حقوق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته في ضوء الكتاب والسنة

محمد بن خليفة التميمي

مقدمة

المجلد الأول مقدمة ... مقدمة المؤلف إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا. أرسله بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، فهدى به من الضلالة، وبصر به من العمى، وأرشد به من الغي، وفتح به أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وعبد ربه حتى أتاه اليقين من ربه، صلى عليه وعلى آله وسلم تسليما. أما بعد: فما من بناء إلا وله أصل وأساس يقوم عليه، وإن أساس بناء دين الإسلام يقوم على أصلين هما: 1- عبادة الله وحده لا شريك له. 2- الإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم وهذا حقيقة قول "لا إله إلا الله محمد رسول الله" فمن خرج عن واحد منهما فلا عمل له ولا دين. ومن أجل ذلك فإن من المتعين على كل مسلم أن يعرف ما يدل عليه كل واحد من هذين الأصلين وما يشتمل عليه من أمور وأحكام، معرفة تخرجه من حد الجهل على أقل الدرجات، وأن يلتزم بذلك اعتقادا وقولا وعملا لينال بذلك الفوز والسعادة في الحياة الدنيا وبعد الممات. وهذه الرسالة موضوعها الأصل الثاني من أصلي هذا الدين وقد سميتها:

"حقوق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته في ضوء الكتاب والسنة" وقد دفعني إلى اختيار هذا الموضوع أهميته بالدرجة الأولى فهو كما أسلفت يُعنى بأحد أصلي الدين "شهادة أن محمدا رسول الله" فمن المهم والمفيد أن تبحث جوانب هذا الأصل وتعرف وتعرض وفق ما جاءت بذلك نصوص القرآن والسنة ووفق ما كان عليه سلفنا الصالح رضوان الله عنهم أجمعين. وبخاصة أننا نعيش في زمان قد حاد فيه كثير من الناس عن جادة الصواب في هذا الأصل واضطربوا اضطرابا شديدا. فتجلية الأمر وتوضيح الصواب وبيان الحق في هذا الأصل من الواجبات المتعينة على طلبة العلم في هذا الزمان، نظرا لعدم توفر كتاب بعينه يكون شاملا لجميع جوانب هذا الموضوع وتطمئن له النفس من جهة سلامة ما احتواه يمكن إحالة عامة الناس عليه. فرأيت أن من الرأي القويم أن أكتب في هذا الموضوع لأجمع فيه ما تفرق وأرتب ما تشتت، وأشرح ما يحتاج إلى شرح، وذلك وفق ما كان عليه منهج سلفنا الصالح من الاعتماد على نصوص الكتاب والسنة ونقل كلام الصحابة والتابعين وأئمة هذا الدين رضي الله عنهم أجمعين. فأرجو أن أكون قد وفقت في عرض هذا الموضوع على الوجه المطلوب، كما وفقت في حسن الاختيار أولا.

عملي في هذا الكتاب ويتلخص عملي في النقاط التالية: 1- جمعت المادة العلمية المتعلقة بالموضوع من آيات قرآنية وأحاديث نبوية وآثار مروية عن سلف الأمة، ونقول وأقوال للمتقدمين، والمتأخرين مما له صلة بالموضوع. 2- قسمت ما جمعت على أبواب الرسالة وفصولها ومباحثها ومطالبها ومسائلها ونقاطها، فرتبت ما تشتت وجمعت ما تفرق واختصرت وانتقيت مما توسع فيه حسب ما يقتضيه المقام وتدعو إليه الحاجة. 3- جعلت الآيات القرآنية بين قوسين هكذا {} وأشرت في الحاشية إلى رقم تلك الآية والسورة التي وردت فيها. 4- جعلت الأحاديث النبوية بين فاصلتين مزدوجتين " " مع تخريج كل حديث أوردته حسب ما يقتضيه المقام، وفي حالة ورود الحديث في الصحيحين أو أحدهما أكتفي بذلك عن عزوه إلى غيرهما. 5- عزوت الآثار المروية عن الصحابة والتابعين وأئمة هذا الدين إلى مصادرها بحسب ما وقفت عليه منها. 6- شرحت بعض الكلمات الغريبة معتمدا في ذلك على كتب غريب الحديث وشروحه والمعاجم اللغوية. لا- وثقت النقول والأقوال والآراء من المصادر والمراجع التي نقلتها منها وذلك بذكر الجزء والصفحة، وما تصرفت فيه أشرت، إلى ذلك بعبارة "بتصرف" في أغلب الأحيان. 8- ترجمت للأعلام الوارد ذكرهم في الرسالة عند أول موضع يرد فيه ذكر العلم. 9- وضعت فهارس للأمور التالية:

ا- فهرس الآيات القرآنية. 2- فهرس الأحاديث المرفوعة والموقوفة. 3- فهرس للآثار على ترتيب أصحابها. 4- فهرس للكلمات الغريبة والمواطن والفرق. 5- فهرس للأعلام المترجم لهم. 6- فهرس للمصادر والمراجع. 7- فهرس لموضوعات الرسالة. وبعد: فهذا جهد المقل وأستسمح القارئ الكريم عذرا إذا ما وجد في عملي هذا تقصيرا، فهذا جهد بشر، والمرء يستحضر في هذا المقام قول القائل: "إني رأيت أنه لا يكتب إنسان كتابا في يوم إلا قال في غده: لو غير هذا لكان أحسن، ولو زيد كذا لكان يستحسن، ولو قدم هذا لكان أفضل، ولو ترك هذا لكان أجمل، وهذا من أعظم العبر، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر"1 وفي الختام: أتوجه بالشكر إلى الله تعالى الذي سهل لي أمر إعداد هذه الرسالة بفضل منه وتوفيق، وأسأله سبحانه أن يجعل عملنا هذا خالصا لوجهه وأن ينفعنا بما علمنا إنه على كل شيء قدير. ومن ثم أشكر فضيلة الشيخ حماد بن محمد الأنصاري المشرف على هذه الرسالة على بذله من جهد وعون وتوجيه في إعدادها فجزاه الله خيرا، وكذلك كل من بذل المساعدة لي في إنجازها. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

_ 1 هذه العبارة للعماد الأصفهاني، وقد أوردها طه عبد الرؤوف في مقدمة تحقيقه لكتاب إعلام الموقعين (ص م) .

تمهيد

تمهيد الحمد لله الذي أكمل لنا ديننا، وأتم علينا نعمته، ورضي لنا الإسلام دينا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالدين القيم، والملة الحنيفية، وجعله على شريعة من الأمر، أمر باتباعها، وأمره بأن يقول {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} 1 صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما. وبعد: فإن الله عز وجل لم يخلق الخلق عبثا قال تعالى {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} 2. بل خلقهم لغاية ذكرها في كتابه الكريم في أكثر من موضع فقال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} . 3 وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} . 4 وقال تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} 5 فالحكمة من خلقه للخلق هي اختبارهم وابتلاؤهم ليجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته. فهذه هي الحكمة من خلقهم أولا وبعثهم ثانيا. ولذلك لم يتركهم هملا، بل أرسل إليهم رسله، فكان من سنة الله تبارك وتعالى مواترة

_ 1 الآية (108) من سورة يوسف 2 الآية (115) من سورة المؤمنون 3 الآية (2) من سورة الملك 4 الآية (7) من سورة هود 5 الآية (56) من سورة الذاريات

الرسل وتعميم الخلق بهم، بحيث يبعث في كل أمة رسولا ليقيم هداه وحجته كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 1، وقال تعالى {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} 2، وقال تعالى {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا} 3، وقال تعالى {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيما} 4 فالرسل هم الواسطة بين الله عز وجل ودون خلقه في تبليغ أمره ونهيه وإرشاد العباد إلى ما فيه صلاح معاشهم ومعادهم. وإن الله تبارك وتعالى جعل محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وأرسله للناس أجمعين، وأكمل له ولأمته الدين، وبعثه على حين فترة من الرسل وظهور الكفر وانطماس السبل، فأحيا به ما درس من معالم الإيمان، وقمع به أهل الشرك والكفر من عبدة الأوثان والنيران والصلبان، وأذل به كفار أهل الكتاب، وأهل الشرك والارتياب، وأقام به منار دينه الذي ارتضاه، وشاد به ذكر من اجتباه من عباده واصطفاه. فالله سبحانه وتعالى أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم للناس رحمة وأنعم به نعمة يا لها من نعمة: قال تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} 5 وقال تعالى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً} 6 وهم الذين لم

_ 1 الآية (36) من سورة النحل. 2 الآية (24) من سورة فاطر. 3 الآية (4) من سورة المؤمنون 4 الآية (65) من سورة النساء. 5 الآية (57) من سورة الأنبياء. 6 الآية (28) من سورة ابراهيم.

وإنما كان إرساله صلى الله عليه وسلم إلى الناس أعظم منة امتن بها على عباده لأن في ذلك تخليص من وفقه الله وهداه منهم من العذاب السرمدي، وذلك بسبب الإيمان بالله ورسوله والابتعاد عن كل ما يوجب دخول النار والخلود فيها. ولذلك فإن الناس أحوج ما يكونون إلى الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم والأخذ بما جاء به من الدين فهم أحوج إلى ذلك من الطعام والشراب بل ومن نفس الهواء الذي يتنفسونه، فإنهم متى فقدوا ذلك فالنار جزاء من كذب بالرسول وتولى عن طاعته كما قال تعالى: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى، لا يَصْلاهَا إِلاَّ الأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} 1 أي كذب به وتولى عن طاعته، فهم محتاجون إلى الإيمان بالرسول وطاعته والأخذ بما جاء به والالتزام بذلك في كل مكان وزمان ليلا ونهارا، سفرا وحضرا سرا وعلانية. ولما كانت منزلة النبي صلى الله عليه وسلم عند ربه بهذه المرتبة وكانت حاجة الناس إليه بهذه الدرجة، فقد أوجب الله لنبيه صلى الله عليه وسلم على هذه الأمة جملة من الحقوق والواجبات تنظم العلاقة التي تربطهم به تنظيفا دقيقا لا لبس فيه ولا اشتباه. وهذه الحقوق منها ما يتصل بجانب الرسالة التي بعث بها، ومنها ما يتعلق بخاصة شخص الرسول صلى الله عليه وسلم تفضيلا وتكريما من الله له. وقد وردت في شأن تلك الحقوق نصوص كثيرة في كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وضَّحت وفصَّلت وبيَّنت جوانب تلك الحقوق. وهذه الحقوق في جملتها هي الأصل الثاني من أصلي الدين كما يدل عليه قولنا "أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله". ولذا فقد كان لزاما على كل من ينطق بهذه الشهادة، ويدين الله بهذا الدين

_ 1 الآيات (14- 15- 16) من سورة الليل.

أن يحيط بتلك الحقوق معرفة، ويلتزم بها اعتقادا وقولا وعملا، فذلك عقد من عقود الإيمان الذي لا يحصل إيمان العبد إلا به. ومما يؤسف له أن كثيرا من المسلمين اليوم هم على درجة كبيرة من الجهل بهذه الحقوق فتراهم لذلك على طرفي نقيض هذا المقام: - فإما مقصر عن القيام بهذه الحقوق التي أوجبها الله على الأمة فتراه لا يقيم لها وزنا ولا يلقي لها بالا. - وإما غال مبتدع منكب على ما ابتدعه، يظن أنه بما يفعله من أمور مبتدعة في هذا المقام قد أحسن صنعا وأنه مؤد لما أوجبه الله من حق لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وكلا الطرفين صاحب حال مذموم غير محمود. فلما كان عامة أصحاب هذين الطرفين إنما أوقعهم فيما هم فيه، جهلهم بمعرفة تلك الحقوق على الوجه المطلوب شرعا. ولما كانت هذه الحقوق هي من جملة هذا الدين الذي تعبدنا الله به، فكان لا بد فيها من توفر شرطي القبول: أ- الإخلاص. 2- الصواب (الاتباع) . كما قال تعالى {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} 1 فقد أحببت أن أوضح تلك الحقوق النبوية وفق ما جاءت بذلك النصوص الشرعية، وما كان عليه سلف هذه الأمة وأئمتها، عسى أن يكون في هذا البيان والتوضيح تعليم للجاهل، وتذكير للغافل، وتحذير وردع للمبتدع، ومدارسة للعارف.

_ 1 الآية (10) من سورة الكهف.

فأسأل الله عز وجل التوفيق والرشاد وأن يرزقنا التمسك بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم والسير على هديه والتأسي به، وأن يشرح لذلك صدورنا وينير قلوبنا إنه جواد كريم وعلى كل شيء قدير.

الباب الأول: وجوب الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم وطاعته واتباع سنته

الباب الأول: وجوب الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم وطاعته واتباع سنته الفصل الأول: وجوب الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم المبحث الأول: تعريف الإيمان وبيان معنى شهادة أن محمدا رسول الله المطلب الأول: تعريف الإيمان عموما ... المطلب الأول: تعريف الإيمان عموما. أ- المعنى اللغوي لكلمة "آمن": الإيمان مصدر آمن يؤمن إيمانا فهو مؤمن أ- ويرى جمع من أهل اللغة أن الإيمان في اللغة معناه: التصديق وقد حكوا الإجماع على ذلك قال الأزهري1: "واتفق أهل العلم من اللغويين وغيرهم أن الإيمان معناه التصديق"2. واستدلوا لذلك بقوله تعالى حكاية عن إخوة يوسف لأبيهم {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} 3 فقالوا معناه ما أنت بمصدق لنا4. 2- أما علماء السلف5 فيقولون إن الإيمان يأتي في اللغة لمعنيين هما: أ- بمعنى صدق به وذلك إذا عدي بالباء كما في قوله تعالى {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ ... } الآية6 أي صدق الرسول7. ب- وبمعنى أقر له وذلك إذا عدي باللام كما في قوله تعالى {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} ، وقوله تعالى {فَآمَنَ لَهُ لُوط} 8.

_ 1 هو: محمد بن أحمد بن الأزهر الهروي أبو منصور أحد الأئمة في اللغة والأدب ولد سنة 282هـ وتوفي سنة 370هـ وهو صاحب كتاب تهذيب اللغة. انظر الأعلام للزركلي (5/311) . 2 تهذيب اللغة (5/513) . 3 الآية (7) من سورة يوسف. 4 لسان العرب لابن منظور، مادة آمن (13/23) . 5 شرح العقيدة الأصفهانية لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص 143) . 6 الآية (285) من سورة البقرة. 7 تفسير القرطبى (3/ 425) . 8 الآية (6) من سورة العنكبوت.

وقد اعترض السلف على حصر أهل اللغة لمعنى الإيمان بالتصديق فقط وقالوا: "إن الإيمان وإن كان يتضمن التصديق فليس هو مجرد التصديق، وإنما هو الإقرار1 والطمأنينة أيضا"2 واستدل السلف لقولهم بالأمور التالية: أولا: إن الترداف التام ممتنع بين التصديق والإيمان من عدة وجوه، يوضحها الجدول التالي الإيمان ... التصديق - إن كلمة آمن تتعدى بالباء وباللام وقد تقدم التمثيل لذلك. - إن كلمة آمن تتضمن ثلاثة معان هي: الأمن، والتصديق، والأمانة - إن لفظ الإيمان لا يستعمل إلا في الخبر عن الغائب لأن فيه أصل معنى الأمن والائتمان وهذا إنما يكون في الخبر عن الغائب، فلا يقال لمن قال طلعت الشمس آمنا له وإنما يقال صدقناه ولهذا لم يأت في القرآن وغيره لفظ آمن له إلا في الخبر عن الغائب - إن لفظ الإيمان ضده الكفر، والكفر لا يختص بالتكذيب فقط بل هو أعم منه، إذ يمكن أن يكون مخالفة ومعاداة بلا تكذيب ومع ذلك يسمى كفرا كما لو قال شخص: أنا أعلم أنك صادق، ولكن لا أتبعك بل أعاديك وأبغضك وأخالفك، فهذا كفر أعظم. ... - أما كلمة "صدق" فلا تتعدى باللام فلا يقال "صدق له" إنما يقال "صدق به" فهي تتعدى بالباء وبنفسها فيقال صدقه. - أما كلمة صدق فلا تتضمن معنى الأمن والأمانة. - أما لفظ التصديق فيستعمل في كل مخبر عن مشاهد أو غيب، فمن قال السماء فوقنا، قيل له: صدقت - أما لفظ التصديق ضده التكذيب فقط.

_ 1 الإقرار: متضمن لمعنيين هما: قول القلب الذي هو التصديق. وعمل القلب الذي هو الانقياد. مجموع الفتاوى (7/ 638- 639) . 2 الصارم المسلول لابن تيمية (ص519) .

وبهذا يتبين عدم الترداف التام بين اللفظين، وأن الإيمان ليس التصديق فقط1 كما أن الكفر ليس التكذيب فقط. ثانيا: من المعلوم أن كلام الله وشرعه إنما هو خبر وأمر. فالخبر: يستوجب تصديق الخبر. والأمر يستوجب الانقياد له والاستسلام، وهو عمل في القلب، جماعه: الخضوع والانقياد للأمر، وإن لم يفعل المأمور به. فإذا قوبل الخبر بالتصديق، والأمر بالانقياد، فقد حصل أصل الإيمان في القلب وهو "الطمأنينة والإقرار" فإن اشتقاقه من الأمن الذي هو القرار والطمأنينة، وذلك إنما يحصل إذا استقر في القلب التصديق والانقياد. فلو فُسِّر الإيمان بالتصديق فقط، كما قال أهل اللغة، فإن التصديق إنما يعرض للجزء الأول من الشرع فقط الذي هو الخبر، ولا يعرض للجزء الثاني وهو الأمر، لأن الأمر ليس فيه تصديق من حيث هو أمر. ومن المعلوم أن إبليس لم يكفر بسبب عدم تصديقه، فإنه سمع أمر الله فلم يكذب رسولا، ولكن لم ينقد للأمر ولم يخضع له، واستكبر عن الطاعة فصار كافرا، قال تعالى: {إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} 2 فسماه الله كافرا وسلب عنه وصف الإيمان لاستكباره وعدم انقياده لأمرالله له بالسجود لآدم. لازم القول بأن الإيمان مجرد التصديق فقط. وهذا موضع زاغ فيه خلق من الخلف تخيل لهم أن الإيمان ليس في الأصل

_ 1 انظر شرح العقيدة الطحاوية (ص380 - 381) . 2 الآية (4) من سورة البقرة.

إلا التصديق، ثم يرون مثل إبليس وفرعون مما لم يصدر عنه تكذيب أو صدر عنه تكذيب باللسان لا بالقلب وكفره من أغلظ الكفر فيتحيرون. ومثل هؤلاء القوم لو أنهم هُدوا لما هُدي إليه السلف الصالح لعلموا أن الإيمان قول وعمل أعني في الأصل قولا في القلب، وعملا في القلب، فإن الإيمان بحسب كلام الله ورسالته- وكلام الله ورسالته يتضمن أخباره وأوامره- فيصدق القلب أخباره تصديقا يوجب حالا في القلب بحسب المصدق به، والتصديق هو من نوع العلم والقول، وينقاد لأمره ويستسلم، وهذا الانقياد والاستسلام هو من نوع الإرادة والعمل، ولا يكون مؤمنا إلا بمجموع الأمرين فمتى ترك الانقياد كان مستكبرا فصار من الكافرين وإن كان مصدقا، لأن الكفر أعم من التكذيب، فالكفر يكون تكذيبا وجهلا، ويكون استكبارا وظلما، ولهذا لم يوصف إبليس إلا بالكفر والاستكبار دون التكذيب، ولهذا كان كفر من يعلم مثل اليهود ونحوهم من جنس كفر إبليس، وكان كفر من يجهل مثل النصارى ونحوهم ضلالا وهو "الجهل" ألا ترى أن نفرا من اليهود جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسألوه عن أشياء، فأخبرهم، فقالوا: نشهد أنك نبي، ولم يتبعوه، وكذلك هرقل وغيره، فلم ينفعهم هذا العلم وهذا التصديق. ألا ترى أن من صدق الرسول بأن ما جاء به هو رسالة الله، وقد تضمنت خبزا وأمرا، فإنه يحتاج إلى مقام ثان، وهو تصديق خبر الله وانقياده لأمر الله، فإذا قال: "أشهد أن لا إله إلا الله" فهذه الشهادة تتضمن تصديق خبره والانقياد لأمره. "وأشهد أن محمدا رسول الله" تضمنت تصديق الرسول فيما جاء به من عند الله.

فبمجموع هاتين الشمهادتين يتم الإقرار. فلما كان التصديق لا بد منه في كلا الشهادتين- وهو الذي يتلقى الرسالة بالقبول- ظن من ظن أنه أصل لجميع الإيمان وغفل عن أن الأصل الآخر لا بد منه وهو الانقياد، وإلا فقد يصدق الرسول، ظاهرا وباطنا ثم يمتنع من الانقياد للأمر، إذ غايته في تصديق الرسول أن يكون بمنزلة من سمع الرسالة من الله سبحانه كإبليس"1. ثالثا: ما استدل به أهل اللغة على أن معنى الإيمان في قوله تعالى {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} هو التصديق غير مسلم. إذ يرى علماء السلف أن تفسيرها بـ "أقررت" أقرب من تفسيرها بـ " صدقت " وذلك لأن لفظ "آمن" متى عُدّي باللام يكون بمعنى "أقر" وليس بمعنى "صدق"، إذ لا يكون بمعنى صدق الا إذا عُدّي بالباء أوبنفسه. ب- المعنى الشرعي للإيمان: تنوعت عبارات السلف في تعريف الإيمان: أ- فتارة يقولون: الإيمان قول وعمل. 2- وتارة يقولون: هو قول وعمل ونية. 3- وتارة يقولون: هو قول وعمل ونية واتباع سنة 2. 4- وتارة يقولون: الإيمان: قول اللسان، واعتقاد بالقلب، وعمل بالجوارح يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية3.

_ 1 الصارم المسلول (ص 519- 520) بتصرف. 2 هذه التعريفات الثلاثة أوردها شيخ الاسلام ابن تيمية في كتابه الايمان. انظر (ص 162) . 3 مجمرع الفتاوى (7/642) .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية1 بعد أن أورد التعريفات الثلاثة الأول: "وكل هذا صحيح"2 وعلل ذلك بقوله3: "فمن قال إن الإيمان قول وعمل فمرداه قول اللسان والقلب وعمل القلب والجوارح". وقول اللسان وعمل الجوارح معروفان. وأما المقصود من قول القلب: فهو إقراره ومعرفته وتصديقه. وأما عمله: فهو انقياده لما صدق به. ومن عبر عن الإيمان بهذا التعريف ليس مراده كل قول أو عمل وإنما المراد ما كان مشروعا من الأقوال والأعمال. كما أن تعبير بعض السلف بهذه العبارة في تعريف الإيمان إنما جاء في معرض الرد على المرجئة4 الذين جعلوه قولا فقط، فقال بعض السلف ردا عليهم: بل قول وعمل5.

_ 1 هو شيخ الاسلام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن الخضر بن محمد ابن تيمية النميرى، الحرّاني الدمشقي، ولد سنة إحدى وستين وستمائة (661هـ) بحران، وتوفي سنة ثمان وعشرين وسبعمائة (728 هـ) بدمشق، اشتهر رحمه الله بالعلم والزهد والورع والعبادة والجهاد والدفاع عن عقيدة السلف وقد ألف في سيرته المؤلفات الكثيرة. انظر: "كتاب الشهادة الزكية في ثناء الأئمة على ابن تيمية" تأليف مرعي بن يوسف الحنبلي. 2 كتاب الإيمان لشيخ الاسلام ابن تيمية (ص 162) . 3 كلام شيخ الإسلام نقلته بتصرف من كتابه الايمان (ص 162- 163) . 4 المرجئة هم الذين أرجؤوا العمل عن مسمى الإيمان وهم خمس طوائف سيأتي ذكرهم. 5 قال شيخ الاسلام ابن تيمية: "الناس لهم في مسمى الكلام والقول عند الإطلاق أربعة أقوال: ا- فالذي عليه السلف والفقهاء والجمهور أنه يتناول اللفظ والمعنى جميعا. 2- وقيل: بل مسماه اللفظ، والمعنى ليس جزء مسماه بل هو مدلول مسماه، وهذا قول كثير من أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم وطائفة من المنتسبين الى السنة، وهو قول النحاة لأن صناعتهم متعلقة بالألفاظ. 3- وقيل: مسماه هو المعنى وإطلاق الكلام على اللفظ مجاز لأنه دال عليه وهذا قول ابن كلاب ومن اتبعه. 4- وقيل: بل هو مشترك بين اللفظ والمعنى وهو قول بعض المتأخرين من الكلابية ولهم قول ثالث يروى عن أبي الحسن أنه مجاز في كلام الله حقيقة في كلام الآدميين" كتاب الإيمان (ص 162) .

وأما من عرفه بقوله هو قول وعمل ونية، فمقصوده بزيادة لفظ "ونية": أن القول يتناول الاعتقاد وقول اللسان. وأما العمل فقد لا يفهم منه النية فزاد ذلك1. وأما من عرفه بأنه قول وعمل ونية واتباع سنة، فقد زاد لفظة "واتباع سنة" لأن ذلك كله لا يكون محبوبا لله إلا باتباع السنة2. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وقد سئل سهل بن عبد الله التستري3 عن الإيمان ما هو؟، فقال: قول وعمل ونية واتباع سنة. لأن الإيمان إذا كان قولا بلا عمل فهو كفر. وإذا كان قولا وعملا بلا نية فهو نفاق. وإذا كان قولا وعملا ونية بلا سنة فهو بدعة4. وأجمع التعاريف الواردة وأشملها هو: أن الإيمان قول اللسان واعتقاد بالجنان وعمل الجوارح يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.

_ 1 كتاب الإيمان (ص 163) . 2 كتاب الإيمان (ص 163) . 3 هو: سهل بن عبد الله بن يونس التستري أبو محمد ولد سنة (200 هـ) وتوفي سنة (283 هـ) ، عامة كلامه في تصفية الأعمال من المعائب، وأسند الحديث وأسند عنه. شذرات الذهب (3/ 182) ، والأعلام (3/143) . 4 كتاب الإيمان (ص 163) .

وهذا التعربف هو الذي يميز قول السلف في مسمى الإيمان عن قول غيرهم من الفرق1 ولهذا كان هذا التعريف هو أجمع التعاريف الواردة عن السلف وأكثرها دقة في بيان قولهم. ج- دلالة اسم الإيمان: تتحدد دلالة اسم "الإيمان" بحسب سياق الكلام الذي تستعمل فيه هذه اللفظة فلفظ "الإيمان" إما أن يستعمل: أ- مطلقا: أي يذكر مطلقا عن لفظ "العمل" و"الإسلام". 2- أو مقيدا: فتارة يقرن بالعمل الصالح، وتارة يقرن بالإسلام. فإذا استعمل مطلقا: "فجميع ما يحبه الله ورسوله من أقوال العبد وأعماله 1 الذين خالفوا السلف في مسمى الإيمان هم: أ- المرجئة بطوائفهم الخمس: ا- الجهمية: وقالوا الإيمان هو معرفة القلب فقط: أى المعرفة الفطرية التي هي المعرفة بربوبية الله. 2- الأشاعرة: وقالوا الإيمان هو التصديق فقط أي التصديق بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من عند الله. 3- الماتريدية: وقولهم في الإيمان مثل قول الأشاعرة. 4- الكرامية: قالوا الإيمان قول باللسان فقط. 5- مرجئة الأحناف (أو مرجئة الفقهاء) قالوا: الإيمان قول باللسان وتصديق بالجنان. وهو قول الكلابية. وكل هذه الطوائف الخمسة أخرجت العمل عن الإيمان. ب- الخوارج: قالوا الإيمان قول واعتقاد وعمل ولكنهم يكفرون من أخل بشيء من هذه الثلاثة ويقولون بأنه كافر في الدنيا وفى الآخرة خالد في النار. ج- المعتزلة: وقالوا بقول الخوارج إلا أنهم يقولون إنه في الدنيا في منزلة بين منزلتين بمعنى أنه ليس بمؤمن ولا كافر، واتفقوا معهم في باقي الأمور. انظر تفاصيل هذه الأقوال: في كتاب الإيمان لابن تيمية، والجزء السابع من مجموع الفتاوى، وشرح العقيدة الطحاوية (ص 373- 392) وكتاب النبوات (ص 199) .

الباطنة والظاهرة، يدخل في مسمى الإيمان عند عامة السلف والأئمة- من الصحابة والتابعين وتابعيهم- الذين يجعلون الإيمان قولا وعملا، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، ويدخلون جميع الطاعات- فرضها ونفلها- في مسماه"1. ويلاحظ هنا أن لفظ "الإيمان" على هذا الاستعمال يكون مرادفا للفظ "العبادة" والعبادة كما هو معروف هي: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة. ومن استعمال الشارع للفظ الإيمان بهذا المعنى ما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة2 رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وسبعون شعبة أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان" 3. فالإيمان في هذا الحديث شمل جميع أمور الدين بما في ذلك أمور الإسلام. ومن هذا الاستعمال أيضا ما جاء في حديث عبد الله بن عباس4 رضي الله

_ 1 مجموع الفتاوى (7/ 642) . 2 أبو هريرة بن عامر واختلف في اسمه إلى عدة أقوال: منها أنه عبد الرحمن، وهو دوسي أسلم عام خيبر وشهدها ثم لازم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قبضه الله إليه، وكان من أحفظ الصحابة رضي الله عنهم، توفي عام 57 هـ. أسد الغابة (2/ 167) . 3 أخرجه البخارى في صحيحه، كتاب الإيمان، باب أمور الدين. انظر: فتح الباري (1/51) ح 9 وأخرجه مسلم - واللفظ له - كتاب الإيمان، باب شعب الإيمان (1/ 46) . 4 عبد الله بن عباس بن عبد المطب الهاشمي- ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم - ولد قبل الهجرة بثلاث سنوات في الشعب أثناء الحصار، وكان رضي الله عنه ترجمان القرآن وحبر الأمة لعلمه وفهمه، توفي سنة 84هـ. الإصابة (6/ 167- 173) .

عنهما: أن وفد عبد القيس1 لما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بأربع ونهاهم عن أربع: "أمرهم بالإيمان بالله وحده، قال: أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟، قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وأن تعطوا من المغنم خمس ... " الحديث2. فلفظ الإيمان استعمل في الحديث مطلقا فدخل فيه الأمور الظاهرة مع أنها من أمور الإسلام كما جاء في حديث جبريل المشهور. وأما إذا استعمل اسم الإيمان مقيدا كما في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} 3، وقوله {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} 4. وفول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل المشهور: "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره " 5. فهنا قد يقال: إنه متناول لذلك وإن عطف ذلك عليه من باب عطف

_ 1 هي قبيلة كبيرة كانوا يسكنون البحرين ينسبون إلى عبد القيس بن أفْصى- بسكون الفاء بعدها مهملة بوزن أعمى- ابن دُعمِيّ- بضم ثم سكون المهملة وكسر الميم بعدها تحتانية ثقيلة- ابن جَديلة -بالجيم وزن كبيرة- ابن أسد بن ربيعة بن نزار. انظر: فتح الباري (8/85) . 2 أخرجه البخارى في صحيحه واللفظ له: كتاب الإيمان، باب أداء الخمس من الإيمان. انظر: فتح الباري (1/129) ح 53، وأخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الإيمان، باب الأمر بالإيمان بالله ورسوله وشرائع الدين والدعاء إليه (1/35 - 36) . 3 الآية (77) من سورة البقرة وغيرها. 4 الآية (63) من سورة يونس. 5 أخرجه بهذا اللفظ مسلم في صحيحه: كتاب الإيمان، باب الإيمان ما هو وبيان خصاله (1/29) . والحديث أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل بلفظ: "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته، ولقائه، ورسله، وتؤمن بالبعث". انظر: فتح الباري (1/ 114) ، ح 50.

الخاص على العام كقوله تعالى: {وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} 1، وقوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَم} الآية2. وقد يقال إن دلالة الاسم تنوعت بالإفراد والاقتران كلفظ الفقير والمسكين، فإن أحدهما إذا أفرد تناول الآخر، وإذا جمع بينهما كانا صنفين: كما في آية الصدقة، ولا ريب أن فروع الإيمان مع أصوله كالمعطوفين، وهي مع جميعه كالبعض مع الكل". قلت: إن القول بأن عطف ذلك عليه من باب عطف الخاص على العام ينطبق على الآية وهي قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} ، وقوله تعالى {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} . والقول بأن دلالة الاسم تنوعت بالإفراد والاقتران ينطبق على حديث جبريل حيث ذكر الإسلام والإيمان فأصبح كل واحد منهما يختص بأمور معينة فالإسلام اختص بالأمور الظاهرية، والإيمان اختص بالأمور الاعتقادية الباطنية. "فلفظ الإسلام والإيمان إذا أفرد كل واحد من الاسمين دخل في مسمى الآخر إما تضمنا وإما لزوما، ودخوله فيه تضمنا أظهر، وكون أحدهما لا يدخل في الآخر عند الاقتران لا يدل على أنه لا يدخل فيه عند انفراد الآخر، وهذه قاعدة جليلة من أحاط بها زالت عنه إشكالات كثيرة أشكلت على كثير من الناس"3.

_ 1 الآية (98) من سورة البقرة. 2 الآية (7) من سورة الأحزاب. 3 مجموع الفتاوى (7/647 - 648) .

خلاصة القول: إن اسم الإيمان إذا أفرد: تناول جميع أمور الدين الظاهرة والباطنة كما في حديث الشعب. وإذا اقترن اسم الإيمان مع الإسلام دل الإيمان على الأمور الباطنة ودل الإسلام على أمور الدين الظاهرة كما في حديث جبريل. وإذا اقترن العمل مع الإيمان: فهو من باب عطف الخاص على العام1 كما في قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} .

_ 1 قال شارح الطحاوية: "اعلم أن عطف الشيء على الشيء يقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه مع الاشتراك في الحكم الذي ذكر لهما، والمغايرة على مراتب: ا- أعلاها: أن يكونا متباينين ليس أحدهما هو الآخر، ولا جزءا منه، ولابينهما تلازم، كقوله تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} الآية (1) من سورة الأنعام، وقال تعالى: {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ} الآية (3) من سورة آل عمران، وهذا هو الغالب. 2- ويليه: أن يكون منهما تلازم، كقوله تعالى: {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} الآية (42) من سورة البقرة، وقال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} الآية (92) من سورة المائدة. 3- الثالث: عطف بعض الشيء عليه كقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} الآية (238) من سورة البقرة، وقال تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَال} الآية (238) من سورة البقرة وقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْك} الآية (7) من سورة الأحزاب، وفى مثل هذا وجهان: أحدهما: أن يكون داخلا في الأول، فيكون مذكورا مرتين. والثاني: أن عطفه عليه يقتضي أنه ليس داخلا فيه هنا وإن كان داخلا قيه منفردا كما قيل في لفظ "الفقراء والمساكين" ونحوهما، تتنوع دلالته بالإفراد والاقنران. 4- الرابع: عطف الشيء على الشيء لاختلاف الصفتين، كقوله تعالى: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} الآية (3) من سورة غافر. شرح العقيدة الطحاوية (ص 387- 388) .

المطلب الثاني: تعريف الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم

المطلب الثاني: تعريف الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم "الإيمان بالرسول: هو تصديقه وطاعته واتباع شريعته".1 وهذه الأمور هي الركائز التي يقوم عليها الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم وعن بيان هذه الأمور مطلوبة عند الإيمان به بالنبي صلى الله عليه وسلم. قال العلماء: أ- أما تصديقه صلى الله عليه وسلم فيتعلق به أمران عظيمان: أحدهما: إثبات نبوته وصدقه فيما بلغه عن الله، وهذا مختص به صلى الله عليه وسلم2. ويندرج تحت هذا الإثبات والتصديق عدة أمور منها: 1- الإيمان بعموم رسالته إلى كافة الثقلين إنسهم وجنهم. 2- الإيمان بكونه خاتم النبين ورسالته خاتمة الرسالات. 3- الإيمان بكون رسالته ناسخة لما قبلها من الشرائع. 4- الإيمان بأنه صلى الله عليه وسلم قد بلغ الرسالة وأكملها وأدى الأمانة ونصح لأمته حتى تركهم على البيضاء ليلها كنهارها. 5- الإيمان بعصمته صلى الله عليه وسلم. 6- الإيمان بماله من حقوق خلاف ما تقدم ذكره كمحبته وتعظيمه صلى الله عليه وسلم. وسيأتي تفصيل الأمور الخمسة المتقدمة بأدلتها في المباحث اللاحقة من هذا الفصل بإذن الله تعالى.

_ 1 كتاب اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم (ص 92) . 2 مجموع الفتاوى (15/91) .

أما الحقوق الأخرى الواجبة له فسيأتي تفصيلها في الأبواب القادمة إن شاء الله تعالى. الثاني:" تصديقه فيما جاء به، وأن ما جاء به من عند الله حق يجب اتباعه. وهذا يجب عليه صلى الله عليه وسلم وعلى كل أحد"1. فيجب تصديق النبي صلى الله عليه وسلم جميع ما أخبر به عن الله عز وجل، من أنباء ما قد سبق وأخبار ما سيأتي، وفيما أحل من حلال وحرّم من حرام، والإيمان بأن ذلك كله من عند الله عز وجل، قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} 2. قال شارح العقيدة الطحاوية: "يجب على كل أحد أن يؤمن بما جاء به الرسول إيمانا هملا، ولا ريب أن معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم على التفصيل فرض على الكفاية"3. ب- طاعته واتباع شريعته: إن الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم كما يتضمن تصديقه فيما جاء به فهو يتضمن كذلك العزم على العمل بما جاء به وهذه هي الركيزة الثانية من ركائز الإيمان به صلى الله عليه وسلم. وهي تعني: الانقياد له صلى الله عليه وسلم وذلك بفعل ما أمر به واجتناب ما نهى عنه وزجر امتثالا لقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 4. فيجب على الخلق اتباع شريعته والالتزام بسنته مع الرضا بما قضاه والتسليم

_ 1 مجموع الفتاوى (15/ 91) . 2 الآية (3،4) من سورة النجم. 3 شرح العقيدة الطحاوية (ص 66) . 4 الآية (7) من سورة الحشر.

له، والاعتقاد الجازم أن طاعته هي طاعة لله وأن معصيته معصية لله لأنه هو الواسطة يين الله وبين الثقلين في التبليغ. وسيأتي بيان هذه المسألة في الفصل الثاني من هذا الباب إن شاء الله تعالى. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " يجب على الخلق الإقرار1 بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فما جاء به القرآن العزيز أو السنة المعلومة وجب على الخلق الإقرار به جملة وتفصيلا عند العلم بالتفصيل، فلا يكون الرجل مؤمنا حتى يقر بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وهو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فمن شهد أنه رسول الله شهد أنه صادق فيما يخبر به عن الله تعالى فإن هذا حقيقة الشهادة بالرسالة"2.

_ 1 يقول ابن تيمية في بيان معنى الإقرار: "إن الإيمان هو الإقرار لا مجرد التصديق، والإقرار ضمن قول القلب الذي هو التصديق وعمل القلب الذي هو الانقياد". مجموع الفتاوى (7/ 638، 639) . 2 مجموع الفتاوى (5/ 154) .

المطلب الثالث: معنى شهادة أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم

المطلب الثالث: معنى شهادة أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم أ- معناها: "معنى شهادة أن محمدا رسول الله: طاعته فيما أمر وتصديقه فيما أخبر واجتناب ما نهى عنه وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع"1. وهذه الشهادة هي الشطر الثاني من الركن الأول من أركان الإسلام الخمسة، كما أن الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم داخل في الركن الرابع من أركان الإيمان الستة، ويشهد لذلك حديث جبريل المشهور. ويلاحظ أننا عرّفنا الشهادة والإيمان به بتعريف واحد، وهذا الأمر يصح في حالة الإفراد كما سبق وأن ذكرت في لفظ الإسلام والإيمان، أما في حالة الاقتران فالإيمان به يختص بتصديق القلب وإقراره، والشهادة يراد بها نطق اللسان واعترافه، ويجب تحقيق هذه الشهادة معرفة وإقرارا وانقيادا وطاعة2. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما الإيمان بالرسول فهو المهم، إذ لا يتم الإيمان بالله بدون الإيمان به، ولا تحصل النجاة والسعادة بدونه، إذ هو الطريق إلى الله سبحانه، ولهذا كان ركنا الإسلام: "أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله"3. ب- شروط الشهادتين: بعد ذكر معنى "شهادة أن محمدا رسول الله " ناسب المقام أن نشير ههنا

_ 1 الأصول الثلاثة للشيخ محمد بن عبد الوهاب (ص 9) ضمن مجموعة الرسائل المفيدة. 2 زاد المعاد (1/ 34) . 3 مجموع الفتاوى (8/ 638، 639) .

إلى شروط هذه الشهادة بشقيها، لأننا في زمان يجهل فيه كثير من الناس هذه الشروط، إذ يعتقد كثير منهم لجهلهم أن التلفظ وحده يكفي لتحقيق الشهادة ويستغنون بهذا عن العمل بالمقتضى المترتب على هذه الشهادة. وتصويبا لهذا الخطأ وإزالة لهذا الجهل أقول: إنه من المعلوم أن العبد لا يدخل في دين الإسلام إلا بعد الإتيان بالشهادتين "شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدا رسول الله". قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} 1 وقال صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله" 2. ومن المعلوم كذلك أن جميع الدين داخل في الشهادتين إذ مضمونهما أن لا نعبد إلا الله وأن نعبده بما شرع على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ونطيعه فيما جاء به عن ربه سبحانه وتعالى، والدين كله داخل في هذا. ولهاتين الشهادتين شروط لا بد من توفرها فيهما، إذ لا يمكن لقائلهما أن ينتفع بهما إلا بعد اجتماعها فيهما، وهذه الشروط مطلوبة في كلا الشهادتين، وذلك لما بينهما من التلازم، فالعبد لا يدخل في الدين إلا بهما معا. وهي سبعة شروط: الشرط الأول: العلم:

_ 1 الآية (15) من سورة الحجرات. 2 أخرجه البخارى في صحيحه، كناب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن الرسول صلى الله عليه وسلم. انظر: فتح الباري (13/250) ، ومسلم في صحيحه: كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله (1/ 38) .

إذ العلم بالشيء شرط عند الشهادة به ويشهد لذلك قوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 1. ومن الأدلة على وجوب العلم بالشهادة قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} 2، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة" 3. والعلم المراد به هنا هو معرفة معنى الشهادتين ومقتضاهما واللوازم المترتبة على ذلك. فلا إله إلا الله معناها: لا معبود بحق إلا الله. ومقتضاها ولازمها: نفي الشرك وإثبات الوحدانية لله تعالى وإفراده بالعبادة مع الاعتقاد الجازم لما تضمنته من ذلك والعمل به4. ومعنى شهادة أن محمدا رسول الله: الإقرار والاعتراف للرسول صلى الله عليه وسلم أنه عبد الله ورسوله إلى الناس كافة5. ومقتضاها ولازمها: طاعته فيما أمر وتصديقه فيما أخبر واجتناب ما نهى عنه وزجر وألا يعبد الله إلا بما شرع. الشرط الثاني: اليقين: أي استيقان القلب بالشهادتين، وذلك بأن يعتقدهما اعتقادا جازما لا

_ 1 الآية (86) من سورة الزخرف. 2 الآية (19) من سورة محمد. 3 أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الإيمان، باب من لقي الله بالإيمان وهو غير شاك فيه دخل الجنة وحرم على النار. انظر (1/ 41) . 4 تيسير العزيز الحميد (ص 58) . 5 دليل المسلم في الاعتقاد للشيخ عبد الله خياط (ص 45) .

يصاحبه شك أو ارتياب، لأن الإيمان لا يغني فيه إلا علم اليقين لا علم الظن، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} 1. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "من لقيت وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستقينا بها قلبه فبشره بالجنة" الحديث2. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة" 3. الشرط الثالث: الإخلاص: "وهو تصفية العمل بصالح النية عن جميع شوائب الشرك"4. قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} الآية5. وقال تعالى: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} 6 "أي لا يقبل الله من العمل إلا ما أخلص فيه العامل لله وحده لا شريك له". وقال قتادة7 في قوله تبارك وتعالى: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} شهادة أن لا

_ 1 الآية (15) من سورة الحجرات. 2 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب من لقي الله بالإيمان وهو غير شاك فيه دخل الجنة وحرم على النار (1/ 44) . 3 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب من لقي الله بالإيمان وهو غير شاك فيه دخل الجنة وحرم على النار (1/ 41- 42) . 4 معارج القبول للشيخ حافظ بن أحمد حكمي (1/ 382) . 5 الآية (5) من سورة البينة. 6 الآية (3) من سورة الزمر. 7 قتادة بن دعامة السدوسي أبو الخطاب البصري، ولد سنة 61 هـ وتوفي سنة 118 هـ ثقة ثبت، مفسر حافظ ضرير أكمه. قال عنه الإمام أحمد: قتادة أحفظ أهل البصرة. انظر: تهذيب التهذيب (8/ 351) وتذكرة الحفاظ (1/115)

إله إلا الله " 1. وعن عتبان بن مالك2 رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله" 3. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه" 4. الشرط الرابع: "الصدق فيها المنافي للكذب. وهو أن يقولها صدقا من قلبه يواطىء قلبه لسانه"5. قال تعالى: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} 6، "أي الذين صدقوا في دعوى الإيمان ممن هو كاذب في قوله ودعواه، والله سبحانه وتعالى يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون،

_ 1 تفسير ابن كثير (4/ 45) . 2 عتبان بن مالك بن عمرو بن العجلان الأنصاري الخزرجي السالمي، صحابي من البدريين آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين عمر، مات في خلافة معاوية وقد كبر. الإصابة (2/ 445) رقم 5318. 3 أخرجه البخارى في صحيحه، كتاب الصلاة، باب المساجد في البيوت، انظر: فتح الباري (1/ 519) ح 425، ومسلم في صحيحه كتاب الصلاة، باب الرخصة في التخلف عن الجماعة بعذر (2/ 126) . 4 أخرجه البخارى في صحيحه، كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار، انظر: فتح الباري (11/ 418) ح 6570. 5 معارج القبول (1/ 381) . 6 الآيات (1/ 3) من سورة العنكبوت.

وهذا مجمع عليه عند أئمة السنة والجماعة"1. وعن أنس بن مالك2 رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم - ومعاذ3 رديفه على الرحل- قال: "يا معاذ بن جبل" قال: لبيك يا رسول الله وسعديك. قال: "يا معاذ" قال لبيك يا رسول الله وسعديك ثلاثا. قال: "ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صدقا من قلبه إلا حرمه الله على النار" الحديث4. الشرط الخامس: المحبة: "لهذه الكلمة ولما اقتضته ودلت علييه ولأهلها والعاملين بها الملتزمين لشروطها وبغض ما ناقض ذلك"5. قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ

_ 1 تفسير ابن كثير (3/ 404) . 2 أنس بن مالك بن النضر بن ضمضم النجاري الخزرجي الأنصاري أبو حمزة، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخادمه، وأحد المكثرين من الرواية عنه، وهو آخر من مات بالبصرة من الصحابة توفي سنة 93 هـ. 3 معاذ بن جبل الأنصاري: أحد السبعين الذين شهدوا العقبة من الأنصار، وقد شهد بعد ذلك المشاهد كلها، كان من أعلم الصحابة بالحلال والحرام، توفي سنة 17 هـ في طاعون عمواس بالشام. الإصابة (3/ 406، 407) رقم 8039. 4 أخرجه البخاري في صحيحها واللفظ له، كتاب العلم باب من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية أن لا يفهموا. انظر فتح الباري (1/ 226) ح 128. وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان باب من لقي الله بالإيمان وهو غير شاك فيه دخل الجنة وحرم على النار (1/43) . 5 معارج القبول (1/ 383) .

اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} 1، ففي الآية دليل على وجوب محبة الله ورسوله ولا خلاف في ذلك بين الأمة وأن ذلك مقدم على كل محبوب2. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} الآية3. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه} الآية4. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان، من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار" 5. الشرط السادس: الانقياد: أي الانقياد والاستسلام ظاهرا وباطنا لأوامر الله وما أنزله من الشرع على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم

_ 1 الآية (234) من سورة التوبة. 2 تفسير القرطبي (8/95) 3 الآية (165) من سورة البقرة. 4 الآية (54) من سورة المائدة. 5 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان باب من كره أن يعود في الكفر كما يكره أن يلقى في النار من الإيمان. انظر: فتح الباري (1/ 72) ح 21. وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان باب بيان خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان، واللفظ له. انظر: (1/ 48) .

قال تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} 1 ففي هذه الآية: "يقول تعالى مخبرا عمن أسلم وجهه لله أي أخلص له العمل وانقاد لأمره واتبع شرعه، ولهذا قال: {وَهُوَ مُحْسِنٌ} ، أي في عمله: باتباع ما به أمر، وترك ما عنه زجر {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} أي فقد أخذ موثقا من الله متينا أنه لا يعذبه {وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} "2. وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} 3. والآية عامة في جميع الأمور، وذلك أنه إذا حكم الله ورسوله بشيء فليس لأحد مخالفته ولا اختيار لأحد هنا ولا رأي ولا قول كما قال تبارك وتعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً4} 5 الشرط السابع: القبول: أي قبول الشهادتين والالتزام بمقتضياتها ولوازمها. قال تعالى {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا

_ 1 الآية (22) من سورة لقمان. 2 تفسير ابن كثير (3/ 450) . 3 الآية (36) من سورة الأحزاب. 4 الآية (65) من سورة النساء. 5 تفسير ابن كثير (3/ 490) .

غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} 1، وقال تعالى في شأن من لم يقبلها: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ، وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} 2. وعن أبي موسى الأشعري3 رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا، فكان منها نقية 4 قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب 5 أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصابت منها طائفة أخرى إنما هي قيعان 6 لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلِم وعلَّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به" 7. فهذه هي شروط الشهادتين يجب على المسلم تحقيقها والإتيان بها على الوجه المطلوب حتى يكون من أهلها.

_ 1 الآية (285) من سورة البقرة. 2 الآيات (35- 36) من سورة الصافات. 3 واسم أبي موسى: عبد الله بن قيس بن سليم من بني الأشعر من قحطان، صحابي أسلم بمكة ثم رجع إلى اليمن وقدم مع الأشعريين وكان حسن الصوت بالقرآن، وكان من الشجعان الولاة الفاتحين، توفى بالكوفة سنة 44 هـ، وقيل غير ذلك. الإصابة (2/ 351) رقم 4899. 4 هي مستنقع الماء في الجبال والصخور. فتح الباري (1/ 176) . 5 هي الأرض الصلبة التي لا ينضب منها الماء. فتح الباري (1/ 176) . 6 بكسر القاف جمع قاع وهو الأرض المستوية اللمساء التي لا تنبت. فتح الباري (1/ 177) . 7 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب العلم: باب فضل من علِم وعلَّم واللفظ له. انظر فتح الباري (1/ 175) ح 79. وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفضائل: باب بيان مثل ما بعث النبي صلى الله عليه وسلم من الهدى والعلم. انظر: (7/ 63) .

ج- مراتب الشهادة: إذا علم العبد معنى الشهادتين وشروطهما فينبغي له أن يكون على علم بأن للشهادة مراتب يتدرج عليها الشاهد مرتبة بعد مرتبة حتى يتم له تحقيق الشهادة على الوجه المطلوب. ومراتب الشهادة أربع هي1: المرتبة الأولى: العلم والمعرفة والاعتقاد لصحة المشهود به وثبوته، فلا بد للشاهد أن يعلم ويعرف معنى الشهادتين وإلا كان الشاهد شاهدا بما لا علم له به قال تعالى: {إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 2. المرتبة الثانية: تكلمه بالشهادتين وإن لم يُعلِم بها غيره، بل يتكلم بها مع نفسه ويتذكرها وينطق بها أو يكتبها. والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه العزيز: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلونَ} 3 فجعل ذلك منهم شهادة وإن لم يتلفظوا بلفظ الشهادة ولم يؤدوها عند غيرهم. المرتبة الثالثة: أن يُعلِم غيره بما شهد به ويخبره به ويبينه له ومرتبة الإعلام والإخبار نوعان: إعلام بالقول، وإعلام بالفعل. وهذا شأن كل مُعلِم لغيره بأمر، تارة يعلمه به بالقول وتارة بفعل ومما يدل

_ 1 انظر: كتاب الكواشف الجلية عن معاني الواسطية للشيخ عبد العزيز بن محمد السلمان من (ص 38 إلى ص 40) بتصرف. 2 الآية (86) من سورة الزخرف. 3 الآية (19) من سورة الزخرف.

على أن الشهادة تكون بالفعل قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} الآية1 فهذه شهادة منهم على أنفسهم بما يفعلونه2. المرتبة الرابعة: أن يلتزم بمضمونها ويأتمر به. ومجرد الشهادة لا يستلزم هذه المرتبة، لكن الشهادة في هذا الموضع تدل عليه وتتضمنه، فإنه سبحانه وتعالى شهد به شهادة من حكم به وقضى وأمر وألزم عباده كما قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانا} 3. وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً} الآية4. والقرآن كله شاهد بذلك. وقد شهد الله لنفسه بالوحدانية فقال تعالى {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 5 فشهادته سبحانه لنفسه بالوحدانية والقيام بالقسط تضمنت هذه المراتب الأربع وهي: علمه بذلك، وتكلمه، وإخباره لخلقه، وإلزامهم وأمرهم به6.

_ 1 الآية (17) من سورة التوبة. 2 الكواشف الجلية (39- 40) بتصرف. 3 الآية (23) من سورة الاسراء. 4 الآية (31) من سورة التوبة. 5 الآية (18) من سورة آل عمران. 6 الكواشف الجلية (ص 40) بتصرف.

المطلب الرابع: نواقض الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم

المطلب الرابع: نواقض الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم إن مما ينبغي معرفته بعد توضيح معنى الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم وتبيين شروط الشهادة ومراتبها أن تعرف نواقض هذا الأمر ومبطلاته حتى يحترز المسلم من الوقوع فيها، فعن حذيفة بن اليمان1 رضي الله عنه قال: "كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني ... " الحديث2. وعن عمر بن الخطاب3 رضي الله عنه: "إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية"4. ولهذا كان الصحابة رضوان الله عليهم أعظم هذه الأمة إيمانا لكمال معرفتهم بالخير والشر، وكمال محبتهم للخير وبغضهم للشر، لما علموه من حسن حال الإيمان والعمل الصالح، وقبح حال الكفر والمعاصي". ولمعرفة نواقض الإيمان به صلى الله عليه وسلم نقول:

_ 1 حذيفة بن اليمان العبسي، شهد أحدا وكان من كبار الصحابة وصاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، توفى عام 36هـ الإصابة (1/ 316، 317) ، ت رقم 1647. 2 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الفتن: باب كيف الأمر إذا لم تكن جماعة؟، انظر: فتح الباري (3/ 35) ح 7084. وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة: باب الأمر بلزوم الجماعة عند ظهور الفتن وتحذير الدعاة إلى الكفر. انظر: (6/ 20) . 3 عمر بن الخطاب بن نفيل: ولد بعد الفيل بثلاث عشرة سنة، كان إسلامه فتحا على المسلمين، شهد المشاهد كلها، توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنه راض، ولي الخلافة بعد الصديق واستشهد سنة 23 هـ، قتله أبو لؤلؤة المجوسي. الإصابة (2/ 511، 511) رقم 5738. 4 تيسير العزيز الحميد (ص 90) .

لما كان الإيمان به صلى الله عليه وسلم يعني تصديقه وتصديق ما جاء به صلى الله عليه وسلم، والانقياد له، فإن الطعن في أحد هذين الأمرين ينافي الإيمان ويناقضه فالنواقض على هذا الاعتبار يمكن تقسيمها إلى قسمين: القسم الأول: الطعن في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم. القسم الثاني: الطعن فيما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم مما هو معلوم من الدين بالضرورة، إما بإنكاره أو بانتقاصه. القسم الأول: الطعن في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم: ومما يدخل تحت هذا القسم نسبة أي شيء للرسول عليه الصلاة والسلام مما يتنافى مع اصطفاء الله له لتبليغ دينه إلى عباده، فيكفر كل من طعن في صدق الرسول صلى الله عليه وسلم أو أمانته أو عفته أو صلاح عقله ونحو ذلك. كما يكفر من سب الرسول صلى الله عليه وسلم، أو عابه، أو ألحق به نقصا في نفسه أو نسبه أو دينه، أو خصلة من خصاله، أو عرّض به، أو شبهه بشيء على طريق السب له أو الإزراء عليه أو التصغير لشأنه أو الغض منه أو العيب له، فهو ساب له والحكم فيه حكم الساب يقتل كفرا، وكذلك من لعنه، أو دعا عليه، أو تمنى مضرة له، أو نسب إليه مالا يليق بمنصبه على طريق الذم، أو عبث في جهته العزيزة بسخف من الكلام وهُجر1 ومنكر من القول وزور، أو عيره بشيء مما جرى من البلاء والمحنة عليه، أو تنقصه ببعض العوارض البشرية الجائزة المعهودة لديه"2.

_ 1 الهجر بالضم: القبيح من الكلام. لسان العرب (5/ 253) . 2 الشفا للقاضي عياض (2/ 932) بتحقيق علي محمد البجاوي.

فالساب إن كان مسلما فإنه يكفر ويقتل بغير خلاف، وهو مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم. وإن كان ذميا فإنه يقتل أيضا في مذهب مالك1 وأهل المدينة وهو مذهب أحمد2 وفقهاء الحديث وهو المنصوص عن الشافعي3 نفسه كما حكاه غير واحد"4. وهذا الحكم على الساب والمستهزئ، يستوي فيه الجاد والهازل بدليل قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ، لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} 5. وهذا نص في أن الاستهزاء بالله وبآياته وبرسوله كفر، (فالسب المقصود بطريق الأولى) ، وقد دلت هذه الآية على أن كل من تنقص رسول الله صلى الله عليه وسلم جادا أو هازلا فقد كفر.

_ 1 مالك بن أنس، إمام دار الهجرة، وأحد أئمة أهل السنة المشهورين، وإليه تنسب المالكية له مؤلفات عدة على رأسها (الموطأ) الكتاب المشهور، ولد بالمدينة، وتوفى بها عام 179 هـ. الديباج المذهب (1/ 82- 135) والبداية (10/ 174) . 2 أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الإمام المشهور في الفقه والحديث ونصرة الإسلام، إمام أهل السنة والجماعة أعز الله به السنة وقمع به البدعة وفضائله أكثر من أن تحصر توفي سنة 241 هـ تاريخ بغداد (4/ 412) وطبقات الحنابلة (1/4) . 3 محمد بن إدريس الشافعي الإمام المشهور أحد الأئمة الأربعة، ولد بغزة بفلسطين ثم سافرت به أمه إلى مكة، كان ذكيا فطنا برع في الأدب واللغة ثم أقبل على الحديث والفقه وله مصنفات عدة من أشهرها: الأم والرسالة، توفي بمصر سنة204 هـ. تاريخ بغداد (2/ 56) والتذكرة (367) . 4 الصارم المسلول على شاتم الرسول لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص 4 و 8) بتصرف. وقد تعرض شيخ الإسلام لهذه المسائل مفصلة في هذا الكتاب فمن أراد الاستزادة فليرجع إليه. 5 الآيتان (65، 66) من سورة التوبة.

وقد رُوي عن رجال من أهل العلم منهم ابن عمر1 ومحمد بن كعب2 وزيد ابن أسلم3 وقتادة- دخل حديث بعضهم في بعض- أنه قال رجل من المنافقين في غزوة تبوك: "ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا، ولا أكذب ألسنا، ولا أجبن عند اللقاء، يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه القراء، فقال له عوف ابن مالك4: كذبت ولكنك رجل منافق، لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب عوف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره، فوجد القرآن قد سبقه، فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ارتحل وركب ناقته، فقال: يارسول الله إنما كنا نلعب ونتحدث حديث الركب نقطع به عناء الطريق. قال ابن عمر: كأني أنظر إليه متعلقا بنسعة5 ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن الحجارة لتنكب رجليه، وهو يقول: إنما كنا نخوض ونلعب، فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون" ما يلتفت إليه،

_ 1 عبد الله بن عمر بن الخطاب، ولد بعد البعثة بثلاث سنوات وهاجر وهو ابن عشر سنين، وقد كان من أشد الصحابة تتبعا للسنة ومن أكثرهم عبادة مع زهد وورع توفي عام 84 هـ. الإصابة (2/ 338- 341) ت رقم 4834. 2 هو محمد بن كعب بن سليم القرظي المدني، كان أبوه من سبي قريظة، ثقة، عالم، ولد سنة أربعين على الصحيح، ومات سنة 120 هـ وقيل غير ذلك. وقال عنه ابن حبان: كان من أفاضل أهل المدينة علما وفقها. تهذيب التهذيب (9/ 420، 422) . 3 زيد بن أسلم المدني الفقيه: كان عالما بالتفسير وكان له حلقة بالمسجد النبوي توفي عام 136 هـ تهذيب التهذيب (3/ 395) . 4 عوف بن مالك بن أبي عوف الأشجعي الغطفاني، صحابي جليل، شهد مؤتة، وشهد الفتح وكانت معه راية قومه يومئذ وشهد فتح الشام، توفي سنة ثلاث وسبعين بالشام. تهذيب التهذيب (8/ 168) ، والبداية (8/ 346) . 5 النِّسْعة بكسر فسكون: سير مضفور يجعل زمامًا للبعير. لسان العرب (8/352) .

ولا يزيده عليه"1. فهؤلاء لما تنقصوا النبي صلى الله عليه وسلم حيث عابوه والعلماء من أصحابه واستهانوا بخبره أخبر الله أنهم كفروا بذلك وإن قالوه، استهزاء فكيف بما هو أغلظ من ذلك؟ 2. ومن الأدلة على كفر الطاعن في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً} 3. واللعن: الإبعاد عن الرحمة، ومن طرده عن رحمته في الدنيا والآخرة لا يكون إلا كافرا4. وفي هذه الآية قرن الله بين أذى النبي صلى الله عليه وسلم وأذاه كما قرن في آيات أخر بين طاعته وطاعة نبيه، وفى هذا وغيره بيان لتلازم الحقين، وأن جهة حرمة الله تعالى ورسوله جهة واحدة، فمن أذى الرسول فقد أذى الله، ومن أطاعه فقد أطاع الله، لأن الأمة لا يصلون ما بينهم وبين ربهم إلا بواسطة النبي صلى الله عليه وسلم، وليس لأحد منهم طريق غيره ولا سبب سواه، وقد أقامه الله مقام نفسه في أمره ونهيه وإخباره وبيانه فلا يجوزأن يفرق بين الله ورسوله في شيء من هذه الأمور5. ومن الأدلة الواردة في السنة حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما6 قال:

_ 1 تفسبر ابن كثير (2/ 367) . 2 الصارم المسلول (ص31 - 33) . 3 الآية (57) من سورة الأحزاب. 4 الصارم المسلول (ص 41) . 5 الصارم المسلول (ص 40- 41) بتصرف. 6 جابر بن عبد الله الأنصارى: شهد العقبة الثانية وهو صغير وشهد المشاهد كلها بعد أحد، وكان من المكثرين الحفاظ. للسنّة، توفي سنة 74 هـ وقيل غير ذلك. الإصابة (1/ 214) ت رقم 1026.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لكعب بن الأشرف1 فإنه قد آذى الله ورسوله"، فقام محمد بن مسلمة2 فقال: يارسول الله أتحب أن أقتله؟، قال: "نعم ... " الحديث3. فعلم من هذا الحديث أن من آذى الله ورسوله كان حقه أن يقتل كما قتل كعب بن الأشرف والأدلة من الكتاب والسنة على هذه المسألة كثيرة ولا مجال لاستيعابها هنا. - الإجماع: وقد أجمعت الأمة على قتل منتقصه من المسلمين وسابه، وكذلك حكى غير واحد الإجماع على قتله وتكفيره. وقال الإمام إسحاق بن راهوية4 أحد الأئمة الأعلام: "أجمع المسلمون على أن من سب الله، أو سب رسوله صلى الله عليه وسلم، أو دفع شيئا مما أنزل الله عز وجل، أو قتل نبيا

_ 1 كعب بن الأشرف الطائي، من بني نبهان، كانت أمه من بني النضير فدان باليهودية وكان سيدا في أخواله اليهود. أدرك الاسلام ولم يسلم، وأكثر من هجو النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتحريض القبائل عليهم وإيذائهم والتشبب بنسائهم. خرج إلى مكة بعد وقعة بدر فندب قتلى قريش فيها، وحض على الأخذ بثأرهم، وعاد إلى المدينة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله، فانطق إليه نفر من الأنصار، فقتلوه في ظاهر حصنه. تاريخ الطبري (3/ 2) . 2 محمد بن مسلمة الأنصاري، من فضلاء الصحابة شهد بدرا وما بعدها إلا غزوة تبوك فإنه تخلف بإذن النبي صلى الله عليه وسلم له أن يقيم في المدينة، مات بالمدينة سنة ثلاث وأربعين وقيل غير ذلك. الإصابة (3/ 363، 364) رقم (8 78) . 3 أخرجه البخاري في صحيحه- واللفظ له - كتاب المغازي باب قتل كعب بن الأشرف. انظر: فتح الباري (7/ 336) ح 4037، وأخرجه في مواضع أُخر. وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجهاد: باب قتل كعب بن الأشرف. انظر: (5/184) . 4 إسحاق بن إبراهيم بن مخلد المعروف بابن راهوية المروزي قال عنه الخطيب البغدادي: كان أحد أئمة المسلمين وعَلَما من أعلام الدين اجتمع له الحديث والفقه والحفظ والصدق والورع والزهد توفي سنة 238 هـ. تاريخ بغداد (6/ 345) .

من أنبياء الله عز وجل أنه كافر بذلك وإن كان مقرا بكل ما أنزل إليه". وقال الخطابي1: "لا أعلم أحدا من المسلمين اختلف في وجوب قتله". وقال محمد بن سحنون2: أجمع العلماء على أن شاتم النبي صلى الله عليه وسلم والمتنقص له كافر، والوعيد جاء عليه بعذاب الله له، وحكمه عند الأمة القتل ومن شك في كفره وعذابه كفر"3. ومن المعلوم أن سب النبي صلى الله عليه وسلم تعلق به عدة حقوق: 1- حق الله سبحانه: من حيث كفر برسوله، وعادى أفضل أوليائه وبارزه بالمحاربة، ومن حيث طعن في كتابه ودينه، فإن صحتهما موقوفة على صحة الرسالة، ومن حيث طعن في ألوهيته، فإن الطعن في الرسول طعن في المرسل وتكذيبه تكذيب لله تبارك وتعالى وإنكار لكلامه وأمره وخبره وكثير من صفاته. 2- وتعلق حق جميع المؤمنين: من هذه الأمة ومن غيرها من الأمم به، فإن جميع المؤمنين مؤمنون به خصوصا أمته فإن قيام أمر دنياهم ودينهم وآخرتهم به، بل عامة الخير الذي يصيبهم في الدنيا والآخرة بواسطته وسفارته فالسب له أعظم عندهم من سب أنفسهم وآبائهم وأبنائهم وسب جميعهم، كما أنه أحب إليهم من أنفسهم

_ 1 أبو سليمان حمد ويقال أحمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي البستي أحد المشاهير الأعيان، والفقهاء المجتهدين المكثرين، له من المصنفات معالم السنن وشرح البخاري وغير ذلك، توفي بمدينة بست سنة 388 هـ. البداية: (11/ 324) . 2 محمد بن عبد السلام (سحنون) بن سعيد بن حبيب التنوخى، أبو عبد الله فقيه مالكي، مناظر كثير التصانيف، توفي سنة 256هـ. الوافي بالوفيات: (3/86) والأعلام (6/204، 205) . 3 الصارم المسلول (ص 3- 4) .

وأولادهم وآبائهم والناس أجمعين. 3- وتعلق حق رسول الله صلى الله عليه وسلم به: من حيث خصوص نفسه، فإن الإنسان تؤذيه الوقيعة في عرضه أكثر مما يؤذيه أخذ ماله، وأكثر مما يؤذيه الضرب، بل ربما كانت عنده أعظم من الجرح ونحوه، خصوصا من يجب عليه أن يظهر للناس كمال عرضه وعلو قدره لينتفعوا بذلك في الدنيا والآخرة، فإن هتك عرضه وعلو قدره قد يكون أعظم عنده من قتله، فإن قتله لا يقدح عند الناس في نبوته ورسالته وعلو قدره كما أن موته لا يقدح في ذلك، بخلاف الوقيعة في عرضه فإنها قد تؤثر في نفوس بعض الناس من النفرة عنه وسوء الظن به ما يفسد عليهم إيمانهم ويوجب لهم خسارة الدنيا والآخرة ... "1. وبهذا يعلم أن السب فيه من الأذى لله ولرسوله ولعباده المؤمنين ما ليس في غيره من الأمور كالكفر والمحاربة. وبما تقدم ذكره من الأدلة يتضح انتقاض إيمان من طعن في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم بسب أو استهزاء أو انتقاص سواء كان في ذلك جادا أو هازلا. ويستثنى من ذلك المكره بدليل قوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} 2 فالآية نزلت في عمار بن ياسر3 حين عذبه المشركون حتى يكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم فوافقهم على ذلك مكرها وجاء معتذرا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله

_ 1 الصارم المسلول (ص 293- 294) . 2 الآية (106) من سورة النحل. 3 عمار بن ياسر حليف بني مخزوم من السابقين الأولين هو وأبوه وأمه، هاجر إلى المدينة، وشهد المشاهد كلها، قتل بصفين سنة 37 هـ. الإصابة (2/505، 506) رقم: 5706.

هذه الآية، وروى أن مما قاله أنه سب النبي صلى الله عليه وسلم وذكر آلهتهم بخير، فشكا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا رسول الله ما تركت حتى سببتك وذكرت آلهتهم بخير، قال: "كيف تجد قلبك؟ " قال: مطمئنا بالإيمان، فقال: "إن عادوا فعد" وفي ذلك أنزل الله: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} ، ولهذا اتفق العلماء على أن المكره على الكفر يجوز له أن يوالي إبقاء لمهجته، ويجوز له أن يأبى، كما كان بلال1 رضي الله عنه يأبى عليهم ذلك، وهم يفعلون به الأفاعيل ... "2. القسم الثاني: من نواقض الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم: الطعن فيما أخبر به الرسول لا- مما هو معلوم من الدين بالضرورة- إما بإنكاره أو انتقاصه. فإذا اجتمعت الشروط التالية في المنكر وهي: أ- أن يكون ذلك الأمر المنغص من الأمور التي أجمعت عليها الأمة وأن يكون من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة: أي أن يكون علمه منتشرا كالصلوات الخمس وصوم شهر رمضان، وعموم رسالته3. ب- أن لا يكون المنكر حديث عهد بالإسلام لا يعرف حدوده فهذا إذا أنكر

_ 1 بلال بن رباح الحبشي مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أحد السابقين إلى الإسلام الذين عذبوا بمكة، وكان أمية بن خلف يخرجه إذا حميت الظهيرة: فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة ثم يأمر بالصخرة العظيمة على صدره، ثم يقول لا يزال على ذلك حتى يموت أو يكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، فيقول وهو على ذلك أَحَدٌ أَحَدٌ، فمرَّ به أبو بكر فاشتراه منه وأعتقه، ومناقبه كثيرة، شهد المشاهد كلها مع النبي صلى الله عليه وسلم، مات بالشام سنة عشرين. الإصابة (1/ 169) رقم 736. 2 تفسير ابن كثير (2/ 587، 588) بتصرف. 3 انظر صحيح مسلم بشرح النووي (1/ 205) .

شيئا من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة جهلا به فانه لا يكفر1. ج- أن لا يكون المُنكِر مكرها على ذلك، فإن المكره له حكم آخر كما قدمنا ذلك. والمُنكِر في هذه الحالة يحكم بكفره وانتقاض إيمانه. والمنتقص لأمور الدين إذا كان غير مكره فإنه يكفر سواء كان جادا في ذلك أم هازلا. والأمثلة على هذا القسم كثيرة جدا نذكر منها على سبيل المثال ما يختص بجانب الإيمان برسالة النبي صلى الله عليه وسلم. أولا: "أن يعتقد أن غير هدي النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه وأن حكم غيره أحسن من حكمه كالذين يفضلون القانون الوضعي على حكم الشرع ويصفون الشريعة الإسلامية بالقصور والرجعية وعدم مسايرة التطور، وهذا من أعظم المناقضة لشهادة أن محمدا رسول الله. ثانيا: من أبغض شيئا مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولو عمل به فهو كافر"2. ثالثا: اعتقاد الإنسان أنه يسعه الخروج عن شريعة النبي صلى الله عليه وسلم. ولهذا الأمر صورتان: الأولى: أن لا يرى وجوب تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم ولا وجوب طاعته فيما أمر به وإن اعتقد مع ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم عظيم القدر علما وعملا وأنه يجوز تصديقه وطاعته ولكنه يقول إنه لا يضر اختلاف الملل إذا كان المعبود واحدا ويرى أنه تحصل النجاة والسعادة بمتابعة الرسول وبغير متابعته وهذا هو

_ 1 انظر صحيح مسلم بشرح النووي (1/ 205) . 2 الجامع الفريد: رسالة نواقض الإسلام للشيخ محمد بن عبد الوهاب (ص 282) .

قول الفلاسفة والصابئة1 وهذا القول لا ريب في كفر صاحبه "فمن نواقض الإسلام أن يعتقد الإنسان عدم كفر المشركين ويرى صحة مذهبهم، أو يشك في كفرهم"2. وهذا القول هو الذي ينادي به في وقتنا الحاضر من يدعون إلى وحدة الأديان ويروج لهم في ذلك الماسونية3 اليهودية4 الثانية: من يرى طلب العلم بالله من غير خبره، أو العمل لله من غير أمره، وهؤلاء وإن كانوا يعتقدون أنه يجب تصديق الرسول أو تجب طاعته، لكنهم في سلوكهم العلمي والعملي غير سالكين هذا المسلك بل يسلكون مسلكا آخر إما من جهة القياس والنظر، وإما من جهة الذوق والوجدان، وإما من جهة التقليد، وما جاء عن الرسول إما أن يعرضوا عنه وإما أن يردوه إلى ما سلكوه. وإضافة إلى هذه النواقض فإن الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم ينتقض أيضا بالنواقض العامة الأخرى للإسلام وهي: 1- الشرك في عبادة الله تعالى: قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 5

_ 1 مجموع الفتاوى (7/ 639) . 2 الجامع الفريد (ص 282) . 3 الماسونية: عبارة فرنسية معناها البناؤون الأحرار، والماسونية حركة يهودية سرية تعمل تحت ستار التآخي بين الأديان وهدفها الرئيسي السيطرة على العالم عن طريق أصحاب الجاه والنفوذ في بقاع العالم، وذلك بواسطة المحافل التي تقيمها في بقاع كثيرة من العالم. انظر: "كتاب الماسونية ذلك العالم المجهول"، لصابر طعيمة. 4 كتاب الولاء والبراء (ص 344) . 5 الآية (48) من سورة النساء.

وقال تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 1، وقال تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 2، وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} 3 2- أن يجعل بينه وبين الله وسائط: يدعوهم ويسألهم الشفاعة فيما لا يقدر عليه إلا الله، ويتوكل عليهم فهذا كافر بالإجماع4. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} 5 وقال تعالى: {يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ، يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} 6، وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} 7. 3- السحر: ومنه الصرف والعطف فمن فعله أو رضي به كفر8 بدليل قوله تعالى:

_ 1 الآية (65) من سورة الزمر. 2 الآية (88) من سورة الأنعام. 3 الآية (72) من سورة المائدة. 4 الجامع الفريد (ص 282) . 5الآية (194) من سورة الأعراف. 6 الآيتان (12- 13) من سورة الحج. 7 الآية (18) من سورة الجن. 8 الجامع الفريد (ص 282) . والمراد بالصرف: التفريق بين الزوجين. والعطف: الجمع بينهما.

{وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} 1. 4- "مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين "2: والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} 3 وهذا من أعظم النواقض التي وقع فيها سواد الناس اليوم في الأرض وهم بعد ذلك يحسبون على الإسلام ويتسمون بأسماء إسلامية، فلقد صرنا في عصر يُستحى فيه أن يقال للكافر يا كافر. ومظاهرة المشركين أخذت صورا شتى فمن الميل القلبي إلى انتحال مذاهبهم الإلحادية إلى مجاراتهم في تشريعاتهم، إلى كشف عورات المسلمين لهم، إلى كل صغير وكبير في حياتهم ... "4 5- الإعراض عن دين الله تعالى: لا يتعلمه ولا يعمل به5 والدليل على ذلك فوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} 6. ولا فرق في جميع هذه النواقض يين الهازل والجاد والخائف، إلا المكره وكلها من أعظم ما يكون خطرا، وأكثر ما يكون وقوعا فينبغي للمسلم أن يحذرها ويخاف منها على نفسه7،

_ 1 الآية (102) من سورة البقرة. 2 الجامع الفريد (ص 383) . 3 الآية (51) من سورة المائدة. 4 كتاب الولاء والبراء في الإسلام تأليف محمد بن سعيد القحطاني (ص 83) بتصرف بسيط. 5 الجامع الفريد (ص 284) . 6 الآية (22) من سورة السجدة. 7 الجامع الفريد (ص 384) .

ومعرفة المسلم لهذه الأمور تجعله على بصيرة من أمره، وتكسبه وتزيده معرفة لأمور عقيدته، فبضدها تتميز الأشياء.

المبحث الثاني: وجوب الإيمان بنبوته ورسالته صلى الله عليه وسلم

المبحث الثاني: وجوب الإيمان بنبوته ورسالته صلى الله عليه وسلم المطلب الأول: معنى النبوة والرسالة ... المطلب الأول: معنى النبوة والرسالة جمع الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم يين النبوة والرسالة قال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} 1 أ- معنى النبي لغة وشرعا: النبوة في اللغة العريية مشتقة إما من (النبأ) أو (النباوة) أو (النبوة) أو (النبي) 1- فإذا كاظما مأخوذة من (النبأ) فتكون بمعنى الإخبار، لأن النبأ هو الخبر. 2- وإذا كانت مأخوذة من (النباوة أو النبوة) فتكون بمعنى الرفعة والعلو، لأن (النباوة أو النبوة: هي الشيء المرتفع) . 3- أما إذا كانت مأخوذة من (النبي) بدون همز، فيكون معناها الطريق إلى الله عز وجل لأن معنى "النبي" الطريق. ولو نظرنا إلى النبوة الشرعية لوجدنا أنها تشمل كل هذه المعاني إذ النبوة إخبار عن الله عز وجل، وهي رفعة لصاحبها لما فيها من التشريف والتكريم، وهى الطريق الموصلة إلى الله سبحانه. أما النبوة في اصطلاح الشرع: " فهي خبر خاص يكرم الله عز وجل به أحدا من عباده فيميزه عن غيره بإيحائه إليه ويوقفه به على شريعته بما فيها من أمر ونهي ووعظ وإرشاد ووعد ووعيد"3.

_ 1 الآية (40) من سورة الأحزاب. 2 انظر: لسان العرب مادة "نبأ" (1/162- 163) ، ومعجم مقاييس اللغة (5/ 384، 385) . 3 شعب الإيمان للبيهقي، الباب الثاني من شعب الإيمان (ص 275) رسالة ماجستير في الجامعة الإسلامية بتحقيق فالح بن ثاني.

أما النبي فقد اختلف العلماء في تعريفه: - فمنهم من قال: هو الذي أوحى الله إليه بشرع1 ليعمل به ولم يؤمر بتبليغه. - فمنهم من قال: هو الذي أوحى الله إليه أن يدعو الناس إلى شريعة رسول قبله2. - ومنهم من قال: هو الذي أوحى الله إليه وأخبره بأمره ونهيه وخبره، ويعمل بشريعة رسول قبله بين قوم مؤمنين3 وهذا هو الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية ولعله هو أرجح الأقوال وأسلمها من الاعتراض فقد اعترض على القول الأول بأنه غير صحيح لأن قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ} 4 يدل على أن كلا منهما مرسل وأنهما مع ذلك بينهما تغاير5 وكذلك مما يؤكد كون الأنبياء مأمورين بتبليغ قومهم ما أوحي إليهم والحكم بينهم بذلك ما جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كانت بنوا إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي وإنه لا نبي بعدي ... " الحديث6. " أي تتولى أمورهم كما تفعل الأمراء والولاة بالرعية. والسياسة: القيام على الشيء بما يصلحه"7.

_ 1 المصدر السابق (ص 275) ، وشرح العقيدة الطحاوية (ص 167) . 2 أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ محمد الأمين الشنقيطي (5/ 735) . 3 كتاب النبوات لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص 255) . 4 الآية (52) من سورة الحج. 5 أضواء البيان (5/ 735) . 6 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأنبياء: باب ما ذكر عن بني إسرائيل. انظر: فتح الباري (6/ 495) ح 3455. وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة: باب الأمر بالوفاء ببيعة الخلفاء الأول فالأول (6/ 17) . 7 النهاية في غريب الحديث (2/ 421) .

وقد اعترض على القول الثاني بأن الضابط الذي ذكروه لا يستقيم فيوسف عليه السلام كان رسولا وكان على شريعة إبراهيم قال تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً} 1. وكذلك داود وسليمان عليهما السلام كانا رسولين وكانا على شريعة التوراة قال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً، وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} 2 4- معنى الرسول لغة وشرعا: الرسول لغة: إما مأخوذ من الرِّسل. والرِّسل: هو الانبعاث على تؤدة. يقال: ناقة رسله: أي سهلة السير، وإبل مراسيل: منبعثة انبعاثا سهلا. ولفظ الرسل متضمن لمعنى الرفق ومعنى الانبعاث. فإذا تصور منه معنى الرفق يقال على رسلك إذا أمرته بالرفق. وإذا تصور منه معنى الانبعاث يقال إبل مراسيل أي منبعثة. ولفظ الرسول اشتق من المعنى الثاني أي الانبعاث. فالرسول على هذا الاشتقاق هو المنبعث3.

_ 1 الآية (34) من سورة غافر. 2 الآيتان (163- 164) من سورة النساء. 3 المفردات في غريب القرآن تأليف أبي القاسم حسين محمد المعروف بالراغب الأصفهاني (ص 195) مادة "رسل".

وإما مأخوذ من الرَّسْل وهو التتابع فيقال جاءت الإبل رَسْلا أي متتابعة، ويقال جاءوا أرْسَالأ: أي متتابعين. ومعنى الرسول على هذا الاشتقاق: هو الذي يتابع أخبار الذي بعثه1. ولو نظرنا إلى كلا الاشتقاقين فإنا نجد أن لفظ الرسول في اصطلاح الشرع يدل عليهما فالرسول مبعوث من قبل الله، وهو كذلك يتابع أخبار الوحي المنزل إليه من الله تعالى. ولفظ الرسول تارة يقال للقول المُتَحَمَّل كقول الشاعر: ألا بلِّغ أبا حفص رسولا وتارة لمُتَحَمِّل القول والرسالة2 والرسول في الشرع: عرف بعدة تعريفات: فمن العلماء من عرفه بقوله: هو الذي أوحى الله إليه بخبر وأمره بتبليغه للناس، وهؤلاء فرقوا بينه ويين النبي بأن النبي أوحي إليه بخبر ولم يؤمر بتبليغه3. ومنهم من عرفه بقوله: هو الذي أنزل إليه كتاب وشرع مستقل مع المعجزة التي تثبت بها نبوته. وقالوا: إن النبي هو الذي لم ينزل إليه كتاب وإنما أوحي إليه أن يدعو الناس إلى شريعة رسول قبله4. ومنهم من قال: إن الرسول هو الذي ينبئه الله ثم يأمره أن يبلغ رسالته إلى

_ 1 المصدر السابق (ص 195) ولسان العرب مادة "رسل" (11/ 284) . 2 المصدر السابق (ص 195) ولسان العرب مادة "رسل" (11/ 284) . 3 شعب الإيمان للبيهقي (ص 275- 276) بتحقيق فلاح بن ثاني، وشرح العقيدة الطحاوية (ص 167) . 4 أضواء البيان (5/ 735) .

من خالف أمره أي إلى قوم كافرين. أما النبي فهو من أوحى الله إليه وأخبره بأمره ونهيه وخبره، ويعمل بشريعة رسول قبله بين قوم مؤمنين بهما. وهذا ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية، واستشهد لذلك بأن نوحا عليه السلام كان هو أول رسول بعث إلى أهل الأرض وكان أول شرك بالله قد وقع في قومه. وقد كان قبل نوح أنبياء كشيث وإدريس عليهما السلام وقبلهما آدم كان نبيا مكلما، وقد كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام وكان المبعوثون في هذه القرون أنبياء فقط1. وهذا القول الثالث هو أرجح الأقوال. أما القول الأول فهو غير مسلم كما سبق وإن وضحت في الكلام على معنى النبي. وكذا الأمر بالنسبة للقول للثاني فليس من شرط الرسول أن يأتي بشريعة جديدة كما تقدم ذكر ذلك.

_ 1 النبوات (ص 255- 256) .

المطلب الثاني: الأدلة من القرآن والسنة على وجوب الإيمان به صلى الله عليه وسلم

المطلب الثاني: الأدلة من القرآن والسنة على وجوب الإيمان به صلى الله عليه وسلم أ-الأدلة من القرآن: أوجب الله سبحانه وتعالى على الثقلين – الإنس والجن – الذين أدركتهم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وبما جاء به كما شهدت بذلك نصوص الكتاب العزيز. كما أكد الله وجوب الإيمان بأن جعله مقترنا بالإيمان به سبحانه وتعالى في مواضع كثيرة من القرآن الكريم منها: قال تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ، وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 1، وقال تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} 2. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيداً} 3، وقال تعالى: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} 4،

_ 1 الآيتان (7-8) من سورة الحديد. 2 الآية (8) من سورة التغابن. 3 الآية (136) من سورة النساء. 4 الآية (9) من سورة الفتح.

وقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} 1، وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} 2. والإيمان به صلى الله عليه وسلم واحد من ثلاثة حقوق اقترن بها حقه صلى الله عليه وسلم مع حق الله تعالى في القرآن الكريم. أما الحق الثاني له: فهو طاعته قال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} 3، وسيأتي بيانه في الفصل الثاني من هذا الباب. والحق الثالث هو: محبته قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} 4، وسيأتي بيانه في الباب الثاني. "كما أن الإيمان به واجب متعين لا يتم إيمان إلا به ولا يصح إسلام إلا معه"5.

_ 1 الآية (158) من سورة الأعراف. 2 الآية (15) من سورة الحجرات. 3 الآية (132) من سورة آل عمران. 4 الآية (24) من سورة التوبة. 5 الشفا للقاضي عياض (2/ 538) بتصرف.

وقال تعالى في حق من لم يؤمن: {وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيراً} 1. وبما تقدم من آيات يعلم وجوب الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم وأهميته وأنه لا يتم الإيمان بالله بدون الإيمان به، كما لا تحصل نجاة ولا سعادة بدون الإيمان به لأنه هو الطريق إلى الله سبحانه وتعالى، ولذلك كان أول أركان الإسلام "شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدا رسول الله". ب- الأدلة من السنة على وجوب الإيمان به صلى الله عليه وسلم: وردت في السنة أحاديث كثيرة جدا تدل على وجوب الإيمان به صلى الله عليه وسلم على الجن والإنس الذين أدركتهم رسالته، سواء كانوا أهل كتاب، أم ليسوا بأهل كتاب، ويستوي في ذلك عربهم وعجمهم، وذكرهم وأنثاهم، فلا يسع أحدا من هؤلاء الخروج عن شريعته أو التعبد لله بغير ما جاء به. لأن الله لا يقبل من أحد عملا يخالف شرع نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 2 وسأورد ههنا بعضا من تلك الأحاديث الواردة في هذا الشأن: أ- عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله" 3.

_ 1 الآية (13) من سورة الفتح. 2 الآية (85) من سورة آل عمران. 3 أخرجه بهذا اللفظ مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان: باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله (1/ 39) .

2- وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله" 1. 3- عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "والذي نفس محمد بيده لا يسمع لي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار" 2. 4- وعن ابن عباس رضي الله عنهما في حديث وفد عبد القيس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: "أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟، قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان، وأن تعطوا من المغنم الخمس...." الحديث3. 5- وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله فقال: "إنك تأتي قوما من أهل الكتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم

_ 1 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان: باب {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} ، انظر: فتح الباري (1/ 75) ح 25. وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان: باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله, انظر (1/ 39) . 2 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان: باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس ونسخ الملل بملته (1/ 93) . 3 تقدم تخريجه (ص 31) .

المطلب الثالث: دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم

المطلب الثالث: دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم أيد الله تبارك وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالدلائل، والمعجزات الكثيرة الدالة على وجوب الإيمان به وصدق رسالته وهذه الدلائل والمعجزات فاقت الألف معجزة كما ذكر ذلك غير واحد من العلماء1 ومنها ما هو حسي ومنها ما هو معنوي، وكذلك هي متنوعة فمنها ما كان قبل مولده كبشارات الأنبياء به ومنها ما كان وقت ولادته كقصة الفيل والعجائب التي حدثت عام مولده الدالة على نبوته، ومنها ما كان عند مبعثه كالقرآن الكريم وانشقاق القمر ونبع الماء بين أصابعه صلى الله عليه وسلم وغيرذلك. ومن تلك الدلائل ما استمر بعد وفاته صلى الله عليه وسلم كالقرآن الكريم، وما أخبر به من المغيبات كعلامات الساعة، وما يحدث بعده. ولقد ألف عدد من العلماء مؤلفات في هذا الشأن جمعوا فيها تلك الدلائل والمعجزات2. وإن من أعظم دعائم الإيمان معرفة المسلم لهذه الدلائل وأخذ العظة والعبرة منها وذلك بتدبر ما فيها من حكم وآيات دلت على صدق رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم. والمقام هنا لا يستوعب إيراد هذه الدلائل والمعجزات، ولكني سأشير إلى بعض هذه الدلائل إشارات سريعة على سبيل المثال: أ- القرآن الكريم:

_ 1 الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لشيخ الإسلام ابن تيمية (1/ 140) . 2 من تلك المؤلفات: دلائل النبوة لأبي نعيم الأصبهاني، ودلائل النبوة لقوام السنة الأصبهاني، ودلائل النبوة للبيهقي، والخصائص الكبرى للسيوطي.

هو أعظم الآيات والبراهين والدلائل والمعجزات التي أعطيها النبي صلى الله عليه وسلم، وليس من آية أبدع ولا أروع منه. فهو المعجزة الخالدة التي أعطاها الله لرسوله صلى الله عليه وسلم لتكون خالدة كخلود رسالته، ومشمهودة لكل من أتى بعد زمانه ليعم الانتفاع بها ولتقوم بها الحجة على أهل كل زمان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ولقد تعهد الله بحفظه وبقائه فقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 1 فكان في هذا الحفظ دوامه وبقاؤه إلى قيام الساعة. ولقد ميز الله نبيه بهذه المعجزة عن سائر إخوانه من الأنبياء كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذى أوتيته وحي أوحاه الله إلي، فأرجو أني أكثرهم تابعا يوم القيامة" 2. وفى تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن بالذكر هنا دون المعجزات الأخرى التي أعطيها- والتي تزيد على الألف- إشارة إلى عظم هذه المعجزة ومكانتها حتى أنه أصبح غيرها بالنسبة إليها كلا شيء لشيء. ولقد تضمنت هذه المعجزة وجوها متعددة من الإعجاز، فالقرآن الكريم معجز بلغته وفصاحته وبيانه وبلاغته وأحكامه وتشريعاته وبما حواه من أخبار

_ 1 الآية (9) ش سورة الحجر. 2 أخرجه البخارى في صحيحه، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "بعثت بجوامع الكلم" واللفظ له، انظر فتح الباري (3/ 247) ح 7274. وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان: باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس ونسخ الملل بملته. انظر (1/ 92، 93) .

وقصص، ومغيبات، وعلوم، فهو معجز من جميع الوجوه، ولقد تحدى الله قوم النبي صلى الله عليه وسلم على أن يأتوا بمثله أو بشيء منه، فالقرآن الكريم نزل بلغتهم فهم يعرفون حروفه ومعانيه، إضافة إلى أنه نزل في أوان وزمان بلغت فيه قريش ذروة الفصاحة والبلاغة والبيان، فلقد كان فيهم أولوا الأحلام والنهى والأفهام والألسن الحداد، والقرائح الجياد، والعقول السداد. فالتحدي كان لهم بأمر يعرفون طريقه ولهم بجنسه عهد بل إنهم نبغوا فيه وبلغوا فيه ذروته. ولذلك فقد توهم كفار قريش في بداية أمرهم أن باستطاعتهم الإتيان بمثله وقدروا أن في وسعهم معارضته فقالوا: {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} 1. فجاءهم التحدي من الله على ثلاث مراحل هي: المرحلة الأولى: التحدي بالإتيان بمثل القرآن وذلك كما جاء في قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} 2. المرحلة الثانية: تحداهم بالإتيان بعشر سور مثله حيث قال تبارك وتعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 3. المرحلة الثالثة: حيث تحداهم تبارك وتعالى بالإتيان بسورة واحدة فقال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ

_ 1 الآية (31) من سورة الانفال. 2 الآيتان (33- 34) من سورة الطور. 3 الآية (13) من سورة هود.

صَادِقِينَ} 1، فعجزوا عن الإتيان بسورة واحدة مع شدة الاجتهاد وقوة الأسباب فقد كانوا حريصين على تكذيبه وإبطاله بكل طريق ولكن مع هذا كله فقد عجزوا عن ذلك. ولقد أخبر الله بعجزهم عند تحديه إياهم بالإتيان بسورة من مثله فقال تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} 2. ولما عجزوا عن الإتيان بما تحداهم به قطع الله طمعهم على أن يأتوا بمثله فقال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} 3. وبعد مرحلة قطع الطمع أنزل الله فواتح السور كـ {الم، الر، المر} وغيرها تقريعا وتوبيخا للكفار، مخبرا لهم أن ما تحداهم به مكون من حروف هي حروف العربية التي يتحدثون بها والتي بلغوا ذروتها فهم أفصح العرب، والقرآن نزل بلغة العرب، ولقد جرت سنة الله بأن يعطي كل رسول من المعجزات ما

_ 1 الآية (23) من سورة البقرة. 2 الآية (24) من سورة البقرة. 3 الآية (8) من سررة الاسراء.

يناسب ما اشتهر به قومه، فلقد أعطى موسى العصا لاشتهار من أرسل إليهم بالسحر وما يتعلق به، وأعطى عيسى معجزة إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص والأعمى لاشتهار قومه بالطب وهكذا، فأعطى نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم القرآن لما اشتهرت به قريش من الفصاحة والبيان. فهذا ما كان من أمر التحدي الذى تحدى الله به أهل مكة وغيرهم من العرب الذين نزل القرآن بلغتهم، وسأعرض لذكر بعض جوانب هذا الإعجاز القرآني الذى عجز الكفار أن يأتوا بمثل هذا القرآن من جهتها وهى ما يلي: أولا: تحداهم بفصاحة القرآن وعلو أسلوبه، وأحكامه، ودقة تعبيره، ولذا تكلف بعض سفهاء الأحلام منهم أن يأتوا بسور خيل لهم أنها على نمطه وشاكلته، فأضحكوا على أنفسهم العقلاء، وأما ذووا العقل والرأي منهم فأسلموا أنفسهم إلى العجز وأيقنوا من قرارة نفوسهم أنه الحق وأنه من عند الله لا من كلام البشر ولكن أكثرهم يجهلون فأبوا إلا الكفر أنفة واستكبارا. ثانيا: تحداهم بتشريعه الكامل الموافق لمقتضى العقل والفطرة، الهادي جميع البشر إلى سواء السبيل من جوانب الحياة كلها عقيدة وعبادة واقتصادا وسياسة وأدبا وأخلاقا مع بقاءه كذلك صالحا لهداية العالم وإصلاحه في جميع جوانب الحياة إلى يوم القيامة. ثالثا: تحداهم بما تضمنه القرآن من الأخبار الغيبية التفصيلية المسهبة، وبوقوف

الرسول صلى الله عليه وسلم من إخوانه المرسلين السابقين موت المصدق لهم المبين لتحريف أقوامهم شرائعهم، المعلن لخزاياهم وفضائحهم في خروجهم على أنبيائهم بيان الواثق بنفسه المؤمن بما أوحي إليه من ربه، وهو أمي عاش في أمة أمية، ومن أمته أهل الكتاب الذين فضحهم بسوء صنيعهم مع رسلهم وفى شرائعهم ومع ذلك لاذوا بالصمت ولم يردوا عليه ما اتهمهم به تبرئة لأنفسهم ودفعا للنقيصة والعار عنها، فكان ذلك إيذانا بأنه رسول الله الصادق الأمين وأن ما جاء به إنما هو وحي من رب العالمين1. ولقد تضمن القرآن الكريم جوانب أخرى من الإعجاز فنحن في زمان انتشر فيه سلطان العلم المادي وتباهى الإنسان بمعرفته لكثير من الأمور التي خفيت عمن قبله من الأجيال، ولكن كثيرا من هذه الأمور التي يدعي الإنسان اكتشافها ومعرفتها، نجد أن القرآن الكريم قد تحدث عنها وبينها فعلى سبيل المثال تكوين الإنسان في بطن أمه تحدثت عنه آيات كئيرة من القرآن قبل أربعة عشر قرنا من الزمان بينما لم يتعرف علماء الطب على ذلك إلا في زمن متأخر وكذا الأمر بالنسبة لكثير من الأمور الأخرى كتكوين الأرض وعلوم البحار وعلوم الحيوان وشتى أنواع العلوم الأخرى، وقد اهتم عدد من العلماء المسلمين بهذا الشأن فأنشؤوا ما يسمى "بهيئة الإعجاز العلمي في القرآن" لبيان سبق القرآن في توضيح كثير من أمور العلم التي يدعي كثير من العلماء الماديين أنها لم تعرف إلا في هذا الزمان. وهذا كله شاهد بأن كتاب الله العزيز يبقى المعجزة الخالدة التي لا تنتهي

_ 1 انظر مجلة البحوث الإسلامية، العدد التاسع (ص 27- 28) مقال بعنوان بيان ما يسمى معجزة محمد الخالدة والمعجزة القرآنية إعداد هيئة كبار العلماء.

عجائبها، قال تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً} 1 فالقرآن يبقى معجزا في عصر العلم كما كان معجزا في عصر الفصاحة والبلاغة. ومن الآيات الحسية التي أعطيها النبي صلى الله عليه وسلم زمن بعثته: ب- انشقاق القمر: قال تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ، وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} 2. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: "أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية فأراهم انشقاق القمر"3. وعن عبد الله بن مسعود4 رضي الله عنه قال: "انشق القمر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم شقين، فقال: "اشهدوا" 5. ج- نبع الماء بين أصابعه: فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بإناء وهو

_ 1 الآية (89) من سورة الإسراء. 2 الآيتان (1، 2) من سورة القمر. 3 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المناقب: باب سؤال المشركين أن يريهم النبي صلى الله عليه وسلم آية، فأراهم انشقاق القمر. انظر: فتح الباري (6/ 631) ح 3637 4 عبد الله بن مسعود الهذلي، أسلم قديما، وهاجر الهجرتين، وشهد بدرا والمشاهد بعدها، وكان أول من جهر بالقرآن بمكة وكان من فقهاء الصحابة، توفي عام 32 هـ بالمدينة. الإصابة: (1/360، 362) رقم 4954. 5 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المناقب: باب سؤال المشركين أن يريهم النبي صلى الله عليه وسلم آية، فأراهم انشقاق القمر. انظر: فتح الباري (6/ 631) ح 3636.

بالزوراء1 فوضع يده في الإناء فجعل الماء ينبع من بين أصابعه، فتوضأ القوم. قال قتادة: قلت لأنس كم كنتم؟، قال: ثلائمائة، أو زهاء ثلاثمائة"2 وقد روى حديث نبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم جماعة من الصحابة منهم أنس وجابر وابن مسعود3. د- إشباع العدد الكثير من الطعام القليل: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "قال أبو طلحة4 لأم سليم5: لقد سمعت صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفا أعرف فيه الجوع، فهل عندك من شيء؟، قالت: نعم، فأخرجت أقراصا من شعير ثم أخرجت خمارا

_ 1 الزوراء: موضع بالمدينة عند سوقها في ذلك الوقت. وفاء الوفاء (4/ 1229) . 2 أخرجه البخاري في صحيحه واللفظ له، كتاب المناقب: باب علامات النبوة في الإسلام. انظر: فتح الباري (6/580) ح 3572، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفضائل: باب في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم (7/ 49) . فائدة: قال ابن حجر في فتح الباري (6/ 585) : "حديث نبع الماء من أصابعه صلى الله عليه وسلم جاء من رواية أنس عند الشيخين وأحمد وغيرهم من خمسة طرق. وعن جابر بن عبد الله من أربعة طرق وعن ابن مسعود عند البخاري والترمذي، وعن ابن عباس عند أحمد والطبراني من طريقين. وعن ابن أبي ليلى والد عبد الرحمن عند الطبراني". انتهى كلامه. 3 الشفا (1/402) . 4 أبو طلحة: اسمه زيد بن سهل بن الأسود الأنصاري النجاري الخزرجي، مشهور بكنيته، شهد العقبة ثم شهد بدرا وما بعدها من المشاهد، توفي عام 31 هـ وقيل 34 هـ. الإصابة (1/ 549) ت رقم 2905. 5 أم سليم بنت ملحان بن خالد الأنصارية وهى أم أنس خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتهرت بكنيتها واختلف في اسمها فقيل سهلة وقيل رميلة وقيل غير ذلك. أسلمت مع السابقين من الأنصار، ولها مواقف مشهودة تدل على فضلها ومكانتها. الإصابة (4/ 441، 442) ت رقم 1321.

لها، فلفت الخبز ببعضه ثم دسته تحت يدي، ولاثتني ببعضه، ثم أرسلتني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فذهبت به فوجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ومعه الناس، فقمت عليهم. فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "آرسلك أبو طلحة؟ "، فقلت: نعم. قال: بطعام؟، قلت: نعم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن معه: "قوموا"، فانطلق وانطلقت بين أيديهم حتى جئت أبا طلحة فأخبرته. فقال أبو طلحة: يا أم سليم قد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس وليس عندنا ما نطعمهم. فقالت: الله ورسوله أعلم. فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو طلحة معه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هلمي يا أم سليم ما عندك"، فأتت بذلك الخبز، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ففت، وعصرت أم سليم عكة فأدمته، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ما شاء أن يقول. ثم قال: "ائذن لعشرة" فأذن لهم، فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا. ثم قال: "ائذن لعشرة" فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا. ثم قال: "ائذن لعشرة" فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا. ثم قال: "ائذن لعشرة" فأكل القوم حتى شبعوا والقوم سبعون أو ثمانون رجلا"1. وأحاديث تكثير الطعام القليل تعددت، وتكررت في مواطن متعددة ورويت عن بضعة عشر من الصحابة، ورواها عنهم أضعافهم من التابعين ثم من لا يُعد بعدهم، وأكثر هذه الأحاديث مروية في الصحيح وأكثرها في قصص مشهورة، ومجامع مشهورة، ولا يمكن التحدث عنها إلا بالحق، ولا يسكت

_ 1 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المناقب: باب، علامات النبوة في الإسلام. انظر فتح الباري (6/ 586) ح 3578.

الحاضر لها على ما أنكر منها1. هـ- ما أطلع عليه من الغيوب وما سيكون في المستقبل: "والأحاديث في هذا الباب بحر لا يدرك قعره، ولا ينزف غمره، وهي من جملة معجزاته المعلومة على القطع"2 ومنها على سبيل المثال حديث حذيفة ابن اليمان قال: "قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاما ما ترك شيئا يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدث به، حفظه من حفظه ونسيه من نسيه، قد علمه أصحابي هؤلاء وإنه ليكون منه الشيء نسيته فأراه فأذكره كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه ثم إذا رآه عرفه"3. وبعد فهذا جزء يسير جدا من دلائل نبوته المعنوية والحسية وصدق رسالته صلى الله عليه وسلم، أيد الله بها نبيه ليقيم الحجة على الخلق فيحيا من حيي عن بينة ويهلك من هلك عن بينة. فيجب على كل مسلم أن يتدبر في دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم ويطَّلع عليها، فإن فيها عظة وعبرة وتزيد من إيمان المرء ويقينه بنبوة خاتم المرسلين وإمامهم، الذي أعطاه الله من الآيات والبراهين ما لم يعط أحدا من الأنبياء قبله.

_ 1 الشفا (1/ 419) بتصرف. 2 الشفا (1/ 470) وقد ذكر طرفا من هذه الأحاديث فمن أراد الاستزادة فليرجع إليه. 3 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفتن: باب إخبار النبي صلى الله عليه وسلم فيما يكون إلى قيام الساعة (8/ 172) .

المبحث الثالث: وجوب الإيمان بعموم رسالته صلى الله عليه وسلم

المبحث الثالث: وجوب الإيمان بعموم رسالته صلى الله عليه وسلم المطلب الأول: الأدلة من القرآن على عموم رسالته ... تمهيد إن من الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم الإيمان بجميع ما جاء به، ومما جاء به صلى الله عليه وسلم الإخبار بعموم رسالته للإنس والجن بجميع أجناسهم وأشكالهم وألوانهم ومللهم ولغاتهم. لذا فإنه يجب أن يعلم أن الله عز وجل أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم إلى جميع الثقلين الإنس والجن وأنه أوجب عليهم الإيمان به وبما جاء به وطاعته، وأنه لا يسع أحدا من هؤلاء الخروج عن شريعته ولا أن يدين لله بغير ما جاء به "ومن اعتقد أنه يسوغ لأحد الخروج عن شريعته وطاعته فهو كافر يجب قتله"1 قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} 2. وعموم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وعالميتها هي إحدى الخصائص التي انفرد بها صلى الله عليه وسلم عن الأنبياء قبله، إذ كان النبي إنما يعث إلى قومه خاصة ثم يبقى غيرهم محتاجا إلى من يبلغهم أمر الله عز وجل، أما محمد صلى الله عليه وسلم فقد بعثه الله للناس كافة بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، فهو المبعوث رحمة للعالمين، فعمت رسالته جميع المكلفين إنسهم وجنهم، كما صحبت كذلك الزمان في مسيرته، فإذا انتهى جيل من الناس فإن الجيل الذي يليه مخاطب ومكلف بها. والإيمان بعموم الرسالة وعالميتها هو الذي يدين به كل مسلم يؤمن بالله ورسوله، فهذا ما جاءت به آيات الكتاب الكريم ونصوص السنة الثابتة، فهو من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة والتي أجمعت عليها الأمة.

_ 1 مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (3/ 422) . 2 الآية (85) من سورة آل عمران.

المطلب الأول: الأدلة من القرآن على عموم رسالته وردت آيات كثيرة في كتاب الله العزيز تثبت عموم دعوته وعالمية رسالته صلى الله عليه وسلم ومن سمة هذه الآيات أنها اتصفت بتنوع العبارة مع اتحاد في المضمون الذي هو الدلالة على عموم الرسالة وعالميتها. وسوف نعرض لهذه الآيات بحسب اتحادها في السياق. أ- الآيات التي ورد فيها لفظ "الناس" منها: قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعا} 1. وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاس} 2. وقوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً} 3. وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً} 4. وقوله تعالى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِم} 5. وقوله تعالى: {هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ} 6.

_ 1 الآية (158) من سورة الأعراف. 2 الآية (28) من سورة سبأ. 3 الآية (79) من سورة النساء. 4 الآية (174) من سورة النساء. 5 الآية (2) من سورة يونس. 6 الآية (52) من سورة إبراهيم.

وقوله تعالى: {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} 1. والشاهد من هذه الآيات أنها بينت شمول رسالة محمد صلى الله عليه وسلم للناس2 جميعا. قال صاحب اللسان: "الناس قد يكون من الإنس ومن الجن"3. فلفظ الناس يطلق على الجن والإنس كما في قوله تعالى: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ، مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} 4 فسمى الله الجن في هذا الموضع ناسا كما سماهم في موضع آخر رجالا، فقال: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ} 5 فجعل الجن رجالا وكذلك جعل منهم ناسا6. وهناك رأي آخر يقول إن لفظ الناس دخل فيه الجن تغليبا7. والذي أراه أن الآيات تفسر بالمعنى الشامل للإنس والجن إذ لا مخصص للعموم هنا. وكنموذج لتفسير ما أوردته من آيات في هذا الشأن أذكر ما قاله بعض علماء التفسير في بيان قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} ،

_ 1 الآية (1) من سورة إبراهيم. 2 لفظ "الناس" فيه وجهان: أحدهما: أن يكون جمعا لا واحد له من لفظه وإنما واحده "إنسان" وواحدته "إنسانة"، والوجه الآخر: أن يكون أصله "أناس" أسقطت الهمزة منها لكثرة الكلام بها تخفيفا، ثم أدخلت الألف واللام المعرفتان، فأدغمت اللام التي دخلت مع الألف فيها للتعريف في النون. انظر: تفسير الطبري (1/ 116) . 3 لسان العرب (6/ 244) مادة نوس. 4 الآيتان (5- 6) من سورة الناس. 5 الآية (6) من سورة الجن. 6 تفسيرالطرى (30/356) . 7 تفسير ابن كثير (4/ 575) .

قال أبو جعفر الطبري1 في تفسيرها: "قل يا محمد للناس كلهم {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} لا إلى بعضكم دون بعض، كما كان من قبلي من الرسل مرسلا إلى بعض الناس دون بعض، فمن كان منهم أرسل كذلك، فإن رسالتي ليست إلى بعضكم دون بعض، لكنها إلى جميعكم"2. وقال ابن كثير3: يقول تعالى لنبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم {قُلْ} يا محمد {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} وهذا خطاب للأحمر والأسود والعربي والعجمي {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} أي جميعكم وهذا من شرفه وعظمه صلى الله عليه وسلم أنه خاتم النبيين وأنه مبعوث إلى الناس كافة"4. ب- الآيات التي ورد فيها لفظ "العالمين": ومنها قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} 5. وقوله تعالى: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} 6. وقوله تعالى: {وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} 7.

_ 1 هو محمد بن جرير الطبري، المؤرخ المفسر الإمام، كان مولده سنة أربع وعشرين ومائتين، روى الكثير عن الجم الغفير، صنف التاريخ الحافل، وله التفسير الكامل الذي لا يوجد له نظير توفي سنة 310 هـ. البداية (1/ 145- 147) . 2 تفسير الطبري (9/ 86) . 3 هو إسماعيل بن عمر بن كثير البصروي الدمشقي، حافظ مؤرخ فقيه ولد سنة 701 هـ وتوفي سنة 774 هـ وهو صاحب كتاب تفسير القرآن العظيم والبداية والنهاية. شذرات الذهب (1/231) ، والأعلام (1/ 320) . 4 تفسير ابن كثير (2/ 254- 255) . 5 الآية (107) من سورة الأنبياء. 6 الآية (90) من سورة الأنعام. 7 الآية (104) من سورة يوسف.

وقوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} 1. وقوله تعالى: {وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} 2. وقوله تعالى: {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ، إن هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} 3. والمراد بالعالمين هنا هم الإنس والجن إذ هم المكلفون. قال ابن عباس رضي الله عنهما: "العالمون الجن والإنس، دليله قوله تعالى: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} ولم يكن نذيرا للبهائم"4. ج- الآيات التي ورد فيها لفظتا "كافة" و"جميعا" وهي: قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 5. وقوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} 6. وهناك ثلاث عبارات هي: "الناس" و"كافة" و"جميعا" دلت جميعها على العموم. د- الآية التي ورد فيها لفظ "ومن بلغ": قال تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} 7،

_ 1 الآبة (1) من سورة الفرقان. 2 الآية (52) من سورة القلم. 3 الآيتان (26، 27) من سورة التكوير. 4 تفسير القرطبي (1/ 138) . 5 الآية (28) من سورة سبأ. 6 الآية (58) من سورة الأعراف. 7 الآية (19) من سورة الأنعام.

فالشاهد من الآية هو قوله تعالى: {لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} فلفظ (من) في قوله {وَمَنْ بَلَغَ} من صيغ العموم، فالآية نص في عموم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم. ومعنى الآية أن الله يأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لقومه إن الله أوحى إلي هذا القرآن لأنذركم به يا أهل مكة، أو يا معشر العرب ومن بلغه هذا القرآن سواء كان عربيا أو عجميا وسواء كان موجودا الآن، أم سيأتي بعد إلى أن تقوم الساعة وهذا هو الذى ذكره أهل التفسير عند هذه الآية1 هـ- الآيات التي ورد فيها خطاب الجن ومنها: قوله تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً} 2 إلى آخر الآيات التي نزلت في شأن دعوة الجن إلى الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وسميت هذه السورة بسورة الجن. وقوله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ، قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ، يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} 3 والآيات نزلت في جن نصيبين4 عندما سمعوا القرآن، فآمن به من آمن منهم ثم ولوا إلى قومهم منذرين، ثم أتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فبايعوه على الإسلام

_ 1 انظر على سبيل المثال، تفسير الطبري (7/ 162، 163) وتفسير ابن كثير (2/ 126) . 2 الآيتان (1، 2) من سورة الجن. 3 الآيات (29- 30- 31) من سورة الأحقاف. 4 مدينة تقع في تركيا بالقرب من الحدود السورية. أطلس العالم (ص 52) .

بشعب معروف بمكة، والأحاديث بذلك كثيرة مشهورة في الصحيح والسنن والمسند وكتب التفسير والفقه وغيرها1. وكذلك فإن سورة الرحمن هي خطاب للثقلين الإنس والجن معا. و الآيات التي وردت في دعوة أهل الكتاب: ومنها: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} 2. {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 3. وبالجملة فإن في القرآن من دعوة أهل الكتاب من اليهود والنصارى ومن دعوة المشركين وعباد الأوثان وجميع الإنس والجن ما لا يحصى إلا بكلفة وهذا كله معلوم بالاضطرار من دين الإسلام4.

_ 1 كتاب النبوات لابن تيمية (ص 396) . 2 الآية (20) من سورة آل عمران. 3 الآية (19) من سورة المائدة 4 الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (1/ 112) .

المطلب الثاني: الأدلة من السنة على عموم رسالته

المطلب الثاني: الأدلة من السنة على عموم رسالته الأدلة على عموم رسالته صلى الله عليه وسلم وعالميتها كثيرة جدا في السنة النبوية سواء من الناحية القولية أو الناحية العملية وسنعرض هنا لكلتا الناحيتين بإذن الله. أ- السنة القولية: أ- عن أبي الدرداء1 رضي الله عنه قال: "كانت بين أبي بكر2 وعمر محاورة، فأغضب أبو بكر عمر، فانصرف عنه عمر مغضبا، فأتبعه أبو بكر يسأله أن يستغفر له، فلم يفعل، حتى أغلق بابه في وجهه فأقبل أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو الدرداء ونحن عنده: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما صاحبكم هذا فقد غامر" 3. قال: وندم عمر على ما كان منه، فأقبل حتى سلم وجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقص على رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر، قال أبو الدرداء: وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل أبو بكر يقول: والله يا رسول الله، لأنا كنت أظلم.

_ 1 واسم أبي الدرداء كما قيل عويمر بن عامر، ولعل كنيته هي اسمه، أنصاري أسلم يوم بدر وشهد المشاهد بعدها، وكان أحد الحكماء العلماء الفضلاء توفي في عهد عثمان. الاستيعاب (4/ 59- 60) . 2 واسمه عبد الله بن عثمان بن عامر: ولد بعد الفيل بسنتين وسنة أشهر، صحب النبي صلى الله عليه وسلم سنين قبل البعثة وسبق إلى الإيمان به واستمر معه طوال إقامته بمكة ورافقه في الهجرة وفي الغار وفى المشاهد كلها إلى أن مات، وولي الخلافة من بعده فكان أول الخلفاء الراشدين، ومناقبه كثيرة رضي الله عنه توفي سنة 13 هـ. الإصابة (2/ 333 - 336) رقم 4817. 3 غامر: أي خاصم غيره، ومعناه: دخل في غمرة الخصومة، وهي معظمها والمغامر الذي يرمي بنفسه في الأمور المهلكة. النهاية: (3/ 384) .

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل أنتم تاركوا لي صاحبي، هل أنتم تاركوا لي صاحبي؟، إني قلت يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا، فقلتم كذبت، وقال أبو بكر صدقت" 1. 2- وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي، نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة" 2. 3- وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون" 3 4- وعن أبي ذر4 رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوتيت

_ 1 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير: باب تفسير قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} . انظر: فتح الباري (8/ 303) ح 4640، وأخرجه أيضا في كتاب فضائل الصحابة: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لو كنت متخذا خليلا". انظر: فتح الباري (7/ 18) ح 3661. 2 أخرجه البخارى في صحيحه، كتاب التيمم واللفظ له. انظر فتح الباري (1/ 435- 436) ح 335، وكذلك 438- 3122، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب المساجد (2/ 63) . 3 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب المساجد (2/ 64) . 4 أبو ذر الغفاري الزاهد المشهور الصادق اللهجة مختلف في اسمه واسم أبيه والمشهور أنه جندب ابن جنادة بن السكن، وكان من السابقين إلى الاسلام، توفي بالربذة سنة إحدى وثلاثين وقيل في التي بعدها. الإصابة (4/ 63- 65) ت رقم 384.

خسما لم يؤتهن نبي قبلي، نصرت بالرعب فيرعب مني العدو عن مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد كان قبلي، وبعثت إلى الأحمر والأسود" 1. 5- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لا يسمع بي رجل من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار" 2. وذكر اليهود والنصارى تنبيها على من سواهما، وذلك لأن اليهود والنصارى لهم كتاب، فإذا كان هذا شأنهم مع أن لهم كتابا فغيرهم ممن لا كتاب له أولى3. 6- وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من سمع بي من أمتي أو يهودي أو نصراني ثم لم يؤمن بي دخل النار" 4. ب- السنة العملية: إن المتأمل في سيرته ودعوته صلى الله عليه وسلم يعلم حرصه صلى الله عليه وسلم على نشر الرسالة

_ 1 أخرجه أحمد في مسنده (5/145) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: "رجاله رجال الصحيح" (8/ 259) ، وأخرجه أيضا من طرق أخر عن ابن عباس (1/ 250) وأبي أمامة (5/ 248) . وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 259) : "رجال أحمد- أي في هذا الحديث- ثقات"، وجد عمروبن شعيب (22/2) .وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 367) : "رجاله ثقات"، وقال أحمد شاكر: "إسناده صحيح" (13/ 16) - المسند بتحقيقه. 2 تقدم تخريجه. انظر (ص 71) . 3 انظر صحيح مسلم بشرح النووي (2/ 188) . 4 أخرجه أحمد في مسنده (4/ 396- 398) .

وإبلاغها لجميع المكلفين، فقد دعا صلى الله عليه وسلم الإنس على اختلاف أجناسهم وألوانهم ولغاتهم، سواء كانوا أهل كتاب أم ليسوا بأهل كتاب، كما دعا الجن كذلك فآمن له من آمن منهم وبايعوه على الإسلام. ولقد صدع النبي صلى الله عليه وسلم بعالمية الرسالة وعمومها في أوائل دعوته عندما انتقل من المرحلة السرية في الدعوة إلى المرحلة الجهرية حيث قال صلى الله عليه وسلم بعد أن حمد الله: "إن الرائد لا يكذب أهله، والله الذي لا إله إلا هو إني رسول الله إليكم خاصة وإلى الناس عامة، والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبن بما تعملون، وإنها للجنة أبدا أو النار أبدا" 1. وإن المتأمل للآيات القرآنية التي نصت على عموم رسالته وعالميتها يجد أن جلها كان مكي النزول، وهذا يؤكد أن عالمية الرسالة مقررة منذ بداية الوحى. ومن المعلوم أن طريقة الدعوة كانت تتبع أسلوب التدرج في التبليغ وهذا التدرج لم يكن ينافي شمول الدعوة لكل المكلفين، لأن المرحلية كانت ضرورية لدعوته صلى الله عليه وسلم، ولقد دلت السيرة النبوية أن النبي صلى الله عليه وسلم اتبع أسلوب التدرج في إبلاغ الرسالة، فأول ما بدأ به هو الدعوة السرية لهذا الدين فآمن له من آمن. ثم انتقل إلى الدعوة الجهرية ونهج فيها كذلك أسلوب التدرج فبدأ بأهل مكة عندما نزل عليه قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} 2 فدعاهم صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام. ثم بعد ذلك أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس في مجامعهم وأسواقهم ويبلغهم دعوة الله.

_ 1 الكامل في التاريخ لابن الأثير (2/ 61) . 2 الآية (214) من سورة الشعراء.

ثم ذهب إلى الطائف ودعا أهلها إلى الإسلام ولكنهم لم يجيبوه لذلك، ثم عاد إلى مكة وأخذ يعرض دعوته على القبائل في الموسم إلى أن التقى بالخزرج وهم من أهل المدينة وعرض عليهم الإسلام فأسلموا وأسلم النجاشي من قبلهم وكان على النصرانية. ومن هنا كانت بداية المرحلة الجديدة في الدعوة فبعد تمكن الإسلام بالمدينة، هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إليها فاتسع بذلك نطاق الدعوة حتى شمل أهل الكتاب من اليهود الذين كانوا بالمدينة حواليها حينئذ، كما تنوعت كذلك أساليب الدعوة إلى هذا الدين فشرع الجهاد في سبيل الله واتسعت رقعة الدعوة فشملت قبائل العرب ومن كان في جزيرة العرب من أهل الكتاب كيهود المدينة وخيبر ونصارى نجران واليمن وغيرهم، واستمر التدرج إلى أن كان عام الحديبية ومهادنة قريش فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت إلى جميع الطوائف يدعوهم إلى الإسلام. فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى وإلى قيصر وإلى النجاشي وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله تعالى1. ثم جاءت بعد هذه المرحلة مرحلة أخرى حيث بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بغزو النصارى فأرسل جيشا بقيادة زيد بن حارثة فقاتلوا النصارى بمؤتة من أرض الكرك2 ثم غزاهم بنفسه وأمر جميع المسلمين أن يخرجوا معه ولم يأذن بالتخلف لأحد، وغزا في عشرة آلاف في غزوة تبوك وأقام بها عشرين ليلة ليغزو النصارى

_ 1 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير: باب كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملوك الكفار يدعوهم الى الله عز وجل (5/ 166) . 2 تقع حاليا في الأردن.

عربهم وعجمهم، وأقام ينتظرهم ليقاتلهم فسمعوا به وأحجموا عن قتاله ولم يقدموا عليه. ثم بعد ذلك جهز جيشا بقيادة أسامة بن زيد1 ولكنه صلى الله عليه وسلم لحق بالرفيق الأعلى قبل أن يخرج الجيش، فأوصى وهو في سكرات الموت بإرسال هذا الجيش فقال: "أنفذوا بعث أسامة". ولقد سار أصحابه رضوان الله عليهم من بعده على نهجه واستنوا بسنته حتى فتح الله عليهم بلاد فارس والروم وغيرها فانتشر الإسلام ودخل الناس في دين الله أفواجا. والشاهد من هذا كله أن سيرته صلى الله عليه وسلم هي مثال تطبيقي عملي على شمول دعوته وعالمية رسالته التي من أجلها كرس النبي صلى الله عليه وسلم حياته لكي ينشرها ويبلغها للناس كافة، لتقوم بذلك الحجة على الناس أجمعين. وما ذكرته ههنا ليس إلا إشارات سريعة فمن أراد الاستزادة فعليه بكتب الحديث والسيرة ففيها الغنية بإذن الله.

_ 1 أسامة بن زيد بن حارثة، الحب بن الحب، ولد في الإسلام، صحابي جليل، توفي سنة أربع وخمسين هجرية. الإصابة (1/ 46) .

المطلب الثالث: دليل الإجماع على عموم رسالته.

المطلب الثالث: دليل الإجماع على عموم رسالته. إن الإجماع منعقد من أئمة المسلمين وعامتهم على أن محمدا صلى الله عليه وسلم أرسل إلى جميع الأمم - أهل الكتاب وغير أهل الكتاب1 - فإن الذي يدين به المسلمون هو أن محمدا صلى الله عليه وسلم بعث رسولا إلى الثقلين الإنس والجن، أهل الكتاب وغيرهم، وأن من لم يؤمن به فهو كافر مستحق لعذاب الله، مستحق للجهاد، وهو مما أجمع أهل الإيمان بالله ورسوله عليه، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي جاء بذلك وذكره الله في كتابه، وبينه النبي أيضا في سنته. وهذا الإجماع تواترت في نقله كتب أهل العلم وهو منقول عندهم نقلا متواترا يعلمونه بالضرورة. وكتب التوحيد السنة مليئة بهذا. وبما تقدم إيراده من الأدلة والنصوص يعلم ثبوت عموم رسالته وشمولها كما يعلم كذلك انتفاء كل دعوى تخالف هذا الأمر أو تطعن فيه كدعوى أنه رسول للعرب خاصة، أو دعوى أن رسالته ليست ناسخة لما قبلها من الرسالات وأنه يسع الناس التدين بما جاء في قبله من الرسالات. فنصوص القرآن والسنة والإجماع ترد هذه الدعاوى وتفندها وتبطلها. وبالنسبة إلى ما تعلق به أصحاب هذه الأقوال من شبه ظنوها أدلة لهم، فإنما مردها إلى سوء فهمهم وجهلهم بمعاني النصوص التي أوردوها وكما قيل: وكم من عائب قولا صحيحا ... وآفته من الفهم السقيم2

_ 1 الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (1/ 124) . 2 ديوان أبي الطيب المتنبي (ص 232)

ولا يتسع المجال هنا لإيراد تلك الشبه وتفنيدها1 كما أن معرفة الحق تغني وكما قيل: بضدها تتميز الأشياء. وإن الواجب على كل مسلم اعتقاد عموم رسالته وشموليتها وعالميتها لجميع المكلفين وإنه لا يسع أحدا الخروج عنها أو أن يدين لله بغيرها. كما أنه لا يسع المسلم أن يجهل مثل هذا الأمر لأنه من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة، ومن الواجب عليه كذلك أن يرد على كل من يطعن في هذا الأمر أو يشكك فيه سواء ممن ينتسبون إلى الإسلام أو من غيرهم، وبالخصوص أننا أصبحنا في زمان ظهرت فيه الدعوة إلى وحدة الأديان وتقاربها بدعوى أنها جميعا تدعو إلى عبادة إله واحد وأن مصدرها واحد إلى غير ذلك من الأمور التي يروج لها أصحاب هذه الدعوة والتي لا تنطلي إلا على ساذج لا يعي الأمور الضرورية من دينه.

_ 1 لمزيد من التفصيل في هذا الموضوع: انظر كتاب الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (1/ 128) وما بعدها.

المبحث الرابع: وجوب الإيمان بأنه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين

المبحث الرابع: وجوب الإيمان بأنه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين المطلب الأول: معنى ختم النبوة. ... تمهيد من الخصائص التي خص الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم ورسالته جعله خاتم النبيين وجعل رسالته خاتمة الرسالات، فانفرد صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر وبغيره عن إخوانه من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. فأصبح ختم النبوة من خصائصة صلى الله عليه وسلم. ولذا فإن من حقه صلى الله عليه وسلم على كل من يؤمن له، أن يعتقد بهذا الأمر، يؤمن به " لثبوته بنصوص القرآن والسنة وإجماع الأمة، بل هو من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة التي لا يعذر المسلم بجهلها ولمزيد من البيان لهذه الخاصية والحق الواجب له صلى الله عليه وسلم، سوف أتحدث في هذا المبحث عن الجوانب التالية:

المطلب الأول: معنى ختم النبوة. أ- معنى الختم في اللغة: الختم في اللغة ورد لعدة معان هي: ا- الطبع: قال صاحب المحكم: "ختمه، يختمه، ختما: طبعه"1 وقد ذكر هذا صاحب اللسان2 والقاموس المحيط3. وفى تاج العروس: "معنى ختم وطبع واحد في اللغة"4. 2- تغطية الشيء والاستيثاق منه بحيث لا يدخله شيء ولا يخرج منه شيء: قال صاحب المحكم: "والختم على القلب ألا يفهم شيئا ولا يخرج منه شيء كأنه طبع. ومعنى ختم وطبع في اللغة واحد، وهو التغطية على الشيء والاستيثاق من أن لا يدخله شيء كما قال عز وجل: {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} 5"6، وذكر هذا صاحب اللسان7 وصاحب تاج العروس8.

_ 1 المحكم لابن سيده (5/ 26) بتحقيق إبراهيم الأبياري. 2 لسان العرب (12/ 163) . 3 القاموس المحيط (2/ 15) بترتيب الزاوي. 4 تاريخ العروس للزبيدى (8/ 266) . 5 الآية (24) من سورة محمد. 6 المحكم (5/ 26) . 7 لسان العرب (12/ 163) . 8 تاج العروس (8/ 266) .

3- آخر الشيء ونهايته: قال صاحب المحكم: "وختم الشيء يختمه: ختما بلغ آخره، وخاتم كل شيء: عاقبته وآخرته، وختام كل مشروب آخره، وفرض التنزيل {خِتَامُهُ مِسْكٌ} 1 أي آخره، وختام القوم وخاتمهم آخرهم ... وفي التنزيل {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} 2 أي آخرهم"3. وقال صاحب المفردات في معرض كلامه عن الصور التي يرد بها لفظ الختم: "وتارة يعتبر منه بلوغ الآخر ومنه قيل: ختمت القرآن أي انتهيت إلى آخره ... إلى أن قال: "وخاتم النبيين لأنه ختم النبوة، أي تممها بمجيئه صلى الله عليه وسلم"4. وقال صاحب القاموس: "والخاتم من كل، شيء: عاقبته وآخرته، وآخر القوم كالخاتم"5. "هذه هي المعاني اللغوية لفعل "الختم" واسم فاعله "خاتم" كما أوردها أعلام اللغة في مصنفاتهم عن العرب، وهي مع تعددها وتعدد ألفاظها المعبرة عنها والتي هي: الطبع على الشيء وإنهاؤه وتغطيته وآخر القوم وعاقبة الأمر، هي مع ذلك كله تتمشى مع دلالة قوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} على أن النبوة قد طبع عليها فلا تفتح، وأنها قد انتهت وسدت بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأنه آخر الأنبياء وشرعه آخر

_ 1 الآية (26) من سورة المطففين. 2 الآية (40) من سورة الأحزاب. 3 المحكم (5/ 26) . 4 المفردات (ص 142-143) . 5 القاموس (2/ 15) بترتيب الزاوى.

الشرائع وعاقبتها"1. ب- معنى ختم النبوة: تقدم معرفة معنى الختم في اللغة، وتقدم أيضا معرفة معنى النبوة في المبحث الثاني من هذا الفصل. "فإذا ما ركبا في جملة واحدة هي "ختم النبوة" فإنه يكون معناها "انتهاء إنباء الله للناس وانقطاع وحي السماء"2.

_ 1 كتاب عقيدة ختم النبوة للدكتور أحمد بن سعد الغامدي (ص 13) 2 المصدر السابق (ص 16) .

المطلب الثاني: الأدلة من القرآن الكريم على ختم النبوة.

المطلب الثاني: الأدلة من القرآن الكريم على ختم النبوة. أ- آية الختم: قال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} . والآية نص صريح واضح على ختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم وكونه خاتم الأنبياء وآخرهم مبعثا فلا نبي بعده ولا رسول. وقد سبق الربط بين دلالة الآية والمعنى اللغوي لكلمة "ختم". وتتميما للفائدة سأعرض بعض ما ذكره علماء التفسير عند تفسير هذه الآية. قال ابن جرير الطبري رحمه الله: "يقول تعالى ذكره ما كان أيها الناس محمد أبا زيد بن حارثة1 ولا أبا أحد من رجالكم، الذين لم يلده محمد، فيحرم عليه نكاح زوجته بعد فراقه إياها، ولكنه رسول الله وخاتم النبيين الذي ختم النبوة فطبع عليها فلا تفتح لأحد من بعده إلى قيام الساعة، وكان الله بكل شيء من أعمالكم ومقالكم وغير ذلك ذا علم لا يخفى عليه شيء"2. وقال ابن كثير رحمه الله: "فهذه الآية نص في أنه لا نبي بعده، وإذا كان لا نبي بعده فلا رسول بالطريق الأولى والأحرى لأن مقام الرسالة أخص من مقام النبوة فكل رسول نبي ولا ينعكس، بذلك وردت الأحاديث المتواترة

_ 1 زيد بن حارثة بن شراحيل الكعبي، تبناه النبي صلى الله عليه وسلم وكان يدعى زيد بن محمد حتى نزلت الآية {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ} شهد بدرا وما بعدها واستشهد في غزوة مؤتة. الإصابة (1/ 545- 546) . 2 تفسير الطبري (22/ 16) .

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث جماعة من الصحابة رضي الله عنهم ... إلى أن قال: فمن رحمة الله بالعباد إرسال محمد صلى الله عليه وسلم، ثم من تشريفه لهم ختم الأنبياء والمرسلين به، وإكمال الدين الحنيف له. وقد أخبر الله تبارك وتعالى في كتابه ورسوله صلى الله عليه وسلم في السنة المتواترة عنه أنه لا نبي بعده، ليعلموا أن كل من ادعى هذا المقام بعده فهو كذاب أفاك دجال ضال مضل"1 وأقوال المفسرين عموما متفقة على أن المراد من الآية هو ختم النبوة وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو آخر الأنبياء مبعثا، ولم ينقل عن أحد من أهل التفسير خلاف ذلك. وقد تعرض أهل التفسير للقراءات الواردة في قوله "خاتم" من هذه الآية فذكروا أن فيها قرائتين: الأولى: قراءة الكسر "خاتِم". وهي الأشهر عند أهل اللغة والتفسير الذين أجمعوا أن قراءة الكسر هي قراءة الجمهور وعامة قراء الأمصار2 وعلى هذه القراءة "وخاتم النبيين" يكون المعنى أنه: "ختم النبيين" لأنه ختم به النبيون فهو خاتمهم. الثانية: قراءة الفتح "خاتَم" وهي الأقل استعمالا يين القراء ولهذا فإن المفسرين لا يعزونها إلا إلى أفراد القراء كعاصم3 وابن عامر4 وغيرهما.

_ 1 تفسير ابن كثير (3/ 494) . 2 تفسير الطبري (22/ 16) ، وتفسير البغوي (6/ 565) وتفسير القرطبي (14/ 196) . 3 عاصم بن أبي النجود الضرير الكوفي، أحد القراء السبعة، توفي سنة تسع وعشرين ومائة، وقيل غير ذلك. تهذيب التهذيب (5/38- 40) . 4 عبد الله بن عامر اليحصبي، أحد القراء السبعة، كان قاضي مشق في أيام الوليد بن عبد الملك وإمام مسجد دمشق وتوفي بها سنة ثماني عشرة ومائة. تهذيب التهذيب (5/ 274، 275) .

فعلى هذه القراءة "وخاتم النبيين" يكون المعنى أي آخر النبيين مبعثا فبه انتهت النبوة. وبالرغم من ورود القرائتين في الآية إلا أن المفسرين لا يرون أن في ذلك تأثيرا على المعنى وهو انقطاع النبوة بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. ب- الآيات الدالة ضمنا على ختم النبوة: في القرآن الكريم آيات كثيرة دلت ضمنا على ختم النبوة والرسالة بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم. ومن هذه الآيات آيات عموم الرسالة وعالميتها والتي تقدم ذكرها في المبحث الثالث، حيث إن عموم الرسالة من الناحيتين الزمانية والمكانية يدل على كونها خاتمة الرسالات، لأن البشرية على هذا الحال لاتحتاج إلى دين جديد مادام هذا الدين قد خاطبهم جميعا على اختلاف أجناسهم وأماكنهم وأزمانهم. ومن الأدلة كذلك الإخبار بإكمال هذا الدين وإتمامه: قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} 1 فالآية تؤكد أن الأمة لم تعد تحتاج إلى نبي يكمل لها دينها أو يتم عليها نعمة ربها، لأن الله سبحانه وتعالى قد أكمله على يد رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم رضيه له

_ 1 الآية (3) من سورة المائدة.

ربها، لأن الله سبحانه وتعالى قد أكمله على يد رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم رضيه له ولأمته دينا يعبدون الله به إلى يوم القيامة1. قال ابن كثير عند تفسير هذه الآية: "هذه أكبر نعم الله تعالى على هذه الأمة حيث أكمل تعالى لهم دينهم فلا يحتاجون إلى دين غيره ولا إلى نبي غير نبيهم صلوات الله وسلامه عليه، ولهذا جعله الله تعالى خاتم الأنبياء وبعثه إلى الإنس والجن ... "2.

_ 1 كتاب عقيدة ختم النبوة (ص 27- 28) . 2 تفسير ابن كثير (2/ 12) .

المطلب الثالث: الأدلة من السنة على ختم النبوة

المطلب الثالث: الأدلة من السنة على ختم النبوة: إلى جانب ما ورد ني القرآن من أدلة على كون النبي صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين ورسالته هي خاتمة الرسالات، فقد ورد في السنة كذلك أحاديث كثيرة أكدت هذا الأمر وبينته ونبهت عليه. وقد وردت هذه الأحاديث بعبارات متعددة متنوعة لكنها جميعا أكدت على مدلول واحد، هو انقطاع الوحي بعد النبي صلى الله عليه وسلم وختم النبوة به. وقد بلغ بعض هذه الأحاديث حد التواتر، كما أنها في جملتها متواترة تواترا قطعيا. ونظرا لتنوع ألفاظ تلك الأحاديث واختلاف صورها في الدلالة على هذا المعنى وتأكيده، فإن من المناسب أن أعرضها لك على النحو التالي: أ- الأحاديث التي ورد فيها التصريح بأنه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، ومنها: أ- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "أُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بلحم، فرفع إليه الذراع - وكانت تعجبه - فنهس1 منها نهسة ثم قال "أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون مما ذلك؟ "، ثم ذكر صلى الله عليه وسلم يوم القيامة وما يحدث فيه من استشفاع الناس بالأنبياء للحساب حتى يصلوا إليه صلى الله عليه وسلم، فذكر صلى الله عليه وسلم أنهم يقولون: "أنت رسول الله، وخاتم الأنبياء، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، تشفع لنا إلى ربك ... " الحديث2.

_ 1 النهس: أخذ اللحم بأطراف الأسنان، والنهش الأخذ بجميعها. النهاية (5/ 136) . 2 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير: باب {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً} . انظر فتح الباري (8/395، 396) ح 4712، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان: باب أدنى الجنة منزلة فيها (1/ 127) .

2- عن ثوبان1 رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زُوي لي منها، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض 2 وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة بعامة، ولا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم 3 وإن ربي قال لي يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، ولا أهلكهم بسنة بعامة، ولا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بين أقطارها - أو قال بأقطارها - حتى يكون بعضهم يهلك بعضا، وحتى يكون بعضهم يسبي بعضا، وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين وإذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنها إلى يوم القيامة، ولا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي، ولا تزال طائفة من أمتي على الحق". قال ابن عيسى: "ظاهرين" ثم اتفقا "لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله" 4.

_ 1 ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابي مشهور اشتراه ثم أعتقه رسول الله صلى الله عليه وسلم فخدمه إلى أن مات. ثم تحول إلى الرملة ثم حمص، ومات بها سنة 54 هـ. الإصابة (1/205) رقم 967 2 أي الذهب والفضة. النهاية (1/ 438) . 3 أي مجتمعهم، وموضع سلطانهم، ومستقر دعوتهم. النهاية (1/ 172) . 4 أخرجه بهذا اللفظ أبو داود في السنن، كتاب الفتن والملاحم، باب ذكر الفتن ودلائلها (2/ 450، 452) ح 4252، وأخرجه الإمام أحمد في المسند (5/ 278) وابن ماجة في السنن، كتاب الفتن، باب ما يكون من الفتن (2/ 1304) ، وأخرجه مختصرا مسلم في صحيحه إلى قوله "يسبي بعضهم بعضا" كتاب الفتن، باب هلاك هذه الأمة (8/ 171) ، وكذلك أخرج مسلم آخره من قول " لا تزال طائفة من أمتي...." كتاب الإمارة باب قوله صلى الله عليه وسلم "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين ... الخ" (6/ 52) ، وأخرج الترمذي في السنن بعضه من قوله "لا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي - إلى قوله - لا نبي بعدي" كتاب الفتن:باب ما جاء لا تقوم الساعة حتى يخرج كذابون (4/ 498، 499) ح 2218، وقال هذا حديث حسن صحيح.

والشاهد من هذا الحديث هو قوله: "وأنا خاتم النبيين أن لا نبي بعدي" فهذا نص في كونه صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء. 3- وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنا قائد المرسلين ولا فخر، وأنا خاتم النبيين ولا فخر وأنا أول شافع وأول مشفع ولا فخر" 1. ب- الأحاديث التي ورد فيها ضربه صلى الله عليه وسلم الأمثال لختم النبوة ومنها: أ- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مثلي ومثل الأنبياء كرجل بنى دارا فأكملها وأحسنها، إلا موضع لبنة، فجعل الناس يدخلونها ويتعجبون ويقولون: لولا موضع اللبنة". متفق عليه2، وعند مسلم بزيادة لفظ: "فأنا موضع اللبنة جئت فختمت الأنبياء". 2- وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟،

_ 1 أخرجه الدارمي في السنن (1/ 27) وقد اعتبره صاحب المشكاة من قسم الحسان وارتضاه الألباني المحقق (3/ 128) . 2 البخاري في صحيحه، كتاب المناقب باب خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم. انظر: فتح الباري (6/ 558) ح 3534، ومسلم في صحيحه، كتاب الفضائل: باب ذكر كونه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين (7/ 65) .

قال: "فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين"1. ج- الأحاديث التي ورد فيها تصريحه صلى الله عليه وسلم بانقطاع النبوة وأنه لا نبي بعده ومنها: أ- عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كان بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء فيكثرون ... " الحديث2. 2- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كشف رسول الله صلى الله عليه وسلم الستار والناس صفوف خلف أبي بكر رضي الله عنه، فقال: أيها الناس إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له" 3. 3- وعن سعد بن أبي وقاص4 رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى تبوك واستخلف عليا5 فقال: أتخلفني في الصبيان والنساء؟

_ 1 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المناقب: باب خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم واللفظ له. انظر: فتح الباري (6/ 558) ح 3535، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفضائل: باب ذكر كونه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين (7/ 64) . 2 تقدم تخريجه (ص 64) . 3 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الصلاة: باب النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود (2/ 48) . 4 سعد بن أبي وقاص واسم أبيه مالك بن أهيب وكان سابع من أسلم، وقد شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشاهد كلها، وأحد العشرة، وكان مجاب الدعوة وهو أول من رمى بسهم في سبيل الله توفي سنة 54 هـ. الإصابة (2/30- 32) رقم 3194. 5 علي بن أبي طالب ولد قبل البعثة بعشر سنين تربى في حجر النبي صلى الله عليه وسلم وشهد معه المشاهد كلها ماعدا غزوة تبوك، حيث استخلفه النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة، وهو رابع الخلفاء الراشدين وأحد العشرة المبشرين ومناقبه كثيرة، قتل على يد عبد الرحمن بن ملجم عام 40 هـ. الإصابة (2/501- 503) رقم 5690.

قال: " ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه ليس نبي بعدي" 1. د- الأحاديث التي ورد فيها تحذيره صلى الله عليه وسلم من المتنبئين بعده ومنها: ا- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان تكون بينهما مقتلة عظيمة، دعوتهما واحدة، وحتى يبعث دجالون كذابون قريب من ثلاثين كلهم يزعم أنه رسول الله.." 2 2- عن جابر بن سمرة3 رضي الله عنه قال: سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن بين يدي الساعة كذابين فاحذروهم" 4. د- الحديث الذي ورد فيه التصريح بأنه آخر الأنبياء وأن مسجده آخر المساجد وأن أمته آخر الأمم. ا- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "صلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام، فإن

_ 1 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي: باب غزوة تبوك، انظر فتح الباري (8/ 112) ح 4416، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة: باب من فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه (7/ 120) . 2 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الفتن واللفظ له. انظر: فتح الباري (13/ 81، 82) ح 7121، وأخرجه مختصرا مسلم في صحيحه، كتاب الفتن: باب إذا تواجه المسلمان بسيفيهما (8/170) 3 جابر بن سمرة بن جنادة العامري له ولأبيه صحبة، وهو ابن أخت سعد بن أبي وقاص، توفي سنة 74 هـ. الإصابة (1/ 213) رقم 1018. 4 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة: باب الناس تبع لقريش (6/4) .

رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر الأنبياء وإن مسجده آخر المساجد ... " قال عبد الله بن إبراهيم قارظ1 أشهد أني سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإني آخر الأنبياء وإن مسجدي آخر المساجد" 2. و دلالة بعض أسمائه صلى الله عليه وسلم على كونه خاتم الأنبياء: عن جبير بن مطعم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحى لي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على عقبي، وأنا العاقب الذي ليس بعده نبي" 3. والأحاديث في مسألة ختم النبوة كثيرة لا يتسع المقام هنا لإيرادها جميعها، وقد جمع هذه الأحاديث صاحب كتاب "عقيدة ختم النبوة" فمن أراد الزيادة فليرجع إليه4.

_ 1 ويقال إبراهيم بن عبد الله بن قارظ الكناني وهما واحد، روى عن جابر بن عبد الله وأبي هريرة وغيرهم، ذكره ابن حبان في الثقات. تهذيب التهذيب (1/ 134) . 2 أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الحج، باب فضل الصلاة بمسجدي مكة والمدينة (4/ 124، 125) . 3 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المناقب: باب ما جاء في أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم، انظر: فتح الباري (6/ 554) ح 3532، وأخرجه مسلم، كتاب الفضائل: باب في أسمائه صلى الله عليه وسلم، واللفظ له (7/ 89) . 4 وهي رسالة ماجستير مطبوعة.

المطلب الرابع: ما ورد عن الصحابة رضوان الله عليهم في تأكيد عقيدة ختم النبوة

المطلب الرابع: ما ورد عن الصحابة رضوان الله عليهم في تأكيد عقيدة ختم النبوة لقد كان موقف الصحابة رضوان الله عليهم تجاه هذا الأمر متمثلا في الأمور التالية: أ- روايتهم للأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الشأن والتي بلغت حد التواتر على تنوع عبارات تلك الأحاديث واختلاف المناسبات التي قيلت فيها، وهذا مما يدل على اعتقادهم لهذا الأمر وحرصهم على إبلاغه لهذه الأمة، ولم ينقل عن أحد من الصحابة أنه خالف هذا الأمر، ولو كانت هناك أدنى شبهة عن أحد منهم لنقلت لنا "وقد بلغ عدد الصحابة رضي الله عنهم الذين رووا أحاديث الختم سبعة وثلاثين صحابيا"1 ب- إجماع الصحابة على قتال المتنبئين بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقد سير أبو بكر رضي الله عنه الجيوش - والتي كان معظم جندها من الصحابة رضوان الله عليهم - وذلك لقتال مسيلمة الكذاب2 وطليحة الأسدي 3اللذين ادعيا النبوة.

_ 1 عقيدة ختم النبوة (ص 55) . 2 هو: مسيلمة بن ثمامة بن كبير الكذاب، ادعى النبوة في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك في أواخر سنة عشر وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم قبل القضاء على فتنته، فلما انتظم الأمر لأبي بكر رضي الله عنه، انتدب له خالد بن الوليد على رأس جيش قوي فقتل مسيلمة الكذاب. البداية (5/ 49- 52، 6/ 323- 327) والأعلام (7/ 226) . 3 طليحة بن خويلد الأسدي، قدم على النبي صلى الله عليه وسلم في وفد من بني أسد سنة 9هـ، وأسلموا، ولما رجعوا ارتد طليحة، وادعى النبوة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم. سير إليه أبو بكر خالد بن الوليد، فانهزم طليحة وفر إلى الشام ثم أسلم وحسن بلاؤه في الفتوح، واستشهد في نهاوند سنة 21 هـ. الإصابة (2/ 226) رقم 4290، والأعلام (3/230) .

ج- ما ورد من الأقوال المأثورة عنهم والتي تضمنت التأكيد على ختم النبوة وانقطاع الوحي بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن تلك الأقوال: ما رُوي عن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: "إن أناسا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم ... " 1. وما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما عند تفسير قوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} . قال في تفسيرها: "إن الله تعالى لما حكم أنه لا نبي بعده لم يعطه ولدا ذكرا يصير رجلا"2 وعن ابن أبي أوفى3 رضي الله عنه لما سئل عن إبراهيم ولد النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مات صغيرا، ولو قضى أن يكون بعد محمد صلى الله عليه وسلم نبي عاش ابنه ولكن لا نبي بعده"4. وعن أنس رضي الله عنه قال: "كان إبراهيم - يعني ابن النبي صلى الله عليه وسلم - قد ملأ الأرض، ولو بقي لكان نبيا ولكن لم يبق إلا نبيكم آخر الأنبياء"5.

_ 1 أخرجه البخاري في صحيحه، كناب الشهادات، باب الشهداء العدول. انظر: فتح الباري (5/ 251) ح 2641. 2 معالم التنزيل للبغوي (6/ 565) . 3 هو: عبد الله بن أبي أوفى واسمه علقمة بن خالد الأسلمي له ولأبيه صحبة، شهد الحديبية، وروى أحاديث شهيرة نزل الكوفة، ومات بها سنة ثمانين. الإصابة (2/ 271) رقم 4555. 4 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب: باب من سمى بأسماء الأنبياء. انظر: فتح الباري (10/577) . 5 أخرجه أحمد في المسند (3/ 133) .

المطلب الخامس: إجماع الأمة

المطلب الخامس: إجماع الأمة تلقت الأمة النصوص الواردة في الكتاب والسنة بشأن ختم النبوة بالقبول التام فحصل بهذا إجماعها على كون النبي صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء والمرسلين فلا نبي ولا رسول بعده، ورسالته هي خاتمة الرسالات وآخرها. وقد نقل هذا الإجماع غير واحد من العلماء، أذكر على سبيل المثال قول بعض منهم: قال ابن عطية1 في معرض كلامه على آية الختم: "وهذه الألفاظ عند جماعة علماء الأمة خلفا وسلفا متلقاة على العموم التام مقتضية نصا أنه لا نبي بعده صلى الله عليه وسلم"2. وقال القاضي عياض3: "أخبر صلى الله عليه وسلم أنه خاتم النبيين لا نبي بعده، وأخبر عن الله تعالى أنه خاتم النبيين، وأنه أرسل كافة لله للناس وأجمعت الأمة على حمل هذا الكلام على ظاهره، وأن مفهومه المراد منه دون تأويل ولا تخصيص"4.

_ 1 واسمه عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن عطية المحاربي الغرناطي مفسر فقيه، عارف بالأحكام والحديث، توفي سنة 541 هـ. طبقات المفسرين للداودي (1/ 265) والأعلام (3/282) . 2 تفسيرالقرطبي (14/ 196) . 3 عياض بن موسى بن عياض السبتي، أبو الفضل: عالم المغرب وإمام أهل الحديث في وقته، توفي عام 544 هـ. الأعلام (4/ 99) . 4 الشفا (2/1071) .

قال الألوسى1: "وكونه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين مما نطق به الكتاب، وصدعت به السنة، وأجمعت عليه الأمة، فيكفر مدعي خلافه ويقتل إن أصر"2. ولقد تكلم علماء الأمة على تقرير هذه المسألة وأقوالهم محفوظة في ذلك، فإن شئت فارجع إلى كتب التفسير عند تفسير قوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} ، وارجع كذلك إلى كتب العقيدة فقل أن يخلو كتاب من الحديث في هذا الأمر وتقريره بما ورد في الكتاب والسنة وأقوال الصحابة، ومن بعدهم من علماء الأمة. وبما تقدم من أدلة على تقرير ختم النبوة فإنه يجب على كل من يؤمن بالله ورسوله أن يؤمن بهذا الأمر ويعتقده.

_ 1 محمود بن عبد الله الحسيني الألوسي، مفسر محدث، أديب وهو صاحب كتاب روح المعاني، توفي سنة 1270 هـ، الأعلام (7/ 176) . 2 روح المعاني (22/ 32، 39) .

المبحث الخامس: وجوب الإيمان بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد بلغ الرسالة وأكملها

المبحث الخامس: وجوب الإيمان بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد بلغ الرسالة وأكملها المبحث الخامس: وجوب الإيمان بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد بلغ الرسالة وأكملها ... المبحث الخامس: وجوب الإيمان بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد بلغ الرسالة وأكملها من تمام نعمة الله سبحانه وتعالى على هذه الأمة أن أكمل لهم دينهم فلا ينقصه أبدا، ولا يحتاج إلى زيادة أبدا، واقترن هذا الإكمال برضاه سبحانه بأن يكون هذا الدين الكامل دينا نتعبده به، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} . وهذه الآية دليل على كمال الدين وحيا من الله، وتبليغا من رسوله صلى الله عليه وسلم، ولقد نزلت هذه الآية الكريمة والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بعرفات في حجة الوداع، وعاش النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزولها إحدى وثمانين ليلة. وهي شهادة من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم على تبليغه لما أرسله به أتم تبليغ وأكمله وبذلك جعله الله خاتم النبيين، لأن الخلق بعد هذا لن يحتاجوا إلى نبي غير نبيهم صلى الله عليه وسلم ليكمل لهم دينهم، كما أنهم لا يحتاجون إلى دين آخر وذلك لكمال دينهم. ووجه الدلالة من الآية على ذلك "أن الله أخبر في هذه الآية بأنه قد أكمل الدين، وإنما كمل بما بلغه، إذ الدين لم يعرف إلا بتبليغه، فعلم من ذلك أنه صلى الله عليه وسلم قد بلغ جميع الدين الذي شرعه الله لعباده"1. وما كان من النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية الكريمة إلا أن استشهد الناس على ذلك في نفس المناسبة التي نزلت فيها الآية. فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تركت

_ 1 مجموع الفتاوى (5/ 155، 156) بتصرف.

فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به، كتاب الله، وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون؟ ". قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت. فقال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: "اللهم اشهد اللهم اشهد ثلاث مرات ... " الحديث1. فشهد له خير قرون هذه الأمة وهم صحابته رضوان الله عليهم وكانوا في ذلك الموقف نحوا من أربعين ألفا2. ولقد أمر الله تبارك وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم في مواطن متعددة من كتابه العزيز بأن يبلغ أمور هذا الدين البلاغ المبين الواضح فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} 3، وقال تعالى: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} 4، وقال تعالى: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} 5، وقال تعالى: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} 6. وهذا الأمر والحث من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم على البلاغ لشرع الله والدين الذي أوحاه إليه نابع من كون الرسول صلى الله عليه وسلم هو الطريق الوحيد الذي يعرف بواسطة ما شرعه من دين يدين العباد له به، فليس ثمت طريق آخر إلى معرفة شرع

_ 1 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم (4/ 41) . 2 تفسير ابن كثير (2/ 77) . 3 الآية (67) من سورة المائدة. 4 الآية (82) من سورة النحل. 5 الآية (54) من سورة النور، والآية (18) من سورة العنكبوت. 6 الآية (48) من سورة الشورى.

الله وأوامره ونواهيه إلا طريقه بها فهو المبلغ عن الله تعالى، وهذه هي سنة الله في خلقه حيث جعل طريق معرفته وعبادته عن طريق من أرسله من الرسل "فلا سبيل إلى السعادة والفلاح في الدارين إلا على أيدي الرسل، كما أنه لا سبيل إلى معرفة الطيب من الخبيث والحلال من الحرام إلا من جهتهم، ولا ينال رضى الله البتة إلا على أيديهم، فهم الميزان الراجح الذي على أقوالهم وأعمالهم وأخلاقهم توزن الأقوال والأخلاق والأعمال، وبمتابعتهم يتميز أهل الهدى من أهل الضلال فالضرورة إليهم أعظم من ضرورة البدن إلى روحه، والعين إلى نورها، والروح إلى حياتها، فأي ضرورة وحاجة فرضت، فضرورة العبد وحاجته إلى الرسل فوقها بكثير"1 وبهذا وبغيره نلمس عظم الحاجة إلى تبليغ الرسل. ومما لا شك فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعظم الأنبياء بلاغا فقد كان صلى الله عليه وسلم حريصا على هداية أمته، وقد قال تعالى في حقه: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 2 وسيرته صلى الله عليه وسلم كلها دليل على مدى حرصه على إبلاغ رسالة ربه والتفاني في إبلاغها دون أن تأخذه في الله لومة لائم. وهو صلى الله عليه وسلم أحق الناس بالوصف الوارد في قوله تعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} 3 "فقد امتدح الله تبارك وتعالى في هذه الآية الذين يبلغون رسالته إلى خلقه ويؤدونها بأماناتها ولا يخافون أحدا سواه، فلا تمنعهم سطوة أحد

_ 1 زاد المعاد، لابن القيم (1/ 69) . 2 الآية (128) من سورة التوبة. 3 الآية (39) من سورة الأحزاب

إبلاغ رسالات الله، وسيد الناس في هذا المقام بل وفي كل مقام محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه قام بأداء الرسالة وإبلاغها إلى أهل المشارق والمغارب وإلى جميع أنواع بني آدم، وأظهر الله كلمته ودينه وشرعه على جميع الأديان والشرائع"1. ولقد أيد الله تبارك وتعالى رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بكل ما يلزم لتبليغ وحي الله وشرعه، فأعطاه العصمة في التبليغ فقال تعالى {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} 2، فهذه الآية دليل واضح على عصمته صلى الله عليه وسلم في كل أمر بلغه عن ربه تبارك وتعالى، كما أنها شهادة وتزكية من الله تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم على سلامة شرعه الذي أوحاه إليه من كل ما ينقص منه. وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به فإني لن أكذب على الله" 3 وبالإضافة إلى عصمته في أمر التبليغ فقد عصمه الله كذلك من الناس حتى يتم له أمر إبلاغ هذا الدين وإكماله قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاس} فاقترن تعهد الله بعصمة رسوله من قتل الناس وإيذائهم له مع الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بتبليغ ما أنزل إليه، وفى هذا الاقتران دليل جلي على أن عصمة الله تعالى وحفظه ونصره وتأييده على أعدائه قد صاحبت النبي صلى الله عليه وسلم حتى تم له إبلاغ هذا الدين ونشره بين الناس. ومع عصمة الله لنبيه في التبليغ، وعصمته من الناس، فكذلك عصم الله كتابه الذي أنزله إليه ليكون محفوظا من كل تحريف أو تغيير قال تعالى: {إِنَّا

_ 1 تفسير ابن كثير (3/ 492) بتصرف. 2 الآيتان (3، 4) من سورة النجم. 3 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفضائل: باب وجوب امتثال ما قاله شرعا (7/ 95) .

نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 1. كما تعهد كذلك بحفظ هذا الدين وإبقاء طائفة في كل زمان من الأزمنة تنصر هذا الدين وتحفظه وتبلغه، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الحديث: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله" 2. وفي هذه الأمور ضمان لاستمرار هذا الدين وإبلاغه لكل أهل زمان، لأنه شامل لكل الناس في كل وقت إلى أن يرث الله الأرض وما عليها. وقد أخبر صلى الله عليه وسلم في مواطن متعددة بأنه قد أبلغ أمور الرسالة وأوضحها لأمته، وهو صلى الله عليه وسلم الصادق المصدوق ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "قد تركتكم على مثل البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك" 3 وهذا هو الحق فقد بلغ وحي ربه وصدع بأمره، ونهض بأعباء الرسالة كما أراد الله منه، فأدى الأمانة ونصح لأمته وجاهد في الله حق جهاده، وما ترك لأمته من شيء يقربهم إلى الجنة إلا وقد دلهم عليه ورغبهم فيه، ولا من شيء يبعدهم عن النار إلا وقد حدثهم به وحذرهم منه، وبين لهم كل ما فيه صلاح دينهم ودنياهم وآخرتهم فهذه هي مهمته ورسالته {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} ، وقد أتم عليه الصلاة والسلام ما أوكل إليه على أتم وجه وأكمله فأبان الطريق ودل على

_ 1 الآية (9) من سورة الحجر. 2 أخرجه بهذا اللفظ مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة: باب قوله من: "لا تزال طائفة من أمتي ... " (6/52، 53) . 3 أخرجه أحمد في مسنده (4/ 126) واللفظ له، وابن أبي عاصم في السنة (1/ 27) ح 49، وابن ماجة في السنن، المقدمة: باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين (1/ 16) ح 43، والحاكم في المستدرك (1/96) وقال الألباني في ظلال الجنة في تخريج السنة (1/ 270) . "حديث صحيح".

صراط الله المستقيم وترك الأمة على مثل البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك. ولقد شهد الصحابة رضوان الله عليهم بهذا. فهم الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم، وكانوا ملازمين له في كل أحواله وحركاته فهم أعلم بما كان. وسأورد بعض ما ورد عنهم في هذا الشأن. فقد سئل سلمان الفارسي1 رضي الله عنه فقيل له"أقد أعلمكم نبيكم صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة؟ فقال: "أجل لقد نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول أو أن نستجي باليمين أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع2 أو بعظم"3. وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: "لقد تركنا محمدا صلى الله عليه وسلم وما يحرك طائر جناحيه في السماء إلا أذكرنا منه علما"4. وعن عائشة5 رضي الله عنها قالت: "من حدثك أن محمدا كتم شيئا مما

_ 1 سلمان أبو عبد الله الفارسي أصله من رامهرمز وقيل من أصبهان سمع بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه فتغرب بحثا عنه وتسبب ذلك إلى وقوعه في الرق ومنّ الله عليه بالإسلام. أول مشاهده الخندق، وكان رضي الله عنه خيرا فاضلا حبرا عالما زاهدا، توفي عام 35 هـ. الإصابة (2/60، 61) رقم 3357. 2 الرجيع: القذرة والروث، سمي رجيعا لأنه رجع عن حالته الأولى بعد أن كان طعاما أو علقا. النهاية (2/ 203) . 3 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الطهارة: باب الاستطابة (1/ 154) . 4 أخرجه أحمد في مسنده (5/ 153) . 5 هي الصديقة أم المؤمنين واسمها عائشة بنت أبي بكر الصديق ولدت بعد البعثة بأربع سنوات أو خمس وتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم وهي بنت تسع وكانت رضي الله عنها من أعلم الصحابة وأفقههم، وكانت أحب نساء النبي صلى الله عليه وسلم، توفيت عام 58هـ. الإصابة (4/ 348- 350) رقم 7040.

أنزل الله عليه فقد كذب، والله يقول: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} "1. وفى رواية "من حدثك أن النبي صلى الله عليه وسلم كتم شيئا من الوحي فلا تصدقه، إن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} "2 وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "لو كتم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا مما أوحي إليه من كتاب الله لكتم {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} 3"4. فمن حقه صلى الله عليه وسلم على أمته أن يقروا له بفضله وصدقه وأمانته في تبليغ رسالة ربه التي ائتمنه عليها، وكلفه أن يقوم بها فلا يكون إيمان للمرء إذا لم يقر للرسول صلى الله عليه وسلم بأنه قد بلغ الرسالة أعظم ما يكون التبليغ، وقام بأدائها أعظم ما يكون القيام واحتمل في سبيلها أشق ما يحتمله البشر، ومن أنكر شيئا من ذلك أو شك في صدقه فهو كافر مارق عن الإسلام مكذب لله ولرسوله.

_ 1 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير: باب تفسير قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} ، انظر فتح الباري (8/ 275) ح 4612. 2 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التوحيد: باب قول الله تعالى {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} ، انظر: فتح الباري (13/ 503) ح 7531. 3 الآية (37) من سورة الأحزاب. 4 أخرجه الطبري في تفسيره (22/ 13) .

المبحث السادس: وجوب الإيمان بعصمته صلى الله عليه وسلم.

المبحث السادس: وجوب الإيمان بعصمته صلى الله عليه وسلم. المطلب الأول: تعريف العصمة ... تمهيد: تقدم في المبحث السابق الحديث عن وجوب الإيمان بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد بلغ الرسالة وأكملها، وأشرت إلى أن هذا البلاغ قد اقترن بعصمة الله لنبيه صلى الله عليه وسلم في كل ما يبلغه عن ربه عز وجل. ولقد رأيت أن أفرد هذا المبحث في الحديث عن عصمته صلى الله عليه وسلم في هذا الجانب وفي الجوانب الأخرى التي عصم فيها باعتبار أن أمر الإيمان بعصمته من الأمور الداخلة في الحقوق الواجبة له والتي يجب على الأمة الإيمان له بها. وقد ضمنت هذا المبحث ثلاثة مطالب:

المطلب الأول: تعريف العصمة المعنى اللغوي: العصمة وردت في اللغة لعدة معان منها: ا- المنع: قال صاحب اللسان: "العصمة في كلام العرب: المنع، وعصمة الله عبده: أن يعصمه مما يوبقه. عَصَمه، يَعْصِمه، عَصْما: منعه ووقاه"1. 2- الحفظ: قال صاحب اللسان: "والعصمة الحفظ، يقال: عصمته فانعصم، واعتصمت بالله إذا امتنعت بلطفه من المعصية"2 3- القلادة: قال صاحب اللسان: "العصمة القلادة"3، وكذا في القاموس المحيط4. 4- الحبل: قال الزجّاج5: "أصل العصمة: الحبل وكل ما أمسك شيئا فقد

_ 1 لسان العرب (12/ 403) مادة عصم. 2 لسان العرب (12/ 404) . 3 المصدر السابق (12/ 405) . (4/152، 153) . 5 الزجّاج - بفتح الزاي والجيم المشددة - أبو إسحاق إبراهيم بن السري بن سهل الزجاج النحوي كان عالما أديبا ديِّنا صنف كتابا في معاني القرآن، روى عن المبرد وثعلب وغيرهما، توفي في بغداد سنة 311 هـ. وفيات الأعيان (1/ 32) .

عصمه"1. 5- السبب: قال الطبري: "وللسبب الذي يتسبب به الرجل إلى حاجته: عاصم ومنه قول الشاعر: إلى المرء قيس أطيل السرى ... وآخذ من كل حي عصم2 يعنى بالعصم: الأسباب، أسباب الذمة والأمان"3. قلت: إذا أمعنت النظر في هذه المعاني وجدتها جميعا ترجع إلى المعنى الأول الذي هو "المنع" فالحفظ منع للشيء من الوقوع في المكروه أو المحظور، والقلادة تمنع سقوط الخرز منها، والحبل يمنع من السقوط والتردي، والسبب يمنع صاحبه عما يكره. المعنى الشرعي: أما عصمة النبي صلى الله عليه وسلم فقد عرفت بعدة تعريفات ولعل من أحسنها وأسلمها ما ذكره صاحب كتاب نسيم الرياض بأنها "لطف من الله تعالى يحمل النبي على فعل الخير ويزجره عن الشر مع بقاء الاختيار تحقيقا للابتلاء"4

_ 1 لسان العرب (12/ 405) . 2 ديوان الأعشى (ص 37) بشرح الدكتور محمد حسين. 3 تفسير الطبري (4/ 26) . 4 نسيم الرياض في شرح الشفا للقاضي عياض (4/ 39) .

المطلب الثاني: الجوانب التي عصم فيها النبي صلى الله عليه وسلم

المطلب الثاني: الجوانب التي عصم فيها النبي صلى الله عليه وسلم أ- العصمة في التبليغ ودعوى الرسالة: وهذه العصمة هي التي عليها المناط، فبها يحصل المقصود من البعثة فتبليغ شرع الله إلى الخلق هي مهمة الرسل من أولهم إلى آخرهم فهم الواسطة بين الله وبين خلقه الذين أرسلوا إليهم، فبطريقهم يهتدي البشر ويرشدون إلى دين الله إذ هم المبلغون عن الله أمره ونهيه وشرعه. ولذلك فقد أوجب الله العصمة لأنبيائه ورسله في هذا الجانب حتى تصل الرسالة إلى العباد كاملة تامة غير منقوصة ولا محرفة، وبذلك تقوم الحجة على العباد. ولقد دلت نصوص القرآن والسنة على عصمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في هذا الجانب، وانعقد إجماع الأمة على ذلك. فمن القرآن: ا- قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} ، فالآية نص في عصمة لسانه صلى الله عليه وسلم من كل هوى وغرض فهو لا ينطق إلا بما يوحى إليه من ربه ولا يقول إلا ما أمر به فيبلغه إلى الناس كاملا موفورا من غير زيادة ولا نقصان. وهذه الآية شهادة وتزكية من الله لنبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم في كل ما بلغه للناس من شرع الله. 2- وقوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ، لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ

لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} 1، فالآيات نصت على أن الله سبحانه وتعالى لا يؤيد من يكذب عليه بل لابد أن يظهر كذبه وأن ينتقم منه. ولو كان محمد صلى الله عليه وسلم من هذا الجنس كما يزعم الكافرون فيما حكاه الله عنهم {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} 2 - وحاشاه صلى الله عليه وسلم من ذلك- لأنزل الله به من العقوبة ما ذكره في هذه الآيات، وحيث إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقع له شيء من ذلك فلم يهلكه الله ولم يعذبه، فهو على هذا لم يتقول على الله ما لم يقله ولم يفتر شيئا من عند نفسه، وبهذا تثبت عصمته في كل ما بلغه عن ربه عز وجل. قال ابن كثير بعد أن فسر هذه الآيات: "والمعنى في هذا بل هو صادق راشد لأن الله عز وجل مقر له ما يبلغه عنه ومؤيد له بالمعجزات الباهرات والدلالات القاطعات"3. 3- وقوله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَتَّخَذُوكَ خَلِيلاً، وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً، إِذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً} 4. وهذه الآيات دالة على عصمة الله وتثبيته لنبيه صلى الله عليه وسلم في تبليغ ما أوحى إليه، ومعناها مقارب لمعنى الآيات التي ذكرناها قبلها "فقد أخبر تعالى عن تأييده

_ 1 الآيات (44 إلى 47) من سورة الحاقة. 2 الآية (24) من سورة الشورى. 3 تفسير ابن كثير (4/ 417) . 4 الآيات (73، 74، 75) من سورة الإسراء.

لرسوله صلوات الله عليه وسلامه وتثبيته وعصمته وسلامته من شر الأشرار وكيد الفجار، وأنه تعالى هو المتولي أمره ونصره، وأنه لا يكله إلى أحد من خلقه بل هو وليه وحافظه وناصره ومؤيده ومظفره ومظهر دينه على من عاداه وخالفه في مشارق الأرض ومغاربها"1. وأما الأدلة من السنة على ذلك فمنها: أ- حديث طلحة بن عبيد الله2 وجاء فيه قوله صلى الله عليه وسلم: "ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به، فإني لن أكذب على الله" 3 والحديث نص على عصمته صلى الله عليه وسلم من الكذب فيما يخبر به عن الله. 2- حديث عبد الله بن عمرو4 رضي الله عنهما قال: "كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه، فنهتني قريش فقالوا: إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا، فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج مني إلا حق" 5.

_ 1 تفسير ابن كثير (3/ 53) . 2 طلحة بن عبيد الله بن عثمان التيمي القرشي أبو محمد، أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الثمانية السابقين للإسلام، توفي سنة ست وثلاثين من الهجرة. الإصابة (2/ 220، 222) . 3 تقدم تخريجه (ص 122) . 4 عبد الله بن عمرو بن العاص أسلم قبل أبيه وكان رضي الله عنه فاضلا، حافظا عالما، توفي بالشام سنة 65 هـ وقيل غير ذلك. الإصابة (2/ 343- 344) . 5 أخرجه الإمام أحمد في مسنده (2/ 162، 192) ، وأبو داود في سننه، كتاب العلم: باب في كتاب العلم (4/ 60) خ 3646، والحاكم في المستدرك (1/104، 105) وصححه ووافقه الذهبي.

3- حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إني لا أقول إلا حقا"، قال بعض أصحابه: فإنك تداعبنا يا رسول الله. قال: "إني لا أقول إلا حقا" 1. دليل الإجماع: نقل غير واحد من العلماء إجماع الأمة واتفاقها على عصمته صلى الله عليه وسلم في تبليغ ما أوحي إليه من ربه عز وجل. قال القاضي عياض: "وأجمعت الأمة في ما كان طريقه البلاغ أنه معصوم فيه من الإخبار عن شيء منها بخلاف ما هو به، لا قصدا ولا عمدا ولا سهوا ولا غلطا"2. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن الأنبياء صلوات الله عليهم معصومون فيما يخبرون به عن الله سبحانه، وفى تبليغ رسالاته باتفاق الأمة ولهذا وجب الإيمان بكل ما أوتوه..... والعصمة فيما يبلغونه عن الله ثابتة فلا يستقر في ذلك خطأ باتفاق المسلمين"3 ب- العصمة من الكفر والشرك: الحديث عن عصمته صلى الله عليه وسلم في هذا الجانب ذو شقين هما: الأول: عصمته قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم. الثانى: عصمته بعد مبعثه صلى الله عليه وسلم.

_ 1 أخرجه أحمد في مسنده (2/340، 360) . والترمذي في سننه، كتاب البر والصلاة: باب مما جاء في المزاح (4/ 357) ح 1990 وقال: هذا حديث حسن صحيح 2 الشفا (2/ 746) . 3 مجموع الفتاوى (10/ 289، 290) .

أما الشق الأول: وهو عصمته من الشرك والكفر قبل بعثته ونزول الوحي إليه كلها فقد دلت النصوص الثابتة على أن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم منذ نشأته من الكفر والشرك فلم يعهد عنه صلى الله عليه وسلم أنه سجد لصنم أو استلمه أو إلى غير ذلك من أمور الشرك التي كان يفعلها قومه. فقد فطره الله على معرفته والاتجاه إليه وحده وهذا هو المعلوم من سيرته. فمن النصوص التي يستدل بها على هذا الأمر ما يلى: -حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان فأخذه فصرعه فشق عن قلبه فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة، فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم ثم لأمه، ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه - يعنى ظئره1 - فقالوا: إن محمدا قد قتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون، قال أنس وقد كنت أرى أثر ذلك الخيط في صدره"2. فالحديث نص على إخراج جبريل لحظ الشيطان منه صلى الله عليه وسلم وتطهيره لقلبه فلا يقدر الشيطان على إغوائه إذ لا سبيل له عليه. وهذا دليل على تنزيهه من الشرك منذ صغره صلى الله عليه وسلم. -وعن زيد بن حارثة رضي الله عنه قال: كان صنم من نحاس يقال له إساف أو نائلة يتمسح به المشركون إذا طافوا، فطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم فطفت معه، فلما مررت مسحت به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تمسه، فقال زيد: فطفت فقلت في نفسي لأمسنه حتى أنظرما يكون فمسحته،

_ 1 أي مرضعته. 2 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم (1/ 101، 102) .

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألم تنه؟، قال زيد: فوالذى هو أكرمه وأنزل عليه الكتاب ما استلم صنما حتى أكرمه الله بالذي أكرمه وأنزل عليه"1. وهذا الحديث نص في بعده صلى الله عليه وسلم عن عبادة الأوثان التي كان عليها أهل مكة فنهيه لزيد - الذي كان ابنه بالتبني في ذلك الحين - يؤكد نفرته صلى الله عليه وسلم من تلك الأوثان التي كان يعكف عليها أهل مكة. ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يحضر مع أهل سكة ما يقيمونه من أعياد لأصنامهم فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: حدثتني أم أيمن2 قالت:. كان ببوانة صنم يحضره قريش يوما في السنة، وكان أبو طالب3 يحضره مع قومه، وكان يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحضر ذلك العيد مع قومه فيأبى حتى رأيت أبا طالب غضب عليه، ورأيت عماته غضبن عليه يومئذ أشد الغضب وجعلن يقلن: إنا نخاف عليك مما تصنع من اجتناب، آلهتنا وجعلن يقلن يا محمد: ما تريد أن تحضر لقومك عيدا ولا تكثر لهم جمعا فلم فىيزالوا به حتى ذهب فغاب عنهم ما شاء الله ثم رجع إلينا مرعوبا فزعا فقلن عماته: ما دهاك؟ قال:

_ 1 أخرجه الحاكم في المستدرك (3/ 216- 217) وقال حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. وأخرجه أبو نعيم في دلائل النبوة (ص 145) . وأخرجه البيهقي في دلائل النبوة (2/ 34) بتحقيق عبد المعطي قلعجي. وأورده ابن كثير في البداية والنهاية (2/ 288) . وأورده السيوطي في الخصائص الكبرى (1/ 151، 152) . 2 أم أيمن مولاة النبي صلى الله عليه وسلم وحاضنته واسمها بركة بنت ثعلبة، وهي أم أسامة بن زيد بن حارثة. الإصابة (4/ 415، 416) . 3 أبو طالب بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم، شقيق أبيه كفل النبي صلى الله عليه وسلم وذب عنه ونصره بعد بعثته ولم يمت على الإسلام. الإصابة (4/ 115، 118) .

"إني أخشى أن يكون بي لمم"، فقلن: ما كان الله ليبتليك بالشيطان وفيك من خصال الخير ما فيك فما الذي رأيت؟ قال: "إني كلما دنوت من صنم منها تمثل لي رجل أبيض طويل يصيح بي وراءك يا محمد لا تمسه" فما عاد إلى عيد لهم حتى تنبئ" 1. كما عصم صلى الله عليه وسلم من الحلف بأسماء تلك الأصنام التي كان يعبدها قومه ويحلفون بها تعظيما لها فقد جاء في قصة بحيرى الراهب2 أنه استحلف النبي صلى الله عليه وسلم باللات والعزى حينما لقيه بالشام في سفرته مع عمه أبي طالب وهو صبي لما رأى فيه علامات النبوة فقال بحيرى للنبي صلى الله عليه وسلم: يا غلام أسألك باللات والعزى إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تسألني باللات والعزى شيئا فوالله ما أبغضت بغضهما شيئا قط" 3. والنصوص في مثل هذا كثيرة وقد عني بجمعها من ألف في دلائل النبوة مثل الحافظ أبي نعيم الأصبهاني4 فقد عقد فصلا في كتابه دلائل النبوة بعنوان:

_ 1 أخرجه أبو نعيم في دلائل النبوة (ص 144) . وأورده السيوطي في الخصائص الكبرى (1/ 151) وعزاه إلى ابن سعد وأبي نعيم وابن عساكر. 2 راهب من رهبان النصارى يقال إنه كان من عبد القيس وكان اسمه: جرجيس. البداية (2/ 286) . 3 أخرجه أبو نعيم في دلائل النبوة (ص 125- 128) ، وأخرجه البيهقي في دلائل النبوة (2/ 26، 27) بتحقيق عبد المعطي قلعجي. وأورده السيوطي في الخصائص الكبرى (1/ 142، 144) وعزاه للبيهقي. 4 أحمد بن عبد الله بن أحمد الأصبهاني وأبو نعيم. حافظ مؤرخ من الثقات في الحفظ والرواية، ولد ومات بأصبهان عام 430 هـ من مؤلفاته: حلية الأولياء ودلائل النبوة. الأعلام (1/ 157) .

"ذكر ما خصه الله عز وجل به من العصمة وحماه من التدين بدين الجاهلية ... " وقد أورد تحت هذا العنوان العديد من الأحاديث والشواهد في هذا الشأن1. وكذلك فعل البيهقي2 في دلائل النبوة أيضا فعقد عنوانا لهذا الموضوع فقال: "باب ما جاء في حفظ الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم في شبيبته عن أقذار الجاهلية ومعائبها، لما يريده به من كرامته برسالته حتى يبعث رسولا"3. ومثلهما السيوطي في الخصائص الكبرى4 حيث قال: "باب اختصاصه صلى الله عليه وسلم بحفظ الله إياه في شبابه عما كان فيه أهل الجاهلية"5. الإجماع: نقل الجرجاني6 إجماع الأمة على عصمة الأنبياء من الكفر والشرك قبل النبوة وبعد حيث قال: "وأما الكفر فأجمعت الأمة على عصمتهم منه قبل النبوة وبعدها ولا خلاف لأحد منهم في ذلك"7.

_ 1 انظر (ص 143- 147) . 2 أحمد بن الحسين البيهقي، صاحب التصانيف المشهورة ومنها: السنن الكبرى، وشعب الإيمان، ودلائل النبوة، ولد سنة 384 هـ وتوفي سنة 458 هـ. تذكرة الحفاظ (3/ 1132) والأعلام (1/116) 3 انظر (2/ 30، 42) . 4 عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطى حافظ مؤرخ أديب له نحو (600 مصنف) ولد سنة 849 هـ وتوفي سنة 911 هـ. الأعلام (3/ 301- 302) . 5 انظر: (1/ 148، 152) . 6 هو: علي بن محمد بن علي المعروف بالشريف الجرجاني ولد سنة 740 هـ وتوفي سنة 816 هـ له كتاب التعريفات، وشرح المواقف وغيرهما. الأعلام (5/ 7) . 7 شرح المواقف (ص 134) .

وهذا هو الحق فالله سبحانه وتعالى قد نزه نبيه صلى الله عليه وسلم عن الكفر والشرك وعصمه من الوقوع فيهما وذلك داخل في باب إعداده لتحمل الرسالة، ومثل ذلك صيانة الله لنسبه الذى تناسل منه فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لم يلتق أبواي على سفاح، لم يزل الله ينقلني من الأصلاب الطيبة إلى الأرحام الطاهرة مصفى مهذبا لا تتشعب شعبتان إلا كنت في خيرهما"1. وكل ذلك حتى لايبقى لمنتقص حجة يتعلق بها لتنفير الناس من رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن المعلوم أن كفار قريش كانوا حريصين أشد الحرص على تجريح النبي صلى الله عليه وسلم ووصفه بما ينقص من قدره ويحط من شأنه لتنفير الناس منه وصدهم عن دعوته فلقد رموه واتهموه بالسحر والجنون وغير ذلك من النقائص ولكن لم يكن الشرك والكفر من ضمن ما رموه به فسكوتهم عن ذلك دليل على أنهم لم يجدوا سبيلا إليه إذ لو كان لنقل، وما سكتوا عنه كما لم يسكتوا عند تحويل القبلة كما حكى الله ذلك عنهم في قوله تعالى: {مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} 2. وبهذا يتبين أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن على دين قومه من عبادة الأصنام وتعظيمها، فقد عصمه الله من ذلك فلم يجعل لكفار قريش طريقا عليه فلذلك لجؤوا إلى تلفيق التهم الباطلة المتناقضة كاتهامه بالسحر تارة وبالجنون تارة وبالكهانة تارة أخرى.

_ 1 أخرجه أبو نعيم في دلائل النبوة (ص 24) من عدة طرق والحديث له شواهد متعددة أوردها السيوطي في الخصائص الكبرى (1/ 63، 66) . 2 الآية (142) من سورة البقرة.

وإذا كان الله قد عصم نبيه صلى الله عليه وسلم فيما هو دون الشرك من الأمور المنكرة التي كان عليها أهل الجاهلية ففي ذلك دليل على أن عصمته من أمور الشرك من باب أولى. فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينقل معهم الحجارة للكعبة وعليه إزاره فقال له العباس عمه: يا ابن أخي لو حللت إزارك فجعلته على منكبك دون الحجارة، قال فحله فجعله على منكبه فسقط مغشيا عليه فمارؤي بعد ذلك عريانا صلى الله عليه وسلم"1. إزالة ما يوهم عدم إيمان نبينا وضلاله قبل بعثته: وردت بعض النصوص التي قد يتوهم منها البعض أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على كفر وضلال قبل بعثته، وسوف أعرض لهذه النصوص وأبين التوجيه الصحيح لها بما يبين الحق ويصحح الفهم ويزيل ما يقع من الوهم إن شاء الله. أ- فمن تلك النصوص قول الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ} 2. فقد يتوهم البعض أن هذه الآية تعني انتفاء معرفة النبي للإيمان بالكلية قبل بعثته بمعنى أنه لم يكن مؤمنا. والجواب على ذلك أن هذه الفهم خاطئ لأن الإيمان في قوله {وَلا الإِيمَانُ} مصدر بمعنى المفعول فيكون المعنى المراد: أي ما يجب الإيمان به من الفرائض

_ 1 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الصلاة: باب كراهية التعري في الصلاة وغيرها. انظر فتح الباري (1/ 474) ح 364 وأخرجه مسلم في صحيحه، كناب الحيض: باب الاعتناء بحفظ العورة (1/ 184) . 2 الآية (52) من سورة الشورى.

والأحكام الشرعية التي كلف بها علما وعملا، فالمنفي هو الإيمان التفصيلي لا الإجمالي. فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل نزول الوحي إليه مبغضا للشرك وعبادة الأصنام ومتجها إلى الله وحده كما سبق الاستدلال على ذلك، فلما نزلت عليه الفرائض والأحكام الشرعية التي لم يكن يدري بها قبل الوحي آمن بها وطبقها. فهذا هو المعنى الصحيح للآية، كما ذكر ذلك علماء التفسير عند تفسيرها قال ابن كثير: " {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ} على التفصيل الذي شرع لك في القرآن"1. وقال الشوكاني2: "ومعنى {وَلا الإِيمَانُ} أنه كان صلى الله عليه وسلم لا يعرف تفاصيل الشرائع ولا يهتدي إلى معالمها وخص الإيمان لأنه رأسها وأساسها"3. ب- ومن النصوص كذلك قول الله تعالى {وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} 4 فقد يتوهم البعض أن الآية تعني أن نبينا كان على ضلال قبل مبعثه وهذا فهم خاطئ وباطل ترده النصوص التي سبق إيرادها والتي نصت على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان من أول حاله إلى نزول الوحي عليه معصوما من عبادة الأوثان وقاذورات أهل الفسق والعصيان. وقد أشار إلى بطلان هذا اللهم القرطبي عند تفسيره لهذه الآية حيث قال:

_ 1 تفسير ابن كثير (4/ 122) . 2 محمد بن علي بن محمد الشوكاني، فقيه مجتهد، من كبارعلماء اليمن له (114 مؤلفا) ولد سنة 1173 هـ وتوفي سنة 1250 هـ. الأعلام: (6/ 298) . 3 فتح القدير (4/ 530) . 4 الآية (7) من سورة الضحى.

"فأما الشرك فلا يظن به"1. وأما المعنى الصحيح لهذه الآية فقد أشار العلماء إلى عدة معان صحيحة لهذه الآية تشترك جميعها في تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم عن أن ينسب إليه شيء من الشرك أو الكفر قبل بعثته، ومن تلك المعاني ما يلي: ا- أن يفسر الضلال هنا بمعنى الغفلة كما في قوله تعالى: {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} 2، وكما في قوله تعالى {وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} 3 والمعنى أنه وجدك غافلا عما يراد بك من أمر النبوة4. 2- وقال بعضهم معنى (ضالا) لم تكن تدري ما القرآن والشرائع فهداك الله إلى القرآن وشرائع الإسلام، وهو بمعنى قوله تعالى: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ} وعلى هذا التفسير يكون المعنى: أي وجدك ضالا عن شريعتك التي أوحاها إليك لا تعرفها قبل الوحي إليك، فهداك إليها5. 3- وقال بعضهم معنى الآية أى وجدك في قوم ضلال فهداهم الله بك6. 4- وقال بعضهم الضلال بمعنى الطلب أي وجدك طالبا للقبلة فهداك إليها7 كما في قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} 8.

_ 1 تفسيرالقرطبي (20/ 99) . 2 الآية (52) من سورة طه. 3 الآية (3) من سورة يوسف. 4 تفسير القرطبي (20/ 96) وفتح القدير (5/ 458) . 5 انظر: تفسير ابن كثير (5/ 523) وتفسير القرطبي (20/ 96، 97) ، وفتح القدير (5/ 458) . 6 انظر: تفسير القرطبي (20/ 97) وفتح القدير (5/ 458) . 7 انظر: تفسير القرطبي (20/ 97) وفتح القدير (5/ 458) . 8 الآية (144) من سورة البقرة.

قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} 2. فليس المقصود بالغفلة هنا الشرك والغواية إنما المقصود منها الغفلة عن قصة يوسف مع الله وإخوته كما يوضح ذلك سياق الآية. فهذه القصة وأمثالها لا تعلم إلا من الوحي فلهذا لا يلحقه نقص بسببها. وهذا هو ما ذكره علماء التفسير عند هذه الآية. قال القرطبي: "أي من الغافلين عما عرفناكه"3. وقال الشوكاني: "والمعنى أنك من قبل إيحائنا إليك من الغافلين عن هذه القصة"4. د- ومن تلك النصوص ما رواه عثمان بن أبي شيبة5 بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان يشهد مع المشركين مشاهدهم، فسمع ملكين من خلفه وأحدهما يقول لصاحبه: اذهب بنا حتى نقوم خلفه، فقال الآخر: كيف نقوم خلفه وإنما عهده باستلام الأصنام، فلم يعد بعد ذلك يشهد مع المشركين مشاهدهم"6.

_ 1 انظر: تفسير القرطبي (20/ 97) بتصرف. 2 الآية (3) من سورة يوسف. 3 تفسير القرطبي (9/ 120) . 4 فتح القدير (3/4) . 5 هو: عثمان بن محمد بن أبي شيبة الكوفي العبسي، من حفاظ الحديث، وله من المصنفات: المسند، والتفسير، ولد سنة 156 هـ وتوفي سنة 239 هـ. تاريخ بغداد (11/ 382) . 6أخرجه ابن عدي في الكامل (4/ 1447) ، والخطيب في تاريخ بغداد (11/ 286) وأبو يعلى الموصلي في مسنده، والعقيلى في الضعفاء، وابن الجوزي في العلل المتناهية (1/ 166) ، والبيهقي في دلائل النبوة (2/ 35) . وأورده الذهبي في الميزان (3/ 35) وأورده ابن حجر في لسان الميزان (3/ 53) وأورده ابن كثير في التاريخ (2/ 288) وأورده السيوطي في الخصائص الكبرى (1/ 152) .

والمنكر من هذا الحديث قوله عن الملك: "عهده باستلام الأصنام" والجواب عن هذا الحديث ذو شقين هما: أولا: الكلام على سند الحديث: تكلم العلماء على سند الحديث وأوردوا عللا منها: ا- أن عثمان بن أبي شيبة لم يتابع عليه1. ولكن الذهبي2 أجاب عن هذا بقوله: "عثمان لا يحتاج إلى متابع ولا ينكر له أن ينفرد بأحاديث لسعة ما روى، وقد يغلط، وقد اعتمده الشيخان في صحيحيهما ... " 3. 2- قال الدارقطني4: "يقال إن عثمان بن أبي شيبة وهم في إسناده، وغيره يرويه عن جرير5 عن سفيان بن عبد الله6 بن محمد بن زياد بن جدير مرسلا

_ 1العلل المنناهية لابن الجوزي (1/ 167) . 2 محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، حافظ، مؤرخ، علامة محقق له تصانيف كثيرة كييرة تقارب المئة، منها: سير أعلام النبلاء، وتذكرة الحفاظ وغيرها، ولد سنة 673 هـ، وتوفي سنة 748 هـ. الأعلام (5/ 326) . 3 ميزان الاعتدال (3/ 35) . 4 علي بن عمر الدارقطني الشافعي إمام عصره في الحديث، ولد سنة 306 هـ وتوفي سنة 385 هوله كتاب " السنن" و "العلل". الأعلام (4/ 314) . 5 جرير بن عبد الحميد الضبي نزيل الري وقاضيها ثقة صحيح الكتاب مات سنة ثمان وثمانين ومائة. تهذيب التهذيب (2/ 75) . 6 سفيان بن عبد الله بن زياد بن جدير: مجهول، لسان الميزان (3/ 53) .

وهو الصواب1. ومن كلام الدارقطني نتبين لنا علتان: أ- أن الحديث مرسل وليس متصلا. ب- جعله لسفيان الثوري2 مكان سفيان بن عبد الله وهذا وهم في السند فسفيان بن عبد الله مجهول، وأما الثوري فهو ثقة3. 3- أن في سند عثمان بن أبي شيبة، عبد الله بن محمد بن عقيل4 وهو ضعيف عند القوم5. وبهذا يتبين ضعف إسناد الحديث. ثانيا: الكلام على متن الحديث بالإضافة إلى ضعف هذا الحديث الذي لا تقوم به حجة فإن ظاهر اللقظ وهو قوله إنما عهده باستلام الأصنام يخالف ما عرف عن النبي صلى الله عليه وسلم من أنه لم يكن على شيء مما كان عليه أهل مكة من الشرك وذلك منذ ولادته إلى أن بعثه الله رسولا نبيا ليدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له وترك ما يعبد من دونه. ولقد سبق إيراد الأدلة على ذلك فليرجع إليها.

_ 1 العلل المتناهية (1/167) . 2 سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، ثقة حافظ فقيه، عابد إمام حجة، مات سنة إحدى وستين ومائة. تهذيب التهذيب (4/111) . 3 لسان الميزان (3/53) بتصرف. 4 عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب الهاشمي، كان خيرا فاضلا موصوفا بالعبادة، ولكن لم يكن متقنا في الحديث فضعفوه. تهذيب التهذيب (6/13 – 16) . 5 العلل المتناهية (1/167) .

وقد ذكر بعض العلماء: أن ظاهر الحديث ليس مرادا، فليس المقصود أنه باشر الاستلام، وإنما المقصود أنه شهد مباشرة المشركين استلام أصنامهم1. الشق الثاني: عصمته صلى الله عليه وسلم من الكفر والشرك بعد النبوة: بعث الله تعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم ليدعو الناس إلى عبادة الله وحده وترك ما هم فيه من الكفر والشرك. ولقد كان صلى الله عليه وسلم في تطبيق ما أمر به هو المثل الأعلى الذي يحتذى به. قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} 2. فهو منزه عن كل ضلال وغواية كما أخبر الله بذلك في كتابه العزيز {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} 3 فهذه شهادة للرسول صلى الله عليه وسلم بأنه راشد تابع للحق ليس بضال ولا غاو، بل هو صلوات الله وسلامه عليه في غاية من الاستقامة والاعتدال والسداد والهداية. وإجماع الأمة منعقد على ذلك قال الرازي4: "واجتمعت الأمة على أن الأنبياء معصومون عن الكفر والبدعة"5. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ففي الجملة كل ما يقدح في نبوتهم

_ 1 ميزان الاعتدال (3/ 35) ، وتاريخ بغداد (11/ 286) . 2 الآيات (162، 163) من سورة الأنعام. 3 الآية (2) من سورة النجم. 4 هو محمد بن عمر الرازي الملقب بالفخر الرازي، ولد سنة 544 هـ وتوفي سنة 606 هـ. الأعلام (4/ 313) . 5 عصمة الأنبياء (ص 18) .

وتبليغهم عن الله تعالى فهم متفقون على تنزيههم عنه"1. وقال الآمدي2: "فما كان منها كفرا فلا نعرف خلافا بين أهل الشرائع في عصمتهم عنه"3. ولم يخالف هذا الإجماع إلا من لا يعتد بخلافهم4. والمعلوم من خلال سيرته صلى الله عليه وسلم أنه كان حربا على الكفر والشرك على

_ 1 منهاج السنة النبوية (1/ 130) . 2 علي بن محمد بن سالم التغلبي أبو الحسن سيف الدين الآمدي، أصولي باحث، ولد سنة 551 هـ وتوفي سنة 631 هـ، من أشهر مؤلفاته: الإحكام في أصول الأحكام. الأعلام (4/ 332) . 3 الإحكام في أصول الأحكام (1/ 128) . 4 الذين خالفوا في هذه المسألة هم: أالأزارقة: وهم فرقة من فرق الخوارج وقد نقل عنهم أنهم قالوا بجواز بعثة نبي علم الله أنه يكفر بعد نبوته. انظر الإحكام في أصول الأحكام (1/128) ، والمواقف للإيجي (358، 359) . ب- والفضيلية: رهم من فرق الخوارج ويقولون بجواز الكفر على الأنبياء من جهة كونهم يعتقدون جواز صدور الذنوب عن الأنبياء وكل ذنب هو كفر - على حسب اعتقادهم - فمن هذا الباب جوزوا صدور الكفر عنهم. انظر: عصمة الأنبياء للرازي (ص 18) والإحكام في أصول الأحكام للآمدي (1/ 128) . ج- الرافضة: فقد جوزوا على الأنبياء إظهار الكفر على سبيل التقية عند خوف الهلاك، بل نقل عنهم أنهم أوجبوه. ويعللون ذلك بقولهم: إن إظهار الإسلام إن كان مفضيا إلى القتل كان إلقاء للنفس في التهلكة، وإلقاء النفس في التهلكة حرام لقوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة} الآية 195 من سورة البقرة، وإذا كان إظهار الإسلام حراما كان إظهار الكفر واجبا. انظر: عصمة الأنبياء للرازي (ص 18) . د- ذكر ابن حزم في كتابه الفصل (4/2) : "أنه رأى في كتاب أبي جعفر السمناني قاضي الموصل صاحب الباقلاني أنه كان يقول: كل ذنب دق أو جل فإنه جائز على الرسل حاشا الكذب في التبليغ فقط، قال: وجائز عليهم أن يكفروا".

اختلاف صوره وألوانه، فلم يدع طريقا أو سبيلا لهدم الشرك والكفر إلا وقد سلكه مستخدما في ذلك لسانه وسنانه، وهذا كله يؤكد عصمته صلى الله عليه وسلم من الكفر والشرك وهذا أمر مشتهر وأعظم من أن يحتاج إلى دليل يؤكده. ج- عصمته من الكذب في غير الوحي والتبليغ. من المعروف عن سيرته صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وبعدها أنه متصف بكل خلق فاضل من صدق وأمانة وبر وصلة رحم وإحسان وجود إلى غير ذلك من محاسن الأخلاق التي جبله الله عليها منذ نشأته، وحري به صلى الله عليه وسلم أن يكون كذلك فقد اختاره الله لحمل الأمانة العظمى التي هي أداء الرسالة وتبليغها إلى الناس كافة، فكان لابد من إعداده لهذه المهمة، ولذا فقد فطره الله على كل خلق فاضل كريم وقد جمع الله له خصال الخير كلها، فلم يكن يدعى إلا بالأمين، ومن الأدلة التي يستدل بها على اتصافه بالصدق قبل بعثته ما يلي: ا- قول خديجة بنت خويلد1 رضي الله عنها حينما أتاها النبي صلى الله عليه وسلم خائفا بعد أن لقيه جبريل في غار حراء وقال لها: "إني قد خشيت على نفسي"، فقالت له: "كلا أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبدا، فوالله إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق"2.

_ 1 خديحة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي القرشية الأسدية زوج النبي صلى الله عليه وسلم وأول من صدقت ببعثته مطلقا، توفيت بعد خروج بني هاشم من الشعب. الإصابة (4/273 - 276) . 2 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير. انظر: فتح الباري (8/ 715) ح 4953.

2- إجماع قرييش على الإقرار بصدقه حينما جمعها ليصدع بالدعوة جهرا فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لما نزلت {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} 1 صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا فجعل ينادي: "يا بني فهريا بني عدي" - لبطون قريش - حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو، فجاء أبو لهب2 وقريش، فقال: "أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي". قالوا: ما جربنا عليك إلا صدقا. قال: "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ... " الحديث3 فالشاهد من الحديث قولهم "ما جربنا عليك إلا صدقا" فالنبي صلى الله عليه وسلم انتزع منهم هذه الشهادة الجماعية بصدقه وانتفاء الكذب عنه، لعلمه بما قد سيقع من تكذيبهم له عند إخبارهم بأمر الرسالة. 3- على تكذيب قريش للنبي صلى الله عليه وسلم في دعوة النبوة إلا أن أحدا منهم لم يجرؤ على وصفه بالكذب في سواها فقد قال أبو جهل4 للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا لا نكذبك، ولكن نكذب الذي جئت به5 فأنزل الله تعالى: {فَإِنَّهُمْ لا

_ 1 الآية (214) من سورة الشعراء. 2 اسمه عبد العزى بن عبد المطب وكنيته أبو عتبة وهو أحد أعمام الرسول صلى الله عليه وسلم، كان كثير الأذية لرسول الله صلى الله عليه وسلم والبغضة له ولدينه. تفسير ابن كثير (4/ 564) . 3 أخرحه البخاري في صحيحه كتاب التفسير: باب {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} ، انظر: فتح الباري (18/ 501) ح 4770، واللفظ له. 4 اسمه عمرو بن هشام، وكان من أشد الناس عداوة للنبي صلى الله عليه وسلم قتل يوم بدر. ابن الأثير (1/ 23- 47) . 5 انظر: تفسير الطبري (7/ 182) .

يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} 1. وكذلك عندما سأل الأخنس بن شريق2 أبا جهل بعد ما خلا به يوم بدر فقال: "يا أبا الحكم، أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليمر ههنا من قريش أحد غيري وغيرك يسمع كلامنا، فقال أبو جهل: ويحك، والله إن محمدا لصادق، وما كذب محمد قط، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والحجابة والسقاية والنبوة، فماذا يكون لسائر قريش؟ "3. 4- ومما يستدل به كذلك جواب أبي سفيان4 لهرقل5 عندما سأله عن النبي صلى الله عليه وسلم، عندما أرسل إليه في ركب من قريش وكانوا تجارا بالشام في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هادن فيها أبا سفيان وكفار قريش، فكان مما سأله عنه: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فقال أبو سفيان: لا فقال هرقل: ما كان ليدع الكذب على الناس ويكذب على الله6.

_ 1 الآية (33) من سورة الأنعام. 2 الأخنس بن شريق الثقفي، كان من المؤلفة، وشهد حنينا، ومات في أول خلافة عمر. الإصابة (1/ 39- 40) . 3 أخرجه الطبري في تفسيره (7/ 182) ، وأورده ابن كثير في تفسيره (2/ 130) . 4 اسمه صخر بن حرب بن أمية أبو سفيان القرشي الأموي، مشهور باسمه وكنيته، أسلم عام الفتح وشهد حنينا والطائف وكان من المؤلفة، توفي في آخر خلافة عثمان. الإصابة (2/ 172، 173) . 5 هرقل هو ملك الروم، وهرقل اسمه- وهو بكسر الهاء وفتح الراء وسكون القاف- ولقبه قيصر، كما يلقب ملك الفرس كسرى ونحوه. فتح الباري (1/ 33) . 6 الحديث أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الوحي. انظر: فتح الباري (1/ 31) ح 7.

وبعد فهذه نماذج على صدقه صلى الله عليه وسلم وعصمته من الكذب قبل بعثته. وكذا الحال بعد بعثته صلى الله عليه وسلم فهذه أخبار نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وآثاره وسيره وشمائله معتنى بها مستوفاة تفاصيلها لم يرد في شيء منها تداركه صلى الله عليه وسلم لخبر صدر منه رجوعا عن كذبة كذبها، أو اعترافا بخلف في خبر أخبر به ولو وقع شيء من ذلك لنقل إلينا. ومن المعلوم من دين الصحابة وعادتهم مبادرتهم إلى تصديق النبي صلى الله عليه وسلم في جميع أقواله والثقة بجميع إخباره في أي باب كانت وعن أي شيء وقعت دون توقف أو تردد في شيء منها أو استثبات عن حاله تلك هل وقع فيها سهوا أم لا"1. وهذا كله يؤكد عصمته صلى الله عليه وسلم من الكذب بأي حال من الأحوال. قال القا ي عياض: " وأما أقواله الدنيوية من إحباره عن أحواله وأحوال غيره وما يفعله أو فعله فقد قدمنا أن الخلف فيها ممتنع عليه في كل حال وعلى أي وجه من عمد أو سهو، أو صحة أو مرض، أو رضا أو غضب وأنه معصوم منه صلى الله عليه وسلم. هذا فيما طريقه الخبر المحض مما يدخله الصدق والكذب، فأما المعاريض الموهم ظاهرها خلاف باطنها فجائز ورودها منه في الأمور الدنيوية لا سيما لقصد المصلحة كتوريته عن وجه مغازيه لئلا يأخذ العدو حذره. وكما روي من ممازحته ودعابته لبسط أمته وتطييب قلوب المؤمنين من صحابته، وتأكيدا في تحببهم ومسرة نفوسهم، كقوله: "إني حاملك على

_ 1 الشفا (2/768 – 769) .

ولد الناقة"1، وقوله للمرأة التي سألته عن زوجها: "أهو الذي بعينه بياض"2 وهذا كله صدق لأن كل جمل ابن ناقة، وكل إنسان بعينه بياض، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "إني أمزح ولا أقول إلا حقا"3. د- عصمته صلى الله عليه وسلم من الكبائر التي دون الشرك: جبل الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم على كل خلق فاضل كريم قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} 4 فخلقه بأكرم السجايا، وجميل الأخلاق، وحسن الطوية وصفات الخير جميعها، كما نزهه عن كل ما يحط من قدره وينقص من منزلته، قال تعالى: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} ، فهو صلى الله عليه وسلم منزه من كل ضلال وغواية، وقد كان من صيانة الله وحفظه له أن حماه من أقذار الجاهلية قبل مبعثه ونزول الوحي إليه، فهو معصوم عن كل ما يحط من قدره ويدق في شخصه ومما ورد في هذا الشأن من الأحاديث ما يلي: - حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينقل

_ 1 أخرجه أبو داود في السنن، كتاب الأدب، باب ما جاء في المزاح (5/ 270- 271) ح 4998، وأخرجه الترمذي في السنن، كتاب البر والصلة: باب ما جاء في المزاح (4/ 357) ح 1989، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب. 2 عزاه السيوطي إلى ابن أبي الدنيا. انظر: مناهل الصفا (ص 233) ح رقم 1270. 3 أخرجه الإمام أحمد في المسند (2/ 340) ، وأخرجه الترمذي في السنن، كتاب البر والصلة: باب ما جاء في المزاح (4/ 357) وقال: حديث حسن صحيح. وأخرجه الطبراني في الصغير والأوسط والكبير عن ابن عمر كما في المجمع (8/ 89) ، وقال الهيثمي: "وفيه من لم أعرفه" والطبراني في الأوسط عن أبي هريرة كما في المجمع (9/ 17) وقال الهيثمي: إسناده حسن. وانظر: الشفا (2/ 877، 878) . 4 الآية (4) من سورة القلم.

معهم الحجارة للكعبة وعليه إزاره، فقال له العباس عمه1: يا ابن أخي لو حللت إزارك، فجعلته على منكبك دون الحجارة، قال: فحله على منكبه فسقط مغشيا عليه فما رؤي بعد عريانا صلى الله عليه وسلم"2. - وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يهمون به من النساء إلا ليلتين كلتاهما عصمني الله منهما، قلت ليلة لبعض فتيان مكة ونحن في رعاية غنم أهلنا، فقلت لصاحبي أبصر لي غنمي حتى أدخل مكة فأسمر بها كما يسمر الفتيان، فقال: بلى، فدخلت حتى إذا جئت أول دار مكة سمعت عزفا بالغرابيل والمزامير قلت: ما هذا؟ فقيل: تزوج فلان فلانة، فجلست أنظر وضرب الله على أذني فوالله ما أيقظني إلا مس الشمس، فرجعت إلى صاحبي فقال: ما فعلت؟، قلت: ما فعلت شيئا، ثم أخبرته بالذي رأيت، ثم قلت له ليلة أخرى: أبصر لي غنمي حتى أسمر بمكة، ففعل فدخلت فلما جئت مكة سمعت مثل الذي سمعت تلك الليلة فجلست أنظر وضرب الله على أذني فوالله ما أيقظني إلا مس الشمس فرجعت إلى صاحبي فقال: ما فعلت؟، قلت: لا شيء ثم أخبرته الخبر، فوالله ما هممت ولا عدت بعدهما لشيء من ذلك حتى أكرمني الله بنبوته" 3.

_ 1 العباس بن عبد المطلب بن هاشم القرشي الهاشمي عم الرسول صلى الله عليه وسلم، ولد قبل الرسول صلى الله عليه وسلم بسنتين يقال إنه أسلم وكتم إسلامه، هاجر إلى المدينة فبل الفتح بقليل، وشهد الفتح وثبت يوم حنين، مات بالمدينة سنة اثنتين وثلاثين. الإصابة (2/263) . 2 تقدم تخريجه (ص 139) . 3 أخرجه أبو نعيم في دلائل النبوة (ص 143) ، والبيهقي في دلائل النبوة (2/33، 34) ، وأورده السيوطي في الخصائص الكبرى (1/149، 150) ، وعزاه لابن راهويه في مسنده وابن اسحاق والبزار والبيهقي وأبي نعيم وابن عساكر وقال: قال ابن حجر: إسناده حسن متصل ورجاله ثقات. وأورده ابن كثير في البداية (2/ 287) .

وعن علي رضي الله عنه قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: هل عبدت وثنا قط؟، قال: "لا". قالوا: فهل شربت خمرا قط؟ قال: "لا ومازلت أعرف أن الذي هم عليه كفر وما كنت أدري ما الكتاب ولا الإيمان"1. فهذا عن عصمته قبل مبعثه فما بالك بعد مبعثه والأمر لا يتعلق بنفسه فقط بل يتعداه لغيره بكونه هو القدوة ومعلم الناس وهاديهم ومرشدهم بل إن كل قول من أقواله وكل فعل من أفعاله يعد تشريعا تأخذ به أمته إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فأمر عصمته صلى الله عليه وسلم من الكبائر أمر دلت عليه النصوص من القرآن والسنة ويكفي المسلم أن يقرأ في ذلك قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} فهذه تزكية من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم توجب سلامته من كل ما يحط من منزلته ويقدح في نبوته بما في ذلك الكبائر. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له" الحديث2 ومما يندرج تحت هذه الخشية والتقوى، بُعده عن كل ما يسخط الرب عز وجل ومن ضمن ما يسخطه ارتكاب الكبائر، فهو صلى الله عليه وسلم أبعد الناس عنها لكمال

_ 1 أورده السيوطي في الخصائص الكبرى (1/ 150) وعزاه لأبي نعيم وابن عساكر. 2 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب النكاح: باب الترغيب في النكاح. انظر: فتح الباري (9/ 104) ح 5063، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب النكاح: باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه. (4/ 128) .

لخشيته وتقواه لربه عزوجل، فلقد زكاه الله وطهر نفسه ولم يجعل للشيطان عليه من سبيل، وقد تقدم إيراد الحديث الذي جاء فيه أن جبريل شق قلب النبي صلى الله عليه وسلم وهو صغير فاستخرج منه علقة وقال: هذا حظ الشيطان منك1.

_ 1 انظر تخريجه (ص 151) .

المطلب الثالث: مسألة وقوع الخطأ منه

المطلب الثالث: مسألة وقوع الخطأ منه. تقدم ذكر الأمور التي عصم فيها صلى الله عليه وسلم وبقي أن نعلم هل يقع الخطأ منه في غير ما تقدم؟، والجواب على هذا: أن القول الذي عليه أكثر علماء الإسلام1 والذي دلت عليه نصوص القرآن والسنة أن الخطأ يقع منه صلى الله عليه وسلم في غير ما تقدم ذكره ولكنهم يعتقدون الأمور التالية: ا- أن الله لا يقره على هذا الخطأ الذي وقع منه صلى الله عليه وسلم بل يوجهه الله للحق وقد يحصل له العتاب على ذلك. 2- أن الخطأ يقع منه صلى الله عليه وسلم على سبيل الاجتهاد من غيرأن يتعمده ولذلك لا تسمى "معصية" فهذه العبارة تعد إساءة أدب معه صلى الله عليه وسلم ولا يصح إطلاقها في حقه صلى الله عليه وسلم. 3- أن ما يقع منه من هذا القبيل ليس مما يقدح في حقه أو ينقص من منزلته وقدره، ولقد سبق بيان الأمور التي عصم فيها صلى الله عليه وسلم وتلك الأمور هي التي في حالة وقوعها تقدح في حقه ومنزلته، وقد عصم فيها. 4- أن التوبة حاصلة منه عن هذا الخطأ، وهذا مما يرفع من قدره ويعلي منزلته2 كما أن الله قد وعده بالمغفرة بقوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّر} 3.

_ 1 مجموع الفتاوى (4/ 319) . 2 المرجع السابق (10/ 293) . 3 الآية (2) من سورة الفتح.

وأما النصوص التي يستدل بها على هذا القول فمنها: قوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى، أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} 1. فهذه الآيات نزلت عتابا من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم2 فقد ذكر غير واحد من المفسرين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوما يخاطب بعض عظماء قريش وقد طمع في إسلامه فبينما هو يخاطبه ويناجيه إذ أقبل ابن أم مكتوم3 وكان ممن أسلم قديما فجعل يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم من شيء ويلح عليه وود النبي صلى الله عليه وسلم أن لو كف ساعته ليتمكن من مخاطبة ذلك الرجل طمعا ورغبة في هدايته، وعبس في وجه ابن أم مكتوم وأعرض عنه وأقبل على الآخر فأنزل الله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى، أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} 4. وكذلك قوله تعالى {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 5. وقوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} 6.

_ 1 الآيات (1، 2، 3) من سورة عبس. 2 تفسيرالقرطبي (19/ 212) . 3 ابن أم مكتوم اختلف في اسمه فقيل: عمرو وقيل: عبد الله، وعمرو أكثر، وهو ابن قيس بن زائدة القرشي، أسلم قديما بمكة وكان من المهاجرين الأولين، قيل: استشهد بالقادسية وقيل مات بالمدينة. الإصابة (2/ 516- 517) . 4 تفسير ابن كثير (4/ 470) . 5 الآيتان (67، 68) من سورة الأنفال. 6 الآية (43) من سورة التوبة.

قال قتادة: "ثنتان فعلهما النبي صلى الله عليه وسلم ولم يؤمر بهما، إذنه لطائفة من المنافقين في التخلف عنه ولم يكن له أن يمضي شيئا إلا بوحي، وأخذه من الأسارى الفدية، فعاتبه الله كما تسمعون"1. وأما ما يقع من الخطأ منه في جانب الأمور الدنيوية فمن الأدلة على ذلك حديث رافع بن خديج2 رضي الله عنه قال: "قدم نبي الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يؤبرون النخل، يقولون: يلقحون النخل، فقال: ما تصنعون؟ قالوا: كنا نصنعه. قال: لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرا. فتركوه، فنقصت قال: فذكروا ذلك له، فقال: "إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر" 3. وفى رواية أنس: "أنتم أعلم بأمر دنياكم" 4، وفى رواية طلحة: "إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظنا فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به فإني لا أكذب على الله عز وجل" 5، وكما حكى ابن اسحاق6 أنه صلى الله عليه وسلم لما نزل بأدنى مياه بدر قال له الحباب بن

_ 1 تفسير القرطبي (8/ 154، 155) . 2 رافع بن خديج بن رانع الأنصاري الأوسي، عرض على النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر فاستصغره وأجازه يوم أحد فخرج بها وشهد ما بعدها، مات في زمن معاوية. الإصابة (1/ 483، 484) . 3 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفضائل: باب وجوب امتثال ما قاله شرعا دون ما ذكره صلى الله عليه وسلم من معايش الدنيا على سبيل الرأي (7/ 95) . 4 أخرجه مسلم في صحيحه (7/ 95) . 5 أخرجه مسلم في صحيحه (7/ 95) . 6 محمد بن إسحاق بن يسار المدني المطلبي، مولاهم، نزيل العراق، إمام المغازي، مات سنة 150 هـ. تهذيب التهذيب (9/ 38) .

المنذر1: أهذا منزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: "لا بل هو الرأي والحرب والمكيدة"، قال: فإنه ليس بمنزل، انهض حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ثم نغور ما وراءه من القلب، فنشرب ولا يشربون، فقال: "أشرت بالرأي"، وفعل ما قاله2. قال القاضي عياض: "فمثل هذا وأشباهه من أمور الدنيا التي لا مدخل فيها بعلم ديانة ولا اعتقادها ولا تعليمها، يجوز عليه فيه ما ذكرنا3 إذ ليس في هذا كله نقيصة ولا محطة، وإنما هي أمور اعتيادية يعرفها من جربها، وجعلها همه وشغل نفسه بها، والنبي صلى الله عليه وسلم مشحون القلب بمعرفة الربوبية ملآن الجوانح بعلوم الشريعة، مقيد البال بمصالح الأمة الدينية والدنيوية، ولكن هذا4 إنما يكون في بعض الأمور، ويجوز في النادر فيما سبيله التدقيق في حراسة الدنيا واستثمارها، لا في الكثير المؤذن بالبله والغفلة"5. وكذلك الأمر بالنسبة لأحكام البشر الجارية على يديه وقضاياهم، ومعرفة المحق من المبطل، وعلم المصلح من المفسد، فهذه أمور اجتهادية يجتهد فيها برأيه فقد قال صلى الله عليه وسلم: "إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن

_ 1 الحباب بن المنذر بن الجموح الأنصاري الخزرجي، شهد بدرا، مات في خلافة عمر. الإصابة (1/302) . 2 الشفا للقاضي عياض (2/ 871، 872) وأخرجه البيهقي في دلائل النبوة (3/ 31- 35) ، وعزاه السيوطي في مناهل الصفا (ص 80) لابن اسحاق والبيهقي عن عروة والزهري وجماعة. 3 أي من وقوع الخطأ. 4 أي الخطأ. 5 الشفا (2/ 872، 873) .

بحجته من بعض فأقضي له على نحوما أسمع منه فمن قطعت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له به قطعة من النار" 1. قال القاضي عياض: "وتجرى أحكامه صلى الله عليه وسلم على الظاهر وموجب غلبات الظن بشهادة الشاهد، ويمين الحالف، ومراعاة الأشبه، ومعرفة العفاص والوكاء مع مقتضى حكمة الله في ذلك"2. فاقتضت حكمته تعالى أن لا يكون معصوما في هذا الجانب وذلك حتى تقتدي به الأمة من بعده في النظر في القضايا والأحكام على ما كان يقضي به بين الناس، لأنه قد استوى في ذلك هو وغيره من الناس. وكذا الأمور بالنسبة لما يقع عليه من الأسقام والأمراض فهو صلى الله عليه وسلم بشر من البشر يقع عليه مثل ما يقع على غيره من البشر. وهذا هو الحق الذي دلت وأرشدت عليه النصوص الثابتة في القرآن والسنة. وهذا هو القول الوسط يين أهل الإفراط وأهل التفريط في هذه المسألة. فمن فال بالعصمة المطلقة وهم الرافضة3 وبعض المعتزلة4 وبعض

_ 1 أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الشهادات، باب من أقام البينة مع اليمين. انظر: فتح الباري (5/ 288) ح 2680. وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الأقضية: باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة، واللفظ له (5/ 128، 129) . 2 الشفا (2/ 875) . 3 الرافضة: عبارة تطلق على الشيعة الغلاة وهم عدة فرق من أشهرها الإمامية الاثنا عشرية، ولهم مخالفات كثيرة في الاعتقاد من أشهرها: مسائل الإمامة، والصحابة، والغلو في آل البيت وأصل تسميتهم بالرافضة مأخوذ من قول زيد بن علي بن الحسين عندما سُئل عن أبي بكر وعمر فترحم عليهما، فرفضه جماعة من أتباعه فقال: رفضتموني فسموا رافضة. مقالات الإسلاميين (1/ 88، 89، 144) ، والملل والنحل، (1/ 173- 174) . 4 أتباع واصل بن العطاء الذي اعتزل مجلس الحسن البصري، ولهم مخالفات كثيرة في مسائل الاعتقاد، منها أنهم يقولون بنفي الصفات، والمنزلة بين المنزلتين. ميزان الاعتدال (3/ 274) والفرق بين الفرق (20، 21) ، والملل والنحل (1/ 49) .0

المتأخرين1 فهؤلاء قد خالفوا نصوص القرآن والسنة وتعسفوا في دفعها وتأويلها بتأويلات هي من جنس تأويلات الجهمية2 والباطنية3 ومن تدبر تلك التأويلات تبين له فسادها وعرف أنها من باب تحريف الكلم عن مواضعه4. وأما من نفى عنه العصمة من الذنوب وأجاز عليه الإقدام على الكبائر والصغائر وهم الكرامية5 والأزارقة6 والفضيلية7 وغيرهم8 فهؤلاء قوم فرطوا في حق النبي صلى الله عليه وسلم، فذكروا عنه ما دل القرآن والسنة على براءته منه، وأضافوا إليه ذنوبا نزهه الله منها فقولهم هذا مخالف للقرآن والسنة وواضح البطلان.

_ 1 مجموع الفتاوى (4/ 320) . 2 الجهمية فرقة من الفرق التي ظهرت في بداية القرن الثاني وانتحلت مذهب الجهم بن صفوان في مسائله المدونة في كتب المقالات ومن أشهرها نفي الأسماء والصفات والقول بالجبر، وفناء الجنة والنار. الرد على الزنادقة والجهمية للإمام أحمد (ص 65) . تاريخ الجهمية والمعتزلة (ص 59، 60) . 3 عبارة تطلق على عدة فرق من أشهرها: الإسماعيلية، القرامطة، والنصيرية، وهم الذين يجعلون لكل ظاهر من الكتاب باطنا ولكل تنزيل تأويلا. الملل والنحل (1/ 426- 447) والفرق بين الفرق (ص 169) . 4 مجموع الفتاوى (10/ 311- 314) بتصرف. 5 أتباع محمد بن كرام السجستاني المتوفى سنة 255 هـ، لهم عدد من المخالفات في مسائل العقيدة، منها: التشبيه في الصفات، والإرجاء في الإيمان. الملل والنحل (1/ 180، 193) ، والفرق بين الفرق (30، 137) . 6 إحدى فرق الخوارج، وهم أتباع نافع بن الأزرق، كانت أكثر فرق الخوارج عددا وأشدهم شوكة. الفرق بين الفرق (ص 83) . 7 من الخوارج، ذكرهم الأشعري في المقالات (ص 118) . 8 الفصل (4/ 2) ، وعصمة الأنبياء للرازي (ص 18) ، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي (1/ 128) .

الفصل الثاني: وجوب طاعته ولزوم سنته والمحافظة عليها

الفصل الثاني: وجوب طاعته ولزوم سنته والمحافظة عليها المبحث الأول: الأدلة على وجوب طاعته المطلب الأول: الأدلة من القرآن ... تمهيد ا"فرض الله على جميع الخلق الإيمان بنبيه صلى الله عليه وسلم وطاعته واتباعه وإيجاب ما أوجبه وتحريم ما حرمه وشرع ما شرعه. وبه فرق الله بين الهدى، والضلال، والرشاد، والغي، والحق، والباطل، والمعروف، والمنكر. وهو الذي شهد الله له بأنه يدعو إليه بإذنه، ويهدي إلى صراط مستقيم وأنه على صراط مستقيم. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً، وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} 1. وقال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 2. وقال تعالى: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 3 وهو الذي جعل الرب طاعته طاعة له في مثل قوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} 4. وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} 5. وهو الذي لا سبيل لأحد إلى النجاة إلا بطاعته، ولا يسأل الناس يوم القيامة إلا عن الإيمان به واتباعه وطاعته، وبه يمتحنون في القبور، قال تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} 6.

_ 1 الآيتان (45، 46) من سورة الأحزاب. 2 الآية (52) من سورة الشورى. 3 الآية (43) من سورة الزخرف. 4 الآية (80) من سورة النساء. 5 الآية (64) من سورة النساء. 6 الآية (6) من سورة الاعراف.

وهو الذي أخذ الله له الميثاق على النبيين وأمرهم أن يأخذوا على أممهم الميثاق أنه إذا جاءهم أن يؤمنوا به ويصدقوه وينصروه. وهو الذي فرق الله به بين أهل الجنة وأهل النار، فمن آمن به وأطاعه كان من أهل الجنة ومن كذبه وعصاه كان من أهل النار. قال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} 1. والوعد بسعادة الدنيا والآخرة والوعيد بشقاء الدنيا والآخرة معلق بطاعته. فطاعته هي الصراط المستقيم وهي حبل الله المتين، وهي العروة الوثقى وأصحابها هم أولياء الله المتقون وحزبه المفلحون وجنده الغالبون. والمخالفون له هم أعداء الله حزب إبليس اللعين. قال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً، يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً، لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً} 2. وقال تعالى: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا، وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا، رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً} 3. وقال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ

_ 1 الآيات (13، 14) من سورة النساء. 2 الآيات (27، 28، 29) من سورة الفرقان. 3 الآيات (66، 67، 68) من سورة الاحزاب.

الْكَافِرِينَ} 1 وقال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} 2. وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 3. وقال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} 4. وجميع الرسل أخبروا أن الله أمر بطاعتهم كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّه} 5. فهم يأمرون بعبادة الله وحده وخشيته وحده وتقواه وحده، وبأمرون بطاعتهم كما قال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} 6. وقال نوح عليه السلام: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} 7. وقال في سورة الشعراء: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} 8.

_ 1 الآية (32) من سورة آل عمران. 2 الآية (65) من سورة النساء. 3 الآية (63) من سورة النور. 4 الآية (69) من سورة النساء. 5 الآية (64) من سورة النساء. 6 الآية (52) من سورة النور. 7 الآية (3) من سورة نوح. 8 الآية (108) من سورة الشعراء.

وكذلك قال هود وصالح وشعيب ولوط1. والناس محتاجون إلى الإيمان بالرسول وطاعته في كل مكان، وزمان، ليلا ونهارا، سفرا وحضرا، سرا وعلانية، جماعة وفرادى، وهم أحوج إلى ذلك من الطعام والشراب بل من النفس، فإنهم متى فقدوا ذلك فالنار جزاء من كذب بالرسول وتولى عن طاعته كما قال تعالى: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى، لاَ يَصْلاهَا إِلَّا الْأَشْقَى، الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} 2 أي كذب به وتولى عن طاعته كما قال في موضع آخر: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى، وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} 3. وقال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً، فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً} 4. وقال تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} 5. وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ} 6. والله تعالى قد سماه سراجا منيرا، وسمى الشمس سراجا وهاجا والناس إلى هذا السراج المنير أحوج منهم إلى السراج الوهاج، فإنهم محتاجون إليه سرا وعلانية، ليلا ونهارا، بخلاف الوهاج، وهو أنفع لهم فإنه منير ليس فيه أذى بخلاف الوهاج فإنه ينفع تارة ويضر أخرى"7.

_ 1 انظر الآيات (126، 131، 144، 150، 163، 179) من سورة الشعراء. 2 الآية (14، 15، 16) من سورة الليل. 3 الآية (31، 32) من سورة القيامة. 4 الآية (15، 16) من سورة المزمل. 5 الآية (41) من سورة النساء. 6 الآية (42) من سورة النساء. 7 الرد على الأخنائي (ص 180- 183) .

ولما كانت حاجة الناس إلى الرسول بهذه الدرجة فقد أوجب الله سبحانه وتعالى على العباد طاعة الرسل واتباعهم فقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} 1 فهذا الإلزام ناشئ من ضرورة العباد وحاجتهم للرسالة إذ لابد لهم منها، بل إن حاجتهم إليها فوق، حاجتهم إلى كل شيء، "فالرسالة ضرورية في إصلاح العباد في معاشهم ومعادهم، فكما أنه لا صلاح لهم في آخرتهم إلا باتباع الرسالة، فكذلك لاصلاح لهم في معاشهم ودنياهم إلا باتباع الرسالة. والإنسان مضطر إلى الشرع لأنه بين حركتين: حراسة يجلب بها ما ينفعه، وحركة يدفع بها ما يضره. والشرع هو النور الذي يبين ما ينفعه وما يضره، والشرع نور الله في أرضه، وعدله يين عباده، وحصنه الذي من دخله كان آمنا. وليس المراد بالشرع التمييز بين الضار والنافع بالحس، فإن ذلك يحصل للحيوانات العجم، فإن الحمار والجمل يميز بين الشعير والتراب، وإنما المراد بالشرع التمييز بين الأفعال التي تنفع فاعلها والأفعال التي تضر فاعلها في معاشه ومعاده، كنفع الإيمان والتوحيد والعدل والبر والتصدق والإحسان، والأمانة والعفة، والشجاعة والحلم والصبر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصلة الأرحام، وبر الوالدين، والإحسان إلى المماليك والجار، وأداء الحقوق وإخلاص العمل لله والتوكل عليه، والاستعانة به والرضا بمواقع القدر به، والتسليم لحكمه والانقياد لأمره، وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه، وخشيته في

_ 1 الآية (64) من سورة النساء.

الغيب والشهادة، والتقوى إليه بأداء فرائضه واجتناب محارمه، واحتساب الثواب عنده، وتصديقه وتصديق رسله في كل ما أخبروا به وطاعتهم في كل ما أمروا به، مما هو نفع وصلاح للعبد في دنياه وآخرته وفي ضد ذلك شقاوته ومضرته في دنياه وآخرته. فلولا الرسالة لم يهتد العقل إلى تفاصيل النافع والضار في المعاش والمعاد فمن أعظم نعم الله على عباده وأشرف منة عليهم أن أرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، ودون لهم الصراط المستقيم، ولولا ذلك لكانوا بمنزلة البهائم بل أشر حالا منها. فمن قبل رسالة الله واستقام عليها فهو من خير البرية، ومن ردها وخرج عنها فهو من شر البرية، وأسْوَءُ حالاً من الكلب والخنزير والحيوان البهيم"1. والرسل هم وسائط يين الله وبين خلقه في أمره ونهيه وهم السفراء بينه وبين عباده، يبلغونهم شرع ربهم ويرشدونهم إلى ما فيه صلاح معاشهم ومعادهم، وقد جعلهم الله {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} 2. وقد بعث الرسل جميعا بأصول ثلاثة هي: ا- الدعوة الى الله. 2- إرشاد العباد وتعريفهم بالطريق الموصل إلى الله. 3- ييان حال العباد في معادهم. فالأصل الأول يتضمن إثبات الصفات والتوحيد والقدر، وذكر أيام الله في

_ 1 مجموع الفتاوى (19/ 99، 100) بتصرف. 2 الآية (165) من سورة النساء.

أوليائه وأعدائه وهي القصص التي قصها الله على عباده والأمثال التي ضربها لهم. والأصل الثاني: يتضمن تفصيل الشرائع والأمر والنهي والإباحة، وبيان ما يحبه الله ويكرهه. والأصل الثالث: يتضمن الإيمان باليوم الآخر، والجنة والنار والثواب والعقاب. فعلى هذه الأصول الثلاثة مدار الخلق والأمر بل السعادة والفلاح موقوفة عليها، ولا سبيل إلى معرفتها إلا من جهة الرسل، فإن العقل لا يهتدي إلى تفاصيلها ومعرفة حقائقها، وإن كان قد يدرك وجه الضرورة إليها من حيث الجملة 1. ومن أجل ذلك فإن الله خص بالفلاح من اتبع رسم له ونصره فقال تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 2 أي لا مفلح إلا هم، كما قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 3، فخص هؤلاء بالفلاح كما خص المتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة وينفقون مما رزقهم ويؤمنون بما أنزل إلى رسوله وما أنزل من قبله ويوقنون بالآخرة بالهدى والفلاح قال تعالى: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ، وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ، أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 4 فعلم بذلك أن

_ 1 مجموع الفتاوى (19/ 96) بتصرف. 2 الآية (157) من سورة الأعراف. 3 الآية (104) من سورة آل عمران. 4 الآية (1 إلى هـ) من سورة البقرة.

الهدى والفلاح دائر على الرسالة وجودا وعدما. كما جعل الله سعادة العباد ونجاتهم في يوم المعاد متعلقة بطاعته وطاعة رسوله وجعل شقاءهم وهلاكهم متعلفا بمعصيته ومعصية رسوله، قال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} 1. وخاتم المرسلين وسيدهم وأكرمهم على ربه- نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي جعله الله رحمة للعالمين: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} 2، وأرسله بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة بصيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، فختم به الرسالة وهدى به من الضلالة وعلم به من الجهالة، وفتح برسالته أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا، فأشرقت برسالته الأرض بعد ظلماتها، وتألفت به القلوب بعد شتاتها، فأقام بها الملة العوجاء وأوضح بها المحجة البيضاء، فبين عن طريقه صلى الله عليه وسلم الكفر من الإيمان، والربح من الخسران، والهدى من الضلال، وأهل الجنة من أهل النار، والمتقين من الفجار، فهو المبعوث رحمة للعالمين، ومحجة للسالكين وحجة على الخلائق أجمعين. وقد أوجب الله وافترض على العباد طاعته ومحبته وتعزيره وتوقيره والقيام بحقوقه وأوصاه باتباع شرعه ونهجه والسير على هداه وجعل طريقه هي الطريق الوحيد الموصلة إليه وسد باقي الطرق فلم يفتح لأحد طريقا غير طريقه، وسمى تلك الطرق سبلا تضل عن سبيله فقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا

_ 1 الآية (13، 14) من سورة النساء. 2 الآية (107) من سورة الانبياء.

صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 1. ولذلك فإن الخير كل الخير في اتباعه والاقتداء به، والشر كل الشر في مخالفته والبعدعن شرعه وماجاء به. والأدلة على وجوب طاعته صلى الله عليه وسلم ولزوم سنته واتباع شريعته كثيرة وهذا ما سأتطرق إليه في هذا الفصل باذن الله تعالى والله الموفق وهو الهادي إلى سواء السبيل.

_ 1 الآية (153) من سورة الأنعام.

المطلب الأول: الأدلة من القرآن على وجوب طاعته صلى الله عليه وسلم قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: "نظرت في المصحف فوجدت طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في ثلاثة وثلاثين موضغا"1. وقال الآجري2: "فرض على الخلق طاعته صلى الله عليه وسلم في نيف وثلاثين موضعا من كتابه عز وجل"3. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وقد أمر الله بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم في أكثر من ثلاثين موضعا من القرآن، وقرن طاعته بطاعته، وقرن بين مخالفته ومخالفته، كما قرن بين اسمه واسمه، فلا يذكر الله إلا ذكر معه"4. قلت: إن الآيات الواردة في الأمر بطاعة النبي صلى الله عليه وسلم واتباعه والاقتداء به جاءت في مواطن متعددة من القرآن الكريم. واتصفت تلك الآيات بتنوع أساليبها وتعدد صيغها مع اتحادها جميعها في الأمر بالاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وطاعته في جميع ما جاء به من شرائع وأحكام من عند الله عز وجل، وسوف أعرض لهذه الآيات بعد تقسيمها على حسب ما اتحدت به في السياق على النحو التالي: أ- الآيات التي جاء فيها الأمر بطاعته صلى الله عليه وسلم ومن تلك الآيات قوله تعالى:

_ 1 الصارم المسلول لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص 56) . 2 محمد بن الحسين بن عبد الله أبو بكر الآجري، فقيه شافعي، محدث، توفي سنة 360 هـ بمكة وله مصنفات كثيرة منها: كتاب الشريعة. الأعلام (6/ 97) . 3 الشريعة (ص 49) . 4 مجموع الفتاوى (19/ 103) .

{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} 1. وهذه الآية ضمن سلسلة من الآيات ربطت بين طاعة الله تبارك وتعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، فقد جعل الله طاعته وطاعة رسوله شيئا واحدا، وجعل الأمر بطاعة رسوله مندرجا في الأمر بطاعته سبحانه، وفي ذلك بيان للعباد بأن طاعته سبحانه لا تتحقق إلا بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم. ومن تلك الآيات الواردة بهذه الصيغة: 1- قوله تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} 2. 2- وقوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} 3. 3- وقوله تعالى:. {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} 4. 4- وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} 5. 5- وقوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} 6.

_ 1 الآية (80) من سورة النساء. 2 الآية (32) من سورة آل عمران. 3 الآية (132) من سورة آل عمران. 4 الآية (13) من سورة النساء. 5 الآية (20) من سورة الأنفال. 6 الآية (52) من سورة النور.

6- وقوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} 1. 7- وقوله تعالى {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً} 2 وفي آيات أخر يأمر الله سبحانه بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم مع إعادة الفعل، وفي ذلك إشارة إلى أن ما يأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم تجب طاعته فيه وإن لم يكن مأمورا به بعينه في كلام الله الذي هو القرآن، فتجب طاعة الرسول مفردة كما تجب مقرونة بأمره سبحانه، ومن هذه الآيات: ا- قوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} 3. 2- وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} 4. 3- وقوله تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} 5. 4- وقوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} 6. وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ

_ 1 الآية (71) من سورة الأحزاب. 2 الآية (17) من سورة الفتح. 3 الآية (92) من سورة المائدة. 4 الآية (33) من سورة محمد. 5 الآية (54) من سورة النور. 6 الآية (12) من سورة التغابن.

مِنْكُمْ} 1. ويقول ابن القيم2 عند هذه الآية: "أمر تعالى بطاعته وطاعة رسوله وأعاد الفعل إعلاما بأن طاعة الرسول تجب استقلالا من غير عرض ما أمر به على الكتاب، بل إذا أمر وجبت طاعته مطلقا سواء كان ما أمر به في الكتاب أو لم يكن فيه، فإنه أوتي الكتاب ومثله معه3. ولم يأمر بطاعة أولي الأمر استقلالا بل حذف الفعل وجعل طاعتهم في ضمن طاعة الرسول، إيذانا بأنهم إنما يطاعون تبعا لطاعة الرسول فمن أمر منهم بطاعة الرسول وجبت طاعته، ومن أمر منهم بخلاف ما جاء به الرسول فلا سمع له ولا طاعة، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا طاعة في معصية الله إنما الطاعة في المعروف" 4 وقال: "إنما الطاعة في المعروف" 5، وقال: "على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة"6.

_ 1 الآية (59) من سورة النساء. 2 محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي ثم الدمشقي المشهور بابن القيم، ولد سنة إحدى وتسعين وستمائة، تفنن في علوم الإسلام، لازم شيخ الإسلام ابن تيمية، وله مؤلفات كثيرة في الدفاع عن العقيدة والسنة. توفي سنة إحدى وخمسين وسبعمائة. طبقات المفسرين للداودي (2/ 93، 97) . 3 كما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: "ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ... " الحديث. أخرجه أبو داود في سننه، كناب السنة، باب في لزوم السنة (5/ 10) ح 4604 4 أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية (6/ 15) 5 أخرجه البخاري في صحيحه، كثاب أخبار الآحاد: باب ما جاء في إجازة خبر الواحد. انظر: فتح الباري (13/ 233) ح 7257، ومسلم في صحيحه، كتاب الإمارة: باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية. انظر (6/ 15) . 6 أخرجه بهذا اللفظ مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية (6/ 12) . وأخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأحكام: باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية. فتح الباري (13/ 121، 122) ح 7144.

وقد أخبر صلى الله عليه وسلم عن الذين أرادوا دخول النار لما أمرهم أميرهم بدخولها: "إنهم لو دخلوها لما خرجوا منها" مع أنهم إنما كانوا يدخلونها طاعة لأميرهم، وظنا أن ذلك واجب عليهم، ولكن لما قصروا في الاجتهاد وبادروا إلى طاعة من أمر بمعصية الله وحملوا عموم الأمر بالطاعة بما لم يرده الأمر صلى الله عليه وسلم وما قد علم من دينه إرادة خلافه، فقصروا في الاجتهاد وأقدموا على تعذيب أنفسهم وإهلاكها من غيرتثبيت وتبين هل ذلك طاعة لله ورسوله أم لا؟، فما الظن بمن أطاع غيره في صريح مخالفة ما بعث الله به رسوله"1. وأما قوله تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} 2 فقد أخبر تعالى في هذه الآية أن الهداية في طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم لا في غيرها، فإنه معلق بالشرط فينتفى بانتفائه، وليس هذا من باب دلالة المفهوم، كما يغلط فيه كثير من الناس ويظن أنه محتاج في تقرير الدلالة منه لا تقرير كون المفهوم حجة. بل هذا من الأحكام التي ترتبت على شروط وعلقت فلا وجود لها بدون شروطها، إذ ما علق على الشرط فهو عدم عند عدمه، وإلا لم يكن شرطا له وإذا ثبت هذا: فالآية نص في انتفاء الهداية عند عدم طاعته. وقوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ} الفعل للمخاطبين وأصله فإن تتولوا، فحذفت

_ 1 إعلام الموقعين (1/ 48، 49) . 2 الآية (54) من سورة النور.

إحدى التائين تخفيفا، والمعنى: أنه قد حمل أداء الرسالة وتبليغها، وحملتم طاعته والانقياد له والتسليم. روي عن الزهري1 أنه قال: "من الله البيان وعلى الرسول البلاغ وعلينا التسليم". فإن تركتم أنتم ما حملتم من الإيمان والطاعة فعليكم لا عليه. فإنه لم يحمل إيمانكم وإنما حمل تبليغكم، وإنما حمل أداء الرسالة إليكم. {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} ليس عليه هداهم وتوفيقهم"2 ب- الآيات التي جاء فيها الأمر باتباعه والتأسي به والأخذ بما شرعه: جاء الأمر من الله تبارك وتعالى باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم والتأسي به في مواطن متعددة من كتابه العزيز. أ- قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 3. 2- وقال تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} 4. 3- وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 5.

_ 1 محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهري، الفقيه الحافظ متفق على جلالته وإتقانه، مات سنة 125 هـ وقيل قبل ذلك. تذكرة الحفاظ (1/ 102) . 2 الرسالة التبوكية (ص 37، 38) . 3 الآية (31) من سورة آل عمران. 4 الآية (158) من سورة الأعراف. 5 الآية (7) من سورة الحشر.

4- وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} 1. وهذه الآيات تضمنت توجيهات عظيمة يجب على المسلم تدبرها ففي الآية الأولى جعل الله الاتباع سبيلا إلى نيل حبه ووسيلة إلى تحقيق رضاه وحصول غفرانه، إذ باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم يحصل حب الله تعالى ورضاه ومثوبته، فالخير كل الخير في اتباعه والشر كل الشر في مخالفته والابتعاد عن سنته. فالاتباع هو دليل المحبة وبرهانها، وبتحققه تكون المحبة التي هي إحدى ثمراته كما قال تعالى: {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} كما أن من ثمراته غفران الذنوب كما جاء في هذه الآية نفسها: {ويغفر لكم ذنوبكم} . وهذه المنزلة والمكانة لاتباع الرسول صلى الله عليه وسلم نابعة من كون هذا الاتباع إنما هو في الحقيقة اتباع لله، إذ الرسول إنما جاء بهذا الدين من عند الله عز وجل فهو شرع الله ودينه الذي أوحاه لرسوله صلى الله عليه وسلم ليبلغه للعباد، فالرسول إنما هو مبلغ عن الله ولم يأت بشيء من عند نفسه قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} الآية2، وقال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} الآية3. وفى الآية الأخرى وهي قوله تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} جاء الأمر بالاتباع عقب الأمر بالإيمان تأكيدا على وجوب اتباع النبي صلى الله عليه وسلم وإلا فإن الاتباع داخل في الإيمان

_ 1 الآية (21) من سورة الأحزاب. 2 الآية (110) من سورة الكهف، والآية (6) من سورة فصلت. 3 الآية (85) من سورة البقرة.

ولكن أفرد بالذكر هنا تنبيها على أهميته وعظم منزلته. وأما قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ، فهذه الآية أوجبت الاتباع المطلق للنبي صلى الله عليه وسلم، فما أمر به من شيء فإن علينا فعله وما نهى عن شيء فإن علينا تركه واجتنابه، فهو لا يأمر إلا بخير ولا ينهى إلا عن شر. وفى هذا الاتباع والانقياد حياتنا وفلاحنا كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} 1. فهنا أمر من الله تعالى للمؤمنين جميعا بأن يستجيبوا للرسول صلى الله عليه وسلم فيما أمرهم به ونهاهم عنه، ففي ذلك الحياة النافعة الطيبة وهذه الحياة إنما تحصل بالاستجابة لما جاء به الرسول أمرا ونهيا وأما من لم تحصل منه الاستجابة فلا حياة له، وإن كانت له حياة بهيمية مشتركة بينه وبين أرذل الحيوانات، "إذ الحياة الحقيقية الطيبة هي حياة من استجاب لله ولرسوله ظاهرا وباطنا، فهؤلاء هم الأحياء وإن ماتوا، وغيرهم أموات وإن كانوا أحياء الأبدان، ولهذا كان أكمل الناس حياة أكملهم استجابة لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن كل ما دعا إليه ففيه الحياة، فمن فاته جزء منه فاته جزء من الحياة، وفيه من الحياة بحسب ما استجاب للرسول"2. ولقد أعقب هذا الأمر بالاستجابة تحذير من ترك الاستجابة له أو تثاقل وتباطء عنها فقال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} والمعنى

_ 1 الآية (24) من سورة الأنفال. 2 الفوائد لابن القيم (ص 88) بتصرف.

: "أنكم إن تثاقلتم عن الاستجابة وأبطأتم عنها فلا تأمنوا أن الله يحول بينكم وبين قلوبكم فلا يمكنكم بعد ذلك من الاستجابة عقوبة لكم بعد وضوح الحق واستبانته"1. وأما قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} فقد جعل الله تبارك وتعالى من رسوله الأسوة والقدوة ليحتذي به الخلق في أقواله وأفعاله وجميع ما جاء به صلى الله عليه وسلم. قال ابن كثير: "هذه الآية الكريمة أصل كبير في التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله ... "2. ج- الآيات التي جاء فيها وجوب التسليم لحكمه والانقياد له: قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} 3. وفي هذه الآية أقسم سبحانه بأجل مقسم به - وهو نفسه عز وجل - على أنه لا يثبت لهم إيمان ولا يكونون من أهله، حتى يحكموا رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع موارد النزاع وفي جميع أبواب الدين فإن لفظة "ما" من صيغ العموم. ولم يقتصر الأمر على مجرد التحاكم بل ضم إليه انشراح صدورهم بحكمه بحيث لا يجدون في أنفسهم حرجا - وهو الضيق والحصر - من حكمه، بل يقبلوا حكمه بالانشراح، ويقابلوه بالتسليم لا أنهم يأخذونه على إغماض، ويشربونه على قذى، فإن هذا مناف للإيمان، بل لابد أن يكون أخذه بقبول

_ 1 المصدر السابق (ص 95) . 2 تفسير ابن كثير (3/ 474) . 3 الآية (65) من سورة النساء.

ورضا وانشراح صدر. ثم لم يقتصر سبحانه على ذلك حتى ضم إليه قوله تعالى: {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} فذكر الفعل مؤكدا بمصدره القائم ذكره مرتين، وهو التسليم والخضوع له والانقياد لما حكم به طوعا ورضا، وتسليما لا قهرا ومصابرة كما يسلم المقهور لمن قهره كرها، بل تسليم عبد مطيع لمولاه وسيده الذي هو أحب شيء إليه، يعلم أن سعادته وفلاحه في تسليمه إليه ويعلم بأنه أولى به من نفسه، وأبر به منها وأقدر على تخليصها، كما قال تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} 1. فمتى علم العبد هذا من الرسول صلى الله عليه وسلم واستسلم له، وسلم إليه انقادت له كل علة في قلبه ورأى أن لا سعادة له إلا بهذا التسليم والانقياد. وتأمل تأكيده سبحانه لهذا المعنى المذكور في الآية بوجوه عديدة من التأكيد: أولها: تصديرها بتضمن المقسم عليه للنفي وهو قوله {لاَ يُؤْمِنُونَ} وهذا منهج معروف في كلام العرب، إذا أقسموا على شيء منفي صدروا جملة القسم بأداة نفي مثل هذه الآية. وثانيها: تأكيده بنفس المقسم. وثالثها: جميده بالمقسم به وهو إقسامه بنفسه لا بشيء من مخلوقاته، وهو سبحانه يقسم بنفسه تارة وبمخلوقاته تارة. ورابعها: تأكيده بانتفاء الحرج وهو وجود التسليم. وخامسها: تأكيد الفعل بالمصدر، وما هذا التأكيد إلا لشدة الحاجة إلى هذا

_ 1 الآية (6) من سورة الاحزاب.

الأمر العظيم، وإنه مما يعتنى به ويقرر في نفوس العباد بما هو من أبلغ أنواع التقرير1. وقال ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية: "يقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له باطنا وظاهرا ولهذا قال: {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} أي إذا حكموك يطيعونك في بواطنهم فلا يجدون في أنفسهم حرجا مما حكمت به وينقادون له في الظاهر والباطن فيسلمون لك تسليما كليا من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة ... "2. وهذه الآية ينبغي لكل مسلم أن يعرض نفسه عليها. وفى هذا يقول ابن القيم: "ومتى أراد العبد أن يعلم هذا3 فلينظر في حاله ويطالع قلبه عند ورود حكمه على خلاف هواه وغرضه، أو على خلاف ما قلد فيه أسلافه من المسائل الكبار وما دونها {بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ، وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} 4. فسبحان الله كم من حزازة في نفوس كثير من الناس من كثير من النصوص بودهم أن لو لم ترد؟ وكم من حرارة في أكبادهم منها؟ وكم من شجى في حلوقهم منها ومن موردها؟ ستبدو لهم تلك السرائر بالذي يسوء ويخزي يوم تبلى السرائر"5.

_ 1 الرسالة التبوكية لابن القيم (ص 25، 26) . 2 تفسير ابن كثير (1/ 520) . 3 أي قبوله لحكم الرسول والتسليم له. 4 الآية (14، 15) من سورة القيامة. 5 الرسالة التبوكية (ص 25) .

وقال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون} 1. وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} 2، وكلا الآيتين توجبان التسليم الكامل والانقياد التام من أهل الإيمان لما حكم به الله تعالى وحكم به رسوله صلى الله عليه وسلم، فليس في ذلك اختيار، بل السمع والطاعة والقبول والتسليم بما جاء عن الله ورسوله. ومن الملاحظ في كلا الآيتين أن الخطاب فيهما لأهل الإيمان ففي الآية الأولى {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ ... } . وفي الثانية {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ} ، وهذا التخصيص للمؤمنين فيه من الدلالة ما فيه فاسم الإيمان يشعر بأن هذا المطلوب منهم من موجبات الاسم الذي نسبوا إليه ولذلك فإنه يجب على كل من يؤمن بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم أن يضع هاتين الآيتين وأمثالهما من الآيات الموجبة للامتثال لأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم نصب عينيه فيسمع ويطيع، ويؤمن بأنه لا اختيار له في ذلك ولا رأي، بل التسليم المطلق الذي لا يصاحبه شك ولا ارتياب. فهذه حقيقة الإيمان ومعنى شهادة أن محمدا رسول الله التي تعني طاعته فيما أمر وتصديقه فيما أخبر واجتناب ما نهى عنه وزجر وألا يعبد الله إلا بما شرع. ومثل هذه الآيات هي الفاصل بين دعوى الإيمان الحقيقية التي هي للمؤمنين

_ 1 الآية (51) من سورة النور. 2 الآية (36) من سورة الأحزاب.

الصادقين، وبين دعوى الإيمان الزائفة الباطلة التي هي سمة المنافقين الكاذبين المظهرين خلاف ما يبطنون.

المطلب الثاني: الأدلة من السنة على وجوب طاعته صلى الله عليه وسلم.

المطلب الثاني: الأدلة من السنة على وجوب طاعته صلى الله عليه وسلم. حث النبي صلى الله عليه وسلم أمته على طاعته وامتثال أمره واتباع ما جاء به والسير على سنتة والاقتداء به في كل ما جاء به عن ربه عز وجل. وأحاديثه صلى الله عليه وسلم في هذا المجال أعطت للأمه توجيهات عظيمة متى ما ساروا عليها وامتثلوا ما فيها واستناروا بها فقد تحققت لهم سعادة الدارين وفازوا وأفلحوا يإذن الله تعالى. وقد امتازت الأحاديث في هذا الشأن بكثرتها وتنوع عبارتها وتعدد أساليبها واشتمال بعضها على الأمثلة التي ضربها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته في هذا الشأن، ومما لا شك فيه أن هذه المميزات زادت الأمر توكيدا وتوضيحا وبيانا، بحيث إنها لم تدع مجالا لمتأول يأولها أو محرف يغير معناها بهواه ورأيه الفاسد، وهذه الأحاديث على تنوع عبارتها وتعدد أساليبها اتحدت جميعها في مضمون واحد هو التأكيد على وجوب طاعته صلى الله عليه وسلم واتباع ما جاء به والترغيب في ذلك إضافة إلى التحذير من مخالفته، وتحريم معصيته وبيان الوعيد الشديد في ذلك. والخطاب في تلك الأحاديث شامل لكل من كان في عصره صلى الله عليه وسلم ومن سيأتي بعده إلى يوم القيامة. وسأشير ههنا إلى طرف من تلك الأحاديث مع بيان ما فيها من توجيهات وإرشادات تنير الطريق للسالكين الراغبين بالفوز برضى الله وجنات النعيم. أ- كون طاعته واتباعه صلى الله عليه وسلم سببا لدخول الجنة، ومخالفته ومعصيته سببا

لدخول النار. أولا: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى"، قالوا: يارسول الله ومن يأبى؟، قال: "من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى"1. ثانيا: وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ... " الحديث2. ثالثا: وعن أبي سعيد الخدري3 رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي ييده لتدخلن الجنة كلكم إلا من أبى وشرد على الله كشراد 4 البعير. قال: يارسول الله ومن يأبى أن يدخل الجنة؟، قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى" 5.

_ 1 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة: باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم. انظر: فتح الباري (13/ 249) ح 7285. 2 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأحكام: باب قول الله تعالى {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} ، انظر: فتح الباري (13/ 111) ح 7137. وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة: باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية (6/ 13) . 3 سعد بن مالك بن سنان الأنصاري أبو سعيد الخدري، شهد الغزوات بعد أحد وكان من أفاضل الصحابة وحفظ حديثا كثيرا توفي سنة 74 هـ وقيل غير ذلك. الإصابة (2/ 32، 33) . 4 يقال: شرد البعير، يشرد، شُرودا، وشِرادا: إذا نفر وذهب في الأرض. النهاية (2/ 457) . 5 أخرجه ابن حبان في صحيحه (1/ 153) وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 80) ، وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. وله شاهد من طريق أبي هريرة بنحوه أخرجه الحاكم في مستدركه (4/ 247) وقال صحيح على شرطهما ووافقه الذهبي. وله شاهد آخر من طريق أبي أمامة بنحوه. أخرجه الحاكم في المستدرك (4/ 247) وقال صحيح على شرطهما ووافقه الذهبي.

قال ابن حبان1: "طاعة الرسول هي الانقياد لسنته، مع رفض قول كل من قال شيئا في دين الله عز وجل بخلاف سنته، دون الاحتيال في دفع السنن بالتأويلات المضمحلة والخترعات الداحضة ... "2 وهذه الأحاديث الثلاثة تؤكد وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وامتثال ما جاء به وذلك بفعل ما أمر به واجتناب ما نهى عنه. وتؤكد كذلك على أن هذه الطاعة هي مفتاح الجنة وسبيل النجاة الوحيد التي متى ما سلكها الإنسان فاز برضى الله وجنته ونجى من سخطه وعذابه. فعلى المسلم أن يسلك هذه الطريق - أي طاعة النبي صلى الله عليه وسلم – وألا يحيد عنها يمينا أو شمالا فهذه الطاعة هي صراط الله المستقيم الذي أمر الله باتباعه لقوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 3. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون ومن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل" 4.

_ 1 محمد بن حبان بن أحمد التميمي، أبو حاتم البستي، الإمام الحافظ الثبت الحجة، كان من أوعية العلم، ولد سنة 270 هـ وتوفي سنة 354 هـ. ميزان الاعتدال (3/ 506) . 2 صحيح ابن حبان (1/ 153) . 3 الآية (153) من سورة الأنعام. 4 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان: باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان (1/ 50، 51) .

وهذه الأحاديث تبين صفة أتباع الأنبياء فهم يطيعون أنبيائهم ويأخذون بسنتهم ويأتمرون بأمرهم ولا يحيدون عن ذلك ولا يخالفونه إلى ما سواه. وأما المخالفون لهم فمنهم الذين ابتدعوا أمورا في الدين لم تشرع لهم وأخذوا يتعبدون الله بها وهم المشار إليهم بقوله: "ويفعلون مالا يؤمرون"، وأمثال هؤلاء يتحدثون عن الطاعة والاتباع ولكن بالقول دون العمل، فهم يقولون مالا يفعلون وهذا الوصف ينطبق تماما على أهل البدع المخالفين لشرع نبي هذه الأمة. فإن الناظر في أحوال هؤلاء يجدهم متمسكين أشد التمسك بأمور ليست من سنة المصطفى ولا من هديه إذ ليس لهم عليها دليل من الكتاب أو السنة، بينما تجدهم أكثر الناس بعدا عن هدي المصطفى وما جاء به عن ربه، ومع ذلك كله فهم كثيرا ما يتحدثون عن اتباع الرسول والاقتداء به. ولكن هذا الحديث عن السنة والاتباع لا يتجاوز ألسنتهم، فهم أبعد الناس عن ذلك فصدق على هؤلاء قوله صلى الله عليه وسلم: "يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون". فانظر أخي المسلم في أحوال الصوفية وعباد القبور والأضرحة وغيرهم من أهل البدع فهل تجد أبلغ من وصفهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم هذا: "يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون". فالحذر كل الحذر من سبل أهل البدع والأهواء وكن على بصيرة من أمر دينك ولا تغرنك مظاهرهم وطراوة ألسنتهم فكم من إنسان خدعوه بذلك فروجوا عليه بدعتهم، ولكن أمرهم لا يروج إلا على خفافيش الأبصار وكل جاهل بسنة نبيه، من لا يفرق بين ما هو من الدين وما ليس من الدين.

وأما العالم بدينه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم المتمسك بها فهو على دراية ويقين بحال هؤلاء فلا تنطلي عليه أباطيلهم وأكاذيبهم وما يستندون إليه من المنامات التي جعلوها مصدرا للتشريع والابتداع في دين الإسلام. وصاحب السنة يعلم كذلك عاقبة بدعهم فيطبق عليهم بذلك قوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} 1. وقوله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"2. فتلك هي النتيجة الحتمية لكل بدعة، فالله تعالى قد جعل للعمل المقبول شرطين أحدهما: الإخلاص وثانيهما: الاتباع، قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} 3. فقوله {فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً} أي ما كان موافقا لشرع الله، {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} وهو الذي يراد به وجه الله وحده لا شريك له وهذان ركنا العمل المتقبل فلابد أن يكون خالضا لله صوابا على شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم"4. ب- ضربه صلى الله عليه وسلم الأمثال في الحث على طاعته. أولا: عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما مثلي ومثل ما

_ 1 الآيتان (103، 104) من سورة الكهف. 2 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الصلح: باب إذا اصطلحوا على جور. فتح الباري (5/ 301) ح 2697، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الأقضية: باب نقض الأحكام الباطلة (5/ 132) . 3 الآية (110) من سورة الكهف. 4 تفسير ابن كثير (3/ 108) .

بعثني الله به كمثل رجل أتى قوما فقال: ياقوم إني رأيت الجيش بعيني، وإني أنا النذير العريان، فالنجاء. فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا1 فانطلقوا على مهلهم فنجوا. وكذبت طائفة منهم فأصبحوا مكانهم فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم. فذلك مثل من أطاعني فاتبع ما جئت به. ومثل من عصاني وكذب بما جئت به من الحق" 2. ثانيا: وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: "جاءت الملائكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم، فقال بعضهم: إنه نائم. وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان، فقالوا: إن لصاحبكم هذا مثلا، قال: فاضربوا له مثلان فقال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان، فقالوا: مثله كمثل رجل بنى دارا وجعل فيها مأدبة وبعث داعيا فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة، فقالوا: أولوها له يفقهها، فقال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان، فقالوا: فالدار الجنة والداعي محمد صلى الله عليه وسلم، فمن أطاع محمدا صلى الله عليه وسلم فقد أطاع الله، ومن عصى محمدا فقد عصى الله، ومحمد فرق بين الناس"3. ثالثا: وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما مثلي

_ 1 أي ساروا بالليل. النهاية (2/ 129) . 2 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الاعتصام: باب الاقتداء بسنن الرسول صلى الله عليه وسلم، انظر: فتح الباري (13/ 250) ح 7283، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفضائل: باب شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته. انظر: (7/ 63) . 3 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة: باب الاقتداء بسنن الرسول صلى الله عليه وسلم. انظر: فتح الباري (13/ 249) ح 7281.

ومثل الناس كمثل رجل استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها، فجعل الرجل يزعهن1 ويغلبنه فيقتحمن فيها فأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تقتحمون فيها" 2. فهذه ثلاثة أحاديث اشتمل كل حديث منها على مثل معين، والأمثال كما هو معلوم توضع لتقريب المعنى وتوضيحه في ذهن السامع ليكون أسهل في فهم المعنى وأبلغ في ترسخه في ذهنه. ففي المثل الذي جاء في الحديث الأول ضرب النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه مثلا بالنذير الذي جاء لقومه يحذرهم من أن أعداءهم في طريقهم إليهم بعد أن رأى جيشهم على مقربة منهم وطلب منهم أن ينجوا بأنفسهم قبل أن يهلكهم عدوهم ويفنيهم. وضرب لأمته مثلا بقوم ذلك الرجل الذين انقسموا إلى قسمين فكان منهم من صدقه وأطاعه فساروا من الليل فنجوا بأنفسهم من فتك عدوهم وكان منهم من لم يصدقه فبقوا في منازلهم فصبحهم عدوهم فقضى عليهم. فالنبي صلى الله عليه وسلم هو النذير لهذه الأمة كما قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} 3، فقد أرسله الله تعالى {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} 4،

_ 1 بفتح التحتانية والزاي وضم العين المهملة: أي يدفعهن. فتح الباري (13/ 318) . 2 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الرقاق: باب الانتهاء عن المعاصي. انظر فتح الباري (11/ 316) خ 6483، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفضائل: باب شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته ... (7/ 64) . 3 الآية (49) من سورة الحج. 4 الآية (1) من سورة الفرتان.

لينذرهم عذاب ربهم الذي توعد به المخالفين منهم، وبين لهم شرع ربهم وما أمرهم به من قواعد وأحكام. فمن أطاعه واتبع النور الذي جاء به والتزم شريعته فقد نجا من عذاب الله. ومن عصاه وخالفه ولم يتبع ما جاء به فقد استحق بذلك عذاب الله فله جهنم يصلاها مذموما مدحورا. وهذا المثل يمثل جانب الإنذار والوعيد وهو جانب من جوانب الرسالة وأما الجانب الثاني وهو جانب البشارة - إذ أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر الله عنه بقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} 1. وأما جانب البشارة فهذا ما تحدث عنه الحديث الثاني وهو حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه فالمثل يتحدث عن ثلاثة أمور دار ومأدبة وداعي وقد جاء تأويل هذا المثل في الحديث نفسه فالداعي هو النبي صلى الله عليه وسلم والدار هي الجنة فمن أطاعه صلى الله عليه وسلم واتبع ما جاء به فقد أجاب الدعوة واستحق دخول الجنة والتمتع في نعيمها. وأما من عصى النبي صلى الله عليه وسلم وخالفه ولم يستجب لما جاء به فذلك الذي لم يستجب لدعوته فحرم من الدخول في الدار التي هي الجنة وحرم من الأكل من المأدبة التي هي النعيم الدائم في الجنة. وأما الحديث الثالث: فالمثل المضروب فيه يصور مدى حرصه صلى الله عليه وسلم على حماية الأمة من الوقوع فيما يسخط الرب تبارك وتعالى ويوجب عقابه وأليم عذابه، فهو صلى الله عليه وسلم الموصوف بقوله تعالى: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 2.

_ 1 الآية (28) من سورة سبأ. 2 الآية (128) من سورة التوبة.

والشاهد من الحديث قوله: "أنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تقتحمون فيها" ومما لا شك فيه أن اقتحام الناس للنار ناتج عن مخالفتهم لأوامر النبي صلى الله عليه وسلم ووقوعهم فيما نهى وحذر منه فبهذا يكون هلاكهم وعذابهم. والمتأمل لهذه الأحاديث الثلاثة وما ضرب فيها من أمثال يدرك - إن كان له قلب وسمع سَلِيمان - ما في هذه الأحاديث من الحث على طاعة النبي صلى الله عليه وسلم واتباعه والأجر العظيم المترتب على ذلك، كما يدرك عظم العقوبة والخسارة المترتبة على عصيانه ومخالفته وعدم الانقياد له. والسؤال الذي يفرض نفسه ههنا هو التالي: هل أنت ممن أطاع البشير النذير صلى الله عليه وسلم؟ وهل أنت ممن أجاب الداعي صلى الله عليه وسلم؟ وهل أنت ممن استجاب لتحذيره صلى الله عليه وسلم فحمى نفسه من نار جهنم؟. وقبل أن تعجل بالإجابة انظر إلى أعمالك وأقوالك هل هي وفق شريعته وما جاء به صلى الله عليه وسلم أم لا؟ فههنا يكمن الجواب. فيا سعادة من أطاعه واتبعه. ويا خزي وندامة من خالفه وعصى أمره، والله تعالى يقول: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً} 1، وقال تعالى: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا} 2. ج- حثه صلى الله عليه وسلم لأمته على التمسك بسنته وتحذيره من مخالفتها.

_ 1 الآية (27) من سورة الفرقان. 2 الآية (66) من سورة الأحزاب.

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ قال أحدهم: أما أنا فأنا أصلي الليل أبدا. وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر. وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني" 1. وحديث أنس هذا يعد قاعدة جليلة من قواعد التأسي والاتباع وذلك لما حواه من توجيهات هامة جدا في هذا الشأن منها: أ- أن الابتداع في الدين أمر مردود وغير مقبول بل يعد من الرغبة عن سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم والخروج عن شريعته، ومن أجل ذلك فليس لأحد كائنا من كان سوى النبي صلى الله عليه وسلم حتى وإن كان من أصحابه - أن يشرع في هذا الدين أو يدخل فيه أمرا حتى وإن كان ذلك بدافع التقرب إلى الله. فأولئك النفر من الصحابة رضوان الله عليهم دفعهم حب التقرب إلى الله إلى أن قالوا ما قالوه من الأمور التي تعد من الرهبانية، ولما كان قولهم ذلك يعد مخالفة لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الحنيفية السمحة وجههم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصواب وحذرهم من أن يحيدوا

_ 1 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب النكاح: باب الترغيب في النكاح. انظر: فتح الباري (9/ 104) ح 563 واللفظ له. ومسلم في صحيحه، كتاب النكاح: باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ... انظر: (4/ 128) .

عن سنته ويرغبوا عنها بقوله "فمن رغب عن سنتي فليس مني" والمراد أن من ترك طريقتي وأخذ طريقة غيري فليس مني. ومن هذا الحديث يعلم أن كل أمر ليس من سنته صلى الله عليه وسلم والشرع الذي جاء به فهو أمر مبتدع مردود على صاحبه إضافة الى اعتبار فاعله راغبا عن سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم. 2- حثه صلى الله عليه وسلم على التمسك بما هو عليه وهى الحنيفية السمحة فهذا ما دل عليه قوله: "لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء". فالإسلام دين الفطرة ونبينا صلى الله عليه وسلم حرص بقوله هذا على سد باب التشديد المتمثل في الرهبانية فلا رهبانية في الإسلام، وفى هذا يقول صلى الله عليه وسلم: "إن الرهبانية لم تكتب علينا" 1 فعلى هذا فهي أمر مخالف لسنته وهديه صلى الله عليه وسلم. وعن العرباض بن سارية2 رضي الله عنه قال: "وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون. فقلنا: يارسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا. قال: "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد، وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة" 3.

_ 1 أخرجه أحمد بن حنبل في المسند (6/ 226) . 2 العرباض بن سارية السلمي أبو نجيح، صحابي مشهور من أهل الصفة، مات سنة خمس وسبعين للهجرة وقيل قبل ذلك. الإصابة (2/ 466) . 3 أخرجه الإمام أحمد في مسنده (4/ 126، 127) . وأخرجه أبو داود في سننه، كتاب السنة: باب في لزوم السنة (5/ 13، 15) ح 4607، وأخرجه الترمذي في سننه، كتاب العلم: باب في الأخذ بالسنة واجتناب البدعة (5/ 44) ح 2676 وقال: هذا حديث حسن صحيح وابن ماجة في سننه، في المقدمة: باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين (1/ 16) . وابن حبان في صحيحه (1/ 139) والحاكم في المستدرك (1/ 96) وصححه ووافقه الذهبي، والآجري في الشريعة (46، 47) ، والدارمي في سننه، باب اتباع السنة (1/ 44، 45) وقال الألباني: سنده صحيح، وصححه جماعة منهم الضياء المقدسي في اتباع السنن واجتناب البدع، انظر: مشكاة المصابيح (1/ 58) ح 165.

فوصية النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه ولأمته من بعدهم هي أن يتمسكوا بما سنه من أحكام وتشريعات أشد التمسك وأن يحذروا الابتداع في الدين وحكم على تلك المحدثات بالضلال والانحراف عن الطريق الذي رسمه. وقد رسم النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث ركيزتين أساسيتين في هذا الدين هما: 1- الاتباع، 2- ترك الابتداع. ولقد سار الصحابة رضوان الله عليهم على هذه الوصية النبوية وعملوا بها، فلم يحيدوا عن سنته صلى الله عليه وسلم، بل عملوا بها ونقلوها للأمة المحمدية من بعدهم كما سمعوها منه صلى الله عليه وسلم وكذلك فقد كانوا أشد الناس تمسكا بسنته، وأشدهم محاربة للابتداع، في الدين، وقد كان في هذا صلاحهم وفلاحهم ونجاتهم ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح أولها. ومن المؤسف أن كثيرا من المسلمين في وقتنا الحاضر قد اختلت عندهم كلا الركيزتين فتركوا الاتباع والاقتداء بسنة النبي صلى الله عليه وسلم حتى أصبحت السنة عندهم أمرا مستغربا مستنكرا لجهلهم بها وبعدهم عنها واستبدلوا بذلك البدع التي لا أصل لها ولا دليل عليها من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فاتخذوها دينا يدينون به فانعكست بذلك الموازين لديهم فأصبحوا يرون الحق باطلا والباطل حقا، والمعروف منكرا والمنكر معروفا، وما ذلك إلا لكونهم لم يعرفوا من الإسلام

إلا اسمه ولا من الدين إلا رسمه بسبب ما هم عليه من قلة العلم وعدم معرفتهم بالسنة. فأين هؤلاء من وصية المصطفى صلى الله عليه وسلم بأن يتبعوا ولا يبتدعوا. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ذروني ما تركتكم، فإنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم" 1. والشاهد من الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيءفأتوا منه ما استطعتم ". وهذا التوجيه النبوي الكريم مماثل لما سبق في الأحاديث السابقة من الحث على لزوم السنة والتأكيد على اتباعها والأخذ بها إلا أنه يضيف أمرا هاما وهو أن الطاعة في جانب المأمورات تجب في حدود الاستطاعة والطاقة، وهذا من اليسر الذي امتازت به الرسالة المحمدية قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} 2. ففي جانب الأوامر علينا السمع والطاعة في حدود ما نطيق ونستطيع، أما في جانب النواهي فيجب التسليم المطلق دون قيد أو شرط. فبهذه الإضافة يتحدد معلم من معالم الطاعة يجب على المسلم أن يدركه ويعي مضمونه.

_ 1 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الاعتصام: باب الاقتداء بسنن الرسول صلى الله عليه وسلم. انظر: فتح الباري (13/ 251) ح 7288، ومسلم في صحيحه، كتاب الحج: باب فرض الحج مرة في العمر (4/ 102) . 2 الآية (286) من سورة البقرة.

د- بيانه لمواقف الناس من الأخذ بدعوته واتباع سنته صلى الله عليه وسلم. عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن مثل ما بعثني الله به عز وجل من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكان منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله منها الناس، فشربوا منها، وسقوا، وزرعوا. وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه الله به فعَلِم وعَلَّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به"1. وفى هذا الحديث قسم النبي صلى الله عليه وسلم الناس - فيما يتصل بدعوته - إلى ثلاثة أقسام. وشبه صلى الله عليه وسلم العلم الذي جاء به بالغيث لأن كلا منهما سبب الحياة، فالغيث سبب حياة الأبدان، والعلم سبب حياة القلوب. وشبه القلوب بالأودية كما في قوله تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} 2. وكما أن الأراضين ثلاثة بالنسبة إلى قبول الغيث: إحداها: أرض زكية قابلة للشراب والنبات، فإذا أصابها الغيث ارتوت، ومنه يثمر النبت من كل زوج بهيج. فذلك مثل القلب الزكي الذكي، فهو يقبل العلم بذكائه، فيثمر فيه وجوه الحكم ودين الحق بزكائه، فهو قابل للعلم، مثمر لموجبه وفقهه وأسرار معادنه. والثانية: أرض صلبة قابلة لثبوت ما فيها وحفظه، فهذه تنفع الناس لورودها

_ 1 تقدم تخريجه ص 45 2 الآية (17) من سورة الرعد.

والسقي منها والازدراع. وهو مثل القلب الحافظ للعلم الذي يحفظه كما سمعه، فلا تصرف فيه، ولا استنبط، بل للحفظ المجرد فهو يؤدي كما سمع، وهو من القسم الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: "فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه غيرفقيه" 1. فالأول: كمثل الغني التاجر الخبير بوجوه المكاسب والتجارات فهو يكسب بماله ما شاء. والثانى: مثل الغني الذي لا خبرة له بوجوه الربح والمكسب، ولكنه حافظ لما لا يحسن التصرف والتقلب فيه. والأرض الثالثة: أرض قاع، وهو المستوي الذي لا يقبل النبات، ولا يمسك ماء، فلو أصابها من المطر ما أصابها لم تنتفع منه بشيء. فهذا مثل القلب الذي لا يقبل العلم والفقه والدراية، وإنما هو بمنزلة الأرض البور التي لا تنبت ولا تحفظ، وهو مثل الفقير الذي لا مال له ولا يحسن يمسك مالا. فالأول: عالم معلم، وداع إلى الله على بصيرة، فهذا من ورثة الرسل. والثاني: حافظ مؤد لما سمعه، فهذا يحمل لغيره ما يتجر به المحمول إليه ويستثمر.

_ 1 أخرجه ابن ماجة في السنن (2/ 188) ، كتاب المناسك: باب الخطبة يوم النحر. وأخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 87) ، وقال: "وفي الباب عن جماعة من الصحابة"، وقد جمع طرق هذا الحديث الشيخ عبد المحسن العباد في كتاب سماه "دراسة حديث: نضر الله امرءا سمع مقالتي ... رواية ودراية" وذكر أن الحديث صحيح وبلغ حد التواتر.

والثالث: لا هذا ولا هذا، فهو الذي لم يقبل هدى الله ولم يرفع به رأسا فاستوعب هذا الحديث أقسام الخلق في الدعوة النبوية ومنازلهم. منها قسمان: قسم سعيد، وقسم شقي"1

_ 1 الرسالة التبوكية (ص 55، 56) .

المطلب الثالث: دليل الإجماع على وجوب طاعته.

المطلب الثالث: دليل الإجماع على وجوب طاعته. الإجماع من الأمة منعقد على وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعه في جميع ما جاء به من ربه عز وجل، وذلك لثبوت الأمر بهذا في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بل إن الأمر بوجوب طاعته صلى الله عليه وسلم يعد من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة التي لا يعذر إنسان بجهلها. وقد حكى الشافعي رحمه الله تعالى إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم، على أن من استبانت له سنة رسوله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد. ولم يسترب أحد من أئمة الإسلام في صحة ما قاله الشافعي فإن الحجة الواجب اتباعها على الخلق كافة إنما هو قول المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى1. وقد تمثل إجماع الأمة على وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعه في اعتبار السنة هي المصدر الثاني من مصادر التشريع وذلك بعد المصدر الأول الذي هو القرآن الكريم2. والمقصود بالسنة هنا ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من أقواله وأفعاله وتقريراته. فالصحابة والتابعون وتابعوهم ومن سار على نهجهم يؤمنون بهذا الأصل الذي هو سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ويوجبون العمل والاحتجاج بها، ويعتبرونها مصدرا مستقلا في التشريع، فلا يجب عرض ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم على القرآن، بل يجب اتباعه وطاعته مطلقا سواء كان ما أمر به في الكتاب أو لم يكن

_ 1 الرسالة التبوكية لابن القيم (ص 37) . 2 مجموع الفتاوى (11/ 339) .

ولقد كان من مظاهر ذلك الإجماع الاعتناء بسنته وحفظها ونقلها، وتعليمها في كل عصرمن العصور. فلقد اعتُني بالسنة فنقلها الخلف عن السلف، وحافظوا عليها، ووضعوا لها القواعد التي اعتنت بسلامتها سندا ومتنا. والنقول عن السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم ومن سار على نهجهم في وجوب طاعته صلى الله عليه وسلم واتباع ما جاء به وتعظيمهم لسنته والعمل بها كثيرة جدا. ومن تلك النقول ما يلي: أ- الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. - أبو بكر الصديق رضي الله عنه: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتد من ارتد من العرب، قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: والله لأقتلن من فرق بين الصلاة والزكاة. فقال له عمر رضي الله عنه: كيف تقاتلهم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها". فقال أبو بكر الصديق: أليست الزكاة من حقها؟، والله لو منعوني عناقا1 كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها. فقال عمر رضي الله عنه: فما هو إلا أن عرفت أن الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق"2.

_ 1 العناق هي الأنثى من أولاد المعز ما لم يتم له سنة. النهاية (3/ 311) . 2 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الزكاة: باب وجوب الزكاة، انظر: فتح الباري (3/ 262) ح 1399، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان: باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله (1/ 28) .

فهذه الحادثة تمثل مدى تمسك خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وحرصه على تطبيق شرعه في وقت ارتد فيه أكثر العرب في جزيرة العرب، ولم يبق على الإسلام سوى أهل المدينة ومكة والطائف، ولقد تابع الصحابة أبا بكر في موقفه ذلك فقاتلوا أهل الردة بما فيهم مانعي الزكاة فكان موقفهم ذلك أوضح دليل على تعظيم السنة ووجوب العمل بها. وقد جاءت الجدة إلى الصديق رضي الله عنه تسأله عن ميراثها فقال لها: ليس لك في كتاب الله شيء، ولا أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى لك بشيء وسأسأل الناس. ثم سأل رضي الله عنه الصحابة فشهد عنده بعضهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الجدة السدس فقضى لها بذلك1. وفي هذا دليل على: تمسك الصديق بسنة المصطفى والعمل بها، وقال رضي الله عنه: "لست تاركا شيئا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به إلا عملت به، إني أخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ"2. وعن ابن سيرين3 قال: "لم يكن أحد أهيب بما لا يعلم من أبي بكر

_ 1 أخرجه مالك في الموطأ، كتاب الفرائض: باب ميراث الجدة (ص 346) رقم،1087 وأخرجه أبو داود في السنن، كتاب الفرائض: باب ما جاء في ميراث الجدة (3/ 316، 317) ح 2894، وأخرجه الترمذي في السنن، كتاب الفرائض: باب ما جاء في ميراث الجدة (4/ 419، 420) ح 2100، 2101، وأخرجه ابن ماجه في السنن، أبواب الفرائض، باب ميراث الجدة (2/ 120) ح 2756. 2 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فرض الخمس: باب فرض الخمس فتح الباري (6/ 197) ح 3093، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا نورث وما تركنا صدقة" (5/ 155) . 3 محمد بن سيرين الأنصاري مولاهم، مولى أنس بن مالك، تابعي جليل كان إمام وقته، مات سنة 110 هـ. تهذيب التهذيب (9/ 214، 217) .

رضي الله عنه، ولم يكن أحد بعد أبي بكرأهيب بما لا يعلم من عمررضي الله عنه وإن أبا بكر نزلت به قضية فلم يجد في كتاب الله منها أصلا، ولا في السنة أثرا فاجتهد برأيه، ثم قال هذا رأي فإن كان صوابا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني وأستغفر الله"1. - عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ورد عنه أنه كان يقول: "إن أصدق القيل قيل الله، ألا وإن أحسن الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة ضلالة...."2 وكان عمر رضي الله عنه يوصي عماله أن يقضوا بين الناس بكتاب الله فإن لم يجدوا القضية في كتاب الله فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فعن الشعبي3 عن شريح4 أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إليه إن جاءك شيء في كتاب الله فاقض به ولا يلتفتك عنه الرجال، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله فانظر سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقض بها، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ولم يكن فيه سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم فانظر ما اجتمع عليه الناس فخذ به، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ولم يكن في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتكلم فيه أحد من قبلك فاختر أي الأمرين شئت: إن شئت أن تجتهد برأيك ثم تقدم فتقدم، وإن

_ 1 إعلام الموقعين (1/ 54) . 2 السنة للالكائي (1/ 84) ح 100، والبدع والنهي عنها لابن وضاح (ص 24) . 3 عامر بن شراحيل الشعبي: أهله من حمير اليمن، قال فيه مكحول: "ما رأيت أحدا أعلم بسنة ماضية من الشعبي وقد تولى القضاء في عهد عمر بن عبد العزيزعلى الكوفة، توفي سنة 105 هـ وقيل قبل ذلك. تهذيب التهذيب (5/ 65- 69) . 4 شريح بن الحارث بن قيس الكندي، القاضي،، مخضرم، ثقة، استقضاه عمر. مات قبل الثمانين أوبعدها. تهذيب التهذيب (4/ 326، 328) .

شئت أن تتأخر فتأخر ولا أرى التأخر إلا خيرا لك"1. وروى البخاري بسنده عن أبي وائل2 قال: جلست إلى شيبة في هذا المسجد، قال: جلس إلي عمر في مجلسك هذا فقال: هممت أن لا أدع فيها صفراء ولا بيضاءإلا قسمتها بين المسلمين. قلت: ما أنت بفاعل. قال: لم؟ قلت: لم يفعله صاحباك. قال: هما المرءان يقتدى بهما"3. وعن عبد الله بن عمررضي الله عنهما قال: قيل لعمرألا تستخلف؟، قال: إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني أبو بكر، وإن أترك فقد ترك من هو خير مني رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأثنوا عليه، فقال: راغب وراهب4 وددت أني نجوت منها كفافا لا لي ولا علي لا أتحملها حيا وميتا"5.

_ 1 أخرجه الدارمي في السنن (1/ 60) ، وأورده السيوطي في مفتاح الجنة (ص 46) وعزاه للبيهقي والدارمي. 2 شقيق بن سلمة الأسدي أبو وائل الكوفي، أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره. قال ابن معين: "ثقة لا يسأل عن مثله" مات سنة 82 هـ. تهذيب التهذيب (4/ 361، 363) . 3 أخرجه في صحيحه، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة: باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم. انظر: فتح الباري (13/ 249) ح 1275. 4 قال ابن حجر: "قال ابن بطال: يحتمل أمرين: أحدهما: أن الذين أثنوا عليه إما راغب في حسن رأيي فيه وتقريري له، وإما راهب من إظهار ما يضره من كراهته. أو المعنى راغب فيما عندي وراهب مني. أو المراد الناس راغب في الخلافة وراهب منها، فإن وليت الراغب فيها خشيت أن لا يعان عليها، وان وليت الراهب منها خشيت أن لا يقوم بها. وذكر القاضي عياض توجيها آخر: أنهما وصفان لعمر أي راغب فيما عند الله، وراهب من عقابه فلا أعول على ثنائكم وذلك يشغلني عن العناية بالاستخلاف عليكم فتح الباري (3/ 207) . 5 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأحكام: باب الاستخلاف واللفظ له. انظر: فتح الباري (13/ 255، 256) . وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة: باب الاستخلاف وتركه (6/4، 5) .

وجاء في رواية لمسلم قال عبد الله: فوالله ما هوإلا أن ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكرفعلمت أنه لم يكن ليعدل برسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا وأنه غير مستخلف"1. فعمر بن الخطاب رضي الئه عنه تمسك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدمها على سنة أبي بكر مع أن العمل بها جائز عنده. ولما قبل رضي الله عنه الحجر الأسود قال: "أما والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استلمك ما استلمتك"2. - عثمان بن عفان3 رضي الله عنه: عن زينب بنت كعب بن عجرة4 أن الفريعة بنت مالك بن سنان5 وهي أخت أبي سعيد الخدري، أخبرتها: "أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة، وأن زوجها خرج في طلب أعبد له أبقوا حتى إذا كان بطرف القدوم لحقهم فقتلوه. قالت: فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أرجع إلى أهلي فإن زوجي لم يترك لي مسكنا يملكه ولا نفقة. قالت: فقال

_ 1 أخرجه في صحيحه، كتاب الإمارة، باب الاستخلاف وتركه (6/ 5) 2 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الحج: باب الرمل في الحج والعمرة، واللفظ له. انظر: فتح الباري (3/ 471) ح 1605، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الحج: باب استحباب تقبيل الحجر الأسود في الطواف (4/ 67) . 3 عثمان بن عفان، ولد بعد الفيل بست سنين، أسلم على يد الصديق، وقد تزوج بنتي رسرل الله صلى الله عليه وسلم: رقية وأم كلثوم ولذلك سمي ذا النورين، وقد ولي الخلافة سنة 24 هـ، وقعت في عهده الفتنة فقتل رضي الله عنه سنة 35 هـ. تهذيب التهذيب (7/ 139، 142) . 4 زينب بنت كعب بن عجرة صحابية تزوجها أبو سعيد الخدري. الإصابة (4/ 312) . 5 الفريعة بنت مالك بن سنان الخدرية، صحابية جليلة وقصتها مذكورة في الحديث الذي معنا. الإصابة (4/ 375) .

رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم". قالت: فانصرفت حتى إذا كنت في الحجرة (أو في المسجد) نادانى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أمر لي فنوديت له، فقال: "كيف قلت؟ "، قالت: فرددت عليه القصة التي ذكرت له من شأن زوجي. قال: "امكثى في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله". قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرا. قالت: فلما كان عثمان أرسل إلي فسألني عن ذلك فأخبرته وقضى به"1. والشاهد من هذا الحديث أن عثمان لما أشكل عليه حكم اعتداد المرأة في بيتها بعد وفاة زوجها، أرسل إلى الفريعة بنت مالك يسألها فأخبرته أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها بعد وفاة زوجها أن تمكث في بيته حتى يبلغ الكتاب أجله. فقضى عثمان رضي الله عنه بسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم. - علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لما بلغه أن عثمان رضي الله عنه ينهى عن متعة الحج، أهل علي رضي الله عنه بالعمرة والحج جميعا وقال: "ما كنت لأدع سنة النبي صلى الله عليه وسلم لقول أحد"2. وعنه رضي الله عنه أنه قال: "ألا إني لست بنبي ولا يوحى إلي ولكني

_ 1 أخرجه الإمام مالك في الموطأ (2/ 591) في الطلاق، باب مقام المتوفي عنها زوجها في بيتها وأخرجه أبو داود في السنن، كتاب الطلاق، باب في المتوفي عنها تنتقل (2/ 723، 724) ح 2300، وأخرجه الترمذي في سننه، كتاب الطلاق: باب ما جاء أين تعتد المتوفي عنها زوجها واللفظ له، وقال: هذا حديث حسن صحيح (3/ 508) ح 1204، وأخرجه النسائي، في السنن الصغرى: كتاب الطلاق باب مقام المتوفي عنها زوجها في بيتها حتى تحل (6/ 199) . 2 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الحج: باب التمتع والقران والإفراد بالحج ... انظر فتح الباري (3/ 421) ، وأخرجه مسلم في صحيحه كتاب الحج، باب جواز التمتع (4/ 46) .

أعمل بكتاب الله وسنة محمد صلى الله عليه وسلم ما استطعت"1. - أبي بن كعب وضي الله عنه 2: روي عنه أنه قال: "عليكم بالسبيل والسنة فإنه ما على الأرض من عبد على السبيل والسنة ذكر الله في نفسه ففاضت عيناه من خشية ربه فيعذبه الله أبدا، وما على الأرض من عبد على السبيل والسنة ذكر الله في نفسه فاقشعر جلده من خشية الله إلا كان مثله كمثل شجرة قد يبس ورقها فهي كذلك إذ أصابتها ريح شديدة، فتحات عنها ورقها، إلا حط الله خطاياه كما تحات من الشجرة ورقها، فإن اقتصادا في سبيل وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة وموافقة بدعة، وانظروا أن يكون عملكم إن كان اجتهادا واقتصادا أن يكون على منهج الأنبياء وسنتهم"3. - عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: روي عنه أنه قال: "من أحدث رأيا ليس في كتاب الله ولم تمض به سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يدر ما هو عليه إذا لقي الله عز وجل"4. وعنه رضي الله عنه قال: "عليك بتقوى الله والاستقامة واتبع ولا تبتدع"5

_ 1 أورده القاضي عياض في الشفا (2/ 556) . 2 أبي بن كعب الأنصاري، كان من أصحاب العقبة الثانية وشهد بدرا فما بعدها سيد القراء وهو أول من كتب للنبي صلى الله عليه وسلم، توفي سنة 22 هـ. الإصابة (1/ 31- 32) . 3 أخرجه ابن المبارك في الزهد (2/ 21، 22) واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1/ 54) ، وأبو نعيم في الحلية (1/ 252- 253) . 4 أخرجه الدارمي في سننه، باب الفتيا وما فيه من الشدة (1/ 57) وأخرجه ابن وضاح في البدع والنهي عنها، باب تغيير البدع (ص 38) . وأورده الشاطبي في الاعتصام (1/ 81) . 5 أخرجه الدارمي في سننه، باب من هاب الفتيا وكره التنطع والتبدع (1/ 53) .

- عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: روي عنه رضي الله عنه أنه قال: "اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم" 1، وعنه أنه قال: "إنا نقتدي ولا نبتدئ ونتبع ولا نبتدع ولن نضل ما تمسكنا بالأثر"2. وعنه رضي الله عنه أنه قال: "الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة"3. - عبد الله بن عمررضي الله عنهما: فعن سالم بن عبد الله4 أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنكم إليها". فقال بلال بن عبد الله5: والله لنمنعهن. قال: فأقبل عليه عبد الله فسبه سبا سيئا ما سمعته سبه مثله قط. وقال: أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول والله لنمنعهن6.

_ 1 أخرجه الدارمي في سننه، باب في كراهة أخذ الرأي (1/ 69) ، وأخرجه ابن وضاح في البدع والنهي عنها، باب ما يكون من بدعة (ص 10) ، وأخرجه اللالكائي في السنة (1/ 86) ح 104، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 181) : رجاله رجال الصحيح. 2 أخرجه اللالكائى في السنة (1/ 86) ح 106. 3 أخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 103) وقال على شرطهما وأقره الذهبي، واللالكائى في السنة (1/ 55) ح 14، وابن وضاح في البدع والنهي عنها (ص 11) وابن عبد البر في جامعه (2/ 230) . وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 188) رجاله ثقات. 4 سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، أحد فقهاء المدينة السبعة ومن أفاضل التابعين، مات سنة 106 هـ. تهذيب التهذب (3/ 437، 438) . 5 بلال بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، ذكره مسلم في الطبقة الأولى من المدنيين وعده يحي القطان في فقهاء أهل المدينة. تهذيب التهذيب (1/ 554) . 6 أخرجه بهذا اللفظ مسلم في صحيحه، كتاب الصلاة: باب خروج النساء إلى المساجد (2/ 32) .

قال رضي الله عنه: "يا معشر القراء استقيموا فقد سبقتم سبقا بعيدا، فإن أخذتم يمينا وشمالا لقد ضللتم ضلالا بعيدا"1. قال ابن حجر: "فقوله: "يا معشر القراء" المراد بهم العلماء بالقرآن والسنة العباد. وقوله: "استقيموا" أي اسلكوا طريق الاستقامة وهي كناية عن التمسك بأمر الله فعلا وتركا. وقوله "سبقتم" بفتح أوله كما جزم به ابن التين وحكى غيره ضمه والأول المعتمد، والمراد أنه خاطب بذلك من أدرك أوائل الإسلام فإذا تمسك بالكتاب والسنة سبق إلى كل خير لأن من جاء بعده إن عمل بعمله لم يصل إلى ما وصل إليه من سبقه إلى الإسلام، وإلا فهو أبعد منه حسا وحكما. وقوله "فإن أخذتم يمينا وشمالا" أي خالفتم الأمر المذكور. وكلام حذيفة منتزع من قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} "2. ب- من أقوال التابعين ومن بعدهم: - عمر بن عبد العزيز3 رحمه الله تعالى: فمما نقل عنه أنه كتب عامل له يسأله عن الأهواء؟، فكتب إليه: "أما بعد فإني أوصيك بتقوى الله والاقتصاد في أمره واتباع سنته

_ 1 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الاعتصام، باب الاقتداء انظر: فتح الباري (3/ 350) 2 فتح الباري (13/ 257) باختصار يسير. 3 عمر بن عبد العزيز، الخليفة الأموي الصالح عده بعضهم خامس الخلفاء، ولي الخلافة عام 99 هـ، وتوفي عام 101 هـ، وله أخبار في العدل والزهد كثيرة. تذكرة الحفاظ (1/ 118) .

وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وترك ما أحدث المحدثون بعده مما جرت به سنته وكفوا مؤنته، فعليك بلزوم السنة فإنها لك بإذن الله عصمة ... "1 وروي عنه أنه قال: "سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سننا، الأخذ بها تصديق بكتاب الله، واستكمال لطاعة الله وقوة على دين الله، من عمل بها فهو مهتد، ومن استنصر بها فهو منصور ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم وساءت مصيرا"2. - محمد بن مسلم الزهري3: روي عنه أنه قال: "كان من مضى من علمائنا يقولون الاعتصام بالسنة نجاة، والعلم يقبض قبضا سريعا، فنعش العلم ثبات الدين والدنيا، وفي ذهاب العلم ذهاب ذلك كله"4. - مجاهد بن جبر5: روي عنه أنه قال عند تفسير قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} الآية.

_ 1 الشريعة للآجري (ص 48) ، وكتاب البدع والنهي عنها لابن وضاح (ص 30) ، وكتاب الاعتصام للشاطبي (1/ 50) ، وجامع بيان العلم وفضله (ص 21) . 2 الشريعة للآجري (ص 48) ، وجامع بيان العلم وفضله (2/ 32) ، والاعتصام للشاطبي (1/ 87) . 3 تابعي من أهل المدينة، أول من دون الحديث وهو من كبار الحفاظ الفقهاء، لقي بعض الصحابة قال مالك: "بقي ابن شهاب وما له في الدنيا نظير"، توفي عام 124 هـ. التذكرة (108) ، والبداية (9/ 345) . 4 أخرجه الدارمي في سننه (1/ 45) باب اتباع السنة. 5 هو مجاهد بن جبر المكي تابعي إمام في التفسير، مات في السجود عام 104 هـ وقيل 103 هـ. التذكرة (92) ، والتهذيب (10/ 42) .

قال الرد إلى الله: الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول: الرد إلى السنة"1. - أبو العالية2: روي عنه أنه قال: "تعلموا الإسلام، فإذا تعلمتموه فلا ترغبوا عنه، وعليكم بالصراط المستقيم فإنه الإسلام، ولا تحرفوا الصراط يمينا أو شمالا، وعليكم بسنة نبيكم، وما كان عليه أصحابه"3. - أيوب السختياني4: روي عنه أنه قال: "إذا حُدث الرجل بسنة فقال: دعنا من هذا وأنبئنا عن القرآن، فاعلم أنه ضال"5. ج- الأئمة الأربعة: - أبو حنيفة النعمان6: روي عنه قوله رحمه الله: "إذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين،

_ 1 أخرجه الطبري في تفسيره (8/ 505) . 2 أبو العالية رُفيع - بضم الراء مصغرا - بن مهران الرياحي - مولى امرأة من بني رياح، قال أبو بكر ابن أبي داود: "ليس أحد أعلم بالقرآن بعد الصحابة من أبي العالية"، توفي عام 13 هـ. التذكرة (61) ، والطبقات (7/ 112) ، واللباب (2/ 46) . 3 أخرجه ابن وضاح في البدع والنهي عنها (ص 32) ، وأورده الشاطبي في الإعتصام (1/ 85) 4 هو: أبو بكر أيوب بن أبي تميمة السختيانى - بفتح السين - نسبة إلى عمل السختيان وبيعه - وهي الجلود الضأنية - قال ابن سعد: "كان أيوب ثفة ثبتا في الحديث جامعا عدلا ورعا كثير العلم حجة"، توفي سنة 131 هـ. انظر: الطبقات (7/ 246) ، واللباب (2/ 108) 5 أورده السيوطي في مفناح الجنة (ص 35) وعزاه للبيهقي. 6 أبو حنيفة هو النعمان بن ثابت التيمي مولاهم الكوفي، أحد الأئمة الأربعة وإليه ينتسب الأحناف ولد سنة 80 هـ، وتوفي سنة 150 هـ. البداية (10/ 107) .

وإذا جاء عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نختار من قولهم، وإذا جاء عن التابعين زاحمناهم"1 وروي عنه قوله: "آخذ بكتاب الله، فما لم أجد فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم أجد في كتاب الله ولا سنة أخذت بقول أصحابه، آخذ بقول من شئت منهم، وأدع قول من شئت منهم ولا أخرج من قولهم إلى قول غيرهم ... "2. - مالك بن أنس (إمام دار الهجرة) : قال رحمه الله تعالى: "من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدا خان الرسالة، لأن الله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} ، فما لم يكن يومئذ دينا فلا يكون اليوم دينا"3. وكان رحمه الله كثيرا ما يقول: وخير أمور الدين ما كان سنة ... وشر الأمور المحدثات البدائع4 ومن قوله كذلك: "قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تم هذا الأمر واستكمل، فإنما ينبغي أن نتبع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نتبع الرأي"5. وجاء رجل إلى مالك فسأله عن مسألة فقال له: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، فقال الرجل: أرأيت، فقال مالك: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 6

_ 1 المدخل إلى السنن الكبرى للبيهقي (ص 111) بتحقيق محمد ضياء الرحمن الأعظمي. 2 المدخل إلى السنن (ص 204) . 3 الإعتصام للشاطبي (1/ 49) . 4 الاعتصام للشاطبي (1/ 85) . 5 المصدر السابق (1/ 105) . 6 المدخل إلى السنن الكبرى للبيهقي (ص 201) .

- محمد بن إدريس الشافعي: ورد عنه أنه قال: "الحجة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم واتفاق الأئمة"1، وقال: "ليس في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا اتباعها"2 وروى رحمه الله يوما حديثا فقال له رجل: أتأخذ بهذا يا أبا عبد الله؟، فقال: متى ما رويت عن رسول الله حديثا صحيحا فلم آخذ به فأشهدكم أن عقلي قد ذهب"3. وروي عنه أنه قال: "إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوا ما قلت"4. وروي عنه أنه قال: "آمنت بما جاء عن الله، وبما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على مراد رسول الله"5. - أحمد بن حنبل (إمام أهل السنة) : ورد عنه قوله: "أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداء بهم وترك البدع وكل بدعة فهي ضلالة، وترك الخصومات والجلوس مع أصحاب الأهواء، وترك المراء والجدال والخصومات في الدين.

_ 1 رسالة التقليد لابن القيم (ص 83) . 2 الشفا (2/ 558) . 3 المدخل إلى السنن الكبرى للبيهقي (ص 205) رقم 250، وأخرجه ابن أبي حاتم في آداب الشافعي ومناقبه (ص 67) ، وأبو نعيم في الحلية (9/ 106) ، والخطيب في الفقيه والمتفقه (1/ 150) ، وأورده السيوطي في مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة (ص 49، 50) . 4 أخرجه الخطيب في الفقيه والمتفقه (1/ 150) ، والمدخل إلى السنن (ص 205) ، والحلية (9/ 107) . 5 مجموع الفتاوى (4/ 2) .

والسنة عندنا آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسنة تفسر القرآن وهي دلائل القرآن، وليس في السنة قياس، ولا تضرب لها الأمثال ولا تدرك بالعقول ولا الأهواء إنما هي الاتباع وترك الهوى"1. وقال أيضا: "الاتباع أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ثم هو بعد مع التابعين مخير"2. وما أوردته من آثار وأقوال عن السلف ههنا إنما هو عبارة عن نماذج لما ورد عنهم في هذا الشأن3. ويتضح من خلال تلك النصوص إجماع سلف الأمة وأئمتها على وجوب الأخذ بسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم والتمسك بها في كل الجوانب واتباع ما جاء به صلى الله عليه وسلم اعتقادا وقولا وعملا. والتحذير من مخالفة السنة والابتداع فيها وتقديم الهوى والرأي عليها.

_ 1 السنة للالكائي (1/ 156) . 2 إيقاظ همم أولي الأبصار (ص 113) . 3 من أراد الاستزادة من أقوال السلف في هذا الشأن فعليه بالكتب التالية: أ- أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للحافظ اللالكائي. ب- المدخل إلى السنن الكبرى للبيهقي. ج- الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع للسيوطي. د- مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة للسيوطي

المبحث الثاني: منهج السلف في اتباعه وطاعته

المبحث الثاني: منهج السلف في اتباعه وطاعته المطلب الأول: منهجهم في الاتباع ... المطلب الأول: منهجهم في الاتباع. بعث الله تبارك وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالرسالة الجامعة الخاتمة ألا وهي رسالة الإسلام التي ارتضاها عز وجل لتكون دينا ومنهاجا، يسير عليه الجن والإنس في حياتهم الدنيا حتى يتم لهم صلاح معاشهم الذي هم فيه، ومعادهم الذي سيصيرون إليه. ولقد شاء تبارك وتعالى أن يجعل لهذه الرسالة مصدرين للتلقي هما: 1- القرآن الكريم، 2- السنة النبوية. فالقرآن الكريم هو المصدر التشريعي الأول في الإسلام وهو كلام الله المنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل عليه السلام. والسنة هي المصدر الثاني لأنها مبينة لأحكامه موضحة لإبهامه ومخصصة لعمومه ومقيدة لإطلاقه وشارحة لأحكامه وأهدافه. قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} 1. وقال تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 2. فالرسول صلى الله عليه وسلم كما خص بالوحي المتلو وهو القرآن الكريم كذلك خص بالوحي غير المتلو وهو السنة التي لا مندوحة عن اتباعها.

_ 1 الآية (44) من سورة النحل. 2 الآية (64) من سورة النحل.

قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} . وقال صلى الله عليه وسلم: "ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه" 1. وبناء على ذلك فإن القرآن والسنة هما المنهلان العظيمان اللذان تستقي منهما الأمة المسلمة عقيدتها وشريعتها وكل ما فيه صلاح شؤونها في دنياها وآخرتها وهما المنهاج والنبراس الذي سار عليه السلف من الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم، في طاعتهم واتباعهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لاعتقادهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد جاء بهذين الأصلين وحيا من عند الله عز وجل، كما أنه أمر باتباعهما والأخذ بما فيهما اعتقادا وقولا وعملا. قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ، فهم من هذا المنطلق التزموا وتمسكوا بالقرآن والسنة وتلقوهما بالقبول والتسليم والإيمان والتعظيم فأحلوا حلالهما وحرموا حرامهما واتخذوا منهما منهجا لجميع شؤونهم وأحوالهم يرجعون إليه امتثالا لنداء الله حيث قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} . قال ابن القيم: "إن الناس أجمعوا أن الرد إلى الله سبحانه هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم هو الرد إليه نفسه في حياته وإلى سنته بعد وفاته"2.

_ 1 أخرجه أبو داود في سننه، كتاب السنة: باب في لزوم السنة (5/ 10) ح 4604 وأخرجه الإمام أحمد في المسند (2/ 243) . 2 إعلام الموقعين (1/ 49، 55) .

ومن هذين الأصلين - الكتاب والسنة - استقى السلف المسلك القويم والمنهج السليم الذي ساروا عليه في طاعتهم واتباعهم لرسولهم ونبيهم محمد صلى الله عليه وسلم وهذا المنهج يمكن تلخيصه في النقاط الرئيسية التالية: أولا: اتباع القرآن الكريم: فالقرآن الكريم هو كلام الله المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وحيا بواسطة جبريل عليه السلام، والذي تولى الله سبحانه وتعالى حفظه بقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 1. كما جعله نظاما ومنهجا يهتدي به عباده المؤمنون كما قال تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} 2. ولقد اعتنى السلف بكتاب الله عز وجل فحفظوه في صدورهم ومصاحفهم وصاروا يتلونه آناء الليل وأطراف النهار، وينفذون أحكامه وشرائعه جيلا بعد جيل في جميع جوانب حياتهم الفردية، والاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، وغيرها من الأمور الدنيوية والأخروية. كما تفرغ عبر القرون ثلة من خيارهم لدراسته وتفسيره واستنباط أحكامه ومعرفة ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، والاعتبار بدعوته وقصصه، ووعظه وإرشاداته وأمثاله. وهذا الموقف من السلف الصالح يمثل مظهرا من مظاهر التأسي والاقتداء بما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، كما يعد تطبيقا عمليا لما أوصى به عليه الصلاة والسلام أمته

_ 1 الآية (9) من سورة الحجر. 2 الآية (2) من سورة البقرة.

حيث قال: "تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله ... " 1 ثانيا: اتباع سنته صلى الله عليه وسلم والعمل بها: فلقد أوجب الله على العباد طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم واتباعه وقد تقدم إيراد الأدلة على ذلك2. ولقد عمل السلف بما أوجبه الله تعالى فأخذوا بسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم وعملوا بها أمرا ونهيا وخبرا، فكانت أقواله وأفعاله وتقريراته هي المصدر الثاني بعد كتاب الله عز وجل الذي تستقي منه الأمة أحكامها وتشريعاتها في شتى شؤون حياتها. ويعتقد السلف أن للسنة استقلاليتها في تشريع الأحكام وهي كالقرآن في تحليل الحلال وتحريم الحرام، فالأحكام التي سكت القرآن عن بيان حكمها وورد في السنة بيانها، فإن السلف يعملون بهذه الأحكام ويأخذون بها، ولا يرون أن هناك تعارضا البتة بين الأصلين. كما يعتقد السلف أن علاقة السنة بالمصدر الأول الذي هو القرآن تسير وفق الأوجه الثلاثة التالية: 1- أن تكون السنة موافقة للقرآن من كل وجه، فيكون توارد القرآن والسنة على الحكم الواحد من باب توارد الأدلة وتضافرها وذلك مثل الأحاديث التي تفيد وجوب الصلاة والزكاة والحج والصوم من غير تعرض لشرائطها وأركانها. 2- أن تكون بيانا لما أريد بالقرآن وتفسيرا له، وذلك مثل الأحاديث التي فصلت أحكام وهيئات الصلاة والصيام والحج والبيوع والمعاملات التي وردت مجملة في القرآن، وهذا القسم هو أغلب ما في السنة وأكثرها ورودا.

_ 1 تفدم تخريجه ص 120 2 انظر: المبحث الأول من هذا الفصل.

3- أن تكون موجبة لحكم سكت القرآن على إيجابه، أو محرمة لما سكت عن تحريمه، كالأحاديث التي أثبتت حرمة الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، وأحكام الشفعة وغير ذلك. فالسنة الصحيحة لا تخرج عن هذه الضوابط، كما أنها لا تعارض القرآن بوجه ما، فما كان منها زائدا على القرآن فهو تشريع مبتدأ من النبي صلى الله عليه وسلم تجب طاعته فيه ولا تحل معصيته، وليس هذا تقديما لها على كتاب الله، بل امتثال لما أمر الله به من طاعة رسوله التي أمر الله بها على جهة الاستقلال فقال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} فهذه الطاعة المأمورون بها هي طاعة مختصة به صلى الله عليه وسلم1، ويجب علينا العمل بها. فالسلف يؤمنون "بأن الله سبحانه نصَّب رسول الله صلى الله عليه وسلم منصب المبلغ المبين عنه، فكل ما شرعه للأمة فهو بيان منه عن الله أن هذا شرعه ودينه، ولا فرق يين ما يبلغه عنه من كلامه المتلو ومن وحيه الذي هو نظير كلامه في وجوب الاتباع، ومخالفة هذا كمخالفة هذا. فعلى سبيل المثال فإن الله أمرنا بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان، ثم جاء البيان عن رسوله صلى الله عليه وسلم بمقادير ذلك وصفاته وشروطه، فوجب على الأمة قبوله، إذ هو تفصيل لما أمر الله به، كما يجب علينا قبول الأصل المفصل، وهكذا أمر الله سبحانه بطاعته وطاعة رسوله، فإذا أمر الرسول بأمر، كان تفصيلا وبيانا للطاعة المأمور بها، وكان فرض قبوله

_ 1 إعلام الموقعين (2/ 307، 308) .

كفرض قبول الأصل المفصل، ولا فرق بينهما، والبيان من النبي صلى الله عليه وسلم على أقسام: أحدها: بيان نفس الوحي بظهوره على لسانه بعد أن كان خفيا. الثاني: بيان معناه وتفسيره لمن احتاج إلى ذلك كما بين أن الظلم المذكور في قوله {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} 1 هو الشرك وأن الحساب اليسير هو العرض وأن الخيط الأبيض والأسود هما بياض الليل وسواد النهار. الثالث: بيانه بالفعل كما بين أوقات الصلاة للسائل بفعله. الرابع: بيان ما سئل عنه من الأحكام التي ليست في القرآن فنزل القرآن ببيانها، كما سئل عن قذف الزوجة فجاء القرآن باللعان ونظائره. الخامس: بيان ما سئل عنه بالوحي وإن لم يكن قرآنا، كما سئل عن رجل أحرم في جبة بعدما تضمخ بالخلوق فجاء الوحي بأن ينزع عنه الجبة ويغسل أثر الخلوق. السادس: بيانه للأحكام بالسنة ابتداءً من غير سؤال، كما حرم عليهم لحوم الحمر، والمتعة، وصيد المدينة، ونكاح المرأة على عمتها وخالتها وأمثال ذلك. السابع: بيانه للأمة جواز الشيء بفعله هو له، وعدم نهيهم عن التأسي به. الثامن: بيان جواز الشيء بإقراره لهم على فعله وهو يشاهده، أو يعلمهم يفعلونه. التاسع: بيانه إباحة الشيء عفوا بالسكوت عن تحريمه وإن لم يأذن فيه نطقا. العاشر: أن يحكم القرآن بإيجاب شيء أو تحريمه أو إباحته ويكون لذلك الحكم شروط وموانع وقيود وأوقات مخصوصة وأحوال وأوصاف، فيحيل الرب سبحانه وتعالى على رسوله في بيانها كقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا

_ 1 الآية (82) من سورة الأنعام.

وَرَاءَ ذَلِكُمْ} 1 فالحل موقوف على شروط النكاح وانتفاء موانعه وحضور وقته وأهلية المحل"2. ومن هذا المفهوم والتصور الواضح لأهمية السنة ومكانتها ودورها في التشريع انطلقت أفعال السلف مترجمة لهذا التصور فكان من تلك الأفعال أن اعتنى السلف بالسنة فتضافرت جهود العلماء من لدن الصحابة والتابعين على حفظ السنة والعناية بها وصيانتها فحظيت منذ ذلك الحين بسياج من الحماية منقطع النظير، وقد اتبع الصحابة في ذلك كل سبيل يحفظ للسنة نورها وصفاءها، وكان من ذلك التحري والتثبت في روايتها خشية الوقوع في الخطأ وخوفا من أن يتسرب إليها التصحيف والتحريف، بل إن بعضهم فضل الإقلال من الرواية. قال ابن قتيبة3: "كان عمر شديد الإنكار على من أكثر الرواية أو أتى بخبر الحكم لا شاهد له عليه، وكان يأمرهم بأن يقلوا من الرواية يريد بذلك أن لا يتسمع الناس فيها ويدخلها الشوب ويقع التدليس والكذب من المنافق والفاجر والأعرابي. وكان كثير من جلة الصحابة وأهل الخاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم كأبي بكر والزبير4 وأبي عبيدة5 والعباس بن عبد المطلب يقلون الرواية عنه بل كان

_ 1 الآية (24) من سورة النساء. 2 أعلام الموقعين (2/ 314، 315) . 3 عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، صاحب التصانيف، صدوق قليل الرواية، توفي سنة 276 هـ. لسان الميزان (3/ 357- 359) . 4 الزبير بن العوام: من أول من أسلم بمكة، كان يسميه رسول الله صلى الله عليه وسلم "حواريه" لمحبته له، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، قتل سنة 36 هـ. الإصابة (1/ 526- 528) . 5 أبو عبيدة عامر بن عبد الله الجراح، أمين هذه الأمة، وأحد العشرة السابقين إلى الإسلام، هاجر الهجرتين وشهد بدرا وما بعدها، توفي سنة 18 هـ. الإصابة (2/ 243- 245) .

بعضهم لا يكاد يروي شيئا كسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل1 وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة"2. ولقد تبعهم من بعدهم من التابعين ومن بعدهم على ذلك. وكما احتاط السلف في التحديث احتاطوا وتثبتوا كذلك في قبول الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الذهبى: "كان أبو بكر رضي الله عنه أول من احتاط في قبول الأخبار، فروى ابن شهاب عن قبيصة بن ذؤيب3 أن الجدة جاءت إلى أبي بكر تلتمس أن تورث فقال: لا أجد لك في كتاب الله شيئا وما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر لك شيئا، ثم سأل الناس فقام المغيرة وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيها السدس. فقال: هل معك غيرك؟، فشهد محمد بن مسلمة بمثل ذلك فأنفذه لها أبو بكر رضي الله عنه". واستشار عمر بن الخطاب رضي الله عنه الناس في إملاص المرأة4، فقال المغيرة بن شعبة5: شهدت النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيه بغرة عبد أو أمة.

_ 1 سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، أسلم قبل دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم، شهد أحدا والمشاهد بعدها وكان من فضلاء الصحابة، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة توفي بالمدينة سنة خمسين وقيل بعد ذلك. الإصابة (2/ 44) . 2 كتاب تأويل مختلف الحديث، لابن قتيبة الدينورى (ص 30) . 3 قبيصة بن ذؤيب بن حلحلة الخزاعي، تابعي ثقة، ولد عام الفتح، وكان من فقهاء أهل المدينة وصالحيهم، مات سنة 86 هـ وقيل غير ذلك. تهذيب التهذيب (8/ 346، 347) . 4 هو أن تزلق الجنين قبل وقت الولادة. النهاية (4/ 356) . 5 المغيرة بن شعبة بن أبي عامر الثقفي، صحابي جليل، أسلم قبل عمرة الحديبية، وشهدها وبيعة الرضوان، وكان من دهاة العرب. مات سنة خمسين عند الأكثر. الإصابة (3/ 433، 434) .

فقال عمر: ائتني بمن يشهد معك. قال فشهد له محمد بن مسلمة1. وحدث لعمر مثل هذه الحادثة مع كثير من الصحابة منهم أبي بن كعب وأبو موسى وفي رواية: قال عمر لأبي موسى: "أما إني لم أتهمك ولكن خشيت أن يتقول الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم"2. وعن علي رضي الله عنه قال: كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا نفعني الله بما شاء منه وإذا حدثني عنه غيري استحلفته فإذا حلف لي صدقته ... "3 وهذا التثبت من الصحابة رضوان الله عليهم كان الحامل لهم عليه هو ألا يسترسل الناس في رواية الحديث ويتساهلوا فيه من غير تحر وتثبت كاف فيقعوا في الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم من حيث شعروا أو لم يشعروا، ويدلك على ذلك قول عمر بن الخطاب لأبي موسى الأشعرى: "أما إني لم أتهمك ولكن خشيت أن يتقول الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم". وهذه الشواهد عن ثلاثة من الخلفاء الراشدين تترجم حرصهم وجهودهم في المحافظة على السنة بأن لا يشوبها ما ليس منها. وقد تتابعت الجهود من الصحابة ومن جاء بعدهم على حفظ السنة وحمايتها إلى أن قعدت القواعد ووضعت الضوابط التي يعرف بها قوة الحديث أو وهنه وكان من تلك الضوابط علم إسناد الحديث فقد اعتني بهذا الجانب منذ وقت

_ 1 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب القسامة، باب دية الجنين (5/ 111، 112) . 2 أخرجه الإمام مالك في الموطأ (2/ 964) . 3 أخرجه أحمد في مسنده (1/ 2) ، وأخرجه ابن ماجة في سننه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها: باب ما جاء في أن الصلاة كفارة (1/ 446) ح 1395.

مبكر، واهتم به العلماء حتى جعلوه من الدين قال عبد الله بن المبارك1: "الإسناد من الدين، لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء"، وقال: "بيننا وبين القوم قوائم" يعني الإسناد2. ولقد اشتغل علماء الحديث بنقد الرواة وبيان حالهم ومن تقبل روايته ومن لا تقبل من خلال دراسة الراوي سيرة وتاريخا ومعتقدا وسلوكا، ولم تأخذهم في ذلك لومة لائم، وقد قيل ليحي بن سعيد القطان3: " أما تخشى أن يكون هؤلاء الذين تركت حديثهم خصماءك عند الله يوم القيامة؟، فقال: لأن يكون هؤلاء خصمي أحب إلي من أن يكون خصمي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لِمَ لَمْ تذُبَّ الكذب عن حديثي"4. وهذه لمحة وإشارة لما بذله السلف من جهود في حفظ السنة والذب عنها لتبقى منهلا صافيا تستقي منه الأمة أمور دينها ودنياها وآخرتها حتى يتحقق لها اتباع رسولها محمد صلى الله عليه وسلم الذي أمر الله بالاقتداء به والسير على نهجه والطاعة له في كل ماجاء به صلى الله عليه وسلم. ثالثا: ثم يلي الكتاب والسنة: فيما يجب التسليم له من أصول ما كان في معناهما بدليل جامع والمراد بذلك الإجماع والقياس الجلي الذي لا يصادم النص الشرعي.

_ 1 عبد الله بن المبارك المروزي، الإمام الحافظ، شيخ الإسلام، كان ثقة، مأمونا، حجة، كثير الحديث، مات سنة 181 هـ. تهذيب التهذيب (5/ 382- 389) . 2 السنة ومكانتها في التشريع الإ سلامي للدكتور مصطفى السباعي (ص 92) . 3 يحي بن سعيد بن فروخ القطان، من حفاظ الحديث، ثقة حجة من أقران مالك وشعبة، مات سنة 198هـ. تهذيب التهذيب (11/ 216- 5 22) . 4 السنة ومكانتها (ص 93) .

قال الشافعي: "الحجة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم واتفاق الأئمة". وقال أيضا: "والعلم طبقات، الأولى: الكتاب والسنة الثابتة ثم الإجماع فيما ليس في كتاب ولا سنة. الثالثة: أن يقول الصحابي فلا يعلم له مخالف من الصحابة. الرابعة: اختلاف الصحابة. الخامسة: القياس"1.

_ 1 أعلام الموقعين (2/ 248) .

المطلب الثاني: محاربة السلف لما يناقض الاتباع.

المطلب الثاني: محاربة السلف لما يناقض الاتباع. من الأمور التي سار عليها السلف في طاعتهم واتباعهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وجعلوها منهجا لهم في الاتباع محاربتهم لذلك الثالوث الخطير المتمثل في البدعة والتقليد، والرأي. فالسلف يعدون ذلك الثالوث مرضا خطيرا متى استشرى وانتشر في الأمة فإنه يفتك بعقيدتها وما هي عليه من الاتباع والسنة. قال ابن عباس رضي الله عنهما: "ما من عام إلا والناس يحيون فيه بدعة ويميتون فيه سنة حتى تحيا البدع وتموت السنن"1. وعن جابر بن زيد2 أن ابن عمر لقيه في الطواف فقال: "يا أبا الشعثاء إنك من فقهاء البصرة فلا تفت إلا بقرآن ناطق أو سنة ماضية فإنك إن فعلت غير ذلك هلكت وأهلكت"3. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "لا يقلدن أحدكم دينه رجلا إن آمن آمن وإن كفر كفر فإنه لا أسوة في الشر"4. وهذه النصوص الثلاثة المنقولة عن ثلاثة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تصور عظم خطر تلك الأمور على الأمة كما تصور حرصهم على تحذير الأمة من

_ 1 البدع والنهي عنها لابن وضاح (ص 39) . 2 جابر بن زيد الأزدي أبو الشعثاء البصري، تابعي، ثقة، كان من أعلم الناس بكتاب الله، مات سنة 93 هـ وقيل بعدها. تهذيب التهذيب (2/ 38) . 3 أخرجه الدارمي في السنن (1/ 59) . 4 إعلام الموتعين (2/ 195) .

خطرها وشرها الذي يهدد عقيدتهم وماهم عليه من الاتباع والسنة. أ- محاربتهم للبدعة: فأول تلك الأمور وأشدها خطرا على الأمة "البدعة" فالابتداع في الدين قد حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة" وقال: "فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة" 1. كما بين حكم البدعة بقوله: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد"2 ومع وقفة تأمل لما ورد في هذه الأحاديث نلمس الأمور التالية: ففي الحديث الأول والثاني وصف صلى الله عليه وسلم البدعة بكونها ضلالة وانحرافا عن الطريق والصراط المستقيم الذي رسمه صلى الله عليه وسلم لهذه الأمة والذي أوجب الله علينا اتباعه فيه. فالبدعة في الدين طريق غواية وضلال يجب الحذر منه والبعد عنه وهي إضافة إلى ذلك فإنها مخالفة لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ومحاربة لما جاء به من الهدى والنور إذ الوقوع في هذا المزلق الخطر الذي هو "البدعة" يترتب عليه

_ 1 أخرجه بهذا اللفظ مسلم في صحيحه، كتاب الجمعة: باب تخفيف الصلاة والخطبة (3/ 11) . وأخرجه البخاري موقوقا، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة: باب الاقتداء بسنن الرسول صلى الله عليه وسلم انظر: فتح الباري (13/ 249) ح 7277. 2 أخرجه بهذا اللفظ مسلم في صحيحه، كتاب الأقضية: باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور (5/ 132) وفي رواية: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" وهذه الرواية أخرجها البخاري في صحيحه، كتاب الصلح: باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود. فتح الباري (5/ 301) ح 2697.

أمور خطيرة منها الطعن في الدين لأن لسان حال المبتدع يقول إن الشريعة لم تتم وإنه بقي منها أشياء يجب استدراكها، لأنه لو كان معتقدا لكمالمها وتمامها من كل وجه لم يبتدع ولم يستدرك عليها. وإضافة إلى ذلك فإن المبتدع معاند للشرع ومشاق له لأن الشارع قد عين لمطالب العبد طرقا خاصة على وجوه خاصة وقصر الخلق عليها بالأمر والنهي والوعد والوعيد، وأخبر أن الخير فيها وأن الشر في تعديها إلى غير ذلك. فالمبتدع بحاله تلك يزعم أن ثم طرقا أخر وليس ما حصره الشارع بمحصور ولا ما عينه بمتعين، بل ربما يفهم من استدراكه الطرق على الشارع أنه علم ما لا يعلم الشارع وأحاط بما لم يحط به وهذا هو بعينه الضلال المبين الذي وصف النبي صلى الله عليه وسلم البدعة به حين قال: "وكل بدعة ضلالة" 1. ومع هذا وذاك فقد تجعل البدعة مع مرور الزمن ونتيجة لانتشارها بين الناس من الدين، فتصبح سنة يستنون بها وبخاصة العوام منهم الذين اعتادوا على التقليد والأخذ بكل ما هو منتشر بين الناس. بينما في الوقت نفسه تصبح السنن لغرابتها والجهل بها بدعا وهذا هو الحال في كل زمان ومكان انتشرت وعمت فيه البدع وقل فيه العلماء بأمور السنة. وأما الحديث الثالث وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" فهو حكم صريح على كل أمر محدث مبتدع في الدين وليس له أصل في الشرع بالرد وعدم القبول ولاشك أن هذا الحكم بتر لكل ما هو مبتدع في دين الله وشرعه، وإسقاط له. إضافة إلى كونه حماية لشرع الله

_ 1 الإبداع في مضار الابتداع للشيخ علي محفوظ (ص 99) بتصرف.

من كل ما يخل به. ولقد اتخذ السلف من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الشأن قواعد ساروا عليها في سبيل محافظتهم على السنة وصيانتها من شوائب البدع وشرورها. وإن المتأمل للنصوص الورادة عنهم في هذا الخصوص يلمس مدى حرصهم وتطبيقهم للتوجيهات النبوية التي تلقوها عن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم. فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "اتبعوا آثارنا ولا تبتدعوا فقد كفيتم"1. وعنه أنه رأى أناسا يسبحون بالحصا فقال: "على الله تحصون لقد سبقتم أصحاب محمد علما أو لقد أحدثتم بدعة ظلما"2. وعنه أنه قال: "الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة". وعن حذيفة رضي الله عنه أنه قال: "أخوف ما أخاف على الناس اثنتان أن يؤثروا ما يرون على ما يعلمون، وأن يضلوا وهم لا يشعرون". قال سفيان: هو صاحب البدعة3. وكان حذيفة رضي الله عنه يدخل المسجد فيقف على الخلق فيقول: "يا معشر القراء اسلكوا الطريق فلئن سلكتموها لقد سبقتم سبقا بعيدا، ولئن أخذتم يمينا وشمالا لقد ضللتم ضلالا بعيدا".

_ 1 أخرجه محمد بن وضاح في البدع والنهي عنها (ص 10) . 2 البدع والنهي عنها لابن وضاح (ص 11) . 3 الإبداع في مضار الابتداع (ص 96) .

وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "والله ما أظن على ظهر الأرض اليوم أحدا أحب إلى الشيطان هلاكا مني. فقيل: كيف؟، فقال: والله إنه ليحدث البدعة في مشرق أو مغرب فيحملها الرجل إلي فإذا انتهت إلي قمعتها بالسنة فترد عليه"1. وعنه رضي الله عنه أنه قال: "عليكم بالاستقامة والأثر وإياكم والتبدع"2. وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: "أوشك قائل من الناس يقول: قد قرأت القرآن ولا أرى الناس يتبعوني، ما هم متبعي حتى أبتدع لهم غيره، فإياكم وما ابتدُع فإن كل ما ابتدُع ضلالة"3. وعنه أنه قال: "أيها الناس عليكم بالعلم قبل أن يرفع ألا وإن رفعه ذهاب أهله، وإياكم والبدع والتبدع والتنطع وعليكم بأمركم العتيق"4. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "كل بدعة ضلالة وإن رآها الناس حسنة"5. وعن الحسن البصري6 قال: "صاحب البدعة لا يزداد اجتهادا صياما وصلاة إلا ازداد من الله بعدا"7.

_ 1 أخرجه اللالكائي في السنة (1/ 55) ح 12. 2 أخرجه ابن وضاح في البدع والنهي عنها (ص 25) . 3 أخرجه ابن وضاح في البدع والنهي عنها (ص 25) . 4 المصدر السابق (ص 25) . 5 أخرجه اللالكائي في السنة (1/ 92) ح 226. 6 الحسن بن يسار البصري، ولد في عهد عمر، كان جامعا، عالما، رفيعا، ثقة، مأمونا، عابدا، ناسكا كبير العلم فصيحا توفي سنة 110 هـ. الطبقات لابن سعد (7/ 156) . 7 البدع والنهي عنها لابن وضاح (ص 27) .

وعنه قال: "لا تجالس صاحب بدعة فإنه يمرض قلبك"1. وعن أيوب السختيانى أنه كان يقول: "ما ازداد صاحب بدعة اجتهادا إلا ازداد من الله بعدا"2. وعن سفيان الثوري قال: "من جالس صاحب بدعة لم يسلم من إحدى ثلاث: إما أن يكون فتنة لغيره. وإما أن يقع في قلبه شيء فيزل به فيدخله الله في النار. وإما أن يقول والله ما أبالي ما تكلموا وإني واثق بنفسي فمن أمن الله على دينه طرفة عين سلبه إياه"3. وقال: "البدعة أحب إلى إبليس من المعصية، فإن المعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها"4. وعن أبي قلابة5 أنه قال: "لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم أو يلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون"6. وبعد: فما نقلته ههنا يعد جزءا يسيرا جدا مما ورد عن السلف من نصوص في الحث على ترك الابتداع في الدين والتحذير من مخاطره ومغبة الإقدام عليه وموقفهم من أهله، فلقد اشتد نكير السلف على البدعة وأصحابها والمجال هنا لا يتسع للاستفاضة في هذا الموضوع، وبما ذكر يحصل المقصود.

_ 1 المصدر السابق (ص 47) . 2 البدع والنهي عنها لابن وضاح (ص 27) . 3 المصدر السابق (ص 47) . 4 مجموع الفتاوى (11/ 472) . 5 أبو قلابة: عبد الله بن زيد الجرمي أحد الأعلام قال أيوب السختيانى: "كان والله من الفقهاء ذوي الألباب"، توفي سنة 104 هـ وقيل غير ذلك. تهذيب التهذيب (5/ 224، 226) . 6 البدع والنهي عنها (ص 48) .

ب- محاربتهم للتقليد: وأما الأمر الثاني من الأمور التي تشكل خطورة على الاتباع والسنة في رأي السلف فهو "التقليد" والفرق بينه وبين الاتباع أن التقليد: هو الرجوع إلى قول لا حجة لقائله عليه. وأما الاتباع: فهو ما ثبت عليه الحجة. فكل من اتبعت قوله من غير أن يجب عليك قبوله بدليل يوجب ذلك فأنت مقلده. وكل من أوجب الدليل عليك اتباع قوله فأنت متبعه. والاتباع في الدين مسوغ والتقليد ممنوع1. والتقليد الممنوع على ثلاثة أشكال: أحدها: الإعراض عما أنزل الله وعدم الالتفات إليه اكتفاء بتقليد الآباء أو المشايخ. الثاني: تقليد من لا يعلم المقلد أنه أهل لأن يؤخذ بقوله. الثالث: التقليد بعد قيام الحجة وظهور الدليل على خلاف قول المقلد. ولقد حارب السلف هذا النوع من التقليد وذموه واعتبروه مزلقا خطيرا يحرف المسلم وينحيه عن المنبع الذي يستمد منه دينه، ويجعله عرضة لكل بدعة، ومنقادا لكل شبهة، وتبعا لكل ناعق وإضافة إلى ذلك فإن التقليد له صلة وثيقة بالبدعة فالبدعة تؤخذ في غالب الأمر تقليدا لشيخ يعظم أو والد يحترم أو مجتمع تقدس فيه عاداته، ولذلك كان التقليد والابتداع سببين رئيسيين في ضلال الأمم وانحرافها عن منهج أنبيائهم. وقد حكى الله في كتابه العزيز عن بني إسرائيل أنهم سألوا موسى عليه

_ 1 إعلام الموقعين (2/ 197) .

السلام أن يجعل لهم إلها من الأصنام مقلدين في ذلك من مرّوا عليهم من عباد الأصنام قال تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرائيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ، إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 1، كما ذكر سبحانه أن ما وقع فيه اليهود والنصارى من الكفر بقول اليهود عزير ابن الله وقول النصارى المسيح ابن الله إنما هو نتيجة التقليد لمن قبلهم من الوثنيين قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} 2. كما ذم سبحانه صنيع اليهود والنصارى مع علمائهم حيث قلدوهم في جميع ما يقولون، فأحلوا لهم ما حرم الله، وحرموا عليهم ما أحل الله قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} 3. كما ذم سبحانه وتعالى من امتنع عن قبول الحق تقليدا للآباء فقال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ، قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} 4. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "وقد احتج العلماء بهذه الآيات في إبطال

_ 1 الآيتان (138، 139) من سورة الأعراف. 2 الآية (30) من سورة التوبة. 3 الآية (31) من سورة التوبة. 4 الآيتان (23، 24) من سورة الزخرف.

التقليد ولم يمنعهم كفر أولئك من الاحتجاج بها، لأن التشبيه لم يقع من جهة كفر أحدهما وإيمان الآخر، وإنما وقع التشبيه بين المقلدين بغير حجة للمقلد، كما لو قلد رجلا فكفر، وقلد آخر فأذنب، وقلد آخر في مسألة فأخطأ وجهها، كان كل واحد ملوما على التقليد بغير حجة، لأن كل ذلك تقليد يشبه بعضه بعضا وإن اختلفت الآثام فيه"1. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لا أخاف على أمتي من بعدي إلا من أعمال ثلاثة"، قالوا: وما هي يارسول الله؟، قال: "أخاف عليهم زلة العالم، ومن حكم جائر، ومن هوى متبع"2، ومن المعلوم أن الخوف من زلة العالم تقليده فيها، إذ لولا التقليد لما يخف من زلة العالم على غيره. قال ابن القيم: "والمصنفون في السنة جمعوا بين فساد التقليد وبيان زلة العالم ليبينوا بذلك فساد التقليد، وأن العالم قد يزل ولابد إذ ليس بمعصوم، فلا يجوز قبول كل ما يقوله وينزل قوله منزلة قول المعصوم، فهذا الذي ذمه كل عالم على وجه الأرض، وحرموه، وذموا أهله، وهو أصل بلاء المقلدين وفتنتهم، فإنهم يقلدون العالم فيما زل فيه وفيما لم يزل فيه، وليس لهم تمييز بين ذلك، فيأخذون الدين بالخطأ ولابد فيحلون ما حرم الله، ويحرمون ما أحل الله، ويشرعون ما لم يشرع، ولابد لهم من ذلك إذ كانت العصمة منتفية عمن قلدوه، فالخطأ واقع منه ولابد"3. قال الشعبي: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "يفسد الزمان ثلاثة:

_ 1 إعلام الموقعين (2/ 191) . 2 أخرجه الدارمي في سننه، المقدمة باب 23. 3 إعلام الموقعين (2/ 192) .

أئمة مضلون، وجدال منافق بالقرآن، والقرآن حق، وزلة عالم"1، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "ويل للأتباع من عثرات العالم". قيل: وكيف ذاك يا أبا العباس؟، قال: "يقول العالم من قبل رأيه، ثم يسمع الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيدع ما كان عليه" وفي لفظ: "فيلقى من هو أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم منه فيخبره فيرجع ويقضي الأتباع بما حكم"2. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "لا يقلدن أحدكم دينه رجلا إن آمن آمن وإن كفر كفر فإنه لا أسوة في الشر"3. قال ابن القيم: "والفرق بين تجريد متابعة المعصوم صلى الله عليه وسلم وإهدارأقوال العلماء وإلغائها: أن تجريد المتابعة أن لا تقدم على ما جاء به قول أحد ولا رأيه كائنا من كان. بل تنظر في صحة الحديث أولا. فإذا صح لك نظرت في معناه ثانيا، فإذا تبين لك لم تعدل عنه ولو خالفك من بين المشرق والمغرب، ومعاذ الله أن تتفق الأمة على مخالفة ما جاء به نبيها بل لابد أن يكون في الأمة من قال به ولو لم تعلمه فلا تجعل جهلك بالقائل به حجة على الله ورسوله بل اذهب إلى النص ولا تضعف واعلم أنه قد قال به قائل قطعا ولكن لم يصل إليك. هذا مع حفظ مراتب العلماء وموالاتهم واعتقاد حرمتهم وأمانتهم واجتهادهم في حفظ الدين وضبطه فهم دائرون بين الأجر والأجرين والمغفرة ولكن لا يوجب هذا إهدار النصوص وتقديم قول الواحد منهم عليها بشبهة أنه أعلم بها منك، فإن كان كذلك فمن ذهب إلى النص أعلم به منك أيضا فهلا وافقته إن كنت صادقا؟.

_ 1 المصدر السابق (2/ 193) . 2 المصدر السابق 3 إعلام الموقعين (2/ 195) .

فمن عرض أقوال العلماء على النصوص ووزنها، وخالف منها ما خالف النص لم يهدر أقوالهم ولم يهضم جانبهم بل اقتدى بهم فإنهم كلهم أمروا بذلك فمتبعهم حقا من امتثل ما أوصوا به لا من خالفهم، فخلافهم في القول الذي جاء النص بخلافه أسهل من مخالفتهم في القاعدة الكلية التي أمروا بها ودعوا إليها من تقديم النص على أقوالهم. ومن هنا يتبين الفرق بين تقليد العالم في كل ما قال وبين الاستعانة بفهمه والاستضاءة بنور علمه. فالأول يأخذ قوله من غير نظر فيه ولا طلب لدليله من الكتاب والسنة بل يجعل ذلك كالحبل الذي يلقيه في عنقه يقلد به ولذلك سمي تقليدا. بخلاف من استعان بفهمه واستضاء بنور علمه في الوصول إلى سنة الرسول صلوات الله وسلامه عليه، فإنه يجعلهم بمنزلة الدليل إلى الدليل الأول فإذا وصل استغنى بدلالته على الاستدلال بغيره فمن استدل بالنجم على القبلة فإنه إذا شاهدها لم يبق لاستدلاله بالنجم معنى. قال الشافعي: "أجمع الناس على أن من استبانت له سنة الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد"1. ج- محاربتهم للرأي الباطل: وأما الأمر الثالث من الأمور التي يرى السلف أنها تناقض الاتباع وتضاده فهو "الرأي". فعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله لا

_ 1 الروح لابن القيم (2/ 768، 769) .

ينزع العلم بعد إذ أعطاكموه انتزاعا، ولكن ينتزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم، فيبقى ناس جهال يستفتون فيفتون برأيهم فيضلون ويضلون" 1، والمقصود به هو الرأي الباطل الذي ليس من الدين، لأن الرأي ينقسم إلى ثلاثة أقسام: 1- رأي باطل بلا ريب. 2- رأي صحيح. 3- رأي هو موضع الاشتباه. والأقسام الثلاثة قد أشار إليها السلف، فاستعملوا الرأي الصحيح وعملوا به وأفتوا به، وسوغوا القول به. وذموا الباطل ومنعوا من العمل والفتيا والقضاء به وأطلقوا ألسنتهم بذمه وذم أهله. والقسم الثالث: سوغوا العمل والفتيا والقضاء به عند الاضطرار إليه حيث لا يوجد منه بد، ولم يلزموا أحدا العمل به، ولم يحرموا مخالفته ولا جعلوا مخالفته مخالفا للدين، بل غايته أنهم خيروا بين قبوله ورده، فهو بمنزلة ما أبيح للمضطر من الطعام والشراب الذي يحرم عند عدم الضرورة إليه2. والحديث ههنا يتناول الرأي الباطل فقط وهو على أنواع: أحدها: الرأي المخالف للنص، وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام فساده وبطلانه، ولا تحل الفتيا به ولا القضاء، وإن وقع فيه من وقع بنوع تأويل وتقليد. الثاني: هو الكلام في الدين بالخرص والظن، مع التفريط والتقصير في

_ 1 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الاعنصام: باب ما يذكر من ذم الرأي. فتح الباري (13/ 282) ح 7307. 2 إعلام الموقعين (1/ 67) . وقد تناول ابن القيم في هذا الكتاب القول بالتفصيل عن أنواع الرأي فمن أراد التوسع والاستفادة فليرجع إليه.

معرفة النصوص وفهمها واستنباط الأحكام منها، فإن من جهلها وقاس برأيه فيما سئل عنه بغير علم، بل لمجرد قدر جامع بين الشيئين ألحق أحدهما بالآخر أو لمجرد قدر فارق يراه بينهما يفرق بينهما في الحكم، من غير نظر إلى النصوص والآثار، فقد وقع في الرأي المذموم الباطل. النوع الثالث: الرأي المتضمن تعطيل أسماء الرب وصفاته وأفعاله بالمقاييس الباطلة التي وضعها أهل البدع والضلال من الجهمية والمعتزلة والقدرية1 ومن ضاهاهم، حيث استعمل أهله قياساتهم الفاسدة وآراءهم الباطلة وشبههم الداحضة في رد النصوص الصحيحة الصريحة، فردوا لأجلها ألفاظ النصوص التي وجدوا السبيل إلى تكذيب رواتها وتخطئتهم، ومعاني النصوص التي لم يجدوا إلى رد ألفاظها سبيلا، فقابلوا النوع الأول بالتكذيب، والنوع الثاني بالتحريف والتأويل، فأنكروا لذلك رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة، وأنكروا كلامه وتكليمه لعباده، وأنكروا مباينته للعالم، واستواءه على عرشه وعلوه على المخلوقات، وعموم قدرته على كل شيء، بل أخرجوا أفعال عباده من الملائكة والأنبياء والجن والإنس عن تعلق قدرته ومشيئته وتكوينه لها، ونفوا لأجلها حقائق ما أخبر به عن نفسه وأخبر به رسوله من صفات كماله ونعوت جلاله، وحرفوا لأجلها النصوص عن مواضعها وأخرجوها عن معانيها وحقائقها بالرأي المجرد الذي حقيقته أنه زبالة الأذهان ونخالة الأفكار وعفارة2 الآراء ووساوس الصدور فملؤوا به الأوراق سوادا والقلوب شكوكا، والعالم فسادا.

_ 1 سموا بذلك لقولهم في القدر، وهم يزعمون أن العبد هو الذي يخلق فعله استقلالا، فأثبتوا خالقا مع الله. الملل والنحل (1/ 54) ، ومجموع الفتاوى (8/ 256) 2 العفارة: الخبث والشيطنة. النهاية (3/ 262) .

وكل من له مسكة من عقل يعلم أن فساد العالم وخرابه إنما نشأ من تقديم الرأي على الوحي، والهوى على العقل، وما استحكم هذان الأصلان الفاسدان في قلب إلا استحكم هلاكه، وفي أمة إلا فسد أمرها أتم فساد، فلا إله إلا الله كم نفي بهذه الآراء من حق، وأثبت بها من باطل، وأميت بها من هدى وأحيي بها من ضلالة؟ وكم هدم بها من معقل للإيمان، وعمر بها من دين الشيطان؟ وأكثر أصحاب الجحيم هم أهل هذه الآراء الذين لا سمع لهم ولا عقل بل هم شر من الحمر، وهم الذين يقولون يوم القيامة {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} 1. النوع الرابع: الرأي الذي أحدثت به البدع، وغيرت به السنن وعم به البلاء، وتولى عليه الصغير وهرم فيه الكبير. فهذه الأنواع الأربعة من الرأي الذي اتفق سلف الأمة وأئمتها على ذمه لإخراجه من الدين2. ومما ورد عن السلف في ذم الرأي الذي من هذا القبيل ما يلي: عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: "أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إن قلت في آية من كتاب الله برأيي، أو بما لا أعلم"3. وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: "اتقوا الرأي في دينكم"4. وروي عنه كذلك قوله: "أصحاب الرأي أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث

_ 1 الآية (10) من سورة الملك. 2 إعلام الموقعين (1/ 67- 69) . 3 المصدر السابق (1/ 54) . 4 إعلام الموقعين (1/ 55) .

أن يحفظوها وتفلتت منهم أن يعوها، واستحيوا حين سُئلوا أن يقولوا لا نعلم فعارضوا السنن برأيهم، فإياكم وإياهم"1. وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: "لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه"2. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "إنما هو كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن قال بعد ذلك برأيه فلا أدري أفي حسناته يجد ذلك أم في سيئاته"3. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "لا يأتي عليكم عام إلا هو شر من الذي قبله، أما إني لا أقول أمير خير من أمير، ولا عام أخصب من عام، ولكن فقهاؤكم يذهبون ثم لا تجدون منهم خلفا، ويجيء قوم يقيسون الأمور برأيهم"4. ومما ورد كذلك من الآثار عن التابعين ما يلي: قول الشعبي: "ما جاءكم به هؤلاء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذوه، وما كان رأيهم فاطرحوه في الحش"5. وعن ابن شهاب الزهري قال: "دعوا السنة تمضي، لا تعرضوا لها بالرأي"6.

_ 1 المصدر السابق (1/ 55) . 2 أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الطهارة، باب كيف المسح (1/ 114، 115) ح 162 وأورده ابن القيم في إعلام الموقعين (1/ 58) . 3 إعلام الموقعين (1/ 58، 59) . 4 أخرجه الدارمي في السنن، المقدمة، باب تغير الزمان وما يحدث فيه (1/ 65) . وأورده ابن القيم في إعلام الموقعين (1/ 57) . 5 إعلام الموقعين (1/ 73) . 6 المصدر السابق (1/ 74) .

وعن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى الناس: "أنه لا رأي لأحد مع سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم"1. فهذه الأقوال عن أولئك الأئمة من الصحابة والتابعين أجمعت على إخراج الرأي عن العلم وذمه والتحذير منه والنهي عن الفتيا به، فرضي الله عن أئمة الإسلام وجزاهم عن نصيحتهم خيرا، ولقد سلك سبيلهم أهل العلم والدين من أتباعهم.

_ 1 المصدر السابق (1/ 74) .

المبحث الثالث: التحذير من معصية الرسول صلى الله عليه وسلم وحكم من خالفه

المبحث الثالث: التحذير من معصية الرسول صلى الله عليه وسلم وحكم من خالفه المطلب الأول: الأدلة من القرآن الكريم على التحذير من معصية الرسول صلى الله عليه وسلم وحكم من خالفه ... تمهيد: "من المعلوم لكل من عنده مسكة من عقل أن الله سبحانه وتعالى لم يخلق هذا الخلق عبثا كما قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} 1 وكما قال: {أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} 2 أي مهملا هملا لا يؤمر ولا ينهى ولا يثاب ولا يعاقب. والغاية التي خلق من أجلها الجن والإنس هي التي أخبر الحق تبارك وتعالى عنها بقوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} فهو سبحانه خلقهم للأمر والنهي في الدنيا والثواب أو العقاب في الآخرة. وإذا تمهد هذا فإنه يعلم مدى حاجتهم وضرورتهم إلى الشريعة وأحكامها، إذ بواسطها يتعرف على مواقع رضى الله وسخطه في حركات العباد الاختيارية. والناس أحوج ما يكونون إلى معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم والقيام به والدعوة إليه والصبر عليه وجهاد من خرج عنه حتى يرجع إليه، إذ ليس للعالم صلاح بدون ذلك البته"3 ولذلك فرض الله على الإنس والجن طاعة من أرسل من الرسل وفي هذا يقول الحق تبارك وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} فالطاعة بذلك متحتمة على من شملتهم دعوة الرسل.

_ 1 الآية (115) من سورة المؤمنون. 2 الآية (36) من سورة القيامة. 3 كتاب تحذير أهل الإيمان عن الحكم بغير ما أنزل الرحمن، تأليف الشيخ إسماعيل بن إبراهيم الخطيب الحسني الأسعردي مطبوع ضمن الرسائل المنبرية (1/ 140، 141) بتصرف.

وقد بعث الله نبيه ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} وبذلك عمت دعوته كل الأمم سواء كانوا في زمانه أو في الأزمان التالية من بعده وذلك على اختلاف تلك الأمم في ألوانها وأجناسها ولغاتها وشرائعها بما فيهم أهل الكتاب - اليهود والنصارى -، فترتب على عموم الرسالة أن نسخت الشرائع السابقة لشريعته صلى الله عليه وسلم فلم يبق من طريق يوصل إلى عبادة الله ورضوانه سوى طريق خاتم الأنبياء والمرسلين محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم فلا حجة لأحد دون حجته ولا يستقيم لعاقل سبيل سوى واضح محجته. وقد جمعت سنته صلى الله عليه وسلم تحت حكمتها كل معنى حكيم فلا يسمع بعد بيانها خلاف مخالف ولا قول مختلق، ومن تبع سنته فهو على نور من ربه، وبصيرة من أمره، والمائل عن شرعه، واقع في ظلمته مرتبك في حيرته ومرتكس في ضلاله وشقاوته. ولذلك كان لزاما على الجن والإنس أن يستجيبوا له صلى الله عليه وسلم ويتبعوا شريعته ظاهرا وباطنا. وقد وعد الله المستجيب منهم أن يدخله جنته ويسبغ عليه رضاه ومحبته. وتوعد المخالف منهم بأن يذيقه أليم عقابه ويلقيه في جهنم ليعلم بذلك كيف يكون مصيره وعاقبته. وإن آيات القرآن ونصوص السنة في هذا الشأن كثيرة جدا، وقد تقدم إيراد الأدلة الواردة في وجوب طاعته واتباعه.

وفي هذا المبحث سأتناول بإذن الله الأدلة الواردة في حكم مخالفته صلى الله عليه وسلم والبعد عن سنته والعقوبات الدنيوية والأخروية المترتبة على تلك المخالفات على تنوع صورها وأشكالها سواء كانت إعراضا وكفرا، أو بدعة، أو معصية، أو غير ذلك. وعسى أن يكون فيما سيعرض من آيات قرآنية وأحاديث نبوية تذكرة وعظة، وخاصة أننا نعيش في زمان نحتاج فيه إلى التمعن في هذه النصوص وتدبرها لكثرة ما يقع من الإعراض والمخالفة لشرع النبي صلى الله عليه وسلم ونهجه عند كثير من الناس.

المطلب الأول: الأدلة من القرآن الكريم على التحذير من معصية الرسول صلى الله عليه وسلم وحكم من خالفه. ورد التحذير من معصية الرسول صلى الله عليه وسلم في مواطن عدة من القرآن الكريم، وقد جاء التحذير مصحوبا بالوعيد الشديد لذلك المخالف العاصي ومن تلك المواطن: قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 1. وقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} 2. وقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} 3. وقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} 4. وقوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} 5. وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} 6.

_ 1 الآية (63) من سورة النور. 2الآية (14) من سورة النساء. 3 لآية (36) من سورة الأحزاب. 4 الآية (23) من سورة الجن. 5 الآية (115) من سورة النساء. 6 الآية (13) من سورة الأنفال.

وقوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ} 1. وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} 2. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ} 3. وإن المتأمل في هذه الآيات يرى ما تضمنته من الوعيد الشديد والعقاب الأليم لمن خالف منهج الرسول وطريقته وشرعه وحاد كلما جاء به فقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} تحمل هذه الآية الوعيد الشديد لمن خالف أمررسول الله صلى الله عليه وسلم وشريعته، ومعناها: "أي فليحذر وليخش من خالف شريعة الرسول صلى الله عليه وسلم باطنا وظاهرا" {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} أي في قلوبهم من كفرأو نفاق أو بدعة {أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} في الدنيا بقتل أو حد أو حبس أو نحو ذلك"4. هذا من جهة العقوبة الدنيوية كما فسر ابن كثير الآية بذلك. أما على صعيد العقوبة الأخروية فاقرأ الآية الأخرى وهي قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} ، وعلى هذا فإن المخالف العاصي متوعد بالعقوبتين الدنيوية والأخروية، إضافة إلى وصفه بالضلال البين الواضح بقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ

_ 1 الآية (63) من سورة التوبة. 2 الآية (5) من سورة المجادلة. 3 الآية (20) من سورة المجادلة. 4 تفسير ابن كثير (3/ 307) .

ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} ، وفي هذا الوصف والجزاء للمخالف حكم بخروجه عن دائرة الإيمان. كما أن كل من أعرض عن حكم الرسول ولم ينقد له ولم يرض به إلا إذا كان مواففا لهواه فهو محكوم عليه بالنفاق بنص القرآن الكريم. قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} 1. وقال تعالى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ، وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ، أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 2. وهذه الآيات بينت موقف كلا الطرفين- الطرف الأول أهل الإيمان الحقيقي والطرف الثاني أهل النفاق المظهرون للإسلام المخفون للكفر- من التحاكم لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فمن سمة المنافقين أنهم لا يتحاكمون لشرع الله إلا إذا كان الحق في صفهم وحكم الشرع لصالحهم، أما إذا كان الأمر على خلاف ذلك فلا ترى منهم سوى الإعراض عن شرع الله المتمثل في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.

_ 1 الآيتان (60، 61) من سورة النساء. 2 الآيات (58- 51) من سورة النور.

أما أهل الإيمان الذين ترسخ في قلوبهم الإيمان بشرع الله اعتقادا بالقلب وقولا باللسان وعملا بالجوارح فإن من صفاتهم وعلاماتهم تحاكمهم لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في جميع أحوالهم وشؤونهم مع الرضى والتسليم لذلك الحكم سواء كان لهم أم عليهم. ولذلك فقد جاء وصف أهل الإيمان بالفلاح فقال تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} بينما وصف أهل النفاق بالظلم حيث قال تعالى: {بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} . فيجب على المسلم أن يحذر من الوقوع في هذا العمل الخطير الذي من شأنه أن يوقع صاحبه في مثل هذه الصفات، ويعرضه لتلك العقوبات التي تحدثت بها آيات القرآن الواردة في هذا الشأن. وقال ابن كثير عند تفسيره لقوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} 1:."قوله: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} أي ومن سلك غير طريق الشريعة التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم فصار في شق والشرع في شق، وذلك عن عمد منه بعدما ظهر له الحق وتبين له واتضح، وقوله {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} هذا ملازم للصفة الأولى ولكن قد تكون المخالفة لنص الشارع وقد تكون لما أجمعت عليه الأمة المحمدية فيما علم اتفاقهم عليه تحقيقا فإنه قد ضمنت لهم العصمة في اجتماعهم من الخطأ تشريفا لهم وتعظيما

_ 1 الآية (115) من سورة النساء.

لنبيهم وقد وردت أحاديث صحيحة كثيرة في ذلك ... ولهذا توعد تعالى على ذلك بقوله: {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} أي إذا سلك هذه الطريق جازيناه على ذلك بأن نحسنها في صدره ونزينها له استدراجا له كما قال تعالى {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} 1، وقال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} 2، وقوله: {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} 3. وجعل النار مصيره في الآخرة لأن من خرج عن الهدى لم يكن له طريق إلا إلى النار يوم القيامة"4. ولقد ذكر الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز عددا من قضايا المخالفة وعلى رأسها التحاكم إلى غير ما أنزل الله، فهذا الداء من أعظم المخاطر وبخاصة في زماننا هذا الذي طرح فيه كثير ممن ينتمون إلى الإسلام كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وراء ظهورهم، واعتاضوا عنهما بقوانين الكفار وآراء ابتدعوها تقولا على الشريعة حتى جعلوا لتلك القوانين محاكم تحمى بقوة السلطان وأجبروا الناس على التحاكم إليها. والحكم بغير ما أنزل الله هو من أعظم أسباب المقت والحرمان وأكبر موجبات العقوبة والخذلان، كيف لا وهو شرع دين لم يأذن به الله واتباع لغير سبيل المؤمنين ومشاقة ومحادة ومحاربة وخيانة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم واتخاذ لدين الله هزوا ولهوا ولعبا وتبديلا لنعمة الله إلى غير ذلك من

_ 1 الآية (44) من سورة القلم. 2 الآية (5) من سورة الصف. 3 الآية (110) من سورة الأنعام. 4 تفسير ابن كثير (1/ 554، 555) .

المفاسد والمحاذير التي لا تدخل تحت حساب. وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} 1. وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} 2. وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} 3. وقال تعالى: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} 4، وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَار، جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ} 5. وقال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّه} 6. وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} 7. قال ابن القيم: "قال أهل التحقيق من أهل التفسير الطاغوت كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع، فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله أو يعبدونه من دون الله أو يتبعونه على غير بصيرة من الله أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله.

_ 1 الآية (44) من سورة المائدة. 2 الآية (45) من سورة المائدة. 3 الآية (47) من سورة المائدة. 4 الآية (70) من سورة الأنعام. 5 الآية (28، 29) من سورة إبراهيم. 6 الآية (21) من سورة الشورى. 7 الآية (60) من سورة النساء.

فهذه طواغيت العالم إذا تأملتها وتأملت أحوال الناس معها رأيت أكثرهم انحرف عن عبادة الله إلى عبادة الطاغوت وعن طاعته ومتابعة رسوله إلى طاعة الطاغوت ومتابعته، وهؤلاء لم يسلكوا طريق الناجين الفائزين من هذه الأمة وهم الصحابة ومن تبعهم ولا قصدوا قصدهم بل خالفوهم في الطريق والقصد معا، ولو لم يكن في القرآن المجيد من الزجر عن اتباع القوانين البشرية غير هذه الآية الكريمة لكفت العاقل اللبيب، فكيف والقرآن الكريم كله يدعو إلى تحكيم ما أنزل الله، وعدم تحكيم ما عداه1. وبما تقدم من آيات يعلم المسلم خطورة مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم والإعراض عن سنته ومنهجه والشرع الذي جاء به من عند ربه. فالآيات السابقة وما كان على منوالها فيها خطاب لكل معرض عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم ومنهجه وشرعه الذي جاء به، وهي بما تضمنته من الوعيد الشديد بمثابة الإنذار لكل من كان على هذه الحال لكي يكون على بينة من أمره فيعلم على أي ذنب قد أقدم ولأي جرم قد ارتكب {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ} 2 وذلك قبل أن يكون من أولئك الذين يتحسرون ويعضون أيديهم ندما في يوم القيامة {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً، يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً، لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً} 3. ومعلوم أن كل من ترك ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه قائل لهذه المقالة لا محالة. فنعوذ بالله ممن هذه حاله ويوم القيامة تكون نار جهنم مآله وقراره.

_ 1 تيسير العزيز الحميد (ص 493) . 2 الآية (42) من سورة الأنفال. 3 الآيات (27، 28، 29) من سورة الفرقان.

المطلب الثاني: الأدلة من السنة على التحذير من معصية الرسول صلى الله عليه وسلم وحكم من خالفه

المطلب الثاني: الأدلة من السنة على التحذير من معصية الرسول صلى الله عليه وسلم وحكم من خالفه: جاءت السنة بمثل ما جاء به القرآن الكريم، فالأحاديث متوافرة، ومتعددة في هذا الشأن، فقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الإعراض عن سنته والبعد عنها أو الانتقاص من قدرها ومكانتها أو مخالفتها. وهذا التحذير منه صلى الله عليه وسلم والوارد في عبارات متنوعة وأساليب متعددة - كما سيمر عليك - يصور مدى حرصه صلى الله عليه وسلم على حماية أمته وصيانتهم من الوقوع في هذا المزلق الخطير، ولا غرابة في ذلك فهو الموصوف بقوله تعالى: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} . ومما ورد في تصوير مدى حرصه صلى الله عليه وسلم على أمته وتحذيره لهم من الوقوع في مخالفته قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه عنه أبو هريرة رضي الله عنه "مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد نارا فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب اللائي يقعن في النار يقعن فيها وجعل يحجزهن ويغلبنه فيقتحمن فيها – قال - فذلك مثلي ومثلكم أنا آخذ بحجزكم عن النار هلم عن النار فتغلبوني وتقتحمون فيها". وهذا الحديث إضافة إلى كونه يصور مدى حرصه صلى الله عليه وسلم على أمته فهو يبين كذلك أن سبيل النجاة والفلاح إنما هو باتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم والأخذ بها، وأن كل مخالف ومجانب لهذه السنة فهو يلقي بنفسه إلى التهلكة وذلك بسبب

بعده ومخالفته لشرع المصطفى ونهجه الذي جاء به. ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين لأمته سبيل النجاة والفلاح وحثهم على سلوكه والسير عليه، كما حذرهم من سبل الهلاك والضلال وبين لهم ماضيها من الخسران والتعاسة الدنيوية والأخروية قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ، وهذه الوصية عامة لكل من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وقد ختم الله الآية بقوله {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} . والتقوى حقيقتها: "العمل بطاعة الله إيمانا واحتسابا، أمرا ونهيا فالمتقي يفعل ما أمره الله به إيمانا بالأمر وتصديقا بوعده، ويترك ما نهى الله عنه إيمانا بالنهي وخوفا من وعيده". وقال طلق بن حبيب1: "التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله وأن تترك معصية الله على نور من الله، تخاف عقاب الله"2. وطاعة الله تتحقق بطاعة رسوله والسير على نهجه وسلوك سبيله قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} . وفي الحديث: "فمن أطاع محمدا صلى الله عليه وسلم فقد أطاع الله ومن عصى محمدا صلى الله عليه وسلم فقد عصى الله".

_ 1 الآية (153) مى سورة الأنعام. 2 طلق بن حبيب العنزي البصري، تابعي ثقة كان أعبد أهل زمانه قتله الحجاج مع سعيد بن جبير. تهذيب التهذيب (5/ 31- 32) .

ولذلك فإنه لم يبق للإنسان إلا أن يختار أي الطريقين يسلك قال تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} 1 وليتحمل بعد ذلك مسؤولية ما قدم من عمل كما قال تعالى: {بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ، وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} 2، وقال تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى، وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى، ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأِوْفَى} 3 وإن المسلم الواعي العارف لأمور دينه يعلم أن الخير كل الخير في اتباع النبي صلى الله عليه وسلم والتمسك بسنته والسير على هديه، وأن الشر كل الشر في البعد عن سنته ومخالفته. ولذا تراه حريصا على سنة المصطفى متمسكا بها في كل أحواله وفي الوقت نفسه يحذر أشد الحذر من مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم والبعد عن سبيله ومنهجه. ومثل هذا الاعتقاد يجب على كل مسلم أن يعتقده ويطبقه في أقواله وأعماله ليسعد وينجو في دنياه وآخرته. ومما يؤسف له أن كثيرا من المسلمين لا يولي هذا الجانب اهتمامه وعنايته بل تراه على النقيض من ذلك حتى إن بعضهم ليس له من الإسلام إلا اسمه فقط ذلك لأن أقواله وأفعاله مناقضة للشرع ولا تمت إليه بصلة، وتراه كذلك راغبا عن سنة المصطفي متحاكما في أكثر شؤونه وأحواله إلى غير الكتاب والسنة. ومن كانت هذه صفاته فالإسلام منه براء وهو بريء من الإسلام فقد قال صلى الله عليه وسلم: "من رغب عن سنتي فليس مني"

_ 1 الآية (3) من سورة الإنسان. 2 الآيتان (14، 15) من سورة القيامة. 3 الآيات (39، 40، 41) من سورة النجم.

ولقد ذم النبي صلى الله عليه وسلم هذا الصنف من الناس وحذر منهم فعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: "كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الضر مخافة أن يدركني، فقلت: يارسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر؟، قال: "نعم". قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟، قال: "نعم وفيه دخن"، قلت: وما دخنه؟، قال: "قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر.." الحديث. فالشاهد من الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: "قوم يهدون بغير هديي" فالنبي صلى الله عليه وسلم ذم من جعل للدين أصلا خلاف الكتاب والسنة أو جعلهما فرعا لذلك الأصل الذي ابتدعه وأمثال هؤلاء كثيرون فكم من شخص ينتمي للإسلام جعل من الفلاسفة حكما على كل شيء حتى على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وكم من شخص نبذ شرع الله وراء ظهره وتحاكم إلى القوانين الوضعية المستوردة من بلاد الكفر والإلحاد. وكم من شخص جعل الهوى وشهوات النفس دينا يدين به فإذا جاءه أمر الشارع أخذ منه ما وافق هواه ورأيه وأعرض عما عداه. وكم من فئة وطائفة في زماننا الحاضر ينطق عليها قول النبي صلى الله عليه وسلم هذا. والذي ينبغي على كل أحد أن يعلمه هو أنه بمقدار اتباع المرء لسنة المصطفي صلى الله عليه وسلم، يكون فلاحه ونجاته، فالأقوال والأعمال يتوقف قبولها أو ردها على حسب موافقتها لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فما وافق سنة النبي صلى الله عليه وسلم قبل، وما خالفها فهو مردود على قائله وفاعله كائنا من كان وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم:

"من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد". وإن المعرض عن سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم والمخالف لها معرض للعقوبة في الدنيا والآخرة وذلك بحسب ما يقع منه من إعراض. فعن سلمة بن الأكوع1 رضي الله عنه أن رجلا أكل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بشماله. فقال: "كل بيمينك"، قال: "لا أستطيع"، قال: "لا استطعت" ما منعه إلا الكبر، قال فما رفعها إلى فيه"2، فهذه عقوبة دنيوية لهذا الشخص الذي عصى أمر النبي صلى الله عليه وسلم. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "قرأ النبي صلى الله عليه وسلم "النجم" فسجد، فما بقي أحد إلا سجد، إلا رجل رأيته أخذ كفا من حصى فرفعه فسجد عليه وقال: "هذا يكفيني، فلقد رأيته بعد قتل كافرا بالله"3 وهذا الرجل هو أمية بن خلف4 وقد قتل ببدر كافرا. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري ومن تشبه بقوم فهو

_ 1 سلمة بن عمرو بن الأكوع، صحابي جليل أول مشاهده الحديبية، وكان من الشجعان ويسبق الفرس عدوا، مات بالمدينة سنة أربع وسبعين على الصحيح. الإصابة (2/ 65) . 2 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الأشربة باب آداب الطعام والشراب وأحكامهما (6/ 109) . 3 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب مناقب الأنصار: باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المشركين بمكة. انظر فتح الباري (7/ 165) . وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب المساجد، باب سجود التلاوة (2/ 88) . 4 فتح الباري (8/ 614) .

منهم" 1. والشاهد من الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: "وجعلت الذلة والصغارعلى من خالف أمري"، وعنه رضي الله عنه قال: "أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه فقال: "يا معشر المهاجرين خمس إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم فأخذ بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله، إلا جعل الله بأسهم بينهم" 2. فهذا بعض ما ورد في السنة في العقوبات الدنيوية. أما على صعيد العقوبات الأخروية فالأمر أشد وأعظم فالآخرة هي دار الجزاء والثواب والعقاب. فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى المقبرة فقال: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، وددت أنا قد رأينا إخواننا. فقالوا: أوَلسنا إخوانك يارسول الله؟، قال: بل أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد، وأنا فرطهم 3 على

_ 1 أخرجه الإمام أحمد في مسنده (2/ 50/ 92) وقد جود إسناده شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم (ص 39) ، وحسنه الحافظ ابن حجر في الفتح (10/ 23) . 2 أخرجه ابن ماجة في السنن، كتاب الفتن، باب العقوبات (2/ 1332، 1333) ح 4019 3 فرطهم: أي متقدمهم إليه. يقال فرط يفرط، فهو فارط وفرط إذا تقدم وسبق القوم ليرتاد لهم الماء، ويهيئ لهم الدلاء والأرشية. النهاية (3/ 434) .

الحوض. فقالوا: كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يارسول الله؟، فقال: أرأيت لو أن رجلا له خيل غر1 محجلة2 بين ظهري خيل دُهُم بُهُم3 ألا يعرف خيله؟. قالوا: بلى يارسول الله، قال: فإنهم يأتون غرا محجلين من الوضوء وأنا فرطهم على الحوض ألا ليذادن رجال عن حوضى كما يذاد البعير الضال أناديهم ألا هلم، فيقال: إنهم قد بدلوا بعدك فأقول سحقا سحقا" 4. فتلك عقوبة من حاد عن شرع المصطفى صلى الله عليه وسلم ومال عنه واستبدل به غيره. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هلك المتنطعون" قالها ثلاثا5. قال النووي: " أي المتعمقون الغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم" 6، فالنبي صلى الله عليه وسلم أخبر بهلاك كل من بالغ في التعمق في أمور الشرع وغلا فيها وتكلف في أمور لم ترد عن الشارع الكريم ولم تكن من مقصوده. وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: "لست تاركا شيئا كان رسول الله

_ 1 الغر: جمع الأغر، من الغرة بياض الوجه، يريد بياض وجوههم بنور الوضوء يوم القيامة. النهاية (3/ 354) . 2 الحجل في صفة الخيل هو الذي يرتفع البياض في قوائمه إلى موضع القيد، ويجاوز الأرساغ ولا يجاوز الركبتين. النهاية (1/ 346) . 3 دُهُم: أي سود. النهاية (2/ 145، 146) ، بُهُم: جمع بهيم وهو الذي لا يخالط لونه لون سواه. النهاية (1/ 167) . 4 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الطهارةك باب استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء (1/ 150، 151) . 5 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب العلم: باب هلك المتنطعون (8/ 59) . 6 شرح النووي لمسلم (16/ 220) .

صلى الله عليه وسلم يعمل به إلا عملت به، إني أخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ". والشواهد من القرآن والسنة وكلام السلف الصالح في هذا الشأن كثيرة ولا تكاد تحصى. والقصد هنا بيان أن التولي عما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من أمور الشرع من أكبر الذنوب، وهو سبب لانصباب المصائب وتتابع النوائب، فإن الجزاء من جنس العمل ومن تولى عن حكم الله وحكم رسوله تولى الله ورسوله عنه، ومن تولى الله ورسوله عنه فهيهات أن يفلح ويعز بل يتركه الله أذل وأحقر ما يكون قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ} 1. وليحذرالمسلم من مخالفة الشريعة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم من عند ربه عز وجل، فإن في المخالفة عين الهلاك والخسران كما قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} 2.

_ 1 الآية (20) من سورة المجادلة. 2 الآية (124) من سورة طه.

الباب الثاني: وجوب محبته صلى الله عليه وسلم

الباب الثاني: وجوب محبته صلى الله عليه وسلم الفصل الأول: بيان المعنى الصحيح لمحبته والأدلة على وجوبها المبحث الأول: المعنى الصحيح لمحبته المطلب الأول: تعريف المحبة ... المطلب الأول: تعريف المحبة: أحببت قبل الشروع في بيان المعنى الصحيح لمحبة النبي صلى الله عليه وسلم أن أتطرق للمعنى اللغوي والاصطلاحي لكلمة المحبة، وذلك بهدف التعريف بهذه الكلمة وبيان مدلولها: أ- أصل اشتقاق المحبة: قال صاحب لسان العرب: "المحبة: اسم للحب"1، ويرى ابن القيم أن مادة كلمة "حب" تدور في اللغة على خمسة أشياء: أحدها: الصفاء والبياض، ومنه قولهم لصفاء بياض الأسنان ونضارتها "حبب الأسنان" الثاني: العلو والظهور، ومنه "حبب الماء وحبابه" وهو ما يعلوه عند المطر الشديد، وحبب الكأس منه. الثالث: اللزوم والثبات، ومنه، حب البعير وأحب، إذا برك ولم يقم. قال الشاعر: حلت عليه بالفلاة ضربا ... ضرب بعير السوء إذ أحبَّا الرابع: اللب، ومنه: حبة القلب، للبه وداخله. ومنه: الحبة لواحدة الحبوب، إذ هي أصل الشيء ومادته وقوامه. الخامس: الحفظ والإمساك، ومنه حب الماء للوعاء الذي يحفظ فيه ويمسكه وفيه معنى الثبوت أيضا.

_ (1/ 290)

ثم قال رحمه الله: ولا ريب أن هذه الخمسة من لوازم المحبة: 1- فإنها صفاء المودة، وهيجان إرادات القلب للمحبوب. 2- وعلوها وظهورها منه لتعلقها بالمحبوب المراد. 3- وثبوت إرادة القلب للمحبوب ولزومها لزوما لا تفارقه. 4- ولإعطاء المحب محبوبه لبه وأشرف ما عنده، وهو قلبه. 5- ولاجتماع عزماته وإراداته وهمومه على محبوبه. فاجتمعت فيها المعاني الخمسة1. ووضعوا لمعناها حرفين مناسبين للمسمى غاية المناسبة: "الحاء" التي هي من أقصى الحلق. و"الباء" الشفوية التي هي نهايته. فللحاء الابتداء، وللباء الانتهاء، وهذا شأن المحبة وتعلقها بالمحبوب، فإن ابتداءها منه وانتهاءها إليه. وقالوا في فعلها: حَبْهُ وأحَبْهُ. ثم اقتصروا على اسم الفاعل من "أحب" فقالوا: "مُحِبٌّ" ولم يقولوا "حاب". واقتصروا على اسم المفعول من "حب" فقالوا: "محبوب" ولم يقولوا "مُحَب" إلا قليلا كما قال الشاعر:

_ 1 زاد ابن القيم في كتابه روضة المحبين (ص 17، 18) على هذه المعاني الخمسة مايلي: "وقيل: بل هي مأخوذة من القلق والاضطراب، ومنه سمي القرط حبا لقلقه في الأذن واضطرابه. وقيل بل هي مأخوذة من الحب الذي هو إناء واسع فيمتلئ به بحيث لا يسع لغيره، وكذلك قلب المحب ليس فيه سعة لغير محبوبه، وقيل: مأخوذة من الحب وهو الخشبات الأربع التي يستقر عليها ما يوضع من جرة أو غيرها فسمي الحب بذلك لأن المحب يتحمل لأجل محبوبه الأثقال، كما تتحمل الخشبات ثقل ما يوضع عليها.

ولقد نزلت فلا تظني غيره ... مني بمنزلة المُحَب المكرم1 وأعطوا "الحب" حركة الضم التي هي أشد الحركات وأقواها، مطابقة لشدة حركة مسماه وقوتها. وأعطوا "الحِب" وهو المحبوب: حركة الكسر لخفتها عن الضمة وخفة المحبوب، وخفة ذكره على قلوبهم وألسنتهم ... فتأمل هذا اللطف والمطابقة والمناسبة العجيبة بين الألفاظ والمعاني تطلعك على قدر هذه اللغة، وأن لها شأنا ليس لسائر اللغات2. ب- الحد الاصطلاحي للمحبة: قال ابن حجر3: "وحقيقة المحبة عند أهل المعرفة من المعلومات التي لا تحد، وإنما يعرفها من قامت به وجدانا ولا يمكن التعبير عنها"4 وقال ابن القيم: "لا تحد المحبة بحد أوضح منها، فالحدود لا تزيدها إلا خفاء وجفاء، فحدها وجودها. ولا توصف المحبة بوصف أظهر من المحبة، وإنما يتكلم الناس في أسبابها، وموجباتها، وعلاماتها، وشواهدها، وثمراتها، وأحكامها فحدودهم ورسومهم دارت على هذه الستة، وتنوعت بهم العبارات وكثرت الإشارات، بحسب إدراك الشخص ومقامه وحاله وملكه للعبارة"5.

_ 1 البيت لعنترة بن شداد. 2 مدارج السالكين (3/ 9- 11) . 3 أحمد بن علي بن حجر العسقلاني- صاحب كتاب فتح الباري- من أئمة العلم والتاريخ، ولد بالقاهرة سنة 773 هـ، وتوفي بها سنة 852 هـ، وله مؤلفات كثيرة. الأعلام (1/ 178) 4 فتح الباري (10/ 463) . 5 مدارج السالكين (3/ 9) .

قلت: وهذا الذي ذكره ابن القيم وابن حجر هو الذي تطمئن له النفس فالمحبة أمر شعوري وجداني يتعرف عليه بواسطة الأمور الستة التي أشار إليها ابن القيم، وذلك لكون هذه الأمور هي العناصر التي يمكن أن يعبر عن المحبة من طريقها. ولذلك فلا داعي لذكر تعريفات العلماء لها فحدها وجودها، والحدود لا تزيدها إلا خفاء وجفاء كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى

المطلب الثاني: أقسام المحبة

المطلب الثاني: أقسام المحبة: أ- أقسام المحبة من حيث العموم: تنقسم المحبة من حيث العموم إلى قسمين: 1- مشتركة، 2- خاصة. القسم الأول: المحبة المشتركة. وهي ثلاثة أنواع: أحدها: محبة طبيعية كمحبة الجائع للطعام، والظمآن للماء ونحو ذلك، وهذه لا تستلزم التعظيم. الثاني: محبة رحمة وإشفاق، كمحبة الوالد لولده الطفل، وهذه أيضا لا تستلزم التعظيم. الثالث: محبة أنس وألف، وهي محبة المشتركين في صناعة أو علم أو مرافقة أو تجارة أو سفر، لبعضهم بعضا، وكمحبة الإخوة بعضهم بعضا. فهذه الأنواع الثلاثة، التي تصلح للخلق، بعضهم من بعض، ووجودها فيهم لا يكون شركا في محبة الله، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل، وكان يحب نساءه، وعائشة أحبهن إليه، وكان يحب أصحابه، وأحبهم إليه الصديق رضي الله عنه. القسم الثاني: المحبة الخاصة التي لا تصلح إلا لله. ومتى أحب العبد بها غيره، كان شركا لا يغفره الله، وهي محبة العبودية المستلزمة للذل والخضوع والتعظيم، وكمال الطاعة، وإيثاره على غيره.

فهذه المحبة لا يجوز تعلقها بغير الله أصلا1 بل يجب إفراد الله بهذه المحبة الخاصة التي هي توحيد الإلهية، بل الخلق والأمر والثواب والعقاب، إنما نشأ عن المحبة ولأجلها، فهي الحق الذي خلقت به السموات والأرض، وهي الحق الذي تضمنه الأمر والنهي وهي سر التأله، وتوحيدها هو شهادة أن لا إله إلا الله، وليس كما يزعم المنكرون، أن الإله هو الرب الخالق، فإن الشضركين كانوا مقرين بأنه لا رب إلا الله ولا خالق سواه، ولم يكونوا مقرين بتوحيد الإلهية الذي هو حقيقة لا إله إلا الله، فإن الإله الذي تألهه القلوب حبا وذلا وخوفا ورجاء وتعظيما وطاعة. وإله بمعنى مألوه، أي: محبوب معبود، وأصله من التأله وهو التعبد الذي هو آخر مراتب المحبة، فالمحبة حقيقة العبودية2 وسيأتي مزيد تفصيل لهذا القسم. ب- أقسام المحبة باعتبار متعلقها ومحبوبها: تنقسم المحبة باعتبار متعلقها ومحبوبها إلى قسمين: 1- نافعة محمودة، 2- مذمومة ضارة. القسم الأول: المحبة النافعة وهي التي تجلب لصاحبها ما ينفعه وهو السعادة وهي ثلاثة أنواع: أ- محبة الله. ب- محبة في الله. ج- محبة ما يعين على طاعة الله واجتناب معصيته.

_ 1 تيسير العزيز الحميد (ص 411) . 2 تيسير العزيز الحميد (ص 412) .

فيحب الله تعالى حبا لا يشاركه فيه أحد، ويكون الله عز وجل هو المحبوب المراد الذي لا يحب لذاته ولا يراد لذاته إلا هو، وهو المحبوب الأعلى الذي لا صلاح للعبد ولا فلاح ولا نعيم ولا سرور إلا بأن يكون هو محبوبه ومراده وغاية مطلوبه. وتكون هذه المحبة مستلزمة لما يتبعها من عبادته تعالى وخضوعه له، وتعظيمه عز وجل. والمحبة في الله: بأن يحب المؤمنين لا يحبهم إلا لله ويكون هواه تبعا لحب الله تعالى ورضاه، فلا يحب إلا ما يحب الله تعالى. ومحبة ما يعين على طاعة الله أنواع كثيرة تندرج فيها جميع العبادات. القسم الثاني: المحبة الضارة وهي المحبة المذمومة التي تجلب لصاحبها ما يضره وهو الشقاء. وهي ثلاثة أنواع أيضا: 1- المحبة مع الله. 2- محبة ما يبغضه الله. 3- محبة ما تقطع محبته عن محبة الله تعالى أو تنقصها. فمن النوع الأول: محبة المشركين آلهتهم كحب الله. ومن النوع الثاني: محبة الفواحش والمنكرات التي يبغضها الله. ومن النوع الثالث: عشق النساء الذي يزيد عن حده حتى يضيع الأوامر ويدخل في النواهي، وفي مقدمة ذلك عشق الفاسقات والعاهرات والولدان. فهذه ستة أنواع عليها مدار محاب الخلق. فأصل المحاب المحمودة محبة الله تعالى بل وأصل الإيمان والتوحيد والنوعان الآخران تبع لها.

كما أن المحبة مع الله أصل الشرك والمحاب المذمومة، والنوعان الآخران تبع لها1. فأصل الشرك الذي لا يغفره الله هو الشرك في هذه المحبة، فإن المشركين لم يزعموا أن آلهتهم وأوثانهم شاركت الرب سبحانه في خلق السموات والأرض وإنما كان شركهم بها من جهة محبتها مع الله فوالوا عليها وعادوا عليها وتألهوها وقالوا: هذه آلهة صغار تقربنا إلى الإله الأعظم، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّه} 2. ففرق بين محبة الله أصلا، والمحبة له تبعا، والمحبة معه شركا، وعليك بتحقيق هذا الموضع فإنه مفرق الطرق بين أهل التوحيد وأهل الشرك3.

_ 1 إغاثة اللهفان (2/ 140، 141) ، وجامع الرسائل (2/ 202) . 2 الآية (165) من سورة البقرة. 3 روضة المحبين (293) .

المطلب الثالث: حقيقة المحبة الشرعية

المطلب الثالث: حقيقة المحبة الشرعية: المقصود بالمحبة الشرعية: محبة الله سبحانه وتعالى ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم وكل ما يدخل في فلكها ويدور مع محورها. فهذه المحبة من أعظم واجبات الإيمان وأكبر أصوله، بل ومن أوجب العبادات المناطة بقلب المؤمن، ذلك لأنه لابد في إيمان القلب من حب الله ورسوله، وأن يكون الله ورسوله صلى الله عليه وسلم إليه مما سواهما. فهي أصل كل عمل من أعمال الإيمان والدين، كما أن التصديق به أصل كل قول من أقوال الإيمان والدين، فإن كل حركة في الوجود إنما تصدر عن محبة: إما محبة محمودة، أو عن محبة مذمومة. فجميع الأعمال الإيمانية الدينية لا تصدر إلا عن المحبة المحمودة، وأصل المحبة المحمودة هي محبة الله سبحانه وتعالى، إذ العمل الصادر عن محبة مذمومة لا يكون عملا صالحا عند الله، بل جميع الأعمال الإيمانية الدينية لا تصدر إلا عن محبة الله، فإن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما أريد به وجهه. كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه أنه قال "أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه 1 فإخلاص الدين لله هو الدين الذي لا يقبل الله سواه وهو الذي بعث به الأولين والآخرين من الرسل، وأنزل به جميع الكتب واتفق عليه أهل الإيمان،

_ 1 أخرجه مسلم في صحيحه، كناب الزهد: باب من أشرك في عمله غير الله (8/ 223) .

وهذا هو خلاصة الدعوة النبوية وهو قطب القرآن الذي تدور عليه رحاه1. فأصل الدين وقاعدته يتضمن أن يكون الله هو المعبود الذي تحبه القلوب وتخشاه ولا يكون لها إله سواه، والإله ما تألهه القلوب بالمحبة والتعظيم والرجاء والخوف والإجلال والإعظام ونحو ذلك. والله سبحانه أرسل الرسل بأنه لا إله إلا هو فتخلو القلوب عن محبة ما سواه بمحبته، وعن رجاء ما سواه برجائه، وعن سؤال ما سواه بسؤاله، وعن العمل لما سواه بالعمل له، وعن الاستعانة بما سواه بالاستعانة به2. فإذا كان أصل العمل الديني هو إخلاص الدين لله، وهو إرادة الله وحده فالشيء المراد لنفسه هو المحبوب لذاته، وهذا كمال المحبة، ولكن أكثر ما جاء المطلوب باسم العبادة كقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} 3، وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} 4، وأمثال هذا والعبادة تتضمن كمال الحب ونهايته، وكمال الذل ونهايته، فالمحبوب الذي لا يعظم ولا يذل له لا يكون معبودا، والمعظم الذي لا يحب لا يكون معبودا، ولهذا قال تعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} 5 فبين سبحانه أن المشركين بربهم الذين يتخذون من دون الله أندادا، وإن كانوا يحبونهم كما يحبون الله، فالذين آمنوا أشد حبا لله منهم لله ولأوثانهم

_ 1 مجموع الفتاوى (12/ 48، 49) . 2 مجموع الفتاوى (11/ 523، 524) . 3 الآية (56) من سورة الذاريات. 4 الآية (21) من سورة البقرة. 5 الآية (165) من سورة البقرة.

لأن المؤمنين أعلم بالله، والحب يتبع العلم، ولأن المؤمنين جعلوا جميع حبهم لله وحده، وأولئك جعلوا بعض حبهم لغيره وأشركوا بينه وبين الأنداد في الحب، ومعلوم أن ذلك أكمل قال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} 1. واسم المحبة فيه إطلاق وعموم فإن المؤمن يحب الله ويحب رسله وأنبياءه وعباده المؤمنين، وان كان ذلك من محبة الله، وإن كانا المحبة التي لله لا يستحقها غيره. ولهذا جاءت محبة الله سبحانه وتعالى مقرونة بما يختص به سبحانه من العبادة والإنابة إليه والتبتل له، ونحو ذلك. فكل هذه الأسماء تتضمن محبة الله سبحانه وتعالى. وكما أن محبته هي أصل الدين، فكذلك كمال الدين يكون بكمالها ونقصه بنقصها2 وكمال هذه المحبة هو بالعبودية والذل والخضوع والطاعة للمحبوب سبحانه وتعالى فالحق الذي خلق به ولأجله الخلق هو عبادة الله وحده التي هي كمال محبته والخضوع والذل له، ولوازم عبوديته من الأمر والنهي والثواب والعقاب، ولأجل ذلك أرسل الرسل، وأنزل الكتب، وخلق الجنة والنار3. قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} 4

_ 1 الآية (29) من سورة الزمر. 2 مجموع الفتاوى (10/ 56، 57) . 3 روضة المحبين (ص 59) . 4 الآية (2) من سورة الملك.

وقال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} 1، وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} 2. فأخبر سبحانه في هذه الآيات أن خلق العالم والموت والحياة وتزين الأرض بما عليها أنه للابتلاء والامتحان ليختبر خلقه أيهم أحسن عملا، فيكون عمله مواففا لمحاب الرب تعالى، فيوافق الغاية التي خلق هو لها وخلق لأجلها العالم وهي عبوديته المتضمنة لمحبته وطاعته، وهي العمل الأحسن وهو مواقع محبته ورضاه، وقدر سبحانه مقادير تخالفها بحكمته في تقديرها، وامتحن خلقه يين أمره وقدره ليبلوهم أيهم أحسن عملا. فانقسم الخلق في هذا الابتلاء فريقين: فريفا داروا مع أوامره ومحابه، ووقفوا حيث وقف بهم الأمر، وتحركوا حيث حركهم الأمر، واستعملوا الأمر في القدر، وركبوا سفينة الأمر في بحر القدر، وحكموا الأمر على القدر، ونازعوا القدر بالقدر امتثالا لأمره واتباعا لمرضاته فهؤلاء هم الناجون. والفريق الثاني: عارضوا بين الأمر والقدر، وبين ما يحبه ويرضاه وبين ما قدره وقضاه، فهؤلاء هم المفرطون3. وحقيقة المحبة: حركة نفس المحب إلى محبوبه، فالمحبة حركة بلا سكون4

_ 1 الآية (7) من سورة الكهف. 2 الآية (7) من سورة هود. 3 روضة المحبين (60، 61) . 4 روضة المحبين (ص 59) .

فالحب يوجب حركة النفس وشدة طلبها، والنفس خلقت متحركة بالطبع كحركة النار، فالحب حركتها الطبيعية، فكل من أجل شيئا من الأشياء وجد في حبه لذة وروحا، فإذا خلا عن الحب مطلقا تعطلت النفس عن حركتها وثقلت وكسلت وفارقها خفة النشاط، ولهذا تجد الكسالى أكثر الناس هما وغما وحزنا، ليس لهم فرح ولا سرور، بخلاف أرباب النشاط والجد في العمل أي عمل كان، فإن كان النشاط في عمل هم عالمون بحسن عواقبه وحلاوة غايته كان التذاذهم بحبه ونشاطهم فيه أقوى. وإنه ليس للقلب والروح ألذ ولا أطيب ولا أحلى ولا أنعم من محبة الله والإقبال عليه وعبادته وحده وقرة العين به، والأنس بقربه، والشوق إلى لقائه ورؤيته، وإن مثقال ذرة من هذه اللذة لا يعدل بأمثال الجبال من لذات الدنيا ولذلك كان مثقال ذرة من إيمان بالله ورسوله يخلص من الخلود في دار الآلام فكيف بالإيمان الذي يمنع من دخولها1. ولهذا كان أعظم صلاح العبد أن يصرف قوى حبه كلها لله تعالى وحده بحيث يحب الله بكل قلبه وروحه وجوارحه فليس لقلب العبد صلاح ولا نعيم إلا بأن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن تكون محبته لغير الله تابعة لمحبة الله، فلا يحب إلا لله. كما في الحديث الصحيح: "ثلاث من كن فيه، وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن

_ 1 روضة المحبين (ص 165، 166، 168) بتصرف.

يلقى في النار" 1، فأخبر أن العبد لا يجد حلاوة الإيمان إلا بأن يكون الله أحب إليه مما سواه، ومحبة الرسول هي من محبته، ومحبة المرء إن كانت لله فهي من محبة الله، وإن كانت لغير الله فهي منقصة لمحبة الله مضعفة لها، وتصدق هذه المحبة بأن يكون كراهته لأبغض الأشياء إلى محبوبه - وهو الكفر - بمنزلة كراهته لإلقائه في النار أو أشد. ولا ريب أن هذا من أعظم المحبة، فإن الإنسان لا يقدم على محبة نفسه وحياته شيئا، فإذا قدم محبة الإيمان بالله على نفسه بحيث لو خير بين الكفر وإلقائه في النار لاختار أن يلقى في النار ولا يكفر كان الله أحب إليه من نفسه فالحديث دل على أن حلاوة الإيمان تتبع كمال محبة العبد لله، وهذه الحلاوة لا تحصل إلا بثلاثة أمور: أ- تكميل هذه المحبة، 2- تفريعها، 3- دفع ضدها. 1- "فتكميلها": أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، فإن محبة الله ورسوله لا يكتفي فيها بأصل الحب، بل لابد أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما. 2- و"تفريعها": أن يحب المرء لا يحبه إلا لله. 3- و"دفع ضدها" أن يكره ضد الإيمان أعظم من كراهته الإلقاء في النار2 وهذه المحبة هي فوق ما يجده سائر العشاق والمحبين من محبة محبوبهم، بل

_ 1 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان: باب حلاوة الإيمان، فتح الباري (1/ 60) ح 16، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان: باب بيان خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان (1/ 48) . 2 مجموع الفتاوى (10/ 206) .

لا نظير لهذه المحبة كما لا مثيل لمن تعلقت به. وهي محبة تقتضي تقديم المحبوب فيها على النفس والمال والولد وتقتضي كمال الذل والخضوع والتعظيم والإجلال والطاعة والانقياد ظاهرا وباطنا وهذا لا نظير له في محبة المخلوق كائنا من كان. ولهذا من أشرك بين الله وبين غيره في هذه المحبة الخاصة كان مشركا شركا لا يغفره الله كما قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} والصحيح أن معنى الآية: والذين آمنوا أشد حبا لله من أهل الأنداد لأندادهم كما تقدم بيانه أن محبة المؤمنين لربهم لا يماثلها محبة مخلوق أصلا، كما لا يماثل محبوبهم غيره. وكل أذى في محبة غيره فهو نعيم في محبته، وكل مكروه في محبة غيره فهو قرة عين في محبته1. وكثير من الناس يدعي محبة الله تعالى من غير تحقيق لموجباتها قال بعض السلف: ادعى قوم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم يحبون الله فأنزل الله هذه الآية2 {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} 3 وهذا لأن الرسول هو الذي يدعو إلى ما يحبه الله، وليس شيء يحبه الله إلا والرسول يدعو إليه، وليس شيء يدعو إليه الرسول إلا والله يحبه، فصار محبوب الرب ومدعو الرسول متلازمين بل هذا هو هذا

_ 1 روضة المحبين (199، 200) . 2 مجموع الفتاوى (18/ 315) . 3 الآية (31) من سورة آل عمران.

في ذاته، وإن تنوعت الصفات. فكل من ادعى أنه يحب الله ولم يتبع الرسول فقد كذب، وليست محبته لله وحده، بل إن كان يحبه فهي محبة شرك، فإنما يتبع ما يهواه كدعوى اليهود والنصارى محبة الله، فإنهم لو أخلصوا له المحبة لم يحبوا إلا ما أحب فكانوا يتبعون الرسول، فلما أحبوا ما أبغض الله مع دعواهم حبه كانت محبتهم من جنس محبة المشركين. وهكذا أهل البدع فمن قال إنه من المريدين لله المحبين له، وهو لا يقصد اتباع الرسول والعمل بما أمر به، وترك ما نهى عنه، فمحبته فيها شوب من محبة المشركين واليهود والنصارى بحسب ما فيه من البدع، فإن البدع ليست مما دعا إليه الرسول ولا يحبها الله، فإن الرسول دعا إلى كل ما يحبه الله، فأمر بكل معروف ونهى عن كل منكر1. فمحبة الله ورسوله وعباده المتقين تقتضي فعل محبوباته وترك مكروهاته والناس يتفاضلون في هذا تفاضلا عظيما، فمن كان أعظم نصيبا من ذلك كان أعظم درجة عند الله. ومن كان أقل نصيبا كان ذلك سببا في نزول درجته ومنزلته، وأما من كان غير متبع لسبيل النبي صلى الله عليه وسلم فكيف يكون محبا لله سبحانه وتعالى2؟، ومعلوم أنه لا يتم الإيمان والمحبة لله إلا بتصديق الرسول فيما أخبر وطاعته فيما أمر3.

_ 1 مجموع الفتاوى (8/ 360) . 2 مجموع الفتاوى (18/ 316) . 3 مجموع الفتاوى (8/ 366) .

فلابد لمحب الله من متابعة الرسول والمجاهدة في سبيل الله بل هذا لازم لكل مؤمن قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} 1 فهذا حب المؤمن لله. وفد قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} 2 فأخبر أن من كانت محبوباته أحب إليه من الله ورسوله والجهاد في سبيله فهو من أهل الوعيد. وقال في الذين يحبهم ويحبونه {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} 3. فمن تمام محبة الله ورسوله بغض من حاد الله ورسوله، والجهاد في سبيله لقوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} 4 وقال تعالى: {تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ

_ 1 الآية (15) من سورة الحجرات. 2 الآية (24) من سورة التوبة. 3 الآية (54) من سورة المائدة. 4 الآية (22) من سورة المجادلة.

أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ، وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} 1، وقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} 2. فأمر المؤمنين أن يتأسوا بإبراهيم ومن معه حيث أبدوا العداوة والبغضاء لمن أشرك حتى يؤمنوا بالله وحده3. وثبات المحبة إنما يكون بمتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم في أعماله وأقواله وأخلاقه، فبحسب هذا الاتباع يكون منشأ هذه المحبة وثباتها وقوتها، وبحسب نقصانه يكون نقصانها. وهذا الاتباع يوجب المحبة والمحبوبية معا، ولا يتم الأمر إلا بهما فليس الشأن في أن تحب الله، بل الشأن في أن يحبك الله، ولا يحبك الله إلا إذا اتبعت حبيبه ظاهرا وباطنا، وصدقته خبرا، وأطعته أمرا، وأجبته دعوة، وآثرته طوعا وفنيت عن حكم غيره بحكمه، وعن محبة غيره من الخلق بمحبته، وعن طاعة غيره بطاعته، وإن لم يكن ذلك فلا تتعن، وارجع من حيث شئت فالتمس نورا فلست على شيء4. ومحبة الله ورسوله على درجتين:

_ 1 الآية (80، 81) من سورة المائدة. 2 الآية (4) من سورة الممتحنة. 3 مجموع الفتاوى (8/ 361) . 4 مدارج السالكين (3/ 37) .

واجبة، وهي درجة المقتصدين. ومستحبة، وهي درجة السابقين. فالأولى: تقتضي أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، بحيث لا يحب شيئا يبغضه، كما قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} وذلك يقتضي محبة جميع ما أوجبه الله تعالى، وبغض ما حرمه الله تعالى، وذلك واجب، فإن إرادة الواجبات إرادة تامة تقتضي وجود ما أوجبه الله، كما تقتضي عدم الأشياء التي نهى الله عنها وذلك مستلزم لبغضها التام. فيجب على كل مؤمن أن يحب ما أحبه الله، ويبغض ما أبغضه الله قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} 1. وقال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ، وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ} 2، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَه} 3. وأما محبة السابقين بأن يحب ما أحبه الله من النوافل والفضائل محبة تامة، وهذه حال المقربين الذين قربهم الله إليه. فإذا كانت محبة الله ورسوله الواجبة تقتضي بغض ما أبغضه الله ورسوله، كما في سائر أنواع المحبة، فإنها توجب بغض الضد ... "4.

_ 1 الآية (28) من سورة محمد. 2 الآيتان (124، 125) من سورة التوبة. 3 الآيتان (36) من سورة التوبة. 4 قاعدة في المحبة لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص 91، 92) .

المطلب الرابع: المعنى الصحيح لمحبة النبي صلى الله عليه وسلم وانقسام الناس فيها

المطلب الرابع: المعنى الصحيح لمحبة النبي صلى الله عليه وسلم وانقسام الناس فيها: اعلم أن الله سبحانه وتعالى قد أوجب لنبينا صلى الله عليه وسلم على القلب واللسان والجوارح حقوقا زائدة على مجرد التصديق بنبوته، كما أوجب سبحانه على خلقه من العبادات على القلب واللسان والجوارح أمورا زائدة على مجرد التصديق به سبحانه. وحرم سبحانه لحرمة رسوله - مما يباح أن يفعل مع غيره - أمورا زائدة على مجرد التكذيب بنبوته. فمن تلك الحقوق حقه صلى الله عليه وسلم بأن يكون أحب إلى المؤمن من نفسه وولده وجميع الخلق كما دلت على ذلك الأدلة من القرآن والسنة1 والتي سيأتي ذكرها. "فحب النبي صلى الله عليه وسلم من أعظم واجبات الدين"2. فهذه المحبة الواجبة له صلى الله عليه وسلم هي من محبة الله، فهي حب لله وفي الله، ذلك لأن محبة الله توجب محبة ما يحبه الله، والله يحب نبيه وخليله صلى الله عليه وسلم، فوجب بذلك محبته حقا، فهي متفرعة عن محبة الله وتابعة لها واقتران ذكرها مع محبة الله في القرآن والسنة إنما هو للتنبيه على أهميتها وعظم منزلتها. وبمقتضى هذه المحبة يجب موافقة الرسول صلى الله عليه وسلم في حب ما يحبه وكره ما يكرهه، أي بتحقيق المتابعة له فيحب بقلبه ما أحب الرسول، ويكره ما كرهه الرسول، ويرضى بما يرضى الرسول، ويسخط ما يسخط الرسول، ويعمل بجوارحه بمقتضى هذا الحب والبغض.

_ 1 الصارم المسلول (ص 420، 421) بتصرف يسير. 2 الرد على الأخنائي (ص 231) .

وقد انقسم الناس في فهمهم لهذه المحبة إلى ثلاثة أقسام هي: القسم الأول: أهل الإفراط. القسم الثاني: أهل التفريط. القسم الثالث: الذين توسطوا بين الإفراط والتفريط. أما أصحاب القسم الأول: فهم الذين بالغوا في محبته بابتداعهم أمورا لم يشرعها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ظنا منهم أن فعل هذه الأمور هو علامة المحبة وبرهانها. ومن تلك الأمور احتفالهم بمولده، ومبالغتهم في مدحه وإيصاله إلى أمور لا تنبغي إلا لله تعالى ومن ذلك قول قائلهم: يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث العمم إن لم تكن في معادي آخذا بيدي ... فضلا وإلا فقل يا زلة القدم1 وقوله: فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم فإذا كانت الدنيا والآخرة من جود الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن بعض علومه علم اللوح والقلم لأن "من" للتبعيض، فماذا للخالق جل وعلا؟ إضافة إلى صرف بعض أنواع العبادة له كالدعاء والتوسل والاستشفاع والحلف به والطواف والتمسح بالحجرة التي فيها قبره صلى الله عليه وسلم إلى غير ذلك من البدعيَّات والشركيَّات التي تفعل بدعوى المحبة للرسول صلى الله عليه وسلم، وهي أمور لم يشرعها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ولم يفعلها الصحابة رضوان الله عليهم الذين

_ 1 ديوان البوصيري (ص 238) .

عرفوا بإجلالهم وتقديرهم ومحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإضافة إلى ذلك فإن ما يقوم به هؤلاء هي أمور مخالفة لما جاء به الشارع، بل هي أمور قد حذر الشارع من فعلها، ولقد صار حظ أكثر أصحاب هذا القسم منه صلى الله عليه وسلم مدحه بالأشعار والقصائد المقترنة بالغلو والإطراء الزائد الذي حذر منه الشارع الكريم، مع عصيانهم له في كثير من أمره ونهيه، فتجد هذا النوع من أعصى الخلق له صلوات الله عليه وسلامه1. فيا ترى أي محبة هذه التي يخالف أصحابها شرع نبيهم، فيحلوا ما حرم الله ويحرموا ما أحل الله، فكرهوا ما أحب الله ورسوله، وأحبوا ما كرهه الله ورسوله. فكيف تكون لهؤلاء محبة وهم قد ابتدعوا ما ابتدعوه من أمور لم تشرع في الدين، ونعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تبرأ ممن ابتدع في هذا الدين فقال: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد". والذي يجب على أمثال هؤلاء أن يعلموا أن محبة الرسول وتعظيمه إنما تكون بتصديقه فيما أخبر به عن الله، وطاعته فيما أمر به، ومتابعته، ومحبته وموالاته، لا بالتكذيب بما أرسل به، والإشراك به والغلو فيه، فهذا لا يعدو كونه كفرا به، وطعنا فيما جاء به ومعاداة له2. كما يجب عليهم أن يفرقوا بين الحقوق التي يختص بها الله وحده ويبين الحقوق التي له ولرسله، والحقوق التي يختص بها الرسول، فقد ميز سبحانه بين ذلك في مثل قوله {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} 3، فالتعزير والتوقير للرسول

_ 1 تيسير العزيز الحميد (ص 186) . 2 الرد على الأخنائي (ص 24، 25) بتصرف. 3 الآية (9) من سورة الفتح.

والتسبيح بكرة وأصيلا لله، وكما قال: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} ، فالطاعة لله ولرسوله، والخشية والتقوى لله وحده وكما يقول المرسلون: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} 1. فعلى هؤلاء أن يعلموا أن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم تنال بدعائه والاستغاثة به، فتلك أمور صرفها لغير الله يعد شركا مع الله فالله وحده هو الذي يدعى ويستغاث به فهو رب العالمين، وخالق كل شيء، وهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه، وهو القريب الذي يجيب الداع إذا دعاه وهو سميع الدعاء سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا. وسيأتي بإذن الله مزيد تفصيل لما وقع فيه أصحاب هذا القسم من الغلو في حقه، وذلك في الباب الرابع الذي عقدته للكلام عن الغلو في حقه صلى الله عليه وسلم. أما أصحاب القسم الثاني: فهم أهل التفريط الذين قصروا في تحقيق هذا المقام فلم يراعوا حقه صلى الله عليه وسلم في وجوب تقديم محبته على محبة النفس والأهل والمال. كما لم يراعوا ماله من حقوق أخرى كتعزيره وتوقيره وإجلاله وطاعته واتباع سنته والصلاة والسلام عليه إلى غير ذلك من الحقوق العظيمة الواجبة له. والسبب في ذلك يعود إلى إحدى الأمور التالية أو إليها جميعا وهي: أولا: إعراض هؤلاء عن سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم وعن اتباع شرعه بسبب ما هم عليه من المعاصي، وإسرافهم في تقديم شهوات أنفسهم وأهوائهم على ما جاء في الشرع من الأوامر والنواهي. ثانيا: اعتقاد الكثير أن مجرد التصديق يكفي في تحقيق الإيمان، وأن هذا هو القدر الواجب عليهم، ولذا تراهم يكتفون بالتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، دون تحقيق المتابعة له، وهذا هو حال أهل الإرجاء الذين يؤخرون العمل عن مسمى

_ 1 الآية (3) من سورة نوح.

الإيمان ويقولون إن الإيمان هو التصديق بالقلب فقط، أو تصديق القلب وإقرار اللسان وما أكثرهم في زماننا هذا. ثالثا: جهل الكثير منهم بأمور دينهم بما فيها الحقوق الواجبة له صلى الله عليه وسلم، والتي من ضمنها محبته صلى الله عليه وسلم فكثير من الناس - ولا حول ولا قوة إلا بالله - ليس لهم من الإسلام إلا اسمه وليس لهم من الدين إلا رسمه. فالواجب على هؤلاء أن يعودوا إلى رشدهم وأن يقلعوا عن غيهم، وما هم عليه من المعاصي والذنوب التي هي سبب نقصان إيمانهم وضعف محبتهم وبعدهم عما يقربهم إلى الله تعالى. كما يجب عليهم أن يعلموا أن مجرد التصديق لا يسمى إيمانا بل الإيمان قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالأركان يزيد بطاعة الرحمن وينقص بطاعة الشيطان، فليس لأحد أن يخرج العمل عن مسمى الإيمان فلذلك يجب على كل من يؤمن بالله ورسوله أن يطيع الله ورسوله ويتبع ما أنزل الله من الشرع على رسوله صلى الله عليه وسلم، فبذلك يحصل الإيمان، فإن الاتباع هو ميزان الإيمان فبحسب اتباع المرء يكون إيمانه، فمتى ما قوي اتباعه قوي إيمانه والعكس بالعكس. كما يجب عليهم معرفة أمور دينهم وبخاصة الواجب منها والتي من ضمنها معرفة ما للمصطفى صلى الله عليه وسلم من الحقوق الواجبة فلقد ذم الله تبارك وتعالى أولئك النفر الذين لم يعرفوا ما للنبي صلى الله عليه وسلم من حق في عدم رفع الصوت عند مخاطبته أو مناداته ووصفهم الله بأنهم لا يعقلون قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} 1، وفي السورة نفسها أثنى على الذين

_ 1 الآية (4) من سورة الحجرات.

عرفوا حق المصطفى صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} 1، والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه العزيز {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} 2. وليعلم هؤلاء أنه لا يتحقق لهم إيمان ولا محبة إلا باتباعهم للمصطفى صلى الله عليه وسلم واقتدائهم بسنته والسير على نهجه وهداه. أما القسم الثالث: فهم الذين توسطوا بين الطرفين السابقين أهل الإفراط وأهل التفريط. فأصحاب هذا القسم هم السلف من الصحابة والتابعين ومن سار على نهجهم الذين آمنوا بوجوب هذه المحبة حكما وقاموا بمقتضاها اعتقادا وقولا وعملا. فأحبوا النبي صلى الله عليه وسلم فوق محبة النفس والولد والأهل وجميع الخلق امتثالا لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم فجعلوه أولى بهم من أنفسهم تصديقا لقوله تعالى {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} 3، وأيقنوا بوجوب أن يوقى بالأنفس والأموال طاعة لقوله تعالى {مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} 4. وقاموا بمقتضى هذه المحبة اعتقادا وقولا وعملا بحسب ما أو جب الله لنبيه صلى الله عليه وسلم من حقوق على القلب واللسان والجوارح من غير إفراط ولا تفريط. فآمنوا وصدقوا بنبوته ورسالته وما جاء به من ربه عز وجل. وقاموا- بحسب استطاعتهم- بما يلزم من طاعته والانقياد لأمره والتأسي بفعله والاقتداء بسنته

_ 1 الآية (3) من سورة الحجرات. 2 الآية (9) من سورة الزمر. 3 الآية (6) من سورة الأحزاب. 4 الآية (120) من سورة التوبة.

إلى غير ذلك مما يعد من لوازم الإيمان برسالته. قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 1 وامتثلوا لما أمر به سبحانه وتعالى من حقوق زائدة على مجرد التصديق بنبوَّته وما يدخل في لوازم رسالته. فمن ذلك امتثالهم لأمره سبحانه بالصلاة عليه والتسليم قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} 2. وما أمر به سبحانه من تعزيره وتوقيره قال تعالى: {وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ} . فتعزيره يكون بنصره وتأييده ومنعه من كل ما يؤذيه صلى الله عليه وسلم. وتوقيره: يكون بإجلاله وإكرامه وأن يعامل بالتشريف والتكريم والتعظيم بما يصونه عن كل ما يخرجه عن حد الوقار3. ويدخل في ذلك مخاطبته بما يليق قال تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} 4. وحرمة التقدم بين يديه بالكلام حتى يأذن، وحرمة رفع الصوت فوق صوته وأن يجهر له بالكلام كما يجهر الرجل للرجل قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ

_ 1 الآية (7) من سورة الحشر. 2 الآية (56) من سورة الأحزاب. 3 الصارم المسلول (ص 422) . 4 الآية (63) من سورة النور.

بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ، إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} 1. فقاموا بهذه الأمور امتثالا وطاعة لأمر الله تبارك وتعالى وأدوا ما فرض عليهم من الحقوق الأخرى التي يطول ذكرها والتي هي مذكورة في ثنايا هذا البحث. وهم مع قيامهم بهذه الأمور لم يتجاوزوا ما أمروا به فلم يغالوا ولم يبالغوا كما فعل أهل الإفراط الذين وصفوا النبي صلى الله عليه وسلم بأمور لا تنبغي لغير الله كعلم الغيب، وصرفوا له أمورا لا يجوز صرفها لغير الله كدعائه والسجود له والاستغاثة به والطواف بقبره. بل هم مؤمنون بأن ما أكرم الله به نبيه صلى الله عليه وسلم من النبوة والرسالة والرفعة وعظم القدر وشرف المنزلة، كل ذلك لا يوجب خروجه عن بشريته وعبوديته لله قال تعالى: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً} 2. واعتقدوا أنه ليس من المحبة في شيء الغلو في حقه وقدره ووصفه بأمور قد اختص الله بها وحده، بل علموا أن في هذا مخالفة ومضادة لتلك المحبة ومناقضة لما أمر به سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقوله لأمته: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 3. وقال تعالى: {قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا

_ 1 الآيات (1، 2، 3) من سورة الحجرات. 2 الآية (93) من سورة الإسراء. 3 الآية (65) من سورة النمل.

يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} 1. فكل غلو في حقه صلى الله عليه وسلم ليس من محبته في شيء بل يعد مخالفة لما أمر به فيجب الابتعاد عن ذلك والحذر من عقوبته قال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} كما يعد مشاقة للرسول صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} 2، ولذا فإنه يجب الحذر من حال الغلاة الذين غلوا في حق النبي صلى الله عليه وسلم بما ابتدعوه من الأمور التي لم يشرعها الله في كتابه أو على لسان رسوله، بل حذر الله ورسوله منها. وقد يظن البعض بأن السير على منهج أهل التوسط فيه انتقاص من قدر النبي صلى الله عليه وسلم وغمط لحقه، والأمر على عكس ما يظنون فالذي يعتقده السلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين أن الحق الواجب أن يثنى على النبي صلى الله عليه وسلم بما هو أهل له من الخصائص الثابتة له التي خصه الله بها والفضائل العظيمة التي شرفه بها والصفات الحقيقية والخلقية التي كان عليها وذلك للتعرف وتعريف الناس بفضله ومكانته وعظيم قدره عند الله وعند خلقه حتى يتأسى ويقتدى به في أقواله وأفعاله فهو الأسوة والقدوة عليه أفضل الصلاة والتسليم قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} 3.

_ 1 الآية (188) من سورة الأعراف. 2 الآية (115) من سورة النساء. 3 الآية (21) من سورة الأحزاب.

فمن صميم المحبة له صلى الله عليه وسلم الاشتغال بمعرفة سيرته بقصد التأسي والاقتداء بما كان عليه من كريم الخصال ومحاسن الأفعال والأقوال. وكذا معرفة شمائله ودلائل نبوته التي تعمق إيمان المسلم بصدق نبوته وتزيد في محبته وتعظيمه صلى الله عليه وسلم. ولقد اهتم السلف بهذه الجوانب وأولوها رعايتهم واهتمامهم فاعتنوا بتأليف المؤلفات التي أوضحت هذه الجوانب وأبرزتها فقد ألفت لهذا الغرض كتب الشمائل التي اعتنت بذكر صفاته وأحواله في عباداته وخلقه وهديه ومعاملاته1، كما ألفت كتب الدلائل التي اعتنت بدلائل وعلامات نبوته صلى الله عليه وسلم2. هذا بالإضافة إلى ما كتب في الفضائل والخصائص التي كانت للنبي صلى الله عليه وسلم. كما اعتنوا بأصل هذه الجوانب جميعها ألا وهو سيرته الشريفة صلى الله عليه وسلم فقد ألفت لهذا الغرض المؤلفات التي اعتنت بحياته منذ ولادته إلى وفاته وضمت في جوانب ذلك الحديث عن نشأته وبعثته وما حدث له من الأمور قبل الهجرة وبعدها وما كان من أمر دعوته وغزواته وسراياه وما يتعلق بهذه الجوانب وغيرها مما هو داخل في سيرته3. فقد دونت هذه الجوانب جميعها وخدمت بقصد أن يتأسى الناس به صلى الله عليه وسلم وأن يتعرفوا على كمال ذاته صلى الله عليه وسلم وما تميز به من صفات، وتفرد به من أخلاق لتزيد تلك المعرفة من محبتهم له وتنميتها في قلوبهم ولتبعث في نفوسهم تعظيمه وإجلاله. وبهذا يعلم أن أهل التوسط لم ينتقصوا من قدره صلى الله عليه وسلم بل حفظوا وحافظوا على كل ما من شأنه أن يضمن استمرارية محبة الأمة وتعظيمها له.

_ 1 من تلك الكتب: كتاب الشمائل للترمذي، كتاب الشمائل لابن كثير. 2 منها: كتاب دلائل النبوة لأبي نعيم الأصبهاني، وكتاب دلائل النبوة للبيهقي. 3 ومن أشمل الكتب التي تحدثت عن سيرته صلى الله عليه وسلم كتاب السيرة لابن كثير.

فهذه حال أهل التوسط وهذا هو منهجهم فمن أراد أن يسير على النهج القويم ويسلك الصراط المستقيم فعليه بسبيل أهل الإيمان وطريقهم ألا وهو الكتاب والسنة فذاك طريق الحق، والحق أحق أن يتبع. وهذا منهج السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين، فقد كانت محبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم تحكمها قواعد الكتاب والسنة، فما أمر به الشارع ائتمروا به وما نهى عنه الشارع انتهوا عنه، ولم يحكموا في هذه المحبة عواطفهم وأهواءهم كما فعل أهل الإفراط الذين زلت بهم أقدامهم بسبب غلوهم في حقه ذاك الغلو الذي دفعهم إليه تحكيم أهوائهم، وهو غلو ما أنزل الله به من سلطان بل إن نصوص الشرع تنص على تحريمه، وإنه ليصدق وصف أهل الإفراط بقوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} 1. فخلاصة القول في هذا الجانب أن المفهوم الصحيح لمحبته صلى الله عليه وسلم يتمثل في ذلك المفهوم الذي كان عليه سلف الأمة وأئمتها من الصحابة والتابعين وتابعيهم ومن سار على نهجهم وسلك سبيلهم. ذلك المفهوم المستمد من آيات القرآن ونصوص السنة والذي لم يخرج عنهما قيد أنملة. وما ذكرته ههنا عن هذا المفهوم الصحيح على سبيل الإجمال، وتفصيل ذلك مستوفى بين دفتي هذا البحث فمنه ما سبق بيانه ومنه ما سيأتي تفصيله ونسأل الله الإعانة على ذلك.

_ 1 الآية (50) من سورة القصص.

المبحث الثاني: الأدلة على وجوب محبته صلى الله عليه وسلم

المبحث الثاني: الأدلة على وجوب محبته صلى الله عليه وسلم المطلب الأول: الأدلة من القرآن على وجوب محبته صلى الله عليه وسلم ... المطلب الأول: الأدلة من القرآن على وجوب محبته صلى الله عليه وسلم. لما كانت محبة الله ورسوله من أعظم واجبات الإيمان، وأكبر أصوله وأجل قواعده، بل هي أصل كل عمل من أعمال الإيمان والدين كما أن التصديق أصل كل قول من أقوال الإيمان1. ولما كانت هذه المحبة من الإيمان الواجب الذي لا يتم إيمان العبد إلا به. ولما كانت هذه المحبة هي إحدى الحقوق الواجبة للنبي صلى الله عليه وسلم على أمته، فقد جعل الله هذه المحبة فوق محبة الإنسان لنفسه وأهله وماله والناس أجمعين. كما نص على ذلك في كتابه الله العزيز: أولا: قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} 2. فالآية نصت على وجوب محبة الله ورسوله وأن تلك المحبة يجب أن تكون مقدمة على كل محبوب، ولا خلاف في ذلك بين الأمة3. قال القاضي عياض: "كفى بهذه الآية حضا وتنبيها ودلالة وحجة على لزوم محبته، ووجوب فرضها، واستحقاقه لها صلى الله عليه وسلم إذ قرع تعالى من كان ماله وأهله وولده أحب إليه من الله ورسوله، وأوعدهم بقوله تعالى:

_ 1 مجموع الفتاوى (10/ 48، 49) . 2 الآية (24) من سورة التوبة. 3 تفسير القرطبي (8/ 95) بتصرف.

{فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} ثم فسقهم بتمام الآية وأعلمهم أنهم ممن ضل ولم يهده الله"1. والمتأمل لهذه الآية يجد أن الأمر فيها لم يقتصر على وجود أصل المحبة لله ورسوله، بل لابد مع ذلك أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما. وهذه المحبة لله تقتضي تحقيق العبودية له لأن العبادة هي الغاية التي خلق الله لها العباد من جهة أمره ومحبته ورضاه كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} 2 وبها أرسل الرسل وأنزل الكتب، وهي اسم يجمع كمال الحب لله ونهايته وكمال الذل لله ونهايته فالحب الخالي عن الذل والذل الخالي عن الحب لا يكون عبادة، وإنما العبادة ما يجمع كمال الأمرين ولهذا كانت العبادة لا تصلح إلا لله، وهي وإن كانت منفعتها للعبد والله غني عنها فهي له من جهة محبته لها ورضاه بها 3 وأما محبة الرسول فتقتضي تحقيق المتابعة له صلى الله عليه وسلم وموافقته في حب المحبوبات وبغض المكروهات. ومحبته صلى الله عليه وسلم متفرعة عن محبة الله تعالى وتابعة لها. فمن أحب الله ورسوله محبة صادقة من قلبه أوجب له ذلك أن يحب بقلبه ما يحبه الله ورسوله، ويكره ما يكرهه الله ورسوله، ويرضى ما يرضى الله ورسوله، ويسخط ما يسخط الله ورسوله وأن يعمل بجوارحه بمقتضى هذا الحب والبغض، فإن عمل بجوارحه شيئا يخالف ذلك، بأن ارتكب بعض ما

_ 1 الشفا (2/ 563) . 2 الآية (56) من سورة الذاريات. 3 التحفة العراقية لشيخ الإسلام ابن تيمية (4/12، 13) مطبوعة ضمن الرسائل المنيرية (بتصرف يسير) .

يكرهه الله ورسوله أو ترك بعض ما يحبه الله ورسوله مع وجوبه والقدرة عليه دل ذلك على نقص محبته الواجبة فعليه أن يتوب من ذلك ويرجع إلى تكميل المحبة الواجبة. فجميع المعاصي إنما تنشأ من تقديم هوى النفوس على محبة الله ورسوله، وقد وصف الله المشركين باتباع الهوى في مواضع من كتابه فقال تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} 1، وكذلك البدع إنما تنشأ من تقديم الهوى على الشرع، ولهذا يسمى أهلها "أهل الأهواء"2 والذنوب تنقص من محبة الله تعالى بقدر ذلك، ولكن لا تزيل المحبة لله ورسوله إذا كانت ثابتة في القلب، ولم تكن الذنوب عن نفاق كما في صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حديث حمار3 الذي كان يشرب الخمر، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقيم عليه الحد فلما كثر ذلك منه لعنه رجل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله" 4 وفيه دلالة على أنا منهيون عن لعنة أحد بعينه، وإن كان مذنبا، إذا كان يحب الله ورسوله5.

_ 1 الآية (50) من سورة القصص. 2 جامع العلوم والحكم لابن رجب (ص 366) بتصرف يسير. 3 هذا لقبه واسمه النعيمان بن عمرو بن رفاعة الأنصاري، وقيل إن القصة وقعت لابنه عبد الله. فتح الباري (12/ 77) ، والإصابة (3/ 540، 541) . 4 أخرجه في كتاب الحدود، باب ما يكره من لعن شارب الخمر وأنه ليس بخارج من الملة. انظر: فتح الباري (12/ 75) . 5 كتاب قاعدة في المحبة لشيخ الإسلام ابن تيمية (72، 73) بتحقيق محمد رشاد سالم.

ثانيا: ومن الآيات التي يستدل بها على وجوب محبة النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} 1 فالآية دليل على أن من لم يكن الرسول أولى به من نفسه فليس من المؤمنين، وهذه الأولوية تتضمن أمورا منها: أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم إلى العبد من نفسه، لأن الأولوية أصلها الحب، ونفس العبد أحب إليه من غيره، ومع هذا يجب أن يكون الرسول أولى به منها، فبذلك يحصل له اسم الإيمان. ويلزم من هذه الأولوية والمحبة كمال الانقياد والطاعة والرضا والتسليم وسائر لوازم المحبة من الرضا بحكمه والتسليم لأمره، وإيثاره على ما سواه. ومنها: أن لا يكون للعبد حكم على نفسه أصلا، بل الحكم على نفسه للرسول صلى الله عليه وسلم يحكم عليها أعظم من حكم السيد على عبده أو الوالد على ولده، فليس له في نفسه تصرف قط إلا ما تصرف فيه الرسول الذي هو أولى به منها. ومن العجب أن يدعي حصول هذه الأولوية والمحبة التامة من كان سعيه واجتهاده ونصيبه في الاشتغال بأقوال غيره وتقريرها والغضب والمحبة لها والرضا بها والتحاكم إليها، وعرض ما قاله الرسول عليها، فإن وافقها قبله، وإن خالفها التمس وجوه الحيل وبالغ في رده ليا وإعراضا2 ولذلك فإنه ينبغي على كل مسلم أن يعلم أن محبة النبي صلى الله عليه وسلم ليست مجرد دعوى تتحقق بتلفظ اللسان فقط - كما يظن كثير من الناس - بل لابد لهذه الدعوى من البرهان الذي يثبت صدقها، وبرهان المحبة تحقيق الأولوية في شتى

_ 1 الآية (6) من سورة الأحزاب. 2 الرسالة التبوكية (ص 29، 30) بتصرف يسير.

صورها وأشكالها فبحسب ذلك التحقيق تتحدد درجة المحبة وتتعين. وليعلم أنه لا يتم للعبد مقام الإيمان حتى يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أجل إليه من نفسه فضلا عن ابنه وأبيه. فإذا كان هذا شأن محبة عبده ورسوله فكيف بمحبته سبحانه؟. ثالثا: ومما يستدل به كذلك على وجوب محبة النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} 1. ووجه الاستدلال بهذه الآية: أن الآية قد تضمنت وجوب محبة النبي صلى الله عليه وسلم لأنه مما يدخل في محبة الله محبة ما يحبه الله، والله يحب نبيه وخليله صلى الله عليه وسلم فمن أجل ذلك وجبت علينا محبته. ومن المعلوم أن أصل حب أهل الإيمان هو حب الله، ومن أحب الله أحب من يحبه الله، وكل ما يحب سواه فمحبته تكون تبعا لمحبة الله، إذ ليس في الوجود ما يستحق أن يحب لذاته من كل وجه إلا الله تعالى. فالرسول عليه الصلاة والسلام إنما يحب لأجل الله ويطاع لأجل الله ويتبع لأجل الله، وكذا الأنبياء والصالحون وسائر الأعمال الصالحة تحب جميعا لأنها مما يحب الله. وبهذا يعلم تعين محبة النبي صلى الله عليه وسلم ووجوبها ولزومها. هذا وقد جاء ذكر محبة الرسول مقترنا بمحبة الله في قوله تعالى: {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} وكذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما.." وفي مواطن أخرى متعددة من السنة كما سيأتي.

_ 1 الآية (165) من سورة البقرة.

وهذا الاقتران يدلل على مدى الصلة الوثيقة يين محبة الله ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن كانت محبة الرسول داخلة ضمن محبة الله تعالى أصلا، لكن إفرادها بالذكر مع أنها ضمن محبة الله فيه إشارة إلى عظم قدرها وإشعار بأهميتها ومكانتها. رابعا: ومن الأدلة قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 1. ففي هذه الآية إشارة ضمنية إلى وجوب محبة النبي صلى الله عليه وسلم، لأن الله تبارك وتعالى قد جعل برهان محبته تعالى ودليل صدقها هو اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الاتباع لا يتحقق ولا يكون إلا بعد الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم، والإيمان به لابد فيه من تحقق شروطه التي منها محبة النبي صلى الله عليه وسلم فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فوالذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده" 2. فمحبته صلى الله عليه وسلم شرط في الإيمان الذي لا يتحقق الاتباع إلا بوجوده. ومن جهة أخرى فإن محبة الله مستلزمة لمحبة ما يحبه من الواجبات، واتباع رسوله هو من أعظم ما أوجبه الله تعالى على عباده وأحبه. وهو سبحانه أعظم شيء بغضا لمن لم يتبع رسوله. فمن كان صادقا في دعوى محبة الله اتبع رسوله لا محالة، وكان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما. فتأمل هذا التلازم بين محبة الله تعالى ومحبة نبيه صلى الله عليه وسلم.

_ 1 الآية (31) من سورة آل عمران. 2 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان: باب حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان. انظر: فتح الباري (1/ 58) ح 14.

المطلب الثاني: الأدلة من السنة على وجوب محبته صلى الله عليه وسلم

المطلب الثاني: الأدلة من السنة على وجوب محبته صلى الله عليه وسلم. تضافرت الأدلة من السنة على تأكيد وجوب محبة النبي صلى الله عليه وسلم باعتبار هذه المحبة من صميم الدين فلا يتم لأحد إيمان إلا بتحقيقها. بل إنه لا يكتفي بوجود أصلها فقط، إذ لابد مع ذلك من تقديم محبته بعد محبة الله على محبة النفس والوالد والولد والناس أجمعين. ومما يدل على وجوب تقديم محبته صلى الله عليه وسلم على محبة النفس. أولا: ما جاء في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "يا رسول الله، لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك". فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي". فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الآن ياعمر" 1. فالحديث نص على وجوب تقديم محبة الرسول صلى الله عليه وسلم على محبة النفس. وأما الدليل على وجوب تقديم محبته على محبة الوالد والولد والناس أجمعين: ثانيا: فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فوالذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده". ثالثا: وعن أنس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم

_ 1 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأيمان والنذور: باب كيف كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم. انظر: فتح الباري (11/ 523) ح 6632.

حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين" 1. "فالمراد من قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم" أي: لا يحصل له الإيمان الذي تبرأ به ذمته، ويستحق به دخول الجنة بلا عذاب حتى يكون الرسول أحب إليه من أهله وولده والناس أجمعين، بل لا يحصل له ذلك حتى يكون الرسول أحب إليه من نفسه أيضا، كما تقدم في حديث عمر رضي الله عنه. فمن لم يكن كذلك، فهو من أصحاب الكبائر إذا لم يكن كافرا، فإنه لا يعهد في لسان الشرع نفي اسم مسمى أمر الله به ورسوله إلا إذا ترك بعض واجباته، فأما إذا كان الفعل مستحبا في العبادة لم ينفها لانتفاء المستحب، ولو صح هذا لنفي عن جمهور المؤمنين اسم الإيمان والصلاة والزكاة والحج وحب الله ورسوله، لأنه ما من عمل إلا وغيره أفضل منه، وليس أحد يفعل أفعال البر مثل ما فعلها النبي صلى الله عليه وسلم، بل ولا أبو بكر ولا عمر، فلو كان من لم يأت بكمالها المستحب يجوز نفيها عنه، لجاز أن ينفي عن جمهور المسلمين من الأولين والآخرين، وهذا لا يقوله عاقل. وعلى هذا فمن قال: إن المنفي هو الكمال، فإن أراد أنه نفي الكمال الواجب الذي يذم تاركه ويتعرض للعقوبة فقد صدق، وإن أراد نفي الكمال المستحب فهذا لم يقع قط في كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وأكثر الناس يدعي أن الرسول أحب إليه مما ذكر، فلا بد حينئذ من تصديق ذلك بالعمل والمتابعة له، وإلا فالمدعي كاذب.

_ 1 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان: باب حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان، واللفظ له. انظر: فتح الباري (1/ 58) ح 15، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان: باب بيان خصال من اتصف بها وجد حلاوة الإيمان (1/ 48) .

فإن القرآن بين أن المحبة التي في القلب تستلزم العمل الظاهر بحبها كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} ، وقال تعالى: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} إلى قوله: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 1، فنفي الإيمان عمن تولى عن طاعة الرسول وأخبر أن المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله سمعوا وأطاعوا. فتبين أن هذا من لوازم الإيمان والمحبة، ولكن كل مسلم لابد أن يكون محبا بقدر ما معه من الإسلام، كما أن كل مؤمن لابد أن يكون مسلما وكل مسلم لابد أن يكون مؤمنا، وإن لم يكن مؤمنا الإيمان المطلق، لأن ذلك لا يحصل إلا لخواص المؤمنين، فإن الاستسلام لله ومحبته لا يتوقف على هذا الإيمان الخاص. وهذا الفرق يجده الإنسان من نفسه ويعرفه من غيره، فعامة الناس إذا أسلموا بعد كفر، أو ولدوا في الإسلام، والتزموا شرائعه، وكانوا من أهل الطاعة لله ورسوله، وهم مسلمون ومعهم مطلق الإيمان، لكن دخول حقيقة الإيمان إلى قلوبهم يحصل شيئا فشيئا إن أعطاهم الله ذلك، وإلا فكثير من الناس لا يصلون إلى اليقين، ولا إلى الجهاد ولو شككوا لشكوا ولو أمروا بالجهاد لما جاهدوا، وليسوا كفارا ولا منافقين، بل ليس عندهم من علم القلب ومعرفته ويقينه ما يدرأ الريب، ولا عندهم من قوة الحق لله ورسوله ما

_ 1 الآية (51) من سورة النور.

يقدمونه على الأهل والمال. وهؤلاء إن عوفوا من المحنة وماتوا دخلوا الجنة، وإن ابتلوا بمن يدخل عليهم شبهات توجب ريبهم فإن لم ينعم الله عليهم بما يزيل الريب وإلا صاروا مرتابين وانتقلوا إلى نوع من النفاق"1. رابعا: وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما. وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله. وأن يكره أن، يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار". وفي هذا الحديث أخبر صلى الله عليه وسلم أن هذه الثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان. والمتأمل في هذه الأمور الثلاثة يرى أنها تتبع كمال محبة العبد لله2 لأن محبة الله تكمل بأن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ذلك لأن محبة الله ورسوله لا يكتفي فيها بأصل الحب، بل لابد أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما. وتفريعها: أن يحب المرء لا يحبه إلا لله. ودفع ضدها: بأن يكره ضد الإيمان أعظم من كراهة الإلقاء في النار3. والشاهد من الحديث معنا قوله: "أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما". فمن المعلوم أن كل من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم إيمانا صحيحا لا يخلو عن وجدان

_ 1 تيسير العزيز الحميد (415، 417) . 2 المقصود كمال المحبة الواجب الذي يذم تاركه ويتعرض للعقوبة وليس المراد الكمال المستحب. 3 مجموع الفتاوى (10/ 206) .

شيء من تلك المحبة، غير أن الناس يتفاوتون فمنهم من أخذ من تلك المرتبة بالحظ الأوفى وهم الذين جعلوا محبة الله ورسوله مقدمة على ما سواهما. ومنهم من أخذ منها بالحظ الأدنى كمن كان مستغرقا في الشهوات محجوبا في الغفلات في أكثر الأوقات. ومنهم من هو بين هذين الأمرين. فالحظ الأوفى هو بتحقيق هذه المرتبة من المحبة وهي أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما". وذلك بأن يتوجه بكليته نحو هذه الغاية فيحب ما أحب الله ورسوله ويكره ما كرهه الله ورسوله، فيمتثل للأوامر ويجتنب النواهي ولا يتلقى شيئا من المأمورات والمنهيات إلا من مشكاة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يسلك إلا طريقته، ويرضى بما شرعه حتى لا يجد في نفسه حرجا مما قضاه، ويتخلق بأخلاقه، فمن جاهد نفسه على ذلك وجد حلاوة الإيمان. وأما قوله: "وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله" ففيه دلالة واضحة على أن حب الأشخاص الواجب فيه أن يكون تبعا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فيجب على المؤمن محبة الله ومحبة من يحبه الله من الملائكة والرسل والأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين عموما. وفي الحديث "من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان" 1. ومتى كان حب المرء وبغضه وعطاؤه ومنعه لهوى نفسه كان ذلك نقصا في إيمانه الواجب فيجب عليه التوبة من ذلك والرجوع إلى اتباع ما جاء به الرسول

_ 1 أخرجه أبو داود في سننه، كتاب السنة: باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه (5/ 60) وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (5/ 229) .

صلى الله عليه وسلم من تقديم محبة الله ورسوله وما فيه رضا الله ورسوله على هوى النفس ومراداتها كلها1. خامسا: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله متى الساعة؟، قال: "وما أعددت للساعة؟ "، قال: حب الله ورسوله. قال: "فإنك مع من أحببت". قال أنس: فما فرحنا بعد الإسلام فرحا أشد من قول النبي صلى الله عليه وسلم: "فإنك مع من أحببت". قال أنس: فأنا أحب الله ورسوله وأبا بكر وعمر فأرجو أن أكون معهم وإن لم أعمل بأعمالهم"2. سادسا: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أشد أمتي لي حبا ناس يكونون بعدي يود أحدهم لو رآني بأهله وماله" 3. سابعا: وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحبوا الله لما يغدوكم به من نعمه، وأحبوني بحب الله وأحبوا أهل بيتي لحبي" 4.

_ 1 جامع العلوم والحكم (ص 366، 367) بتصرف. 2 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب: باب المرء مع من أحب، انظر: فتح الباري (10/ 557) ح 6171، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب البر والصله: باب المرء مع من أحب (8/ 42) واللفظ له. 3 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها: باب فيمن يود رؤية النبي صلى الله عليه وسلم بأهله وماله. انظر: (8/ 148) . 4 أخرجه الترمذي في سننه، كتاب المناقب: باب مناقب أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم (5/ 664) ح 3789، وقال الترمذي حديث حسن غريب إنما نعرفه من هذا الوجه. وأخرجه الحاكم في مستدركه (3/ 149، 150) وصححه، ووافقه الذهبي. وأخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 211) . والخطيب في تاريخ بغداد (4/ 160) ، والطبراني في الكبير (10/ 341) ح 10664.

ثامنا: وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: "لأعطين هذه الراية رجلا يحب الله ورسوله يفتح الله على يديه". قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما أحببت الإمارة إلا يومئذ. قال: فتساورت لها1 رجاء أن أدعى لها. قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب فأعطاه إياها ... " الحديث2. وعن سهل بن سعد3 رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: "لأعطين الراية غدا رجلا يفتح الله على يديه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله". قال: فبات الناس يدوكون4 ليلتهم: أيهم يعطاها؟، فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها. فقال: "أين علي بن أبي طالب؟ " فقيل: هو يا رسول الله يشتكي عينيه. قال: "فأرسلوا إليه فأتي به فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه ودعا له فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية...." الحديث5.

_ 1 "تساورت لها": أي رفعت لها شخصي. النهاية (2/ 420) . 2 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة: باب فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه (7/ 121) . 3 سهل بن سعد الساعدي الأنصاري من مشاهير الصحابة، مات النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن خمس عشرة سنة. وهو آخر من مات بالمدينة من الصحابة، مات سنة إحدى وتسعين وقيل قبل ذلك. الإصابة (2/ 87) . 4 أي يخوضون ويموجون فيمن يدفعها إليه. النهاية (2/ 145) . 5 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي: باب غزوة خيبر انظر: فتح الباري (7/ 476) ح 4210، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة: باب فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه (7/ 121) .

المطلب الثالث: ما جاء عن الصحابة في شأن محبته صلى الله عليه وسلم

المطلب الثالث: ما جاء عن الصحابة في شأن محبته صلى الله عليه وسلم. إن مما لا ريب فيه أن حظ الصحابة من حبه صلى الله عليه وسلم كان أتم وأوفر، ذلك أن المحبة ثمرة المعرفة، وهم بقدره صلى الله عليه وسلم ومنزلته أعلم وأعرف من غيرهم فبالتالي كان حبهم له صلى الله عليه وسلم أشد وأكبر. وإن المتأمل لما ورد عن الصحابة رضوان الله عليهم من كلام في هذا الخصوص يلمس صدق تلك المحبة وعظمها في نفوسهم. فعن عمرو بن العاص1 رضي الله عنه قال: "وما كان أحد أحب إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أجل في عيني منه وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالا له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت، لأني لم أكن أملأ عيني منه"2. وقد سئل علي بن أبي طالب رضي الله عنه: كيف كان حبكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟، قال: "كان والله أحب إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا ومن الماء البارد على الظمأ"3. وقد سأل أبو سفيان بن حرب - وهو على الشرك حينذاك - زيد بن الدثنة4

_ 1 هو عمرو بن العاص بن وائل القرشي السهمي أسلم قبل الفتح، أحد دهاة العرب في الإسلام، وأحد القادة الفاتحين، فتح مصر وكان أميرا عليها، توفي سنة 43 هـ. الإصابة (3/ 2- 3) . 2 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان: باب كون الإسلام يهدم ما قبله وكذا الهجره (1/ 78) . 3 الشفا (2/ 568) . 4 زيد بن الدثنة - بفتح الدال وكسر المثلثة بعدها نون - ابن معاوية الأنصاري البياضي، شهد بدرا وأحدا، وكان في غزوة بئر معونة فأسره المشركون وقتلته قريش بالتنعيم. الإصابة (1/ 548) .

رضي الله عنه حينما أخرجه أهل مكة من الحرم ليقلتوه - وكان قد أسر يوم الرجيع -1 أنشدك الله يازيد أتحب أن محمدا الآن عندنا مكانك نضرب عنقه وإنك في أهلك؟، قال: "والله ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وإني جالس في أهلي". فقال أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمدا2. وعن الشعبي قال: جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لأنت أحب إلي من نفسي وولدي وأهلي ومالي ولولا أني آتيك فأراك لظننت أني سأموت وبكى الأنصاري. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أبكاك؟ "، قال: ذكرت أنك ستموت ونموت فترفع مع النبيين ونحن إن دخلنا الجنة كنا دونك. فلم يخبره النبي صلى الله عليه وسلم بشيء فأنزل الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} 3، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " أبشر" 4.

_ 1 الرجيع: بفتح الراء وكسر الجيم هو في الأصل اسم للروث، وسمي بذلك لاستحالته، والمراد هنا: اسم موضع من بلاد هذيل كانت الوقعة بالقرب منه. فتح الباري (7/ 379) . 2 البداية لابن كثير (4/ 65) ، وأخرجه البيهقي في الدلائل (3/ 326) في أمر خبيب. 3 الآيتان (9، 70) من سورة النساء. 4 أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (ص 13) بتحقيق محمد بن عبد الوهاب العقيل، رسالة ماجستير في الجامعة الإسلامية. وأورده السيوطي في الدر المنثور وعزاه إلى سعيد بن منصور وابن المنذر. انظر (2/ 182) . والحديث له شاهد آخر من حديث عائشة مرفوعا بنحوه، أخرجه الطبراني في المعجم الصغير (1/ 26) . وأبو نعيم في الحلية (8/ 125) ، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 7) : "رجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن عمران العابدي وهو ثقة، وله شاهد آخر من حديث ابن عباس مرفوعا بنحوه، أخرجه الطبراني في الكبير (12/ 86) ح رقم 12559، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 7) وفيه عطاء بن السائب وقد اختلط. وله شاهد من طريق آخر عن سعيد بن جبير مرسلا. أخرجه ابن جرير في تفسيره (5/ 163) . وطرق هذا الحديث يقوي بعضها بعضا. والله أعلم.

وقال سعد بن معاذ1 رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر: "يا نبي الله ألا نبني لك عريشا تكون فيه ونعد عندك ركائبك، ثم نلقى عدونا، فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا وإن كان الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا من قومنا فقد تخلف عنك أقوام ما نحن بأشد حبا لك منهم ولو ظنوا أنك تلقى حربا ما تخلفوا عنك، يمنعك الله بهم يناصحونك ويجاهدون معك"، فأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا ودعا له بخير2. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما كان يوم أحد جاض3 أهل المدينة جيضة وقالوا: قتل محمد، حتى كثرت الصوارخ4 في ناحية المدينة. فخرجت امرأة من الأنصار محرمة فاستقبلت5 بأبيها وابنها وزوجها وأخيها لا أدري أيهم استقبلت به أولا فلما مرت على أحدهم قالت: من هذا؟، قالوا: أبوك أخوك زوجك ابنك. تقول: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟،

_ 1 سعد بن معاذ بن النعمان الأنصاري الأشهلي، سيد الأوس، صحابي جليل، شهد بدرا، ورمي بسهم يوم الخندق فعاش بعد ذلك شهرا ثم مات، وذلك سنة خمس من الهجرة. الإصابة (2/ 35) . 2 أورده ابن هشام في السيرة (2/ 192) وعزاه لابن إسحاق، وأورده ابن كثير في البداية (3/ 268) 3 يقال: جاض في القتال: إذا فر. وجاض عن الحق: عدل. وأصل الجيض: الميل عن الشيء، ويروى بالحاء والصاد المهملتين النهاية (1/ 324) . 4 جمع صارخ: وهو المصوت يعلمه بأمر حادث يستعين به عليه أو ينعي له ميتا. النهاية (3/ 21) . 5 أي أخبرت بمقتل أبيها، وابنها، وزوجها، وأخيها.

يقولون: أمامك حتى دفعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت بناحية ثوبه ثم قالت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله لا أبالي إذا سلمت من عطب1. وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بامرأة من بني دينار وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحد، فلما نُعوا لها قالت: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: خيرا يا أم فلان هو بحمد الله كما تحبين. قالت: أرونيه حتى أنظر إليه. قال: فأشير لها إليه حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك2 جلل"3. ولقد حكم الصحابة رضوان الله عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أنفسهم وأموالهم فقالوا: "هذه أموالنا بين يديك فاحكم فيها بما شئت وهذه نفوسنا بين يديك لو استعرضت بنا البحر لخضناه، نقاتل بين يديك ومن خلفك وعن يمينك وعن شمالك"4. وما هذا الإيثار الذي تضمنته هذه الكلمات إلا تعبيرا عما تكنه نفوسهم من المحبة له صلى الله عليه وسلم واسمع إلى قول قيس بن صرمة الأنصاري5 إذ يقول:

_ 1 أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 115) وقال: رواه الطبراني في الأوسط عن شيخه محمد بن شعيب ولم أعرفه وبقية رجاله ثقات. 2 جلل: أي هينة ويسيره، والكلمة من الأضداد تكون للحقير والعظيم النهاية (1/ 289) . 3 رواه ابن هشام في السيرة (3/ 43) . وعنه أورده ابن كثير في البداية والنهاية (4/ 47) وأخرجه البيهقي في الدلائل (3/ 302) بنحوه. 4 روضة المحبين (ص 277) . 5 قياس بن صرمة، وقيل صرمة بن قيس، وقيل قيس بن مالك بن صرمة وقيل غير ذلك، الأوسي الأنصاري، أدرك الإسلام شيخا كبيرا فأسلم، وقد قال هذه الأبيات حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة. الإصابة (2/ 176- 177)

ثوى في قريش بضع عشرة حجة ... يذكر لو يلقى حبيبا مؤاتيا ويعرض في أهل المواسم نفسه ... فلم ير من يؤوي ولم ير داعيا فلما أتانا واتقرت به النوى ... وأصبح مسرورا بطيبة راضيا بذلنا له الأموال من حل مالنا ... وأنفسنا عند الوغى والتأسيا نعادي الذي عادى من الناس كلهم ... جميعا وإن كان الحبيب المصافيا ونعلم أن الله لا رب غيره ... وأن رسول الله أصبح هاديا1

_ 1 روضة المحبين (ص 277) .

الفصل الثاني: علامات محبته صلى الله عليه وسلم والثواب المترتب عليها

الفصل الثاني: علامات محبته صلى الله عليه وسلم والثواب المترتب عليها المبحث الأول: علامات محبته صلى الله عليه وسلم المطلب الأول: من علامات محبته اتباعه والأخذ بسنته صلى الله عليه وسلم ... تمهيد: سن الشارع الكريم علامات ودلائل لمحبة النبي صلى الله عليه وسلم، شرعت ليتسنى من خلالها معرفة من يصدق في دعوى محبته للمصطفى صلى الله عليه وسلم، فكل دعوى لابد لها من برهان، يدل على صدقها قال تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 1. ومن أجل ذلك فإن على كل مسلم أن يكون على علم بتلك الدلائل والعلامات، وأن يعمل بها ويحققها، وأن لا يرغب عنها أو يستبدل بها أمورا أخرى مبتدعة لم يرد فيها دليل من الشرع. فبتلك العلامات والدلائل تظهر حقيقة المحبة، فمتى ما كان التحقيق لتلك العلامات أكبر كانت درجة المحبة أرفع وأعظم والعكس بالعكس. ولذلك تجد أن الصادق في محبته للنبي صلى الله عليه وسلم هو الذي تظهر عليه تلك العلامات والدلائل وتراه يسعى جاهدا إلى تحقيقها حتى ينال بذلك منزلة عظيمة من منازل الإيمان. ومن أهم تلك العلامات ما يلي:

_ 1 الآية (111) من سورة البقرة.

المطلب الأول: من علامات محبته اتباعه والأخذ بسنته صلى الله عليه وسلم. فاتباع النبي صلى الله عليه وسلم والاقتداء به والسير على نهجه والتمسك بسنته واقتفاء آثاره واتباع أقواله وأفعاله وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه والتأدب بآدابه في العسر واليسر والمنشط والمكره، هو أول علامات محبته صلى الله عليه وسلم، فالصادق في حب النبي صلى الله عليه وسلم هو من تظهر عليه هذه العلامة فيكون متبعا للرسول صلى ظاهرا وباطنا ومؤثرا لموافقته في مراده بحيث يكون فعله وقوله تبعا لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم. فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا بني إن قدرت أن تصبح وتمسي ليس في قلبك غوش لأحد فافعل"، ثم قال لي: "يا بني وذلك من سنتي ومن أحيا سنتي فقد أحبني ومن أحبني كان معي في الجنة"1. فالمحب للرسول صلى الله عليه وسلم هو من حرص على التمسك بسنته وإحيائها وذلك باستعمال السنة وامتثال الأوامر واجتناب النواهي في الأقوال والأفعال، وتقديم ذلك على هوى النفس وملذاتها كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا} 2.

_ 1 أخرجه الترمذي في سننه، كتاب العلم: باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع (5/ 46) ح 2678 وقال حديث حسن غريب من هذا الوجه. 2 الآية (24) من سورة التوبة.

فإحياء السنة واتباع المصطفى دليل محبته كما هو دليل محبة الله عز وجل، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّه} فهذه الآية نزلت عندما ادعى قوم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم يحبون الله، فأنزل الله هذه الآية. وعلى هذا فإن محبة الله ورسوله تقتضي فعل المحبوبات وترك المكروهات، ولا يتصور أن يكون الشخص محبا لله ورسوله وهو معرض عن اتباع سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم. ومن أجل ذلك فإن الناس يتفاضلون في درجات محبتهم تفاضلا عظيما، فمن كان منهم أعظم نصيبا في اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم والاقتداء بسنته فهو أعظم درجة عند الله، ومن نقصت درجة اتباعه فلا شك أن ذلك سيؤثر على المحبة ويضعف درجتها. وهذا لا يعني أن المخالفة لشيء من السنة ينافي المحبة منافاة كلية، فالمخالفة إذا لم تصل إلى درجة الكفر فهي تنقص من المحبة ولكن لا تخرج صاحبها عن دائرتها والدليل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم للرجل الذي لعن شارب الخمر وقال ما أكثر ما يؤتى به، فقال صلى الله عليه وسلم: "لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله". فدل الحديث على أن وقوع المخالفة حتى وإن كانت كبيرة من الكبائر لا يعني ذلك انتفاء وجود محبة الله ورسوله في ذلك الشخص المخالف. والواجب على كل مؤمن أن يحب ما أحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم محبة توجب له الإتيان بما وجب عليه منه.

فإن زادت المحبة حتى أتى بما ندب إليه منه كان ذلك فضلا. والواجب عليه كذلك أن يكره ما كرهه الله ورسوله كراهة توجب الكف عما حرم عليه منه. فإن زادت الكراهة حتى أوجبت الكف عما كره تنزيها كان ذلك فضلا1. "فمن أحب الله ورسوله محبة صادقة من قلبه أوجب له ذلك أن يحب بقلبه ما يحبه الله ورسوله، ويكره ما يكرهه الله ورسوله ويرضى ما يرضي الله ورسوله، ويسخط ما يسخط الله ورسوله، وأن يعمل بجوارحه بمقتضى هذا الحب والبغض. فإن عمل بجوارحه شيئا يخالف ذلك بأن ارتكب بعض ما يكرهه الله ورسوله، أو ترك بعض ما يحبه الله ورسوله مع وجوبه والقدرة عليه دل ذلك على نقص محبته الواجبة فعليه أن يتوب من ذلك ويرجع إلى تكميل المحبة الواجبة"2.

_ 1 جامع العلوم والحكم (ص 365) . 2 جامع العلوم والحكم (ص 366) .

المطلب الثاني: من علامات محبته الإكثار من ذكره صلى الله عليه وسلم

المطلب الثاني: من علامات محبته الإكثار من ذكره صلى الله عليه وسلم. ومن علامات محبته صلى الله عليه وسلم الإكثار من ذكره صلى الله عليه وسلم، فمن أحب شيئا أكثر من ذكره، ودوام الذكر سبب لدوام المحبة وزيادتها ونمائها. وفي هذا المعنى يقول ابن القيم رحمه الله في ضمن تعداده للفوائد والثمرات الحاصلة من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: "أنها سبب لدوام محبته للرسول صلى الله عليه وسلم وزيادتها وتضاعفها وذلك عقد من عقود الإيمان الذي لا يتم إلا به، لأن العبد كلما أكثر من ذكر المحبوب واستحضار محاسنه ومعانيه الجالبة لحبه تضاعف حبه له وتزايد شوقه إليه واستولى على جميع قلبه. وإذا أعرض عن ذكره وإحضاره وإحضار محاسنه بقلبه نقص حبه من قلبه ولا شيء أقر لعين العبد المحب من رؤية محبوبه ولا أقر لقلبه من ذكره وإحضار محاسنه، فإذا قوي هذا في قلبه جرى لسانه بمدحه والثناء عليه وذكر محاسنه وتكون زيادة ذلك ونقصانه بحسب زيادة الحب ونقصانه في قلبه"1. والمقصود بالذكر هنا الذكر المشروع وعلى رأسه الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم امتثالا لأمر الله تعالى الوارد في قوله {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} 2. وامتثالا لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا" الحديث3.

_ 1 جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام (ص 248) . 2 الآية (56) من سورة الأحزاب. 3 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الصلاة، باب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يسأل له الوسيلة (2/ 4) .

وعن أبي بن كعب قال: قلت: يا رسول الله، إني أكثر الصلاة عليك، فكم أجعل لك من صلاتي؟، قال: "ما شئت". قلت: الربع؟، قال: "ما شئت، وإن زدت فهو خير". قلت: النصف؟، قال: "ما شئت، وإن زدت فهو خير". قلت: الثلثين؟، قال: "ما شئت، وإن زدت فهو خير". قال: أجعل لك صلاتي كلها. قال: "إذا تكفى همك، ويغفر لك ذنبك"1. قال ابن القيم: "سئل شيخنا أبو العباس بن تيمية رضي الله عنه عن تفسير هذا الحديث فقال: كان لأبي بن كعب دعاء يدعو به لنفسه فسأل النبي صلى الله عليه وسلم: "هل يجعل له منه ربعه صلاة عليه فقال: إن زدت فهو خير لك، فقال له: النصف، فقال إن زدت فهو خير لك، إلى أن قال: أجعل لك صلاتي كلها: أي أجعل دعائي كله صلاة عليك، قال: إذا تكفى همك ويغفر ذنبك، لأن من صلى على النبي صلى الله عليه وسلم صلاة صلى الله بها عشرا، ومن صلى الله عليه كفاه همه وكفر له ذنبه هذا معنى كلامه"2.

_ 1 أخرجه الإمام أحمد في المسند (5/ 136) . وأخرجه الترمذي في السنن، كتاب صفة يوم القيامة، باب 23، (4/ 636، 637) ح 2457 وقال: هذا حديث حسن صحيح. والحاكم في المستدرك (2/ 421) وقال هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وأخرجه إسماعيل القاضي في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص 8) ح 14، وأخرجه أبو نعيم في الحلية (1/ 256) . والحديث في إسناده "عبد الله بن محمد بن عقيل" قال ابن القيم: عبد الله بن محمد بن عقيل احتج به الأئمة الكبار كالحميدي وأحمد، وإسحاق، وعلي بن المديني، والترمذي وغيرهم، والترمذي يصحح هذه الترجمة تارة ويحسنها تارة. جلاء الأفهام (ص 66) وقال الألباني في الصحيحة (954) : "إسناده حسن من أجل الخلاف المعروف في ابن عقيل". 2 جلاء الأفهام (ص 32) .

والشاهد من الحديث أن من محبته صلى الله عليه وسلم مداومة الصلاة والسلام عليه والثناء عليه بما هو أهل له من الأوصاف والخصال الحميدة التي وصف بها صلى الله عليه وسلم. وفي الحديث الآخر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي" 1. فذكره شُرع لإظهار محبته واحترامه وتوقيره وتعظيمه صلى الله عليه وسلم وهذا من علامات محبته، ولقد ورد أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا بعد وفاته صلى الله عليه وسلم لا يذكرونه إلا خشعوا واقشعرت جلودهم وبكوا، وكذلك كان كثير من التابعين من يفعل ذلك محبة له وشوقا إليه2. ويدخل ضمن الذكر المشروع تعداد فضائله وخصائصه وما وهبه الله من الصفات والأخلاق والخلال الفاضلة، وما أكرمه به من المعجزات والدلائل، وذلك من أجل التعرف على مكانته ومنزلته والتأسي بصفاته وأخلاقه، وتعريف الناس وتذكيرهم بذلك، ليزدادوا إيمانا ومحبة له صلى الله عليه وسلم ولكي يتأسوا به. ولا محظور في التمدح بذلك نثرًا وشعرًا مادام أن ذلك في حدود المشروع الذي أمر به الشارع الكريم.

_ 1 أخرجه الإمام أحمد في المسند (1/ 201) . وأخرجه الترمذي في السنن، كتاب الدعوات، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "رغم أنف رجل" وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب (5/ 551) ح 3546، وأخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة (ص 163) . وأخرجه ابن حبان في صحيحه انظر موارد الظمآن رقم (388) وأخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 549) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، أخرجه الطبراني في الكبير (1/ 139/ 2) وقال الألباني في صحيح سنن الترمذي (3/ 177) حديث صحيح. 2 الشفا (2/ 573) .

نصوص القرآن والسنة، كأن يتجاوز به حدود بشريته فيصرف له شيء من الأمور الخاصة بالله عز وجل كما فعل بعض الغلاة في أشعارهم ومدائحهم للنبي صلى الله عليه وسلم. وكذلك فإن من الأمور المنهي عنها الذكر المقترن بالغناء وأدوات اللهو والطرب والرقص، وهذا الذكر البدعي هو الذي عليه حال أرباب الطرق والتصوف، وقد وافقهم على ذلك كثير من عوام الناس ظنا منهم أن فعل مثل هذه الأمور هو الطريق إلى تحقيق محبة النبي صلى الله عليه وسلم وهو في حقيقة فعله يعد محادة لله ورسوله فقد تبرأ صلى الله عليه وسلم ممن أحدث في الدين حيث قال: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد". وسيأتي مزيد تفصيل لهذا الموضوع في الباب الرابع بإذن الله.

المطلب الثالث: من علامات محبته صلى الله عليه وسلم تمني رؤيته والشوق إلى لقائه.

المطلب الثالث: من علامات محبته صلى الله عليه وسلم تمني رؤيته والشوق إلى لقائه. ومن علامات محبته صلى الله عليه وسلم محبة رؤيته والشوق إلى لقائه وتمني ذلك ولو كان ذلك مقابل بذل المال والأهل. وهذه العلامة نص عليها قوله صلى الله عليه وسلم: "من أشد أمتي لي حبا ناس يكونون بعدي يود أحدهم لو رآني بأهله وماله" 1. فهو صلى الله عليه وسلم وصف أهل هذه العلامة من أمته التي ستأتي من بعده بأنهم من أشد الناس محبة له صلى الله عليه وسلم، وهذه الأمنية قدرها حق قدرها أهل الإيمان الذين ترسخت في قلوبهم محبة النبي صلى الله عليه وسلم حتى إنهم من شدة محبتهم له صلى الله عليه وسلم أن جالت في خواطرهم وأحاسيسهم هذه الأمنية العظيمة حتى إن الواحد منهم لا يبالي أن يدفع ثمنا لهذه الأمنية العزيزة على نفسه ما عنده من الأهل والمال ليرى النبي صلى الله عليه وسلم، ولسان حالهم ومقالهم يقول مع ذلك كله ما أعظم الأمنية وما أرخص الثمن. فهذه علامة من علامات محبته يتصف بها أهل الإيمان الصادق الراسخ الذين آمنوا بوجوب تقديم محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم على محبة الولد والوالد والناس أجمعين بل على كل أمر من أمور الدنيا ومظاهرها فيا لها من نفوس سمت وسما بها إيمانها لمثل هذا المطلب وهذه الأمنية العزيزة على قلب كل مؤمن عرف قدر النبي صلى الله عليه وسلم وحقه وعظيم منزلته. فجدير بهذه النفوس أن تنال شهادة النبي صلى الله عليه وسلم لها بأنها أشد القلوب محبة له

_ 1 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها: باب فيمن يود رؤية النبي صلى الله عليه وسلم بأهله وماله (8/ 145) .

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس محمد في يده ليأتين على أحدكم يوم لا يراني، ثم لإن يراني معهم أحب إليه من أهله وماله" 1. ولقد كانت هذه السمة وهي الشوق إلى لقاء النبي صلى الله عليه وسلم ورؤيته موجودة في الصحابة رضوان الله عليهم ويشهد لذلك ما جاء في حديث الأشعريين أنهم عند قدومهم إلى المدينة كانوا يرتجزون فيقولون: غدا نلقى الأحبة ... محمد وحزبه2 وروي أن بلالا رضي الله عنه لما حضرته الوفاة، نادت امرأته واحزناه. فقال: واطرباه، غدا ألقى الأحبة محمد وحزبه3. وقد روي مثل ذلك عن حذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر رضي الله عنهم أجمعين4.

_ 1 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفضائل: باب فضل النظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وتمنيه (7/ 96) . 2 أخرجه أحمد في مسنده (3/ 105، 155) والبيهقي في الدلائل (5/ 351) . 3 الشفا (2/ 569) . 4 المصدر السابق (2/ 569، 573) .

المطلب الرابع: من علامات محبته صلى الله عليه وسلم النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين عامتهم

المطلب الرابع: من علامات محبته صلى الله عليه وسلم النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين عامتهم. فمن علامات محبته صلى الله عليه وسلم: المناصحة لله، ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم. قال تعالى: {وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 1. قال القرطبي2: "قوله تعالى: {إِذَا نَصَحُوا} النصح: إخلاص العمل من الغش ومنه التوبة النصوح ... ونصح الشيء: إذا خلص ونصح له القول: أي أخلصه له"3. وأصل النصح في اللغة: الخلوص، يقال نصحت العسل: إذا خلصته من الشمع. ويقال: نصحته، ونصحت له4. قال الخطابي: "النصاحة: إخلاص العمل. والناصح: الخالص من كل شيء، ويقال: نصحت العسل إذا صفيتها"5.

_ 1 الآية (91) من سورة التوبة. 2 محمد بن أحمد بن أبي بكر الأنصاري القرطبي، من كبار المفسرين وهو صاحب التفسير المشهور الذي يعرف "تفسير القرطبي" واسمه "الجامع لأحكام القرآن" توفي رحمه الله سنة 671 هـ. طبقات المفسرين (2/ 69- 70) . 3 تفسير القرطبي (8/ 227) . 4 النهاية في غريب الحديث (5/ 63) ، وجامع العلوم والحكم (ص 74) . 5 غريب الحديث للخطابي (2/ 228) .

وعن تميم الداري1 رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الدين النصيحة". قلنا: لمن؟ قال: "لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم" 2. فقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الدين النصيحة" يدل على أن النصيحة تشمل خصال الإسلام والإيمان والإحسان التي ذكرت في حديث جبريل المشهور وسمى ذلك كله دينا. فالنصيحة كلمة جامعة تتضمن قيام الناصح للمنصوح له بوجوه الخير إرادة وفعلا3. قال الإمام محمد بن نصر المروزي4: "قال بعض أهل العلم: جماع تفسير النصيحة: هو عناية القلب للمنصوح له من كان. وهي على وجهين: أحدهما: فرض. والآخر: نافلة. فالنصيحة المفترضة لله: هي شدة العناية من الناصح، باتباع محبة الله في أداء ما افترض، ومجانبة ما حرم الله. وأما النصيحة التي هي نافلة: فهي إيثار محبته على محبة نفسه، وذلك أن يعرض له أمران: أحدهما: لنفسه، والآخر: لربه. فيبدأ بما كان لربه، ويؤخر ما كان لنفسه. فهذه جملة تفسير النصيحة له الفرض منه والنافلة. فالفرض منها: مجانبة نهيه، وإقامة فرضه بجميع جوارحه، ما كان مطيعا له.

_ 1 تميم بن أوس بن حارثة الداري، صحابي مشهور، كان نصرانيا ثم قدم المدينة فأسلم وذلك سنة تسع من الهجرة، غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم، مات بالشام. الإصابة (1/ 186) . 2 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان: باب بيان أن الدين النصيحة (1/ 53) . 3 جامع العلوم والحكم (ص 74- 76) . 4 محمد بن نصر المروزي، أبو عبد الله، إمام في الفقه والحديث كان من أعلم الناس باختلاف الصحابة فمن بعدهم في الأحكام، ولد سنة 202 هـ، وتوفي سنة 294 هـ. تذكرة الحفاظ (2/ 201) ، وتهذيب التهذيب (9/ 489) .

فإن عجز عن القيام بفرضه لآفة حلت به من مرض، أو حبس، أو غير ذلك عزم على أداء ما افترض عليه متى زالت عنه العلة المانعة له قال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيل} 1 فسماهم محسنين بنصيحتهم لله بقلوبهم، لما منعوا من الجهاد بأنفسهم. وقد ترفع الأعمال كلها عن العبد في بعض الحالات، ولا يرفع عنه النصح لله لو كان من المرض بحال لا يمكنه عمل شيء بشيء من جوارحه بلسان وغيره غير أن عقله ثابت، لم يسقط عنه النصح لله بقلبه، وكذلك النصح لله ولرسوله فيما أوجبه على الناس من أمر ربه. ومن النصح الواجب لله أن لا يرضى معصية العاصي، ويحب طاعة من أطاع الله ورسوله. وأما النصيحة التي هي نافلة لا فرض: فبذل المجهود بإيثار الله على كل محبوب بالقلب وسائر الجوارح حتى لا يكون في الناصح فضلا عن غيره، لأن الناصح إذا اجتهد لمن ينصحه لم يؤثر نفسه عليه، وقام بكل ما كان في القيام به سروره ومحبته. فكذلك الناصح لربه ومن تنفل لله بدون الاجتهاد فهو ناصح على قدر عمله غير محقق للنصح بالكمال"2 قال القاضي عياض: "نصيحة الله تعالى: صحة الاعتقاد له بالوحدانية، ووصفه بما هو أهله، وتنزيهه عما لا يجوز عليه، والرغبة في محابه والبعد عن

_ 1 الآية (91) من سورة التوبة. 2 تعظيم قدر الصلاة (2/ 691- 692) .

مساخطه، والإخلاص في عبادته1. وقال الخطابي: " معنى النصيحة لله سبحانه: صحة الاعتقاد في وحدانيته، وإخلاص النية في عبادته"2. وقال أبو عمرو بن الصلاح3: "النصيحة لله تعالى: توحيده ووصفه بصفات الكمال والجلال، وتنزيهه عما يضادها ويخالفها، وتجنب معاصيه والقيام بطاعته ومحابه بوصفه الإخلاص، والحب فيه والبغض فيه وجهاد من كفر به تعالى وما ضاهى ذلك، والدعاء إلى ذلك والحث عليه"4. وأما النصيحة لكتاب الله: فقال عنها محمد بن نصر المروزي: " وأما النصيحة لكتاب الله: فشدة حبه، وتعظيم قدره - إذ هو كلام الخالق - وشدة الرغبة في فهمه، ثم شدة العناية في تدبره، والوقوف عند تلاوته لطلب معاني ما أحب مولاه أن يفهمه عنه، ويقوم له بعد ما يفهمه. وكذلك الناصح من القلب، يتفهم وصية من ينصحه، وإن ورد عليه كتاب منه عني بفهمه، ليقوم عليه بما كتب به فيه إليه. فكذلك الناصح لكتاب الله يُعنى بفهمه ليقوم لله بما أمر به كما يحب ويرضى، ثم ينشر ما فهم في العباد، ويديم دراسته بالمحبة له والتخلق بأخلاقه والتأدب بآدابه"5.

_ 1 الشفا (2/ 583) . 2 جامع العلوم والحكم (ص 74) . 3 واسمه: عثمان بن عبد الرحمن (صلاح الدين) بن عثمان الكردي أبو عمرو، أحد أئمة المسلمين علما ودينا، ولد سنة 557 هـ وتوفي سنة 643 هـ. الأعلام (4/ 207- 208) . 4 جامع العلوم والحكم (ص 76) . 5 تعظيم قدر الصلاة (2/ 693) .

وقال القاضي عياض: "والنصيحة لكتابه الإيمان به، والعمل بما فيه وتحسين تلاوته، والتخشع عنده، والتعظيم له، وتفهمه، والتفقه فيه، والذب عنه من تأويل الغالين وطعن الملحدين"1. وقال أبو عمرو بن الصلاح: " والنصيحة لكتابه: الإيمان به وتعظيمه، وتنزيهه، وتلاوته حق تلاوته، والوقوف مع أوامره ونواهيه، وتفهم علومه وأمثاله، وتدبر آياته، والدعاء إليه، وذب تحريف الغالين وطعن الملحدين عنه"2. وقال النووي3: "وأما النصيحة لكتابه سبحانه وتعالى: فالإيمان بأنه كلام الله تعالى وتنزيله لا يشبهه شيء من كلام الخلق ولا يقدر على مثله أحد من الخلق، ثم تعظيمه وتلاوته حق تلاوته وتحسينها والخضوع عندها وإقامة حروفه في التلاوة والذب عنها تأويل المحرفين وتعرض الطاعنين، والتصديق بما فيه، والوقوف مع أحكامه، وتفهم علومه وأمثاله والاعتبار بمواعظه، والتفكر في عجائبه، والعمل بمحكمه والتسليم لمتشابهه والبحث عن عمومه وخصوصه، وناسخه ومنسوخه، ونشر علومه والدعاء إليه وإلى ما ذكرنا من نصيحته"4. وأما النصيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: فقال الإمام أحمد: "من مفروضات القلوب النصيحة للرسول صلى الله عليه وسلم"5

_ 1 الشفا (2/ 583) . 2 جامع العلوم والحكم (ص 76) . 3 يحيى بن شرف بن مري الحزامي الحوراني، النووي، الشافعي علامة في الفقه والحديث، وله مصنفات كثيرة، توفي سنة 676 هـ الأعلام (8/ 149) . 4 شرح صحيح مسلم (8/2) . 5 تعظيم قدر الصلاة (2/693) .

وقال محمد بن نصر المروزي: " وأما النصيحة للرسول صلى الله عليه وسلم في حياته: فبذل المجهود في طاعته، ونصرته ومعاونته وبذل المال إذا أراده، والمسارعة إلى محبته. وأما بعد وفاته: فالعناية بطلب سنته، والبحث عن أخلاقه وآدابه، وتعظيم أمره، ولزوم القيام به، وشدة الغضب والإعراض عن من يدين بخلاف سنته والغضب على من ضيعها لأثرة دنيا، وإن كان متدينا بها. وحب من كان منه بسبيل من قرابة، أو صهر، أو هجرة، أو نصرة أو صحبة ساعة من ليل أو نهار على الإسلام، والتشبه به في زيه ولباسه "1. وقال القاضي عياض "قال أبو بكر الآجري وغيره: النصح له يقتضي نصحين: نصحًا في حياته، ونصحًا بعد مماته. ففي حياته نصح أصحابه له بالنصر والمحاماة عنه، معاداة من عاداه، والسمع والطاعة له، وبذل النفوس والأموال دونه كما قال تعالى: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} 2. وقال تعالى: {وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} 3. وأما نصيحة المسلمين له بعد وفاته: فالتزام التوقير والإجلال، وشدة المحبة له والمثابرة على تعلم سنته، والتفقه في شريعته، ومحبة آل بيته وأصحابه، ومجانبة من رغب عن سنته وانحرف عنها، وبغضه والتحذير منه والشفقة على أمته، والبحث عن تعريف أخلاقه وسيره وآدابه، والصبر على ذلك4.

_ 1 الآية (23) من سورة الأحزاب. 2 الآية (8) من سورة الحشر. 3 الشفا (2/584-585) . 4 الشفا (2/584) .

وقال أبو عمرو بن الصلاح: "والنصيحة لرسوله صلى الله عليه وسلم الإيمان به وبما جاء به، وتوقيره وتبجيله، والتمسك بطاعته وإحياء سنته وانتشار علومه ونشرها، ومعاداة من عاداه وموالاة من والاه ووالاها، والتخلق بأخلاقه، والتأدب بآدابه ومحبة آله وأصحابه ونحوذلك "1. وقال النووي: "أما النصيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: فتصديقه على الرسالة، والإيمان بجميع ما جاء به، وطاعته في أمره ونهيه ونصرته حيًا وميتًا، ومعاداة من عاداه، وموالاة من والاه، وإعظام حقه وتوقيره، وإحياء طريقته وسنته، وبث دعوته، ونشر شريعته ونفي التهمة عنها، واستثارة علومها، والتفقه في معانيها، والدعاء إليها، والتلطف في تعلمها وتعليمها وإعظامها وإجلالها، والتأدب عند قرئتها والإمساك عن الكلام فيها بغير علم، وإجلال أهلها لانتسابهم إليها، والتخلق بأخلاقه، والتأدب بآدابه، ومحبة أهل بيته وأصحابه، ومجانبة من ابتدع في سنته أو تعرض لأحد من أصحابه ونحو ذلك"2. وقال القرطبي: "والنصيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: التصديق بنبوته، والتزام طاعته في أمره ونهيه، وموالاة من والاه ومعاداة من عاداه، وتوقيره، ومحبته ومحبة آل بيته وتعظيمه، وتعظيم سنته، وإحياؤها بعد موته بالبحث عنها، والتفقه فيها والذب عنها ونشرها والدعاء إليها، والتخلق بأخلاقه الكريمة "3. وأما النصح لأئمة المسلمين: فقال عنه محمد بن نصر المروزي "فحب

_ 1 جامع العلوم والحكم (ص 76) . 2 شرح النووي (2/38) . 3 تفسير القرطبي (8/227) .

صلاحهم ورشادهم وعدلهم، وحب اجتماع الأمة عليهم، وكراهة افتراق الأمة عليهم، والتدين بطاعتهم في طاعة الله، والبغض لمن رأى الخروج عليهم وحب إعزازهم في طاعة الله "1. وقال القاضي عياض: "وأما النصح لأئمة المسلمين: فطاعتهم في الحق، ومعونتهم فيه، وأمرهم به، وتذكيرهم إياه على أحسن وجه، وتنبيههم على ما غفلوا عنه وكتم عنهم من أمور المسلمين، وترك الخروج عليهم وتضريب الناس وإفساد قلوبهم عليهم"2. وقال أبو عمرو بن الصلاح: "والنصيحة لأئمة المسلمين معاونتهم على الحق، وطاعتهم فيه وتذكيرهم به، وتنبيههم في رفق ولطف، ومجانبة الوثوب عليهم والدعاء لهم بالتوفيق وحث الأغيار على ذلك"3. وقال القرطبي: " والنصح للأئمة المسلمين ترك الخروج عليهم، وإرشادهم إلى الحق وتنبيههم فيما أغفلوا من أمور المسلمين، ولزوم طاعتهم والقيام بواجب حقهم "4. وقال النووي: " قال الخطابي: ومن النصيحة لهم الصلاة خلفهم والجهاد معهم وأداء الصدقات إليهم وترك الخروج بالسيف عليهم إذا ظهر منهم حيف أو سوء عشرة، وأن لا يغروا بالثناء الكاذب عليهم، وأن يدعى لهم بالصلاح وهذا كله على أن المراد بأئمة المسلمين الخلفاء وغيرهم ممن يقوم بأمور المسلمين

_ 1 تعظيم قدر الصلاة (2/693- 694) . 2 الشفا (2/585) . 3 جامع العلوم والحكم (ص 76) . 4 تفسير القرطبي (8/ 227) .

من أصحاب الولايات، وهذا هو المشهور"1. وأما النصيحة لعامة المسلمين: فيقول عنها محمد بن نصر المروزي: "وأما النصيحة للمسلمين: فأن يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه، ويشفق عليهم، ويرحم صغيرهم، ويوقر كبيرهم، ويحزن لحزنهم، ويفرح لفرحهم، وإن ضره ذلك في دنياه -كرخص أسعارهم- وإن كان في ذلك ربح ما يبيع من تجارته، وكذلك جميع ما يضرهم عامة يحب صلاحهم وألفتهم ودوام النعم عليهم، ونصرهم على عدوهم، ودفع كل أذى ومكروه عنهم"2. وقال أبو عمرو بن الصلاح: "والنصيحة لعامة المسلمين: إرشادهم إلى مصالحهم، وتعليمهم أمور دينهم ودنياهم، وستر عوراتهم، وسد خلاتهم ونصرتهم على أعدائهم والذب عنهم، ومجانبة الغش والحسد لهم وأن يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه وما شابه ذلك"3. وقال القاضي عياض: "والنصح لعامة المسلمين: إرشادهم إلى مصالحهم، ومعونتهم في أمر دينهم ودنياهم بالقول والفعل وتنبيه غافلهم، وتبصير جاهلهم ورفد محتاجهم، وستر عوراتهم، ودفع المضار عنهم، وجلب المنافع إليهم"4. وقال القرطبي: "والنصح للعامة: ترك معاداتهم، وإرشادهم وحب

_ 1 شرح النووي (2/ 38- 39) . 2 تعظم قدر الصلاة (2/ 694) . 3 جامع العلوم والحكم (ص 76) . 4 الشفا (2/ 586) .

الصالحين منهم، والدعاء لجميعهم وإرادة الخير لكافتهم. وفي الحديث الصحيح "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" 1 2. وعن جرير بن عبد الله3 قال: "بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة فلقنني "فيما استطعت والنصح لكل مسلم"4. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حق المؤمن على المؤمن ست". قيل: وما هن يا رسول الله؟ قال: " إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه" 5.

_ 1 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم فتح الباري (10/ 438) ح 6011، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم. 2 تفسير القرطبي (8/227) . 3 جرير بن عبد الله البجلي، صحابي جليل، اختلف في وقت إسلامه وكان له بلاء حسن في الفتوحات، مات سنة 51هـ، وقيل 54هـ الإصابة (1/233-234) . 4 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأحكام، باب كيف بايع الإمام الناس. فتح الباري (3/ 193) ح 7204، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان أن الدين النصيحة (1/54) . 5 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب السلام، باب حق المسلم على المسلم رد السلام (7/3) .

المطلب الخامس: من علامات محبته صلى الله عليه وسلم تعلم القرآن الكريم

المطلب الخامس: من علامات محبته صلى الله عليه وسلم تعلم القرآن الكريم من علامات محبته صلى الله عليه وسلم تعلم القرآن الكريم الناطق بشريعته، والمداومة على تلاوته، وفهم معانيه، وكذلك تعلم سنته صلى الله عليه وسلم وتعليمها ومحبة أهلها. قال القاضي عياض: "ومنها -أي من علامات محبته- أن يحب القرآن الذي أتى به صلى الله عليه وسلم، وهدى به واهتدى، تخلق به حتى قالت عائشة رضي الله عنها: "إن خلق نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن"1. وحبه للقرآن تلاوته والعمل به وتفهمه "2. وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه" 3. وقال صلى الله عليه وسلم: "كتاب الله عز وجل هو حبل الله، من اتبعه كان على الهدى ومن تركه كان على ضلالة" 4. وقال صلى الله عليه وسلم: "كتاب الله فيه الهدى والنور من استمسك به وأخذ به كان على الهدى ومن أخطأه ضل" 5

_ 1 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين باب جامع صلاة الليل (2/168-170) . 2 الشفا (2/576) . 3 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل القرآن، باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه. فتح الباري (9/ 74) ح 5027 4 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه (7/123) . 5 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه (7/123) .

وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "لا يسأل أحد عن نفسه إلا القرآن، فإن كان يحب القرآن فهو يحب الله ورسوله"1 وقد سبق عند ذكر النصيحة "لكتاب الله" ذكر أقوال العلماء فيما يجب على المسلم تجاه كتاب الله فليرجع إليه. ومن علامات محبته صلى الله عليه وسلم أن يحب سنته ويقف عند حدودها2 وهذا ما سبق بيانه في الفصل الثاني من الباب الأول من هذه الرسالة.

_ 1 أخرجه البيهقي في الأدب (ص 522) ، وعزاه السيوطي في مناهل الصفا (ص 186) للبيهقى في الآداب وابن الضريس في فضائل القرآن. 2 الشفا (2/576) .

المطلب السادس: من علامات محبته صلى الله عليه وسلم محبة من أحبهم النبي صلى الله عليه وسلم

المطلب السادس: من علامات محبته صلى الله عليه وسلم محبة من أحبهم النبي صلى الله عليه وسلم ... الطلب السادس: من علامات محبته صلى الله عليه وسلم محبة من أحبهم النبي صلى الله عليه وسلم إن من علامات محبته صلى الله عليه وسلم والتي يجب على المؤمن الأخذ بها، محبته لمن أحب النبي صلى الله عليه وسلم، ومن هو بسببه من آل بيته وصحابته من المهاجرين والأنصار رضوان الله عليهم أجمعين فمن أحب شيئًا أحب من يحبه1. فإن من محبة الله وطاعته: محبة رسوله وطاعته. ومن محبة رسوله وطاعته: محبة من حب الرسول، وطاعة من أمر الرسول بطاعته2. أ- قال البيهقي: "ودخل في جملة محبته صلى الله عليه وسلم حب آله3. وإن من أصول أهل السنة والجماعة أنهم يحبون أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتولونهم ويحفظون فيهم وصية رسول صلى الله عليه وسلم4. فعن زيد بن أرقم5 رضي الله عنه قال: "قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فينا خطيبا بماء يدعى "خما" بين مكة والمدينة فحمد الله وأثنى عليه، ووعظ وذكر، ثم قال: " أما بعد ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب وأنا تارك فيكم ثقلين:

_ 1 الشفا (2/573) . 2 حقوق آل البيت (ص 19) . 3 شعب الإيمان للبيهقي (1/282) . 4 مجموع الفتاوى (3/407) . 5 زيد بن أرقم بن زيد، صحابي جليل، لم يشهد بدرًا ولا أحدًذا لصغر سنه، وأول مشاهده الخندق وقيل المريسيع، مات بالكوفة سنة ست وستين، وقيل ثمان وستين. الإصابة (1/542) .

أوليهما: كتاب الله فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به " فحث على كتاب الله ورغب فيه. ثم قال: "وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي". فقيل لزيد: ومن أهل بيته يا زيد؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده. قيل: ومن هم؟ قال: آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل عباس. قيل: كل هؤلاء حرم الصدقة؟ قال: نعم1. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله لما أنزل عليه {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} 2. سأل الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم كيف يصلون عليه فقال: "قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد " 3. فالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم حق له ولآله دون سائر الأمة4. وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: "أرقبوا5 محمدا صلى الله عليه وسلم في أهل بيته"6.

_ 1 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل على بر؟ لي طالب رضي الله عنه (/ 122، 123) . 2 الآية (6) من سورة الأحزاب. 3 أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الدعوات، باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. فتح الباري (1/ 152) ح 6357. وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الصلاة، باب الصلاة على صلى الله عليه وسلم بعد التشهد (2/16) . 4 جلاء الأفهام (ص 174) . 5 أرقبوا: المراقبة للشيء المحافظة عليه، يقول: احفظوه فيهم فلا تسيئوا إليهم. فتح الباري (7/79) . 6 أخرجه البخاري في صحيحه، كناب الصحابة، باب مناقب قرابة الرسول كله صلى الله عليه وسلم. فتح الباري (7/78) ح 3713.

وعنه أيضا أنه قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: "والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي أن أصل من قرابتي"1. "فآل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم من الحقوق ما يجب رعايتها، فإن الله جعل لهم حقا في الخمس والفيء وأمر بالصلاة عليهم مع الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم"2. "فالصلاة على آله هي من تمام الصلاة عليه وتوابعها، لأن ذلك مما تقر به عينه، ويزيده الله به شرفا وعلوًا، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا"3. "وكذلك علينا احترامهم وإكرامهم والإحسان إليهم فإنهم من ذرية طاهرة من أشرف بيت وجد على وجه الأرض فخرًا وحسبًا ونسبًا. ولاسيما إذا كانوا متبعين للسنة النبوية الصحيحة الواضحة الجلية كما كان عليه سلفهم كالعباس وبنيه، وعليّ وأهل بيته وذريته رضي الله عنهم أجمعين"4. قال شيخ الإسلام ابن تيمية5 "وآل محمد صلى الله عليه وسلم هم الذين حرمت عليهم الصدقة6 هكذا قال الشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهما من العلماء". والأحاديث في فضائلهم ومناقبهم كثيرة جدًا، وهي مبسوطة في الصحيحين والمسند والسنن وغيرها من كتب الحديث.

_ 1 أخرجه البخاري في صحيحه كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم. فتح الباري (7/77، 78) ح 3712، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم "لا نورث وما تركناه صدقة" (5/155، 156) . 2 مجموع الفتاوى (3/407) . 3 جلاء الأفهام (ص 175) . 4 تفسير ابن كثير (4/113) . 5 مجموع الفتاوى (3/407) . 6 قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "واختلف في آل النبي صلى الله عليه وسلم على أربعة أقوال: القول الأول: هم الذين حرمت عليهم الصدقة. وفيهم ثلاثة أقوال للعلماء: أحدها: أنهم بنو هاشم، وبنو المطلب، وهذا مذهب الشافعي وأحمد في رواية عنه. والثاني: أنهم بنو هاشم خاصة وهذا مذهب أبى حنيفة، والرواية عن أحمد، واختيار ابن القاسم صاحب مالك. والثالث: أنهم بنو هاشم ومن فوقهم إلى بني غالب، ويدخل فيهم بنو المطب، وبنو أمية، وبنو نوفل ومن فوقهم إلى بني غالب، وهذا اختيار أشهب من أصحاب مالك حكاه صاحب "الجراهر" عنه وحكاه اللخمي في "التبصرة" عن أصبغ، ولم يحكه عن أشهب. وهذا القول في الآل أعني -أنهم الذين تحرم عليهم الصدقة هو منصوص الشافعي وأحمد والأكثرين، وهو اختيار جمهور أصحاب أحمد والشافعي. القول الثاني: أن آل النبي صلى الله عليه وسلم هم ذريته وأزواجه خاصة، حكاه ابن عبد البر في التمهيد. القول الثالث: أن آله صلى الله عليه وسلم أتباعه إلى يوم القيامة حكاه ابن عبد البر عن بعض أهل العلم، وأقدم من روى عنه هذا القول جابر بن عبد الله، ذكره البيهقي عنه، ورواه عن سفيان الثوري وغيره، واختاره بعض أصحاب الشافعي. حكاه عنه أبو الطب الطبري في تعليقه، ورجحه الشيخ محي الدين النووي في شرح مسلم واختاره الأزهري. القول الرابع: أن آله صلى الله عليه وسلم هم الأتقياء من أمته حكاه حسين والراغب وجماعة. ثم ذكر رحمه الله حجج هذه الأقوال ويين ما فيها من الصحيح والضعيف إلى أن قال: "والصحيح هو القول الأول، ويليه القول الثانى. أما القول الثالث والرابع فضعيفان". جلاء الأفهام (ص 164- 177) .

ب- وكذلك فإن من أصول أهل السنة أنهم يتولون أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويحفظون لهن فضلهن، وحقوقهن. فقد أبانهن الله من نساء العالمين في الفضيلة فقال تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} 1. وجعلهن أمهات المؤمنين فقال تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} 2 3.

_ 1 الآية (32) من سورة الأحزاب. 2 الآية (6) من سورة الأحزاب. 3 مجموع الفتاوى (3/154) وتفسير القرطبي (1/ 123، 177) .

وجعل حرمة الزوجية بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم باقية ما بقين فقال تعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً} 1 فعلينا من حفظ حقوقهن بعد ذهابهن الصلاة عليهن مع الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. فعن أبي حميد الساعدي2 رضي الله عنه أنهم قالوا: يا رسول الله كيف نصلى عليك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قولوا: اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد" 3. فالصلاة على أزواجه تابعة لاحترامهن4. وكذلك الاستغفار لهن، وذكر مدائحهن، وفضائلهن وحسن الثناء عليهن، وما على الأولاد في أمهاتهم اللاتي ولدنهم وأكثر، وذلك لمكانتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزيادة فضلهن على غيرهن من نساء هذه الأمة5. وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم هن من دخل بهن من النساء وهن إحدى عشرة: 1- خديجة بنت خويلد رضي الله عنها6.

_ 1 الآية (3) من سورة الأحزاب. 2 أبو حميد الساعدي، اختلف في اسمه فقيل عبد الر- ومن بن سعد وقيل غير ذلك، لحالي مشهور، شهد أحذا وما بعدها، وتوفر، في آخر خلافة معاوية أو أول خلافة يزيد. الإصابة 41/ 47) . 3 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الدعوات، باب هل يصلى على غير النبي صلى الله عليه وسلم. فتح الباري (1/ 169) ح 6360 وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الصلاة، باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد (2/17) . 4 جلاء الأفهام (ص 200) 5 شعب الإيمان للبيهقي (1/282- 284) . 6 وهي أولهن، وقد تزوجها صلى الله عليه وسلم بمكة، وهر ابن خمس وعشرين سنة، وبقيت معه إلى أن أكرمه الله برسالته فآمنت به ونصرته فكانت له وزير صدق وماتت قبل الهجرة بثلاث سنين في الأصح ومن خصائصها رضي الله عنها: 1- أنه لم يتزوج عليها غيرها. 2- أن أولاده كلهم منها إلا إبراهيم فإنه من سريته مارية. 3- أنها خير نساء الأمة. جلاء الأفهام (ص 180) .

2- عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها وعن أبيها1. 3- سودة بنت زمعة رضي الله عنها2. 4- حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنها وعن أبيها3. 5- أم حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنهما4. 1 تزوجها وهي بنت ست سنين قبل الهجرة بسنتين وقيل لثلاث وبنى بها بالمدينة أول مقدمه في السنة الأولى، وهي بنت تسع سنين، ومات عنها وهي بنت ثمان عشرة. ومن خصائصها رضي الله عنها:

_ 1- أنها كانت أحب أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه فقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الناس أحب إليك؟ قال: "عائشة" قيل ومن الرجال؟ قال: "أبوها" متفق عليه (خ/4358) (م/2384) . 2- أنه لم يتزوج بكرا غيرها. جلاء الأفهام (ص 182- 185) . 2 سودة بنت زمعة بن قيس. تزوجها بعد خديجة، وكبرت عنده وأراد أن يطلقها فوهبت يومها لعائشة رضي الله عنها فأمسكها وهذا من خواصها: أنها آثرت حرمها لعائشة تقربًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحبًا له. جلاء الأفهام (ص 182) . 3 حفصة بنت عمر بن الحطاب، تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بعد عائشة، وقيل إنها ولدت قبل المبعث بخمسة سنين، وكانت قبل أن يتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم عند حصن بن حذافة وكان ممن شهد بدرًا ومات بالمدينة. وكانت رضي الله عنها صوامة قرامة. الإصابة (4/362، 360) وجلاء الأفهام (ص 185) . 4 واسمها رملة بنت صخر بن حرب، هاجرت مع زوجها عبيد الله بن جحش إلى أرض الحبشة، فتنصر بالحبشة، وأتم الله لها الإسلام، وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بأرض الحبشة، وأصدقها عنه النجاشي. وهي التي أكرمت فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجلس عليه أبوها لما قدم المدينة، وقالت: إنك مشرك، ومنعته من الجلوس عليه. الإصابة (4/298- 300) .

6- أم سلمة رضي الله عنها1. 7- زينب بنت جحش رضي الله عنها2. 8- زينب بنت خزيمة الهلالية رضي الله عنها3. 9- جويرية بنت الحارث رضي الله عند4. 10- صفية بنت حيي رضي الله عنها5.

_ 1 واسمها هند بنت أبي أمية، وكانت قبله عند أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد، وتوفيت سنة اثنتين وستين ودفنت بالبقيع، وهي آخر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم موتا، وقيل: بل ميمونة. الإصابة (4/07 4- 408) وجلاء الأفهام (ص 195-197) . 2 زينب بنت جحش: وهي بنت عمته أميمة بنت عبد المطب، وكانت قبل عند مولاه زيد بن حارثة، فطلقها فزوجها الله إياه من فوق سبع سموات وكانت تفخر بذلك على سائر أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم. وتقول: "زوجكن أهاليكن، وزوجني الله من فوق سبع سماواته" توفيت بالمدينة ودفنت بالبقيع. الإصابة (4/307- 308) . 3 زينب بنت خزيمة الهلالية، تزوجها سنة ثلاث من الهجرة، وكانت قبله عند عبد الله بن جحش فاستشهد بأحد، وكانت تسمى أم المساكين، لكثرة إطعامها المساكين، ولم تلبث عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا يسيرا شهرين أو ثلاثة ثم توفيت رضى الله عنها. الإصابة (4/ 309-310) وجلاء الأفهام (ص 198) . 4 جويرية بنت الحارث المصطلقية، وكانت سبيت في غزوة بني المصطلق، فوقعت في سهم ثابت بن قيس، فكاتبها، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابتها وتزوجها سنة ست من الهجرة وتوفيت سنة ست وخمسين، وهي التي أعتق المسلمون بسببها مائة أهل بيت من الرقيق، وقالوا: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ذلك من بركتها على قومها. الإصابة (4/257- 258) وجلاء الأفهام (ص 198) . 5 صفية بنت حيي من ذرية هارون بن عمران، أخي موسى، تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم سنة سبع، فإنها سبيت من خيبر، وكانت قبله تحت كنانة بن أبي الحقيق، فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم، توفيت سنة ست وثلاثين، وقيل سنة خمسين. من خصائصها أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعتقها وجعل عتقها صداقها، وقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "إنك لابنة نبي وإن عمك لنبي وإنك تحت نبي". الإصابة (4/337- 338) وجلاء الأفهام (ص 198- 199) .

11- ميمونة بنت الحارث الهلالية رضي الله عنها1. فهؤلاء جملة من دخل لهن من النساء وهن إحدى عشرة. ج- ومن محبته صلى الله عليه وسلم محبة أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين: قال البيهقي: "ويدخل في جملة حب النبي صلى الله عليه وسلم حب أصحابه؟ لأن الله عز وجل أثنى عليهم ومدحهم فقال: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} 2. وقال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} 3. وقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} 4.

_ 1 ميمونة بنت الحارث الهلالهية تزوجها بسرف، وبنى بها بسرف، وماتت بسرف، وهي علي سبعة أميال من مكة، وهي آخر من تزوج من أمهات المؤمنين، وتوفيت سنة ثلاث وستين، وهي خالة عبد الله بن عياس رضي الله عنهما، وهي خالة خالد بن الولبد أيضا. الإصابة (4/397- 399) وجلاء الأفهام (ص 199) . 2 الآية (9) من سورة الفتح. 3 الآية (8) من سورة الفتح. 4 الآية (100) من سورة التوبة.

وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} 1. فإذا أنزلوا هذه المنزلة استحقوا من جماعة المسلمين أن يحبوهم ويتقربوا إلى الله عز وجل بمحبتهم لأن الله تعالى إذا رضي عن أحد أحبه وواجب على العبد أن يحب من يحب مولاه2. فمن واجب الأمة نحو أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم محبتهم والترضي عنهم والدعاء لهم كما أمرنا الله تعالى بقوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 3. فهم قوم اختارهم الله وشرفهم بصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم وخصهم في الحياة الدنيا بالنظر إليه وسماع حديثه من فمه الشريف ونصرته والذب عنه والجهاد معه في سبيل الله ونشر دين الإسلام. وبعد وفاته كانوا هم الواسطة بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين الأمة، فقد بلغوا عن رسول الله ما بعثه الله به من النور والهدى على أكمل الوجوه وأتمها ونشروا هذا الدين في شتى بقاع الأرض: وجاهدوا في سبيل الله بأنفسهم وأموالهم، وذبوا عن هذا الدين بسنانهم ولسانهم فكان لهم بذلك الأجر العظيم والمنزلة العالية عند ربهم وعند نبيهم وعند المسلمين الموحدين جميعًا. وكيف لا يكونون كذلك وهم خير قرون هذه الأمة كشهادة النبي صلى الله عليه وسلم.

_ 1 الآية (4) من سورة الأنفال. 2 شعب الإيمان للبيهقي (1/287) . 3 الآية (10) من سورة الحشر.

فعن عمران بن حصين 1 رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم "خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم" قال عمران: لا أدري أذكر النبي صلى الله عليه وسلم بعد قرنين أو ثلاثة ... الحديث2 وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ... " الحديث3. ومما يدل على عظم فضل الصحبة وجلالة شأنها ما جاء في الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه" 4 فهذا الحديث يدل على أن شأن الصحبة لا يعدله شيء. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: "آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغضهم" 5

_ 1 عمران بن حصين بن عبيد الخزاعي، صحابي جليل، أسلم عام خيبر وغزا عدة غزوات وكان صاحب راية خزاعة يوم الفتح مات سنة اثنتين وخمسين وقيل سنة ثلاث وخمسين من الهجرة. الإصابة (/ 27) . 2 أخرجه البخاري في صحيحه، كناب الشهادات، باب لا يشهد على جور إذا أشهد. فتح الباري (/ 258- 259) ح 2651، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين بلونهم (7/183- 184) . 3 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الشهادات، باب لا يشهد على جور إذا أشهد. فتح الباري (5/259) ح 2652، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم (7/184- 185) . 4 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم "لو كنت متخذا خليلاً". فتح الباري (7/1 2) ح 3673، وأخرجه مسلم في صحيحه من حدث أبي هريرة رضي الله عنه، كتاب فضائل الصحابة، باب تحريم سب الصحابة رضي الله عنهم (7/188) 5 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب مناقب الأنصار، باب حب الأنصار من الإيمان. انظر: فتح الباري (7/113) ح 3784 واللفظ له. وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن حب الأنصار وعلي رضي الله عنهم من الإيمان وعلاماته ... (1/65) .

ولقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يدل على فضل الصحابة رضوان الله عليهم ووجوب تعظيمهم وإكرامهم وكونهم خير قرون هذه الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم. ولقد عقد البخاري ومسلم في صحيحيهما وكذا أهل السنن وغيرهم، كل منهم كتابا لفضائل الصحابة أوردوا فيه الكثير من الأحاديث الواردة في فضل الصحابة رضوان الله عليهم. وعن معتقد السلف نحو أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أبو زرعة الرازي 1: "إذا رأيت الرجل ينتقص أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق. وذلك أن الرسول حق والقرآن حق، وما جاء به حق، وإنما أدى إلينا ذلك كله الصحابة. وهؤلاء يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة والجرح بهم أولى وهم زنادقة"2. وقال الخطب البغدادي3: "عدالة الصحابة ثابتة ومعلومة بتعديل الله لهم وإخباره عن طهارتهم، واختياره لهم في نص القرآن، فمن ذلك: قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} 4. وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} 5.

_ 1 هو عبيد الله بن عبد الكريم بن يزيد الرازي، أبو زرعة من أئمة حفاظ الحديث، ذكر أنه يحفظ مائة ألف حديث، توفي سنة (64 هـ) . تهذيب التهذيب (7/30- 34) . 2 الكفاية في علم الرواية (ص 97) . 3 أحمد بن علي بن ثابت البغدادي، أحد الحفاظ المؤرخين المقدمين وصاحب مصنفات من أشهرها تاريخ بغداد، توفي سنة (463 هـ) . الأعلام (1/172) . 4 الآية (110) من سورة آل عمران. 5 الآية (143) من سورة البقرة.

وهذا اللفظ وإن كان عامًا فالمراد به الخاص وقيل: هو وارد في الصحابة دون غيرهم. وقوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} 1. وقوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} 2. وقوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} 3. وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} 4. وقوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 5. في آيات يكثر إيرادها، ويطول تعدادها. ووصف رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة مثل ذلك،، وأطنب في تعظيمهم وأحسن الثناء عليهم....

_ 1 الآية (17) من سورة الفتح. 2 الآية (100) من سورة التوبة. 3 الآيات (10، 11، 12) من سورة الواقعة. 4 الآية (64) من سورة الأنفال. 5 الآيتان (8، 9) من سورة الحشر.

وجميع ذلك يقتضي طهارة الصحابة، والقطع على تعديلهم ونزاهتهم فلا يحتاج أحد منهم مع تعديل الله تعالى لهم المطلع على بواطنهم إلى تعديل أحد من الخلق له ... على أنه لو لم يرد من الله عز وجل ورسوله فيهم شيء مما ذكرناه لأوجبت الحال التي كانوا عليها من الهجرة، والجهاد، والنصرة، وبذل المهج والأموال وقتل الآباء والأولاد، والمناصحة في الدين، وقوة الإيمان واليقين، القطع على عدالتهم والاعتقاد لنزاهتهم، وأنهم أفضل من جميع المعدلين والمزكين الذين يجيئون من بعدهم أبد الآبدين. وهذا مذهب كافة العلماء ومن يعتد بقوله من الفقهاء1. وقال ابن حجر: "اتفق أهل السنة على أن جميع الصحابة عدول ولم يخالف في ذلك إلا شذوذ من المبتدعة "2. وقال صاحب العقيدة الطحاوية: "ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نفرط في حب أحد منهم، ولا نتبرأ من أحد منهم، ونبغض من بغضهم، وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير وحبهم دين وإحسان، وبغضهم كفر وطغيان"3 وقال البيهقي: "وإذا ظهر أن حب الصحابة من الإيمان فحبهم أن يعتقد فضائلهم ويعترف لهم بها ويعرف لكل ذي حق منهم حقه، ولكل ذي عنا في الإسلام عناه ولكل ذي منزلة عند الرسول صلى الله عليه وسلم مزلته، وينشر محاسنهم

_ 1 الكفاية في علم الرواية (ص 93- 96) . 2 الإصابة (1/ 17) . 3 شرح العقيدة الطحاوية (ص 528) .

ويدعو بالخير لهم ويقتدي بما جاء في أبواب الدين عنهم ولا يتتبع زلاتهم وهفواتهم ولا يتعمد تهجين أحد منهم ببث ما لا يحسن عنه، ويسكت عما لا يقع ضرورة إلى الخوض فيه فيما كان بينهم وبالله التوفيق "1. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما وصفهم الله به في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 2. وطاعة النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "لا تسبوا أصحابي فو الذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه". ويقبلون ما جاء به الكتاب والسنة والإجماع: من فضائلهم ومراتبهم فيفضلون من أنفق من قبل الفتح -وهو صلح الحديبية- وقاتل، على من أنفق من بعده وقاتل، ويقدمون المهاجرين على الأنصار، ويؤمنون بأن الله قال لأهل بدر -وكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر-: "اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" 3 وبأنه لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة4 كما أخبر به صلى الله عليه وسلم، بل قد رضي الله عنهم ورضوا عنه، وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة.

_ 1 شعب الإيمان للبيهقي (ص 297) . 2 الآية (10) من سورة الحشر. 3 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب فضل من شهد بدرا. فتح الباري (7/304-305) ح 3983، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل أهل بدر (/ 168- 169) . 4 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل أصحاب الشجرة أهل بيعة الرضوان (7/169) .

ويشهدون بالجنة لمن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة كالعشرة وغيرهم من الصحابة. ويقرون بما تواتر به النقل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعن غيره من أن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر، ويثلثون بعثمان، ويربعون بعلي رضي الله عنهم، كما دلت، عليه الآثار وكما أجمع الصحابة رضي الله عنهم على تقديم عثمان في البيعه ... ويتبرؤون من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم"1. وبعد: فهذه نماذج من أقوال السلف ومعتقدهم تجاه الصحابة رضوان الله عليهم تبين مدى اعترافهم بفضلهم ومراتبهم ومنازلهم التي وردت بها نصوص القرآن والسنة، فهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فبحبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم، نحبهم ونحفظ لهم فضلهم ونحترم لهم تلك المنزلة التي أنزلوا اياها، ونرجوا أن يحشرنا الله معهم وأن يجمعنا بهم في الجنة على سرر متقابلين.

_ 1 مجموع الفتاوى (3/ 152- 153) .

المطلب السابع: من علامات محبته صلى الله عليه وسلم بغض من أبغض الله ورسوله

المطلب السابع: من علامات محبته صلى الله عليه وسلم بغض من أبغض الله ورسوله ومعاداة من عاداه، ومجانبة من خالف سنته، وابتدع في دينه واستثقاله كل أمر يخالف شريعته1 قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 2 قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "على المؤمن أن يعادي في الله، ويوالي في الله. فإن كان هناك مؤمن فعليه أن يواليه - وإن ظلمه - فإن الظلم لا يقطع الموالاة الإيمانية. قال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} 3 فجعلهم إخوة مع وجود القتال والبغي، وأمر بالإصلاح يينهم.

_ 1 الشفا (2/575) . 2 الآية (22) من سورة المجادلة. 3 الآيتان (9، 10) من سورة الحجرات.

فالمؤمن تجب موالاته وإن ظلمك واعتدى عليك. والكافر تحب معاداته وإن أعطاك وأحسن إليك. فإن الله سبحانه بعث الرسل وأنزل الكتب ليكون الدين كله لله فيكون الحب والإكرام والثواب لأوليائه. ويكون البغي والإهانة والعقاب لأعدائه. وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر وفجور، وطاعة ومعصية، وسنة وبدعة. استحق الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير. واستحق المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر. فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والخيانة، فيجتمع له من هذا وهذا: كاللص الفقير تقطع يده لسرقته ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته. هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة1. فالناس باعتبار الحب والبغض والولاء والبراء ينقسمون إلى ثلاثة أصناف: الصنف الأول: من يحب جملة: وهو من آمن بالله ورسوله، وقام بوظائف الإسلام ومبانيه العظام علما وعملا واعتقادا، وأخلص أعماله وأفعاله وأقواله لله، وانقاد لأوامره وانتهي عما نهي الله عنه ورسوله، وأحب في الله، ووالى في الله وأبغض في الله، وعادى في الله وقدم قول رسول الله لا على قول كل أحد كائنا من كان. الصنف الثاني: من يحب من وجه ويبغض من وجه. وهو المسلم الذي خلط عملا صالحا وآخر سيئا. فيحب ويوالي على قدر ما معه من الخير، ولا يبغض أكثر مما يصلح وإذا أردت الدليل على ذلك: فهو في قصة ذلك الرجل من الصحابة والذي كان

_ 1 مجموع الفتاوى (28/ 208-209) .

يشرب الخمر، فأتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلعنه رجل وقال: ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله " 1. الصنف الثالث: من يبغض جملة. وهو من كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ولم يؤمن بالقدر خيره وشره وأنه كله بقضاء الله وقدره، وأنكر البعث بعد الموت، أو أنكر أحد أركان الإسلام الخمسة، أو أشرك الله في عبادته أحدا من الأنبياء والأولياء والصالحين، وصرف لهم نوعا من أنواع العبادة: كالحب والدعاء والخوف والرجاء والتعظيم والتوكل والاستعانة والاستعاذة والاستغاثة والذبح والنذر والإنابة والذل والخضوع والخشية والرغبة والرهبة والتعلق. أو ألحد في أسمائه وصفاته واتبع غير سبيل المؤمنين، وانتحل ما كان عليه أهل البدع والأهواء المضلة، وكذلك من قامت به نواقض الإسلام العشرة أو أحدها"2. فعلى هذا التقسيم تتضح صورة الحب والبغض، والولاء والبراء. فيوالي ويحب المؤمن المستقيم على دينه ولاء وحبا كاملين. ويتبرء ويعادي الكفرة والملحدين والمشركين، والمرتدين ويعادون عداوة وبغضا كاملين. وأما من خلط عملا صالحا وآخر سيئا فيوالي بحسب ما عنده من الإيمان، ويعادى بحسب ما هو عليه من الشر.

_ 1 تقدم تخريجه ص 303. 2 إرشاد الطالب لابن سحمان (ص 19) .

المطلب الثامن: من علامات محبته صلى الله عليه وسلم الزهد في الدنيا

المطلب الثامن: من علامات محبته صلى الله عليه وسلم الزهد في الدنيا إن من علامات محبة النبي فالزهد في الدنيا والصبر على شدائدها، وعدم الركون إلى زخرفها وملذاتها. وذلك افتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم واتباعا لما كان عليه. فلقد كان من صفاته صلى الله عليه وسلم زهده في أمور الدنيا وحبه للكفاف من العيش وإيثاره الآخرة على الأولى. فهو القائل صلى الله عليه وسلم: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل" 1. وهو القائل: "مالي وللدنيا إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب سار في يوم صائف 2 فاستظل تحت شجرة ثم راح وتركها" 3. والزهد المقصود هنا هو الزهد الشرعي لا الزهد البدعي. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "الزهد: هو عما لا ينفع. إما لانتفاء نفعه. أو لكونه مرجوحا، لأنه مفوت لما هو أنفع منه، أو محصل لما يربو ضرره على نفعه. فالزهد من باب عدم الرغبة والإرادة في المزهود فيه. فالواجبات

_ 1 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الرقاق، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل". فتح الباري (11/233) ح 6416. 2 يوم صائف: أي حار. القاموس (3/170) . 3 أخرجه وكيع بن الجراح في الزهد (1/ 286- 288) ح 64، وأخرجه عنه الإمام أحمد في المسند (1/ 441) وفي الزهد (8) والحاكم في المستدرك (4/ 309- 310) وصححه ووافقه الذهبي. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/326) بعد عزوه لأحمد رجاله رجال الصحيح، غير هلال بن خباب وهو ثقة. وقال محقق كتاب الزهد لوكيع: "والحديث مع ماله من الشواهد يرتقي إلى درجة الصحة". الزهد لوكيع (1/288) .

والمستحبات لا يصلح فيها الزهد. وكذا المنافع الخالصة أو الراجحة فالزهد فيها حمق. أما المحرمات والمكروهات فيصلح فيها الزهد وكذا المباحات "1. " والفرق بين الزهد والورع: أن الزهد: ترك مالا ينفع في الآخرة. وأما الورع: فهو ترك ما يخشى ضرره في الآخرة"2 "والقلب المعلق بالشهوات لا يصلح له زهد ولا ورع"3 والزهد أنواع: 1- زهد في الحرام وهو فرض عين. 2- زهد في الشبهات، وهو بحسب مراتب الشبهة. فإن قويت التحق بالواجب. وإن ضعفت كان مستحبا. 3- زهد في الفضول: وهو الزهد فيما لا يغني من الكلام والنظر والسؤال واللقاء وغيره. 4- زهد في الناس أي فيما عندهم. 5- زهد في النفس بحيث تهون عليه تفسه في الله، وهذا أصعب الأنواع وأشقها. 6- زهد جامع لذلك كله وهو الزهد فيما سوى الله وفي كل ما شغلك عنه. وأفضل الزهد: إخفاء الزهد، وأصعبه الزهد في الحظوظ4. والزهد الشرعي ينقسم باعتبار حكمه إلى قسمين:

_ 1 مجموع الفتاوى (0/ 615) بتصرف. 2 الفوائد لابن القيم (118) . 3 الفوائد لابن القيم (118) . 4 الفرائد لابن القيم (ص 118) .

القسم الأول منه: ما هو فرض على كل مسلم وهو الزهد في الحرام. القسم الثاني منه: ما هو مستحب وهو الزهد في المكروه وفضول المباحات والتفنن في الشهوات المباحة، وهو على درجات في الاستحباب بحسب المزهود فيه. مفهوم الزهد في الدنيا: ليس المراد بالزهد في الدنيا تخليتها من اليد وإخراجها، وقعوده صفرا. وإنما المراد إخراجها من القلب بالكلية بحيث لا يلتفت الزاهد إليها ولا يدعها تساكن قلبه وإن كانا في يده. فليس الزهد أن تترك الدنيا من يدك وهي في قلبك، وإنما الزهد أن تتركها من قلبك وهي في يدك. وهذا كحال سيد ولد آدم لا حين فتح الله عليه من الدنيا ما فتح، فلم يزده ذاك إلا زهدا فيها. وكحال الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز الذي يضرب بزهدهم المثل مع أن خزائن الأموال تحت أيديهم. والذي يصحح هذا الزهد ثلاثة أشياء: 1- أحدها: علم العبد أنها ظل زائل، وخيال زائر، وأنها كما قال تعالى فيها: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً} 1 ونحوها من الآيات.

_ 1 الآية (20) من سورة الحديد.

وسماها سبحانه {مَتَاعُ الْغُرُورِ} 1 ونهي عن الاغترار بها وأخبرنا عن سوء عاقبة المغترين بها، وحذرنا مثل مصارعهم وذم من رضي بها واطمأن إليها. 2- الثاني: علمه أن وراءها دارا أعظم منها قدرا وأجل خطرا، وهي دار البقاء، فالزهد فيها لكمال الرغبة فيما هو أعظم منها. 3- الثالث: معرفته بأن زهده فيها لا يمنعه شيئا كتب له منها. وأن حرصه عليها لا يجلب له ما لم يقض له منها. فمتى تيقن ذلك ثلج له صدره، وعلم أن مضمونه منها سيأتيه، وبقي حرصه وتعبه وكده ضائعا والعاقل لا يرضى، لنفسه بذلك. فهذه الأمور الثلاثة تسهل على العبد الزهد فيها ويثبت قدمه في مقامه"2. الزهد البدعي: وهو الذي عليه حال كثير من المتصوفة الذين تركوا الكسب والاكتساب ولم يأخذوا بالأسباب، وانقطعوا انقطاعا تاما عن الوسائل المشروعة لتحصيل الرزق. فأصبحوا بذلك عالة على الناس يتكففونهم ويعيشون على صدقاتهم وزكاتهم وأوقافهم، وصاروا عضوا أشل في مجتمعاتهم، فأوقعوا أنفسهم في محاذير كثيرة منها: 1- دخولهم في الرهبانية التي نهى الشارع الحكيم عنها. 2- مخالفتهم لأوامر الله لعباده بالسعي في الأرض وطلب الرزق الحلال 3- وقوعهم في مسألة الناس مع قدرتهم على طلب الرزق فاستحقوا بذلك الوعيد الشديد الوارد في هذا الشأن.

_ 1 الآية (185) من سورة آل عمران. 2 طريق الهجرتين (453- 456) بتصرف.

فالواجب على المسلم الحذر من مشابهة هؤلاء في أحوالهم فالزهد المشروع إنما هو قلة الرغبة في الموجود لا قلة الرغبة في المفقود. وعلامة قلة الرغبة في الموجود إنفاقه في سبيل الله. فخلاصة القول: إنه من المعلوم أن كل دعوى لابد لها من دليل عليها، ليثبت صدقها ويؤكدها ويبرهن عليها. قال تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 3 وكذا الحال في دعوى محبة الرسول صلى الله عليه وسلم لابد لمدعي هذه المحبة من علامات وأدلة تؤكد دعواه وتبرهن صدق ما قاله. وما تقدم من علامات وأدلة تعد أبرز وأهم العلامات التي تدلل وتبرهن على صحة تلك الدعوى. وعلى العموم فكل عمل يعمله المسلم مما حث الشارع على فعله يعد ذلك دليلا على محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، شريطة تحري الإخلاص في ذلك العمل وإرادة وجه الله تعالى به. وعلى هذا الأساس فإنه بقدر التزام المسلم بعلامات المحبة وحرصه على تطبيقها تتحدد درجة محبته للنبي صلى الله عليه وسلم ودرجة إيمانه كذلك. فمحبته همسا هي جزء من أجزاء الإيمان، والإيمان كما هو معلوم يزداد بالطاعات وينقص بالمعاصي. فتزداد المحبة بمقدار الالتزام بتلك العلامات. وتنقص بمقدار البعد عنها.

_ 3 الآية (111) من سورة البقرة.

المطلب التاسع: التحذير من علامات المحبة البدعية

المطلب التاسع: التحذير من علامات المحبة البدعية يظن البعض من الناس أن له الحق في التعبير عن محبته للنبي صلى الله عليه وسلم بما يراه ويستحسنه من الأمور، من غير أن يراعي في ذلك قواعد الشرع وأصوله وهذا الصنف من الناس تراه منساقا مع عواطفه جاعلا لها حق التشريع في هذا الدين. فتراه يغلو في حق النبي صلى الله عليه وسلم حتى كمل به إلى بعض مراتب الألوهية. وتراه يبتدع في دين الله أمورا تصل إلى حد العظائم. وتراه يقدم على الشركيات والكفريات. وكل ذلك بدعوى، محبة النبي صلى الله عليه وسلم ولقد حكم الله عز وجل بالضلال على هذا الصنف فقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} 1. فالمتبعون لعواطفهم وأهوائهم المحكمون لها، لابد وأن يكونوا نابذين لهدي الله المتمثل في الكتاب والسنة، واللذين يشتملان على قواعد هذا الدين وأصوله والتي من ضمنها تحريم الابتداع في الدين والإحداث فيه، وتحريم الغلو بشتى مظاهره وأشكاله، وتحريم الشرك بمختلف صوره وألوانه. ولذلك حكم الله بضلالهم وغوايتهم وبعداهم عن الصراط المستقيم. فحري بأمثال هؤلاء أن يقلعوا عن غيهم، وأن يتحكموا في عواطفهم كتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم. فمحبة النبي صلى الله عليه وسلم من الدين، وتحقيقها يكون عن طريق ما شرع في هذا الدين، لا عن طريق البدع وما تهواه النفوس فالبدع قد حذرنا نبينا صلى الله عليه وسلم منها

_ 1 الآية (50) من سورة القصص.

بقوله: "إياكم ومحدثات الأمور" وهذا الحديث يعني في هذا المقام أن ليس لأحد الحق في التعبير عن محبة النبي صلى الله عليه وسلم إلا بما جاء به النبي لا فعلى المسلم أن يدرك هذا الأمر وليحذر من سبل أهل الضلال والانحراف. قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} 1. وإن الناظر في أحوال أولئك المفتونين بالبدع تحت دعوى محبة النبي صلى الله عليه وسلم يجد أنهم قد رغبوا في تلك الأمور المبتدعة لأنها أمور لا مشقة فيها على النفس فجعلوها بدلا مما يجب عليهم من الأعمال والطاعات التي تشق على نفوسهم الضعيفة المريضة، فالمحبة عند هؤلاء تنحصر في مظاهر التعظيم اللساني المليء بالغلو والشرك والمقترن بالاجتماع على موائد الطعام والذي لا يخلو في بعض الأحيان من المنكرات والمحرمات. ويحق للمرء أن يتساءل أي محبة هذه التي تجيز لهؤلاء أن يبتدعوا في دين الله بزيادة أو نقص أو تغيير أو تبديل؟ لاشك أن فعل هذه الأمور يناقض المحبة ويضادها جملة وتفصيلا، ولا عذر لفاعلها فيما أقدم عليه وإن كان فعل ذلك بحسن نية، فحسن النية لا يبيح الابتداع في الدين، فلقد كان جل ما أحدث أهل الملل قبلنا من التغيير في دينهم عن حسن نية، فمازالوا على حالهم تلك حتى صارت أديانهم على غير ما جاءت به رسلهم. ومما يؤسف له أن كثيرا من الناس يتمسك بتلك البدع تقليدا لمشائخه أو عشيرته أو أهل بلده. إلى غير ذلك من العصبيات الجاهلية التي ما أنزل الله بها من سلطان والتي أعمت بصائر الكثير منهم وأضلتهم عن سبيل الله.

_ 1 الآية (153) من سورة الأنعام.

ولقد كان من الحري بهؤلاء أن يقتدوا بصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين كانوا أشد الأمة محبة للنبي صلى الله عليه وسلم، وأشدهم تعظيما له وكانوا أحرص الناس على الخير ممن جاء بعدهم، والذين بذلوا أنفسهم وأموالهم في هذا السبيل. فلقد كان من سنن الصحابة رضوان الله عليهم حرصهم على اتباع النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم يؤمنون بأن منشأ محبته وثباتها قوتها إنما يكون بمتابعته صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وسلوكه وتصرفاته. كما أنهم يؤمنون بأن الابتداع في الدين يضاد تلك المحبة وينافيها ولذلك لم يعهد عنهم أنهم ابتدعوا أشياء من عند أنفسهم لإظهار محبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم كما ابتدع المتأخرون ما ابتدعوه من البدع تحت ستار المحبة والتعظيم له صلى الله عليه وسلم. فإذا كان هذا هو شأن الصحابة فيما أثر عنهم من الآثار وهم المشهود لهم بأنهم أشد الأمة وأفضلها محبة وتعظيما للنبي صلى الله عليه وسلم، أفلا يسع من جاء بعدهم ما وسعهم، فيتركوا تلك الأمور المبتدعة التي أحدثت من بعدهم، والتي لم يأذن بها الله ولم تكن من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، من ولا من عمل أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم، ومن لم يتسع له ما اتسع للصحابة رضي الله عنهم، فلا وسع الله عليه في الدنيا ولا في الآخرة. فعن قتادة قال: قال ابن مسعود رضي الله عنه: "من كان منكم متأسيا فليتأس بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما وأقلها تكلفا وأقومها هديا وأحسنها حالا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم في آثارهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم"1.

_ 1 جامع بيان العلم وفضله (2/ 119) .

المبحث الثاني: ثواب محبته صلى الله عليه وسلم

المبحث الثاني: ثواب محبته صلى الله عليه وسلم المطلب الأول: ثمار المحبة في الحياة الدنيا ... يؤمن المسلم أنه بفعله للطاعات وسائر العبادات يفعل ذلك كله ابتغاء مرضاة الله ورجاء ما عنده من الثواب العاجل في الدنيا والآجل في الآخرة. ذلك لأن كل عمل صالح مشروع له ثمرة، فالله سبحانه كريم يجود على أهل طاعته وعبادته، ويمن عليهم بفضله في فيضاعف لهم درجات أعمالهم. قال تعالى: {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} 1. وقال تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} 2. وقال تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} 3. والمحبة من أفضل أعمال العباد وأحبها إلى الله عز وجل، فبها يذوق العبد حلاوة الإيمان كما في الحديث "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار"4. وبها يستكمل الإيمان كما في الحديث: "من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان" 5. وهي من أفضل الإيمان كما في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه سئل

_ 1 الآية (38) من سورة النور. 2 الآية (24) من سورة التوبة. 3 الآية (84) من سورة القصص. 4 تقدم تخريجه ص 43. 5 تقدم تخريجه ص 311.

رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أفضل الإيمان؟ قال: "أفضل الإيمان أن تحب لله وتبغض لله في الله وتعمل لسانك في ذكر الله ... " 1. فهذه الأحاديث تبين اكتساب المحبة لهذه الدرجة الرفيعة من الدين فمن أعظم الواجبات على المؤمن محبة الله ومحبة ما يحبه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة وما يحبه من الأشخاص كالأنبياء والملائكة وصالحي بني آدم وموالاتهم، وبغض ما يبغضه الله من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة. مع وجوب تقديم محبة الله تعالى على جميع المحاب وإيثار مرضاته على حظوظ النفس. ولقد دلت النصوص على عظم ثواب المحبة ومدى نفع ثمرتها. والحديث هنا عن ثمرة المحبة يتناول محبة الله ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم وذلك لما بين الأمرين من التلازم. فمحبة الله لا تتم إلا بمحبة ما يحبه الله وكراهة ما يكرهه. ولا طريق إلى معرفة ما يحبه وما يكرهه إلا بإتباع ما أمر به واجتناب ما نهي عنه، فصار من لوازم محبته سبحانه وتعالى محبة رسوله صلى الله عليه وسلم وتصديقه ومتابعته، ولهذا قرن الله محبته ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} 2. وورد مثل ذلك في كلام النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث: "ثلاث من كن فيه وجد

_ 1 أخرجه الإمام أحمد في مسنده (5/ 247) . 2 الآية (24) من سورة التوبة.

بهن حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما 000" الحديث. ومما تجدر الإشارة إليه كذلك أن كلا من الحب، والإيمان والتصديق هي حقوق مشتركة بين الله ورسوله. فالله سبحانه وتعالى كما أوجب الإيمان به على خلقه أوجب كذلك عليهم الإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} . تال تعالى: { ... أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} وكذا الحال بالنسبة للتصديق قال تعالى: {قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ} 1 وقد نظم ابن القيم رحمه الله هذا في نونيته حيث قال: والحب والإيمان والتصديق لا يختص بل حقان مشتركان2 وثمار محبة الله ورسوله منها ما هو دنيوي، ومنها ما هو أخروي. وسنعرض لكلا النوعين ليعلم المسلم عظم فضل الله على عباده المحبين له ولرسوله.

_ 1 الآية (22) من سورة الأحزاب. 2 شرح النونية لابن عيسى (2/ 347) وتكميلا للفائدة: فإن الحق الذي يختص الله به على عباده دون سواه هو: عبادته بأمره لا بهوى النفس، وذلك كالحج والصلاة والذبح والنذر واليمين والتوبة والتوكل والإنابة والرجاء ونحوها من العبادات فهي حق لله لا يشاركه فيه غيره. وأما الحق الذي يختص بالرسول صلى الله عليه وسلم فهو التعزير والتوقير كما في قوله تعالى: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} الآية (9) من سورة الفتح. انظر: شرح النونية لابن عيسى (2/ 348) .

المطلب الأول: ثمار المحبة في الحياة الدنيا من أعظم ثمار المحبة في هذه الحياة الدنيا هو ما تورثه في الجوارح من فعل للطاعات والقربات مما يرضي الله عز وجل ويكسب محبته. فمتى ما تمكنت المحبة من القلب واستغرق بها واستولت عليه لم تنبعث الجوارح إلا إلى رضا الرب وطاعته، وصارت النفس مطمئنة حينئذ بإيرادة مولاها عن مرادها وهواها، فمن أحب الله لم يكن شيء عنده آثر من رضاه. وهذا هو معنى الحديث الإلهي "ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشى بها "الحديث1. فالمحبة الصادقة شجرة في القلب عروقها الذل للمحبوب، وساقها معرفته، وأغصانها خشيته، وورقها الحياء منه، وثمرتها طاعته، ومادتها التي تسقيها ذكره2. فالمحبة تملأ القلب ذلا لله وتكسبه معرفة وخشية وخوفا وحياء من الله تبارك وتعالى، لتثمر بذلك طاعته وامتثال أوامره واجتناب نواهيه وخشيته في السر والعلانية، وثمار الطاعة لا تعد ولا تحصى وأعظمها: محبة الله للعبد وهذا أشرف مقصود وأرفع درجة وأعظم مقام يناله العبد. ثوابا وثمرة لمحبته لله عز وجل.

_ 1 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الرقاق، باب التواضع. فتح الباري (11/ 340- 341) ح 6502. 2 روضة المحبين (ص 409) .

وقد يظن البعض أن الغاية هي أن تحب لله، ولكن الأمر خلاف ذلك، فالغاية أن يحبك الله عز وجل وليست الغاية أن تحب الله عز وجل، فالمؤمن يسعى لهذه الغاية ويتمنى تحققها والفوز بها قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} 1. فالآية هنا إشارة إلى ثمرة المحبة {يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} قال ابن القيم عند هذه الآية "فجعل سبحانه متابعة رسوله سببا لمحبتهم له، وكون العبد محبوبا لله أعلى من كونه محبا لله، فليس الشأن أن تحب الله ولكن الشأن أن يحبك الله"2. وقد وصف الله سبحانه نفسه في كتابه العزيز بأنه يحب عباده المؤمنين، ويحبونه، وأخبر أنهم أشد حبا لله {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} 3. ووصف نفسه بأنه الودود {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} 4 والودود هو الحبيب، والود خالص الحب، فهو يود عباده المؤمنين ويودونه5. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} 6 قال بعض السلف في تفسيرها يحبهم ويحببهم إلى عباده7. فالفوز بمحبة الله فيه الخير كله فعن أنس بين مالك رضي الله عنه قال: قال

_ 1 الآية (9) من سورة آل عمران. 2 روضة المحبين ص (266) . 3 الآية (165) من صورة البقرة. 4 الآية (14) من سورة البروج. 5 روضة المحبين (409) . 6 الآية (96) من سورة مريم. 7 روضة المحبين ص (412) .

رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: "من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترقا عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشى، ولئن سألني لأعطنه ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولابد له منه"1. فتأمل كمال الموافقة في الكراهة كيف اقتضى كراهة الرب تعالى لمساءة عبده بالموت لما كره العبد مساخط ربه، وكمال الموافقة كيف اقتضى موافقته في قضاء حوائجه وإجابة طلباته وإعاذته مما استعاذ به، كما قالت عائشة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم: "ما أرى ربك إلا يسارع في هواك"2. وتأمل "الباء" في قوله "فبي يسمع وبي، يبصر وبي يبطش وبي يمشي" كيف تجدها مبينة لمعنى قوله "كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ... الخ " فإن سمع سمع بالله، وإن أبصر أبصر به، وإن بطش بطش به، وإن مشى مشى به، وهذا تحقيق قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} 3 وقوله تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} 4 وقوله تعالى:

_ 1 تقدم تخريجه (ص 374) 2 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، تفسير سورة الأحزاب باب (7) . فتح الباري (8/ 524- 525) ح 4788، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الرضاع، باب القسم بين الزوجات (4/ 174) . 3 الآية (128) من سورة النحل. 4 الآية (69) من سورة العنكبوت.

{وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} 1 وتأمل كذلك كيف جعل محبته لعبده متعلقة بأداء فرائضه، والتقرب إليه بالنوافل بعدها لا غير، وفي هذا تعزية لمدعي محبته بدون ذلك أنه ليس من أهلها، وإنما معه الأماني الباطلة والدعاوي الكاذبة2. ومما يناله العبد كذلك من محبة الله له محبة من في السماء له ووضع القبول له في أهل الأرض. فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أحب الله العبد نادى جبريل إن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في أهل الأرض " 3. وفي لفظ لمسلم: "إن الله إذا أحب عبدا دعا جبريل فقال إني أحب فلانا فأحبه " قال: فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء فيقول إن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء. قال: ثم يوضع له القبول في الأرض ... " الحديث4. وفي لفظ آخر لمسلم عن سهيل بن أبي صالح قال: كنا بعرفة فمر عمر بن عبد العزيز وهو على الموسم فقام الناس ينظرون إليه. فقلت لأبي: يا أبت إني أرى الله يحب عمر بن عبد العزيز. قال: وما ذاك؟

_ 1 الآية (19) من سورة الأنفال. 2 روضة المحبين (ص 411) . 3 أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب المقة (المحبة) من الله تعالى. انظر: فتح الباري (10/ 461) ح 6040 4 أخرجه مسلم كتاب البر والصلة والآداب، باب إذا أحب الله عبدا حببه إلى عباده (8/ 40، 41) .

قلت: لما له من الحب في قلوب الناس. فقال: إني سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ذكر الحديث1

_ 1 أخرجه مسلم كتاب البر والصلة والآداب، باب إذا أحب الله عبدا حببه إلى عباده (8/ 41) .

المطلب الثاني: ثواب المحبة في الآخرة

المطلب الثاني: ثواب المحبة في الآخرة أما على صعيد الثواب الأخروي فمن أعظم ما ورد في ذلك تلك البشارة التي وردت على لسان النبي كلها والتي استبشر لها الصحابة رضوان الله عليهم ولم يفرحوا بشيء بعد الإسلام أشد من فرحهم بها. فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله متى الساعة؟ قال: "وما أعددت للساعة؟ " قال: حب الله ورسوله. قال: "فإنك مع من أحببت". قال أنس: فما فرحنا بعد الإسلام فرحا أشد من قول النبي صلى الله عليه وسلم "فإنك مع من أحببت ". قال أنس: فأنا أحب الله ورسوله وأبا بكر وعمر فأرجو أن أكون معهم وإن لم أعمل بأعمالهم1. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يارسول الله كيف ترى في رجل أحب قوما ولما يلحق بهم؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "المرء مع من أحب" 2. ولاشك أن هذه البشرى عامة للأمة جميعها بمعنى أن من تحققت فيه محبة

_ 1 تقدم تخريجه (ص 312) . 2 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب، باب علامة الحب في الله. انظر:/ فتح الباري (10/ 557) ح 6169، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة والأدب، باب المرء مع من أحب (8/ 43) واللفظ له.

الله ورسوله فهو مستحق لتلك البشرى، ولكن مما يجدر التنبيه عليه ههنا مرة أخرى أنه لا يكفي مجرد دعوى محبة الله ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم باللسان فقط بل لابد من تحقيق المتابعة له، وكل ما يوصل إلى تحقيق المحبة، فمرافقة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة لابد أن يصاحبها اجتهاد ممن يطلبها، وإن كان ليس من شرط ذلك الاجتهاد في الطاعة أن يصل إلى درجة إجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم ومما يشهد لهذا ويؤكده ما ورد في حديث ربيعة بن كعب الأسلمي1 أنه قال: كنت أبيت عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتيته بوضوئه وحاجته فقال لي: "سل". فقلت: يارسول الله أسألك مرافقتك في الجنة. فقال: " أو غير ذلك؟ ". قلت: هو ذاك. قال: "فأعني على نفسك بكثرة السجود" 2. فطلب النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابي الذي سأل مرافقته في الجنة أن يكثر من صلاة النافلة، وفي هذا دليل على أن العمل مطلوب ممن أراد أن يصل إلى هذه الأمنية العظيمة وأن مجرد تمني القلب وقول اللسان لا يكفي لتحقيق ذلك. ومما يؤكد أن نوال شرف مرافقة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة متعلق باتباع شريعته وطاعته، قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} 3 ومن الثواب الأخروي الذي يناله المحب لله ولرسوله هو غفران الذنوب وهذا ما دل عليه قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ

_ 1 رببعة بن كعب بن مالك الأسلمي، صحابي، كان من أهل الصفة مات سنة ثلاث وستين من الهجرة. الإصابة (1/ 498) 2 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الصلاة، باب فضل السجود والحث عليه (2/ 52) . 3 الآية (69) من سورة النساء.

لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} 1 فأخبر سبحانه في هذه الآية عن مغفرته لذنوب الذين حققوا محبته ومحبة نبيه على الوجه المطلوب منهم، وهذه منة امتن الله بها على أهل محبته، إذ وعدهم إن هم اتبعوا رسوله صلى الله عليه وسلم وأطاعوه أنه يجزيهم على فعلهم ذلك، ويكرمهم بشرف محبته لهم ويتوج ذلك الشرف العظيم والمنزلة العالية بأن يمحو عنهم خطاياهم ويكفر عنهم سيئاتهم التي اكتسبوها. ولاشك أن حصول هذين الأمرين أي "المحبة" و "المغفرة" هما غاية ما يتمنى المؤمن الفوز به، فأي فوز أعظم وأكبر من الفوز برضى الله وغفرانه. فرضى الله هو سبيل كل نعيم دائم مقيم، وغفرانه هو الأمان من كل عذاب أليم. ومن ثمرات محبته صلى الله عليه وسلم ما ورد في ثواب ذكره الذي هو أحد علامات ودلائل محبته فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من صلى علي واحد ة صلى الله عليه عشرا"2 والصلاة معناها هنا الثناء، فهي ثناء على الرسول صلى الله عليه وسلم وإرادة من الله أن يعلي ذكره ويزيده تعظيما وتشريفا والجزاء من جنس العمل، فمن اثنى على رسول الله صلى الله عليه وسلم جزاه الله من جنس عمله بأن يثني عليه ويزيد تشريفه وتكريمه3. فهذه ثمرة من ثمرات الذكر الذي هو علامة من علامات المحبة. ومما ورد كذلك حديث أبي بن كعب قال: قلت: يارسول الله، إني أكثر الصلاة عليك، فكم أجعل لك من صلاتي؟

_ 1الآية (9) من سورة آل عمران. 2 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الصلاة، باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد (2/ 17) . 3 جلاء الأفهام (ص 79) .

قال: "ما شئت". قلت: الربع؟ قال: "ما شئت، وإن زدت فهو خير". قلت: النصف؟ قال: "ما شئت، وإن زدت فهو خير". قلت: الثلثين؟ قال: "ما شئت وإن زدت فهو خير". قال: أجعل لك صلاتي كلها. قال: "إذا تكفى همك ويغفر لك ذنبك"1. والعبارة الأخيرة هي موطن الشاهد ههنا، فهذا من الثواب الحاصل من المحبة لأن من أحب شيئا أكثر من ذكره، "وكما أن الذكر من نتائج الحب، فالحب أيضا من نتائج الذكر، فكل منهما وشمر الآخر، وزرع المحبة إنما يسقى بماء الذكر، وأفضل الذكر ما صدر عن المحبة2. وقد سبق بيان معنى الحديث3. وعلى العموم فإن ثواب كل طاعة من الطاعات إنما هو في الحقيقة ثمرة للمحبة وذلك لأن المحبة أصل كل عمل من أعمال الإيمان والدين.

_ 1 تقدم تخريجه (ص 327) . 2 روضة المحبين (ص 265) . 3 انظر (ص 327) .

الباب الثالث: وجوب تعزيره وتوقيره وتعظيمه صلى الله عليه وسلم

المجلد الثاني الباب الثالث: وجوب تعزيره وتوقيره وتعظيمه صلى الله عليه وسلم الفصل الأول: بيان عظيم قدره صلى الله عليه وسلم ورفعة مكانته عند ربه عز وجل المبحث الأول: بيان بعض الخصائص التي خص الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم في الحياة الدنيا ... تمهيد: إن من الأهمية بمكان- قبل الشروع في توضيح الحق الواجب للنبي صلى الله عليه وسلم في شأن تعظيمه وتوقيره- عقد هذا الفصل في بيان عظيم قدره صلى الله عليه وسلم ورفعة مكانته عند ربه عز وجل وذلك لاستعراض- جملة طيبة من المكارم والخصائص التي امتن الله بها على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، والتي تدلل على تشريف الله عز وجل وتكريمه لنبيه صلى الله عليه وسلم، وتظهر تفضيل الله له على العالمين من الجن والناس أجمعين، بل والملائكة المقربين. فلابد لكل مسلم صادق في إسلامه من أن يتعرف على تلك الخصائص والفضائل، إذ إن هذه المعرفه تنير القلوب وتبصرها وتزيدها إيمانا وحبا وتعظيما للنبي المصطفي صلى الله عليه وسلم. ولهذه الزيادة- بلا شك- ثمرتها في شحذ الهمم ودفعها لاتباعه والإقتداء به والسير على نهجه والتمسك بسنته واقتفاء أثره، ولزوم هديه. والمتأمل في آيات الكتاب العزيز ونصوص السنة النبوية الصحيحة يجد الكثير من الأدلة التي تبين مكانة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وعظم قدره عند ربه عز وجل، فقد حباه الله وامتن عليه وأكرمه بخصائص في الدنيا والآخرة دلت على علو قدره، ورفعة مكانته، وسمو منزلته عند الخالق تبارك وتعالى. فقد قال تعالى في محكم التنزيل {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} 1 ففي هذه الآية يمتن الله على نبيه صلى الله عليه وسلم بما أسبغ عليه من الفضائل التي هي المناقب والمراتب

_ 1 الآية (113) من سورة النساء.

التي أعطاه الله إياها وميزه بها عن بقية أنبيائه ورسله وسائر خلقه. فالله سبحانه فضل بعض الرسل على بعض فقال تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} 1. فكان لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم النصيب الأوفر من هذا الفضل فقد خصه الله وميزه بخصائص ومناقب دنيوية وأخروية فضل بها على سائر الأنبياء ومن سواهم من البشر. وسأتعرض لبعض هذه الخصائص على وجه الاختصار وذلك حتى يتبين للقارئ عظم قدره صلى الله عليه وسلم عند ربه عز وجل.

_ 1 الآية (253) من سورة البقرة.

المبحث الأول: بيان بعض الخصائص التي خص الله، بها نبيه صلى الله عليه وسلم في الحياة الدنيا أ- أخذ العهد له صلى الله عليه وسلم على جميع الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام. من الأمور التي تدل على عظيم قدره صلى الله عليه وسلم عند ربه ما أخذه الله من العهد له صلى الله عليه وسلم على جميع الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام على أنهه لو بعث صلى الله عليه وسلم وهم أحياء أو أحد منهم فإنه يجب عليهم أن يؤمنوا به ويتبعوه وينصروه. قال تعالى {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} 1 وقد روي عن علي بن أبي طالب وابن-عباس رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية قولهما: "ما بعث الله نبيا من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث الله محمدا وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه"2. فهو الإمام الأعظم الذي لو وجد في أي عصر وجد لكان هو الواجب الطاعة المقدم على الأنبياء كلهم، ولهذا كان إمامهم ليلة الإسراء لما اجتمعوا ببيت المقدس3. ولهذا فقد كان عند أهل الكتاب علم تام به صلى الله عليه وسلم وبمبعثه ومكان بعثته

_ 1 الآية (81) من سورة آل عمران. 2 أخرجهما ابن جرير في تفسيره (3/ 332) وأوردهما ابن كثير في تفسيره (1/ 378) . 3 تفسير ابن كثير (1/ 378) .

ومهاجره، كما ورد وصفه في كتبهم حتى إنهم ليعرفونه كما يعرفون أبناءهم قال تعالى {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 1 وقال تعالى {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالأِنْجِيلِ} 2 وفي الحديث عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما حينما سئل عن وصف النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أجل والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين، فأنت ت عبدي ورسولي سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، ولا سخاب في الأسواق ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى، يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا لا إله إلا الله فيفتح، به أعينا عميا، وآذانا صما وقلوبا غلفا ... "3 2- أنه صلى الله عليه وسلم أكثر الأنبياء تبعا. فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة" 4.

_ 1 الآية (146) من سورة البقرة. 2 الآية (157) من سورة الأعراف. 3 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب البيوع، باب كراهية السخب في الأسواق. انظر: فتح الباري (4/ 342) ح 2125 4 تقدم تخريجه ص 74

وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أكثر الأنبياء تبعا يوم القيامة" 1. وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لم يصدق نبي من الأنبياء ما صدقت، وإن من الأنبياء نبيا ما يصدقه من أمته إلا رجل واحد" 2. وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عرضت علي الأم، فرأيت النبي ومعه الرهيط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي ليس معه أحد، إذ رفع لي سواد عظيم، فطنت أنهم أمتي فقيل لي: هذا موسى صلى الله عليه وسلم وقومه، ولكن أنظر إلى الأفق الآخر، فإذا سواد عظيم فقيل لي هذه أمتك، ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب، ولا عذاب ... " الحديث3. وفي هذا الأمر فضل عظيم وخصيصة كبيرة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم فالله تعالى يكتب لكل نبي من الأنبياء من الأجر بقدر أعمال أمته وأحوالها وأقوالها فقد قال صلى الله عليه وسلم: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا " الحديث4. فما من معرفة ولا حالة ولا عبادة ولا مقالة ولا شيء مما يتقرب به إلى الله عز

_ 1 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الأيمان، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا أول الناس يشفع في الجنة" 1/130 2 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا أول الناس يشفع في الجنة وأنا أكثر الأنبياء تبعا" (/130) . 3 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الطب، باب من اكتوى أو كوى غيره فتح الباري (10/ 155) ح 5705، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب (1/ 138) . 4 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة ومن دعا إلى هدى أو ضلالة. انظر (8/62)

وجل مما دل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا إليه إلا وله أجر من عمل به إلى يوم القيامة، ولا يبلغ أحد من الأنبياء إلى هذه المرتبة ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد نفع شطر أهل الجتة فقد ثبت في الحديث أن أمته شطر أهل الجنة قال صلى الله عليه وسلم: "أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟ قلنا: نعم. قال: أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟ قلنا: نعم. قال: والذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة" الحديث1. فإذا كان صلى الله عليه وسلم قد نفع شطر أهل الجنة، وغيره من الأنبياء إنما نفع جزءا من أجزاء الشطر، كانت منزلته في القرب على قدر منزلته في النفع، فما من عارف من أمته إلا وله مثل أجر معرفته مضافا إلى معارفه صلى الله عليه وسلم، وما من ذي حال من أمته إلا وله صلى الله عليه وسلم مثل أجره على- حاله مضموما إلى أحواله صلى الله عليه وسلم، وما من ذى مقال يتقرب به إلى الله عز وجل إلا وله صلى الله عليه وسلم مثل أجر ذلك القول مضموما إلى مقالته وتبليغ رسالته، وما من عمل من الأعمال المقربة إلى الله عز وجل من صلاة وزكاة وعتق وجهاد وبر ومعروف وذكر وصبر وعفو وصفح إلا وله صلى الله عليه وسلم مثل أجر عامله مضموما إلى أجره على أعماله، وما من درجة علية، ومرتبة سنية، نالها أحد من أمته بإرشاده ودلالته إلا وله مئل أجرها مضموما إلى درجته صلى الله عليه وسلم مرتبته، ويتضاعف ذلك بأن من دعا من أمته إلى هدى أو سن سنة حسنة كان له أجر من عمل بذلك على عدد العاملين، ثم يكون هذا المضاعف لنبينا صلى الله عليه وسلم لأنه دل عليه، وأرشد إليه.

_ 1 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الرقاق، باب الحشر. فتح الباري (11/ 378) ح 6528، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب كون هذه الأمة نصف أهل الجنة (1/138-139)

ولأجل هذا بكى موسى عليه السلام ليلة الإسراء بكاء غبطة غبط بها النبي صلى الله عليه وسلم إذ يدخل من أمته الجنة أكثر مما يدخل من أمة موسى عليه السلام، ولم يبك حسدا كما يتوهمه بعض الجهال، وانما بكا أسفا على ما فاته من مثل مرتبته1. ففي قصة المعراج من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعا وفيه " ... ثم صعد بي حتى أتى السماء السادسة ... فلما خلصت فإذا موسى، قال (جبريل) هذا موسى فسلم عليه، فسلمت عليه، فرد ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، فلما تجاوزت بكى. قيل له: ما يبكيك؟ قال أبكى لأن غلاما بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي ... " الحديث2. 3- أن قرنه صلى الله عليه وسلم خير قرون بني آدم كما أنه خير قرون أمته والقرون التي تلي قرنه صلى الله عليه وسلم. فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بعثت من خير قرون بني آدم قرنا فقرنا حتى كنت من القرن الذي كنت منه" 3. وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ... " الحديث4. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم أي الناس خير قال

_ 1 بداية السول في تفضيل الرسول (ص 44، 46) . 2 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب مناقب الأنصار، باب المعراج، انظر: فنح الباري (7/ 201- 202) . وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السموات وفرض الصلوات 11/ 104) 3 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المناقب، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم. انظر: فتح الباري (6/ 566) ح 3557 4 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الشهادات، باب لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد. انظر: فتح الباري (6/ 259) ح 2652، وأخرجه مسلم في صحيحه، كثاب فضائل الصحابة، باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم (7/ 184) .

: "القرن الذي أنا فيه ثم الثاني ثم الثالث"1 والأحاديث في هذا الأمر كئيرة: 4- أن الله تعالى أخبره بأنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وهو حي صحيح يمشي على الأرض. قال الله تعالى {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً} 2 وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه- الذي في الشفاعة- وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: " ... فيأتوني فيقولون: يا محمد أنت رسول الله، وخاتم الأنبياء، وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، اشفع لنا إلى ربك ... " 3. وفي حديث أنس رضي الله عنه- الذي في الشفاعة أيضا وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: "ولكن ائتوا محمدا عبدا قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ... " 4. قال العز بن عبد السلام5: "ولم ينقل أنه أخبر أحدا من الأنبياء بمثل ذلك

_ 1 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم (7/ 186) 2 الآيات (1، 2، 3) من سورة الفتح. 3 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب قول الله عز وجل: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً} . انظر: فتح الباري (8/ 395) ح 4712، وأخرجه مسلم في صحيحه كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة (1/ 127، 128) . 4 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة (1/133-134) . 5 عبد العزيز بن عبد السلام السلمي الدمشقي الملقب بسلطان العلماء فقيه شافعي بلغ رتبة الاجتهاد وله مؤلفات توفي سنة 660هـ. الأعلام (4/21) .

بل الظاهر أنه لم يخبرهم، لأن كل واحد. منهم إذا طلبت منهم الشفاعة في الموقف ذكر خطيئته التي أصابها وقال: "نفسي نفسي" ولو علم كل واحد منهم بغفران خطيئته لم يوجل منها في ذلك المقام واذا استشفعت الحلائق بالنبي صلىالله عليه وسلم في ذلك المقام قال: "أنا لها"1. 5- أن الله رفع له ذكره، قال تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} 2 فلا يذكر الله سبحانه إلا ذكر معه، ولا تصح للأمة خطبة ولا تشهد حتى يشهدوا أنه عبده ورسوله، وأوجب ذكره في كل خطبة، وفي الشهادتين اللتين هما أساس الإسلام وفي الأذان الذي هو شعار الإسلام وفي الصلاة التي هي عماد الدين إلى غير ذلك من المواضع. 6- أن الله أقسم بحياته صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} 3 والإقسام بحياة المقسم بحياته يدل على شرف حياته وعزتها عند المقسم بها، وأن حياته صلى الله عليه وسلم لجديرة أن يقسم بها لما فيها من البركة العامة والخاصة ولم يثبت هذا لغيره صلى الله عليه وسلم4. 7- أن الله وقره في ندائه، فناداه بأحب أسمائه وأسنى أوصافه فقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيّ ... } 5 و {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} 6 وهذه الخصيصة لم تثبت لغيره، بل ثبت أن كلا منهم نودي باسمه فقال تعالى:

_ 1 بداية السول (ص 35- 36) . 2 الآية (4) من سورة الشرح. 3 الآية 721) من سورة الحجر. 4 بداية السرل (ص 37) . 5 الآيات (64، 65، 70) من سورة الأنفال ومواضع أخرى. 6 الآية (41، 67) من سورة المائدة

{يَا آدَمُ اسْكُنْ} 1 {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ} 2 {يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ} 3 {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ} 4 {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ} 5 {يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا} 6 {يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ} 7 {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ} 8 {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ} 9. ولا يخفي على أحد أن السيد إذا دعي أحد عبيده بأفضل ما وجد فيه من الأوصاف العلية والأخلاق السنية، ودعا الآخرين بأسمائهم الأعلام التي لا تشعر بوصف من الأوصاف ولا بخلق من الأخلاق، دل ذلك على أن منزلة من دعاه بأفضل الأسماء والأوصاف أعز عليه وأقرب إليه ممن دعاه باسمه العلم. وهذا معلوم بالعرف أن من دعي بأفضل أوصافه وأخلاقه كان ذلك مبالغة في تعظيمه واحترامه "10 8- أن الله أمر الأمة بأن لا ينادونه باسمه بل ينادونه: يارسول الله يا نبي الله فقال الله تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ

_ 1 الآية (35) من سورة البقرة. 2 الآية (110) من سورة المائدة 3 الآية (30) من سورة القصص 4 الآية (48) من سورة هود. 5 الآية (26) من سورة ص. 6 الآية (105) من سورة الصافات 7 الآية (81) من سورة هود. 8 الآية (7) من سورة مريم. 9الآية (12) من سورة مريم. 10 (10) غاية السول (ص 38) .

تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 1 قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير2 عند تفسيرها، كانوا يقولون: يا محمد، يا أبا القاسم؟ فنهاهم الله عز وجل عن ذلك إعظاما لنبيه صلى الله عليه وسلم، وأمرهم أن يقولوا يا نبي الله يارسول الله"3. 9- أن الله نهي الأمة أن يرفعوا أصواتهم فوق صوته صلى الله عليه وسلم ولا يجهروا له بالقول - كما هو الحال بين الناس- حتى لا تحبط أعمالهم فقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} 4 الآيات. فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم افتقد ثابت بن قيس5 فقال رجل يارسول الله أنا أعلم لك علمه، فأتاه فوجده جالسا في بيته منكسا رأسه فقال له ما شأنك؟ فقال: شر. كان يرفع صوته فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم فقد حبط عمله وهو من أهل النار. فأتى الرجل، النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أنه قال كذا وكذا فقال موسى6: فرجع إليه المرة الآخرة ببشارة عظيمة، فقال: اذهب

_ 1 الآية (63) من سورة النور. 2 سعيد بن جبير الأسدي، بالولاء، الكوفي، تابعي، أخذ العلم من ابن عباس وابن عمر، ثقة، ثبت، فقيه، إمام حجة، قتل بين يدي الحجاج سنة خمس وتسعين. تهذيب التهذيب (4/ 11- 14) 3 تفسير ابن كثير (3/ 306) . 4 الآية (2) من سورة الحجرات. 5 هو ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري الخزرجي،، خطيب الأنصار شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، شهد أحدا وما بعدها، قتل يوم اليمامة. الإصابة (1/ 197) . 6 موسى بن أنس بن مالك الأنصاري، قاضي البصرة.، تابعي، ثقة قليل الحديث.

إليه فقل له: إنك ليست من أهل النار، ولكنك من أهل الجنة"1. وقال ابن الزبير2: "ما كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه"3 10- أن الله أمر الأمة بأنهم إذا أرادوا أن يناجوه صلى الله عليه وسلم بأن يقدموا بين يدى نجواهم صدقة، ثم نسخ ذلك، وأمرهم بالطاعة فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} 4 11- ما وهبه الله له من المعجزات التي تميزت، على معجزات من قبله من الأنبياء. فمعجزة سيد الأولين والآخرين وهي القرآن العظيم الباقي إلى يوم الدين، الذي لا تنضب معانيه، ولا تفنى عجائبه، ولا تنقطع فوائده، وهو المحفوظ بحفظ الله له- من التغيير والتبديل والتحريف- فيه دواء وشفاء، ومواعظ وأحكام، فيه خبر من سبقنا، وأحوال من بعدنا، وهو حبل الله المتين، من

_ 1 أخرجه البخاري في صحيحه كتاب التفسير، باب "لا ترفعوا أصواتهم فوق صوت النبي". انظر فتح الباري (8/ 590) 4846 2 هو عبد الله بن الزبير بن العوام، ولد عام الهجرة، وحنكه النبي صلى الله عليه وسلم ودعا له، وكان أول مولود في الإسلام بالمدينة وكان شهما فصيحا، رقد بويع له بالخلافة بعد موت-يزيد بن معاوية فبقى ثمان سنوات حتى قتل في أيام عبد الملك سنة ثلاث وسبعين للهجرة. الإصابة (2/ 301-- 303) . 3 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسبر، باب "لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي". فتح الباري (8/ 590) ح 4845 4 الآيتان (12، 13) من سورة المجادلة.

آمن به واتبعه رشد ومن تركه وضل عنه غوى وهلك، وخاب وخسر. فهو المعجزة الخالده الباقية ما بقى الإنسان في هذه الدنيا، بينما تصرمت وانقرضت معجزات من قبله من الأنبياء. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من نبي إلا أعطى من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحى الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة" 1. وكذلك فقد وجد في معجزاته ما هو أظهر في الإعجاز من معجزات غيره كتفجير الماء بين أصابعه2 فهو أبلغ في خرق العادة من تفجيره من الحجر، لأن جنس الأحجار مما يتفجر منه الماء، وكانت معجزته بانفجار الماء من بين أصابعه أبلغ من انفجار الحجر لموسى عليه السلام3. وعيسى عليه السلام أبرأ الأكمه مع بقاء عينه في مقرها ورسول الله صلى الله عيه وسلم رد العين بعد أن سالت على الخد ففيه معجزة من وجهين: إحداهما: التئامها بعد سيلانها والأخرى: رد البصر إليها بعد فقده منها4. فعن عاصم بن عمر بن قتادة5 عن أبيه6 عن جده قتادة7 أنه أصيبت عينه يوم

_ 1 تقدم تخريجه ص 74 2 تقدم تخريجه ص 80. 3 بداية السول في تفضيل الرسول (ص 41) . 4 المصدر السابق (ص 41- 42) 5 عاصم بن عمر بن قتادة بن النعمان الأنصاري، تابعي ثقة، كثير الحديث، وكان له علم بالمغازي والسيرة، توفي سنة عشرين ومائة تهذيب التهذيب (5/ 53- 34) . 6 عمر بن قتادة بن النعمان الأنصاري، روى عن أبيه وله صحبة تهذيب التهذيب (7/489) 7 قتادة بن النعمان بن زيد الأوسي ثم الظفري الأنصاري، صحابي جليل شهد بدرا وما بعدها ومات في خلافة عمر فصلى عليه ونزل في قبره وعاش خمسا وستين سنة. الإصابة 31/ 217- 218) .

أحد فسالت حدقته على وجنته فأرادوا أن يقطعوها، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "لا فدعا به فغمز عينه براحته فكان لا يدرى أي عينيه أصيبت" 1 (1) . والأمثلة في هذا الباب كثيرة وقد تطرق إليها من كتب في الدلائل والخصائص2. قال الشافعي رحمه الله تعالى: "ما أعطى الله نبيا ما أعطى محمدا صلى الله عليه وسلم" 3 وقال السيوطي: "قال العلماء ما أوتى نبي معجزة ولا فضيلة إلا ولنبينا صلى الله عليه وسلم نظيرها أو أعظم منها"4.

_ 1 أخرجه أبو نعيم في دلائل النبرة (ص 418) وأخرجه البيهقي في دلائل النبرة أيضا (3/ 251- 252) . وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 297، 298) وعزاه لأبى يعلى وقال في إسناده يحى بن عبد الحميد الحماني وهو ضعيف وقال الألباني في حاشية كتاب بداية السول (ص 42) ولكنه عند أبي نعيم من طريقين آخرين فهو يتقوى بهما". والحديث أورده ابن كثير في البداية (4/ 33، 34) . والسيوطي في الخصائص الكبرى (1/ 359) وعزاه لابن سعد والبيهقي وأبي نعيم. 2 انظر: دلائل النبوة لأبي نعيم الأصبهاني (ص 512- 550) ودلائل النبوة للبيهقي الجزء السادس، والخصائص الكبرى للسيوطي (2/ 304- 314) . 3 آداب الشافعي ومناقبه لابن أبي حاتم (ص 83) . 4 الخصائص الكبرى (2/ 304) .

المبحث الثاني: بيان بعض الخصائص التي خص الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم في الآخرة

المبحث الثاني: بيان بعض الخصائص التي خص الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم في الآخرة 1- أنه سيد ولد آدم يوم القيامة: فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة وأول من ينشق عنه القبر وأول شافع وأول مشفع" 1. قال العز بن عبد السلام: "السيد من اتصف بالصفات العلية والأخلاق السنية، وهذا مشعر بأنه أفضل منهم في الدارين، أما في الدنيا فلما اتصف به من الأخلاق العظيمة. وأما في الآخرة فلأن الجزاء مرتب على الأخلاق والأوصاف، فإذا فضلهم في الدنيا في المناقب والصفات، فضلهم في الآخرة في المراتب والدرجات. وإنما قال صلى الله عليه وسلم "أنا سيد ولد آدم" لتعرف أمته منزلته من ربه عز وجل"2 وسيادة النبي صلى الله عليه وسلم للناس يوم القيامة تظهر واضحة جلية بما سيناله من الشرف العظيم يوم القيامة وعلى رأس ذلك الشرف شفاعته في أهل الموقف واختصاصه بذلك من بين الأنبياء والرسل. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في دعوة، فرفعت إليه الذراع وكانت تعجبه- فنهس منا نهسة وقال: "أنا سيد الناس يوم القيامة، هل تدرون بمن يجمع الله الأولي ن والآخرين في صعيد واحد، فيبصرهم الناظر، ويسمعهم الداعي، وتدنو منهم الشمس، فيقرل بعض

_ 1 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب تفضبل نبينا صلى الله عليه وسلم على جميع الخلائق (7/ 59) 2 بداية السول في تفضيل الرسول (ص 34) .

الناس: ألا ترون إلى ما أنتم فيه إلى ما بلغكم؟ ألا تنظرون إلى من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس: أبوكم آدم. فيأتونه فيقولون يا آدم أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه وأمر الملائكة فسجدوا لك، وأسكنك الجنة ألا تشفع لنا إلى ربك؟ ألا ترى ما نحن فيه وما بلغنا؟. فيقول: ربي غضب غضبا لم يغضب قبله مثله، ولا يغضب بعده مثله ونهاني عن الشجرة فعصيت، نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح. فيأتون نوحا فيقولون: يا نوح أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وسماك الله عبدا شكورا، أما ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما بلغنا؟ ألا تشفع لنا إلى ربك؟ فيقول: ربي غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولا يغضه بعده مثله، نفسي نفسي، ائتوا النبي صلى الله عليه وسلم فيأتوني، فأسجد تحت العرش، فيقال: يا محمد ارفع رأسك واشفع تشفع، وسل تعطه"1. 2- واشتمل الحديث كذلك على خصيصة أخرى تدل على تخصيصه وتفضيله لا وهي كونه أول شافع وأول مشفع فهذا أمر خص الله تعالى به رسوله صلى الله عليه وسلم إذ جعله الشفيع يوم المحشر في إتيان الرب جل جلاله لفصل القضاء بين عباده وهو المقام المحمود الذي لا يليق إلا له والذي يحيد عنه أولو العزم من الأنبياء والمرسلين حتى تنتهي النوبة إليه فيكون هو المخصوص به

_ 1 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأنبياء، باب، قول الله عز وجل {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ} انظر فتح الباري (6/ 371) ح 3340 واللفظ له. وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الأيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها (1/ 127، 128) .

صلوات الله وسلامه عليه. قال ابن تيمية رحمه الله: "وقد اتفق المسلمون على أنه صلى الله عليه وسلم أعظم الخلق جاها عند الله، ولا جاه لمخلوق عند الله أعظم من جاهه، ولا شفاعة أعظم من شفاعته"1. كما أنه أول من يشفع في دخول الجنة فعن، أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أول الناس يشفع في الجنة وأنا أكثر الأنبياء تبعا"2. 3- أن الله جعل لواء الحمد بيد النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة: فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد الناس يوم القيامة ولا فخر، ما من أحد إلا هو تحت لوائي يوم القيامة ينتظر الفرج، وإن معي لواء الحمد، أنا أمشى ويمشى الناس معي، حتى آتي باب الجنة، فأستفتح فيقال من هذا فأقول محمد، فيقال مرحبا بمحمد فإذا رأيت ربي خررت له ساجدا أنظر إليه" 3 وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وبيدي لواء الحمد ولا فخر وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه، إلا تحت لوائي، وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر" 4.

_ 1 مجموع الفتاوى (1/ 145) . 2 أخرجه مسلم فى صحيحه كتاب الإيمان، باب في أول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا أول الناس يشفع في الحنة وأنا أكثر الأنبياء تبعا" (1/ 130) . 3 أخرجه الحاكم في مستدركه (/ 30) وصححه وقال على شرط الشيخين ووافقه الذهبي. 4 أخرجه أحمد في مسنده (3/2) . وأخرجه الترمذى في سننه، كتاب المناقب، باب فضل النبي صلى الله عليه وسلم (5/ 587) ح 3615 وقال: هذا حديث حسن صحيح. وأخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب الزهد، باب في الشفاعة (2/ 1440) ح 4308.

فهذه الخصيصة وغيرها من الخصائص تدل على علو مرتبته خاص وعلو منزلته إذ لا معنى للتفضيل إلا التخصيص بالمناقب والمراتب1. 4- أنه أول من يجيز على الصراط وأول من يقرع باب الجنة وأول من يدخلها. وهذه الأمور مما خص به النبي صلى الله عليه وسلم عن باقي الأنبياء السابقين. ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه الطويل قال: "أن ناسا قالوا يارسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ ... " الحديث. وفيه "ويضرب الصراط بين ظهري جهنم، فأكون أول من يجوز من الرسل بأمته؟ " 2 لحديث (2) . وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أكثر الأنبياء تبعا يوم القيامة، وأنا أول من يقرع باب الجنة" 3. وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "آتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح فيقول الخازن من أنت؟ فأقول محمد، فيقول بك أمرت لا أفتح لأحد قبلك" 4.

_ 1 غاية السول (ص 35) . 2 أخرجه البخاري في صحيحه، واللفظ له، كتاب الآذان، باب فضل السجود، انظر فتح الباري (2/ 292، 293) ح 806، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية (1/ 113) . 3 أخرجهما مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: " أنا أول الناس يشفع في الجنة" (1/ 130) 4 أخرجهما مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا أول الناس يشفع في الجنة" (1/ 130)

المبحث الثالث: بيان بعض الخصائص التي خص الله بها أمة محمد صلى الله عليه وسلم

المبحث الثالث: بيان بعض الخصائص التي خص الله بها أمة محمد صلى الله عليه وسلم اختصت هذه الأمة بخصائص وفضائل، فلقد أكرم الله هذه الأمة بنعم جليلة ومنح عظيمة، هي في أصلها إكرام كل من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، ولو لم تتبعه لما أعطت هذه الكرامات وتلك الميزات. فلقد جعل الله تعالى هذه الأمة خير الأمم، واصطفاها من جميع الخلق لتكون أمة لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، واجتباها لتكون الأمة الوسط الشاهدة على جميع الأمم السابقة. قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} 1. وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} 2. وقال تعالى: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} 3. وعن معاوية بن حيدة القشيري4 رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول في قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} قال: "إنكم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله" وفي لفظ "أنتم أفخرها وأكرمها على الله

_ 1 الآية (110) من سورة آل عمران. 2 الآية (143) من سورة البقرة. 3 الآية (78) من سورة الحج. 4 معاوية بن حيدة بن معاوية القشيري، له وفادة وصحبة، وقال البخاري "سمع النبي صلى الله عليه وسلم، وتوفي بخرسان. الإصابة (3/ 412) .

عز وجل" 1. وروى الأمام أحمد نحوه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه2. ومن فضل الله على هذه الأمة أنهم مع كونهم أقل عملا ممن قبلهم، فهم أكثر أجرا كما جاء في الحديث الصحيح. فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استأجر قوما يعملون له عملا يوما إلى الليل على أجر معلوم، فعملوا له نصف النهار، فقالوا لا حاجة لنا إلى أجرك الذي شرطت لنا وما عملنا باطل فقال لهم لا تفعلوا أكملوا بقية عملكم وخذوا أجركم كاملا، فأبوا وتركوا، واستأجر آخرين بعدهم فقال: أكملوا بقية يومكم هذا ولكم الذي شرطت لهم من الأجر فعملوا، حتى إذا كان حين صلاة العصر قالوا: لك ما عملنا باطل، ولك الأجر الذي جعلت لنا فيه، فقال لهم: أكملوا بقية عملكم فإن ما بقي من النهار شيء يسير، فأبوا، فاستأجر قوما أن يعملوا له بقية يومهم، فعملوا بقية يومهم حتى غابت الشمس، واستكملوا أجر الفريقين كليهما، فذلك مثلهم ومثل ما قبلوا من هذا النور" 3.

_ 1 أخرجه أحمد في المسند (4/ 446، 447، 448) (5/ 3- هـ) والترمذي في سننه، كتاب التفسير، تفسير سورة آل عمران (5/ 226) ح 3501 وقال: هذا حديث حسن. وأخرجه ابن ماجة في السنن كتاب الزهد، باب صفة أمة محمد صلى الله عليه وسلم انظر (2/ 1433) والحاكم قي المستدرك (4/84) وصححه ووافقه الذهبي. والدارمي في السنن (2/ 221) ح 2763، وحسنه الألباني في المشكاة (6285) . 2 المسند (3/61) . 3 أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الإجارة باب الإجارة من العصر إلى الليل. انظر: فتح الباري (4/447، 448) ح2271.

قال ابن كثير رحمه الله تعالى: "والمراد من هذا التشبيه بالعمال تفاوت أجورهم، وأن ذلك ليس منوطا بكثرة العمل وقلته، بل بأمور أخر معتبرة عند الله تعالى. وكم من عمل قليل أجدى ما لا يجديه العمل الكثير، هذه ليلة القدر العمل فيها أفضل من عبادة ألف شهر سواها، وهؤلاء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أنفقوا في أوقات لو أنفق غيرهم من الذهب مثل أحد ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه من تمر، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه الله على رأس أربعين سنة من عمره وقبضه وهو ابن ثلاث وستين على المشهور وقد برز في هذه المدة التي هي ثلاث وعشرون سنة في العلوم النافعة والأعمال الصالحة على سائر الأنبياء قبله حتى على نوح الذي لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له ويعمل بطاعة الله ليلا ونهارا صباحا ومساء صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر الأنبياء أجمعين. فهذه الأمة إنما شرفت وتضاعف ثوابها ببركة سيادة نبيها وشرفه وعظمته كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} 1. ومما أكرمت به هذه الأمة كذلك أنهم مع كونهم آخر الأم زمانا فهم الأولون يوم القيامة.

_ 1 الآيتان (28 29) من سورة الحديد.

فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أتوا الكتاب من قبلنا" 1. فهذه الأمة هم أول من يقضى لهم يوم القيامة كما جاء في الحديث الصحيح " ... نحن الآخرون من أهل الدنيا والأولون يوم القيامة المقضى لهم قبل الخلائق" 2. ومما خص الله تعالى به هذه الأمة يوم القيامة أنها تكون مع نبيها صلى الله عليه وسلم أول من يجتاز الصراط من الأم، كما في الحديث الطويل عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه " ... ويضرب الصراط دروس ظهري جهنم، فأكون أنا وأمتي أول من يجيز " 3. وكذلك فإن هذه الأمة هم أول من يدخل الجنة من الأمم فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نحن الآخرون الأولون يوم القيامة ونحن أول من يدخل الجنة" 4 ومما خص الله به هذه الأمة أن جعل الزمرة الأولى منها- وهي التي تدخل الجنة من غير حساب ولا عذاب- تدخل الجنة من الباب الأيمن من أبواب الجنة. فقد جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه- حديث الشفاعة الطويل وفيه "فأقول يارب أمتي أمتي، فيقال: يامحمد أدخل الجنة من أمتك من لا

_ 1 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجمعة، باب فرض الجمعة واللفظ له. انظر: فتح الباري (2/ 354) ح 876 وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجمعة، باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة (3/ 6) . 2 أخرجه مسل! م في صحيحه، كتاب الجمعة، باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة (3/ 7) . 3 أخرجه بهذا اللفظ مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية. انظر (1/113) 4 أخرجه بهذا اللفظ مسلم في صحيحه، كتاب الجمعة، باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة (3/6)

حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب ... " 1 الحديث. فهذه الخصائص والفضائل وغيرها كثير إنما هي شواهد وبراهين على تفضيل الله تعالى لنبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى. ماله من منزلة عظيمة ودرجة رفيعة عنده تبارك وتعالى. ومن هذه الخصائص يعلم المسلم عظيم قد نبينا صلى الله عليه وسلم ورفعة مكانته عند الله عز وجل، ومما لاشك فيه أن هذا العلم وهذه المعرفة ستثمربإذن الله في القلب المؤمن بالله ورسوله، فيزداد تعظيما وتوقيرا للنبي صلى الله عليه وسلم، وحرصا على اتباعه واقتفاء أثره والسير على سنته. فحري بالمسلم الذي تتوق نفسه وتتطلع لأن يكون في عداد أمة المصطفى الذين يقودهم صلى الله عليه وسلم إلى الجنة بعد أن يجتاز بهم الصراط، أن يحقق الأمور التي يستحق بها هذا الفضل العظيم والمرتبة العالية. فبالإيمان والاتباع والمحبة والتعظيم والبعد عما يضاد هذه الأمور يستحق الإنسان أن يكون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم. أما من لم يتبع ويسلك سبيل النبي صلى الله عليه وسلم بل غير بدل فهو محروم من هذا الفضل وذاك الشرف الذي تحدثت عنه تلك النصوص. فقد جاء في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا فرطكم على الحوض وليختلجن رجال دوني فأقول يارب أصحابي

_ 1 أخرجه بهذا اللفظ مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها (1/ 127- 129) .

فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك إنهم غيروا وبدلوا فيقول النبي صلى الله عليه وسلم سحقا سحقا لمن غير وبدل" 1

_ 1 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الرقاق، باب في الحوض. فتح الباري (11/ 463) ح 6576، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الطهارة، باب استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء (1/ 150- 151) .

الفصل الثاني: وجوب تعزيره وتوقيره وتعظيمه صلى الله عليه وسلم على أمته في حياته وبعد مماته

الفصل الثاني: وجوب تعزيره وتوقيره وتعظيمه صلى الله عليه وسلم على أمته في حياته وبعد مماته المبحث الأول: معنى التعزير والتوقير والتعظيم ... المبحث الأول: معنى التعزير والتوقير والتعظيم. قال تعالى: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} 1. وقال تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 2. أ- أما التعزير في اللغة: فيقول صاحب معجم مقاييس اللغة عن أصل هذه الكلمة: "عزر" العين والزاء. والراء: كلمتان أحدهما: التعظيم والنصر. والكلمة الأخرى: جنس من الضرب. فالأولى: النصر والتوقير كقوله تعالى: {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} والأصل الآخر: التعزير وهو الضرب دون الحد"3. وفي النهاية في غريب الحديث "أصل التعزير: المنع والرد. فكأن من نصرته قد رددت عنه أعداءه ومنعتهم من أذاه. ولهذا قيل للتأديب الذي هو دون الحد تعزير، لأنه يمنع الجاني أن يعاود الذنب، يقال عزرته، وعزرته. فهو من الأضداد"4. وجاء في تهذيب اللغة: "عزر" قال الله عز وجل: {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ}

_ 1 الآية (9) من سورة الفتح. 2 الآية (157) من سورة الأعراف. 3 مقاييس اللغة (4/ 311) . 4 النهاية (3/ 228) .

جاء في التفسير في قوله تعالى {وَتُعَزِّرُوهُ} أي لتنصروه بالسيف {وَعَزَّرْتُمُوهُمْ} عظمتموهم. وقيل: نصرتموهم. واللفظة تستعمل لعدة معان هي: 1- التعزير: النصر باللسان والسيف. 2- التعزير: التوقير. 3- التعزير: التأديب دون الحد. 4- التعزير: التوقيف على الفرائض والأحكام"1. وأما عن المعنى الشرعي المراد هنا: فعن ابن عباس رضي الله عنهما: {وَعَزَّرُوهُ} يقول: "حموه ووقروه"2. وعن مجاهد قال: "عزروه: سددوا أمره، وأعانوا رسوله ونصروه"3. وعن قتادة في قوله: {وَتُعَزِّرُوهُ} قال ينصروه"4. وقال ابن جرر الطبري: {وَعَزَّرُوهُ} "وقروه وعظموه وحموه من الناس"5 وقال أيضا بعد أن نقل قول ابن عباس ومجاهد وقتادة "وهذه الأقوال متقاربات المعنى، وإن اختلفت ألفاظ أهلها بها ومعنى التعزير في هذا الموضع: التقوية بالنصر والمعونة، ولا يكون ذلك إلا بالطاعة والتعظيم والإجلال"6 (6) . وقال شيخ الإسلام: "التعزير: اسم جامع لنصره وتأييده ومنعه من كل ما يؤذيه"7.

_ 1 تهذيب اللغة (2/ 129- 130) بتصرف. 2 تفسبرالطري (9/ 85) . 3 تفسبرالطري (9/ 85) . 4 تفسيرالطري (26/ 75) . 5 تفسير الطبري (9/ 85) . 6 تفسير الطري (26/ 75) 7 الصارم المسلول (ص 422) .

ب- وأما عن التوقير في اللغة: ففي معجم مقاييس اللغة: "وقر" الواو. والقاف. والراء: أصل يدل على ثقل في الشيء ... ومنه الوقار: الحلم والرزانه"1. وجاء في تهذيب اللغة "وقر الرجل من الوقار، يقر، فهو وقور. ووقرت الرجل: إذا عظمته ومنه قوله عز وجل {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} 2 وفي لسان العرب: "وقر الرجل: بجله، والتوقير: التعظيم والترزين"3 وأما المعنى الشرعي المراد هنا: فقال ابن عباس: {وَتُوَقِّرُوهُ} يعني التعظيم"4. وقال قتادة: {وَتُوَقِّرُوهُ} أمر الله بتسويده وتفخيمه"5. وقال أيضا:" {وَتُوَقِّرُوهُ} أي ليعظموه"6. وقال ابن جرير الطبري: "فأما التوقير فهو التعظيم والإجلال والتفخيم"7. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "التوقير: اسم جامع لكل ما فيه سكينة وطمأنينة من الإجلال والإكرام، وأن يعامل من التشريف والتكريم والتعظيم بما يصونه عن كل ما يخرجه عن حد الوقار"8

_ 1 معجم مقاييس اللغة (6/ 132) 2 تهذيب اللغة (9/ 280) 3 لسان العرب (5/ 291) . 4 تفسير الطبري (26/ 74) . 5 تفسير الطبري (26/ 74) . 6 تفسيرالطبري (26/ 75) . 7 تفسيرالطبري (26/ 75) . 8 الصارم المسلول (ص422)

قال ابن كثير: "التوقير: هو الإحترام والإجلال والإعظام"1. ج- وأما التعظيم في اللغة: ففي لسان العرب "التعظيم: التبجيل: يقال لفلان عظمة عند الناس: أي حرمة يعظم لها"2. ولفظ "التعظيم" لا يرد في خطاب الشارع كما ورد لفظ "التعزير" و"التوقير" لكن العلماء استعملوه في كلامهم عند هذه المسألة وذلك لقربه في المعنى إلى ذهن السامع، ولتأديته للمعنى المراد من لفظتي "التعزير" و"التوقير".

_ 1 تفسير ابن كثير (4/185) 2 لسان العرب (12/410-411)

المبحث الثاني: وجوب توقيره وتعظيمه صلى الله عليه وسلم والأدلة على ذلك

المبحث الثاني: وجوب توقيره وتعظيمه صلى الله عليه وسلم والأدلة على ذلك. إن تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم، وإجلاله، وتوقيره، شعبة عظيمة من شعب الإيمان، وهذه الشعبة غير شعبة المحبة1 بل إن منزلتها ورتبتها فوق منزلة ورتبة المحبة. ذلك لأنه ليس كل محب معظما، ألا ترى أن الوالد يحب ولده ولكن حبه إياه يدعوه إلى تكريمه ولا يدعوه إلى تعظيمه. والولد يحب والده فيجمع له بين التكريم والتعظيم. والسيد قد يحب مماليكه ولكنه لا يعظمهم. والمماليك يحبون ساداتهم ويعظمونهم. فعلمنا بذلك أن التعظيم رتبته فوق رتبة المحبة2. فمن حق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته أن يهاب ويعظم ويوقر ويجل أكثر من كل ولد لوالده ومن كل عبد لسيده، فهذا حق من حقوقه الواجبة له مما يزيد على لوازم الرسالة3 وهو ما أمر الله به في كتابه العزيز قال تعالى: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} 4. وقال تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ

_ 1 انظر المنهاج في شعب الإيمان للحليمي (2/ 124) الشعبة الخامسة عشرة. وكذلك الجامع في شعب الإيمان للبيهقي (1/ 300) الشعبة الخامسة عشرة. 2 المنهاج في شعب الإيمان للحليمي (2/ 124) . 3 المعنى المقصود هنا: أنه يجوز أن يبعث الله رسولا ولا يوجب له هذا الحق بخلاف الإيمان والاتباع فإنهما من لوازم الرسالة. 4 الآية (9) من سورة الفتح.

أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 1. فأبان أن حق الرسول صلى الله عليه وسلم في أمته أن يكون معزرا موقرا مهيبا. وأخبر سبحانه أن الفلاح إنما يكون لمن جمع بين الإيمان به وتعزيره ولا خلاف في أن التعزير هاهنا التعظيم2. وفي الجمع الحاصل في الآيتين بين الإيمان به وتعظيمه، تنبيه وإرشاد إلى أن القيام بحقوقه صلى الله عليه وسلم يعد من الإيمان الواجب الذي لا يتم إيمان العبد إلا به. قال الحليمي3: "فمعلوم أن حقوق رسول الله صلى الله عليه وسلم أجل وأعظم وأكرم وألزم لنا وأوجب علينا من حقوق السادات على مماليكهم والآباء على أولادهم لأن الله تعالى أنقذنا به من النار في الآخرة، وعصم به لنا أرواحنا وأبداننا وأعراضنا وأموالنا وأهلينا وأولادنا في العاجلة، فهدانا به لما إذا أطعناه فيه أدانا إلى جنات النعيم. فأية نعمة توازي هذه النعم وأية منة تداني هذه المنن. ثم إنه جل ثناؤه ألزمنا طاعته، وتوعدنا على معصيته بالنار. ووعدنا باتباعه الجنة. فأي رتبة تضاهي هذه الرتبة، وأي درجة تساوي في العلا هذه الدرجة. فحق علينا أن نحبه ونجله ونعظمه ونهابه أكثر من إجلال كل عبد سيده وكل ولد والده. وبمثل هذا نطق القرآن ووردت أوامر الله جل ثناؤه"4.

_ 1 الآية (157) من سورة الأعراف. 2 المنهاج في شعب الإيمان (2/ 125) "بتصرف". 3 الحسين بن الحسن بن محمد بن حليم البخاري الجرجانى، فقيه شافعي، قاضي، كان رئيس أهل الحديث في ما وراء النهر، توفي في بخارى سنة 403هـ وله كتاب المنهاج في شعب الإيمان. الأعلام (2/ 235) . 4 المنهاج في شعب الإيمان (124- 125) والجامع لشعب الإيمان (302- 303) .

ففي القرآن الكريم آيات كثيرة جاء فيها التأكيد على هذا الحق من حقوقه صلى الله عليه وسلم وبخاصة في جوانب معينة من جوانب تعظيمه ومن تلك الآيات ما يلي: 1- قوله تعالى: {لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} 1 "ففي هذه الآية نهي من الله أن يدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بغلظ وجفاء، وأمر لهم أن يدعوه بلين وتواضع"2. وروى الطبري بسنده عن مجاهد في تفسيرها فقال: "أمرهم أن يدعوه يارسول الله في لين وتواضع، ولا يقولوا: يامحمد، في تجهم"3 (3) . وعن قتادة قال: "أمرهم أن يفخموه ويشرفوه"4 (4) وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في تفسيرها "خص الله نبيه في هذه الآية بالمخاطبة بما يليق به، فنهي أن يقولوا: يامحمد أو يا أحمد، أو يا أبا القاسم، ولكن يقولوا: يارسول الله، يانبي الله وكيف لا يخاطبونه بذلك، والله سبحانه أكرمه في مخاطبته إياه بما لم يكرم به أحدا من الأنبياء، فلم يدعه باسمه في القرآن قط، بل يقول {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} 5 {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} 6 {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} 7 {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} 8 {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} 9 {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا

_ 1 الآية (63) من سورة النور. 2 تفسير الطبري (18/177) . 3 تفسير الطبري (18/177) . 4 تفسير الطبري (18/177) . 5 الآية (28) من سورة الأحزاب. 6 الآية (50) من سورة الأحزاب. 7 الآية (1) من سورة الأحزاب. 8 الآية (45) من سورة الأحزاب 9 الآية (1) من سورة الطلاق.

أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} 1 {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} 2 {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ} 3 {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ} 4 {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ} 5. مع أنه سبحانه قال: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ} 6 {قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} 7 {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} 8 {يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} 9 {يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ} 10 {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ} 11 {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ} 1213. وقال رحمه الله: "وإذا كنا في باب العبارة عن النبي صلى الله عليه وسلم علينا أن نفرق بين مخاطبته والإخبار عنه. فإذا خاطبناه كان علينا أن نتأدب بآداب الله تعالى حيث

_ 1 الآية (1) من سورة التحريم. 2 الآية (67) من سورة المائدة. 3 الآيتان (1، 2) من سورة المزمل 4 الآيتان (1، 2) من سورة المدثر 5 الآية (64) من سورة الأنفال 6 الآية (35) من سورة البقرة 7 الآية (33) من سورة البقرة 8 الآية (46) من سورة هود 9 الآية (76) من سورة هود 10 الآية (144) من سورة الأعراف 11 الآية (26) من سورة ص. 12 الآية (110) من سورة المائدة 13 الصارم المسلول (ص 422- 423)

قال: {لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} 1 فلا تقول يا محمد يا أحمد، كما يدعو بعضنا بعضا بل نقول: يارسول الله، يانبي الله. والله سبحانه وتعالى خاطب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بأسمائهم فقال: {يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} 2 {يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ} 3 {يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} 4 {يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} 5 ولما خاطبه صلى الله عليه وسلم قال {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} 6 {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} 7 {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} 8 {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} 9 {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} 10 فنحن أحق أن نتأدب في دعائه وخطابه. وأما إذا كنا في مقام الإخبار عنه قلنا: "أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله" وقلنا محمد رسول الله وخاتم النبيين، فنخبر عنه باسمه كما أخبر الله سبحانه لما أخبر عنه صلى الله عليه وسلم {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ

_ 1 الآية (63) من سورة النور 2 الآية (35) من سورة البقرة 3 الآية (48) من سورة هود 4 الآيتان (11، 12) من سورة طه 5 الآية (55) من سورة آل عمران 6 الآية (64) من سورة الأنفال 7 الآية (41) من سورة المائدة 8 الآية (67) من سورة المائدة 9 الآية (1) من سورة المزمل 10 الآية (1) من سورة المدثر

وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} 1 وقال {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً} 2 وقال {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} 3 وقال {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ} 4 فالفرق يين مقام المخاطبة ومقام الإخبار فرق ثابت بالشرع والعقل"5 2- وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 6 فهذه الآيات اشتملت على جملة من الآداب التي أدب الله بها عباده المؤمنين فيما يجب أن يعاملوا به الرسول صلى الله عليه وسلم من التوقير والاحترام والتبجيل والإعظام وهذه الآداب هي: أولا: أنه حرم التقدم بين يديه بالكلام حتى يأذن، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا

_ 1 الآية (40) من سورة الأحزاب 2 الآية (29) من سورة الفتح 3 الآية (144) من سورة آل عمران 4 الآية (2) من سورة محمد 5 درء تعارض العقل والنقل (1/297، 298) 6 الآيات من (1 إلى 5) من سورة الحجرات

الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} قال ابن كثير في معناها: "أي لا تسارعوا في الأشياء بين يديه أي قبله بل كونوا تبعا له في جميع الأمور، حتى يدخل في عموم هذا الأدب الشرعي حديث معاذ رضي الله عنه حيث قال له النبي صلى الله عليه وسلم حين بعثه إلى اليمن "بم تحكم؟ " قال: بكتاب الله تعالى. قال صلى الله عليه وسلم "فإن لم تجد؟ "قال بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال صلى الله عليه وسلم: "فإن لم تجد؟ "قال رضي الله عنه: أجتهد رأي، فضرب في صدره وقال: "الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم" 1. فالغرض منه أنه أخر رأيه ونظره واجتهاده إلى ما بعد الكتاب والسنة ولو قدمه قبل البحث عنهما لكان من باب التقدم بين يدي الله ورسوله"2. وقال الحليمي عند تعليقه على هذه الآية: "والمعنى لا تقدموا قولا أو فعلا بين يدي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله فيما سبيله أن تأخذوه عنه من أمر دين أو دنيا، بل أخروا أقوالكم وأفعالكم إلى أن يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك بما يراه فإنكم إذا قدمتم بين يديه كنتم مقدمين بين يدي الله عز وجل إذ كان رسوله لا يقضي إلا عنه، {وَاتَّقُوا اللَّهَ} ! أي احذروا عقابه بتقديمكم يين يدي رسول الله ومعاملته بما يوهم الاستخفاف به ومخالفة شيء مما يأمركم به عن

_ 1 أخرجه الإمام أحمد فى مسنده (5/ 230، 236، 242) .وأبو داود في سننه، كتاب الأقضية، باب اجتهاد الرأي في القضاء (4/ 18) ح 3592. والترمذي في سننه، كتاب الأحكام، باب القاضي كيف يقضي (3/616) ح 1327. وابن ماجة في سننه، المقدمة، باب اجتناب الرأي والقياس بنحوه (1/ 21) . 2 تفسير ابن كثير (4/ 205) .

الله بوحي متلو أو بوحي غير متلو {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي سميع لما تقدمونه بين يدي رسوله صلى الله عليه وسلم، أو تأتونه اقتداء به واتباعا له، عليم بما يكون منكم من إجلاله أو خلاف ذلك فهو يجزيكم بما سمعه ويعلمه منكم"1. ولقد تأدب الصحابة مع ربهم ومع رسولهم، فما عاد بعد نزول هذه الآية مقترح منهم يقترح على الله ورسوله، وما عاد واحد منهم يدلي برأي لم يطلب منه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدلي به، وما عاد أحد يقضي برأيه في أمر أو حكم إلا أن يرجع قبل ذلك إلى قول الله وقول النبي صلى الله عليه وسلم. حتى كان الرسول صلى الله عليه وسلم يسألهم عن اليوم الذي هم فيه والمكان الذي هم فيه وهم يعلمونه حق العلم، فيتحرجون أن يجيبوا إلا بقولهم: الله ورسوله أعلم. خشية أن يكون في قولهم تقدم بين يدي الله ورسوله. ومن ذلك ما جاء في حديث أبي بكرة نفيع بن الحارث الثقفي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم- سأل في حجة الوداع " أي شهر هذا؟ ".. قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أن سيسميه بغير اسمه، قال: "أليس ذو الحجة؟ " قلنا: بلى. قال: "فأي بلد هذا؟ " قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير أسمه، قال: "أليس البلدة؟ " قلنا بلى. قال "فأي يوم هذا؟ " قلنا: الله ورسوله أعلم فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. قال: "أليس يوم النحر؟ " قلنا بلى ... " الحديث2. فهذه صورة من الأدب، ومن التحرج، ومن التقوى التي انتهى إليها

_ 1 المنهاج في شعب الإيمان (2/ 127) 2 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب حجة الوداع واللفظ له. انظر فتح الباري (8/ 108) ح 4406

الصحابة بعد سماعهم ذلك النداء، وذلك التوجيه، وتلك الإشارة إلى التقوى تقوى الله السميع العليم. ثانيا: أنه حرم رفع الصوت فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم وأن يجهر له بالكلام كما يجهر الرجل للرجل، وهذا من باب الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث والخطاب ومن التوقير الذي يجب له، ذلك التوقير الذي ينعكس على نبرات أصوات الصحابة ليتميز بذلك شخص الرسول صلى الله عليه وسلم بينهم ويميز مجلسه فيهم فقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} 1. قال ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية: "هذا أدب ثان أدب الله تعالى به المؤمنين أن لا يرفعوا أصواتهم يين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فوق صوته، وقد روي أنها نزلت في الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فعن ابن أبي مليكة2 قال: "كاد الخيران أن يهلكا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما رفعا أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه ركب بني تميم فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس3 رضي الله عنه أخي بن مجاشع وأشار الآخر

_ 1 الآية (2) من سورة الحجرات 2 عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة زهير بن عبد الله بن جدعان التيمي المكي، تابعي ثقة، كان قاضيا لابن الزبير ومؤذنا له. مات سنة (17هـ) وقيل (18هـ) تهذيب التهذيب (5/ 306- 307) 3 الأقرع بن حابس بن عقال بن محمد بن سفيان التميمي المجاشعي الدارمي، وفد على النبي صلى الله عليه وسلم وشهد فتح مكة وحنينا والطائف، وهو من المؤلفة قلوبهم، وقد حسن إسلامه، وكان شريفا في الجاهلية والإسلام وشارك في الفتوحات، وقيل إنه قتل في اليرموك في عشرة من بنيه الإصابة (1/ 72- 73)

برجل آخر، قال نافع1 لا أحفظ اسمه فقال أبو بكر لعمر رضي الله عنهما ما أردت إلا خلافي، قال: مما أردت خلافك فارتفعت أصواتهما في ذلك، فأنزل الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} الآية. قال ابن الزبير2 رضي الله عنه: "فما كان عمر رضي الله عنه يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه، ولم يذكر ذلك عن أبيه يعني أبا بكر"3 فقد نهي الله عز وجل عن رفع الأصوات بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد روينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع صوت رجلين في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم قد ارتفعت أصواتهما فجاء فقال: أتدريان أين أنتما؟ ثم قال: من أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف، فقال: لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضربا4. وقال العلماء: يكره رفع الصوت عند قبره صلى الله عليه وسلم كما كان يكره في حياته عليه الصلاة والسلام لأنه محترم حيا وفي قبره صلى الله عليه وسلم دائما. ثم نهي عن الجهر له بالقول كما يجهر الرجل لمخاطبة ممن عداه، بل يخاطب بسكينة ووقار وتعظيم، ولهذا قال تبارك وتعالى: {وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} كما قال {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ

_ 1 نافع بن عمر بن عبد الله الجمحي الحافظ المكي، كان من أثبت الناس، روى عن ابن أبي مليكة وغيره، مات سنة تسع وستين ومائة. تهذيب التهذيب (10/ 401) 2 هو: عبد الله بن الزبير رضي الله عنه وقد تقدم ترجمته 3 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، تفسير سورة الحجرات. انظر: فتح الباري (8/ 590) خ 4845 4 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الصلاة، باب رفع الصوت في المسجد. انظر: فتح الباري (1/ 560) خ 470.

بَعْضِكُمْ بَعْضاً} وقوله عز وجل {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} أي إنما نهيناكم عن رفع الصوت عنده خشية أن يغضب من ذلك فيغضب الله تعالى لغضبه فيحبط عمل من أغضبه وهو لا يدري كما جاء في الصحيح "إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى لا يلقي لها بالا يكتب له بها الجنة، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى لا يلقي لها بالا يهوي بها في النار أبعد ما بين السماء والأرض"1. ثم ندب الله تعالى إلى خفض الصوت عنده وحث على ذلك وأرشد إليه ورغب فيه فقال {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} أي أخلصها لها وجعلها أهلا ومحلا {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} 2. وجاء في الكشاف عند تفسير هذه الآيات قوله: "أعاد النداء عليهم- أي في قوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} استدعاء منهم لتجديد الاستبصار عند كل خطاب وارد، وتطرية الإنصات لكل حكم نازل، وتحريك هممهم لئلا يفتروا ويغفلوا عن تأملهم وما أخذوا به عند حضور مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأدب الذي المحافظة عليه تعود عليهم بعظيم الجدوى في دينهم. وذلك لأن في إعظام صاحب الشرع إعظام ما ورد به، ومستعظم الحق

_ 1 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الرقاق، باب حفظ اللسان. فتح الباري (1 1/ 308) ح 6478 2 تفسير ابن كثير (4/ 205- 206)

لايدعه استعظامه أن يألو عملا بما يحدوه عليه، وارتداعا بما يصده عنه، وانتهاء إلى كل خير. والمراد بقوله: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيّ} أنه إذا نطق ونطقتم فعليكم أن لا تبلغوا بأصواتكم وراء الحد الذي يبلغه بصوته وأن تغضوا منها بحيث يكون كلامه عاليا لكلامكم، وجهره باهرا لجهركم، حتى تكون ميزته عليكم لائحة، وسابقته واضحة، وامتيازه عن جمهوركم كشية الأبلق غير خاف، لا أن تغمروا صوته بلغطكم، وتبهروا منطقه بصخبكم. وبقوله {وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ} أنكم إذا كلمتموه وهو صامت فإياكم والعدول عما نهيتم عنه من رفع الصوت، بل عليهم أن لا تبلغوا به الجهر الدائر بينكم، وأن تتعمدوا في مخاطبته القول البين المقرب من الهمس الذي لا يضاهي الجهر، كما تكون مخاطبة المهيب المعظم، عاملين بقوله عز شأنه {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} وليس الغرض من رفع الصوت ولا الجهر ما يقصد به الاستخفاف والاستهانة، لأن ذلك كفر، والمخاطبون مؤمنون وإنما الغرض صوت هو في نفسه والمسموع من جرسه غير مناسب لما يهاب به العظماء، ويوقر الكبراء، فيتكلف الغض منه، ورده إلى حد يميل به إلى ما يستبين فيه المأمور به من التعزير والتوقير. ولم يتناول النهي أيضا رفع الصوت الذي لا يتأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ما كان منهم في حرب، أو مجادلة معاند، أو إرهاب عدو أو ما أشبهه، فلم ينهوا عن الجهر مطلقا حتى لا يسوغ لهم أن يكلموه إلا بالهمس والمخافتة، وإنما نهوا عن جهر مقيد بصفة أعلى الجهر المنعوت بمماثلة ما قد اعتادوه منه فيما بينهم، وهو الخلو عن مراعاة أبهة النبوة، وجلالة مقدارها، وانحطاط

سائر الرتب وإن جلت عن رتبتها"1 "ومن البداهة أن هذه الآيات وأمثالها في تأديب الأمة وتعليمها إنما جاءت بأسلوبها المعجز لتفخيم شأن النبي صلى الله عليه وسلم وإظهار رفعة قدره المنيف، وسمو منزلته صلى الله عليه وسلم فوق كل منزلة أحد من الخلق، وهي مسوقة في مواضعها من القرآن الكريم لتعليم الأمة أفرادا وجماعات الأدب الأكمل مع النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما يتصل بمخاطبته والتحدث إليه، والإصغاء إلى حديثه، ومجالسته حتى يستشعر المؤمن بقلبه وروحه وكافة إحساساته ومشاعره ما أوجبه الله تعالى من توقيره صلى الله عليه وسلم توقيرا يجلي رفيع قدره، وعظيم مقامه، ويظهر تشريف الله تعالى له بما ميزه به على سائر الخلق، وقد اتفق أهل العلم من أئمة أعلام الأمة على أن حرمته صلى الله عليه وسلم بعد وفاته كحرمته في حياته"2. ثالثا: أن الله تبارك وتعالى ذم الذين ينادونه من وراء الحجرات وهي بيوت نسائه فقال {أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} ثم أرشد تعالى إلى الأدب في ذلك فقال {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} أي لكان لهم في ذلك الخيرة والمصلحة في الدنيا والآخرة3 فكره إليهم النداء على هذه الصفة المنافية للأدب والتوقير اللائق بشخص النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن لهم ما يجب عليهم وهو الصبر والانتظار حتى يخرج إليهم وحبب إليهم التوبة والإنابة، ورغبهم في المغفرة والرحمة4.

_ 1 الكشاف (3/ 554، 555) 2 كتاب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم منهج ورسالة تأليف محمد الصادق إبراهيم عرجون (4/ 333) 3 تفسير ابن كثير (4/ 208) 4 في ظلال القرآن لسيد قطب (6/ 3340) بتصرف يسير

قال الحليمي "في هذه الآية يسلى الله نبيه صلى الله عليه وسلم بما أخبره من أن الذين يصيحون خارج منزله ولا يصبرون حتى يخرج إليهم إنما حملهم على ذاك جهلهم وقلة عقلهم وأكثرهم لا يهتدون إلى ما يلزمهم من تعظيمك في حال مخاطبتك"1. 3- وقال تعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} 2 قال الحليمي: "فأعلمهم أن نفس الرسول صلى الله عليه وسلم أكرم وأشرف وأزكى وأجمل من أنفسهم، فلا يسعهم من ذلك أن يصرفوا أنفسهم عمالا يصرف نفسه عنه فيتخلفوا عنه إذا خرج لجهاد أعداء الله معتذرين من شدة حر، أو طول طريق، أو عوز ماء، أو قلة زاد، بل يلزمهم متابعته ومشايعته على أي حال رضيها لنفسه، وفي هذا أعظم البيان لمن عقل، وأبين الدلالة على وجوب تعظيمه وإجلاله وتوقيره3. 4- وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} 4. فنهاهم سبحانه وتعالى عن أن يعاملوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوسع في الانبساط

_ 1 المنهاج في شعب الإيمان (2/ 128) 2 الآية (120) من سورة التوبة 3 المنهاج في شعب الإيمان (2/ 126) 4 الآية (53) من سورة الأحزاب

والإسترسال كما يعامل من لا يهاب ولا يتقى، فيدخل بيته بغير إذنه إذا دعاهم إلى طعام لم ينضج، وأحاطوا به منتظرين إدراكه وإذا حضر الطعام ودخلوا وطعموا لزموا مجالسهم مستأنسين بالمحادثة، وأخبرهم أن ذلك منهي عنه، إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم قد تأذى منه ويستحى أن يكلمهم، كما أدبهم فيما ينبغي عليهم تجاه معاملتهم مع أزواجه صلى الله عليه وسلم وهذا كله مما يدل على ماله صلى الله عليه وسلم من التعظيم والاحترام. 5- وقد جاء بعد هذه الآيات الأمر بالصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم حيث قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} 1. ووجه إيصال هذه الآية بما قبلها هو أنه لما كان من الواجب على المكلفين تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم برفع الأذى عنه وإظهار شرفه وكرامته فذكر الله تعالى القسم الأول- أي رفع الأذى- في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} 2 إلى آخرها وذكر القسم الثاني- أي إظهار شرفه وكرامته- في هذه الآية الثانية، وبدأ بالأول لأن دفع المفاسد أهم. وأيضا لما أرشد الله تعالى المؤمنين إلى تعظيمه صلى الله عليه وسلم بتعلم سلوك طريق الأدب معه في أشياء كثيرة تتعلق بحياته وموته إظهارا لشرفه وتعظيما له، عقبه بما يدل على أنه تعالى أيضا معظم لشأنه أيضا، وكذلك ملائكته المقربون حملة العرش وحفظته الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. وفيه بيان لمنقبة عظيمة له صلى الله عليه وسلم فإن الملك قد يأمربإكرام شخص ولا يكون

_ 1 الآية (56) من سورة الأحزاب 2 الآية (53) من سورة الأحزاب

عنده بمكان فأزيل هذا التوهم وبين أنه أكرم الخلق على ربه تعالى. وأيضا لما أرشد الله المؤمنين إلى الحال التي يجب أن يكونوا عليها مع نبيه صلى الله عليه وسلم من التعظيم والتوقير- ولهم معه حالتان: 1- حالة الخلوة: والواجب هناك عدم إزعاجه- بين ذلك بقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيّ} 1 2- وحالة الملأ: والواجب هناك إظهار التعظيم، بين ذلك بقوله {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} 2. وأيضا لما أمر الله سبحانه وتعالى بالاستئذان في بيوته، وعدم النظر إلى وجوه زوجاته، وغير ذلك من الآداب إكراما وتبجيلا، كمل سبحانه بيان حرمته بقوله {صَلُّوا عَلَيْهِ} . وأيضا لما بين الأدب معه في حال الخلوة، وكان حاله في الملأ نوعين، لأنه يكون أعلى وأسفل، فبين أنه في الأعلى محترم في غاية الاحترام ثم بين ما يجب على الملأ الأسفل من ذلك التعظيم بقوله {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} 3 6- وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} 4 فالله تعالى من تعظيمه لنبيه صلى الله عليه وسلم حفظ له كرامته وصان له حقه ففرق بين

_ 1 الآية (53) من سورة الأحزاب 2 الآية (56) من سورة الأحزاب 3 الصلات والبشر في الصلاة على خير البشر (ص 19- 20) 4 الآيتان (57-58) من سورة الأحزاب

أذاه وأذى المؤمنين، فأوجب على من آذى النبي صلى الله عليه وسلم اللعن والطرد من رحمته وهذا حكم على من آذاه بالكفر وفي الآخرة له العذاب المهين ومصيره إلى جهنم وبئس المصير. بينما حكم على من آذى المؤمنين بالبهتان والإثم والفرق يين الحكمين ناتج عن الفرق بين حق النبي صلى الله عليه وسلم وحق غيره. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في استدلاله بهذه الآية على وجوب قتل من أذى النبي صلى الله عليه وسلم "ودلالتها من وجوه: أحدها: أنه قرن أذاه بأذاه كما قرن طاعته بطاعته، فمن آذاه فقد آذى الله تعالى، وقد جاء ذلك منصوصا عنه، ومن آذى الله فهو كافر حلال الدم. بين ذلك أن الله تعالى جعل محبة الله ورسوله، وإرضاء الله ورسوله وطاعة الله ورسوله شيئا واحدا فقال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} 1 وقال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} 2 في مواضع متعددة، وقال تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} 3 فوحد الضمير، وفي ذلك إشارة إلى أن إرضاء الله إرضاء للرسول وإرضاء الرسول فيه إرضاء لله، وقال أيضا {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} 4 وقال أيضا: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُول} 5

_ 1 الآية (24) من سورة التوبة 2 الآية (132) من سورة آل عمران 3 الآية (62) من سورة التوبة 4 الآية (10) من سورة الفتح 5 الآية (1) من سورة الأنفال

وجعل شقاق الله ورسوله ومحادة الله ورسوله وأذى الله ورسوله ومعصية الله ورسوله شيئا واحدا، فقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} 1 وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} 2 وقال تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} 3 وقال: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} 4. وفي هذا وغيره بيان لتلازم الحقين، وأن جهة حرمة الله تعالى ورسوله جهة واحدة، فمن آذى الرسول فقد آذى الله، ومن أطاعه فقد أطاع الله، لأن الأمة لا يصلون ما بينهم ويين ربهم إلا بواسطة الرسول، ليس لأحد منهم طريق غيره، ولا سبب سواه وقد أقامه الله مقام نفسه في أمره ونهيه وإخباره وبيانه، فلا يجوز أن يفرق بين الله ورسوله في شيء من هذه الأمور. وثانيها: أنه فرق بين أذى الله ورسوله وبين أذى المؤمنين والمؤمنات، فجعل على هذا أنه قد احتمل بهتانا وإثما مبينا وجعل على ذلك اللعنة في الدنيا والآخرة وأعد له العذاب المهين، ومعلوم أن أذى المؤمنين قد يكون من كبائر الإثم وفيه الجلد، وليس فوق ذلك إلا الكفر والقتل. الثالث: أنه ذكر أنه لعنهم في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا، واللعن: الإبعاد عن الرحمة، ومن طرده عن رحمته في الدنيا والآخرة لا يكون إلا كافرا فإن المؤمن يقرب إليها بعض الأوقات ولا يكون مباح الدم، لأن حقن الدم رحمة عظيمة من الله، فلا تثبت في حقه ... "5

_ 1 الآية (13) من سورة الأنفال 2 الآية (20) من سورة المجادلة 3 الآية (63) من سورة التوبة 4 الآية (14) من سورة النساء وآيات أخر 5 الصارم المسلول (ص 40- 41)

ومما يوضح ذلك أن سب النبي صلى الله عليه وسلم قد تعلق به عدة حقوق: أ- حق الله سبحانه من حيث كفر برسوله وعادى أفضل أوليائه وبارزه بالمحاربة ومن حيث طعن في كتابه ودينه، فإن صحتهما موقوفة على صحة الرسالة، ومن حيث طعن في ألوهيته، فإن الطعن في الرسول طعن في المرسِل، وتكذيبه تكذيب لله تبارك وتعالى وإنكار لكلامه وأمره وخبره وكثير من صفاته. ب- وتعلق به حق جميع المؤمنين من هذه الأمة ومن غيرها من الأم، فإن جميع المؤمنين مؤمنون به خصوصا أمته فإن قيام أمر دنياهم ودينهم وآخرتهم به بل عامة الخير الذي يصيبهم في الدنيا والآخرة بوساطته وسفارته، فالسب له أعظم عندهم من سب أنفسهم وآبائهم وأبنائهم وسب جميعهم، كما أنه أحب إليهم من أنفسهم وأولادهم وآبائهم والناس أجمعين. ج- وتعلق به حق رسول الله كلها من حيث خصوص نفسه فإن الإنسان تؤذيه الوقيعة في عرضه أكثر مما يؤذيه أخذ ماله، وأكثر مما يؤذيه الضرب، بل ربما كانت عنده أعظم من الجرح ونحوه، خصوصا من يجب عليه أن يظهر للناس كمال عرضه وعلو قدره لينتفعوا بذلك في الدنيا والآخرة1. 7- وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 2. قال بعض المفسرين: هي لغة كانت في الأنصار، نهوا عن قولها تعظيماا للنبي صلى الله عليه وسلم وتبجيلا له، لأن معناها ارعنا نرعك، فنهوا عن قولها، إذ مقتضاها كأنهم لا يرعونه إلا برعايته لهم، بل حقه أن يرعى على كل حال.

_ 1 الصارم المسلول (ص393-394) 2 الآية (104) من سورة البقرة

وقيل: كانت اليهود تعرض بها للنبي صلى الله عليه وسلم بالرعونة1 فنهي المسلمون عن قولها قطعا للذريعة، ومنعا للتشبه بهم في قولها لمشاركة اللفظة وقيل غير هذا2 8- وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً} 3. ففي هذه الآية حرم الله على الأمة أن تنكح أزواجه من بعده لأن ذلك يؤذيه وجعله عظيما عند الله تعظيما لحرمته صلى الله عليه وسلم، فحرم تعالى على الأمة ما هو مباح أن يعامل به بعضهم بعضا، وذلك تمييزا لنبيه صلى الله عليه وسلم وتعظيما لشأنه. وقد ذكر أن هذه الآية نزلت لما قال بعض الناس: لو قد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجت عائشة4. ولو أن أحدا أقدم على هذا الأمر فنكح أزواجه أو سراريه لكانت عقوبته في الشرع هي القتل جزاء له بما انتهك من حرمته والدليل على ذلك ما رواه مسلم بسنده عن أنسى بن مالك رضي الله عنه "أن رجلا كان يتهم بأم ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي اذهب فاضرب عنقه فأتاه علي فإذا هو في ركي5 يتبرد فيها، فقال له علي أخرج فناوله يده فأخرجه فإذا هو مجبوب ليس له ذكر فكف علي عنه، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يارسول الله إنه لمجبوب ما له ذكر"6

_ 1 الخفة والحماقة 2 الشفا (2/591) 3 الآية (53) من سورة الأحزاب 4 الصارم المسلول (ص 59) 5 الركي: جنس للركية، وهي البئر، وجمعها ركايا. النهاية (2/261) 6 صحيح مسلم، كتاب التوبة، باب براءة حرم النبي صلى الله عليه وسلم من الريبة (8/ 119)

قال ابن تيمية رحمه الله: "فهذا الرجل أمر النبي صلى الله عليه وسلم بضرب عنقه لما قد استحل من حرمته، ولم يأمر بإقامة حد الزنا، لأن إقامة حد الزنا ليس هو ضرب الرقبة، بل إن كان محصنا رجم، وان كان غير محصن جلد، ولا يقام عليه الحد إلا بأربعة شهداء أو بالإقرار المعتبر، فلما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بضرب عنقه من غير تفصيل بين أن يكون محصنا أو غير محصن علم أن قتله لما انتهكه من حرمته ... فلما تبين أنه كان مجبوبا علم أن المفسدة مأمونة منه ... "1 وبالإضافة إلى ما تقدم، فقد أوجب الله على الأمة احترام أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وجعلهن أمهات في التحريم والاحترام2. فقال تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} 3 ففي هذه الآية رفع الله مقام أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وبوأهن منزلة عالية، وهي منزلة الأمومة لجميع المؤمنين، وفي ذلك من الحرمة والاحترام والتوقير والإكرام والإعظام ما يوجب على كل مسلم أن يحفظ لهن هذا الحق ويؤديه على الوجه المطلوب منه شرعا. وهذه المنزلة لأمهات المؤمنين هي من التشريف والتعظيم الذي أعطاه الله للنبي صلى الله عليه وسلم. 9- وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ

_ 1 الصارم المسلول (ص 59- 60) 2 المصدر السابق (ص 433) 3 الآية (6) من سورة الأحزاب

لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 1. ففي هاتين الآيتين الكريمتين منهج تعظيم قدر النبي صلى الله عليه وسلم، وبيان ما ينبغي أن يكون عليه حال المؤمنين في جميع أمورهم التي تربطهم به صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا، أرسله الله تعالى بالهدى ودين الحق، وخلع عليه جلابيب حرصه عليهم، وعزة عنتهم عليه، وخصه باسمين من أسمائه الحسنى، فجعله رؤوفا رحيما بالمؤمنين، وهذا تعظيم لم يكن قط لغيره صلى الله عليه وسلم لأنه تعظيم يرتبط بأصل الإيمان برسالته وهدايته. وجاء في الكشاف عند تفسير هذه الآيات: "أراد الله عز وجل أن يريهم عظيم الجناية في ذهاب الذاهب عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير إذنه، إذا كانوا معه على أمر جامع فجعل ترك ذهابهم حتى يستأذنوه ثالث الإيمان بالله والإيمان برسوله مع تصدير الجملة بإنما وإيقاع المؤمنين مبتدأ مخبرا عنه بموصول أحاطت صلته بذكر الإيمانين، ثم عقبه بما يزيده توكيدا وتشديدا حيث أعاده على أسلوب آخر وهو قوله {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} 2 وضمنه شيئا آخر، وهو أنه جعل الاستئذان كالمصدق بصحة الإيمان وعرض بالمنافقين وتسللهم لواذا"3. وبهذه النصوص يتبين للمسلم أن حقوق رسول الله صلى الله عليه وسلم أجل وأعظم وأكرم

_ 1 الآيتان (62، 63) من سورة النور 2 الآية (62) من سورة النور 3 الكشاف (3/ 78) بتصرف يسير

وألزم لنا وأوجب علينا من حقوق السادات على مماليكهم والآباء على أولادهم لأن الله تعالى أنقذنا به من النار في الآخرة، وعصم به لنا أرواحنا وأبداننا وأعراضنا وأموالنا وأهلينا وأولادنا في العاجلة، فهدانا به لأمر إذا أطعناه فيه أدانا إلى جنات النعيم، فأية نعمة توازي هذه النعم وأية منة تداني هذه المنن. ثم إنه جل ثناؤه ألزمنا طاعته وتوعدنا على معصيته بالنار، ووعدنا باتباعه الجنة فأي رتبة تضاهي هذه الرتبة، وأي درجة تساوي في العلا هذه الدرجة. فحق علينا إذا أن نحبه ونجله ونعظمه ونهابه، فبهذا نكون من المفلحين {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 1 فالآية بينت أن الفلاح إنما يكون لمن جمع إلى الإيمان به تعزيره ولا خلاف أن التعزير هنا التعظيم2 فلقد سجل الله في هذه الآية الفلاح بأسلوب الحصر للذين تأدبوا بهذا الأدب القرآني الرفيع. وكما قال تعالى في الإنافة بمقامه الأشرف، وبيان حقه على كل مؤمن ومؤمنة {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} 3. وقد ذهب علماء السلف إلى أن الضمير في قوله جل شأنه {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} راجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعناه: تعظموا رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفخموه في أدب المخاطبة والتحدث إليه ومجالسته. قال ابن تيمية: "فالتسبيح لله وحده، والتعزير والتوقير للرسول، والإيمان

_ 1 الآية (157) من سورة الأعراف 2 شعب الإيمان للبيهقي، شعبة التعظيم (1/ 302، 303) 3 الآيتان (8، 9) من سورة الفتح

بالله ورسوله"1. فهذه الآيات وغيرها نزلت لتبين مقام شرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وعظيم منزلته عند ربه، مما يوجب على المؤمنين برسالته أن يكونوا في مخاطباتهم معه على سنن الإجلال والتعظيم.

_ 1 بغية المرتاد (ص 504)

المبحث الثالث: تعظيم الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم في حياته

المبحث الثالث: تعظيم الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم في حياته من المعلوم المتقرر أن الصحابة رضوان الله عليهم هم أعرف الأمة بالنبي صلى الله عليه وسلم ولذلك فقد كانوا بقدره ومنزلته أعلم وأعرف من غيرهم. وبناء على هذا العلم وهذه المعرفة، فقد كان تعظيمهم وتوقيرهم للنبي صلى الله عليه وسلم أشد وأكبر من غيرهم. وقد أوردت كتب السنة والتفسير وغيرها صورا متعددة من ذلك التعظيم والتوقير الذي كان يفعله الصحابة رضوان الله عليهم مع النبي صلى الله عليه وسلم. ومن أبلغ ما قيل في وصف هذا التعظيم ما قاله عروة بن مسعود1 حين وجهته قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأى من تعظيم أصحابه له ما رأى، وأنه لا يتوضأ إلا ابتدروا وضوءه، وكادوا يقتتلون عليه، ولا يبصق بصاقا، ولا ينتخم نخامة إلا تلقوها بأكفهم فدلكوا بها وجوههم وأجسادهم، ولا تسقط منه شعرة إلا ابتدروها، وإذا أمرهم بأمر ابتدروا أمره وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيما له. فلما رجع إلى قريش قال: أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت مليكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم محمدا، والله إن انتخم نخامة إلا وقعت في

_ 1 عروة بن مسعود الثقفي، كان أحد الأكابر في قومه، وكانت له اليد البيضاء في تقرير صلح الحديبية، اتبع أثر النبي صلى الله عليه وسلم لما انصرف من الطائف فأسلم، واستأذنه أن يرجع إلى قومه، فأذن له فرجع فدعاهم، فرماه أحدهم بسهم وهو يؤذن في السحر فقتله. الإصابة (2/ 470- 471)

كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون إليه النظر تعظيما له ... "1 فهذه صورة لما كان عليه حال الصحابة وما كان من شأنهم في تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره ومراعاة أموره والتبرك بآثاره. ولما نزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} 2. ما كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يستفهمه3 وقال البيهقي: إن هذه الآية "نزلت في ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري كان إذا جالس النبي صلى الله عليه وسلم يرفع صوته إذا تكلم، فلما نزلت هذه الآية انطلق مهموما حزينا فمكث في بيته أياما مخافة أن يكون قد حبط عمله. وكان سعد بن عبادة4 جاره، فانطلق حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "اذهب فأخبر ثابت بن قيس أنك لم تُعْنَ بهذه الآية ولست من أهل النار بل أنت من أهل الجنة فاخرج إلينا فتعاهدنا " ففرح ثابت

_ 1 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد، والمصالحة مع أهل الحرب، وكتابة الشروط. انظر: فتح الباري (5/ 329، 331) 2 الآية (2) من سورة الحجرات 3 تقدم تخريجه (ص 432) 4 سعد بن عبادة الأنصاري، شهد الخزرج، شهد العقبة، وكان أحد النقباء، وكان مشهورا بالجود وكان معه راية الأنصار، توفي سنة خمسة عشرة وقيل سنة ست عشرة من الهجرة بالشام. الإصابة (2/ 27- 28)

بذلك ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فلما أبصره النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مرحبا برجل يزعم أنه من أهل النار بل غيرك من أهل النار وأنت من أهل الجنة". فكان بعد ذلك إذا جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخفض صوته حتى ما يكاد أن يسمع الذي يليه فنزلت: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} 1 فقتل يوم اليمامة"2. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيّ} قال أبو بكر رضي الله عنه لا أكلت إلا كأخي السرار حتى ألقي الله عز وجل"3. وعن أسامة بن شريك4 رضي الله عنه قال: "أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كأنما على رؤوسهم الطير " الحديث5. وعن البراء بن عازب6 (6) رضي الله عنهما قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم

_ 1 الآية (3) من سورة الحجرات 2 شعب الإيمان للبيهقي (1/ 313) 3 أخرجه الحاكم في المستدرك (2/ 462) وقال حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وقال الذهبي على شرط مسلم، وأخرجه البيهقي في شعب الإيمان، شعبة تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم (1/ 317) . وأخرجه كذلك في المدخل إلى السنن الكبرى، باب توقير العالم والعلم ص (379) ح 653. وأورده السيوطي في الدر المنثور (7/ 548) وعزاه لعبد بن حميد والحاكم والبيهقي في الشعب 4 أسامة بن شريك الثعلبي من بني ثعلبة، له صحبة، وروى حديثه أصحاب السنن وأحمد وابن خزيمة، وابن حبان والحاكم. الإصابة (1/ 46- 47) 5 أخرجه بهذا اللفظ أبو داود في سننه كتاب الطب، باب في الرجل يتداوى (4/ 192- 193) ح 3855، وأخرجه أحمد في المسند (4/ 278) 6 البراء بن عازب بن الحارث الأنصاري الأوسي، له ولأبيه محبة استصغره النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر وشهد أحدا وما بعدها ترفي سنة اثنتين وسبعين. الإصابة (1/ 146- 147)

وجلسنا حوله كأن على رؤوسنا الطير ... " الحديث1. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على المنبر فقال: "إنما أخشى عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من بركات الأرض" ثم ذكر زهرة الدنيا فبدأ إحداهما وثنى بالأخرى، فقام رجل فقال: يا رسول الله أو يأتي الخير بالشر؟ فسكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم، قلنا يوحى إليه، وسكت الناس كأن على رؤوسهم الطير " الحديث2. فالشاهد من الآثار الثلاثة المتقدمة قولهم "كأن على رؤوسهم الطير" فهذه العبارة هي كناية عن التعظيم الذي كانوا يظهرونه في مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم توقيرا وإجلالا له صلوات الله وسلامه عليه، فلم يكن من عادة الصحابة رضوان الله عليهم أن يتجادلوا في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم أو يعلوا أصواتهم بنقاش أو حوار بل يعطون لهذا المجلس حقه من التشريف والاحترام وعن بريدة بن الحصيب3 رضي الله عنه قال: "كنا إذا قعدنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم لم نرفع رؤوسنا إليه إعظاما له"4

_ 1 أخرجه بهذا اللفظ الإمام أحمد في مسنده (4/ 287) . وأخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب الجنائز، باب ما جاء في الجلوس في المقابر (1/ 494) ح 1549 2 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجهاد، باب فضل النفقة في سبيل الله. انظر فتح الباري (6/ 48، 49) ح 2842 3 بريدة بن الحصيب بن عبد الله الأسلمي، قيل إنه أسلم حين مر به النبي صلى الله عليه وسلم مهاجرا، وقيل: أسلم بعد منصرف النبي صلى الله عليه وسلم من بدر، وفي الصحيحين عنه أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ست عشرة غزوة، وأخباره كثيرة ومناقبه مشهورة، مات سنة ثلاث وستين. الإصابة (1/ 150) 4 أخرجه البيهقي في المدخل إلى السنن الكبرى، باب توقير العالم والعلم (ص 381) ح 658

وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: "وما كان أحد أحب إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أجل في عيني منه وما كنت أطيق أن أملأ عيني منة إجلالا له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت لأني لم أكن أملأ عيني منه"1. وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله لا كان يخرج على أصحابه من المهاجرين والأنصار وهم جلوس فيهم أبو بكر وعمر فلا يرفع إليه أحد منهم بصره إلا أبو بكر وعمر فإنهما كانا ينظران إليه وينظر إليهما ويبتسمان إليه ويبتسم إليهما2 وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل، قال: فقمت وتوضأت أصلي خلفه فأخذ بيده فجعلني حذاءه فخنست3 فقمت خلفه فأخذ بيدي فجعلني حذاءه فخنست فقمت خلفه، فانصرف رسول الله ال فقال: " مالي كلما جعلتك حذائي خنست؟ ". قال: فقلت له: لا ينبغي لأحد أن يصلي حذاءك وأنت رسول الله. قال: فدعا الله أن يزيدني فهما وعلما" 4.

_ 1 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب كون الإسلام يهدم ما قبله وكذا الهجرة والحج (1/ 78) 2 أخرجه الترمذي في سننه، كتاب المناقب، باب في مناقب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما كليهما (5/ 612) ح 3668، وقال: هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث الحكم بن عطية، وقد تكلم بعضهم في الحكم بن عطية 3 خنست: أي انقبضت وتأخرت. النهاية (2/ 83) 4 أخرجه أحمد في المسند (1/ 330) . وأخرجه الحاكم في المستدرك (3/ 534) وقال: حديث على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وأخرجه البيهقي في شعب الإيمان، باب شعبة تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم (1/ 320، 321) ح 129

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "إن أبواب النبي صلى الله عليه وسلم كانت تقرع بالأظافير"1. وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: "كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقرعون بابه بالأظافير"2. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس معنا في المسجد يحدثنا فإذا قام، قمنا حتى نراه، وقد دخل بعض بيوت أزواجه ... " الحديث3. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "لما كان يوم بدر فذكر الحديث في الأسارى وذكر قول عمر في قتلهم فقال ابن مسعود قلت:

_ 1 رواه البزار كما في كشف الأستار (2/ 421) . والببهقي في شعب الإيمان، باب شعبة تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم (1/ 338) خ 134 2 أخرب الحاكم في معرفة علوم الحديث النوع الخامس (ص 19) . وأخرجه البيهقي في المدخل إلى السنن الكبرى (ص 381) . وقال السخاوي في فتح المغيث (1/ 117) الحديث أخرجه الحاكم في علومه وكذا في الأمالي كما عزاه إليهما البيهقي في المدخل حيث أخرجه عن راو. ورواه أبو نعيم في المستخرج على علوم الحديث له (أي الحاكم) عن راو آخر كلاهما عن أحمد ابن عمرو (كذا) الزيبقي عن زكريا بن يحبس المنقري، عن الأصمعي، عن كيسان مولى هشام ابن حسان، وفي رواية أبي نعيم عن هشام بن حسان. وفي رواية الآخرين عن محمد بن حسان زاد البيهقي "وهو أخو هشام بن حسان وهر حسن الحديث" انتهي قول السخاوي 3 أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الأدب، باب في الحلم وأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم (5/ 133، 134) ح 4773، وأخرجه النسائي في سننه، في القسامة، باب القود، من الجندة (8/ 33، 34) . وأخرجه البيهقي في المدخل إلى السنن الكبرى (ص 401) ح 717

يارسول الله إلا سهل بن بيضاء1 فإني سمعته يذكر الإسلام فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فما رأيتني في يوم بدر أخوف أن تقع علي حجارة من السماء مني في ذلك اليوم حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسل إلا سهل بن بيضاء"2. وعن أبي رمثة3 قال: قدمت المدينة ولم أكن رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج وعليه ثوبان أخضران فقلت لابني هذا والله رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل ابني يرتعد هيبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم"4.

_ 1 سهل بن بيضاء القرشي، وبيضاء أمه واسمها دعد واسم أبيه وهب بن ربيعة بن هلال القرشي، كان ممن قام في نقض الصحيفة التي كتبتها قريش على بني هاشم، أسلم بمكة فكتم إسلامه فأخرجته قريشا إلى بدر فأسر يومئذ فشهد له ابن مسعود أنه رآه يصلى بمكة فأطلق ومات بالمدينة. الإصابة (2/ 84) 2 أخرجه أحمد في مسنده (1/ 383) . وأخرجه الترمذي في سننه، كتاب التفسير، تفسير سورة الأنفال (4/ 335) ح 5080 وقال: حديث حسن وأبو عبيدة لم يسمع من أبيه. وأخرجه الطبراني في الكبير (10/ 177) ح 10258 بنحوه. وأخرجه الحاكم في المستدرك (3/ 21- 22) وقال هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وأخرجه البيهقي في شعب الإيمان (1/ 325) ح 130 3 أبو رمثة (بكسر أوله وسكون الميم ثم مثلثة) التيمي اختلف في اسمه فقيل: رفاعة بن يثربي، ويقال عكسه، ويقال عمارة بن يثربي، وقيل غير ذلك، له صحبة، ومات بأفريقية. الإصابة: (4/ 71) وتقريب التهذيب (406) 4 أخرجه الإمام أحمد في المسند (2/ 226- 227- 228) بعدة طرق عن لقيط بن إياد عن أبي رمثة به. وأخرجه أبو داود في سننه، كتاب اللباس، باب في الخضرة (4/334) ح 4065، وأخرجه الترمذي في سننه، كتاب الأدب، باب ما جاء عن الثوب الأخضر (5/ 119) ح 2812. وأخرجه النسائي في سننه، كتاب الزينة، باب لبس الخضر من الثياب (8/ 204) ، وأخرجه البيهقي في شعب الأيمان (1/ 342) وفي دلائل النبوة (1/ 237)

وعن أبي جري جابر بن سليم1 قال: "رأيت رجلا يصدر الناس عن رأيه لا يقول شيئا إلا صدروا عنه، قلت: من هذا؟ قالوا: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم " الحديث2. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم والحلاق يحلقه وأطاف به أصحابه فما يريدون أن تقع شعرة إلا في يد رجل"3. وعن أنسى رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حلق رأسه كان أبو طلحة4 أول من أخذ من شعره"5. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الغداة جاء خدم المدينة بآنيتهم فيها الماء، فما يؤتى إناء إلا غمس يده فيها فربما جاؤوه في الغداة الباردة فيغمس يده فيها"6. ولما بعثت قريش أبا سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشد في عقد صلح الحديبية

_ 1 أبو جري (بالتصغير) الهجيمي واسمه جابر بن سليم وقيل سليم بن جابر، وقال البخاري الأول أصح، له صحبة، وهو من بني أنمار بن الهجيم بن عمرو بن تميم. تهذيب التهذيب (12/ 54) 2 أخرجه أبو داود في سننه، كتاب اللباس، باب ما جاء في إسبال الإزار (4/ 344) ح 4084 واللفظ له. وأخرجه الترمذي في سننه، كتاب الاستئذان، باب كراهية أن يقول عليك السلام مبتدئا وقال حسن صحيح (5/ 71، 72) ح 2721 3 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب قرب النبي عليه السلام من الناس وتبركهم به (7/ 79) 4 اسمه زيد بن سهل وقد تقدم ترجمته 5 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الوضوء، باب الماء الذي يغسل به شعر الإنسان. انظر: فتح الباري (3/ 237) ح 171. 6 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب قرب النبي صلى الله عليه وسلم من الناس وتبركهم به (7/ 79) .

ويزيد في المدة، فلما قدم المدينة دخل على ابنته أم حبيبة، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله طوته، فقال: يابنية ما أدري أرغبت لي عن هذا الفراش أم رغبت به عني؟ فقالت: هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت مشرك نجس فلم أحب أن تجلس على فراشة ... "1 فأكرمت فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجل عليه رجل مشرك. ولما قدم أبو سفيان مكة بعد ذلك قالت له قريش ما وراءك هل جئت بكتاب من محمد أو عهد؟ قال": لا والله قد أبي علي وقد تتبعت أصحابه فما رأيت قوما لملك عليهم أطوع منهم له ... "2". ولما قال رأس المنافقين عبد الله بن أبي سلول3 لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. قال رسول الله لا: "ادعوا لي عبد الله بن أبي4 فدعاه، فقال: ألا ترى ما يقول أبوك؟ قال: وما يقول بأبي أنت وأمي؟ قال: يقول لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل.

_ 1 أورده ابن كثير في البداية (4/ 280) من طريق ابن اسحاق، وابن حجر في الإصابة (4/ 299، 300) . 2 البداية لابن كثير (4/ 282) . 3 عبد الله بن أبي بن مالك بن الحارث بن عبيد الخزرجى، أبو الحباب المشهور بابن سلول، وسلول جدته لأبيه رأس المنافقين فى الإسلام أظهر الإسلام بعد وقعة بدر، تقية، مات بالمدينة سنة تسع من الهجرة، طبقات ابن سعد (2/ 3/ 90) . 4 عبد الله بن عبد الله بن أبي بن مالك، وهو ابن عبد الله بن أبي رأس المنافقين الذي تقدمت ترجمته. وكان اسم عبد الله بن عبد الله "الحباب" فسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله وهو صحابي جليل، شهد بدرا وما بعدها، واستشهد باليمامة في قتال الردة سنة اثنتي عشرة. الإصابة (2/ 327، 328) .

فقال: فقد صدق والله يارسول الله، أنت والله الأعز وهو الأذل أما والله قد قدمت المدينة يارسول الله، وإن أهل يثرب ليعلمون ما بها أحد أبر مني، ولئن كان يرضي الله ورسوله أن آتيهما برأسه لأتينهما به. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا". فلما قدموا المدينة، قام عبد الله بن عبد الله ابن أبي على بابها بالسيف لأبيه، ثم قال: أنت القائل لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، أما والله لتعرفن العزة لك أو لرسول الله، والله لا يأويك ظله، ولا تأويه أبدا إلا بإذن من الله ورسوله. فقال: ياللخزرج ابني يمنعني بيتي، ياللخزرج ابني يمنعني بيتى فقال: والله لا تأويه أبدا إلا بإذن منه. فاجتمع إليه رجال فكلموه، فقال: والله لا يدخله إلا يإذن من الله ورسوله فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه. فقال: "اذهبوا إليه، فقولوا له خله ومسكنه، فأتوه فقال: أما إذا جاء أمر النبي صلى الله عليه وسلم فنعم"1. وفي رواية عند الترمذي: "فقال له ابنه عبد الله بن عبد الله: والله لا تنفلت حتى تقر أنك الذليل ورسول الله صلى الله عليه وسلم العزيز، ففعل"2. وبعد. فهذا غيض من فيض مما ورد في تعظيم الصحابة رضوان الله عليهم للنبي صلى الله عليه وسلم في حياته، وفي الحقيقة فإن كل مواقفهم تشهد لهم بتعظيمه واحترامه وتوقيره.

_ 1 أخرجه الطبري في تفسيره (28/ 114، 115) تفسير سورة المنافقرن الآية (8) 2 سنن الترمذي (5/ 418) ح 3315 كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة المنافقين. وأورده ابن كئير في تفسيره (4/372) وعزاه للحميدي في مسنده وأورده ابن حجر في فتح الباري (8/ 652) .

فلقد كانوا يعظمونه في ذاته فيتبركون بآثاره كفضل وضوئه، والأخذ من شعره، ودلك أجسامهم بنخامته، وغير ذلك مما أقرهم النبي صلى الله عليه وسلم1، وهذا خاص في حقه صلى الله عليه وسلم. كما كانوا يعظمونه في سلوكهم وتصرفاتهم معه صلى الله عليه وسلم فما كانوا ينادونه إلا بـ" يانبي الله، يارسول الله" كما كانوا يسارعون في إجابته ويعاجلون في طاعته، تحقيقا لقوله تعالى {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ

_ 1 قال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى في كتابه تيسير العزيز الحميد (ص 153، 154) : ذكر بعض المتأخرين أن التبرك بآثار الصالحين مستحب كشرب سؤرهم، والتمسح بهم أو بثيابهم، وحمل المولود إلى أحد منهم ليحنكه بتمرة حتى يكون أول ما يدخل جوفه ريق الصالحين، والتبرك بعرقهم ونحر ذلك، وقد أكثر في ذلك أبو زكريا النوري في "شرح مسلم" في الأحاديث التي فيها أن الصحابة فعلوا شيئا مع النبي صلى الله عليه وسلم وظن أن بقية الصالحين في ذلك كالنبي صلى الله عليه وسلم وهذا خطأ صريح لوجوه منها: 1- عدم المقاربة فضلا عن المساواة للنبي صلى الله عليه وسلم في الفضل والبركة. 2- ومنها عدم تحقق الصلاح، فإنه لا يتحقق إلا بصلاح القلب، وهذا أمر لا يمكن الاطلاع عليه إلا بنص، كالصحابة الذين اثنى الله عليهم ورسوله، أو أئمة التابعين، أو من شهر بصلاح ودين كالأئمة الأربعة ونحوهم من الذين تشهد لهم الأمة بالصلاح وقد عدم أولئك، أما غيرهم فغاية الأمر أن نظن أنهم صالحون فنرجو لهم. 3- ومنها أنا لو ظننا صلاح شخص فلا نأمن أن يختم له بخاتمة سوء، والأعمال بالخواتيم، فلا يكون أهلا للتبرك بآثاره. 4- ومنها أن الصحابة لم يكونوا يفعلون ذلك مع غيره لا في حياته ولا بعد موته، ولو كان خيرا لسبقونا إليه، فهلا فعلوه مع أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ونحوهم من الذين شهد لهم النبي صلى اللهعليه وسلم بالجنة، وكذلك التابعون هل فعلوه مع سعيد بن المسيب وعلي بن الحسين وأويس القرني والحسن البصري ونحوهم ممن يقطع بصلاحهم، فدل أن ذلك مخصوص للنبي صلى الله عليه وسلم. 5- ومنها أن فعل هذا مع غيره شيء لا يؤمن أن يفتنه وتعجبه نفسه، فيورثه العجب والكبر والرياء، فيكون هذا كالمدح في الوجه بل أعظم" انتهي.

بَعْضاً} وكان صلى الله عليه وسلم عندهم معززا موقرا مهابا ولم يكونوا يعاملونه بالاسترسال والمباسطة كما يعامل الأكفاء بعضهم بعضا. وكانوا يخفضون أصواتهم عنده صلى الله عليه وسلم حتى ما يكاد أحدهم يسمع الذي يليه امتثالا لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ ... } الآية. فقد أدبهم الله مع نبيهم في الحدي والخطاب حتى يميز شخص رسول الله بينهم، ويميز مجلسه فيهم. وبذلك امتدحهم سبحانه وتعالى بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} . كما أنهم لم يكونوا ليتقدموا يين يديه بالكلام حتى يأذن لهم وذلك طاعة لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} - حتى كان النبي- صلى الله عليه وسلم يسألهم عن اليوم الذي هم فيه والمكان الذي هم فيه، وهم يعلمونه حق العلم، فيتحرجون أن يجيبوا إلا بقولهم الله ورسوله أعلم خشية أن يكون قولهم تقدما بين يدي الله ورسوله. وإذا جلسوا بين يديه صلى الله عليه وسلم أعطوا هذا المجلس الشريف حقه من التعظيم والإجلال والتكريم حتى لكأنما على رؤوسهم الطير وذلك لماهم عليه من السكينة والأدب الشرعي الذي أدبهم الله به ورسوله صلوات الله وسلامه عليه. وكانوا لا يحدون إليه النظر تعظيما ومهابة له صلى الله عليه وسلم وإذا أمرهم بأمر ابتدروا أمره فلا يقول شيئا إلا صدروا عنه وأطاعوه فيه وبادروا إلى امتثاله وتنفيذه والعمل به. وكيف لا يكون الأمر كذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم كان كل شيء في حياتهم، فقد

كان معلمهم ومربيهم وقائدهم وقدوتهم، ومصلحهم في الدنيا والشهيد عليهم في الآخرة، وكان يعنى بهم أكثر من عنايتهم بأنفسهم، يهتم بما يصلحهم أكثر من اهتمامهم بمصالحهم، ويرى أنه بما حمله الله من أمانة تكوينهم ورعاية شؤونهم والسهر على مصالحهم، أولى بهم من أنفسهم، وهذا ما أكده القرآن الكريم بقوله عز وجل: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} الآية. ولذلك فقد كان من البداهة بمكان أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم هذه المنزلة في حياة الصحابة رضوان الله عليهم، وأن يكون هو الآمر الناهي، والسيد المطاع الذي لا رد له أمر ولا يخالف له رأي {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} . ولقد توالت الآيات الكريمة التي تعلم الصحابة رضوان الله عليهم آداب السلوك معه، وتبين مكانة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم الذي اختاره لحمل الرسالة، وما ينبغي أن يعطى من الإجلال والتكريم. وكلما حدث إخلال وتقصير في جانب توقيره وتعظيمه صلى الله عليه وسلم فإن آيات القرآن تنزل مبينة لذلك الخلل والتقصير الذي وقع ومنبهة على خطورته ومحذرة من عواقب التمادي فيه كما في قوله تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً الآية وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيّ ... } الآية. وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} . وغير ذلك من الآيات التي نزلت في هذا الشأن، وإن شئت فاقرأ أسباب نزول تلك الآيات في كتب التفسير والحديث.

ومن ثم فإن المخاطبين بهذه الآيات من الصحابة انتهوا إلى العمل بها وذلك طاعة لأمر الله وتعظيما لحق رسوله صلى الله عليه وسلم الذي قررته تلك الآيات وأرشدت إليه. وكما كان هذا هو الحال في جانب الطاعة، فكذلك الحال في جانب الحذر من مخالفته ومعصيته. فالصحابة الذين عرفوا واشتهر عنهم طاعته صلى الله عليه وسلم هم الذين اشتهر عنهم بعدهم عن معصيته ومخالفته وذلك لعلمهم بما في ذلك من المحادة والمحاربة له ولشرعه صلى الله عليه وسلم وما يترتب على ذلك من العقوبة الشديدة قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ} 1، وقال تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا} 2، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} 3 ولقد كانت منزلة النبي صلى الله عليه وسلم في قلوب أصحابه أغلى وأعز عليهم من كل شيء حتى من نفوسهم وأهليهم وما سوى ذلك، فقد كانوا يفتدونه بأرواحهم ويبذلون في سبيل نصرته كل ما يملكون من غالي ورخيص فقد حثهم الله على ذلك بقوله {مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} 4 كما أنهم يعادون من يحارب الله ورسوله مهما كانت صلتهم وثيقة به حتى وإن كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم، ومواقفهم في ذلك كثيرة ومشتهرة

_ 1 الآية (20) من سورة المجادلة. 2 الآية (63) من سورة التوبة. 3 الآية (5) من سورة المجادلة. 4 الآية (120) من سورة التوبة.

وقد تقدم ذكر موقف أم حبيبة رضي الله عنها مع أبيها أبو سفيان وموقف عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول مع أبيه عبد الله بن أبي. وبالجملة فإن مجتمع الصحابة كان مجتمع الأمة المثالية التي تمثلت حقيقة واقعة في فترة من فترات التاريخ، ولقد كان الصحابة قبل الإسلام يعيشون في مجتمع اشتهر بغلظته وقساوة طبعه وبعده عن كثير من الآداب والسلوكيات فمن الله عليهم بالإسلام وهداهم له، واختارهم لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، فتوالت توجيهات القرآن الكريم والتربية النبوية الحكيمة عليهم، فهذبت وشذبت ووجهت ودفعت حتى ظهر ذلك المجتمع الذي له أدبه مع الله وأدبه مع رسوله صلى الله عليه وسلم، وأدبه مع نفسه، وأدبه مع غيره أدبه، في هواجس ضميره، وفي حركات جوارحه، وفي الوقت ذاته له شرائعه المنظمة لأوضاعه، وله نظمه التي تكفل صيانته، وهي شرائع ونظم تقوم على ذلك الأدب، وتنبثق منه، وتتسق معه. فما ظنك في مجتمع اختاره الله لصحبة نبيه وتولاه بعنايته ورعايته، وتعاهدهم رسوله بتوجيهاته ونصائحه وإرشاداته حتى سما وعلا وبلغ تلك الدرجة الرفيعة عند الله سبحانه وتعالى وعند رسوله صلى الله عليه وسلم

المبحث الرابع: تعظيم الأمة للنبي صلى الله عليه وسلم بعد مماته

المبحث الرابع: تعظيم الأمة للنبي صلى الله عليه وسلم بعد مماته المطلب الأول: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم محله القلب واللسان والجوارح ... تمهيد: سبق وأن تقرر- بما تقدم من أدلة وبراهين- وجوب تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وتعزيره وتوقيره. وعلمنا كذلك ما كان من حال الصحابة رضوان الله عليهم تجاه هذا الواجب الذي فرضه الله على الأمة في حق نبيه صلى الله عليه وسلم، وما كان منهم من تعظيم للنبي صلى الله عليه وسلم في حياته، حينما كان بين ظهرانيهم يعايشمهم ويعايشونه. والسؤال الذي يفرض نفسه في مثل هذا المقام هو: كيف يتحقق لهذه الأمة تعظيم نبيها صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، وما هي الأمور التي يشرع فعلها والقيام بها لتحقيق ما أمر الله به في هذا الجانب من جوانب الإيمان والدين؟ وقبل أن أشرع في تفاصيل جواب هذا السؤال وإيضاح جوانبه أود أن أذكر بأن هذا التعظيم والتوقير الواجب للنبي صلى الله عليه وسلم هو من أمور الدين المشروعة بأدلة القرآن والسنة، وبذلك فلا يحق لكائن من كان أن يعظم النبي صلى الله عليه وسلم بأمر من عنده لم يشرعه الله في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، أو ليس له أول فيهما. فالقاعدة الشرعية المبنية على قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" تقول إن أي أمر محدث في هذا الدين مما لم يشرعه النبي صلى الله عليه وسلم هو أمر مردود على فاعله كائنا من كان، وهو بدعة، وكل بدعة ضلالة. وهذه القاعدة الشرعية هي الميزان الذي يعرض عليه ما يقوم به الناس من أقوال وأفعال في هذا الجانب- أي جانب تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم - بل وفي كل جانب من جوانب الدين.

وإذا كانت العبادة هي الاسم الجامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة، فمما لا شك فيه أن تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم من الأمور التي يحبها الله، وقد ارتضاها لعباده حين أمرهم بذلك. فإذا كان تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم من الأمور التعبدية التي تعبد الله بها عباده، فالعبادات مبناها على الشرع والاتباع، لا على الهوى والابتداع، فالعبادة مبنية على أصلين هما: الأصل الأول: إخلاص العبادة للهه وحده لا شريك له، قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} 1 (1) . الأصل الثاني: أن نعبده بما شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا نعبده بالأهواء والبدع، قال الله تعالى {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} 2 وقال تعالى {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} 3 فليس لأحد أن يعبد الله إلا بما شرعه رسوله صلى الله عليه وسلم من واجب أو مستحب، وليس لنا أن نعبده بالأمور المبتدعة4. وهذان الأصلان هما حقيقة قولنا "أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله". وعلى هذا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم هو المبلغ عن الله تعالى أمره ونهيه وتحليله،

_ 1 الآية (5) من سورة البينة. 2 الآيتان (18- 19) من سورة الجاثية. 3 الآية (21) من سورة الشورى. 4 مجموع الفتاوى (1/80) بتصرف.

وتحريمه، بالحلال مما أحله، والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه، فليس لأحد كائنا من كان أن يشرع في هذا الدين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد قدمت لكلامي بهذه العبارات نظرا لما أحدثه الناس في هذا الجانب من بدع تحت دعوى تعظيم قدر النبي صلى الله عليه وسلم، مما ليس له أصل في الدين وما أنزل الله به من سلطان. ومن العجيب أن الشيطان أظهر لهم ذلك في صورة محبته صلى الله عليه وسلم وتعظيمه ومتابعته، وهذا شأن اللعين لابد وأن يمزج الحق بالباطل ليروج على أشباه الأنعام أتباع كل ناعق، الذين لم يستضيؤوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق. ولقد كان حري بهؤلاء الذين ابتدعوا تلك البدع، وكذلك الذين أخذوا بها من بعدهم، أن يلتزموا بما ورد به أمر الشارع من أمور في جانب تعظيم قدر النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره، ففيها الغنية والنجاة، وبالتمسك بها والسير عليها يحصل الأجر العظيم بإذن الله تعالى.

المطلب الأول: تعظيم النبي كلبا محله القلب واللسان والجواب لقد أرسل الله سبحانه وتعالى نبيه ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم إلى الثقلين الإنس والجن، على حين فترة من الرسل، فهدى به لأقوم طريق وأوضح سبيل، وبعثه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، فهدى به من الضلالة وبصر به من العمى وأرشد به من الغي، وفتح به أعينا عميا وآذانا صما، وقلوبا غلفا، فإن رسالته وافت أهل الأرض أحوج ما كانوا إليها، فإنهم كانوا بين عباد أوثان، وعباد صلبان، وعباد نيران، وعباد كواكب، ومغضوب عليهم قد باؤوا بغضب من الله، وحيران لا يعرف ربا يعبده، ولا بماذا يعبده، والناس يهل بعضهم بعضا من استحسن شيئا دعا إليه وقاتل من خالفه، وليس في الأرض موضح قدم مشرق بنور الرسالة، "وقد نظر الله سبحانه إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا على آثار دين صحيح"1 فأغاث الله به البلاد والعباد وكشف به تلك الظلم وأحيا به الخليقة بعد الموت. فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وعبد ربه حتى أتاه اليقين. ففرق بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والرشاد والغي، وطريق أهل

_ 1 هذه العبارة جزء من حديث رواه مسلم في صحيحه، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار (8/ 159) ولفظها في مسلم "وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب ... " الحديث.

الجنة وطريق أهل النار، وبين أوليائه وأعدائه، فالحلال ما أحله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله. فعرف الناس ربهم ومعبودهم غاية ما يمكن أن تناله قواهم من المعرفة، وأبدأ وأعاد، واختصر وأطنب في ذكر أسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه، حتى تجلت معرفته سبحانه في قلوب عباده المؤمنين، وانجابت سحائب الشك والريب عنها كما ينجاب السحاب عن القمر ليلة إبداره، ولم يدع لأمته حاجة في هذا التعريف لا إلى من قبله ولا إلى من بعده، بل كفاهم وشفاهم وأغناهم عن كل من تكلم في هذا الباب قال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 1. وعرف الأمة الطريق الموصل لهم إلى ربهم ورضوانه ودار كرامته، ولم يدع حسنا إلا أمرهم به، ولا قبيحا إلا نهى عنه كما قال صلى الله عليه وسلم: "إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم شر ما يعلمه لهم" 2. وقال أبو ذر رضي الله عنه: "لقد تركنا محمدا وما يحرك طائر جناحيه في السماء إلا أذكرنا منه علما"3. وعرفهم حالهم بعد القدوم على ربهم أتم تعريف، فكشف الأمر وأوضحه ولم يدع بابا من العلم النافع للعباد المقرب لهم إلى ربهم إلا فتحه ولا مشكلا

_ 1 الآية (51) من سورة العنكبوت. 2 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب الأمر بالوفاء ببيعة الخلفاء الأول فالأول (6/18) . 3 تقدم تخريجه ص 124.

إلا بينه وشرحه، حتى هدى الله به القلوب من ضلالها، وشفاها به من أسقامها، وأغاثها به من جهلها، فهو الرحمة المهداة للعالمين قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} 1 فجزاه الله عن أمته أفضل الجزاء. ولقد جبله الله على مكارم الأخلاق وكرائم الشيم، فإن من نظر في أخلاقه وشيمه صلى الله عليه وسلم علم أنها خير أخلاق، فإنه صلى الله عليه وسلم كان أعلم الخلق، وأعظمهم أمانة وأصدقهم حديثا وأجودهم وأسخاهم وأشدهم احتمالا، وأعظمهم عفوا ومغفرة، وكان لا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلما، كما روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمرو أنه قال في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة "محمد عبدي ورسولي سميته المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب بالأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر، ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء وأفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا، حتى يقولوا لا إله إلا الله"2. وأرحم الخلق وأرأفهم بهم وأعظم الخلق نفعا لهم في دينهم ودنياهم وأفصح خلق الله وأحسنهم تعبيرا عن المعاني الكثيرة بالألفاظ الوجيزة الدالة على المراد وأصبرهم في مواطن الصبر، وأصدقهم في مواطن اللقاء، وأوفاهم بالعهد والذمة، وأعظمهم مكافأة على الجميل بأضعافه، وأشدهم تواضعا، وأعظمهم إيثارا على نفسه، وأشد الخلق ذبا عن أصحابه وحماية لهم ودفاعا عنهم، وأقوم الخلق بما يأمر به، وأتركهم لما ينهي عنه، وأوصل الخلق لرحمه. وكان أجود الناس صدرا، وأصدقهم لهجة، وألينهم عريكة، وأكرمهم

_ 1 الآية (107) من سورة الأنبياء. 2 تقدم تخريجه ص 396.

عشرة، من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبه، يقول ناعته لم ير قبله ولابعده مثله صلى الله عليه وسلم. وقد خصه الله بصفتين خص بهما أهل الصدق والإخلاص وهما الإجلال والمحبة، فقد ألقى عليه هيبة منه ومحبة، فكان كل من يراه يهابه ويجله ويملأ قلبه تعظيما وإجلالا، وإن كان عدوا له، فإذا خالطه وعاشره كان أحب إليه من كل مخلوق، فهو المجل المعظم المحبوب المكرم، وهذا غاية كمال المحبة أن تقرن بالتعظيم والهيبة، فالمحبة بلا تعظيم ولا هيبة ناقصة، والهيبة والتعظيم من غير محبة- كما يكون الظالم القادر- نقص أيضا، والكمال أن تجتمع المحبة والود والتعظيم والإجلال، وهذا لا يوجد إلا إذا كان في المحبوب صفات الكمال التي يستحق أن يعظم لأجلها ويحب لأجلها1. ولقد جمع الله تعالى لنبينا صلى الله عليه وسلم من الصفات والخصائص ما لم يجمعه لبشر وافترض على العباد طاعته وتعزيره وتوقيره ورعايته والقيام بحقوقه، وامتثال ما قرره في مفهومه ومنطوقه، والصلاة عليه والتسليم ونشر شريعته بالعلم والتعليم، وجعل الطرق مسدودة عن جنته، إلا من سلك طريقه واعترف بمحبته، وشرح له صدره، ورفع له ذكره، ووضع عنه وزره، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره، فياسعد من وفق لذلك وياويح من قصر عن هذه المسالك2 (2) . وما هذه المحبة والمهابة التي جعلها الله لنبيه صلى الله عليه وسلم إلا تبع لمحبته سبحانه وإجلاله.

_ 1 جلاء الأفهام (ص 89، 94) بتصرف 2 القول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع للسخاوي (ص 11) بتصرف.

ذلك لأن كل محبة وتعظيم للبشر إنما هي تبع لمحبة الله وتعظيمه فمحبة الرسول وتعظيمه إنما هي من تمام محبة مرسله وتعظيمه، فأمته يحبونه لمحبة الله له، ويعظمونه ويبجلونه لإجلال الله له فهي من موجبات محبة الله وتعظيمه، ولهذا لم يكن بشر أحب إلى بشر ولا أهيب ولا أجل في صدره من رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر أصحابه رضي الله عنهم. فإذا كان هذا شأن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه مكانته التي بوأه الله إياها، فحرى بهذه الأمة أن تعرف له قدره وتعظم من شأنه وذلك بموجب ما شرعه الله وأمر به، فذلك عقد من عقود الإيمان الذي لا يتم إلا به. وهذا التعظيم والتوقير الواجب له صلى الله عليه وسلم على كل فرد من أفراد هذه الأمة محله القلب واللسان والجوارح. أما تعظيم القلب: فهو ما يتبع اعتقاد كونه عبدا رسولا، من تقديم محبته على النفس والولد والوالد والناس أجمعين، والتي من لوازمها الإكثار من ذكره الذي هو سبب لدوام محبته صلى الله عليه وسلم وزيادتها وتضاعفها. وكذلك فإن من تعظيم القلب استشعاره لهيبة النبي صلى الله عليه وسلم وجلالة قدره وعظيم شأنه، واستحضاره لمحاسنه ومكانته ومنزلته، والمعاني الجالبة لحبه وإجلاله وكل ما من شأنه أن يجعل القلب ذاكرا لحقه من التوقير والتعزير، ومعترفا به ومذعنا له. فالقلب ملك الأعضاء وهي له جند وتبع، فمتى ما كان تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم مستقرا في القلب مسطورا فيه على تعاقب الأحوال فإن آثار ذلك ستظهر على الجوارح حتما لا محالة، وحينئذ سترى اللسان يجري بمدحه والثناء عليه وذكر محاسنه، وترى باقي الجوارح ممتثلة لما جاء به ومتبعة لشرعه وأوامره،

ومؤدية لما له من الحق والتكريم. أما تعظيم اللسان: فهو الثناء عليه بما هو أهله مما أثنى به عليه ربه وأثنى على نفسه من غير غلو ولا تقصير. ومن أعظم ذلك الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم، فقد أمر الله عباده المؤمنين بأن يصلوا على النبي صلى الله عليه وسلم فقال تعال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} 1 وهذا من تعظيمه صلى الله عليه وسلم وتوقيره. قال الحليمي: "معنى الصلاة على النبي علما تعظيمه، فمعنى قولنا: "اللهم صل على محمد" عظم محمدا، والمراد تعظيمه في الدنيا بإعلاء ذكره وإظهار دينه وإبقاء شريعته، وفي الآخرة بإجزال مثوبته وتشفيعه في أمته وإبداء فضيلته بالمقام المحمود، وعلى هذا فالمراد بقوله تعالى {صَلُّوا عَلَيْهِ} أدعوا ربكم بالصلاة عليه"2. فالصلاة منا عليه صلى الله عليه وسلم تتضمن ثناء المصلي عليه والإشارة بذكر شرفه وفضله3 وإرادة من الله تعالى أن يعلي ذكره ويزيده تعظيما وتشريفا4 وسيأتي مزيد تفصيل لهذا الموضوع في الفصل الثالث من هذا الباب بإذن الله تعالى. ومن تعظيم اللسان كذلك أن نتأدب عند ذكره بألسنتنا وذلك بأن نقرن ذكر اسمه بلفظ النبوة أو الرسالة مع الرسالة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} 5 فأمر

_ 1 الآية (56) من سورة الأحزاب. 2 المنهاج في شعب الإيمان (2/ 134) بتصرف يسير. 3 جلاء الأفهام (ص 78) . 4 جلاء الأفهام (ص 79) . 5 الآية (63) من سورة النور.

سبحانه أن لا يدعى رسوله بما يدعو الناس بعضهم بعضا بل يقال: يارسول الله يانبي الله ولا يقال يامحمد وقد كان الصحابة لا يخاطبونه إلا بـ"يارسول الله، يا نبي الله". وإذا كان هذا في حياته فهكذا في مغيبه لا ينبغي أن يجعل ذكره من جنس ما يذكر به غيره، بل يجب أن يقرن ذكره بالنبوة أو الرسالة وأن يدعى له بأشرف دعاء وهو الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم1. فهذا من التعظيم الواجب له صلى الله عليه وسلم وفي الحديث "رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل عليّ" 2. وفي الحديث الآخر "البخيل من ذكرت عنده فلم يصل عليّ" 3. ومن تعظيم اللسان تعداد فضائله وخصائصه ومعجزاته ودلائل نبوته وتعريف الناس بسنته وتعليمهم إياها وتذكيرهم بمكانته ومنزلته وحقوقه، وذكر صفاته وأخلاقه وخلاله، وما كان من أمر دعوته وسيرته وغزواته والتمدح بذلك شعرا ونثرا، بشرط أن يكون ذلك في حدود ما أمر به الشارع الكريم، مع الابتعاد عن مظاهر الغلو والإطراء المحظور. وأما وتعظيم الجوارح له صلى الله عليه وسلم: فهو العمل بشريعته، والتأسي بسنته، والأخذ بأوامره ظاهرا وباطنا، والتمسك بها والحرص عليها، وتحكيم ما جاء به في

_ 1 جلاء الأفهام (ص 80) بتصرف. 2 أخرجه الترمذي في السنن، كتاب الدعوات، باب قول رسول الله صلى الله عليه وسل "رغم أنف رجل" (5/550) ح 3545 وأخرجه ابن حبان في صحيحه. انظر موارد الظمآن (2387) . وأخرجه إسماعيل القاضي في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص 8- 9- 10) ح 15- 16 - 17- 18- 19، وقال الألباني في تعليقه عليه: "حديث صحيح بشواهده".وأخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 549) . 3 تقدم تخريجه ص 328.

الأمور كلها، والرضا بحكمه والتسليم له، والسعي في إظهار دينه، ونصر ما جاء به، وتبليغ رسالته للناس ودعوتهم للإيمان به والذب عن سنته والدفاع عنها وتعلمها وتعليمها وخدمتها، والموالاة والمعاداة والحب والبغض لأجله، وجهاد من خالفه. والاجتناب عما نهي عنه وزجر، والبعد عن معصيته ومخالفته والحذر من ذلك، والتوبة والاستغفار عما وقع فيه الزلل والتقصير. فالله سبحانه وتعالى هو الذي جعل لنبيه صلى الله عليه وسلم هذه المنزلة في حياة المسلمين، فقد أوجب علينا طاعته وحرم علينا معصيته وجعله الآمر الناهي والسيد المطاع الذي لا. يرد له أمر، ولا يخالف له رأي فمن أطاعه فقد أطاع الله، لأن الأمة لا يصلون ما بينهم وبين ربهم إلا بواسطة الرسول، فليس لأحد منهم طريق غيره ولا سبب سواه، وقد أقامه الله مقام نفسه في أمره ونهيه وإخباره وبيانه. قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 1. وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} 2. وقال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} 3. وقال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} 4. وقال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ

_ 1 الآية (7) من سورة الحشر. 2 الآية (80) من سورة النساء. 3 الآية (132) من سورة آل عمران. 4 الآية (65) من سورة النساء.

بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 1. فهذه الآيات وغيرها تبين كظم أمر اتباع النبي صلى الله عليه وسلم في حياة المؤمنين، وأنه هو البرهان العملي على صدق الإيمان والمحبة والتعظيم لله تعالى ولنبيه صلى الله عليه وسلم فالطاعة والاتباع هما سمة المؤمنين الصادقين وسبيلهم الدائم، ذلك لأن الإيمان (هو حقيقة مركبة من معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم علما، والتصديق به عقدا والإقرار به نطقا، والإنقياد له محبة وخضوعا، والعمل به ظاهرا وباطنا وتنفيذه والدعوة إليه حسب الإمكان. وكماله الحب في الله، والبغض في الله، والعطاء لله والمنع لله، وأن يكون الله وحده معبوده. والطريق إليه تجريد متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهرا وباطنا، وتغميض عين القلب عن الالتفات إلى غير الله) 2. وبالجملة فإن التعظيم النافع هو تصديق النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخبر وطاعته فيما أمر والانتهاء عما نهي عنه وزجر وألا يعبد الله إلا بما شرع. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وإنما تعظيم الرسل بتصديقهم فيما أخبروا به عن الله وطاعتهم فيما أمروا به ومتابعتهم ومحبتهم وموالاتهم "3 فالاتباع هوالمحك الذي يميز من خلاله مدى صدق مدعي التعظيم في دعواه تلك. إذ كيف يعقل أو يتخيل أن يدعي شخص تعظيم النبي وتوقيره وهو لا يلتزم بما جاء به من أمر أو نهي، ولا يقيم وزنا ولا اعتبارا لما جاء به.

_ 1 الآية (51) من سورة النور. 2 منزلة السنة في التشريع الإسلامي (ص 4- 5) وعزاه لابن القيم ولم أقف عليه في كتبه. 3 كتاب الرد على الأخنائي (ص 24، 25) .

ولقد جعل الله الإتباع هو برهان محبته سبحانه حيث قال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 1. وجعله كذلك شرطا للإيمان الذي يعد تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم جزءا منه، قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} 2 فالاتباع صفة من صفات أهل الإيمان كما قال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 3، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} 4. فهل الموقر لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من تمسك بسنته واعتصم بها وسار على نهجه واقتفى أثره. فأتباع كل نبي ومحبوه ومعظموه هم الذين أخذوا بسنته واقتدوا بأمره كما جاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون مالا يفعلون ويفعلون مالا يؤمرون فمن جاهدهم ييده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة

_ 1 الآية (31) من سورة آل عمران 2 الآية (65) من سورة النساء. 3 الآية (51) من سورة النور. 4 الآية (36) من سورة الأحزاب.

خردل"1. فالنبي صلى الله عليه وسلم بين لنا صفة أتباع الأنبياء بأنهم هم الذين عظموا أمرهم وأخذوا بسنتهم وعملوا بأوامرهم. وأما من عداهم فهم ليسوا بأتباع لهم وإنما هم أناس يستحقون المجاهدة ويستفاد من قوله صلى الله عليه وسلم: "يقولون مالا يفعلون"؟ أن مجرد الدعوى القولية المجردة عن الفعل الذي أمر به الشارع لا تغني صاحبها شيئا. ويستفاد من قوله "ويفعلون مالا يؤمرون" أن الأفعال المبتدعة التي لم يأمر بها الشارع هي كذلك لا تنفع صاحبها ولا تغني عنه من الله شيئا. وهذا الوصف ينطق تماما على أصحاب البدع المقيمين للموالد وغيرها من البدع، زاعمين أنهم ما فعلوا تلك الأمور إلا محبة للرسول صلى الله عليه وسلم وتعظيما لشأنه، فهم فعلوا ما لم يؤمروا به، وأفعالهم وأحوالهم لا تطابق أقوالهم، ولو بحثنا عن وصف نصف به هؤلاء لم نجد أبلغ من هذا الوصف "يقولون مالا يفعلون ويفعلون مالا يؤمرون". وليتهم قاموا بما أوجب الله عليهم وشرعه لهم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم لكان خيرا لهم وأجدى. ولكنهم أناس أوقعوا أنفسهم في محاذير متعددة منها: 1- أنهم فعلوا ما لم يؤمروا به وهم معترفون بأن تلك الموالد والأمور التي تفعل فيها لم يشرعها الله في كتابه ولم يشرعها رسوله صلى الله عليه وسلم ولم يفعلها أحد من أصحابه رضوان الله عليهم. 2- أنهم خالفوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم حيث أمرهم بالاتباع وترك الابتداع فقد

_ 1 تقدم تخريجه ص 188

قال صلى الله عليه وسلم "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"1 والله تعالى يقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 2 3- أنهم رغبوا عن سنن المصطفى ورضوا بما أملته عليهم أهواؤهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "فمن رغب عن سنتي فليس مني "3. فالإحداث في شريعته صلى الله عليه وسلم يعد رغبة عن سنته وهذا ما دلت عليه القصة الواردة في الحديث السابق. 4- أنهم بفعلهم للمولد وغيره من البدع لم يعظموا الرسول صلى الله عليه وسلم إنما اتهموه بأنه لم يدلهم على هذا الخير الذي جاؤوا به، وفي هذا يقول الإمام مالك: "من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدا خان الرسالة، لأن الله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} فما لم يكن يومئذ دينا فلا يكون اليوم دينا". والأمر الذي ينبغي معرفته أن النصوص قد دلت على أنه بقدر ما يكون المرء متبعا لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ومتمسكا بها بقدر ما يكون معظما وموقرا له والعكس بالعكس. "هذا وإن كثيرا من الناس يعظمون الرسول ويعتقدون أنه من أفضل الناس، ولكن يقولون إنه لا يجب عليهم اتباعه وطاعته بل لهم طريق إلى الله تغنيهم عنه. وقد يقولون إن طريقهم أفضل من طريقه كما يعتقد كثير من اليهود والنصارى أنه كان مبعوثا إلى الأميين لا إليهم فهم يعظمونه ظاهرا وباطنا لكن

_ 1 تقدم تخريجه ص 190 2 الآية (7) من سورة الحشر. 3 تقدم تخريجه ص 195

يقولون لا يجب علينا اتباعه وهؤلاء كفار بإجماع المسلمين. وكذلك كثير ممن يظهر الإسلام يثبتون نبوته على رأي الفلاسفة، وأنه كان صاحب قوة قدسية، وقد يفضلونه على جميع الخلق، ومع هذا لا يقرون بما جاء به ولا يوجبون على أنفسهم اتباعه ظاهرا وباطنا، ويقولون هو رسول إلى العامة أو إلى الجميع في الشرائع الظاهرة دون الحقائق الباطنة والحقائق العقلية كما يقول مثل هذا كثير ممن يظهر الإسلام"1. فمثل هذا الصنف لا ينفعه هذا التعظيم لافتقاره للاتباع الذي هو لب التعظيم وجوهره.

_ 1 الرد على الأخنائي (ص 37) .

المطلب الثاني: توقير النبي صلى الله عليه وسلم في آله وأزواجه أمهات المؤمنين

المطلب الثاني: توقير النبي صلى الله عليه وسلم في آله وأزواجه أمهات المؤمنين إن من توقير النبي صلى الله عليه وسلم ورعاية جنابه وتبجيله وتعظيمه توقير آله وذريته وأزواجه، كما حض عليه صلى الله عليه وسلم وسلكه السلف الصالح رضوان الله عليهم. 1- فآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم لهم من الحقوق ما يجب رعايتها فإن الله جعل لهم حقا في الخمس والفيء قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 1. وقال تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} 2. وأمر بالصلاة عليهم مع الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ففي الحديث عن كعب بن عجرة3 رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا قد عرفنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك؟ قال: "قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على

_ 1 الآية (41) من سورة الأنفال. 2 الآية (7) من سورة الحشر. 3 كعب بن عجرة بن أمية البلوي ويقال القضاعي، حليف لأنصار، صحابي مشهور، مات بعد الخمسين وله نيف وسبعون سنة. الإصابة (3/ 281، 282) .

آل إبراهيم إنك حميد مجيد" 1. فالصلاة على آل محمد حق لهم عند المسلمين، وذلك سبب لرحمة الله تعالى لهم بهذا النسب. كما تجب محبتهم لحب رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم، ولأن محبتهم من محبة رسول الله، كما. وأن نتولاهم ونحفظ فيهم وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال في يوم غدير خم: "وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي ... " الحديث2. قال ابن كثير رحمه الله تعالى: "ولا تنكر الوصاة بأهل البيت والأمر بالاحسان إليهم واحترامهم وإكرامهم فإنهم من ذرية طاهرة من أشرف بيت وجد على ظهر الأرض فخرا وحسبا ونسبا ولا سيما إذا كانوا متبعين للسنة النبوية الصحيحة الواضحة الجلية كما كان عليه سلفهم كالعباس وبنيه وعلي وأهل بيته وذريته رضي الله عنهم أجمعين"3. وقال ابن تيمية رحمه الله: "ولا ريب أن لآل محمد صلى الله عليه وسلم حقا على الأمة لا يشركهم فيه غيرهم، ويستحقون من زيادة المحبة والموالاة مالا يستحقه سائر بطون قريش، كما أن قريشا يستحقون من المحبة والموالاة مالا

_ 1 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} انظر: فتح الباري (8/ 532) . وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الصلاة، باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد. انظر: (2/ 16) . 2 تقدم تخريجه ص 345. 3 تفسير ابن كثير (4/ 113) .

يستحقه غير قريش من القبائل، كما أن جنس العرب يستحق من المحبة والموالاة مالا يستحقه سائر أجناس بني آدم، وهذا على مذهب الجمهور الذين يرون فضل العرب على غيرهم، وفضل قريش على سائر العرب وفضل بني هاشم على سائر قريش، وهذا هو المنصوص عن الأئمة كأحمد وغيره1.

_ 1 هذا من تفضيل الجملة على الجملة وهو لا يقتضى تفضيل كل فرد على كل فرد فالعرب في الأجناس، وقريش فيها ثم هاشم في قريش، مظنة أن يكون فيهم من الخير أعظم مما يوجد في، غيرهم، ولهذا كان في بنى هاشم النبي صلى الله عليهم وسلم الذي لا يماثله أحد في قريش فضلا عن وجوده في سائر العرب وغير العرب، وكان في قريش الخلفاء الراشدون وسائر العشرة وغيرهم ممن لا يوجد له نظير في العرب وغير العرب، وكان في العرب من السابقين الأولين من لا يوجد له نظير في سائر الأجناس. فلابد أن يوجد في الصنف الأفضل ما لا يوجد مثله في المفضول. وقد يوجد في المفضول ما يكون أفضل من كثير مما يوجد في الفاضل كما أن الأنبياء الذين ليسوا من العرب أفضل من العرب الذين ليسوا بأنبياء، والمؤمنون المتقون من غير قريش أفضل من القرشيين الذين ليسوا مثلهم في الإيمان والتقوى، وكذلك المؤمنون المتقون من قريش وغيرهم أفضل ممن ليس مثلهم في الإيمان والتقوى من بني هاشم. فهذا هو الأصل المعتبر في هذا الباب دون من ألغى فضيلة الأنساب مطلقا ودون من ظن أن الله تعالى يفضل الأنسان بنسبه على من هو مثله في الإيمان والتقوى، فضلا عمن هو أعظم إيمانا وتقوى، فكلا القولين خطأ وهما متقابلان، بل الفضيلة بالنسب فضيلة جملة وفضيلة لأجل المظنة والسبب. والفضيلة بالإيمان والتقوى فضيلة تعيين وتحقيق وغاية. فالأول: يفضل به لأنه سبب وعلامة، ولأن الجملة أفضل من جملة تساويها في العدد. والثاني: يفضل به لأنه الحقيقة والغاية، ولأن كل من كان أتقى لله كان أكرم عند الله، والثواب من الله يقع على هذا، لأن الحقيقة قد وجدت، فلم يعلق الحكم بالمظنة، ولأن الله تعالى يعلم الأشياء على ما هي عليه، فلا يستدل بالأسباب والعلامات فالاعتبار العام هو التقوى كما قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} الآية (13) من سورة الحجرات. فكل من كان أتقى كان أفضل مطلقا، وإذا تساوى اثنان في التقوى استويا في الفضل سراء كانا أو أحدهما عربيين أو أعجميين، أو قرشيين أو هاشميين أو كان أحدهما من صنف والآخر من صنف، وإن قدر أن أحدهما له من سبب الفضيلة ومظنتها ما ليس للآخر، فإذا كان ذلك قد أتى بحقيقة الفضيلة كان أفضل ممن لم يأت بحقيقتها، وإن كان أقدر على الإتيان بها، فالعالم خير من الجاهل، وإن كان الجاهل أقدر على تحصيل العلم. انظر: منهاج السنة (4/ 602- 603- 604- 608) بتصرف

والنصوص دلت على هذا القول، كقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريش من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم" 1. وكقوله في الحديث الصحيح: "الناس معادن كمعادن الذهب والفضة خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا" 2 وأمثال ذلك"3 وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: "أرقبوا محمدا صلى الله عليه وسلم في أهل بيته"4 فأهل البيت يتولاهم جميع المؤمنين ويحبونهم لا كما يزعم الروافض أنهم المخصوصون بحب أهل البيت وحدهم أن غيرهم هم الذين ظلموهم، فالحقيقة أن الروافض هم الذين ظلموا أهل البيت ظلما لا نظير له فهم الذين خذلوهم وغروهم، وتسببوا في رد كثير من روايات أهل البيت بسبب ما اشتهر عن أولئك الروافض من الكذب على آل البيت. وإضافة إلى ذلك فإن الروافض يحصرون محبتهم في نفر قليل من أهل البيت مع أن الصالحين من أهل البيت الذين تبغضهم الروافض وتذمهم أكثر عددا من الذين يتظاهرون بحبهم.

_ 1 أخرب مسلم في صحيحه كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبي صلى الله عليه وسلم (7/ 58) . 2 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأنبياء، باب قوله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} فتح الباري (6/ 387) ح 3353، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة والآداب باب الأرواح جنود مجندة (8/ 41، 42) واللفظ له. 3 منهاج السنة النبوية (4/ 599) . 4 تقدم تخريجه ص 345.

2- أما زوجات النبي صلى الله عليه وسلم رضوان الله عليهن أجمعين فيجب علينا أن نحفظ لهن حقهن في الحرمة والاحترام والتوقير والإكرام، والإعظام، والمكانة التي جعل الله لهن. فلقد رفع الله مقامهن وبوأهن أعلى منزلة عند جميع المؤمنين وهي منزلة الأمومة، فجعلهن أمهات في التحريم والاحترام فقد قال تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} 1. قال القرطبي عند تفسيره لهذه الآية: "شرف الله تعالى أزواج نبيه صلى الله عليه وسلم بأن جعلهن أمهات المؤمنين، أي في وجوب التعظيم والمبرة والإجلال وحرمة النكاح على الرجال، وحجبهن رضي الله تعالى عنهن، بخلاف الأمهات"2 وكيف لا تكون لهن هذه المنزلة وتلك المكانة وهن اللآتي اخترن الله ورسوله والدار الآخرة عندما نزلت آيتا التخيير قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} 3. وبعد اختيارهن رضي الله تعالى عنهن الله ورسوله والدار الآخرة كرمهن الله تبارك وتعالى وكافأهن على اختيارهن أحسن تكريم وأعظم مكافأة. فكان لهن ما أعد الله لهن من الأجر العظيم، ثم ميزهن عن نساء العالمين في العذاب والأجر، ثم أبانهن منهن فقال: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} 4

_ 1 الآية (6) من سورة الأحزاب. 2 تفسيرالقرطبي (14/ 123) . 3 الآيتان (28، 29) من سورة الأحزاب. 4 الآية (32) من سورة الأحزاب.

يعني في الفضل والشرف، وذلك لما منحهن الله من صحبة نبيه صلى الله عليه وسلم وعظيم المحل منه ونزول القرآن في حقهن1. ولقد تضمنت سورة الأحزاب كثيرا من الأمور التي أكرم الله بها أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مجازاة لهن على حسن صنيعهن في اختيارهن لله ورسوله والدار الآخرة والمقام هنا لا يسمح بالتوسع في ذكر هذه الأمور، وإنما المقصود تبيين مالهن من مكانة عند الله وعند رسوله صلى الله عليه وسلم. فمن حقهن علينا أن نحفظ لهن هذه المكانة، وذلك بأن نتولاهن، وأن نثني عليهن بما ورد من فضائلهن وما كان لهن من دور في مؤازرة النبي صلى الله عليه وسلم ونصرته، وما كان لهن من دور بعد وفاته في حفظ مسائل الدين ونشرها بين الأمة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ومن أصول أهل السنة والجماعة أنهم يتولون أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين ويؤمنون بأنهن أزواجه في الآخرة، خصوصا خديجة رضي الله عنها أم أكثر أولاده، وأول من آمن به وعاضده على أمره وكان له منها المنزلة العالية. والصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما، التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: "فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام"23. فمن الواجب أن ننشر هذه الفضائل ونعلمها، وبخاصة لنسائنا حتى يكون لهن في ذلك الأسوة والقدوة.

_ 1 تفسير القرطبي (14/ 177) بتصرف. 2 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب فضل عائشة رضي الله عنها. فتح الباري (7/106) ح 0 377، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب في فضل عائشة رضي الله تعالى عنها (7/ 138) . 3 مجموع الفتاوى (3/ 154) .

المطلب الثالث: توقيره صلى الله عليه وسلم في أصحابه رضوان الله عليهم

المطلب الثالث: توقيره صلى الله عليه وسلم في أصحابه رضوان الله عليهم ومن توقيره وبره صلى الله عليه وسلم توقير أصحابه وبرهم ومعرفة حقهم والاقتداء بهم، وحسن الثناء عليهم، والاستغفار لهم، والإمساك عما شجر بينهم، ومعاداة من عاداهم، والإضراب عن أخبار المؤرخين، وجهلة الرواة، وضلال الشيعة والمبتدعين، القادحة في أحد منهم، وأن نلتمس لهم فيما نقل عنهم من مثل ذلك فيما كان دينهم من الفتن أحسن التأويلات ويخرج لهم أصوب الخارج، إذ هم أهل لذلك، ولا يذكر أحد منهم بسوء ولا يغمص1 عليه أمر، بل تذكر حسناتهم وفضائلهم، وحميد سيرتهم، ويسكت عما وراء ذلك2. فهم أناس قد اختارهم الله وشرفهم بصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم وخصهم في الحياة الدنيا بالنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسماع حديثه من فمه الشريف وتلقي الشريعة وأمور الدين عنه وتبليغ ما بعث الله به رسوله من النور والهدى على أكمل الوجوه وأتمها. فكان لهم الأجر العظيم لصحبتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والجهاد معه في سبيل الله وأعمالهم الجليلة في نشر الإسلام والدعوة إليه، ولهم من الأجر مثل أجور من بعدهم لأنهم الواسطة بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا. ولقد أوجبت الحال التي كانوا عليها من الهجرة والجهاد والنصرة وبذل المهج والأموال وقتل الآباء والأولاد والمناصحة في الدين وقوة الإيمان واليقين، القطع

_ 1 لا يغمص: لا يعاب ولا ينقص في أمر من أموره. النهاية (3/ 386) . 2 الشفا (2/ 611، 612) .

على عدالتهم وأنهم أفضل من جميع المعدلين والمزكين الذين يجيؤون بعدهم أبد الآبدين. ولقد أثنى ربهم عليهم أحسن الثناء ورفع ذكرهم في التوراة والإنجيل والقرآن ووعدههم المغفرة والأجر العظيم فقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} 1 وأخبر في آية أخرى برضاه عنهم، ورضاهم عنه فقال: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} 2 ثم بشرهم بما أعدلهم فقال: {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} وقال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} 3 وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالعفو عنهم والاستغفار لهم فقال: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} 4 وأمره بمشاورتهم تطيبا لقلوبهم، وتنبيها لمن بعدهم من الحكام على المشاورة في الأحكام فقال: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} 5.

_ 1 الآية (29) من سورة الفتح. 2 الآية (100) من سورة التوبة. 3 الآية (18) من سورة الفتح. 4 الآية (159) من سورة آل عمران. 5 الآية (159) من سورة آل عمران.

وندب من جاء بعدهم إلى الاستغفار لهم، وأن لا يجعلوا في قلوبهم غل للذين آمنوا فقال: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 1. وأثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم ونهى عن النيل منهم فقد قال صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه" 2 كما شهدها بكونهم خير أمته التي هي خير الأمم فقال صلى الله عليه وسلم: "خير الناس قرني" 3. وقال صلى الله عليه وسلم: "خير أمتي القرن الذي بعثت فيهم" 4 فهذه بعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الدالة على فضل أولئك الأخيار الذين اختارهم الله لصحبة نبيه وشرفهم بحمل رسالته من بعده والدعوة إلى سبيله ونصرة دينه. فالصحابة كلهم عدول بتعديل الله لهم وثنائه عليهم وثناء رسوله صلى الله عليه وسلم قال النووي: "الصحابة كلهم عدول من لابس الفتن وغيرهم بإجماع من يعتد به"5

_ 1 الآية (10) من سورة الحشر. 2 تقدم تخريجه ص 353. 3 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الشهادات باب لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد. انظر: فتح الباري (5/ 259) ح 2652. وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم. انظر (7/ 158) . 4 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. انظر: فتح الباري (7/ 3) ح 3650، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم (7/ 185) . 5 تدريب الراوي (2/ 214)

وقال ابن حجر: "اتفق أهل السنة على أن الجميع عدول ولم يخالف في ذلك إلا شذوذ من المبتدعة"1. وعن أبي زرعة قال: "إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندنا حق، والقرآن حق، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة والجرح بهم أولى وهم زنادقة"2. ومذهب أهل السنة والجماعة في الصحابة وسط بين الإفراط والتفريط فليسوا من المفرطين الغالين الذين يرفعون من يعظمون منهم إلى مالا يليق إلا بالله أو برسله. وليسوا من المفرطين الجافين الذين ينتقصونهم ويسبونهم فهم وسط بين الغلاة والجفاة. ويحبونهم جميعا وينزلونهم منازلهم التي يستحقونها بالعدل والإنصاف فلا يرفعونهم إلى مالا يستحقون، ولا يقصرون بهم عما يليق بهم، فألسنتهم رطبة بذكرهم بالجميل اللائق بهم، وقلوبهم عامرة بحبهم، وما صح فيما جرى بينهم من خلاف فهم فيه مجتهدون إما مصيبون ولهم أجر الاجتهاد وأجر الإصابة، وإما مخطئون ولهم أجر الاجتهاد وخطؤهم مغفور، وليسوا معصومين، بل هم بشر يصيبون ويخطون، ولكن ما أكثر صوابهم بالنسبة لصواب غيرهم، وما أقل خطأهم إذا نسب إلى خطأ غيرهم ولهم من الله المغفرة والرضوان.

_ 1 الإصابة (1/ 17) . 2 كتاب الكفاية (ص 97) للخطب البغدادي.

وكتب أهل السنة مليئة ببيان هذه العقيدة الصافية النقية في حق هؤلاء الصفوة المختارة من البشر لصحبة خير البشر صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم أجمعين1.

_ 1عقيدة أهل السنة والأثر في الصحابة الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم (ص 24- 25) تأليف الشيخ عبد المحسن العباد، مقالة طبعت في مجلة الجامعة الإسلامية، العدد الثاني، السنة الرابعة.

المطلب الرابع: حفظ حرمة المدينة النبوية

المطلب الرابع: حفظ حرمة المدينة النبوية إن من تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم تعظيم المدينة النبوية1 التي هي دار المصطفى ومهاجره، فقد اختارها الله لنبيه صلى الله عليه وسلم قرارا، وجعل أهلها شيعة له وأنصارا. وهي التي، انتشر منها دين الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم حتى وصل مشارق الأرض ومغاربها. وهي التي ورد في فضلها وتعظيم شأنها وتحريمها وفضل بعض البقاع فيها الكثير من الأحاديث الثابتة الصحيحة والتي أورد بعضا منها ههنا على سبيل المثال لا الحصر. فعن سفيان بن أبي زهير2 رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "تفتح اليمن فيأتي قوم يبسون 3 فيتحملون بأملهم ومن أطاعهم والمدينة

_ 1 ذكر ذلك: البيهقي في الجامع لشعب الإيمان (2/130) ، والقاضي عياض في الشفا (2/619) 2 سفيان بن أبي زهير الأزدي، من أزد شنوءة (بفتح المعجمة وبضم النون وبعد الواو همزة) من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. يعد في أهل المدينة. الإصابة (2/ 52) . 3 يقال بسست الناقة وأبسستها إذا سقتها وزجرتها وقلت لها بس بس بكسر الباء وفتحها. النهاية (1/ 127) .

خير لهم لو كانوا يعلمون. وتفتح الشام، فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهلهم ومن أطاعهم والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون. وتفتح العراق، فيأتي قوم يبسون، فيتحملون بأهلهم ومن أطاعهم والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون" 1. وعن عبد الله بن زيد بن عاصم2 أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن إبراهيم حرم مكة ودعا لأهلها وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة، وإني دعوت في صاعها ومدها تمثلي ما دعا به إبراهيم لأهل مكة" 3. وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إني أحرم ما بين لابتي المدينة أن يقطع عضاهها أو يقتل صيدها" وقال: "المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، لا يدعها أحد رغبة عنها إلا أبدل الله فيها من هو خير منه، ولا يثبت أحد على لأوائها وجهدها إلا كانت له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة" 4. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: كان الناس إذا رأوا أول الثمر جاؤا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإذا أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم بارك لنا في ثمرنا وبارك لنا في مدينتنا وبارك لنا في صاعنا وبارك لنا في مدنا اللهم إن إبراهيم عبدك

_ 1 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل المدينة، باب من رغب عن المدينة "واللفظ له". انظر: فتح الباري (4/ 90) ح 1875، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الحج، باب الترغيب في المدينة عند فتح الأمصار (4/ 122) . 2 عبد الله بن زيد بن عاصم بن كعب الأنصاري المازني، صحابي شهير اختلف في شهوده بدرا، وشهد أحدا وغيرها، وشارك مع وحشي في قتل مسيلمة، يقال قتل يوم الحرة سنة ثلاث وستين. الإصابة (2/ 305) . 3 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب البيوع، باب بركة صاع النبي صلى الله عليه وسلم ومده. فتح الباري (4/ 346) ح 2129، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الحج، باب فضل المدينة "واللفظ له" (4/ 112) . 4 أخرجه بهذا اللفظ مسلم في صحيحه، كتاب الحج، باب فضل المدينة (4/ 113) .

وخليلك ونبيك وإني عبدك ونبيك وإنه دعاك لمكة وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ومثله معه قال ثم يدعو أصغر وليد له فيعطه ذلك الثمر" 1. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المدينة حرم فمن أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه يوم القيامة عدل ولا صرف" 2. وعنه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها" 3 وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يكيد أهل المدينة أحد إلا انماع كما ينماع الملح في الماء"4. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه، إلا المسجد الحرام"5. وعنه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما بين بيتي ومنبري روضة من

_ 1 أخرجه بهذا اللفظ، مسلم في صحيحه، كتاب الحج، باب فضل المدينة (4/ 116، 117) . 2 أخرجه بهذا اللفظ مسلم في صحيحه، كتاب الحج، باب فضل المدينة (4/ 116) . 3 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل المدينة، باب الإيمان يأرز إلى المدينة. انظر: فتح الباري (4/ 93) ح 1876، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان أن الإسلام بدأ غريبا (1/ 90- 91) . 4 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل المدينة، باب إثم من كاد أهل المدينة، انظر: فتح الباري (4/ 94) ح 1877، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الحج، باب من أراد أهل المدينة بسوء أذابه الله (4/ 122) . 5 أخرجه البخاري، كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة. انظر: فتح الباري (3/63) ح 1190، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الحج، باب فضل الصلاة بمسجدي مكة والمدينة (4/ 124) .

رياض الجنة، ومنبري على حوضي" 1. والأحاديث في فضل المدينة كثيرة ومتنوعة، ولقد أفرد البخاري في صحيحه كتابا لفضائل المدينة، وكذا مسلم في صحيحه قد أورد في آخر كتاب الحج العديد من الأحاديث الواردة في شأن المدينة، وكذا الحال عند أصحاب السنن والمسانيد. والمقصود من تعظيم المدينة هو تعظيم حرمها وهذا أمر واجب في حق من سكن بها أو دخل فيها، مع ما يجب على ساكنيها من مراعاة حق المجاورة وحسن التأدب فيها وذلك لما لها من المنزلة والمكانة عند الله وعند رسوله صلى الله عليه وسلم. فإنها من المواطن التي عمرت بالوحي والتنزيل، واشتملت تربتها على جسد سيد البشر وانتشر عنها من دين الله وسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما انتشر، فهي مشاهد الفضائل والخيرات ومعاهد البراهين والمعجزات. فحري بمن أكرمه الله بالإقامة فيها أن يتزود فيها من الأعمال الصالحة التي تنفعه بعد الموت، وأن يحذر من الوقوع فيها بما يسخط الله عز وجل. وفيما سبق ذكره من الأحاديث خير شاهد على فضل سكناها والترغيب في الإكثار من العمل الصالح فيها، والتحذير من الإساءة والمعصية والإفساد فيها.

_ 1 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل المدينة، باب 12. انظر: فتح الباري (4/ 99) ح 1888، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الحج، باب ما بين القبر والمنبر روضة من رياض الجنة (4/ 123) .

الفصل الثالث: الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم

الفصل الثالث: الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم المبحث الأول: معنى الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم المطلب الأول: المعنى اللغوي للفظة الصلاة ... تمهيد: سبق الحديث في الفصل الثاني، من هذا الباب عن بعض الأمور التي يتعين على هذه الأمة أداؤها والقيام بها في باب تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وتعزيره وتوقيره. وفي هذا الفصل نتناول جانبا مهما من جوانب توقيره وتعظيمه صلى الله عليه وسلم، وذلك هو الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم. فقد أمرنا الباري تبارك وتعالى أن نصلي ونسلم على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك تشريف منه عز وجل لنبيه ورسوله صلى الله عليه وسلم وإظهار للاحترام والتعظيم الذي شرعه في حقه فقد قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} 1 فهذه الآية فيها من تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم والتنويه به ما ليس في غيرها، وذلك بسبب ما فيها من تمييز للنبي صلى الله عليه وسلم عند ذكره ولا شك أن ذلك فيه رفع لقدره وإعلاء لمكانته في حياته وبعد موته. ولذلك فإن من أعظم شعب الإيمان الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم محبة له وأداء لحقه وتعظيما لقدره، والمواظبة عليها من باب أداء شكره صلى الله عليه وسلم، وشكره واجب لعظمة الإنعام به، فقد جعله الله سببا لنجاتنا من الجحيم، ودخولنا في دار النعيم، وإدراكنا الفوز بأيسر الأسباب، ونيلنا السعادة من كل الأبواب. وليست صلاتنا على النبي صلى الله عليه وسلم شفاعة منا له فإن مثلنا لا يشفع لمثله ولكن الله أمرنا بالمكافأة لمن أحسن إلينا وأنعم علينا، فإن عجزنا عنها كافيناه بالدعاء فأرشدنا الله- لما علم عجزنا عن مكافأة نبينا- إلى الصلاة عليه لتكون صلاتنا عليه مكافأة بإحسانه إلينا وإفضاله علينا إذ لا إحسان لمخلوق أفضل من إحسانه

_ 1 الآية (56) من سورة الأحزاب.

صلى الله عليه وسلم، وكذلك فإن المقصود بصلاتنا على النبي صلى الله عليه وسلم هو التقرب إلى الله تعالى بامتثال ما أمر به، وقضاء لحق من حقوق لصطفى صلى الله عليه وسلم التي أوجبها الله علينا فحق على هذه الأمة أن تعظم قدر نبيها وذلك بأن تكثر من الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم اتباعا لأمر ربها تبارك وتعالى وقياما بما لنبيها صلى الله عليه وسلم من الحق عليها. وقد اعتنى العلماء بهذه الخصيصة العظيمة فأفردوها بالتأليف وتناولوا في مؤلفاتهم تلك جوانب هذا الموضوع،، من أشهر تلك المؤلفات وأجمعها كتاب "جلاء الأفهام" في الصلاة والسلام على خير الأنام للعلامة ابن القيم، بل هو أشهرها وأحسنها. ومن تلك المؤلفات كتاب القول البديل في الصلاة على الحبيب الشفيع للسخاوي1 المتوفى سنة 902هـ وقد ختم كتابه هذا ببيان الكتب المصنفة في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وذكر جملة كبيرة من هذه الكتب مرتبة2.

_ 1 محمد بن عبد الرحمن بن محمد شمس الدين السخاوي،. مؤرخ حجة وعالم بالحديث والتفسير والأدب، وصنف زهاء مئتي كتاب، توفي بالمدينة. الأعلام (6/ 194) . 2 انظر: القول البديع (ص 258- 259) .

المطلب الأول: المعنى اللغوي للفظة "الصلاة". قال الخليل بن أحمد1: "الصلاة: ألفها واو لأن جماعتها الصلوات ولأن التثنية صلوان"2. ومادة (ص. ل. و) وردت في اللغة لمعان منها: 1- ((الصلاة)) : وهو وسط الظهر لكل ذي أربع وللناس. وقيل: ما انحدر من الوركين3. قال الخليل بن أحمد: " والصلاه، وسط الظَّهْر لكل ذي أربع وللناس وكل أنثى إذا ولدت انفرج صلاها قال: كأن صلا جهيزة حين قامت ... حباب الماء يتبع الحبابا وإذا أتى الفرس على أثر الفرس السابق قيل: صلى، وجاء مصليا لأن رأسه يتلو الصلا يين يديه"4. وقال الأزهري: "وقال أهل اللغة في الصلاة: إنها من الصلوين، وهما مكتنفا الذنب من الناقة وغيرها، وأول مواصل الفخذين من الإنسان فكأنهما في الحقيقة مكتنفا العصعص ... وأما المصلى الذي يلي السابق فهو مأخوذ من

_ 1 الخليل بن أحمد الفراهيدي من أئمة اللغة والأدب، وواضع علم العروض، وهو أستاذ سيبويه النحوي، ومن أشهر كتبه كتاب العين، ترفي سنة 170هـ بالبصرة. الأعلام (2/ 314) . 2 كتاب العين (7/ 153) . 3 الصلات والبشر (ص 6) . 4 كتاب العين (7/ 153) .

الصلوين لا محالة، وهما مكتنفا ذنب الفرس، فكأنه يأتي ورأسه في ذلك المكان"1. وقد قيل إن اشتقاق الصلاة الشرعية هو من هذا. قال الحليمي: "وقيل للصلاة المعهودة صلاة لما فيها من حني الصلا وهو وسط الظهر"2. 2- "الصلى" بالقصر وهي النار: قال الخليل بن أحمد: "والصلا: النار، وصلى الكافر نارا فهو يصلاها أي قاسى حرها وشدتها، وصليت اللحم صليا: شويته، وإذا ألقيته في النار قلت: أصليته أصليه إصلاء، وصليته، تصلية"3. وفي معجم مقاييس اللغة: "صلى: الصاد واللام والحرف المعتل أصلان: أحدهما: النار وما أشبهها من الحمى ... فقولهم: صليت العود بالنار، والصلى صلى النار. واصطليت بالنار. والصلاء: ما يصطلى به وما يذكى به النار ويوقد وقال: فجعل العود واليلنجوج والرذ ... صلاء لها على الكانون4 قال الفيروز أبادي5. "وقيل اشتقاق لفظة الصلاة من الصلى بالقصر وهي النار من صليت العصا إذا قومتها بالنار فالمصلي كأمنما يسعى لتعديل باطنه

_ 1 تهذيب اللغة (12/ 237) . 2 المنهاج (2/ 133) . 3 كتاب العين (7/ 154) . 4 معجم مقاييس اللغة (3/ 300) . 5 محمد بن يعقوب بن محمد بن الفيروز أبادي، من أئمة اللغة والأدب وكان مرجع عصره في اللغة والحديث والتفسير، توفي سنة 817 هـ في زبيد باليمن وأشهر مؤلفاته القاموس المحيط. الأعلام (7/ 146- 147) .

وظاهره كمن يحاول تقويم العود بالنار"1. 3- "الصلاة" الملازمة: قال الأزهري: "قال الزجاج الأصل في الصلاة اللزوم يقال: قد صلى واصطلى إذا لزم، ومن هذا من يصلى في النار: أي يلزم النار فالصلاة لزوم ما فرض الله، والصلاة من أعظم الفرض الذي أمر بلزومه"2. وقال الفيروز أبادي "وقيل الصلاة الملازمة، ومنه قوله {تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً} 3 {سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ} 4 ومنه سمي ثاني أفراس الحلبة مصليا"5. 4- ((الصلاة)) الدعاء: حاء في معجم مقاييس اللغة "صلى: الصاد واللام والحرف المعتل أصلان: أحدهما: النار وما أشبهها من الحمى- وقد تقدم ذكره- والآخر جنس من العبادة ... وأما الثاني: فالصلاة وهي الدعاء، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب فإن كان مفطرا فليأكل وإن كان صائما فليصل" 6 أي فليدع لهم بالخير والبركة.

_ 1 الصلات والبشر (ص 5- 6) 2 تهذيب اللغة (2 1/ 238) . 3 الآية (4) من سورة الغاشية. 4 الآية (3) من سورة المسد. 5 الصلاة والبشر (ص 6) . 6 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب النكاح، باب الأمر بإجابة الداعي إلى دعوة (4/153) .

قال الأعشى1: تقول بنتي وقد قربت مرتحلا ... يارب جنب أبي الأوصاب والوجعا عليك مثل الذي صليت فاغتمضي ... نوما فإن لجنب المرء مضطجعا2 وقال في صفة الخمر: وقابلها الريح في دنها ... وصلى على دنها وارتسم34 "أي دعا لها ألا تحمض وتفسد"5. وأورد هذا المعنى أيضا الأزهري في تهذيب اللغة6. وقال ابن القيم "وأصل هذه اللفظة يرجع إلى معنيين: أحدهما: الدعاء والتبريك. والثاني: العبادة. فمن الأول قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} 7. وقوله تعالى في حق المنافقين: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} 8 وقول النبي صلى الله عليه وسم: "إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب فإن كان

_ 1 اسمه ميمون بن قيس بن جندل من بني قيس بن ثعلبة الوائلي من شعراء الطبقة الأولى في الجاهلية وأحد أصحاب المعلقات أدرك الإسلام ورحل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليؤمن به، ولكن قريشا صرفته بمئة من الإبل. الأعلام (7/ 341) . 2 ديوان الأعشى (73) . 3 المصدر السابق (29) . 4 معجم مقاييس اللغة (3/ 300) . 5 تهذيب اللغة (12/ 237) . (12/ 136) . 7 الآية (103) من سورة التوبة. 8 الآية (84) من سورة التوبة.

صائما فليصل" فسر بهما. قيل: فليدع لهم بالبركة. وقيل: يصلي عندهم بدل أكله. وقيل إن الصلاة في اللغة معناها الدعاء. والدعاء نوعان: دعاء عبادة. ودعاء مسألة. والعابد داع كما أن السائل داع، وبهما فسر قوله تعالى {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} 1. قيل: أطيعوني أثبكم. وقيل: سلوني أعطكم. وفسر بهما قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} 2". ثم قال رحمه الله تعالى: "والصواب: أن الدعاء يعم النوعين، وهذا لفظ متواطئ لا اشتراك فيه3، فمن استعماله في دعاء العبادة قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} 4 وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ

_ 1 الآية (60) من سورة غافر. 2 الآية (186) من سورة البقرة. 3 الألفاظ على أربعة أقسام: ا- الألفاظ المترادفة: وهي ما اختلفت ألفاظها واتحدت معانيها مثل: الليث، الأسد، الغضنفر ألفاظ مختلفة ولكنها جميعها دلت على معنى واحد وهو الحيوان المعروف. 2- الألفاظ المشتركة: وهي ما اتحدت ألفاظها واحتلفت معانيها مثل: العين: تطلق على العين الباصرة، والعين الجارية، والجاسوس. 3- الألفاظ المتباينة: ما اختلفت ألفاظها ومعانيها. مثل: السماء والأرض- الجدار والسقف. 4- الألفاظ المتواطئة: ما اتفقت ألفاظها ومعانيها. فإذا كان المعنى متساويا في الجميع فهو التواطؤ المطلق ومثاله: "الرجل": لزيد وعمرو. وإذا كان المعنى متفاضلا فهو التواطؤ المشكك ومثاله "النور"، للشمس والسراج. التحفة المهدية (1/ 209) . 4 الآية (22) من سورة سبأ.

شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} 1. وقوله تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ} 2 والصحيح من القولين لولا أنكم تدعونه وتعبدونه أي: شيء يعبأه بكم لولا عبادتكم إياه فيكون المصدر مضافا إلى الفاعل. وقال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً} 3، وقال تعالى إخبارا عن أنبيائه ورسله: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً} 4. وهذه الطريقة أحسن من الطريقة الأولى، ودعوى الخلاف في مسمى الدعاء. وبهذا تزول الإشكالات الواردة على اسم الصلاة الشرعية، هل هو منقول عن موضعه في اللغة فيكون حقيقة شرعية أو مجازا شرعيا. فعلى هذا تكون الصلاة باقية على مسماها في اللغة وهو الدعاء، والدعاء، دعاء عبادة، ودعاء مسألة، والمصلي من حين تكبيره إلى سلامه بين دعاء العبادة ودعاء المسألة فهو في صلاة حقيقة لا مجازا ولا منقولة، لكن خص اسم الصلاة بهذه العبادة المخصوصة كسائر الألفاظ التي يخصها أهل اللغة والعرف ببعض مسماها كالدابة والرأس ونحوهما، فهذا غاية تخصيص اللفظ وقصره على بعض موضوعه، ولهذا لا يوجب نقلا ولا خروجا عن موضوعه الأصلي والله أعلم. انتهي5.

_ 1 الآية (20) من سورة النحل. 2 الآية (77) من سورة الفرقان. 3 الآيتان (55، 56) من سورة الأعراف. 4 الآية (90) من سورة الأنبياء. 5 جلاء الأفهام (ص 73- 74) .

المطلب الثاني: المعني الشرعي لصلاة الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم

المطلب الثاني: المعني الشرعي لصلاة الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم لما كانت الصلاة التي أمرت بها هذه الأمة على النبي صلى الله عليه وسلم تعني الطلب من الله ما أخبر به من صلاته عليه. إذ المصلي يقول: "اللهم صل على محمد ... الخ" فالأمر هنا يتطلب شرح معنى صلاة الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم قال ابن القيم: "وأما صلاة الله سبحانه فنوعان: عامة وخاصة. فالنوع الأول: الصلاة العامة وهي صلاته على عباده المؤمنين: قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ} 1 ومنه دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة على آحاد المؤمنين كقوله: "اللهم صل على آل أبي أوفى" 2. النوع الثاني: صلاته الخاصة على أنبيائه ورسله وخصوصا على خاتمهم وخيرهم محمد صلى الله عليه وسلم3. واختلفت الناس في معنى الصلاة منه سبحانه على أقوال: القول الأول: إنها رحمته. فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن معنى صلاة الرب الرحمة4 وروى

_ 1 الآية (43) من سورة الأحزاب. 2 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الزكاة، باب صلاة الإمام ودعائه لصاحب الصدقة. فتح الباري (3/ 361) ح 1497، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الزكاة، باب الدعاء لمن أتى بصدقته (3/ 121) . 3 جلاء الأفهام (ص 74) . 4 فتح الباري (11/ 156) .

إسماعيل القاضي1 بسنده عن الضحاك2 قال: "صلاة الله رحمته، وصلاة الملائكة الدعاء"3. وقال المبرد4 "أصل الصلاة الرحمة فهي من الله رحمة، ومن الملائكة رقة تبعث على استدعاء الرحمة"5. قال ابن القيم: "وهذا القول هو المعروف عند كثير من المتأخرين"6. القول الثاني: إن صلاة الله مغفرته. فقد روى إسماعيل القاضي بسنده عن الضحاك: "هو الذي يصلي عليكم" قال: "صلاة الله مغفرته، وصلاة الملائكة الدعاء"7. وأورد ابن حجر في الفتح: عن مقاتل بن حيان8 قال: "صلاة الله مغفرته وصلاة الملائكة الاستغفار"9

_ 1 إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد الجهضمي الأزدي فقيه على مذهب الإمام مالك، جليل التصانيف، من بيت علم وفضل توفر، سنة 282 هـ. الأعلام (1/ 310) . 2 الضحاك بن مزاحم الهلالي أبو القاسم أو أبو محمد. الخراساني، مفسر ولم يثبت له سماع من أحد من الصحابة ترفي سنة 105 هـ. تهذيب التهذيب (4/ 453- 454) 3 كتاب فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص 40) 4 محمد بن يزيد بن عبد الأكبر الثمالي الأزدي، المعروف بالمبرد إمام العربية ببغداد في زمانه، وأحد أئمة الأدب والأخبار، توفي ببغداد سنة 286 هـ. الأعلام (7/ 144) . 5 فتح الباري (11/ 156) وجلاء الأفهام (ص 75) . 6 جلاء الأفهام (ص 75) . 7 كتاب فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص 41) 8 مقاتل بن حيان النبطي (بفتح النون والموحدة) أبو بسطام البلخي، صدوق، وكان ناسكا فاضلا خرج له الجماعة إلا البخاري، مات بكابل قبيل الخمسين ومائة. تهذيب التهذيب (10/ 277- 279) . 9 ذكره ابن حجر في فتح الباري (11/ 155- 156) .

قال ابن القيم: "وهذا القول هو من جنس الذي قبله"1. القول الثالث: أن معنى صلاة الله تعالى على نبيه ثناؤه وتعظيمه وإظهار شرفه وفضله وحرمته. فإذا قلنا اللهم صل على محمد فإنما نريد اللهم عظم محمدا في الدنيا بإعلاء ذكره وإظهار دينه وإبقاء شريعته، وفي الآخرة بتشفيعه في أمته وإجزال أجره ومثوبته وإبداء فضله للأولين والآخرين بالمقام المحمود وتقديمه على كافة المقربين والشهود2. قال أبو العالية3: "صلاة الله ثناؤه عليه عند الملائكة"4. وعن الربيع بن أنس5 قال: "صلاة الله عليه ثناؤه عند ملائكته"6 وقال الخليل بن أحمد: "صلوات الله على أنبيائه والصالحين من خلقه: حسن ثنائة عليهم وحسن ذكره لهم"7.

_ 1 جلاء الأفهام (ص 75) . 2 المنهاج (2/ 134) . 3 رفيع (بالتصغير) بن مهران أبو العالية الرياحي مولاهم، البصري أدرك الجاهلية وأسلم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين ودخل على أبي بكر وصلى خلف عمر، ثقة، توفي سنة تسعين وقيل بعد ذلك. تهذيب التهذيب (3/ 284- 286) . 4 ذكره تعليقا البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب تفسير قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيّ ... } الآية. انظر: فتح الباري (8/ 532) . 5 الروح بن أنس البكري ويقال الحنفي البصري ثم الخرساني روى عن أنس بن مالك وأبي العالية والحسن البصري وغيرهم، مات في خلافة أبي جعفر المنصور. تهذيب التهذيب (3/ 238- 239) . 6 كتاب فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص 40) القول البديع (ص 19) . وأورده ابن حجر في الفتح وعزاه لابن أبي حاتم. فتح الباري (8/533) . 7 العين (7/ 154) .

وقال ابن القيم رحمه الله: "الصلاة المأمور بها في هذه الآية هي الطلب من الله ما أخبر به عن صلاته وصلاة ملائكته، وهي ثناء عليه وإظهار لفضله وشرفه وإرادة تكريمه وتقريبه. فهي تتضمن الخبر والطلب وسمى هذا السؤال منا والدعاء صلاة عليه لوجهين: أحدهما: أنه يتضمن ئناء المصلي عليه والإشارة بذكر شرفه وفضله والإرادة والمحبة كذلك من الله تعالى، فقد تضمنت الخبر والطلب. والوجه الثاني: أن ذلك سمي منا صلاة لسؤالنا من الله أن يصلي عليه. فصلاة الله عليه ثناؤه وإرادته لرفع ذكره وتقرببه، وصلاتنا نحن عليه سؤالنا الله تعالى أن يفعل ذلك به"1. وزاد الحافظ ابن حجر: أن صلاة الله على خلقه تكون خاصة وتكون عامة. فصلاته على أنبيائه هي ما تقدم من الثناء والتعظيم. وصلاته على غيرهم الرحمة فهي التي وسعت كل شيء. ونقل عياض عن بكر القشيري 2 قال: "الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من الله تشريف وزيادة وتكرمة، وعلى من دون النبي رحمة، وبهذا التقرير يظهر الفرق يين النبي صلى الله عليه وسلم ويين سائر المؤمنين حيث قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} وقال قبل ذلك في السورة المذكورة {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ} ومن المعلوم أن القدر الذي يليق بالنبي صلى الله عليه وسلم من ذلك أرفع مما يليق بغيره، والإجماع منعقد على أن في هذه الآية من

_ 1 جلاء الأفهام (ص 78) . 2 بكر بن محمد بن العلاء القشيري، قاض من علماء المالكية من أهل البصرة، انتقل إلى مصر قبل سنة (330 هـ) وتوفي بها سنة 344هـ. الأعلام (2/ 69) .

تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم والتنويه به ماليس في غيرها"1. وقد ضعف ابن القيم رحمه الله تفسير الصلاة بالرحمة والاستغفار وذكر في تضعيفهما عدة أوجه منها: 1- أن الله سبحانه فرق بين صلاته على عباده ورحمته فقال: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} 2 فعطف الرحمة على الصلاة فاقتضى ذلك تغايرهما، وهذا أصل العطف، وأما قولهم: وألفى قولها كذبا ومينا فهو شاذ نادر لا يحمل عليه أفصح الكلام مع أن المين أخص من الكذب 2- أن صلاة الله سبحانه خاصة بأنبيائه ورسله وعباده المؤمنين، وأما رحمته فوسعت كل شيء، فليست الصلاة مرادفة للرحمة لكن الرحمة من لوازم الصلاة وموجباتها وثمراتها، فمن فسرها بالرحمة فقد فسرها ببعض ثمواتها ومقصودها، وهذا كثيرا ما يأتي في تفسير ألفاظ القرآن، والرسول لا يفسر اللفظة بلازمها وجزء معناها كتفسير الريب بالشك، والشك جزء مسمى الريب وتفسير المغفرة بالستر، وهو جزء مه مسمى المغفرة، وتفسير الرحمة بإرادة الإحسان، وهو لازم الرحمة ونظائر ذلك، كثيرة. 3- أن هذه اللفظة لا تعرف في اللغة الأصلية بمعنى الرحمة أصلا والمعروف عند العرب من معناها إنما هو الدعاء والتبريك والثناء، ولا تعرف العرب قط "صلى عليه" بمعنى "رحمه" فالواجب حمل اللفظ على معناه المتعارف في اللغة.

_ 1 فتح الباري (11/ 156) 2 الآيات (155 إلى 157) من سورة البقرة.

4- أنه يسوغ بل يستحب لكل أحد أن يسأل الله أن يرحمه فيقول: اللهم ارحمني كما علم النبي صلى الله عليه وسلم الداعي أن يقول: "اللهم اغفر لي وارحمني وعافني وارزقني" فلما حفظها قال أما هذا فقد ملأ يديه من الخير"1. ومعلوم أنه لا يسوغ لأحد أن يقول: "اللهم صل علي" بل الداعي بهذا يكون معتديا في دعائه والله لا يحب المعتدين، بخلاف سؤاله الرحمة فإن الله يححب أن يسأله عبده مغفرته ورحمته فعلم أنه ليس معناهما واحدا. 5- أن أكثر المواضع التي تستعمل فيها الرحمة لا يحسن أن تقع فيها الصلاة كقوله تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} 2 وقوله: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} 3 وقوله {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} 4 وقوله: {إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 5 وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الله أرحم بعباده من هذه بولدها" 6. وقوله: "ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء" 7

_ 1 أخرجه أحمد في المسند (4/ 353) . 2 الآية (156) من سورة الأعراف. 3 الآية (56) من سورة الأعراف. 4 الآية (43) من سورة الأحزاب. 5 الآية (117) من سورة التوبة. 6 أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الأدب، باب رحمة الولد. فتح الباري (10/ 467) ح 5998، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه (8/ 97) . 7 أخرجه الترمذي في السنن، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في رحمة المسلمين (4/ 323- 324) ح 1924، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.

فمواضع استعمال الرحمة في حق الله وفي حق العباد لا يحسن أن تقع الصلاة في كثير منها، بل في أكثرها، فلا يصح تفسير الصلاة بالرحمة والله أعلم. 6- أنه لو كانت الصلاة بمعنى الرحمة لقامت مقامها في امتثال الأمر وأسقطت الوجوب عند من أوجبها إذا قال: "اللهم ارحم محمدا وآل محمد" وليس الأمر كذلك1. وزاد السخاوي: 7- أن الصحابة فهموا المغايرة بين الصلاة والرحمة، فلذلك سألوا عن كيفية الصلاة مع ما تقدم من ذكر الرحمة في تعليم السلام حيث جاء بلفظ "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته" وأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم فلو كانت الصلاة بمعنى الرحمة لقال لهم قد علمتم ذلك في السلام2. وأولى الأقوال بالصواب ما تقدم عن أبي العالية "أن معنى صلاة الله تعالى على نبيه ثناؤه وتعظيمه". فهي من الله إكرام وتعظيم ومحبة وثناء لنبيه صلى الله عليه وسلم. فصلاتنا عليه: إنما هي ثناء عليه صلى الله عليه وسلم وإرادة من الله أن يعلي ذكره ويزيده تعظيما وتشريفا.

_ 1 جلاء الأفهام (ص 75- 82) بتصرف. 2 القول البديع (ص 20) .

المبحث الثاني: الأدلة على مشروعية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وكيفيتها ومواطنها وفضلها

المبحث الثاني: الأدلة على مشروعية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وكيفيتها ومواطنها وفضلها المطلب الأول: الأدلة من القرآن والسنة على مشروعية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. ... المطلب الأول: الأدلة من القرآن والسنة على مشروعية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. 1- من القرآن: قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} 1. وهذه الآية هي الأصل في هذا الباب2 والإجماع منعقد على أن في هذه الآية من تعظيم صلى الله عليه وسلم والتنويه به ما ليس في غيرها3. وهي مدنية النزول وقد جاءت بعد جملة من الآيات في سورة الأحزاب ذكر الله فيها عددا من حقوق نبيه صلى الله عليه وسلم وما خصه به دون أمته، من حل نكاحه لمن تهب نفسها له، ومن تحريم نكاح أزواجه على الأمة من بعده، ومن سائر ما ذكر بعد ذلك من حقوقه وتعظيمه وتبجيله. ثم ذكر رفع الجناح عن أزواجه في تكليمهن آباءهن وأبناءهن ودخولهم عليهن، وخلوتهم بهن. ثم عقب ذلك بما هو حق من حقوقه الأكيدة على أمته، وهو أمرهم بصلاتهم عليه وسلامهم، مستفتحا ذلك الأمر بإخباره بأنه هو وملائكته يصلون عليه4

_ 1 الآية (56) من سورة الأحزاب. 2 المنهاج للحليمي (2/ 143) . 3 القول البديع (ص 21) . 4 جلاء الأفهام (ص 174- 175) .

قال ابن كثير رحمه الله تعالى: "والمقصود من هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى أخبر عباده بمنزلة عبده ونبيه عنده في الملأ الأعلى بأنه يثني عليه عند الملائكة المقربين وأن الملائكة تصلي عليه، ثم أمر تعالى أهل العالم السفلي بالصلاة والتسليم عليه ليجتمع الثناء عليه من أهل العالمين العلوي والسفلي جميعا"1. "فهذه الآية شرف الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد موته"2 (وفيها تنبيه على كمال الرسول صلى الله عليه وسلم ورفعة درجته وعلو منزلته عند الله وعند خلقه ورفع ذكره، فقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيّ} أي يثني الله عليه بين الملائكة وفي الملأ الأعلى لمحبته تعالى، ويثني عليه الملائكة المقربون ويدعون له ويتضرعون. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} اقتداء بالله وملائكته وجزاء له على بعض حقوقه عليكم، وتكميلا لإيمانكم، وتعظيما له صلى الله عليه وسلم ومحبة وإكراما وزيادة في حسناتكم وتكفيرا من سيئاتكم"3. قال الحليمي: " وقد أمر الله تعالى في كتابه بالصلاة والتسليم عليه جملة فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} فأمر الله عباده أن يصلوا عليه ويسلموا، وقدم قبل أمرهم بذلك إخبارهم بأن ملائكته يصلون عليه، لينبئهم بذلك على ما في الصلاة

_ 1 تفسير ابن كثير (3/ 507) . 2 تفسير القرطبي (14/ 232) بتصرف 3 تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للشيخ عبد الرحمن بن ناصر بن السعدي (6/120-121) .

عليه من الفضل، إذ كانت الملائكة مع انفكاكهم من شريعته تتقرب إلى الله بالصلاة والتسليم عليه ليعلموا أنهم بالصلاة والتسليم عليه أولى وأحق "1. ب- من السنة النبوية: ورد في شأن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كثير من الأحاديث التي وضحت وبينت ما يتعلق بشأن هذه الصلاة من جهة مشروعيتها وكيفيتها ومواطنها وفضلها إلى غير ذلك من الجوانب المتعلقة بها. وقد روى هذه الأحاديث ما جمع من الصحابة رضوان الله عليهم عدهم ابن القيم في كتابه "جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على محمد خير الأنام" فبلغوا اثثين وأربعين صحابيا. وقد جمع ابن القيم هذه الأحاديث وبين طرقها وصحيحها من حسنها ومعلولها، وما في معلولها من العلل بيانا شافيا. وسيأتي ذكر بعض هذه الأحاديث في مواضعها المناسبة في المطلب القادم وذلك تلافيا للتكرار والإعادة.

_ 1 المنهاج للحليمي (2/ 131) .

المطلب الثاني: كيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

المطلب الثاني: كيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ورد في كيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عدد من الأحاديث منها: 1- حديث كعب بن عجرة رضى الله عنه: فعن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: "إن النبي صلى الله عليه وسلم خرج علينا فقلنا: يارسول الله، قد علمنا كيف نسلم عليك، فكيف نصلي عليك؟ قال: "قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد" متفق عليه1. والمراد بالسلام في قوله: "قد علمنا كيف نسلم عليك" السلام الذي في التشهد وهو قول " السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته" 2. 2- حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه: عن أبي حميد الساعدي أنهم قالوا: يارسول الله، كيف نصلي عليك؟ قال: "قولوا اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته، كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد" متفق عليه3. 3- حديث أبي سعيد الخدري4 رضي الله عنه

_ 1 تقدم تخريجه (ص 480) . 2 فتح الباري (11/ 155) . 3 تقدم تخريجه (ص 348) . 4 واسمه سعد بن مالك بن سنان الأنصاري الخزرجي أبو سعيد الخدري، مشهور بكنيته استصغر بأحد واستشهد أبوه بها، وشهد هو ما بعدها، كان من أفاضل الصحابة وحفظ حديثا كثيرا، مات بعد الستين من الهجرة. الإصابة (2/ 32- 33) .

عن أبي سعيد الخدري قال: قلنا يارسول الله، هذا السلام عليك فكيف نصلي؟ قال: "قولوا اللهم صل على محمد عبدك ورسولك كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم" 1. 4- حديث أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري2 رضي الله عنه عن أبي مسعود الأنصاري قال: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في مجلس سعد بن عبادة فقال له بشير بن سعد3 أمرنا الله تعالى أن نصلي عليك يارسول الله فكيف نصلي عليك؟ قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تمنينا أنه لم يسأله، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد والسلام كما قد علمتم" 4.

_ 1 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الدعوات، باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم انظر: فتح الباري (11/ 152) ح 6358 2 عقبة بن عمرو بن ثعلبة الأنصاري أبو مسعود البدري، مشهور بكنيته شهد العقبة، والمشاهد كلها، مات بعد سنة أربعين للهجرة. الإصابة (2/ 483- 484) . 3 بشير بن سعد بن ثعلبة الأنصاري البدري شهد العقبة وشهد بدرا والمشاهد بعدها، استشهد بعين التمر مع خالد بن الوليد في خلافة أبي بكر سنة اثنتي عشرة. الإصابة (1/ 162) والاستيعاب (1/ 155- 156) . 4 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الصلاة، باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بمد التشهد (2/17) .

5- حديث طلحة بن عبيد الله: عن طلحة بن عبيد الله قال: قلت يارسول الله كيف الصلاة عليك؟ قال: "قل اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم انك حميد مجيد"1. والملاحظ في هذه الأحاديث هو اختلاف ألفاظها، ومن أجل ذلك فإن المرء قد يسأل بأي هذه الألفاظ يدعو؟ قال ابن القيم: " لقد سلك بعض المتأخرين في ذلك طريقة، وهو أن الداعي يستحب له أن يجمع بين تلك الألفاظ المختلفة، ورأى ذلك أفضل ما يقال فيها، فرأى أنه يستحب للمصلي على النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول "اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وعلى أزواجه وذريته، وارحم محمدا وآل محمد وأزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم" وكذلك في البركة والرحمة. وعلل ذلك بقوله: حتى يصيب ألفاظ النبي صلى الله عليه وسلم يقينا فيما شك فيه الراوي وليجتمع له ألفاظ الأدعية الأخر فيما اختلفت ألفاظها. ونازعه في ذلك آخرون وقال: هذا ضعيف من وجوه: أحدها: أن هذه الطريقة محدثة لم يسبق إليها أحد من الأئمة المعروفين. الثاني: أن صاحبها إن طردها لزمه أن يستحب للمصلي أن يستفتح بجميع أنواع الاستفتاحات، وأن يتشهد بجميع أنواع التشهدات، وأن يقول في

_ 1 أخرجه الإمام أحمد في المسند (1/ 262) . وأخرجه النسائي في السنن، كتاب السهو، باب كيف الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (3/ 48) وإسناده حسن.

ركوعه وسجوده جميع الأذكار الواردة فيه، وهذا باطل قطعا فإنه خلاف عمل الناس، ولم يستحبه أحد من أهل العلم وهو بدعة، وإن لم يطردها تناقض وفرق بين متماثلين. الثالث: أن صاحبها إن طردها لزمه أن يستحب للمصلي والتالي أن يجمع بين القراءات المتنوعة في التلاوة في الصلاة وخارجها. قالوا: ومعلوم أن المسلمين متفقون على أنه لا يستحب ذلك للقارئ في الصلاة ولا خارجها إذا قرأ قراءة عبادة وتدبر، وإنما يفعل ذلك القراء أحيانا ليمتحن بذلك حفظ القارئ لأنواع القراءات، وإحاطته بها واستحضاره إياها، والتمكن من استحضارها عند طلبها، فذلك تمرين وتدريب لا تعبد مستحب لكل تال وقارئ، ومع هذا ففي ذلك للناس كلام ليس هذا موضعه، بل المشروع في حق التالي أن يقرأ بأي حرف شاء، وإن شاء أن يقرأ بهذا مرة وبهذا مرة جاز ذلك. وكذلك الداعي إذا صلى على النبي صلى الله عليه وسلم مرة بلفظ هذا الحديث، ومرة بلفظ الآخر، وكذلك إذا تشهد، فإن شاء تشهد بتشهد ابن مسعود، وإن شاء بتشهد ابن عباس، وإن شاء بتشهد ابن عمر، وإن شاء بتشهد عائشة رضي الله عنهم أجمعين ولا يستحب له أحد أن يجمع بين ذلك كله. وقد احتج غير واحد من الأئمة منهم الشافعي رحمه الله تعالى على جواز الأنواع المأثورة في التشهدات ونحوها بالحديث الذي رواه أصحاب الصحيح

والسنن وغيرهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أنزل القرآن على سبعة أحرف"1. فجوز النبي صلى الله عليه وسلم القراءة بكل حرف من تلك الأحرف، وأخبر أنه "شافي كافي" ومعلوم أن المشروع في ذلك أن يقرأ بتلك الأحرف على سبيل البدل لا على سبيل الجمع كما كان الصحابة يفعلون. الرابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجمع بين تلك الألفاظ الختلفة في آن واحد، بل إما أن يكون قال هذا مرة وهذا مرة كألفاظ الاستفتاح والتشهد، وأذكار الركوع والسجود وغيرها، فاتباعه صلى الله عليه وسلم يقتضي أن لا يجمع بينها، بل يقال هذا مرة وهذا مرة. وإما أن يكون الراوي قد شك في أي الألفاظ قال، فإن ترجح عند الداعي بعضها صار إليه وإن لم يترجح عنده بعضها كان مخيرا بينهما، ولم يشرع له الجمع، فإن هذا نوع ثالث لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم فيعود الجمع بين تلك الألفاظ في آن واحد على مقصود الداعي بالإبطال لأنه قصد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، ففعل ما لم يفعله قطعا. ومثال ما يترجح فيه أحد الألفاظ حديث الاستخارة فإن الراوي شك هل قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري" أو قال: "وعاجل أمري وآجله" 2 بدل "وعاقبة أمري" والصحيح اللفظ الأول وهو قوله "وعاقبة أمري" لأن عاجل الأمر وآجله هو مضمون قوله "ديني ومعاشي وعاقبة أمري" فيكون الجمع بين المعاش وعاجل الأمر وآجله تكرارا، بخلاف ذكر المعاش والعاقبة، فإنه لا تكرار فيه، فإن

_ 1 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل القرآن، باب أنزل القرآن على سبعة أحرف. فتح الباري (9 / 23) ح 4992، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين، باب بيان أن القرآن على سبعة أحرف وبيان معناه (2/ 202) . 2 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التهجد، باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى، فتح الباري (3/ 48) ح 1162 وقد جاءت رواية البخاري على الشك الذي ذكره ابن القيم.

المعاش هو عاجل الأمر والعاقبة أجله. ومن ذلك ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من قرأ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من فتنة الدجال" رواه مسلم1. واختلف فيه فقال بعض الرواة "من أول سورة الكهف". وقال بعضهم "من آخرها" وكلاهما في الصحيح لكن الترجيح لمن قال: "من أول سورة الكهف" لأن في صحيح مسلم من حديث النواس بن سمعان2 في قصة الدجال "فإذا رأيتموه فاقرأوا عليه فواتح سورة الكهف"3 ولم يختلف في ذلك، وهذا يدل على أن من روى العشر من أول السورة حفظ الحديث، ومن روى من آخرها لم يحفظه. الخامس: أن المقصود إنما هو المعنى والتعبير عنه بعبارة مؤدية له، فإذا عبر عنه بإحدى العبارتين حصل المقصود، فلا يجمع بين العبارات المتعددة. السادس: أن أحد اللفظين بدل عن الآخر، فلا يستحب الجمع بين البدل والمبدل معا كما لا يستحب ذلك في المبدلات التي لها إبدال والله أعلم4

_ 1 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين، باب فضل سورة الكهف وآية الكرسي (2/ 199) وذكر مسلم أيضا هذا الاختلاف فقال قال شعبة من آخر الكهف، وقال "همام من أول الكهف كما قال هشام 2 النواس في سمعان بن خالد بن عمرو العامري الكلابي له ولأبيه صحبة وحديثه عند مسلم فى صحيحه الإصابة (3/ 546) . 3 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر الدجال وصفته وما معه (8/196-197) 4 جلاء الأفهام (177- 179) بتصرف.

المطلب الثالث: مواطن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم

المطلب الثالث: مواطن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم تتأكد الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في مواطن إما وجوبا وإما استحبابا مؤكدا1 ومن هذه المواطن ما يلي: الموطن الأول: في الصلاة في آخر التشهد: وهو أهمها وآكدها، وقد أجمع المسلمون على مشروعيته2 (2) واختلفوا في وجوبه فيها. فقالت طائفة: ليس بواجب فيها وهذا قول أبي حنيفة ومالك ورواية عن الإمام أحمد، وهو قول أكثر أهل العلم3. وقالت طائفة: بوجوب ذلك وهو قول الشافعي ورواية عن الإمام أحمد والظاهر أنها آخر قوليه4 وهي المعتمدة في المذهب5 وبهذا القول قال جمع من الصحابة والتابعين وأرباب المذاهب، وبه قال ابن مسعود، وابن عمر، وأبو مسعود، والشعبي، ومقاتل بن حيان، وأبو جعفر محمد بن على بن الحسين6 واسحاق بن راهويه7. ولكل واحد من الفريقين أدلته، وهي مبسوطة في كتب الفقه.

_ 1 جلاء الأفهام ص (251) . 2 جلاء الأفهام ص (251) . 3 مجموع الفتاوى (27/ 408) والمغني (1/ 542) وجلاء الأفهام ص (251) 4 مجموع الفتاوى (27/ 408) والمغني (1/ 542) وجلاء الأفهام ص (251) 5 المغني (1/541) . 6 محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أبو جعفر الباقر، من فقهاء أهل المدينة من التابعين، توفي سنة أربع عشرة ومائة. تهذيب التهذيب (9/350-352) . 7 المغني (1/ 542) جلاء الأفهام (253- 255) والقول البديع (180- 183) .

وقد جمعها ابن القيم في كتابه القيم جلاء الأفهام1 فمن أراد الاستزادة في هذا الشأن فليرجع إليه2. وأما ما يتعلق بأدلة مشروعيتها في هذا الموطن فهي بعينها الأدلة التي تقدم ذكرها في المطلب السابق عند الحديث عن كيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. الموطن الثاني: الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم في التشهد الأول: قال ابن القيم: "وهذا قد اختلف فيه القول الأول: قال الشافعي في "الأم": "يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأول3 وهذا هو المشهور من مذهبه وهو الجديد، ولكنه يستحب وليس بواجب. القول الثاني: قال الشافعي في القديم: " لا يزيد على التشهد" وهذه رواية المزني4 عنه، وبهذا قال أحمد وأبو حنيفة ومالك وغيرهم. واحتج لقول الشافعي بما رواه الدارقطني بسنده عن ابن عمر قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد التحيات الطيبات الزاكيات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن

_ 1 انظر جلاء الأفهام (ص 251- 276) . 2 صرفت النظر عن إيراد أدلة كل فريق نظرا: ا- كثرة الأدلة والاعتراضات الواردة في هذه المسألة. 2- كون المسألة تتعلق بالنواحي الفقهية فهذا مما يتعارض مع منهجية البحث الذي يتناول النواحي العقدية. 3 الأم للشافعي (1/ 117) . 4 إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل، أبو إبراهيم المزني، صاحب الإمام الشافعي، كان زاهدا عالما مجتهدا قوي الحجة، توفي سنة 264 هـ. الأعلام (1/ 329) .

لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم " 1. وروى الدارقطني أيضا من حديث عمرو بن شمر عن جابر عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا بريدة إذا صليت في صلاتك فلا تتركن الصلاة علي فيها، فإنها زكاة الصلاة" 2. قالوا: وهذا يعم الجلوس الأول والآخر. واحتج له أيضا بأن الله تعالى أمر المؤمنين بالصلاة والتسليم على رسوله صلى الله عليه وسلم فدل على أنه حيث شرع التسليم عليه شرعت الصلاة عليه، ولهذا سأله أصحابه عن كيفية الصلاة عليه، وقالوا "قد علمنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك؟ " فدل على أن الصلاة عليه مقرونة بالسلام عليه صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أن المصلي يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فيشرع له أن يصلي عليه. قالوا: ولأنه مكان شرع فيه التشهد والتسليم على النبي صلى الله عليه وسلم فشرع فيه الصلاة عليه كالتشهد الأخير. قالوا: ولأن التشهد الأول محل يستحب فيه ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم فاستحب فيه الصلاة عليه، لأنه أكمل في ذكره. قالوا: ولأن في حديث محمد بن إسحاق: كيف نصلي عليك إذا نحن

_ 1 أخرجه الدارقطنى فى السنن، كتاب الصلاة، باب صفة التشهد ووجوبه واختلاف الروايات فيه (1/ 351) وإسناده ضعيف جدا لأن فيه خارجة بن مصعب: متروك، وموسى بن عبيدة: ضعيف. 2 أخرجه الدارقطنى في السنن، كتاب الصلاة، باب ذكر وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد (1/ 355) وإسناده ضعيف فيه عبد المهيمن بن عباس لا يحتج به.

جلسنا في صلاتنا؟ 1. وقال الآخرون: ليس التشهد الأول بمحل لذلك، وهو القديم من قولي الشافعي رحمه الله تعالى، وهو الذي صححه كثير من أصحابه لم لأن التشهد الأول تخفيفه مشروع، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا جلس فيه كأنه على الرضف23. ولم يثبت عنه أنه كان يفعل ذلك فيه، ولا علّمه للأمة، ولا يعرف أن أحدا من الصحابة استحبه، ولأن مشروعية ذلك لو كانت كما ذكرتم من الأمر لكانت واجبة في المحل كما في الأخير، لتناول الأمر لهما، ولأنه لو كانت الصلاة مستحبة في هذا الموضع، لاستحب فيه الصلاة على آله صلى الله عليه وسلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفرد نفسه دون آله بالأمر بالصلاة عليه، بل أمرهم بالصلاة عليه وعلى آله في الصلاة وغيرها. ولأنه لو كانت الصلاة عليه في هذه المواضع مشروعة لشرع فيها ذكر إبراهيم وآل إبراهيم، لأنها هي صفة الصلاة المأمور بها، ولأنها لو شرعت في هذه المواضع لشرع فيها الدعاء بعدها لحديث فضالة، ولم يكن فرق بين التشهد الأول والأخير.

_ 1 أخرجه أحمد في المسند (4/119) والحاكم في المستدرك (1/ 268) . 2 الرضف: الحجارة المحماة على النار، واحدتها: رضفة. النهاية (2/ 231) 3 أخرجه أحمد في المسند (1/386، 410، 428، 436، 460) .وأخرجه أبو داود فى السنن، كتاب الصلاة، باب تخفيف القعود (1/ 606) .ح 995 وأخرجه الترمذي في السنن، أبواب الصلاة، باب ما جاء في مقدار القعود في الركعتين الأوليين (2/202) ح 366. وقال الترمذي: "هذا حديث حسن إلا أن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه. والعمل على هذا عند أهل العلم يختارون أن لا يطيل الرجل القعود في الركعتين الأوليين ولا يزيد على الثشهد شيئا" انتهى كلامه.

قالوا: وأما ما استدللتم به من الأحاديث فمع ضعفها لا تدل، لأن المراد بالتشهد فيها هو الأخير دون الأول بما ذكرناه من الأدلة1 (1) . الموطن الثالث من مواطن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم: آخر القنوت قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "استحبه الشافعي ومن وافقه واحتج لذلك بما رواه النسائي بسنده عن الحسن بن علي2 قال علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم هؤلاء الكلمات في الوتر قال: "قل اللهم اهدني فيمن هديت، وبارك لي فيما أعطت، وتولني فيمن توليت، وقني شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت تباركت ربنا وتعاليت3 وصلى الله على النبي"4 وهذا إنما هو في قنوت الوتر، وإنما نقل إلى قنوت الفجر قياسا كما نقل أصل هذا الدعاء إلى قنوت الفجر.

_ 1 جلاء الأفهام (ص 277- 279) . 2 الحسن بن علي بن أب ي طالب، سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم وريحانته في الدنيا، وأحد سيدي شباب أهل الجنة، وكان أشبه الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم بويع بالخلافة بعد مقتل أبيه ثم تنازل عنها لمعاوية حقنا لدماء المسلمين، ومات سنة تسع وأربعين وقيل بعدها. الإصابة (1/ 327- 330) . 3 الحديث إلى قوله "وتعاليت"، أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الصلاة، باب القنوت في الوتر (2/ 133-134) . وأخرجه الترمذي في السنن، كتاب أبواب الصلاة، باب ما جاء في قنوت الوتر (1/ 328) ح 464. وأخرجه ابن ماجه في السنن، أبواب إقامة الصلاة، باب ما جاء في قنوت الوتر (1/ 213) ح 1167، وقال الحافظ ابن حجر: الحديث-حسن صحيح. التلخيص (ص 94- 95) . 4 أخرجه النسائي في السنن (3/ 248) وقد انفرد النسائي بهذه الزيادة "وصلى الله على النبي"، وروايته ضعيفة، قال الحافظ ابن حجر هذه الزيادة في هذا السند غريبة لا تثبت وإن سنده لا يخلو إما من راو مجهول، أو انقطاع في السند.

وهو مستحب في قنوت رمضان فعن عروة بن الزبير1 أن عبد الرحمن بن عبد القاري2 وكان في عهد عمر بن الخطاب مع عبد الله بن الأرقم3 على بيت المال، قال: إن عمر خرج ليلة في رمضان، فخرج معه عبد الرحمن بن عبد القارى فطاف في المسجد، وأهل المسجد أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط فقال عمر رضي الله عنه، والله إني لأظن لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد يكون أمثل، ثم عزم عمر على ذلك وأمر أبي بن كعب أن يقوم بهم في رمضان، فخرج عليهم والناس يصلون بصلاة قارئهم، فقال عمر رضي الله عنه نعمت البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون، يريد آخر الليل، وكان الناس يقومون أوله، وقال: كانوا يلعنون الكفرة في النصف يقولون: اللهم قاتل الكفرة الذين يصدون عن سبيلك ويكذبون رسلك، ولا يؤمنون بوعدك، وخالف بين كلمتهم، وألق في قلوبهم الرعب، وألق عليهم رجزك وعذابك إله الحق. ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يدعو للمسلمين ما استطاع من خير، ثم يستغفر للمؤمنين، قال: فكان يقول إذا فرغ من لعنة الكفار، وصلاته على

_ 1 عروة بن الزبير بن العوام الأسدي أبو عبد الله المدني، تابعي ثقة فقيه مشهور، ولد في أوائل خلافة الفاروق، وتوفي سنة أربع وتسعين على الصحيح. تهذيب التهذيب (8/ 180- 185) . 2 عبد الرحمن بن عبد من غير إضافة القارئ بتشديد الياء من ولد القارة ابن الديش، ذكره العجلي في ثقات التابعين واختلف قول الواقدي فيه قال تارة له صحبة، وتارة تابعي، مات سنة ثمان وثمانين تقريب التهذيب (206) . 3 عبد الله بن الأرقم بن عبد يغوق بن وهب القرشي الزهري، صحابي أسلم يوم الفتح، وكتب للنبي صلى الله عليه وسلم ولأبي بكر وعمر وكان على بيت المال أيام عمر، وتوفي في خلافة عثمان. الإصابة (2/ 265) .

النبي صلى الله عليه وسلم واستغفاره للمؤمنين، ومسألته: اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد1 ونرجو رحمتك، ونخاف عذابك إن عذابك الجد لمن عاديت ملحق، ثم يكبر ويهوي ساجدا2. وروى إسماعيل بن إسحاق بسنده عن قتادة، عن عبد الله بن الحارث3أن أبا حليمة- معاذا-4 كان يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم في القنوت56. الموطن الرابع من مواطن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم: في صلاة الجنازة بعد التكبيرة الثانية: لا خلاف في مشروعيتها فيها، واختلف في توقف صحة الصلاة عليها. فقال الشافعي، وأحمد في المشهور من مذهبهما: إنها واجبة في الصلاة،

_ 1 وإليك نسعى ونحفد أي نسرع في العمل والخدمة. النهاية (1/ 406) . 2 أخرجه الشافعي في الأم (1/ 239- 240) والبيهقي في السنن (4/ 39) ورجاله كلهم ثقات. 3 عبد الله بن الحارث الأنصاري أبو الوليد البصري، ثقة من رجال الشيخين. تهذيب التهذيب (5/ 181- 182) . 4 معاذ بن الحارث الأنصاري النجاري أبو حليمة ويقال أبو الحارث المدني القاري، قال ابن عبد البر شهد الخندق، ويقال لم يدرك من حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ست سنين، وهو الذي أقامه عمر فيمن أقام في رمضان ليصلي التراويح، يقال إنه قتل يوم الحرة. تهذيب التهذيب (10/ 188- 189) . 5 فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص 45) رقم 107، قال الألباني: "إسناده موقوف صحيح، وأبو حليمة معاذ هو أبن الحارث الأنصاري القاري قال ابن أبي حاتم: (4/ 1/ 246) "وهو الذي أقامه عمر يصلي بهم في. شهر رمضان صلاة التراويح وعبد الله بن الحارث هو أبو الوليد البصري ثقة من رجال الشيخين،. ورواه ابن نصر في "قيام الليل" (ص 136) بلفظ "كان يقوم في القنوت في رمضان يدعو ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويستسقي الغيث". 6 جلاء الأفهام (ص 279- 281) .

لا تصح إلا بها، ورواه البيهقي عن عبادة بن الصامت وغيره من الصحابة. وقال مالك وأبو حنيفة: تستحب وليست بواجبة، وهو وجه لأصحاب الشافعي. والدليل على مشروعيتها في صلاة الجنازة، ما روى الشافعي بسنده عن الزهري، قال أخبرني أمامة بن سهل، أنه أخبره رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر الإمام ثم يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى سرا في نفسه ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ويخلص الدعاء للجنازة في التكبيرات لا يقرأ في شيء منهن ثم يسلم سرا في نفسه1. وروى إسماعيل بن إسحاق في كتاب "الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم" بسنده عن الزهري قال سمعت أبا أمامة بن سهل بن حنيف2 يحدث سعيد بن المسيب3 قال: إن السنة في صلاة الجنازة أن يقرأ بفاتحة الكتاب، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يخلص الدعاء للميت حتى يفرغ، ولا يقرأ إلا مرة واحدة، ئم يسلم في نفسه4

_ 1 الأم (1/ 239- 240) والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 39) . 2 أبو أمامة بن سهل بن حنيف الأنصاري، ولد في حياة النبي علما وسمي باسم جده لأمه أسعد بن زرارة وكني بكنيته، وكان من أكابر الأنصار وعلمائهم، توفي سنة مائة للهجرة. تهذبب التهذيب (1/ 263- 264) . 3 سعيد بن المسيب بن حزن الخزومي القرشي، وسيد التابعين وأحد فقهاء المدينة السبعة، وكان زاهدا ورعا يعيش من كسب يده توفي سنة 94 هـ. تهذيب التهذيب (4/ 84- 88) . 4 فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص 39) رقم 94. وقال الألباني في تعليقه على هذا الكتاب: اسناده صحيح، وأبو أمامة هذا صحابي صغير كما قال ابن القيم، وقد رواه عن جماعة من الصحابة، فقال يونس عن ابن شهاب، قال أخبرني أبو أمامة بن سهل بن حنيف- وكان من كبراء الأنصار وعلمائهم، وأبناء الذين شهدوا بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم - أخبره رجال من أصحاب رسول الله في الصلاة على الجنازة أن يكبر الامام ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم الحديث نحوه وزاد: قال الزهري: حدثنا بذلك أبو أمامة وابن المسيب يسمع فلم ينكر ذلك عليه. قال ابن شهاب: فذكرت الذي أخبرني أبو أمامة من السنة في الصلاة على الميت لمحمد بن سويد فقال وأنا سمعت الضحاك بن قيمة يحدث عن حبيب بن مسلمة في صلاة صلاها على الميت مثل الذي حدثنا أبو امامة. أخرجه الحاكم (1/ 360) وعنه البيهقي (4/ 39، 40) وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، وهو كما قالا، ورواه النسائي (1/ 281) من طريق الليث عن ابن شهاب به مختصرا " انتهي.

وأبو أمامة هذا صحابي صغير، وقد رواه عن صحابي آخر كما ذكره الشافعي. وقال صاحب "المغني"1 يروى عن ابن عباس أنه صلى على جنازة بمكة فكبر، ثم قرأ وجهر وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم دعا لصاحبه فأحسن ثم انصرف، وقال: هكذا ينبغي أن تكون الصلاة على الجنازة. وفي الموطأ برواية يحى بن يحى الليثي2 حدثنا مالك بن أنس عن سعيد بن أبي سعيد المقبري3 عن أبيه4 أنه سأل أبا هريرة كيف نصلي على الجنازة؟ فقال أبو هريرة رضي الله عنه: أنا لعمر الله أخبرك، أتبعها من أهلها، فإذا وضعت كبرت وحمدت الله تعالى، وصليت على النبي صلى الله عليه وسلم ثم أقول:

_ (2/ 486) . 2 يحى بن يحى بن أبي عيسى كثير بن وسلاس الليثي بالولاء، أبو محمد عالم الأندلس في عصره بربري الأصل، سمع الموطأ من مالك قال عنه الإمام مالك هذا عاقل أهل الأندلس، توفي بقرطبة سنة 234 هـ. الأعلام (8/ 176) . 3سعيد بن كيسان المقبري أبو سعد المدني، ثقة جليل تغير قبل موته بأربع سنين، مات في حدود العشرين ومائة وقيل قبلها وقيل بعدها. تهذيب التهذيب (4/ 38- 40) . 4 كيسان أبو سعيد المقبري مولى أم شريك، تابعي ثقة كثير الحديث توفي سنة مائة للهجرة. تهذيب التهذيب (8/ 453- 454)

"اللهم إنه عبدك وابن عبدك، وابن أمتك، كان يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبدك ورسولك، وأنت أعلم به، اللهم إن كان محسنا فزد في إحسانه، وإن كان مسيئا فتجاوز عن سيئاته، اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده"1. إذا تقرر هذا فالمستحب أن يصلى عليه صلى الله عليه وسلم في الجنازة كما يصلى عليه في التشهد، لأن النبي صلى الله عليه وسلم علم ذلك أصحابه لما سألوه عن كيفية الصلاة عليه. وفي مسائل " عبد الله بن أحمد "عن أبيه قال: يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ويصلى على الملائكة المقربين. قال القاضي: يقول: اللهم صل على ملائكتك المقربين وأنبيائك والمرسلين، وأهل طاعتك أجمعين من أهل السموات والأرضين، إنك على كل شيء قدير2. الموطن الخامس من مواطن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم: في الخطب كخطبة الجمعة والعيدين، والإستسقاء، وغيرها: وقد اختلف في اشتراطها لصحة الخطة قال الشافعي وأحمد في المشمهور من مذهبهما: لا تصح الخطة إلا بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم. وقال أبو حنيفة ومالك: تصح بدونها، وهو وجه في مذهب أحمد واحتج لوجوبها في الخطة بقوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ وَوَضَعْنَا عَنْكَ

_ 1 الموطأ (ص 151- 152) ح 535، وأخرجه إسماعيل القاضي في كتابه فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص 39) ح 93. وقال الألباني المحقق عند تعليقه عليه: إسناده موقوف صحيح على شرط الشيخين. وأخرجه البيهقي في السق (4/ 40) . 2 جلاء الأفهام (ص 281- 284) .

وِزْرَكَ صَدْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} 1 قال ابن عباس رضي الله عنهما: "رفع الله ذكره، فلا يذكر إلا ذكر معه. وفي هذا الدليل نظر، لأن ذكره صلى الله عليه وسلم مع ذكر ربه هو الشهادة له بالرسالة إذا شهد لمرسله بالوحدانية، وهذا هو الواجب في الخطبة قطعا بل هو ركنها الأعظم، وقد روى أبو داود، وأحمد وغيرهما من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كل خطة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء" 2 واليد الجذماء: المقطوعة، فمن أوجب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الخطة دون التشهد فقوله في غاية الضعف. وقد روى ابن جرير في تفسيره بسنده عن قتادة {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة، فليس خطب ولا متشهد، ولا صاحب صلاة إلا ينادى بها: أشهد أن لا اله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله3. وعن الضحاك {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} قال إذا ذكرت ذكرت معي ولا يجوز خطبة ولا نكاح إلا بذكرك4 معي. وعن مجاهد {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} قال: لا أذكر إلا ذكرت معي أشهد

_ 1 الآيات (1- 4) من سورة الشرح. 2 أخرجه أحمد في المسند (2/ 302، 343) . وأخرجه أبو داود في سننه، كتاب الأدب، باب في الخطبة (5/ 173) ح 4841 وأخرجه الترمذي في سننه، كتاب النكاح، باب ما جاء في خطبة النكاح (3/ 414) ح 1106 وقال هذا حديث حسن صحيح غريب. 3 تفسيرالطبري (30/ 235) . 4 أورده السيوطي في الدر المنثور وعزاه لعبد بن حميد (6/ 363)

أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الل هـ1. فهذا هو المراد من الآية، وكيف لا يجب التشهد الذي هو عقد الإسلام في الخطبة، وهو أفضل كلماتها وتجب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيها. والدليل على مشروعية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة ما رواه الإمام أحمد في المسند بسنده عن عون بن أبي جحيفة2 قال: كان أبي3 من شرط علي، وكان تحت المنبر، فحدثني: أنه صعد المنبر- يعني عليا- رضي الله عنه فحمد الله وأثني عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم وقال خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر والثاني عمر، وقال يجعل الله الخير حيث شاء4. قال ابن القيم: "وقد كانت الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الخطب أمرا مشهورا معروفا عند الصحابة رضي الله عنهم أجمعين. أما وجوبها فيعتمد دليلا يجب المصير إليه وإلى مثله5. الموطن السادس من مواطن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم: الصلاة عليه بعد إجابة المؤذن وعند الإقامة لما روى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو أنه سمع رسول الله

_ 1 أخرجه ابن جرير في تفسيره (30/ 235) . 2 عون بن أبي جحيفة وهب بن عبد الله السوائي الكوفي، ثقة من الرابعة، مات سنة ست عشرة ومائة. تهذبب التهذيب (8/170) . 3 واسمه وهب بن عبد الله السرائي (بضم المهملة) ويقال اسم أبيه وهب أيضا، أبو جحيفة مشهور بكنيته، ويقال له وهب الخير، قدم على النبي صلى الله عليه وسلم في أواخر عمره وحفظ عنه ثم صحب عليا بعده وولاه شرطة الكوفة. مات سنة أربع رستين. الإصابة (3/ 606) . 4 المسند (1/106) . 5 جلاء الأفهام (ص 286) .

صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي، فإن من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله تعالى، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي" 1. الموطن السابع من مواطن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم: عند الدعاء: والدليل على ذلك حديث فضالة بن عبيد2 رضي الله عنه قال: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يدعو في صلاة لم يحمد الله ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عجل هذا" ثم دعاه، فقال له أو لغيره: "إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد ربه والثناء عليه ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يدعو بما شاء" 3. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عند قال: "إن الدعاء موقوف بين السماء والأرض لا يصعد منه شيء حتى تصلي على نبيك صلى الله عليه وسلم"4.

_ 1 تقدم تخريجه ص 326 2 فضالة بن عبيد بن نافذ بن قيس الأنصاري الأوسي، صحابي جليل أسلم قديما ولم يشهد بدرا، وشهد أحدا فما بعدها وشهد فتح مصر والشام قبلها، مات في خلافة معاوية. الأصابة (3/ 251) . 3 أخرجه الامام أحمد في المسند (6/ 17) .، وأخرجه أبو داود في سننه، كتاب الصلاة، باب الدعاء (2/ 162) ح 481 1، وأخرجه الترمذي في سننه كتاب الدعوات، باب ادع تجب (5/ 517) ح 3473، 3475 وقال: حديث حسن صحيح. وأخرجه النسائي في سننه (3/ 44) باب التمجيد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. والحاكم في المستدرك (1/ 232) وصححه ووافقه الذهبي. 4 أخرجه الترمذي في سننه، باب ما جاء في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (2/ 356) . وقال أحمد شاكر بهامشه: "هذا موقوف بحكم المرفوع" وذكره الألباني في صحيح سنن الترمذي (1/ 150، 151) . وقال: حسن- الصحيحة 2035.

الموطن الثامن من مواطن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: عند دخول المسجد وعند الحروج منه لما في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله لمج! اقال: "إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، وليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل: اللهم أجرني من الشيطان الرجيم" 1. وعن فاطمة بنت الحسين2 عن جدتها فاطمة الكبرى3 قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد صلى على محمد وسلم، وقال: "رب اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج صلى على محمد وسلم وقال: "رب اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك" 4.

_ 1 صحيح ابن خزيمة (452) وابن حبان (321) موارد. 2 فاطمة بنت الحسين بن على بن أبي طالب الهاشمية المدنية روت عن أبيها وأخيها زين العابدين وغيرهم، وزوجها هو ابن عمها الحسن بن الحسن بن على، وتزوجها بعده عبد الله بن عمرو بن عثمان. وذكرها ابن حبان في الثقات، وقال: ماتت وقد قاربت التسعين. تهذيب التهذيب (12/ 442- 443) . 3 فاطمة الزهراء بنت رسرل الله صلى الله عليه وسلم، أم الحسنين سيدة نساء هذه الأمة، تزوجها علي بن أبي طالب رضي الله عنهما في السنة الثانية للهجرة، وماتت بعد النبي صلى الله عليه وسلم بستة أشهر وقد جاوزت العشرين بقليل. تقريب التهذيب (ص 471) . 4 أخرجه بهذا اللفظ: الإمام أحمد في المسند (6/ 272) . والترمذي في السنن أبواب الصلاة باب ما جاء ما يقول عند دخول المسجد (2/ 127، 128) ح 314، وقال الترمذي: "وفي الباب عن أبي حميد، وأبي أسيد، وأبي هريرة، وقال: "حديث فاطمة حديث حسن، وليس إسناده بمتصل وفاطمة بنت الحسين لم تدرك فاطمة الكبرى، وإنما عاشت فاطمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم أشهرا". وأخرجه بلفظ: "إذا دخل المسجد يقول "بسم الله والسلام على رسول الله اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج قال "بسم الله والسلام على رسول الله، اللهم اغفم لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك". الإمام أحمد في المسند (6/ 283) . وابن ماجه في السنن، أبواب المساجد، الدعاء عند دخول المسجد (1/ 139) ح 755 وله شاهد من حديث أبي حميد وأبي أسيد الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم على النبي اصلى الله عليه وسلم ثم ليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، فإذا خرج فليقل: اللهم إني أسألك من فضلك. أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الصلاة، باب فيما يقوله الرجل عند دخوله المسجد (1/ 317، 318) ح 465 وهو عند مسلم في صحيحه كتاب صلاة المسافرين باب ما يقول إذا دخل المسجد (2/ 155) بلفظ إذا دخل المسجد فليقل اللهم افتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج فليقل: اللهم افتح لي أبواب فضلك وهو عند أحمد بهذا اللفظ (5/ 425) . وهو عند النسائي بهذا اللفظ أيضا، انظر السنن كتاب المساجد باب القول عند دخول المسجد والخروج منه (2/ 53) وفي سنن ابن ماجه، أبواب المساجد، باب الدعاء عند دخول المسجد (1/ 139) ح 756، قال رسول صلى الله عليه وسلم: إذا دخل أحدكم المسحد فليسلم ثم ليقل اللهم افتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج فليقل اللهم إني أسألك من فضلك. وله شاهد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل اللهم اعصمني من الشيطان الرجيم" أخرجه ابن ماجة في سننه، أبواب المساجد، باب الدعاء عند دخول المسجد (1/ 131) ح 757، وقال البوصيري في الزوائد: إسناده صحيح ورجاله ثقات وأخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة، باب ما يقول إذا دخل المسجدح 90 وفيه: فليقل: اللهم باعدني من الشيطان بدل قوله: اللهم اعصمني من الشيطان الرجيم. وأخرجه من طريق آخر عن أبي هريرة ولم يذكر فيه السلام ح 91، 92 وتعرض النسائي هنا لاختلاف ألفاظ الحديث فليراجع. والحديث أخرجه ابن خزيمة في صحيحه (452) . وأخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 207) كتاب الصلاة ولفظه عند الحاكم إذا دخل أحدكم المسجد فليصل على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل: اللهم أجرني من الشيطان الرجيم وقال الحاكم: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. والحديث صححه الألباني في صحيح الجامع (528) .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية "والصلاة والسلام عليه عند دخول المسجد

مأثور عنه صلى الله عليه وسلم وعن غير واحد من الصحابة والتابعين"1. وقال القاضي عياض: "ومن مواطن الصلاة والسلام عند دخول المسجد" وذكرا عددا من الآثار عن بعض الأئمة2. الموطن التاسع: من مواطن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم: على الصفا والمروة لما روى إسماعيل بن إسحاق القاضي بسنده عن نافع3 أن عمر رضي الله عنه كان يكبر على الصفا ثلاثا، ويقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدر، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يدعو ويطل القيام والدعاء، ثم يفعل على المروة نحو ذلك4. وعن وهب بن الأجدع5 قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يخطب الناس بمكة يقول إذا قدم الرجل منكم حاجا فليطف بالبيت سبعا وليصل عند المقام ركعتين ثم يستلم الحجر الأسود، ثم يبدأ بالصفا، فيقوم عليها ويستقبل البيت فيكبر سبع تكبيرات يين كل تكبيرتين حمد الله عز وجل

_ 1 الرد على الأخنائي (ص 147) . 2 الشفا (2/ 637) . 3 نافع الفقيه مولى ابن عمر أبو عبد الله المدني، ثقة ثبت فقيه مشهور قال البخاري: أصح الأسانبد مالك عن نافع عن ابن عمره مات سنة سبع عشرة ومائة أو بعد ذلك. تهذيب التهذيب (10/ 412- 414) . 4 كتاب فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص 36- 37) ح 87. وقال الألباني في تعليقه عليه: "إسناده موقوف منقطع فإن نافعا لم يدرك عمر، ولكن في إجلاء الأفهام نقلا عن المصنف أن ابن عمر فإن صح هذا فيكون قد سقط من نسختنا لفظة (ابن) ويكون السند حينئذ متصلا صحيحا، وهذا مما أستبعده، والله أعلم، انثهي كلامه. 5 وهب بن الأجدع الهمداني الخارفي الكرفي، تابعي ثقة، روي عن عمر وعلي وعنه هلال بن سياف والشعبي، وكان قليل الحديث. تهذيب التهذيب (1/ 158) .

وثناء عليه عزوجل، وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ومسألة لنفسه وعلى المروة مثل ذلك1. الموطن العاشر من مواطن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم: عند اجتماع القوم قبل تفرقهم: فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما جلس قوم مجلسا فلم يذكروا الله ولم يصلوا على نبيه صلى الله عليه وسلم إلا كان مجلسهم عليهم ترة2 يوم القيامة، إن شاء عفا عنهم، وإن شاء أخذهم" 3. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "ما جلس قوم مجلسا لم يصل فيه على النبي صلى الله عليه وسلم إلا كانت عليهم حسرة وإن دخلوا الجنة" 4.

_ 1 أخرجه إسماعيل بن اسحاق القاضي في كتاب فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص 34) ح 81 وأورده ابن القيم في جلاء الأفهام (ص 292- 293) وعزاه لجعفر بن عون وأبي ذر الهروي. وأورده السخاوي في القول البديع (ص 209) وعزاه للبيهقي وإسماعيل القاضي وأبي ذر الهروي وقال- أي السخاوي- اسناده قوي 2 "ترة": النقص، وقيل التبعة. النهاية (1/ 189) 3 أخرجه الإمام أحمد في المسند (2/ 446، 453، 481، 484) وأخرجه الترمذي في السنن، كتاب الدعاء، باب في القوم يجلسون لا يذكرون الله (5/ 1 46) ح 0 338 وقال حديث حسن صحيح. وأخرجه ابن السني في عمل اليوم والليلة (ص 159) ح 449 وأخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 496) وقال هذا حديث صحيح الأسناد ولم يخرجاه وصالح ليس بالساقط وتعقبه الذهبي بقوله صالح ضعيف. وأخرجه ابن حبان في صحيحه. انظر موارد الظمآن (2322) . 4 أخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة (ص 314) ح 410 وأخرجه إسماعيل بن إسحاق في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص 22) ح 55 وقال الألباني في تعليقه عليه: إسناده صحيح موقوف ولكنه في حكم المرفرع.

وعن جابرأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما جلس قوم مجلسا ثم تفرقوا من غير صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم إلا تفرقوا على أنتن من ريح جيفة"1. الموطن الحادي عشرمن مواطن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم عند ذكره قال ابن القيم: "وقد اختلفت في وجوبها كلما ذكر اسمه صلى الله عليه وسلم فقال أبو جعفر الطحاوي2 وأبو عبيد الله الحليمي: تجب الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم كلما ذكر اسمه. وقال غيرهما إن ذلك مستحب، وليس بفرض يأثم تاركه. ثم اختلفوا: فقالت فرقة: تجب الصلاة عليه في العمر مرة واحدة، لأن الأمر مطلق لا يقتضي تكرارا، والماهية تحصل بمرة، وهذا محكي عن أبي حنيفة ومالك، والثوري، والأوزاعي3. قال القاضي عياض وابن عبد البر: وهو قول جمهور الأمة. وقالت فرقة: بل تجب في كل صلاة في تشهدها الأخير كما تقدم، وهو قول الشافعي وأحمد في آخر الروايتين عنه، وغيرهما. وقالت فرقة: الأمر بالصلاة عليه أمر استحباب لا أمر إيجاب، وهذا قول ابن جرير وطائفة، وادعى ابن جرير فيه الإجماع، وهذا على أصله فإنه إذا رأي الأكثرين على قول، جعله إجماعا يجب اتباعه.

_ 1 أخرجه النساثي في عمل اليوم والليلة (ص 314) ح 411. 2 أحمد بن محمد بن سلامة الأزدي الطحاوي، أبو جعفر، فقيه انتهت إليه رياسة الحنفية بمصر، وهو أحد الثقات الأثبات الحفاظ، توفي سنة 321 ص. الأعلام (1/ 206) . 3 عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، أهله من سبي السند استقر بدمشق وهو من شيوخ الإسلام كان عابدا مجاهدا، قال عنه الحاكم: الأوزاعي إمام عصره عموما وإمام أهل الشام خصوصا، توفي ببيروت عام 157 ص. البداية والنهاية (10/ 115- 120) .

واحتج الموجبون بحجج: الحجة الأولى: حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي، ورغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له، ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر فلم يدخلاه الجنة" 1. ورغم أنفه: دعاء عليه وذم له، وتارك المستحب لا يذم ولا يدعى عليهز. الحجة الثانية: حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه صعد المنبر فقال: "آمين، آمين، آمين، فقيل له يارسول الله، ما كنت تصنع هذا؟ فقال: "قال لي جبريل رغم أنف عبد دخل عليه رمضان ولم يغفر له، فقلت: آمين، ثم قال: رغم أنفه عبد أدرك أبويه أو أحدهما الكبر لم يدخل الجنة، فقلت: آمين ثم قال: رغم أنف عبد ذكرت عنده فلم يصل عليك، فقلت: آمين" 2

_ 1 أخرجه الترمذي في سننه، كتاب الدعوات، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: رغم أنف رجل" (5/ 550) ح 3545 وقال: "وهذا حديث حسن غريب من هذا الرجه. وأخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 549) وصححه ووافقه الذهبي. وأخرجه إسماعيل بن اسحاق القاضي في كتابه فضل الصلاة على النبي على (ص 9) ح 16 وقال الألباني في تعليقه عليه إسناده صحيح، رجاله رجال الصحيح. 2 أخرجه إسماعيل بن إسحاق القاضي في كتابه فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص 9) ح 18 وقال الألباني في تعليقه عليه إسناده حسن. وأخرجه ابن حبان في صحيحه. انظر موارد الظمآن (2387) والحديث روي كذلك من طرق أخرى عن كل من: ا- كعب بن عجرة رضي الله عنه: أخرجه إسماعيل بن إسحاق في كتابه فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص 15) ح 19. وأخرجه الحاكم في المستدرك (4/ 153، 154) وصححه ووافقه الذهبي. 2- أنس بن مالك رضي الله عنه: قال السخاوي في القول البديع (ص 148) أخرجه ابن أبي شيبة والبزار في مسنديهما. 3- مالك بن الحويرث رضي الله عنه: أخرجه ابن حبان في صحيحه (2386) موارد، وقال السخاوي (ص 148) أخرجه ابن حبان في صحيحه وثقاته معا، والطبراني ورجاله ثقات لكن فيهم عمران بن أبان الراسطي وهو وإن وثقه ابن حبان وأخرج حديثه هذا في صحيحه فقد ضعفه غير واحد. 4- جابر بن عبد الله رضي الله عنه: أخرجه البخاري في الأدب المفرد (ص 95) . وقال السخاري في كتابه القول البديع (ص 148) : رواه البخاري في الأدب المفرد والطبري في تهذيبه والدارقطي في الأفراد وهو حديث حسن ونحوه من وجه آخر عند الطبراني في الأوسط وابن السني في عمل اليوم والليلة، وأشار إليه الترمذي في جامعه بقوله وفي الباب عن جابر وقد أخرجه النسائي وساقه الضياء في المختارة من طريق الطيالسي وقال هذا عندي على شرط مسلم. انتهي وفي ذلك نظر والله أعلم. 5- جابر بن سمرة: قال السخاوي: أخرجه الدارقطني في الأفراد والبزار في مسنده، والطبراني في الكبير والدقيقي في أماليه. وللحديث طرق أخرى ذكرها السخاوي في القول البديع (ص 147- 151) ولا يتسع المجال هنا لذكرها. قال ابن القيم (ولا ريب أن الحديث بتلك الطرق المتعددة تفيد الصحة، جلاء الأفهام (ص 295) .

الحجة الثالثة: حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ذكرت عنده فليصل علي، فإنه من صلى علي مرة صلى الله عليه عشرا" 1. وهذا إسناد صحيح والأمر ظاهره الوجوب. الحجة الرابعة: حديث الحسين بن علي2 رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم

_ 1 أخرجه النسائبي في اليوم والليلة رقم (61) وابن السني (383) وإسناده صحيح. وأخرجه البخاري في الأدب المفرد (643) . 2 الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي أبو عبد الله المدني سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم وريحانته من الدنيا، وأحد سيدي شباب أهل الجنة، استشهد يوم عاشوراء سنة إحدى وستين وله ست وخمسرن سنة. الاصابة (1/ 1 33- 334) .

أنه قال: "إن البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي" 1. وعن عوف بن مالك الأشجعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قعد أو قعد أبو ذر- فذكر حديثا طويلا- وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن أبخل الناس من ذكرت عنده فلم يصل علي" 2. قالوا: فإذا ثبت أنه بخيل فوجه الدلالة به من وجهين: أحدها: أن البخل اسم ذم، وتارك المستحب لا يستحق اسم الذم قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} 3 فقرن البخل بالاختيال والفخر، والآمر بالبخل، وذم على المجموع، فدل على أن البخل صفة ذم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وأي داء أدوأ من البخل" 4. الثاني: أن البخيل هو مانع ما وجب عليه، فمن أدى الواجب عليه كله لم يسم بخيلا، وإنما البخيل مانع ما يستحق عليه إعطاؤه وبذله.

_ 1 أخرجه الإمام أحمد في المسند (1/ 201) . والترمذي في سننه، كتاب الدعوات، باب قول رسول الله صلى الله عليه وسلم رغم أنف رجل (5/ 551) ح 3546 وقال: حديث حسن صحيح غريب والنسائي في اليوم والليلة (55) . وابن حبان في صحيحه (2388) مرارد. والحاكم في المستدرك (1/ 549) وصححه ووافقه الذهبي. وأخرجه إسماعيل بن اسحاق القاضي في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص 15) ح 33. 2 أخرجه إسماعيل بن إسحاق القاضي (ص 16) رقم 37 وقال الألباني في تعليقه عليه: حديث صحيح بشاهده المتقدم والآتي بعده، ورجال إسناده ثقات لولا الرجل الذي لم يسم. وقد رواه ابن أبي عاصم في "كتاب الصلاة" من طريتى أخرى عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي ذر، فأحد الطريقين يقوى الآخر. 3 الآيتان (23- 24) من سورة الحديد. 4 أخرجه البخاري في الأدب المفرد رقم (296) عن جابر رضي الذ عنه والإمام أحمد في المسند (3/307) .

الحجة الخامسة: أن الله سبحانه وتعالى أمر بالصلاة والتسليم عليه، والأمر المطلق للتكرار، ولا يمكن أن يقال: التكرار هو كل وقت، فإن الأوامر المكررة إنما تتكرر في أوقات خاصة، أو عند شروط وأسباب تقتضي تكرارها، وليس وقت أولى من وقت، فتكرار المأمور بتكرار ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أولى لما تقدم من النصوص، فهنا ثلاث مقدمات: الأولى: أن الصلاة مأمور بها أمرا مطلقا، وهذه معلومة. المقدمة الثانية: أن الأمر المطلق يقتضي التكرار، وهذا مختلف فيه فنفاه طائفة من الفقهاء والأصوليين. وأثبته طائفة. وفرقت طائفة يين الأمر المطلق والمعلق على شرط أو وقت، فأثبتت التكرار في المعلق دون المطلق. والأقوال الثلاثة في مذهب أحمد والشافعي، وغيرهما. ورجحت هذه الطائفة التكرار بأن عامة أوامر الشرع على التكرار كقوله تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} 1 وقوله {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ} 2 وقوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} 3 وقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} 4 وقوله تعالى {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} 5 وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ} 6 وقوله تعالى: {وَخَافُونِ} 7.

_ 1 الآية (7) من سورة الحديد. 2 الآية (208) من سورة البقرة. 3 الآية (59) من سررة النساء. 4 الآية (194) من سورة البقرة. 5 الآية (43) من سورة البقرة. 6 الآية (200) من سورة آل عمران. 7 الآية (175) من سورة آل عمران.

وقوله: {وَاخْشَوْنِي} 1، وقوله: {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ} 2، وقوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً} 3. وذلك في القرآن أكثر من أن يحصر، وإذا كات أوامر الله ورسوله على التكرار حيث وردت إلا في النادر، علم أن هذا عرف خطاب الله ورسوله للأمة، والأمر وإن لم يكن في لفظه المجرد ما يؤذن بتكرار ولا فور فلا ريب أنه في عرف خطاب الشارع للتكرار، فلا يحمل كلامه إلا على عرفه والمألوف من خطابه، وإن لم يكن ذلك مفهوما من أصل الوضع في اللغة، وهذا كما قلنا: ان الأمر يقتضي الوجوب، والنهي يقتضي الفساد، فإن هذا معلوم من خطاب الشارع وإن كان لا تعرض لصحة المنهي ولا لفساده في أصل موضوع اللغة، وكذا خطاب الشارع لواحد من الأمة يقتضي معرفة الخاص أن يكون اللفظ متناولا له ولأمثاله، وإن كان موضوع اللفظ لغة لا يقتضي ذلك، فإن هذا لغة صاحب الشرع وعرفه في مصادر كلامه وموارده، وهذا معلوم بالاضطرار من دينه قبل أن يعلم صحة القياس واعتباره وشروطه، وهكذا الفرق يين اقتضاء اللفظ وعدم اقتضائه لغة، ويين اقتضائه في عرف الشارع وعادة خطابه. المقدمة الثالثة: أنه إذا تكرر المأمور به، فإنه لا يتكرر إلا بسبب أو وقت، وأولى الأسباب المقتضية لتكراره ذكر اسمه صلى الله عليه وسلم، لإخباره برغم أوف من ذكر عنده فلم يصل عليه، وللإسجال عليه بالبخل وإعطائه اسمه.

_ 1 الآية (150) من سورة البقرة. 2 الآية (78) من سورة الحج. 3 الآية (103) من سورة آل عمران.

قالوا: ومما يؤيد ذلك أن الله سبحانه أمر عباده المؤمنين بالصلاة عليه عقب إخباره لهم بأنه وملائكته يصلون عليه، لم يكن مرة وانقطعت. بل في صلاة متكررة، ولهذا ذكرها مبينا بها فضله وشرفه وعلو منزلته عنده، ثم أمر المؤمنين بها، فتكرارها في حقهم أحق وآكد لأجل الأمر. قالوا: ولأن الله أكد السلام بالمصدر الذي هو التسليم، وهذا يقتضي المبالغة والزيادة في كميته، وذلك بالتكرار. قالوا: ولأن لفظ الفعل المأمور به يدل على التكثير وهو "صلى وسلم" فإن "فعَّل" المشدد، يدل على تكرار الفعل، كقولك كسّر الخبرز وقطَّع اللحم، وعلّم الخير، وشدّد في كذا، ونحوه. قالوا: ولأن الأمر بالصلاة عليه في مقابل إحسانه إلى الأمة، وتعليمهم وإرشادهم وهدايتهم، وما حصل لهم ببركته من سعادة الدنيا والآخرة، ومعلوم أن مقابلة مثل هذا النفع العظيم لا يحصل بالصلاة عليه مرة واحدة في العمر، بل لو صلى العبد عليه بعدد أنفاسه لم يكن موفيا لحقه ولا مؤديا لنعمته، فجعل ضابط شكر هذه النعمة بالصلاة عليه عند ذكر اسمه صلى الله عليه وسلم. قالوا: ولهذا أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بتسميته من لم يصل عليه عند ذكره بخيلا، لأن من أحسن إلى العبد الإحسان العظيم، وحصل له به هذا الخير الجسيم، ثم يذكر عنده ولا يثني عليه ولا يبالغ في حمده ومدحه وتمجيده، ويبدي ذلك ويعيده، ويعتذر من التقصير في القياع بشكره وحقه، عده الناس بخيلا لئيما كفورا فكيف بمن أدنى إحسانه إلى العبد يزيد على أعظم إحسان المخلوقين بعضهم لبعض الذي بإحسانه حصل للعبد خير الدنيا والآخرة، ونجا من شر الدنيا والآخرة، الذي لا تتصور القلوب حقيقة نعمته وإحسانه، فضلا

عن أن تقوم بشكره، أليس هذا المنعم المحسن أحق بأن يعظم ويثنى عليه، ويستفرغ الوسع في حمده ومدحه إذا ذكر بين الملأ، فلا أقل من أن يصلى عليه مرة إذا ذكر اسمه صلى الله عليه وسلم. قالوا: ولهذا دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم برغم أنفه، وهو أن يلصق أنفه بالرغام وهو التراب، لأنه لما ذكر عنده فلم يصل عليه استحق أن يذله الله ويلصق أنفه بالتراب. قالوا: ولأن الله سبحانه نهى الأمة أن يجعلوا دعاء الرسول بينهم كدعاء بعضهم بعضا، فلا يسمونه إذا خاطبوه باسمه، كما يسمى بعضهم بعضا بل يدعونه برسول الله ونبي الله، وهذا من تمام تعزيره وتوقيره وتعظيمه، فهكذا ينبغي أن يخص باقتران اسمه بالصلاة عليه، ليكون ذلك فرقا بينه وبين ذكر غيره، كما كان الأمر بدعائه بالرسول والنبي فرقا بينه ويين خطاب غيره، فلو كان عند ذكره لا تجب الصلاة عليه كان ذكره كذكر غيره في ذلك، هذا على أحد التفسيرين في الآية، وأما على التفسير الآخر وهو أن المعنى لا تجعلوا دعاءه إياكم كدعاء بعضكم بعضا فتؤخروا الإجابة بالاعتذار والعلل التي يؤخر بها بعضكم إجابة بعض ولكن بادروا إليه إذا دعاكم بسرعة الإجابة ومعاجلة الطاعة حتى لم يجعل اشتغالهم بالصلاة عذرا لهم في التخلف عن إجابته والمبادرة إلى طاعته فإذا لم تكن الصلاة التي فيها شغل عذرا يستباح بها تأخير إجابته فكيف ما دونها من الأسباب والأعذار؟ فعلى هذا يكون المصدر مضافا إلى الفاعل، وعلى القول الأول يكون مضافا إلى المفعول. وقد يقال- وهو أحسن من القولين- إن المصدر هنا لم يضف إضافته إلى فاعل ولا مفعول، وإنما أضيف إضافة الأسماء المحضة، ويكون المعنى: لا

تجعلوا الدعاء المتعلق بالرسول المضاف إليه كدعاء بعضكم بعضا، وعلى هذا فيعم الأمرين معا، ويكون النهي عن دعائهم له باسمه كما يدعو بعضهم بعضا، وعن تأخير إجابته صلى الله عليه وسلم، وعلى كل تقدير فكما أمر الله سبحانه أن يميز في خطابه ودعائهم إياه قياما للأمة بما يجب عليه من تعظيمه وإجلاله فتمييزه بالصلاة عليه عند ذكر اسمه من تمام هذا المقصود. قالوا: وقد أخبرالنبي صلى الله عليه وسلم "أن من ذكر عنده فلم يصل عليه خطىء طريق الجنة" 1 فلولا أن الصلاة عليه واجبة عند ذكره لم يكن تاركها مخطئا لطريق الجنة. قالوا: وأيضا فمن ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أو ذكر عنده فلم يصل عليه فقد جفاه، ولا يجوز لمسلم جفاؤه صلى الله عليه وسلم. فالدليل على المقدمة الأولى: ما روي عن قتادة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من الجفاء أن أذكر عند الرجل فلا يصلي علي" 2

_ 1 أخرجه ابن ماجة في السنن، أبواب إقامة الصلاة، باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (1/ 164) ح 895 وقال الألباني حسن صحيح (صحيح ابن ماجة 1/ 150) . وأخرجه إسماعيل بن إسحاق في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص 17- 18) ح 41- 42- 43- 44. وقال الألباني في تعليقه عليه: "إسناده مرسل صحيح، والحديث له طرق وإن كانت لا تخلو من ضعف فبعضها يقوي بعضا فالحديث وتقي بها إلى درجة الحسن على أقل الدرجات" انتهي كلامه. وأخرجه البيهقي في شعب الإيمان (1/ 418) مرسلا عن محمد بن الحنفية. وأخرجه الطبراني في الكبير (3/ 138) رقم 2887 موصولا عن الحسين بن علي من طريق بشر بن محمد الكندي وهو ضعيف. انظر: مجمع الزوئد (10/ 164) . وأخرجه البيهقي في الشعب (1/ 419) عن أبي هريرة. 2 أورده ابن القيم وعزاه لسعيد بن الأعرابي " جلاء الأفهام (ص 301) وأورده السخاوي في القول البديع (ص 152) وقال أخرجه النميري من وجهين من طريق عبد الرزاق وهو في جامعه ورواته ثقات.

ولو تركنا وهذا المرسل وحده لم نحتج به، ولكن له أصول وشواهد قد تقدمت من تسمية تارك الصلاة عليه عند ذكره بخيلا وشحيحا، والدعاء عليه بالرغم، وهذا من مرجبات جفائه. والدليل على المقدمة الثانية: أن جفاءه مناف لكمال حبه، وتقديم محبته على النفس والأهل والمال، وأنه أولى بالمؤمن من نفسه فإن العبد لا يؤمن حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليه من نفسه ومن ولده ووالده والناس أجمعين، كما ثبت عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: يارسول الله، والله لأنت أحب ألي من كل شيء إلا من نفسي، قال: " لا ياعمر حتى أكون أحب إليك من نفسك" قال: فوالله لأنت الآن أحب إلي من نفسي، قال: "الآن ياعمر" 1 وثبت عنه في الصحيح أنه قال: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين" 2 فذكر هذا الحديث أنواع المحبة الثلاثة فإن المحبة إما محبة إجلال وتعظيم، كمحبة الوالد، وإما محبة تحنن وود ولطف كمحبة الولد، وإما محبة لأجل الإحسان وصفات الكمال، كمحبة الناس بعضهم بعضا، ولا يؤمن العبد حتى يكون حب الرسول صلى الله عليه وسلم عنده أشد من هذه المحاب كلها. ومعلوم أن جفاءه صلى الله عليه وسلم ينافي ذلك قالوا: فلما كانت محبته فرضا، وكانت توابعها من الإجلال والتعظيم والتوقير والطاعة والتقديم على النفس، وإيثاره بنفسه بحيث يقي نفسه

_ 1 تقدم تخريجه ص 307 2 تقدم تخريجه ص 308

فرضا، كانت الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم إذا ذكر من لوازم هذه الأحبية وتمامها. قالوا: وإذا ثبت بهذه الوجوه وغيوها وجوب الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم على من ذكر عنده، فوجوبها على الذاكر نفسه أولى، ونظير هذا أن سامع السجدة إذا أمر بالسجود إما وجوبا أو استحبابا، فوجوبها على التالي أولى، والله أعلم. قال نفاة الوجوب: الدليل على قولنا من وجوه: أحدها: أن من المعلوم الذي لا ريب فيه أن السلف الصالح الذين هم القدوة لم يكن أحدهم كلما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم يقرن الصلاة عليه باسمه، وهذا في خطابهم للنبي صلى الله عليه وسلم أكثر من أن يذكر فإنهم كانوا يقولون يارسول الله، مقتصرين على ذلك وربما كان يقول أحدهم "صلى الله عليك" وهذا في الأحاديث ظاهر كثير، فلو كانت الصلاة عليه واجبة عند ذكره لأنكر عليهم تركها. الثاني: أن الصلاة عليه لو كانت واجبة كلما ذكر لكان هذا من أظهر الواجبات، ولبينه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته بيانا يقطع العذر وتقوم به الحجة. الثالث: أنه لا يعرف عن أحد من الصحابة ولا التابعين ولا تابعيهم هذا القول، ولا يعرف أحد منهم قال به، وأكثر الفقهاء – بل قد حكى الإجماع - على أن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم ليست من فروض الصلاة، وقد نسب القول بوجوبها إلى الشذوذ ومخالفة الإجماع السابق، فكيف تحب خارج الصلاة. الرابع: أنه لو وجبت الصلاة عليه عند ذكره دائما، لوجب على المؤذن أن يقول: أشهد أن محمدا رسول الله، وهذا لا يشرع له في الأذان على أن يجب عليه. الخامس: أنه كان يجب على من سمع النداء وأجابه أن يصلي عليه صلى الله عليه وسلم، وقد أمر صلى الله عليه وسلم السامع أن يقول كما يقول المؤذ، وهذا يدل على جواز

اقتصاره على قوله "أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله" فإن هذا مثل ما قال المؤذن. السادس: أن التشهد الأول ينتهي عند قوله "وأشهد أن محمدا عبده ورسوله" اتفاقا، واختلف هل يشرع أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله فيه، على ثلاثة أقوال: أحدها: لا يشرع ذلك إلا في الأخير. والثاني: يشرع. والثالث: تشرع الصلاة عليه خاصة دون آله، ولم يقل أحد بوجوبها في الأول عند ذكر النبي صلى الله عليه وسلم. السابع: أن المسلم إذا دخل في الإسلام بتلفظه بالشهادتين لم يحتج أن يقول أشهد أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم. الثامن: أن الخطب في الجمع والأعياد وغيرهما لا يحتاج أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في نفس الشهد، ولو كانت الصلاة واجبة عليه عند ذكره لوجب عليه أن يقرنها بالشهادة، ولا يقال تكفي الصلاة عليه في الخطبة فإن تلك الصلاة لا تنعطف على ذكر اسمه عند الشهادة، ولا سيما مع طول الفصل، والموجبون يقولون: تجب الصلاة عليه كلما ذكر ومعلوم أن ذكره ثانيا غير ذكره أولا. التاسع: أنه لو وجبت الصلاة عليه كلما ذكر لوجب على القارئ كلما مر ذكر اسمه أن يصلي عليه، ويقطع لذلك قراءته ليؤدي هذا الواجب، وسواء كان في الصلاة أو خارجها، فإن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم لا تبطل الصلاة، وهي واجب قد تعين فلزم أداؤه، ومعلوم أن ذلك لو كان واجبا لكان

الصحابة والتابعون أقوم به وأسرع إلى أدائه وترك إهماله. العاشر: أنه لو وجبت الصلاة عليه كلما ذكر لوجب الثناء على الله عز وجل كلما ذكر اسمه، فكان يجب على من ذكر اسم الله أن يقرنه بقوله: "سبحانه وتعالى" أو "عز وجل" أو "تبارك وتعالى" أو "جلت عظمته" أو "تعالى جده" ونحو ذلك، بل كان ذلك أولى وأحرى فإن تعظيم الرسول وإجلاله ومحبته وطاعته تابع لتعظيم مرسله سبحانه وإجلاله ومحبته وطاعته، فمحال أن تثبت المحبة والطاعة والتعظيم والإجلال للرسول صلى الله عليه وسلم دون مرسله، بل انما يثبت ذلك له تبعا لمحبة الله وتعظيمه وإجلاله، ولهذا كانت طاعة الرسول طاعة لله، فمن يطع الرسول فقد أطاع الله، ومبايعته مبايعة لله {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} 1 ومحبته محبة لله قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} 2، وتعظيمه تعظيم للهه، ونصرته نصرة لله، فإنه رسوله وعبده الداعي إليه وإلى طاعته ومحبته وإجلاله، وتعظيمه وعبادته وحده لا شريك له، فكيف يقال تجب الصلاة عليه كلما ذكر اسمه، وهي ثناء وتعظيم كما تقدم، ولا يجب الثناء والتعظيم للخالق سبحانه وتعالى كلما ذكر اسمه؟ هذا محال من القول. الحادي عشرة: لو جلس إنسان ليس له هجيرى3 إلا قوله: محمد رسول الله، أو اللهم صل على محمد، وبشر كثير يسمعونه، فإن قلتم تجب على كل أولئك السامعين أن يكون هجيراهم الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، ولو طال المجلس

_ 1 الآية (10) من سورة الفتح. 2 الآية (31) من سورة آل عمران. 3 هجيرى: الدأب والشأن.

ما طال، كان ذلك حرجا ومشقة وتركا لقراءة قارئهم، ودراسة دارسهم، وكلام صاحب الحاجة منهم، ومذاكرته في العلم، وتعليمه القرآن وغيره، وإن قلتم لا تحب عليهم الصلاة عليه في هذه الحال، نقضتم مذهبكم، وإن قلتم: تجب عليه مرة أو أكثر، كان تحكما بلا دليل مع أنه مبطل لقولكم. الثاني عشر: أن الشهادة له بالرسالة أفرض وأوجب من الصلاة عليه بلا ريب، ومعلوم أنه لا يدخل في الإسلام إلا بها، فإذا كانت لا تجب كلما ذكر اسمه، فكيف تحب الصلاة عليه كلما ذكر اسمه، وليصر من الواجبات بعد كلمة الاخلاص أفرض من الشهادة له بالرسالة، فمتى أقر له بوجوبها عند ذكر اسمه تذكر العبد الإيمان وموجبات هذه الشهادة فكان يجب على كل من ذكر اسمه أن يقول محمد رسول الله، ووجوب ذلك أظهر بكثير من وجوب الصلاة عليه كلما ذكر اسمه. ولكل فرقة من هاتين الفرقتين أجوبة عن حجج الفرقة المنازعة لها، بعضها ضعيف جدا وبعضها محتمل، وبعضها قوي، ويظهر ذلك لمن تأمل حجج الفريقين، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب"1. الموطن الثاني عشر من مواطن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة فعن أوس بن أوس2 قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة وفيه الصعقة، فاكثروا علي من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة علي".

_ 1 جلاء الأفهام (ص 294 الى 305) . 2 أوس بن أوس الثقفي، صحابي، سكن الشام ومات بها. الأصابة (1/ 92) وتهذيب التهذيب (1/ 381) .

قالوا: يارسول الله كيف تعرض عليك صلاتنا وقد أرمت؟ - يعني وقد بليت- فقال: "إن الله عز وجل حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء" 1

_ 1 أخرجه الإمام أحمد في المسند (4/ 8) وأخرجه اسماعيل القاضي في فضل الصلاة على النبي (ص 11) رقم 22. وأخرجه أبو داود في سننه (1/ 635) كتاب الصلاة، باب فضل يوم الجمعة وليلة الجمعة ح 1047. وأخرجه النسائي في السنن (3/ 91) كتاب الجمعة، باب ذكر فضل الجمعة. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1/ 195) أبواب إقامة الصلاة، باب فضل الجمعة ح 1071 وفي أبواب ما جاء في الجنائز باب ذكر وفاته ودفنه صلى الله عليه وسلم (1/ 300) ح 1637. وأخرجه الحاكم في المستدرك (4/ 60) وصححه ووافقه الذهبي. ورواه ابن حبان في صحيحه. انظر الورارد (550) . قال ابن القيم: "وقد أعله بعض الحفاظ بأن حسينا الجعفي حدث به عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن أبي الأشعت الصنعاني، عن أوس بن أوس، قال ومن تأمل هذا الإسناد لم يشك في صحته، لثقة رواته وشهرتهم وقبول الأئمة أحاديثهم وعلته: أن حسينا الجعفي لم يسمع من عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، وإنما سمع من عبد الرحمن بن يزيد بن تميم، وعبد الرحمن بن يزيد ابن تميم لا يحتج به، فلما حدث به حبن الجعفي غلط في اسم الجد، فقال ابن جابر، وقد بين ذلك الحفاظ ونبهوا عليه. فقال البخاري في التاريخ الكبير " (5/ 1365) عبد الرحمن بن يزيد بن تميم السلمي الشامى عن مكحول، سمع منه الوليد بن مسلم، عنده مناكير، ويقال: هو الذي روى عنه أبو أسامة وحسين الجعفي، وقالا: هو يزيد بن جابر، وغلطا في نسبه ونريد بن تميم أصح، وهو ضعيف الحديث. وقال الخطيب: روى الكوفيون أحاديث عبد الرحمن بن يزيد بن تميم، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ووهموا في ذلك، والحمل عليهم في تلك الأحاديث. وقال موسى بن هارون الحافظ: روى أبو أسامة عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر وكان ذلك وهنا منه، وهو لم يلق عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، وإنما لقي عبد الرحمن بن يزيد بن تميم، فظن أنه ابن جابر نفسه، وابن تميم ضعيف. وقد أشار غير واحد من الحفاظ إلى ما ذكره هؤلاء الأئمة. وجواب هذا التعليل من وجوه: أحدها: أن حسينا الجعفي قد صرح بسماعه له من عبد الرحمن بن يزيد بن جابر. قال ابن حبان في صحيحه: حدثنا ابن خزيمة، حدثنا أبو كريب، حدثنا حسين بن علي حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، فصرح بالسماع منه. وفولهم: إنه ظن أنه ابن جابر وإنما هو ابن تميم، فغلط في اسم جده بعيد، فإنه لم يكن يشببه على حسين هذا بهذا، مع نقده وعلمه بهما وسماعه منهما. فإن قيل: فقد قال عبد الرحمن بن أبي حاتم في كتاب "العلل" سمعت أبي يقول عبد الرحمن ابن يزيد بن جابر، لا أعلم أحدا من أهل العراق يحدث عنه، والذي عندي أن الذي يروي عنه أبو أسامة وحسين الجعفي واحد، وهو عبد الرحمن بن يزيد بن تميم لأن أبا أسامة روى عن عبد الرحمن بن يزيد، عن القاسم عن أبي أمامة خمسة أحاديث أو ستة أحاديث منكرة، لا يحتمل أن يحدث عبد الرحمن بن يزيد بن جابر بمثله، ولا أعلم أحدا من أهل الشام روى عن ابن جابر من هذه الأحاديث شيئا. وأما حسين الجعفي فإنه يروي عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن أبي الأشعث، عن أوس بن أوس عن النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الجمعة أنه قال: "أفضل الأيام يوم الجمعة، فيه الصعقة وفيه النفخة، وفيه كذا" وهو حديث منكر لا أعلم أحدا رواه غير حسين الجعفي، وأما عبد الرحمن بن-نريد بن تميم فهو ضعيف الحديث، وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر ثقة، تم كلامه. قيل: وقد تكلم في سماع حسين الجعفي، وأبي أسامة من ابن جابر فأكثر أهل الحديث أنكروا سماع أبي أسامة منه. قال شيخنا (أبو الحجاج المزي) في التهذيب: قال ابن نمير- وذكر أبا أسامة- فقال: الذي-يروي عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر يرى أنه ليس بابن جابر المعروف، ذكر لي أنه رجل يسمى باسم ابن جابر، قال يعقوب: صدق، هو عبد الرحمن ابن فلان بن تميم، فدخل عليه أبو أسامة فكتب عنه هذه الأحاديث فروى عنه، وإنما هو إنسان يسمى بابن جابر. قال يعقوب: وكأني رأيت ابن نمير يتهم أبا أسامة أنه علم ذلك وعرف ولكن تغافل عن ذلك قال: وقال لي ابن نمير أما ترى روايته لا تشبه سائر حديثه الصحاح الذي روى عنه أهل الشام وأصحابه؟ وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سكت محمد بن عبد الرحمن ابن أخي حسين الجعفي عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، فقال قدم الكوفة عبد الرحمن بن يزيد بن تميم وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر ثم قدم عبد الرحمن بن يزيد بن جابر بعد ذلك بدهر والذي يحدث عنه أبو أسامة ليس هو ابن جابر، بل هو ابن تميم وقال ابن داود سمع أبو أسامة من ابن المبارك عن ابن جابر وجميعا يحدثان عن مكحول، وابن جابر أيضا دمشقي، فلما قدم هذا قال: أخبرنا عبد الرحمن بن يزيد الدمشقي، وحدث عن مكحول، فظن أبو أسامة أنه ابن يزيد ابن جابر الذي روى عنه ابن المبارك وابن جابر ثقة مأمون يجمع حديثه، وابن تميم ضعيف. وقال أبو داود: متروك الحديث، حدث عنه أبو أسامة وغلط في اسمه، وقال: حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر الشامي وكل ما جاء عن أبي أسامة عن عبد الرحمن بن يزيد، فإنما هو ابن تميم. وأما رواية حسين الجعفي عن ابن جابر، فقد ذكر شيخنا في التهذيب وقال: روى عنه حسين بن علي الحعفي، وأبو أسامة حماد بن أسامة إن كان محفوظا فجزم برواية حسين عن ابن جابر، وشك في رواية حماد فهذا ما ظهر في جواب هذا التعليل. ثم بعد أن كتبت ذلك رأيت الدارقطني قد ذكر ذلك نصا فقال في كلامه على كتاب أبي حاتم في "الضعفاء" قوله: حسين الجعفي روى عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، وأبو أسامة- وي عن عبد الرحمن بن يزيد بن تميم. فيغلط في اسم جده، تم كلامه. وللحديث علة أخرى: وهي أن عبد الرحمن بن يزيد لم يذكر سماعه من أبي الأشعث. قال علي بن المديني،: حدثنا الحسين بن علي بن الجعفي، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر سمعته يذكر عن أبي الأشعث الصنعاني عن أوس بن أوس ... فذكره. وقال إسماعيل بن إسحاق في كتابه (ص 11) رقم 22 حدثنا على بن عبد الله ... فذكره. وليست هذه بعلة قادحة فإن للحديث شواهد من حديث أبي هريرة وأبي الدرداء، وأبي أمامة، وأبي مسعود الأنصاري، وأنس بن مالك والحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم انتهى كلام ابن القيم جلاء الأفهام (ص 69- 71)

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير يوم طلعت

فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم وفيه أهبط، وفيه تيب عليه، وفيه مات وفيه تقوم الساعة، وما من دابة إلا هي مصيخة1 يوم الجمعة، من حين تصبح حتى تطلع الشمس، شفقا من الساعة، إلا الجن والانس، وفيها ساعة لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي، يسأل الله شيئا إلا أعطاه الله إياه"2.

_ 1 مصيخة: أي مستمعة، مصغية. 2 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجمعة، باب فضل يوم الجمعة (3/ 6) وأخرجه الترمذي في سننه، أبواب الجمعة، باب ما جاء في فضل يوم الجمعة (2/ 359) ح 488. وأخرجه النسائي في سننه، كتاب الجمعة، باب ذكر فضل يوم الجمعة (3/ 89) . وأخرجه مالك في الموطأ (1/ 108) .

قال ابن القيم: "فهذا الحديث الصحيح مؤيد لحديث أوس بن أوس، دال على مثل معناه"1. وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: "قال رسول صلى الله عليه وسلم: "أكثروا الصلاة علي يوم الجمعة، فإنه يوم مشهود تشهده الملائكة، وإن أحدا لا يصلي عليّ إلا عرضت علي صلاته حتى يفرغ منها" قال: قلت بعد الموت؟ قال: "إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء" فنبي الله حي يرزق" 2. وعن أبي أمامة3 قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكثروا علي من الصلاة في كل يوم جمعة، فإن صلاة أمتى تعرض علي في كل يوم جمعة، فمن كان أكثرهم صلاة كان أقربهم مني منزلة" 4.

_ 1 جلاء الأفهام (ص 71) . 2 أخرجه ابن ماجة في سننه، أبواب ما جاء في الجنائز، باب ذكر وفاته ودفنه صلى الله عليه وسلم (1/ 300) 1638، وقال في الزوائد: هذا حديث صحيح، إلا أنه منقطع في موضعين لأن عبادة روايته عن أبي الدرداء مرسلة، قاله العلاء، وزيد بن أيمن عن عبادة مرسلة قاله البخاري. وقال السخاوي: أخرجه ابن ماجه ورجاله ثقات لكنه منقطع. وأخرجه الطبراني في الكبير بلفظ: "أكثروا الصلاة يوم الجمعة فإنه يوم مشهود تشهده الملائكة ليس من عبد يصلي علي إلا بلغتني صلاته حيث كان" قلنا وبعد وفاتك قال: "وبعد وفاتي إن الله تعالى حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء". وقال العراقي إن إسناده لا يصح. القول البديع (ص 164) . 3 صدي (بالتصغير) ابن عجلان بن الحارث الباهلي، أبو أمامة صحابي مشهور يكنيه، سكن الشام ومات بها سنة ست وثمانين. الأصابة (2/ 175- 176) . 4 أخرجه البيهقي في السنن (3/ 249) . وقال السخاوي: رواه البيهقي بسند حسن لا بأس به، إلا أن مكحولا قيل إنه لم يسمع من أبي أمامة في قول الجمهور. وقد رواه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس له فأسقط منه ذكر مكحول وسنده ضعيف القول البديع (ص 164) . وقال ابن القيم: ولكن لهذا الحديث علتان: إحداهما: أن برد بن سنان قد تكلم فيه، وقد وثقه يحى بن معين وغيره. العلة الثانية: أن مكحولا قد قيل إنه لم يسمع من أبي أمامة والله أعلم. جلاء الأفهام (ص 72- 73) .

وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكثروا الصلاة على يوم الجمعة، فإنه أتاني جبريل آنفا من ربه عز وجل فقال: ما على الأرض من مسلم يصلي عليك مرة واحدة إلا صليت أنا وملائكتي عليه عشرا" 1. وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أكثروا الصلاة علي يوم الجمعة فإن صلاتكم تعرض علي" 2. قال ابن القيم: "هذان وإن كانا ضعيفين فيصلحان للاستشهاد"3 وعنه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أكثروا الصلاة علي يوم الجمعة" 4 وكان الصحابة رضي الله عنهم يستحبون إكثار الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة. وعن زيد بن وهب5 قال: قال لي ابن مسعود رضي الله عنه: "يا زيد بن وهب لا تدع- إذا كان يوم الجمعة- أن تصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ألف مرة تقول: اللهم صل على محمد النبي الأمي"6. وعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أكثروا

_ 1 قال السخاوي: رواه الطبراني بسند لا بأس به في المتابعات، القول البديع (ص 162) . 2 أخرجه ابن عدي في الكامل (3/ 144) وسنده ضعيف، كما ذكر السخاوي فيه ثلاثة رواة ضعفاء هم: جبارة بن مغلس، وأبو إسحاق خازم، ويزيد الرقاشي. القول البديع (ص 162) . 3 جلاء الأفهام (ص 73) . 4 الكامل لابن عدي (3/ 1039) . 5 زيد بن وهب الجهني أبو سليمان الكوفي، رحل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقبض وهو في الطريق، ثقة جليل، كثير الحديث، توفي سنة ست وتسعين وقيل قبلها. تهذيب التهذيب (3/427) . 6 جلاء الأفهام (ص 73، 74) والقول البديع (ص 159) .

علي من الصلاة يوم الجمعة، فإنه ليس أحد يصلي علي يوم الجمعة إلا عرضت علي صلاته"1. وفي مراسيل الحسن2 عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أكثروا الصلاة علي يوم الجمعة فإنها تعرض علي" 3. وعن عمر بن عبد العزيز أنه كتب: "أن انشروا العلم يوم الجمعة فإن غائلة العلم النسيان، وأكثروا الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة"4. وهناك مواطن أخرى غير ما ذكرنا ذكرها ابن القيم في كتابه جلاء الأفهام5

_ 1 أورده السخاوي في القول البديع وقال: رواه الحاكم، وقال صحيح الإسناد والبيهقي في شعب الإيمان وحياة الأنبياء في قبورهم له، وابن أبي عاصم في فضل الصلاة له، وفي سنده أبو رافع وهو إسماعيل بن رافع وثقه البخاري وقال يعقوب بن سفيان يصلح حديثه للشواهد والمتابعات لكن قد ضعفه النسائي ويحي بن معين وقيل إنه منكر الحديث (ص 164) . وأورده ابن القيم في جلاء الأفهام (ص 310) وقال: وفيه إسماعيل بن رافع قال يعقوب بن سفيان: يصلح حديثه للشواهد والمتابعات. 2 الحسن البصري وقد تقدم ترجمته ص 269 3 أخرجه إسماعيل القاضي في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من وجهين انظر (ص 13) ح 28، ح 29، قال الألباني: حديث صحيح بشاهده عن أوس بن أوس. 4 أورده ابن القيم في جلاء الأفهام (ص 311) وعزاه لابن وضاح، والسخاوي في القول البديع (ص 199- 200) وعزاه لابن وضاح وابن بشكوال. 5 من المواطن التي ذكرها ابن القيم غير ما تقدم ما يلي: 1- الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم عند استلام الحجر الاسود. 2- الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم عند قبره. 3- الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم إذا خرج إلى السوق أو إلى دعوة أو غيرها. 4- الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم إذا قام الرجل من نوم الليل. 5- الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم عقب ختم القرآن. 6- الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم عند القيام من المجلس. 7- الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم عند المرور على المساجد ورؤيتها. 8- الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم عند الهم، والشدائد وطلب المغفرة. 9- الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم عند كتابة اسمه صلى الله عليه وسلم 10- الصلاة عليه في عند تبليغ العلم إلى الناس، والتذكير والقصص. 11- الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم في أول النهار وآخره. 12- الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم عقب الذنب إذا أراد أن يكفر عنه. 31- الصلإة عليه صلى الله عليه وسلم عند العطاس. 14- الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم بعد الفراغ من الوضوء. 15-- الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم عند دخول المنزل. 16- الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم في كل موطن يجتمع فيه لذكر الله سبحانه وتعالى. 17- الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم عقب الصلوات. 18- الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم عند النوم. 19- الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم في أثناء صلاة العيد.

وكذلك السخاوي في كتابه القول البديع، والفيروز أبادي في الصلات والبشر ممن أراد الاستزادة فليرجع إليها، وحسبي أني أشرت لأشهرها.

المطلب الرابع: فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

المطلب الرابع: فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن القيم: "إن طلب الصلاة من الله على رسوله صلى الله عليه وسلم هو من أجل أدعية العبد وأنفعها له في دنياه وآخرته"1 يدلك على ذلك ما جاء في فضلها من الأحاديث. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى على واحدة صلى عليه عشرا" رواه مسلم2. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة" رواه مسلم3. وعن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: قلت: "يارسول الله، إني أكثر الصلاة عليك، فكم أجعل لك من صلاتي؟ قال: "ما شئت". قلت: الربع؟ قال: "ما شئت، وإن زدت فهو خير. قلت: النصف؟ قال: "ما شئت، وإن زدت فهو خير". قلت: الثلثين؟ قال: "ما شئت وإن زدت فهو خير".

_ 1 بدائع الفوائد (2/ 190) . 2 تقدم تخريجه ص 381. 3 تقدم تخريجه ص 326.

قلت: أجعل لك صلاتي كلها؟ قال: "إذا تكفي همك ويغفر لك ذنبك"1 وللحديث طريق آخر عن يعقوب بن زيد بن طلحة التيمي2 قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتاني آت من ربي فقال: ما من عبد يصلي عليك صلاة إلا صلى الله عليه بها عشرا" فقام إليه رجل فقال: يارسول الله أجعل نصف دعائي لك؟ قال: "إن شئت" قال: ألا أجعل ثلثي دعائي لك؟ قال: "إن شئت" قال: ألا أجعل دعائي كله؟ قال: "إذن يكفيك الله هم الدنيا وهم الآخرة" 3 وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ذكرت عنده فليصل علي ومن صلى علي مرة صلى الله عليه عشرا" 4. وفي رواية "من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه عشر صلوات وحط

_ 1 تقدم تخريجه. 2 يعقوب بن زيد بن طلحة التيمي، أبو يوسف المدني، قاضي المدينة، ثقة قليل الحديث ومات في ولاية أبي جعفر. تهذيب التهذيب (11/ 385) . 3 أخرجه اسماعيل القاضي في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص 87) ح رقم 13 وقال: قال شيخ كان بمكة يقال له منيع لسفيان: عمن أسنده؟ قال: لا أدري، وقال الألباني في تعليقه: هذا مرسل صحيح الإسناد، ويشهد له الحديث الذي بعده- يعني الحديث الذي تقدم ذكره. 4 أخرجه النسائي في عمل أليوم والليلة (ص 165) ح رقم 61 باب ثواب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وابن السني في، عمل أليوم والليلة (ص135، 136) ح رقم 380

عنه عشر خطيئات" 1. وفي رواية "من صلّى علي صلاة واحدة صلى الله عليه عشر صلوات وحط عنه عشر سيئات، ورفعه بها عشر درجات"2. وفي رواية: "خرج النبي صلى الله عليه وسلم يتبرز، فلم يجد أحدا يتبعه فهرع عمر فاتبعه بمطهرة- يعني إداوة- فوجده ساجدا في شربة، فتنحى عمر فجلس وراءه حتى رفع رأسه قال: فقال: "أحسنت يا عمر حين وجدتني ساجدا فتنحيت عني إن جبريل عليه السلام أتاني فقال: من صلى عليك واحدة صلى الله عليه عشرا، ورفعه عشر درجات" 3 وأخرج هذا الحديث عن عمر بن الخطاب قال: "خرج النبي صلى الله عليه وسلم يتبرز، فاتبعته نإدواة، فوجدته قد فرغ، ووجدته ساجدا لله في شربة، فتنحيت عنه فلما فرغ،

_ 1 أخرجه الإمام أحمد في المسند (3/ 102، 261) . والبخاري في الأدب المفرد (ص 94، 95) باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. والنسائي في عمل اليوم والليلة (ص 166) ح 63 باب ثواب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرجه ابن حبان في صحيحه. انظر موارد الظمآن (2395) . 2 أخرجه النسائي في السنن (3/ 50) باب الفضل في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك في عمل اليوم والليلة (ص 165، 166) ح 62، ثواب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وأخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 550) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وكل من رواية "صلى الله عليه عشر صلوات وحط عنه عشر خطيئات". ورواية "صلى الله عليه عشر صلوات وحط عنه بها عشر سيئات، ورفعه بها عشر درجات" جاءت من طريق بريد بن أبي مريم وقد جاء في بعفى الروايات عن بريد بن أبي مريم عن الحسن عن أنس وفي بعضها عن بريد بن أبي مريم عن أنس، وقد ذكر ابن القيم أن هذه العلة لا تقدح فيه شيئا، لأن الحسن لاشك في سماعه من أنس، وقد صح سماع بريد بن أبي مريم من أنس أيضا هذا الحديث، فرواه ابن حبان في صحيحه موارد 2390 والحاكم في المستدرك (1/ 550) من حديث يونس بن أبي إسحاق، عن بريد بن أبي مريم، قال سمعت أنس بن مالك ... نذكره. ولعل بريدا سمعه من الحسن ثم سمعه من أنس، فحدث به على الوجهين، فإنه قال: كنت أزامل الحسن بن محمد، فقال حدثنا أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره، ثم إنه حدثه به أنس فرواه عنه كما تقدم". جلاء الأفهام (ص 56) . 3 أخرجه إسماعيل القاضي في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص 4) ح 4. وقال الألباني: إسناده ضعيف، ولكن المرفوع من الحديث صحيح له شواهد كثيرة. وأخرجه البخاري في الأدب المفرد (ص 94) باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.

رفع رأسه فقال: "أحسنت ياعمر حين تنحيت عني إن جبريل أتاني فقال: من صلى عليك صلاة صلى الله عليه عشرا ورفعه عشر درجات" 1. وعن عبد الرحمن بن عوف2 قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساجد فأطال السجود قال: "أتاني جبريل قال: من صلى عليك صليت عليه، ومن سلم عليك سلمت عليه، فسجدت لله شكرا" 3. وفي رواية " كان لا يفارق فيء النبي صلى الله عليه وسلم بالليل والنهار خمسة نفر من أصحابه أو أربعة لما ينوبه من حوائجه قال: فجئت فوجدته قد خرج فتبعته، فدخل حائطا من حيطان الأسواف4 فصلى فسجد سجدة أطال فيها، فحزن وبكيت فقلت: لأرى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قبض الله روحه، قال: فرفع رأسه، وتراءيت له، فدعاني، فقال: مالك؟ قلت: يارسول الله سجدت سجدة أطلت فيها فحزنت، وبكيت، وقلت: لأرى رسول الله

_ 1 أخرجه إسماعيل القاضي في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص 5) ح رقم 5. وأخرجه البخاري في الأدب المفرد (ص 94) عن أوس بن الحدثان عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكره. وهذا الحديث والذي قبله هما من طريق سلمة بن وردان وقال الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحه (2/ 503) ح رقم 829 وسلمة بن وردان ضعيف بغير تهمة، فيصلح للاستشهاد به وللحديث شاهد آخر من حديث عبد الرحمن بن عرف. 2 عبد الرحمن بن عوف الزهري، ولد بعد الفيل بعشر سنين وأسلم قبل دخول دار الأرقم، وهاجر الهجرتين وشهد المشاهد كلها، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد رجال الشورى الستة، توفي سنة 31 ص وقيل سنة 32 ص وهو الأشهر. الإصابة (2/408-410) . 3 أخرجه بهذا اللفظ إسماعيل القاضي في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص 5) ح 7 وأخرجه الإمام أحمد في المسند 1/191) ، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (2/ 287) (رراه أحمد ورجاله ثقات) . وأخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 222) وقال هذا حديث على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. 4 الأسراف بالفتح آخره "فاء" موضع شامي البقيع. وفاء الوفاء (4/ 1125) .

صلى الله عليه وسلم قد قبض الله روحه. قال: "هذه سجدة سجدتها شكرا لربي فيما آتاني في أمتي، من صلى علي صلاة كتب الله له عشر حسنات" 1. وفي رواية "إني سجدت هذه السجدة شكرا لله عز وجل في أبلاني في أمتي، فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا"2. وعن أبي طلحة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عليهم يوما يعرفون البشر في وجهه فقالوا: إنا نعرف الآن في وجهك البشر يارسول الله. قال: أجل أتاني الآن آت من ربي فأخبرني أنه لن يصلي علي أحد من أمتي إلا ردها الله عليه عشر أمثالها" 3. وفي رواية "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء يوما والبشر يرى في وجهه فقالوا: يارسول الله إنا نرى في وجهك بشرا لم نكن نراه، قال: أجل إنه أتاني ملك فقال يا محمد إن ربك يقول أما يرضيك ألا يصلي عليك أحد من أمتك إلا صليت عليه عشرا، ولا سلم عليك إلا سلمت عليه عشرا" 4.

_ 1 أخرجه بهذا اللفظ إسماعيل القاضي في فضل الصلاة على النبوي صلى الله عليه وسلم (ص 6- 7) ح 10. 2 أورده ابن القيم في جلاء الأفهام (ص 64) وعزاه لابن أبي الدنيا والسخاوي في القول البديع (ص 112) وعزاه لابن أبي عاصم وابن أبي الدنيا. 3 أخرجه اسماعيل القاضي فى فضل الصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم ص 3 ح رقم 1 4 أخرجه الأمام أحمد في المسند (4/ 30) . وإسماعيل القاضي، في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص 3- 4) ح 2، والنسائي في السنن (3/ 44 و 50) كتاب الصلاة، باب فضل التسليم على النبي صلى الله عليه وسلم، وباب الفضل في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. وكذلك أخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة، باب ثواب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وقال الحافظ ابن حجر (رواته ثقات) فتح الباري (11/167) وأخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 550) وابن حبان في صحيحه (2391) موارد.

وفي رواية "أصبح رسول لله صلى الله عليه وسلم يوما طيب النفس يرى في وجهه البشر. قالوا: يارسول الله أصبحت اليوم طيب النفس يرى في وجهك البشر. قال: أجل أتاني آت من ربي عز وجل فقال: من صلى عليك من أمتك صلاة كتب الله له بها عشر حسنات ومحا عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات ورد عليه مثلها" 1. وعن أبي بردة بن نيار2 قال: قال رسول لله صلى الله عليه وسلم "من صلى علي من أمتي صلاة مخلصا من قلبه، صلى الله عليه بها عشر صلوات، ورفعه بها عشر دارجات، كتب له بها عشر حسنات ومحا عنه عشر سيئات" 3. وعن فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال: "سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يدعو في صلاته لم يمجد الله، ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله لجمحا: عجل هذا" ثم دعاه فقال له أو لغيره: "إذا صلى أحدكم فليبدأ بتمجيد الله والثناء عليه ثم يصلي علي،

_ 1 أخرجه بهذا اللفظ الإمام أحمد في المسند (4/ 29) . قال الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (2/ 503) ح رقم 829 عن رواية أحمد هذه "وهذا إسناد ضعيف، لسوء حفظ أبي معشر، وإسحاق بن كعب مجهول الحال فهر إسناد لا بأس به في الشواهد والمتابعات" انتهي كلامه والحديث له شواهد متعددة سبق ذكر بعضها. 2 هانىء بن نيار بن عمرو البلوي أبو بردة بن نيار حليف الأنصار، خال البراء بن عازب مشهور بكنيته وقيل اسمه الحرث وقيل مالك والأول أشهر، صحابي جليل شهد بدرا وما بعدها، مات في أول خلافة معاوية. الإصابة (3/ 565) – (4/19) . 3 أخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة (ص 166، 167) ح رقم 64، باب ثواب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وقال ابن حجر: رواته ثقات. فتح الباري (11/ 167) . وأورده ابن القيم في جلاء الأفهام (ص 83، 84) وعزاه للطبراني في المعجم الكبير وابن أبي عاصم في كتاب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.

ثم يدعو بما شاء" 1. وفي رواية: "سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يدعو في صلاته لم يمجد الله ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "عجلت أيها المصلي" ثم علمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يصلي فمجد الله وحمده وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ادع تجب وسل تعط" 2. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة" 3 فالمتأمل في هذه الأحاديث يعرف عظم فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في الباب الرابع من كتابه القيم جلاء الأفهام عددا من الفوائد والثمرات الحاصلة بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم أنتقى منها ما يلي: الفائدة الأولى: امتثال أمر الله تعالى. الثانية: موافقته سبحانه في الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، وإن اختلفت الصلاتان، فصلاتنا عليه دعاء وسؤال، وصلاة الله تعالى عليه ثناء وتشريف.

_ 1 تقدم تخريجه (ص 535) . 2 سنن النسائي (3/ 44) باب التمجيد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم قال الألباني في صحيح سنن النسائي، صحيح الترمذي (3724) 3 أخرجه الترمذي في سننه (2/ 354) باب ما جاء في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم رقم 484 وقال الترمذي هذا حديث حسن غريب. وأخرجه ابن حبان في صحيحه. انظر موارد الظمآن (2389) . وأورده ابن القيم في جلاء الأفهام وعزاه كذلك إلى البزار والبغوي جلاء الأفهام (ص 53) . وقال ابن حجر في الفتح (11/ 167) وله شاهد عند البيهقي عن أبي أمامة بلفظ "صلاة أمتي تعرض على في كل يوم جمعة فمن كان أكثرهم علي صلاة كان أقربهم مني منزلة" ولا بأس بسنده انتهي كلامه.

الثالثة: موافقة ملائكته فيها. الرابعة: حصول عشر صلوات من الله على المصلي مرة. الخامسة: أنه يرفع عشر درجات. السادسة: أنه يكتب له عشر حسنات. السابعة: أنه يمحي عنه عشر سيئات. الثامنة: أنه يرجى إجابة دعائه إذا قدمها أمامه، فهي تصاعد الدعاء إلى عند رب العالمين. التاسعة: أنها سبب لشفاعته صلى الله عليه وسلم إذا قرنها بسؤال الوسيلة له. العاشرة: أنها سبب لغفران الذنوب. الحادية عشرة: أنها سبب لكفاية الله العبد ما أهمه. الثانية عشرة: أنها سبب لقرب العبد منه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة. الثالثة عشرة: أنها سبب لدوام محبته للرسول صلى الله عليه وسلم وزيادتها وتضاعفها، وذلك عقد من عقود الإيمان الذي لا يتم إلا به، لأن العبد كلما أكثر من ذكر المحبوب، واستحضاره في قلبه، واستحضار محاسنه ومعانيه الجالبة لحبه، تضاعف حبه له وتزايد شوقه إليه، واستولى على جميع قلبه، وإذا أعرض عن ذكره وإحضار محاسنه بقلبه، نقص حبه من قلبه، ولا شيء أقر لعين المحب من رؤية محبوبه، ولا أقر لقلبه من ذكره وإحضار محاسنه فإذا قوي هذا في قلبه جرى لسانه بمدحه والثناء عليه وذكر محاسنه، وتكون زيادة ذلك ونقصانه بحسب زيادة الحب ونقصانه في قلبه، والحس شاهد بذلك. فقلب المؤمن توحيد الله وذكر رسوله مكتوبان فيه لا يتطرق إليهما محو ولا إزالة ودوام الذكر سبب لدوام المحبة، فالذكر للقلب كالماء للزرع، بل كالماء للسمك، لا حياة له إلا به ...

الرابعة عشرة: أن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم سبب لمحبته للعبد، فإنها إذا كانت سببا لزيادة محبة المصلي عليه له، فكذلك هي سبب لمحبته هو للمصلى عليه صلى الله عليه وسلم. الخامسة عشرة: أنها سبب لهداية العبد وحياة قلبه، فإنه كلما أكثر الصلاة عليه وذكره، استولت محبته على قلبه، حتى لألقى في قلبه معارضة لشيء من أوامره ولاشك في شيء مم اجاء به، بل يصير ما جاء به مكتوبا مسطورا في قلبه لا يزال يقرؤه على تعاقب أحواله، ويقتبس الهدى والفلاح وأنواع العلوم منه، وكلما ازداد في ذلك بصيرة وقوة ومعرفة ازدادت صلاته عليه صلى الله عليه وسلم. ولهذا كانا صلاة أهل العلم- العارفين بسنته وهديه المتبعين له عليه، خلاف صلاة العوام عليه الذين حظهم منها إزعاج أعضائهم بها ورفع أصواتهم. وأما أتباعه العارفون بسنته العالمون بما جاء به فصلاتهم عليه نوع آخر، فكلما ازدادوا فيما جاء به معرفة ازدادوا له محبة ومعرفة بحقيقة الصلاة المطوبة له من الله. وهكذا ذكر الله سبحانه، كلما كان العبد به أعرف وله أطوع وإليه أجل كان ذكره غير ذكر الغافلين واللاهين، وهذا أمر إنما يعلم بالخبر لا بالحبر وفرق بين من يذكر صفات محبوبه الذي قد ملك حبه جميع قلبه ويثني عليه بها ويمجده بها، وبين من يذكرها إما إمارة وإما لفظا، لا يدري ما معناه، ولا يطابق فيه قلبه لسانه، كما أنه فرق يين بكاء النائحة وبكاء الثكلى. فذكره وذكر ما جاء به، وحمد الله تعالى على إنعامه علينا ومنته بإرساله هو حياة الوجود وروحه، كما قيل: روح المجالس ذكره وحديثه ... وهدى لكل ملدد حيران وإذا أخل بذكره في مجلس ... فأولئك الأموات في الحيان

السادسة عشرة: أنها سبب لعرض اسم المصلي عليه صلى الله عليه وسلم وذكره عنده، كما تقدم قوله صلى الله عليه وسلم "إن صلاتكم معروضة علي" وكفى بالعبد نبلا أن يذكر اسمه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. السابعة عشرة: أن الصلاة عليه لا أداء لأقل القليل من حقه، وشكر له على نعمته التي أنعم الله لا علينا، مع أن الذي يستحقه من ذلك لا يحصى علما ولا قدرة ولا إرادة، ولكن الله سبحانه لكرمه رضي من عباده باليسير من شكره وأداء حقه. الثامنة عشرة: أنها متضمنة لذكر الله وشكره، ومعرفة إنعامه على عبده بإرساله، فالمصلي عليه صلى الله عليه وسلم قد تضمنت صلاته عليه ذكر الله وذكر رسوله، وسؤاله أن يجزيه بصلاته عليه ما هو أهله، كما عرفنا ربنا أسماءه وصفاته، وهدانا إلى طريق مرضاته، وعرفنا ما لنا بعد الوصول إليه والقدوم عليه، فهي متضمنة لكل الإيمان، بل هي متضمنة للإقرار بوجود الرب المدعو وعلمه وسمعه وقدرته وإرادته وصفاته وكلامه، وإرسال رسوله وتصديقه في أخباره كلها، وكمال محبته، ولا رضا أن هذه هي أصول الإيمان، فالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم متضمنة لعلم العبد ذلك، وتصديقه به، ومحبته له، فكانت من أفضل الأعمال. التاسعة عشرة: أن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم من العبد هي دعاء، ودعاء العبد وسؤاله من ربه نوعان: أحدهما: سؤاله حوائجه ومهماته، وما ينوبه في الليل والنهار فهذا دعاء وسؤال، وإيثار لمحبوب العبد ومطلوبه. الثاني: سؤاله أن يثني على خليله وحبيبه، ويزيد في تشريفه وتكريمه.

وإيثار ذكره، ورفعه، ولا ريب أن الله تعالى يحب ذلك ورسوله يحبه، فالمصلي عليه صلى الله عليه وسلم قد صرف سؤاله ورغبته وطلبه إلى محاب الله ورسوله، وآثر ذلك على طلبه وحوائجه ومحابه هو، بل كان هذا المطلوب من أحب الأمور إليه وآثرها عنده، فقد آثر ما يحبه الله ورسوله على ما يحبه هون وقد آثر الله ومحابه على سواه، والجزاء من جنس العمل، فمن آثر الله على غيره آثره الله على غيره. واعتبر هذا بما تجد الناس يعتمدونه عند ملوكهم ورؤسائهم إذا أرادوا التقرب والمنزلة عندهم، فإنهم يسألون المطاع أن ينعم على من يعلمونه أحب رعيته إليه، وكلما سألوه أن يزيد في حبائه وإكرامه وتشريفه، علت منزلتهم عنده، وازداد قربهم منه، وحظوا به لديه، لأنهم يعلمون منه إرادة الإنعام والتشريف والتكريم لمحبوبهم، فأحبهم إليه أشدهم له سؤالا ورغبة أن يتم عليه إنعامه وإحسانه، وهذا أمر مشاهد بالحس، ولا تكون منزلة هؤلاء ومنزلة من سأل المطاع حوائجه هو – وهو فارغ من سؤاله تشريف محبوبه والإنعام عليه – واحدة. فكيف باعظم محب وأله لأكرم محبوب وأحقه بمحبه ربه له.؟ ولو لم يكن من قفوائد الصلاة عليه إلا هذا المطلوب وحده لكفى المؤمن به شرفا1. وكما وردت أحاديث تذم تارك الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي، ورغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ

_ 1 جلاء الأفهام (ص 335، 344) بتصرف.

قبل أن يغفر له، ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر فلم يدخلاه الجنة"1 وعن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي" 2. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من نسي الصلاة علي خطىء طريق الجنة" 3.

_ 1 تقدم تخريجه ص 472 2 تقدم تخريجه ص 328 3 تقدم تخريجه ص 548

المبحث الثالث: السلام عليه صلى الله عليه وسلم

المبحث الثالث: السلام عليه صلى الله عليه وسلم المطلب الأول: الأدلة على مشروعية السلام على النبي صلى الله عليه وسلم ... المطلب الأول: الأدلة على مشروعية السلام على النبي صلى الله عليه وسلم إن نصوص الكتاب والسنة متظاهرة بأن الله أمرنا أن نصلي على النبي ونسلم عليه صلى الله عليه وسلم1. أما في القرآن: فقد أمر الله عباده المؤمنين أن يسلموا على نبيهم مع أمره لهم بالصلاة عليه فقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} 2.والشاهد من الآية معنا هو قوله عز وجل: {وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} فهذا نص في مشروعية السلام على النبي صلى الله عليه وسلم، وبيان لحق من حقوقه صلوات الله وسلامه عليه، وإظهار لشرفه ورفعة منزلته. والآية في جملتها فيها من تشريف الله وتكريمه ما لا يوجد في غيرها من الآيات. وأما في السنة: فقد جاء تشريع السلام عليه صلى الله عليه وسلم مع تعليمهم التشهد الذي كان متقدما على تعليمهم الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم. فتعليم الصلاة عليه إنما كان بعد نزول الآية فلهذا سأل الصحابة عن كيفية الصلاة ولم يسألوا عن كيفية السلام فقالوا: يارسول الله قد علمنا كيف نسلم

_ 1 قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (ص 159) . 2 الآية (56) كا سورة الأحزاب.

عليك فكيف نصلى عليك1 فقولهم "قد علمنا كيف نسلم عليك" إشارة إلى السلام الذي في التشهد وهو قول "الكلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته"2. قد بينت السنة المواطن التي يشرع فيها ال سلام على النبي صلى الله عليه وسلم. فالسلام على النبي صلى الله عليه وسلم مشروع في التشهد عند كل صلاة ففي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "كنا إذا كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة قلنا: السلام على الله من عباده السلام على فلان وفلان. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تقولوا السلام على لله، فإن الله هو السلام، ولكن قولوا: التحيات لله الصلوات الطيبات، والسلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين- فإنكم إذا قلتم أصاب كل عبد في السماء أو بين السماء والأرض أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، ثم يتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو" 3. وشرع السلام كذلك عند دخول المسجد والخروج منه. فعن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دخل أحدكم المسجد فليقل: بسم الله والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك.

_ 1 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الدعوات، باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم صح الباري (11/152) ح 6357 2 فتح الباري (11/ 155) . 3 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأذان، باب ما يتخير من الدعاء بعد التشهد. وليس بواجب. فتح الباري (2/320) ح 835. وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الصلاة، باب التشهد في الصلاة (2/ 13) .

وإذا خرج قال: بسم الله والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك" 1. وقد ورد كذلك في فضل السلام على النبي صلى الله عليه وسلم عدد من الأحاديث أورد بعضا منها هنا: 1- عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن لله في الأرض ملائكة سياحين يبلغوني من أمتي السلام" 2. 2- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من أحد يسلم علي إلا رد الله عز وجل إلى روحي حتى أرد عليه السلام" 3.

_ 1 تقدم تخريجه ص 536. 2 أخرجه الإمام أحمد في المسند (1/ 387، 1 44، 452) . وأخرجه النسائي ني السنن، كتاب السهو، باب السلام على النبي صلى الله عليه وسلم (3/ 43) . وأخرجه أيضا في اليوم الليلة، فضل السلام على النبي صلى الله عليه وسلم ح 66. وأخرجه الدارمي في السنن، كتاب الرقائق، باب فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (2/ 317) ح 2777، وأخرجه ابن حبان في صحيحه، كتاب الأدعية، باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. انظر: موارد الضمآن (ح 2393) . وأخرجه إسماعيل القاضي في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص 11) ح 21، وقال ابن القيم في جلاء الأفهام (ص 54) : إسناده صحيح. 3 أخرجه الإمام أحمد في المسند (2/ 527) . وأخرجه أبو داود في سننه، كتاب المناسك، باب زيارة القبور (2/ 534) ح 41 0 2، وعزاه السخاوي في القول البديع (ص 161) إلى الطبراني والبيهقي أيضا والحديث لا يسلم من مقال في إسناده. قال ابن عبد الهادى: أما المقال في إسناه فمن جهة تفرد أبي صخر به عن ابن قسيط عن أبي هريرة. ولم يتابع ابن قسيط أحد في روايته عن أبي هريرة ولا تابع أبا صخر أحد في روايته عن ابن قسيط. الصارم المنكي (ص 250) وحميد بن زياد أبو صخر، ويزيد بن عبد الله بن قسيط فيهما كلام قال ابن عبد الهادي: وأبو صخر حميد بن زياد قد اختلف الأئمة في عدالته والاحتجاج بخبره مع الاضطراب في اسمه وكنيته واسم أبيه، فما تفرد به من الحديث ولم يتابعه عليه أحد لا ينهض الى درجة الصحة بل يستشهد به ويعتبر به. انتهي كلامه. وهذا الحديث مما تفرد به كما سبق بيانه من كلام ابن عبد الهادى. وقد ذكر ابن عبد الهادي أقوال أئمة الجرح والتعديل في كل من حميد بن زياد أبي صخر ويزيد بن عبد الله بن قسيط وقال في نهاية نقله والحديث إسناده مقارب وهو صالح أن يكون متابعا لغيره عاضدا له والله أعلم. الصارم المنكى (ص 259) .

3- وقد تقدم حديث عبد الرحمن بن عوف عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أتاني جبريل فقال: من صلى عليك صليت عليه، ومن سلم عليك سلمت عليه" 1 4- وكذلك حديث أبي طلحة وفيه "أما يرضيك ألا يصلي عليك أحد من أمتك إلا صليت عليه عشرا، ولا سلم عليك، إلا سلمت عليه عشرا" 2. وبما تقدم من نصوص يعلم أن السلام هو حق من الحقوق التي للنبي صلى الله عليه وسلم على أمته، والمسلم مأمور بالقيام بهذا الحق حيث كما إن إما مطلقا، وإما عند الأسباب المؤكدة لذلك كما في التشهد وعند الدخول إلى المسجد أو الخروج منه. وهذا السلام فيه من الخاصية للنبي صلى الله عليه وسلم والفضل على هذه الأمة ما فيه. أما الخاصية التي فيه للنبي صلى الله عليه وسلم. فالأمر بالسلام عليه صلى الله عليه وسلم مع الغيبة من خصائصه التي خصه الله بها، فلم يرد في الشرع الأمر بالسلام على معين مع مغيبه إلا عليه صلى الله عليه وسلم وذلك كما في التشهد فليس فيه سلام على معين إلا عليه وكذلك عند دخول المسجد والخروج منه3. وأما الفضل الذي جعله الله لهذه الأمة بهذا السلام فهو جعله سبحانه وتعالى

_ 1 تقدم تخريجه ص 564. 2 تقدم تخريجه ص 565 3 مجموع الفتاوى (27/412) .

هذا السلام مطلقا لا يتكلف فيه المرء قطع المسافة ولا يشترط فيه اللقاء به في حياته أو المجيء إلى قبره بعد وفاته. فالمسلم يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم في أي مكان في هذه الدنيا وفي أي وقت وزمان يشاء وهذا من الفضل والنعمة التي امتن الله بها علينا.

المطلب الثاني: السلام على النبي صلى الله عليه وسلم عند حجرته التي دفن فيها

المطلب الثاني: السلام على النبي صلى الله عليه وسلم عند حجرته التي دفن فيها وهذه المسألة أشكلت على كثير من الناس، ولكن الذي ينبغي على من أراد أن يعرف الحق ودين الإسلام، أن يتأمل في النصوص النبوية الواردة في جوانب هذه المسألة، وأن يعرف ما كان يفعله الصحابة والتابعون وما قاله أئمة المسلمين، ليعرف ما هو المشروع وما هو المبتدع وما هو مجمع عليه وما هو متنازع فيه. وسيرا على هذا الأساس فسأعرض هذه المسألة بشيء من التوسع متناولا في ذلك عددا من الجوانب التي جاءت بها النصوص الشرعية بغرض إبراز أمور هامة قد تخفى على كثير من الناس ويغفلون عنها، وهي أمور على درجة كبيرة من الأهمية إذ على أساسها ينبني اللهم الصحيح الموافق لنصوص الشرع في هذه المسألة. وقد قسمت هذا المطلب إلى نقاط ختمتها بذكر خلاصة لأقوال العلماء في عدد من المسائل الواردة في هذا الشأن. النقطة الأولى: لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم نص صحيح صريح يأمر فيه أمته بالسلام عليه عند قبره فالمتأمل للنصوص الواردة في شأن السلام عليه صلى الله عليه وسلم - والتي سبق إيرادها- لا يجد فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم قد خص قبره بالسلام، كما قد ورد تخصيص التشهد بالسلام عليه وكذا الدخول إلى المسجد والخروج منه. وهنا يحسن توضيح الأمور الهامة التالية:

1- أن عدم التخصيص للقبر بالسلام فيه إظهار لخاصية اختص بها النبي صلى الله عليه وسلم لا يماثله فيها أحد من الخلق. فالمقصود عند قبر غيره من الدعاء له هو مأمور له في حق الرسول صلى الله عليه وسلم في الصلوات الخمس وعند دخول المساجد والخروج منها. فالله عز وجل فضله بهذا الأمر على غيره، وأغناه بذلك عما يفعل عند قبور غيره1. 2- أن الذي تدل عليه نصوص السلام عليه صلى الله عليه وسلم أن هذا السلام يستوى فيه القريب والبعيد، وهذا أمر اختص به النبي صلى الله عليه وسلم. ولهذا قال الحسن بن الحسن بن على بن أبي طالب2 لذلك الرجل الذي رآه يختلف إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو عنده. فقال له: يا هذا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي فإن صلاتكم حيثما كنتم تبلغني"3 فما أحط ورجل بالأندلس منه إلا سواء. فالحسن بن الحسن- شيخ أهل بيته- وغيره لا يفرقون بين أهل المدينة والغرباء ولا بين المسافر وغيره ولا يرون في السلام عليه عند قبره مزية4 فالسلام يصل إليه من مشارق الأرض ومغاربها.

_ 1 الصارم المنكي (ص 54) . 2 الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب الهاشمي، المدني الامام أبو محمد، وهو قليل الرواية مع صدقه وجلالته، توفي سنة تسع وتسعين وقيل سبع وتسعين للهجرة. سير أعلام النبلاء (4/ 483، 487) . 3 أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (7626) . وأخرجه إسماعيل القاضي في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص 13- 14) ح30 وقال الألباني بهامشه: حديث صحيح. وابن عساكر (4/ 217/ أ) . وأورده الذهبي في سير أعلام النبلاء (4/ 483- 484) . وعزاه الألباني في تحذير الساجد (ص 141) إلى ابن خزيمة في حديث علي بن حجر (4/ رقم 48) . 4 الرد على الأخنائي (ص 146) .

وهذا من فضل الله على هذه الأمة فالمسلم في أي بقعة من الأرض له أن يقوم بهذا الحق للنبي صلى الله عليه وسلم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ثبت بالسنة واتفاق الأمة أن كل ما يفعل من الأعمال الصالحة في المسجد عند حجرته من صلاة عليه وسلام وثناء وإصام وذكر محاسن وفضائل، ممكن فعله في سائر الأماكن، ويكون لصاحبه من الأجر ما يستحقه، كما قال: "لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم". ولو كان للأعمال عند القبر فضيلة لفتح للمسلمين باب الحجرة، ولما منعوا من الوصول إلى القبر"1. "فالله سبحانه خص رسوله صلى الله عليه وسلم بما خصه به تفضيلا له وتكريما لما يجب من حقه على كل مسلم في كل موضع، فإن الله أوجب الإيمان به ومحبته وموالاته ونصره وطاعته واتباعه على كل أحد في كل مكان، وأمر من الصلاة عليه والسلام عليه في كل مكان ومن سؤال الوسيلة له عند كل أذان ومن ذكر فضائله ومناقبه وما يعرف به قدر نعمة الله به على أهل الأرض، وأن الله لم ينعم على أهل الأرض نعمة أعظم من إرسال محمد صلى الله عليه وسلم إليهم، وأنه هو أولى بالمؤمبن من أنفسهم، وأنه لا يؤمن العبد حتى يكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين، بل حتى يكون أحب إليه من نفسه إلى غير ذلك من حقوقه، وكل هذه مشروعة فى جميع البقاع ليس منها شىء يختص بالقبر ولا بما هو قريب من القبر. ولا شرع للناس أن يكون قيامهم بهذه الحقوق عند القبر أفضل من قيامهم بها في بلادهم. بل المشروع أن يقوموا بها في كل مكان. ومن قام بها عند القبر وفتر عن القيام بها في بلده كما يوجد في بعض

_ 1 الجامع الفريد (ص 396) .

الناس يوجد من محبته وتعظيمه وثنائه ودعائه للرسول عند قبره أعظم مما يوجد في بلده وطريقه، فهذه حالة منقوصة غير محمودة، وصاحبها منحوس الحظ ناقص النصيب وهو ناقص الدين والإيمان إما بترك واجب يأثم بتركه وإما بترك مستحب تنقص درجته بتركه بخلاف من من الله عليه فجعل محبته وثناءه وتعظيمه ودعاءه للرسول في بلده مثل ما إذا كان بالمدينة عند قبره أو أعظم. فهذه هي الحالة المحمودة المشروعة وهي حال الصحابة والتابعين لهم ياحسان إلى يوم القيامة، لا يعرف عن أحد منهم أنه كان يزيد حبه وتعظيمه ودعاؤه وثناؤه عند القبر، ولهذا لم يكونوا يأتونه لأن قيامهم بما يجب من حقوق الرسول في جميع الأمكنة سواء. وقد نهى عن تخصيص القبر بذلك وأن يتخذوه عيدا ومسجدا لأنه مظنة أن يتخذ وثنا ويفضي إلى الشرك ومظة أن ينقص قيامهم بحقه في سائر البقاع إذا خصوا تلك البقعة بمزيد القيام، كما أن المشاعر لما خصت بالعبادات فالمؤمن تجد إيمانه فيها أعظم من إيمانه في غيرها، والرسول صلى الله عليه وسلم حقه في جميع البقاع سواء ولكن تتنوع حقوقه بحسب الأحوال، ولهذا إذا اعتبرت أحوال الناس كان من يعظم النبي صلى الله عليه وسلم كند قبره مقصرا في حقوقه التي أمر بها في سائر البقاع بحسب ما زاد عند القبر. وهذا أمر مطرد معروف من جميع أحوال الناس. ولما كان السابقون الأولون أقوم بحقوقه في جميع المواضع كانوا أبعد الناس عن، تخصيص القبر بشيء، والخلفاء الراشدون ونحوهم لما كانوا أقوم بحقوقه من غيرهم لم يفعلم ما فعله ابن عمر ونحوه، فأبوه عمر كان أقوم بحقه صلى الله عليه وسلم منه وكان ينهي أن يقصد الصلاة في موضع صلي فيه النبي صلى الله عليه وسلم خلاف ما

فعله ابنه عبد الله مع فضله ودينه رضي الله عنهم أجمعين"1. فمن يجد قلبه عند قبر الرسول أكثر محبة له وتعظيما، ولسانه أكثر صلاة عليه وتسليما مما لايجده في سائر المواضع، كان ذلك دليلا على أنه ناقص الحظ منحوس النصيب من كمال المحبة والتعظيم وكان فيه من نقص الإيمان وانخفاض الدرجة بحسب هذا التفاوت، بل المأمور به أن تكون محبته وتعظيمه وصلاته وتسليمه عند غير القبر أعظم فإن القبر قد حيل بين الناس وبينه. فمن لم يجد إيمانه به ومحبته له وتعظيمه له وصلاته عليه وتسليمه عليه إذا كان في بلده أعظم مما يكون لو كان في نفس الحجرة من داخل، فهو ناقص الحظ من الدين وكمال الإيمان واليقين، فكيف إذا لم يكن من داخل بل من خارج؟ هذا والله أعلم2. 3- أن عدم تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم للقبر بالسلام ولا بغيره من العبادات هو لما في ذلك من مظنة اتخاذه وثنا أو عيدا فيفضي ذلك إلى الشرك، والمعروف عنه صلى الله عليه وسلم أنه حريص على سد كل ذريعة قد توصل إلى الشرك. وسيأتي توضيح هذه المسألة في النقطة الثالثة بإذن الله. النقطة الثانية: الأحاديث الواردة في زيارة قبره كلها موضوعة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث واحد في زيارة قبر مخصوص، ولا روى أحد في ذلك شيئا، لا أهل الصحاح ولا السنن ولا الأئمة المصنفون في المسانيد كالإمام أحمد وغيره، وإنما روى هذه

_ 1 الرد على الأخنائي (ص 74- 76) . 2 الرد على الأخنائي (ص 97- 98) .

الأحاديث من جمع الموضوع وغيره"1. وقال أيضا: "وأما قوله: "من زار قبري فقد وجبت له شفاعتي". وأمثال هذا الحديث مما روي في زيارة قبره صلى الله عليه وسلم فليس منها شيء صحيح2 ولم يروها أحد من أهل الكتب المعتمدة لا أصحاب الصحيح كالبخاري ومسلم. ولا أصحاب السنن كأبي داود والنسائي ولا الأئمة من أهل المسانيد: كالإمام أحمد وأمثاله، ولا اعتمد على ذلك أحد من أئمة الفقه كمالك والشافعي وأحمد، وإسحاق بن راهويه، وأبي حنيفة، والثوري، والأوزاعي وأمثالهم. بل عامة هذه الأحاديث مما يعلم أنها كذب موضوعة، كقوله "من زارني وزار أبي في عام واحد ضمنت له على الله الجنة" وقوله "من حج ولم يزرني فقد جفاني" فإن هذه الأحاديث ونحوها كذب. وقال أيضا: وما ذكروه من الأحاديث في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم فكلها ضعيفة باتفاق أهل العلم بالحديث، بل هي موضوعة لم يرو أحد من أهل السنن العتمدة شيئا منها ولم يحتج أحد من الأئمة بشيء منها، بل مالك- إمام أهل المدينة النبوية الذين هم أعلم الناس بحكم هذه المسألة- كره أن يقول الرجل زرت قبره صلى الله عليه وسلم ولو كان هذا اللفظ معروفا عندهم، أو مشروعا، أو مأثورا

_ 1 اقتضاء الصراط المستقيم (ص 400) . 2 جمع الإمام الحافظ محمد بن أحمد بن عبد الهادى في كتابه الصارم المنفي في الرد على السبكي، الأحاديث التي وردت في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وبين درجتها ورد على من احتج بها وكذلك الشيخ حماد الأنصاري في رسالة له سماها كشف الستر عما ودد في السفر إلى القبر الأحاديث الواردة في هذه المسألة ويين حكمها.

عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكرهه عالم المدينة1. ومما يوضح هذا أنه لم يعرف عن أحد من الصحابة أنه تكلم باسم زيارة قبره لا ترغيبا في ذلك ولا غير ترغيب، فعلم أن مسمى هذا الاسم لم يكن له حقيقة عندهم2. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ولا أعرف عن أحد من الصحابة أنه تكلم بلفظ زيارة قبره ألبتة، فلم يكن هذا اللفظ معروفا عندهم3. ولهذا كره من كره من العلماء إطلاق هذا الاسم. "والذين أطلقوا هذا الاسم من العلماء إنما أرادوا به إتيان مسجده والصلاة فيه والسلام عليه فيه إما قرنا من الحجرة وإما بعيدا عنها إما مستقبلا للقبلة وإما مستقبلا للحجرة. وليطر في أئمة المسلمين لا الأربعة ولا غيرهم من احتج على ذلك بلفظ روى في زيارة قبره. بل إنما يحتجون بفعل ابن عمر مثلا وهو أنه "كان يسلم" أو بما روي عنه من قوله صلى الله عليه وسلم "ما من رجل يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام" وذلك احتجاج بلفظ السلام لا بلفظ الزيارة. وليس في شىء من مصنفات المسلمين التي يعتمدون عليها في الحديث والفقه أصل عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه في زيارة قبره. أما أكثر مصنفات جمهور العلماء فليس فيها استحباب شيء من ذلك بل

_ 1 الجامع الفريد- كتاب الزيارة (ص 395، 396) . 2 الرد على الأخنائي (ص 137) . 3 الرد على الأخنائي (ص 137) .

يذكرون المدينة وفضائلها وأنها حرم ويذكرون مسجده وفضله وفضل الصلاة فيه والسفر إليه وإلى المسجد الحرام ونذر ذلك ونحو ذلك من المسائل ولا يذكرون اسستحباب زيارة قبره لا بهذا اللفظ ولا بغيره فليس في الصحيحين وأمثالهما شيء من ذلك ولا في عامة السنن مثل النسائي والترمذي وغيرهما ولا في مسند الشافعي وأحمد وإسحاق ونحوهبم من الأئمة. وطائفة أخرى ذكروا ما يتعلق بالقبر لكن بغير لفظ زيارة قبره، كما روى مالك في الموطأ عن ابن عمر أنه كان يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أبي بكر وعمر كما قال أبو داود في سننه، "باب ما جاء في زيارة القبور" وذكرقوله صلى الله عليه وسلم: "ما من أحد يسلم علي إلا رد الله على روحي حتى أرد عليه السلام". ولهذا أكثر كتب الفقه المختصرة التي تحفظ ليس فيها استحباب زيارة قبره مع ما يذكرون من أحكام المدينة. وإنما يذكر ذلك قليل منهم، والذين يذكرون ذلك يفسرونه باتيان المسجد كما تقدم. ومعلوم أنه لو كان هذا من سنته المعروفة عند أمته المعمول بها من زمن الصحابة والتابعين لكان ذكر ذلك مشهورا عند علماء الإسلام في كل زمان كما اشتهر ذكر الصلاة عليه والسلام عليه، وكما اشتهر عندهم ذكر مسجده وفضل الصلاة فيه، فلا يكاد يعرف مصنف للمسلمين في الحديث والفقه إلا وفيه ذكر الصلاة والسلام عليه وذكر فضل مدينته والصلاة في مسجده1. فالمعنى الذي أراده العلماء بقولهم "يستحب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم "أو قولهم

_ 1 الرد على الأخنائي (ص 172- 173) .

يستحب السفر لزيارة قبره"- كما هو موجود في كلام كثير منهم عند ذكرهم للحج- هو السفر إلى مسجده إذ كان المصلون والزوار لا يصلون إلا إلى مسجده، ولا يصل أحد إلى قبره ولا يدخل أحد إلى حجرته. ولكن قد يقال هذا في الحقيقة ليس زيارة لقبره؟ ولهذا كره من كره من العلماء أن يقال زرت قبره. ومنهم من لم يكره. والطائفتان متفقون على أنه لا يزار قبره كما تزار القبور بل إنما يدخل إلى مسجده. وأيضا فالنية في السفر إلى مسجده وزيارة قبره مختلفة. فمن قصد السفر إلى مسجده للصلاة فيه فهذا مشروع بالنص والإجماع. وإن كان لم يقصد إلا القبر ولم يقصد المسجد فمالك والأكثرون يحرمون هذا السفر وكثير من الذين يحرمونه لا يجوزون قصر الصلاة فيه. وآخرون يجعلونه سفرا جائزا وإن كان غير مستحب ولا واجب بالنذر. وأما إن كان قصده السفر إلى مسجده وقبره معا فهذا قد قصد مستحبا مشروعا بالإجماع1 أي السفر إلى المسجد لا السفر إلى القبر. النقطة الثالثة: استفاضت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم التي ينهي فيها عن الصلاة إلى القبور أو اتخاذها مساجد، ولعن من اتخذ تلك القبور من الأم السابقة مساجد. وقد جاء هذا التحذير منه حتى وهو في آخر أيام حياته كما جاءت بذلك بعض روايات تلك الأحاديث. فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم

_ 1 الرد على الأخنائي (ص 21) بتصرف.

يقم منه "لعن الله إليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" قالت: فلولا ذاك أبرز قبره غير أنه خشى أن يتخذ مسجدا"1. وعنها رضي الله عنها وعن ابن عباس رضي الله عنهما قالا: "لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتم كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك "لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذر مثل ما صنعوا" 2. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "لما اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم ذكرت بعض نسائه كنيسة رأينها بأرض الحبشة يقال لها مارية وكانت أم سلمة وأم حبيبة رضي الله عنهما أتتا أرض الحبشة فذكرتا من حسنها وتصاوير فيها. فرفع رأسه فقال: "أولئك إذا مات منهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا ثم صوروا فيه تلك الصورة، أولئك شرار الخلق عند الله"3. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ومن حكمة الله أن عائشة أم المؤمنين صاحبة الحجرة التي دفن فيها صلى الله عليه وسلم تروي هذه الأحاديث وقد سمعتها منه، وإن كان

_ 1 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجنائز، باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور. فتح الباري (3/ 250) ح 1330. وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب المساجد، باب النهي عن بناء المساجد على القبور (2/ 67) . 2 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الصلاة، باب حدثنا أبو أليمان فتح الباري (1/ 532) ح 435، 436، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب المساجد، باب النهي عن بناء المساجد على القبور (2/ 67) . 3 أخرجه البخاري " واللفظ له كثاب الجنائز، باب بناء المسجد على القبر. فتح الباري (3/ 08 2) ح 1341، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب المساجد، باب النهي عن بناء المساجد على القبور (2/66) .

غيرها من الصحابة أيضا يرويها كابن عباس، وأبي هريرة، وجندب بن عبد الله1 وابن مسعود رضي الله عنهم"، انتهي كلامه2. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لعن الله إليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" 3. وعنه أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قاتل الله إليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" 4. وعن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: "إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل فإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك" 5. وعن أبي مرثد الغنوي6 قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تجلسوا إلى القبور

_ 1 جندب بن عبد الله بن سفيان البجلي، صحابي، سكن الكوفة ثم البصرة، ومات زمن فتنة ابن الزبير. الإصابة (1/ 250) . 2 مجمرع الفتاوى (27/404) . 3 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب المساجد وباب النهي عن بناء المساجد على القبور (2/ 67) . 4 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الصلاة، باب حدثنا أبو اليمان فتح الباري (1/ 532) ح 437، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب المساجد، باب النهي عن بناء المساجد على القبور 5 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب المساجد، باب النهي عن بناء المساجد على القبور (2/ 67- 68) . 6 أبو مرثد الغنوى كناز بن حصين ويقال حصين كناز، وقيل غير ذلك، صحابي، ذكره ابن اسحاق فيمن شهد بدرا، سكن الشام وتوفي سنة 12 من الهجرة. الإصابة (4/ 177) وتهذيب التهذيب (8 / 448) .

ولا تصلوا إليها" 1. فهذه النصوص النبوية وردت لحماية جناب التوحيد، ولسد كل ذريعة إلى الشرك فقد لعن فيها من يتخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد وجل هذه الأحاديث قالها النبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته، نصيحة للأمة وحرصا منه على هداها. وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم نهيه لهذه الأمة عن اتخاذ قبره عيدا أو وثنا وهذا أبلغ في بيان مراده في سد كل ذريعة إلى الشرك بالله. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاتتخذوا قبري عيدا ولا تجعلوا بيوتكم قبورا وحيثما كنتم فصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني" 2.

_ 1 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجنائز، باب النهي عن الجلوس على القبر والصلاة إليه (3/61) 2 أخرجه الإمام أحمد في المسند (2/ 367) 1 واللفظ له. وأخرجه أبو داود في سننه، كتاب المناسك، باب زيارة القبور (2/ 534) ح 2042. والبيهقي في حياة الأنبياء (ص 12) . كلهم من طريق عبد الله بن نافع الصائغ عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة مرفرعا قال الشيخ ربيع المدخلي في تعليقه على كتاب قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (ص 144) : "عبد الله بن نافع، ثقة صحيح الكتاب في حفظه لين، فالحديث حسن على أقل الأحوال وصححه النووي في الأذكار (ص 93) وقال شيخ الاسلام في الاقتضاء إسناده حسن" وحسنه الحافظ في تخريج الأذكار- كما في الفتوحات الربانية وله شواهد تقويه. وقال الألباني في تحذير الساجد (ص، 2) رواه أحمد (رقم 7352) وابن سعد (2/ 241- 242) والمفضل الجندي في فضائل المدينة (66/ 1) وأبو يعلى في مسنده (312/ 1) ، والحميدي (25 0 1) وأبو نعيم في الحلية (6/ 283 و 7/ 317) بسند صحيح. وله شاهد مرسل رواه عبد الرزاق في المصنف (1/ 456) ح 1587 وكذا ابن أبي شيبة (4/ 141) عن زيد بن أسلم وإسناده قوي. وآخرأخرجه مالك في الموطأ (1/ 185) وعنه ابن سعد (2/ 240، 241) عن عطاء بن يسار مرفوعا وسنده صحيح، وقد وصله البزار عن أبي سعيد الخدري وصححه ابن عبد البر مرسلا وموصولا ... ". وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "هذا حديث حسن ورواته ثقات، مشاهير، لكن عبد الله بن نافع الصائغ فيه لين لا يمنع الاحتجاج به قال يحمى بن معين، هو ثقة، وحسبك بابن معين موثقا. وقال أبو زرعة: لابأس به، وقال أبو حاتم الرازي: ليس بالحافظ هو لين تعرف وتنكر. قلت: ومثل هذا يخاف أن يغلط أحيانا، فإذا كان لحديثه شواهد علم أنه محفوظ، وهذا له شواهد متعددة. الرد على الأخنائي (ص 145) .

وعن عطاء بن يسار1 أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" 2. قال أبو عمر بن عبد البر "الوثن: الصنم، وهو الصورة من ذهب كان أو من فضة أو غير ذلك من التمثال، وكل ما يعبد من دون الله فهو وثن صنما كان أو غير صنم، وكان العرب تصلي إلى الأصنام وتعبدها فخشي رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمته أن تصنع كما صنع بعض من مضى من الأمم، كان إذا مات نبي عكفوا حول قبره كما يصنع بالصنم، فقال صلى الله عليه وسلم: "اللهم لا تجعل قبرى وثنا يصلى إليه ويسجد نحوه ويعبد، فقد اشتد غضب الله على من فعل ذلك"، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحذر أصحابه وسائر أمته من سوء صنيع الأمم قبله الذين صلوا إلى قبور أنبيائهم واتخذوها قبلة ومسجدا كما

_ 1 عطاء بن يسار الهلالي أبو محمد المدني القاص مولى ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كان مولده سنة 19هـ، ثقة، فاضل، صاحب مواعظ وعبادة، مات سنة 94 وقيل بعد ذلك. تهذيب التهذيب (7/ 217- 218) . 2 أخرجه الإمام مالك في الموطأ (ص 119) ح رقم،414، كتاب جامع الصلاة عن عطاء بن يسار مرسلا. وأخرجه عبد الرزاق في المصنف (1/ 406) باب الصلاة على القبور برقم (1587) عن معمر عن زيد بن أسلم. وابن سعد في الطبقات (2/ 241) وابن أبي شيبة (3/ 345) . قال الشيخ ربيع المدخلي: "فهو معضل عند هؤلاء، لكنه جاء موصولا عن أبي هريرة ... " انظر قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (ص 34) ، وقد تقدم تخريج حديث أبي هريرة.

صنعت الوثنية بالأوثان التي كانوا يسجدون إليها ويعظمونها، وذلك الشرك الأكبر، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرهم بما في ذلك من سخط الله وغضبه، وأنه مما لا يرضاه خشية عليهم امتثال طرقهم، وكان صلى الله عليه وسلم يحب مخالفة أهل الكتاب وسائر الكفار، وكان يخاف على أمته أتباعهم"1. والعيد إذا جعل اسما للمكان: فهو المكان الذي يقصد للاجتماع فيه وإتيانه للعبادة عنده، أو لغير العبادة2. وقد استجاب الله دعوة نبيه صلى الله عليه وسلم فلم يتخذ قبره- ولله الحمد والمنة- عيدا ولا وثنا كما اتخذ قبر غيره بل ولا يتمكن أحد من الدخول إلى حجرته بعد أن بنيت الحجرة. وقبل ذلك ما كانوا يمكنون أحدا من أن يدخل إليه ليدعو عنده ولا يصلي عنده، ولا غير ذلك مما يفعل عند قبر غيره. ولكن من الجهال من يصلي إلى حجرته، أو يرفع صوته أو يتكلم بكلام منهي عنه، وهذا إنما يفعل خارجا عن حجرته لا عند قبره. وإلا فهو ولله الحمد استجاب الله دعوته فلم يمكن أحد قط- أن يدخل إلى قبره فيصلي عنده أو يدعو أو يشرك به كما فعل بغيره اتخذ قبره وثنا فإنه في حياة عائشة رضي الله عنها ما كان أحد يدخل إلا لأجلها، ولم تمكن أحدا أن يفعل عند قبره شيئا مما نهي عنه، وبعدها كانت مغلقة إلى أن أدخلت في المسجد فسد بابها وبني عليها حائط آخر. كل ذلك صيانة له صلى الله عليه وسلم أن يتخذ بيته عيدا وقبره وثنا. وإلا فمعلوم أن أهل المدينة كلهم مسلمون، ولا يأتي إلى هناك إلا مسلم،

_ 1 التمهيد (5/45) . 2 اقتضاء الصراط المستقيم (ص 324) .

وكلهم معظمون للرسول صلى الله عليه وسلم، وقبور آحاد أمته في البلاد معظمة. فما فعلوا ذلك ليستهان بالقبر المكرم، بل فعلوه لئلا يتخذ وثنا يعبد، ولا يتخذ بيته عيدا. ولئلا يفعل به كما فعل أهل الكتاب بقبور أنبيائهم. والقبر المكرم في الحجرة إنما عليه بطحاء- وهو الرمل الغليظ- ليس عليه حجارة ولا خشب، ولا هو مطين كما فعل بقبور غيره. وهو صلى الله عليه وسلم إنه نهى عن ذلك سدا للذريعة، كما نهي عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت غروبها، لئلا يفضي ذلك إلى الشرك. ودعا الله أن لا يتخذ قبره وثنا يعبد، فاستجاب الله دعاءه صلى الله عليه وسلم، فلم يكن مثل الذين اتخذت قبورهم مساجد فإن أحدا لا يدخل إلى قبره ألبتة، فإن من كان قبله من الأنبياء إذا ابتدع أممهم بدعة بعث الله نبيا ينهي عنها. وهو صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء لا نبي بعده، فعصم الله أمته أن تجتمع على ضلالة، وعصم قبره المكرم أن يتخذ وثنا، فإن ذلك والعياذ بالله لو فعل لم يكن بعده نبي ينهى عن ذلك، وكان الذين يفعلون ذلك قد غلبوا الأمة، وهو صلى الله عليه وسلم قد أخبر أنه لا تزال طائفة من أمته ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم إلى يوم القيامة، فلم يكن لأهل البدع سبيل أن يفعلوا بقبره المكرم كما فعل بقبورغيره صلى الله عليه وسلم. فالدخول عند قبره للصلاة والسلام عليه هناك، أو الصلاة والدعاء مما لم يشرعه لهم، بل نهاهم فقال: "لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني" فبين أن الصلاة تصل إليه من البعيد، وكذلك السلام، ومن صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشرا ومن سلم عليه مرة سلم

الله عليه عشرا، كما قد جاء في بعض الأحاديث. وتخصيص الحجرة بالصلاة والسلام جعل لها عيدا، وهو قد نهاهم عن ذلك، ونهاهم أن يتخذوا قبره أو قبر غيره مسجدا، ولعن من فعل ذلك ليحذروا أن يصيبهم مثل ما أصاب غيرهم من اللعنة. وكان أصحابه خير القرون، وهم أعلم بسنته، وأطوع الأمة لأمره، وكانوا إذا دخلوا إلى مسجده لا يذهب أحد منهم إلى قبره صلى الله عليه وسلم من داخل الحجرة ولا من خارجها. وكانت الحجرة في زمانهم يدخل إليها من الباب إذ كانت عائشة رضي الله عنها فيها، وبعد ذلك إلى أن بني الحائط الآخر. وهم مع ذلك التمكن من الوصول إلى قبره لا يدخلون إليه: لا لسلام ولا لصلاة عليه، ولا لدعاء لأنفسهم، ولا لسؤال عن حديث أو علم، ولا كان الشيطان يطمع فيهم حتى يسمعهم كلاما أو سلاما فيظنون أنه هو كلمهم وأفتاهم وبين لهم الأحاديث، أو أنه قد رد عليهم السلام بصوت يسمع من خارج، كما طمع الشيطان مع غيرهم، فأضلهم عند قبره، وقبر غيره حتى ظنوا أن صاحب القبر ويحدثهم ويفتيهم ويأمرهم وينهاهم في الظاهر، وأنه يخرج من القبر ويرونه خارجا من القبر، ويظنون أن نفس أبدان الموتى خرجت من القبر تكلمهم، وأن روح الميت تجسدت لهم فرأوها كما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج يقظة لا مناما. فإن الصحابة رضوان الله عليهم خير قرون هذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس. وهم تلقوا الدين عن النبي، صلى الله عليه وسلم بلا واسطة، ففهموا من مقاصده صلى الله عليه وسلم

وعاينوا من أفعاله وسمعوا منه شفاها ما لم يحصل لمن بعدهم ... ولهذا لم يطمع الشيطان أن ينال منهم من الإضلال والإغواء ما ناله ممن بعدهم من أهل البدع. فلم يكن أحد من الصحابة رضوان الله عليهم يأتيه فيسأله عند القبر عن بعض ما تنازعوا فيه وأشكل عليهم من العلم، لا خلفاؤه الأربعة ولا غيرهم، مع أنهم أخص الناس به صلى الله عليه وسلم. والمقصود هنا أن الصحابة رضوان الله عليهم تركوا البدع المتعلقة بالقبور كقبره المكرم وقبر غيره، لنهيه صلى الله عليه وسلم لهم عن ذلك، ولئلا يتشبهوا بأهل الكتاب الذين اتخذوا قبور أنبيائهم أوثانا. والصحابة رضوان الله عليهم خير القرون وأفضل الخلق بعد الأنبياء بل إن خير الناس بعدهم أتبعهم لهم. قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم فإنهم كانوا علي الهدي المستقيم"1. "ثم إن أفضل التابعين من أهل بيته على بن الحسين2 رضى الله عنه نهي ذلك الرجل أن يتحرى الدعاء عند قبره صلى الله عليه وسلم"3.

_ 1 مجموع الفتاوى (27/ 387- 395) بتصرف. 2 هو علي بن الحسين بن علي بن أبي طاب الهاشمي، المدني زين العابدين من أجل التابعين علما ودينا، حتى قال عنه الزهري: ما رأيت هاشميا مثله وكان ثقة، مأمونا، كثير الحديث عاليا رفيعا ورعا، توفي سنة 94 هـ8هـ. سير أعلام النبلاء (4/ 386- 401) . 3 اقتضاء الصراط المستقيم (ص 324) .

فقد روى إسماعيل بن إسحاق بسنده عن علي بن الحسين بن علي أن رجلا كان يأتي كل غداة فيزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويصلي عليه ويصنع من ذلك ما اشتهره عليه علي بن الحسين، فقال له علي بن الحسين ما يحملك على هذا؟ قال: أحب التسليم على النبي صلى الله عليه وسلم. قال له علي بن الحسين: هل لك أن أحدثك حديثا عن أبي؟ قال: نعم، فقال له علي بن الحسين أخبرني أبي عن جدي أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحعلوا قبري عيدا، ولا تجعلوا بيوتكم قبورا وصلوا علي وسلموا حيثما كنتم، فسيبلغني سلامكم وصلاتكم" 1. فاستدل رضي الله عنه بالحديث، وهو راوي الحديث الذي سمعه من أبيه الحسين عن جده علي وهو أعلم بمعناه من غيره. وهذا يقتضي أنه لا مزية للسلام عليه عند قبره كما لا مزية للصلاة عليه عند قبره بل قد نهي عن تخصيص القبر بهذا2 فتبين أن قصد قبره للدعاء ونحوه: اتخاذ له عيدا3. وكذلك ابن عمه حسن بن حسن شيخ أهل بيته: كره أن يقصد القبر

_ 1 أخرجه في كتابه فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص 10) رقم 20. قال الألباني: أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 83/ 2) . وعنه أبو يعلى في مسنده، ورواه الضياء في المختارة (1/ 154) من طريق أبي يعلى والخطيب في الموضح (2/ 30) . وسنده مسلسل بأهل البيت رضي الله عنهم إلا أن أحدهم وهو علي بن عمر مستور كما قال الحافظ في التقريب. تحذير الساجد (ص 140) . وقال أيضا: "حديث صحيح بطرقه وشواهده" انظر هامش كتاب فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص 10) . 2 الرد على الأخنائي (ص 144) . 3 اقتضاء الصراط المستقيم (ص 324) .

للسلام ونحوه غير دخول المسجد، ورأى أن ذلك من اتخاذه عيدا. فعن سهيل بن أبي سهيل1 عن الحسن بن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تتخذوا قبري عيدا ولابيوتكم قبورا وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني" 2. وفي رواية عند إسماعيل بن إسحاق القاضي عن سهيل قال: جئت أسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وحسن بن حسن يتعشى في بيت عند النبي صلى الله عليه وسلم، فدعاني فجئته فقال: أدن فتعش، قال: قلت: لا أريده. قال: مالي رأيتك وقفت؟ قال: وقفت أسلم على النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا دخلت المسجد فسلم عليه، ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صلوا في ييوتكم ولا تجعلوا بيوتكم مقابر، لعن الله إليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم" 3. فهذا فيه أنه أمره أن يسلم عند دخول المسجد وهو السلام المشروع الذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم4.

_ 1 سهيل هذا أورده ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (4/ 249) ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا، وذكر له عنه راويين: أحدهما: محمد بن عجلان وهو الراوي لهذا الحديث عن ابن أبي شيبة. والآخر: سفيان الثوري. قال الألباني في تحذير الساجد (ص 141) وله راو ثالث وهو: إسماعيل بن علية الراوي لهذا الحديث عنه عند ابن خزيمة، فقد روى عنه ثلاثة من الثقات، فهو معروف غير مجهول، انتهي كلامه. 2 تقدم تخريجه ص 580. 3 كتاب فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص 13- 14) .ح رقم 30 وقال الألباني بهامشه: حديث صحيح. 4 الرد على الأخنائي (ص 146) .

فانظر هذه السنة كيف مخرجها من أهل المدينة، وأهل البيت الذين لهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم النسب، وقرب الدار؟ لأنهم إلى ذلك أحوج من غيرهم فكانوا لها أضبط. النقطة الرابعة: نظرا لتعلق المسألة بزيارة القبور فيحسن إعطاء نبذة موجزة عن أقوال العلماء في مسألة زيارة القبور: اتفق العلماء على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد نهي عن زيارة القبور. ثم اختلفوا هل نسخ ذلك؟ فقالت طائفة: لم ينسخ ذلك. وقد ذهب إلى ذلك طائفة من السلف فقد نقل ذلك عن إبراهيم النخعي1 والشعبي ومحمد بن سيرين وهؤلاء من أجل علماء المسلمين في زمن التابعين باتفاق المسلمين ويحكى قولا في مذهب مالك2. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وتنازع المسلمون في زيارة القبور، فقال طائفة من السلف إن ذلك كله منهي عنه لم ينسخ، فإن أحاديث النسخ لم يروها البخاري، ولم تشتهر، ولما ذكر البخاري زيارة القبور احتج بحديث المرأة التي بكت عند القبر"3. وروي عن الشعبي أنه قال: "لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن زيارة القبور

_ 1 إبراهيم بن يزيد بن قيس النخعي الإمام الحافظ فقيه العراق أحد الأعلام، مات سنة ست وتسعين ولما بلغ الشعبي موته قال: والله ما ترك بعده مثله. سير أعلام النبلاء (4/ 520- 529) 2 مجمموع الفتاوى (27/ 343) والرد على الأخنائي (57، 58، 120) . 3 انظر صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب زيارة القبور. فتح الباري (3/ 48 1) ح 1283

لزرت قبر ابنتي"1. وقال النخعي: "كانوا يكرهون زيارة القبور"2 وعن ابن سيرين مثله3 قال ابن بطال4: وقد سئل مالك عن زيارة القبور؟ فقال: "قد كان نهي عنها عليه السلام ثم أذن فيها، فلو فعل ذلك إنسان ولم يقل إلا خيرا لم أر بذلك بأسا، وليس من عمل الناس". وروي عنه أنه كان يضعف زيارتها"5. فهذا قول طائفة من السلف، ومالك في القول الذي رخص فية يقول: "ليس من عمل الناس" وفي الآخر ضعفها، فلم يستحبها لا في هذا ولا في هذا6. وقالت طائفة: بل نسخ ذلك وهم على قسمين: القسم الأول: قالوا إنما نسخ إلى الإباحة، فزيارة القبور مباحة لا مستحبة وهذا قول في مذهب مالك وأحمد. قالوا: لأن صيغة أفعل بعد الحظر إنما تفيد الإباحة كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، وكنت نهيتكم عن الانتباذ في الأوعية فانتبذوا ولا تشربوا مسكرا" 7.

_ 1 انظرر المصنفة لابن أبي شيبة، كتاب الجنائز، باب من كره زيارة القبور (3/ 345) . 2 انظرر المصنفة لابن أبي شيبة، كتاب الجنائز، باب من كره زيارة القبور (3/ 345) . 3 انظرر المصنفة لابن أبي شيبة، كتاب الجنائز، باب من كره زيارة القبور (3/ 345) . 4 علي بن خلف بن عبد الملك بن بطال، أبو الحسن، عالم بالحديث من أهل قرطبة له كتاب شرح البخاري، توفى سنة 449 هـ. الأعلام (4/ 285) . 5 مجموع الفتاوى (27/ 375) والرد على الأخنائي (120) . 6 الرد على الأخنائي (ص 120) . 7 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجنائز، باب استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل في زيارة قبر أمه (3/65) .

وروي "فزوروها ولا تقولوا هجرا" 1 وهذا يدل على أن النهي كان لما كان يقال عندها من الأقوال المنكرة سدا للذريعة، كالنهي عن الإنتباذ في الأوعية أولا لأن الشدة المطربة تدب فيها ولا يدري بذلك فيضرب الشارب الخمر وهو لا يدري. القسم الثاني: قال الأكثرون زيارة قبور المؤمنين مستحبة للدعاء للموتى مع السلام عليهم، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج إلى البقيع فيدعو لهم2 وكما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين "أنه خرج إلى شهداء أحد فصلى عليهم صلاته على الموتى كالمودع للأحياء والأموات"3. وثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه كان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: "السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين نسأل الله لنا ولكم العافية"4. وهذا في زيارة قبور المؤمنين. وأما زيارة قبر الكافر فرخص فيها لأجل تذكار الآخرة، ولا يجوز الإستغفار لهم، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه زار قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، وقال: "استأذت ربي في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي، واستأذنته في

_ 1 أخرجه الحاكم في المستدرك، كتاب الجنائز (1/ 376) . 2 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجنائز، باب ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها (3/ 63- 64) . 3 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب غزوة أحد، فتح الباري (7/ 348) ح4042 وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب إثبات حرض نبينا صلى الله عليه وسلم (7/ 67) 4 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجنائز، باب ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها (3/ 64- 65) .

أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكر الموت" 1. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والعلماء المتنازعون كل منهم يحتج بدليل شرعي ويكون عند بعضهم من العلم ما ليس عند الآخر- فإن العلماء ورثة الأنبياء- وقال تعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} 2. والأقوال الثلاثة صحيحة باعتبار: فهناك زيارة محرمة، وزيارة مباحة وزيارة مستحبة، فالذي تدل عليه الأدلة الشرعية أن نحمل المطلق من كلام العلماء على المقيد، ونفصل الزيارة إلى ثلاثة أنواع: منهي عنه، ومباح، ومستحب، وهو الصواب: وأما النوع الأول: فإن الزيارة إذا تضمنت أمرا محرما من شرك، أو كذب أو ندب أو نياحة أو قول هجر: فهي محرمة بالإجماع،. كزيارة المشركين والساخطين لحكم الله، فإن هؤلاء زيارتهم محرمة، فإنه لا يقبل دين إلا دين الإسلام: وهو الاستسلام لخلقه وأمره. فيسلم لما قدره وقضاه. ويسلم لما يأمر به ويحبه، وهذا نفعله وندعو إليه، وذاك نسلمه ونتوكل فيه عليه، فنرضى بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا ونقول في صلاتنا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 3 مثل قوله تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} 4.

_ 1 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجنائز، باب استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه. عز وجل في زيارة قبر أمه (3/65) 2 الآيتان (78-79) من سورة الأنبياء. 3 الآية (5) من سورة الفاتحة. 4 الآية (123) من سورة هود.

والنوع الثاني: زيارة القبور لمجرد الحزن على الميت، لقرابته أو صداقته فهذه مباحة كما يباح البكاء على الميت بلا ندب ولا نياحة. كما زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، وقال: "زوروا القبور فإنها تذكر الموت" فهذه الزيارة كان نهي عنها لما كانوا يفعلون من المنكر، فلما عرفوا الإسلام أذن فيها لأن فيها مصلحة، وهو تذكر الموت فكثير من الناس إذا رأى قريبه وهو مقبور، ذكر الموت، واستعد للآخرة، وقد يحصل منه جزع، فيتعارض الأمران، ونفس الحزن مباح، وإن قصد به طاعة كان طاعة وإن عمل معصية كان معصية. وأما النوع الثالث: فهو زيارتها للدعاء لها كالصلاة على الجنازة فهذا هو المستحب الذي دلت السنة على استحبابه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله، وكان يعلم أصحابه ما يقولون إذا زاروا القبور. فيستحب عند الجمهور لمن أتى المدينة أن يأتي البقيع وشهداء أحد كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل. فزيارة القبور للدعاء للميت من جنس الصلاة على الجنائز يقصد فيها الدعاء لهم، لا يقصد فيها أن يدعو مخلوقا من دون الله، ولا يجوز أن تتخذ مساجد، ولا تقصد لكون الدعاء عندها أو بها أفضل من الدعاء في المساجد والبيوت، والصلاة على الجنائز أفضل باتفاق المسلمين من الدعاء للموتى عند قبورهم، وهذا مشروع بل فرض كفاية متواتر متفق عليه بين المسلمين1. والذي يجب معرفته هنا أن زيارة القبور على وجهين:

_ 1 مجموع الفتاوى (27/ 365- 381) بتصرف.

زيارة بدعية، وزيارة شرعية. فالزيارة البدعية: هي التي نهي عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم واتفق العلماء على أنها غير مشروعة وهي مثل اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد، والصلاة إلى القبر، واتخاذه وثنا أو عيدا فلا يجوز أن تقصد القبور للصلاة الشرعية، ولا أن تعبد كما تعبد الأوثان ولا أن تتخذ عيدا يجتمع إليها في وقت معين كما يجتمع المسلمون في عرفة ومنى. فكل زيارة تتضمن فعل ما نهي عنه وترك ما أمر به- كالتي تتضمن الجزع وقول الهجر وترك الصبر، أو تتضمن الشرك ودعاء غير الله وترك إخلاص الدين لله فهي منهي عنها. وأما الزيارة الشرعية: فهي السلام على الميت والدعاء له وهي مستحبة عند الأكثرين. وقيل: مباحة. وقيل: كلها منهي عنها كما تقدم. والقول الراجح الذي تدل عليه الأدلة الشرعية أن نحمل المطق من كلام العلماء على المقيد ونفصل الزيارة إلى ثلاثة أنواع: 1- منهي عنه. 2- مباح. 3- مستحب. وهو الصواب، كما تقدم. قال مالك وغيره: "لا نأتي إلا هذه الآثار: مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ومسجد قباء وأهل البقيع، وأحد. فإن النبى صلى الله عليه وسلم لم يكن يقصد إلا هذين المسجدين وهاتين المقبرتين "1. ولكن بعد هذا التوضيح هل يصح أن يقاس قبر النبي صلى الله عليه وسلم على قبور سائر المسلمين فيقال إذا كانت زيارة قبور المؤمنين مشروعة فزيارة قبره من باب أولى؟ هذا ما سيأتي تفصيله في النقطة التالية:

_ 1 مجموع الفتاوى (27/ 380) بتصرف.

النقطة الخامسة: أقوال العلماء في مسألة السلام على النبي صلى الله عليه وسلم عند قبره. سبق وأن وضحت في النقطة الثانية من هذا المطلب أنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم نص ثابت صحيح في هذه المسألة، يأمر فيه الأمة بالإتيان إلى قبره للسلام عليه، كما ورد ذلك في شأن السلام عليه في التشهد وعند دخول المساجد والخروج منها، وكذلك فإن الذي كان عليه فعل جمهور الصحابة من بعده صلى الله عليه وسلم هو عدم الإتيان للقبر للسلام، ولا تخصيصه بأي عمل من الأعمال. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وجمهور الصحابة كانوا يدخلون المسجد ويصلون فيه على النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يسلمون عليه عند الخروج من المدينة وعند القدوم من السفر، بل يدخلون المسجد فيصلون فيه ويسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم ولا يأتون القبر، ومقصود بعضهم التحية"1 وعلى هذا سار كثير من السلف من بعدهم. روى ابن أبي شيبة2 في المصنف3 عن خالد بن الحارث4 قال سئل هشام5 أكان عروة6 يأتي قبر النبي

_ 1 مجموع الفتاوى (27/ 414) . 2 عبد الله بن محمد بن ابراهيم بن أبي شيبة، أبو بكر، الكوفي، ثفة حافظ صاحب تصاينف، ومن أشهر كتبه المصنفة، توفى سنة 235 هـ. تهذيب التهذيب (6/ 2- 4) . (3/ 341) . 4 خالد بن الحارث بن عبيد الهجيمي، أبو عثمان البصري، ثقة ثبت، من الثامنة، مات سنة ست وثمانين ومائة. تهذيب التهذيب (3/ 83- 84) . 5 هشام بن عروة بن الزبير بن العوام الأسدي، ثقة، فقيه ربما دلس من الخامسة، مات سنة خمس أو ست وأربعين ومائة. تهذيب التهذيب (11/48-51) 6 هو عروة بن الزبير وقد تقدم ترجمته ص 528.

صلى الله عليه وسلم فيسلم عليه؟ قال: لا. وعن نوح بن يزيد قال: أخبرنا أبو إسحاق يعني إبراهيم بن سعد قال: ما رأيت أبي قط يأتي قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يكره إتيانه"1. ولكن ابن عمر كان يأتيه فيسلم عليه وعلى صاحبيه عند قدومه من السفر

_ 1 الرد على الأخنائي (ص 268) . وقال شيخ الإسلام بعد إيراده لهذا الأثر وعزوه الى أبي الحسن علي بن عمر القزويني في أماليه ما نصه: ونوح بن يزيد بن سيار المؤدب هذا الراوي عن ابراهيم ابن سعد هو ثقة معروف بصحبة ابراهيم وله اختصاص به روى عنه أحمد بن حنبل وأبو داود وغيرهما قال أبو بكر الأثرم: ذكر لي أبو عبد الله نوح بن يزيد المؤدب فقال هذا شيخ كبير أخرج أبي كتاب إبراهيم بن سعد فرأيت فيه ألفاظا وقال محمد بن المثنى: سألت أحمد بن حنبل عنه فقال: اكتب عنه فإنه ثقة حج مع إبراهيم بن سعد وكان يؤدب ولده. وذكره ابن حبان في الثقات. وأما إبراهيم بن سعد فهو من أكابر علماء المدينة وأكثرهم علما وأوثقهم وكان قد خرج الى بغداد روى عنه الناس: أحمد بن حنبل وطبقته، ومن سعة علمه روى عنه الليث بن سعد وهو أقدم وأجل منه. وأما أبوه سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري الذي ذكر عنه ابنه إبراهيم أنه قال: ما رأيت أبي قط أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم وكان يكره إتيانه وهو من أفضل أهل المدينة في زمن التابعين ومن أصلحهم وأعبدهم، وكان قاضي المدينة في زمن التابعين في زمن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق وأمثاله ... توفي سنة ست وعشرين ومائة ... وقد أدرك بالمدينة جابر ابن عبد الله وسهل بن سعد الساعدى وغيرهما من الصحابة، ورأى كبار التابعين مثل سعيد بن المسيب وسائر الفقهاء السبعة، ومعلوم أنه لم يكن ليخالفهم فيما اتفقوا عليه، بل قد يخالف ابن عمر، فإن ما نقله عنه ابنه يقتضي أنه كان صلى الله عليه وسلم يأتيه لا عند السفر ولا غيره بل يكره إتيانه مطلقا كما كان جمهرر الصحابة على ذلك لما فهموا من نهيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك وأنه أمر بالصلاة والسلام عليه في كل زمان ومكان ... مع أن سعد بن إبراهيم هذا في دينه وعبادته وصيامه وتلاوته للقرآن بحيث كان يختم باليوم والليلة كثيرا. وأبو الحسن علي بن عمر القزويني وغيره من أهل العلم والذين ذكروا هذه الآثار عن الصحابة والتابعين وتابعيهم ليبينوا للناس كيف كان السلف يفعلون في مثل ذلك. الرد على الأخنائي (ص 268، 270) .

وقد يكون فعله غير ابن عمر أيضا1 فلهذا رأى من رأى من العلماء هذا جائزا اقتداء بمن فعل ذلك من الصحابة رضوان الله عليهم وابن عمر كان يسلم ثم ينصرف، ولا يقف، يقول: السلام عليك يارسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت ثم ينصرف2. وكان يفعل ذلك إذا قدم من سفر أو أراده. فعن عبد الله بن دينار3 قال رأوا ابن عمر إذا قدم من سفر دخل المسجد

_ 1 لعل شيخ الإسلام يقصد هنا بقوله: وقد يكون فعله غيره "ما نقل عن أنس بن مالك رضي الذ عنه، وهذا ما صرح به شيخ الإسلام في كتابه قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (ص 293) وكذلك أنس بن مالك وغيره نقل عنهم أنهم كانوا يسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم فإذا أرادوا الدعاء استقبلوا القبلة يدعون الله تعالى. وقال في اقتضاء الصراط المستقيم (ص 372) وذكر محمد بن الحسن بن زبالة في كتاب أخبار المدينة ... قال حدثني عمر بن هارون عن سلمة بن وردان قال رأيت أنس بن مالك يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يسند ظهره إلى جدار القبر ثم يدعو فهذا إن كان ثابتا عن أنس فإن أنسا لم يكن ساكنا بالمدينة، وإنما كان يقدم من البصرة، اما مع الحجيج أو نحوهم. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: ومحمد بن الحسن هذا صاحب أخبار، وهو مضعف عند أهل الحديث كالواقدي ونحوه، ولكن يستأنس بما يرويه ويعتبر به. اقتضاء الصراط المستقبم (ص 371) . وهذا يعني أنه لا يعول على أحاديثه وإنما تؤخذ شاهدا ومقويا هامش اقتضاء الصراط (ص 371) وهذا الأثر أورده السخاوي فى القول البديع (ص 212) وعزاه لابن أبي الدنيا البيهقى فى الشعب من حديث عبد الله بن أبي أمامة عن أبيه قال: "رأيت أنس بن مالك أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فوقف فرفع يديه حتى ظننت أنه افتتح الصلاة فسلم على النبي علته ثم انصرف" 2 مجموع الفتاوى (27/ 400) . 3 عبد الله بن دينار العدوي مولاهم أبو عبد الرحمن المدني، مولى ابن عمر، ثقة من الرابعة، مات سنة سبع وعشرين ومائة. تهذيب التهذيب (5/ 201- 203) .

فقال: السلام عليك يارسول الله، السلام على أبي بكر، السلام على أبي، ويصلى ركعتين1. وفي رواية عنه أنه قال: "رأيت عبد الله بن عمر يقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما"2. وفي المصنف لابن أبي شيبة بسنده عن نافع عن ابن عمر أنه كان إذا أراد أن يخرج دخل المسجد فصلى ثم أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليك يارسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه ثم يأخذ وجهه، وكان إذا قدم من سفر يفعل ذلك قبل أن يدخل منزله3. وفي المصنف لعبد الرزاق4 عن معمر5عن أيوب6 عن نافع7 قال: كان ابن عمر إذا قدم من سفر أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال السلام عليك يارسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه. قال معمر: فذكرت ذلك لعبيد الله بن عمر8 فقال: "لا نعلم أحدا من

_ 1 أخرجه إسماعيل القاضي (ص 41) ح 99 وقال الألباني: إسناده موقوف صحيح. 2 أخرجه إسماعيل القاضي (ص 41) ح 98 وقال الألباني: إسناده موقوف صحيح وهو في الموطأح 397 برواية يحى بن يحيى الليثي بهذا اللفظ، ومن طريقه رواه البيهقي (5/ 245) . 3 المصنف (3/ 341) . 4 عبد الرزاق بن همام بن نافع الحميري، مولاهم، أبو بكر الصنعاني ثقة، حافظ، مصنف شهير مات سنة إحدى عشر ومائتين. تهذيب التهذيب (6/ 310- 315) . 5 معمر بن راشد الأزدي الحداني مولاهم، البصري، نزيل اليمن ثقة، ثبت فاضل، أخرج له الجماعة، مات سنة أربع وخمسين ومائة. تهذيب التهذيب (1/ 243- 246) . 6 هو أيوب السختياني وقد تقدم ترجمته. 7 هو نافع مولى ابن عمر وقد تقدم ترجمته. 8 عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، أبو عثمان القرشي العدوي ثم العمري المدني، إمام، مجود، حافظ، ثقة ثبت، من صغار التابعين، مات سنة بضع وأربعين ومائة. سير أعلام النبلاء (6/ 304- 307) .

أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك1. واستنادا لفعل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أجاز الإمام مالك وأحمد وغيرهما2 من الأئمة السلام على النبي صلى الله عليه وسلم عند القبر على الحال التي كان يفعلها ابن عمر رضي الله عنهما وهي حال القدوم من السفر أو إرادته، واقتصروا في مشروعية السلام على النبي صلى الله عليه وسلم عند القبر على هذه الحال ولم يفتوا في غيرها. وهم وإن استحب بعضهم وأجاز بعضهم السلام على النبي عند القبر للقادم

_ 1 المصنف لعبد الرزاق (3/ 576) ح 6724 قال الشيخ ربيع بن هادي المدخلي بعد أن أورد هذا الأثر في تعليقه على كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (ص 128- 129) أقول: يستفاد من قول عبيد الله ابن عمر الإمام المدني، الثقة الثبت. أن الصحابة الكرام وفيهم الخلفاء الراشدون ما كانوا يأتون قبر النبي صلى الله عليه وسلم إلا ما كان من عبد الله بن عمر رضي الله عنهما إذا قدم من سفر. مع حبهم الشديد لرسول الله وإكرامهم إياه وطاعتهم وانقياد" فهلا آن للأمة الإسلامية أن تتوب إلى رشدها، فتتبع هؤلاء العظماء والفقهاء النبلاء، وإننا على ثقة أنهم ما وقفوا جميعا هذا الموقف إلا على أساس متين، وصراط مستقيم من العلم النبوي الصحيح، وعلى إدراك واع لمقاصد الشريعة وأهدافها. إنه ما كان ذلك منهم مع حبهم الشديد الصادق لرسول الله صلى الله عليه وسلم تنفيذا لتوجيهاته الكريمة مثل قوله: "لا تتخذوا قبري عيدا" ومثل قوله: "اللهم لا تحعل قبري وثنا يعبد" ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: "لعنة الله على ليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". تنفيذا لهذه التوجيهات العظيمة الهادفة إلى حماية التوحيد وصيانة العقيدة الاسلامية من شرائب الغلو، الضلال الذي وقع فيه أهل الكتاب كان ذلك الموقف الواعي الرشيد من الصحابة الكرام وعلى رأسهم الخلفاء الرشدون والفقهاء المبرزون مثل زيد ين ثابت وابن مسعود وابن عباس وأبي بن كعب وغيرهم من علماء الصحابة وعظمائها وساداتها ... ". 2 الرد على الأخنائي (ص 73) .

إلا أنهم لم يقولوا بوجوبه وتعيينه فالذي نقل عن الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة من قول في هذه المسألة يدل على أنه استدل بفعل ابن عمر رضي الله عنهما، وأن فتواه لم تتجاوز ما فعله رضي الله عنه وهذا من دقة فقه الإمام مالك، ويتضح لك هذا من عبارته ففي الشفا للقاضي عياض: وقال ممالك في "المبسوط" وليس يلزم من دخل المسجد وخرج منه من أهل المدينة الوقوف بالقبر، وانما ذلك للغرباء. وفال فيه أيضا: لا بأس لمن قدم من سفر أن يقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فيصلي عليه ويدعو له ولأبي بكر وعمر. فقيل له: فإن ناسا من أهل المدينة لا يقدمون من سفر ولا يريدونه يفعلون ذلك في اليوم مرة أو أكثر، وربما وقفوا في الجمعة أو في الأيام المرة والمران أو أكثر عند القبر فيسلمون ويدعون ساعة؟ فقال: لم يبلغني هذا عن أحد من أهل الفقه ببلدنا وتركه واسع ولا يصلح آخر هذه الأمة الا ما أصلح أولها، ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك، ويكره الا لمن جاء من سفر أو أراده"1. وقد ذكر الإمام مالك في موطئه فعل عبد الله بن عمر وأنه كان يأتي فيقول: "السلام عليك يارسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت"، ثم ينصرف. وفي رواية: كان إذا قدم من سفر. رواه معمر عن نافع عنه. وعلى هذا اعتمد مالك رحمه الله فيما يفعل عند الحجرة إذ لم يكن عنده إلا

_ 1 الشفا (2/ 675، 676) .

أثر ابن عمر رضي الله عنهما. وأما ما زاد على ذلك مثل الوقوف للدعاء للنبي صلى الله عليه وسلم وكثرة التردد على القبر للصلاة والسلام عليه فقد كرهه مالك، وقال هو بدعة لم يفعلها السلف ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها1. وقد تقدم ذكر نص كلامه وإذا كان مالك رحمه الله يكره أن يطل الرجل الوقوف عنده صلى الله عليه وسلم للدعاء فكيف بمن لا يقصد لا السلام ولا الدعاء له، وإنما يقصد دعاءه وطلب حوائجه منه، ويرفع صوته عنده فيؤذي الرسول، ويشرك بالله ويظلم نفسه؟ 2 وقد كره الإمام مالك رحمه الله أن يقول القائل: زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم. كره هذا اللفظ لأن السنة لم تأت به في قبره3. وقد ذكروا في تعليل ذلك وجوها، ورخص غيره في هذا اللفظ للأحاديث العامة في زيارة القبور. ومالك يستحب ما يستحبه سائر العلماء من السفر إلى المدينة والصلاة في مسجده. وكذلك السلام عليه وعلى صاحبيه عند قبورهم اتباعا لابن عمر. ومالك من أعلم الناس بهذا لأنه قد رأى التابعين الذين رأوا الصحابة بالمدينة ولهذا كان يستحب اتباع السلف في ذلك، ويكره أن يبتدع أحد هناك بدعة. فكره أن يطل الرجل القيام والدعاء عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم ما كانوا يفعلون ذلك.

_ 1 مجموع الفتاوى (27/ 384) . 2 مجموع الفتاوى (27/ 385) . 3 فالسنة إنما وردت بزيارة مسجده والصلاة فيه.

وكره الإمام مالك لأهل المدينة كلما دخل انسان المسجد أن يأتي قبر النبي صلى الله عليه وسلم لأن السلف لم يكونوا يفعلون ذلك. وقال رحمة الله عليه: ولن يصلح آخر هذه الأمة الا ما أصلح أولها"1. وقد صرح مالك وغيره: بأن من نذر السفر إلى المدينة النبوية إن كان مقصوده الصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفى بنذره وإن كان مقصوده مجرد زيارة القبرى من غير صلاة في المسجد لم يف بنذره، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد" والمسألة ذكرها القاضي إسماعيل بن إسحاق في المبسوط"2. وما أفتى به الإمام مالك من جواز السلام على النبي صلى الله عليه وسلم عند حجرته التي دفن فيها وذلك لمن قدم من سفر هو ما أفتي به باقي الأئمة الأربعة. وقد احتجوا بفعل ابن عمر كما احتج به مالك3. ومنهم من احتج بحديث "ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام"4. فقد اعتمد الإمام أحمد في زيارة قبره المكرم على هذا الحديث. وعن أحمد

_ 1 مجموع الفتاوى (27/ 386) . 2 مجموع الفتاوى (27/ 334) . والإمام مالك نظر إلى قصد المسافر ونيته ومسمى الزيارة في لغته، فقد يكون السائل من عرفه أن لفظ زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم يتناول من أتى المسجد وكان قصده القبر، ومن أتاه وقصده المسجد، وهذا عرف عامة الناس المتأخرين يسمون هذا كله زيارة، ولم يكن هذا لغة السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان. الرد على الأخنائي (ص 23) بتصرف 3 الرد على الأخنائي (ص 137-138) . 4 تقدم تخريجه ص 576.

أخذ ذلك أبو داود1 فلم يذكر في زيادة قبره المكرم غير هذا الحديث وترجم عليه: "باب زيارة القبر"2. فهذا الحديث هو عمدة الإمام أحمد وأبي داود وأمثالهم وهو غاية ما عندهم في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن دلالة الحديث على المقصود فيها نزاع وتفصيل3.فليس في لفظ الحديث المعروف في السنن والمسند (عند قبري) مع أن الذين احتجوا بهذا الديث قالوا إن هذا هو المراد، ولم يرد على كل مسلم عليه في شرق الأرض وغربها مع أن المعنى أي أنه يرد على كل مسلم في شرق الأرض وغربها إن كان هو المراد بطل الاستدلال بالحديث من كل وجه على اختصاص تلك البقعة بالسلام. وإن كان المراد بالسلام في الديث هو السلام عليه عند قبره كما فهمه عامة العلماء، فهل يدخل فيه من سلم من خارج الحجرة؟

_ 1 سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد الأزدي، السجستاي أبو داود، مصنف السنن وغيرها، ثقة حافظ من بار العلماء وأئمة الحديث، مات سنة خمس وسبعين ومائتين. تهذيب التهذيب (4/169-173) . 2 مجموع الفتاوى (27/330) . 3 قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ولو أريد إثبات سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل هذا الحديث لكان هذا مختلفا فيه، فالنزاع في إساده ودلالة متنه". الرد على الأخنائي (ص203) . وقال ابن عبد الهادي: "وهذا الحديث لا يسلم من مقال في إسناده ونزاع في دلالته "وقد تقدم الكلام على إسناده (وأما نزاع في دلالة الحديث فمن جهة اتمال لفظه فإن قوله: "ما من أحد يسلم علي" يحتمل أن يكون المراد به عند قبره ما فهمه جماعة من الأئمة ويحتمل أن يكون معناه على العموم وأنه لا فرق في ذلك بين القريب والبعيد وهذا هو ظاهر الحديث وهو الموافق للأحاديث المشهورة. الرد على البسكي (ص259)

فهذا مما تنازع فيه الناس، وقد توزعوا في دلالته. فمن الناس من يقول هذا إنما يتناول من سلم عليه عند قبره كما كانوا يدخلون الحجرة في زمن عائشة رضي الله عنها فيسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم فكان يرد عليهم فأولئك سلموا عليه عند قبره وكان يرد عليهم1. وهذا السلام عليه عند قبره كان مشروعا لما كان ممكنا بدخول من يدخل على عائشة رضي الله عنها. وقالوا: فأما من كان في المسجد فهؤلاء لم يسلموا عليه عند قبره بل سلامهم عليه كالسلام عليه إذا دخل المسلم المسجد وخرج منه. والذين استدلوا بهذا الحديث على اختصاص تلك البقعة بالسلام جعلوه متناولا لمن سلم عليه من داخل الحجرة أو من خارجها. وقد اعترض على من احتج بهذا الحديث "ما من أحد يسلم علي الا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام" على استحباب السلام للقادم عند الحجرة. فقيل: إن هذا الحديث لو دل على استحباب السلام عليه من المسجد لما اتفق الصحابة على ترك ذلك، ولم يفرق في ذلك بين القادم من السفر وغيره؟ فقد اتفق الصحابة ابن عمر وغيره على أنه لا يستحب لأهل المدينة الوقوف عند القبر للسلام إذا دخلوا وخرجوا بل يكره ذلك، فلما اتفقوا على ترك ذلك مع تيسره علم أنه غير مستحب بل لو كان جائزا لفعله بعضهم وبهذا يتبين ضعف حجة من احتج بالحديث على استحباب السلام عليه من المسجد.

_ 1 هذا على قول من خص الحديث على السلام القريب وقالوا إنما هو فيمن سلم عليه من قريب والقريب أن يكون في بيته، فإن لم يحد بذلك لم يبق له حد محدود من جهة الشرع. الرد على الأخنائي (ص 170)

ولهذا كان أكثر السلف لا يفرقون بين الغرباء وأهل المدينة ولا بين حال السفر وغيره فإن استحباب هذا لهؤلاء وكراهته لهؤلاء حكم شرعي يفتقر إلى دليل شرعي ولا يمكن لأحد أن ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه شرع لأهل المدينة الإتيان عند الوداع للقبر وشرع لهم ولغيرهم ذلك عند القدوم من سفر، وشرع للغرباء تكرر ذلك كلما دخلوا المسجد وخرجوا منه، ولم يشرع ذالك لأهل المدينة، فمثل هذه الشريعة ليس منقولا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن خلفائه ولا هو معروف من عمل الصحابة وإنما نقل عن ابن عمر السلام عند القدوم من السفر، وليس هذا من عمل الخلفاء وأكابر الصحابة، كما كان ابن عمر يتحرى الصلاة والنزول والمرور حيث حل ونزل وعبر النبي صلى الله عليه وسلم في السفر، وجمهورالصحابة لم يكونوا يصنعون ذلك بل أبوه عمر كان ينهي عن مثل ذلك فعن المعرور بن سويد عن عمر قال: خرجنا معه في حجة حجها فقرأ بنا في صلاة الفجر ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل، ولإيلاف قريش في الثانية، فلما رجع من حجه رأى الناس ابتدروا المسجد فقال: "ما هذا؟ فقالوا مسجد صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: وهذا ملة أهل الكتاب قبلكم اتخذوا آثار أنبيائهم بيعا، من عرضت له منكم فيه الصلاة فليصل ومن لم تعرض له فليمض"12. ومن استدل بهذا الحديث من العلماء ذكر أنه ود على القريب وخصوا الجواز للمسافر القادم أو المقيم المسافر. وليس في الحديث ما يدل على التخصيص، ذلك أنه يمتنع أن يقال إنه يرد على هؤلاء ولا يرد على أحد من أهل المدينة المقيمين فيها، فيمتنع أن يكون

_ 1 عزاه شيخ الإسلام إلى سنن سعيد بن منصور. انظر: الرد على الأخنائي (ص169،170) 2 الرد على الأخنائي (ص 169، 170) بتصرف

المعنى من سلم منكم يا أهل المدينة لم أرد عليه مادمتم مقيمين بها فإن المقام بها هو غالب أوقاتهم، وليس في الحديث تخصيص، ولا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على ذلك. يبين هذا: أن الحجرة لما كانت مفتوحة وكانوا يدخلون على عائشة لبعض الأمور ويسلمون عليه إنما كان يرد عليهم إذا سلموا. فإن قيل: إنه لم يكن يرد عليهم فهذا تعطل للحديث. وإن قيل: كان يرد عليهم من هناك، ولا يرد إذا سلموا من خارج فقد ظهر الفرق. وإن قيل: بل هو يرد على الجميع فحينئذ إن كان رده لا يقتضي استحباب هذا السلام بطل الاستدلال به. وإن كان رده يقتضي الاستحباب وهو من سلم من خارج، لزم أن يستحب لأهل المدينة السلام كلما دخلوا المسجد وخرجوا وهو خلاف ما أجمع عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان وخلاف قول المفرقين1 - أي بين أهل المدينة والغرباء - الذين استدلوا بهذا الحديث. هذا ولم يعتمد الأئمة لا الأربعة ولا غير الأربعة على شيء من الأحاديث التي يرويها البعض في زيارة قبره صلى الله عليه وسلم كحديث "من زارني في مماتي فكأنما زارني في حياتي". وحديث: "من زارني وزار أبي في عام واحد ضمنت له على الله الجنة" ونحر ذلك فإن هذه الأحاديث وأمثالها لم روها أحد من أئمة الإسلام ولم

_ 1 الرد على الأخنائي (ص 176، 177) .

يعتمدوا عليها، ولميروها لا أهل الصحاح ولا أهل السنن التي يعتمد عليها كأبي داود والنسائي لأنها ضعيفة بل موضوعة كما قد بين العلماء الكلام عليها"1. ولكن جاء لفظ زيارة القبور في غير هذه الأحاديث كما في قوله صلى الله عليه وسلم "كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها، فإنها تذكر الموت"2. وكان صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول أحدهم: "السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين.."3. وكان صلى الله عليه وسلم يزور قبور أهل البقيع وشهداء أحد4. بيان غلط من قاس قبره صلى الله عليه وسلم على قبر غيره في شأن الزيارة: وقد استدل طائفة من الناس بهذه الأحاديث على مشروعية زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم حيث قالوا إنه اذا كانت زيارة قبور عموم المؤمنين مشروعة فزيارة قبره أولى. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ومن هنا غلط طائفة من الناس يقولون إذا كانت زيارة قبر آحاد الناس مستحبة فكيف بقبر سيد الأولين والآخرين. وهؤلاء ظنوا أن زيارة قبر الميت مطلقا هو من باب الاكرام والتعظيم له والرسول أحق بالإكرام والتعظيم من كل أحد. وظنوا أن ترك الزيارة له فيه تنقيص لكرامته، فغلطوا وخالفوا السنة وإجماع الأئمة سلفها وخلفها.

_ 1 مجموع الفتاوى (27/ 385، 638) بتصرف 2 تقدم تخريجه ص 599. 3 تقدم تخريجه ص 600 4 تقدم تخريجهما ص 600.

فقولهم نظير قول من يقول: إذا كانت زيارة القبور يصل الزائر فيها إلى قبر المزور، فإن ذلك أبلغ في الدعاء له فالرسول أولى أن نصل إلى قبره إذا زرناه. وقد ثبت بالتواتر وإجماع الأمة أن الرسول لا يشرع الوصول الى قبره لا للدعاء له ولا لدعائه ولا لغير ذلك. بل غيره من الناس يصلى على قبره عند أكثر السلف كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة، والصلاة على القبر- كالصلاة على الجنازة- تشرع مع القرب والمشاهدة. أما للنبي صلى الله عليه وسلم فالإجماع لا يصلى على قبره سواء كان للصلاة حد محدود أو كان يصلى على القبر مطلقا. ولم يعرف عن أحد من الصحابة الغائبين لما قدم صلى على قبره صلى الله عليه وسلم. وزيارة القبور المشروعة هي مشروعة مع الوصول إلى القبر بمشاهدته وهذه الزيارة غير مشروعة في حقه بالنص والإجماع، ولا هي أيضا ممكنة فقبر النبي صلى الله عليه وسلم خص بالمنع شرعا وحسا فقد دفن في الحجرة ومنع الناس من زيارة قبره من داخل الحجرة كما تزار سائر القبور فيصل الزائر إلى عند القبر، وقبر النبي ليس كذلك، فلا تستحب هذه الزيارة في حقه ولا تمكن وهذا لعلو قدره وشرفه لا لكون أن غيره أفضل منه، فإن هذا لا يقوله أحد من المسلمين فضلا عن الصحابة والتابعين وعلماء المسلمين بالمدينة وغيرها. وبهذا يتبين غلط هؤلاء الذين قاسوه على عموم المؤمنين، وهذا من باب القياس الفاسد. ومن قاس قياس الأولى ولم يعلم ما اختص به كل واحد من المقيس والمقيس عليه كان قياسه من جنس قياس المشركين الذين يقيسون الميتة على المذكى

ويقولون للمسلمين أتأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله؟ 1 فأنزل الله تعالى {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} 2. وكذلك لما أخبر الله أن الأصنام التي تعبد هي وعابدوها ححب جهنم. قاس ابن الزعبري3 - قبل أن يسلم- هو وغره من المشركيين - عيسى بها وقالوا فيجب أن يعذب عيسى؟ 4 قال تعالى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} 5. ثم قال: {إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائيلَ} 6. وبين تعالى الفرق بقوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} 7 بين أن من كان صالحا نبيا أو غير نبي لم يعذب لأجل من أشرك به وعبده وهو بريء من إشراكهم به. وأما الأصنام فهي حجارة تجعل حصبا للنار، وقد قيل إنها من الحجارة التي

_ 1 انظر سبب نزول الآية في تفسير الطبري (8/ 15- 19) . 2 الآية (121) من سورة الأنعام. 3 عبد الله بن الزعبري- بكسر الزاي الموحدة وسكون المهملة بعدها راء مقصورة- ابن قيس القرشى السهمي، كان من أشهر قريش وكان شديدا على المسلمين ثم أسلم في الفتح ومدح النبي صلى الله عليه وسلم. الإصابة: (2/ 300) . 4 انظر: سبب النزول في تفسير ابن كثير (4/131) . 5 الآيتان (57- 58) من سورة الزخرف 6 الآية (59) من سورة الزخرف. 7 الآية (101) من سورة الأنبياء

قال الله: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} 1 وقال تعالى: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً} 2 والمقصود هنا أن يعرف أن ما مضت به سنته وكان عليه خلفاؤه وأصحابه وأهل العلم والدين بالمدينة تركهم لزيارة قبره أكمل في القيام بحق الله وحق رسوله: 1- فهو أكمل وأفضل وأحسن مما يفعل مع غيره. 2- وهو أيضا في حق الله وتوحيده أكمل وأتم وأبلغ. بيان ذلك: أما كونه أتم في حق الله: فلأن حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا كما ثبت ذلك في الصحيحين عن معاذ بن جبل عن النبي ى الله عليه وسلم أنه قال: "أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟ حق الله على العباد: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ... " الحديث3 ويدخل في العبادة جميع خصائص الرب: فلا يتقى غيره، ولا يخاف غيره ولا يتوكل على غيره، ولا يدعى غيره، ولايصلى لغيره، ولا يصام لغيره، ولا يتصدق إلا له، ولا يجج إلا إلى بيته. قال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} 4

_ 1 الآية (6) من سورة التحريم. 2 الآية (15) من سورة الجن. 3 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجهاد، باب اسم الفرس والحمار فتح الباري (6/ 58) ح 2856. وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب من لقي الله بالإيمان وهو غير شاك فيه دخل الجنة وحرم على النار (1/ 43) . 4 الآية (52) من سورة النور.

فجعل الطاعة لله والرسول وجعل الخشية والتقوى لله وحده. وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} 1. فجعل الإيتاء لله والرسول كما قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 2. وجعل التوكل والرغبة إلى الله وحده. وقال تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} 3. وقال تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ} 4. وقال تعالى: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} 5. وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} 6. وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ} 7. وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ

_ 1 الآية (59) من سورة التوبة 2 الآية (7) من سورة الحشر 3 الآيتان (7- 8) من سورة الشرح 4 الآيتان (51- 52) من سورة النحل. 5 الآية (44) من سورة المائدة. 6 الآية (56) من سورة الأسراء. 7 الآية (4) من سورة الأحقاف

فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} 1 وهذا باب واسع. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس: "إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله"2. وفي الصحيحين عن النبي النبي صلى الله عليه وسلم في صفة السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب قال: "أنهم الذين لا يتطيرون ولا يكتوون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون" 3 فهم لا يطلبون من غيرهم أن يرقيهم والرقية دعاء فكيف بما هو أبلغ من ذلك؟ ومعلوم أنه لو اتخذ قبره عيدا ومسجدا ووثنا، وصار الناس يدعونه ويتضرعون إليه ويسألونه ويتوكلون عليه ويستغيثون به، ويستجيرون به، وربما سجدوا له وطافوا به وصاروا يحجون إليه، وهذه كلها من حقوق الله وحده

_ 1 الآية (22) من سورة سبأ. 2 أخرجه الإمام أحمد (1/ 293، 303، 357) . وأخرجه الترمذي في السنن، كتاب صفة القيامة، باب (59) (4/ 667) ح 2516 وقال: هذا حديث حسن صحيح. وأخرجه الحاكم في المستدرك (3/ 541- 542) . قال الحافظ ابن رجب في جامع العلوم (ص 174) : "لهذا الحديث عن ابن عباس طرق كثيرة وأصح الطرق كلها طريق حنش الصنعاني التي خرجها الترمذي، كذا قال ابن منده وغيره، وقد روى أيضا من طرق عن علي بن أبي طالب وأبي سعيد الخدري وسهل بن سعد وعبد الله بن جعفر، وفي أسانيدها كلها ضعف، وبكل حال فطريق حنش التى خرجها الترمذي حسنة جيدة". انتهي باختصار يسير. 3 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الطب، باب من لم يرق. فتح الباري (10/ 211) ح 5752 واللفظ له. وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الأيمان، باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب (1/ 137) .

لا يشركه فيها مخلوق. فكان من حكمة الله دفنه في حجرته ومنع الناس من مشاهدة قبره، والعكوف عليه، والزيارة له، ونحو ذلك لتحقيق توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له لإخلاص الدين لله. وأما قبور أهل البقيع ونحوهم من المؤمنين فلا يجعل ذلك عندها وإذا قدر أن ذلك فعل عندها منع من يفعل ذلك وهدم ما يتخذ عليها من المساجد، وإن لم تزل الفتنة إلا بتعفية قبره وتعميته فعل ذلك كما فعله الصحابة بأمر عمر بن الخطاب في قبر دانيال1. وأما كون ذلك أعظم لقدره وأعلى لدرجته: فلأن المقصود المشروع بزيارة قبور المؤمنين كأهل البقيع وشهداء أحد هو الدعاء لهم كما كان هو يفعل ذلك إذا زارهم وكما سنه لأمته. فلو سن للأمة أن يزوروا قبره للصلاة عليه والسلام عليه والدعاء له، كما كان بعض أهل المدينة يفعل ذلك أحيانا وبين مالك أنه بدعة لم يبلغه عن صدر هذه الأمة ولا عن أهل العلم بالمدينة، وأنها مكروهة فإنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها لكن بعض الناس يزوره ثم لتعظيمه في القلوب وعلم الخلق بأنه أفضل الرسل وأعظمهم جاها وأنه أوجه الشفعاء إلى ربه، يدعو النفس إلى أن تطلب منه حاجاتها وأعراضها وتعرض عن حقه الذي هو له من الصلاة والسلام عليه والدعاء له. فإن الناس مع ربهم كذلك إلا من أنعم الله عليه بحقيقة الإيمان، إنما

_ 1 انظر: البداية لابن كثير (2/ 45- 42) .

يعظمون الله عند ضرورتهم إليه كما قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الأِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} 1 وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ} 2ز. وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ} 3 ونظائر هذا في القرآن متعددة. فإذا كانوا إلا ما شاء الله، إنما يعظمون ربهم ويوحدونه ويذكرونه عند ضرورتهم لأغراضهم ولا يعرفون حقه إذا خلصهم فلا يحبونه ويعبدونه ولا يشكرونه ولا يقومون بطاعته فكيف يكونون مع المخلوق؟ فهم يطلبون من الأنبياء والصالحين أغراضهم وذلك مقدم عندهم على حقوق الأنبياء والصالحين فإذا أيقنوا أن في زيارة قبر نبي أو صالح تحصيل أغراضهم بسؤاله ودعائه وجاهه وشفاعته أعرضوا عن حقه واشتغلوا بأغراضهم كما هو الموجود في عامة الذين يحجون إلى القبور المعظمة ويفصدونها لطلب الحوائج. فلو أذن الرسول لهم في زيارة قبره ومكنهم من ذلك لأعرضوا عن: 1- حق الله الذي يستحقه من عبادته. 2- وعن حق الرسول الذي يستحقه من الصلاة والسلام عليه والدعاء له بل ومن جعله واسطة بينهم ويين الله في تبليغ أمره ونهيه وخبره. فكانوا يهضمون حق الله وحق الرسول كما فعلت النصارى فإنهم بغلوهم

_ 1 الآية (12) من سورة يونس 2 الآية (67) من سورة الإسراء. 3 الآية (8) من سورة الزمر.

في المسيح تركوا حق الله من عبادته وحده وتركوا حق المسيح، فهم لا يدعون له بل هو عندهم رب يدعى ولا يقومون بحق رسالته فينظرون ما أمر به وما أخبر به بل اشتغلوا بالشرك به وبغيره وطلب حوائجهم ممن يستضفعون به من الملائكة والأنبياء والصالحين عما يجب من حقوقهم. وأيضا فلو جعلت الصلاة والسلام عليه والدعاء له عند قبره أفضل منها في غير تلك البقعة كما قد يكون الدعاء للميت عند قبره أفضل، لكانوا يخصون تلك البقعة بزيادة الدعاء له وإذا غابوا عنها تنقص صلاتهم وسلامهم ودعاؤهم له، فإن الإنسان لا يجتهد في الدعاء في المكان المفضول كما يجتهد في المكان الفاضل، وهم قد أمروا أن يقوموا بحق الرسول صلى الله عليه وسلم في كل مكان، وأن لا يكون البعيد عن قبره أنقص إيمانا وقياما بحقه من المجاور لقبره، وقال لهم صلى الله عليه وسلم "لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي حيث كنتم فإن صلاتكم تبلغني"1. وقد شرع لهم أن يصلوا عليه ويسألوا له الوسيلة إذا سمعوا المؤذن حيث كانوا، وأن يسلموا عليه في كل صلاة، ويصلوا عليه في الصلاة، وأن يسلموا عليه إذا دخلوا المسجد واذا خرجوا منه. فهذا الذي أمروا به عام في كل مكان، وهو يوجب من القيام بحقه ورفع درجته وإعلاء منزلته ما لا يحصل لو جعل ذلك عند قبره أفضل، ولا إذا سوي بين قبره وقبر غيره. بل إنما يحصل كمال حقه مع حق ربه، بفعل ما شرعه وسنه لأمته من واجب ومستحب: وهو أن يقوموا بحق الله، ثم بحق رسوله حيث كانوا من

_ 1 تقدم تخريجه ص 580.

المحبة والمولاة والطاعة وغير ذلك من الصلاة والسلام والدعاء وغير ذلك. ولا يقصدون تخصيص القبر لما يفضي إليه ذلك من ترك حق الله وحق رسوله. فهذا وغيره مما يبين أن ما نهي عنه الناس ومنعوا منه، وكان السلف لا يفعلونه من زيارة قبره، وإن كانا زيارة قبر غيره مستحبة، فهو أعظم لقدره وأرفع لدرجته وأعلى في منزلته، وأن ذلك أقوم بحق الله وأتم وأكمل في عبادته وحده لا شريك له وإخلاص الدين له، ففي ذلك تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله. وإن أهل البدع الذين فعلوا ما لم يشرعه الله بل ما نهي عنه وخالفوا الصحابة والتابعين لهم بإحسان فاستحبوا ما كان أولئك يكرهونه ويمنعون منه، هم مضاهؤون للنصارى، وإنهم نقصوا من تحقيق الإيمان بالله وبرسوله، والقيام بحق الله وحق رسوله بقدر ما دخلوا فيه من البدعة التي ضاهوا بها النصارى فهذا هذا، والله أعلم. وأيضا فإنه إذا أطيع أمره وأتبعت سنته كان له من الأجر بقدر أجر من أطاعه واتبع سنته لقوله صلى الله عليه وسلم: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيئا" 1. وأما البدع- التي لم يشرعها بل نهي عنها، وإن كانا متضمنة للغلو فيه والشرك به والإطراء له كما فعلت النصارى، فإنه لا يحصل بها أجر لمن عمل بها فلا يكون للرسول فيها منفعة، بل صاحبها إن عذر كان ضالا لا أجر له

_ 1 تقدم تخريجه ص 397.

وإن قامت عليه الحجة استحق العذاب. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله"1. فإن قال هؤلاء الذين قاسوا زيارة قبره على زيارة سائر القبور: إن الناس منعوا من الوصول إليه تعظيما لقدره، وجعل سلامهم وخطابهم له من الحجرة لأن ذلك أبلغ في الأدب والتعظيم. قيل: فهذا يوجب الفرق فإن الزيارة المشروعة إن كان مقصودها الدعاء له فكون ذلك قريبا من الحجرة أفضل منه في سائر المساجد والبقاع، فالذي يدعو له من داخل الحجرة أقرب، وإن كان القرب مستحبا فكلما كان أقرب كان أفضل كسائر القبور. وإن كان مقصودها أي الزيارة- ما يقوله أهل الشرك والضلال من فى عائه ودعاؤه من القرب أولى، فينبغي أن يكون من داخل الحجرة أولى. ولما ثبت بالنص والإجماع أن هذا القرب من القبر ممنوع منه، وهو أيضا غير مقدور عليه، علم أن القرب من ذلك ليس بمستحب. بخلاف زيارة قبر غيره والصلاة على قبره- أي قبر ذلك الغير- فإن القرب منه مستحب إذا لم يفض إلى مفسدة من شرك أو بدعة أو نياحة فإن أفضى إلى ذلك منع من ذلك. ومما يوضح هذا: أن الشخص الذي يقصد أتباعه زيارة قبره يجعلون قبره بحيث يمكن زيارته فيكون له باب يدخل منه إلى القبر ويجعل عند القبر مكان للزائر إذا دخل بحيث يتمكن من القعود فيه بل يوسع المكان ليسع الزائرين.

_ 1 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا} فتح الباري (6/ 478) ح 3445.

ومن اتخذه مسجدا جعل عنده صورة محراب أو قريبا منه، وإذا كان الباب مغلقا جعل له شباكا على الطريق ليراه الناس فيه فيدعونه. وقبر النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف هذا كله لم يجعل للزوار طريق إليه بوجه من الوجوه ولا قبر في مكان كبير يسع الزوار، ولا جعل للمكان شباك يرى منه القبر بل منع الناس من الوصول إليه والمشاهدة له. ومن أعظم ما من الله به على رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى أمته واستجاب فيه دعاءه أن دفن في بيته بجانب مسجده. فلا يقدر أحد أن يصل إلا إلى المسجد والعبادة المشروعة في المسجد معروفة بخلاف ما لو كان القبر منفردا عن المسجد. والمسافر إليه إنما يسافر إلى المسجد وإذا سمى هذا زيارة لقبره فهو اسم لا مسمى له إنما هو إتيان إلى مسجده، ولهذا لم يطلق السلف هذا اللفظ"1 فالزيارة المعهودة من القبور ممتنعة فيه قبره فليست من العمل المقدور ولا المأمور، فامتنع أن يكون أحد من العلماء يقصد بزيارة قبره هذه الزيارة، وإنما أرادوا السفر إلى مسجده والصلاة والسلام عليه والثناء عليه هناك لكن سموا هذا زيارة لقبره كما اعتادوه، ولو سلكوا مسلك التحقيق الذي سلكه الصحابة ومن اتبعهم لم يسموا هذا زيارة لقبره وإنما هو زيارة لمسجده وصلاة وسلام عليه ودعاء له وثناء عليه في مسجده سواء كان هناك القبرأو لم يكن2. فمجرد زيارة قبره كالزيارة المعروفة للقبور غير مشروعة ولا ممكنة ولو كان في زيارة قبره عبادة زائدة للأمة لفتح باب الحجرة ومكنوا من فعل تلك العبادة

_ 1 الرد على الأخنائي (ص 151- 160) بتصرف. 2 الصارم المنكي (ص 85، 86) .

عند قبره، وهم لم يمكنوا إلا من الدخول إلى مسجده1 والله سبحانه قد فرق بين قبر رسوله صلى الله عليه وسلم وقبر غيره فإنهم دفنوه بالحجرة ولم يبرزوا قبره كما كانوا يزورون قبورهم خوفا أن يتخذ مسجدا. ثم انهم منعوا الناس من زيارته كما يزورون القبور، فلم يكونوا يمكنون الناس من الدخول لزيارته. ثم إنهم سدوا باب الحجرة وبنوا عليها حائطا آخر فلم يبق أحد متمكنا من زيارته كما تزار القبور. ولهذا لم يعرف عن أحد من الصحابة أنه تكلم بهذا الاسم في حقه فقال تستحب زيارة قبره أو لا تستحب أو نحو ذلك ولا علق بهذا الاسم حكما شرعيا وقد كره من كره من العلماء التكلم به، وذلك اسم لا مسمى له ولفظ لا حقيقة له وإنما تكلم به من تكلم من المتأخرين ومع هذا فلم يريدوا ما هو معروف من زيارة القبور"2. فتبين أنه ليس في الشريعة عمل يسمى ((زيارة لقبره)) وأن هذا الاسم لا مسمى له، والذين أطلقوا هذا الاسم إن أرادوا به ما يشرع فالمعنى صحيح لكن عبروا عنه بلفظ لايدل عليه. وإن أرادوا ما لا يشرع فذاك المعنى خطأ مفهوم ومع هذا فليس هو زيارة. فخلاصة ما يمكن حصره من مسائل وأقوال في مسألة السلام على النبي صلى الله عليه وسلم ما يلى: 1- أن السلام عليه صلى الله عليه وسلم عند دخول مسجده وسائر المساجد في سائر البقاع مشروع بالكتاب والسنة والإجماع وقد تقدم ذكر الأدلة في ذلك.

_ 1 الصارم المنكي (ص 112) . 2 الرد على الأخنائي (ص 25- 26) .

2- أما السلام عليه عند قبره من داخل الحجرة فهذا كان مشروعا لما كان ممكنا بدخول من يدخل على عائشة. 3- أما تخصيص هذا السلام أو الصلاة بالمكان القريب من الحجرة فهذا محل النزاع. وللعلماء في ذلك ثلاثة أقوال: القول الأول: منهم من ذكر استحباب السلام أو الصلاة والسلام عليه إذا دخل المسجد، ثم بعد أن يصلي في المسجد استحب أيضا أن يأتي إلى الحجرة ويصلي ويسلم كما ذكر ذلك طائفة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد. القول الثاني: ومنهم من لم يذكر إلا النوع الثاني فقط أي أنه يأتي إلى الحجرة ويصلي ويسلم. القول الثالث: ومنهم من لم يذكروا إلا النوع الأول فقط أي السلام أو الصلاة والسلام عليه عند دخول المسجد، وفي التشهد في الصلاة وهذا ما ذكره كثير من السلف1. فهذا النوع الأول- أي السلام عند دخول المسجد- هو المشروع لأهل البلد وللغرباء في هذا المسجد وغير هذا المسجد وأما النوع الثاني- أي السلإم عليه عند الحجرة- فهو الذي فرق من استحبه بين أهل البلد والغرباء سواء فعله مع الأول أو مجردا عنه فاستحبوه للغرباء دون أهل البلد، محتجين على ذلك بفعل ابن عمر رضي الله عنهما.

_ 1 الرد على الأخنائي (ص 142) .

وفي هذا الاستحباب نظر "لأن الأمر إذا فعله من الصحابة الواحد والاثنان والثلاثة وأكثر، دون غيرهم كان غايته أن يثبت به التسويغ بحيث يكون هذا مانعا من دعوى الإجماع على خلافه، بل يكون كسائر المسائل التي يساغ فيها الاجتهاد، أما أن يجعل من سنة الرسول وشريعته وحكمه ما لم تدل عليه سنته لكون بعض السلف فعل ذلك فهذا لا يجوز1. فالأولى في هذه المسألة أن يقال: إن فعل ابن عمر إنما يدل على التسويغ بحيث يكون فعل من فعل ذلك اقتداء بفعل بعض الصحابة لم يبتدع شيئا من عنده. أما أن يقال إن فعل هذا عبادة وطاعة يشرع فعلها احتجاجا بفعل بعض الصحابة- ولا سيما إذا عرف أن جمهور الصحابة لم يكونوا يفعلون ذلك- فلا يكفي الإحتجاج بفعل بعض الصحابة على استحبابه بل الأمر يحتاج إلى دليل شرعي. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما أن يقال إن الرسول ندب إلى ذلك ورغب فيه وجعله عبادة وطاعة يشرع فعلها، فهذا يحتاج إلى دليل شرعي ولا يكفي في ذلك فعل بعض السلف. ولا يجوز أن يقال إن الله ورسوله يحب ذلك أو يكرهه، وإنه سن ذلك وشرعه، أو نهي عن ذلك وكرهه، ونحو ذلك إلا بدليل يدل على ذلك لا سيما إذا عرف أن جمهور أصحابه لم يكونوا يفعلون ذلك. فيقال: لو كان ندبهم إلى ذلك وأحبه لهم لفعلوه فإنهم كانوا أحرص الناس

_ 1 الرد على الأخنائي (ص 177- 178) .

على الخير، ونظائر هذا متعددة والله أعلم"1. وفي الوقت ذاته لا يقال: انعقد إجماعهم2 على تركه فيبدع من فعله مع أنه قد ثبت فعله من بعض الصحابة كما ثبت من فعل ابن عمر رضي الله عنهما. هذا فيما يتعلق بالسلام عليه عند حجرته للقادم من السفر. أما الشخص المقيم فلم يستحب أحد من علماء السلف أن يأتي أحد إلى الحجرة للسلام أو الصلاة، بل هو منهي عنه لأن في تخصيص الحجرة للصلاة والسلام بهذه الصورة جعلا لها عيدا، وكذلك فإن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان لم يكونوا يفعلون ذلك. وقد تقدم نقل كلام الإمام مالك في هذه المسألة بعينها وكيف أنه كره ذلك لأن السلف لم يكونوا يفعلون ذلك وقال رحمه الله: "لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح أولها". فوقوف أهل المدينة بالقبر من البدع التي لم يفعلها الصحابة، وهذه الزيارة منهي عنها لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني" وروي مثل ذلك في السلام عليه، فعلم أنه يكره تخصيص تلك البقعة بالصلاة والسلام بل يصلى ويسلم في جميع المواضع وذلك واصل إليه فمثل هذه الزيارة بدعة منهي عنها. والذين أجازوا السلام عليه عند الحجرة للغرباء اختلفوا كيف يسلم عليه هل تستقبل الحجرة أم القبلة؟ على قولين:

_ 1 الرد على الأخنائي (ص 179) . 2 قال شيخ الإسلام ابن تيمية وإذا فعله من الصحابة الواحد والاثنان والثلاثة وأكثر دون غيرهم كان غايته أن يثبت به التسويغ بحيث يكون مانما من دعوى الإجماع.

القول الأول: فالأكثرون يقولون يستقبل الحجرة كمالك والشافعي وأحمد. القول الثاني: وأبو حنيفة يقول يستقبل القبلة ويجعل الحجرة عن يساره في قول وخلفه في قول. لأن الحجرة النبوية لما كانت خارجة عن المسجد لم يكن يمكن أحدا أن يستقبل وجهه صلى الله عليه وسلم، ويستدبر القبله، كما صار ذلك ممكنا بعد دخولها في المسجد، بل كان إن استقبل القبلة صارت عن يساره، وحينئذ فإن كانوا يستقبلونه ويستدبرون الغرب فقول الأكثرين أرجح وإن كانوا يستقبلون القبلة حينئذ ويجعلون الحجرة عن يسارهم فقول أبي حنيفة أرجح"1. والسلف كلهم متفقون على أن الزائر لا يسأله شيئا ولا يطلب منه ما يطلب في حياته ويطلب منه يوم القيامة لا شفاعة ولا استغفار ولا غير ذلك وإنما كان نزاعهم في الوقوف للدعاء له والسلام عليه2. فقد تكلم السلف في الدعاء للرسول صلى الله عليه وسلم عند قبره 1- فمنهم من نهي عن الوقوف للدعاء له دون السلام عليه. 2- ومنهم من رخص في الدعاء له والسلام عليه. 3- ومنهم من نهي عن الدعاء له والسلام عليه3 (أي عند قبره) . ولا يجوز السجود للحجرة ولا الطواف بها بل هو كفر بإجماع المسلمين4 بل ولا الصلاة إليها لما ثبت في صحيح مسلم من أبي مرثد الغنوي أنه قال

_ 1 مجموع الفتاوى (27/ 330) . 2 الرد على الأخنائي (ص 166) . 3 الرد على الأخنائي (ص 163) . 4 الرد على الأخنائي (ص 177، 215) .

صلى الله عليه وسلم: "لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها" 1. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والصلاة إلى الحجرة والتمسح بها وإلصاق البطن بها وغير ذلك مما يفعله الجهال منهي عنه باتفاق المسلمين"2. قال أبو بكر الأثرم3 قلت لأبي عبد الله- يعني أحمد بن حنبل: قبر النبي صلى الله عليه وسلم يلمس ويتمسح به؟ فقال: ما أعرف هذا. قلت لأبي عبد الله: إنهم يلصقون بطونهم بجدار القبر. وقلت له: ورأيت أهل العلم من أهل المدينة لا يمسونه، ويقيمون ناحية فيسلمون. فقال أبو عبد الله: نعم، وهكذا كان ابن عمر يفعل. ثم قال أبو عبد الله: بأبي وأمي صلى الله عليه وسلم"4. أما السفر إلى ((زيارة قبره)) فهذا اللفظ فيه إجمال5.

_ 1 تقدم تخريجه ص 589. 2 الرد على الأخنائي (ص 229) . 3 أحمد بن محمد بن هانئ الطائي ويقال الكلبي، أبو بكر الأثرم ثقة حافظ، صاحب تصانيف، روى عن أحمد بن حنبل وتفقه عليه، وسأله عن المسائل والعلل، توفي سنة 261 هـ، وقيل بعدها. تهذيب التهذيب (1/ 78- 79) . 4 الرد على الأخنائي (ص 178) . 5 قال شيخ الإسلام ابن تيمية: هذا الموضع مما يشكل على كثير من الناس، فبنبغى لمن أراد أن يعرف دين الإسلام أن يتأمل النصوص النبوية ويعرف ما كان يفعله الصحابة والتابعون وما قاله أئمة المسلمين ليعرف المجمع عليه من المتنازع فيه. فإن في الزيارة مسائل متعددة تنازعوا فيها، لكن لم يتنازعوا في استحباب السفر الى مسجده واستحباب الصلاة والسلام عليه ونحو ذلك مما شرعه الله في مسجده، ولم يتنازع الأئمة الأربعة والجمهور في أن السفر إلى غير الثلاثة ليس بمستحب لا لقبور الأنبياء والصالحين ولا لغير ذلك، فإن قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تشد الرحال" حديث متفق على صحته وعلى العمل به، عند الأئمة المشهوون وعلى أن السفر إلى القبور داخل فيه. الرد على الأخنائي (ص 270- 271) .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: لفظ اتيان القبر، وزيارة القبر والسفر إلى القبر ونحو ذلك، يتناول من يقصد المسجد وهذا مشروع. ويتناول من لم يقصد إلا القبر وهذا منهي عنه كما دلت عليه النصوص وأنه مالك وغيره. فمن نقل عن السلف أنهم استحبوا السفر لمجرد القبر دون المسجد ولا الصلاة فيه، بل إنما يقصد القبر كالصورة التي نهى عنها مالك فإذا لا يوجد في كلام أحد من علماء السلف استحباب ذلك فضلا عن إجماعهم عليه. وهذا الموضع يجب على المسلمين عامة وعلمائهم تحقيقه ومعرفة ما هو المشروع والمأمور به الذي هو عبادة الله وحده وطاعة له ولرسوله وبر وتقوى وقيام بحق الرسول. وما هو شرك وبدعة وضلالة منهي عنها لئلا يلتبس هذا بهذا فإن السفر إلى مسجد المدينة مشروع باتفاق المسلمين لكن إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى. وقد تقدم عن مالك وغيره أنه من نذر إتيان المدينة إن كان قصده الصلاة في المسجد يوفي بنذره، وإلا لم يوف بنذره. وأما إذا نذر اتياه المسجد لزمه لأنه إنما يقصد الصلاة. فلم يجعل إلى المدينة سفرا مأمورا به إلا سفر من قصد الصلاة في المسجد وهو الذي يؤمر به الناذر بخلاف غيره لقولى صلى الله عليه وسلم "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى" 1.

_ 1 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة. فتح الباري (3/ 63) ح 1189. وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الحج، باب لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد (4/ 126) .

وجعل من سافر إلى المدينة أو بيت المقدس لغير العبادة الشرعية في المسجدين سفرا منهيا عنه، لا يجوز أن يفعله وإن نذره، وهذا هو قول جمهورالعلماء. فمن سافر إلى مدينة الرسول أو بيت المقدس لقصد زيارة ما هناك من القبور أو من آثار الأنبياء والصالحين كان سفره محرما عند مالك والأكثرين وقيل إنه سفر مباح ليس بقربة كما قاله طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد، وهو قول ابن عبد البر. وما علمنا أحدا من علماء المسلمين المجتهدين الذين تذكر أقوالهم في مسائل الإجماع والنزاع ذكر أن ذلك مستحب. فدعوى من ادعى أن السفر إلى مجرد القبور مستحب عند جميع علماء المسلمين كذب ظاهر وكذلك ان ادعى أن هذا قول الأئمة الأربعة أو جمهور أصحابهم أو جمهور علماء المسلمين فهو كذب بلا رلمجا وكذلك ان ادعى أن هذا قول عالم معروف من الأئمة المجتهدين. وإن قال ان هذا قول بعض المتأخرين أمكن أن يصدق في ذلك وهو بعد أن يعرف صحة نقله، نقل قولا شاذا مخالفا لإجماع السلف مخالفا لنصوص الرسول صلى الله عليه وسلم، فكفي بقول فسادا أن يكون قولا مبتدعا في الإسلام مخالفا للسنة والجماعة ولما سنه الرسول ولما اجتمع عليه سلف الأمة وأئمتها، والنقل عن علماء السلف يوافق ما قاله مالك، فمن نقل عنهم ضد ذلك فقد كذب"1.

_ 1 الرد على الأخنائي (ص 219- 221) .

الباب الرابع: النهي عن الغلو في حقه صلى الله عليه وسلم

الباب الرابع: النهي عن الغلو في حقه صلى الله عليه وسلم الفصل الأول: تعريف الغلو وسد الشارع لطرق الغلو في حقه صلى الله عليه وسلم المبحث الأول: تعريف الغلو وموقف الشرع منه المطلب الأول: المعنى اللغوي ... المطلب الأول: المعنى اللغوي. أما المعنى اللغوي للغلو: فجاء في مقاييس اللغة: الغين –واللام- والحرف المعتل -أصل صحيح يدل على ارتفاع ومجاوزة قدر. يقال: غلا السعر يغلو غلاء، وذلك ارتفاعه. وغلا الرجل في الأمر غلوا، إذا جاوز حده. وغلا بسهمه غلوا، إذا رمى به سهما أقصى غايته. وتغالى النبت ارتفع وطال. وتغالى لحم الدابة: إذا انحسر عنه وبره، وذلك لا يكون إلا عن قوة وسمن وعلو ... الخ 1 وفي التهذيب " ... غلا السعر غلاء ممدود. وغلا في الدين يغلو غلوا: إذا ب وز الحد ... " 2. وفي اللسان: " ... أصل الغلاء: الارتفاع ومجاوزة القدر في كل شيء. وغلا في الدين والأمر يغلو غلوا: جاوز حده. وفي التنزيل: {لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} 3. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " الغلو: هو مجاوزة الحد بأن يزاد في حمد الشيء أو ذمه على ما يستحق ونحو ذلك " 4.

_ 1 معجم مقاييس اللغة (4/ 387، 388) . 2 تهذيب اللغة (8/ 195، 192) . 3 لسان العرب (15/ 131، 132) مادة (غلا) . 4 اقتضاء الصراط المستقيم (ص 106) .

المطلب الثاني: التعريف الشرعي للغلو وموقف الشرع منه

المطلب الثاني: التعريف الشرعي للغلو وموقف الشرع منه الغلو في الشرع: هو مجاوزة حدود ما شرع الله سواء كان ذلك التجاوز في جانب الاعتقاد أو القول أو العمل. وقد جاء ذكر لفظ الغلو في القرآن الكريم في موضعين وكان الخطاب فيهما للنصارى باعتبارهم أكثر غلوا في الاعتقادات والأعمال من سائر الطوائف وأما الموضعان: فأحدهما: في قوله تعالى {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} 1. وا! لوضع الثافي: قوله تعالى {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} 2. قال ابن جرير الطري: " يعني جل ثناؤه بقوله {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} : يا أهل الإنجيل من النصارى {لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} يقول: " لا تتجاوزوا الحق في دينكم فتفرطوا فيه،

_ 1 الآية (171) من سورة النساء. 2 الآية (77) من سورة المائدة.

ولا تقولوا في عيسى غير الحق فإن قيلكم في عيسى إنه ابن الله قول منكم على الله غير الحق، لأن الله لم يتخذ ولدًا، فيكون عيسى أو غيره من خلقه ابنا {وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ} . وأصل الغلو في كل شيء: مجاوزة حده الذي حده، ويقال منه في الدين قد غلا فهو يغلو غلؤا "1. وقال في تفسير آية المائدة: وهذا خطاب من الله تعالى ذكره، لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، يقول تعالى ذكره: قل يا محمد لهؤلاء الغالية من النصارى في المسيح {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} يعني بالكتاب الإنجيل {لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} يقول لا تفرطوا في القول فيما تدينون به في أمر المسيح، فتجاوزوا فيه الحق إلى الباطل فتقولوا فيه: هو الله أو هو ابنه، ولكن قولوا: هو عبد الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه {وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً} يقول لا تتبعوا أيضا في المسيح أهواء اليهود الذين قد ضلوا قبلكم عن سبيل الهدى في القول فيه كما قالوا وتبهتوا أمه كما يبهتونها بالفرية ... "2. وقال ابن كثير في تفسيره للآية الواردة في سورة النساء: " ينهي تعالى أهل الكتاب عن الغلو والإطراء وهذا كثير في النصارى فإنهم تجاوزوا الحد في عيسى حتى رفعوه فوق المنزلة التي أعطاه الله إياها فنقلوه من حيز النبوة إلى أن اتخذوه إلها من دون الله يعبدونه كما يعبدونه، بل قد غلوا في أتباعه وأشياعه ممن زعم أنه على دينه فادعوا فيهم العصمة واتبعوهم في كل ما قالوه سواء كان حقا أو باطلا، أو ضلالا أو رشادا، أو صحيحا أو كذبا ولهذا قال الله

_ 1 تفسير الطري (6/34) . 2 تفسير الطري (6/316) .

تعالى {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} 1 2. وقال عند تفسير آية سورة المائدة: أي لا تتجاوزوا الحد في إتباع الحق ولا تطروا من أمرتم بتعظيمه فتبالغوا فيه حتى تخرجوه عن حيز النبوة إلى مقام الإلهية كما صنعتم في المسيح وهو نبي من الأنبياء فجعلتموه إلها من دون الله وما ذاك إلا لاقتدائكم بشيوخكم شيوخ الضلال الذين هم سلفكم ممن ضل قديما ... "3. والمتأمل للنصوص القرآنية يجد أن النصارى لم يكتفوا بالغلو في المسيح ورفعه إلى درجة الألوهية بل غلوا أيضا في حق أحبارهم ورهبانهم فأعطوهم حق التشريع والطاعة المطلقة والإتباع حتى فيما يخالف شرع الله وأحكامه. فكان الأحبار والرهبان يحرمون ما أحل الله ويحلون ما حرم الله ويقررون شرائع وأحكامًا ما أنزل الله بها من سلطان فتلقى النصارى ذلك كله بالقبول والطاعة. قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} فهم اتبعوهم فيما حللوا وحرموا، ولهذا قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً} أي الذي إذا حرم شيئا فهو الحرام وما حلله فهو الحلال وما شرعه اتبع، وما حكم به نفذ {لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي تعالى وتقدس وتنزه عن الشركاء والنظراء والأعوان والأضداد والأنداد

_ 1 الآية (31) من سورة التوبة. 2 تفسير ابن كثبر (1/ 589) . 3 تفسير ابن كثير (2/ 82) .

والأولاد لا إله إلا هو ولا رب سواه"1. ولم يقتصر غلو النصارى عند الحد، بل قدسوهم أمواتًا كما قدسوهم أحياءً فأقاموا على قبورهم الأضرحة وقدموا لهم القرابين فكان ذلك سببا في لعنهم قال صلى الله عليه وسلم "لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"2. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "والنصارى أشد غلوا في ذلك من اليهود كما في الصحيحين: " أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكرت له أم حبيبة وأم سلمة رضي الله عنهما كنيسة بأرض الحبشة، وذكرتا من حسنها وتصاوير فيها. فقال: إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح، فمات بنو على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك التصاوير، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة"3. والنصارى كثيرا ما يعظمون آثار القديسين منهم، فلا يستبعد أنهم ألقوا إلى بعض جهال المسلمين أن هذا قبر بعض من يعظمه المسلمون ليوافقوهم على تعظيمه. فالذين يعظمون القبور والمشاهد لهم شبه شديد بالنصارى4. فالنصارى أمة ضلت وهلكت وكان سبب ضلالها وهلاكها غلوها وقد تجلى غلوها في عدة أمور منها: 1- غلوهم في نبي الله عيسى ورفعه إلى مكانة الألوهية. 2- غلوهم في رهبانهم وصالحيهم وذلك بإعطائهم حق التشريع في التحليل

_ 1 تفسير ابن كثير (2/349) . 2 تقدم تخريجه ص 588. 3 تقدم تخريجه ص 588. 4 مجموع الفتاوى (27/460،461) .

والتحريم، والعكوف على قبورهم وتقديسها بعد موتهم. 3- ابتداعهم الرهبانية. والله سبحانه وتعالى بذكره لأحوالهم في كتابه العزيز يحذرنا من الوقوع فيما وقعوا فيه، وفي هذا دعوة للاعتبار بالأم السابقة ومعرفة سبب هلاكها وضرورة اجتنابه قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَاب} 1. والغلو عند النصارى هدم أصلي الدين: 1- التوحيد، 2- الإتباع. فهم هدموا الأصل الأول بجعلهم عيسى في مقام الألوهية. وهدموا الأصل الثاني بأن جعلوا لرهبانهم حق التشريع والتحليل والتحريم. فانظر كيف كان الغلو سبيا لهدم الدين. فإن المسيح قال لهم {اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُم} وقال {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} 2 فلو امتثلوا أمره كانوا مطعين لرسول الله موحدين لله، ونالوا بذلك السعادة من الله في الدنيا والآخرة، ولكنهم غلوا فيه واتخذوه وأمه إلهين من دون الله، يستغيثون به وبغيره من الأنبياء والصالحين ويطلبون منهم ويشركون بهم، وكذبوا بالرسول الذي بشر به، وحرفوا التوراة التي صدق بها وظنوا في ذلك أنهم معظمون للمسيح وكان هذا من جهلهم وضلالهم، فإنهم لو أطاعوه فيما دعاهم إليه لكان له مثل أجورهم، وكانت طاعتهم له والإقرار بعبوديته وبما بشر به فيه له ولهم من الأجر ما لا يحصيه إلا الله،

_ 1 الآية (111) من سورة الصف. 2 الآية (6) من سورة الصف.

ففوتوا هذا الأجر والثواب عليهم وعليه وله ولهم فيه الخير المستطاب واعتاضوا عن ذلك بما ضرهم في الدنيا والآخرة. وإذا بين لهم قدر المسيح فقيل لهم {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} 1. قالوا: إن هذا تنقص بالمسيح وسب له واستخفاف بدرجته وسوء أدب معه، بل قالوا هذا كفر وجحد لحقه، وسلب لصفات الكمال الثابتة له. وهذا في الحقيقة إنما هو نقص لما في نفوسهم من الغلو فيه لا نقص لنفس المسيح الموجود في نفس الأمر. وفي ذلك من الحمد له والمدح وإعظامه والإيمان به وإعطائه الدرجة العلية ما ليس في الغلو فيه. لأن في تقرير كمال عبوديته التي هي كمال الخلوق، وهذا هو الكمال فأما الغلو فيه إلى حد الربوبية فذاك خيال باطل لا كمال حاصل وفي إثبات العبودية له، إيمان به وموافقة لخبره وأمره، فيحصل له بذلك من الخير والرحمة ما لا يحصل له بالغلو فيه، الذي هو كذب فيه مكذوب عليه ومعصية له وإشراك بالله، وليس في ذلك ما ينفعه ولا ما يرفعه بل في ذلك ضرر على المشركين المفترين "2. ولم يقتصر الغلو على النصارى وحدهم بل كان واقعا في الأمم قبلهم فالغلو كان أول خطوات الإنحراف عن الدين القويم والوقوع في الشرك. فقد روى الطبري بسنده عن عكرمة قال: "كان بين آدم ونوح عشرة قرون

_ 1 الآية (75) من سورة المائدة. 2 الرد على البكري (ص 104- 105) .

كلهم على الإسلام "1. فكان مبدأ الشرك في قوم نوح، وكان سببه غلوهم في الصالحين فقد روى البخاري في كتاب التفسير من صحيحه باب قوله تعالى {وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} عن ابن عباس أنه قال: " أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابًا وسموها بأسمائهم ففعلوا، فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت "2. فالغلو في الصالحين هو الطامة الكبرى والبلية العظمى التي جنحت بالبشرية عن جادة الحق والصواب إلى ظلمات الشرك والضلال باتخاذ أنداد لله من خلقه واعتقاد أنها تملك شيئا من خصائص الإلهية. قال ابن القيم: " ومن أسباب عبادة الأصنام الغلو في الخلوق وإعطائه فوق منزلته، حتى جعل فيه حظ من الإلهية، وشبهوه بالله سبحانه. وهذا التشبيه الواقع في الأم هو الذي أبطله الله سبحانه وبحث رسله وأنزل كتبه بإنكاره والرد على أهله3. ولهذا نهي الشارع الحكيم عن الغلو بشتى صوره وأشكاله وحذر منه وذلك لما له من آثار سيئة على الدين ولما فيه من منافاة لعقيدة التوحيد وهدم لأصليّ الدين: التوحيد، والإتباع. ولقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من الغلو في الدين وأخبر أنه سببا لهلاك من قبلنا

_ 1 تفسير الطري (29/ 99) . 2 انظر فتح الباري (8/ 667) . 3 إغاثة اللهفان (2/ 226) .

من الأم. فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والغلو في الدين فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين" 1. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وقوله "إياكم والغلو في الدين عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والأعمال" 2. وسبب قول النبي صلى الله عليه وسلم لهذه العبارة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لابن عباس غداة العقبة وهو على ناقته "القط لي حصى، فلقطت له سبع حصيات مثل حصى الخذف، فجعل ينفضهن في كفه ويقول أمثال هؤلاء فارموا، ثم قال: أيها الناس إياكم والغلو في الدين ... " الحديث. فسبب ورود الحديث ينبهنا إلى أمر هام جدا وهو أن الغلو قد يبدأ بشيء صغير ثم تتسع دائرته فتهلك بذلك أمم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وسبب هذا اللفظ العام رمي الجمار وهو داخل فيه فالغلو فيه: مثل رمي الحجارة ونحو ذلك، بناء على أنه بالغ في الحصى الصغار، ثم علل ذلك بأن ما أهلك. كان قبلنا إلا الغلو في الدين كما تراه

_ 1 أخرجه الأمام أحمد في المسند (1/ 215، 347) . والنسائي في السنن (5/ 8 ا. 2) كتاب مناسك الحج، باب التقاط الحصى. وابن ماجه في سننه، أبراب المناسك، باب قدر حصى الرمي (2/ 183) ح 3064. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: رواه أحمد والنسائي وابن ماجة من حديث عوف بن ألي جميلة عن زيادة بن حصين عن ألي العالية عنه وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم. اقتضاء الصراط المستقيم (ص 106) . وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (3/ 278) ح 1283 وقال في تخريج السنة لابن ألي عاصم (1/46) إسناده صحيح. وقد صححه ابن خزيمة والحاكم (1/466) والذهبي والنووي وابن تيمية. 2 اقتضاء الصراط المستقيم (ص 156) .

في النصارى1. ولو لم يرد في السنة إلا هذا الحديث لكفى به زاجرا ورادعا للأمة عن الوقوع في الغلو، كيف والسنة مليئة بالأحاديث التي تحذر من الغلو وتبين خطره وهلاكه. فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هلك المتنطعون": قالها ثلاثًا2. قال النووي: "هلك المتنطعون": أي المتعمقون الغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم3. وقال أيضا: "المتنطعون: المتعمقون المشددون في غير موضع التشديد"4، فهذا الحديث موافق لما جاء في الحديث السابق من الإخبار بهلاك أصحاب الغلو. وهناك أحاديث كثيرة نهي فيها النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه رضوان الله عليهم عن الغلو في جوانب معينة من الدين نذكر اثنين منها على سبيل المثال لا على سبيل الحصر. فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: " جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فلما أخبروا كأنهم تقالوها. فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ قال أحدهم: أما أنا فأنا أصلي الليل أبدا.

_ 1 اقتضاء الصراط المستقيم (ص 106) . 2 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب العلم، باب هلك المتنطعون (8/58) 3 شرح النووي (16/220) . 4 رياض الصالحين باب الاقتصاد في الطاعة (ص 88) .

وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر. وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا. فجاء رسول الله ال فقال: " أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني " 1. فسمى النبي صلى الله عليه وسلم الغلو في جانب العبادات والسنن التي سنها لهم رغبة عن الشرع الذي جاء به، وتبرأ ممن هذه حاله، حتى وإن كان الدافع لذلك التقرب إلى الله تعالى ذلك لأن هذا الغلو فيه هدم للأصل الثاني من أصول هذا الدين ألا وهو الإتباع فنحن مأمورون بالاقتداء به صلى الله عليه وسلم والأخذ بسنته. والغلو في هذا الجانب مناقض تماما لهذا الأصل، ولذلك فلا غرابة أن يتبرأ النبي صلى الله عليه وسلم ممن غلا في جانب ما سنه وشرعه للأمة. لأنه لو فتح هذا الباب وولجته الأمة لأصبحت عبادة الله مجالا لأهواء الناس وعقولهم وبذلك يتلاشى دينها وتنطمس معالمه فتستحق بذلك غضب الله ومقته فتهلك كما هلكت الأم السابقة. وعن أنس رضي الله عنه قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد فإذا حبل ممدود بين الساريتين فقال " ما هذا الحبل؟ " قالوا: هذا حبل زينب فإذا فترت تعلقت به. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " حلوه ليصل أحدكم نشاطه فإذا فتر فليرقد" 2 وعند مسلم " حبل لزينب تصلي ".

_ 1 تقدم تخريجه. 2 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التهجد، باب ما يكره من التشديد في العبادة. انظر: فتح الباري (3613) ح 1150. وأخرجه مسلم في صحيحه كتاب المساجد ومراجع الصلاة، باب أمر من نعس في صلاته ... (2/189) .

قال ابن حجر: "وفيه الحث على الاقتصاد في العبادة والنهي عن التعمق فيها ... "1. وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته كذلك من الغلو في حقه صلى الله عليه وسلم. وذلك لما ينطوي عليه الغلو من الشر العظيم، ولما يعلمه صلى الله عليه وسلم من منزلته في قلوب المؤمنين. فقد خشي صلى الله عليه وسلم أن يدفعهم حبهم وتعظيمهم له إلى رفعه فوق منزلته التي جعلها الله له وتشريكه مع الله في بعض ما هو حق لله. فحذرهم من الغلو في شخصه بأساليب مختلفة وذلك حماية منه لجناب التوحيد وقطعا لذريعة الشرك. وقد جاء تحذره تارة بأسلوب النهي الصريح. وتارة بالتجائه إلى ربه ودعائه بأن لا يتحول قبره إلى وثن يعبد. وتارة بلعنة الغلاة الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. فمما ورد عنه قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فانما أنا عبده، فقولوا عبد الله ورسوله"2. قال ابن حجر: "الإطراء: المدح بالباطل تقول أطربت فلانًا: مدحته فأفرطت في مدحه"3. فمعنى الحديث: أي لا تمدحوني فتغلوا في مدحي كما غلت النصارى في عيسى فادعوا فيه الربوبية، وإنما أنا عبد الله فصفوني بذلك كما وصفني به

_ 1 فتح الباري (3/ 37) . 2 تقدم تخريجه ص 626. 3 فتح الباري (6/ 490) .

ربى، وقولوا عبد الله ورسوله. فأبى عباد القبور إلا مخالفة لأمره، وارتكابا لنهيه، وناقضوه أعظم المناقضة وظنوا أنهم إذا وصفوه بأنه عبد الله ورسوله، وأنه لا يدعى ولا يستغاث به، ولا ينذر له، ولا يطاف بحجرته، وأنه ليس له من الأمر شيء، ولا يعلم من الغيب إلا ما علمه الله، أن في ذلك هضما لجنابه وغضا من قدره، فرفعوه فوق منزلته، وادعوا فيه ما ادعت النصارى في عيسى أو قريبا منه، فسألوه مغفرة الذنوب، وتفريج الكروب وغير ذلك من الأمور1. وقد ذكر شيخ الإسلام في كتاب تلخيص الاستغاثة2 عن بعض أهل زمانه أنه جوز الاستغاثة بالرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما يستغاث فيه بالله، وصنف فيه مصنفا. وكان يقول أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم مفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلا الله. وحكي عن آخر من جنسه يباشر التدريس وينسب إلى الفتيا أنه كان يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم ما يعلمه الله ويقدر على ما يقدر الله عليه. ومن هؤلاء من يقول في قول الله تعالى {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} إن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي يسبح بكرة وأصيلا. ومنهم من يقول: نحن نعبد الله ورسوله فيجعلون الرسول معبودًا ويقول قائلهم: فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم فجعل الدنيا والآخرة من جوده، وجزم بأنه يعلم ما في اللوح المحفوظ3.

_ 1 تيسير العزيز الحميد (272- 273) . 2 الرد على البكري (ص 218) . 3 تيسير العزيز الحميد (273) .

فانظر إلى ما أدى إليه هذا الإطراء من صرف أمور قد اختص بها الرب عز وجل فصرفت للنبي صلى الله عليه وسلم. ولكن ما على الرسول إلا البلاغ فقد سد النبي صلى الله عليه وسلم كل ذريعة مؤدية إلى الغلو والشرك حتى يبقى هذا الدين وسطا صافيًا لا كدر فيه، وتبقى عقيدة التوحيد نقية قوية خالدة. فلقد نهي الرسول الكريم عن المبالغة في مدحه لعلمه بأن هذه المبالغة بريد إلى الغلو ومدعاة للشرك والانحراف عن الطريق السوي. وهذا من الحرص الكامل للرسول صلى الله عليه وسلم على حماية التوحيد، فبهذا النهي الشديد سد الرسول صلى الله عليه وسلم طريق الغلو. والنهي عن المبالغة في الإطراء لا يعني التقليل من قدره وتوقيره فإن للتوقير والتعظيم وسائله المشروعة والتي سبق ذكرها. ولكن هناك أناس شق عليهم التوقير المشروع فلجأوا إلى التوقير الممنوع فنسجوا قصائد مطولة أغرقوا فيها بالمديح المجاوز للحد والمنافي لقواعد التوحيد والذي لا يرضى به الله ورسوله بل جاء التحذير منه بنص القرآن والسنة المطهرة. "ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أحرص الخلق على تجريد التوحيد حتى قطع أسباب الشرك ووسائله من جميع الجهات، حتى قال له رجل: ما شاء الله وشئت، قال: "اجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده "1. ونهى أن يحلف بغير الله، وأخبر أن ذلك شرك. ونهي أن يصلى إلى القبر أو يتخذ مسجدا أو عيدا أو يوقد عليه سراج،

_ 1 أخرجه الإمام أحمد (1/ 214، 224، 283، 347) ، وأخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة ص 545 ح 987.

بل مدار دينه على هذا الأصل-أي تجريد التوحيد- الذي هو قطب رحا النجاة، ولم يقرر أحد ما قرره صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله وسد الذرائع المنافية له، فتعظيمه صلى الله عليه وسلم بموافقته على ذلك لا مناقضته فيه1. والغلو بشتى صوره وأشكاله مناف لأصلي التوحيد ويكفيك أن تعلم أن سبب عبادة الأصنام هو الغلو في المخلوق، وإعطاؤه فوق منزلته، حتى جعل فيه حظ من الإلهية، وشبهوه بالله سبحانه، وهذا هو التشبيه الواقع في الأم الذي أبطه الله سبحانه، وبعث رسله وأنزل كتبه بإنكاره والرد على أهله. فهو سبحانه ينفي، وينهي، أن يجعل غيره مثلا له، وندا له وشبها له. لا أن يشبه هو بغيره إذ ليس في الأمم المعروفة أمة جعلته سبحانه مثلا لشيء من مخلوقاته، فجعلت المخلوق أصلا وشبهت به الخالق، فهذا لا يعرف في طائفة من طوائف بني آدم. وإنما الأول هو المعروف في طوائف أهل الشرك، غلوا فيمن يعظمونه، ويحبونه، حتى شبهوه بالخالق وأعطوه خصائص الإلهية، بل صرحوا أنه إله، وأنكروا جعل الألهة إلها واحدا وقالوا: {وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ} وصرحوا بأنه إله معبود، يرجى، ويخاف، ويعظم، ويسجد له ويحلف باسمه، وتقرب له القرابين إلى غير ذلك من خصائص العبادة التي لا تنبغي إلا لله تعالى. فكل مشرك فهو مشبه لإلهه ومعبوده بالله سبحانه، وإن لم يشبه من كل وجه2. فحقيقة الشرك هو التشبه بالخالق أو التشبيه للمخلوق به فالمشرك مشبه

_ 1 تيسير العزيز الحميد ص 274. 2 إغاثة اللهفان (2/ 226) .

للمخلوق بالخالق في خصائص الإلهية. فإن من خصائص الإلهية التفرد بملك الضر والنفع والعطاء والمنع، وذلك يوجب تعليق الدعاء والخوف والرجاء والتوكل به وحده. فمن علق ذلك بمخلوق فقد شبهه بالخالق، وجعل ما لا يملك لنفسه ضرًا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا -فضلا عن غيره- شبيها لمن له الأمر كله، فأزمة الأمور كلها بيديه، ومرجعها إليه فما شاء كان وما لم يشاء لم يكن، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، بل إذا فتح لعبده باب رحمته لم يمسكها أحد، وإن أمسكها عنه لم يرسلها إليه أحد. فمن أقبح التشبيه: تشبيه هذا العاجز الفقير بالذات بالقادر الغني بالذات. ومن خصائص الإلهية: الكمال المطلق من جميع الوجوه الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه. وذلك يوجب أن تكون العبادة كلها له وحده، والتعظيم والإجلال والخشية والدعاء والرجاء والإنابة والتوكل والاستعانة وغاية الذل مع غاية الحب، كل ذلك عقلا وشرعا وفطرة أن يكون له وحده، ويمنع عقلا وشرعا وفطرة أن يكون لغيره. فمن جعل شيئا من ذلك لغيره فقد شبه ذلك الغير بمن لا شبيه له ولا مثيل له ولا ند له، وذلك أقبح التشبيه وأبطله. ولشدة قبحه وتضمنه غاية الظلم أخبر سبحانه عباده أنه لا يغفره مع أنه كتب على نفسه الرحمة. ومن خصائص الإلهية: العبودية التي قامت على ساقين لا قوام لها بدونهما: غاية الحب، مع غاية الذل، هذا تمام العبودية، وتفاوت منازل الخلق فيها بحسب تفاوتهم في هذين الأصلين.

فمن أعطى حبه وذله وخضوعه لغير الله فقد شبهه في خالص حقه وهذا من المحال أن تجئ به شريعة من الشرائع، وقبحه مستقر في كل فطرة وعقل، ولكن غيرت الشياطين فطر أكثر الخلق وعقولهم، وأفسدتها عليهم واجتالتهم عنها. ومضى على الفطرة الأولى من سبقت له من الله الحسنى فأرسل إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه بما يوفق فطرهم وعقولهم فازدادوا بذلك نورًا على نور {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} 1. إذا عرف هذا فمن خصائص الإلهية السجود، فمن سجد لغيره فقد شبه المخلوق به. ومنها المتوكل، فمن توكل على غيره فقد شبهه به. ومنها التوبة، فمن تاب لغيره فقد شبهه به. ومنها الحلف باسمه تعظيما وإجلالا له، فمن حلف بغيره فقد شبهه به. هذا في جانب التشبيه. وأما في جانب التشبه به: فمن تعاظم وتكبر ودعا الناس إلى إطرائه في المدح والتعظيم والخضوع والرجاء، وتعليق القلب به خوفا ورجاء والتجاء واستعانة فقد تشبه بالله ونازعه في ربوبيته وإلهيته، وهو حقيق بأن يهينه الله غاية الهوان، ويذله غاية الذل، ويجعله تحت أقدام خلقه. وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله عز وجل: العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحدا منهما عذبته" 2. وإذا كان المصور الذي يصنع الصورة بيده من أشد الناس عذابا يوم القيامة

_ 1 الآية (35) من سورة النور. 2 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة، باب تحريم الكبر (8/36) .

لتشبهه بالله في مجرد الصنعة، فما الظن بالتشبه بالله في الربوبية والإلهية؟ ففي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " قال الله عز وجل: ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقا كخلقي، فليخلقوا ذرة، فليخلقوا شعيرة" 1. فنبه بالذرة والشعيرة على ما هو أعظم منها وأكبر وقال صلى الله عليه وسلم: "أشد الناس عذابا ئرم القيامة المصورون يقال لهم أحيوا ما خلقتم" 2 3.

_ 1 أخرجه البخاري في صحيحه كتاب التوحيد باب قول الله تعالى {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} فتح الباري (13/ 528) ح 7559. وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب اللباس والزينة، باب لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة (6/ 162) . 2 أخرجه البخاري في صحيحه، كناب اللباس، باب عذاب المصورين يوم القيامة. فتح الباري (10/82-83) ح 4950-4951، وأخرجه مسلم في صحيحه، كثاب اللباس والزينة، باب لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولاصورة (16116) . 3 الجواب الكافي (ص 159- 161) .

المبحث الثاني: الفرق بين ما هو حق لله وحده لا يشركه فيه غيره وبين ما هو حق للرسول

المبحث الثاني: الفرق بين ما هو حق لله وحده لا يشركه فيه غيره وبين ما هو حق للرسول ... المبحث الثاني: الفرق بين ها هو حق لله وحده لا يشركه فيه غيره وبين ما هو حق للرسول بعث الله جميع الرسل وأنزل جميع الكتب بالدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له، والنهي عن دعاء ما سواه -لا دعاء عبادة ولا دعاء مسألة-. قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} 1. وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 2. وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} 3. وقال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 4. فدين الحق دين الإسلام هو عبادة الله وحده لا شريك له وتصديق رسله كما يدل عليه قولنا: "أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله".

_ 1 الآية (25) من سورة الأنبياء. 2 الآية (36) من سورة النحل. 3 الآية (45) من سورة الزخرف. 4 الآيتان (79، 80) من سورة آل عمران.

فهذان الأصلان: 1- توحيد الرب بالعبادة، 2- الإيمان برسله. لابد منهما، ولهذا لا يدخل أحد في الإسلام حتى يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. ذلك لأن دين الإسلام مبني على هذين الأصلين ومن خرج عن واحد منهما فلا عمل له ولا دين. فلا إله إلا الله معناها أن نعبد الله وحده ولا نشرك به شيئا. فإن الإله: هو الذي تألهه القلوب عبادة واستعانة ومحبة وتعظيمًا وخوفًا ورجاءً وإجلالاً وإكرامًا. وهو سبحانه له حق لا يشركه فيه غيره، فلا يعبد إلا الله ولا يدعى إلا الله ولا يخاف إلا الله ولا يطاع إلا الله. وأما شهادة أن محمدًا رسول الله فهي تعني ألا نعبد الله إلا بما شرعه على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو المبلغ عن الله طاعته وأمره ونهيه وتحليله وتحريمه، فهو الواسطة بين الله وبين خلقه في تبليغ أمره ونهيه ووعده ووعيده. وليس للرسول واسطة في إجابة الدعاء، وكشف البلاء، والهداية، والإغناء ونحو ذلك. فالله تعالى هو المتفرد بذلك فهو سبحانه الذي يسمع ويرى ويعلم السر والنجوى وهو القادر على إنزال النعم وإزالة الضر من غير احتياج منه إلى أن يعرفه أحد أحوال عباده أو يعينه على قضاء حوائجهم. والأسباب التي بها يحصل ذلك هو خلقها ويسرها، فهو مسبب الأسباب التي يحصل بها ذلك ولهذا فرض سبحانه على المصلى أن يقول في صلاته

{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 1. فالله سبحانه أجل وأعظم وأغني وأعلى من أن يفتقر إلى شيء، بل هو الأحد الصمد وكل ما سواه مفتقر إليه، وهو مستغن عن كل ما سواه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " قام فينا النبي صلى الله عليه وسلم فذكر الغلول وعظم أمره قال: " لا ألفين أحدكم يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة، يقول: يارسول الله أغثني فأقول: لا أملك لك شيئا قد أبلغتك، وعلى رقبته بعير له ركاء، يقول يارسول الله أغثني فأقول: لا أملك لك شيئا، قد أبلغتك" الحديث2. فهؤلاء الذين بلغهم أخبر أنهم إذا استغاثوا به يوم القيامة وسألوه الشفاعة يقول لهم لا أملك لكم من الله شيئا قد أبلغتكم3. فعلى المسلم أن يفرق لأن ما هو حق لله وحده وبين ما هو حق لرسله. فالله أمرنا أن نؤمن بالأنبياء وما جاؤا به وفرض علينا طاعة الرسول الذي بعث إلينا ومحبته وتعزيره وتوقيره والتسليم لحكمه. وأمرنا أيضا أن لا نعبد إلا الله وحده لا نشرك به شيئا ولا نتخذ الملائكة والنبيين أربابًا. وفرق بين حقه الذي يختص به الذي لا يشركه فيه لا ملك ولا نبي. وبين الحق الذي أوجبه علينا لملائكته وأنبيائه عمومًا ولمحمد صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل

_ 1 الآية (5) من سورة الفاتحة. 2 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجهاد، باب الغلول. انظر: فتح الباري (6/185) ح 3073. وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب غلظ تحريم الغلول (6/10) . 3 انظر: الرد على البكري (ص 52- 54) بتصرف.

وخير مرسل الذي جاءه بالوحي خصوصا، فإن الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس، فاصطفي من الملائكة جبريل لرسالته واصطفي من البشر محمدا صلى الله عليه وسلم، وأخبر أن هذا القرآن الذي نزل به هذا الرسول إلى هذا الرسول مبلغا له عن الله قال تعالى {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} 1، وقال تعالى {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} 2. فالله أوجب علينا الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم خصوصا وبالملك الذي جاءه بالقرآن. وأمرنا بالإيمان بالأنبياء كلهم وبجميع ما أوتوا كما قال تعالى {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} 3. وقال تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} 4. وقال تعالى {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} 5.

_ 1 الآية (97) من سورة البقرة. 2 الآيات (192 إلى 195) من سورة الشعراء. 3 الآية (136) من سورة البقرة. 4 الآية (177) من سورة البقرة. 5 الآية (285) من سورة البقرة.

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيداً} 1. فالأنبياء وسائط بين الله عز وجل وبين عباده في تبليغ أمره ونهيه ووعده ووعيده، وما أخبر به عن نفسه وملائكته وغير ذلك مما كان وسيكون. وسائر الأنبياء علينا أن نؤمن بهم، مجملا وذلك بأن كل ما أخبروا به عن الله فهو حق وأن طاعتهم فرض على من أرسلوا إليهم. أما محمد صلى الله عليه وسلم فهو الذي أرسل إلينا وإلى جميع الخلق وقد ختم الله به الأنبياء وآتاه من الفضائل ما فضله به على غيره وجعله سيد ولد آدم وخصائصه وفضائله كثيرة وعظيمة لا يسعها هذا الموضع. وقد أوجب الله علينا أن نطيعه في كل ما أوجبه وأمر به وأن نصدقه في كل ما أخبر به، كما سبق ذكر ذلك في الباب الأول من هذه الرسالة. وهو سبحانه مع هذا كله نهانا عن الشرك بهم والغلو فيهم، وميز بين حقه تعالى وحقهم. فقال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 2 فهذا بيان أن اتخاذ الملائكة والنبيين أربابا كفر مع وجوب الإيمان بهم ما لم يحصل بعبادة الأوثان، فإن الأوثان

_ 1 الآية (136) من سورة النساء. 2 الآيتان (79، 85) من سورة آل عمران.

تستحق الإهانة وأن تكسر كما كسر إبراهيم الأصنام وكما حرق موسى العجل ونسفه وكما كان نبينا صلى الله عليه وسلم يكسر الأصنام ويهدم صوتها وقد قال تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} 1 فإهانتها من تمام التوحيد والإيمان. والملائكة والأنبياء بل الصالحون يستحقون المحبة والموالاة والتكريم والثناء. مع أنه يحرم الغلو فيهم والشرك بهم، فلهذا صار بعض الناس يزيد في التعظيم على ما يستحقونه فيصير شركا، وبعضهم يقصر عما يجب لهم من الحق فيصير فيه نوع من الكفر. والصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وهو القيام بما أمر الله به ورسله في هذا وهذا. والله تعالى يميز حقه من حق غيره ففي الصحيحين عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "يا معاذ أتدرى ما حق الله على العباد" قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "أن يعبدوه ولا شركوا به شيئا، أتدرى يا معاذ ما حقهم عليه إذا فعلوا ذلك؟ " قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "أن لا يعذبهم" 2. وقد قال تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كَانُوا يَفْتَرُونَ} 3.

_ 1 الآية (98) من سورة الأنبياء. 2 تقدم تخريجه. 3 الآيتان (74-75) من سورة القصص.

فالرسل كلهم نوح وهود وصالح وشعيب وغيرهم يبينون أن العبادة والتقوى حق لله وحده، وحق الرسل طاعتهم. قال نوح عليه السلام {يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} 1. وكذلك قال هود وصالح وشعيب وغيرهم {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 2. وقال تعالى {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} 3. وكذلك قال سائر الرسل هود وصالح وشعيب كل يقول {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} 4. وكذلك في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} 5. فجعل الطاعة لله والرسول. وجعل الخشية والتقوى لله وحده. وقال تعالى: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} 6. فالإيمان بالله والرسول، والتعزير والتوقير للرسول، وتعزيره، نصره ومنعه.

_ 1 الآيتان (2- 3) من سورة نوح. 2 الآيات (65- 73- 85) من سورة الأعراف. 3 الآيات (من 105 إلى 108) من سورة الشعراء. 4 الآيات (126- 131- 144- 163- 179) من سورة الشعراء. 5 الآية (52) من سورة النور. 6 الآية (9) من سورة الفتح.

والتسبيح بكرة وأصيلا لله وحده، فإن ذلك من العبادة لله وحده والعبادة هي لله وحده. وقال تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ} 1 فأنكر سبحانه أن يتقى غيره كما أمر أن لا يرهب إلا إياه. وقال تعالى: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} 2. وقال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} 3. فقد أمر الله تعالى في غير موضع بأن يخشى ويخاف ولا يخشى ويخاف غيره. وقال تعالى {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} 4. ففي الإيتاء قال {مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} كما قال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} لأن الحلال ما حلله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله. فما أعطاه الرسول للناس فهو حقهم بالقول والعمل كالفرائض التي قسمها الله وأعطى كل ذي حق حقه وكذلك من الفيء والصدقات ما أعطى فهو

_ 1 الآيتان (51، 52) من سورة النحل. 2 الآية (150) من سورة البقرة. 3 الآية (18) من سورة التربة. 4 الآية (59) س سورة التوبة.

حقه، وما أباحه له فهو مباح، وما نهاه عنه فهو حرام عليه فلهذا قال تعالى {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ} ولم يقل هنا ورسوله لأن الله تعالى وحده حسب عبده أي كافيه. لا يحتاج الرب في كفايته إلى أحد لا رسول ولا نبي، ولهذا لا تجئ هذه الكلمة إلا الله وحده كقوله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} 1. وقال تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} 2. وقال تعالى {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} 3 إلى قوله {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} 4 أي حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين كما قاله جمهور أهل العلم. ومن قال إن الله ومن اتبعك حسبك فقد غلط، ولم يجعل الله وحده حسبه بل جعله وبعض المخلوقين حسبه، وهذا مخالف لسائر آيات القرآن. وقال تعالى {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} 5 فهو وحده كاف عبده، وقال تعالى {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} 6.

_ 1 الآية (173) من سورة آل عمران. 2 الآية (129) من سورة التوبة. 3 الآية (62) من سورة الأنفال. 4 الآية (64) من سورة الأنفال. 5 الآية (36) من سورة الزمر. 6 الآية (3) من سورة الطلاق.

فلهذا قال تعالى {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ} ولم يقل ورسوله ثم قال {إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} ولم يقل ورسوله بل جعل الرغبة إلى الله وحده كما قال {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} 1. فالرغبة تتضمن التوكل وقد أمر أن لا نتوكل إلا عليه كقوله {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا} 2 وقوله {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} 3. فالتوكل على الله وحده، والرغبة إليه وحده، والرهبة منه وحده. ليس لمخلوق لا الملائكة ولا الأنبياء في هذا حق كما ليس لهم حق في العبادة ولا يجوز أن نعبد إلا الله وحده ولا نخشى ولا نتقى إلا الله وحده كما قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} 4. فإذا قال القائل لا يجوز التوكل إلا على الله وحده، ولا العبادة إلا لله وحده ولا يتقى ولا يخشى إلا الله وحده لا الملائك ولا الأنبياء ولا غيرهم كان هذا تحقيقا للتوحيد. ولم يكن، هذا سبًا لهم ولا تنقصًا بهم ولا عيبًا لهم وإن كان فيه بيان نقص درجتهم عن درجة الربوبية فنقص المخلوق عن الخالق من لوازم كل مخلوق. ويمتنع أن يكون المخلوق مثل الخالق.

_ 1 الآيتان (7- 8) من سورة الشرح. 2 الآية (23) من سورة المائدة. 3 الآية (99) من سورة النحل. 4 الآية (2) من سورة الأنفال.

والملائكة والأنبياء كلهم عباد الله يعبدونه كما قال تعالى {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} 1. وقال تصالى {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} 2. فإذا نفي عن مخلوق ملك أو نبي أو غيرهما ما كان من خصائص الربوبية وبين أنه عبد الله كان هذا حقا واجب القبول، وكان إثباته إطراء للمخلوق فإن دفعه عن ذلك كان عاصيا بل مشركا. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم "لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم فإنما أنا عبد الله فقولوا عبد الله ورسوله ". فالله تعالى قد وصفه بالعبودية حين أرسله، وحين تحدى، وحين أسرى به فقال تعالى {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ} 3. وقال تعالى {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} 4. وقال تعالى {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} 5. وأهل الباطل يقولون لمن وصفهم بالعبودية إنه عابهم وسبهم ونحو ذلك.

_ 1 الآية (172) من سورة النساء. 2 الآيات (26، 27، 28، 29) من سورة الأنبياء. 3 الآية (19) من سورة الجن. 4 الآية (23) من سورة البقرة. 5 الآية (1) من سورة الإسراء.

ولهذا لما سأل النجاشي1 جعفر بن أبي طالب2 رضي لله عنه ما تقول في المسيح عيسى؟ فقال: هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه رفع النجاشي عودًا وقال: ما زاد المسيح على ما قلت هذا العود فنخرت بطارقته3. فقال: وإن نخرتم"4. فهم يجعلون قول الحق في المخلوق سبًا له، وهم يسبون الله ويصفونه بالنقائص والعيوب كما في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك. أما تكذبه إياي أن يقول: إني لن أعيده كما بدأته، وأما شتمه إياي أن يقول: اتخذ الله ولذا، وأنا الصمد الذي لم ألد ولم أولد ولم يكن لي

_ 1 أصحمة بن أبحر النجاشي -ملك الحبشة- واسمه بالعربية عطية والنجاشى لقب، أسلم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يهاجر إليه، وكان ردءا للمسلمين نافعا، وقصته مشهورة في المغازى في إحسانه للمسلمين الذين هاجروا إليه في صدر الإسلام، توفي في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وصلى عليه صلاة الغائب. الإصابة (1/ 117) . 2 جعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم وأحد السابقين للإسلام، هاجر إلى الحبشة، فأسلم النجاشى ومن تبعه على يديه، ئم قدم المدينة والنبي صلى الله عليه وسلم بخيبر، واستشهد في مؤتة سنة ثمان من الهجرة. الإصابة (1/239-240) . 3 أي تكلمت، وكأنه كلام مع غضب ونفور. النهاية (5/32) . 4 أخرجه الإمام أحمد في المسند (1/201-203) (5/290-292) . قال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/24-27) رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. وأخرجه البيهقي في دلائل النبوة (2/ 293-295) . وهو في سيرة ابن هشام (1/289-291) .

كفوا أحد " 1. فقد أخبر سبحانه أن هؤلاء يسبونه، وقد كان معاذ بن جبل يقول عن النصارى: لا ترحموهم فقد سبوا الله سبة ما سبه إياها أحد من البشر. وهذا نظير ما ذكره الله تعالى عن المشركين بقوله {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ} 2. فكانوا ينكرون على محمد عليه السلام أن يذكر آلهتهم بما تستحقه وهم يكفرون بذكر الرحمن ولا ينكرون ذلك كما قال تعالى {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} 3. وهكذا من فيه شبهه من اليهود والنصارى والمشركين تجده يغلو في بعض المخلوقين من المشايخ والأئمة والأنبياء وغيرهم وإذا ذكروا بما يستحقونه أنكر ذلك ونفر منه وعادى من فعل ذلك وهو وأصحابه يستخفون بعبادة الله وحده وبحقه وبحرماته وشعائره ولا ينكر ذلك. ويحلف أحدهم بالله ويكذب ويحلف بمن يعظمه ويصدق ولا يستجيز الكذب إذا حلف به. وهؤلاء من جنس النصارى والمشركين وكذلك قد يعيبون من نهي عن شركهم كالحج إلى القبور التي يحجون إليها عادة وهم يستخفون بحرمة الحج إلى بيت الله

_ 1 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في قوله تعالى {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ... } الآية (6/287) ح 3193 وكذلك في كتاب التفسير، تفسير سورة الإخلاص. انظر فتح الباري (8/739) ح 4974، 4975. 2 الآية (36) من سورة الأنبياء. 3 الآية (108) من سورة الأنعام.

ويجعلون الحج إلى القبور أفضل منه. وقد ينهون عن الحج اعتياضا إلى القبور ويقولون هذا الحج الأكبر. ويرون النهي عن الحج إلى قبور الأنبياء والصالحين إخلالا بحقهم ومعاداة لهم ونحو ذلك. وهم لا يرون الشرك بالله ودعاء غيره واتخاذ عباده من دونه أولياء إخلالا بحقه ومعاداة له. ومعلوم أن المشركين من أعظم أعداء الله عز وجل قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} 1 فأمر بالتأسي بإبراهيم ومن معه لما تبرءوا من المشركين وما يعبده المشركون، وأظهروا لهم العداوة والبغضاء حتى يؤمنوا بالله وحده. فالمشرك والآمر بالشرك والراضي به معاد لله، ومن عادى الله فقد عادى أنبياءه وأولياءه.

_ 1 الآيات (1-4) من سورة الممتحنة.

وأما من أمر بما جاءت به الرسل فلم يعادهم ولم يعاندهم قال تعالى {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} 1. وهنا موضع يشكل على بعض الناس وذلك أنه قال عليه السلام في الحديث الصحيح: " أصدق كلمة قد قالها شاعر كلمة لبيد ألا كل شيء ما خلا الله باطل2. وذلك مثل قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِل} 3. فالمراد بالباطل: ما لا ينفع، وكل ما سوى الله لا تنفع عبادته، وهذا يدخل فيه كل ما عبد من دون الله من الملائكة والأنبياء وهؤلاء قد سبقت لهم من الله الحسني فكيف يدخلون في الباطل؟. وكذلك قوله: {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} 4. فيقال: إن المراد عبادتهم والعمل لهم باطل، وقد يقال عن الشيء أنه لا شيء لانتفاء المقصود منه ليس بشيء وكما قال صلى الله عليه وسلم عن الكهان لما سئل عنهم فقال: "ليسوا بشيء" فقالوا إنهم يحدثون أحيانًا الشيء يكون حقا، فقال

_ 1 سورة الكافرون. 2 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب مناقب الأنصار باب أيام الجاهلية فتح الباري (7/149) ح 3841. وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الشعر (7/49) . 3 الآية (62) من سورة الحج. 4 الآية (32) من سورة يونس.

رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقرها في أذن وليه قر الدجاجة فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة"1. فهم ليسوا بشيء: أي لا ينتفع بهم فيما يقصد منهم، وهو الاستخبار عن الأمور الغائبة لأنهم يكذبون كثيرًا فلا يدرى ما قالوه أهو صدق أم كذب. وهم مع ذلك موجودون يضلون ويضلون. فقوله: "ليس بشيء" مثل قوله: "ألا كل شيء ما خلا الله باطل" وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِل} فهو من جهة كونه معبودًا باطل لا ينتفع به ولا يحصل لعابده مقصود العبادة وإن كان من جهة أخرى هو شمس وقمر ينتفع بضيائه ونوره وهو يسجد لله ويسبحه. وكذلك الملائكة والأنبياء إذا نفي عنهم كونهم آلهة معبودين وتبين أن عبادتهم عمل باطل لا ينتفع به، لم ينف ذلك ما يستحقونه من الإجلال والإكرام وعلو قدرهم عند الله تعالى. والتبري من عبادتهم وكونهم معبودين، لا من موالاتهم والإيمان بهم وقولهم {إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي ومن عبادتهم ومن كونهم معبودين كما قال الخليل عليه السلام: {يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} 2 فهو بريء من كل شريك لله من جهة كونه جعل شريكا وندًا لله ولم يبرأ منه من جهات أخرى. فإبراهيم لم يبرأ من الشمس والقمر والكواكب من جهة كونها مسخرة لمنافع العباد وكونها تسجد لله وتسبحه وكونها من آياته العظيمة بل من جهة كونها

_ 1 أخرجه مسلم في صحيحه، كناب السلام، باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان (7/36) . 2 الآية (78) من سورة الأنعام.

شركاء لله. أما الأوثان ونحوها فتعادى مطلقا. والشمس والقمر والملائكة والكواكب تعادى عبادتها وكونها آلهة معبودة فتبغض من هذه الجهات وتعادى، مع وجوب الإيمان بالملائكة وإذا قيل للنصارى نحن براء من شرككم ومما تعبدون من دون الله. وقد قال تعالى: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} 1 هذا بعد قوله: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} 2. فالبراءة من كل معبود سوى الله كالبراءة من كل إله سوى الله، وذلك براءة من الشرك ومن كل ما سوى الله معبودا، وليس هو براءة من المسيح من جهة كونه رسولاً كريما وجيها عند الله، بل براءة مما قيل فيه من الباطل لا من الحق. والمسيح والملائكة وغيرهم يتبرؤن ممن عبدوهم ويعادونهم ولا يوالونهم قال الله تعالى {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} 3. وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْماً بُوراً} 4.

_ 1 الآية (76) من سورة المائدة. 2 الآية (75) من سورة المائدة. 3 الآيتان (45-41) من سورة سبأ. 4 الآية (17-18) من سورة الفرقان.

وقال تعالى {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي} 1 وقال تعالى {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 2. وقال تعالى {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً} 3. وهو سبحانه لم ينه عن موالاتهم فمن أحبهم ووالاهم فهو موحد ومن جعلهم أندادًا أحبهم كما يحب الله نهو مش يث. فالحب لله توحيد وإيمان. والحب كما يص جا الله شرك وكفر. وكذلك الشفاعة قال تعالى: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} 4. وقال تعالى {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} 5. فتبين أنه لا تنفع شفاعة الملائكة والأنبياء ولا غيرهم إلا لمن أذن له حتى "إذا قضى بالأمر ضربت الملائكة بأجنحتها خضعازا لقوله تعالى كأنه سلسلة على صفوان"6 وصعقوا فلا يعلمون ما قال: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} 7.

_ 1 الآية (102) من سورة الكهف. 2 الآية (9) من سورة الشورى. 3 الآية (14) من سورة الأنعام. 4 الآية (4) من سورة السجدة. 5 الآية (255) من سورة البقرة. 6 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، تفسير سورة سبأ، باب (حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلى الكبير) . فتح الباري (8/ 537-538) ح 4800 7 الآية (23) من سررة سبأ.

فحينئذ يعلمون ما قضى به، فكيف يضفعون بدودت إذنه؟ قال الله تعالى: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} 1 وقال تعالى {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ} 2. وأوجه الشفعاء وأول شافع يوم القيامة محمد صلى الله عليه وسلم وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أحاديث الشفاعة أن الناس يوم القيامة إذا ذهبوا إلى آدم ليشفع لهم يردهم إلى نوح ونوح إلى إبراهيم وإبراهيم إلى موسى وموسى إلى المسيح والمسيح إلى محمد صلى الله عليهم وسلم أجمعين فيقول اذهبوا إلى محمد فإنه عبد غفر له الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر قال صلى الله عليه وسلم "فيأتوني فأذهب إلى ربي فإذا رأيت ربي خررت ساجدا وأحمد ربي بمحامد يفتحها عليَّ لا أحسنها الآن وحينئذ فيقول الله تعالى "أي محمد ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعطه واشفع تشفع" قال فأقول: أي رب أمتى فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة" وكذلك ذكر في الثانية والئالثة3. وفي صحيح البخاري عن أدي هريرة رضي الله عنه قلت: يارسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ " الحديث إلى أن قال صلى الله عليه وسلم: "أسعد الناس بشفاعتى من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه" 4. فقد بين أوجه الشفعاء أنه إذا أتى يبدأ بالسجود لله والحمد لله لا يبدأ

_ 1 الآيتان (26،27) من سورة الأنبياء. 2 الآية (43) مت سورة الزمر. 3 تقدم تخريجه ص 458. 4 تقدم تخريجه ص 49.

بالشفاعة حتى يؤذن له فإن أذن له فحينئذ يشفع، فإذا شفع حد له حدًا فيدخلهم الجنة، وبين أن أولى الناس بشفاعته من كان أعظم إخلاصا وتوحيدًا لا من كان سائلا وطالبا منه أو من غيره. فالأمر كله لله وحده لا شريك له هو الذي يأذن في الشفاعة وهو الذي يقبل شفاعة الشفيع فيمن يختار قال تعالى {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 1. فالذين يخالفون شريعة الأنبياء ويغلون فيهم ويقولون إنهم يحبونهم ويوالونهم ويعظمونهم بذلك، فالأنبياء يتبرءون منهم، ومحمد صلى الله عليه وسلم بريء من عمل يخالف أمره وسنته قال الله تعالى {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} 2. ولا ينفع من عصى الرسول أن يقول قصدي تعظيمهم فإنه إنما أمر بطاعتهم ولم يأمر أن يعبد الله بالظن وما تهوى الأنفس، قال الله تعالى {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} 3. فقد أخبر أنه لم يقل لهم إلا ما أمره الله به أن يعبدوا الله وحده وكذلك سائر الانبياء قال الله تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ

_ 1 الآية (68) من سورة القصص. 2 الآية (216) من سورة الشعراء. 3 الآيتان (116، 117) من سورة المائدة.

لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} 1. وهو سبحانه انما يعبد بما شرع من الدين، لا يعبد بما شرع من الدين بغير إذنه فإن ذلك شرك قال الله تعالى {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} 2. وقال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} 3 والدين الذي شرعه اما واجب أو مستحب فكل من عبد عبادة ليست واجبة في شرع الرسول ولا مستحبة كانخا من الشرك والبدع، وكلما تدبر الإنسان ما أمر به وشرعه تبين له أنه جمع في شرعه بين كمال توحيد الرب واخلاص الدفى له. وبين كمال طاعة الرسل وتعزيرهم ومحبتهم وموالاتهم ومتابعتهم فأسعد الناس في الدنيا والآخرة أتبعهم للرسول باطنا وظاهرًا صلى الله عليه وسلم تسليما4. فهذا هو صراط الله المستقيم قال تعالى {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 5. ولما أمرنا الله أن نسأله في كل صلاة أن يهدينا الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين المغايرين للمغضوب

_ 1 الآية (25) من سورة الأنبياء. 2 الآية (21) من سورة الشورى. 3 الآية (13) من سورة الشورى. 4 الرد على الأخنائي (333- 388) بتصرف. 5 الآية (153) من سورة الأنعام.

عليهم وللضالين. كان ذلك مما لحين أن العبد يخاف عليه أن ينحرف إلى هذين الطريقين1. والمغضوب عليهم هم اليهود والضالون هم النصارى2. وقد افترق اليهود والنصارى في شأن الأنبياء، فاليهود جفوا عنهم فكذبوهم وقتلوهم كما أخبر الله عنهم بقوله {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} 3، والنصارى غلوا فيهم فأشركوا بهم حتى كفروا بالله تعالى قال تعالى {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} 4. فبالإيمان بهم وتصديقهم وطاعتهم يخرج المسلم عن مشابهة اليهود وبعبادة الله وحده والاعتراف بأنهم عباد الله لا يجوز اتخاذهم أربابا إلا اك ك بهم والغلو فيهم يخرج عن مشابهة النصارى. فإن اتخاذهم أربابا كفر تال الله تعالى {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 5 والنصارى يشركون

_ 1 مجموع الفتاوى (1/ 65) . 2 كتاب الله يدل على ذلك فقد قال الله في حق اليهود {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} . وقال النصارى {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} . 3 الآية (87) من سورة البقرة. 4 الآية (171) من سورة النساء. 5 الآية (80) من سورة آل عمران.

بمن دون المسيح من الأحبار والرهبان قال تعالى {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} 1 فمن غلا فيهم واتخذهم أربابا فهو كافر. ومن كذب شيئا مما جاؤا به أو سبهم أو عابهم أو عاداهم فهو كافر. فلابد من رعاية هذا الأصل2. وكان السلف يرون أن من انحرف من العلماء عن الصراط المستقيم ففيه شبه من اليهود كما ئرى في أحوال منحرفة أهل العلم من تحريف الكلم عن مواضعه، وقسوة القلوب، والبخل بالعلم وغير ذلك. ومن انحرف من العباد ففيه شبه من النصارى كما ئرى في منحرفة أهل العبادة من الغلو في الأنبياء والصالحين وغير ذلك3. والغلو في هذه الأمة وقع في طائفتين: الطائفة الأولى: طائفة من ضلال الشيعة الذين يعتقدون في الأنبياء والأئمة من أهل البيت الألوهية. الطائفة الثانية: طائفة من جهال المتصوفة يعتقدون نحو ذلك في الأنبياء والصالحين4. فمن توهم في نبينا أو غيره من الأنبياء شيئا من الألوهية والربوبية فهو من جنس النصارى. وإنما حقوق الأنبياء ما جاء به الكتاب والسنة عنهم قال تعالى في خطابه لبني

_ 1 الآية (31) من سورة التوبة. 2 الرد على الأخنائي (324-325) . 3 مجموع الفتاوى (1/65) بتصرف. 4 انظر الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (1/92) والرد على البكري (ص 105، 106)

إسرائيل {وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} 1. والتعزير: النصر والتوقير والتأييد. وقال تعالى {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} 2 فهذا في حق الرسول، ثم قال في حق الله تعالى {وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} 3. وقال تعالى {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 4. وقال تعالى {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} 5. وقال تعالى {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} 6 وذكر طاعة الرسول في أكثر من ثلاثين موضعا. وقال تعالى {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} 7. وقال تعالى {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ

_ 1 الآية (12) من سورة المائدة. 2 الآية (8، 9) من سورة الفتح. 3 الآية (9) من سورة الفتح. 4 الآية (157) من سورة الأعراف. 5 الآية (31) من سورة آل عمران. 6 الآية (32) من سورة آل عمران. 7 الآية (56) من سورة الأحزاب.

اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا} 1 فقد بين الله في كتابه حقوق الرسول من الطاعة له، ومحبته، وتعزيره، وتوقيره، ونصره، وتحكيمه، والرضى بحكمه، والتسليم له واتباعه والصلاة والتسليم عليه، وتقديمه على النفس والأهل والمال، ورد ما يتنازع فيه إليه وغير ذلك من الحقوق. وأخبر أن طاعته طاعته فقال: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} 2 ومبايعته مبايعته فقال {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} 3. وقرن بين اسمه واسمه في المحبة فقال {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} 4 وفي الأذى فقال {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} 5 وفي الطاعة والمعصية فقال {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} 67. وفي الرضا فقال {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} 8. فهذا ونحوه هو الذي يستحقه رسول الله بأبي هو وأمي. فأما العبادة والاستعانة فلله وحده لا شريك له كما قال {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} 9.

_ 1 الآية (24) من سورة التوبة. 2 الآية (80) من سورة النساء. 3 الآية (10) من سورة الفتح. 4 الآية (24) من سورة التوبة. 5 الآية (57) من سورة الأحزاب. 6 الآية (13) من سورة النساء. 7 الآية (14) من سورة النساء. 8 الآية (62) من سورة التوبة. 9 الآية (36) من سورة النساء.

{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 1. {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} 2. وقد جمع منهما في مواضع كقوله {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} 3. وقوله {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} 4. والدعاء لله وحده سواء كان دعاء عبادة أو دعاء المسألة والاستعانة كما قال تعالى {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً} 5. وتوحيد الله وإخلاص الدين له في عبادته واستعانته في القرآن كثير جدًا، بل هو قلب الإيمان، وأول الإسلام وآخره. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله" 6. وقال صلى الله عليه وسلم "من كان آخر كلامه لا إلى إلا الله دخل الجنة" 7.

_ 1 الآية (5) من سورة الفاتحة. 2 الآية (5) من سورة البينة. 3 الآية (123) من سورة هود. 4 الآية (58) من سورة الفرقان. 5 الآيات (من 18 إلى 20) من سورة الجن. 6 تقدم تخريجه ص 45. 7 أخرجه الإمام أحمد في المسند (5/233) . وأخرجه أبر داود في السنن، كتاب الجنائز، باب في التلقين (3/486) ح 3116 وأخرجه الحاكم في المستدرك (1/351) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وحسنه الحافظ في تخريج الأذكار -كما في الفتوحات الربانية (4/109-110) وذكر له شواهد.

وهو قلب الدين والإيمان، وسائر الأعمال كالجوارح له. فالعبادة والإستعانة وما يدخل في ذلك من الدعاء والاستغاثة والخشية والرجاء والإنابة والتوكل والتوبة والاستغفار كل، هذا لله وحده لا شريك له. فالعبادة متعلقة بألوهيته، والاستعانة متعلقة بربوبيته، والله رب العالمين لا إله إلا هو، ولا رب لنا غيره، لا ملك ولا نبي ولا غيره، بل أكبر الكبائر الإشراك بالله وأن تجعل له ندا وهو خلقك، والشرك أن تجعل لغيره شركا أى نصيئا في عبادتك، وتوكلك، واستعانتك كما قال من قال {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 1 وأصناف العبادات: الصلاة بأجزائها مجتمعة، وكذلك أجزاؤها التي هي عبادة بنفسها من السجود والركوع والتسبيح والدعاء والقراءة والقيام لا يصلح إلا لله وحده. ولا يجوز أن يتنفل عن طريق العبادة إلا لله وحده، لا الشمس ولا القمر ولا الملك ولا لنبي ولا صالح ولا قبر نبي ولا صالح، وهذا في جميع ملل الأنبياء وقد ذكر في شريعتنا حتى نهي أن يتنفل على وجه التحية والإكرام للمخلوقات، ولهذا نهي النبي صلى الله عليه وسلم معاذًا أن يسجد له وقال: "لو كنت آمرًا أن يُسجد لأحد لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها" 2.

_ 1 الآية (3) من سورة الزمر. 2 أخرجه الإمام أحمد في المسند (4/381) من حديث عبد الله بن أبي أوفى (5/227-228) من حديث معاذ (6/76) من حديث عائشة. وأخرجه أبو داود في السنن، كتاب النكاح، باب حق الزوج على المرأة (2/604-605) ح 2140 من حديث قيس بن سعد وأخرجه الترمذي في السنن، كتاب الرضاع، باب ما جاء في حق الزوج على المرأة (46513) ح 1159 من حديث أبى هريرة وقال: وفي الباب عن معاذ بن جبل وسراقة بن مالك وعائشة وابن عباس وعبد الله بن أبي أوفى وطلق بن على وأم سلمة وأنس وابن عمر. انتهي كلامه. وأخرجه ابن ماجه فى السنن كتاب النكاح، باب حق الزوج على المرأة (1/341-342) ح 1857 من حديث عائشة، و 1858 من حديث عبد الله بن أبي أوفى. وأخرجه ابن حبان فى صحيحه. انظر موارد الظمآن (ح 1290) من حديث عبد الله بن أبي أوفى.

وكذلك الزكاة العامة من الصدقات كلها والخاصة لا يتصدق إلا لله كما قال تعالى {وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى} 1. فلا يجوز فعل ذلك عن طريق الدين لا لملك ولا لشمس ولا لقمر ولا لنبي ولا لصالح، كما يفعل بعض السوال والمعظمين كرامة لفلان وفلان، يقسمون بأشياء إما من الأنبياء وإما من الصحابة وإما من الصالحين. وكذلك الحج لا يحج إلا إلى بيت الله، فلا يطاف إلا به، ولا يحلق الرأس إلا به، ولا يوقف إلا بفنائه، ولا يفعل ذلك بنبي ولا صالح ولا بقبر نبي ولا صالح، ولا بوثن. وكذلك الصيام لا يصام إلا عبادة لله، فلا يصام لأجل الكواكب والشمس والقمر، ولا لقبور الأنبياء والصالحين ونحو ذلك. وهذا كله تفصيل الشهادتين: اللتين هما أصل الدين "شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدًا عبده ورسوله". والإله: من يستحق أن يألهه العباد ويدخل فيه حبه وخوفه. فما كان من توابع الألوهية فهو حق محض لله.

_ 1 الآية (9) من سورة الإنسان.

وما كان من أمور الرسالة فهو حق الرسول1. ونصوص القرآن والسنة مليئة بتقريرهذا الأمر {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ} 2.

_ 1 مجموع الفتاوى (1/ 66، 76) بتصرف يسير. 2 الآية (42) من سورة الأنفال.

المبجث الثالث: بيان توسط السلف في حق النبي صلى الله عليه وسلم

المبجث الثالث: بيان توسط السلف في حق النبي صلى الله عليه وسلم إن مما امتاز به اتباع هذا الدين: الوسطية في كل شيء فلا إفراط ولاتفريط قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} 1 قال ابن كثير: "والوسط هنا المراد به الخيار والأجود كما يقال قريش أوسط العرب نسبا أي خيرها. ولما جعل الله هذه الأمة وسطا خصها بأكمل الشرائع وأقوم المناهج وأوضح المذاهب"2. ومن الأمور التي توسطت بها هذه الأمة توسطها في شأن الأنبياء بين اليهود والنصارى. فقد افترق اليهود والنصارى في الأنبياء: فاليهود جفوا عنهم فكذبوهم وقتلوهم. والنصارى غلوا فيهم فأشركوا بهم حتى كفروا بالله. أما هذه الأمة فقد توسطت بين الطائفتين فأمنت وصدقت بأنبياء الله ولم يتتخذهم أربابا من دون الله. فالسلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين ساروا في هذا الشأن وفق نصوص القرآن والسنة الصحيحة شأنهم في ذلك شأنهم في سائر أمور هذا الدين الاتباع وترك الابتداع. فما نص عليه القرآن يجب الأخذ به والعمل به والحال نفسه ينطق على ما

_ 1 الآية (143) من سورة البقرة. 2 تفسير ابن كثير (1/190) .

نصت عليه السنة. فقد نصت النصوص على أمور متعددة فيما يتعلق بشأن نبينا صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. فمن أخذ بهذه الأمور جميعها وأمن بها فقط توسط ومن أخل بشيء منها فهو لا محالة واقع في أحد حالين إما الغلو أو التنقص. ولما كان حال الغلو هو الأكئر خطرا على اتباع الرسل، فقد جاء التنبيه والتأكيد على بشريتهم في مواطن متعددة في كتاب الله العزيز منها: 1- التأكيد على بشرية الرسول وعبوديته لله تعالى: قال تعالى {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} 1. وقال تعالى {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} 2. وقال تعالى {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً} 3. وقال تعالى {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً} 4. وقال تعالى {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} 5. وقال تعالى {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} 6.

_ 1 الآية (79) من سورة آل عمران. 2 الآية (910) من سورة الكهف. 3 الآية (93) من سورة الإسراء. 4 الآية (1) من سورة الإسراء. 5 الآية (23) من سورة البقرة. 6 الآية (41) من سورة الأنفال.

وقال تعالى {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} 1 وقال تعالى {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} 2 وقال تعالى {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} 3. وقال تعالى {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} 4. وقال تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ} 5. 2- التأكيد على أن الرسل لا يملكون شيئا من خصائص الألهية والربوبية قال تعالى {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} 6. وقال تعالى {قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} 7. وقال تعالى {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ

_ 1 الآية (1) من سورة الكهف. 2 الآية (1) من سورة الفرنان. 3 الآية (10) من سورة النجم. 4 الآية (9) من سورة الحديد. 5 الآية (20) من سورة الفرقان. 6 الآية (50) من سورة الأنعام. 7 الآية (58، 59) من سورة الأنعام.

مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 1. وقال تعالى {وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} 2. وقال تتعالى {وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} 3. وقال تعالى {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً} 4. وقال تعالى {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} 5. وقال تعالى {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلا نَفْعاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ} 6. وقال تعالى {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} 7 3- التنبيه على ما كان من حال النصارى هع عيسى عليه السلام وبيان كفرهم في ذلك: قال تعالى {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} 8. وقال تعالى {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ

_ 1 الآيتان (187، 188) من سورة الأعراف. 2 الآية (20) من سورة يونس. 3 الآية (31) من سورة هود. 4 الآية (21) من سورة الجن. 5 الآية (128) من سورة آل عمران. 6 الآية (49) من سورة يونس. 7 الآية (9) من سورة الأحقاف. 8 الآية (17) من سورة المائدة.

الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} 1. 4- بيان كفر من رفعهم إلى درجة الربوبية: قال تعالى {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 2. وبجانب هذا التأكيد على بشرية الرسل والتحذر من رفعهم فوق مكانتهم التي أعطاهم الله إياها ووصفهم بما ليزر لهم حق فيه. أكد الإسلام وجوب الإيمان بهم وإكرامهم ورفع درجتهم وجعلهم في مكانة ومنزلة سامية. فأوجب الإيمان بهم. قال تعالى {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا

_ 1 الآيات (من 72- 77) من سورة المائدة. 2 الآية (80) من سورة آل عمران.

غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} 1. قال ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية: "فالمؤمنون يؤمنون بأن الله واحد، فرد صمد، لا إله غيره ولا رب سواه. ويصدقون بجميع الأنبياء والرسل والكتب المنزلة من السماء على عباد الله المرسلين والأنبياء لا يفرقون بين أحد منهم فيؤمنون ببعض ويكفرون ببعض بل الجميع عندهم صادقون بارون راشدون مهديون هادون إلى سبيل الخير، وإن كان بعضهم ينسخ شريعة بعض بإذن الله حتى نسخ الجميع بشرع محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين الذي تقوم الساعة على شريعته، ولا تزال طائفة من أمته على الحق ظاهرين"2. وفي مقابل ذلك فقد عد تكذيب واحد منهم كفرًا ولو ادعى الإيمان بالله ورسله جميعا إلا ذلك، فإيمان من هذا حاله إيمان زائف لا وزن له ولا خير فيه وصاحبه موسوم بالكفر. قال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً} 3. قال ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية: "والمقصود أن من كفر بنبي من الأنبياء فقد كفر بسائر الأنبياء، فإن الإيمان واجب بكل نبى بعثه الله إلى أهل الأرض فمن رد نبوته للحسد أو العصبية أو التشهي تبين أن إيمانه بمن آمن به

_ 1 الآية (285) من سورة البقرة. 2 تفسير ابن كثير (1/342) . 3 الآيتان (150، 151) من سورة النساء.

من الأنبياء ليس إيمانًا شرعيًا إنما هو عن غرض وهوى وعصبية"1. وبهذه الوسطية تمسك السلف الصالح ومن سار على نهجهم فالأنبياء وعلى رأسهم نبينا صلوات الله عليهم أجمعين بشر مثلنا فضلهم الله واصطفاهم واختارهم وشرفهم بحمل الرسالة وتبليغها إلى الناس، وأوجب علينا لهم من الحقوق ما سبق ذكره، وكذلك جعل لنا عليهم من الأمور والحقوق التي تطلب منهم، "فالأمور نوعان: النوع الأول: نوع يطلب لنبينا منا ويجب له علينا. والنوع الثاني: نوع يطلب لنا منه سواء أوجب عليه أو لم يجب. فالواجب له علينا من الحقوق بعد الموت الإيمان به ومحبته ونصره وتعزيره وتوقيره وطاعة أمره واتباع سنته وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه. هذا بالنسبه لما يتعلق بالنوع الأول. أما ما يتعلق بالنوع الثاني: فتحقيق ذلك أن الله أمره بأشياء منها ما هو حق لله. ومنها ما هو حق للناس. والأمر تارة يكون أمر إيجاب، وتارة أمر استحباب. وكل ما أمر به مما فيه نفع للخلق ففيه حق لهم عليه كتبليغهم وتعليمهم والبيان لهم وأمرهم بكل معروف ونهيهم عن كل منكر، وحضهم على كل ما يقربهم إلى الجنة ونهيهم عن كل ما يبعدهم عنها وتبيين كل ما يحتاجون إليه وأمثال ذلك. وقد فعل ذلك وتركهم على البيضاء ليلها كنهارها، وما طائر يقلب جناحيه إلا ذكر لهم منه علما بأخباره وأوامره ونواهيه.

_ 1 تفسير ابن كئبر (1/572) .

وكذلك كان يقوم بأخذ الصدقة من أغنيائهم وردها على فقرائهم، وإنصاف مظلومهم من ظالمهم، وإطعام جائعهم، وعيادة مريضهم، والصلاة على ميتهم، وأمثال ذلك من أنواع إحسانه إليهم في جميع مصالح الدنيا وا لآخرة. فاجتمعت له صفات الكمال المتفرقة في غيره من الرسل والأنبياء وولاة الأمر وغيرهم. وكان له من خصائص النبوة والرسالة ما لم يشركه فيه أحد بعده، وكان يقوم بالإمامة في الصلاة والإمارة في الغزو وإرسال البعوث وعقد الألوية والشعائر في الحروب وإقامة الحدود وايصال الحقوق وقسم المواريث والمغانم والفيء والصدقات، وتعليمهم ما يؤمرون به مما في القلوب من المعارف والأحوال، أو ما يقوم بالأبدان من الأقوال والأعمال، وأفتاهم فيما ينوبهم من المسائل، والحكم بينهم فيما يتنازعون فيه من القضايا، وتعبير الرؤيا وما كان وما يكون من أمر الدنيا والآخرة، وصفات الرب، وملائكته، وأمر الآخرة والجنة والنار إلى غير ذلك. فهذه الأمور التي كان مأمورًا بها أمر إيجاب أو أمر استحباب وكانت حقا عليه للخلق انتهت بموته فلم يبق عليه منها شيء. كما أدّى حق الله الذي أمره به، فلم يبق عليه منه شيء، فجاهد في الله ونصح الأمة، وعبد ربه حتى أتاه اليقين. وأما ما كان حقا له على الأمة ومنفعته في الحقيقة تعود عليهم، والله تعالى يثيبه بما يعملون به من طاعته مثل ثوابهم، يستجيب فيه صالح دعواهم فهو في الحقيقة حق الله وان كان فيه حق للرسول فإن الله هو الذي أمرهم به الرسول، ومن يطع الرسول فقد أطاع الله.

فكل ما أمرهم به الرسول من واحب ومستحبا فالله آمرهم به. وإذا أطاعوا الله ورسوله فأجرهم على الله. وإذا عصوا الله ورسوله فحسابهم على الله. قال تعالى {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} 1. وقال تعالى {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَر إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} 2 وقال تعالى {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} 3 ثم قال {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} 4 فأمر بطاعته وطاعة رسوله لأن طاعته طاعة لله. وأمرهم بالتوكل عليه وحده، وطاعة الرسول هي عبادة لله وحده والأمر والمعنى المتقدم من أن الرسول ليس عليه إلا ما أمر به من البلاغ والبيان والجهاد وليس عليه جزاء العباد ولا حسابهم ولا هدايتهم قد كرر في القرآن في مواضع. والحق الذي لله وللرسول باق بعد موت الرسول، وكذلك ما كان من حقوقه التي يمكن بقاؤها كالصلاة عليه والتسليم والتعزر والتوقير والمحبة وغيرها فهي لم تنقص بعد موته بل توكدت وقويت، بل حقوقه عليها بعد موته أكمل منها في حياته. فمن ذلك أن من تنقصه في حياته أوسبه فإنه كان له صلى الله عليه وسلم يعفو عن حقه.

_ 1 الآية (40) من سورة الرعد. 2 الآيات (من 21- 26) من سورة الغاشية. 3 الآية (12) من سورة التغابن. 4 الآية (13) من سورة التغابن.

فأما بعد موته فليس لأحد أن يعفو عن حقه ولا يسقط وكذلك في مغيبه. فعلينا أن نقوم بحقوقه الواجبة علينا في حال مماته ومغيبه أكثر مما علينا أن نقوم بها في محياه وحضوره. وتلك الحقوق علينا له، وإذا فعلناها كانت عبادة منا لله، أجرنا فيها على الله وهي مما يزيده الله بها من فضله من جهة امتثالنا لما أمرنا به، وهو داعينا، وكلما أطعنا كان له مثل أجورنا، ومن جهة ما يصل إليه من الرحمة باستجابة الله دعاء الأمة، مع ما يزيده الله إياه من فضله. وهذه الحقوق الثابتة بعد موته هي تبع لرسالته فإنه هو السفير والواسطة بيننا ولون الله تعالى في تعليمنا وانتفاعنا بما علمنا من علم الله وخبره، وفي أمرنا وإرشادنا إلى ما أمر الله به وأحبه ورضيه وبذلك حصل لمن آمن به واتبعه سعادة الدنيا والآخرة. بل أعظم نعمة أنعم الله بها على المؤمنين أن أرسله إليهم وأنزل عليه الكتاب، ومنَّ عليهم باتباعه. فليس في الدنيا خير أعظم من هذا1. وبعد فهذا أنموذج من فهم السلفي لنوع العلاقة التي تربط الأمة بنبيها وهو فهم أوجبته النصوص الشرعية وأكدته وأوا فمحته ورسمته، فليس لنا أن نحيد عنه أو نبدل فيه. وهو فهم أعطى لكل ذى حق حقه كما أوجب ربنا وشرع في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فحق الله هو توحيده، تجريد العبادة له تبارك وتعالى. وحق الرسول الإيمان به وطاعته ومحبته وتعزيره وتوقيره والصلاة والسلام عليه إلى غير ذلك مما سبق ذكره.

_ 1 الرد على البكري (ص 108- 112) بتصرف يسير.

وعن هذا التوازن في وضع الأمور في نصابها الذي أوجبه الله تعالى علينا يقول ابن القيم: "والفرق بين تجريد التوحيد وبين هضم أرباب المراتب أن تجريد التوحيد أن لا يعطى الخلوق شيئا من حق الخالق وخصائصه، فلا يعبد، ولا يصلى له، ولا يسجد ولا يحلف باسمه، ولا ينذر له، ولا يتوكل عليه، ولا يؤله ولا يقسم به على الله، ولا يعبد ليقرب إلى الله زلفى، ولا يساوى برب العالمين في قول قائل: ما شاء الله وشئت، وهذا منك ومن الله، وأنا بالله وبك، وأنا متوكل على الله وعليك، والله لي في السماء وأنت لي في الأرض، وهذا من صدقاتك وصدقات الله، وأنا تائب إلى الله وإليك، وأنا في حسب الله وحسبك، فيسجد للمخلوق كما يسجد المشركون لشيوخهم يحلق رأسه له، ويحلف باسمه، وينذر له، ويسجد لقبره بعد موته، ويستغيث به في حوائجه ومهماته، ويرضيه بسخط الله، ولا يسخطه في رضا الله، ويتقرب إليه أعظم مما يتقرب إلى الله ويحبه ويخافه ويرجوه أكثر مما يحب الله ويخافه ويرجوه أو يساويه. فإذا هضم الخلوق خصائص الربوبية، وأنزله منزلة العبد المحض الذي الأ يملك لنفسه فضلاً عن غيره ضرًا ولا نفغا ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا لم يكن هذا تنقصًا له ولا حطًا من مرتبته ولو رغم المشركون. وقد صح عن سيد ولد آدم صلوات الله وسلامه عليه أنه قال: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبد الله فقولوا عبد الله ورسوله" 1. وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تتخذوا قبرى عيدا " 2.

_ 1 تقدم تخريجه ص 626. 2 تقدم تخريجه ص 580.

وقال صلى الله عليه وسلم: "اللهم لا تجعل قبرى وثنا يعبد" 1. وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء فلان" 2. وعن عدى بن حاتم أن رجلاً خطب عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بئس الخطيب أنت قل ومن يعص الله ورسوله " 3. وقال له رجل: ما شاء الله وشئت. فقال: "أجعلتني لله ندا؟ "4. وقال له رجل قد أذنب: الله إني أتوب إليك ولا أتوب إلى محمد. فقال: "عرف الحق لأهله"5. وقد قال الله له: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} 6. وقال: {قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} 7.

_ 1 تقدم تخريجه ص 591. 2 أخرجه الإمام أحمد في المسند (5/ 384، 394، 398) . وأخرجه أبو داود في السنن، كتاب الأدب، باب لا يقال خبئت نفس (5 1 259) ح 4980. وأخرجه أبر داود في السنن، كتاب الأدب، باب لا يقال خبثت نفس (5/259) ح 4980. وأخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة، باب النهي أن لا يقال خبثت نفس (5/259) ح 4980. وأخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة، باب النهي أن يقال ما شاء الله وشاء فلان (ص 544) ح 985. وقال النووي: رواه أبو داود بإسناد صحيح. رياض الصالحين (ص 611) . 3 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطة (3/12-13) . 4 تقدم تخريجه ص 655. 5 أخرجه الإمام أحمد في المسند (3/ 435) . 6 الآية (128) من سورة آل عمران. 7 الآية (154) من سورة آل عمران.

وقال: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلا نَفْعاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ} 1. وقال: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً} 2 أي لن أجد من دونه من ألتجئ إليه وأعتمد عليه. وقال لابنته فاطمه وعمه العباس وعمته صفية3: "لا أملك لكم من الله شيئا" 4 وفي لفظ: "لا أغني عنكم من الله شيئا" 5. فعظم ذلك على المشركين بشيوخهم وآلهتهم، وأبوا ذلك كله، وادعوا لشيوخهم ومعبوديهم خلاف هذا كله، وزعموا أن من سلبهم ذلك فقد هضمهم مراتبهم وتنقصهم، وقد هضموا جانب الألهية غاية الهضم وتنقصوه فلهم نصيب وافر من قوله تعالى {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} 6 7.

_ 1 الآية (49) من سورة يونس. 2 الآيتان (21، 22) من سورة الجن. 3 صفية بنت عبد المطب بن هاشم القرشية الهاشمية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والدة الزبير بن العوام، وهي شقيقة حمزة، أسلمت وهاجرت مع ولدها الزبير وروت وعاشت إلى خلافة عمر. الإصابة (4/339-340) . 4 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المناقب، باب من انتسب لآبائه في الإسلام والجاهلية. فتح الباري (6/551) ح 3527، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الأيمان، باب في قوله تعالى {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} (1/133) . 5 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الوصايا، باب هل يدخل النساء والولد في الأقارب. انظر فتح الباري (5/382) ح 2753، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب في قوله تعانى {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} (1/133) . 6 الآية (45) من سورة النور. 7 الروح لابن القيم (2/766، 767) .

وقال أيضا رحمه الله في قصيدته النونية المسماة بالكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية: يامن له عقل ونور قد غدا ... يمشي به في الناس كل زمان لكننا قلنا مقالة صارخ ... في كل وقت بينكم بأذان الرب رب والرسول فعبده ... حقا وليس لنا إله ثان فلذاك لم نعبده مئل عبادة الرحـ ... ـمن فعل المشرك النصراني كلا ولم نغلوا الغلو كما نهي ... عنه الرسول مخافة الكفران لله حق لا يكون لغيره ... ولعبده حق هما حقان لا تجعلوا الحقين حقا واحدا ... من غير تمييز ولا فرقان فالحج للرحمن دون رسوله ... وكذا الصلاة وذبح ذي القربان وكذا السجود ونذرنا ويميننا ... وكذا مثاب العبد من عصيان وكذا التوكل والإنابة والتقى ... وكذا الرجاء وخشية الرحمن وكذا العبادة واستعانتنا به ... إياك نعبد ذاك توحيدان وعليهما قام الوجود بأسره ... دنيا وأخرى حبذا الركنان وكذلك التسبيح والتكبير والتهليل ... حق آلهنا الديان لكنما التعزير والتوقير ... حق للرسول بمقتضى القرآن والحب والإيمان والتصديق لا ... يختص بل حقان مشتركان هذى تفاصيل الحقوق ثلاثة ... لا تجهلوها يا أولى العدوان حق الإله عبادة بالأمر لا ... بهوى النفوس فذاك للشيطان من غير إشراك به شيئا هما ... سببا النجاة فحبذا السببان ورسوله فهو المطاع وقوله المقبول ... إذ هو صاحب البرهان

والأمر منه الحتم لا تخيير فيه ... عند ذي عقل وذي إيمان من قال قولا غيره قمنا على ... أقواله بالسير والميزان إن وافقت قول الرسول وحكمه ... فعلى الرؤوس تشال كالتيجان أو خالفت هذا رددناها على ... من قالها من كان من إنسان أو أشكلت عنا توقفنا ولم ... نجزم بلا علم ولا برهان هذا الذي أدى إليه علمنا ... وبه ندين الله كل أوان فهو المطاع وأمره العالى على ... أمر الورى وأمر ذى السلطان وهم المقدم في محبتنا على ... الأهلين والأزواج والولدان وعلى العباد جميعهم حتى على ... النفس التي قد ضمها الجنبان ونظير هذا قول أعداء المسيح ... من النصارى عابدى الصلبان انا تنقصنا المسيح بقولنا ... عبد وذلك غاية النقصان لو قلتم ولد إله خالق ... وفيتموه حقه بوزان وكذاك أشباه النصارى مذغلوا ... في دينهم بالجهل والطغيان صاروا معادين الرسول ودينه ... في صورة الأحباب والإخوان فانظر إلى تبديلهم توحيده ... بالشرك والإيمان بالكفران وانظر إلى تجريده التوحيد من ... أسباب كل الشرك بالرحمن واجمع مقالتهم وما قد قاله ... واستدع بالنقاد والوزان عقل وفطرتك السليمة ثم زن ... هذا وذا لا تطغ في الميزان فهناك تعلم أى حزبينا هو ... المتنقص المنقوص ذو العدوان رامي البريء بدائه ومصابه ... فعل المباهت أوقح الحيوان كمعير للناس بالزغل الذي ... هو ضربه فاعجب لذا البهتان

يا فرقة التنقيص بل يا أمة الدعوى ... بلا علم ولا عرفان والله ما قدمتم يوما مقالته ... على التقليد للانسان والله ما قال الشيخ وقال ... إلا كنتم معهم بلا كتمان والله أغلاط الشيوخ لديكم ... عين الصواب ومقتضى البرهان ولذا قضيتم بالذي حكمت به ... جهلا على الأخبار والقرآن والله إنهم لديكم مثل معصوم ... وهذا غاية الطغيان تبا لكم ماذا النقص بعد ذا ... لو تعرفون العدل من نقصان والله ما يرضيه جعلكم له ... ترسًا لشرككم وللعدوان وكذاك جعلكم المشايخ جنة ... لخلافه يشهده أولو الايمان والله ما عظمتموه طاعة ... ومحبة يافرقة العصيان أني وجهلكم به وبدينه ... وخلافكم للوحي معلومان أوصاكم أشياخكم بخلافهم ... لوفاقه في سالف الأزمان خالفتم قول الشيوخ وقوله ... فغدا لكم خلفان متفقان والله أمركم عجيب معجب ... ضدان فيكم ليس يتفقان تقديم آراء الرجال عليه مع ... هذا الغلو فكيف يجتمعان؟ كفرتم من جرد التوحيد جهلا ... منكم بحقائق الإيمان لكن تجردتم لنصر الشرك والبدع ... المضلة في رضى الشيطان والله لم نقصد سوى التجريد للتوحـ ... ـيد ذاك وصية الرحمن ورضى رسول الله منا لا غلـ ... ـو الشرك أصل عبادة الأوثان والله لو يرضى الرسول دعاءنا ... إياه بادرنا إلى الإذعان والله لو يرضى الرسول سجودنا ... كنا مخر له على الأذقان

والله ما يرضيه منا غير إخـ ... ـلاص وتحكيم لذا القرآن ولقد نهي ذا الخلق عن إطرائه ... فعل النصارى عابدي الصلبان ولقد نهانا أن نصير قبره ... عيدا حذار الشرك بالرحمن ودعا بأن لا يجعل القبر الذي ... قد ضمه وثنا من الأوثان فأجاب رب العالمين دعاءه ... وأحاطه بثلاثة الجدران حتى اغتدت أرجاؤه بدعائه ... في عزة وحماية وصيان ولقد غدا عند الوفاة مصرحا ... باللعن يصرخ فيهم بأذان وعني الألى جعلوا القبور مساجدا ... وهم اليهود وعابدوا للصلبان والله لولا ذاك أبرز قبره ... لكنهم حجبوه بالحيطان قصدوا إلى تسنيم حجرته ليمتنـ ... ـع السجود له على الأذقان قصدوا موافقة الرسول وقصده ... التجريد للتوحيد للرحمن1.

_ 1 انظر: توضيح المقاصد وتصحيح القواعد في شر تصيدة ابن القيم (2/346-354) .

الفصل الثاني: بيان الأمور التي حصل فيها غلو في حقه صلى الله عليه وسلم وحكم الشرع فيها

الفصل الثاني: بيان الأمور التي حصل فيها غلو في حقه صلى الله عليه وسلم وحكم الشرع فيها المبحث الأول: نماذج من الغلو الحاصل في شأن النبي صلى الله عليه وسلم ... تمهيد: قال الله تعالى: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} 1. وقال تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} 2. وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} 3. وقال تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} 4. وقال تعالى: {وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} 5. وقال تعالى: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 6. وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} 7. برغم هذه الآيات البينات والبراهين الواضحات التي تبين وتفصل بين ما هو

_ 1 الآية (40) من سورة الرعد. 2 الآية (9) من سورة الأحقاف. 3 الآية (110) من سورة الكهف. 4 الآية (128) من سورة آل عمران. 5 الآية (31) من سورة هود. 6 الآية (188) من سورة الأعراف. 7 الآيات (20- 23) من سورة الجن.

حق للرسول وما ليس له بحق، وما يملكه الرسول وما لا يملكه وأمثالها في القرآن الكريم كثير جدا. يأبى أناس إلا معصية الله ورسوله ومخالفة ما جاءت به النصوص؛ إتباعا لأهوائهم وسلوكا لسبيل الشيطان، فقد غلوا في حق النبي صلى الله عليه وسلم وتنوع غلوهم وتفاوت حتى وصل في كثير من أنواعه إلى درجة الإشراك بالله تعالى. وسأذكر في هذا الفصل نماذج من هذا الغلو الحاصل مع الإشارة إلى وجه مخالفتها للنصوص الشرعية والرد عليها.

المبحث الأول: نماذج من الغلو الحاصل في شأن النبي صلى الله عليه وسلم أ- ما يسمى بـ (الحقيقة المحمدية) : وهي أسطورة من أساطير الصوفية، نسجها خيالهم المريض، وأوهامهم الفاسدة، فهي كذبة ليس لها رصيد من الواقع، بل هي مناقضة تمامًا لما أخبر به الله تعالى وقرره في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. أما عن فحوى هذه الأسطورة فيقول قائلهم:"اعلم أنه لما تعلقت إرادة الحق تعالى بإيجاد خلقه أبرز الحقيقة المحمدية من أنواره ثم سلخ منها العوالم كلها علوها وسفلها ... ثم انبخست منه صلى الله عليه وسلم عيون الأرواح فهو الجنس العالي على جميع الأجناس والأب الأكبر لجميع الموجودات"1. ويقول آخر: "اعلم أن أنوار المكونات كلها من عرش وفرش وسماوات وأراضين وجنات وحجبا وما فوقها وما تحتها إذا اجتمعت كلها وجدت بعضا من نور النبي، وأن مجموع نوره لو وضع على العرش لذاب، ولو وضع على الحجب السبعين التي فوق العرش لتهافتت، ولو جمعت المخلوقات كلها ووضع ذلك النور العظيم عليها لتهافتت وتساقطت"2. وفي هذا يقول شاعرهم: أنشاك نورا ساطعا قبل الورى ... فردا لفرد، والبرية في عدم ثم استمد جميع مخلوقاته ... من نورك السامي، فيا عظم الكرم

_ 1 الأنوار المحمدية (ص 9) . 2 هذه هي الصوفية (ص 87) .

فلذا إليك الخلق تفزع كلهم ... في هذه الدنيا، وفي اليوم الأهم وإذا دعتهم كربة فرجتها ... حتى سوى العقلاء في ذاك انتظم1 وهذا الزعم الباطل تضمن ثلاث دعاوى كلها كذب وافتراء. الدعوى الأولى: دعوى أن النبي صلى الله عليه وسلم خلق من نور رب العالمين. الدعوى الثانية: أنه وجد قبل خلق آدم. الدعوى الثالثة: أن الأشياء خلقت منه. وكل دعوى من هذه الدعاوى هي أكذب من أختها، وقد قال بها جميعًا بعض الغلاة المنتسبين إلى الإسلام مضاهاة لقول النصارى في عيسى، ويروون في ذلك أحاديث، وكلها كذب، فمن هؤلاء الغلاة من يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من قال إني كلى بشر فقد كفر، ومن قال لست ببشر فقد كفر" وهذا الحديث كذب باتفاق أهل العلم بالحديث2. ومنهم من يروى عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: "قلت يا رسول الله بأبي أنت وأمي أخبرني عن أول شيء خلقه الله تعالى قبل الأشياء؟ قال: يا جابر إن الله تعالى خلق قبل الأشياء نور نبيك من نوره، فجعل ذلك النور يدور بالقدرة حيث شاء الله تعالى ولم يكن في ذلك الوقت لوح ولا قلم ولا جنة ولا نار ولا ملك ولا سماء ولا أرض ولا شمس ولا قمر ولا جني ولا إنسي، فلما أراد أن يخلق الخلق قسم ذلك النور أربعة أجزاء فخلق من الجزء الأول القلم، ومن الثاني اللوح، ومن الثالث العرش، ثم قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء فخلق

_ 1 الأبيات لأحمد بن عبد المنعم الحلواني من قصيدته المستجيرة (نقلا عن كتاب هذه الصوفية) (ص 87) . 2 الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (2/ 200- 201) بتصرف.

من الجزء الأول حملة العرش، ومن الثاني الكرسي ومن الثالث باقي الملائكة، ثم قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء، فخلق من الأول السموات، ومن الثاني الأراضين ومن الثالث الجنة والنار، ثم قسم الرابع أربع أجزاء فخلق من الأول أبصار المؤمنين ومن الثاني نور قلوبهم وهي المعرفة بالله تعالى ومن الثالث نور أنسهم وهو التوحيد لا إله إلا الله محمد رسول الله"1. وهذا الحديث باطل قال عنه السيوطي: "ليس له إسناد يعتمد عليه"2. ولا يخفي على من له أدني معرفة بنصوص القرآن والسنة ما في هذا الخبر المكذوب من المخالفات والمغالطات، ولا يشك طالب علم في وضعه واختلاقه. وكذلك مما يرونه "كنت نبيًا ولا آدم ولا ماء ولا طين". قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "هذا مما لا أصل له لا من نقل ولا من عقل فإن أحدًا من المحدثين لم يذكره، ومعناه باطل فإن آدم لم يكن بين الماء والطين قط فإن الطين ماء وتراب، وإنما كان بين الروح والجسد. ثم هؤلاء الضلال يتوهمون أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حينئذ موجودا وأن ذاته خلقت قبل الذوات، ويستشهدون على ذلك بأحاديث مفتراة مثل حديث فيه "أنه كان نورًا حول العرش، فقال: يا جبريل أنا كنت ذلك النور"3. ومن العجيب أن كثيرا من الناس صاروا يتناقلون مثل هذه الأخبار المفتراة حتى أصبحت عندهم عقيدة راسخة في قلوبهم. ومما يبين كذب هذه الدعاوى ويظهر زيفها مخالفتها لنصوص الكتاب

_ 1 الأنوار المحمدية (ص 13) . 2 الحاوي للفتاوى (1/ 325) . 3 الرد على البكري (ص 8- 9) .

والسنة. فقد أخبرنا عز وجل عن أصل ما خلق منه الإنس والجن فقال تعالى {خَلَقَ الأِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} 1. والنبي صلى الله عليه وسلم بشر خلق مما خلق منه باقي البشر فلا ميزة له في هذا الشأن عن باقي البشر قال تعالى {سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً} 2 وقال تعالى {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ} 3. والآيات في هذا الشأن، وفي شأن خلق السموات والأرض وكذا الأحاديث الثابتة كثيرة وكلها تخالف هذا الخبر المذكور وتبين زيفه وبطلانه4. ب- دعوى أن الدنيا خلقت من أجل النبي صلى الله عليه وسلم: وفي هذا يقول قائلهم وكيف تدعو إلى الدنيا ضرورة من لولاه لم تخرج الدنيا من العدم5 وقول الآخر ممن هو من نقطة وشكله لولاه ما خلقت شمس ولا قمر ولا نجوم ولا لوح ولا قلم6 ويستند هؤلاء على أحاديث موضوعة وأخبار مكذوبة منها حدثا "لولاك

_ 1 الآيتان (14- 15) من سورة الرحمن. 2 الآية (93) من سورة الإسراء. 3 الآية (9) من سورة الأحقاف. 4 انظر في هذا الشأن رسالة تنبيه الحذاق على بطلان ما شاع بين الأنام من حديث النور المنسوب لمصنف عبد الرزاق. 5 ديوان البوصيري (ص 240) . تنبيه الحذاق (ص 27) . 6 تنبيه الحذاق (ص 27) .

ما خلقت الأفلاك" وهو موضوع1. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أوحى الله إلى عيسى يا عيسى آمن بمحمد وأمر من أدركه من أمتك أن يؤمنوا به فلولا محمد ما خلقت آدم ولولا محمد ما خلقت جنة ولا نار ... "2. وهذه الأحاديث الموضوعة وأمثالها لا يمكن أن يعول عليها في إثبات أمر شرعي كهذا. أضف إلى ذلك مخالفتها للشرع فالذي تدل عليه النصوص الشرعية أن الله عز وجل إنما خلق الجن والإنس لغاية ذكرها في القرآن الكريم حيث قال عز وجل {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} 3. قال ابن كثير: "ومعني الآية أنه تبارك وتعالى خلق العباد ليعبدوه وحده لا شريك له فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء ومن عصاه عذبه أشد العذاب"4. وقال تعالى {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ

_ 1 قاله الصغاني في الأحاديث الموضوعة (ص 7) ، وانظر الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة للشوكاني (ص 326) وسلسلة الأحاديث الضعيفة للألباني رقم 282. 2 لا أصل له مرفوعًا إنما أخرجه الحاكم في المستدرك (2/ 614، 615) من طريق عمرو بن أوس الأنصاري ثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن ابن عباس قال: فذكره موقوفا وقال: "صحيح الإسناد" وتعقبه الذهبي بقوله "أظنه موضوعًا على سعيد". وقد قال الذهبي في الميزان (3/ 246) عند ترجمته لعمرو بن أوس الذي روى هذا الحديث عن سعيد ما نصه: "عمرو بن أوس يجهل حاله أتى بخبر منكر، أخرجه الحاكم في مستدركه، وأظنه موضوعًا من طريق جندل بن والق" ثم ذكر نص هذا الحديث. ووافقه ابن حجر في اللسان (4/ 354) . 3 الآية (56) من سورة الذاريات. 4 تفسير ابن كثير (4/ 238) .

عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} 1. وقال تعالى {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} 2. وقال تعالى {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} 3. فصرح جل وعلا في هذه الآيات المذكورة بأن حكمة خلقه للخلق هي اختبارهم وابتلاؤهم ليجزى المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته. فهذه هي الحكمة من خلقهم أولاً وبعثهم ثانيًا4. والنصوص من آيات وأحاديث كلها تؤكد هذا الأمر وتدل عليه، وفي الوقت نفسه تبطل ما زعمه الغلاة من أن الغاية من خلق الخلق هي من أجل محمد صلى الله عليه وسلم. فهذه الدعاوى يعرف بطلانها من له أدني بصيرة في نصوص الشرع والنبي صلى الله عليه وسلم قد أعطاه الله خصائص وفضائل كثيرة تدل على فضله ومكانته، فليس هو بحاجة إلى أن ترفع مكانته ويبين شرفة بمثل هذه الأخبار الباطلة الموضوعة. ج- دعوى الغلاة: جواز صرف بعض جوانب العبادة له صلى الله عليه وسلم: وقد تفنن الغلاة في هذا "فمن قائل يقول إنه يستغاث به في كل يستغاث فيه بالخالق بمعني أنه يطلب منه كما يطلب من الخالق. فهؤلاء جعلوا الرسول صلى الله عليه وسلم يطلب منه الناس ما يطلبونه من الله تعالى. فآذوا الرسول وأساؤا في حقه إذ سألوه ما لا يقدر عليه مخلوق وسووه برب

_ 1 الآية (7) من سورة هود. 2 الآية (2) من سورة الملك. 3 الآية (7) من سورة الكهف. 4 انظر أضواء البيان (7/ 673- 677) .

العالمين وسلطوا عليه العامة، فهذا يطلب منه إنزال المطر، وهذا يطلب منه غفران الذنوب، وهذا يطب منه النصر على الأعداء، وهذا يطلب منه أن يتزوج، وهذا يطلب منه الولد. وهذا يطلب منه المعيشة وهذا يطلب منه الملك، وهذا يطلب منه الولاية، وهذا يطلب منه قضاء دينه، وهذا يطلب منه شفاء مريضه إلى غير ذلك من الأمور فنزلوا المخلوق منزلة الإله وطلبوا منه من جلب المنافع ودفع المضار ما لا يقدر عليه إلا الله"1. ومن نظم بعضهم في هذا قوله: يا أكرم الرسل ما لي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث العمم ولن يضيق رسول الله جاهك بي ... إذا الكريم تجلى باسم منتقم فإن لي ذمة منه بتسميتي ... محمدًا وهو أوفى الخلق بالذم إن لم يكن في معادى آخذا بيدي ... فضلاً وإلا فقل يا زلة القدم 2 فنفى أن يكون له ملاذ إذا حلت به الحوادث، إلا النبي صلى الله عليه وسلم وليس ذلك إلا لله وحده لا شريك له، فهو الذي ليس للعباد ملاذ إلا إياه سبحانه وتعالى. ودعاه وناداه بالتضرع وإظهار الفاقة والاضطرار إليه وسأل منه هذه المطالب التي لا تطلب إلا من الله، وذلك الشرك في الإلهية3. ومن شعر بعضهم قوله: ماذا تعامل يا شمس النبوة من ... أضحى إليك من الأشواق في كبدي

_ 1 الرد على البكري (ص 335، 336) بتصرف. 2 ديوان البوصيري (ص 248) . 3 تيسير العزيز الحميد (ص 187) .

فامنع جناب صريع لا صريخ له ... نائي المزار غريب الدار مبتعدي حليف ودك واه الصبر منتظر ... لغارة منك يا ركني ويا عضدي أسير ذنبي وزلاتي ولا عمل ... أرجو النجاة به إن أما لم تجد وجرى في شركه والى أن قال: وحل عقدة كربي يا محمد من ... هم على خطرات القلب مطرد أرجوك في سكرات الموت تشهدني ... كيما يهون إذ الأنفاس في صعد وإن نزلت ضريحا لا أنيس به ... فكن أنيس وحيد فيه منفرد وارحم مؤلفها عبد الرحيم ومن ... يليه من أجله وانعشه وافتقد وإن دعا فأجبه واحم جانبه ... من حاسد شامت أو ظالم نكد وقوله من أخرى: يا رسول الله يا ذا الفضل يا ... بهجة الحشر جاها ومقاما عد على عبد الرحيم الملتجى ... بحمى عزك يا غوث اليتامى وأقلني عثرتي يا سيدي ... في اكتساب الذنب في خمسين عاما وقوله: يا سيدي يا رسول الله يا أملي ... ويا موئلي يا ملاذي يوم يلقاني هبني بجاهك ما قدت من زلل ... جودا أو رجح بفضل منك ميزاني واسمع دعائي واكشف ما يساورني ... من الخطوب ونفسه كل أحزاني فأنت أقرب من ترجى عواطفه ... عندي وإن بعدت دارى وأوطاني إني دعوتك من نيابتي برع ... وأنت اسمع من يدعوه ذو شأن فامنع جنابي وأكرمني وصل نسبى ... برحمة وكرامات وغفران لقد أنسانا هذا ما قبله، وهذا بعينه هو الذي ادعته النصارى في عيسى

عليه السلام، إلا أن أولئك أطلقوا عليه اسم الإله، وهذا لم يطقه ولكن أتى بلباب دعواهم وخلاصتها، وترك الاسم، إذ في الاسم نوع تمييز، فرأى الشيطان أن الإتيان بالمعني دون الاسم أقرب إلى ترويج الباطل، وقبوله عند ذوى العقول السخيفة، إذ كان من المتقرر عند الأمة المحمدية أن دعوى النصارى في عيسى عليه السلام كفر، فلو أتاهم بدعوى النصارى اسما ومعنى لردوه وأنكروه، فأخذ المعنى وأعطاه البرعى وإضرابه، وترك الاسم للنصارى وإلا فما ندرى ماذا أبقى هذا المتكلم الخبيث للخالق تعالى وتقدس من سؤال مطلب أو تحصيل مأرب، فالله المستعان1. ويقول صاحب المواهب اللدنية: وينبغي للزائر -لقبره- أن يكثر من الدعاء والتضرع والاستغاثة والتشفع والتوسل والتوجه به لا فجدير بمن استشفع به أن يشفعه الله تعالى فيه فإن كلا من الاستغاثة والتوسل والتشفع والتوجه للنبي صلى الله عليه وسلم واقع في كل حال كل خلقه وبعده في مدة حياته في الدنيا وبعد موته في مدة البرزخ وبعد البعث في عرصات القيامة2. ومن هؤلاء من يرى أن زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من الحج إلى الكعبة وأن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم والاستغاثة به أفضل من الاستغاثة بالله تعالى ودعائه3. ومنهم من يظن أن الرسول يعلم ذنوبه وحوائجه وإن لم يذكرها وأنه يقدر على غفرانها وقضاء حوائجه ويقدر على ما يقدر عليه الله ويعلم ما يعلمه الله"4.

_ 1 تيسير العزيز الحميد (189، 190) . 2 انظر الأنوار المحمدية (ص 604) . 3 الرد على البكري (ص 349) . 4 الرد على البكري (ص 30) .

ومنهم من يقول "إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يخلو منه زمان ولا مكان" يريدون بذلك أنه ما من زمان إلا وهو فيه موجود، ولا من مكان إلا هو فيه موجود1. ومنهم من يقول: "إنه يحضر في كل مجلس أو مكان أراد بجسده وروحه وأنه يتصرف حيث شاء في أقطار الأرض وفي الملكوت، وهو بهيئته التي كان عليها قبل وفاته"2. ومنهم من يقول في قوله تعالى {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} 3. يقول: إن الرسول هو الذي يصبح بكرة وأصيلا. ومنهم من يقول: اسقط الربوبية وقل في الرسول ما شئت. دع ما ادعته النصارى في نبيهم ... واحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم وانسب إلى ذاته ما شئت من شرف ... وانسب إلى قدره ما شئت من عظم فإن فضل رسول الله ليس له ... حد فيعرب عنه ناطق بفم لو ناسبت قدره آياته عظما ... أحيا اسمه حين يدعى دارس الرم4. ومنهم من يقول نحن نعبد لله ورسوله فيجعلون الرسول معبودا5. بل لم يكتف غلاة الصوفية بهذا القدر حتى اعتقدوا أنه هو الله سبحانه ذاتًا وصفة6.

_ 1 غاية الأماني (1/ 48) . 2 هذه هي الصوفية (ص 81) . 3 الآيتان (8، 9) من سورة الفتح. 4 ديوان البوصيري (ص 241) . 5 الرد على البكري (ص 219) . 6 هذه هي الصرفية (ص 74- 75) .

وكتب أصحاب البدع وعباد القبور مملؤة بالكثير من أنواع هذا الغلو وألوانه والذي لا يشك الموحد بكذبه وبطلانه. وسأتطرق في المباحث القادمة للرد على أشهر تلك الأنواع، فنسأل الله الإعانة على ذلك.

المبحث الثاني: حكم التوسل والاستغاثة والاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وسلم

المبحث الثاني: حكم التوسل والاستغاثة والاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وسلم المطلب الأول: الكلام على مسألة التوسل ... تمهيد: قبل التعرض لبيان حكم الشرع في هذه المسائل يجدر التنبيه على نقطة هامة جدا تتعلق بالمعاني التي استعملت فيها هذه الألفاظ في هذه المواضع. ذلك أن كل من لفظ "التوسل" و"الشفاعة" و"الاستغاثة" قد ورد ذكرها في القرآن والسنة وكلام الصحابة واستعملت لمعاني معينة. ولكن الذي حدث بعد ذلك أن أهل البدع والأهواء أحدثوا اصطلاحات ومعاني لهذه الألفاظ خلافا لما كانت تستعمل فيه من معان في خطاب الشرع وعرف الصحابة أنذاك، قاصدين بذلك استعمال الأدلة الشرعية بما يوافق أهوائهم وأغراضهم، ومن ثم لبسوا على الناس وأفهموهم أن تلك الألفاظ لم ترد إلا لتلك المعاني التي أحدثوها هم، وهذا التلاعب بمعاني تلك الألفاظ هو الذي سهل على أهل البدع استعمال تلك النصوص في حججهم وسهل على عامة الناس تقبل تلك البدع لظنهم أن تلك النصوص دالة على تلك المعاني الباطلة. ولذا كان من الواجب عند بيان الحق في هذه المسائل أن نبين المعني الشرعي لتلك الألفاظ ونحذر من المعاني المبتدعة المحدثة (فالألفاظ الضرعية لها حرمة، ومن تمام العلم أن يبحث عن مراد الشارع بها ليثبت ما أثبته وينفي ما نفاه من المعاني) 1 ويجب على كل مؤمن أن يقر بموجب ذلك، فيثبت ما أثبته الله ورسوله وينفي ما نفاه الله ورسوله. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ومن لم يعرف لغة الصحابة التي يتكلمون

_ 1 مجموع الفتاوى (12/ 114) .

بها ويخاطبهم بها النبي صلى الله عليه وسلم وعادتهم في الكلام وإلا حرف الكلم عن مواضعه. فإن كثيرا من الناس ينشأ على اصطلاح قوم وعادتهم في الألفاظ ثم يجد تلك الألفاظ في كلام الله أو رسوله أو الصحابة فيظن أن مراد الله أو رسوله أو الصحابة بتلك الألفاظ ما يريده بذلك أهل عادته واصطلاحه ويكون مراد الله ورسوله والصحابة خلاف ذلك. وهذا واقع لطوائف من الناس من أهل الكلام والفقه والنحو والعامة وغيرهم. وآخرون يتعمدون وضع ألفاظ الأنبياء وأتباعهم على معان أخر مخالفة لمعانيهم، ثم ينطقون بتلك الألفاظ مريدين بها ما يعنونه هم، ويقولون إنا موافقون للأنبياء"1. ولفظ "التوسل" و "الاستشفاع" ونحوهما دخل فيها من تغيير لغة الرسول وأصحابه، ما أوجب غلط من غلط عليهم في دينهم ولغتهم2. وبناء على ما تقدم فإني أجد لزامًا علي في هذا المقام أن أبين مراد الشارع بألفاظ التوسل والشفاعة والاستغاثة ليتضح ما أثبته الشارع من المعاني ومما نفاه وذلك حتى يستنير الحق لطالبه. فهذه النقطة هي موضع اللبس عند كثير من الناس، فمتى ما وضحت زالت الغشاوة عن الأفهام، وأمكن بالتالي فهم النصوص وفق مراد الشارع وأمره فهنا مكمن الداء والدواء. وأول ما نشرع به من هذه الألفاظ لفظ "التوسل".

_ 1 قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (ص 152- 153) . 2 قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (ص 158) .

المطلب الأول: الكلام على مسألة التوسل التوسل في اللغة: التقرب والوسيلة: هي ما يتقرب به إلى الشيء1 وتطلق على غير ذلك. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "لفظ الوسيلة" و "التوسل" فيه إجمال واشتباه يجب أن تعرف معانيه ويعطى كل ذي حق حقه. فيعرف ما ورد به الكتاب والسنة من ذلك ومعناه. وما كان يتكلم به الصحابة ويفعلونه ومعني ذلك. ويعرف ما أحدثه المحدثون في هذا اللفظ ومعناه. فإن كثيرًا من اضطراب الناس في هذا الباب هو بسبب ما وقع من الإجمال والاشتراك في الألفاظ ومعانيها حتى تجد أكثرهم لا يعرف في هذا الباب فصل الخطاب. فلفظ الوسيلة مذكور في القرآن في قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} 2. وفي قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} 3.

_ 1 لسان العرب (11/ 724) مادة "وسل". 2 الآية (35) من سورة المائدة. 3 الآيتان (56، 57) من سورة الإسراء.

فالوسيلة التي أمر الله أن تبتغى إليه وأخبر عن ملائكته وأنبيائه أنهم يبتغونها إليه هي ما يتقرب به إليه من الواجبات والمستحبات. فهذه الوسيلة التي أمر الله المؤمنين بابتغائها تتناول كل واجب ومستحب، وما ليس بواجب ولا مستحب لا يدخل في ذلك سواء كان محرما أو مكروها أو مباحا. فالواجب والمستحب: هو ما شرعه الرسول فأمر به أمر إيجاب أو استحباب وأصل ذلك الإيمان بما جاء به الرسول. فجماع الوسيلة التي أمر الله الخلق بابتغائها هو التوسل إليه باتباع ما جاء به الرسول، لا وسيلة لأحد إلى الله إلا ذلك. والثاني: لفظ "الوسيلة" في الأحاديث الصحيحة كقوله صلى الله عليه وسلم "سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت له الشفاعة"1. وقوله "من قال حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدًا الوسيلة والفضيلة، وبعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة"2. فهذه الوسيلة للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وقد أمرنا أن نسأل الله له هذه الوسيلة، وأخبر أنها لا تكون إلا لعبد من عباد الله وهو يرجو أن يكون ذلك العبد. وهذه الوسيلة أمرنا أن نسألها للرسول وأخبر أن من سأل له هذه الوسيلة فقد

_ 1 تقدم تخريجه ص 369. 2 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأذان، باب الدعاء عند الأذان. فتح الباري (2/94) ح 614.

حلت عليه الشفاعة يوم القيامة لأن الجزاء من جنس العمل، فلما دعوا للنبي صلى الله عليه وسلم استحقوا أن يدعو هو لهم، فإن الشفاعة نوع من الدعاء كما قال: "إنه من صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشرا" 1. وأما التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم والتوجه به في كلام الصحابة فيريدون به التوسل بدعائه وشفاعته، وهذا كان في حياته ويكون يوم القيامة يتوسلون بشفاعته "والتوسل به في عرف كثير من المتأخرين يراد به الإقسام به والسؤال به كما يقسمون ويسألون بغيره من الأنبياء والصالحين ومن يعتقدون فيه الصلاح. وحينئذ فلفظ التوسل به يراد به ثلاث معان. يراد به معنيان صحيحان باتفاق المسلمين ويراد معنى ثالث لم ترد به السنة. فأما المعنيان الأولان الصحيحان باتفاق العلماء. فأحدهما: هو أصل الإيمان والإسلام والدين وهو التوسل بالإيمان به وطاعته وهذا فرض لا يتم الإيمان إلا به، ولا ينكره أحد من المسلمين. وهو المراد بقوله تعالى {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} أي القربة إليه بطاعته، وطاعة رسوله طاعته قال تعالى {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} 2. والثاني: التوسل بدعائه وشفاعته، وهذا كان في حياته ويكون يوم القيامة يتوسلون بشفاعته. ومن هذا قول عمر بن الخطاب: "اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا"3.

_ 1 تقدم تخريجه. 2 الآية (80) من سورة النساء. 3 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الاستسقاء، باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء إذا قحطوا حديث (1010) وكتاب فضائل الصحابة باب ذكر العباس بن عبد المطب رضي الله عنه حديث (3715) .

أي بدعائه وشفاعته. فإنه توسل بدعائه لا بذاته، ولهذا عدلوا عن التوسل به إلى التوسل بعمه العباس ولو كان التوسل هو بذاته لكان هذا أولى من التوسل بالعباس، فلما عدلوا عن التوسل به إلى التوسل بالعباس علم أن ما يفعل في حياته قد تعذر بموته، بخلاف التوسل الذي هو الإيمان به والطاعة له فإنه مشروع دائمًا. وأما المعني الثالث الذي لم ترد به سنة فهو: التوسل به بمعنى الإقسام على الله بذاته والسؤال بذاته فهذا هو الذي لم يكن الصحابة يفعلونه في الاستسقاء ونحوه لا في حياته ولا بعد مماته، لا عند قبره ولا غير قبره، ولا يعرف هذا في شيء من الأدعية المشهورة بينهم. وإنما ينقل شيء من ذلك في أحاديث ضعيفة مرفوعة وموقوفة أو عمن ليس قول حجة1. وليس في الأحاديث المرفوعة في ذلك حديث في شيء من دواوين المسلمين التي يعتمد عليها في الأحاديث -لا في الصحيحين ولا كتب السنن ولا المسانيد المعتمدة كمسند الإمام أحمد وغيره- وإنما يوجد في الكتب التقى عرف أن فيها كثيرا من الأحاديث الموضوعة المكذوبة التي يختلقها الكذابون2. والأحاديث التي تروى في هذا الباب -وهو السؤال بنفس المخلوقين- هي من الأحاديث الضعيفة الواهية بل الموضوعة ولا يوجد في أئمة الإسلام من احتج بها ولا اعتمد عليها3.

_ 1 قاعدة جليلة في الترسل والوسيلة (ص 79، 80) بتصرف يسير. 2 قاعدة جليلة في الترسل والوسيلة (ص 160) . 3 قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (164) .

وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة1 عددا من الأحاديث والآثار التي استدل بها من أجاز التوسل بالذوات وبين ضعف حججهم وقال: "ليس في هذا الباب حديث واحد مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم يعتمد عليه في مسألة شرعية، باتفاق أهل المعرفة بحديثه، بل المروى في ذلك إنما يعرفه أهل المعرفة بالحديث أنه من الموضوعات، إما تعمدًا من واضعه وإما غلطًا منه"2. ويتضح من النقول السابقة أن التوسل ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: التوسل الشرعي الذي دلت عليه النصوص الشرعية. القسم الثاني: التوسل البدعي الذي لم يثبت به نص شرعي. والتوسل الشرعي الذي جاءت به النصوص على نوعين: النوع الأول: التوسل إلى الله تعالى بالأعمال الصالحة، أو بتعبير آخر التقرب إلى الله بطاعته. النوع الثاني: التوسل بدعاء الأحياء الصالحين للغير. فالتوسل الشرعي في النوع الأول: "هي الوسيلة التي أمرنا الله أن نبتغيها إليه قال تعالى {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} وهي التقرب إلى الله بطاعته وهذا النوع يدخل فيه كل ما أمرنا الله به ورسوله، وهذه الوسيلة لا طريق لنا إليها إلا باتباع النبي صلى الله عليه وسلم وطاعته. وهذا النوع من التوسل فرض على كل أحد 3، ويكون مراد التوسل به أحد أمرين:

_ 1 انظر (ص 164 إلى 230) . 2 قاعدة جليلة (ص 180) . 3 قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (ص 159) .

1- أن يتوسل بذلك إلى إجابة الدعاء وإعطاء السؤال، كحديث الثلاثة الذين أووا إلى الغار، فإنهم توسلوا بأعمالهم الصالحة ليجيب دعاءهم ويفرج كربتهم، وسيأتي بيان ذلك. 2- التوسل بذلك إلى حصول ثواب الله وجنته ورضوانه، فإن الأعمال الصالحة التي أمر بها الرسول صلى الله عليه وسلم هي الوسيلة التامة إلى سعادة الدنيا والآخرة1. والأعمال التي يتوسل ويتقرب بها إلى الله أنواع منها: 1- التوسل إلى الله تعالى بالإيمان به وبرسوله صلى الله عليه وسلم وبكل ما أمر به: مثال ذلك ما حكاه الله سبحانه عن المؤمنين في قوله تعالى {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} 2. وقوله تعالى {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ} 3 فهم قدموا ذكر الإيمان قبل الدعاء. وكذا التوسل بالإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم كأن يقول العبد اللهم إني أسألك بإيماني برسولك محمد صلى الله عليه وسلم أن تعطني كذا، أو تدفع عني كذا. وكذا التوسل باتباعه وطاعته صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من ربه عز وجل. وهذا التوسل بالإيمان به وطاعته فرض على كل أحد في كل حال باطنًا وظاهرًا، في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد موته، في مشهده ومغيبة، ولا يسقط التوسل بالإيمان به وبطاعته عن أحد من الخلق في حال من الأحوال

_ 1 قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (ص 240، 241) . 2 الآية (109) من سورة المؤمنون. 3 الآية (193) من سورة آل عمران.

-بعد قيام الحجة عليه- ولا بعذر من الأعذار، ولا طريق إلى كرامة الله ورحمته والنجاة من هوانه وعذابه إلا التوسل بالإيمان به وبطاعته1. فإذا توسلنا إلى الله بإيماننا بنبينا ومحبته ومولاته واتباع سنته فهو من أعظم الوسائل. فالأعمال الصالحة سبب لثواب الله لنا، فإذا توسلنا إلى الله بالأعمال الصالحة كنا متوسلين إليه بوسيلة كما قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} فالوسيلة هي الأعمال الصالحة. أما سؤال الله بمجرد ذات النبي فغير مشروع، لأننا إذا توسلنا إلى الله بنفس ذاته لم يكن في نفس ذاته سبب يقتضى إجابة دعائنا ولهذا لم يكن هذا منقولا عن النبي صلى الله عليه وسلم نقلا صحيحًا ولا متواترًا ولا مشهورًا عن السلف. فنحن إنما ننتفع باتباعنا له ومحبتنا له، وهو له عند الله من الدرجة والمنزلة أمر يعود نفعه إليه، فالتوسل به من غير متابعة له في الأعمال لا يجوز أن يكون وسيلة2. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ولا يتوسل إلى الله بمجرد ذات أحد من خلقه من غير دعاء من المتوسل به ولا طاعة من المتوسل". والداعي إنما ينتفع من وجهين: إما بدعاء الرسول له. أو بإيمان الداعي به وطاعته وجه حبته. فأن إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم لم يدع له، وهو لم يؤمن به، لم ينتفع بالرسول صلى الله عليه وسلم. فأبو طالب مع كفره لما كان يحوط الرسول ويمنعه شفع فيه حتى خفف

_ 1 قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (ص 3- 4) . 2 الرد على البكري (ص 40) بتصرف.

عنه العذاب، وقد كان في غمرة من النار، فلما شفع فيه صار في ضحضاح من النار، وفي رجليه نعلان من النار يغلي منهما دماغه، ولولاه لكان في الدرك الأسفل من النار هكذا رواه مسلم في صحيحه1 فانتفع به مع كفره في تخفيفه عذابه بأن شفع فيه. والإيمان به نافع لمن آمن وإن لم تحصل معه شفاعة. فهذان السببان هما اللذان ينفعان العبد من سيد الخلق صلى الله عليه وسلم. وأما مجرد توسل العبد بذاته أو إقسامه به بدون هذين السببين فلا ينفعه أصلا"2. فالوسيلة لون العباد وبين ربهم عز وجل هي الإيمان بالرسل وطاعتهم قال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} 3 وقال تعالى {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} 4 فالله تعالى يحب أن نتوسل إليه بالإيمان والعمل والصلاة والسلام على نبيه صلى الله عليه وسلم ومحبته وطاعته وموالاته. 2- التوسل إلى الله بعبادته وطاعته: فالتوسل إلى الله بعبادته وطاعته من أعظم القربات التي يحبها الله ويرضاها من عبده ويثيبه عليها.

_ 1 صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب والتخفيف عنه بسببه (1/ 134- 135) . 2 الرد على البكري (ص 61) . 3 الآية (69) من سورة النساء. 4 الآية (23) من سورة الجن.

ففي الحديث القدسي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله قال: من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما يرال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه ". الحديث1. فيستفاد منه: أن أداء الفرائض أحب الأعمال إلى الله، وأن العبد إذا أدى الفرائض وداوم على إتيان النوافل من صلاة وصيام وغيرهما أفضى به ذلك إلى محبة الله تعالى ولا يكون التقرب بالنوافل إلا بعد أداء الفرائض. فالتوسل إلى الله بعمل صالح يفعله العبد خالصًا لله تعالى، من أنواع التوسل المشروع. وذلك كما في قصة أصحاب الغار كما يرويها عبد الله بن، عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "بينما ثلاثة نفر يتمشون أخذهم المطر فأووا إلى غار في جبل، فانطبقت عليهم غارهم صخرة من الجبل، فانطبقت عليهم، فقال بعضهم لبعض انظروا أعمالا عملتموها صالحة لله، فادعوا الله تعالى بها لعل الله يفرجها عنكم. فقال أحدهم: اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران، وامرأتي ولي صبية صغار أرعى عليهم فإذا أرحت عليهم حلبت فبدأت بوالديّ فسقيتهما قبل بني

_ 1 أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الرقاق، باب التواضع. انظر: فتح الباري (1/340، 341) ح 02 65.

وأنه نأى لي ذات يوم الشجر، فلم آت حتى أمسيت، فوجدتهما قد ناما فحلبت كما كنت أحلب، فجئت بالحلاب فقمت عند رؤسهما أكره أن أوقظهما من نومهما، وأكره أن أسقي الصبية قبلهما، والصبية يتضاغون عند قدمي فلم يزل ذلك دأبي ودأبهم حتى طلع الفجر، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فأفرج لنا منها فرجة نرى منها السماء. ففرج الله منها فرجة فرأوا السماء. وقال الآخر: اللهم إنه كانت لي ابنة عم أحببتها كأشد ما يحب الرجال النساء وطلبت إليها نفسها فأبت حتى آتيها بمائة دينار فتعبت حتى جمعت مائة دينار فجئتها بها، فلما وقعت بين رجليها قالت يا عبد الله اتق الله ولا تفتح الخاتم إلا بحقه فقمت عنها فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا منها فرجة ففرج لهم. وقال الآخر: اللهم إني كنت استأجرت أجيرًا بفرق أرز فلما قضى عمله، قال أعطني حقي فعرضت عليه فرقه فرغب عنه، فلم أزل أزرعه حتى جمدت منه بقرا ورعاءها، فجاءني فقال: اتق الله ولا تظلمني حقي فقلت اذهب إلى تلك البقر ورعائها فخذها، فقال: اتق الله ولا تستهزئ بي، فقلت: إني لا أستهزئ بك خذ ذلك البقر ورعائها فأخذه فذهب به، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا ما بقي ففرج الله ما بقى" 1 فهؤلاء الثلاثة سألوا الله وتوسلوا إليه بأعمال البر.

_ 1 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب، باب إجابة دعاء من بر والدية. انظر فتح الباري (15/ 404) . وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الرقاق، باب قصة أصحاب الغار الثلاثة والتوسل بصالح الأعمال (8/ 89) واللفظ له.

3- التوسل بالاستغفار والتسبيح والدعاء: وهذا من أفضل ما يتوسل به العبد إلى ربه فقد أثنى الله على المستغفرين من ذنوبهم التائبين إليه كما في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} 1. وكان صلى الله عليه وسلم يكثر من الاستغفار وحث أمته عليه، وأرشدهم إلى ملازمته لما فيه من إظهار العبودية لله والافتقار إليه والذل والخشوع له ولا شك أن حاجة الأمة إلى الاستغفار والتوبة أشد من احتياجه صلى الله عليه وسلم لذلك. فقد قال صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب في اليوم إليه مائة مرة" 2. وعنه صلى الله عليه وسلم أنة قال: "إنه ليغان على قلبي وإني لاستغفر الله في اليوم مائة مرة" 3. والغين هو ما يتغشى القلب4. وأما الدعاء فإنه أقوى وسائل التقرب إلى الله وأفضل ما يتقرب به العبد إلى مولاه فالدعاء مخ العبادة. قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} 5. وقال تعالى {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا

_ 1 الآية (135) من سورة آل عمران. 2 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه (8/ 72، 73) . 3 أخرجه مسلم في صحيحه، كناب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار باب اسثحباب الاستغفار والاستكثار منه (8/ 72، 73) . 4 شرح النووي (17/ 23) 5 الآية (60) من سورة غافر.

دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} 1. والآيات القرآنية التي فيها الأمر بالتوجه إلى الله وحده بالدعاء كثيرة جدًا. ويدخل في هذا النوع التوسل إلى الله بدعائه باسم من أسمائه الحسنى أو بصفة من صفاته العليا: كأن يقول المسلم في دعائه: اللهم إني أسألك بأنك أنت الرحمن الرحيم، اللطف الخبير أن تعافيني. أو يقول: أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن ترحمني وتغفر لي. ومثله قول القائل: اللهم إني أسألك بحبك لمحمد صلى الله عليه وسلم.. فإن الحب من صفاته تعالى. قال الله عز وجل {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} 2 والمعني ادعوا الله متوسلين إليه بأسمائه الحسني، ولاشك أن صفاته العليا داخلة في هذا الطلب لأن أسمائه الحسني صفات له، خصت به تبارك وتعالى3. ومن ذلك ما ذكره تعالى من دعاء سليمان عليه السلام حيث قال {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} 4. وأما النوع الثاني: من أنواع التوسل المشروع فهو: التوسل بدعاء الأحياء الصالحين للغير. كأن يطلب العبد ممن يظن فيه الصلاح والتقوى والعلم بالكتاب والسنة أن يدعو له لما يريده من أمور الدنيا والآخرة.

_ 1 الآية (186) من سورة البقرة. 2 الآية (180) من سورة الأعراف. 3 كتاب التوسل أنواعه وأحكامه (29، 30) . 4 الآية (19) من سورة النمل.

فهذا النوع من أنواع التوسل إجازته الشريعة المطهرة وأرشدت إليه. فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلا دخل يوم الجمعة من باب كان وجاه المنبر ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما فقال: يا رسول الله هلكت المواشي وانقطعت السبل فادع الله يغيثنا. فال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه فقال: "اللهم اسقنا، اللهم اسقنا". قال أنس: ولا والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة ولا شيئا، وما بيننا وبين سلع1 من بيت ولا دار. قال: فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت. قال والله ما رأينا الشمس سبتا. ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب فاستقبله قائما فقال: يا رسول الله، هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله يمسكها. قال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال: "اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والظراب والأودية ومنابت الشجر قال: فانقطعت، وخرجنا نمشى في الشمس"2. وعن أنس رضي الله عنه "أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا قحطوا استقى بالعباس بن عبد المطلب، فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا. قال: فيسقون"3.

_ 1 سلع (بالفتح ثم السكون آخره عين مهملة) جبل معروف بالمدينة. وفاء الوفاء (ص 1235) . 2 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الاستسقاء، باب الاستسقاء في المسجد الجامع. انظر: فتح الباري (2/ 501) ح 1013 3 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الاستسقاء، باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء إذا قحطوا انظر فتح الباري (2/ 494) ح 1010

وهكذا يتضح لنا جليا أن التوسل المشروع الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، وجرى عليه عمل السلف الصالح وأجمع عليه المسلمون هو: 1- التوسل إلى الله بالأعمال الصالحة وعلى رأسها: أ- التوسل بالإيمان بالله وبرسوله وبكل ما أمر به. ب- التوسل إلى الله بعبادته وطاعته. ج- التوسل إلى الله بالاستغفار والتسبيح والدعاء. 2- التوسل بدعاء الأحياء الصالحين للغير. وأما ما عدا هذه الأنواع فهي توسلات بدعية، وذلك كالتوسل بذوات المخلوقين، أو جاههم فيما لا يقدر عليه إلا الله، وسواء كانوا أحياء أم أمواتًا، وسواء كانوا أنبياء أم صالحين أم كانوا من عامة المؤمنين والذي نعتقده وندين الله به أن هذا غير جائز ولا مشروع، لأنه لم يرد فيه دليل تقوم به الحجة. ولا يجوز للمسلم أن يتقرب إلى الله ويتوسل إليه بغير ما شرعه في كتابه أو على لسان رسوله. وفيما شرعه الله ورسوله الغنية عن غيره من التوسلات البدعية والشركية.

المطلب الثاني: الكلام على مسألة الشفاعة

المطلب الثاني: الكلام على مسألة الشفاعة أ- أما الشفاعة فمعناها في اللغة: قال صاحب اللسان: "شفع لي يشفع، شفاعة، وتشفع: طلب. وروي عن المبرد وثعلب1 أنهما قالا في قوله تعالى {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} 2 قالا: الشفاعة الدعاء ههنا. والشفاعة كلام الشفيع للملك في حاجة يسألها لغيره. وشفع إليه: في معنى طلب إليه. والشافع: الطالب لغيره يتشفع به إلى المطلوب. يقال: تشفعت بفلان إلى فلان فشفعني فيه. واسم الطالب: شفيع. واستضفعته إلى فلان: أي سألته أن يشفع لي إليه. وتشفعت إليه في فلان: فشفعني فيه تشفيعًا"3. ويتضح من النقل السابق ما يلي: 1- أن معنى الشفاعة في اللغة: الدعاء والطلب.

_ 1 واسمه أحمد بن يحيى بن زيد الشيباني بالولاء، أبو العباس المعروف بثعلب، إمام الكوفيين في النحو واللغة، كان راوية للشعر، ثقة حجة، مات ببغداد سنة 291هـ. الأعلام (1/267) . 2 الآية (255) من سورة البقرة. 3 لسان العرب (8/ 184) مادة شفع.

2- أن الشفاعة لها أركان أربعة: 1- الطلب 2- المشفع فيه أي صاحب الحاجة، 3- الشافع أو الشفيع، 4- المشفوع إليه. وهذه الأركان الأربعة مذكورة في كلام صاحب اللسان حيث قال: "الشفاعة، كلام الشفيع للملك في حاجة يسألها للغير" فهناك: 1- شفيع، 2- ملك، 3- حاجة، 4- وغير. 3- أن الشفاعة في لغة العرب لابد فيها من طلب الشافع للسائل، فيطلب له ما يطلب من المسئول المدعو المشفوع إليه. قال صاحب اللسان: "الشافع الطالب لغيره، واسم الطالب: شفيع. وهذا لا يكون إلا بوجود الشافع وحضوره. وأما الاستشفاع بمن لم يشفع للسائل ولا طلب له حاجة ليس هذا استشفاعا في اللغة". قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "كثير من العامة يقولون لمن توسل في دعائه بنبي أو غيره: قد تشفع به. من غير أن يكون المتشفع به شفع له ولا دعا له، بل قد يكون غائبا لم يسمع كلام ولا شفع له. وهذا ليس هو لغة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وعلماء الأمة بل ولا هو لغة العرب. فان الاستشفاع: طلب الشفاعة. والشافع: هو الذي يشفع للسائل فيطلب له ما يطلب من المسئول المدعو المشفوع إليه. وأما الاستشفاع بمن لم يشفع للسائل ولا طلب له حاجة بل وقد لا يعلم بسؤاله، فليس هذا استشفاعا لا في اللغة ولا في كلام من يدري ما يقول. نعم هذا سؤال به، ودعاؤه، ليس هو استشفاعا به"1.

_ 1 قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (ص 151- 152) .

فالشفاعة في لغة العرب ولغة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم، لابد فيها من "طلب الشافع" وهذا لا يكون إلا بوجوده وحضوره. وأما توسل الشخص في دعائه بنبي أو غيره، وتسمية بعض المبتدعة لهذا استشفاعا أي سؤالا بالشافع، وصاروا يقولون: استشفع به فيشفعك، أي يجيب سؤالك به، فهذا من تغيير معني الشفاعة في اللغة والشرع، وأصحابه أرادوا أن يغيروا اللغة كما غيروا الشريعة. ب- معنى الشفاعة في خطاب الشارع: معنى الشفاعة في استعمال الشارع هو الدعاء كما ورد في وضع اللغة فمما ورد في ذلك مما رواه أبو هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في صلاته على الجنازة: "اللهم أنت ربها وأنت خالقها وأنت هديتها للإسلام، وأنت قبضت روحها، وأنت أعلم بسرها وعلانيتها جئنا شفعاء فاغفرلها"1. وعن أنس وعائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من ميت يصلى عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه" 2. هذا وقد جاءت النصوص الشرعية بذكر نوعين من الشفاعة: النوع الأول: الشفاعة المنفية. النوع الثاني: الشفاعة المثبتة. أما النوع الأول: أي الشفاعة المنفية. فإنه لما كان المشركون في قديم الزمان وحديثه إنما وقعوا في الشرك لتعلقهم

_ 1 أخرجه الإمام أحمد في المسند (2/ 345، 363) . 2 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجنائز، باب من صلى عليه مائة شفعوا فيه: (3/52، 53) .

بأذيال الشفاعة كما قال تعالى {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 1. وقال تعالى: {اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 2. فقد نفي الله هذه الشفاكة رنزه نفسه عنها، ونفي أن يكون للخلق من دونه من ولى أو شفيع كما قال تعالى {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 3. وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} 4. وهذه الشفاعة المنفية هي الشفاعة المعروفة عند الناس عند الإطلاق وهي أن يشفع الشفيع إلى غيره ابتداء فيقبل شفاعته"5. وأصحاب هذه الشفاعة المنفية جعلوا وسائط بين الله وبين خلقه -كالحجاب الذي لن الملك ورعيته- بحيث يكون أولئك الوسائط هم الذين يرفعون إلى الله حوائج خلقه، فهم يعتقدون أن الله إنما يهدي عباده ويرزقهم بتوسطهم، فالخلق يسألونهم وهم يسألون الله كما أن الوسائط عند الملوك: يسألون الملوك

_ 1 الآية (18) من سورة يونس. 2 الآية (3) من سورة الزمر. 3 الآيتان (43، 44) من سورة الزمر. 4 الآية (4) من سورة السجدة. 5 مجموع الفتاوى (1/ 118) .

حوائج الناس، لقربهم منهم، والناس يسألونهم أدبًا منهم أن يباشروا سؤال الملك أو لأن طلبه من الوسائط أنفع لهم من طلبهم من الملك لكونهم أقرب إلى الملك من الطالب للحوائج. فمن أثبتهم وسائط على هذا الوجه: فهو مشرك، يجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل. وهؤلاء مشبهون لله، شبهوا المخلوق بالخالق، وجعلوا لله أندادًا وفي القرآن الكريم من الرد على هؤلاء ما لا يتسع المجال لذكره ههنا. ومعلوم أن الوسائط التي بين الملوك وبين الناس، يكونون على أحد وجوه ثلاثة: 1- إما لإخبارهم من أحوال الناس مما لا يعرفونه. أو أن يكون الملك عاجزا عن تدبير رعيته ودفع أعدائه إلا بأعوان يعينونه، فلابد له من أنصار وأعوان لذله وعجزه. 2- وإما أن يكون الملك ليس مريدا لنفع رعيته، والإحسان إليهم ورحمتهم إلا بمحرك يحركه من خارج. فإذا خاطب الملك من ينصحه، ويعظمه، أو من يدل عليه، بحيث يكون يرجوه أو يخافه: تحركت إرادة الملك وهمته في قضاء حوائج رعيته إما لما حصل في قلبه من كلام الناصح الواعظ المشير، وإما لما يحصل من الرغبة أو الرهبة من كلام المدل عليه. وكل هذه الأمور ممتنعة في حق الله تعالى. فمن قال إن الله لا يعلم أحوال عباده حتى يخبره بذلك بعض الملائكة أو الأنبياء أو غيرهم فهو كافر. بل هو سبحانه يعلم السر وأخفي، ولا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في

السماء وهو السميع البصير. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} 1 وقال تعالى: {وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} 2. والله سبحانه ليس له ظهير، ولا ولى من الذل. قال تعالى {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} 3. وقال تعالى {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} 4. وكل ما في الوجود من الأسباب فهو خالقه، وربه ومليكه، فهو الغني عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه، بخلاف الملوك المحتاجين إلى ظهرائهم وهم في الحقيقة شركاؤهم في الملك. والله تعالى ليس له شريك في الملك، بل لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. وهو سبحانه رب كل شيء ومليكه، وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها، وكل الأشياء إنما تكون بمشيئته فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. وهو سبحانه لا يرجو أحدا ولا يخافه، ولا يحتاج إلى أحد بل هو الغني قال تعالى: {أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ

_ 1 الآية (5) من سورة آل عمران. 2 الآية (38) من سورة إبراهيم. 3 الآية (22) من سورة سبأ. 4 الآية (111) من سورة الإسراء.

مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} 1. فالمشركون يتخذون شفعاء من جنس ما يعهدونه من الشفاعة عند ملوكهم. قال تعالى {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 2. وقال تعالى {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} 3. وأخبر عن المشركين أنهم قالوا {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 4 5 فالمشرك يقصد فيما يشرك به: 1- أن يشفع له عند الله. 2- أن يتقرب بعبادته إلى الله. وهذا بعينه هو ما يوجد عند عباد القبور نعوذ بالله من حالهم. وأما الشفاعة المثبتة: فهي الشفاعة الشرعية المخالفة لما عليه المشركون. وهي التي أخبر الله تعالى أنها لا تنفع إلا بشرطين: الأول: إذنه سبحانه للشافع أن يشفع. الثاني: رضاه سبحانه عن المشفوع له.

_ 1 الآية (66) من سورة يونس. 2 الآية (18) من سورة يونس. 3 الآية (28) من سورة الأحقاف. 4 الآية (3) من سورة الزمر. 5 مجموع الفتاوى (1/ 126- 129) بتصرف.

قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} 1. وقال تعالى: {لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} 2. وقال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} 3. وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} 4. وهذه الشفاعة منها ما هو في الدنيا. ومنها ما هو في يوم القيامة. والشفاعة كما سبق وأن ذكرنا هي: الدعاء. ولا يرب أن دعاء الخلق بعضهم لبعض نافع والله قد أمر بذلك. فمشروع أن يدعو الأعلى للأدنى والأدنى للأعلى. ولقد كان الصحابة يستشفعون بالنبي صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء ويطلبون منه الدعاء، بل وكذلك بعده استسقى عمر والمسلمون بالعباس عمه، وهذا من الشفاعة في الدنيا. وفي يوم القيامة يطلب الناس الشفاعة من الأنبياء ومحمد صلى الله عليه وسلم وهو سيد الشفعاء، وله شفاعات يختص بها. ولكن لابد في هذه الشفاعة من الشرطين السابقين أي إذن الله للشافع ورضاه عن المشفوع له.

_ 1 الآية (255) من سورة البقرة. 2 الآية (26) من سورة النجم. 3 الآية (28) من سورة الأنبياء. 4 الآية (109) من سورة طه.

فالداعي الشافع ليس له أن يدعو ويشفع إلا بإذن الله في ذلك، فلا يشفع شفاعة نهي عنها: كالشفاعة للمشركين والدعاء لهم بالمغفرة قال تعالى {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} 1. وقال تعالى في حق المنافقين {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} 2. وقال تعالى {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} 3. وشرط الرضي غير متحقق في المشفوع له مع أن الشافع هنا هو خير الخلق وأعظمهم قدرا عند الله تعالى. وقد قال تعالى {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} 4 أي المعتدين في الدعاء. ومن الاعتداء في الدعاء: أن يسأل العبد ما لم يكن الرب ليفعله مئل: أن يسأله منازل الأنبياء وليس منهم، أو مغفرة المشركين ونحو ذلك، أو يسأله ما فيه معصية الله كإعانته على الكفر والفسوق والعصيان. فالشفيع الذي أذن الله له في الشفاعة: شفاعته في الدعاء الذي ليس فيه عدوان. والأنبياء لو سأل أحدهم دعاء لا يصلح له لا يقر عليه، فإنهم معصومون أن

_ 1 الآية (113) من سورة التوبة. 2 الآية (6) من سورة المنافقون. 3 الآية (80) من سورة التوبة. 4 الآية (55) من سورة الأعراف.

يقروا على ذلك. كما قال نوح {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} 1 قال تعالى {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} 2. {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 3. وكل داع شافع، دعا الله سبحانه وشفع: فلا يكون دعاؤه وشفاعته إلا بقضاء الله وقدره ومشيئته، فهو الذي يجيب الدعاء من جملة الأسباب التي قدرها الله سبحانه وتعالى. وإذا كان كذلك: فالالتفات إلى الأسباب بالكلية شرك في التوحيد ومحو الأسباب أن تكون أسبابًا نقص في العقل. والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع، بل العبد يجب أن يكون توكله ودعاؤه وسؤاله ورغبته إلى الله سبحانه وتعالى والله يقدر له من الأسباب من دعاء الخلق وغيرهم ما شاء. فالدعاء للغير، ينتفع به الداعي، والمدعو له، وإن كان الداعي دون المدعو في الدرجة والمنزلة. فدعاء المؤمن لأخيه ينتفع به الداعي والمدعو له. فمن قال لغيره أدع لي وقصد انتفاعهما جميعا بذلك كان هو وأخوه

_ 1 الآية (45) من سورة هود. 2 الآية (46) من سورة هود. 3 الآية (47) من سورة هود.

متعاونين على البر والتقوى. فهو نبه المسئول وأشار عليه بما ينفعهما، بمنزلة من يأمر غيره ببر وتقوى، فيثاب المأمور على فعله، والآمر أيضا يثاب مثل ثوابه لكونه دعا إليه. وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة، عند رأسه ملك موكل كلما دعا لأخيه قال الملك الموكل به آمين ولك بمثل" 1. وعند النظر في نصوص الشرع الواردة في شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم نجد أن هناك شفاعة أخروية له في يوم القيامة، وشفاعة دنيوية في حياته. أما الشفاعة الأخروية: فقد أجمع المسلمون على أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع للخلق يوم القيامة بعد أن يسأله الناس ذلك، وبعد أن يأذن الله له في الشفاعة. ثم إن أهل السنة والجماعة متفقون على ما اتفق عليه الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، واستفاضت به السنن من أنه صلى الله عليه وسلم يشفع لأهل الكبائر من أمته ويشفع لعموم الخلق. فله صلى الله عليه وسلم شفاعات يختص بها لا يشركه فيها أحد، وشفاعات فيها وغيره من الأنبياء والصالحين سواء، ولكن ما له فيها أفضل مما لغيره، فإنه صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق وأكرمهم على ربه عز وجل، وله من الفضائل التي ميزه الله بها على سائر النبيين ومن ذلك المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون، وأحاديث الشفاعة كثيرة متواترة منها في الصحيح أحاديث متعددة، وفي السنن والمسانيد مما يكثر عدده. أما الشفاعة الدنيوية (التي كانت في حياته) ، فقد أجمع أهل العلم على أن

_ 1 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الدعاء للمسلمين بظهر الغيب (8/ 86) .

الصحابة كانوا يستشفعون به ويتوسلون به في حياته بحضرته. كما ثبت في أحاديث الاستسقاء، وهذا الاستشفاع هو طلب للدعاء منه، فإنه كان يدعو للمستشفع والناس يدعون معه، كما جاء في الحديث الثابت في الاستسقاء أن المسلمين لما أجدبوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليه أعرابي فقال: يا رسول الله هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله يغيثنا. فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه وقال: "اللهم أغثنا اللهم أغثنا اللهم أغثنا" 1. فهذا يبين أن معنى الاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وسلم هو استشفاع بدعائه وشفاعته. وهذا ما فهمه الصحابة وعملوا به بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فعمر بن الخطاب استسقى بالعباس بن عبد المطلب وقال "اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا" 2. وكذلك معاوية بن أبي سفيان -لما أجدب الناس بالشام- استسقى بيزيد بن الأسود الجرشي3 فقال: "اللهم إنا نستشفع ونتوسل بخيارنا، يا يزيد ارفع يديك "فرفع يديه ودعا، ودعا الناس حتى سقوا"4. فهم لم يستسقوا ولم يتوسلوا ولم يستشفعوا في هذه الحال بالنبي صلى الله عليه وسلم لا

_ 1 تقدم تخريجه ص 737 2 تقدم تخريجه ص 737 3 يزيد بن الاسود الجرشي أبو الأسود، من سادة التابعين أسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان من العباد الخشن وقصته مع معاوية تدل على فضله وصلاحه، توفي سنة 71 هـ. الإصابة (3/634) وسبر أعلام النبلاء (4/ 136- 137) . 4 أورده ابن حجر في الإصابة (3/ 634) وقال: "أخرجه أبو زرعة الدمشقي ويعقوب بن سفيان في تاريخيهما بسند صحيح" وأورده الذهبي في سير أعلام النبلاء (4/137) وابن كثير في البداية (8/ 324) .

عند قبره ولا غير قبره، بل عدلوا إلى البدل كالعباس وكيزيد. فجعلوا هذا بدلا عن ذلك لما تعذر أن يتوسلوا به على الوجه المشروع الذي كانوا يفعلونه. وقد كان من الممكن أن يأتوا إلى قبره فيتوسلوا ويستشفعوا به ويقولوا في دعائهم في الصحراء بالجاه ونحو ذلك من الألفاظ التي تتضمن القسم بالمخلوق على الله عز وجل أو السؤال به، فيقولون نسألك أو نقسم عليك أو نستشفع عليك أو نستشفع بنبيك أو جاه نبيك، ونحو ذلك مما يفعله بعض الناس. ولكنهم لم ينقل عنهم أنهم توسلوا أو استشفعوا بمثل هذه العبارات فهذا يؤكد ويبرهن على أن التوسل بالذات في حضور الشخص أو مغيبة أو بعد موته أمر لم يشرعه لهم الشارع ولم يكن معروفا عندهم.

المطلب الثالث: الكلام على مسألة الاستغاثة

المطلب الثالث: الكلام على مسألة الاستغاثة قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " الاستغاثة: طلب الإغاثة والتخليص من الكربة والشدة. والنبي صلى الله عليه وسلم في حياته يجوز أن يستغاث به، فيطلب منه أن ينصر المظلوم، ويطعم الجائع، ويسقى الظمآن، ويخلص الأسرى، ويقضي الدين عن المدين، ويبين الدين، ويزيح شبهات المعارضين ويجب السائلين ونحو ذلك. ومعلوم أن نبينا صلى الله عليه وسلم أفضل الناس عملاً، وأعظمهم حرصًا على البر والتقوى، بل كل خير في الوجود فهو معين عليه بل له مثل أجر كل عامل خير من أمته فإنه هو الذي دعا إلى ذلك "من دعا إلى الهدى كان له مثل أجور من تبعه من غير أن يتقص من أجورهم شيئا" 1 2. واستغاثة الصحابة به في القحط، إنما به استغاثوا به ليدعو لهم كما يستغيث الناس به يوم القيامة ليشفع لهم. والاستغاثة بالمخلوق ليدعو للعبد أو ليعينه بما يقدر عليه ليس بممنوع منه. وإنما الممنوع أن يستغاث به فيما لا يقدر عليه، وأن يقسم على الله به ولاسيما إذا كان المخلوق ميتًا أو غائبًا فلا يجوز أن يستغاث به فيما يقدر عليه حيًا، ولا فيما لا يقدر عليه. (وأما قول من يقول إن الاستغاثة به بعد موته ثابتة ثبوتها في حياته فهو كلام

_ 1 تقدم تخريجه ص 445. 2 الرد على البكري (ص 88) بتصرف.

باطل قطعا لأنه يلزم من ذلك أن يطلب منه أن يخرج إلى الغزوات ويقيم الحدود ويعود المريض فاعلاً ذلك ببدنه كما كان يفعل ذلك في حياته فهل يقول هذا إنسان؟ أو يحتاج رد هذا إلى برهان"1. فليس عليه بعد الموت فعل من الأفعال لا واجبًا ولا مستحب كما ليس ذلك على غيره من الناس، بل الموت ينتهي به التكليف الثابت في الحياة بإجماع الخلق، فليس على نبي ولا غيره بعد موته أن يفعل ما كان يؤمر به في حال الحياة من واجب ومستحب. ولا يستطع أحد أن ينقل عن أحد من الصحابة ولا من السلف أنهم بعد موته طلبوا منه إغاثةً ولا نصرًا ولا إعانة ولا استسقوا بقبره ولا استنصروا به كما كانوا يطلبون ذلك منه في حياته"2. ويفهم من كلام شيخ الإسلام المتقدم أن الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم فيها تفصيل. فهناك استغاثة جائزة مشروعة وهي: 1- إما بالطلب منه في حياته فيما يقدر عليه وهذه لم ينازع فيها أحد. 2- وإما بالطلب منه في عرصات يوم القيامة أن يشفع لهم وهذه ما دلت عليه النصوص الثابتة. وهناك استغاثة غير مشروعة بل هي شركية وهي عائدة إلى شيئين: 1- الاستغاثة به بعد موته. 2- أن يطلب منه ما لا يقدر عليه. وكلا الأمرين يجتمعان فيمن استغاث به بعد موته.

_ 1 الرد على البكري (ص 90) . 2 الرد على البكري (90، 91) بتصرف.

ومن تلفظ بهذه العبارة من المبتدعة فهو يريد بها أحد أمرين إما أن يطلب الإغاثة من الرسول نفسه لاعتقاده أن له تصرفا في هذه الأمور وقدرة على تحصيلها وهذا هو اعتقاد كثير من العوام وهو ما يدل عليه استعمال الكلمة في لغة العرب. وإما أن يكون مراده بهذه العبارة الطلب من الله بواسطة الرسول أي أنه متوسل به إلى الله تعالى وهذا المعني يأباه استعمال العرب لهذه اللفظة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ومن ظن أن الباب في التوسل كالباب في الاستغاثة فقد أخطأ فالمستغاث به هو المسئول. وأما المتوسل به فهو الذي يتسبب به إلى المسئول1. (والفرق واضح بين السؤال بالشخص والاسغاثة به. وأريد أن أُعرف من أين دخل اللبس على هؤلاء الجهال، فإن معرفة المرض وسببه يعين على مداواته وعلاجه، ومن لم يعرف أسباب المقالات وإن كانت باطلة، لم يتمكن من مداواة أصحابها، وإزالة شبهاتهم، فوقع لي أن سبب هذا الضلال والاشتباه عليهم أنهم عرفوا أين يقال سألت الله بكذا كما في الحديث "اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان"2. ورأى أن الاستغاثة تتعدى بنفسها كما يتعد السؤال كقوله {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} 3. وقوله {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} 4.

_ 1 الرد على البكري (261، 262) . 2 أخرجه النسائي في سننه، كتاب السهو، باب الدعاء بعد الذكر (3/ 52) . 3 الآية (9) من سورة الأنفال. 4 الآية (15) من سورة القصص.

فظنوا أن قول القائل استغثت بفلان كقوله، سألت بفلان. والمتوسل إلى الله بغائب أو ميت تارة يقول: أتوسل إليك بفلان، وتارة يقول أسألك بفلان. فإذا قيل ذلك بلفظ الاستغاثة فإما أن يقول أستغيثك بفلان، أو أستغيث إليك بفلان. ومعلوم أن كلا هذين القولين ليس من كلام العرب. وأصل الشبهة على هذا التقدير، أنهم لم يفرقوا بين الباء في استغثت به التي يكون المضاف بها مستغاثا مدعوًا مسؤلاً مطلوبًا منه. فإذا قيل توسلت به، أو سألت به، أو توجهت به فهي الاستغاثة كما تقول كتبت بالقلم. وهم يقولون استغيثه به من الإغاثة كما يقولون استغثت الله واستغثت به من الغوث، فالله في كلا الموضعين مسؤول مطلوب منه. وإذا قالوا لمخلوق استغثته واستغثت به من الغوث كان المخلوق مسؤلاً مطلوبًا منه. وأما إذا قالوا استغثت به من الإغاثة فقد يكون مسؤلاً وقد لا يكون مسؤلاً. وكذلك استنصرته، واستنصرت به، فإن المستنصر يكون مسؤلاً مطلوبًا. وأما المستنصر به فقد يكون مسؤلاً وقد لا يكون مسؤلاً. فلفظ الاستغاثة في الكتاب والسنة وكلام العرب إنما هو مستعمل بمعنى الطلب من المستغاث به. وقول القائل: استغثت فلانا واستغثت به بمعنى طلبت منه الإغاثة لا بمعنى توسلت به. فلا يجوز للإنسان الاستغاثة بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله"1. فإذا كان معنى الاستغاثة هو الطلب منه، فما الدليل على أن الطلب منه ميتًا

_ 1 الرد على البكري (ص 80- 82) .

كالطلب منه حيًا. ولا يمكن لأحد أن يذكر دليلا شرعيًا على أن سؤال الموتى من الأنبياء والصالحين وغيرهم مشروع. بل الأدلة على تحريم ذلك كثيرة جدًا، فهذه الاستغاثة وتوجه القلب إلى المسئول بالسؤال والإنابة محظورة على المسلمين لم يشرعها لأحد من أمته رسول رب العالمين. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "سؤال الميت والغائب نبيًا كان أو غيره من المحرمات المنكرة باتفاق أئمة المسلمين لم يأمر الله به ولا رسوله ولا فعله أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان، لا استحبه أحد من أئمة المسلمين. وهذا مما يعلم بالاضطرار من المسلمين أن أحدا منهم ما كان يقول إذا نزلت به نازلة أو عرضت له حاجة لميت يا سيدي فلان أنا في حسبك أو اقضي حاجتي، كما يقول بعض هؤلاء المشركين، لمن يدعونهم من الموتى والغائبين. ولا أحد من الصحابة رضي الله عنهم استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته ولا بغيره من الأنبياء لا عند قبورهم، ولا إذا بعدوا عنها، وقد كانوا يقفون تلك المواقف العظام في مقابلة المشركين في القتال ويشتد البأس بهم ويظنون الظنون ومع هذا لم يستغث أحد منهم بنبي ولا غيره من المخلوقين ولا أقسموا بمخلوق على الله أصلا ولا كانوا يقصدون الدعاء عند قبور الأنبياء ولا قبور غير الأنبياء ولا الصلاة عندها. وقد كره العلماء كمالك وغيره أن يقوم الرجل عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لنفسه وذكروا أن هذا من البدع التي لم يفعلها السلف. وأما ما يروى عن بعضهم أنه قال: قبر فلان الترياق المجرب، وقول بعضهم فلان يدعى عند قبره، وقول بعض الشيوخ لمريده: إذا كانت لك حاجة

فاستغث بي، أو قال: استغث عند قبري، ونحو ذلك فإن هذا قد وقع فيه كثير من المتأخرين وأتباعهم. وكثير من هؤلاء إذا استغاث بالشيخ رأى صورته، وربما قضى بعض حاجته فيظن أنه الشيخ نفسه، أو أنه ملك تصور على صورته، وأن هذا من كراماته فيزداد به شركا وفيه مغالاة، ولا يعلم أنا هذا من جنس ما تفعله الشياطين بعباد الأوثان، حيث تتراءى أحيانا لمن تعبدها وتخاطبهم ببعض الأمور الغائبة وتقضي لهم بعض الطلبات. لكن هذه الأمور كلها محدثة في الإسلام بعد القرون الثلاثة المفضلة. وكذلك المساجد المبنية على القبور التي تسمى المشاهد محدثة في الإسلام والسفر إليها محدث في الإسلام لم يكن شيء من ذلك في القرون الثلاثة المفضلة، بل ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم قال: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذر ما فعالوا قالت عائشة رضي الله عنها: "لولا ذلك لأبرز قبره ولكن كره أن يتخذ مسجدًا"1. وثبت في الصحيح عنه أنه قال قبل أن يموت بخمس "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا االقبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك"2. ولما أجدبوا في خلافة عمر رضي الله عنه استسقى عمر بالعباس وقال: "اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك نبينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا"3.

_ 1 تقدم تخريجه ص 588 2 تقدم تخريجه ص 589 3 تقدم تخريجه ص 737

فلم يذهبوا إلى القبور، ولا توسلوا بميت ولا غائب، بل توسلوا بالعباس كما كانوا يتوسلون بالنبي صلى الله عليه وسلم، وكان توسلهم به توسلهم بدعائه كالإمام مع المأموم، وهذا تعذر بموته. فأما قول القائل عند ميت من الأنبياء والصالحين: اللهم إني أسألك بفلان أو بجاه فلان أو بحرمة فلان، فهذا لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة ولا عن التابعين، وقد نص غير واحد من العلماء أنه لا يجوز. فكيف يقول القائل للميت أنا أستغيث بك، وأستجير بك وأنا في حسبك وسل لي الله ونحو ذلك، فتبين أن هذا ليس من الأسباب المشروعة ولو قدر أنَّ لما يفعلونه تأثيرا، فليس هو من الأسباب المشروعة، ولا له تأثير صالح بل مفسدته راجحة على مصلحته كأمثاله من دعاء غير الله تعالى، وذلك أن من الناس الذين يستغيثون بغائب ميت من تتمثل له الشياطين، وربما كانت على صورة ذلك الغائب، وربما كلمته، وربما قضت له أحيانا بعض حوائجه كما تفعل شياطين الأصنام بعبادها، وهذا مما قد جرى لغير واحد فينبغي أن يعرف هذا"1. وقال أيضا: "وسؤال الخلق هو في الأصل محرم لأن فيه أنواع الظلم الثلاثة: 1- الظلم في حق الله بالشرك. 2- الظلم للمسؤول، فإن فيه إيذاء له. 3- وظلم الإنسان نفسه لما فيه من تعبيدها لغير الله. وقد ألح من ذلك من سؤال الحي ما دل الشرع على إباحته وأما سؤال الميت والغائب فلم يأذن الله به قط.

_ 1 الرد على البكري (ص 231- 233) بتصرف يسير.

ومن عدل عما أمر به الرسول من عبادة الله وحده والتوكل عليه والرغبة إليه وطاعته فيما أمر به من الإحسان والخير الذي ينتفع به هو وهم وغيره من المخلوقين، فإن العبد كلما عمل بما أمرت به الرسل كان لهم مثل أجره وحصل له هو من الخير من إجابة دعائه ونفعه وغير ذلك. فمن عدل عن هذه الرحمة والخير وسعادة الدنيا والآخرة إلى أن يفعل ما لم تأمر به الرسل بل اتخذهم أربابا يسألهم ويستغيث بهم في مماتهم ومغيبهم وغير ذلك كان مثله مثل النصارى فإن المسيح قال لهم: {عْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} 1 وقال {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ} 2. فلو امتثلوا أمره كانوا مطعين لرسل الله موحدين لله، ونالوا بذلك السعادة من الله تعالى في الدنيا والآخرة. ولكنهم غلوا فيه واتخذوه وأمه إلهين من دون الله، يستغيثون بهم، وكذبوا بالرسول الذي بشر به، وحرفوا التوراة التي صدق بها، فظنوا في ذلك أنهم معظمون للمسيح، وكان هذا من جهلهم وضلالهم"3. فخلاصة القول: إن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته وسؤاله والاستغاثة به وغير ذلك مما يفعل عند قبره أو بعيدًا عنه هو من الدين الذي لم يشرعه الله في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ولا فعله أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولا أمر به إمام من أئمة المسلمين4.

_ 1 الآية (72) من سورة المائدة. 2 الآية (6) من سورة الصف. 3 الرد على البكري (ص 103) . 4 مجموع الفتاوى 11/ 159) بتصرف.

وأما ما يحتج به أهل البدع الذين يفعلون مثل هذه الأمور ويدعون الناس إليها فشبههم لا تخرج عن أحد الأمور التالية: 1- إما آيات وأحاديث صحيحة يتأولونها ويتعسفون في تفسيرها حتى توافق ما جاءوا به من الباطل مع أنه ليس فيهات دلالة على ما يزعمون ويدعون. 2- وإما أحاديث واهية أو موضوعة لا يحتج بها ولا يعتمد عليها بل هي مخالفة لأهم قواعد هذا الدين المبنية على الآيات والأحاديث الثابتة الصحيحة. وهذا الصنف هو أغلب بضاعتهم، بل وأكثر ما يستدلون به عند عرض بدعههم، إما جهلا منهم بحكم هذه الأحاديث، أو لعلمهم بأن هذا النوع من الأدلة هو مما يسهل ترويج باطلهم عند العوام الذين لا يستطيعون أن يميزوا لون الصحيح والضعيف من الأحاديث. 3- وإما بحكايات مكذوبة منسوبة لبعض أئمة هذا الدين الذين لهم في نفوس الناس منزلة ومكانة. وتلك الحكايات مروية بأسانيد مظلمة عن رجال مجهولين وهي مردودة بما اشتهر عن أولئك الأئمة من أقوال ذكرت في كتبهم أو رويت عن طريق تلاميذهم بأسانيد صحيحة تؤكد زيف تلك، الحكايات المنسوبة إليهم وتبرهن على بطلانها. 4- أو بمنامات لا تخلو من أحد أمرين إما كذب صاحبها أو تلبيس الشياطين عليه، ويشهد لهذا ويؤكده مخالفتها لقواعد هذا الدين وأصوله. ويا سبحان الله كيف يتصور أن يترك ا، وسلم شرع الله من أجل أحلام ومنامات. 5- أو أقوال من تكلم في الدين بلا علم، وليس معه فيما يقول ويدعى دليل

شرعي، ويجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير. 6- أو بحجج هي من جهة الرأي والذوق هي أوهن من بيوت العنكبوت ولا يخفى ضعفها وفسادها ومخالفتها لقواعد هذا الدين وأصوله إلا على الجهلة وأصحاب الهوى أتباع كل ناعق الذين لم يستضيئوا بنور العلم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما أولئك الضلال أشباه المشركين والنصارى فعمدتهم: إما أحاديث ضعيفة أو موضوعة، أو منقولات عمن لا يحتج بقوله إما أن يكون كذبا عليه وإما أن يكون غلطا منه إذ هي نقل غير مصدق عن قائل غير معصوم، وإن اعتصموا بشيء مما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم حرفوا الكلم عن مواضعه وتمسكوا بمتشابهه وتركوا محكمه كما يفعل النصارى"1. والمقام هنا لا يتسع لعرض تلك الشبه والرد عليها، فمن أراد الاستزادة في هذا الشأن فعليه بمظان ذلك في كتب علماء السلف2.

_ 1 الرد على البكري (ص 352) . 2 انظر: أ- قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة لشيخ الإسلام ابن تيمية. ب- الرد على الأخنائي لشيخ الإسلام ابن تيمية. ج- الرد على البكري لشيخ الإسلام ابن تيمية. د- صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان للشيخ محمد بشير السهسواني. هـ- الصواعق المرسلة الشهابية للشبح سليمان بن سحمان. و غاية الأماني في الرد على النبهاني للشيخ محمود شكري الألوسي.

المبحث الثالث: حكم ما يفعل عند حجرته التي دفن فيها من الأمور المبتدعة

المبحث الثالث: حكم ما يفعل عند حجرته التي دفن فيها من الأمور المبتدعة ومن ذلك سؤاله الاستغفار والشفاعة والتوسل والاستغاثة والسجود إلى حجرته والطواف بها والتمسح بالجدران المحيطة بها وإلصاق البطن بها. وجميع هذه الأمور وما شاكلها هي أمور مبتدعة أحدثها بعض المتأخرين ولم يفعلها أحد من سلف الأمة وأئمتها، بل هي منهي عنها. وقد سبق بيان حكم دعائه واستغاثته والاستشفاع والتوسل به وأما السجود للحجرة والطواف بها فهو محرم أو كفر. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وزاد بعض جهال العامة ما هو محرم أو كفر بإجماع المسلمين كالسجود للحجرة والطواف بها وأمثال ذلك"1. "فلا يجوز لأحد أن يطوف بحجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وليس في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم شيء يطاف به، ولا فيه ما يتمسح به، ولا ما يقبل. بل ليس في الأرض مكان يطاف به إلا الكعبة، ومن اعتقد أن الطواف بغيرها مشروع فهو شر ممن يعتقد جواز الصلاة إلى غير الكعبة"2. وقال أيضا: "وقد اتفق المسلمون على أنه لا يشرع الطواف إلا بالبيت المعمور، فلا يجوز الطواف بصخرة بيت المقدس ولا بحجرة النبي صلى الله عليه وسلم ولا غير ذلك. وكذلك اتفق المسلمون على أنه لا يشرع الاستسلام ولا التقبيل إلا للركنين اليمانيين، فالحجر الأسود يستلم ويقبل، واليماني يستلم. وقد قيل

_ 1 الرد على البكري (ص 215) . 2 مجموع الفتاوى (27/ 10) .

إنه يقبل وهو ضعيف. وأما غير ذلك فلا يشرع استلامه ولا تقبيله، كجوانب البيت، والركنين الشاميين، ومقام إبراهيم، والصخرة والحجرة النبوية وسائر قبور الأنبياء والصالحين1. فالطواف بغير الكعبة لم يشرعه الله بحال2 ولا يفعل في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ما يفعل في سائر المساجد3. وكذا الحال بالنسبة للسجود للحجرة، فلقد نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن السجود له في حياته. فعن عبد الله بن أبي أوفى قال: قدم معاذ اليمن أو قال الشام فرأى النصارى تسجد لبطارقتها وأساقفتها فرأى في نفسه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن يعظم فلما قدم قال يا رسول الله رأيت النصارى تسجد لبطارقتها وأساقفتها فرأيت في نفسي أنك أحق أن تعظم. فقال: "لو كنت آمرا أحذا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها ... " الحديث. وفي رواية: "فقلت لأي شيء تصنعون هذا؟ قالوا هذا كان تحية الأنبياء قبلنا. فقلت: نحن أحق أن نصنع هذا بنبينا. فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "إنهم كذبوا على أنبيائهم كما حرفوا كتابهم إن الله عز وجل أبدلنا خيرًا من ذلك السلام تحية أهل الجنة" 4. وعن قيس بن سعد5 قال: أتيت الحيرة فرأيتهم يسجدون لمرزبان لهم

_ 1 مجموع الفتاوى (4/ 521) . 2 مجموع الفتاوى (27/ 11) . 3 مجموع الفتاوى (26/ 150) . 4 تقدم تخريجه ص 686. 5 قيس بن سعد بن عبادة الخزرجي الأنصاري، صحابي جليل، شهد المشاهد مع رسول صلى الله عليه وسلم وكان أحد الفضلاء الجلة من دهاة العرب، مات في آخر خلافة معاوية بالمدينة. الإصابة (3/ 239) .

فقلت: رسول الله أحق أن يسجد له، قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إني أتيت الحيرة فرأيتهم يسجدون لمرزبان لهم، فأنت يا رسول الله أحق أن نسجد لك. قال: "أرأيت لو مررت بقبري أكنت نسجد له؟ " قال: قلت: لا. قال: "فلا تفعلوا، لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لأحد لأمرت النساء أن يسجدن لأزواجهن، لما جعل الله لهم عليهن من الحق" 1. فتأمل وجوب الصحابي عندما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أرأيت لو مررت بقبري أكنت تسجد له؟ فقال: لا فالسجود حق لله تعالى، وما كان حقا خالصا لله لم يكن لغيره فيه نصيب" 2. ونبينا صلى الله عليه وسلم نهى عن الشرك دقه وجله وحقيرة وكبيره فالسجود حق للواحد المعبود خالق السموات والأرض سبحانه وتعالى. وكذا الحال بالنسبة للتمسح بالجدران المحيطة بالحجرة وإلصاق البطن بها فليس شيء من هذا من الدين الذي بعث الله به محمدًا صلى الله عليه وسلم باتفاق المسلمين. ومن اعتقد أن هذا من الدين وفعله وجب أن ينهى عنه، ولم يستحب هذا أحد من الأئمة الأربعة، ولا فعله أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان. والأجر والثواب إنما يكون على الأعمال الصالحة، والأعمال الصالحة هي ما أوجبه الشارع أو استحبه، وهذه الأمور من جملة ما نهي عنه من أسباب الشرك

_ 1 أخرجه أبو داود في سننه، كتاب النكاح، باب في حق الزوج على المرأة (2/ 604، 605) ح 2140 2 مجموع الفتاوى (27/ 93) .

ودواعيه وأجزائه1 وقد قال صلى الله عليه وسلم: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد" 2 وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تتخذوا قبري عيدا" 3. فالتمسح بالقبر -أي قبر كان- وتقبيله وتمريغ الخد عليه منهي عنه باتفاق المسلمين، ولو كان ذلك من قبور الأنبياء؛ ولم يفعل هذا أحد من سلف الأمة وأئمتها بل هذا شرك"4. فإن كان هذا حكم من تمسح بالقبر فمن تمسح بالجدران المحيطة من باب أولى.

_ 1 مجموع الفتاوى (158، 101) بتصرف. 2 تقدم تخريجه ص 591. 3 تقدم تخريجه ص 580 4 الجامع الفريد (ص 444) .

المبحث الرابع: حكم الحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم

المبحث الرابع: حكم الحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "تنازع الناس هل يحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم؟ مع اتفاقهم بأنه لا يحلف بشيء من المخلوقات المعظمة كالعرش والكرسي والكعبة والملائكة. فذهب جمهور العلماء كمالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد في أحد قوليه إلى أنه لا يحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولا تنعقد اليمين، كما لا يحلف بشيء من المخلوقات، ولا تجب الكفارة على من حلف بشيء من ذلك وحنث. فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت" 1. وفي رواية: " ألا من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله " 2. وقال: "من حلف بغير الله فقد أشرك" 3. وفي رواية: "فقد كفر".

_ 1 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأيمان والنذور، باب لا تحلفوا بآبائكم حديث (66646) انظر فتح الباري (11/ 530) . وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الأيمان، باب النهي عن الحلف بغير الله تعالى (5/ 80) . 2 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب مناقب الأنصار، باب أيام الجاهلية. انظر فتح الباري (7/ 48 1) ح 3836 واللفظ له. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الأيمان باب النهي عن الحلف بغير الله تعالى (5/ 81) . 3 أخرجه الإمام أحمد في المسند (2/ 34، 86، 25 1) . وأخرجه الترمذي في سننه، كتاب النذور والأيمان، باب ما جاء في كراهية الحلف بغير الله وقال: حديث حسن (4/ 110) ح 1535، وأخرجه أبو داود في السنن، كتاب الأيمان والنذور، باب في كراهة الحلف بالآباء (3/ 0 57) ح 1 325 وأخرجه ابن حبان كما في الموارد (ص 286) ح 1177 والحاكم في المستدرك (1/ 18) كتاب الأيمان (4/279) كتاب الأيمان والنذور وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ووافق الذهبي".

وعن أحمد بن حنبل رواية: أنه يحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم لأنه يجب الإيمان به خصوصًا، ويجب ذكره في الشهادتين والأذان فلإيمان به اختصاص لا يشركه فيه غيره، واختار هذا طائفة من أصحاب الإمام أحمد كالقاضي أبي يعلى1 وغيره خصوا ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عقيل2: بل هذا كونه نبيًا وطرد ذلك في سائر الأنبياء. والصواب: قول الجمهور وأنه لا تنعقد اليمين بمخلوق لا بنبي ولا غيره، بل ينهى عن الحلف به. وإيجاب الكفارة بالحف بمخلوق وإن كان نبيًا قول ضعيف في الغاية مخالف للأصول والنصوص. فالذي عليه عامة علماء المسلمين سلفهم وخلفهم أنه لا يحلف بمخلوق، لا نبي ولا غير نبي، ولا ملك من الملائكة، ولا ملك من الملوك، ولا شيخ من الشيوخ. والنهي عن ذلك نهي تحريم عند أكثرهم. وروي عن عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر: لئن أحلف بالله كاذبًا أحب إلي من أحلف بغير الله صادقًا3 وذلك لأن الحلف بغير الله شرك، والشرك أ-تظم من الكذب4.

_ 1 هو: محمد بن الحسين بن محمد بن خلف الفراء،؟ أبو يعلى عالم عصره في الأصول والفروع وأنواع الفنون، ومن كبار الحنابلة ولد سنة 380 هـ، وتوفي سنة 458 هـ. الأعلام (6/99 - 100) . 2 هو: على بن عقيل بن محمد بن عقيل البغدادي، عالم العراق وشيخ الحنابلة ببغداد في وقته، ولد سنة 431هـ وتوفي سنة 513 هـ. الأعلام (4/ 313) . 3 أخرجه عبد الرزاق في المصنف (8/ 469) . وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 177) وقال رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح وهو في الطبراني (9/05 2) ح 8902 4 انظر قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (ص 84- 86) ومجموع الفتاوى (27/349) والرد على الأخنائي (106، 107) .

المبحث الخامس: حكم الاحتفال بمولده

المبحث الخامس: حكم الاحتفال بمولده المطلب الأول: حكم فعل المولد ... المطلب الأول: حكم فعل المولد إن من جملة ما نهي النبي صلى الله عليه وسلم أمته عنه، وحذرهم منه: 1- الابتداع في الدين. 2- التشبه باليهود والنصارى. والمقيم للمولد والمشارك فيه واقع في المحظورين معا. فإقامة المولد من الأمور المحدثة المبتدعة التي لم يشرعها النبي صلى الله عليه وسلم لأمته، ولم يفعله أصحابه من بعده بل ولا أهل القرون المفضلة. فما ظنك بعمل لم يأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بفعله، ولا حث عليه ولا رغب فيه، وهو المشهود له بأنه ما ترك أمر خير إلا وحث الأمة عليه ورغبهم فيه. وما ظنك بعمل لم يفعله سلف الأمة، "ولو كان خيرًا محضًا، أو راجحًا لكانوا رضوان الله عليهم أحق منا به، فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعطشا له منا، وهم على الخير أحرص"1. وما أحسن أن يستشهد المرء هنا بقول الإمام مالك رحمه الله تعالى "من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم خان الرسالة، لأن الله يقول {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} 2 فما لم يكن يومئذ دينًا، فلا يكون اليوم دينًا"3.

_ 1 اقتضاء الصراط المستقيم (ص 295) . 2 الآية (3) من سورة المائدة. 3 تقدم تخريجه.

وقال أيضا: "قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تم هذا الأمر واستكمل فإنما ينبغي أن نتبع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نتبع الرأي"1. هذا وإن أصل الاحتفال بالمولد يرجع إلى العبيدين2 الذين يتسمون (بالفاطميين) فهم أول من أحدث هذه البدعة في الأمة وما كانت الموالد تعرف في دولة سلام قبل هؤلاء. فقد جاء في كتاب الخطط المسمى كتاب المواعظ والاعتبار والآثار تحت عنوان (ذكر الأيام التي كان الخلفاء الفاطميون يتخذونها أعيادًا ومواسم ... ) . قال: " كان للخلفاء في طول السنة أعيادًا ومواسم: رأس السنة، وموسم أول العام، ويوم عاشوراء، ومولد النبي صلى الله عليه وسلم"3. فكانت الموالد من الآثار التي خلفها هؤلاء العبيديون الباطنيون مع غيرها من البدع والمنكرات التي ما أنزل الله بها من سلطان. قد حمل راية هذه البدعة من بعدهم المتصوفة، الذين وجدوا في إحياء هذه البدعة متنفسًا لنشر باطلهم وبدعهم، وما الطقوس التي تعمل أثناء إقامة المولد إلا أكبر شاهد على حمل الصوفية لراية هذه البدعة فقد وجدوا في هذه البدعة مرتعًا خصبًا لنشر غلوهم ورقصهم وطقوسهم

_ 1 تقدم تخريجه ص 247. 2 العبيديون ص م أبناء عبيد الله بن ميمون بن ديصان المشهور بالقداح اليهودي قامت دولتهم في مصر (362- 564 هـ) وكانوا من أجرأ الناس على استحداث البدع والمنكر كتاب ولا سنة. انظر كتاب قصة نسب الفاطميين للدكتور عبد الحليم عويس، والبداية والنهاية لابن كثير (12/ 267) . 3 المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار (1/490) .

وشطحهم وذلك تحت ستار ما يدعونه من محبة النبي صلى الله عليه وسلم {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} 1. وقد كان أول تأكد رسمي ناله المتصوفة لإحياء هذه البدعة على يد الملك المظفر ملك إربل، الذي كان يحتفل بالمولد احتفالا هائلاً ينفق فيه ثلاثمائة ألف دينار، ويعمل فيه للصوفية سماعًا من الظهر إلى الفجر، ويرقص بنفسه معهم2. وفد استمرت هذه الاحتفالات بهذه البدعة إلى زماننا هذا وحسبك ببدعة أنشأها ملاحدة باطنيون معروفون بالبدع والمنكرات، وتولاها من بعدهم متصوفة ضالون مضلون لم يتركوا شيئا من باطلهم وبدعهم إلا وأدخلوه فيما يسمى بالمولد النبوي. ولا عجب في اتفاق الطائفتين على هذا الأمر فهم يجمعهم مشرب واحد إذ الكل يزعم أن الشريعة لها ظاهر وباطن. فمما لا شك فيه أن فعل ما يسمى بالمولد بدعة من البدع التي لا أساس لها في القرآن ولا في السنة ولا في عمل السلف الصالح وهي بالإضافة إلى ذلك لا تحقق المراد من حب الرسول صلى الله عليه وسلم فتحقيق محبته وتعظيمه كما سبق وأن بينا، هو في متابعته وطاعته واتباع أمره وإحياء سنته باطنا وظاهرا ونشر ما بعث به والجهاد في ذلك بالقلب واليد واللسان، فهذه هي طريقة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان. ويضاف إلى كون فعل هذا الأمر من البدع التي نهى الشارع عنها ما فيه

_ 1 الآية (79) من سورة البقرة. 2 البداية لابن كثير (13/ 137) .

كذلك من مضاهاة ومشابهة للنصارى في ميلاد عيسى عليه السلام فإن النصارى تحتفل بيوم مولد عيسى ويتخذونه عيدا وذلك بإيقاد الشموع وصنع الطعام وارتكاب المحرمات وفعل الموبقات من شرب للخمور وفعل الفواحش وغير ذلك من المهازل والقبائح، وفي هذا يقول بعضهم معللا مشروعية الاحتفال بفعل المولد "إذا كان أهل الصليب اتخذوا ليلة مولد نبيهم عيدًا أكبر فأهل الإسلام أولى بالتكريم وأجدر"1. ونسى هذا القائل أو تناسى تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من مشابهة اليهود والنصارى فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرًا شبرا وذراعًا ذراعًا حتى لو دخلوا حجر ضب تبعتموهم" 2. قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: "فمن" 3 أي فمن هم غير أولئك.

_ 1 التبر المسبوك للسخاوي (ص 14) . 2 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة باب قول النبي صلى الله عليه وسلم "لتتبعن سنن من كان قبلكم". انظر: فتح الباري (3 1/305) ح 0 732، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب العلم، باب اتباع سنن اليهود والنصارى (8/57) . 3 هو: محمد بن سعيد بن حماد البوصيري، شاعر صوفي غال، له عدد من القصائد في المدائح النبوية، وقد عرف عنه قلة علمه، وسلاطة لسانه، وتكففه للناس وقد ذكر محقق ديوانه عددا من الخصال التي تدل على حقيقة الرجل وقدره. انظر: مقدمة ديوان البوصيري بتحقيق محمد سيد كيلاني.

المطلب الثاني: بيان ما يفعل في الموالد من الغلو والمنكرات

المطلب الثاني: بيان ما يفعل في الموالد من الغلو والمنكرات لقد اتخذ أصحاب الطرق الصوفية من المولد ستارا لترويج باطلهم ونشر بدعتهم عند الجهلة من عوام الناس. فهم باسم محبة الرسول صلى الله عليه وسلم يقيمون مثل هذه الاحتفلات، وبذكر شيء من سيرته يفتتحونها، ولكن سرعان ما يظهر الباطل وتنجلي الغشاوة فيرى صاحب البصيرة ألوانًا وأشكالاً من الغلو والبدع المنكرة تظهر من خلال ما يتلفظ به من أقوال، وما ينشد فيه من أشعار، وما يقام من حركات وأفعال، مبدية بذلك الوجه الحقيقي والهدف الرئيسي من إقامة مثل هذه الموالد. ومن عجيب حال هؤلاء أنهم سموا كل اجتماعاتهم التي تقام فيها هذه الأباطيل مولدا مع أن التسمية لا تساعدهم على هذا الإطلاق، وما ذاك إلا أنهم عرفوا أن رواج باطلهم لا يتحقق إلا تحت هدا الستار ليروج أمرهم على خفافيش الأبصار إتباع كل ناعق. فمن البدع والمنكرات التي تقام في هذه الموالد -وما أكثرها- ما يحصل من الغلو في حق النبي صلى الله عليه وسلم وذلك من خلال القصائد التي يطلقون عليها اسم المدائح النبوية، والتي لا تخلوا من ألفاظ الغلو في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم والتجاوز عما حدده الشارع مما يليق بمقامه الكريم من الإجلال والتقدير. فالمتأمل لتلك القصائد يجدها مرصوفة بعبارات التوسل والاستشفاع والاستغاثة، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم هو المتصرف في هذا الكون وجعله أول الموجودات والقطب الذي تدور عليه الأفلاك، وجعله الغاية التي من أجلها

وحد هذا الكون إلى غير ذلك الافتراءات والأباطيل التي شحنت بها تلك القصائد. وهذه مقتطفات من بردة البوصيري1 تمثل جانبا من مظاهر الغلو التي يتردد في عبارات ما يسمونه بالمدائح النبوية: وكيف تدعو إلى الدنيا ضرورة من ... لولاه لم تخرج الدنيا إلى العدم دع ما أدعته النصارى في نبيهم ... واحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم لو ناسيب ت قدره آياته عظما ... أحيا اسمه حين يدعى دارس الرم وكل آي أتى الرسل الكرام بها ... فإنما اتصلت من نوره بهم وكلهم من رسول الله ملتمس ... غرفا من البحر أو رشفا من الديم لا طيب يعدل تربا ضم أعظمه ... طوبى لمنتشق منه وملتئم أقسمت بالقمر المنشق أن له ... من قلبه نسبة مبرورة القسم ما سامني الدهر ضيما واستجرت به ... إلا ونلت جوارا منه لم يضم ولا التمست غني الدارين من يده ... إلا استلمت الندى من خير مستلم يا خير من يمم العافون ساحته ... سعيا وفوق متون الأينق الرسم خدمته بمديح استقيل به ... ذنوب عمر مضى في الشعر والخدم إن آت ذنبا فما عهدي بمنتقض ... من النبي ولا حبلى بمنصرم فإن لي ذمة منه بتسميتى ... محمدا وهو أوفى الخلق بالذم

_ 1 هو: محمد بن سعيد بن حماد البوصيري، شاعر صوفي غال، له عدد من القصائد في المدائح النبوية، وقد عرف عنه قلة علمه، وسلاطة لسانه، وتكففه للناس وقد ذكر محقق ديوانه عددا من الخصال التي تدل على حقيقة الرجل وقدره. انظر: مقدمة ديوان البوصيري بتحقيق محمد سيد كيلاني.

إن لم تكن في معادى آخذا بيدي ... فضلا وإلا فقل يا زلة القدم حاشاه أن يحرم الراجي مكارمه ... أو يرجع الجار منه غير محترم ومنذ ألزمت أفكاري مدائحه ... وجدته لخلاصي خير ملتزم ولن يفوت الغني منه يدا تربت ... إن الحيا ينبت الأزهار في الأكم يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به ... سواك عند حدوث الحادث العمم ولن يضيق رسول الله جاهك بي ... إذا الكريم تجلى باسم منتقم فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم1. فتأمل هذه الأبيات وما فيها من غلو وإطراء ومظاهر شركية تجاوز فيها الشاعر كل الحدود. حيث جعل الرسول عليه الصلاة والسلام هو الغاية في خلق الدنيا وعلة وجودها "وجعله بمنزلة الإله فهو يغني ويفقر ويغفر الذنوب ويقيل العثرات وهو الملاذ والملجأ في الدنيا والآخر بل انتهى به الأمر إلى أن جعل تصريف الكون كله بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم"2. فماذا أبقى للخالق عز وجل وخاصة عند قوله: فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم "فإذا كانت الدنيا وضرتها من جود الرسول صلى الله عليه وسلم ومن بعض علومه علم اللوح والقلم، لأن "من" للتبغيض، فماذا للخالق جل وعلا"3. فهذا هو بعينه الغلو والإطراء الذي حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته منه.

_ 1 ديوان البوصيري (ص 240- 248) وهذه الأبيات منتقاة من قصيدته المعروفة بالبردة.. 2 تنبيه أولى الأبصار (ص 249) . 3 منهج القرآن في الدعوة إلى الإيمان (ص 163) .

وبالإضافة إلى ألفاظ الشرك وعبارات الغلو التي تحملها جل القصائد والمدائح "فإن الاحتفال عادة ما يختم بدعوات تحمل ألفاظ التوسلات المنكرة والكلمات الشركية المحرمة، لأن جل الحاضرين عوام أو غلاة في حب التوسلات الباطلة التي نهى عنها الشارع"1. أضف إلى ذلك ما يدعونه من أن النبي صلى الله عليه وسلم يحضر هذه الموالد إما بجسده كما يدعيه بعضهم أو بروحه كما يدعيه البعض الآخر منهم، وسوف أتعرض لهذه النقطة في المبحث القادم بإذن الله. هذا فيما يتعلق بما يحصل في هذه الموالد من غلو في حق صلى الله عليه وسلم. ويضاف إلى هذا الأمر ما قد يحصل في بعض الموالد من منكرات وبدع أخرى كالرقص الصوفي، والذكر البدعي، وضرب الدفوف، والتزمير بالمزامير2. وقد يحصل فيها اختلاط الرجال بالنساء وشيء من الفجور وشرب الخمور ولكن لا يطرد لا في كل البلاد ولا في كل الموالد 3. فنعوذ بالله من حال أهل الزيغ والضلال.

_ 1 الإنصاف فيما قيل في المولد من الغلو والإحجاف (ص 31) . 2 الإنصاف فيما قيل في المولد من الغلو والإحجاف (ص 28) . 3 الإنصاف فيما قيل في المولد من الغلو والإحجاف (ص 28) .

المبحث السادس: حكم القول بحضوره في مجالس المحتفلين ورؤيته بالعين الباصرة

المبحث السادس: حكم القول بحضوره في مجالس المحتفلين ورؤيته بالعين الباصرة إن من يتأمل في كلام الصوفية فيما يتعلق بشأن غلوهم في حق النبي صلى الله عليه وسلم بما في ذلك التوسل والاستشفاع والاستغاثة وطلب تفريج الكروب ومغفرة الذنوب وغير ذلك مما تقدم الإشارة إليه يجد أن محور دعواهم يقوم على دعوى أن النبي صلى الله عليه وسلم حي بجسده وروحه1 وأنه يتصرف ويسير حيث شاء في أقطار الأرض وفي الملكوت، وهو بهيئته التي، كان عليها قبل وفاته لم يتبدل منه شيء، وأنه مغيب عن الأبصار كما في ببت الملائكة -مع كونهم أحياء بأجسادهم- فإذا أراد الله تعالى رفع الحجاب عمن أراد إكرامه برؤيته رآه على هيئته التي هو عليها، لا مانع من ذلك2. والصوفية ليسوا على رأي واحد في هذا االأمر بل هم مختلفون مضطربون وفي حالهم هذا يتذكر المرء قول الله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} 3. فهم مختلفون في حقيقة المرئي: فقال بعضهم المرئي ذات المصطفى بجسمه وروحه كما تقدم في النقل السابق.

_ 1 لا يقصد هؤلاء بالحياة هنا الحياة البرزخية وهذا يتضح من سياق العبارات التالية لهذه العبارة، فهم يرون أن النبي صلى اله عليه وسلم يخرج من قبره وله التصرف الملكوت العلوي والسفلي. 2 غاية الأماني في الرد على النبهاني (1/ 52) . 3 الآية (82) من سورة النساء.

وبعضهم يقول ليس المراد أنه يرى جسمه وبدنه، بل مثالا له، وصار ذلك المثال آلة يتأدى بها المعنى الذي في نفسه. وقالوا: والآلة تارة تكون حقيقة، وتارة تكون خيالية، والنفس غير المثال المتخيل، فما رآه في الشكل ليس هو روح المصطفى صلى الله عليه وسلم ولا شخصه، بل هو مثال له على التحقيق. وفصل بعضهم فقال: رؤية1 النبي صلى الله عليه وسلم بصفته المعلومة إدراك له على الحقيقة. ورؤيته على غير صفته إدراك للمثال2. وقال بعضهم: ومنهم من يرى روحه في اليقظة متشكلة بصورته الشريفة. ومنهم من يرى حقيقة ذاته الشريفة وكأنه معه في حياته صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء هم أهل المقام الأعلى في رؤيته صلى الله عليه وسلم3. وأعجب من ذلك كله ما ذكر عن بعضهم من أنه رأى السماء والأرض والعرش والكرسي مملوءة من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وزعم من زعم أن السؤال عن كيفية رؤية المتعددين له عليه الصلاة والسلام في زمن واحد في أقطار متباعدة ينحل به، ولا يحتاج معه إلى ما أشار إليه بعضهم وقد سئل عن ذلك فأنشد كالشمس في كبد السماء وضؤها ... يغشى البلاد مشارقا ومغاربا4

_ 1 لا يقصدون هنا الرؤيا المنامية وإنما يقصدون رؤية اليقظة فهم يقولون: إن رؤيته أكثر ما تقع بالقلب ثم يترقى الحال إلى أن يرى بالبصر على ما زعموا. 2 غاية الأماني (1/51) . 3 التيجانية (ص 127) . 4 غاية الأماني (1/52) .

فانظر إلى هذا الغلو عندهم، نعوذ بالله من حال أهل الزيغ والضلال. ويحسن قبل الشروع في تفنيد هذا الباطل وكان فساده أن أشير إلى الوجه الآخر لهذه الدعوى. فهذه الطائفة لم تكن لتدعى هذه الدعوى إلا لما فيها من المكاسب والأهداف والغايات التي يتحصلون عليها كل من وراء ذلك. فمنهم من يستغل هذه الدعوى ليحصل على إجازة من الرسول صلى الله عليه وسلم للطريقة التي ابتدعها والأذكار والأوراد التي اخترعها لتصبح بعد ذلك شرعا لأتباعه. ومنهم من يستغل ذلك لإيهام الناس بأن ذلك من كراماته ليحظى لديهم بالمنزلة والمكانة إلى غير ذلك من الغايات والمأرب. هذا وإن لموضوع رؤية النبي صلى الله عليه وسلم جوانب متعددة بخصنا منها ما يتعلق بعنوان المبحث وهو دعوى رؤيته يقظة بعيني الرأس. فهذه الدعوى مخالفة للشرع والعقل. أما من جهة الشرع فليس هناك دليل شرعي يثبت حصول ذلك وغاية ما دلت عليه النصوص إمكانية الرؤيا المنامية، فحملها أهل الباطل على الرؤية البصرية، ومما يؤكد فساد هذا التأويل للرؤيا واقع القرون المفضلة المشهود لهم بالخيرية من المصطفى صلى الله عليه وسلم، فلم ينقل عن أحد من أهل هذه القرون الثلاثة أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يقظة بعد موته. مع أنه قد حدثت في أزمانهم حوادث كان الحاجة إلى ظهوره شديدة جدا لو كان ذلك ممكنا. فالصحابة قد وقع بينهم اختلاف في عدد من المسائل الدينية والدنيوية وفيهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، ولم يبلغنا أنا أحدا منهم ادعى أنه رأى في

اليقظة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ عنه ما أخذ، وكذا لم يبلغنا أنه صلى الله عليه وسلم ظهر لمتحير في أمر من أولئك الصحابة الكرام فأرشده وأزال تحيره. "وقد قال ابن عبد البر لمن ظن أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد كلم بعض الناس بعد وفاته عند حجرته. فقال له ابن عبد البر: ويحك هذا أفضل من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار؟ فهل من هؤلاء من سأل النبي صلى الله عليه وسلم فأجابه؟ وقد تنازع الصحابة في أشياء، فهلا سألوا النبي صلى الله عليه وسلم فأجابهم، وهذه بنته فاطمة تنازع في ميراثه فهلا سألته فأجابه؟ 1. وأما من جهة العقل فلما يترتب على هذه الدعوى من اللوازم الباطلة فليزم منها: 1- أن يخلو قبره من جسده فلا يبقى في قبره منه شيء فيكون من يزوره في ذلك الوقت يزور مجرد القبر ويسلم على الغائب. 2- أن يحيا الآن ويخرج من قبره ويمشي في الأسواق ويخاطب الناس ويخاطبوه. 3- أن يكون الشخص الذي رأه يقظة له حكم الصحابة رضوان الله عليهم. 4- أن يكون الكلام الذي تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم تشريعًا جديدًا لهذه الأمة وهذا لاشك فيه، طعن في كمال هذا الدين وكونه عرضة للتبديل والتغيير. وهذه الجهالات لا يلتزم بها من كان له أدنى مسكة عقل. ومن ظن أن جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم المودع في المدينة خرج من القبر وحضر في المكان الذي رآه فيه فهذا جهل لا جهل يشبهه.

_ 1مجموع الفتاوى (10/ 407) .

فقد يراه في وقت واحد ألف شخص في ألف مكان على صور مختلفة. فكيف يتصور هذا في شخص واحد؟ " 1. هذا وأن الذي يعتقده علماء السلف هو أن الأنبياء أحياء في قبورهم حياة برزخية الله أعلم بكيفيتها، وقد حرم الله على الأرض أن تأكل أجسادهم، وأن هذه الأجساد لا تخرج من القبور حتى يبعث الله الخلائق كما في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم "فإن الناس يصعقون فأكون أول من تنشق عنه الأرض" 2. وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر" الحديث3. فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يخرج من قبره قبل يوم القيامة ولا يتصل بأحد من الناس. بل هو منعم في قبره وروحه في أعلى عليين عند ربه في دار الكرامة. والله الموفق وهو الهادي إلى سواء السبيل.

_ 1 صيد الخاطر (ص 429) . 2 أخرجه بهذا اللفظ البخاري في صحيحه، كتاب الخصومات، باب ما يذكر في الأشخاص والخصومة بين المسلم واليهودي. انظر: فتح الباري (5/70) . 3 تقدم تخريجه (ص 457) .

الخاتمة جريا على عادة الباحثين في ذكر النتائج التي توصلوا إليها في نهاية أبحاثهم ونظرا لأهمية ذلك في الرسائل العلمية فإني ألخص أهم النتائج التي توصلت إليها في بحثي بما يلي: 1- هذه الحقوق المذكورة في ثنايا هذه الرسالة تشكل بمجموعها أحد أصلي الدين، وهي معني "شهادة أن محمدا رسول الله". 2- هذه الحقوق لا يدخل فيها ما هو حق خالص لله عز وجل من أمور الألوهية أو الربوية. فما كان حقا لله عز وجل فلا يجوز صرفه لغير الله لا للنبي صلى الله عليه وسلم ولا لغيره، وهذا ما أكدته نصوص القرآن والسنة. 3- أن أمور هذا الدين لا تقوم على التحلي والتمني والدعاوى الزائفة وإنما تقوم على الاعتقاد الصحيح الذي يصدقه قول اللسان وعمل الجوارج. 4- أن النصوص من آيات وأحاديث وآثار قد وضحت ما يجب على هذه الأمة في هذا الجانب فقد أرشدت ودلت وبينت وفصلت وهذا هو الشأن في جميع جوانب هذا الدين، فقد أكمل الله عز وجل لنا هذا الدين، وقد بلغ رسوله صلى الله عليه وسلم ما أوحي إليه من رب العالمين البلاغ المبين. فلسنا في حاجة بعد ذلك إلى من يزيد على هذه الحقوق أو ينقص منها، وإنما علينا أن نتبع ونقتدي ولا نبتدع. 5- أن على الأمة أن تعرف ما أوصى الله عليها من حقوق تجاه نبيها صلى الله عليه وسلم فذلك عقد من عقود الإيمان لا يتم إيمان العبد إلا به. وعلى المسلم بذل الوسع في تعلم هذه الحقوق وتعليمها ونشرها بين الناس.

6- وجوب الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم وأنه لا يتم الإيمان بالله بدون الإيمان به، كما لا تحصل نجاة ولا سعادة بدون الإيمان به، لأنه هو الطريق إلى الله سبحانه وتعالى ولذلك كان أول أركان الإسلام "شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدا رسول الله". 7- أن برهان الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم ومحبته وتعظيمه يرتكز على محور الاتباع والتأسي، ولذلك كان السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم ومن سار على نهجهم أشد الناس حرصا على ذلك. 8- خص الله عز وجل نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم بحقوق مما يزيد على لوازم الرسالة تفضلا من الله عز وجل وتكريما فعلينا حفظ تلك الحقوق والقيام بها. 9- على الأمة أن تحفظ حرمة النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته في خاصة نفسه وفي آله وأزواجه أمهات المؤمنين وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين، وفي كل ما له صلة بأمر هذا الدين. 10- على المسلم أن يحذر أشد الحذر من مخالفة هدي النبي صلى الله عليه وسلم لما في ذلك من الهلاك والخسران في الدنيا والآخرة. 11- الغلو في حقه صلى الله عليه وسلم لا يزيد إلا بعدا عن شرع المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولا يحقق لصاحبه محبة ولا تعظيمًا. وفي الختام أسأل الله عز وجل أن يرزقنا حسن التأسي والاقتداء والثبات على الحق، وأن يحشرنا في زمرة نبيه صلى الله عليه وسلم إنه جواد كريم وعلى كل شيء قدير. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

مصادر ومراجع

مصادر ومراجع ... 1- الإبداع في مضار الابتداع: للشيخ الأستاذ علي محفوظ (ت 1361هـ) ط دار المعرفة بيروت. 2- الإحكام في أصول الأحكام: للآمدي، سيف الدين على بن محمد دار الفكر الطبعة الأولى 1401هـ. 3- آداب الشافعي ومناقبه: للرازي أبي محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم (ت327هـ) دار الكتب العلمية، بيروت. 4- الأدب المفرد: للبخاري محمد بن إسماعيل (ت256هـ) دار الكتب العلمية بيروت. 5- إرشاد الطالب: للشيخ سليمان بن سحمان، مطبعة المنار، مصر الطبعة الأولى 1345 هـ. 6- الاستيعاب في أسماء الأصحاب: لابن عبد البر، أبو عمر يرسف بن عبد الله بن محمد (ت 463 هـ) الناشر: دار الكتاب العربي. 7- أسد الغابة في معرفة الصحابة: لعز الدين على بن أحمد بن الأثير الجزري ط دار الشعب- القاهرة 1390 هـ. 8- الأصول الثلاثة وأدلتها: لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب (ت 1206هـ) مطبعة الكيلاني. 9- الإصابة في تمييز الصحابة: لابن حجر العسقلاني (ت 852هـ) دار الكتاب العربي، بيروت 10- أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن: للشيخ محمد الأمين بن محمد المختار الجنكى الشنقيطى (ت 1393هـ) ط عالم الكتب، بيروت. 11- أطلس العلم: لعدد من الأساتذة- الناشر مكتبة لبنان. 12- الاعتصام: للعلامة أبي إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت لبنان 1402 هـ. 13- الأعلام: لخير الدين الزركلي دار العلم للملايين، بيروت، لبنان الطبعة السادسة 1984 م. 14- أعلام الموقعين: لمحمد بن أبي بكر المشهور بابن قيم الجوزبة (ت 751هـ) مكتبة الكليات الأزهرية 1388هـ. 15- إغاثة اللهفان لمحمد بن أبي بكر المشهور بابن قيم الجوزية (ت 751هـ) دار المعرفة بيروت، لبنان. 16- كتاب اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم: لابن تيمية، أبو العباسي تقي الدين أحمد بن عبد الحليم (ت 728 هـ) مطابع المجد التجارية.

1402هـ. 19- الأنوار المحمدية من المواهب اللدنية: ليوسف بن إسماعيل النبهاني دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع بيروت. 20- إيضاح الدلالة في عموم الرسالة: لشيخ الإسلام ابن تيمية أبو العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم (ت 728 هـ) ضمن مجموعة الرسائل المنيرية (الجزء الثاني) ط إدارة الطباعة المنيرية، الناشر محمد أمين دمج، بيروت 1970 م. 21- كتاب الإيمان: لابن تيمية، أبو العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم (ت728 هـ) ط المكتب الإسلامي، الطبعة الثالثة. 22- بداية السول في تفضيل الرسول: للعلامة العز عبد العزيز بن عبد السلام السلمي المكتب الإسلامي الطبعة الرابعة 1406 هـ 23- البداية والنهاية: لابن كثير، عماد الدين أبو الفداء، إسماعيل بن كثير القرشي (ت 774 هـ) مكتبة المعارف، بيروت، الطبعة الرابعة 1401 هـ. 24- البدع والنهي عنها: للإمام محمد بن وضاح القرطبي الأندلسي دار الرائد العربي بيروت- الطبعة الثانية 1402هـ. 25- بدائع الفوائد: لمحمد بن أبي بكر المشهور بابن قيم الجوزية (ت 751هـ) دار الكتاب العربي بيروت. 26- تاج العروس من جواهر القاموس: للزبيدي محمد بن عبد الرازق ط المطبعة الخيرية مصر الطبعة الأولى. 27- تاريخ البغدادى أبو بكر أحمد بن على (ت 463 هـ) ط دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان. 28- تاريخ الجهمية والمعتزلة: جمال الدين القاسمي الدمشقي مؤسسة الرسالة بيروت، الطبعة الثانية 1401هـ. 29- تاريخ الرسل والملوك (تاريخ الطبري) : للطبري محمد بن جرير (ت310 هـ) دار المعارف القاهرة 1968 م. 30- التاريخ الكبير: للبخاري محمد بن إسماعيل (ت2501هـ) دار الكتب العلمية المصورة على نسخة حيدر آباد. 31- التيجانية: لعلي بن محمد الدخيل الله الناشر دار طيبة الرياض.

32- تحذير أهل الإيمان عن الحكم بغير ما أنزل الرحمن: للأسعردي، إسماعيل بن إبراهيم الخطيب الحسني ضمن مجموعة الرسائل المنيرية (الجزء الأول) ط إدارة الطباعة المنيرية. 33- تأويل مختلف الحديث: ابن قتيبة: أبو محمد عبد الله بن مسلم (ت 276 هـ) الناشر دار الكتاب العربي بيروت لبنان. 34- التحفة العراقية في الأعمال القلبية: لشيخ الإسلام ابن تيمية تقي الدين أحمد بن عبد الحليم (ت 728 هـ) ضن مجموعة الرسائل المنيرية (الجزء الرابع) ط (دارة الطباعة المنيرية. الناشر محمد أمين دمج، بيروت 1970 م. 35- تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي: للسيوطي: جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر (ت 911 هـ) بتحقيق عبد الوهاب بن عبد اللطف الناشر دار الكتب الحديثة، القاهرة مصر. ط الثانية 1385 هـ. 36- تذكرة الحفاظ: للذهبي، أبو عبد الله شمس الدين (ت 748هـ) دار إحياء التراث العربي- طبعة مصورة عن مطبعة دائرة المعارف بالهند. 37- تعظيم قدر الصلاة: لمحمد بن نصر المروزى (ت 394 هـ) ط دار الأرقم للطباعة والنشر، استانبول تركيا الناشر مكتبة الدار المدينة المنورة الطبعة الأولى 1406هـ. 38- تفسير ابن كثير: "تفسير القرآن العظيم" ابن كثير: عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن كثير القرشي (ت 774 هـ) ط دار المعرفة، بيروت، لبنان عام 1402هـ. 39- تفسير البغوى "معالم التنزيل": للبغوى الحسن بن مسعود (ت 516 هـ) ط مطبع المنار ط الأولى. 40- تفسير الطري "جامع البيان عن تأويل آي القرآن" الطري: أبر جعفر محمد بن جرير (ت 310هـ) ط شركة ومكتبة مصطفى الحلبي وأولاده، مصر الطبعة الثالثة. 41- تفسبر القرطبي "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري (ت 671 هـ) ط دار إحياء التراث العربي. 42- تلخيص كتاب الاستغاثة المعروف بالرد على البكري: لشيخ الإسلام ابن تيمية، ط الدار العلمية للطباعة والنشر دلهي الهند. 43- تنبيه أولي الأبصار إلى كمال الدين وما في البدع من الأخطار: للدكتور صالح بن سعد السحيمي، الناشر دار ابن حزم للنشر والتوزيع الرياض الطبعة الأولى 1410هـ. 44- تنبيه الحذاق على بطلان ما شاع بين الأنام من حديث النور المنسوب لمصنف عبد الرزاق: لمحمد أحمد عبد القادر الشنقيطي المدني مطابع الجامعة الإسلامية، الطبعة الثانية.

45- تهذيب التهذيب: لابن حجر العسقلاني طبعة مصورة من طبعة دائرة المعارف بالهند. 46- تهذيب اللغة: للأزهري، أبي منصور محمد بن أحمد (ت 375هـ) المؤسسة المصرية للتأليف والترجمة (تحقيق عبد السلام هارون) . 47- توضيح المقاصد وتصحيح القواعد في شرح قصيدة الإمام ابن القيم: لأحمد بن إبراهيم بن عيسى- بتحقيق زهير الشاويش المكتب الإسلامي. 48- تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد: للشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب (ت 1233 هـ) الناشر المكتبة السلفية. 49- تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان: للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي ط مؤسسة مكة للطباعة والإعلام. 50- جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي روايته وحمله: لأبي عمر يوسف بن عبد البر النصري القرطبي (ت 463 هـ) ، ط دار الكتب العلمية، ط دار الفكر بيروت. 51- الجامع لشعب الأيمان: للبيهقي أبي بكر أحمد بن الحسين (ت 458هـ) رسالة ماجستير بتحقيق فلاح بن ثاني بن شامان تتضمن أول الكتاب إلى نهاية الشعبة السابعة. وقسم آخر بتحقيق محمد بن عبد الوهاب العقيل وتتضمن الباب الرابع عشر إلى نهاية الثامن عشر. 52- جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم: لابن رجب: زين الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن أحمد ط دار المعرفة بيروت. 53- الجامع الفريد: ويحتوى على كتب ورسائل لأئمة الدعوة الإسلامية ط مطبعة المدينة، الرياض. 54- جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على خير الأنام: لابن القيم: شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر (ت 751هـ) تحقيق محي الدين مستو. دار ابن كثير للطباعة والنشر، الطبعة الأولى 1408 هـ. ونسخة أخرى ط دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان. 55- الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح: لشيخ الإسلام ابن تيمية- ط مطابع المجد. 56- الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي: لابن القيم الجوزية، دار الكتب العلمية- بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 1405 هـ. 57- حقوق آل البيت: لشيخ الإسلام ابن تيمية- ط دار الكتب العلمية، بيروت. 58- حلية الأولياء وطبقات الأصفياء: للحافظ أبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني (ت 435 هـ) الناشر دار الكتاب العربي. 59- الخصائص الكبرى كفاية الطالب اللبيب في خصائص الحبيب للسيوطي: جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر (ت 911 هـ) ط: دار الكنب العلمية بيروت لبنان ط الأولى 1405 هـ

60- درء تعارض العقل والنقل: لشيخ الإسلام ابن تيمية- بتحقيق محمد رشاد سالم ط مطابع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الطبعة الأولى. 61- كتاب دراسة حديث نضر الله امرأ: للشيخ عبد المحسن بن حمد العباد مطابع الرشيد بالمدينة المنورة. 62- الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر (ت 911 هـ) ط دار المعرفة. 63- دلائل النبوة: للحافظ ابن نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني (ت 430 هـ) ط بدون. 64- دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة: للبيهقي: أحمد بن الحسين (ت 458هـ) بتحقيق د/ عبد المعطي قلعجى، ط دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان الطبعة الأولى 1405 هـ. 65- ديوان الأعشى: ط القاهرة، عام 1950 م. 66- ديوان أبي الطيب المتنبي: ط. دار صادر، بيروت. 67- ديوان البوصيري: محمد بن سعيد بن حماد بتحقيق سيد كيلاني ط مطبعة الحلبي القاهرة (1993 م) . 68- الرد على الأخنائي: لشيخ الإسلام ابن تيمية ط الدار العلمية للطاعة والنشر، دلهي، الهند. 69- الرد على الزنادقة والجهمية: للإمام أحمد بن حنبل (ت 241 هـ) ط المطبعة السلفية ومكتبتها، القاهرة 1393هـ. 70- رسالة التقليد: لابن القيم: شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر (ت751هـ) بتحقيق محمد عفيفي ط المكتب الإسلامي، بيروت الطبعة الثانية 1403هـ. 71- روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني: للألوسي أبي الفضل شهاب الدين محمد البغدادي (ت 1270هـ) دار إحياء التراث العربي، بيروت. 72- الروح في الكلام على أرواح الأموات والأحياء: لابن القيم شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر (ت 751 هـ) بتحقيق د/ بسام على سلامة العموش الناشر دار ابن تيمية للنشر الطبعة الأولى. 73- روضة المحبين ونزهة المشتاقين: لابن القيم: شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر (ت 751 هـ) ط دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان. 74- رياض الصالحين: للنووي يحيى بن شرف (ت 676 هـ) ط مؤسسة الرسالة. 75- زاد المعاد في هدى خير العباد: لابن القيم الجوزية- بتحقيق شعيب الأرنؤوط وعبد القادر الأرنؤوط الناشر مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان- الطبعة الثالثة عشر 1406هـ.

76- زاد المهاجر إلى ربه الرسالة التبوكية لابن القيم الجوزية- الناشر مكتبة المدني ومطبعتها. 77- الزهد: لعبد الله بن المبارك المروزي (ت 181هـ) بتحقيق حبيب الرحمن الأعظمي دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان. 78- سلسلة الأحاديث الصحيحة للشيخ محمد ناصر الدين الألباني ط المكتب ط الإسلامي. 79- سلسلة الأحاديث الضعيفة وأثرها السيء على الأمة: للشيخ محمد ناصر الدين الألباني ط المكتب الإسلامي. 80- السنن: لأبي داود، سليمان بن الأشعث السجستاني (ت 275 هـ) بتعليق عزت عبيد الدعاس وعادل السيد نشر وتوزيع دار الحديث، حمص، الطبعة الأولى 1388هـ. 81- السنن: للترمذي، أبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة (ت 279 هـ) بتحقيق أحمد شاكر ط دار إحياء التراث العربي، بيروت لبنان. 82- السنن: للنسائي أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن على بن بحر (353 هـ) دار الكتب العلمية، بيروت. 83- السنن: لابن ماجه أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني (ت275 هـ) بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي ط دار إحياء التراث العربي ونسخة أخرى بتحقيق محمد مصطفى الأعظمي ط شركة الطباعة العربية السعودية، الرياض، الطبعة الأولى 1403 هـ. 84- السنن: للدارقطي علي بن عمر الدارقطي (ت 385 هـ) من مطبوعات السيد عبد الله هاشم اليماني 1386 هـ بالمدينة المنورة. 85- سنن الدارمي: للدارمي عبد الله بن عبد الرحمن (ت 255 هـ) ط دار الكتب العلمية، بيروت لبنان. 86- السنن الكبرى: للبيهقي أحمد بن الحسين بن على (ت 458هـ) مطبعة دائرة المعارف النظامية بحيدر أباد. 87- السنة: للحافظ أبي بكر عمرو بن عاصم الضحاك بن مخلد الشيباني (ت 287هـ) بتحقيق ناصر الدين الألباني ط المكتب الإسلامي الطبعة الأولى 1405هـ. 88- السيرة النبوية: لابن هشام أبي محمد عبد الملك بن هشام المعافري (ت 213هـ) بتحفيق طه عبد الرؤوف سعد ط شركة الطباعة الفنية المتحدة القاهرة. 89- شذرات الذهب في أخبار من ذهب: لابن العماد الحنبلي، أبي، الفلاح عبد الحي بن العماد (ت 1089 هـ) دار إحياء الكتاب العربي، بيروت. 90- شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة: للالكائي: هبة الله بن الحسن بن منصور الطبري (ت 418 هـ) بتحقيق د/ أحمد بن سعد الغامدي، الناشر دار طيبة للنشر والتوزيع.

91- شرح العقيدة الأصفهانية: لشيخ الإسلام ابن تيمية الناشر دار الكتب الإسلامية مصر. 92- شرح العقيدة الطحاوية ط المكتب الإسلامي الطبعة الرابعة. 93- شرح النحوي لصحيح مسلم: للنووي أبي زكريا يحيى بن شرف (ت676هـ) الناشر دار الفكر للطاعة والنشر. 94- الشفا بتعريف. حقوق المصطفى: للقاضي عياض أبي الفضل عياض بن موسى بن عباس اليحصبي (ت 544هـ) بتحقيق على محمد البجاوي الناشر دار الكتاب العربي 1404 هـ. 95- الشهادة الزكية في ثناء الأئمة على ابن تيمية: لمرعى بن يوسف الكرمي الحنبلي (ت 1033هـ) بتحقيق نجم عبد الرحمن خلف الناشر دار الفرقان، ومؤسسة الرسالة الطبعة الأولى 1454 هـ. 96- الشريعة: للآجري أبي بكر محمد بن الحسين (ت 360هـ) بتحقيق محمد حامد الفقي الناشر حديث أكادمي، باكستان ط الأولى 1453 هـ. 97- الصارم المسلول على شاتم الرسول: لشيخ الإسلام ابن تيمية ط مطابع الحرس الوطني. 98- صحيح الجامع الصغير وزياداته: للألباني محمد ناصر الدين الألباني المكتب الإسلامي. 99- صحيح ابن خزيمة: للإمام أبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة (ت 311هـ) بتحقيق الدكتور محمد مصطفى عظمى المكتب الإسلامي. 100- صحيح مسلم "الجامع الصحيح" للإمام مسلم بن الحجاج القشيري (ت261هـ) دار المعرفة بيروت لبنان. 101- صيد الخاطر: لابن الجوزي أبي الفرج عبد الرحمن بن علي (ت 597هـ) المكتبة العلمية، بيروت. 102- طبقات الحنابلة: للقاضي أبي الحسن محمد بن أبي يعلى تصحيح محمد حامد الفقي ط السنة المحمدية، القاهرة. 103- الطبقات الكبرى: لابن سعد محمد بن عبد الله بن سعد البصري (ت230هـ) دار صادر بيروت. 104- طبقات المفسرين للداودي شمس الدين محمد بن علي بن أحمد (ت945هـ) الناشر دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان. 105- طريق الهجرتين وباب السعادتين: للإمام ابن القيم الجوزية دار الكتب العلمية، بيروت الطبعة الأولى 1402هـ. 106- عصمة الأنبياء: للرازي محمد بن عمر بن الحسن (ت 606 كل) الناشر دار المطبوعات

الحديثة، جدة، الطبعة الأولى 1406هـ. 107- عقيدة ختم النبوة بالنبوة المحمدية: لأحمد بن سعد الغامدي الناشر دار طيبة، الرياض، 1405هـ. 108- العلل المتناهية في الأحاديث الواهية: لابن الجوزي أبي الفرج عبد الرحمن بن على (ت 597 هـ) بتحقيق إرشاد الحق الأثري الناشر إدارة العلوم الأثرية، فيصل آباد باكستان. 109- عمل اليوم والليلة: للنسائي أحمد بن شعيب النسائي (ت 303هـ) بتحقيق د/ فاروق حمادة الناشر مؤسسة الرسالة، بيروت، الطعة الثانية. 110- عمل اليوم والليلة: لابن السني: أحمد بن محمد بن إسحاق الدينوري (ت364هـ) بتحقيق سالم بن أحمد السلفي الناشر مؤسسة الكتب الثقافية ط الأولى 1408هـ. 111- كتاب العين: للخليل بن أحمد الفراهيدى ط وزارة الثقافة والإعلام بالجمهورية العراقية. 112- غاية الأماني في الرد على النبهاني: الألوسي محمود شكري (ت 1342هـ) دار إحياء السنة النبرية. 113- غريب الحديث: للخطابي: حمد بن محمد بن إبراهيم (ت388هـ) بتحقيق عبد الكريم إبراهيم العزباوي ط دار الفكر دمشق 1402هـ. 114- فتح الباري: لابن حجر العسقلاني: محمد بن على بن حجر (ت 852هـ) ط دار الفكر. 115- فتح القدير: الشوكاني محمد بن على بن محمد (ت 1250هـ) مكتبة مصطفى البابي الحلبي- الطبعة الثانية 1383هـ. 116- فتح المغيث بشرح ألفية الحديث. للسخاوي محمد بن عبد الرحمن بتحقيق عبد الرحمن عثمان المكتبة السلفية بالمدينة المنررة. 117- الفرق بين الفرق: عبد القاهر طاهر البغدادي- تحقيق محمد محيى الدين عبد الحميد نشر دار المعرفة، بيروت، لبنان. 118- الفصل في الملل والأهواء والنقل: لابن حزم الظاهري، أبي محمد على بن أحمد (ت 456هـ) الناشر مكتبة الخانجي بمصر. 19 ا- فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: للإمام إسماعيل بن إسحاق القاضي (ت 282 كل) بتحقيق محمد ناصر الدين الألباني- منشورات المكتب الإسلامي بدمشق الطبعة الأولى 1383هـ. 120- الفوائد: لابن القيم الجوزية ط دار الكتب العلمية، بيروت. 121- الفوئد المجموعة في الأحاديث الموضوعة: للشوكاني محمد بن على (ت 1250هـ) تحقيق عبد الرحمن بن يحيى المعلمي دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان. 122- في ظلال القرآن: لسيد قطب ط دار العلم.

123- قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة: لشيخ الإسلام ابن تيمية بتحقيق د/ ربيع بن هادى عمير المدخلي الناشر: مكتبة لينة للنشر والتوزيع الطبعة الأولى 1409 هـ 124- قاعدة في المحبة: لشيخ الإسلام ابن تيمية بتحقيق د/ محمد رشاد سالم الناشر مكتبة التراث الإسلا مي. 125- القاموس المحيط: للفيروزآبادي ط عيسى البابي الحلبي، الطبعة الثانية. 126- القول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع: للسخاوي شمس الدين محمد بن عبد الرحمن (ت 952 هـ) الناشر دار الكتب العربي، بيروت، الطبعة الأولى. 127- الكامل في التاريخ: لابن الأثير: على بن محمد بن عبد الكريم الجزري (ت 630هـ) ط دار صادر، بيروت 1385 هـ. 128- الكامل في ضعفاء الرجال: لابن عدى: عبد الله بن عدى الجرجاني (ت 365 هـ) دار الفكر للطاع والنشر، بيروت، الطعة الأولى 1303 هـ 129- الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل: للزمخشري أبي القاسم جار الله محمود بن الخوارزمي (ت 538هـ) مكتبة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر 1385 هـ. 130- الكفاية في علم الرواية: للخطب: أحمد بن على بن ثابت المعروف بالخطب (ت 463هـ) الناشر دار الكتب الحديثة، القاهرة، الطبعة الثانية. 131- الكواشف الجلية عن معاني الواسطة: لعبد العزيز بن محمد السلمان مطابع المجد التجارية الطبعة العاشرة. 132- لسان العرب: لابن منظور: أبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم ط دار صادر، بيروت. 133- لسان الميزان: لابن حجر العسقلاني أحمد بن حجر (852هـ) طبعة مصورة عن طبعة دائرة المعارف بالهند مؤسسة الأعلمي للمطوعات، بيروت الطبعة الثانية 1390هـ. 134- اللباب في تهذيب الأنساب: لابن الأثير الجزري (ت 630هـ) دار صادر، بيروت 1400هـ. 135- الماسونية ذلك العالم المجهول: صابر طعبمة دار الجيل، ببروت، الطبعة الخامسة عام 1406 هـ. 136- مجلة البحوث الإسلامية: العدد التاسع. 137- مجلة الجامعة الإسلامية: العدد الثاني السنة الرابعة. 138- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: للهيثمي علي بن أبي بكر (ت 807هـ) دار الكتاب، بيروت الطعة الثانية. 139- مجموع الفتاوى: لشيخ الإسلام ابن تبمية جمع وترتيب عبد الرحمن بن قاسم وابنه محمد ط دار العربية، بيروت.

140- كتاب: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم منهج ورسالة: تأليف محمد الصادق إبراهيم عرجون ط دار القلم، دمشق. 141- مدارج السالكين: لابن القيم الجوزية بتحقيق محمد حامد الفقي ط الكتاب العربي، بيروت لبنان 1972 م. 142- المدخل إلى السنن الكبرى: للبيهقي أبي بكر أحمد بن الحسين، (ت 458 هـ) بتحقيق د/ محمد ضياء الرحمن الأعظمي الناشر دار الخلفاء للكتاب الإسلامي. 143- المستدرك على الصحيحين: للحاكم محمد بن عبد الله (ت 455 هـ) مطبعة دائرة المعارف النظامية بحيدر آباد. 144- المسند: للإمام أحمد بن حنبل الشيباني (ت 241هـ) ط دار صادر بيروت. 145- مشكاة المصابيح: للتبريزى محمد بن عبد الله الخطيب تحقيق محمد بن ناصر الدين الألباني المكتب الإسلامي بيروت 1399هـ. 146- معارج القبول: للشيخ حافظ بن أحمد حكمي ط المطبعة السلفية ومكتبتها. 147- المعجم الكبير: للطبراني: أبي القاسم سليمان بن أحمد (ت 365هـ) تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي الدار العربية، بغداد ط الأولى. 148- المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم: لمحمد فؤاد عبد الباقي الناشر المكتبة الإسلامية استانبول تركيا. 149- معجم مقاييس اللغة: لابن فارس: أحمد. بن فارس بتحقق عبد السلام هارون ط مكتبة مصطفى الحلبي، الطبعة الثانية. 150- معرفة علوم الحديث: لاحاكم أبي عبد الله محمد بن عبد الله النيسابوري (ت 455 هـ) المكتب التجاري للطاعة والتوزيع والنشر، بيروت. 151- المغني: لابن قدامة عبد الله بن أحمد بن محمد (ت 620 هـ) الناشر مكتبة الرياض الحديثة، الرياض 1405 هـ. 152- مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة: للسيوطي عبد الرحمن بن أبي بكر (ت 911هـ) ط مطابع الرشيد، الطبعة الثالثة 1399هـ. 153- المفردات في غريب القرآن: لحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني (ت 502هـ) ط دار المعرفة بيروت. 154- مقالات الإسلاميين: لأبي الحسن الأشعري: على بن إسماعيل (ت 324 هـ) ط دار إحياء التراث العربي بيروت.

155- الملل والنحل: للشهرستاني محمد بن عبد الكريم (ت 548هـ) تحقيق محمد سيد الكيلاني ط مصطفى الحلبي. 156- مناهل الصفا في تخريج أحاديث الشفا: للسيوطي عبد الرحمن بن أبي بكر (ت 911هـ) بتحقيق سمير القاضي الناشر مؤسسة الكتب الثقافية. 157- منزلة السنة في التشريع الإسلامي: للدكتور محمد أمان بن على الجامي مطابع الجامعة الإسلامية الطبعة الثالثة. 158- منهاج السنة النبوية لشيخ الإسلام ابن تيمية بتحقيق محمد رشاد سالم ط جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. 159- المنهاج في شعب الإيمان: للحليمي أبي عبد الله الحسين بن الحسن (ت 403هـ) بتحقيق حلمي محمد فوده- دار الفكر. 160- منهج القرآن في الدعوة إلى الإيمان: للدكتور على بن محمد ناصر فقيهي الطبعة الأولى 1405هـ. 161- موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان: للهيثمي على بن أبي بكر بتحقيق محمد عبد الرزاق حمزة الناشر دار الكتب العلمية بيروت. 162- المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف "بخطط المقريزي" لتقي الدين أبي العباس أحمد بن على المقريزى (ت 845هـ) الناشر: مكتبة الثقافة الدينية القاهرة الطبعة الثانية. 163- الموطأ برواية يحيى بن يحيى الليثي: للإمام مالك بن أنس الأصبحي (ت 179 هـ) دار النفائس الطبعة العاشرة 1407هـ. 164- ميزان الاعتدال: للذهبي محمد بن أحمد بن عثمان (ت 748هـ) بتحقيق على البجاوى دار المعرفة، بيروت. 165- كتاب النبوات: لشيخ الإسلام ابن تيمية ط دار الكتب بيروت. 166- نسيم الرياض في شرح شفاء القاضي عياض: للخفاجي أحمد شهاب الدين الناشر دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان. 167- النهاية في غريب الحديث: لابن الأثير: مجد الدين أبي السعادات المبارك بن محمد الجزري (ت 606هـ) بتحقيق طاهر أحمد الزاوي ومحمود محمد الطناحي الناشر المكتبة العلمية بيروت. 168- هذه هي الصرفية: لعبد الرحمن الوكيل دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الرابعة. 1984م

169- الوافي بالوفيات: للصفدي طبع سنة 1381هـ. 170- وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى: للسهمودي على بن أحمد (ت 911هـ) بتحقيق محمد محيى الدين عبد الحميد الناشر دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الرابعة. 171- وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان: لابن خلكان أبي العباس شمس الدين أحمد بن محمد (ت 681هـ) بتحقيق د/ إحسان عباس دار صادر بيروت. 172- الولاء والبراء في الإسلام: لمحمد بن سعيد بن سالم القحطاني الناشر دار طيبة.

§1/1