حقيقة الإيمان
طارق عبد الحليم
تصدير
كتاب حقيقة الإيمان بقلم عبد الله محمد (طارق) بن أحمد (عبد الحليم) القنائي -تغمده الله برحمته- بسم الله الرحمن الرحيم تصدير (*) "مما يجب أن يعلم أن الذي يريد أن ينكر على الناس ليس له أن ينكر إلا بحجة وبيان، إذ ليس لأحد أن يلزم أحداً بشيء، ولا يحظر على أحد شيئاً بلا حجة خاصة، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم المبلِّغ عن الله الذي أوجب على الخلق طاعته فيما أدركته عقولهم، وما لم تدركه، وخبره مصدق فيما علمناه، وما لم نعلمه. وأما غيره إذا قال: هذا صواب أو خطأ، فإن لم يبين ذلك بما يجب به اتباعه، فأول درجات الإنكار أن يكون المنكر عالماً بما ينكره، وما يقدر الناس عليه، فليس لأحد من خلق الله كائناً من كان أن يبطل قولاً أو يحرم فعلاً إلا بسلطان الحجة، وإلا كان ممن قال الله فيه [الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ماهم ببالغيه] (¬1) ، وقال فيه [الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتاً عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار] (¬2) . هذا وأنا في سعة صدر لمن يخالفني، فإنه وإن تعدى حدود الله فيّ بتكفير أو تفسيق، أو افتراء أو عصبية جاهلية: فأنا لا أتعدى حدود الله فيه. بل أضبط ما أقوله وأفعله، وأزنه بميزان العدل، وأجعله مؤتماً بالكتاب الذي أنزله الله، وجعله هدى للناس، حاكماً فيما اختلفوا فيه. قال الله تعالى: [كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه] (¬3) ، وقال تعالى: [فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول] (¬4) . وقال تعالى: [لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط] (¬5) . ¬
المقدمة
ذلك أنك ما جزيت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه [إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون] (¬1) ، وقال تعالى [وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً إن الله بما يعملون محيط] (¬2) . وإن أرادوا أن ينكروا بما شاءوا من حجج عقلية أو سمعية فأنا أجيبهم إلى ذلك كله وأبينه بياناً يفهمه الخاص والعام أن الذي أقوله: هو الموافق لضرورة العقل والفطرة، وأنه الموافق للكتاب والسُّنَّة وإجماع سلف الأمة، وأن المخالف لذلك هو المخالف لصريح المعقول، وصحيح المنقول، فلو كنت أنا المبتدئ بالإنكار، والتحديث بمثل هذا لكانت الحجة متوجهة عليهم، فكيف إذا كان الغير هو المبتدئ بالإنكار [ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ماعليهم من سبيل] (¬3) . [ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون] (¬4) . [إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد] (¬5) . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.." (¬6) . المقدمة إن الحمد لله نستعينه ونستغفره، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم. وبعد: فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. وقد أمر الله عز وجل المؤمنين بالاعتصام بحبله، والتزام الجماعة، وذم التفرق والاختلاف في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا) (¬7) . قال الطبري: (عن ابن مسعود أنه قال: "واعتصموا بحبل الله جميعاً" قال: الجماعة) (¬8) . ¬
وقال تعالى: (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) (¬1) . عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً خطاً ثم قال: هذه سبيل الله ثم خط خطوطاً عن يمينه وخطوطاً عن يساره ثم قال: هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليها ثم قرأ هذه الآية" (¬2)) . قال القرطبي: "وهذه السبل تعم اليهودية والنصرانية والمجوسية، وسائر أهل الملل وأهل البدع والضلالات من أهل الأهواء والشذوذ في الفروع، وغير ذلك من أهل التعمق في الجدل والخوض في الكلام" (¬3) . ولكن لما كان أمر الله قدراً مقدوراً، ولا تبديل لكلمات الله، فقد افترقت الأمة كما أخبر عن ذلك عز وجل وكما حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة. ولايزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم) (¬4) . وقال صلى الله عليه وسلم: "لتركبن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو أن أحدهم دخل جحر ضب لدخلتم حتى لو أن أحدهم جامع امرأته بالطريق لفعلتموه" (¬5) . كما قال صلى الله عليه وسلم: "إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة وإن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة" (¬6) . ¬
وقال صلى الله عليه وسلم: "لاتزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك" (¬1)) . فعلم من هذا يقيناً أن هذه الطائفة الناجية الظاهرة على الحق، العارفة به، هي الواجب اتباعها، وهي التي على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كما جاء في إحدى روايات الحديث. وإن هذه الفرقة الناجية - بإذن الله - هي التي تتناول النصوص - من الكتاب والسُّنَّة - متبعة في فهمها أصول النظر الصحيح والفهم السليم الذي يجب أن يفهم منها بإعتبار مفهوم خطاب العرب ولغتهم، وبإعتبار فهم مقاصد الشريعة العامة واتجاهها، وهو الفهم الذي سلكه السلف الصالح، فخط به اتجاهاً في النظر إلى الأمور نتج عنه مسلك أهل السُّنَّة والجماعة عبر العصور والقرون في فهم ما عرض من مشكلات فكرية وعقائدية، فالناس في فهم الأمور طرفان ووسط.. الطرفان إما إلى تفريط وإما إلى إفراط. والوسط هم أهل العدل الذين قال الله تعالى فيهم: "وكذلك جعلناكم أمة وسطاً" (¬2) . وكان من نتيجة الفرقة والاختلاف، واختلال الفهم والنظر، أن نشأت في الإسلام فرق كثيرة - سواء - عقائدية أو سياسية (¬3) - فرقت أهل الإسلام وجعلتهم شيعاً وأحزاباً … كل حزب بما لديهم فرحون! . وكانت هذه الفرق - على الجملة - إما إلى تفريط - كما هو حال المرجئة - وإما إلى إفراط كما هو حال الخوارج. ¬
وقد كان السبب الأساسي في إنحراف هذه الفرق عن جادة الطريق راجع إلى عدة أسباب مشتركة في منهجها بينهم، هي سمة أهل البدع والأهواء كلهم في تناول النصوص وفهمها فهماً مريضاً خادماً لفكرة أساسية اعتقدوها ابتداءً ثم حملوا عليها النصوص تأكيداً لفكرتهم وتقديماً لها على ما قصد إليه الشارع محادةً لله ولرسوله حيث يقول تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله) (¬1) . يقول الإمام ابن تيمية: "أحدها قوم اعتقدوا معاني، ثم أرادوا حمل ألفاظ القرآن عليها! . الثاني: قوم فسروا القرآن بمجرد مايسوغ أن يريده من كان من الناطقين بلغة العرب بكلامه من غير النظر إلى المتكلم بالقرآن، والمنزل عليه، والمخاطب به! . فالأولون راعوا المعنى الذي رأوه من غير نظر إلى ماتستحقه ألفاظ القرآن من الدلالة والبيان، والآخرون راعوا مجرد اللفظ، وما يجوز أن يريد به عندهم العربي من غير نظر إلى ما يصلح للمتكلم، وسياق الكلام" (¬2) . وهذا النهج من النظر إلى النصوص نهج منحرف ولاشك، لأنه يؤدي إلى تضارب القرآن الكريم والسُّنَّة المطهرة، وما من فرقة من هذه الفرق الزائغة إلا وأعرضت عن بعض الآيات والأحاديث التي لم توافق مذهبها غير راغبين في الجمع بينها وبين سواها من النصوص ليتحد الفهم، ويستقيم النظر، ويخرج من مضمون قوله تعالى: (كما أنزلنا على المقتسمين. الذين جعلوا القرآن عضين" (¬3) . روى الطبري في تفسيره عن الضحاك في قوله تعالى: (جعلوا القرآن عضين) جعلوا كتابهم أعضاء كأعضاء الجزور، وذلك أنهم تقطعوه زبرا، كل حزب بما لديهم فرحون، وهو قوله تعالى: (فرقوا دينهم وكانوا شيعاً) (¬4) . وقد بيَّن الشاطبي مسالك أهل البدع والأهواء في الفهم السقيم، منبهاً على مسالك أهل الحق في الفهم المستقيم، في كتابه "الاعتصام". ¬
يقول: "أن للراسخين طريقاً يسلكونها في اتباع الحق، وأن الزائغين على طريق غير طريقهم، فاحتجنا إلى بيان الطريق التي سلكها هؤلاء لنجتنبها، كما نبين الطريق التي سلكها الراسخون لنسلكها" (¬1) . ومعالم الطريق المستقيم واضحة بينة لمن أراد الله له الهداية والتوفيق كما قال تعالى: (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه) (¬2) . ويمكن أن نجمل بعض سمات أهل البدع والأهواء في مذهبهم في النظر والاستدلال تبعاً لما قرره أئمة أهل السُّنَّة في كتبهم فنقول، أن من طرقهم. الإعتماد على الأحاديث الواهية الضعيفة والمكذوبة. ردهم للأحاديث التي جرت غير موافقة لأغراضهم ومذاهبهم، إما بدعوى أنها غير موافقة للعقول أو أنها غير جارية على الدليل إلى غير ذلك من الشبه. عدم رد الفروع الجزئية إلى قواعدها الكلية واتباع المتشابه من الآيات وعدم ردها إلى المحكم. عدم الأخذ بطريق الراسخين في العلم في تناول النصوص بالجمع بين أطراف الأدلة. فما أجمل في مكان بُيِّن في آخر، وما أطلق في موضع قيد في آخر، وماعم في نص خصص في آخر … فالعمل بالمجملات والمطلقات والعمومات دون النظر إلى مخصصاتها ومقيداتها ومبيناتها يؤدي إلى الزيغ والهلاك. وليس هذا موضع شرح هذه المآخذ في الاستدلال، وما يمكن أن تؤدى إليه (¬3) ، ولكننا أردنا أن ننبه إلى طرف منها، لنكون منبهين على تجاوز كلا الطرفين المفرطين، والمفرّطين، في حدود الله والاعتداء عليها لعدم فهمهم الأصيل لمسالك السلف في تناول النصوص. ¬
وإن من أهم الأمور وأخطرها في عصرنا الحالي - وواقعنا الإسلامي على وجه الخصوص - هو ضرورة إزالة الالتباس الذي حدث في الفهم العام لحقيقة الإسلام والإيمان، بعد أن تجاذب الناس الطرفين الذين أشرنا إليهما في هذا السياق، فمن قائل إن الإسلام الكلمة، وإن من نطق بالشهادتين فهو المسلم عند الله تعالى لا يضره بعد ذلك عمل كائناً ما كان، ومن قائل أن الأعمال كلها - فرضها ونفلها - داخلة في الحد الأدنى للإسلام فمن ترك منها شيئاً - فرضاًأو نفلاً - أو أتى محرماً أو مكروهاً مع علمه به، كفر بالله والعياذ بالله. وكلا القولين هو من نتاج ذلك الفهم الأعوج الذي ذكرناه، وستكون قضيتنا الأساسية هنا هي قضية من أخطر قضايا الفكر الإسلامي، وهي "دخول الأعمال في الإيمان ولزوم جنسها لصحته، والقدر المطلوب منها ليصير الرجل مسلماً، وما يجب أن يفعل، وما يجب أن يترك ليحقق إسلام المرء ظاهراً وباطناً". وهي القضية التي تميعت في عقول الناشئة من "دعاة الإسلام" في هذا العصر، حيث خلطوا في النصوص أو اتبعوا المنهج الأعوج في الفهم، فخرجوا إلى نتائج شابهت في كثير منها ما خرجت إليه الفرق التي شذت عن أهل السُّنَّة والجماعة في مختلف العصور. كما سنناقش بالدليل الشرعي المدعم بالنصوص الثابتة كلاً من الفريقين المفرّطين والمفرطين الذين قال عنهما ابن تيمية بحق "أن معرفة أدلة كل منهما لا تفيد إلا في هدم مذهب الآخر". وقد قال بعض السلف: "ما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما إلى تفريط. وإما إلى مجاوزة، وهي الإفراط ولا يبالي بأيهما ظفر زيادة أو نقصان" (¬1) . وبعد: ¬
الإسلام والإيمان
فإنه من فضل الله تعالى أن هدانا للمسلك القويم - مسلك أهل السُّنَّة والجماعة - وسط هذا الخضم الهائل من الآراء والأهواء، إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، ونسأله تعالى أن يوفقنا إلى الاعتصام بحبله والثبات على هديه إنه سميع عليم. اللهم فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم. الباب الأول مفاهيم ضرورية الفصل الأول الإسلام والإيمان إن المتتبع لآيات القرآن الكريم، وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، يجد أن كلاً من لفظي "الإسلام والإيمان" قد وردا في بعضها بمعنى واحد - أي مترادفين - يدلان على مسمى واحد، وفي بعضها الآخر ورد كل منهما بمعنى مغاير للآخر، ودلّ كل منهما على معنى غير الذي دل عليه الآخر. وقد تكلم السلف الصالح، وأئمة الإسلام في هذه القضية وامتلأت كتبهم بتحليلها، ونحن - إن شاء الله - ذاكرون لبعض الشواهد من الكتاب والسُّنَّة على هذه القضية أولاً، ثم جامعون بين أطراف هذه الشواهد والأدلة لنصل بذلك إلى الفهم المستقيم الذي تتواكب فيه المعاني كلها وتنتظم في اتساق يرفع الخلاف بين نصوص هذه الشريعة الغراء كما قال تعالى: (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً) (¬1) . أولا ً: فقد وردت آيات وأحاديث تفيد أن الإسلام هو الأعمال الظاهرة من البدن، والإيمان هو الأعمال الباطنة في القلب، فهما إذن متغايران. مثال ذلك، قال تعالى: (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم) (¬2) . وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه مسلم بسنده عن عمر بن الخطاب قال: ¬
"بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه وقال يا محمد أخبرني عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا. قال: صدقت فعجبنا له يسأله ويصدقه. قال فأخبرني عن الإيمان، قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره. قال صدقت. قال فأخبرني عن الإحسان قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.." (¬1) . وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما: "أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الإسلام خير. قال: أن تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف" (¬2) . وفي حديث عبد الله بن عبيد الله بن عمير عن أبيه عن جده أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الإسلام؟ قال: إطعام الطعام وطيب الكلام [قيل فما الإيمان، قال: السماحة والصبر] (¬3) . ثانياً: كما وردت الآيات والأحاديث تفيد أن الأعمال الظاهرة داخلة في معنى الإيمان، وأن الأعمال الباطنة داخلة في معنى الإسلام. ومن ذلك: قوله تعالى: (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون) (¬4) . ¬
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان" (¬1) . وفي حديث وفد عبد القيس: "آمركم بأربع: الإيمان بالله وحده وهل تدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأن تعطوا الخمس من المغنم ... " (¬2) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن للإسلام صوى ومناراً كمنار الطريق منها أن تؤمن بالله ولا تشرك به شيئاً وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأن تسلم على أهلك إذا دخلت عليهم وأن تسلم على القوم إذا مررت بهم فمن ترك من ذلك شيئاً فقد ترك سهماً من الإسلام ومن تركهن فقد ولى الإسلام ظهره" (¬3) . وقال تعالى: (إن الدين عند الله الإسلام) (¬4) . ثالثاً: كما وردت آيات وأحاديث تفيد أن الإسلام والإيمان مترادفين. ومن ذلك: قوله تعالى: (فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين) (¬5) . ¬
قال الإمام أحمد حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم حدثنا عباد بن راشد حدثنا الحسن حدثنا أبو هريرة ونحن بالمدينة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، "تجئ الأعمال يوم القيامة فتجئ الصلاة فتقول يارب أنا الصلاة فيقول إنك على خير. وتجئ الصدقة فتقول يارب أنا الصدقة فيقول إنك على خير، ثم يجئ الصيام فيقول يارب أنا الصيام فيقول إنك على خير. ثم تجئ الأعمال كل ذلك يقول الله تعالى إنك على خير، ثم يجئ الإسلام فيقول يارب أنت السلام وأنا الإسلام فيقول الله إنك على خير بك اليوم آخذ وبك أعطي" (¬1) . والجمع بين كل ماسبق من الآيات والأحاديث التي ذكر في بعضها أن الإسلام شئ والإيمان شئ آخر، وفي بعضها أن الإسلام بمعنى الإيمان، هو أنه كما قال ابن رجب: "إذا أفرد أحدهما دخل فيه الآخر، ودل بانفراده على ما يدل عليه الآخر بانفراده، فإذا قرن بينهما دل أحدهما على بعض مايدل عليه بانفراده، ودل الآخر على الباقي" (¬2) . ثم يقول ابن رجب بعدها: "وقد صرح بهذا المعنى جماعة من الأئمة. قال أبو بكر الإسماعيلي في رسالته إلى أهل الجبل: قال كثير من أهل السُّنَّة والجماعة إن الإيمان قول وعمل، والإسلام فعل مافرض الله على الإنسان أن يفعله. إذا ذكر كل اسم على حدته مضموماً إلى الآخر، فقيل المؤمنون والمسلمون جميعاً مفردين أريد بأحدهما معنى لم يرد به الآخر، وإذا ذكر أحد الاسمين شمل الكل وعمهم. وقد ذكر هذا المعنى أيضاً الخطابي في معالم السُنن وتبعه عليه جماعة من العلماء بعده" (¬3) . ¬
ثم يقول: "وقد نقل هذا التفريق بينهما عن كثير من السلف: منهم قتادة وداود ابن أبي هند وأبو جعفر الباقر والزهري وحماد بن زيد وابن مهدي وشريك وابن أبي ذئب وأحمد بن حنبل وأبو خيثمة ويحيى بن معين وغيرهم.. وبهذا التفصيل الذي ذكرناه يزول الاختلاف فيقال: إذا أفرد كل من الإسلام والإيمان بالذكر فلا فرق بينهما حينئذ، وإن قرن بين الاسمين كان بينهما فرق. والتحقيق في الفرق بينهما أن الإيمان هو تصديق القلب وإقراره ومعرفته، والإسلام هو استسلام العبد لله وخضوعه وانقياده له" (¬1) . ويقول ابن تيمية: " ... فلهذا فسَّر النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان بإيمان القلب وبخضوعه وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، وفسَّر الإسلام باستسلام مخصوص هو المباني الخمس وهكذا في سائر كلامه صلى الله عليه وسلم يفسَّر الإيمان بذلك النوع ويفسَّر الإسلام بهذا" (¬2) . ويقول: "وأما إذا قرن الإيمان بالإسلام، فإن الإيمان في القلب والإسلام ظاهر" (¬3) . فما ذكرناه هو حاصل الأمر في هذا الموضوع، وبه يرفع الخلاف - كما قال ابن رجب - بالجمع بين أطراف الأدلة كلها، كما هو معلوم من أصول النظر عند أهل السُّنَّة في تناولهم للنصوص. ثم إن "الدين" هو جماع ذلك كله. يقول شارح الفقه الأكبر: " (والدين اسم واقع على الإيمان والإسلام والشرائع كلها) أي الأحكام جميعها، والمعنى أن الدين إذا أطلق فالمراد به التصديق والإقرار وقبول الأحكام للأنبياء عليهم الصلاة والسلام" (¬4) . ¬
ويقول البغوي في شرح السُّنَّة: "قد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام اسماً لما ظهر من الأعمال، وجعل الإيمان اسماً لما بطن من الاعتقاد، وليس ذلك لأن الأعمال ليست من الإيمان، أو التصديق بالقلب ليس من الإسلام بل ذلك تفصيل لجملة هي كلها شئ واحد وجماعها الدين" (¬1) . وما ذكره البغوي هو أحسن تفسير لهذا الأمر، فإن هذا التقسيم اصطلاحي فقط، أما من ناحية الحقيقة فإن الإيمان لا يوجد إلا بالإسلام، كما أن الإسلام لا يظهر إلا بالإيمان، وإخبات القلب لازمه العمل، كما أن العمل ينبئ عن التزام القلب وإخباته.. وذلك لصحة التلازم بين الظاهر والباطن كما هو مقرر في الأصول (¬2) . يقول ابن تيمية: "وبهذا يظهر خطأ جهم ومن اتبعه في زعمهم أن مجرد إيمان بدون الإيمان الظاهر ينفع في الآخرة، فإن هذا ممتنع، إذ لا يحصل الإيمان التام (¬3) في القلب إلا ويحصل في الظاهر موجبه بحسب القدرة، فإن من الممتنع أن يحب الإنسان غيره حباً جازماً، وهو قادر على مواصلته ولا يحصل منه حركة ظاهرة إلى ذلك" (¬4) . ويقول شارح الفقه الأكبر " (ولكن لا يكون) أي لا يوجد في اعتبار الشريعة (إيمان بلا إسلام) أي انقياد باطن بلا انقياد ظاهري" (¬5) . ¬
الإيمان قول وعمل يزيد وينقص
كما يقول شارح الطحاوية "فالحاصل أن حالة اقتران الإسلام بالإيمان غير حالة إفراد أحدهما عن الآخر، فمثل الإسلام من الإيمان كالشهادتين أحدهما من الأخرى، فشهادة الرسالة غير شهادة الوحدانية، فهما شيئان في الأعيان وإحداهما مرتبطة بالأخرى في المعنى والحكم كشئ واحد، كذلك الإسلام والإيمان، لا إيمان لمن لا إسلام له، ولا إسلام لمن لا إيمان له إذ لا يخلو المؤمن من إسلام به يتحقق إيمانه، ولا يخلو المسلم من إيمان به يصح إسلامه" (¬1) . الفصل الثاني الإيمان قول وعمل يزيد وينقص الإيمان شرعاً (¬2) : هو تصديق خبر الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به عن ربه عز وجل جملة وعلى الغيب والانقياد لشريعته والتزامها (¬3) . والحديث في هذا الأمر على أصلين. الأول: أن الإيمان قول وعمل. الثاني: أنه يزيد وينقص. الأصل الأول: الإيمان قول وعمل. وتفصيل هذه الجملة أن الإيمان قول وعمل بالقلب واللسان والجوارح. ¬
يقول شارح العقيدة الطحاوية الإمام ابن أبي العز "وهنا أصل آخر وهو أن القول قسمان: قول القلب وهو الإعتقاد (¬1) وقول اللسان وهو التكلم بكلم الإسلام: والعمل قسمان عمل القلب وهو نيته وإخلاصه وعمل الجوارح" (¬2) . ويقول صاحب "معارج القبول": " (اعلم) يا أخي وفقني الله وإياك والمسلمين (بأن الدين) الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه ورضيه لأهل سماواته وأرضه. وأمر أن لا يعبد إلا به ولا يقبل من أحد سواه ولا يرغب عنه إلا من سفه نفسه ولا أحسن دينا ممن التزمه واتبعه هو (قول) أي بالقلب واللسان (وعمل) أي بالقلب واللسان والجوارح" (¬3) . ويقول الإمام ابن القيم: "وهاهنا أصل آخر، وهو أن حقيقة الإيمان مركبة من قول وعمل. والقول قسمان: قول القلب وهو الاعتقاد، وقول اللسان وهو التكلم بكلم الإسلام. والعمل قسمان: عمل القلب وهو نيته وإخلاصه وعمل الجوارح" (¬4) . ¬
وبيان هذه الأقسام (¬1) هو أن: قول القلب: تصديقه وانقياده (¬2) . قال تعالى: (والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون) (¬3) . وقال تعالى: (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا) (¬4) . وفي حديث الشفاعة: "يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه من الخير ما يزن شعيرة ... " (¬5) . قول اللسان: وهو النطق بالشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله والإقرار بلوازمهما (¬6) ¬
قال تعالى: (وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق) (¬1) . وقال تعالى: (وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب) (¬2) . عمل القلب: "وهو النية والإخلاص والمحبة والانقياد والتوكل". قال تعالى: (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه) (¬3) . وقال تعالى: (إنما نطعمكم لوجه الله) (¬4) . وقال تعالى: (الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً) (¬5) . وعن النبي صلى الله عليه وسلم "إنما الأعمال بالنيات" (¬6) . عمل اللسان والجوارح. فعل اللسان كتلاوة القرآن والذكر. وعمل الجوارح كإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والجهاد والحج (¬7) ¬
قال تعالى: (إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية يرجون تجارة لن) (¬1) . وقد أجمع العلماء على هذا الأصل. ذكر الآجري في "الشريعة": "حدثنا أبو حفص عمر بن أيوب السقطي قال: سمعت أبا جعفر محمد بن سليمان يقول: سمعت سفيان بن عيينة يقول غير مرة: "الإيمان قول وعمل"، قال ابن عيينة: "وأخذناه ممن قبلنا: قول وعمل، وأنه لا يكون قول إلا بعمل". قيل لابن عيينة: "يزيد وينقص؟ قال: فأي شئ إذاً؟ " (¬2) . كما نقل ابن تيمية قول أبي القاسم الأنصاري شيخ الشهرستاني في شرح الإرشاد لأبي المعالي قوله: "وذهب أهل الأثر إلى أن الإيمان جميع الطاعات فرضها ونفلها، وعبروا عنه بأنه إتيان ما أمر الله به فرضاً ونفلاً والانتهاء عما نهى عنه تحريماً وتأدباً" (¬3) . كما قال: "ولهذا كان القول أن الإيمان قول وعمل عند أهل السُّنَّة من شعائر السُّنَّة، وحكى غير واحد الاجماع على ذلك"، وقد ذكرنا عن الشافعي رضي الله عنه ماذكره من الاجماع على ذلك قوله في الأم: "وكان الإجماع من الصحابة والتابعين من بعدهم وممن أدركناهم يقولون إن الإيمان قول وعمل ونية لا يجزئ واحد من الثلاثة إلا بالآخر" (¬4) . ثم نقل ابن تيمية أسماء من قال بهذا من أئمة مكة والمدينة والكوفة والبصرة وواسط، وقال أبو عبيد: "وهو قول أهل السُّنَّة المعمول به عندنا" (¬5) . إلى غير ذلك من آثار أجمعت كلها على هذا القول دون خلاف معتبر. الأصل الثاني: أن الإيمان يزيد وينقص. وهو كما قال السلف: "يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية" (¬6) . قال تعالى: "وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً" (¬7) . ¬
وقال تعالى: "فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون" (¬1) . وقال تعالى: "هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم" (¬2) . وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "الإيمان يبدأ لمظة بيضاء في القلب، كلما ازداد الإيمان ازدادات بياضاً حتى يبيض القلب كله، وإن النفاق يبدأ لمظة سوداء في القلب، فكلما ازداد النفاق ازدادت حتى يسود القلب كله" (¬3) . ويقول شارح الطحاوية: "وكلام الصحابة رضي الله عنهم في هذا المعنى كثير أيضاً، منه قول أبي الدرداء رضي الله عنه: "من فقه العبد أن يتعاهد إيمانه وما نقص منه ومن فقه العبد أن يعلم أيزداد هو أم ينقص". وعن عمر بن الخطاب أنه يقول لأصحابه: "هلموا نزداد إيماناً" يتذكرون الله تعالى عز وجل. وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول في دعائه: "اللهم زدنا إيماناً ويقيناً وفقهاً". وكان معاذ بن جبل رضي الله عنه يقول لرجل: "اجلس بنا نؤمن ساعة"، ومثله عن عبد الله بن رواحة. وصح عن عمار بن ياسر أنه قال: "ثلاث من كن فيه فقد استكمل الإيمان: إنصاف من نفسه، والإنفاق من إقتار، وبذل السلام للعالم". ذكره البخاري رحمه الله في صحيحه" (¬4) . وذكر الآجري في "الشريعة: "حدثنا حفص بن محمد الصندي بسنده عن عمير بن حبيب قال: الإيمان يزيد وينقص، فقيل وما زيادته ونقصانه؟ قال: إذا ذكرنا الله عز وجل وحمدناه وسبحناه فذلك زيادته، وإذا غفلنا ونسينا فذلك نقصانه". وعن ابن عباس وأبي هريرة بسنده قال: الإيمان يزيد وينقص. ¬
وقال: حدثنا أبوبكر بن أبي داود بسنده عن عبد الرزاق قال: سمعت معمراً وسفيان الثوري ومالك بن أنس وابن جريج وسفيان بن عيينة يقولون: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص" (¬1) . وغير ذلك كثير من الآثار التي وردت تدل على إجماع أهل السُّنَّة والجماعة على هذا القول، وهي تثبت كلها أن إيمان المرء يزيد وينقص حسب ما يقوم به من عمل صالح أو طالح، وهو أمر يعانيه كل مسلم في حياته، فهو كلما أخذ بالصالح من القول والعمل أحس بفيضان النور الإلهي يعمر قلبه وكيانه ... وكلما بعد عن العمل الصالح والقول الصالح كلما أحس بغشاوة على قلبه تزداد كثافتها حتى يصبح قلبه أسوداً مرباداً ويرون عليه الران كما قال تعالى: "كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون" (¬2) . قاعدة في مسألة زيادة الإيمان ونقصانه: لقد استفاض العلماء في شرح هذه المسألة في كتب العقائد عامة، فلا مجال للزيادة على ذلك، وإنما نريد أن نتناول بالبحث هنا بعض مانحسب أنه قد خفى على الكثيرين في هذا الزمان من معان متعلقة بهذا الأمر، مما أدى إلى اضطرابهم في فهم أقوال السلف، وبالتالي إلى فهم القضية عامة. ونحصر قولنا في أمرين: أولاً: إثبات أن هناك حد أدنى من الإيمان الذي ينجو به صاحبه من الخلود في النار. ثانياً: لزوم جنس الأعمال لتحقيق هذا الحد الأدنى من الإيمان الذي ينجو به صاحبه من الخلود في النار وهما قضيتان متلازمتان. فنقول وبالله التوفيق: ¬
أولاً: أن لفظ "الإيمان" فيما رويناه عن السلف الصالح - والذي قالوا عنه أنه يزيد وينقص - إنما عنى به كمال الإيمان أو استكمال درجاته، فالإيمان بمعناه الشامل يتحقق بكماله لمن حقق التوحيد - أي أتى بالقدر اللازم للنجاة من الخلود في النار - ثم قام بالأعمال التي بلغته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعمر قلبه بالتصديق والإقرار بالرسالة وانقاد لشرائعها ظاهراً وباطناً، وقام بما طلبه منه الشارع من أوامر ونواهي، فهذا يكتمل إيمانه ويزداد حسب قيامه بهذه الأوامر وتركه لتلك النواهي، وينقص في درجات الكمال حسبما يترك من أوامر أو يفعل من محظورات، فتعبير السلف عن الإيمان - الذي يزيد وينقص - في هذه الدرجة هو ماقصدوه بالنقص بالمعصية والزيادة بالطاعة (¬1) . ولهذا الأمر تفصيل ذكره الإمام "ابن تيمية" في كتاب "الإيمان"، فقد أوضح أن الإيمان لا يستوي في حق كل مكلف أو في كل وقت، وإنما له درجات ثلاث - حسب تعبيره - وهي: (أ) الإيمان المجمل: وهو القدر من الإيمان الذي لا يقبل نقصاً، فأي نقص فيه يعني انخرام أصل الدين، ومحصلته الإيمان بربوبية الله تعالى وألوهيته على عباده، معرفة وتصديقاً وإقراراً وانقياداً والتزاماً بطاعته مع ترك أعمال الشرك الأكبر كلية، وتصديق خبر الرسول صلى الله عليه وسلم جملة وعلى الغيب. ¬
وهذا القدر من الإيمان - الذي هو أصل دين الله - إنما يظهر بهذا القدر فقط - دون اشتراط أي عمل من أعمال الجوارح - في حق من مات قبل نزول الفرائض والشرائع عامة، ومثله في حق المتحنفين من العرب قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم أو من مات ولم تبلغه شرائع عملية لوجوده في شواهق جبل، أو دار بعيدة عن دار الإسلام مثلاً، فهذا القدر بالنسبة لهؤلاء لا يتصور فيه أي قدر من الأعمال التي يجب فعلها لعدم ورود الشريعة بعد، أو لغيابها عمن هو في دار حرب أو في شواهق الجبال مثلاً. (ب) الإيمان الواجب أو المفصّل:
وهو يشمل المعنى السابق - للإيمان المجمل - مضافاً إليه الالتزام بما بلغه من شرائع والانقياد لها أمراً أمراً وخبراً خبراً، فينضاف إلى معنى التصديق والإقرار جملة والالتزام بالطاعة، الإقرار بكل خبر أو أمر على حدة، ثم التزام ما ينبني عليه فعل من هذه الأوامر والشرائع التزام قبول وطاعة بالأخبار والأوامر كلها، والتزام تنفيذ لما هو مشترط لصحة الإسلام بالذات - كما سيأتي بعد في معنى الالتزام في الفصل الثالث (¬1) - وتكون سائر الواجبات هي التي يجري فيها قولهم بالزيادة والنقص في الإيمان، فكلما أتى المرء من واجبات إزداد إيمانه الواجب، وكلما أتى من معاصي نقص إيمانه الواجب، فالإيمان الواجب إذاً هو الذي يظهر فيه معنى العمل بالأوامر والنواهي (¬2) ، لأن الإيمان المجمل – كما ذكرنا – لا يظهر ولا يكون واجباً إلا في حق من لم تبلغه شرائع أو من مات قبل نزولها، مع افتراض ترك الشرك الأكبر جملة في كل الأحوال (¬3) ¬
فيكون من عاش فأدرك هذه الواجبات المفروضة - أو من بلغته عامة - لابد له من التزامها لدخولها في الإيمان الواجب في حقه خلاف من مات قبلها أو لم تصله. (جـ) الإيمان الكامل: ويشمل الإتيان بالمستحبات والبعد عن المكروهات، فهو يشتمل إذن على جميع الأعمال واجبها ومستحبها وترك حرامها ومكروهها. فيكون ما عناه السلف من زيادة الإيمان ونقصه إنما هو في مرتبة الإيمان الواجب والكامل، ينقص بالمعصية ويزداد بالطاعة والعمل الصالح، فهاتين المرتبتين أو الدرجتين يعقل فيهما معنى الزيادة والنقصان لظهورهما في حق من وجب في حقه العمل لبلوغه له وتكليفه به. يقول الإمام ابن تيمية في معرض رده على المرجئة الذين يقولون إن الإيمان مجرد ما في القلب: "ظنهم أن الإيمان الذي فرضه الله على العباد متماثل في حق العباد، وأن الإيمان الذي يجب على شخص يجب مثله على كل شخص، وليس الأمر كذلك فإن اتباع الأنبياء المتقدمين أوجب الله عليهم من الإيمان ما لم يوجبه على أمة محمد، وأوجب على أمة محمد من الإيمان ما لم يوجبه على غيرهم، والإيمان الذي كان يجب قبل نزول جميع القرآن ليس هو مثل الإيمان الذي يجب بعد نزول القرآن، والإيمان الذي يجب على من عرف ما أخبر به الرسول مفصلاً ليس مثل الإيمان الذي يجب على من عرف ما أخبره به مجملاً، فإنه لابد في الإيمان من تصديق الرسول في كل ما أخبر، لكن من صدق الرسول أو مات عقب ذلك لم يجب عليه من الإيمان غير ذلك، وأما من بلغه القرآن والأحاديث وما فيهما من الأخبار والأوامر المفصلة فيجب عليه من التصديق المفصل بخبر بخبر وأمر أمر ما لا يجب على من لم يجب عليه إلا الإيمان المجمل لموته قبل أن يبلغه شئ آخر.
وأيضاً لو قدر أنه عاش فلا يجب على كل واحد من العامة أن يعرف كل ما أمر به الرسول وكل ما نهى عنه وكل ما أخبر به، بل إنما عليه أن يعرف ما يجب عليه هو وما يحرم عليه، فمن لا مال له لا يجب أن يعرف أمره المفصل في الزكاة، ومن لا استطاعة له على الحج ليس عليه أن يعرف أمره المفصل بالمناسك، ومن لم يتزوج ليس عليه أن يعرف ما وجب للزوجة فصار يجب من الإيمان تصديقاً وعملاً على أشخاص ما لا يجب على آخرين. وبهذا يظهر الجواب عن قولهم خوطبوا بالإيمان قبل الأعمال فنقول: إن قلتم إنهم خوطبوا به قبل أن تجب تلك الأعمال، فقبل وجوبها لم تكن من الإيمان، وكانوا مؤمنين الإيمان الواجب عليهم قبل أن يفرض عليهم ما خوطبوا بفرضه، فلما نزل، إن لم يقروا بوجوبه لم يكونوا مؤمنين، ولهذا قال تعالى: (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا، ومن كفر فإن الله غني عن العالمين) ولهذا لم يجئ ذكر الحج في أكثر الأحاديث التي فيها ذكر الإسلام والإيمان كحديث وفد عبد القيس وحديث الرجل النجدي الذي يقال له ضمام بن ثعلبة وغيرهما، وإنما جاء ذكر الحج في حديث ابن عمر وجبريل، وذلك لأن الحج آخر ما فرض من الخمس فكان قبل فرضه لا يدخل في الإسلام والإيمان، فلما فرض أدخله النبي صلى الله عليه وسلم في الإيمان إذا أفرد، وأدخله في الإسلام إذا قرن بالإيمان وإذا أفرد. وكذلك قولهم: من آمن ومات قبل وجوب العمل عليه مات مؤمناً، صحيح، لأنه أتى بالإيمان الواجب عليه، والعمل لم يكن وجب عليه بعد، فهذا مما يجب أن يعرف فإنه تزول به شبهة حصلت للطائفتين. فإذا قيل: الأعمال الواجبة من الإيمان، فالإيمان الواجب متنوع ليس شيئاً واحداً في حق جميع الناس.
وأهل السُّنَّة والحديث يقولون جميع الأعمال الحسنة واجبها ومستحبها من الإيمان، أي من الإيمان الكامل بالمستحبات، ليست من الإيمان الواجب، فيفرق بين الإيمان الواجب وبين الإيمان الكامل بالمستحبات. كما يقول الفقهاء: الغسل ينقسم إلى مجزئ وكامل، فالمجزئ ما أتى فيه بالواجبات فقط، والكامل ما أتى فيه بالمستحبات، ولفظ الكمال قد يراد به الكمال الواجب، وقد يراد به الكمال المستحب" (¬1) . ويقول الآجري في "الشريعة": "أما بعد فاعلموا - رحمنا الله وإياكم - أن الله عز وجل بعث نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة، ليقروا بتوحيده، فيقولوا "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، فكان من قال هذا موقناً من قلبه ناطقاً بلسانه أجزأه، ومن مات على هذا فإلى الجنة، فلما آمنوا بذلك، وأخلصوا توحيدهم فرض عليهم الصلاة بمكة، فصدقوا بذلك وآمنوا وصلوا. ثم فرض عليهم الهجرة فهاجروا وفارقوا الأهل والأوطان". ثم فرض عليهم بالمدينة الصيام فآمنوا وصدقوا وصاموا شهر رمضان. ثم فرض عليهم الزكاة فآمنوا وصدقوا وأدوا ذلك كما أُمروا. ثم فرض عليهم الجهاد فجاهدوا البعيد والقريب، وصبروا وصدقوا. ثم فرض عليهم الحج فحجوا وآمنوا به. فلما آمنوا بهذه الفرائض عملوا بها تصديقاً بقلوبهم وقولاً بألسنتهم وعملاً بجوارحهم. قال الله عز وجل: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً) (¬2) . ¬
وقال: (حدثنا أبو عبد الله محمد بن مخلد العطار قال: حدثنا أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم الصفار قال: حدثني محمد بن عبد الملك المصيصي أبو عبد الله قال: كنا عند سفيان بن عيينة في سنة سبعين ومائة فسأله رجل عن الإيمان؟ فقال: قول وعمل، قال: يزيد وينقص؟ قال: يزيد ما شاء الله وينقص حتى لا يبقى منه مثل هذا، وأشار سفيان بيده، قال الرجل: كيف نصنع بقوم عندنا يزعمون أن الإيمان قول بلا عمل؟ قال سفيان: كان القول قولهم قبل أن تقرر أحكام الإيمان وحدوده، إن الله عز وجل بعث نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الناس كلهم كافة أن يقولوا: لا إله إلا الله وأنه رسول الله، فلما قالوها عصموا بها دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل، فلما علم الله عز وجل صدق ذلك من قلوبهم، أمره أن يأمرهم بالصلاة فأمرهم ففعلوا فوالله لو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار الأول ولا صلاتهم أن يأخذ من أموالهم صدقة يطهرهم بها. فأمرهم ففعلوا، حتى أتوا بها، قليلها وكثيرها، ولا هجرتهم ولا قتلهم آباءهم ولا طوافهم، فلما علم الله جل وعلا صدق ذلك من قلوبهم أمره أن يأمرهم بالهجرة إلى المدينة فأمرهم ففعلوا فوالله لو لم يفعلوا مانفعهم الإقرار الأول ولا صلاتهم، فلما علم الله تبارك وتعالى صدق ذلك من قلوبهم أمرهم بالرجوع إلى مكة ليقاتلوا آباءهم وأبناءهم، حتى يقولوا كقولهم ويصلوا صلاتهم ويهاجروا هجرتهم فأمرهم ففعلوا حتى أتى أحدهم برأس أبيه، فقال: يارسول الله هذا رأس شيخ الكافرين، فو الله لو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار الأول ولا صلاتهم ولا هجرتهم ولا قتالهم. فلما علم الله عز وجل صدق ذلك من قلوبهم أمرهم أن يأمرهم بالطواف بالبيت تعبداً وأن يحلقوا رؤوسهم تذللاً ففعلوا، فو الله لو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار الأول ولا صلاتهم ولا هجرتهم ولا قتلهم آباءهم. فلما علم الله عز وجل صدق ذلك من قلوبهم، أمره أن يأخذ من
أموالهم صدقة يطهرهم بها. فأمرهم ففعلوا، حتى أتوا بها، قليلها وكثيرها، ووالله لو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار الأول ولا صلاتهم ولا هجرتهم ولا قتلهم آباءهم ولا طوافهم. فلما علم الله تبارك وتعالى الصدق من قلوبهم فيما تتابع عليهم من شرائع الإيمان وحدوده، قال عز وجل سبحانه وتعالى: قل لهم (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً) . قال سفيان: فمن ترك خلة من خلال الإيمان كان بها عندنا كافراً، ومن تركها كسلاً أو تهاوناً بها أدبناه (¬1) وكان بها عندنا ناقصاً، هكذا السُّنَّة أبلغها عني من سألك من الناس" (¬2) . ¬
فالإيمان المجمل - إذن - هو الحد الأدنى الذي ينجو به صاحبه من الخلود في النار، وهو متضمن لترك أعمال الشرك، ويظهر في حق من مات قبل نزول الشرائع عامة، أو لم تبلغه تفاصيل هذه الشرائع لوجوده في دار حر ب أو في بادية بعيدة، وينضاف إلى هذا الإيمان المجمل - أو الواجب في حق من ذكرنا - كل شريعة أو فريضة أو واجب نزل وفرض على الناس فمن بلغه هذا الواجب صار إيمانه متضمناً له، فإن رده ولم يقبله بعد نزوله أو بلوغه له، وادعى ثبوته على ما هو عليه من إيمان مجمل كان كافراً، وإن اعتقده والتزمه فهو بين أمرين: أن يكون هذا الأمر من الأعمال التي جعلها الله عز وجل شرطاً لصحة الإسلام - على خلاف فيها كما سنبين - فيكون بتركها كافراً، أو أن يكون من سائر الواجبات العادية فيكون بتركها فاسقاً قد انتقص من إيمانه بهذا القدر (¬1) ¬
يقول ابن تيمية: "وقد اتفق المسلمون على أن من لم يأت بالشهادتين فهو كافر، وأما الأعمال الأربعة فاختلفوا في تكفير تاركها، ونحن إذا قلنا إن أهل السُّنَّة متفقون على أنه لا يكفر بالذنب، فإنما نريد به المعاصي كالزنا والشرب، وأما هذه المباني ففي تكفير تاركها نزاع مشهور" (¬1) . ثانياً: إن لزوم جنس العمل - أو قدر من أعمال الجوارح - لتحقيق أصل الإيمان الذي ينجو بصاحبه من الخلود في النار - أي في الإيمان الواجب علي من بلغته الأعمال والشرائع - لهو قضية اشتبهت على الكثير من دعاة الإسلام في هذا العصر، فلابد من أن نزيدها وضوحاً وبياناً إن شاء الله تعالى. فنقول وبالله التوفيق: يقول صاحب "معارج القبول": "وذهب الجبائي وأكثر المعتزلة البصرية إلى أنه - أي الإيمان - الطاعات المفروضة من الأفعال والتروك دون النوافل، وهذا أيضاً يدخل المنافقين في الإيمان، وقد نفاه الله عنهم، وقال الباقون منهم: العمل والنطق والاعتقاد. والفرق بين هذا وبين قول السلف الصالح أن السلف لم يجعلوا كل الأعمال شرطاً في الصحة بل جعلوا كثيراً منها شرطاً في الكمال، كما قال عمر بن عبد العزيز فيها: "من استكملها استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان، والمعتزلة جعلوها كلها شرطاً في الصحة. والله أعلم" (¬2) . ¬
ويقول ابن تيمية: "ثم قالت الخوارج والمعتزلة الطاعات كلها من الإيمان، فإذا ذهب بعضها ذهب بعض الإيمان فذهب سائره، فحكموا بأن صاحب الكبيرة ليس معه شئ من الإيمان. وقال المرجئة والجهمية: ليس الإيمان إلا شيئاً واحداً لا يتبعض. إما مجرد تصديق القلب كقول الجهمية، أو تصديق القلب واللسان كقول المرجئة. قالوا: لأنا إذا أدخلنا فيه الأعمال صارت جزءاً منه فإذا ذهبت ذهب بعضه، فيلزم إخراج ذي الكبيرة من الإيمان وهو قول المعتزلة والخوارج، لكن قد يكون له لوازم ودلائل فيستدل بها على عدمه، وكان كل من الطائفتين بعد السلف والجماعة وأهل الحديث متناقضين، حيث قالوا - أي أهل السُّنَّة والحديث - الإيمان قول وعمل، وقالوا مع ذلك لا يزول بزوال بعض الأعمال ... " (¬1) . نخرج مما نقلناه عن "صاحب المعارج" و"ابن تيمية" أن المعتزلة والخوارج قد جعلوا الأعمال كلها شرطاً في صحة الإيمان، وبنوا ذلك على قولهم إن الإيمان قول وعمل لكن لا يزيد ولا ينقص، فكان لابد أن زوال أي عمل من الأعمال يُزيل الإيمان بالكلية، فجعلوا مرتكب الكبيرة مخلداً في النار - كما تقول المعتزلة - أو كافراً - كما تقول الخوارج - وأما المرجئة والجهمية ومن تابعهم ممن دخلت عليهم شبههم قديماً وحديثاً - جعلوا جميع الأعمال شرطاً في الكمال، ولا شئ منها شرطاً في الصحة، أما أهل السُّنَّة والجماعة فقد اعتبروا الإيمان قول وعمل، لكن لايزول جملة بزوال بعض الأعمال، وإنما يزول بزوال جميع الأعمال من جهة أو بزوال أعمال مخصوصة - كالمباني الأربعة على خلاف فيها - من جهة أخرى، فصح أنه يلزم جنس الأعمال مطلقاً لثبوت أصل الإيمان وعدم زواله جملة. ¬
فالإيمان المجمل - أو التوحيد - الذي لا يتصور أي قدر من الأعمال فيه، إنما كان في أول دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو أصل دعوة الرسل جميعاً عليهم السلام - بمكة قبل نزول الشرائع، وهو الذي يعني مجرد المعرفة والتصديق والالتزام القلبي بالطاعة والقبول لشرائع الله مع ترك أعمال الشرك الأكبر التي كان عليها القوم قبل الدعوة، إذ لم يكن ثمة شرائع ولا أعمال يكلف بها المؤمنين حينئذ، فكان إيمانهم هو تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم والإقرار بالرسالة جملة وعلى الغيب، خلاف ترك الأعمال الناقضة للتوحيد الداخلة في أصل الدين، كدعاء غير الله دعاء عبادة ومسألة، أو التحاكم إلى غير الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولما كمل الدين ونزلت الشرائع وتحددت الأعمال المطلوبة من المسلمين، تحدد منها قدر جعله الله تعالى شرطاً في صحة الإيمان - على حسب تعبير صاحب المعارج - وإن اختلف أهل السُّنَّة في هذه الأعمال المشترطة للصحة (¬1) ¬
، وكذلك وجب تحقيق التوحيد بإتيان قدر عملي من هذه الأعمال الواجبة كلها كدليل على صحة الإيمان، فإنه من الممتنع أن يكون هناك مسلم حقيقة بالنظر إلى ما عند الله عز وجل ولا يؤدي أي شعائر تعبدية أو شرائع عملية طوال حياته بشكل من الأشكال. يقول ابن تيمية: "قال أحمد بن حنبل: حدثنا خلف بن حيان حدثنا معقل بن عبيد الله العبسي قال: قدم علينا سالم الأفطس بالإرجاء، فنفر منه أصحابنا نفوراً شديداً، منهم ميمون بن مهران وعبد الكريم بن مالك. فإنه عاهد الله أن لا يؤويه وإياه سقف بيت إلا المسجد، قال معقل: فحججت فدخلت على عطاء بن أبي رباح في نفر من أصحابي وهو يقرأ: (حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا) ، قلت إن لنا حاجة فأخلنا، ففعل، فأخبرته أن قوماً قبلنا قد أحدثوا وتكلموا، وقالوا: إن الصلاة والزكاة ليستا من الدين، فقال: أو ليس الله يقول: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة) ، فالصلاة والزكاة من الدين، قال: فقلت: إنهم يقولون ليس في الإيمان زيادة، فقال: أو ليس قد قال الله فيما أنزل: (ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم) ، هذا الإيمان.
فقلت: إنهم انتحلوك وبلغني أن أبا ذر دخل عليك في أصحاب له فعرضوا عليك قولهم فقبلته، فقلت: هذا الأمر، فقال: لا والله الذي لا إله إلا هو، مرتين أو ثلاثاً، ثم قال: قدمت المدينة فجلست إلى نافع فقلت: يا أبا عبد الله إن لي إليك حاجة فقال: سر أم علانية؟ فقلت: لا بل سر. قال: رب سر لا خير فيه فقلت: ليس من ذلك. فلما صلينا العصر قام وأخذ بثوبي ثم خرج من الخوخة ولم ينتظر الغاص فقال: حاجتك قال: فقلت: أخلني هذا فقال: تنح، قال: فذكرت له قولهم فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أُمرت أن أضربهم بالسيف حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوا لا إله إلا الله عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله. قال: قلت: إنهم يقولون نحن نقر بأن الصلاة فرض ولا نصلي وبأن الخمر حرام ونشربها، وأن نكاح الأمهات حرام ونحن ننكح، فنثر يده من يدي وقال: من فعل هذا فهو كافر" (¬1) . وقال: "قال حنبل: حدثنا الحميدي قال: وأُخبرت أن ناساً يقولون: من أقر بالصلاة والزكاة والصوم والحج ولم يفعل شيئاً من ذلك حتى يموت، ويصلي مستدبر القبلة حتى يموت، فهو مؤمن ما لم يكن جاحداً إذا علم أن تركه ذلك فيه إيمانه إذا كان مقراً بالفرائض واستقبال القبلة، فقلت هذا الكفر الصراح" (¬2) . وقال الإمام "الآجري" في نفس المعنى: ¬
"اعلموا رحمنا الله وإياكم يا أهل القرآن، يا أهل العلم، ويا أهل السُّنَّة والآثار، ويا معشر من فقههم الله عز وجل في الدين - بعلم الحلال والحرام - أنكم إن تدبرتم القرآن كما أمركم الله عز وجل علمتم أن الله عز وجل أوجب على المؤمنين بعد إيمانهم به وبرسوله: العمل وأنه عز وجل لم يثن على المؤمنين بأنه قد رضى عنهم وأنهم قد رضوا عنه وأثابهم على ذلك الدخول إلى الجنة والنجاة من النار إلا بالإيمان والعمل الصالح.. وهذا رد على من قال: الإيمان المعرفة، ورد على من قال: المعرفة والقول وإن لم يعمل: نعوذ بالله من قائل هذا" (¬1) . ويقول ابن تيمية: "ممن كان ظاهره أعمال الإسلام ولا يرجع إلى عقود الإيمان بالغيب فهو منافق نفاقاً ينقل عن الملة، ومن كان عقده الإيمان بالغيب ولا يعمل بأحكام الإيمان وشرائع الإسلام فهو كافر كفراً لا يثبت معه توحيد" (¬2) . ويقول ضارباً مثالاً واضحاً: "فإن قال لهم قائل: لِمَ لم تقولوا كافر إن شاء الله تريدون به كمال الكفر كما قلتم مؤمن إن شاء الله تريدون به كمال الإيمان؟ ، قالوا: لأن الكافر منكر للحق والمؤمن أصل إيمانه الإقرار والإنكار لا أول له ولا آخر فتنتظر به الحقائق. ¬
والإيمان أصله التصديق والإقرار ينتظر به حقائق الأداء لما أقر، والتحقيق لما صدق، ومثل ذلك كمثل رجلين عليهما حق الرجل، فسأل أحدهما حقه، فقال: ليس لك عندي حق، فأنكر وجحد فلم يبق له منزلة يحقق بها ما قال إذ جحد وأنكر، وسأل الآخر حقه فقال: نعم لك على كذا وكذا، فليس إقراره بالذي يصل إليه بذلك حقه دون أن يوفيه، فهو منتظر له أن يحقق ما قال بالأداء وتصديق إقراره بالوفاء، ولو أقر ثم لم يؤد إليه حقه كان كمن جحده في المعنى إذ استويا في الترك للأداء، فتحقيق ما قال، أن يؤدي إليه حقه، فإن أدى جزءاً منه حقق بعض ما قال ووفى بعض ما أقر به، وكلما أدى جزءاً ازداد تحقيقاً لما أقر به، وعلى المؤمن الأداء أبداً بما أقر به، حتى يموت" (¬1) . وهذا الكلام من الإمام واضح بذاته أن على العبد أداء بعض ما أقر، فإن لم يؤد شيئاً بالمرة كان كمن جحد ولم يقر سواء بسواء. ولقد بنى العلماء هذا القول على قاعدة قطعية في الشريعة الإسلامية وهي قاعدة: "تلازم الظاهر والباطن" فإن الله سبحانه وتعالى قد جعل الظاهر دليلاً على ما في الباطن ومؤشراً عليه. قال تعالى: (ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيراً منهم فاسقون) . فجعل الله سبحانه فساد ظاهرهم دليلاً على فساد عقيدتهم وباطنهم. وقال تعالى: (لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله) . ¬
وهذا المعنى متواتر في الشريعة، وقاعدة مقررة في الأصول ليس هذا موضع بيانها، ولكن بناء على ذلك فإن ترك الأعمال جملة يدل على فساد القلب فساداً تاماً لا صلاح فيه، وقد أوضح ذلك الإمام ابن تيمية فقال: "فهذا الموضع ينبغي تدبره، فمن عرف ارتباط الظاهر بالباطن زالت عنه الشبهة في هذا الباب، وعلم أن من قال من الفقهاء أنه إذا أقر بالوجوب وامتنع عن الفعل لا يقتل، أو يقتل مع إسلامه، فإنه دخلت عليه الشبهة التي دخلت على المرجئة والجهمية، والتي دخلت على من جعل الإرادة الجازمة مع القدرة التامة لا يكون بها شئ من الفعل ولهذا كان الممتنعون من قتل هذا من الفقهاء بنوه على قولهم في مسألة الإيمان وأن الأعمال ليست من الإيمان، وقد تقدم أن جنس الأعمال من لوازم إيمان القلب، وأن إيمان القلب التام بدون شئ من الأعمال الظاهرة ممتنع، سواء جعل الظاهر من لوازم الإيمان أو جزء من الإيمان" (¬1) . ويقول في موضع آخر: "وقد تبين أن الدين لابد فيه من قول وعمل، وأنه يمتنع أن يكون الرجل مؤمناً بالله ورسوله بقلبه، أو بقلبه ولسانه، لم يؤد واجباً ظاهراً، ولا صلاة ولا زكاة ولا صياماً، ولا غير ذلك من الواجبات، لا لأجل أن الله أوجبها، مثل أن يؤدي الأمانة أو يصدق الحديث أو يعدل في قسمه وحكمه من غير إيمان بالله ورسوله، لم يخرج بذلك من الكفر، فإن المشركين وأهل الكتاب يرون وجوب هذه الأمور، فلا يكون الرجل مؤمناً بالله ورسوله مع عدم شيء من الواجبات التي يختص بإيجابها محمد صلى الله عليه وسلم (¬2) . ¬
ويقول: " ... لا يتصور وجود إيمان القلب الواجب مع عدم جميع أعمال الجوارح، بل متى نقصت الأعمال الظاهرة كان لنقص الإيمان الذي في القلب" (¬1) اهـ. فهذا دال على أن انعدامها يعني انعدام الإيمان في القلب، ولاشك. ويقول في بيان جلي: " ... فإن الله لما بعث محمداً رسولاً إلى الخلق كان الواجب على الخلق تصديقه فيما أخبر وطاعته فيما أمر، ولم يأمرهم حينئذ بالصلوات الخمس ولا صيام شهر رمضان ولا حج البيت الحرام ولا حرم عليهم الخمر والربا، ونحو ذلك، ولا كان أكثر القرآن قد نزل، فمن صدقه حينئذ فيما نزل من القرآن وأقر بما أمر به من الشهادتين وتوابع ذلك كان الشخص حينئذ مؤمناً تام الإيمان الذي وجب عليه، وإن كان مثل ذلك الإيمان لو أتى به بعد الهجرة لم يقبل منه ولو اقتصر عليه كان كافراً" (¬2) . ¬
إذن فإن قضية لزوم جنس الأعمال - أعمال الجوارح - للنجاة من الخلود في النار، هي قضية محسومة إن جمعنا بين أقوال العلماء، وفهمناها فهماً صحيحاً متناسقاً لا يخل بما ورد عنهم في مواضع أخرى، أو بمقتضى قواعد أخرى، خاصة وأن عبارات السلف الصالح والأئمة الأعلام قد تتضارب - في ظاهرها - في العديد من المسائل. ولولا اتساق الفهم وحسن الظن بهم والتقدير لهم، مع العلم بأن اختلافهم، إنما هو اختلاف في الأنظار ووجهتها. وأن كل واحد منهم ينظر إلى طرف صحيح، والناج عند أحدهم ناج عند الآخرين والهالك عند أحدهم هالك عند الآخرين، لولا ذلك لأورثنا النظر في العديد من مقالاتهم اضطراباً شديداً في الفهم. والناظر في كتاب ابن تيمية: "الإيمان" يجد مصداق قولنا واضحاً. فإنه قد نقل عن السلف والأئمة في الكتب عن مسمى "الإيمان «أقوالاً كثيرة في عبارات مختلفة توهم التضارب والتضاد فمن قائل إن الإسلام الكلمة، والإيمان العمل، ومن قائل إن الإسلام اعتقاد ونطق، ومن قائل إن الإيمان قول وعمل ونية، إلى غير ذلك من العبارات. ولكن حاشاهم والتضارب والتضاد، إنما هي أنظار مختلفة تتفق كلها في الأصل ويتجه كل منها إلى طرف صحيح في ذاته وإنما سوء الفهم، وعدم الجمع بين الأدلة، وعدم إنزال كل قول على المراد منه بالنظر إلى القضية ككل، هو سيما المقصرين من أبناء هذا العصر الآخذين بظواهر العبارات، مما أداهم إلى إثبات ما لم يقصد إليه أحد من السلف والعلماء. يقول ابن تيمية موضحاً هذا المعنى: "ومن هذا الباب أقوال السلف وأئمة السُّنَّة في تفسير الإيمان فتارة يقولون هو قول وعمل، وتارة يقولون هو قول وعمل ونية، وتارة يقولون قول وعمل ونية واتباع السُّنَّة، وتارة يقولون قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح، وكل هذا صحيح" (¬1) . ¬
الخطأ في فهم معنى الكفر العملي
ثم يفسر بعدها ما أردناه فيقول: "والمقصود هنا أن من قال من السلف الإيمان قول وعمل، أراد قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح، ومن أراد الاعتقاد رأى أن لفظ القول لا يفهم منه إلا القول الظاهر، أو خاف ذلك فزاد الإعتقاد بالقلب، ومن قال قول وعمل ونية، قال: "القول يتناول الاعتقاد وقول اللسان، وأما العمل فقد لا يفهم منه النية فزاد ذلك، ومن زاد اتباع السُّنَّة فلأن ذلك لا يكون محبوباً لله إلا باتباع السُّنَّة، وأولئك لم يريدوا كل قول وعمل، إنما أرادوا ما كان مشروعاً من الأقوال والأعمال، ولكن كان مقصودهم الرد على المرجئة الذين جعلوه قولاً فقط، فقالوا بل هو قول وعمل، والذين جعلوه أربعة فسروا مرادهم كما سئل سهل بن عبد الله التستري عن الإيمان ما هو، فقال: قول وعمل ونية وسُنة، الإيمان إذا كان قولاً بلا عمل فهو كفر، وإذا كان قولاً وعملاً بلا نية فهو نفاق، وإذا كان قولاً وعملاً ونية بلا سُنة فهو بدعة" (¬1) . ثم إن الشبهة قد دخلت على من دخلت عليه - قديماً وحديثاً - في هذا الباب من أمرين رئيسيين: أولهما: الخطأ في فهم معنى الكفر العملي. الثاني: الخلط فيما هو لازم لإجراء الحكم في الظاهر وما هو من أحكام الآخرة. فنقول وبالله تعالى التوفيق: أولاً: الخطأ في فهم معنى الكفر العملي: فقد جرى هؤلاء في فهم الكفر العملي على أنه كفر لا يخرج من الملة مطلقاً، واعتقدوا أن كل عمل مكفر بالجوارح هو كفر عملي لا يخرج من الملة لوقوعه بالجوارح وعدم دخول الاعتقاد فيه - ولا ندري كيف ظنوا أن ارتكاب أي عمل مكفِّر لا يلازمه سقوط الاعتقاد؟! فيكون كل كفر عملي عندهم كفراً أصغر لا ينقل عن الملة!!. والمقصود بالكفر العملي أنه المعاصي التي أطلق عليها الشارع اسم الكفر، ولكن لم يمكن اطلاق الكفر الأكبر عليها لوجود أدلة أخرى من الشريعة تدل على أنها ليست منه. ¬
يقول صاحب كتاب "أعلام السُّنَّة المنشورة لاعتقاد الطائفة الناجية المنصورة": "هو كل معصية أطلق عليها الشارع اسم الكفر مع بقاء اسم الإيمان على عامله، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر"، فأطلق صلى الله عليه وسلم على قتال المسلمين بعضهم بعضاً أنه كفر، وسمى من يفعل ذلك كافراً، مع قول الله تعالى: "وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ... إلى قوله تعالى: (إنما المؤمنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم) . فأثبت الله تعالى لهم الإيمان وأخوة الإيمان ولم ينف عنهم شيئاً من ذلك.
وقال تعالى في آية القصاص: (فمن عفى له من أخيه شئ فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان) ، فأثبت تعالى له أخوة الإسلام ولم ينفها عنه، وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن والتوبة معروضة بعد"، وزاد في رواية: "ولا يقتل وهو مؤمن - وفي رواية ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم" الحديث في الصحيحين مع حديث أبي ذر، فيهما أيضاً قال صلى الله عليه وسلم: "ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة، قلت وإن زنى وإن سرق قال وإن زنى وإن سرق ثلاثاً، ثم قال في الرابعة: "على رغم أنف أبي ذر"، فهذا يدل على أنه لم ينف عن الزاني والسارق والشارب والقاتل مطلق الإيمان بالكلية مع التوحيد، فإنه لو أراد ذلك لم يخبر بأنه من مات على لا إله إلا الله دخل الجنة، وإن فعل تلك المعاصي (¬1) ¬
، فلن يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، وإنما أراد بذلك نقص الإيمان ونفي كماله" (¬1) إلا أن صاحب الكتاب نفسه قد بين بعد ذلك مباشرة أن هناك من أعمال الجوارح ما يوجب الكفر على صاحبه بمجرده إجماعاً، كالساجد للصنم، مثلاً، رغم أنه كفر بالعمل لا بالاعتقاد يقول: "س: وإذا قيل لنا هل السجود للصنم والاستهانة بالكتاب وسب الرسول صلى الله عليه وسلم والهزل بالدين ونحو ذلك، هذا كله من الكفر العملي فيما يظهر فلم كان مخرجاً من الدين وقد عرفتم الكفر الأصغر بالعملي؟ " ج: اعلم أن هذه الأربعة وما شاكلها ليس هي من الكفر العملي إلا من جهة كونها واقعة بعمل الجوارح فيما يظهر منها، ولكنها لا تقع إلا مع ذهاب عمل القلب من نيته وإخلاصه ومحبته وانقياده لا يبقى معها شئ من ذلك، فهي وإن كانت عملية في الظاهر فإنها مستلزمة للكفر الاعتقادي ولابد، ولم تكن هذه لتقع إلا من منافق مارق أو معاند مارد. وهل حمل المنافقين في غزوة تبوك على أن (قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا) إلا ذلك مع قولهم لما سئلوا (إنما كنا نخوض ونلعب) قال الله تعالى: (قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤن لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم) . ونحن لم نُعرِّف الكفر الأصغر بالعملي مطلقاً بل بالعملي المحض الذي لم يستلزم الاعتقاد ولم يناقض قول القلب وعمله" (¬2) . فتبين من هذا أن هناك ما يثبت كونه كفراً أكبر ناقل عن الملة، وهو من أعمال الجوارح، فلا يصح عندئذ أن يطلق عليه أنه كفر عملي بمعنى أنه كفر أصغر، لمجرد أنه قد أتى بالجوارح، حتى لا يختلط أمره بأفعال المعاصي التي يطلق عليها اسم الكفر - وهي من الكفر الأصغر - فيظن أن هذا من ذاك. ¬
ومن ههنا وقعت الشبهة التي جعلت من أخطأ في فهم هذه التفرقة يجعل كل ما هو من أعمال الجوارح كفراً أصغر بدعوى أنه عملي، وحتى إن ثبت له أن ذلك من الكفر الأكبر، عاد فقال - نظراً لوجود هذه الشبهة عنده -: لكنه من أعمال الجوارح فهو كفر عملي، فهو إذن كفر أصغر لا ينقل عن الملة؟ فسبحان الله العظيم (¬1) . ثانياً: الخلط فيما هو لازم لإجراء الحكم في الدنيا على ظاهر الأمر، وما هو من أحكام الآخرة: فإن القاعدة أن إجراء الحكم في الدنيا يجرى على ظاهر الأمر كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث أسامة بن زيد المتفق على صحته: "أفلا شققت عن قلبه"، وفي الصحيحين: "إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم". وهي قاعدة مقررة في الأصول، وهي عمدة الشريعة وعليها تقوم الأحكام كلها كما يقول الشاطبي (¬2) : "ومن هنا جعلت الأعمال الظاهرة في الشرع دليلاً على ما في الباطن، فإن كان الظاهر منخرماً حكم على الباطن بذلك، أو مستقيماً حكم على الباطن بذلك أيضاً، وهو أصل عام في الفقه وفي سائر أحكام العاديات والتجربيات بل الالتفات إليها من هذا الوجه نافع في جملة الشريعة جداً والأدلة على صحته كثيرة جداً. وكفى بذلك عمدة أنه الحاكم بإيمان المؤمن وكفر الكافر وطاعة المطيع وعصيان العاصي، وعدالة العدل وجرحة المجرح، وبذلك تنعقد العقود وترتبط المواثيق إلى غير ذلك من الأمور، بل هو كلية التشريع وعمدة التكليف بالنسبة إلى إقامة حدود الشعائر الإسلامية الخاصة والعامة" اهـ. ¬
وعلى هذا الأصل الكلي بنى العلماء والفقهاء قولهم في مسألة الإيمان، فأثبتوا ما هو لازم للحكم بظاهر الإسلام في الدنيا وجعلوه هو الإقرار باللسان افتراضاً منهم أن الناطق بالشهادتين مدرك لمدلولهما، ملتزم بالطاعة في الفروع عامة، تارك لأعمال الشرك جملة، فاعل لما هو مشترط لصحة الإسلام من أعمال بعد الدخول فيه بالشهادتين. فإذا ظهر منه بعدها خلاف ذلك من إتيان فعل من أفعال الشرك، أو ترك عمل من الأعمال المشترطة لصحة الإسلام حكم بكفره إما كفراً أصليا أو كفر ردة على خلاف بينهم في ذلك. يقول ابن حجر العسقلاني في الفتح: "أما بالنظر إلى ما عندنا، فالإيمان هو الإقرار فقط، فمن أقر أجريت عليه الأحكام في الدنيا ولم يحكم بكفره إلا إن اقترن به فعل يدل على كفره كالسجود للصنم" (¬1) ¬
كذلك فيمن هو تارك للأعمال جملة، فإن كان كافراً كفراً باطناً - إلا أن ذلك مما يصعب إثباته في الظاهر - فلا ينبنى حكم عليه، ويكون مسلماً في أحكام الدنيا، حتى يثبت كفره بعمل من أعمال الشرك أو بترك عمل يوجب عليه الكفر بذاته. يقول ابن تيمية: "وهذه المسألة لها طرفان " أحدهما: في إثبات الكفر الظاهر. الثاني: في إثبات الكفر الباطن". ثم يقول بعدها: "وبيان هذا الموضع مما يزيل الشبهة، فإن كثيراً من الفقهاء يظن أن من قيل هو كافر فإنه يجب أن تجرى عليه أحكام المرتد ردة ظاهرة، فلا يرث، ولا يورث ولا يناكح حتى أجروا هذه الأحكام على من كفروه بالتأويل من أهل البدع، وليس الأمر كذلك فإنه قد ثبت أن الناس كانوا ثلاثة أصناف: مؤمن وكافر مظهر للكفر ومنافق مظهر للإسلام مبطن للكفر، وكان في المنافقين من يعلمه الناس بعلامات ودلالات، بل من لا يشكون في نفاقه - كابن أبي وأمثاله - ومع هذا فلما مات هؤلاء ورثهم ورثتهم المسلمون، وكان إذا مات لهم ميت آتوهم ميراثه وكانت تعصم دماؤهم حتى تقوم السُّنَّة الشرعية على أحدهم بما يوجب عقوبته" (¬1) . فانظر رحمك الله إلى هذه المعاني المفيدة والتي يثبت فيها مايلي: أولاً: أن ترك الأعمال جملة يثبت الكفر الباطن ولاشك (¬2) وإن كان من الصعب إثبات ذلك على أحد من الناس، فلا ينبنى عليه حكم في الظاهر. ثانياً: أن حد ذلك هو ارتكاب ما يوجب العقوبة بحكم الردة عليه إن ظهر منه ما يدل على الكفر الأكبر بدلالة قاطعة، كارتكاب عمل من أعمال الشرك، أو ترك عمل من الأعمال المشترطة لصحة الإسلام على خلاف فيها كما سبق. ونخلص مما تقدم إلى: 1 - أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، يزيد بالطاعات، وينقص بالمعاصي. ¬
2 - أن الزيادة والنقص التي تطرأ على الإيمان إنما هي في استكمال درجاته، وإنما للإيمان أصل أو حد أدنى ينجو به صاحبه من الخلود في النار، وهو توحيد الله عز وجل ومقتضياته من ترك الشرك وإتيان الأعمال المشترطة لصحة الإسلام - على خلاف فيها - عند من بلغته الشرائع. 3 - إن لزوم جنس الأعمال - أعمال الجوارح - لتحقيق القدر المنجي من الخلود في النار هو ما تقتضيه قاعدة تلازم الظاهر والباطن المعتبرة أصلاً من الأصول الكلية في الشريعة، فإنه من المحال أن يتحقق بالقلب أصل الإيمان، ثم لا يدفع هذا الإيمان صاحبه إلى إتيان أي عمل من أعمال الجوارح بأية صورة من الصور طوال حياته، وهو ما عبر عنه ابن تيمية بما معناه أن وجود الإرادة الجازمة مع القدرة التامة، يمتنع معه ترك جميع الأعمال وإلا لم يصح التوحيد أصلا. 4 - وأن فرع هذه المسألة هو إثبات الأعمال المعينة في المباني الأربعة، التي تشترط لصحة الإسلام - على خلاف فيها - كما ذكرنا من قبل. وقبل أن نختم هذا الفصل نعود فنؤكد مرة أخرى على معان محددة خوفاً من اختلاطها في الأذهان وهي: أولاً: أن لزوم جنس الأعمال الواجبة لتحقيق أصل الإيمان في القلب، إنما هو دلالة على تحقيق هذا الحد الأدنى من الإيمان الذي ينجو به صاحبه من الخلود في النار، وعدم هذه الأعمال بالكلية إنما هو كذلك دلالة على سقوط هذا القدر من الإيمان من القلب لتلازم الظاهر والباطن كما ذكرنا.
فالأعمال بذاتها لا تدخل في أصل الدين، وإنما هي مطلوبة بجنسها لتحقيق أصل الدين ولتكون دلالة عليه، فإن أصل الإيمان محله في القلب كما ذكر ابن تيمية في "الإيمان" (¬1) ، وإنما عدم هذه الأعمال الواجبة بالكلية دلالة على سقوط هذا الإيمان من القلب، تماماً كما اعتبرنا أن سب الرسول صلى الله عليه وسلم كفراً لدلالته على سقوط عقد القلب، بينما هو في ذاته عمل من الأعمال (¬2) ، فالأمر في ذلك أمر دلالة تدل على الكفر الأكبر أو على سقوط عقد القلب وانتفاء الإيمان بالكلية منه، فيجب التفريق بين أصل الإيمان بذاته وبين ما يدل على سقوطه بترك جملة الأعمال بالكلية حتى لا يظن الظان أن ذلك يعنى دخول الأعمال بنفسها في أصل الدين، وهو المذهب الذي سيأتي رده وإبطاله في معرض مناقشة الخوارج إن شاء الله تعالى. ثانياً: أن هذه القضية لا تظهر إلا في حق من بلغتهم الشرائع، وطولبوا بها بالفعل، ولا تعارض بينها وبين إثبات أصل الدين الذي نزلت به الرسل جميعاً (¬3) والذي يخلو بذاته من الأعمال المطلوب فعلها. فإن هذا الأصل قد يتحقق عند من لم تبلغه شرائع عملية، كما يتحقق عند من مات قبل نزول هذه الشرائع، وفي هذه الحالة يكون إيمان هؤلاء - الذين لم يطالبوا بشرائع عملية لعدم وصولها إليهم أو موتهم قبل نزولها - قول وعمل كذلك، وعملهم هو ترك أعمال الشرك بالكلية مع ولائهم لله سبحانه وللمؤمنين. ¬
أولا: في الاعتقاد
وأما عند من بلغته الشرائع وطولب بها فتحقيق التوحيد يقتضي منه ترك أعمال الشرك بالكلية وإتيان ما اشترط من عمل لصحة الإسلام، وتحقيق هذا الإيمان بقدر عملي ولابد. والله تعالى أعلم الفصل الثالث أولاً: في الاعتقاد أثبتنا - بعون الله تعالى - فيما سبق أن الإيمان قول وعمل، وأنه يزيد وينقص، وأن له أصل واجب في حق من بلغته الشرائع وهو توحيد الله عز وجل مع ترك الشرك، وعمل ما هو لازم كشرط لصحة الإسلام، ونزيد الأمر بياناً بتفصيل المعنى الشرعي للإيمان، ببيان مركباته أو أجزائه، والتي لا يصح إيمان المرء إلا باجتماعها. يقول ابن حزم: "ليس بعض الإيمان إيماناً أصلاً، بل الإيمان متركب من أشياء إذا اجتمعت صارت إيماناً" (¬1) ، وذلك في معرض مناقشته لمن اكتفى بتصديق القلب أو بالتصديق والإقرار اللفظي دون العمل، فقوله ذلك إنما هو جار في ما يثبت به أصل الإيمان. وهي ثلاثة معان لازمة من بعضها. 1 – العلم: وهو "معرفة المعلوم على ما هو به" كما في "العدة في أصول الفقه" لأبي يعلي جـ1 صـ76، أي أن يعرف المرء القضية التي هي موضوع إيمانه تمام المعرفة.. هذا عامة. ¬
وبالنسبة للإسلام فيجب أن يعرف المرء ربه سبحانه، بمعرفة صفات ربوبيته اللازمة لكماله، وحقوق ألوهيته التي لا تصرف لغيره بشكل من الأشكال، وما يتبع ذلك من إثبات الرسل والوحي وغير ذلك مما تجب معرفته من أصول عقيدة التوحيد، والتي لا يثبت التوحيد بدونها، ولا يسع المسلم جهلها، وإلا ما كان مسلماً، فإن الاعتقاد فرع من المعرفة، وكيف يؤمن المرء بقضية لا يعرفها، أو لا يعرف الضروريات من أصولها؟! (¬1) ، وقد أثبت الجهمية الإيمان بمجرد المعرفة فقط (¬2) . ¬
يقول ابن حزم: "ذهب قوم إلى أن الإيمان إنما هو معرفة الله تعالى بالقلب فقط، وإن أظهر اليهودية أو النصرانية وسائر أنواع الكفر بلسانه وعبادته. فإذا عرف الله تعالى بقلبه فهو مسلم من أهل الجنة" (¬1) . وهذا القدر وحده لا يكفي لإثبات الإيمان – حتى دون إظهار الكفر باللسان – وإلا كان إبليس مؤمناً، فقد قال الله تعالى على لسانه: (قال أنظرني إلى يوم يبعثون) (¬2) . وقال تعالى حاكياً عن إبليس: (إني أخاف الله رب العالمين) (¬3) . وهذا القدر لا خلاف فيه بين أهل السُّنَّة (¬4) . 2- التصديق: ¬
فقد دخلت الشبهة على كثير من "دعاة الإسلام" اليوم بأن الإيمان هو التصديق، ثم جعلوا معنى التصديق مجرد نسبة الصدق إلى الخبر أو المخبر به، بمعنى أنه إذا جاءك من يخبرك خبراً فسمعته ثم قلت إنه صادق في هذا الخبر فهذا هو التصديق، وطردوا هذا المعنى في المفهوم الشرعي للتصديق، فاعتقدوا أن من نسب الصدق إلى محمد صلى الله عليه وسلم بقوله: إنه رسول الله فعلاً وأنا مصدق بأنه جاء من عند الله تعالى بالقرآن، كان آتياً بالتصديق الشرعي الذي هو مرادف للإيمان عندهم. والحق أن الأدلة من الكتاب والسُّنَّة قد دلت على جهمية خلاف ذلك مطلقاً، وإنما قد دخلت عليهم الشبهة التي دخلت على جهمية المرجئة، فمجرد هذا التصديق لا يثبت به إسلام. وسنسوق الأدلة من الكتاب والسُّنَّة على ما نقول ثم نبين بعدها معنى التصديق الشرعي المراد إن شاء الله تعالى: (أ) قال تعالى: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً) (¬1) . قال ابن عباس: "يقينهم في قلوبهم" (¬2) أي قد حدث التصديق القلبي بالفعل، إلا أن ذلك لم يثبت لهم إيماناً، بل حتى لم يمنعهم من التكذيب الصريح باللسان رغم التصديق القلبي التام. وقد كان فرعون وجنوده يعلمون تماماً أن هذه الآيات من عند الله تعالى: قال تعالى على لسان موسى: (قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر) (¬3) . وقال تعالى عن اليهود: (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم) (¬4) . (ب) يقول الإمام ابن القيم في "زاد المعاد" في معرض حديثه عن وفد نجران: ¬
"… فلما وجهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نجران جلس أبو حارثة على بغلة له موجهاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى جنبه أخ له يقال له كرز بن علقمة يسايره، إذ عثرت بغلة أبو حارثة فقال له كرز: تعس الأبعد – يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم – فقال له حارثة: بل أنت تعست فقال: ولم يا أخي؟ فقال: والله إنه النبي الأمي الذي كنا ننتظره، فقال له كرز فما يمنعك من اتباعه وأنت تعلم هذا؟ فقال: ما صنع بنا هؤلاء القوم، شرفونا، وتولونا، وأكرمونا، وقد أبوا إلا خلافه، ولو فعلت نزعوا منا كل ما ترى! فأضمر عليها منه أخوه كرز بن علقمة حتى أسلم بعد ذلك" (¬1) . ثم يقول في فقه القصة: "ومن تأمل ما في السير والأخبار الثابتة من شهادة كثير من أهل الكتاب والمشركين له صلى الله عليه وسلم بالرسالة، وأنه صادق فلم تدخلهم هذه الشهادة في الإسلام، علم أن الإسلام أمر وراء ذلك، وأنه ليس هو المعرفة فقط ولا المعرفة والإقرار فقط، بل المعرفة والإقرار والتزام طاعته ودينه ظاهراً وباطناً" (¬2) . (جـ) ومن أخبار هرقل قيصر الروم: روى أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يذهب بصحيفتي هذه إلى قيصر وله الجنة؟ ¬
فقال رجل من القوم: وإن لم يقبل، فوافق قيصر وهو يأتي بيت المقدس فرمى بالكتاب على البساط وتنحى، فنادى قيصر: من صاحب الكتاب وهو آمن؟ قال: أنا، قال: فإذا قدمت فأتني، فلما قدم أتاه فأمر قيصر بأبواب قصره فأغلقت ثم أمر منادياً ينادي أن قيصر قد اتبع محمداً وترك النصرانية، فأقبل جنده وقد تسلحوا، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: قد ترى إني أخاف على مملكتي، ثم أمر مناديهفنادى: ألا إن قيصر قد رضي عنكم، وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني مسلم، وبعث إليه بدنانير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذب عدو الله ليس بمسلم وهو على نصرانيته" (¬1) . (د) وجاء في حديث لقاء أبي سفيان مع هرقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن يك ما تقوله حقاً فإنه نبي، وقد كنت أعلم أنه خارج ولم أك أظنه منكم، ولو أني أعلم أني أخلص إليه لأحببت لقاءه ولو كنت عنده لغسلت عند قدميه، وليبلغن ملكه ما تحت قدمي.." (¬2) . (هـ) وعن صفوان بن عسال قال: قال يهودي لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبي، فقال له صاحبه لا تقل نبي فإن له أربعة أعين. فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسألاه عن تسع آيات بينات فقال لهم: "لا تشركوا بالله شيئاً ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس ولا تقذفوا المحصنة ولا تولوا يوم الزحف وعليكم خاصة يهود ألا تعدوا في السبت، فقبلوا يديه ورجليه وقالوا: نشهد أنك نبي، قال: فما يمنعكم أن تتبعوني؟ قالا: إن داود دعا ألا يزال في ذريته نبي، وإنا نخاف إن اتبعناك أن تقتلنا يهود " (¬3) . 3 - الالتزام: (أو الإقرار أو الطاعة والانقياد) . ¬
وهو يمثل العنصر الثالث الضروري لأصل الإيمان أو الحد الأدنى من الإسلام الذي ينجو به صاحبه من الخلود في النار، فيسلم المرء لله سبحانه وينقاد لرسوله وشريعته، فلا يرد منها شيئاً مهما كان بعد قبوله التزام الأحكام. نقل الشوكاني في نيل الأوطار ما قاله الحافظ في الفتح في باب قتل من أبى من قبول الفرائض: "وفيه منع قتل من قال لا إله إلا الله ولو لم يزد عليها وهو كذلك، لكن هل يصير بمجرد ذلك مسلماً؟ الراجح لا، بل يجب الكف عن قتله حتى يختبر فإن شهد بالرسالة والتزم أحكام الإسلام حكم بإسلامه" (¬1) . ويقول صاحب معارج القبول: "ومن هنا يتبين لك أن من قال من أهل السُّنَّة في الإيمان: هو التصديق على ظاهر اللغة أنهم إنما عنوا التصديق الإذعاني المستلزم للانقياد ظاهراً وباطناً بلا شك، ولم يعنوا مجرد التصديق، فإن إبليس لم يكذب في أمر الله تعالى له بالسجود، وإنما أبى عن الانقياد كفراً واستكباراً" (¬2) . وقد فصل الإمام ابن تيمية القول في هذه النقطة تفصيلاً لا مزيد عليه نقتطف منه ما يلي: قال في معرض حديثه عن الفارق بين الإيمان والتصديق الذي هو نسبة الصدق إلى الخبر: "وذلك أن الإيمان يفارق التصديق: أي لفظاً ومعنى". ثم يبين أحد الفروق اللفظية بينهما وهو أن التصديق إنما ينطبق على الحقائق أو الأخبار المحسوسة أما الإيمان فإنما يستعمل فيما هو وراء الغيب من أخبار فيقول: "والفرق الثاني: ما تقدم من أن الإيمان لا يستعمل في جميع الأخبار، بل في الإخبار عن الأمور الغائبة ونحوها مما يدخلها الريب، فإذا أقر بها المستمع قيل: آمن، بخلاف لفظ التصديق فإنه عام متناول لجميع الأخبار". ثم يبين بعدها الفارق في المعنى بينهما فيقول: ¬
"وأما المعنى فإن الإيمان مأخوذ من الأمن الذي هو الطمأنينة، كما أن لفظ الإقرار مأخوذ من قريقر، وهو قريب من آمن يأمن، لكن الصادق يطمئن إلى خبره والكاذب بخلاف ذلك، كما يقال: الصدق طمأنينة والكذب ريبة، فالمؤمن دخل في الأمن كما أن المقر دخل في الإقرار، ولفظ الإقرار يتضمن الالتزام، ثم إنه على وجهين: (أحدهما) : الإخبار: وهو من هذا الوجه كلفظ التصديق والشهادة ونحوهما … وهذا معنى الإقرار الذي يذكره الفقهاء في كتاب الإقرار. و (الثاني) : إنشاء الالتزام: كما في قوله تعالى: (أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا، قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين) وليس هو هنا بمعنى الخبر المجرد فإنه سبحانه قال: (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة … الآية) فهذا الالتزام للإيمان والنصر للرسول. وكذلك لفظ الإيمان فيه إخبار وإنشاء والتزام، بخلاف لفظ التصديق المجرد فمن أخبر الرجل بخبر لا يتضمن طمأنينة إلى المخبر، لا يقال فيه آمن له بخلاف الخبر الذي يتضمن طمأنينة إلى المخبر، والمخبر قد يتضمن خبره طاعة المستمع له، وقد لا يتضمن إلا مجرد الطمأنينة إلى صدقه، فإذا تضمن طاعة المستمع لم يكن مؤمناً للمخبر إلا بالتزام طاعته مع تصديقه، بل قد استعمل لفظ الكفر المقابل للإيمان. في نفس الامتناع عن الطاعة والانقياد، فقياس ذلك أن يستعمل لفظ الإيمان كما استعمل لفظ الإقرار في نفس التزام الطاعة والانقياد" (¬1) . وقد تكلم في هذا الباب صاحب "فيض الباري" فقال: ¬
"واختلف في الإقرار، فقالت المرجئة: إن الإقرار ليس بشطر ولا شرط للإيمان، فالتصديق وحده يكفي عندهم للنجاة، حتى اشتهر القول عنهم بأنه لا تضر مع الإيمان معصية، وعلى خلافهم الكرامية فإنهم زعموا أن الإقرار باللسان يكفي للنجاة (¬1) سواء وجد التصديق أم لا، فكأنهما على طرفي نقيض، وعندنا – أي أهل السُّنَّة – لابد من الإقرار أيضاً إما شطراً أو شرطاً…" (¬2) . ثم يورد إشكالاً على من قال: إن الإيمان التصديق، وأنه لابد من عدم وجود المناقض – حتى لو وجد التصديق القلبي – ليثبت التوحيد فيقول: "وههنا إشكال يرد على الفقهاء والمتكلمين وهو أن بعض أفعال الكفر قد توجد من المصدق كالسجود للصنم والاستخفاف بالمصحف، فإن قلنا إنه كافر، ناقض قولنا أن الإيمان هو التصديق، ومعلوم أنه بهذه الأفعال لم ينسلخ عن التصديق فكيف يحكم عليه بالكفر؟ وإن قلنا إنه مسلم فذلك خلاف الإجماع، وأجاب عنه الكستلي تبعاً للجرجاني أنه كافر قضاء، ومسلم ديانة، وهذا الجواب باطل مما لا يصغى إليه فإنه كافر ديانة وقضاء قطعاً. فالحق في الجواب ما ذكره ابن الهمام رحمه الله تعالى وحاصله أن بعض الأفعال تقوم مقام الجحود نحو العلائم المختصة بالكفر وإنما يجب في الإيمان التبرؤ عن مثلها أيضاً كما يجب التبرؤ عن نفس الكفر، ولذا قال تعالى: (لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم) في جواب قولهم: (إنما كنا نخوض ونلعب) ولم يقل إنكم كذبتم في قولكم، بل أخبرهم بأنهم بهذا اللعب والخوض اللذين من أخص علائم الكفر خلعوا ربقة الإسلام عن أعناقهم، وخرجوا عن حماه إلى الكفر. ¬
فدل على أن مثل تلك الأفعال إذا توجد في رجل يحكم عليه بالكفر ولا ينظر إلى تصديقه في قلبه ولا يلتفت إلى أنها كانت منه خوضاً وهزأ فقط أو كانت عقيدة. ومن ههنا تسمعهم يقولون إن التأويل في ضروريات الدين غير مقبول، وذلك لأن التأويل فيها يساوق الجحود، وبالجملة: إن التصديق المجامع مع أخص أفعال الكفر لم يعتبره الشرع تصديقاً، فمن أتى بالأفعال المذكورة فكأنه فاقد للتصديق عنده. وأوضحه الجصاص فراجعه" (¬1) . ثم يقرر هذا الإمام المحور الذي يدور عليه الإيمان بعدها فيقول: "وإذ قد علمت أن التصديق والتسليم والمعرفة واليقين كلها يجامع الجحود فلا بد من تفسير يتميز به الكفر من الإيمان …" (¬2) وبعد أن نقل ما ذكرناه من قبل من أحاديث أبي سفيان وهرقل وغيرها في إثبات أن التصديق مخالف للإيمان يقول: "فأقول إن الجزء الذي يمتاز به الإيمان عن الكفر هو التزام الطاعة مع الردع والتبري عن دين سواه، فإذا التزم الطاعة فقد خرج عن ضلالة الكفر ودخل في هدى الإسلام" (¬3) . ¬
ثم يستطرد فيشرح بعدها مباشرة أن اصطلاح الإقرار في أقوال الفقهاء لا بد وأن يكون هو بمعنى التزام الطاعة وليس بمعنى مجرد التلفظ بالشهادتين – أي الإقرار القولي – وإلا بقى الأشكال السابق ذكره وارداً عليهم، فيقول: "وحينئذ ينبغي أن يراد من الإقرار في قول الفقهاء الإقرار بالتزام الطاعة. وإن كان المراد منه الإقرار بالشهادتين كما هو المشهور، بقى الإشكال) (¬1) . ويقول ابن رجب: (… إن من أقر بالشهادتين صار مسلماً حكماً، فإذا دخل في الإسلام بذلك، ألزم بالقيام ببقية خصال الإسلام) (¬2) . ولا يخفى ما في تعبيره بكلمة حكماً من معنى أنه لا يلزم من ذلك أنه مسلم على الحقيقة، وإنما يعتبر مسلماً حكماً بإقراره بالشهادتين، طالما لم يأتي بالمناقض افتراضاً أنه ملتزم بأحكام الشريعة. وبعد.. فإن الالتزام المقصود إنما ينقسم إلى قسمين حسب ما قررنا من مفاهيم، فهناك قدر من الالتزام لازم للدخول – أو للبقاء – في الإسلام، وبين الالتزام الذي هو بمعنى الفعل للأحكام نفسها عامة فهما قسمين: 1- التزام قبول الإسلام: (وهو يعني قبول الشرائع جملة، وقبول الانقياد لها عملاً) وهذا القدر من الالتزام المنجي لصاحبه من الخلود في النار إنما يجب فيه الالتزام بترك أعمال الشرك ابتداءً، وإما للبقاء في الإسلام، - وذلك بعد أن يستمر فترة من الزمن تبلغه الشرائع تفصيلاً – فيجب فيه أداء الأعمال المشروطة لصحة الإسلام من أعمال الجوارح، وأن يحقق جنس الأعمال عامة ليثبت توحيده. 2 - التزام التنفيذ للشرائع: وهو الذي يتضمن تنفيذ الأوامر الشرعية كلها بعمل الطاعات واجتناب المعاصي، وهي الأعمال الداخلة في الإيمان الواجب واستكمال الإيمان. ¬
وهو مقتضى ما قررناه سابقاً، وبهذا التفريق بين معاني الالتزام يتضح الفرق بين أهل السُّنَّة والجماعة وبين كل من المرجئة والخوارج (¬1) . وقد كان من أهم ما نشأ عن الخلط في هذا المفهوم للإيمان، وعلاقته بالقدر المنجي من الخلود في النار، واعتبار المرجئة - ومن دخلت عليهم شبهاتهم - أنه التصديق القلبي فقط، أن خلط الناس في مفهوم "الاعتقاد" وجعلوه مرادفاً لأصل الإيمان، وأن من سلم اعتقاده فهو الناج المحقق لما ينجيه من الخلود في النار. ¬
والحق في ذلك أن لفظ الاعتقاد إنما هو بمعنى "ما يجب أن يعقد عليه القلب" من معان، فخرج بذلك منه كل الأعمال سواء الأعمال التركية - أي ترك أعمال الشرك - كالسجود لصنم والدعاء لغير الله - دعاء عبادة ومسألة - أو الأعمال الفعلية المشترطة لصحة الإسلام - على اختلاف فيها - وصار هو بمعني قول القلب وعمله. فالقدر المنجي من الخلود في النار إذن - حسب ما قررنا قبل ذلك - هو: الاعتقاد: وهو ما يجب أن يعقد عليه القلب من معان خاصة بالربوبية والألوهية، وبرسالة الرسول صلى الله عليه وسلم وما يتضمنها من أوامر ونواهي - عند من بلغته الأوامر والنواهي تفصيلاً - معرفة وتصديقاً وإقراراً قلبياً (أو التزاماً بها) وهذا معنى قول القلب وعمله (¬1) . العمل: وهو ترك أعمال الشرك الأكبر كلها كالسجود للصنم أو دعاء غير الله تعالى وإتيان الأعمال المشروطة لصحة الإسلام كما أوضحنا من قبل - على خلاف فيها - لمن بلغته الشرائع، تحقيقاً لإتيان جنس العمل اللازم لصحة الإيمان إجماعاً. ثم إن هؤلاء قد قالوا - من غير دليل معتبر - أن المسلم مهما أتى من عمل من الأعمال لا يكفر بذلك طالما أن اعتقاده صحيح فيه، وطردوا ذلك المعنى في جميع الأعمال فلم يفرقوا بين أعمال الكفر وأعمال المعاصي، وجعلوا فساد الاعتقاد شرطاً في كفر من عمل أي عمل من أعمال الجوارح أياً كان هذا العمل، والحق أن هذه المسألة لها تفصيل. فإنه يجب أن نفرق بين الأعمال التي يكفر فاعلها، وبين أعمال المعصية عامة. ¬
فإن الإتيان بعمل من أعمال الكفر الصراح المخرج من الملة (¬1) يعني بالضرورة فساد الاعتقاد القلبي ولاشك حتى دون أن يصرح بذلك أو حتى دون أن يقصد إليه، وهذا مقتضى ما ظهر من اعتبار الشريعة للتلازم بين الظاهر والباطن. يقول ابن تيمية: " ... وبالجملة فمن قال أو فعل ما هو كُفْر كَفَر بذلك، وإن لم يقصد أن يكون كافراً إذ لا يقصد أحد الكفر إلا ما شاء الله" (¬2) . ثم أوضح الأمر بعدها فقال: "قال سبحانه: (من كفر بالله من بعد إيمانه - إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان - ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم) . ومعلوم أنه لم يرد بالكفر هنا اعتقاد القلب فقط، لأن ذلك لا يكره الرجل عليه، وهو قد استثنى من أكره ولم يرد من قال واعتقد، لأنه استثنى المكره، وهو لا يكره على القصد والقول، وإنما يكره على القول فقط، فعلم أنه أراد من تكلم بكلمة الكفر فعليه غضب من الله وله عذاب عظيم، وأنه كافر بذلك إلا من أكره وهو مطمئن بالإيمان، ولكن من شرح بالكفر صدراً من المكرهين، فإنه كافر أيضاً، فصار من تكلم بالكفر كافراً إلا من أكره فقال بلسانه كلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان. وقال تعالى في حق المستهزئين: (لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم) فبين أنهم كفار بالقول مع أنهم لم يعتقدوا صحته وهذا باب واسع" (¬3) . ¬
ثم يقول: "واعلم أن الإيمان وإن قيل هو التصديق فالقلب يصدق بالحق والقول يصدق في القول، والعمل يصدق القول (¬1) والتكذيب بالقول مستلزم للتكذيب بالقلب، ورافع للتصديق الذي كان في القلب، إذ أعمال الجوارح يؤثر في القلب، كما أن أعمال القلب يؤثر في الجوارح، فإنما قام به كفر تعدى حكمه إلى الآخر" (¬2) . ونخلص من هذا إذن إلى أنه من زعم أنه معتقد اعتقاداً صحيحاً وهو يعمل عملاً من أعمال الكفر الأكبر، فهذا لا يصح أن يعتبر مسلماً بأي حال من الأحوال بل هو كافر رغم زعمه صحة الاعتقاد، لأن اعتقاده القلبي يكون قد سقط ولا محالة (¬3) لإتيانه ما يضاده مضادة كاملة وإن لم يصرح بذلك. ومن قال إنه يعتبر مسلماً لصحة اعتقاده فهو من المرجئة الذين يجعلون الإيمان هو مجرد عقد القلب دون الأعمال. أما عن أعمال المعاصي كلها فالشأن فيها أن لا يكفر فاعلها إلا إن كان مستحلاً لها، وفي هذا المقام نُقلت أقوال الفقهاء كلهم عن أن مرتكب أي عمل - ويقصدون به من أعمال المعاصي لا الكفر - لا يكفر إلا إن كان مستحلاً له فهو إن كان معتقداً للتحريم آتياً للمعصية بدافع الشهوة فهذا هو المسلم العاصي خلافاً للخوارج الذين كفروا بالمعصية مطلقاً. ¬
فالمرجئة: جعلوا فساد الاعتقاد القلبي - ودليله عندهم هو التصريح بالتكذيب فقط - هو السبب الوحيد للكفر ولم يعتبروا أن هناك عمل من الأعمال قد يكون مكفراً بذاته بمجرد فعله لدلالته على سقوط الاعتقاد القلبي. والخوارج: جعلوا جميع الأعمال من المعاصي والمكفرات دلالة على سقوط الاعتقاد القلبي فكفروا فاعلها. فكانوا مع المرجئة على طرفي نقيض. وأهل السُّنَّة والجماعة: فرقوا بين أعمال المعصية. وأعمال الكفر فشرطوا فساد الاعتقاد أو استحلال المعصية لكفر فاعلها، واعتبروا فاعل الكفر كافراً بذلك، لدلالته على سقوط الاعتقاد القلبي. كما أن بهذا التفريق الصحيح يتضح معنى قول السلف عند ذكرهم أي عمل من أعمال المعصية - أنه إذا فعلها عاصياً لم يكفر طالما هو معتقد لحرمتها، وإن فعلها جحوداً كفر بذلك، فهذا في الأعمال التي يؤخذ من ظاهرها المعصية كالزنا. وقد سقط من دخلت عليهم شبه المرجئة مرة أخرى في هذا المقام، فاعتقدوا أن الجحود هو التكذيب، فهذا المعنى يتساوق مع ما ذهبوا إليه من معان في الإيمان والتصديق والإقرار وغير ذلك. ومما يدل على أن الجحود بمعنى التكذيب ليس هو المخرج من الملة فقط، بل إما لتكذيب ما يجب التصديق به، أو قول ما يجب عدم قوله، أو عمل ما لا يجب عمله من الكفر، ما قاله ابن حزم: "بل الجحد لشئ مما صح البرهان أنه لا إيمان إلا بتصديقه، كفر، والنطق بشئ من كل ما قام البرهان أن النطق به كُفر، كفر، والعمل بشئ مما قام البرهان بأنه كُفر، كَفر" (¬1) . ¬
ويقول كذلك: "وقد قال عز وجل: (إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سوَّل لهم وأملى لهم ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما أنزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم) فجعلهم تعالى مرتدين كفاراً بعد علمهم بالحق وبعد أن تبين لهم الهدى بقولهم للكفار ما قالوا فقط. وأخبرنا تعالى أنه يعرف إسرارهم ولم يقل تعالى إنها جحد أو تصديق بل قد صح أن في سرهم التصديق لأن الهدى قد تبين لهم ومن تبين له شئ فلا يمكن البتة أن يجحده بقلبه أصلاً. وأخبرنا تعالى أنه قد أحبط أعمالهم باتباعهم ما أسخطه وكراهيتهم رضوانه. وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون) . فهذا نص جلي وخطاب للمؤمنين بأن إيمانهم يبطل جملة وأعمالهم تحبط برفع أصواتهم فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم دون جحد كان منهم أصلا ولو كان منهم جحد لشعروا له، والله تعالى أخبرنا بأن ذلك يكون وهم لا يشعرون، فصح أن من أعمال الجسد ما يكون كفراً مبطلاً لإيمان فاعله جملة ومنه ما لا يكون كفراً. لكن على ما حكم الله تعالى به في كل ذلك ولا مزيد" (¬1) . والجحود لغة: الإنكار بعد العلم (¬2) . وهذا المعنى يتضمن شكلاً آخر للجحود وهو التغيير لما ثبت بعد العلم بحقيقته. قال تعالى: (قال نكّروا لها عرشها) قال القرطبي: أي غيروه. فالتنكير أو الإنكار تغيير للشئ بعد العلم به، فيكون للجحود - إذن - معنيان شرعيان في القرآن الكريم: ¬
أولاً: معنى التكذيب وهو يقابل الاعتقاد القلبي، وهو ما صدر من فرعون وملئ الذين قال الله تعالى فيهم: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً) وهذا المعنى يتضمن التغيير بالفعل، فهم قد غيروا ما ثبت عندهم بيقين في قلوبهم فغيروه بألسنتهم وأنكروه أي جحدوه. ثانياً: معنى التغيير الصريح: هو ارتكاب عمل مكفر مغيراً بذلك ما ثبت عنده أنه من عند الله عز وجل - مع التصديق به - وهو المعنى الذي حكم الله تعالى به بالكفر على اليهود في آية المائدة: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) (¬1) . فإن من المعلوم في سبب نزول الآية أن اليهود إنما غيروا الحكم الذي في التوراة دون حذفه منها، ودون اعتقاد أن هناك حكم جديد مستأنف نزل من عند الله تعالى، وإنما هم غيروه مع إثبات الحكم الأصلي، وكان ذلك لمجرد اشتداد الأمر عليهم، وعدم قدرتهم على تنفيذه لفسقهم. يقول الطبري في تفسير قوله تعالى: (وكيف يحكِّمونك وعندهم التوراة) . "وعندهم التوراة التي أنزلتها على موسى، والتي يقرون بها، وأنها حق، وأنها كتابي الذي أنزلته على نبي، وأن ما فيه من حكم فمن حكمي. يعلمون ذلك لا يتناكرونه ولا يتدامغونه. ويعلمون أن حكمي فيها على الزاني المحصن الرجم، وهم مع علمهم بذلك ويتولون. يقول: يتركون الحكم به بعد العلم بحكمي فيه جراءة عليَّ وعصياناً لي" (¬2) . والحق أن هذا القول في المسألة لا يحتمل المكابرة، فليس في منطوق العبارات ولا في مفهومها أي إشارة إلى ما يزعمون أنه "الحق الإلهي" الذي بمقتضاه يغيِّر بعض النصارى واليهود الأحكام لما يعتقدون في أحبارهم أن الوحي لا يزال ينزل عليهم ليغيروا ما عندهم بإرادة الله. هذا شئ وما ورد عن كفر من غيَّر الشرائع مع إقرارها شئ آخر. ¬
ويؤكد ذلك ما رواه الطبري بسنده عن السدِّى: "كان بنو إسرائيل أنزل الله عليهم: إذا زنى منكم أحد فارجموه، فلم يزالوا بذلك حتى زنى رجل من خيارهم، فلما اجتمعت بنو إسرائيل يرجمونه، قام الخيار والأشراف فمنعوه، ثم زنى رجل من الضعفاء، فاجتمعوا ليرجموه، فاجتمعت الضعفاء فقالوا لا ترجموه حتى تأتوا بصاحبكم فترجموهما جميعاً، فقالت بنو إسرائيل: إن هذا الأمر قد اشتد علينا.. فتركوا الرجم وجعلوا مكانه أربعين جلدة.." (¬1) . فأين بربك "الحق الإلهي" الذي يزعم بعض الناس أن اليهود وقد غيَّروا حكم التوراة في الزنا بمقتضاه؟ إنه من الواضح أنهم لم يعتقدوا تبديل الحكم من عند الله تعالى، وإنما هي صورة أخرى من الكفر يعرضها الله تعالى على عباده رمزاً لمن يبدل الشرع ويغيِّره - فيكون بذلك جاحداً له بالفعل - ويعبد الناس لشرع جديد مستأنف مستعيضاً به عن شرع الله المحكم كما فعلت اليهود. أما عن قوله تعالى: (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله..) (¬2) الآية. فإنه لا يلزم منها صورة واحدة، هي صورة من يمحو من كتاب الله حكماً ليثبت حكماً آخر ينسبه لله تعالى، وإنما هي تحتمل كذلك معنى كل من يكتب كتاباً في الدين ويجعله تفسيراً لآيات الله الثابتة عنده، فينسبه بذلك لله تعالى برغم ثبوت الحكم لله عنده، وإنما كتب هو تفسيره من هواه، وبهذا اعترض صاحب المنار على السيوطي في تفسيره أن هذه الآية فيمن يمحو حكماً ويثبت آخر فقط. يقول صاحب المنار: "إنما الآية وعيد على من لبَّسوا على الناس بالكتابة وتأليف الكتب الدينية وإيهام العامة أن كل ما كتبوه فيها مأخوذ من كتاب الله.." (¬3) . أما عن قول الجلال السيوطي في تفسيره: "إنهم كانوا يكتبون الأحكام على خلاف ما هي عليه في الكتاب كآية الرجم ووصف النبي صلى الله عليه وسلم". ¬
فهذا يجب أن لا يحمل على أنهم كانوا يثبتون هذه الأحكام الجديدة في التوراة نفسها، والدليل على هذا مشهور مستفيض مما ورد في أسباب نزول آية المائدة من أنهم أتوا الرسول صلى الله عليه وسلم بالتوراة ليتلوها عليه، فوضع أحدهم إصبعه على موضع آية الرجم فيها ليكتمها عنه. أخرج الشيخان واللفظ للبخاري: ".. فقال لليهود ما تصنعون بهما؟ قالوا نسخم وجوههما ونخزيهما، قال: (فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين) ، فجاؤا فقال لرجل منهم ممن يرضون: اقرأ، فقرأ حتى انتهى إلى موضع منها فوضع يده عليه، قال ارفع يدك، فرفع فإذا آية الرجم تلوح قال: يا محمد فيها آية الرجم ولكننا نتكاتمه بيننا فأمر بهما فرجما". كما أنه قد روى أنهم إنما قد نزعوا إلى الرسول صلوات الله عليه ليأخذوا حكمه ليكون لهم رخصة عند الله فعلم أنهم إنما لم يكونوا ينسبون حكمهم الجديد لله تعالى. روى الطبري: ".. قالوا سلوه لعلكم تجدون عنده رخصة" (¬1) . وفيما أوردنا الكفاية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. ثانياً: الإصرار والرد: الإصرار لغة: هو الإقامة على الشئ والمداومة عليه (¬2) . وهو العزم بالقلب على الأمر، وترك الإقلاع عنه (¬3) . وشرعاً: هو الإقامة على فعل الذنب أو المعصية مع العلم بأنها معصية دون الاستغفار أو التوبة (¬4) . قال قتادة "الإصرار" الثبوت على المعاصي (¬5) . فالإصرار إذن - كما يتضح من التعريفين اللغويين: له جانب ظاهري وجانب باطني ثم إن له وجهان قد يدل عليهما من الناحية الظاهرية التي هي التكرار للعمل بالذنب والمداومة عليه. ¬
1 - فإما أن يكون تكرار الفعل والمداومة عليه دلالة على استحلال القلب لهذه المعصية، ورد الشرع فيها وعزم القلب على عدم تركها أبداً، فيكون المصر في هذه الحالة - وهو الذي ظاهره التكرار - كافراً وهو قول الخوارج. يقول ابن حزم: ".. وقالوا من كذب كذبة صغيرة أو عمل عملاً صغيراً فأصر على ذلك فهو كافر مشرك وكذلك في الكبائر" (¬1) . وفي هذه الحالة لا يكون تكرار الفعل مجرداً من العمل الباطن للقلب، وإنما يكون مصحوباً بعقد القلب على استحلاله وإن لم يظهر من العاصي إلا تكرار فعل المعصية الذي اتخذه الخوارج دلالة على الاستحلال. 2 - أن يكون تكرار الفعل والإقامة عليه دلالة على قوة الشهوة الدافعة للذنب مما يجعله مستمراً في فعله مقيماً عليه، بمعنى تكراره وإضافة ذنوب بعضها إلى بعض دون المساس بعقد القلب، ويخشى على صاحبه سوء العاقبة لاحتمال انتكاس القلب برد الشرع في أية لحظة. وهذا ما ذهب إليه جمهور السلف من عدم تكفير المصر - بمعنى المداوم على العمل دون توبة أو استغفار - لعدم اعتبارهم تكرار الذنب دلالة على استحلال القلب. هذا في الظاهر، وأما في الباطن فإن ثبوت عقد القلب على عدم ترك المعصية وانعقاده على ذلك يكون مكفراً لصاحبه على الحقيقة، وإن لم يستدل بمجرد التكرار للذنب على ذلك المعنى. والحق في هذه المسألة هو ما ذهب إليه جمهور السلف والأئمة، فإنه من المعلوم أن الشهوة الدافعة للمعصية أو النفرة من فعل الأمر قد تستمر في القلب فتبعده عن طاعة الله أو استغفاره رغم انقياده وإذعانه للأمر وحبه للعدول عن المعصية، فيظل مقيماً على الذنب مكرراً له دون توبة منه أو استغفار، وإن لم يعقد قلبه على عدم العدول عنه أبداً. ¬
يقول ابن تيمية: "وبهذا يظهر الفرق بين العاصي فإنه يعتقد وجوب ذلك الفعل عليه ويجب أن يفعله لكن الشهوة والنفرة منعته من الموافقة" (¬1) . فلا دلالة للتكرار في حد ذاته - ظاهراً - على تغير عقد القلب الذي هو مناط الكفر في أعمال المعاصي - كما سبق أن قررنا في التفريق بين أعمال الكفر وأعمال المعصية - وأنه لابد من دلالة قطعية على سقوط عقد القلب أو فساد الاعتقاد لمرتكب المعصية ليثبت كفره، ومجرد التكرار لا يعتبر دلالة في ذاته على ذلك. من ناحية الظاهر. فلهذه المسألة جانبان من النظر: أولاً: في ظاهر الأمر: فإن الإصرار - الذي هو بمعنى تكرار الفعل وصورته الظاهرة الإقامة عليه - لا تعتبر دلالة بذاتها على تغير عقد القلب أو على استحلال المعصية الذي هو مناط الكفر في هذه الأعمال وإن خشى عليه ذلك في أية لحظة، وإنما تعتبر صغيرته - بتكرارها - كبيرة ينبه عليها ليقلع عنها. ولا يصح الاحتجاج هنا بقاعدة تلازم الظاهر والباطن، بأن يقال: إنه طالما أن ظاهر الحال هو تكرار المعصية فهذا يدل على فساد الباطن وسقوط عقد القلب، فإننا نقول إنه إن كان الظاهر منحرفاً كان الباطن بحسبه، فإن كان ظاهر العمل معصية كان فاعلها فاسقاً باطناً، وإن كان الفعل كفراً كان الفاعل كافراً. ولا نقول إنه يستدل به على كفر دون أن يكون أصل الفعل مكفراً - إما بنص الشارع أو بما يقوم مقام النص من القواعد الثابتة القطعية - بمعنى أن الله سبحانه أطلق القول على مرتكب المعصية بأنه فاسق فيكون فاعلها فاسقاً، لأننا نجعل الظاهر دليلاً على الباطن، فلا يقول قائل إنه مؤمن كامل الإيمان بل يجب إثبات فسقه لما ظهر من حاله. ¬
وإن أطلق الله سبحانه اسم الكفر على عمل من الأعمال - سواء بالنص أو بما يقوم مقامه - كان فاعله كافراً لأننا نثبت التلازم بين الظاهر والباطن، أما أن تؤخذ قاعدة التلازم لإثبات قدر زائد عن مجرد الوصف الثابت شرعاً لمرتكب الفعل، ويستنتج منها شئ بدون دليل قطعي فهذا ما لا محل له، وهنا وقعت الخوارج في التكفير بالمعصية أو الإصرار. ثانياً: على الحقيقة: فإن المقيم على الذنب المداوم عليه دون توبة له حالتان: 1- إما أن يكون مصراً - أي مقيماً - بدافع الشهوة الجامحة للمعصية أو النفرة من فعل الأمر مع التزامه وانقياده قلبياً له، فهذا هو العاصي الذي تعتبر صغيرته كبيرة باعتبار إصراره عليها. 2- أن يكون مصراً بمعنى أن ينعقد قلبه على عدم الترك للمعصية أبداً، فيكون معانداً لله سبحانه في أمره وهذا في حقيقته هو من سقط عقد قلبه، وذهب انقياده والتزامه وفسد اعتقاده، فهو كافر في الحقيقة عند الله عز وجل، وإن كنا لا نحكم بكفره ظاهراً حتى يأتي أمراً لا خلاف عليه في دلالته على الاستحلال كأن يعلن ذلك بنفسه، أو بما يدل عليه كأن يعلن أنه اتخذ هذا العمل أو هذا السبيل المغاير للشرع منهجاً ثابتاً لا يتغير وقاعدة لحياته، ودعا الناس إليه وأعلن محاسنه - حتى ولو لم يعلن استقباح الشرع في المقابل - فإن هذا دليل كافٍ على فساد اعتقاده واستحبابه لشرع غير شرع الله تعالى، فإن سبيله في فعل المعصية هكذا يكون كمن شرعها لتكون منهجاً وسُنة لا طارئ عارض يلم بالنفس فيدفعها للمخالفة ثم يذهب وإن تكرر مرات ومرات كما هو حال من أصر ولم يكفر. فهذا الشأن دال على الكفر بالاستحلال، ولا سبيل إلى التأكد من كفر مرتكب المعصية المقيم عليها بغير هذا السبيل. وقد قرر شارح الفقه الأكبر دلالة الاستحلال بما قلناه:
يقول: "إن استحلال المعصية صغيرة أو كبيرة كفر، إذا ثبت كونها معصية بدلالة قطعية وكذا الاستهانة بها كفر بأن يعدها هينة سهلة ويرتكبها من غير مبالاة بها ويجريها مجرى المباحات في ارتكابها" (¬1) . ويقرر الإمام ابن القيم كفر من عزم بقلبه على المداومة وعدم الترك أبداً على الحقيقة لما سينشأ في قلبه من هذا من أحوال فيقول: ".. واعلم أن الإصرار على المعصية يوجب من خوف القلب من غير الله، ورجائه لغير الله، وحبه لغير الله، وذله لغير الله، وتوكله على غير الله، ما يصير به منغمساً في بحار الشرك. والحاكم في هذا ما يعلمه الإنسان من نفسه إن كان له عقل، فإن ذل المعصية لا بد أن يقوم بالقلب فيورثه خوفاً من غير الله، وذلك شرك ويورثه محبة لغير الله واستعانة بغيره في الأسباب التي توصله إلى فرضه. فيكون عمله لا بالله ولا لله. وهذا حقيقة الشرك. نعم قد يكون معه توحيد أبي جهل، وعباد الأصنام. وهو توحيد الربوبية وهو الاعتراف بأنه لا خالق إلا الله ولو أنجى هذا التوحيد وحده، لأنجى عباد الأصنام، والشأن في توحيد الألوهية، الذي هو الفارق بين المشركين والموحدين" (¬2) . ويقول ابن رجب في دلالة الاستحلال الظاهرة: "قال تعالى (إنما النسئ زيادة في الكفر ... ) والمراد أنهم كانوا يقاتلون في الشهر الحرام عاماً فيحلونه بذلك ويمتنعون من القتال فيه عاماً فيحرمونه بذلك. ¬
وقال الله عز وجل (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم..) وهذه الآية نزلت بسبب قوم امتنعوا من تناول بعض الطيبات زهداً في الدنيا وتقشفاً. وبعضهم حرم ذلك على نفسه إما بيمين حلف بها أو بتحريمها على نفسه، وذلك كله لا يوجب تحريمه في نفس الأمر. وبعضهم امتنع منها من غير يمين أو تحريم على نفسه، فسمى الجميع تحريماً حيث قصر الامتناع منه إضراراً بالنفس وكفاً لها عن شهواتها. ويقال في الأمثال: فلان لا يحلل ولا يحرم إذا كان لا يمتنع من فعل حرام ولا يقف عندما أبيح له، وإن كان يعتقد تحريم الحرام فيجعلون من فعل الحرام ولا يتحشى منه محللاً وإن كان لا يعتقد حله" (¬1) . وأما عن قول الخوارج إن الإصرار على الذنب غير مكفر لصاحبه بشرط التوبة والاستغفار فهو كتحصيل حاصل، فإن من تاب واستغفر عاد كمن لا ذنب له، كما صح من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: "التائب من الذنب كمن لا ذنب له" (¬2) . وصار تكرار المعصية ذنب جديد ومعصية عادية لا معنى للإصرار فيها، أي المداومة فيكون ترك الاستغفار أو التوبة لازم لمعنى الإصرار (¬3) كما نقلنا عن الطبري. وقد قال القرطبي: "قال علماؤنا الاستغفار المطلوب هو الذي يحل عقد الإصرار، ويثبت معناه في الجنان، لا التلفظ باللسان، فأما من قال بلسانه أستغفر الله وقلبه مصر على معصية فاستغفاره ذلك يحتاج إلى استغفار وصغيرته لاحقة بالكبائر" (¬4) . ¬
هذا وجه وهناك وجه آخر هو حب الله ورسوله على غلبة الشهوة. والمتأمل في قوله تعالى: (ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين) (¬1) . يرى أن الله سبحانه قد جعل من لم يصر على ذنبه بعد علمه به (¬2) ، واستغفر منه، في أعلى درجات الإيمان وأحسن أوصاف المؤمنين، فالقرآن "يأتي بالغايات تنصيصاً عليها" - كما سيأتي تفصيل ذلك في الباب الثالث - فيصف المؤمنين دائماً بأحسن صفاتهم المطلوبة فيرغب فيها أهل الحق ليسعون إليها، ويصف الكافرين بأبشع أوصافهم لينفر منها المؤمنين ويبتعدوا عنها (¬3) . ¬
فهذه الصفة التي وردت في الآية الكريمة ليست صفة المسلم العادي، وإنما هي صفة كمال الإيمان أي أن من أصر على الذنب - أي أقام عليه - ليس بالضرورة مشركاً بل يحتمل أن يكون كذلك إن انعقد قلبه على عدم الترك كما قلنا، أو أن يكون عاصياً لا يجعل له صفة الكمال في الإيمان لإقامته على الذنب فقط - دون عقد القلب - وترك التوبة منه، ولا يصح أن يفهم من الآية مفهوم مخالفتها بمعنى أن من لم يصر فهو المؤمن فيكون المصر كافراً! هكذا دون تفصيل، فهذا هو الفهم الناقص الذي لا يجمع بين أطراف الأدلة ولا يسير على منهج النظر الصائب، ولا يستلهم القواعد والأصول ومقتضياتها. قبول الشرائع وردها بين الفرد والمجتمع: قررنا فيما سبق أن مناط الكفر في أعمال المعاصي هو سقوط عقد القلب أو استحلال المعصية. والاستحلال أمر قلبي لابد من دلالة قطعية عليه ليمكن الحكم بكفر مرتكبها. وإن إقدام الفرد على معصية الله تعالى ومداومته عليها يعتبر إصراراً منه عليها وكبيرة من الكبائر – كما اعتبرها الإمام ابن حجر الهيثمي في الزواجر، الكبيرة الرابعة والثلاثون – وكما تبين من قبل لا يعتبر دلالة على رد الشرع أو الأمر والنهي بظاهره إلا إن أخذ صورة الدوام والعرف المتبع، وأصبح مبدأ ثابتاً يدعو إليه ويستحسنه مع علمه لمخالفته لأمر الله تعالى … فبهذه الضوابط يعتبر ظاهر فعله كفراً هذا بالنسبة للفرد، أما المجتمعات فتختلف الدلالات بالنسبة لها. فإن الفقهاء قد وضعوا شروطاً محددة واعتبروا أوضاعاً معينة ظاهرة هي التي تفرق بين دار الإسلام ودار الكفر، فمتى تحققت هذه الشروط اعتبرت هذه المجتمعات بحسبها.
وإن تواضع مجتمع ما بأفراده وهيئاته على إقرار معصية من المعاصي بحيث تصير غير منكرة بينهم، بل هي المتعارف عليها المعمول بها، المستنكر خلافها (¬1) ، فهذا ولاشك يحمل دلالة على رد الشرع وعدم الانقياد له من المجتمع جملة، وإن لم يلزم من ذلك اعتبار أفراده خارجين عن الإسلام فرداً فرداً. والحق أنه ليس هناك مجتمع يعلن الإسلام – ولو باللسان – ثم يعلن إنكار للرسالة أو جحود الشرائع جملة، وإنما هو الوقوع في أعمال الكفر مع الإقامة على تصديق الرسالة والاعتراف بربوبية الله تعالى. وقد ذكر الفقهاء الدلالة التي يعتبر فيها المجتمع منخلعاً عن الإسلام ويتحول إلى دار كفر بعد أن كان دار إسلام، فأجمعوا على أنها الحكم بغير ما أنزل الله، والتحاكم إلى غير شريعته، وارتفاع لواء شرع غير شرعه تجرى على أساسه جميع معاملات هذا المجتمع (¬2) ، فهذه دلالة قطعية على رد هذا المجتمع للشريعة جملة، وخروجه عن الإسلام كلية، وإن كان هذا لا يعني كفر أفراده فرداً فرداً. ¬
في الرد على المرجئة
فإن إجراء حكم الكفر على الأفراد له دلالات مختلفة أخرى غير دلالة كفر المجتمع، كشخصية اعتبارية، يجرى عليها الحكم بالإسلام أو بالكفر، ليتاح بعد ذلك أن يعامل الأفراد فيها حسب المعاملات المخصوصة التي شرعت لدار الكفر، كترك إقامة الحدود مثلاً أو عدم وجوب إقامة الجمعة – على مذهب أبي حنيفة خلافاً للجمهور – إلى غير ذلك من المعاملات التي تتحدد بتحديد نوعية المجتمع وماهيته ككل. الباب الثاني في الرد على المرجئة (¬1) ¬
الفصل الأول مجمل أقوال المرجئة تدور مفاهيم الأرجاء – قديماً وحديثاً – حول ثلاث نقاط رئيسية ليس لهم عليها دليل، وإنما هو التناقض في فهم الكتاب والسُّنَّة، وانحراف مناهج الاستدلال (¬1) كما ذكرنا من قبل. وسنورد إن شاء الله تعالى هذه النقاط، ثم نعقبها بالرد ما تيسر لنا ذلك. النقطة الأولى: وهي تدور حول مفهوم الإيمان، فقد انقسموا إلى ثلاثة أقوال على الجملة: أن الإيمان مجرد ما في القلب – أي قول القلب – ثم منهم من يدخل فيه أعمال القلب ومنهم من لا يدخلها. ¬
أن الإيمان هو مجرد قول اللسان، وهو قول الكرامية (¬1) . أن الإيمان تصديق القلب وقول اللسان. يقول ابن تيمية: "والمرجئة ثلاث أصناف: الذين يقولون الإيمان مجرد ما في القلب، ثم من هؤلاء من يدخل فيه أعمال القلوب، وهم أكثر فرق المرجئة، كما قد ذكر أبو الحسن الأشعري أقوالهم في كتابه … ومنهم من لا يدخلها في الإيمان كجهم. والقول الثاني: من يقول هو مجرد قول اللسان. وهذا لا يعرف لأحد قبل الكرامية. والثالث: تصديق القلب وقول اللسان، وهذا هو المشهور عن أهل الفقه والعبادة منهم" (¬2) . وقال بعضهم: (¬3) إن الكفر هو التكذيب لأن الإيمان عندهم مرادف للتصديق، وقد رد ابن تيمية على ذلك رداً مفصلاً أوضح فيه مفارقة الإيمان للتصديق لفظاً ومعنى، لغة وشرعاً من عدة وجوه نذكر منها الوجه المقصود للتفرقة بين كفر التكذيب ومطلق الكفر قال: ¬
"إن لفظ الإيمان في اللغة لم يقابل بالتكذيب، كلفظ التصديق، فإنه من المعلوم في اللغة أن كل مخبر يقال له: صدقت أو كذبت. ويقال صدقناه أو كذبناه، ولا يقال لكل مخبر: آمنا له أو كذبناه ولا يقال: أنت مؤمن له أو مكذب، له بل المعروف في مقابلة الإيمان لفظ الكفر يقال هو مؤمن أو كافر. والكفر لا يختص بالتكذيب، بل لو قال: أنا أعلم أنك صادق ولكن لا أتبعك بل أعاديك وأخالفك ولا أوافقك لكان كفره أعظم، فلو كان الكفر المقابل للإيمان ليس هو التكذيب فقط، علم أن الإيمان ليس هو التصديق فقط، بل إذا كان الكفر يكون تكذيباً ويكون مخالفة ومعاداة وامتناعاً بلا تكذيب، فلابد أن يكون الإيمان تصديقاً مع موافقة وموالاة وانقياد، ولا يكفي مجرد التصديق فيكون الإسلام جزء مسمى الإيمان، كما كان الامتناع عن الانقياد مع التصديق جزء مسمى الكفر، فيجب أن يكون كل مؤمن مسلماً منقاداً للأمر، وهذا هو العمل" (¬1) . وقد سبق أن بينا من قبل مركبات الإيمان كما هي عند أهل السُّنَّة وأدلتهم عليها، وشرحنا مقام الجحود في إثبات الكفر، ومقام التصديق في إثبات الإيمان فلا معنى للإعادة. النقطة الثانية: أن من قال لا إله إلا الله بلسانه كان مؤمناً مسلماً يدخل الجنة، اعتماداً على فهم قاصر لأحاديث وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كقوله صلى الله عليه وسلم: "ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة" (¬2) وغيرها اعتقاداً منهم أن مجرد النطق بالشهادتين كاف لإثبات حقيقة الإسلام الذي ينجو به صاحبه من الخلود في النار!. النقطة الثالثة: أن الإيمان لا تضر معه معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، والاعتماد على غفران الله سبحانه الذي وردت به الآيات التي تصف الله سبحانه بالرحمة والمغفرة وغفران الذنوب، كقوله تعالى: "إن الله غفور رحيم" (¬3) ¬
أحاديث الشفاعة وحقيقة الشهادتين
أو قوله تعالى: "إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم" (¬1) ، إلى غير ذلك من الآيات التي تحمل نفس هذا المعنى من رحمة الله عز وجل ومغفرته. هذه هي النقاط الثلاث التي يدور حولها فكر الإرجاء – قديماً وحديثاً – والتي تأثر بها بعض "دعاة الإسلام" تأثراً شديداً دون علم بالأصول التي ينحدر منها هذا الفكر. وسنحاول – إن شاء الله تعالى – فيما يأتي – أن نرد على هذه الشبهات – الثانية والثالثة – بعد أن بينا مذهب أهل السُّنَّة والجماعة في الأول وأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص وحقيقة الإيمان ومقام التصديق فيه. والله أعلم. الفصل الثاني أحاديث الشفاعة وحقيقة الشهادتين وردت في السُّنَّة الشريفة أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تفيد أن من قال لا إله إلا الله دخل الجنة، وما يجري مجراها في المعنى، فتعلق بها المرجئة، وأجروها على ظواهرها، واعتبروا أن من تلفظ بالشهادتين فهو المسلم عند الله عز وجل، وهو الذي يحق له دخول الجنة بإذن الله. ومن هذه الأحاديث: (1) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله: من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك لما رأيت من حرصك على الحديث. أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه أو نفسه" رواه البخاري. (2) وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من عمل" رواه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري. ¬
(3) عن عبادة بن الصامت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله حرم الله عليه النار". رواه مسلم والترمذي. (4) وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ومعاذ رديفه على الرحل قال: "يا معاذ بن جبل. قال: لبيك يا رسول الله وسعديك ثلاثاً، قال: ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صدقاً من قلبه إلا حرمه الله على النار.." رواه البخاري ومسلم. وغير ذلك من الأحاديث التي ذكر فيها نطق الشهادتين، وجعلها شرطاً لدخول الجنة، وترتيب النجاة على قولها أو شهادتها دون غيرها. وقد اتفق أهل السُّنَّة والجماعة بلا خلاف بينهم على صرف هذه الأحاديث عن ظاهرها وتأويلها بوجه من الوجوه وعدم اعتبار عموميتها، ومن أقوالهم في ذلك: يقول الإمام الشاطبي في شرح الطريقة التي يجب أن تتخذ منهجاً ومسلكاً لفهم الكتاب والسُّنَّة: "… وللسنة هنا مدخل، لأنها مبينة للكتاب، فلا تقع في التفسير إلا على وفقه، وبحسب المعرفة بالتقديم والتأخير يحصل بيان الناسخ من المنسوخ في الحديث، كما يتبين ذلك في القرآن أيضاً. ويقع في الأحاديث أشياء تقررت قبل تقرير كثير من المشروعات، فيأتي فيها إطلاقات أو عمومات ربما أوهمت ففهم منها ما لا يفهم منها لو وردت بعد تقرير تلك المشروعات، كحديث: "من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة" أو حديث: "ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صادقاً من قلبه إلا حرمه الله على النار"، وفي المعنى أحاديث كثيرة وقع من أجلها الخلاف بين الأمة فيمن عصى الله من أهل الشهادتين. فذهبت المرجئة إلى القول بمقتضى هذه الظواهر على الإطلاق، وكان ما عارضها مؤولا عند هؤلاء. وذهب أهل السُّنَّة والجماعة إلى خلاف ما قالوه، حسبما هو مذكور في كتبهم وتأولوا هذه الظواهر.
ومن جملة ذلك أن طائفة من السلف قالوا إن هذه الأحاديث منزلة على الحالة الأولى للمسلمين وذلك قبل أن تنزل الفرائض والأمر والنهي، ومعلوم أن من مات في ذلك الوقت ولم يصل أو لم يصم مثلاً وفعل ما هو محرم في الشرع لا حرج عليه، لأنه لم يكلف بشئ من ذلك بعد، فلم يضيع من أمر إسلامه شيئاً، كما أن من مات والخمر في جوفه قبل أن تحرم فلا حرج عليه، لقوله تعالى: (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح..) الآية، وكذلك من مات قبل أن تحول القبلة نحو الكعبة لا حرج عليه في صلاته إلى بيت المقدس، لقوله تعالى: (وما كان الله ليضيع إيمانكم..) ، وإلى أشياء من هذا القبيل فيها بيان لما نحن فيه، وتصريح بأن اعتبار الترتيب في النزول مفيد في فهم الكتاب والسُّنَّة" (¬1) . ويقول الحافظ المنذري في كتابه "الترغيب والترهيب": "وقد ذهب طوائف من أساطين أهل العلم إلى أن مثل هذه الإطلاقات التي وردت فيمن قال: "لا إله إلا الله دخل الجنة أو حرم الله عليه النار" ونحو ذلك، إنما كان في ابتداء الإسلام، حين كانت الدعوة إلى مجرد الإقرار بالتوحيد، فلما فرضت الفرائض، وحدت الحدود نسخ ذلك، والدلائل على هذا كثيرة متظاهرة. وإلى هذا القول ذهب الضحاك والزهري وسفيان الثوري وغيرهم، وقال طائفة أخرى: لا احتياج إلى ادعاء النسخ في ذلك، فإن كل ما هو من أركان الدين وفرائض الإسلام هو من لوازم الإقرار بالشهادتين.." (¬2) . كما ذكر ابن رجب الحنبلي في كتابه "تحقيق كلمة الإخلاص" بعض آراء السلف في صرف هذه الأحاديث عن ظاهرها وفهمها وتفسيرها: ¬
"وقد ذهب طائفة إلى أن هذه الأحاديث المذكورة أولاً وما في معناها كانت قبل نزول الفرائض والحدود ومنهم الزهري والثوري وغيرهما. وهذا بعيد جداً، فإن كثيراً منها نزل بالمدينة بعد نزول الفرائض والحدود، وفي بعضها أنه كان في غزوة تبوك وهي في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم. وهؤلاء منهم من يقول إنها منسوخة. ومنهم من يقول هي محكمة ولكن ضم إليها شرائط، ويلتفت هذا إلى أن الزيادة على النص هل هي نسخ أم لا؟ والخلاف في ذلك بين الأصوليين مشهور. وقالت طائفة: تلك النصوص المطلقة قد جاءت مقيدة في أحاديث أخرى، ففي بعضها: "من قال لا إله إلا الله مخلصاً"، وفي بعضها: "مستيقناً"، بعضها: "يصدق لسانه"، وفي بعضها: "يقولها حقاً من قلبه"، وفي بعضها: و"قد ذل بها لسانه واطمأن بها قلبه" (¬1) اهـ. ثم ذكر ابن رجب بعد ذلك أقوالاً تفيد أنها مقيدة بشرائط لابد من تحققها، قال: "وقال الحسن للفرزدق وهو يدفن امرأته: ما أعددت لهذا اليوم؟ قال شهادة أن لا إله إلا الله منذ سبعين سنة. قال الحسن: نعم العدة لكن لـ (لا إله إلا الله) شرائط، فإياك وقذف المحصنة. وقيل للحسن: إن ناساً يقولون من قال لا إله إلا الله دخل الجنة؟ فقال: من قال لا إله إلا الله فأدى حقها وفرضها دخل الجنة. وقال وهب بن منبه لمن سأله: أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنة؟ فقال: بلى. ولكن ما من مفتاح إلا وله أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك وإلا لم يفتح لك.. كما في الصحيحين عن أبي أيوب أن رجلاً قال يا رسول الله: أخبرني بعمل يُدخلني الجنة؟ فقال: تعبد الله لا تشرك به شيئاً وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصل الرحم ... كما دل قوله تعالى: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين) . ¬
على أن الاخوة في الدين لا تثبت إلا بأداء الفرائض مع التوحيد، فإن التوبة من الشرك لا تحصل إلا بالتوحيد" (¬1) . كما أخذ الإمام الآجري بقول من قال من السلف أن هذه الأحاديث قبل نزول الفرائض فقال: "فإن احتج محتج بالأحاديث التي رويت: "من قال لا إله إلا الله دخل الجنة"، قيل له: هذه كانت قبل نزول الفرائض على ما تقدم ذكرنا له، وهذا قول علماء المسلمين ممن نعتهم الله عز وجل بالعلم، وكانوا أئمة يقتدى بهم سوى المرجئة الذين خرجوا عن جملة ما عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان. وقول الأئمة والذين لا يستوحش من ذكرهم في كل بلد" (¬2) . وما أوردناه من أقوال العلماء من أهل السُّنَّة والجماعة إنما هو دليل على أنهم - بإجماع - صرفوها عن ظاهرها وأولوها بوجه من وجوه التأويل، وإن اختلفوا في السبب الذي صرفت عن ظاهرها لأجله. وإن هذا الأمر لهو المنزلق الوعر الذي انزلقت فيه أقوال الكثير من "دعاة الإسلام"، فظنوا أن مجرد نطق الشهادتين - بمعنى التلفظ بهما - هو مدار النجاة من الخلود في النار في الآخرة، ودخلت عليهم الشبهة التي دخلت على مرجئة العصر القديم من هذا الباب، باب الأحاديث التي أطلق فيها هذا القول السابق. وقد رأينا أن أهل السُّنَّة قد اتفقوا على تأويلها - خلافاً للمرجئة - وإن اختلفوا في السبب. والحق أن ما ذكره ابن رجب وغيره عن الطائفة التي ذكرت أن هذا القول هو حق قبل نزول الفرائض قد جانبها الصواب في هذا، فإن من هذه الأحاديث ما ورد من طريق أبي هريرة رضي الله عنه، ومعلوم أنه أسلم مؤخراً في المدينة في السنة السابعة للهجرة بعد نزول كثير من الفرائض، ومنها ما جاء في حين غزوة تبوك، فثبت بهذا أن هذا الاعتراض غير وارد. ¬
والأمر أهون من ذلك - بإذن الله - إذا أخذنا في اعتبارنا أمرين في غاية الأهمية لإدراك المعنى الصحيح المقصود من هذه الأحاديث الشريفة، فإنها كلها حق والحمد لله، ولكن عدم فهمها على وجهها الصحيح أو الاستدلال بها في غير موضعها لهو ضرب من تلبيس الحق بالباطل فنعوذ بالله من ذلك. والأمران هما: (أ) النظر في مجموع الروايات الأخرى التي وردت فيها أحاديث الشفاعة نفسها لتشرح بعضها البعض وتفيد في تقرير معنى الشهادتين المعتبر شرعاً عند الله عز وجل. (ب) اعتبار حقيقة الشهادتين التي رتب عليها الشارع دخول الجنة بقولها. وسننظر في كلا الأمرين بشيء من التفصيل إن شاء الله تعالى. (أ) النظر في مجموع الروايات: إذا تتبعنا الأحاديث التي رتب فيها الشارع دخول الجنة أو التحريم على النار على قول لا إله إلا الله، وجدنا أنه قد رتب ذلك على هذا القول تارة، وعلى التوحيد تارة، وعلى انتفاء الشرك تارة في روايات الحديث المختلفة. ومثال ذلك: 1 - حديث بني الإسلام على خمس: قد ورد بأربع روايات: الرواية الأولى: حدثنا عبيد الله بن معاذ ثنا أبي ثنا عاصم وهو ابن محمد ابن زيد بن عبد الله بن عمرو عن أبيه قال: قال عبد الله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان رواه مسلم. الرواية الثانية: عن ابن عمر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بُني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان وحج البيت" رواه مسلم.
الرواية الثالثة: حدثنا سهل بن عثمان العسكري ثنا يحيى بن زكريا ثنا سعد بن طارق قال حدثني سعد بن عبيدة السُّلمى عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بني الإسلام على خمس: أن يعبد الله ويكفر بما دونه وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان" (¬1) رواه مسلم. الرواية الرابعة: حدثنا محمد بن عبد الله بن محمدالهمداني ثنا أبو خالد يعني سليمان بن حبان الأحمر عن أبى مالك الأشجعي عن سعد بن عبيدة عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بنى الإسلام على خمسة: على أن يوحد الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان والحج، قال رجل: الحج وصيام رمضان. قال: لا صيام رمضان والحج، هكذا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم" رواه مسلم. كما جاء في معناها غير ذلك من الأحاديث ما يفيد أن الشهادتين تعنى ترك الشرك وعبادة الله وحده، وإنما التلفظ عنوان ذلك ودليله، منها: "ما رواه مسلم بسنده عن أبي هريرة أن أعرابياً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة. قال: "تعبد الله لا تشرك به شيئاً وتقيم الصلاة المكتوبة وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان، قال: والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا ولا أنقص منه، فلما ولى قال النبي صلى الله عليه وسلم: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا". 2- حديث جبريل وله ثلاث روايات: ¬
الرواية الأولى: ما رواه البخاري بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوماً بارزاً للناس إذ أتاه رجل يمشي فقال: يا رسول الله، ما الإيمان؟ قال: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته ورسله ولقائه وتؤمن بالبعث الآخر. قال: يا رسول الله، ما الإسلام؟ قال: الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان. قال: يا رسول الله، ما الإحسان؟ قال: الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.. إلى أن قال: هذا جبريل جاء ليعلم الناس دينهم". الرواية الثانية: ما رواه مسلم بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سلوني فهابوه أن يسألوه فجاء رجل فجلس عند ركبتيه فقال: يا رسول الله، ما الإسلام؟ قال: لا تشرك بالله شيئاً وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان. قال: صدقت. قال: يا رسول الله ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتابه ولقائه ورسله وتؤمن بالبعث وتؤمن بالقدر كله. قال: صدقت، قال: يا رسول الله، ما الإحسان؟ قال أن تخشى الله كأنك تراه فإنك إن لم تكن تراه فإنه يراك، قال: صدقت، قال: يا رسول الله، متى تقوم الساعة؟ قال ما المسئول عنها بأعلممن السائل، وسأحدثك عن أشراطها.. إلى أن قال: هذا جبريل أراد أن تعلموا إذ لم تسألوا".
الرواية الثالثة: ما رواه مسلم بسنده عن ابن عمر قال حدثني أبي عمر ابن الخطاب قال: "بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه، قال: يا محمد، أخبرني عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا. قال صدقت. قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه. إلى أن قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم". 3- حديث وفد بني عبد القيس: وقد ورد برواتين عند مسلم: الرواية الأولى: ما رواه مسلم بسنده عن ابن عباس قال: إن وفد عبد القيس أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "ممن القوم؟ فقالوا من ربيعة. فقال مرحباً بالوفد غير خزايا ولا ندامى، فقالوا: يا رسول الله إن بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر، وإنا لا نصل إليك إلا في شهر حرام، فمرنا بأمر فصل، نأخذ به ونأمر به من ورائنا وندخل به الجنة. فقال: آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع: آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأن تعطوا الخمس من المغنم، وأنهاكم عن أربع: عن الدباء والحنتم والنقير والمزفت، فاحفظوهن وادعوا إليهن من وراءكم".
الرواية الثانية: ما رواه مسلم بسنده عن قتادة قال: حدثنا من لقى الوفد الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من عبد القيس قال سعيد، وذكر قتادة أبا نفرة عن أبي سعيد الخدري في حديثه هذا أن ناساً من عبد القيس قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا نبي الله إنا حي من ربيعة وبيننا وبينك كفار مضر، ولا نقدر عليك إلا في أشهر الحرم، فمرنا بأمر نأمر به من وراءنا وندخل به الجنة إذا نحن أخذنا به. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع: اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وصوموا رمضان وأعطوا الخمس من المغنم وأنهاكم عن أربع: عن الدباء والحنتم والمزفت والنقير (¬1) ..". 4 - حديث مبعث معاذ إلى اليمن: وورد بروايتين: الرواية الأولى: ما رواه مسلم بسنده عن ابن عباس أن معاذاً قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإن هم أطاعوا، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة.. الحديث" (¬2) . الرواية الثانية: ما رواه مسلم بسنده عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن قال: "إنك تقدم على قوم أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله عز وجل فإذا عرفوا الله فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم.. الحديث" (¬3) . 5 - حديث أبي ذر الغفاري: وله ثلاث روايات: ¬
الرواية الأولى: روى الإمام أحمد بسنده عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة. قلت: وإن زنى وإن سرق، قال وإن زنى وإن سرق. قلت: وإن زنى وإن سرق، ثلاثاً، ثم قال في الرابعة: رغم أنف أبي ذر". الرواية الثانية: ما رواه الإمام أحمد بسنده عن أبي ذر قال: كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرة المدينة عشاء ونحن ننظر إلى أُحد فقال يا أبا ذر، قلت: لبيك يا رسول الله. قال: ما أحب أن أُحداً ذاك عندي ذهباً أمسى ثالثة وعندي منه دينار إلا ديناراً لرصده - يعني لدين - إلا أن أقول في عباد الله هكذا وهكذا.. إلى أن قال: ذاك جبريل أتاني فقال: من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة". الرواية الثالثة: ما رواه البخاري ومسلم بسندهما عن أبي ذر قال: "خرجت ليلة من الليالي فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي وحده ليس معه إنسان، قال: فظننت أنه يكره أن يمشي معه أحد. قال: فجعلت أمشي في ظل الفجر فالتفت فرآني، فقال: من هذا؟ ، فقلت: أبا ذر جعلني الله فداك. قال: يا أبا ذر تعال.. إلى أن قال: ذاك جبريل عرض لي من جانب الحرة، فقال: بشر أمتك أنه من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة. 6- أحاديث الشفاعة: ما رواه مسلم: "من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله". وما رواه مسلم: "من وحد الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله تعالى". وما رواه بسنده عن ابن نمير: "من مات يشرك بالله شيئاً دخل النار". وما رواه أحمد بسنده عن أبي ذر حدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يقول: يا عبدي ما عبدتني ورجوتني فإني غافر لك ما كان منك، يا عبدي إنك إن لقيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لقيتك بقرابها مغفرة".
وما رواه مسلم بسنده عن جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من نفس تموت لا تشرك بالله شيئاً إلا حلت لها المغفرة إن شاء الله عذبها وإن شاء غفر لها". وما رواه أبو يعلي بسنده عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تزال المغفرة على العبد ما لم يقع الحجاب، قيل: يا نبي الله وما الحجاب؟ قال: الإشراك بالله". (7) حديث معاذ وهو رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم: وله روايتان: الرواية الأولى: ما رواه مسلم بسنده عن أنس بن مالك أن نبي الله صلى الله عليه وسلم ومعاذ بن جبل رديفه على الرحل قال: "يا معاذ، قال: لبيك رسول الله وسعديك، قال: يا معاذ، قال: لبيك يارسول الله وسعديك، قال: يا معاذ، قال: لبيك يا رسول الله وسعديك. قال: ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله إلا حرم الله عليه النار. قال: يا رسول الله أفلا أخبر بها الناس فيستبشروا، قال: إذاً يتكلوا، فأخبر بها معاذ عند موته تأثماً".
الرواية الثانية: ما رواه مسلم بسنده عن معاذ بن جبل، قال: كنت ردف رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمار يقال له عفير، قال: فقال: "يامعاذ تدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإن حق الله على العباد أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله عز وجل أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً. قال: قلت: يا رسول الله أفلا أبشر الناس؟ ، قال لا تبشرهم فيتكلوا" (¬1) . ¬
وفي هذا القدر الذي رويناه من روايات متعددة لأحاديث مشتركة الكفاية للتدلل على أن ما قصده رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "من قال لا إله إلا الله" أنه هو الذي، "يعبد الله ولا يشرك به شيئاً" وهو الذي، "يوحد الله ويكفر بما دونه"، فهي كلها مترادفة وليست رواية منها أحق بالقبول من الأخرى، خاصة ويجمعها كلها وجه واحد وينتظم منها معنى واحد وهو أن القول هنا ليس هو مجرد التلفظ بل هو القيام بمدلولها من عبادة الله وترك الشرك، أي توحيد الله والكفر بما دونه كما قال تعالى: (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفسام لها) (¬1) . فإن من تلفظ بالشهادتين بلسانه دون أن يترك الشرك فهو لم يقلها بالمعنى الشرعي ولم يدخل الإسلام بعد. ومن نطق بهما وهو لم يوحد الله، أو هو قائم على عبادة غيره، فهو كمن لم ينطق، بل هو باق على أصل الشرك لم يزل عنه. فالمراد إذن بالشهادتين - بنص الأحاديث وظاهرها - هو ترك الشرك والتبري عن دين الكفر، فمن ظل على دين الكفر، أو كان على عمل من أعمال الشرك الأكبر. فهذا لم يأت بالشهادة التي تنجي صاحبها من الخلود في النار. ¬
وقد اعتبر الفقهاء نطق الشهادتين عنواناً ودلالة على الدخول في الإسلام (¬1) في ظاهر الأمر ليمكن إجراء الأحكام على أساسها في الدنيا بشرط عدم التلبس في الشرك. فهذا هو المناط الحقيقي للإسلام، والشهادتين إنما هما دلالة عليه وهو معنى ما سبق أن نقلناه عن الحافظ في الفتح، قال: "فمن أقر أجريت عليه الأحكام في الدنيا ولم يحكم عليه بكفر إلا إن اقترن به فعل يدل على كفره كالسجود للصنم" (¬2) . فالإقرار هنا في أحكام الدنيا إنما هو معتبر بالنطق بالشهادتين على اعتبار تحقق الإسلام فعلا بترك الشرك وعبادة الله وحده، وعليه تجرى الأحكام الظاهرة، إلا في حالة التحقق من عدم التبرى من الكفر أو بالإقامة على الشرك بفعل عمل من أعماله. فهنا لا يحكم بالإسلام بالنطق بالشهادتين لعدم اعتبار دلالتها على الإسلام في حالة الاقتران بالكفر، وهو عين ما صرح به الحافظ. (ب) اعتبار حقيقة الشهادتين: فإن الله سبحانه وتعالى عندما يرتب حكماً شرعياً على أي قول، فهو إنما يرتبه على القول التام المقترن بالنية والمقصد، المتضمن لمدلوله ومقتضاه، لا على مجرد التلفظ الذي لا يحمل معنى، وإلا كان المنافقون مسلمين بنطقهم للشهادتين وهذا خلاف المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام. ¬
قال تعالى: (إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله، والله يعلم إنك لرسوله، والله يشهد إن المنافقين لكاذبون) (¬1) . والمنافقون إنما ثبت لهم عقد الإسلام ظاهراً فقط، بقولهم الشهادة والتزامهم الشرائع، وإنما يعرف نفاقهم من قرائن تظهر منهم تدل على فساد دينهم، وإن لم تصل إلى حد الكفر الصراح في مدلولها أو ثبوتها عليهم، وإلا فإن دلت عليه أو ثبتت أقيم عليهم حكم الردة. ¬
يقول ابن القيم: "فإن هذا خلاف المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام، فإن المنافقين يقولونها بألسنتهم، وهم تحت الجاحدين لها في الدرك الأسفل من النار، فلابد من قول القلب وقول اللسان. وقول القلب يتضمن من معرفتها والتصديق بها، ومعرفة حقيقة ما تضمنته من النفي والإثبات، ومعرفة حقيقة الإلهية المنفية عن غير الله، المختصة به، التي يستحيل ثبوتها لغيره، وقيام هذا المعنى بالقلب علماً ومعرفة ويقيناً وحالاً ما يوجب تحريم قائلها على النار. وكل قول رتب الشارع ما رتب عليه من الثواب، فإنما هو القول التام" (¬1) . وهذا المعنى إنما يأتي من أن الألفاظ لا تراد لذواتها وإنما تراد لمعانيها، يقول الإمام ابن القيم مدللاً على هذا المعنى في كلام بليغ: "الألفاظ موضوعة للدلالة على ما في النفس": إن الله تعالى وضع الألفاظ بين عباده تعريفاً ودلالة على ما في نفوسهم، فإذا أراد أحدهم من الآخر شيئاً عرفه بمراده وما في نفسه بلفظه، ورتب على تلك الإرادات والمقاصد أحكامها بواسطة الألفاظ، ولم يرتب تلك الأحكام على مجرد ما في النفوس من غير دلالة فعل أو قول، ولا على مجرد ألفاظ مع العلم بأن المتكلم بها لم يرد معانيه ولم يحط بها علماً، بل تجاوز للأمة عما حدثت به أنفسها، ما لم تعمل به أو تكلم به، وتجاوز لها عما تكلمت به مخطئة، أو ناسية، أو مكرهة، أو غير عالمة به إذا لم تكن مريدة لمعنى ما تكلمت به، أو قاصدة إليه، فإذا اجتمع القصد والدلالة القولية أو الفعلية ترتب الحكم. هذه قاعدة الشريعة.. الخ" (¬2) . ¬
مرجئة العصر الحديث
وكذلك يظهر أن المقاصد والنيات معتبرة في الأعمال، وأن العمل الذي لا يقوم على قصد فهو لا معنى له، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات" (¬1) ، وقد تكلم ابن القيم على اعتبار المقاصد في العقود عامة دون اللفظ المجرد، قال تحت عنوان: "العبرة في العقود القصد دون اللفظ المجرد". "ومما يوضح ما ذكرناه - من أن المقصود في العقود معتبرة دون الألفاظ المجردة التي لم تقصد بها معانيها وحقائقها أو قصد غيرها.." (¬2) ، ثم ذكر أمثلة من العقود المعتبر فيها القصد والنية دون اللفظ ... ولا يخفى أن عقد الإسلام بكلمة لا إله إلا الله هو أولى العقود بهذا المعنى وأعلاها شأناً فلا يصح أن يكون اعتبار اللفظ المجرد فيه دون القصد والنية، وهو معنى التوحيد المتضمن إثبات الربوبية اللائقة به سبحانه، وتحقيق العبودية له اللازمة لربوبيته المنفية عمن عداه. الفصل الثالث ردود على شبهات مرجئة العصر الحديث وبعد.. فقد أثارت المرجئة - قديماً وحديثاً - بعض الشبهات التي اعتقدوا أنها تقدح فيما قررناه من قبل، من أن مجرد التلفظ بالشهادتين لا يثبت بمجرده الإسلام، إلا أن يكون دلالة على ترك الشرك والتبرؤ من دين الكفر، وأن المقصود الأول للإسلام هو عبادة الله وحده سبحانه وتعالى وترك الشرك وليس مجرد الإتيان بلفظ لا مدلول له ولا معنى يراد به. ومن هذه الشبهات التي أثاروها: قصة أبي طالب، وجارية معاوية ابن الحكم ومؤمن آل فرعون، وقصة النجاشي. ¬
وقبل أن نرد تفصيلاً على هذه الشبهات، نريد أن نؤكد على معنى هام وهو أن الأصل - أو القاعدة الكلية - إذ تقررت فإنما تتقرر بضم جزئيات كثيرة من مجموع الشريعة ينتظم منها معنى واحد أو أصل واحد يجرى مجرى العموم، فلا يقدح فيه تخلف جزئية عن الدخول تحته، وإنما الأصل إذا تقرر بشواهد من الكتاب والسُّنَّة وغير ذلك من الأدلة الشرعية، فإنه يكون الحاكم على الجزئيات في الشريعة، فلا يمكن بعد ذلك معارضته بجزئية واحدة وردت في نص معين، لأن ذلك يعني معارضة نصوص كثيرة بنص واحد، وهو ما لا يصح شرعاً ولا عقلاً، وأما عند معارضة قضية ما أو نص معين لأصل كلي متقرر في الشريعة، تكون هذه القضية "قضية عين" أو "حكاية حال" لا تقدح في ثبوت الأصل الكلي. وقد ناقش أئمة "أصول الفقه" هذه المسألة في معرض دراستهم لقضية "العموم والخصوص" وخاصة الإمام الشاطبي رحمه الله الذي جلاها أحسن تجلية وبينها أوضح بيان في "الموافقات". فقضايا الأعيان: هي القضايا التي تعارض بظاهرها قاعدة عامة أو مطلقة سواء ثبتت هذه القاعدة بطريق النص العام أو الاستقرار الجزئي. وفي طرق ثبوت العموم يقول الإمام الشاطبي رضي الله عنه: "العموم إذا ثبت فلا يلزم أن يثبت من جهة صيغ العموم فقط بل له طريقان: أحدهما: الصيغ إذا وردت. وهو المشهور في كلام أهل الأصول. والثاني: استقراء مواقع المعنى حتى يحصل منه في الذهن أمر كلي عام فيجري في الحكم مجرى العموم المستفاد من الصيغ" (¬1) اهـ. ويقرر الشاطبي قاعدة قضايا الأعيان فيقول: "إذا ثبتت قاعدة عامة أو مطلقة فلا تؤثر فيها معارضة قضايا الأعيان ولا حكايات الأحوال. والدليل على ذلك أمور: أحدها: أن القاعدة مقطوع بها بالفرض، لأنا إنما نتكلم في الأصول الكلية القطعية، وقضايا الأعيان مظنونة أو متوهمة. والمظنون لا يقف للقطعي ولا يعارضه. ¬
الثاني: أن القاعدة غير محتملة، لاستنادها إلى الأدلة القطعية. وقضايا الأعيان محتملة لإمكان أن تكون على غير ظاهرها، أو على ظاهرها وهي مقتطعة ومستثناة من ذلك الأصل. فلا يمكن والحالة هذه إبطال كلية القاعدة بما هذا شأنه. والثالث: أن قضايا الأعيان جزئية. والقواعد المطردة كليات. ولا تنهض الجزئيات أن تنقض الكليات. ولذلك تبقى أحكام الكليات جارية في الجزئيات وإن لم يظهر فيها معنى الكليات على الخصوص، كما في المسألة السفرية بالنسبة إلى الملك المترف، وكما في الغنى بالنسبة إلى مالك النصاب والنصاب لا يغنيه على الخصوص، وبالضد في مالك غير النصاب وهو به غنى. والرابع: أنها لو عارضتها فإما أن يعملا معاً، أو يهملا، أو يعمل بأحدهما دون الآخر. أعني في محل المعارضة: فإعمالهما معاً باطل وكذلك إهمالهما، لأنه إعمال للمعارضة فيما بين الظني والقطعي. وإعمال الجزئي دون الكلي ترجيح له على الكلي، وهو خلاف القاعدة، فلم يبق إلا الوجه الرابع وهو إعمال الكلي دون الجزئي وهو المطلوب" (¬1) اهـ. ويقول في نفس المعنى: "… لأن الأمر الكلي إذا ثبت فتخلَّف بعض الجزئيات عن مقتضى الكلي لا يخرجه عن كونه كلياً. وأيضاً فإن الغالب الأكثري معتبر في الشريعة اعتبار العام القطعي، لأن المتخلفات الجزئية لا ينتظم منها كلي يعارض هذا الكلي الثابت. إلى قوله: ¬
.. فإذا كان كذلك فالكلية في الاستقرائيات صحيحة، وإن تخلف عن مقتضاها بعض الجزئيات. وأيضاً فالجزئيات المتخلفة قد يكون تخلفها لِحكم خارجة عن مقتضى الكلي فلا تكون داخلة تحته أصلاً. أو تكون داخلة لكن لم يظهر لنا دخولها، أو داخلة عندنا لكن عارضها على الخصوص ما هي به أولى، فالملك المترفه قد يقال إن المشقة تلحقه لكنا لا نحكم عليه بذلك لخفائها، أو نقول في العقوبات التي لم يزدجر صاحبها: إن المصلحة ليست الازدجار فقط، بل ثم أمر آخر وهو كونها كفارة، لأن الحدود كفارات لأهلها وإن كانت زجراً أيضاً على إيقاع المفاسد، وكذلك سائر ما يتوهم أنه خادم للكلي. فعلى كل تقدير لا اعتبار بمعارضة الجزئيات في صحة وضع الكليات للمصالح" (¬1) اهـ. وبعد فسنذكر الرد على بعض الشبهات التي يثيرها المرجئة عن بعض قضايا الأعيان وهي: 1 - أبو طالب. 2 - جارية معاوية بن الحكم. 3 - مؤمن آل فرعون. 4 - النجاشي. (1) أبو طالب: حكى البخاري في كتاب الجنائز من حديث المسيب بن حزن قال: "لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي طالب: يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله. فقال أبوجهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعودان بتلك المقالة حتى قال أبو طالب، آخر ما كلمهم هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول لا إله إلا الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " "أما والله لأستغفرن لك ما لم أنْه عنك"، فأنزل الله تعالى فيه: (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ... الآية) (¬2) . ¬
وقد وقفت مبتدعة العصر الحديث على هذا الحديث فاعتقدوا أن الإسلام كلمة، والنجاة من النار بكلمة أو من الخلود فيها بكلمة لا شيء بعدها. ومن أثبت شيئاً معها لصحة الإسلام فهو من الخوارج بزعمهم. قال الحميدي: سمعت وكيعاً يقول أهل السُّنَّة يقولون الإيمان قول وعمل والمرجئة يقولون الإيمان قول والجهمية يقولون الإيمان المعرفة: وفي رواية أخرى عنه، وهذا كفر" (¬1) . وقد احتج عليهم الإمام أحمد بما أفحمهم في هذا المجال، قال أحمد: "ويلزمه أن يقول هو مؤمن بإقراره، وإن أقر بالزكاة في الجملة ولم يجد في كل مائتي درهم خمسة أنه مؤمن، فيلزمه أن يقول: إذا أقر ثم شد الزنار في وسطه وصلى للصليب وأتى الكنائس والبيع وعمل الكبائر كلها إلا أنه في ذلك مقر بالله فيلزمه أن يكون عنده مؤمناً، وهذه الأشياء من أشنع ما يلزمهم" (¬2) اهـ. أتنجى الكلمة من النار ولو بقى مع تلفظه بها يعبد الأصنام ويستقسم بالأزلام وينذر للات والعزى ويتبرك بها لتقربه إلى الله زلفى، ذلك راجع إلى أهل الخلاف على أن الألفاظ هل تراد لذواتها أم لمعانيها؟ فإن من قال إن الألفاظ تراد لذواتها كان من لازم قوله أن من تلفظ بكلمة التوحيد - لا إله إلا الله - لم يكن قد خرج عن مقتضى اللفظ مع بقائه على ما كان عليه من الشرك من التحاكم إلى الكهان وعبادة الأصنام ومظاهرة المشركين. وهذا تكذيب لصريح القرآن، فعلم أن الألفاظ إنما تراد لمعانيها وإن الكلمة إنما هي التوحيد المتضمن لتوحيد الأسماء والصفات وتوحيد القصد والإرادة والعمل، أي توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، ولم يكن بد من ترك الشرك كله في الربوبية وفي الألوهية، وإفراد الله وحده بالعبادة من نسك وولاية وحكم. ¬
وترك العمل عمل، (وهي قاعدة أصولية) فلابد من القول مع العمل. ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الإسلام: "أن تقول أسلمت لله وتخليت". ومثل هذا في النصوص كثير. ولما كانت القضية هي قضية الإسلام الأولى حسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً لفظياً، وإن كانت واضحة تماماً من حيث المعنى قطعاً، ولكن من يهدي من أضل الله؟ وهذه هي أقواله صلى الله عليه وسلم. 1 - من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله تعالى. 2 - من وحد الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله تعالى. ويقول ربنا عز وجل: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم) . ويقول: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين) أي التزموا الشرائع. ويقول محمد بن نصر المروزي: " فمن كان ظاهره أعمال الإسلام ولا يرجع إلى عقود الإيمان بالغيب، فهو منافق نفاقاً ينقل عن الملة ومن كان عقده الإيمان بالغيب ولا يعمل بأحكام الإيمان وشرائع الإسلام فهو كافر كفراً لا يثبت معه توحيد" (¬1) . وقال سهل بن عبد الله التستري عن الإيمان أنه: "قول وعمل ونية وسُنة، لأن الإيمان إذا كان قولاً بلا عمل فهو كفر، وإذا كان قولاً وعملاً بلا نية فهو نفاق، وإذا كان قولاً وعملاً ونية بلا سُنة فهو بدعة" (¬2) . ويقول ابن تيمية عن أبي طالب: ".. بل أبو طالب وغيره كانوا يحبون النبي صلى الله عليه وسلم ويحبون علو كلمته وليس عندهم حسد له، وكانوا يعلمون صدقه، ولكن كانوا يعلمون في متابعته فراق دين آبائهم وذم قريش لهم، فما احتملت نفوسهم ترك العادة واحتمال هذا الذم، فلم يتركوا الإيمان لعدم العلم بل لهوى النفس، فكيف يقال إن كل كافر إنما كفر لعدم علمه بالله" (¬3) . ¬
وقد سبق نقل ما أورده ابن القيم في زاد المعاد: ".. أن إقرار الكاهن الكتابي لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه نبي، لا يدخله في الإسلام ما لم يلتزم طاعته ومحبته ومتابعته" (¬1) .. الخ. وأبو طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي نصره وشد أزره في طوال السنين العشرة التي عاشها في أول الدعوة، كان يعلم حق العلم معنى دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويفهم أن دعوة "لا إله إلا الله" هي بذاتها دعوة هدم الأصنام، لتحل محلها تلك الكلمة، فيرد الأمر كله إلى الله عز وجل وحده. فالتوجه بالدعاء والشعائر والرجاء والخوف والتوكل، سيكون لله مباشرة، وليس للأصنام، والولاء والتناصر سيكون لله وفي الله. والتحاكم إلى الله وحق التشريع لله، وهو الحق الذي اغتصبه الوثنيون فأعطوه للأصنام، وما في معناها.. ففهم أبو طالب أن كل هذه المعاني هي مقتضى الكلمة التي دعاه إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفهم منها أنها نظام متكامل يهدم النظام الذي يعيشون عليه، والذي بنى على أساس الإشراك بالله. فكان أن رفض أبو طالب ذلك الأمر كله. ولم يرفض مجرد التلفظ بكلمة ليس لها مضمون ولا محتوى. فإذن ما كان يريده رسول الله صلى الله عليه وسلم منه هو التوبة عن الشرك، والانخلاع من عبادة غير الله، وأن يلقى الله على غير دين عبد المطلب، بل على دين إبراهيم ومحمد صلوات الله وسلامه عليهما، والعبودية لله وحده بقبول شرعه، ورفض ما سواه، مع الإقرار بالتوحيد وصحة الرسالة، وهي أشياء لا تتوقف على دخول وقت، ولا حولان حول، ولا انتفاء مانع، ولا غير ذلك مما يلزم وجوده في الفروع دون الأصل. ¬
ثم، أليست هذه الكلمة التى دعا إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب حينما تلا عليهم قول الله تعالى: "قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضا أرباباً من دون الله فإن تولوا [أي عن التوحيد كما قال العلماء] فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون" (¬1) . فهذه الكلمة هي عهد وميثاق مع الله على الإقرار بالتوحيد والانخلاع من الشرك وإفراد الله بالعبودية. (2) جارية معاوية بن الحكم: قال معقل بن عبيد الله العنسي بعد كلام: "فلقيت الحكم بن عتبة فقلت له: إن عبد الكريم وميموناً بلغهما أنه دخل عليك ناس من المرجئة، فعرضوا قولهم عليك فقبلت قولهم؟ ، فقال: فقيل ذلك على ميمون وعبد الكريم؟! لقد دخل علىَّ اثنا عشر رجلاً وأنا مريض، فقالوا: يا أبا محمد بلغك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه رجل بأمة سوداء أو حبشية فقال: يا رسول الله، علىَّ رقبة مؤمنة، أفترى هذه مؤمنة؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتشهدين أن لا إله إلا الله، فقالت: نعم، قال: وتشهدين أن محمداً رسول الله، قالت: نعم، قال: وتشهدين أن الجنة حق والنار حق؟ ، قالت: نعم قال: وتشهدين أن الله يبعثك بعد الموت، قالت: نعم. قال فأعتقها فإنها مؤمنة. فخرجوا وهم ينتحلون ذلك" (¬2) اهـ. وفي رواية أخرى، قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أين الله، فقالت: في السماء، ومن أنا؟ فقالت: رسول الله، فقال: اعتقها فإنها مؤمنة". ¬
والقصة أصلاً بصدد عتق الكفارة، أي الرقاب فيها يجزئ؟ ولذلك تنازع الفقهاء في أي الرقاب يجزئ عتقه، وذلك لكلمة مؤمنة التي جاءت في آيات العتق الخاص بالكفارات، وتنازعوا هل يجزئ الصغير به، على قولين معروفين للسلف، هما روايتان عن أحمد. فقيل لا يجزئ عتقه لأن الإيمان قول وعمل، والصغير لا يؤمن بنفسه، وإنما إيمانه تبع لأبويه في أحكام الدنيا، ولم يشترط أحد أن يعلم هل هو مؤمن في الباطن أم لا. وقيل: يجزئ عتقه لأن العتق من الأحكام الظاهرة وهو تبع لأبويه، فكما أنه يرث منهما، ويصلي عليه، ولا يصلي إلا على مؤمن فإنه يعتق.
وهي قضية عين تنزل على مقتضى القواعد الكلية. ولم يرد في القصة أن هذا كان ابتداء إسلامها، وكذلك لم يرد أنها عندما أقرت به بما أقرت به لم تدخل فيما دخل فيه غيرها من المسلمين. أو لم تكن قد دخلت فعلاً فيما دخل فيه المسلمون. وقد تكون القصة وردت لتبين أي قدر من الإيمان يلزم للعتق، وعلى كل حال فقضايا الأعيان ترتبط بملابساتها دائماً، ولا يمكن أن يقدح حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم سواء في هذه الحادثة أو في غيرها في القواعد والأصول، ولهذا لم يقدح حبس ثمامة بن أثال، في سارية المسجد، في عموم النهي عن دخول كل المشركين لكل المساجد. وقد جاء في الرواية الأخرى، أنه عندما سألها أين الله؟ ، قالت: في السماء. وقد اختلف المتكلمون أنفسهم في الرد على هذا السؤال، فالمعتزلة قالت: في كل مكان، وقالت الأشاعرة: لا في داخل العالم ولا في خارجه، وقال السلف في السماء فوق عرشه من غير تحيز، وكلهم يشهد أن لا إله إلا الله (¬1) ! فإذا كان اللفظ يثبت إسلاماً، لوجب اعتبار العباس مسلماً بقوله لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد كنت مسلماً – مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعتبره كذلك بمجرد هذا القول – ولوجب اعتبار من تكلم بالإسلام في مكة مع مظاهرتهم للمشركين مسلمين بمجرد القول، كذلك فإن الذين قالوا: صبأنا لم يمكن القطع بإسلامهم في الحال بناءً على القول، ولا فرق كما قلنا بين ذلك وبين قول الجارية. ¬
وقضايا الأعيان ليست محل بيان حتى يقال عدم البيان في موضع البيان، بيان للعدم، وإنما البيان تكفلت به القواعد. 3- النجاشي: يقول ابن تيمية في كتاب الإيمان: "وكذلك لو قيل إن رجلاً يشهد أن محمداً رسول الله باطناً وظاهراً، وقد طلب منه ذلك، وليس هناك رهبة ولا رغبة يمتنع لأجلها، فامتنع منها حتى قتل، فهذا يمتنع أن يكون في الباطن يشهد أن محمداً رسول الله، ولهذا كان القول الظاهر، من الإيمان الذي لا نجاة للعبد إلا به عند عامة السلف والخلف من الأولين والآخرين إلا الجهمية (جهماً ومن وافقه) فإنه إذا قدر أنه معذور لكونه أخرس أو لكونه خائفاً من قوم إن أظهر الإسلام آذوه، ونحو ذلك، فهذا يمكن أن لا يتكلم مع إيمان في قلبه، كالمكره على كلمة الكفر، قال الله تعالى: (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم) ، وهذه الآية مما يدل على فساد قول جهم، فإنه جعل كل من تكلم بالكفر، من أهل وعيد الكفار، إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان، فإن قيل: فقد قال تعالى (ولكن من شرح بالكفر صدراً) ، قيل: هذا موافق لأولها، فإنه من كفر من غير إكراه فقد شرح بالكفر صدراً، وإلا تناقض أول الآية وآخرها، ولو كان المراد بمن كفر هو الشارح صدره، وذلك يكون بلا إكراه، لم يستثن المكره فقط، بل كان يجب أن يستثنى المكره وغير المكره إذا لم يشرح صدره، وإذا تكلم بكلمة الكفر طوعاً فقد شرح بها صدراً وهي كفر.. الخ" (¬1) اهـ. ولذلك قال بعضهم: النجاشي شهد الرسول صلى الله عليه وسلم بإسلامه، وقد كان على رأس نظام الكفر والتثليث بالحبشة، ولم يعترف بالإسلام اعترافاً جازماً خوفاً على ملكه، وإنما هي إشارة عرف منها الرسول إيمانه.. فنقول وبالله التوفيق: ¬
1- أنهم اعتمدوا في هذا الذي قرروه على ما رواه ابن هشام عن ابن اسحق عن جعفر بن محمد عن أبيه، من خروج الحبشة على النجاشي، وقولهم له: "فارقت ديننا وزعمت أن عيسى عبد؟ قال: فما تقولون في عيسى؟ قالوا: نقول هو ابن الله. فقال النجاشي ووضع يده على صدره على قبائه، وهو يشهد أن عيسى ابن مريم لم يزد على هذا شيئاً، إنما يعني ما كتب في قبائه، وكان قد كتب فيه هو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويشهد أن عيسى ابن مريم عبده ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم، فرضوا وانصرفوا، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فلما مات النجاشي صلى عليه واستغفر له". وما رواه ابن اسحق عن جعفر بن محمد لم يتحدد له وقت، فلعله كان في البداية، ليوافق ما جاء في حديث أم سلمة من خروج رجل من الحبشة عليه. ولكن حديث أم سلمة كله ليس فيه إشارة إلى إسلام النجاشي. والثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل إليه عمرو بن أمية الضمري بعد غزوة الخندق يدعوه إلى الإسلام، فأخبره النجاشي أنه أسلم على يدي جعفر. ولم تكن هذه هي بعثة عمرو بن أمية الضمري الأولى إلى النجاشي، بل كانت الأخيرة، أما الأولى فقد كانت بعد غزوة بدر، فيتضح من هذا أن إسلام النجاشي كان بين غزوة بدر وغزوة الخندق، ولقد عاد عمرو وجعفر وكل من في الحبشة من المسلمين عقيب فتح خيبر، وهذا هو بعض حديث أم سلمة: ".. قالت: فقرأ عليه صدراً من "كهيعص" قالت: فبكى والله النجاشي حتى اخضلت لحيته، وبكت أساقفته حتى اخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا، فلا والله لا أسلمهم إليكما ولا يكادون".
وكانت هذه زيارة عمرو بن العاص الأولى له بعد هجرة المسلمين إلى الحبشة، وقبل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. وفي حديثها أيضاً: "قالت: فلما دخلوا عليه قال لهم: ماذا تقولون في عيسى ابن مريم؟ قالت: قال جعفر بن أبي طالب: نقول فيه الذي جاءنا به نبينا صلى الله عليه وسلم، هو عبد الله ورسوله وروحه، وكلمة ألقاها إلى مريم العذراء البتول، قالت، فضرب النجاشي بيده الأرض فأخذ منها عوداً، ثم قال: والله ما عدا عيسى ابن مريم ما قلت هذا العود، قالت: فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال، فقال: وإن نخرتم والله، اذهبوا فأنتم شؤم بأرضي، والشيوم الآمنون". ثم ذكرت أن رجلاً من الحبشة خرج عليه ينازعه ملكه، وأن النجاشي انتصر عليه، واستقر له أمر الحبشة ومكن الله له فيها. ثم قالت: فكنا عنده في خير منزل، حتى قدمنا على رسول الله عليه وسلم بمكة، وقد هاجرت بعد ذلك أم سلمة إلى المدينة بعد هجرة زوجها أبو سلمة بنحو عام، ثم توفي زوجها، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال سنة أربع من الهجرة. "سيرة ابن هشام" (¬1) . 2- أورد القرطبي في تفسيره لقوله تعالى: (لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا، ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى..) الخ. ¬
وهذه الآية نزلت في النجاشي وأصحابه لما قدم عليهم المسلمون في الهجرة الأولى، حسب ما هو مشهور في سيرة ابن اسحق وغيره. خوفاً من المشركين وفتنتهم وكانوا ذوي عدد. ثم هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد ذلك، فلم يقدروا على الوصول إليه، حالت بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم الحرب، فلما كانت وقعة بدر، وقتل الله فيها صناديد الكفار، قال كفار قريش: إن ثأركم بأرض الحبشة، فاهدوا إلى النجاشي وابعثوا إليه رجلين من ذوي رأيكم، لعله يعطيكم من عنده فتقتلونهم بمن قتل منكم ببدر، فبعث كفار قريش عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة بهدايا، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري وكتب معه إلى النجاشي، فقدم على النجاشي فقرأ كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم دعا جعفر بن أبي طالب والمهاجرين، وأرسل إلى الرهبان والقسيسين فجمعهم، ثم أمر جعفر أن يقرأ عليهم القرآن، فقرأ سورة مريم، فقاموا تفيض أعينهم من الدمع. فهم الذين أنزل الله فيهم: (ولتجدن أقربهم مودة الذين آمنوا.. – وقرأ إلى – الشاهدين) (¬1) رواه أبو داود. 3- جاء في "زاد المعاد" جـ3 صـ06 في ذكر خطابه صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي قال: ".. وبعث بالكتاب مع عمرو بن أمية الضمري، فقال ابن اسحق إن عمراً قال له: يا أصحمة إن علي القول وعليك الاستماع، إنك كأنك في الرقة علينا، وكأنا في الثقة بك منك، لأنا لم نظن بك خيراً قط إلا نلناه، ولم نخفك على شئ قط إلا أمناه، وقد أخذنا الحجة عليك من فيك، الإنجيل بيننا وبينك شاهد لا يرد، وقاض لا يجور، وفي ذلك الموقع الحز وإصابة المفصل، وإلا فأنت في هذا النبي الأمي، كاليهود في عيسى ابن مريم. ¬
وقد فرق النبي صلى الله عليه وسلم رسله إلى الناس، فرجاك لما لم يرجهم له، وأمنك على ما أخافهم عليه، بخير سالف وأجر ينتظر، فقال النجاشي: أشهد بالله أنه النبي الأمي الذي ينتظره أهل الكتاب، وأن بشارة موسى براكب الحمار، كبشارة عيسى براكب الجمل، وأن العيان ليس بأشفى من الخير. ويقول في رده على الرسول صلى الله عليه وسلم: "أما بعد فقد بلغني كتابك يا رسول الله، فيما ذكرت من أمر عيسي، فورب السماء والأرض إن عيسى لا يزيد على ما ذكرت تفروقاً (¬1) ، إنه كما ذكرت وقد عرفنا ما بعث به إلينا، وقد عرفنا ابن عمك وأصحابك، فأشهد أنك رسول الله صادقاً مصدقاً وقد بايعتك وبايعت ابن عمك وأسلمت على يديه لله رب العالمين. وتوفي النجاشي سنة تسع، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بموته ذلك اليوم، فخرج بالناس إلى المصلى فصلى عليه وكبر أربعاً. قلت: وهذا وهم والله أعلم، وقد خلط راويه ولم يميز بين النجاشي الذي كتب إليه يدعوه فهما اثنان، وقد جاء ذلك مبيناً في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى النجاشي وليس بالذي صلى عليه " (¬2) . 4- جاء في زاد المعاد جـ3ص62 في كتابه صلى الله عليه وسلم إلى ملك عمان: "فسألني أين كان إسلامك (¬3) ، قلت عند النجاشي، وأخبرته أن النجاشي قد أسلم، قال فكيف صنع قومه بملكه؟ فقلت: أقروه واتبعوه، قال: والأساقفة والرهبان تبعوه؟ قلت نعم.." إلى أن يقول: ¬
"ما أرى هرقل علم بإسلام النجاشي؟ قلت: بلى. قال: بأي شئ علمت ذلك؟ قلت: كان النجاشي يخرج له خرجاً، فلما أسلم وصدق بمحمد صلى الله عليه وسلم قال: لا والله لو سألني درهماً واحداً ما أعطيته. فبلغ هرقل قوله فقال له النياق أخوه: أتدع عبدك لا يخرج لك خرجاً ويدين بدين غيرك ديناً محدثاً به. قال هرقل: رجل رغب في دين فاختاره لنفسه، ما أصنع به، والله لولا الضن بملكي لصنعت كما صنع" (¬1) . 5- وما ذكره في "زاد المعاد" عن كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي مع عمرو بن أمية الضمري، وما ذكره أيضاً عن بعثة عمرو بن العاص إلى عبد وجيفر ابني الجلندي، وحواره مع عبد بن الجلندي، يتفق مع ما جاء في سيرة ابن هشام أن عمرو بن العاص بعد غزوة الخندق، وإحساسه باقتراب ظهور أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قرر هو ونفر من قريش أن يرتحلوا إلى الحبشة، فإن ظهرت قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد إلى مكة، وإن ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان هو عند النجاشي فلا يصل إليه، ثم إنه لما وصل الحبشة، وزار النجاشي، وقرب إليه ما معه من هدايا، وجد عنده عمرو بن أمية الضمري، فسأله أن يعطيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتله، فغضب النجاشي، وضربه بمروحته ضربة كاد يطير لها أنفه، وقال له: تسألني أن أعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى لتقتله؟ ، قلت: أيها الملك أكذاك هو؟ ، قال: ويحك يا عمرو أطعني واتبعه فإنه والله على الحق، وليظهرن على من خالفه كما ظهر موسى على فرعون وجنوده، قال: قلت: أتبايعني على الإسلام؟ قال: نعم، فبسط يده فبايعته على الإسلام، ثم خرجت إلى أصحابي وقد حال رأي عما كان عليه، وكتمت أصحابي إسلامي. ¬
وبعد كل هذا يقال عن العبد الصالح النجاشي، أنه عندما اعترف بالإسلام، لم يعترف اعترافاً جازماً، وكان على رأس نظام الكفر والتثليث، يحكم بغير ما أنزل الله، عجباً! لقد قالوا ما لو أدركه "على عبد الرازق" قبل شؤمه الذي كتب، لاشتد بهم فرحه. 6- أما عن إمكان الخلط بين كون النجاشي مات ملكاً ولم يحكم بحكم الله، فهو وهم كما بينا، نتج من اعتبار أن النجاشي الذي كتب له رسول الله صلى الله عليه وسلم عام ست هجرية ومات ملكاً عام تسع، هو النجاشي الذي قابله عمرو بن العاص، والذي صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن هذا غير ذاك، كما ذكر ابن القيم في "زاد المعاد"، وذكر أن صحيح مسلم أوضح ذلك. جاء في صحيح مسلم::حدثني يوسف بن حماد والمعنى حدثنا عبد الأعلى عن سعيد عن قتادة عن أنس أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى وإلى قيصر وإلى النجاشي وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله تعالى، وليس بالنجاشي الذي صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم". وذكر مسلم نفس الحديث بسندين مختلفين عن هذا، كلها عن أنس، ولم يذكر فيها قوله: "وليس بالنجاشي" ولكن يتضح من مقارنة ذلك مع قصة عمرو بن العاص، أن رواة السندين الأخيرين قد وهموا، أو نسوا ما ثبت في رواية الطريق الأول. والله أعلم.
ويؤيد ذلك ما ورد في "البداية والنهاية" لابن كثير، فقد قال في روايته عن هجرة المسلمين الأولين إلى الحبشة، وذكر خطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي سنة تسع قال: ".. هكذا ذكره البيهقي بعد قصة هجرة الحبشة، وفي ذكره ههنا نظر، فإن الظاهر أن هذا الكتاب، إنما هو إلى النجاشي الذي كان بعد المسلم، صاحب جعفر وأصحابه، وذلك حين كتب إلى ملوك الأرض يدعوهم إلى الله عز وجل، قبيل الفتح، كما كتب إلى هرقل عظيم الروم.. إلى قوله:".. فهذا الكتاب إلى الثاني لا إلى الأول، وقوله فيه إلى النجاشي الأصحم، لعل الأصحم مقحم من الراوي بحسب ما فهم. والله أعلم) اهـ. ثم أورد بعدها خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي الأول، الذي أرسله مع عمرو بن أمية الضمري، ورد النجاشي عليه، قال فيه: ".. فأشهد أنك رسول الله صادقاً مصدقاً، وقد بايعتك وبايعت ابن عمك وأسلمت على يديه لله رب العالمين، وقد بعثت إليك يا نبي الله بأريحا بن الأصحم بن أبجر، فإني لا أملك إلا نفسي، وإن شئت أن آتيك فعلت يا رسول الله، فإني أشهد أن ما تقول حق". (4) مؤمن آل فرعون:
لم يرد في القرآن ولا في غيره من النصوص، أن مؤمن آل فرعون كان يكتم عن موسى والمؤمنين معه، وإلا كيف يحكمون بإسلامه ويعاملونه على أنه مسلم مؤمن معهم، وهو يكتم عنهم أمره، وإنما كان يكتم أمره عن فرعون وملأه، ولا يعني هذا أنه كان يوالي فرعون، أو يلتزم بشريعته، بل شأنه في ذلك شأن نعيم بن مسعود عندما أسلم، إبان غزوة الخندق، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما عرض عليه نعيم جهاده:"إنما أنت رجل واحد فخذل عنا" وطلب منه أن يكتم إيمانه حتى ينجح في مهمته، ففعل نعيم ما فعل مع أبي سفيان وبني قريظة وغيرهم، وهم لا يعلمون أنه على دين محمد، لأنه كتم عنهم إسلامه، وكفعل محمد بن مسلمة، عندما قتل كعب بن الأشرف، واستأذن الرسول عليه الصلاة والسلام أن يذكره فأذن له، فجعل محمد بن مسلمة يشكو إلى كعب شأن محمد وأصحابه، ليظن كعب أن به نفاقاً، فيأمنه، وقد كان، وبهذا استطاع أن يقتله، وكما كان المسلمون يستخفون بإسلامهم في مكة، فإنهم كانوا يكتمون إيمانهم عن قومهم حتى يأمنوا أذاهم، ولكن كان الرسول عليه الصلاة والسلام ومن معه ومعهم من المؤمنين يعلمون شأنهم. وليس معنى أنهم كانوا يكتمون إيمانهم عن قومهم أنهم كانوا يعبدون معهم الأصنام، أو يذبحون على النصب،أو يستحلون الميتة، أو يأدون البنات، أو يتحاكمون إلى الكهان. كلا، وإنما فقط مع اعتزالهم، لكل ذلك لا يعلنون أنهم اتبعوا محمداً صلى الله عليه وسلم، وكانت موالاتهم للرسول والمؤمنين بالشرائع، هي الأساس الذي قام عليه إسلامهم؟ قام على العبودية لله بقبول شرعه، ورفض ما سواه وهو معنى الالتزام بالشرائع جملة وعلى الغيب، وهذا هو معنى استسلامهم لشريعة الله، حتى قبل أن ينزل منها فرض واحد.
وكذلك شأن مؤمن آل فرعون. ثم الرجل قد أعلن إيمانه كالراسيات الشوامخ، وصدع بالحق في وجه فرعون وجنوده حين حان الحين لذلك، كما يتبين من قصته في القرآن الكريم. الباب الثالث في الرد على الخوارج (¬1) ¬
الفصل الأول مجمل أقوال الخوارج وعلى الطرف النقيض للمرجئة – الذين أشاعوا الفسق بآرائهم، فانتشرت المعاصي واستبيحت حرمات الله – كانت أقوال الخوارج وشبهاتهم – قديماً وحديثاً – مثالاً للتنطع في الدين في غير موضعه، نظراً لظروف النشأة السياسية لهم، فخرجوا عن عقائد أهل السُّنَّة والجماعة، وغلوا في دينهم، ونظروا إلى النصوص نظرة سطحية لا تنفذ إلى المعاني، يقرؤون القرآن ولا يجمعون بين نصوصه، كما هو حال أهل الأهواء والبدع جميعاً، فصدق عليهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " سيخرج قوم في آخر الزمان حداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم يوم القيامة" متفق عليه. وقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم بسنده عن أبي سعيد قال: "بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم قسماً فأتاه ذو الخويصرة وهو رجل من بني تميم، قال: يا رسول الله اعدل، فقال: ويلك، فمن يعدل إذا لم أعدل، قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل. فقال عمر: يا رسول الله أتأذن لي فيه فأضرب عنقه؟ فقال: دعه فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شئ، ثم ينظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شئ، ثم ينظر إلى نفسه – وهو قدحه – فلا يوجد فيه شئ، ثم ينظر إلى قذذه فلا يوجد فيه شئ، قد سبق الفرث والدم" (¬1) . ¬
ومجموع صفاتهم تدل على شدة تعبدهم والتزامهم بالأمر، إلا أن ذلك ليس بدافعهم لبدعتهم في تكفير المسلمين وقتلهم أهل القبلة، وشذوذهم في الرأي الذي بنوا عليه مذهبهم في ذلك، ومخالفتهم لأهل السُّنَّة والجماعة في منهج النظر إلى النصوص الشرعية، ومن ثم في النتيجة التي وصلوا إليها بمنهاجهم الأعوج، وفهمهم السقيم. وسنورد – إن شاء الله تعالى – مجمل أقوالهم وشبهاتهم وأدلتهم عليها، ثم نفصل القول فيها بعد ذلك لننقضها شبهة شبهة. سائلين الله التوفيق والهداية للحق بإذنه. مجمل أقوالهم: (1) قالوا: إن الأعمال كلها داخلة في مسمى الإيمان، فهو قول وعمل، لكنه ثابت لا يزيد ولا ينقص، فإن ذهب أحد أوصافه أو أجزائه ذهب كله جملة واحدة، ولم يصح وصف صاحبه بالإيمان مطلقاً بل هو كافر طالما عرف ذنبه ولم يتب منه. يقول ابن تيمية: (ثم قالت الخوارج والمعتزلة: الطاعات كلها من الإيمان، فإذا ذهب بعضها ذهب بعض الإيمان فذهب سائره، فحكموا بأن صاحب الكبيرة ليس معه شئ من الإيمان) (¬1) . ثم يفصل جماع شبهتهم في ذلك فيقول: (وجماع شبهتهم في ذلك أن الحقيقة المركبة تزول بزوال بعض أجزائها، كالعشرة فإنه إذا زال بعضها لم تبق عشرة وكذلك الأجسام المركبة كالسكنجبين (¬2) إذا زال أحد جزئيه خرج عن كونه سكنجبيناً. قالوا: فإذا كان الإيمان مركب من أقوال وأعمال، ظاهرة وباطنة، لزم زواله بزوال بعضها، وهذا قول الخوارج والمعتزلة، قالوا: ولأنه يلزم أن يكون الرجل مؤمناً بما فيه من الإيمان، كافراً بما فيه من الكفر، فيقوم به كفر وإيمان، وادعوا أن هذا خلاف الإجماع) (¬3) . ¬
(2) كما كان من نتيجة ذلك أنهم سووا بين أعمال الكفر وأعمال المعاصي، فجعلوا من يفعل المعصية كافراً، وجعلوها كلها - بذلك النظر - أفعال مكفرة ما لم يتب منها، فأنكروا انقسام الذنوب إلى شرك وإلى معاصي دون الشرك، واستدلوا على كفر العاصي بأدلة - بزعمهم - منها: 1 - أن الله سبحانه قد أطلق اسم الإيمان على الأعمال كلها - فعلاً وتركاً - فتكون كلها داخلة في أصله، فمن ترك منها شيئاً نزع عنه وصف الإيمان جملة وكان كافراً كما قلنا من قبل. 2 - قول الله تعالى في مواضع متعددة من كتابه أن معصية الله ورسوله تدخل النار مع الخلود فيها كقوله تعالى: (ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها وله عذاب مهين) (¬1) . وقوله تعالى: (ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبداً) (¬2) . وقوله تعالى: (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) (¬3) . فحملوا لفظ المعصية في الآيات على مطلق المعصية أو الذنب، وأن الخلود في النار يعني الكفر. وكذلك وصفه تعالى لبعض مرتكبي المعاصي بأنهم من أصحاب النار الخالدين فيها.. قالوا فهم كافرون بهذا، كقوله تعالى: (ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً) (¬4) واستدلوا على ذلك بأن إبليس إنما كفر بمعصية الله سبحانه في عدم طاعته للأمر بالسجود لآدم، ومثله كل عاص لله تارك لأمره. 3- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكر بعض المعاصي في أحاديثه الصحيحة وأطلق عليها اسم الكفر: مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "اثنتان في الناس هما بهم كفر، الطعن في النسب، والنياحة على الميت" (¬5) . وقوله صلى الله عليه وسلم: "أيما عبد أبق من مواليه فقد كفر حتى يرجع إليهم" (¬6) . ¬
وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ترجعوا بعدي كفاراً بضرب بعضكم رقاب بعض" (¬1) . وقوله صلى الله عليه وسلم: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر" (¬2) . وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا كَفَّر الرجل أخاه فقد باء بها أحدهما" (¬3) . وقد حملوا الكفر في هذه الأحاديث على الكفر الأكبر الناقل عن الملة لمرتكب هذه المعصية مطلباً. كذلك وصفه صلى الله عليه وسلم لمرتكب المعاصي أنهم ليسوا مؤمنين: كقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن" (¬4) . وقوله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات لخلق الله" (¬5) . وقوله صلى الله عليه وسلم: "صنفان من أهل النار لم أرهما، قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها لتوجد من مسيرة كذا وكذا" (¬6) . فحملوا قوله صلى الله عليه وسلم على مرتكب المعصية أنه ليس بمؤمن يعني كافراً، وكذلك أن لعنة الله تعني كفر من لعنه الله، كما قال الله تعالى: (فلعنة الله على الكافرين) (¬7) فلعنة الله إذن لا يستحقها إلا الكافر. ثم كان من نتيجة هذا أن جوزوا الكفر على الأنبياء عليهم السلام، وادعوا أن آدم عليه السلام قد كفر بالله بأكله من الشجرة، ثم تاب بعد ذلك، وذلك قوله تعالى: (وعصى آدم ربه فغوى) (¬8) الآية. ¬
4- وأن الآيات التي وردت في القرآن الكريم كلها تفيد أن مغفرة الله ورحمته مرتبطة بالتوبة من الذنب أو المعصية، فإن لم يتب منها فهو غير مغفور له لا محالة، فيدخل بها النار خالداً فيها ويكون بذلك كافراً. واستدلوا بالنصوص التي سبق أن أوردناها للاستدلال على المرجئة، ولكن جعلوا عدم المغفرة للذنب مستلزماً لكفر العاصي والتخليد في النار، على العكس من قول أهل السُّنَّة الذين جعلوا ذلك مستحقاً للعذاب ولكن إلى أجل مسمى يخرج بعده من النار إن كان من الموحدين. وسنبين إن شاء الله تعالى فساد هذا الأدلة التي أوردوها (¬1) ¬
، وعدم صحة المعاني التي حملوها عليها ومعناها الصحيح عند أهل السُّنَّة. فأما عن عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة في الإيمان، فقد سبق أن أوضحناها، وأنه قول وعمل يزيد وينقص، كما ناقشنا أصل الإيمان، وعلاقة الأعمال به - سواء الأعمال المشترطة لصحة الإسلام، أو لزوم جنس الأعمال مطلقاً في الأصل ليصدق قوله عمله - ومعنى قولهم بأن زيادة الإيمان بالطاعات ونقصانه بالمعاصي. وأما عن شبهتهم التي أوردها ابن تيمية والتي بنوا عليها قولهم بزوال الإيمان جملة لزوال أحد أوصافه، فقد أوضح ابن تيمية أن مذهبهم هذا في تشبيه الإيمان بالحقيقة المركبة خاطئ من أساسه، فإن هذه أشبه بالحقيقة الجامعة - التي تجتمع من صفات متعددة - ليس المركبة، وفرق بينهما. يقول ابن تيمية: "فإن الحقيقة الجامعة لأمور - سواء كانت في الأعيان أو الأعراض - إذا زال بعض تلك الأمور فقد يزول سائرها وقد لا يزول، ولا يلزم من زوال بعض الأمور المجتمعة زوال سائرها، وسواء سميت مركبة أو مؤلفة أو غير ذلك، لا يلزم من زوال بعض الأجزاء زوال سائرها، وما مثلوا به من العشرة. والسكنجبين مطابق لذلك، فإن الواحد من العشرة إذا زال لم يلزم زوال التسعة، بل قد تبقى التسعة، فإذا زال أحد جزئي المركب لا يلزم زوال الجزء الآخر، ولكن أكثر ما يقولون زالت الصورة المجتمعة، وزالت الهيئة الاجتماعية، وزال ذلك الاسم الذي استحقته الهيئة بذلك الاجتماع والتركيب، كما يزول اسم العشرة والسكنجبين. فيقال: أما كون ذلك المجتمع المركب ما بقى على تركيبه، فهذا لا ينازع فيه عاقل، ولا يدعي عاقل أن الإيمان، أو الصلاة، أو الحج، أو غير ذلك من العبادات المتناولة لأمور، إذا زال بعضها بقى ذلك المجتمع المركب كما كان قبل زوال بعضه، ولا يقول أحد أن الشجرة أو الدار إذا زال بعضها بقيت مجتمعة كما كانت، ولا أن الإنسان أو غيره من الحيوان إذا زال بعض أعضائه بقى مجموعاً.
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء". فالمجتمعة الخلق بعد الجدع لا تبقى مجتمعة، ولكن لا يلزم زوال بقية الأجزاء، وأما زوال الاسم فيقال لهم: هذا أولاً: بحث لفظى، إذا قدر أن الإيمان له أبعاض وشعب، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: "الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان" كما أن الصلاة والحج له أجزاء وشعب، ولا يلزم من زوال شعبة من شعبه زوال سائر الأجزاء والشعب، كما لا يلزم من زوال بعض أجزاء الحج والصلاة زوال سائر الأجزاء، فدعواهم أنه إذا زال بعض المركب زال البعض الآخر ليس بصواب، ونحن نسلم لهم أنه ما بقى إلا بعضه لا كله، وأن الهيئة الاجتماعية ما بقيت كما كانت. يبقى النزاع هل يلزم زوال الاسم بزوال الأجزاء، فيقال لهم: المركبات في ذلك على وجهين: منها: ما يكون التركيب شرطاً في إطلاق الاسم. ومنها: ما لا يكون كذلك. فالأول كاسم العشرة وكذلك السكنجبين، ومنها ما يبقى الاسم بعد زوال بعض الأجزاء، وجميع المركبات المتشابهة الأجزاء من هذا الباب، وكذلك كثير من المختلفة الأجزاء، فإن المكيلات والموزونات تسمى حنطة وهي بعد النقص حنطة وكذلك التراب والماء ونحو ذلك. وكذلك لفظ العبادة، والطاعة، والخير، والحسنة، والإحسان، والصدقة، والعلم، ونحو ذلك مما يدخل فيه أمور كثيرة، يطلق الاسم عليها قليلها وكثيرها، وعند زوال بعض الأجزاء وبقاء بعض، وكذلك لفظ "القرآن"، فيقال على جميعه وعلى بعضه ولو نزل قرآن أكثر من هذا لسمى قرآناً، وقد تسمى الكتب القديمة قرآناً. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"خفف على داود القرآن".
وكذلك لفظ القول والكلام والمنطق ونحو ذلك، يقع على القليل من ذلك وعلى الكثير. وكذلك لفظ الذكر والدعاء يقال للقليل والكثير، وكذلك لفظ الجبل يقال على الجبل وإن ذهب منه أجزاء كثيرة، ولفظ البحر والنهر يقال عليه وإن نقصت أجزاؤه، وكذلك المدينة والدار والقرية والمسجد ونحو ذلك يقال على الجملة المجتمعة، ثم ينقص كثير من أجزائها والاسم باق، وكذلك أسماء الحيوان والنبات كلفظ الشجرة يقال على جملتها فيدخل فيها الأغصان وغيرها ثم يقطع منها ما يقطع والاسم باق، وكذلك لفظ الإنسان والفرس والحمار يقال على الحيوان المجتمع الخلق، ثم يذهب كثير من أعضائه والاسم باق.. إلى أن قال:- ومعلوم أن اسم "الإيمان" من هذا الباب، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال "الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان". ثم من المعلوم أنه إذا زالت الإماطة ونحوها لم يزل اسم الإيمان. وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين أنه قال: "ويخرج من النار من كان في قلبه مثال حبة من إيمان، فأخبر أنه يتبعض ويبقى بعضه، وأن ذاك من الإيمان، فعلم أن بعض الإيمان يزول ويبقى بعضه، وهذا ينقض مآخذهم الفاسدة، ويبين أن اسم الإيمان مثل اسم القرآن، والصلاة، والحج، ونحو ذلك. أما الحج ونحوه ففيه أجزاء ينقص الحج بزوالها عن كماله الواجب ولا يبطل، كرمي الجمار، والمبيت بمنى، ونحو ذلك. وفيه أجزاء ينقص بزوالها من كماله المستحب، كرفع الصوت بالإهلال، والرمل والاضطباع في الطواف الأول.
وكذلك الصلاة فيها أجزاء تنقص بزوالها عن كمال الاستحباب، وفيها أجزاء واجبة تنقص بزوالها عن الكمال الواجب مع الصحة، في مذهب أبي حنيفة وأحمد ومالك، وفيها ما له أجزاء إذا زالت جبر نقصها بسجود السهو، وأمور ليست كذلك، فقد رأيت أجزاء الشئ تختلف أحكامها شرعاً وطبعاً، فإذا قال المعترض: هذا الجزء داخل في الحقيقة، وهذا خارج عن الحقيقة، قيل له: ماذا تريد بالحقيقة؟ فإن قال: أريد بذلك ما إذا زال صار صاحبه كافراً، قيل له: ليس للإيمان حقيقة واحدة، مثل حقيقة مسمى "مسلم" في حق جميع المكلفين في جميع الأزمان بهذا الاعتبار، مثل حقيقة السواد والبياض، بل الإيمان والكفر يختلف باختلاف المكلف وبلوغ التكليف له، وبزوال الخطاب الذي به التكليف ونحو ذلك وكذلك الإيمان والواجب على غيره مطلق (¬1) لا مثل الإيمان الواجب عليه في كل وقت، فإن الله لما بعث محمداً رسولاً إلى الخلق، كان الواجب على الخلق تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، ولم يأمرهم حينئذ بالصلوات الخمس، ولا صيام شهر رمضان ولا حج البيت ولا حرم عليهم الخمر والربا، ونحو ذلك، ولا كان أكثر القرآن قد نزل. فمن صدقه حينئذ فيما نزل من القرآن وأقر بما أمر به من الشهادتين وتوابع ذلك، كان ذلك الشخص حينئذ مؤمناً تام الإيمان الذي وجب عليه، وإن كان مثل ذلك الإيمان لو أتى به بعد الهجرة لم يقبل منه، ولو اقتصر عليه كان كافراً (¬2) . قال الإمام أحمد: كان بدء الإيمان ناقصاً، فجعل يزيد حتى كمل، ولهذا قال تعالى عام حجة الوداع: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي) . ¬
وأيضاً: فبعد نزول القرآن وإكمال الدين إذا بلغ الرجل بعض الدين دون بعض، كان عليه أن يصدق ما جاء به الرسول جملة، وما بلغه عنه مفصلاً، وأما ما لم يبلغه ولم يمكنه معرفته، فذاك إنما عليه أن يعرفه مفصلاً إذا بلغه. وأيضاً: فالرجل إذا آمن بالرسول إيماناً جازماً، ومات قبل دخول وقت الصلاة أو وجوب شيء من الأعمال، مات كامل الإيمان الذي وجب عليه. فإذا دخل وقت الصلاة فعليه أن يصلي، وصار يجب عليه ما لم يجب عليه قبل ذلك، وكذلك القادر على الحج والجهاد يجب عليه ما لم يجب على غيره من التصديق المفصل، والعمل بذلك. فصار مايجب من الإيمان يختلف باختلاف حال نزول الوحي من السماء. وبحال المكلف في البلاغ وعدمه، وهذا مما يتنوع به نفس التصديق، ويختلف حاله باختلاف القدرة والعجز، وغير ذلك من أسباب الوجوب، وهذه يختلف بها العمل أيضاً. ومعلوم أن الواجب على كل هؤلاء لا يماثل الواجب على الآخر، فإذا كان نفس ما وجب من الإيمان في الشريعة الواحدة يختلف ويتفاضل - وإن كان بين جميع هذه الأنواع قدر مشترك موجود في الجميع، كالإقرار بالخالق، وإخلاص الدين له، والإقرار برسله واليوم الآخر على وجه الإجمال - فمن المعلوم أن بعض الناس إذا أتى ببعض ما يجب عليه دون بعض، كان قد تبعض ما أتى فيه من الإيمان، كتبعض سائر الواجبات. يبقى أن يقال: فالبعض الآخر قد يكون شرطاً في ذلك البعض، وقد لا يكون شرطاً فيه، فالشرط كمن آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض، أو آمن ببعض الرسل وكفر ببعضهم، كما قال تعالى: (إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله، ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض، ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا، أولئك هم الكافرون حقاً، وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً) . وقد يكون البعض المتروك ليس شرطاً في وجود الآخر ولا قبوله.
وحينئذ فقد يجتمع في الإنسان إيمان ونفاق، وبعض شعب الإيمان وشعبة من شعب الكفر، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا ائتمن خان، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر"، وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من مات ولم يغزو ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من نفاق". وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبي ذر: "إنك امرؤ فيك جاهلية". وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم قال: "أربع في أمتي من أمر الجاهلية لن يدعوهن: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والنياحة، والاستسقاء بالنجوم". وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر". وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت". وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا ترغبوا عن آبائكم فإن كفراً بكم أن ترغبوا عن آبائكم" (¬1) الخ. الفصل الثاني بحث في أقسام المعاصي دلت الآيات الكريمة، والأحاديث الصحيحة، والمنقول من أقوال الصحابة والتابعين والأئمة بإجماعهم على أن الذنوب تنقسم إلى قسمين: 1 - القسم الأول: لا يغفره الله تعالى، وهو الكفر والشرك. 2 - القسم الثاني: يغفره الله تعالى لمن شاء من الموحدين - سواء مغفرة مطلقة أو بعد التطهر منه بالنار. قال تعالى: (إن الله لا يغفر أن يُشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) (¬2) . فدلت هذه الآية الكريمة بظاهرها على المعنى الذي قلناه من أن من الذنوب ماهو شرك ومنها ماهو دون ذلك. ¬
قال الطبري: " ... فإن الله لا يغفر الشرك به والكفر، ويغفر ما دون ذلك الشرك لمن يشاء من أهل الذنوب والآثام" (¬1) . وقال القرطبي: "إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء" وهذا من المحكم المتفق عليه الذي لا اختلاف فيه بين الأمة" (¬2) . روى الإمام أحمد بسنده عن عائشة قالت: قال صلى الله عليه وسلم: "الدواوين عند الله ثلاثة: ديوان لا يعبأ الله به شيئاً، وديوان لا يترك الله منه شيئاً، وديوان لا يغفره الله، فأما الديوان الذي لا يغفره الله، فالشرك بالله عز وجل، (إن الله لا يغفر أن يُشرك به) الآية، وقال: "إنه من يُشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة"، وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئاً فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين الله من صوم يوم تركه، أو صلاة فإن الله يغفر ذلك ويتجاوز إن شاء، وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئاً فظلم العباد بعضهم بعضاً، القصاص لا محالة". وروى الحافظ البزار في مسنده بسنده عن أنس بن مالك بنفس المعنى السابق. وما رواه أحمد بسنده عن معاوية يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافراً أو الرجل يقتل مؤمناً متعمداً". وما رواه أحمد بسنده عن أبي ذر قال: قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله يقول يا عبدي ما عبدتني ورجوتني فإني غافر لك على ما كان منك، يا عبديإن لقيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لقيتك بقرابها مغفرة". وما سبق روايته من أحاديث الشفاعة كلها لحديث أبي ذر الذي رواه أحمد، وفيه: ".. فقال ذاك جبريل أتاني فقال من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة. قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق". ¬
وروى ابن أبي حاتم بسنده عن ابن عمر قال: كنا لا نشك فيمن أوجب الله له النار في الكتاب حتى نزلت علينا هذه الآية: (إن الله لا يغفر أن يُشرك به..) (¬1) . وما رواه الطبري بسنده عن ابن عمر قال: "كنا معشر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نشك في قاتل النفس، وآكل مال اليتيم، وشاهد الزور، وقاطع الرحم، حتى نزلت هذه الآية فأمسكنا عن الشهادة" (¬2) . فهذه الآيات الكريمة والأحاديث النبوية قد دلت على أن الشرك الذي لا يغفره الله تعالى غير الذنوب التي يغفرها سبحانه. وأما عن القسم الثاني وهو الذنوب التي دون الشرك فقد تضافرت الآيات والأحاديث وأقوال السلف الصالح على انقسامها إلى صغائر وكبائر. قال تعالى: (ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون ياويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها) (¬3) . وقال تعالى: (وكل شئ فعلوه في الزبر وكل صغير وكبير مستطر) (¬4) . وقال تعالى: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم) (¬5) الآية. وقال تعالى: (الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم) (¬6) الآية. قال القرطبي: "اللمم: وهي الصغائر التي لا يسلم من الوقوع فيها إلا من عصمه الله وحفظه" (¬7) . وقال صلى الله عليه وسلم: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر" (¬8) . ¬
وقال صلى الله عليه وسلم: "إياكم ومحقرات الذنوب، فإنما مثل معقرات الذنوب مثل قوم نزلوا بطن واد، فجاء هذا بعود، وجاء هذا بعود، جاء هذا بعود فأنضجوا خبزتهم، وإن محقرات الذنوب لموبقات (¬1) . يقول النووي: "وذهب الجماهير من السلف والخلف من جميع الطوائف إلى انقسام المعاصي إلى صغائر وكبائر، وهو مروى أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقد تظاهر على ذلك دلائل من الكتاب والسُّنَّة واستعمال سلف الأمة وخلفها" (¬2) . ويقول ابن حجر الهيتمي في مقدمة "الزواجر": "وقال جمهور العلماء أن المعاصي تنقسم إلى صغائر وكبائر" (¬3) . ويقول صاحب "تهذيب الفروق": "قوله تعالى" (وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان) فجعلها رتباً ثلاثة" الكفر رتبة، أولى والفسوق ثانية، والعصيان ثالثة، بلى الفسوق وهو الصغائر، فجمعت الآية بين الكفر والكبائر والصغائر وسمى بعض المعاصي فسوقاً دون بعض. وقوله تعالى: (الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم) . وقوله تعالى: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم) فإن فيها صراحة في انقسام الذنوب إلى صغائر وكبائر) (¬4) . وقد نظر بعض السلف إلى جلال الله وعظمته سبحانه فمنعهم ذلك من تسمية أي معصية لله تعالى باسم "صغيرة" فهي كلها بالنسبة إلى عظم المخالف كبيرة من الكبائر، وإن اتفقوا على أن منها ما يوجب العقوبة والذم أكثر من غيره، فالخلاف لفظي في جواز التسمية لا في المعنى، والجمهور على إطلاق الصغيرة والكبيرة اصطلاحياً كما سبق أن نقلنا عن العلماء. ¬
يقول صاحب "تهذيب الفروق": "اختلفوا أولاً في أن إطلاق لفظ صغيرة على معصية الله تعالى هل يمنع إجلالا له وتعظيماً لحدوده إلا في محل تبين تفاوت الذم والعقاب إن نفذ الوعيد، أو يجوز مطلقا) (¬1) . ويقول النووي" (.. ولا شك في كون المخالفة قبيحة جداً بالنسبة إلى جلال الله تعالى ولكن بعضها أعظم من بعض" (¬2) . ويقول الهيتمي: (اعلم أن جماعة من الأئمة أنكروا أن في الذنوب صغيرة، وقالوا بل سائر المعاصي كبائر، منهم الأستاذ أبو إسحاق الاسفرائيني والقاضي أبوبكر الباقلاني، وإمام الحرمين في "الإرشاد"، وابن القشيري في "المرشد"، بل حكاه ابن فورك عن الأشاعرة، واختاره في تفسيره فقال: معاصي الله تعالى عندنا كلها كبائر، وإنما يقال لبعضها صغيرة وكبيرة بالإضافة إلى ما هو أكبر منها، ثم أول الآية التالية: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه) بما ينبو عنه ظاهرها.. إلى أن قال: - وقال جمهور العلماء: إن المعاصي تنقسم إلى صغائر وكبائر. ولا خلاف بين الفريقين في المعنى وإنما الخلاف في التسمية والإطلاق، لإجماع الكل على أن من المعاصي ما يقدح في العدالة، ومنها ما لا يقدح فيها، وإنما الأولون فروا من هذه التسمية فكرهوا تسمية معصية الله تعالى صغيرة نظراً إلى عظمة الله تعالى، وشدة عقابه، وإجلالاً له عز وجل عن تسمية معصيته صغيرة، لأنها بالنظر إلى باهر عظمته كبيرة أي كبيرة، ولم ينظر الجمهور إلى ذلك لأنه معلوم، بل قسموها إلى صغائر وكبائر لقوله تعالى: (وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان) (¬3) . تحقيق الكبائر وحدها: فقد وردت أحاديث شريفة تحدد الكبائر بأسمائها، وهي التي وعد الله تعالى عباده بتكفير سيئاتهم إن اجتنبوها، ومن ذلك: ¬
ما أورده الطبري في تفسيره بسنده عن أنس بن مالك قال: ذكر أو سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكبائر فقال: "الشرك بالله، وقتل النفس، وعقوق الوالدين، فقال: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قال: قول الزور أو شهادة الزور، قال شعبة: وأكبر ظني قال: شهادة الزور" (¬1) . وما أورده الطبري بسنده عن أبي أمامة أن ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكروا الكبائر وهو متكئ، فقالوا: الشرك بالله، وأكل مال اليتيم، وفرار من الزحف، وقذف المحصنة، وعقوق الوالدين، وقول الزور، والغلول، والسحر، وأكل الربا، فقال صلى الله عليه وسلم: "فأين تجعلون الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً.. الآية" (¬2) . كما اختلف العلماء في تحديد الكبائر وأنواعها على أقوال نذكر منها مايلي: (1) قال البعض: هي المذكورة من أول سورة النساء إلى رأس الثلاثين منها. لما رواه الطبري بسنده عن ابن مسعود قال: الكبائر من أول سورة النساء إلى الثلاثين منها: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه..) (¬3) الآية. (2) وقال آخرون: الكبائر سبع. "ومن ذلك ما رواه الطبري بسنده عن محمد بن سهل بن أبي خيثمة عن أبيه قال: إني لفي هذا المسجد، مسجد الكوفة وعلي رضي الله عنه يخطب الناس على المنبر فقال: "يا أيها الناس إن الكبائر سبع، فأصاخ الناس فأعادها ثلاث مرات، ثم قال: ألا تسألوني عنها؟ قالوا يا أمير المؤمنين: ماهي؟ قال الإشراك بالله، وقتل النفس التي حرم الله، وقذف المحصنة، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والفرار من الزحف، والتعرب بعد الهجرة" (¬4) . وممن قال ذلك عبيدة بن عمير وعطاء بن أبي رباح. (3) وقال آخرون: الكبائر تسع" ¬
ومن ذلك ما رواه الطبري بسنده عن طيلسة بن مياس قال: "كنت مع الحدثان، فأصبت ذنوباً لا أراها إلا من الكبائر، فلقيت ابن عمر فقلت: إني أصيب ذنوباً لا أراها إلا من الكبائر قال: ما هي؟ قلت: كذا وكذا. قال: ليس من الكبائر: قلت" أشئ لم يسمعه طيلسة؟ قال: هي تسع وسأعدهن عليك: الإشراك بالله، وقتل النسمة بغير حلها، والفرار من الزحف، وقذف المحصنة، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم ظلماً، وإلحاد في المسجد الحرام، والذي يستسحر، وبكاء الوالدين من العقوق.." (¬1) . (4) وقال آخرون: الكبائر أربع: ومن ذلك ما رواه الطبري عن ابن مسعود قال: أكبر الكبائر الشرك بالله، والإياس من روح الله، والقنوط من روح الله، والأمن من مكر الله (¬2) . (5) وقال آخرون: هي كل ما نهى الله عنه. وهو قول من حكينا عنهم من قبل أنهم نظروا إلى جلال الله سبحانه، فلم يعتبروا صغيرة في أي نهي لله تعالى. من ذلك ما رواه الطبري بسنده عن ابن عباس، قال: ذكرت عنده الكبائر، فقال: كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة. وما روى عن ابن عباس أنه سئل عن الكبائر؟ قال: هي إلى السبعين أقرب. وما روى عنه أن رجلاً سأله، كم الكبائر؟ أسبع هي؟ قال: إلى السبعمائة أقرب منها إلى سبع، غير أنه لا كبيرة مع استغفار ولا صغيرة مع إصرار (¬3) . ¬
(6) وقال آخرون: كل ما أوعد الله أهله بالنار فهو كبيرة، وكل ذنب فيه حد فهو كبيرة. ومن ذلك ما روى عن ابن عباس قال: كل ذنب ختمه الله بنار، أو غضب، أو لعنة، أو عذاب، من الكبائر، وممن قال ذلك سعيد بن جبير والحسن البصري ومجاهد والضحاك. وروى الطبري بسنده عن الضحاك قال: الكبائر كل موجبة أوجب الله لأهلها النار، وكل عمل يقام به الحد فهو من الكبائر" (¬1) . ثم إن هذه الأقوال المختلفة فيما بينها في تحديد الكبائر هي من قبيل الاختلاف بالتنوع لا بالتضاد (¬2) ¬
، فإن كل قول منها ينبه على نوع أو أنواع يمكن أن تكون من الكبائر المقصودة لله سبحانه، وذلك لأن لفظ كبيرة هو من قبيل اللفظ المبهم الذي ليس له موضوع خاص في اللغة أو الشرع. يقول ابن القيم في المدارج: "وأما الكبائر فاختلف السلف فيها اختلافاً لا يرجع إلى تباين واستفسار وأقوالهم متقاربة" (¬1) . ويقول الغزالي في "الإحياء": ".. وذلك لأن الكبير والصغير من المضافات، وما من ذنب إلا وهو كبير بالإضافة إلى ما دونه، وصغير بالإضافة إلى ما فوقه، فالمضاجعة مع الأجنبية كبيرة بالإضافة إلى النظرة، صغيرة بالإضافة إلى الزنا. وقطع يد المسلم كبيرة بالإضافة إلى ضربه، صغيرة بالإضافة إلى قتله. نعم للإنسان أن يطلق على ما توعد بالنار على فعله خاصة اسم الكبيرة، ونعني بوصفه بالكبيرة أن العقوبة بالنار عظيمة. وله أن يطلق على ما أوجب الحد عليه مصيراً إلى أن ما عجل عليه في الدنيا عقوبة واجبة عظيماً. وله أن يطلق على ما ورد في نص الكتاب النهي عنه: فيقول: تخصيصه بالذكر في القرآن يدل على عظمه، ثم يكون عظيماً وكبيرة لا محالة بالإضافة، إذ منصوصات القرآن أيضاً تتفاوت درجاتها". ثم يقول: "فهذه الإطلاقات لا حرج فيها، وما نقل من ألفاظ الصحابة يتردد بين هذه الجهات ولا يبعد تنزيلها على شئ من هذه الاحتمالات. نعم من المهمات أن تعلم معنى قول الله تعالى: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم) ، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الصلوات كفارات لما بينهن إلا الكبائر" فإن هذا إثبات حكم الكبائر" (¬2) . ثم نقول في الفرق بين الصغيرة والكبيرة، أن المعاصي تنقسم من ناحية النظر إليها من وجهين: 1- المعصية من حيث هي في ذاتها، وإن فعلها الإنسان مرة واحدة. 2- المعصية من جهة تكرار فعلها والعلم بجرمها. ¬
فمن المعاصي ما هي كبيرة في ذاتها ولو فعلها الإنسان مرة واحدة، كقتل النفس، والزنا وماهي صغيرة في ذاتها - عند فعلها مرة واحدة - مثل النظر إلى ما لا يحل النظر إليه. أما من جهة تكرار المعصية، فإنها وإن كانت في أصلها صغيرة، فإن تكرارها والإقامة على فعلها يجعلها كبيرة من الكبائر، لأن ذلك يوحي بالاستهانة بالدين وعدم الاكتراث به، وهذا أقل مرتبتة أن يكون كبيرة. يقول صاحب المنار: ".. وقال بعضهم كإمام الحرمين والغزالي واستحسنه الرازي أنها - أي الكبيرة - كل ما يشعر بالاستهانة بالدين وعدم الاكتراث به، وهو قول مقبول قريب من المعقول" (¬1) . فالكبائر هنا تكون: "بحسب قصد فاعلها، وشعوره عند اقترافها، وعقبه، لا في ذاتها وحسب ضررها" (¬2) كما يقول صاحب المنار. فالصغيرة إذن في ذاتها تنقلب إلى كبيرة بالتكرار الذي يشعر بالاستهانة وعدم الاكتراث. وهو معنى ما أوردناه عن ابن عباس فيما رواه الطبري أنه قال: "لا صغيرة مع إصرار ولا كبيرة مع استغفار" (¬3) ، فاللمم من الذنوب لا يكون لملماً إلا إن لم يتكرر، فإن معناه هو ما يلم بالإنسان بصورة عارضة لا إصرار فيها ولا مداومة. يقول القرطبي: "وقيل" اللمم هو أن يأتي بذنب لم يكن له بعادة، قاله نفطويه.. وقال الزجاج: "أصل اللمم والإلمام ما يعمله الإنسان المرة بعد المرة ولا يتعمق فيه ولا يقيم عليه" (¬4) . يقول ابن القيم" "وههنا أمر ينبغي التفطن له، وهو أن "الكبيرة" قد يقترن بها - من الحياء، والخوف، والاستعظام لها - ما يلحقها بالصغائر. وقد يقترن بالصغيرة - من قلة الحياء، وعدم المبالاة، وترك الخوف، والاستهانة بها - ما يلحقها بالكبائر، بل يجعلها في أعلى رتبها" (¬5) . ¬
وأما عن تكفير هذه الذنوب كلها - صغائر أو كبائر - فقد قال صلى الله عليه وسلم: "اتق الله حيثما كنت، واتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن" (¬1) . فاتباع السيئة الحسنة يمحها، كما قال صلى الله عليه وسلم، والتوبة مشروعة لكل ذنب، ولذلك تفصيل واسع ليس هذا محله، وسننقل هنا طرقاً مما ذكره ابن تيمية عن مكفرات الذنوب قال: "على أن عقوبة الذنوب تزول عن العبد بنحو عشرة أسباب: أحدها: التوبة. الثاني: الاستغفار. الثالث: الحسنات الماحية. الرابع: دعاء المؤمنين للمؤمن مثل صلاتهم على جنازته. الخامس: ما يعمل للميت من أعمال البر كالصدقة ونحوها. السادس: شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وغيره. السابع: المصائب التي يكفر الله بها الخطايا في الدنيا. الثامن: ما يحصل في القبر من الفتنة والضغطة والروعة. التاسع: أهوال يوم القيامة وكربها وشدائدها. العاشر: رحمة الله وعفوه ومغفرته بلا سبب من العباد" (¬2) . وبهذا البيان الواضح، رد الإمام ابن تيمية عن شبهتهم الداحضة في أن الإيمان المركب يزول كلية بزوال جزء من أجزائه، والتي بنوا عليها قولهم في كفر مرتكب المعصية، وزوال اسم الإيمان عنهم، وثبوت الكفر عليه، أما عن بقية شبهاتهم وأداتهم فسنشرع بعون الله تعالى في تفنيدها في الفصلين الباقيين، والله الموفق. بهذا النظر نكون قد نقضنا القاعدة الأساسية التي بنى عليها الخوارج قولهم، وهي تساوي الذنوب كلها، وأنها كلها داخلة في مسمى الكفر، وأي معصية كفر، سواء أصر عليها أو لم يصر - على اختلاف بينهم في ذلك كما سبق أن قلنا، وأوضحنا بآيات الكتاب والأحاديث الشريفة وأقوال السلف والعلماء المعتد بأقوالهم المذهب الصحيح في ذلك، والحمد لله تعالى. ¬
وبقى بعد ذلك أن نفند ما أوردوه من مزاعم، كأدلة لهم على قولهم المنقوض، فنرد على هذه الأدلة إلى موقعها من الفهم السليم، والمنهج القويم، وهو موضوع الفصل التالي إن شاء الله تعالى. الفصل الثالث نقض أدلة الخوارج (1) الشبهة الأولى: وهو قولهم أن صاحب الكبيرة كافر. وقد رددنا في الفصل الثاني من هذا الباب على هذا الزعم، وبينا أن صاحب الكبيرة من الذنوب – دون الشرك – وهو من الموحدين المعرضين للعقاب بالنار دون الخلود فيها. والدليل على عدم كفره كثير، منه ما أورده ابن حزم في "الملل والنحل" واقتطفنا منه مايلى: قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى، الحر بالحر والعبد بالعبد، والأنثى بالأنثى، فمن عفي له من أخيه شئ فاتباع بالمعروف، وأداء إليه بإحسان، ذلك تخفيف من ربكم ورحمة، فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم) (¬1) . فابتدأ الله عز وجل بخطاب أهل الإيمان، من كان فيهم من قاتل أو مقتول، ونص تعالى على أن القاتل عمداً وولى المقتول أخوان، فقال تعالى: (فمن عفي له من أخيه شئ) . فصح أن القاتل عمداً مؤمن بنص القرآن وحكم له بأخوة الإيمان ولا يكون بين الكافر والمؤمن أخوة. 2- قال تعالى: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغى حتى تفئ إلى أمر الله. فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين، إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون) (¬2) . ¬
فهذه الآية رافعة للشك جملة في قوله تعالى: إن الطائفة الباغية على الطائفة الأخرى من المؤمنين المأمور سائر المؤمنين بقتالهم حتى تفئ إلى أمر الله، أخوة للمؤمنين المقاتلين، وهذا أمر لا يضل عنه إلا ضال، ولا يقول أحد أن الله تعالى جعلهم إخواناً إذا تابوا، لأن نص الآية أنهم أخوان حال البغي وقبل الفيء إلى الحق، فقد أمرهم سبحانه بالإصلاح بين المتقاتلين في أول الآية، ثم ذكر في آخرها قوله: (فأصلحوا بين أخويكم) فهم إخوة حال البغي أو القتال. 3- قال تعالى: (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين) (¬1) . فهذه الآية نص جلي على أن الزاني والزانية ليسا مشركين، لأن الله تعالى فرق بينهما فرقاً لا يحتمل البتة أن يكون على سبيل التأكيد، بل على أنهما صفتان مختلفتان، وهذا المذهب في النظر وهو أن يقال أن ذلك توكيداً لا محل له، فإن الله سبحانه لا يضع لفظاً في القرآن إلا وله فائدة واحدة، وقواعد البلاغة تقتضي عدم الإطالة، والقرآن رأس البلاغة، ولا يصح في عقل مسلم أن يتوهم أن الله سبحانه قد استعمل لفظاً لا فائدة منه إلا التكرار، فهذا مناف لقواعد البلاغة العربية، وقد جروا هذا المجرى في فهم قوله تعالى: (وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان) فجعلوها كلها مترادفة، وهذا لا يأتي في كلام العربي العادي أبداً، بل في الركيك من القول أن يتكرر اللفظ مترادفاً بهذا الشكل، وحاشا القرآن أن يكون كذلك. ولا سبيل إلى القول أنه إذا لم يتب كل منهما صار كافراً، لأنه صح أنه ذنب دون الشرك فهو معاقب عليه لا محالة في الآخرة – إن لم يتب منه – ولم يقم عليه الحد في الدنيا كما هو مقتضى حديث عبادة بن الصامت السابق ذكره. ¬
4- ثم نقول لمن قال بكفر مرتكب الكبيرة: إن الله سبحانه أمر بقتل المشركين جملة، ولم يستثن منهم أحداً إلا كتابياً يقدم الجزية مع الصغار، أو رسولا حتى يؤدي رسالته، ويرجع إلى مأمنه، أو مستجيراً حتى يسمع كلام الله تعالى، ثم يبلغ مأمنه، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل من بدل دينه، فنسأل من قال إن مرتكب الكبيرة كافر مفارق لملة الإسلام بالكلية إذا كان الزاني والسارق وشارب الخمر والقاذف والفار من الزحف وآكل مال اليتيم قد خرج من الإسلام أيقتلونه كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أم لا يقتلونه، فيخالفون الله تعالى ورسوله؟ ومن قولهم كلهم – خوارجهم ومعتزليهم – أنهم لا يقتلونه، وأن في بعض ذلك حدود معروفة من قطع يد أو جلد مائة أو ثمانين، وفي بعضها أدب فقط، وأنه لا يحل الدم بشئ من ذلك … وهذا انقطاع ظاهر وبطلان لقولهم جملة (¬1) . (ب) الشبهة الثانية: وهي استدلالهم بقول الله تعالى في بعض مواضع من القرآن الكريم من أن معصية الله تدخل نار جهنم خالداً فيها، فيكون بذلك كافراً، كما ورد في آية النساء، والجن، والبقرة، السابق ذكرهم في الفصل الأول من هذا الباب (¬2) . فحسب الفهم السليم الجامع للأدلة فقد قررنا انقسام المعصية إلى شرك، وما دون الشرك. ¬
وأن الخلود في النار الناشئ عن الكفر لا يكون إلا بارتكاب عمل من أعمال الشرك، أما بقية الذنوب فهي لا توجب الخلود في النار بالتالي – وهي الصغائر والكبائر – وتكون المعصية المذكورة في الآيات هي المعصية بمعنى المحادة والكفر، وليست بمعنى الذنب الذي هو دون الشرك، وهذا هو فهم جمهور السلف الذي يجمع الأطراف المستدل بها في الموضوع. يقول الطبري في آية النساء: فإن قال قائل: أو يخلد في النار عصى الله ورسوله في قسمة المواريث؟ قيل: نعم، إذا جمع إلى معصيتهما في ذلك شكاً في أن الله فرض عليه ما فرض على عباده في هاتين الآيتين، أو علم ذلك فحاد الله ورسوله في أمرهما. وفي إشكالهم هذه الآية فهو من أهل الخلود في النار، لأنه باستنكاره حكم الله في تلك يصير بالله كافراً ومن ملة الإسلام خارجاً (¬1) . ويقول القرطبي: ".. والعصيان إن أريد به الكفر فالخلود على بابه، وإن أريد به الكبائر وتجاوز أوامر الله تعالى فالخلود مستعار لمدة ما، كما تقول: خلد الله ملكه، وقال زهير: "ولا خالداً إلا الجبال الرواسيا" (¬2) . فيصح في اللغة استعمال كلمة الخلود للتعبير عن طول المدة دون ظاهر اللفظ الذي هو عدم الخروج مطلقاً، والقرآن عربي نزل بلسان عربي مبين فيصح – بل يجب – فهمه بأسلوب خطاب العرب، لا حسب ظواهر دلالة اللغة، لما يحدث ذلك من تناقض في المفاهيم الشرعية وتضارب في آياته لا داعي له. أما عن آية البقرة: (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته) : فقد كان إجماع السلف على أنها في المشرك، فالسيئة هنا هي الشرك، وبهذا القول قال أبو وائل ومجاهد وقتادة والسدىوعطاء وابن جريج والربيع، ونقله الطبري وابن كثير والقرطبي وغيرهم. أما إحاطة الخطيئة فهي الذنوب الجمة التي يفعلها المشرك في حياته فتصبح محيطة به لا مهرب له منها. ¬
قال الطبري: "فتأويل الآية إذا: من أشرك بالله، واقترف ذنوباً جمة فمات عليها قبل الإنابة والتوبة، فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون أبداً" (¬1) . ونقل هذا القول عن ابن عباس وقتادة والأعمش كذلك. وقال القرطبي: "قوله تعالى (سيئة) السيئة الشرك، … وكذا قال الحسن وقتادة، قالا: والخطيئة الكبيرة. ولما قال تعالى: (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته) دل على أن المعلق على شرطين لا يتم بأقلهما، ومثله قوله تعالى: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) ، وقوله عليه السلام لسفيان بن عبد الله الثقفي وقد قال له: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك قال: "قل آمنت بالله ثم استقم" (¬2) . فدل ذلك على أن ارتكاب المعاصي دون الشرك لا يلزم منها الخلود في النار الناشئ عن الكفر. أما عن قوله تعالى في النساء أن جزاء القاتل المتعمد هو نار جهنم خالداً فيها، فإن هذا يجب أن يجمع مع قوله تعالى: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا) ، فصح أن القتال يكون بين مؤمنين دون كفر أي منهم، كما أن الآية لم تنص على كفر القاتل العمد، وإنما هي نص في دخول النار خالداً فيها، وهذا تقرير من الله سبحانه وتعالى على استحقاقه لذلك، وإن لم يكن فيه إثبات الوقوع ذلك، لإمكان تخلف الوعيد حسب قاعدة أهل السُّنَّة في ذلك، من أن تخلف الوعيد من القادر صفة كمال له بعكس تخلف الوعد منه. هذا وجه، والوجه الآخر أنه يصح أن يكون الخلود هنا بمعنى طول المكث أو الأمد الطويل كما سبق أن نقلنا عن القرطبي، وإنما أخذنا بهذا الوجه وأجرينا هذا المفهوم على الآية، حتى لا ندفع أحاديث كثيرة ثبتت من قبل من عدم كفر مرتكب المعصية دون الشرك عامة. ¬
منها ما رواه الطبري عن ابن عمر قال: كنا معشر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نشك في قاتل النفس، وآكل مال اليتيم، وشاهد الزور، وقاطع الرحم حتى نزلت: (إن الله لا يغفر أن يشرك به) فأمسكنا عن الشهادة (¬1) . فهؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهموا أن الشرك هو خلاف هذه الأمور كلها، ولا يقال المقصود هو القتل الخطأ – ليس العمد – لأن الخطأ مرفوع أصلاً عن المكلفين بشرط التوبة بعد العلم بالخطأ. قال تعالى: (وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم، كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءاً بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فإنه غفور رحيم) . قال القرطبي: "أي خطيئة من غير قصد" (¬2) . فالخطأ والعمد في هذا يستويان أن من تاب رفعت عنه عقوبة الآخرة، فلا موجب إذن لتخصيص أحدهما في قول عمر دون الآخر. (أ) وقد نقل الطبري هذا المعنى عن أبي مجاز وأبي صالح. قال: حدثني يعقوب بن إبراهيم قال حدثنا ابن عليه، عن سليمان التيمي عن أبي مجاز في قوله: (ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم) قال: هو جزاؤه، وإن شاء تجاوز عنه. وعن أبي صالح قال: جزاؤه جهنم إن جازاه (¬3) . وقيل بشرط التوبة والندم، فهو معفو عنه، ونقل هذا عن مجاهد وغيره. وقد ورد عن ابن عباس آثار تدل على أنه لا توبة للقاتل، إلا أن ذلك كان فتوى منه لرجل بعينه خوفاً من قتله لآخر، كما ورد في القرطبي، قال: أخبرنا أبو مالك الأشجعي عن سعد بن عبيدة قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: ألمن قتل مؤمناً متعمداً توبة؟ قال: لا، إلا النار. ¬
قال: فلما ذهب قال جلساؤه: أهكذا كنت تفتينا؟ ، كنت تفتينا أن لمن قتل توبة مقبولة. قال: إني لأحسبه رجلاً مغضباً يريد أن يقتل مؤمناً. قال فبعثوا في إثره فوجدوه كذلك"، وهذا مذهب أهل السُّنَّة وهو الصحيح. وأن هذه الآية مخصوصة ودليل التخصيص آيات وأخبار" (¬1) . فهذه الآية نزلت في مقيس بن ضبابة وهو قد قتل مؤمناً متعمداً ثم ارتد بعدها كافراً. (ب) وقد ورد الحديث الشريف عن عبادة بن الصامت يثبت أن الزنى والسرقة وقتل النفس هي غير الشرك بالله. قال: "تبايعوني على ألا تشركوا بالله شيئاً، ولا تزنوا، ولا تسرقوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب شيئاً من ذلك فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله عليه فأمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له". ولا يقال هنا: إن الذنوب الواردة هي من الشرك، وهي بيان له بعد ذكره لأن معنى هذا أن قوله: (من أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له) يعني أن من أشرك بالله فقتل ردة كعقوبة في الدنيا كان ذلك كفارة له عن الشرك، وهذا خلاف المعلوم بالضرورة من دين الإسلام أن قتل المشرك ردة في الدنيا لا يغني عن تخليده في النار أبداً. كما نقل عن ابن عباس أن قوله (متعمداً) يعني مستحلاً للقتل فهذا يؤول إلى الكفر. (ج) قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه، المفارق للجماعة" (¬2) . فهذا نص في أن قاتل النفس ليس كتارك دينه بل هو بمنزلة الزاني المحصن، وإحلال الدم لا يستلزم الكفر بل يكون في حد فقط كما هو معلوم. ¬
وقد جعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث "ثلاث" مختلفة وليس واحدة عامة وبيان لها، ثم إن العام يرد أولاً ثم يخصص منه بعدها بأن يذكر (تارك دينه) أولاً. فثبت أن تارك دينه ليس كقاتل النفس ولا الزاني المحصن. (د) أن الله سبحانه وتعالى قد توعد قاتل النفس المتعمد بالعذاب العظيم، فقال تعالى: (.. وأعد له عذاباً عظيماً) والله سبحانه قد توعد المؤمنين العصاة "بالعذاب العظيم"، بينما توعد الكفار والمنافقين بالعذاب "المهين" في عامة آيات القرآن الكريم. ففي حق الكفار والمنافقين: قال تعالى: (الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله واعتدنا للكافرين عذاباً مهينا) (¬1) . وقال تعالى: (فباءو بغضب على غضب، وللكافرين عذاب مهين) (¬2) . وقال تعالى: (إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً، ولهم عذاب مهين) (¬3) . وقال تعالى: (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك لهم عذاب مهين) (¬4) . وقال تعالى: (وإذا علم من آياتنا شيئاً اتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين) (¬5) . وقال تعالى: (وقد أنزلنا آيات بينات وللكافرين عذاب مهين) (¬6) . وقال تعالى: (اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين) (¬7) . وقال تعالى: (ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها وله عذاب مهين) (¬8) . 2- وفي حق المؤمنين العصاة: وقال تعالى: (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم) (¬9) . وقال تعالى: (ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم) (¬10) . وقال تعالى: (ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم) (¬11) . ¬
وقال تعالى: (ولا تتخذوا أيمانكم دخلاً بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم) (¬1) . يقول الإمام ابن تيمية: " (ومن يهن الله فماله من مكرم) ، وذلك لأن الإهانة إذلال وتحقير وخزي، وذلك قدر زائد على ألم العذاب، فقد يعذب الرجل الكريم ولا يهان" (¬2) . وقد يقرن بين العذاب المهين، والعذاب العظيم في بعض المواضع كما في آية الجاثية. "وإذا علم من أياتنا شيئاً اتخذها هزواً أولئك لهم عذاب مهين. من ورائهم جهنم ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئاً ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء ولهم عذاب عظيم". فيعلم من هذا أن العذاب العظيم من جنس العذاب المهين الذي هو للكافرين، وذلك غير أن يفرد العذاب العظيم وحده. يقول ابن تيمية: "فلما قال في هذه الآية: (وأعد لهم عذاباً مهيناً) علم أنه من جنس العذاب الذي توعد به الكفار والمنافقين، ولما قال هناك: (ولهم عذاب عظيم) جاز أن يكون من جنس العذاب في قوله: (لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم) . ¬
ومما بين الفرق أيضاً أنه سبحانه وتعالى قال هنا: (وأعد لهم عذاباً مهيناً) ، والعذاب إنما أعد للكافرين، فإن جهنم لهم خلقت، لأنهم لابد أن يدخلوها، وماهم منها بمخرجين، وأهل الكبائر من المؤمنين تجوز ألا يدخلوها إذا غفر الله لهم، وإذا دخلوها فإنهم يخرجون منها ولو بعد حين، قال سبحانه: (واتقوا النار التي أعدت للكافرين) ، فأمر سبحانه المؤمنين ألا يأكلوا الربا، وأن يتقوا الله، وأن يتقوا النار التي أعدت للكافرين، فعلم أنهم يخاف عليهم من دخول النار إذا أكلوا الربا وفعلوا المعاصي مع أنها معدة للكفار، لا لهم، وكذلك جاء في الحديث: "أما أهل النار الذين هم أهلها، فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، وأما أقوام لهم ذنوب يصيبهم سفع من نار ثم يخرجهم الله منها" (¬1) . ولما توعد الله سبحانه قاتل النفس المتعمد بالعذاب العظيم دون المهين علم أنه داخل في عداد المؤمنين حتى بعد ارتكابه لهذه الكبيرة. (ج) الشبهة الثالثة: وهي الأحاديث التي ورد فيها اللعن على عمل من الأعمال، أو وصف فعل من الأفعال أنه كفر، أو وصف من يعمل عملاً معيناً أنه "ليس منا، وما شابه ذلك. فنقول وبالله التوفيق: - أما عن أحاديث اللعن: فإن اللعن في اللغة هو الإبعاد من الرحمة. وهو يرد بأحد معنيين: 1- الدعاء: كما في الأحاديث الشريفة: كقوله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله من غير منار الأرض" (¬2) . وقوله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله آكل الربا وموكله" (¬3) . وقوله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله الواشمة والمستوشمة" (¬4) .. الحديث. وغير ذلك من الأحاديث التي يرد فيها اللعن بصيغة الدعاء على مرتكب الفعل بالإبعاد من رحمة الله، وهذا الدعاء لا يستلزم مطلق الإبعاد من الرحمة، وإنما يحصل بإبعاده من الرحمة وقتاً من الأوقات. ¬
2- الخبر، كما يرد في الآيات القرآنية عامة، وهو على نوعين: إما لعناً في الدنيا، أو في الدنيا والآخرة. فمن لعنه الله تعالى في القرآن في الدنيا والآخرة فهو كافر لا محالة خالداً في جهنم ومن أهلها، وذلك كقوله تعالى: (إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذاباً مهيناً) (¬1) . وقوله تعالى: (إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم" (¬2) . أما من ذكر باللعنة في القرآن فقط - وليس في الدنيا والآخرة - فيصح أن يكون من المؤمنين الذين يبعدون عن رحمة الله في وقت من الأوقات، ويصح أن يكون من الكافرين. كقوله تعالى في القاتل: (ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها، وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً) (¬3) فهذا من المؤمنين المبعدين عن رحمة الله تعالى لفترة من الفترات. وقوله تعالى: (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون) (¬4) . فهذه في الكافرين من اليهود، ثم يصدق القول فيها على من يفعل فعلهم كما فعلوه ويكون كافراً كما كفروا. وملخص القول: ¬
أن اللعن من الله تعالى في القرآن يستحقه الكافر، ولكن ليس بإطلاق، فيصح أن يكون الملعون من الله كافراً إن لعنه الله في الدنيا والآخرة، أو يصح أن يكون عاصياً إن لعنه في الدنيا فقط، وقد يكون كافراً حسب فعلته. وهذا كله يأتي في صيغة الخبر. بينما اللعن في السُّنَّة فيكون بصيغة الدعاء، وعامة الملعونين في الأحاديث غير مباحي الذم، ولا كافرين وإنما هم مبعدين من رحمة الله تعالى لوقت من الأوقات (¬1) . - وأما عن الأحاديث التي ورد فيها إطلاق اسم الكفر على عمل من الأعمال، فإن النظر فيها من وجهين. أولهما: أنه لما قررنا من قبل أركان التوحيد - من ربوبية وألوهية لله تعالى - وحددنا بذلك الأعمال التي تنقض التوحيد كلية لتعلقها بأصله، وكذلك من تقريرنا لقاعدة أن المعاصي منها الشرك ومنها ماهو دون ذلك من كبائر وصغائر. فإنه تبعاً لهذا النظر، فإن أي عمل ليس من هذه الأعمال الناقضة للتوحيد، أو الذي هو دون الشرك فيجب أن يكون من أعمال المعاصي، ويكون فاعله عاصياً ما لم يستحل، (بمعنى أن يرد بعد ثبوته لديه كما قررنا من قبل في مبحث الرد) ، فإن استحل كان كافراً كفراً أكبر ناقلاً عن الملة، وإن لم يستحل كان الكفر بمعنى المعصية المغلظة. وعلى هذا جمهور أهل السُّنَّة في نظرهم لهذه الأحاديث. ¬
الثاني: أن إطلاق لفظ الكفر في القرآن الكريم يختلف عن إطلاقه في السُّنَّة الشريفة، فهو في القرآن الكريم يأتي بمعنى الكفر الأكبر الناقل عن الملة، وذلك لأن الله تعالى ينبه في القرآن الكريم على أعلى درجات الكمال في الإيمان، وعلى أخس درجات الكفر والباطل، ليكون المؤمن حريصاً على اللحاق بهؤلاء، حريصاً كذلك على البعد عن أولئك الكفار، وقد تقررت القاعدة الأصولية بناء على استقراء النصوص القرآنية بهذا المعنى. فقال الشاطبي: " ... فكان القرآن آتيا بالغايات تنصيصاً عليها، من حيث كان الحال والوقت يقتضي ذلك، ومنبهاً بها على ما هو دائر بين الطرفين. وقد روى في هذا المعنى عن أبي بكر الصديق في وصيته لعمر بن الخطاب عند موته حين قال له: "ألم تر أنه نزلت آية الرخاء مع آية الشدة، وآية الشدة مع آية الرخاء، ليكون المؤمن راغباً راهباً، فلا يرغب رغبة يتمنى فيها على الله ما ليس له، ولا يرهب رهبة يلقى فيها بيده إلى التهلكة، أو لم تر يا عمر أن الله ذكر أهل النار بسئ أعمالهم، لأنه رد عليهم ما كان لهم من حسن، فإذا ذكرتهم قلت: إني أخشى أن أكون منهم. وذكر أهل الجنة بأحسن أعمالهم، لأنه تجاوز لهم عما كان لهم من سئ، فإذا ذكرتهم قلت: إني مقصر، أين عملي من أعمالهم" (¬1) . ¬
أما في السُّنَّة الشريفة فهي بيان للقرآن الكريم، وتفصيل لما فيه، فهي تحتوي على درجات الإيمان كلها، وكذلك مراتب الكفر كلها، فقد يأتي القول فيها عن الكفر ويراد به الكفر الأصغر وقد يراد به الأكبر. ودليل ذلك: ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يامعشر النساء تصدقن وأكثرن الاستغفار فإني رأيتكن أكثر أهل النار، فقالت امرأة منهن جزلة وما لنا يا رسول الله أكثر أهل النار؟ قال: تكثرن اللعن وتكفرن العشير وما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن.." (¬1) الحديث. وقد ترجم البخاري لهذا الحديث تحت عنوان "كفر دون كفر" وعنى بذلك الكفر الأصغر الذي لا يخرج من الملة. ويقول النووي فيه: "وفيه إطلاق الكفر على غير الكفر بالله تعالى ككفر العشير والإحسان والنعمة والحق" (¬2) فقد جاء الكفر في الحديث بمعنى كفر العشير أي غمطه حقه. والقاعدة في ذلك أن اللفظ يؤخذ على ظاهره ما لم تصرفه قرينة، فإن وجدت قرينة تدل على صرف لفظ الكفر في الحديث عن معناه الأصلي وهو الكفر الأكبر، أمكن المصير إلى أنه كفراً أصغر لثبوت إمكان ذلك في السُّنَّة الشريفة. ومثال ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر" (¬3) . وقوله صلى الله عليه وسلم: ".. لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض" (¬4) . فيجمع مع قوله تعالى: "وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا.." الآية. فيدل على أن مجرد الاقتتال لا يوجب الكفر، فيحمل اللفظ في الحديث على الكفر الأصغر أو المعصية المغلظة، وإنما يكون كفراً أكبر إن استحل المقاتل قتال المسلمين وقتلهم. ¬
وقوله صلى الله عليه وسلم: "من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم" (¬1) فإنه يجب الجمع بينه وبين حديث آخر رواه مسلم وهو: "من أتى عرافاً فسألة عن شئ فصدقه لم تقبل له صلاة أربعين يوماً" (¬2) . فهذا يعني عدم قبول ثواب الصلاة لمدة معينة، وهو لا يجوز قوله لغير المسلم، فصح أنه لم يكفر بذلك، أما إن اعتقد أن هذا الكاهن يعلم الغيب حقيقة، ويشارك في علم الله تعالى فيكون كفره كفراً أكبر. وقوله صلى الله عليه وسلم: "أيما عبد أبق من مواليه فقد كفر حتى يرجع إليهم" (¬3) . فيجمع مع قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أبق العبد لم تقبل له صلاة" (¬4) . وعدم القبول لا يشترط منه عدم الصحة، ولذلك يقول الإمام أبو عمرو بن الصلاح: "فصلاة الآبق صحيحة غير مقبولة، فعدم قبولها لهذا الحديث، وذلك لاقترانها بمعصية، وأما صحتها فلوجود شروطها وأركانها المستلزمة صحتها، ولا تناقض في ذلك، ويظهر أثر عدم القبول في سقوط الثواب، وأثر الصحة في سقوط القضاء، وفي أنه لا يعاقب عقوبة تارك الصلاة" (¬5) . فقد قاسها بذلك على الصلاة في الدار المغصوبة، فهي صحيحة لا ثواب فيها، وقد حملها الإمام المازرى والقاضي عياض على المستحل للإباق فيكفر ولا تقبل صلاته. ¬
وقد ذهب بعض السلف والأئمة إلى اعتبار لفظ الكفر في الأحاديث بمعنى الكفر الأصغر مطلقاً وذلك بعد الاستقراء التام للشريعة، وكذلك جواز وروده بهذا المعنى، ولا فارق في النتيجة بين ذلك وبين القاعدة التي قررناها أولاً من افتراض اللفظ على ظاهره إلى أن تثبت قرينة. وإنما الخلاف في المسلك، وبالاستقراء وجد أن كل ما ورد في السُّنَّة هو من هذا القبيل بالفعل، فلا خلاف إذن، وذلك من جنس قول ابن عباس في العموم أنه "لا عام في القرآن إلا وخصص"، فأخذه بعض الفقهاء والأصوليين مطلقاً واعتبروا دلالة العام أصلاً ظنية لوقوع تخصيصها قطعاً، ومنهم من تركها على عمومها حتى يثبت التخصيص بدليل. ولا فرق في النتيجة إن شاء الله تعالى. وقد قال صاحب "فتح المجيد" أنه يصار إلى التوقف في دلالة الكفر هنا، فلا يقال كفراً أصغر أو أكبر مبالغة في الوعيد، قال: "وهل الكفر في هذا الموضع كفر دون كفر فلا ينقل عن الملة؟ أم يتوقف فيه فلا يقال يخرج من الملة ولا يخرج؟ وهذا أشهر الروايتين عن أحمد رحمه الله تعالى" (¬1) . وقد دأب كثير من السلف على التوقف عن الحكم بأن هذا كفراً مخرج من الملة أم لا، حتى لا تفقد هذه النصوص خطورتها الواجبة لها، كما روى ذلك عن سفيان بن عيينة، يقول صاحب "فتح المجيد" عند شرح حديث" "ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن الخمر، ومصدق بالسحر، وقاطع الرحم": ¬
"هذا من نصوص الوعيد التي كره السلف تأويلها، وقالوا أمروها كما جاءت ومن تأولها فهو على خطر من القول على الله بلا علم. وأحسن ما يقال أن كل عمل دون الشرك والكفر المخرج من ملة الإسلام فإنه يرجع إلى المشيئة فإن عذبه فقد استوجب العذاب، وإن غفر له فبفضله ورحمته" (¬1) ، وذكر النووي في شرحه لمسلم: "وذهب الزهري إلى أن هذا الحديث وما أشبهه يؤمن بها ويمر على ما جاءت، ولا يخاض في معناها، وإنا لا نعلم معناها، وقال أمروها كما أمرها من قبلكم.. إلى قوله: والصحيح في معنى الحديث ما قدمناه أولا. " (¬2) . - وأما عن الأحاديث التي ورد فيها نفي الإيمان أو "ليس منا" أو ما شابه ذلك. فهي خاضعة للقواعد المقررة من قبل، من زيادة الإيمان ونقصه، ومن تقسيم المعاصي إلى شرك وما دون الشرك مما هو صغيرة وكبيرة. فقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" (¬3) . محمول على أنه لا يصبح مؤمناً مكتمل الإيمان لتركه خصلة منه، كما هو معلوم من أن مجرد محبة الأذى أو إرادته للمسلم ليس شركاً، بل هو معصية تنقص من الإيمان الواجب له. وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن" (¬4) . فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إقامة حد السرقة كالقطع، وحد الزنى، كالجلد، كما هو في القرآن الكريم، فعلم قطعاً أن ذلك ليس شركاً لما هو معلوم من أن عقوبة الردة القتل. ¬
فكان نفي الإيمان هنا بمعنى نفي كماله، قال النووي في شرحه على الحديث: "فالقول الصحيح الذي قاله المحققون أن معناه: لا يفعل هذه المعاصي وهو كامل الإيمان، وهذا من الألفاظ التي تطلق على نفي الشئ ويراد نفي كماله ومختاره، كما يقال: لا علم إلا ما نفع، ولا مال إلا الإبل، ولا عيش إلا عيش الآخرة. وإنما تأولناه على ما ذكرناه لحديث أبي ذر وغيره: "من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وإن زنى وإن سرق"، وحديث عبادة بن الصامت الصحيح المشهور أنهم بايعوه صلى الله عليه وسلم على أن لا يسرقوا ولا يزنوا، ولا يعصوا، إلى آخره.. إلى قوله. فهذا الحديثان مع نظائرهما في الصحيح مع قول الله عز وجل: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) ، مع إجماع أهل الحق على أن الزاني والسارق والقاتل وغيرهم من أصحاب الكبائر غير الشرك، لا يكفرون بذلك بل هم مؤمنون ناقصوا الإيمان" (¬1) . - وأما عن الأحاديث كقوله صلى الله عليه وسلم: "من غشنا فليس منا" (¬2) . أو قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من ضرب الخدود أو شق الجيوب أو دعا بدعوى الجاهلية" (¬3) . أو قوله صلى الله عليه وسلم: "من حمل علينا السلاح فليس منا" (¬4) . فكلها - كما سبق أن قررنا - محمولة على أنها في المستحل إن أخذناها على أنها تعني الكفر أو أنها تعني ليس على هدينا أو سيرتنا، وعلى ذلك كثير من أهل العلم، وقد نقلنا أن من السلف من كره هذا القول، وقد قال ابن عيينة فيه: بئس هذا القول - أي صرف الحديث عن ظاهره - ليكون أبلغ في الزجر. خاتمة وبعد: فإن الأمر سهل ميسور، لمن يسره الله له. ¬
فالإسلام قد نزل إلى أمة أمية جد قليلة الحظ - إن لم تكن معدومة - من الفلسفة والمنطق وغيرهما من العلوم العقلية البشرية التي ضررها أكثر من نفعها، ولم يكن الجدل العقلي معروفاً لديهم، إلا السوفسطائية المحطمة للحقائق، الملبسة الحق بالباطل، والمزينة الباطل بالحق، فاستنقذ الإسلام هذه الفطر من ركام الجاهلية التي كانت ترون عليها، وصحح مسار الفكر فيها، وكان النبع الصافي والمورد الوحيد لتصوراتهم وفهمهم هو القرآن الكريم وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم الفهم المستقيم المبني على الفطرة السليمة. فلما كان عصر الفتوحات، وانتقلت وسائل العلم الغريبة عن القرآن ومنهجه - كالفلسفة - وكثير الجدل وبدأ النزاع والاختلاف وظهر علم الكلام، انحرفت الفطر، ونشأت الفرق التي فرقت دين الله بآرائها وأفكارها ومناهجها السقيمة الغريبة عن منهج القرآن في تناول الأمور. وما كان دين الله في نفوس المؤمنين الأوائل بهذا الشكل المنحرف، بل كان الإسلام واضحاً في أذهانهم وقلوبهم، بحس سليم وفهم مستقيم المسلم من غيره دون الحاجة إلى مراجعة المراجع وتسطير الصفحات. فيصيبون حيث يخطأ الآخرون.
ولهذا كان لابد لنا من الرجوع إلى النبع الصافي نستلهم منه مفهوماتنا وتصوراتنا، ناهجين في ذلك منهج سلفنا الصالح، الذين قطعوا هذا الطريق كله قبلنا، فأناروه لنا، وبينوا منهج الفكر السليم، وتناول النصوص الشرعية وعلاقتها باللغة العربية، واستنبطوا القواعد الأصولية، والمناهج العقلية التي تجمع هذا كله لتكون دليلاً لمن يأتي من بعدهم ليسير على دربهم، فإن فعلنا وسلكنا طريقهم فلا حاجة بنا إلى الجدل والتركيبات العقلية السقيمة، الدخيلة على الإسلام، والتي لم يدفعنا لها إلا ما كان من أخطاء جمة في فهم الدين على حقيقته، مما استلزم التحليل والتدقيق حتى تتضح كل الجزئيات التي ما كانت لتخفى على أحد لولا انتكاس الفطر واختلاط المورد الصافي بغيره. اللهم إنا نسألك علماً نافعاً وقلباً خاشعاً، ولساناً ضارعاً. اللهم تقبل حسناتنا، وتجاوز عن سيئاتنا واهدنا سواء السبيل. وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. مراجع البحث 1 - القرآن الكريم. 2 - صحيح البخاري. 3 - صحيح مسلم. 4 - سنن الترمذي. 5 - تفسير الطبري ط الحلبي 6 - تفسير القرطبي ط دار الكتب العربي 7 - تفسير ابن كثير ط. الشعب 8 - تفسير المنار محمد رشيد رضا ط. مكتبة القاهرة 9 - فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني ط. المكتبة السلفية 10- فيض الباري شرح صحيح البخاري للكشميري ط. دار المعرفة 11- شرح صحيح مسلم للنووي ط. المطبعة المصرية 12- الترغيب والترهيب للمنذري ط. دار إحياء التراث العربي 13- مختار الحسن والصحيح عبد البديع صقر ط. المكتب الإسلامي 14- زاد المعاد ابن القيم ط. دار الفكر 15- مدارج السالكين ابن القيم ط. دار الكتاب العربي 16- إعلام الموقعين ابن القيم ط. دار الجيل 17- كتاب الصلاة ابن القيم ط. المطبعة السلفية 18- مجموعة الفتاوى ابن تيمية ط. دار ابن تيمية
19- الصارم المسلول على شاتم الرسول ابن تيمية ط. دار الفكر 20- الإيمان ابن تيمية ط. السُّنَّة المحمدية 21- اقتضاء الصراط المستقيم ابن تيمية ط. السُّنَّة المحمدية 22- مقدمة في أصول التفسير ابن تيمية ط. المكتبة السلفية 23- الموافقات في أصول الشريعة الشاطبي ط. دار المعرفة 24- الاعتصام الشاطبي ط. دار المعرفة 25- تهذيب الفروق والقواعد السنية (هامش الفروق للقرافي) محمد بن حسين المالكي ط. دار المعرفة 26- الفصل في الملل والأهواء والنحل ابن حزم ط. مكتبة المثنى بغداد 27 الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض ط. الحلبي 28- شرح السُّنَّة للبغوي ط. المكتب الإسلامي 29- معالم السنن للخطابي ط. السُّنَّة المحمدية 30- الفرق بين الفرق للبغدادي ط. دار الكتب العلمية 31- شرح الفقه الأكبر للإمام أبي حنيفة النعمان ملا علي القاري ط. دار الكتب العلمية 32- جامع العلوم والحكم ابن رجب الحنبلي ط. الحلبي 33- نيل الأوطار للشوكاني ط. دار الجيل 34- فتح المجيد شرح كتاب التوحيد عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ ط. دار إحياء التراث العربي 35- المغني ابن قدامة المقدسي ط. مكتبة الرياض 36- الزواجر عن اقتراف الكبائر ابن حجر الهيتمي ط. الشعب 37- إحياء علوم الدين الغزالي ط. الشعب 38- كتاب الإيمان أبوبكر ابن أبي شيبة ط. المدني 39- كتاب الإيمان للقاسم بن سلام ط. المدني 40- شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز ط. زكريا علي يوسف 41- معارج القبول حافظ حكمي ط. المكتبة السلفية 42- أعلام السُّنَّة المنشورة حافظ حكمي ط. المركز العربي للنشر 43- مقالات الإسلاميين للأشعري ط. دار النهضة الحديث 44- الشريعة للآجرى ط. السُّنَّة المحمدية 45- أسباب النزول للواحدي ط. الحلبي 46- تاريخ الإسلام السياسي حسن إبراهيم حسن ط. مكتبة النهضة الحديثة 47- البيان والتبيين الجاحظ ط. الشركة اللبنانية للكتاب 48- مختار الصحاح ط. الحلبي
49- كلمة الإخلاص وتحقيق معناها ابن رجب الحنبلي ط. دار الفتح 50- بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاسائي ط. زكريا علي يوسف 51- المسودة في أصول الفقة ابن تيمية ط. المدني 52- منهاج السُّنَّة النبوية ابن تيمية ط. دار الكتب العلمية فهرس الموضوعات المقدمة ... الباب الأول ... الفصل الأول ـ: الإسلام والإيمان ... ... الفصل الثاني: الإيمان قول وعمل ... الفصل الثالث: ... أولاً: الاعتقاد ... ثانياً: الإصرار والرد ... الباب الثاني: ... الفصل الأول: مجمل أقوال المرجئة ... الفصل الثاني: أحاديث الشفاعة وحقيقة الشهادتين ... ... الفصل الثالث: ردود على الشبهات ... الباب الثالث: ... الفصل الأول: مجمل أقوال الخوارج ... ... الفصل الثاني: بحث في أقسام المعاصي ... ... الفصل الثالث: نقض أدلة الخوارج ... خاتمة ... مراجع ... فهرس الموضوعات ...