن من الاقتناع بأهمية القرآن في بناء الإيمان وتحقيق العبودية .. هذه القناعة ستثمر بمشيئة الله رغبة، وعلى قدر الرغبة والعزم يكون المدد من الله، فالإمداد على قدر الاستعداد، وكما قال صلى الله عليه وسلم: "ومن يتحر الخير يُعطه " (¬1). وجاء في الأثر عن أبي الدرداء قال: لما أهبط الله آدم إلى الأرض قال له: يا آدم أحبني وحببني إلى خلقي، ولن تستطيع أن تفعل ذلك إلا بي، ولكن إذا رأيتك حريصاً على ذلك أعنتك عليه، فإذا فعلت ذلك فخذ به اللذة والنظرة وقرة العين والطمأنينة (¬2). فالرغبة والحرص هما مفتاح الانتفاع بالقرآن، ومفتاح لكل خير (¬3) .. ألم يقل سبحانه: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير:27، 28]. وسائل معينة: ومع الرغبة والحرص هناك بعض الوسائل التي من شأنها أن تسرع الخطى بنا للدخول إلى عالم القرآن والاغتراف من معينه ... هذه الوسائل يمكن أن نستخلصها من التفكر في هدفنا من التعامل مع القرآن، ألا وهو التعرف على الله عز وجل وإنشاء الإيمان في القلب وبث الروح فيه، فالمعرفة تستدعي فهماً للآيات، واستمراراً لقراءتها والتعامل معها حتى يرسخ مدلولها في العقل، وتستدعي كذلك تجاوب المشاعر معها حتى تثمر إيماناً في القلب .. هذا الإيمان لن يستقر في القلب، ولن يشكل جزءاً أصيلاً من المشاعر إلا إذا حدث تكرار واستمرارية في الطرق على تلك المشاعر. إذن فقد وضحت أمامنا الوسائل ... مداومة على القراءة اليومية وبأكبر وقت ممكن ... قراءة في مكان هادئ -قدر المستطاع - يستجمع فيه المرء شوارد فكره ليستعين بذلك على التركيز مع الآيات وفهمها ... أيضاً لابد من تهيئة المشاعر واستجماعها مع القراءة وذلك يمكن حدوثه من خلال التباكي مع القرآن وتكلف الحزن ... وكذلك فإن القراءة الجهرية والترتيل وتحسين الصوت لهما أثر كبير في استثارة المشاعر وعدم شرود الذهن. وكما نُعمل عقولنا في أي شيء نقرؤه لكي نفهمه، علينا أن نفعل ذلك مع القرآن، فإذا ما حدث تأثر بآية من الآيات علينا أن نُكثر من ترديدها ليستقر مدلولها في عقولنا، وينمو الإيمان بها في قلوبنا .. وشيئا فشيئا يستقر هذا الإيمان في المشاعر. بهذه الوسائل السهلة يمكننا بمشيئة الله الانتفاع بالقرآن. التدبر والترتيل: ومما تجدر الإشارة إليه أن هذه الوسائل تدور في فلك الأمرين اللذين أمرنا الله بهما عند قراءة القرآن: الأمر الأول: تدبره عند قراءته: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ} [محمد:24]. {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص: 29] والأمر الثاني: ترتيله: {وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا} [المزمل:4]. فالتدبر يخاطب العقل، والترتيل يخاطب المشاعر، فإذا ما قمنا بتنفيذ هذين الأمرين في نفس الوقت فسيؤدي ذلك إلى مزج الفكر بالعاطفة، ومن ثَمَّ زيادة الإيمان في القلب فنحقق قوله تعالى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال:2]. هكذا كان يفعل الصحابة: إن كان الجيل الأول قد تحقق بصفات الربانيين، والعيش في حقيقة العبودية، فإن العامل الأساسي لهذا النجاح هو القرآن كما أسلفنا، فلقد كانوا يتعاملون معه على حقيقته، وكان أستاذهم ومربيهم محمد صلى الله عليه وسلم يتابعهم في ذلك، ويرشدهم إلى الوسائل النافعة المعينة على فهمه والتأثر به. ¬

_ (¬1) حسن: صحيح الجامع الصغير (2328). (¬2) استنشاق نسيم الأنس لابن رجب الحنبلي، ص (127). (¬3) بفضل الله تم الحديث عن هذا الموضوع بشيء من التفصيل في كتاب «تحقيق الوصال بين القلب والقرآن».

أولا: الانشغال بالقرآن وتلاوته كل يوم

وإليك أخي القارئ بعضا من التفصيل حول هذه الوسائل - والتي تحدثنا عنها بإجمال في الأسطر السابقة - مع ذكر أمثلة تؤكدها من السنة المطهرة وفعل الصحابة رضوان الله عليهم. أولاً: الانشغال بالقرآن وتلاوته كل يوم: فمن البديهي أننا ما دمنا نحتاج إلى معرفة الله عز وجل، ودوام ربط أحداث الحياة به، والتجلبب الدائم بجلباب العبودية، فهذا يستدعي تلاوة القرآن كل يوم، وبقدر مناسب، وكلما أعطينا للقرآن وقتاً أطول من يومنا كان المردود أكثر إيجابية بمشيئة الله، وفي المقابل عندما لا نداوم على قراءته كل يوم فسيصعب علينا الانتفاع بما فيه ... قال صلى الله عليه وسلم: " تعاهدوا القرآن فوالذي نفسي بيده، لهو أشد تفصياً من قلوب الرجال من الإبل في عُقلها" (¬1). فلكي يسهل على اللسان قراءته، وعلى العقل فهمه، وعلى القلب التأثر به لابد من مداومة تلاوته وعدم جفائه ولو يوما .. قال صلى الله عليه وسلم: "اقرؤوا القرآن واعملوا به، ولا تجفوا عنه" (¬2). عن الحسن البصري قال: قال أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه: لو أن قلوبنا طهرت ما شبعنا من كلام ربنا، وإني لأكره أن يأتي علي يوم لا أنظر في المصحف، وما مات عثمان رضي الله عنه حتى خُرق مصحفه من كثرة ما كان يديم النظر فيه (¬3). وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا دخل البيت نشر المصحف فقرأ فيه (¬4). ثانيا: التهيئة الذهنية: والمقصد منها تهيئة الذهن لفهم القرآن وعدم الشرود أو التيه في أودية الدنيا، وهذا يستدعي منا أن نقرأ القرآن في مكان هادئ قدر المستطاع دون وجود ما يشوش علينا صفاء أذهاننا، ومما يؤكد ذلك المعنى ما رواه أبو داود بسند صحيح عن أبي سعيد قال: اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فسمعهم يجهرون بالقراءة فكشف الستر وقال: " ألا إن كلكم مناج ربه فلا يؤذين بعضكم بعضاً، ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة ". وجاء ذكر ذلك أيضا في الأمر بالإنصات وليس بالسكوت عند سماع القرآن لأن الفرق بينهما كبير: {فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف:204] وقد فهمت الجن ذلك فنصح بعضهم بعضاً ليس فقط بالسماع ولا بالسكوت ولكن: {فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا} [الأحقاف:29]. ثالثاً: التهيئة القلبية: وهذه الوسيلة من أهم الوسائل التي تُسرع بنا الخطى نحو الانتفاع بالقرآن والتأثر به، وكيف لا وقد قال تعالى: {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} [الأعلى:10]. وقال: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق:45]. والمقصد منها تهيئة المشاعر لسرعة الاستثارة والتجاوب مع الآيات، ويمكن أن يتم ذلك من خلال القراءة بتباكي وتحزن وتخشع (أي تكلف ذلك) قال صلى الله عليه وسلم: "اتلوا القرآن وابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا" (¬5). وقال: " أحسن الناس قراءة الذي إذا قرأ رأيت أنه يخشى الله " (¬6). وهذا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ينصحنا قائلاً: "اقرؤوا القرآن وحركوا به القلوب، ولا يكن هم أحدكم آخر السورة" (¬7). ومما لاشك فيه أن المداومة على القراءة بتباك وتحَزُّن لها دور كبير في تحريك القلب وتأثره بالقرآن. ¬

_ (¬1) متفق عليه. (¬2) صحيح الجامع (1168). (¬3) حياة الصحابة (3:168). (¬4) المصدر السابق. (¬5) رواه ابن ماجه (1337) وسنده جيد كما ذكر العراقي في تخريج الإحياء. (¬6) رواه أبو نعيم في " أخبار أصبهان "، والطبراني في " المعجم الكبير " وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (194). (¬7) شعب الإيمان للبيهقي (2042).

رابعا: القراءة من المصحف

رابعاً: القراءة من المصحف: فالقراءة من المصحف لها فوائد عظيمة في عدم شرود الذهن، ومن ثم حدوث الفهم والتأثر، قال صلى الله عليه وسلم: " من سره أن يحب الله ورسوله فليقرأ في المصحف " (¬1). خامساً: الجهر بالقراءة والترتيل وتحسين الصوت: فهذه الوسائل لها وظيفة كبيرة في استجلاب التأثر، قال صلى الله عليه وسلم: " ما أذن الله لشيء كما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به " (¬2). وقال: حسنوا القرآن بأصواتكم فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حُسنا " (¬3). وكاد ابن مسعود يُقرئ القرآن رجلاً، فقرأ الرجل: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة:60] مرسلة، فقال ابن مسعود: ما هكذا أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: كيف أقرأكها يا أبا عبد الرحمن؟ قال أقرأنيها: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة:60] فمدها (¬4). سادساً: إعمال العقل في فهم الآيات: فمما لا شك فيه أن تدبر العقل للآيات والاجتهاد في فهمها يشكل المحور الأساسي للانتفاع بالقرآن، فبدونه لن تتم التذكرة ومن ثم التأثر واليقظة: {لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} [الحاقة:12]. فتدبر القرآن وفهمه - ولو إجماليًا- أمر لابد منه: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29]. وقال الحسن بن علي: اقرأ القرآن ما نهاك، فإن لم ينهك فلست تقرأه. أي إن لم تعش مع القرآن وتفهم خطابه وما يأمرك به وينهاك فأنت بذلك لا تقرؤه قراءة صحيحة. ولأن القرآن حمال أوجه، فيمكن للجميع أن يتدبروه ويفهموه بقدر مستوى إدراكهم ... نعم، سيتفاوت الفهم من شخص لآخر، ما بين فهم عميق أو سطحي أو متوسط، لكن ليست العبرة بعمق الفهم، ولكن بالتأثر المصاحب لهذا الفهم، والذي من خلاله يزداد الإيمان، وينتبه القلب، وهذا أمر متاح للجميع بإذن الله. فن قلت: ولكني أجد بعض الكلمات التي لا أفهم معناها، وبعض الآيات لا أستطيع تدبرها، فماذا أفعل؟! علينا أن نمرر مالا نفهمه من آيات ونكتفي بالمعنى الإجمالي وذلك وقت القراءة سواء كان ذلك في الصلاة أو خارجها، وهذا ما دلنا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: " إن القرآن لم ينزل يكذب بعضه بعضاً، بل يصدق بعضه بعضاً، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم فردوه إلى عالمه" (¬5). فلنسترسل في القراءة ولنُعمل عقولنا في فهم ما نقرأ بدون تكلف، ولنمرر ما لا نفهمه، حتى نسمح للآيات أن تنساب داخلنا ويتصاعد تأثيرها شيئاً فشيئاً حتى نصل لمرحلة التأثر. ويمكننا بعد ذلك أن نعود للتفسير لفهم ما أُشكل علينا فهمه، ومعرفة الأحكام التي دلت عليها الآيات، ولكن في وقت آخر غير وقت القراءة. سابعاً: التجاوب مع القراءة: القرآن خطاب من الله عز وجل يخاطبنا من خلاله، فعلينا أن نتجاوب مع هذا الخطاب، فإن كان هناك سؤال أجبنا عليه، وإن كان هناك أمر بالاستغفار أو التسبيح استغفرنا وسبحنا، وعندما نجد حديثا عن النار نستعيذ منها، وإن كان الحديث عن الجنة نتشوق إليها ونسأل الله أن يجعلنا من أهلها. ¬

_ (¬1) حسن، رواه أبو نعيم في الحلية، والبيهقي في شعب الإيمان، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (6289). (¬2) رواه البخاري (5024)، ومسلم (792). (¬3) صحيح، رواه الدارمي في سننه، وصححه الألباني في صحيح الجامع (3145). (¬4) السلسلة الصحيحة (2237). (¬5) حسن، رواه الإمام أحمد في مسنده وابن ماجه في سننه.

عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح بالبقرة فقرأها، ثم افتتح بالنساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مترسلاً، إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ، ثم ركع (¬1). وكان صلى الله عليه وسلم يمشي ذات ليلة في طرقات المدينة فسمع من يقرأ: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1] فبكى وقال: نعم يا رب قد أتاني. وعن نافع قال: كان ابن عمر يقرأ في صلاته، فيمر بالآية فيها ذكر الجنة فيقف ويسأل الجنة، ويدعو ويبكي، ويمر بالآية فيها ذكر النار فيقف ويستجير بالله عز وجل (¬2). ثامناً: ترديد الآية التي تؤثر في القلب: بالمداومة على الوسائل السابقة ستأتي - بلا شك - لحظات يتجاوب فيها القلب مع آية من الآيات، ويتأثر بها، وهذا يعني دخول نور هذه الآية إليه، وهزها للمشاعر، وبث الروح فيه ... وهذا هو ما نريده. من هنا كان من الضروري استثمار تلك الفرصة العظيمة والسماح لأكبر قدر من النور ليدخل القلب، وذلك من خلال ترديد الآية - أو الآيات - التي أثرت فينا ... قال أبو ذر رضي الله عنه: قام النبي صلى الله عليه وسلم بآية يرددها حتى أصبح: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118] (¬3). وعن مسروق قال: قال لي رجل من أهل مكة: هذا مقام أخيك تميم الداري، لقد رأيته ذات ليلة حتى أصبح أو كاد يصبح يقرأ آية من كتاب الله، يركع ويسجد ويبكي: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21] (¬4). ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1764). (¬2) الزهد للإمام أحمد (1:193). (¬3) رواه ابن ماجه (1389)، والنسائي (1:177)، والحاكم (1:241) وصححه، ووافقه الذهبي، وقال الألباني: حسن. (¬4) الزهد لعبد الله بن المبارك (1:31).

وأخيرا

وأخيرًا أخي بالمداومة على هذه الوسائل يدخل نور القرآن إلى القلب شيئاً فشيئاً، وتدب الحياة في جنباته، ويصبح في حالة دائمة من التذكر والانتباه، وليس ذلك فحسب بل ستزداد يوما بعد يوم المعرفة بالله عز وجل، وستكون بعون الله معرفة مؤثرة تُنشئ الإيمان في القلب وترسخه فيه، لينعكس ذلك على معاملات المرء مع ربه فيزداد له حباً وشوقاً وخشية وإنابة وتوكلاً .. أخي الحبيب: إن القرآن يُعد بمثابة الغيث لقلوبنا، فإن أردنا حياة حقيقية فما علينا إلا أن نجعلها تتعرض لهذا الغيث المبارك ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً .. علينا أن نقترب دوما منه، ولا نجفو عنه، وأن نمكث معه أطول فترة زمنية ممكنة، وأن نقرأه بالطريقة التي أمرنا الله بها، وفصلها لنا رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم .. فإن فعلنا ذلك فسيستمر إمداده لقلوبنا - بإذن الله - فيطهرها، وينورها، ويبذر فيها بذور المعرفة، ويربيها ويغذيها حتى تنبت وتُثمر الثمار المباركة. جاء في الحديث: " مثل القرآن ومثل الناس كمثل الأرض والغيث، بينما الأرض ميتة هامدة، إذ أرسل الله عليها الغيث فاهتزت، ثم يرسل الوابل فتهتز وتربو، ثم لا يزال يرسل أودية حتى تبذر وتنبت ويزهو نباتها، ويخرج الله ما فيها من زينتها ومعايش الناس والبهائم، وكذلك فعل هذا القرآن بالناس " (¬1). كل ذلك أخي الحبيب سيتحقق بمشيئة الله إن أحسَّنا التعامل مع القرآن، واتخذناه دليلاً في رحلتنا المباركة .. رحلة المعرفة والسير إلى الله. والله المستعان وعليه التكلان ... وصل اللهم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

_ (¬1) رواه أبو نعيم والديلمي عن أبي سعيد - انظر كنز العمال - (2457).

§1/1