حصوننا مهددة من داخلها

محمد محمد حسين

حُصُوُننا مهدَّدة من دَاخِلِهَا بقلم الدكتور محمّد محمّد حسين مؤسسة الرسالة

بسم الله الرحمن الرحيم

حصوننا مهددة من داخلها

المقدمة

حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى: 1387 هـ -1967 م. الطبعة الثانية: 1388 هـ -1968 م. الطبعة الثالثة: 1391 هـ -1971 م. الطبعة الرابعة: 1397 هـ -1977 م. الطبعه الخامسة: 1398 هـ -1978 م الطبعة السادسة: 1401 هـ -1981 م. الطبعة السابعة: 1402 هـ -1982 م. الطبعة الثامنة: 1404 هـ -1983 م. مؤسسة الرسالة بيروت - شارع سوريا - بناية صمدي وصالحة هاتف: 319039 - 241692 ص. ب:7460 برقياً: بيوشران

مقدمة الطبعة الرابعة

مقدمة الطبعة الرابعة الحمد لله رب السموات ورب الأرض رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين والمرسلين. وبعد هذه هي الطبعة الرابعة من كتاب "حصوننا مهددة من داخلها"، حبسها عن الظهور سنتين ظروف طارئة قاهرة، وقد رأيت أن أحدث فيها بعض التعديل، فأسقطت منها الفصول الثلاثة الأخيرة التي يضمها باب (في الدراسات الِإسلامية) , لأني فضلت أن أضيفها إلى أبواب كتابي "الإِسلام والحضارة الغربية" ورأيتها أليق به، وألصق بموضوعه، وأضفت إلى هذه الطبعة صورة مذكرة كتبتها في تطوير الدراسات العربية والاسلامية، فيها فضل بيان لبعض زوايا لم أمسها فيما كتبته في هذا الموضوع من قبل. أسأل الله التوفيق والسداد في الفكر والعمل، والعفو والمغفرة فيما يزل فيه الفكر والقلم.

مقدمة الطبعة الثالثة

مقدمة الطبعة الثالثة الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. والصلاة والسلام على نعمة الله المهداة إلى البشر، الذي ختم به رسالاته وأتم كلماته، سيدنا مُحَمَّدْ. اللهم صل وسلم وبارك عليه، عَدَد الداخلين بسببه في رحمتك إلى يوم الدين. وبعد هذه كلمات كنت قد نشرتها منذ أكثر من عشر سنوات في مجلة الأزهر بمصر، تدور حول نقد مطبوعات واتجاهات ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية وتقييمها. وهي من هذه الناحية تعتبر امتداداً لكتابي (الاتجاهات الوطنية في الأدب العربي المعاصر)، الذي وقف الجزء الثاني منه عند قيام جامعة الدول العربية. وبعضُ الذين تناولتهم هذه المقالات ممن ربطتني بهم صداقة أو صلة قديمة، وبعضهم ممن لم أكن قد عرفته ثم التقيت به من بعد وعرفت فيه نواحي من العلم والفضل. ومع ذلك فالله يشهد أن ما كان في هذه المقالات من حب أو بغض كان خالصاً لوجه الله، لم تشُبْهُ شائبة من شهوة أو هوى. وقد رأيت أن أترك كل شيء في هذه الطبعة كما كتبته أول مرة دون تغيير أو تبديل, لأنه صورة من صراع الآراء الذي جرى ولا يزال يجري في بلاد المسلمين، فهو من هذه الناحية قطعة من التاريخ الفكري لهذه الحقبة، لم يعد من حقي أن أبدل فيه أو أغير.

وقد نشر بعض هذه المقالات لأول مرة مجموعاً في كتاب تحت عنوان "في أوكار الهدامين" حين استأذنني الشيخ عبد المهيمن أبو السمح إمام الحرم المكي في نشرها فأذنت له. ولكن الكتاب صدر لسوء الحظ مليئاً بالأخطاء، ثم استؤذنت مرة أخرى في طبع هذه المقالات جميعاً حين زرت الكويت سنة 1385 هـ -1966 م بدعوة من وزارة الأوقاف والشؤون الإِسلامية في موسمها الثقافي الأول، فأذنت في ذلك، وطبع منها خمسة الآف نسخة سنة 1387 هـ - 1967 م. وأُعِرتُ بعد ذلك من جامعة الاسكندرية إلى جامعة بيروت العربية سنة 1388 هـ (1968 م) فتبين لي أن الكتاب قد طبع في بيروت، وراجعته فوجدت فيه أخطاء كثيرة نبهت إليها صاحب الدار التي أصدرته ورجوته أن يتلافاها في الطبعة التالية. ولكن الكتاب نشر كما هو في طبعته الثانية (1388 هـ - 1968 م) مصوراً عن الطبعة الأولى بكل أخطائها, لذلك رأيت أن لا يطبع الكتاب بعد ذلك إلّا بإِذن كتابي مني. وقد أذنت للأستاذ مُحَمَّدْ عادل العاقل صاحب دار الإرشاد ببيروت في أن يطبع الطبعة الثالثة منه في خمسة الآف نسخة، بعد أنَ أصلحت ما فيه من أخطاء وبعد شيء يسير من التعديل. فقد رأيت أن أبدأ الكتاب بالمقالات التي نُشِرت في مجلة الأزهر لأول مرة تحت عنوان (حصوننا مهددة من داخلها)، وهو العنوان الذي اتخذته من بعدُ للكتاب. ثم رأيت أن أضم إلى مقال (الثقافة الإِسلامية والحياة المعاصرة) مقالين آخرين في الموضوع نفسه، لتكون جميعاً تحت عنوان (في الدراسات الإِسلامية). وأحد هذين المقالين في دراسة مؤتمر آخر من نوع مؤتمر (الثقافة الإِسلامية والحياة المعاصرة)، نُشرت البحوث التي ألقيت فيه ثم ترجمت إلى العربية تحت عنوان (الشرق الأدنى: مجتمعه وثقافته). والمقال الآخر في كتاب للمستشرق سْمِثْ (w. c . smith) عن: الإِسلام في العصر الحديث islam in) (modern History صدر عن جامعة برنستون - وهي الجامعة التي دعت للمؤتمرين السابقين- سنة 1957. ثم إني أضفت إلى القسم المنشور تحت عنوان (في مناهج اللغة والدين) كلمة عن بحث ملحد منحرف في قراءات القرآن، قُدّم لجامعة الإِسكندرية سنة 1385 هـ -1965 م للحصول على درجة الماجستير، ذهبت فيه صاحبته إلى أن القرآن غيرُ متواتر بلفظه، وأنه قد حدث فيه تغيير وتبديل، وزعمت أن الرسول قد غَيرَّ فيه، وسمح لأصحابه

بالتغيير وأقرهم عليه. ومع هذه الافتراءات الظالمة التي لا تستند إلى أي دليل، ولا تقوم إلّا على الرغبة في الهدم، فقد قررت اللجنة التي ناقشته وقتذاك منحه درجة الماجستير. ثم امتنعت الجامعة عن توثيق هذا القرار بعد معركة طويلة خاضها من جانب واحد أنصارُ الباطل، أفراداً وجماعات وصُحُفاً. ورأيت يومذاك أن أحصر القضية من جانبي بين جدران الجامعة، فلم أرُدّ على من جندته الصحف لتزيين ذلك الإِلحاد وتزوير صورته. ثم رأيت الآن أن أثبت ما كان، بعد أن هدأت الزوبعة، للتاريخ وللحق، وليعرف من اطلع على القضية وقتذاك من جانبٍ واحدٍ حقيقةَ الأمر. ثم إني حذفت القسم الأخير من الكتاب المنشور تحتَ عنوان (في شؤون الروح). وهو جزء عن بحث كنت أُعده لجلة الأزهر، ثم انقطعت عن نشر بقيته بعد أن نُحّيَ الأُستاذ محب الدين الخطيب رحمه الله عن رياسة تحرير المجلة، وحل محله أحمد حسن الزيات. وقد نشرتُ البحث بعد ذلك كاملاً في الاسكندرية سنة 1380 هـ -1960 م ثم أعيد نشره في دار الإِرشاد ببيروت سنة 1388 هـ -1969 م تحت عنوان (الروحية الحديثة دعوة هدامة). أسأل الله أن يتقبل مني هذا الجهد الذي لا يفي بنعمه علي، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، وأن يغفر لي ضعفي وعجزي وتقصيري. بيروت في صباح الإِثنين 10 من جمادي الآخرة 1391 هـ (2/ 8/ 1971 م). محمّد محمّد حسين

مقدمة الطبعة الأولى

مقدمة الطبعة الأولى الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى الحمد لله وحده، هو الحميد المجيد، منه العون وبه التوفيق. اللهم اهدنا سبلنا، وألهمنا رشدنا، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه. وبعد فهذه كلمات كنت قد نشرتها في مجلة "الأزهر" خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة (1376، 77، 78). وكان أكثرها تحت عنوان "حصوننا مهددة من داخلها"، جمعتها في هذه الصفحات مرتبة بحسب تاريخ نشرها. ولم أتناولها بتغيير أو تبديل، إلّا ما يكون مما لا بد أن يعنَّ لكل كاتب إذا أعاد النظر فيما كتب، وهو من أمارات نقص الإِنسان وعجزه وقصور فكره. وقد كان الذي دعاني إلى كتابة هذه السلسلة من المقالات أني رأيت الِإلحاد والانحلال في هذه الأيام يشتعل ويسري سريان النار في يابس الحطب، ورأيت دعاته يستفحل أمرهم في كل مكان، ورأيت الناس مشغولين بالجدل والنقاش حول ما يثيرونه من موضوعات يسترون مآربهم الهدَّامة من ورائها تحت أسماء خلاَّبة برَّاقة، كالنهضة، والتحرر، والتطور، ومتابعة ركب الحياة، وهي موضوعات منوعة تشمل الحياة في شتى نواحيها، يخترعونها ثم يهولون من شأنها ويكثرون من الأخذ والرد حولها حتى يلفتوا إليها أنظار الناس، وحتى ينشأ جيل جديد مرنت أذنه منذ وعى على سماع المناقشات حول هذه الموضوعات, فيتوهم أنها مشكلات حقيقية لا بد لها من حل،

ويتجه في أغلب الأحيان - كما جرت عادة الناس - إلى أنصاف الحلول التي ترضي الطرفين المتخاصمين حسب وهمه. والخاسر في حقيقة الأمر هو صاحب الحق. والربح كله للباطل وأصحابه. ولا يزال أصحاب الباطل ماضين في اتخاذ هذا الأسلوب نفسه جيلًا من بعد جيل، يزحفون ويزحفون، حتى يسدّوا على الناس كل سبيل للحق، أو يفتح الله باباً من أبواب رحمته فيبعث عليهم من ينكّل بهم ويقطع دابر ما يثيرونه من فتن. ولكن الجديد في أمر هؤلاء الدعاة أن شرهم لم يعد مقصوراً في هذه الأيام على الكلام، فقد انتقلوا من مرحلة الكلام إلى مرحلة العمل بعد أن نجحوا في التسرب إلى الحصون التي تحمي قيمنا، وأصبح كثير منهم في مناصب تمكّنهم من أن يدسّوا برامجهم وخططهم على المسؤولين من رؤسائهم وينفذوها في صمت، ودون أن يثيروا ضجة تلفت إليهم المعارضين. ولهؤلاء المفسدين عصابة تشد أزرهم وتُشِيد بهم وتنوَّه بذكرهم وتحميهم من خصومهم وتقطع ما يهاجمون به مما ينبه الناس إلى شرهم عن كل وسائل النشر، فلا يصل إلى آذان الناس أو عيونهم شيء منه. وأنا حين أزعم أن هؤلاء الدعاة ينتمون إلى عصابة ذات خطر إنما أعني بالعصابة كل مدلولها وكل حرف من حروفها وكل مفهوم من مفاهيمها. هذه العصابة قليلة العدد. ولا ترجع قوتها إلى كثرة عددها. ولكنها ترجع إلى تماسك أفرادها وتضامنهم، يساعد بعضهم بعضاً، ويحمىِ كبيرهم الصغير، ويمهد السابق منهم للاحق، ويهيىء له فرص الظهور والترقي، بينما يتخلصون بمختلف الوسائل من الخصوم الذين يعارضونهم والذين يقفون في وجه خططهم. يحدث ذلك كله في الظلام وفي صمت. وقد لا يكون هناك تنظيم واحد معروف بعينه يضم الهدامين ودعاة الشر كلهم جميعاً، ولكن المهم في الأمر أنهم جميعاً، على اختلاف نزعاتهم وعلى تباين ساداتهم وشياطينهم، متعارفون متضامنون. والمتدبر لخططهم وتحركاتهم في إحكامها، وفي تناسقها، وفي وحدة أهدافها، وتشابه أساليبها في كثير من الأحيان، وفيما تستند إليه من

نفوذ واسع، لا بد أن ينتهىِ إلى أن هناك هيئات منظمة تنظيمًا دقيقاً من وراء هذه الحركات، وأن بين هذه الهيئات قدراً كبيراً من التفاهم واتفاق المصالح. وعصابة الهدَّامين تستمد قوتها وخطورتها من هذا التنظيم من ناحية، ومن أنها مجهولة الرأس والحدود والأطراف والأساليب والأعوان من ناحية أُخرى. وهذا التنظيم وهذه السريَّة هما مصدر قوة هذه العصابة التي لا تفترق عن عصابات السطو والِإرهاب في شيء. فهي لا تعتمد في تنفيذ خططها على الإِقناع شأنَ أصحاب الرأي، ولا على الكثرة شأن أصحاب (الديموقراطية) المزعومة، ولكنها تعتمد على العمل في الظلام وعلى البطش بالخصوم والتخلص من المعارضين ومؤازرة الأولياء والأصدقاء وتمكينهم من مقاليد السلطة. وهم يسلكون لذلك كل سبيل، ويستغلون فيه كل وسيلة، وعلى رأس هذه الوسائل الصحافة والإِذاعة والمنابر ودور النشر وشراء الذمم والتهديد بالفضائح. ومن هذه الأساليب التي لا تحصى أسلوب مشهور معروف لم يعد يخفى على بَصير، يُلقي أعضاء هذه العصابة شباكهم حول أصحاب النفوذ والسلطان ويدخلون إليهم من أقرب الأبواب إلى قلوبهم وأضعف الثغرات في نفوسهم، ثم يتظاهرون بالتفاني في حبهم والِإخلاص في خدمتهم، فيلازمونهم ملازمة الظل، لا يغادرونهم طرفة عين، ويراقبون منهم الِإشارة والبادرة، مراقبة الكلب الأمين لصاحبه، حتى يصبح التابع منهم لازمة من لوازم سيده ووهماً مسلطاً عليه لا يتخيل إمكان الاستغناء عنه، وبمرور الأيام تتحول هذه البطانة إلى سور ضخم شاهق يحجب عن بصر صاحب النفوذ كل شيء عداه، فحيثما وجّه البصر لا يرى إلّا هذا السور، وتصبح هذه الدائرة الضيقة هي دنياه، لا يعرف شيئاً مما يجري وراءها في دنيا الناس. وعند ذلك يصبح صاحب النفوذ في حقيقة أمره سجيناً من حيث لا يدري, لأنه لا يرى إلّا ما يسمحون له برؤيته، ولايسمع إلا مايسمحون له بسماعه وحسبك بهذا سجناً، ثم ينتهي به الأمر إلى أن يصبح صنمًا. معبوداً كعجل الكفار من الفراعنة، يحبس في الظلام، ولا يَنْتفِع بعبادته وتقديسه إلّا سدنتُه. وأخطر ما في أمر هذه العصابة أن أفرادها يتمتعون بكل ما في حرب

العصابات من مزايا. ومن أخطر هذه الزايا أن الجهاز الحكومي - وهو يشبه الجيش النظامي - لا يستطيع توجيه الضربة القاضية إليهم. لذلك كان من أنجح الأساليب في مكافحتهم أن تدرس خططهم وأساليبهم في الكيد والدس وينبه الناس إليها. عند ذلك ينكشف الستر عن الذين يستمدون قوتهم من العمل في الظلام، ويجدون أنفسهم وقد غمرتهم الأضواء وكشفت أوكارهم وسراديبهم، ولا يجدون بداً من اللجوء إلى سلاحهم القديم الذي بدءوا به وهو سلاح الدعاية. وقد فشلوا فيه من قبل، وسيكون فشلهم في هذه المرة ساحقاً ماحقاً بعد افتضاح أمرهم, لأنهم يسبحون اليوم ضد تيار قوي غلَّاب، ترعاه عناية الله سبحانه، ويحفه توفيقه، ويمده مدده الذي لا ينفد وجنوده التي لا يعلمها إلّا هو. ذلك هو تيار النهضة العربية واليقظة الإِسلامية. من أجل ذلك كتبت هذه الكلمات لجلة الأزهر، ثَم أعدت نشرها مجموعة وهذه الصفحات. كتبتها لألقي الأضواء على الذين يعملون في الظلام، وأكشف الستر عما يدبرون في الخفاء، ولأفضح دسائسهم التي يلقون عليها حجباً كثيفة من الرياء والنفاق، حين يندسون بين صفوف العاملين على بعث معالم شخصيتنا وإحياء شعائرنا وأشعرتنا، يتظاهرون بالغيرة على إسلامنا وعلى عروبتنا، حين تنطوي ضمائرهم على فساد العقيدة وحين يعملون لحساب العدو الذي يستعبدنا ولحساب الصهيونية الهدامة التي لا تريد أن تبقى على بناء قديم. هؤلاء هم أخطر الأعداء، وهم أول ما ينبغي البدء به في تطهير الحصون وتنظيف الدار, لأن الأعداء والمارقين ظاهر أمرهم لا يخفون، وهم خليقون أن ينفِّروا الناس، فهم كالمريض الظاهر يتحاشاه الناس ولا يقتربون منه. أما هؤلاء فهم كالريض الذي لا يظهر المرض على بدنه، فالمخالطون لا يحتاطون لأنفسهم في مخالطته. وأكثر ما تتعرض الشعوب للخطر من هذا الفريق في أطوار ثورتها ونهضتها, لأنها في هذا الطور تمر في دور انسلاخ تحاول أن تطهير نفسها فيه من الأوضار ومن النقائص، فيُلبِّس هذا الفريق من المنافقين والضالين والمضللين عليها أمرها، ويزينون لها الباطل زاعمين لها أنه هو سبيل النهضة، ويوهمونها أن كثيراً من عاداتها الصحيحة الأصيلة هي من

أسباب تخلفها وضعفها، ويزجون بها فيما رسمته عصابتهم من قبل وما قدَّرته من طرق ومسالك. كتبت هذه الصفحات حين كتبتها لكي أفضح هذا النفر من المفسدين وأنبه إلى ما انكشف لي من أهدافهم وأساليبهم التي خُدعت بها أنا نفسي حيناً من الزمان مع المخدوعين، أسأل الله أن يغفر لي فيه ما سبق به اللسان والقلم. وإن مد الله في عمري رجوت أن أصلح بعض ما أفسدت مما أصبح الآن في أيدي القراء. وأكثره في بحث حصلت به على درجة (دكتور في الآداب) من جامعة القاهرة (فؤاد الأول وقتذاك)، ثم نشرته تحت اسم "الهجاء والهجاءون" (*). وقد كان مصابي هذا في نفسي وفي تفكيري مما جعلني أقوى الناس إحساساً بالكارثة التي يتردى فيها ضحايا هؤلاء المفسدين، وأشدهم رغبة في إنقاذهم منها، بالكشف عما خفي من أساليب الهدَّامين وشراكهم. ومن الواضح أن هذه الصفحات لا تستقصي نشاط الهدامين ولا تستوعب كل ميادينهم ولا تحصيها عدداً، ولكنها تقدم نماذج منها تكشف عن أساليبهم في الدس والتزييف والهدم والتخريب، وهي أساليب لا يقتصر شرها على بلد دون بلد، فهي تعم بلاد العرب، بل بلاد المسلمين، بل الشرق كله، يسقونه السم على حين نهضته حتى لا تصح له نهضة، وليقودوه إلى الهاوية التي يوشك الغرب كله - شرقيه وغربيه - أن يتردى فيها. وسيعلم القارئ من بعد أن اصبع الصهيونية العالمية الهدامة التي تطمع في أن ترث الأرض وتستعبد كل من عليها لليهود من وراء هذه الدعايات والدعوات. لذلك لم يكن من قصدي في هذه الصفحات أن أقنع الذين أنبه إلى خطورتهم، فأكثر هؤلاء دعاة وليسوا طلاب حق، لا يخرجهم من ضلالهم إلَّا أن يرزقهم الله الهداية، ويشرح صدورهم للِإيمان، ولا حرج عن فضل الله ولا يأس من رحمته. ولكن أكثر قصدي في هذه الكلمات كان إلى الشباب ¬

_ (*) أصلحت أخطاء الكتاب بقدر ما وسعته الطاقة في الطبعات التي ظهرت في بيروت منذ 1969 م.

خاصة، أنبههم إلى ما قد يخفى عليهم من حيل الهدامين وأساليبهم. وشيء آخر كان بين عيني أيضاً حين كتبت هذه الكلمات، وهو أن أقوم بواجب في عنقي نحو ولاة أمورنا، وأن أعينهم بالنصح فيما أعلم ابتغاء لثواب الله، وإبراءً للذمة من عهدة لا تبرئنى منها إلَّا هذه الكلمات. ولست أبالي أن يكون المنتفعون بهذه الكلمات والذين يعونها حق الوعي قلة من الناس، بل إني لا أطمع في أكثر من ذلك. ولكني أعلم أن الله سبحانه قد يْجُري خيراً كثيراً على يد نفر قليل إن أعان ووفق وبارك، وأنا أسأل الله العون والتوفيق، وأن يبارك جهود المخلصين ممن يبتغون بعملهم وجهه الكريم. وصلى الله على سيدنا محمّد وعلى آله وسلم تسليمًا كثيراً. في 9 رجب 1378 هـ (18/ 1/ 1959 م) محمّد محمّد حسين

في الدراسات النفسية والاجتماعية

في الدراسات النفسية والاجتماعية

حصوننا مهددة من داخلها

حُصُوننَا مُهَدَّدة مِن دَاخِلهَا* يظن بعض الناس أن الدول القوية هي التي تملك عدداً ضخمًا من عدد القتال وآلاته، وتنتج مقادير هائلة من الصناعات التي تغمر أسواق العالم. وحقيقة الأمر أن هذه الدول لا تتاح لها القوة حتى يكون من وراء كل هذه العدة الهائلة وذلك الإِنتاج الضخم خلق متين يجمع أهلها ويشد بعضهم إلى بعض، ويعطف كل واحد منهم على أخيه، ويمنع عناصر الفساد وأسباب الفرقة والخلاف أن تتسرب إلى صفوفهم وتنخر عظامهم. إن الدول لا تسود ولا تعلو بالحديد والنار ولا بالمال، ولكنها تسود وتعلو بالخلق المتماسك. وأعلى مصادر الخلق المتماسك وأعمقها جذوراً وأدومها أثراً هو الدين، فهو الذي يجمع الناس على التواد والتراحم ويقيهم ما طبعت عليه النفس البشرية من الشح، ويكف بعضهم عن بعض. وهذه هي دول الغرب، يستطيع كل ذي بصر أن يرى - كما رأى المؤرخ الإِنجليزي توينبي من قبل، منذ الحرب العالمية الأولى - مظاهر تدهورها وإنحلالها وهي في كامل مجدها الصناعي والآلي، لم يعوزها المال ولم تنقصها الآلات ولا المعارف الفنية ولا العلوم العقلية، ولكن أعوزها الخلق والدين، فسرى الفساد في جسدها ودب الخلاف في صفوفها. إن مظهر هذه الدول الضخم قد يخدع كثيراً من الناس فيظنون أن نهايتها بعيدة، والحقيقة أن الدول الكبيرة لا تضمر ولا تذوي ولا تنكمش، ولكنها تنهار كما ينهار عمود الخشب الضخم الذي نخر السوس لبه. ¬

_ (*) نشرت في عدد المحرم وصفر سنة 1377 من مجلة الأزهر.

كذلك انتهت كل الدول الكبرى من قبل، في أثينا وفي روما وفي بغداد وفي الأندلس وفي الأستانة. انتهت حين كانت ضخامتها ومظاهر الترف فيها تخدع الناظر عن السوس الذين ينخر عظامها. وما ينبغي لنا أن نغفل عن هذا الدرس الماثل أمام أعيننا إن غفلنا عما حفظه التاريخ من دروس ومن عظات. يجب أن نعرف معرفة اليقين أن المتقدم الصناعي لا يغني عنا شيئاً إذا دبّ فينا دبيبُ الخلاف، فتفرقت بنا السبل وتوزعتنا الأهواء والآراء، ومزقتنا الدعوات المتنافرة التي ينقض بعضها بعضاً. والدين واللغة هما أهم دواعي الألفة والتماسك في كل مجتمع إنساني. فالدين هو الذي يوحّد العادات والأمزجة، فيجتمع الناس فيما يحبون وفيما يكرهون، وفيما يألفون وفيما يعافون، وفيما يستحسنونه وفيما ينفرون منه، على ألوان معينة من غذاء الأبدان والنفوس. واللغة هي الوعاء الذي يشتمل على ذلك كله، وهي أداة التفاهم التي لا يتم بدونها تواصل. ثم إنها بعد ذلك تجمع أمزجة الناس وأذواقهم على ألوان معينة من الأساليب البيانية في الجمال الفني. لذلك كانت المعاهد والمؤسسات التي تقوم على صيانة الدين واللغة هي بمثابة الحصون والمعاقل التي تسهر على حمايتنا وسلامتنا، وكانت العناية بأمرها خليقة أن تنال من اهتمامنا مثل ما تناله العناية بإِعداد العدة الحربية والصناعية بل أشد. وشر ما يطرأ على هذه المعاقل من الوهن أن تؤتىَ من بعض الذين وُكِلَ إليهم حمايتُها والدفاع عنها حين يخونون الأمانة، فيتسللون متلصصين إلى الأبواب يفتحونها للأعداء المهاجمين بِلَيْلٍ، والحماة الساهرون في غفلة لا يشعرون. من أجل ذلك سوف أتناول في هذه السلسلة بعض معاقل الدين واللغة، منبهاً إلى ما طرأ عليها من انحراف بعض حراسها. ولا شك أن وزارات التربية والتعليم هي أهم هذه المعاقل والحصون الساهرة على أمن الشعوب وكيانها, لأنها هي المؤتمنة على أثمن ما تملكه الأمة من كنوز، وهى الثروة البشرية بما تنطوي عليه من قوى مادية ومن ملكات عقلية وخلقية، ممثلة في رجال الغد الذين تشرف على تربيتهم، وهي ثروة تتضاءل إلى جانبها كل كنوز الأرض، لأن كنوز الأرض لا تساوي شيئاً بدونها.

فالعقل هو الذي يستخرجها من مكامنها ويحيلها من مادة صماء جامدة إلى قوة حية منتجة، والخلق المديني هو الذي يدفع الناس إلى إعمال هذا العقل في الطريق الصحيح، وإلى بذل الجهد فيما وكل إليهم من أمور، أداءًا للأمانة، وابتغاءاً للعزة والسيادة وإعلاء الحق. وقد أصبحت مطامع أمريكا في هذه المنطقة وعداوتُها لحماتها الذين يتصدون لحراستها ويتزعمون نهضتها مشهورة لا تخفى ولا تحتاج إلى تنبيه. فاتصال القائمين على شؤون التربية والتعليم في هذه الأمة العربية بالؤسسات الأمريكية، والتعاوُن معها في ترويج مبادئ وأساليب يقال إن المقصود بها هو رفع مستوى التعليم وإصلاح شؤون الجيل الجديد، أمر لا يصدّقه العقل ولا يتفق مع ما يبذلون من محاولات ظاهرة وخفية لابتلاع هذه الأمة والكيد لها. فالذين يشتركون في المؤتمرات الأمريكية، والذين يتعاونون مع دور النشر الأمريكية، وكلها يموَّل من مصادر مريبة، يَسْخرون من عقولنا، ويخدعون أنفسهم إن زعموا أنهم يخدمون أمتهم بالاشتراك في هذه المؤسسات, لأن الأموال الأمريكية التي تنفق بسخاء يبلغ حد السّفه على هذه المؤتمرات وعلى هذه الدور لا يمكن أن تستهدف خير هذه الأمة ونفع أهلها. وقد وقع بين يدي في هذه الأيام كتاب أصدرته الجامعة الأمريكية ببيروت في العام الماضي (يوليو 1956)، يحتوي على محاضرات في نظم التربية، هي سجل لما دار في مؤتمر دعت إليه هذه الجامعة، واشترك فيه جماعة من كبار المسؤولين عن التربية في مصر وفي سوريا والعراق والاردن ولبنان. وقد مُثِّلت ثلاثة من هذه البلاد في ذلك المؤتمر الأمريكي بثلاثة وزراء سابقين للتربية والتعليم. فمثلت مصر باسماعيل القباني، ومثلت العراق بعبد الحميد كاظم، ومثلت الأردن بأحمد طوقان، والأخيران من تلاميذ الجامعة الأمريكية الداعية لعقد هذا المؤتمر، وقد كان العضو الأردني يشغل عند عقد هذا المؤتمر منصب مستشار لشؤون اللاجئين الفلسطينيين في منظمة الإِغاثة الدولية. أما البلدان الباقيان - سوريا ولبنان - فقد مثلهما رجلان من كبار المسؤولين عن التعليم وهما جميل صليبا عميد كلية التربية في الجامعة السورية، ونجيب صدقة المدير العام لوزارة التربية الوطنية والفنون في لبنان. وقد اشترك مع إسماعيل القباني

في هذا المؤتمر عضو مصري آخر هو حامد عمار الأستاذ في معهد التربية العالي بجامعة عين شمس ورئيس قسم التدريب في المركز الدولي للتربية الأساسية في العالم العربي بسرس الليان. وهذا المركز الدولي للتربية الأساسية في العالم العربي لا عمل له إلا (سلخ) الريف العربي من دينه وخلقه وعروبته، و (طبعه) بالطابع الأمريكي، وهو يتولى هذه المهمة إتماماً لما بذله الغرب من جهود في فرنجة هذه المنطقة، بعد أن تبين المستشرقون الذين يبحثون في شؤون هذا الشرق الإِسلامي والعربي أن تأثير الفرنجة أو ما يسمون (westernization) لم يتجاوز المدن, لأن كل الوسائل والأساليب التي يستخدمها الغربيون في هذا الصدد من صحافة ودعاية ومؤسسات علمية أو اجتماعية وسينما وشراء للأقلام وللذمم وللرجال إلى آخر ما هنالك، كل ذلك لا يصل إلى الريف، ولا يتجاوز حدود المدن. فما الذي صنعته امريكا لتلافي هذا النقص، والاحتيال لدخول الريف الذي عجز التبشير وعجزت الأساليب الاستعمارية العتيقة عن اقتحامه إلى ما قبل الحرب العالمية الأخيرة؟ اخترعت أمريكا تحت ستار (الدولية) وعن طريق (الأمم المتحدة) شيئاً اسمه "التربية الأساسية". وما هي التربية الأساسية؟ يقول الدكتور حامد عمار في بحثه الذي ألقاه في هذا المؤتمر الأمريكي: "التربية الأساسية منهج من مناهج الإِصلاح الاجتماعي لرفع مستوى المعيشة يؤكد قيمة العملية التربوية وتغيير الأفكار والنزعات إلى جانب تغيير الأوضاع المادية - ص 92 محاضرات في نظم التربية". ويقول في موضع آخر: "تسعى التربية الأساسية إلى محاولة تغيير الأفكار والنزعات والاتجاهات، كما تسعى إلى تغيير في الأوضاع المادية في الدائرة التي تلتزمها. ويؤمن دعاة التربية الأساسية أن كل عمل أو مشروع مادي لا بد أن يسبقه ويصاحبه ويتبعه تغيير في تفكير الناسِ، وفي الاتجاهات الفكرية والنفسية، حتى يمكن أن يكون العمل منتجاً إنتاجاً كاملًا - ص 85". وواضح أن تغيير الأفكار والنزعات والاتجاهات الذي أشار إليه الباحث يقوم على أسس غريبة خالصة، تروَّج باسم العلم - علم مزعوم لا يستقر له قرار ولا يقطع في ظاهرة برأيٍ يتفق عليه أصحابُ الرأي، يسمونه "علم

النفس" - وواضح أيضاً أن هذا (التغيير) - تغيير الأفكار والنزعات والاتجاهات - لا يبالي أن يخالف الإِسلام وتعاليمه في الريف المسلم, لأن القائم على هذا (التغيير) ليس هو مشيخة الأزهر، ولكن القائم عليه هم مجموعة من الخواجات) يختفون خلف الشخوص العربية التي تبدو للناظر وكأنها تتحرك بإرادتها، وواقع الأمر أنها لا إرادة لها، وأنها تسير في خطوط مرسومة، وحسب خطط مدبرة قدرها أناس أقل ما يوصفون به أنهم لا يبالون بإِلاسلام وتعاليمه، دائماً يكونوا معادين لها يعملون على محوها واستئصالها من نفوس الناس. ولهم في ذلك أساليب خبيثة يتسللون عن طريقها إلى قلوب أهل الريف السذج الغافلين. وسوف لا أصف لك أنا هذه الأساليب ولكني سأدع العضو العربي المحترم في هذا المؤتمر الأمريكي يقدم لك صوراً منها بألفاظه كما جاءت في الكتاب الذي بين يدي. فأول مراحل العمل في الريف هي "مرحلة التعرف"، (وهدفها أن يتحسس العامل الاجتماعي طريقه في القرية بصورة عامة وأن يألفه الناس ويألفهم ... ومن المستحسن أن تكون هذه المرحلة من العمل مرحلة فيها شىِء من الاسترخاء وأخذ الأمور بمأخذ غير محدد، إذ أن هذا الهدوء والاسترخاء ضروريان لتأسيس العلاقات الاجتماعية وتنميتها، وبخاصة إذا تذكرنا أن الفلاح سريعاً ما تأخذه الريبة ويتولاه الشك إذا تعيين إلحاحاً من غريب عليه في أمر من الأمور ... ثم إنه لا بد من التعرف على قادة القرية الطبيعيين الذين يعتبرون عناصر فعالة في تكوين الرأي العام والتأثير فيه ... وليس من المهم أن يكون هؤلاء القادة من النوع الذي يرغب فيه المصلح، لكنه لا بد من الاعتراف بهم واستغلالهم). (وإذا كان التعرف يتطلب الاتصال والزيارة ومبادلة الحديث فإِن هذا شرط لازم، وليس بكاف في كثير من الأحيان. وربما كان القيام بعمل إنشائي سريع من أنجح الوسائل لكسب الثقة وتأسيس علاقة طيبة مع الأهلين ... وقد تبين بالتجربة أن دق طلمبة مياه بالقرية، أو إصلاح خزان المياه بالجامع، أو مقاومة الآفات الحشرية في الزراعة، كان من أقوى العوامل التي وثَّقت الصلة بين أهل القرية ويبن المشرفين على مختلف جوانب الخدمة الاجتماعية

فيها. وأذكر أن زجاجات قطرة العيون كانت من أهم الوسائل التي اكتسبت بها آنسات المركز الدولي للتربية الأساسية ثقة نساء القرية - ص 98 إلى 100). ويتكلم الدكتور حامد عمار بعد ذلك عن المرحلة الثانية وهي "مرحلة الدراسة والبحث" التي "يقوم فيها المشتغل بميدان التربية الأساسية أو الخدمة الاجتماعية بجمع المعلومات والبيانات اللازمة جمعاً منظمًا، بحيث تكون معرفته لظروف القرية معرفة لا تقوم على مجرد الإِحساس، بل على الاستقصاء للحقائق وتنظيمها، حتى يستعين بها في رسم خطته وتنفيذ برنامجه ... ومن البحوث المفيدة أيضاً تشكيل مختلف العادات والطقوس التقليدية التي تشكل حياة الريفيين وتعالج كثيراً من نواحي نشاطهم ... ومن الأمور العملية المفيدة في هذه البحوث الكيفية الاحتفاظ بمذكرات أو يوميات يسجل فيها الباحث ملاحظاته ومجريات الحوادث وظروف العمل أثناء إقامته في الريف. ولا شك أن مثل هذه المذكرات هي المادة الخام التي تستطيع أن تعتمد عليها في فهم ظروف الحياة الريفية فهمًا ديناميكياً يتميز بغنى الواقع وتفاصيل الحياة اليومية - ص 100 إلى 101". من الذي يشرف على إدارة هذا الجهاز، وعلى جمع كل هذه المعلومات والدقائق؟ هيئة أجنبية، وليكن إسمها ما يكون. لتكن هي "التربية الأساسية" أو "النقطة الرابعة" أو ما شئت من هذه العناوين المختلفة. هل هناك وسيلة للجاسوسية أضمن وأرخص وآمن من هذه؟ تجمع الهيئة وسماسرتها، الخبيث منهم والغفل، ما شاءت من المعلومات في هدوء واطمئنان، دون أن يثير عملها ريبة أحد. بل إنها تلقى المساعدة الكاملة من الجهاز الحكومي، وتيسر لها سبل توثيق الصلات بالناس، وتترك لها الفرص لتعمل في بطء وفي مهل وفي غير عجلة. فهم جواسيس في ثياب أطباء، يؤتمنون على كل أسرار المريض الذي لا يخفي منها شيئاً طلباً للشفاء؛ فإِذا هذه الأسرار تُستغل في الغدر به. وإذا هي تدرس لاختيار أفعل الوسائل لقتله وأمثل السبل لامتصاص ما بقي في عروقه من دم. أتريد بعد ذلك أن أحدثك عن هدف آخر مهم من أهداف هذه

المؤسسات الأجنبية المريبة؟ إن هذه المؤسسات تريد إفساد المرأة الريفية وفرنجتها. إنها تقوم باستئصال (حياء) المرأة الريفية المسلمة في النهار المبصر، وعلى مسمع من كل ذي أذنين. هل تريد دليلاً على ذلك؟ إذن فاقرأ بحث الدكتور هارولد ألن مدير التربية بمؤسسة الشرق الأوسط الذي ألقاه في مؤتمر أمريكي آخر تحدثت عنه من قبل وهو مؤتمر (الثقافة الإِسلامية والحياة المعاصرة (¬1)، وقد تولت نشره مؤسسة فرانكلين الأمريكية. راجع في هذا الكتاب مقال الدكتور ألن عن (العامل الريفي في الحضارة الإِسلامية - ص 261 إلى 288). وسوف تتبين بعد قراءته أن الأساليب التي وصفها هذا الامريكي مما اتُّبع في سوريا هي الأساليب نفسها التي وصفها الدكتور حامد عمار مما أتُّبع في مصر. وهذا الأسلوب الواحد الذي يذكرنا بأساليب الجواسيس والمبشرين يؤكد ما أسلفته من أن هذه الشخوص التي تبدو للناظر وكأنها تتحرك بإِرادتها لا تتحرك إلا حسب خطة واحدة قدرها الذين فضلوا أن يجذبوا الخيوط من خلف ستار. ولنقف قليلاً عند صفحتي 267، 268 من هذا المقال، حيث يقدم الكاتب صورة من بعوث أمريكا - أو البعوث الدولية إن شئت - التي تتغلغل إلى صميم البيئات الإِسلامية في الريف باسم الخدمات الاقتصادية والخدمات الفنية، أو الخدمات الاجتماعية، وسوف تدرك بسهولة أن الهدف الكبير لهذه المؤسسات - إلى جانب ما تنتفع به من معلومات تفيد الجاسوسية السياسية والحربية هو (أمركة الريف)، والاهتمام فيه بالمرأة خاصة وبتوجيه الحركة النسوية. سترى في هذا المقال أن هذه المؤسسة تختار موظفيها الذين يتعاملون مباشرة مع القرويين من الوطنيين ليكونوا أقرب إلى قلوب الناس. وسيروي لك الكاتب ما حدث في (قبر الست) وهي إحدى قرى سوريا. ذهب مبعوث المؤسسة الدولية - أو الأمريكية إن شئت - وهو شاب عربي أسمه "فؤاد فرج" إلى القرية ليعيش فيها، واستطاع أن يقيم في حجرة من الحجرات المخصصة لِإقامة زوار ضريح الست (والمقصود بها هي السيدة زينب رضي الله عنها حفيدة النبي صلى الله عليه وسلم)، وأخذ يتلمس طريقه لممارسة نشاطه بعد أن وثق به أهل المنطقة واطمأنوا إليه، ¬

_ (¬1) انظر في هذا المؤتمر الطبعة الثالثة من كتابنا "الإِسلام والحضارة الغربية".

فنجح في إدخال بعض التحسينات الزراعية، وقدَّم ألواناً مختلفة من الخدمات الصحية بمعاونة السكان وتنظيمهم. رش المدينة كلها بمسحوق د. د. ت. للقضاء على الذباب والبعوض، وجفف الشوارع، وأنشأ نادياً للشبان: كما أنشأ دراسات مسائية في القراءة والكتابة للبالغين من الأميين، وكوَّن جمعية تعاونية. وبعد أن سرد الدكتور هارولد ألن ضروب النشاط التي قامت بها هذه المؤسسة الأجنبية ختم وصفه لهذه التجربة بالسطور التالية، التي تدل على الهدف الحقيقي لهذه البعثات. قال: "وفي السنة الماضية بدأ الرجال الذين يعيشون في محيط هذا الرائد - بعد أن تحسن اقتصادهم وصحتهم تحسناً كبيراً نتيجة لجهوده العلمية - يفكرون في حاجات نسائهم، وهذا هو ما ظل فؤاد فرج ينتظره زماناً. وقد أحيل الاقتراحِ إلى قسم رعاية المنزل بالمؤسسة المسؤولة عن هذا العمل. فأعدَّ برنامجاً للنساء والأطفال يدار من مكاتب قدمتها القرية بلا إيجار (¬1) ". ثم يعقب على ذلك بقوله: "إن المشروع الذي وصفناه هو جزء من تجربة تشمل اثنين وستين قرية، يبلغ مجموع سكانها ستة وعشرين ألفاً. وهو مثال لعشرات غيره من الجهود الفعالة المماثلة التي يمكن القيام بها - ص 268". وهدف ثالث من أهداف مؤسسات "التربية الأساسية" ربما كان أخطر من الهدفين السابقين وأعمق أثراً، هو تخريج جيل من الخبراء الاجتماعيين. ¬

_ (¬1) من القواعد الأساسية في مؤسسة (التربية الأساسية) حسب ما جاء في ص 88 من الكتاب الذي نتكلم عنه في هذا القال - "محاضرات في نظم التربية". مساهمة (الناس بالجهد أو بالمال أو في الفكرة أو في التنفيذ في أي عمل من الأعمال. ولا شك أن هذا يدعوهم إلى الشعور بأن. هذا العمل أو المشروع جزء متهم وأنهم أصحاب حق فيه: وهو ما يحفزهم إلى رعايته واستغلاله والاهتمام به). ويذكرنا هذا الأسلوب بأسلوب الجاسوس الإنجليزي المشهور لورانس حيث يصفه في كتابه "أعمدة الحكمة السبعة" فيقول أنه كان يعيش بين العرب كأنه واحد منهم. ولم يزل يمعن في تقليدهم حتى أحسوا أنه واحد منهم. وعند ذلك وجدوا أنفسهم منساقين إلى مجاملته وتقليده. فهو لم يفعل - كما يقول - شيئاً بنفسه. وليس هناك عمل يمكن أن ينسب صراحة إليه. إلا أن يكون من تأثيره في أفكار غيره وتحويلها إلى أغراضه. على أن العرب - كما يقول - كانوا يبدون في كل تصرفاتهم أحراراً يتأثرون بالقدوة الصامتة إيجاباً وسلباً حسبما يحلو لهم (ص 29 من النسخة الانجليزية طبعة اكسفورد سنة 1943).

المصبوبين في قوالب أمريكية، أو قوالب صهيونية على الأصح، يلبس ثياب الغرب والمسلمين، ويتسمى بأسماء العرب والمسلمين، ويعمل في حكومات العرب والمسلمين لغير أهداف العرب والمسلمين. ولا يمضي وقت طويل حتى يصبح المشتغلون بشؤون الخدمة الاجتماعية وتنظيم الحياة العربية والاسلامية في شتى مناحيها من هؤلاء المتأمركين الذين يفسدون حين يزعمون أنهم يصلحون، ويهدمون حين يظنون ويظن المخدوعون بهم أنهم يبنون ويشيدون. والآن بعد أن طال الحديث عن المركز الدولي للتربية الأساسية أنتقل إلى مقالات الأعضاء الذين تحدثوا عن شؤون التربية والتعليم في البلاد العربية، وهي الأساس في عقد هذا المؤتمر. والهدف من هذه البحوث التي دعي أصحابها لِإلقائها لا يخرج عن الهدفين السابقين اللذين أشرت إليهما من قبل: الجاسوسية، والسيطرة على توجيه المجتمع. ففي مثل هذه المؤتمرات يتيسر استقاء معلومات دقيقة من مصادر موثوق بها، كما يمكن معرفة الاتجاهات الفكرية لقادة الرأي والمسؤولين في هذه البلاد. وهذه المؤتمرات - مثل المؤسسات الأمريكية والدولية التي أشرت إليها من قبل - هي أضمن الوسائل وأرخصها وأوثقها لجمع المعلوماث الصحيحة الدقيقة التي تخدم الذين يرسمون الخطط السياسية والحربية لهذه المنطقة. ثم إن هذه المؤتمرات هي - من ناحية أخرى - وسيلة، للاتصال القريب المباشر بالمسؤولين، يَعْجِمون عودهم، ويدرسونهم عن قرب، ويختبرون مدى مناعتهم ومدى استعدادهم للتجاوب مع الأهداف الخفية للسياسة الاستعمارية، كما يختبرون مواطن القوة ومواطن الضعف في كل واحد منهم لمعرفة أنجح الوسائل للاتصال بهم والتأثير عليهم. هذا إلى أن الكلام الذي يلقى في هذه المؤتمرات - وهو مجامل لا شك لوجهة نظر الداعي إلى المؤتمر - لا بد أن يلقى صدى في نفوس كثير من هؤلاء المسؤولين من المدعوين. أما خدمة هذا المؤتمر لأغراض الجاسوسية الأمريكية التي ترسم الخطط السياسية والاجتماعية والاقتصادية لهذه المنطقة، فهي واضحة في كلمة الدكتور عبد الحميد كاظم وزير معارف العراق السابق، التي ألقاها في هذا المؤتمر، حيث أشار إلى ما طُلب منه إعداده حين وجهت إليه الدعوة، فقال: "إن

خطاب الزميل الدكتور حبيب كوراني يشير إلى الرغبة في أن أتكلم عن تطور التربية في المملكة العراقية خلال السنوات العشر الأخيرة (¬1) مشيراً إلى أهم الاتجاهات الحديثة من حيث: التنظيم، والمنهج، وإعداد المدرسين، والتفتيش، والامتحان، وكذلك المشكلات الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، التي تجابه التعليم في العراق، مع بعض الحلول التي اتخذت أو يجب أن تُتخذ لمعالجتها، على أن تأتي هذه في محاضرتين. هذا هو المطلوب مني حسبما جاء في الدعوة الموجهة إلى- ص 125 إلى 126". والذي يراجع ما ألقي في هذا المؤتمر من بحوث يتبين دقة المدعوين في التزام الوفاء بما طلب إليهم التحدث فيه على أكمل ما يطلبه الأمريكيون ويريدونه. فبحوثهم مدعمة بجداول إحصائية لا حصر لها في كل جانب من جوانب التعليم، مما يقدم صورة دقيقة للحياة الاجتماعية والاقتصادية في بلادهم، إلى جانب النظم التعليمية. والواقع أن أعضاء المؤتمر لم يقدموا هذه الجداول الإِحصائية تبرعاً من عند أنفسهم، ولكنهم قدموها استجابة لطلب الذين دَعَوا إلى هذا المؤتمر ونظموه. فالدكتور حبيب أمين كوراني رئيس دائرة التربية في الجامعة الأميركية ببيروت - وهو الذي وجّه الدعوة لهذا المؤتمر - يقول في تقديم الكتاب الذي ضم ما أُلقي فيه من بحوث: " ... فدعونا لذلك نخبة من قادة الفكر وكبار رجال التربية في مختلف الأقطار العربية للمساهمة في هذه الدراسة، وذلك بتقديم محاضرات تتناول أهم الأبحاث الحديثة في التربية في أقطارهم من حيث الأسس الفلسفية والاجتماعية والنفسية التي ترتكز عليها التربية، ومن حيث التنظيم والمنهج وإعداد المعلمين والتفتيش والامتحان بالاستناد إلى بعض الإِحصائيات التربوية الهامة، ويتناول أيضاً عرض المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تجابه التعليم، مع بعض الحلول التي اتخذت والتي يجب أن تتخذ". ¬

_ (¬1) السنوات العشر الأخيرة هي السنوات التي تبدأ بانتهاء الحرب العالمية الثانية. وهي الفترة التي اتسمت بتدخل أمريكا في شؤون هذه المنطقة. فأصحاب هذا المؤتمر يريدون الاطمئنان على مدى نجاح خططهم في خلال هذه السنوات العشر. والواقع أن أمريكا قد حققت بدولاراتها خلال هذه المدة ما لم تستطع الدبلوماسية الانجليزية والدبلوماسية الفرنسية ومؤامرات التبشير الظاهرة والخفية مجتمعة أن تحققه في قرن كامل.

أما الهدف التوجيهي من هذا المؤتمر فهو واضح في هذه المقدمة أيضاً وفي سائر البحوث. يقول رئيس دائرة التربية في الجامعة الأميركية ببيروت في مقدمته: "لقد بدأ قادة التربية في البلدان العربية يتحسسون بالحاجة إلى تربية فعالة كوسيلة لمعالجة الوضع الخطير الذي أحدثته عوامل التطور في هذه البلدان". ثم يقول بعد أن يعرض هذه العوامل باختصار: "فنتج عن هذه تبديلات عديدة هي تبديلات جوهرية لا يمكن أن تحدث في مجتمع ما دون أن تحدث فيه تضارباً بالأفكار والمثل والقيم، ودون أن تتطلب تعديلًا في مفاهيم ذلك المجتمع وآرائه ومعتقداته وطرق تنظيم معيشته. لذلك نجد أنفسنا في هذا الوضع مرغمين على إعادة النظر في مؤسساتنا التي تكونت ضمن الوضع القديم، وفي المبادىء والافتراضات والأهداف التي بنيت عليها تلك المؤسسات وتعديلها على ضوء الوضع العلمي والحضاري الحديث، والوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي القائم في مختلف مجتمعاتنا، كي نتمكن من إعادة بناء حياتنا على أساس مبادئ وآراء ومثُلُ بنّاءة منسجمة تتماشى مع الحضارة الإِنسانية الراقية (¬1)، وتمكننا من المساهمة الفعلية في تقدم ركب المدَنية البشرية ورقيه". ولست أريد بعد ذلك أن أقدم صوراً مما ألقي في هذا المؤتمر من بحوث، فقد يطول بي الحديث إن أخذت فيه. هذا إلى أنه حديث بغيض يملأ النفس مرارة وضيقاً بالواقع الراهن للتعليم في هذه البلاد، بما فيه من كلام كثير عن فضل أمريكا في إنشاء مؤسسات التعليم المختلفة ومعاهده المتباينة في شرق الأردن وفي لبنان خاصة، وبما فيه من استخفاف بآدابنا ومواريثنا يَلَبس في أوهام المتكلمين ثوب العلم حين يؤكدون أهمية الدراسة الفنية في معاهد التربية لمن يباشرون وظيفة التدريس، ليُخفوا الهدف الحقيقي من ذلك، وهو إفساد التعليم بإِقامته على أساس من الآراء الفاسدة والنظم الهدامة، التي تروجها الصهيونية العالمية في غلاف أمريكي، عن طريق المتأمركين الذين يسيطرون الآن على هذه المعاهد في كل البلاد العربية، ¬

_ (¬1) لست أدري ما هو مفهوم "الرقي" و"الحضارة الإنسانية الراقية" في وهم صاحب هذا الكلام. هل هو كل ما جاء من الغرب المنحل وكل ما أخرجته فنون الجنون الأمريكي؟

يروجون هذه السموم ويزعمون أنها علوم. وكأن أحلام ما يسمونه علم النفس ودعاواه المتغيرة المتناقضة التي لا تكاد تستقر قد أصبحت شيئاً مقطوعاً بصحته. فباسمه يدعو المخدوعون إلى (تحطيم) ما توارثناه في آدابنا من توقير الصغير للكبير، غير مكتفين بما حاق بنظم التعليم وخلق المتعلمين من خسران بعد أن فسدت صلات التلاميذ بمدرسيهم نتيجة للتقليد الأعمى وللنقل الَجهُول. وباسمه يتخطون أوامر ديننا ويتجاهلون آدابه الصالحة الرشيدة حين يدعون إلى خلط الذكور بإِلاناث، وإلى إخراج المرأة للأسواق وامتهانها بين الرجال، مما يعرضها ويعرض المجتمع الإِنساني كله للفساد والانحلال ثم الانهيار، ومما يحقق أحلام الداعين لهذا المؤتمر في هجر تعاليم ديننا والتمرد على الصالح من تقاليدنا، إقتداءاً بالخلق الأمريكي المنحل، وسيراً في أعقاب تجاريب أثبت الواقع فشلها في حل مشاكل الناس في مَواطنها الأصلية التي ننقل عنها، بل لقد عَقّدت مشاكلهم وزادتها كما تدل عليه جداولهم الإِحصائية التي أثبتت اطراد الزيادة في النسب المئوية للانحراف والشذوذ وللجرائم على اختلاف ألوانها، وكما يصوره الواقع الملموس في انحلال أخلاق شبابهم، واستهلاكهم قواهم وملكاتهم في العكوف على الشهوات، وضعفهم عن حمل الأمانات والنهوض بالواجبات. لا أريد أن أخوض في تفاصيل ما ألقاه المؤتمرون في هذا المؤتمر لأقدم صوراً دقيقة مؤلمة مما ألقي فيه من بحوث، ولكني لا أستطيع أن أختم الكلام عنه دون الإِشارة إلى أن هؤلاء المدعوين الكبار من الوزراء ومن في مستواهم قد ظلوا في ضيافة المؤتمر أربعة شهور كاملة، بدأت بمحاضرة العضو اللبناني الأولى في نادي وست هول بالجامعة الأمريكية في 26 كانون الثاني (يناير) 1955 وانتهت بمحاضرة العضو العراقي في 26 أيار (مايو) 1955. وسيعجب القارئ للسخاء الذي أُنفقت به الأموال على هذا المؤتمر وأمثاله. ولست أدري أيزول عجبه أم يزداد حين يعلم أن مؤسسة روكفلر هي التي قامت بكل النفقات. ولكي يطمئن القارئ إلى صدق ما أقوله أنقل له السطرين الأخيرين من مقدمة حبيب كوراني رئيس دائرة التربية في الجامعة الأمريكية ببيروت حيث يقول: "إننا مدينون بالشكر أيضاً إلى مؤسسة روكفلر

(Rockfeller Brother's Fund) التي قدّمت جميع نفقات هذا المشروع". ولقد كان يكفي أن أقول منذ البداية: إن الجامعة الأمريكية في بيروت هي التي دعت إلى هذا المؤتمر، وأن جلساته عقدت في مقرها، وأن مؤسسة روكفلر هي التي تكفلت بكل نفقاته، لكي يغنيني ذلك عن كل تفصيل (¬1). وننتقل الآن من مؤسسة روكفلر إلى مؤسسة أمريكية أخرى سبق أن قدَّمتُ كتاباً من الكتب التي أخرجتها دولاراتها (¬2) وهي مؤسسة فرانكلين. أصدرت هذه المؤسسة فيما أصدرته من مطبوعات (¬3) سلسلة عنوانها (كيف نفهم الأطفال - سلسلة دراسات سيكولوجية). وأشرف على هذه السلسلة وقدم لكل كتاب من كتبها الدكتور عبد العزيز القوصي المستشار الفني لوزارة التربية والتعليم في مصر. والحديث في هذه السلسلة موجه إلى الآباء والمدرسين حسب ما هو مبين على غلاف كل عدد من أعداد هذه السلسلة، إذ رُسِم في أعلى الجانب الأيسر كتاب مفتوح، في إحدى صفحتيه "الطريق إلى حياة أفضل" وفي الصفحة الأخرى "علم النفس للآباء والمدرّسين". ويؤكد الدكتور القوصي هذا الهدف، إذ يقول في تقديم العدد الأول من أعداد هذه السلسلة الذي صدر في مارس 1954، وأعيد طبعه في أكتوبر 1955، مما يدل على الرواج الذي تلقاه هذه السموم الأمريكية، يقول في هذه المقدمة: "هذا هو الكتاب الأول في مجموعة من الكتب تهدف إلى توجيه الآباء والمدرسين إلى ¬

_ (¬1) من المعروف أن نلسون روكفلر المعاصر يهودي يتستر تحت النصرانية فهو عضو مؤسس في اللجنة (القومية المسيحية) التي وحدت صفوف اليهود الذين اعتنقوا المسيحية، والتي تساهم بالنصيب الأكبر في جمع النفقات التي تساعد اليهود على الهجرة من أوروبا إلى فلسطين. وجدّ هذه الأسرة الأول هو جوهان روكفلر اليهودي الألماني الذي نزح إلى أمريكا في أوائل القرن الثامن عشر. وقد أنفق ابنه جون روكفلر ملايين الدولارات في تأسيس الجمعيات والمنظمات اليهودية المختلفة في أمريكا. وكان من المتعصبين لِإحياء الامبراطورية اليهودية (أمريكا مستعمرة صهيونية ص 11، 12). (¬2) كتاب (الثقافة الإِسلامية والحياة المعاصرة) في جزء شعبان ورمضان سنة 1376 ويراجع في ذلك كتابنا (الإِسلام والحضارة الغربية) في طبعته الثالثة. (¬3) الكتب التي تخرجها هذه المؤسسه لمؤلفين أمريكيين كما هو معروف وهي مختارة اختياراً خاصاً يبرر إنفاق ما ينفق عليها من المال الأمريكي.

حياة أحسن من تلك التي يعيشونها. ولا نقصد بالحياة الأحسن أن تكون كذلك من الناحية المادية، وإنما هي حياة أحسن من حيث الأداء لرسالة الأبوة ورسالة التربية". فالمشرف على هذه السلسلة - وهو من كبار رجال التربية في مصر - يعرف أن هذه المؤسسة الأمريكية تهدف إلى توجيه الآباء والمدرسين. وهو يقر هذا الهدف وترضى نفسه أن يعين الأموال الأمريكية عليه، وهو يعرف - كما يعرف كل عاقل - أن الناس لا يصدرون فيما يأتون من أعمال إلا عن دوافع تدفعهم إلى العمل، وأن هذه الدوافع مهما تختلف وتتنوع فهي تشترك في أنها تحقق نفع الفرد أو الجماعة التي تنتمي إليها. فمن الواضح أن الفرد أو الجماعة لا تبذل الجهد والمال إلا فيما يعود عليها بالمنفعة. فليت شعري ألم يَرِدْ على خاطر الأذكياء الذين يشاركون في هذه الأعمال - كتباً كانت أو مقالات أو مؤتمرات - هذا السؤال الذي لا ينبغي أن يغيب عن البال: ما هو النفع الذي يعود على هذه المؤسسة، والذي يدفعها إلى بذل ما تبذله من جهد ومن مال؟ إذا لم يكن هذا السؤال قد ورد على أذهان هؤلاء الأذكياء فقد ورد على ذهني، وأظنه قد ورد على أذهان الكثير من الأذكياء وغير الأذكياء. وقد تكون الإِجابة على هذا السؤال طويلة، وقد لا تكون واضحة في أذهان الذين يتساءلون. ولكن من الأهداف الواضحة التي لا تخفي أن مثل هذه المشروعات تحقق أول ما تحققه توثيق الصلات بنفر من ذوي النفوذ وكسب ودهم وولائهم بالبذل السخي الذي يقدم في صورة مهذبة مؤدبة جداً. فهو لا يعدو أن يكون أجراً على مجهود قد بذل، وقد لا يكون هناك مجهود، وقد يكون المجهود تافهاً وصورياً. وقد يكون الأجر مضاعفاً أضعافاً كثيرة. ولكن المأجور لا يقول عادة إن الأجر كبير. وصاحب العمل مهذب رقيق يقدم عطاءه السخي في أدب جم وفي حياء (كأنك تعطيه الذي أنت سائله) - كما يقول شاعرنا العربي القديم زهير. وهدف آخر من هذه الأهداف الواضحة هو السيطرة على توجيه المجتمع، عن طريق هؤلاء الأصدقاء من أصحاب النفوذ وعن طريق المخدوعين بأسمائهم ممن يقرءون ما ينشرون، والذي ينشرونه ليس باطلاً كله، بل إن فيه حقا كثيراً، بل إن الباطل فيه يلبس ثوب الحق فيصعب على

غير الخبير الاهتداء إلى موضع الخطر فيه. ولكن بعض الأباطيل عارية لا تخفى ولاتلبس غير أثوابها، فمن هذه الأباطيل العارية ما جاء في العدد 12 من هذه السلسلة. وعنوان هذا العدد هو (الطفل والأمور الجنسية). وسأنقل في السطور التالية صوراً من هذه الأباطيل مكتفياً بهذا النقل عن التعليق. قدّم الكتاب في صفحتي 22، 23 مجموعة من الأسئلة في صورة اختبار يساعد الآباء - فيما يزعمه المؤلف - على تبين اتجاه الأبناء الخاص في وضوح وفي جلاء، وعلى تقدير ما تنطوي عليه تصرفاتهم من خطأ وصواب، وأثبت المؤلف الإِجابة الصحيحة المزعومة على كل سؤال من هذه الأسئلة في ذيل صفحة 23. ومن بين هذه الأسئلة السؤال رقم 6 ونصه وهو: "هل ترى في التعبير السافر عن المحبة ما ينبىء عن ذوق رديء أو ما يثير الحرج؟ ". والجواب الصحيح فيما يزعمه الكتاب الامريكي هو "لا". والسؤال التالي هو: "هل تعتقد أن المواقف التي تتضمن ناحية جنسية تثير الضحك؟ " والجواب الصحيح الذي أثبته الكتاب هو "نعم". وجاء في ص 46: "إن الكثير من الآباء اليوم لا يكترثون للظهور مجردين من الثياب أمام أطفالهم الصغار. وهذا أمر لم يكن يحدث في الماضي إلا نادراً، كذلك أصبحت أبواب الحمامات وغرفِ النوم تترك مفتوحة أحياناً فيرى الصغار أبويهم وهم يخلعون ملابسهم أو يرتدونها، فإِذا كان في وسع الآباء أن يفعلوا ذلك بصورةٍ طبيعيةٍ ودون شعور بالحرج أو الاضطراب فإِن ذلك يكون مراناً طبيعياً, لأنه يعوّد الطفل على الشعور بأن الجنس ليس أمراً مَشيناً، كما يساعد على إشباع فضوله فيما يتعلق بأجسام الكبار (¬1). وجاء في صفحة 60: "إذا حدث التجريب في النواحي الجنسية في الفترة الواقعة بين سن 8، 12 فمن المحتمل أن يقع بين أفراد الجنس الواحد، إذ نجد الصبية مثلاً يعرضون أعضاءهم التناسلية بعضهم على بعض، ويعتبر ذلك محاولة من الطفل لتحديد مدى مشابهته أقرانه. كذلك قد ¬

_ (¬1) أرأيت إلى الذين يريدون أن يعودوا بنا إلى الهمجية الأولى والجاهيلة الجهلاء، هل ترى كبير فرق بين مذهبهم هذا وبين مذهب الذين يمارسون العري في مدن العراة.

يلجأ البعض إلى ممارسة العادة السرية - كمحاولة لتخفيف ما يشعرون به من توتر جسمي وانفعالي - ومرة أخرى نقول: إن هذا السلوك لا يعتبر غير طبيعي، ولا يدمغ الطفل بالشذوذ أو الإِجرام أو الانحراف، كما أنه لا يستدعي عقابه أو تهديده بأنه سيصاب بأمراض خبيثة، ولا يتطلب محاضرات خلقية تلقى عليه، كما لا يبرر نبذه وتحقيره". وجاء في صفحتي 62 و63: "فبدلاً من فصل البنين عن البنات يجب علينا أن نعمل على إشراكهم معاً في الأعمال المتعة ومواقف اللعب، وأن نحاول مساعدتهم على تكوين مشاعر طبيعية مريحة نحو أفراد الجنس الآخر. وعلى الآباء تشجيع أطفالهم على المساهمة في نواحي النشاط المشتركة بين البنين والبنات مما تشرف عليه المدرسة والجمعيات الرياضية أو المراكز الاجتماعية. فهذا النشاط المشترك ليس "مواعيد غرامية" بل هو فرص لاشتراك البنين مع البنات في متع الرياضة وركوب الخيل أو الدراجات والسباحة وغير ذلك. وإذا حدث "استلطاف" بين بعض البنين والبنات فينبغي النظر إليه على أنه نوع من الصداقة وليس "غراماً" أو "عشقاً". والمعاكسات البريئة التي من نوع "مراد وسهير صديقان حميمان" قد تبعث في صداقتهما دفئاً كانا يفتقران إليه، وقد تولّد فيهما الشعور بأننا نتوقع منهما أن يسلكا مسلك الكبار". وجاء في صفحة 78: "إن خروج الفتيات في صحبة الفتيان من الأمور الطبيعية التي يستطيع معظم الآباء تقبلها - في الوقت المناسب على أي حال - باعتبارها جانباً من جوانب النمو الجسمي للمراهق". وجاء في صفحتي 87، 88: "في كل علاقة تقوم بين فتى وفتاة يشعر كل منهما في بعض الأحيان بدافع يحفزه إلى التعبير عن حبه وتقديره للآخر بلمسة أو ضغطة على اليد أو قبلة، والرغبة في الكشف عن المشاعر بهذه الطريقة والاستجابة لها أمر طبيعي". وأخيراً يقترح مؤلف الكتاب برامج للدراسة في مراحل التعليم المختلفة ويضع تحت كل برنامج من هذه البرامج ما يرى أنه خليق بالدراسة، ومن بين ما يراه خليقاً بالدراسة في برنامج "المواد الاجتماعية" (ص 104): "المعايير

الخلقية والأخلاق الحديثة، وأساليب المجتمع في تقرير الخطأ والصواب (¬1) " و"المركز الاقتصادي والقانوني للمرأة وكيف تأثر بتغير الظروف الاقتصادية في المجتمع وآثار هذا التغير على حياة الأسرة والزواج". ومن بين ما يقترحه المؤلف في برنامج (العلاقات العائلية) ص 105 - 106 "كيف تعرف أن ما تشعر به هو الحب؟ - كيف تختار رفيق حياتك؟ - فترة الخطوبة - العلاقات السابقة على الزواج ... الخ". ومن بين ما ذكره تحت عنوان: "النشاط غير المنهجي" ص 106 - 107 في بيان أهداف هذا البرنامج وأساليبه: "والغرض منها مساعدة الطلاب والطالبات على تنمية علاقات طيبة، يشرف على توجيهها المدرسون بصورة بعيدة عن الرسميات، وهي تتضمن: أندية الشباب - صحيفة المدرسة - جمعيات الهوايات والميول - التمثيليات - مجالس إدارة الطلبة - حفلات السمر والرقص". وجاء فيه أيضاً: "فمن حق الآباء أن يهتموا بمدى كفاءة الذين يقومون على تعليم أبنائهم وبناتهم الأمور الجنسية، فهم يريدون مدرّساً يستطيع تزويد التلاميذ بنظرة عامة عن الزواج والتكيف الجنسي، وقد يشعر البعض منهم أن خير من يستطيع ذلك هم المتزوجون والمتزوجات، ولكن ليس هناك ما يدل على أن هذا شرط ضروري، وإن كان له بعض المزايا". فإِذا لم تنفعك كل هذه النماذج فهاك نموذجاً من كتاب آخر أصدرته مؤسسة فرانكلين نفسها وأشرف على إخراجه وقدَّم له الدكتور القوصي أيضاً حين كان عميداً لمعهد التربية العالي للمعلمين بجامعة عين شمس، واسم الكتاب هو (كيف تتكامل الشخصية). جاء في صفحة 65 من هذا الكتاب: "إن جميع الحاجات الإِنسانية سواء كانت عضوية ينبغي إشباعها للِإبقاء على الحياة، أم اجتماعية يقتضي إشباعها أيضاً لتضمن عيشة راضية، أو جنسية تشتمل على الحاجتين الاجتماعية والعضوية - كلها ما هي إلا قوى دافعة إلى النشاط، تحض على ¬

_ (¬1) تأمل معي قوله: "الأخلاق الحديثة" وكأن في الخلق قدياً موروثاً جاءت به الأديان, وجديداً يخالف ما تواضعت عليه الأديان والمجتمع في تقرير الخطأ والصواب.

العمل بدلاً من مجرد التطلع أو التفكير فيه. وكلنا نعرف أنه عندما تستيقظ حاجة ما، سواء أكان نشاطها شعورياً أم لا شعورياً، فإِننا نحسّ بحالة من التوتر، وأن هذا الشعور يُفقدنا الهدوء والراحة، ويستفزنا للعمل على الحد من شدة هذا التوتر أو التخلص منه كلية، وعندئذٍ نعود إلى الهدوء مرة أخرى، أي إنه متى تم إشباع حاجة من حاجاتنا زال التوتر، وهذا القول يصدق على جميع الحاجات البشرية". وجاء في صفحة 72 تحت عنوان (المشاعر الجنسية مشاعر طبيعية): "ولنصور المسألة الآن تصويراً واضحاً، إن الطبيعة الجنسية ليست بالشيء الشاذ أو المشوّه، بل إنها الحياة الجنسية التي تقوم عليها الأسرة، تلك الأسرة التي تعتمد عليها ثقافتنا. والشيء الطبيعي الصائب أن يحب الفتيان الفتيات وأن تحب الفتيات الفتيان. والواقع أن أغلب المشكلات التي هي مصدر لشقاء شباب العقد الثاني من العمر ومن يكبرهم من إخوة وأخوات يمكن ردّها إلى الثقافة والمدنية التي نعيش فيها، أو على الأقل يمكن أن نقتفي أثرها في الاتجاهات السائدة في هذه الثقافة أو المدنية، وإنها لحقيقة على جانب عظيم من الأهمية أن الثقافات التي يتعلم النشء في ظلها الحقائق الجنسية في سن مبكرة وبطريق عرضي بحيث لا يكتنفها إبهام أو غموض لا يتعرض الأطفال ولا الشباب فيها لتلك المشكلات المألوفة في حياتنا وحياة أصدقائنا". ثم يقول بعد ذلك في صفحة 75: "فالشوق إلى القبلة أو بعض الغزل الرقيق أو الإِنصات إلى قصة فيها تلميحات جنسية - كل هذه ليست أموراً شائنة، فليهدأ الشباب بالاً، فليس كل ما يدور حول الجنس يدخل في باب المحرَّمات، ولعل كثيراً مما نكتبه كان ضحية سوء التوجيه". هذه نماذج من الآراء التي يشرف المستشار الفني لوزارة التربية والتعليم على ترويجها، فهل تجد فيها الكفاية لتعليل بعض ما يجري من حولنا في هذه الأيام؟ وبعد: فهذه الدعوات وأمثالها مما ننزعج له لأنه ينافي الدين والخلق القويم، وبما نسميه نحن بذاء أو فجوراً، ويسميه أصحابه (علمًا) ويضعونه تحت عنوان جميل اسمه (علم النفس)، ويُغْوون الناس باسم العلم فيما فشل

فيه التبشير والدعوات الهدامة طوال قرن من الزمان. نعم، هذا البذاء وهذه الدعوة السافرة إلى هدم الخلق ونقضه، والقضاء على الحياء الذي لا يقوم بغيره مجتمع ولا خلق ولا دين، وإشاعة الفاحشة بين خلق الله، تسمى عند الأمريكيين وسماسرتهم (علمًا). فقد كتب بالخط الفارسي الجميل على غلاف هذا الكتاب وعلى غلاف كل كتاب من كتب هذه المجموعة - وهي على اختلافها تشترك في الكلام عن الجنس والاهتمام به - "سلسلة دراسات سيكولوجية". والسيكولوجيا هي ما يترجمه الذين رزئت بهم هذه الأمة بـ "علم النفس". وعلماء النفس هؤلاء يبنون قواعدهم وقوانينهم على تجارب مهما يظنوا بها لدقة فهي معرضة للخطأ من نواح كثيرة، ومهما يظن الناس بها الأمانة فهي معرضة للتحيز، ولأن تكون أداة في يد أصحاب المذاهب السياسية والاقتصادية والدينية (¬1). إذ من الواضح أن هذه التجارب - مهما ادعى أصحابها شمولها - هي غير شاملة لأفراد الجنس الذي تُجرَي عليه. ثم إن نجاحها بعد ذلك يتوقف في كثير من الأحيان على صراحة الأفراد المستجوبين وصدقهم، وعلى أمانة الباحثين وبعدهم عن التحيز، وصحة إدراكهم لدلالات ما يشاهدون وما يحسون، وعلى توافر كل ما يستلزمه الحكم الصحيح من شروط، ومهما يحرص صاحب التجارب النفسية والاجتماعية على التنوع وعلى الشمول في اختيار الذين يُجري عليهم تجاربه، فليس هناك وسيلة للقطع بأن الأفراد الذين جرت عليهم التجارب أو الِإحصاءات يمثلون الجنس الذي ينتمون إليه تمثيلًا صحيحاً. ثم إن هذه التجارب محدودة بحدود الزمان والمكان. فهي تمثل جيلاً من الجنس الذي تجري عليه التجارب وليس هناك ضمان لصحة الحكم المستنبط بالقياس إلى الأجيال السابقة أو اللاحقة, لأن الحكم الذي يصلون إليه هو في أكثر الأحيان خاضع لظروف معينة مرتبطة بالمكان والزمان والملابسات. ومن الأهمية بمكان في مثل هذه البحوث أن نتأكد من نزاهة ¬

_ (¬1) راجع (الحرية والثقافة) لجون ديوى، ط. الجامعة العربية 1955 ص 40 - 41، خبراء النفوس للمليجي ط مصر 1956 ص 17 - 28، وراجع كذلك على سبيل المثال الفصلين الرابع عشر والخامس عشر من كتاب "ميادين علم النفس التطبيقية والعملية"؟. ط المعارف بمصر 1956 - ج 2 ص 523 - 626.

الباحث وأنه غير مسخّر لخدمة مذهب معين من المذاهب السياسية أو الدينية. فإِذا استوثقنا من ذلك كله بقي أن نستوثق من أنه غير واقع تحت تأثير آراء معينة تحيد به في تجاربه وفي استنباطه عن الحق، وأنه قد التزم الدقة والأمانة واعتصم بالصبر والأناة في هذه التجارب. من أجل ذلك كثرت مذاهب النفسيين والاجتماعيين وتعدّدت آراؤهم، وأصبح كل فريق منهم ينكر آراء الآخرين أشد الإِنكار ويسفهها أشد التسفيه. فما أكثر ما نشاهد بين النفسيين والاجتماعيين من خلاف، وما أعظم ما نجد بين مذاهبهم من تفاوت يبلغ حد الطرفين المتناقضين في كثير من الأحيان. والواقع أن بحوث النفس والاجتماع ليست علوماً بالمعنى الدقيق كما يتوهم كثير من المخدوعين بها، وجل ما توصف به أنها فروض علمية يحاول مفترضوها أن يعللوا بها بعض الظواهر النفسية والاجتماعية. ولو عرف هؤلاء المخدوعون ما تتعرض له من تغير دائم لا يستقر لعلموا أن من المجازفة الخطرة الهدامة أن نترك نصوص الدين الثابتة المسلَّمة إلى هذه الفروض المتغيرة التي ينقص بعضها بعضاً، وأن كل سند أصحاب هذه الدعاوى النفسية والاجتماعية الشاردة هو الظن الذي أضل مَنْ قبلهم من الكافرين، والذي وصفه الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم بأنه لا يغني من الحق شيئاً. وحقيقة الأمر في ذلك كله أن العقل ليس هو الأداة الصحيحة لبحث المسائل النفسية كلها, لأن النفس تدخل في عالم الغيب الذي لا يخضع لحاسة من الحواس، ولأن تقرير الخطأ والصواب في علم الأخلاق يحتاج لمعرفة العلة الأولى والهدف الأخير، ونحن لا نعرفهما في هذه الحياة الدنيا أو فيما وراءها. من أين جئنا وإلى أين نصير؟ وهل ذلك الذي يبدو ضاراً في اللحظة الراهنة يمكن أن يكون نافعاً في مستقبل الزمان قريبة أو بعيدة - والقرب والبعد في الزمان مسألة نسبية؟ وهل يمكن أن ندرك وجهاً من وجوه النفع فيه لو أتيح لنا معرفة ما غاب عن علمنا من بعض الظروف الملابسة له في الماضي أو الحاضر أو المستقبل؟ (وقصة العبد الصالح مع موسى عليهما السلام في سورة الكهف من أروع الأمثلة لتصوير هذا القصور البشري في إدراك الخير والشر).

هذا إلى أن عجز الحواس البشرية أصبح شيئاً محسوساً ملموساً تؤيده التجربة العلمية الآن. فالعين البشرية مثلاً ينحصر مدى إدراكها فيما بين الوجات الضوئية التي طولها 0.00007 والموجات الضوئية التي طولها 0.00004 من السنتيمتر، وهي الموجات المحصورة بين اللون الأحمر واللون البنفسجي، وهي لا تدرك بعد ذلك شيئاً مما فوق البنفسجي، ولا تدرك شيئاً مما تحت الأحمر. وقُلْ مثل ذلك في حاسة السمع وفي سائر الحواس. وإذا ثبت قصور الحواس فقد ثبت قصور التفكير البشري المبني على مشاهدات هذه الحواس. فالتجارب والإِحصاءات إذن ليست هي الوسيلة الصحيحة لتقرير الحقيقة في مذاهب الناس وسلوكهم, لأنها محدودة بحدود الزمان والمكان والحواس. ولذلك لم يكن هناك مندوحة من الاستناد في التنظيم الاجتماعي والتقنين التربوي الخلقي إلى الشرائع السماوية, لأن موضوعها هو هذا التنظيم وجمع الناس عليه. أما العقل فميدانه المسائل المادية الخالصة كالهندسة والكيمياء، وكل ما اصطلح الغربيون في هذا العصر على تسميته بالـ (Science) ـ (¬1) لذلك لم تنزل الشرائع والأديان السماوية إلّا بما يدخل في عالم الغيب مما يتصل بالسلوك الذي يترتب على إدراك الخير المطلق والشر المطلق، لأن العقل البشري عاجز بطبيعة تكوينه عن إدراكه، ولو أخذ فيه لخبط في أودية من الظن والوهم الذي لا يستند إلى دليل، ولاختلف الناس فيما بينهم اختلافاً شديداً لا يجتمعون معه على رأي ولا يلتقون عند غاية. وقد ترك الدين بعد ذلك للعقل أن يسرح ويمرح كيف شاء فيما هو صالح له من ميادين البحث والمعرفة. فلم ينزل نبي من أنبياء الله بنظريات في الهندسة أو في الطبيعة أو الكيمياء - إلّا ما يكون من ذلك على سبيل إظهار العجزة - لأن ذلك من شأن العقل، وهو مهيأ له. ¬

_ (¬1) على أن العقل لا يستطيع في كل هذه العلوم إلّا إثبات مشاهدات. وهو بعد ذلك عاجز عن معرفة حقيقة أي شيء. فالفاصل بين الِإنسان والحقيقة - كما يقول العالم الأمريكي المعاصر لنكولن بارنت - قد اتسعت فجوته بعد أن اتضح عجز حواس الإِنسان. فعلماء الطبيعة مثلاً يمكنهم أن يصفوا كيف تعمل الأشياء، ولكنهم لا يعرفون ولا يحتاجون أن يعرفوا حقيقة هذه الأشياء (راجع "العالم وأينشتين" - رقم 154 سلسلة "إقرأ" - داى المعارف. ص 34، 38، 39، 67).

أما ما وراء ذلك من عالم الغيب الذي لا يخضع لمشاهدته وحسه فهو خارج عن حدود طاقته وقدرته بحكم فطرته التي فطره الله عليها. وذلك هو معنى قوله تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)، لأن الله سبحانه وتعالى حين علم عجز العقل وقصوره أرشدنا فيما هو خارج عن حدوده إلى ما فيه صالحنا رحمةً بنا. وذلك أيضاً هو السبب في جعل التسليم لحكمة الله والانقياد لأوامره ولزوم حدوده هو الأصل في التدين وهو الخطوة الأولى فيه: (إن الدِّينَ عندَ اللهِ الإِسلام). والمثل المضروب لذلك في القرآن هو قصة أبينا إبراهيم، إذ أُمر أن يذبح ابنه فانقاد للأمر هو وابنه دون أن يعرفا وجه الحكمة فيه أو يسألا عنه، فحققا بذلك ما أراد الله سبحانه من اختبارهما: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} الصافات 103 - 105. جمع الدين الناس على قِيَم الخير ومُثُله، وهي قِيَم موحدة متفق عليها، ثم جاء هؤلاء الباحثون باسم علم النفس والاجتماع ففرقوا الناس ومزقوا وحدتهم وشكّكوهم في قِيَمهم، ثم لم يستطع واحد منهم أن يجمعهم على مذهبه بعد أن فرّقهم في الدين، ولم يستطيع واحد منهم أن يقدم البرهان الحاسم على صدق مذهبه، فماج بعض الناس في بعض، وبغى بعضهم على بعض، وأصبح العلم والمعرفة عامل فرقة وفساد وإنحلال بدل أن يكون عامل سعادة ووئام، وأصبح كل مجرم لا يعدم سنداً له في تبرير دوافعه إلى الإِجرام من قواعد علم النفس المزعوم، الذي يتعقب كل ما أجمعت الأديان والأخلاق على أنه فضيلة بالنقض والتسفيه، وكأن وظيفته هي تسفيه الفضائل وتبرير الجرائم. وليس يُفهم من ذلك كله أننا ندعو إلى مصادرة البحوث النفسية والاجتماعية والأخلاقية، فذلك ما لا يدعو إليه عاقل يؤمن بنعمة العقل والتفكير، ولكن الذي ندعو إليه أن ندرك حق الإِدراك مدى طاقتنا العقلية والفكرية، فنقيِّد أنفسنا في هذه البحوث وأمثالها مما يتصل بعالم الغيب - والتقنين الخلقي جزء منه - بقيود الدين، نلتزم حدوده ولا نعتسف الطريق حتى لا نتعرض للضلال والهلاك. فنحن إذن لا نعطل العقل، ولكننا نحفظه

من الضلال، ونلزمه أصولاً وقواعد هي كالسور الذي يعصم السالك في الظلام من التردي في الهاوية، وهي مثل قوانين المنطق التي لا يعتبر التزامها حداً للتفكير ولكنه عصمة له، وهي مثل الدستور الذي لا يعتبر تقيد المشرِّعين به في كل ما يشرِّعون حداً من سلطتهم ولكنه ضمان لهذه السلطة أن لا تزيغ عن القصد عن علم أو عن غير علم. ونحن إن احتجنا إلى الاستفادة من خبرة الغرب وتفوقه في الصناعات الآلية التي كانت سبباً في مجده وسيادته، فمن المؤكد أننا في غير حاجة إلى استيراد قواعد السلوك والتربية والأخلاق التي تدل الأمارات والبوادر على أنها ستؤدي إلى تدمير حضارته والقضاء عليها قضاء تاماً في القريب العاجل. إننا نحتاج إلى مواد البناء, لأن لدينا من عوامل الضعف والهدم ما يكفي. ومع ذلك كله تجد فينا من لا يُصيخون السمع إلى صوت الدين، وهم يلحدون في آيات الله فيميلون بها عن وجهها حيناً ويجادلون فيها أشد المجادلة حيناً آخر، ولكنهم يخضعون لهذه المزاعم الداعرة ويرونها فوق النقاش واِلمراء. هؤلاء قوم لا تقوم عندهم الحجة بالقرآن، ولكنها تقوم بهذه الظنون والأوهام. فإِذا عارضتهم بالثابت من قول الله سبحانه وتعالى - وهم يزعمون أنهم مسلمون - لَوَّوا رؤوسهم وقالوا: نحدثك في العلم فتحدثنا في الدين؟ كأن هذه الأوهام أثبت عندهم من القرآن، أترى فرقاً بين هؤلاء، وبين أمم قد خِلت من الضالين كانوا يقولون إذا ذكّروا بآيات الله: {قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ}

في الفن والثقاقة

في الفَنّ والثقَاقة

حصوننا مهددة من داخلها

حُصُوننَا مُهَدَّدة مِن دَاخِلهَا* تعددت مصادر الثقافة في عصرنا وتنوعت ألوانها، فلم تعد المدرسة وحدها هي المصنع الذي يُصنَع فيه الرجال وتصاغ الأجيال. فقد أصبح ينافسها في هذا الميدان كثير من القوى الجديدة التي ولدتها المدينة الحديثة، ينافسها في ذلك المطبعة بما تخرجه من كتب ومن صحف ومن نشرات، وتنافسها فيه الإِذاعة بما توجهه من كلمات وألحان في مختلف الصور والألوان، وتنافسها فيه السينما بما تجسمه لوحتها الخداعة من حكايات وما تَعْرِضه من فنون وشؤون، وتنافسها ألوان أُخرى أقل أهمية، مثل المحاضرات والندوات والمسامرات والمؤتمرات، التي تعقد في الأندية وفي المواسم بمختلف صورها وفي الجماعات، ومثل شركات تسجيل الأغاني، ودور اللهو والتمثيل. كل هذه الألوان من مصادر الثقافة في عصرنا تبين أن وزارة التربية والتعليم لم تعد وحدها في هذا الميدان، وأنها لا تستطيع أن تنهض بعبئها ما لم تجد عوناً يشد أزرها من كل هذه الأدوات الضخمة. ومن العبث الساخر والجهد الضائع أن تنفق هذه الوزارة ما تنفقه من جهد ومن مال بينما الأدوات الأُخرى تتعقب جهودها وآثارها، تنقض ما أبرمته، وتشكك فيما قررته، وتدعو إلى ما حذرت منه وحرّمته، وتقيم للناس مُثُلاً وتبتدع لهم طرائق وعادات مما تقترحه أو تختلقه، هي على نقيض ما تريد المدارس أن تزرعه وأن تؤسسه في أخلاق النشء، وتصرف القراء عن الجد من القول إلى الهزل، ¬

_ (*) نشرت في عدد ربيع الأول وربيع الثاني سنة 1377 من مجلة الأزهر.

وعن النافع المثمر إلى التافه الغث، فتخلق أمزجة فاسدة باردة لا تجد لذة ومتاعاً إلّا في الساقط من القول واللهو من الحديث. من الواضح أن الدولة التي تنفق أموالها وتستهلك جهودها وقواها في إنشاء المدارس وفي إعداد القائمين عليها وفي إحكام نظمها وبرامجها وألوان النشاط فيها، ثم تسهو بعد ذلك عن هذه القوى الخطيرة التي تشاركها في هذا الميدان، فتترك سبلها ومنافذها مفتوحة لشهوات المأجورين والمخدوعين ومطايا الشياطين من الفاسدين والفسدين، تفعل ذلك تقديساً للوهم الذي أقامته الثورة الفرنسية اليهودية وزخرفت له اسمًا خداعاً خلاباً فسمته "حرية الرأي" أو "حرية النشر" أو "حرية الفرد"، وما هو في حقيقة الأمر إلّا وسيلة اليهودية العالمية لإِفساد الجماعات وهدم كل الأديان، حتى يتمكنوا من السيطرة عليها جميعاً بعد أن يقضوا عليها قضاء مبرماً (¬1). إن الدولة التي تفعل هذا هي كالنافخ في قِرْبةٍ مقطوعة، أو الجابي في حوضٍ مثقوب. وقد أُنشئت وفي مصر وزارة للإِرشاد القومي نرجو أن يكتب لها التوفيق فيما تنهض به من عبء ليس بالهين ولا بالقليل. وواضح من اسم الوزارة أن ¬

_ (¬1) أكثر الناس يجهلون أن شعار الثورة الفرنسية اليهودية: "الحرية والإِخاء والمساواة" هو من وضع مجمع بوردو الماسوني. وهو شعار لم يخدم إلّا الأقلية اليهودية. إذ سمح لسماسرتها بنشر الفساد، وأعانها على هدم سلطة الكنيسة وتقويض كل القيم، باسم الحرية. وحماها في الوقت نفسه من تعصب المسيحيين على الأقلية اليهودية التي تستأثر بالسلطة عن طريق المال، باسم الإِخاء والمساواة. ومن أعجب ما يخضع له الناس من أوهام، مما روجه اليهود، تسمية الصحافة. "صاحبة الجلالة". وإحاطتها بهالة من القداسة تسمح لأي مدسوس على قومه، أو فاسق مريض القلب واللسان، أن يلفق من الأضاليل ما يريد وما يراد له، وأن يدسها على عقول السذج من الأحداث والأغرار، والحمقى من ضعاف العقول، باسم العلم والثقافة والحرية والتمدن، ما دام قادراً على تأثيث دار للصحافة، بماله أو بمال غيره. وسيطرة التنظيمات اليهودية على الصحافة العالمية وعلى وسائل النشر ووكالات الأنباء مشهورة معروفة. فرواج هذا الوهم بين الناس باسم "حرية الرأي" هو أكبر ما يمكن للدعاية اليهودية ويدعم سلطانها، حتى يصبح سوطاً يلهب ظهر كل حر، ومقراضاً يقطع عرض كل ذي خلق أو دين؛ ويجعله سخرية الساخرين وأضحوكة اللاهين، في الوقت الذي يمكِّن فيه للمفسدين والفارغين من الظهور، حتى يصبحوا ملء العيون والآذان، فلا يرى الناس إلّا صورهم ولا يسمعون إلّا أصواتهم، ولا يصبحون ويمسون إلّا في أخبارهم وأقوالهم.

مهمتها هي الإِرشاد، أىِ الهداية التي تنقذ من الغَيِّ والضلال، وتهذب الطبائع والخصال. فليس من عملها أن تستجيب لأهواء الناس وتتبعهم فيما يشتهون, لأنها تقود ولا تقاد، ولأن مهمتها - كما يدل عليها اسمها - هو الإِرشاد، وليس التسرية ولا التلهية والترفيه، وإن كان بعض ذلك قد يُتخَذ وسيلهَ للإِرشاد، فلا يكون مقصوداً لنفسه، ولكنه وسيلة لما انتدبت له هذه الوزارة الخطيرة من أمر. ثم إن هذا الإِرشاد محدود بحدود، مقيد بقيود، فهو إرشاد قومي، أي أنه يخدم هدفاً معيناً هو خدمة قوم بعينهم، لهم دين معروف ولهم قيم خلقية واجتماعية محددة مقررة، ولهم سياسة ومصالح رسمتها الدولة في دستورها وفي قوانينها. فإِرشاد هذه الوزارة إذن هو في حدود واضحة بينة المعالم والمناهج، وليس متروكاً لشطحات الشاطحين ونزغات النازغين من كل ذي هوى يزعم أن ضلاله هو عين الرشاد، ويضع للهداية وللإِرشاد مقاييس لا يدري أحد من أين جاء بها، ويعّرف الخير والجمال تعريفات ينكرها ديننا وخلقنا، ويسوق القول في مضايق ومآزق تعارض ما رسمت الدولة لنفسها من سياسة وما رضيت الأمة لنفسها من دستور. ومع ما يدل عليه اسم الوزارة من معنى محدَّد يرسم منهجها بما لا يكاد يحتمل لبساً أو غموضاً فالمتأمل فيما يخضع لها من مصالح وأقسام وإدارات يجد عجباً فيما يمر به من متناقضات، يخيل إليه معها في كثير من الأحيان أن مخالفة المنهاج أمر مقصود من فاعليه، لم يتورطوا فيه عن خطأ أو نسيان. خذ لذلك مثلاً من الإِذاعة. فالسياسة التي تجري عليها هي إشباع الشهوات لا الإِرشاد، وهي في كثير مما تهز به أجواء الأرض من كلمات أو أصوات تُفسد ولا تصلح، وتغوي ولا تهدي، وتحتاج للمرشد مع أن مهمتها هي الإِرشاد. فقصصها المسلسلة مثار للفزع الذي يقلق النفوس ويسقم الناشئة ويجنح بطبائعهم إلى الانحراف، بما يدور حوله سياقها من جرائم تظهر عتاة الأشقياء في مظهر الأبطال، وبما تعرضه من نماذج لنفوس فظة مريضة، وبما توحي إلى أبنائنا وبناتنا من سلوك منحط سافل يتحدى خلقنا الإِسلامي بما تزوره وتزيفه من مبتكرات الوهم الكبير الذي يسمى "علم النفس"، وبما تقدمه هم من نماذح لأساليب الكتابة والخطاب في أحاديث

الغرام ورسائله وتأوهات المغرمين والمغرمات، وتماوت المتهالكين والمتهالكات من الممثلين والممثلات، وبما تحدث من تفكك هدَّام في كيان الأسر، حين تنزل ضيفاً ثقيلًا على كل بيت، وتفرض نفسها سلطة ثانية إلى جانب سلطة الوالدين، بل تفرض نفسها رقيباً عليهما، إذ تصحح تصرفاتهما، تمحو منها ما تشاء وتثبت ما تشاء، وتصورهم أمام أبنائهم وكانهم ينتمون إلى جيل رجعي لا بد أن يعدل عن آرائه الجامدة أو يتحطم أمام سيل التطور الجارف. وذلك في الوقت الذي تغذِّي فيه سخط الأبناء وتمردهم المتزايد الذي ينمو يوماً بعد يوم. وقد يكون تأثير مثل هذه الحكايات الملفقة والحوادث المصنوعة ضعيفاً على كبار النفوس وناضجي العقول من ذوي التجربة والمثقفين, لأنهم لا يندمجون فيما يسمعون، فهم دائما على ذكر من أن الذي يسمعونه هو مجرد أوهام لا تمت للواقع بصلة. ولكن الشباب والأطفال وضعاف العقول لا يفرقون بين ما يسمعون في الإِذاعة وبين ما يشاهدونه في الحياة، ولا يميزون بين القصة التي يشاهدونها على لوحة الخيالة وبين واقع الأمر في الحياة. فهم يندمجون اندماجاً كاملًا فيما يرون وما يسمعون من ذلك كله، فتجذبهم الأحداث إلى الهياج تارة وإلى البكاء تارة أُخرى, وتنطبع آثارها في نفوسهم فتصبح جزءاً أصيلاً من مشاهداتهم وتجاربهم، بل إنها تصبح آصل من كل ما شاهدوا وما جربوا لا يحيطها من عوامل الإِغراء والإِقناع والتأثير التي افتن فيها مخرجوها وبلغوا في ذلك أقصى الطاقة والجهد. فإِذا انتقلنا من القصص إلى البرامج على اختلاف أسمائها سمعنا أسئلة توجه إلى الريفية الساذجة وإلى "بنت البلد" الحافظة عن العشق والغرام تطمئننا إجاباتها إلى تقدم المرأة المصرية بعد أن زالت عنها أعراض (داء) الحياء القديم. كما نسمع نصائح من المخمورين والحشاشين وعُتقَاء السجون، ونسمع خلال ذلك أبغض الأغاني إلى أصحاب الطبائع السليمة المستقيمة مما يطلبه هذا الحشد الذي لا أدري أهو مصنوع، أم أن الصدفة وحدها هي التي ألفت بينه وجمعته. وإذا أرادت الإِذاعة أن تسري عن سامعيها وتذهب عنهم ما ألم بهم من

الملل، من آثار ذلك (الجدّ) الذي عرضنا بعض نماذجه، أسمعونا في "ساعة لقلبك" - وما أظن أن القلوب المقصودة بالخطاب إلّا قلوب الفارغين والغافلين - سيلاً من الشتائم النابية، والمهارشات الفظّة الهابطة، التي لا ترعى حرمة ولا تعف عن لفظ، ورأينا تسفلاً إلى أحط المستويات الخلقية والاجتماعية، تقدمه هيئة كان يُظَن أن مهمتها هي الارتفاع بالمتخلفين إلى مستويات فكرية أرقي، وليست هي النزول بالمستمعين إلى مستواهم. وأعجب ما يحتج به القائمون على هذه البرامج وعلى غيرها من ضروب التلهية شيء جديد من مبتكرات هذا العصر، أفتتن به القرود المقلدون أيما افتتان، ورصدت له مصلحة الفنون ومجلس الآداب شطراً كبيراً من جهودهما، اسمه "الفولكلور". والفلكلور (Folklore) اصطلاح ظهر في أوروبا في منتصف القرن الميلادي الماضي ليدل على الدراسات التاريخية التي تتصل بعادات الشعوب وتقاليدهم وطقوسهم وخرافاتهم وأساطيرهم ومعتقداتهم وفنونهم وما يجري على ألسنتهم من أغان أو أمثال أو شتائم أو مَرَاثٍ أو أهازيج. يُدْرسُ ذلك كله من خلال الآثار والعاديات، كما تُستقصَى آثارُه الباقية في الجماعات البشرية المعاصرة. وقد انصرفت هذه الدراسة في أكثر الأحيان إلى المجتمعات المتخلفة وإلى المستعمرات، بقصد التعمق في تحليل نفوس أصحابها وإدراك دوافعها ونوازعها، وفهم ما ينتظم عواطفها وتفكيرها من منطق، بغية الوصول إلى أمثل الطرق وأحذق الخطط للتمكن منهم واستغلالهم واستدامة عبوديتهم (¬1). ولما استولى علينا حب التقليد للأجنبي في الشر والخير، كان من بين ما ابتُلِينا به أننا أصبحنا لا نُعجَب بأثر من آثارنا أو عادة من عاداتنا حتى نسمع تقريظ الأجنبي لها فنقرظها تبعاً له، أو نرى اهتمامه بها وعنايته بدراستها فندرسها اقتداء به. وقد ظلت "ألف ليلة وليلة" دهوراً لا يكترث لها إلّا السوقة والفارغون وأصحاب المجنون، حتى رأينا الأجانب يترجمونها ويوهمون الناس أن حياة الشرقيين ليست إلّا صورة مما تسوقه أقاصيصها، فتنبه باحثونا عند ذلك ¬

_ (¬1) كذلك نشأت هذه الدراسات في أول أمرها، وإن كان هذا لا يمنع من أنها قد امتدت في السنوات الأخيرة إلى دراسة المجتمع الأوروبي في مختلف البلدان والبيئات.

لها، وتناولتها أقلامهم بالدراسة والتنقيح والتهذيب والاقتباس. وكذلك كان شأننا مع دراسات "الفولكلور". ولما كنا نجهل أهدافها الحقيقية الأولى ظننا أن المقصود هو الإِشادة بهذه الألوان الشاذة حيناً، والبذيئة حيناً آخر, والمتخلفة تارة أُخرى، فاتجه همنا إلى الدفاع عنها وتمجيدها، والمحافظة عليها وتجميدها، بزعم أنها طابعنا القومي المميز الذي لا ينفك عنا ولا ننفك عنه. وكثر خلط المخلِّطين وتهريج المهرِّجين باسم الشعب والشعبية. وأصبح الداعي إلى الترفع عن الشناعات والبذاءات وقبيح العادات وساقط الأساليب والفنون يُتهم عند سفهائهم بعداوة الشعب وبالترفع عن عامة الناس وبأنه من بقايا الإِقطاعيين والأمراء والباشوات أو من خدامهم في العهد البائد. وأصبح قصارى ما ينضح به أحدُ هؤلاء عن نفسه وما يتخذه من حجة إذا عارضك فيما تبينه من الحرام والحلال، وما تضعه من الحدود بين المحظور والمباح، أن يسوق إليك جملًا من عادات بعض الجهال أو مذاهب الفراعنة. يعارضون بذلك الإِسلام، كأن الفرعونية دين أو مذهب خلقي، وليست مجرد عصر تاريخي يجوز عليه الفساد والضلال. وكأن عرف الجاهلين والدهماء تنزيل يُعارَض به التنزيل، ومثَل أعلى يحُمل عليه ناشئةُ هذا الجيل. وأكثر ما كان هذا الشطط في مذاهب دعاة العزلة والانفصال الذين كانوا يعارضون الإِسلام والعروبة بالفرعونية في الفترة التي تلت إلغاء الخلافة الإِسلامية بعد الحرب العالمية الأولى. فقد كان يزعم هؤلاء الغلاة من الانفصاليين والهدامين أن تغير الدين في مصر من الوثنية إلى المسيحية ثم الإِسلام، وتغيير الكتابة واللغة فيها من الهيروغليفية إلى العربية لم يقطع ما بين مصر الحديثة وبين مصر القديمة من صلات. وكانوا يحتالون لرد حياتنا المعاصرة في مختلف مظاهرها إلى أصل فرعوني قديم، ويَدْعون إلى أن تقوم نهضتنا على بعث المجد الفرعوني القديم مثلما قامت النهضة الأوروبية الحديثة على بعث التراث اليوناني والروماني في عصور الوثنية السابقة على المسيحية. ومن هنا كان اتصال هذه الجماعة من المارقين الموكلين بتفريق شمل جماعة العرب والمسلمين بما يسمون "الدراسات الشعبية" أو "الفولكلور"، إذ دعوا الأدباء والكتاب إلى البحث عن مواضع الاتصال بين مصر القديمة ومصر

الحديثة في ميادين الأدب وكتب العقائد وطقوس العبادة وموروث التقاليد والعادات في شتى نواحي الحياة، كما دعوا إلى إنشاء أدب خاص وفن مستقل في التصوير والنحت والموسيقى، يتميز بطابعه المصري المحلّي. وقد وصف أحدُ دعاة هذا المذهب وقتذاك الأدب الذي يعنيه بأنه (مستقل عن آداب الشعوب الشرقية الأخرى الناطقة بالضاد) لأن (اللغة العربية ليست لغة شعب فحسب، بل هي لغة شعوب وأمم عدة تنطق وتكتب بها. فنحن في حاجة إذن إلى تقريب هذه اللغة إلى أذهاننا لتعبر عن خواطرنا, وليس أدل على ذلك من ضرورة خلق أدب قومي تكون لنا غيرة عليه، ويكون في استقلاله بعيداً عن كل المؤثرات التي تجعله اشتراكياً محضاً). ولم يكن هؤلاء يخفون أنهم متأثرون بالأوروبيين شرقيهم وغربيهم في دعوتهم هذه، ولم يكونوا يتحفظون في دعوة أنصارهم إلى الاستفادة بكل ما جمعه الأوروبيون وما ألفوه في هذا الباب. وكانوا يجاهرون باتخاذ القدوة من اللغات الأوروبية الحديثة التي نشأت على أنقاض اللغة اللاتينية، حين كانت هي اللغة التي يكتب بها الشعر والنثر والقصة والأدب في أوروبا كلها (ولكن شعور كل شعب بقوميته واعتزازه بوطنيته واعتداده بنفسه، حدا به إلى أن يتحرر من إسار اللغة اللاتينية وإلى أن يكون مستقلاً في آدابه عنها، موحداً جهوده في سبيل تهذيب لغته وطبعها بطابع قومي خاص له روعته وجماله). وفي سبيل تحقيق هذا المثال كان هؤلاء يقولون: (إن واجبنا هو أن نبث في الشعب روح القومية وروح الإِنتاج المحلي) وأن (أول ما نولي وجوهنا، فليكن شطر الأدب الفرعوني قبل كل شيء فهو تراث الآباء والأجداد ... فإِن لم يكن للكاتب ملكة ينميها أو وجدان يستمده من الأدب الفرعوني فليول وجهه شطر الأدب الريفي). وكان دعاتهم لا يملون من تأكيد أن (الأدب المصري الذي نعنيه هو أدب محلي يصور الحياة المصرية والقومية المصرية وحدهما، فلا نعني به أدباً شرقياً، كما أبهم على بعض الكتاب الأفاضل، يتناول حياة الشرق العربي أو البلاد الشقيقة المجاورة). وكانت هذه الجماعة التي تتخذ (السياسة الأسبوعية) لساناً لها تريد أن تكون (جماعةً تقتصر على الكتّاب الناشئين، تُعنى بتهذيب ملكاتهم وجعلهم

أكثر إنتاجاً وأكثر استقلالاً في الفكر واعتماداً على أنفسهم وعلى مصريتهم). وكانوا يتخذون الدكتور هيكل رئيس تحرير تلك الصحيفة قدوة لهم، ويشيدون بقصة له ظهرت وقتذاك تحكي عن الريف ويجري الحوار فيها بالعامية، وهي قصة "زينب" التي كانت أول ما ظهر على لوحة الخيالة من الإِنتاج المصري حين كانت صورها صامتة، وكان من بين ما يقترحونه من الوسائل إلى خلق هذه الروح المصرية في النشء (توجيه المسرح المصري إلى الناحية القومية وجعله مسرحاً مصرياً روحاً وقوة وإنتاجاً، والعناية بالأناشيد القومية وجعلها تصور على قدر الإِمكان أماني المصريين وآمالهم، والعناية بالأدب الفكه والأدب الريفي) (¬1). ولعل هذا القدر الذي قدَّمته كاف في توضيح خصائص هذه الدعوة والكشف عن خطورة أهدافها، التي لا تخدم إلَّا مطامع الاستعمار، الذي يتوسل إليها في البلاد العربية وفي العالم الإِسلامي بتقطيع أوصالها وبث روح التنافر والتدابر والتقاطع بين أفرادها وجماعاتها، استدامةً للوضع الراهن الذليل الذي كانت فيه، وتحاشياً لاتحادها الذي يؤدي إلى قوتها وتمردها على هذا الوضع. وقد أشرت في مقال سابق إلى أهداف الأوروبيين والأمريكيين من الدعوة إلى إحياء الحضارات السابقة علي الإِسلام، تلك الدعوة التي ظهرت في وقت واحد في كل من تركيا ومصر والشام والعراق وشمال أفريقية وفارس والهند وأندونيسيا. وكان مظهرها في كل هذه البلاد واحداً وكانت أساليبها متشابهة (¬2). ¬

_ (¬1) لمن شاء التوسع في ذلك أن يعود إلى صحيفة (السياسة الأسبوعة) في أعداد 27 نوفمبر سنة 1926، 17 ديسمبر سنة 1927، 7 يناير 1928, 18 يونيه 1930، 12 يوليه سنة 1930، 19 يولية 1930. وعناوين المقالات المشار إليها مرتبة حسب التواريخ السابقة هي: (مصر الحديثة ومصر القديمة)، و (الفن المصري) , و (هل من خطوة جديدة في سبيل الفن الصرفى)، و (دعوة إلى خلق الأدب القومي) , و (في سبيل الدعوة إلى الأدب القومي)، و (دعوة الأدب القومىِ). وإلى الفقرة 3من الفصل الثاني في الجزء الثاني من (الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر) لكاتب هذه السطور. (¬2) راجع مجلة (الأزهر) في جزء رمضان سنة 1376 - ص (816 - 818). تحت عنوان (الثقافة الإِسلامية والحياة المعاصرة). والمقال منشور في كتابنا (الإِسلام والحضارة الغربية).

ومن الواضح أن ألاعيب الاستعمار في هذا الباب قد انكشف أمرها ولم تعد تخفى على ذي بصر. فقد تنبهنا إلى ما يراد من تفريق شمل العرب والمسلمين، كما بصّرتنا التجارب الأخيرة بما يمكن أن يعود على ذلك المجموع العربي والإِسلامي من خير نتيجة لتضامنه واتحاده. فكل ما يقصد إلى زيادة هذا الاتحاد قوة فهو صادر عن باعثٍ خيرِّ يستهدف صالح ذلك المجموع. وكل ما قصد إلى توهين هذا الاتحاد وبثّ روح الفرقة والعصبية القبلية والشعوبية الجاهلية بين أفراده فهو لا يخدم إلَّا أهداف العدو ولا يورثنا إلَّا الضعف. ومن الواضح البينّ أن هذه الدعوات الشعوبية قد أصبحت تخالف دستورنا مخالفة صريحة تُوقِع أصحابها تحت طائلة العقاب. فلم يعد هناك مجال للكلام عن الفرعونية التي تَعتبِر العرب دخلاء بعد أن قررت المادة الأولى من الدستور أن (مصر دولة عربية) وأن (الشعب المصري جزء من الأمة العربية)، ولم يعد هناك مجال للكلام عن (الفولكلور) المصري القديم أو الحديث والدعوة إلى إقامة حياتنا وفنوننا على أساسه، بعد أن نصت المادة الثالثة من الدستور على أن (الإِسلام دين الدولة) تم نصت المادة الخامسة على أن (الأسرة أساس المجتمع، قوامها الدين والأخلاق والوطنية). فنظام مجتمعنا لا يستمد مقوِّماته إذن من ذلك (الفولكلور) قديمه أو حديثه، ولكنه يستمدها من ديننا الِإسلامي ومن أخلاقنا الإِسلامية ومن وطنيتنا العربية. ولكن العجب الذي لا يشبهه عجيب أن هذه الدعوة التي قَتَلَ الدستورُ جراثيمها واستأصل سرطانها الفتاك قد أطلت برأسها من جديد تلتمس الحياة في صحيفة "المجلة". ويكفي أن تراجع العدد الأول من هذه الصحيفة لكي تتبين أن العصبية الشعوبية والفرعونية الجاهلية تسيطر عليها سيطرة كاملة، وأنها تتجاهل تجاهلًا كاملًا أنها في بلد عربي أو إسلامي. فهي تكاد تخلو من المواضيع الِإسلامية أو العربية، وهي مطبوعة بطابع شعوبي انفصالي يتحدى دستور الدولة, لأنه يتحدث عن العرب بوصفهم غزاة دخلاء في بلد تنص

المادة الأولى من دستوره على أنه عربي (¬1)، وهي تقدس الفرعونية إلى حد الغُلوّ الذي يخرج بها إلى الوثنية والكفر والتهكم بقيم الإِسلام وأبطاله وتشويه سيرتهم. فإِذا خرجت "المجلة" عن هذا الطابع الانفصالي الذي هو خليق أن يدعم مزاعم الدعايات الأجنبية التي تريد أن تصور سياسة مصر الحالية سياسةً إمبراطوريةً استعمارية، إذا خرجت "المجلة" عن هذا الطابع لم تتحدث إلَّا عن أدب الغرب وموسيقى الغرب ورقص الغرب وفنون الغرب، ذلك الغرب الذي وصفه أحد كتابها بأنه (العالم المتحضر)، حين تحدث عن الاحتفال ببرنارد شو، فقال في صدر مقاله: "احتفل العالم المتحضر بالعيد المئوي لميلاد برنارد شو"، وكأن من عدا هؤلاء المحتفلين ببرنارد شو - ممن يزعم الكاتب أنهم هم المتمدنون - رعاع وهمج. يتحدث المقال الأول في هذا العدد عن (قناة السويس بين التأميم والتدويل)، فيزعم أن (تقاطيع رئيس جمهورية مصر الشاب تشبه تقاطيع الشخصيات والرجال الذين خُلّدت صورهم على جدران المعابد والهياكل الفرعونية منذ آلاف السنين). وجمال عبد الناصر - مثله في ذلك مثل ملايين عديدة من المصريين - عربي الأصل من بني مر. فمن أين يجيئه العِرْق الفرعوني؟ وأي فخر في أن يكون جَدّه أحدَ هؤلاء الكفار الجبابرة الذين قطع الإِسلام ما بيننا وبينهم؟ ويمضي الدكتور حسين فوزي كاتب المقال على هذا النمط في سائر مقاله، تقوده نزعة فرعونية غالية، فيتحدث عن (عودة التاريخ الفرعوني فجأة ودبيب الحياة فيه، وتحرك الحضارة المصرية القديمة وسيرها على الأقدام وزحفها في العربات السريعة الرشيقة التي نرى صورها في الكتب ونعجب منها ومن راكبها وفارسها). والحضارة كما هو معلوم دين وتفكير وأسلوب في الحياة، فهل هناك نية للانسلاخ من حضارتنا الإِسلامية والارتداد إلى الوثنية الفرعونية؟ أم ماذا تكون الحضارة الفرعونية؟ وكيف يكون تحركها وزحفها وبعثها؟ ويتحدث ¬

_ (¬1) راجع مقال "صراع القومية المصرية من غزو الاسكندر حتى الفتح الإِسلامي" في العدد الأول من "المجلة" ص 30 - 43،

المقال كذلك عن واجب مصر الأول نحو الناس.، وهو نشر الحضارة بينهم، فيخيل للقارىء أن الكاتب يتحدث بلسان الإِمبراطورية البريطانية في القرن التاسع عشر. أبمثل هذا تدعّم القومية العربية وتحارَب أكاذيب المفسدين والدساسين الذين ينفثون سموم الفرقة بين العرب، حين يزعمون لإِخواننا أن مصر دولة ذات مطامع استعمارية تتذرع إلى مطامعها بين العرب والمسلمين باسم العروبة والإِسلام؟ وإذا شئت المزيد من هذه العصبية ومن هذا التهور فاقرأ نص خطاب كاتب هذا المقال في الاحتفال بافتتاح البرنامج الثاني (العدد 6 ص 123 - 127)، حيث يردُّ إلى الفراعنة مظاهر الحضارة الِإنسانية بكل ألوانها وبكل فروعها وصورها، وينسب إليهم (صنع فكرة الإِيمان بالله) على حد تعبيره، ؤحيث يقول: "إن مصر الآن لا يُشَك في أنها تلعب دوراً رسالياً، دوراً ذا رسالة. ونحن لا نستطيع أن نضطلع بهذا الدور إلَّا إذا شَحَنّا بطاريتنا, لأن بطاريتنا فارغة". ثم يروي قصة القبطان الذي نفد ما في سفينته من الماء الحلو، فأخذ يلح في طلبه، ثم تبين له أن الماء الحلو تحته وهو لا يدري، بعد أن قطعت سفينته المحيط ودخلت في مصب أحد الأنهار. ويشبه حالنا في مصر بحال ذلك القبطان "الماء الحلو عندنا، الماء الحلو في ثقافتنا .. في بعض هذه الهياكل والمعابد التي نستطيع أن نشاهدها، فنرى كيف صنع أجدادنا من هذه الأرض وبهذه الأدوات". ثم يقول: "وأرجو أن يكون البرنامج الثاني إحدى هذه الوسائل في أعماق حياتنا التي امتدت ستة آلاف سنة بل أكثر. ونستطيع أن نخرج منها ماءً حلواً لا لنشرب منه فقط، وإنما نشرب ونوزّع منه على العالم". فهل هذا هو الدور الرسالي الذي ستقوم به مصر بين العرب؟ هل رسالتها في إحياء الفرعونية وفرعنة العرب جميعاً؟ وماذا يحدث لو أراد إخواننا المغاربة بالمثل أن يُبّرْبِرُوا العرب، ونازعهم في ذلك كل من العراقيين والشاميين واليمنيين، كل واحد منهم يباهي بجاهليته ويزعم أنها أحق بالسيادة؟ هلِ هذا هو السبيل الصحيح لجمع العرب، وهم بحمد الله وفضله مجتمعون فعلاً على الإِسلام، لم تفرقهم إلَّا أمثال هذه الدعوات؟!. وتجد مثل هذا الانحراف المنفر في التعليق على العصر الفرعوني في مقال

(تي - سيدة من الشعب وجهت أحداث عصرها - العدد الثاني ص 25 - 42)، حيث يتكلم الكاتب عن تقوية النفوذ المصري خارج الحدود، وعن منافسة الأشوريين والبابليين والحيثيين لمصر في ذلك، وعن أساليب مصر الفرعونية في نشر نفوذها عن طريق نشر التعليم المصري. وكل ذلك لا يعين على تدعيم الثقة بين العرب ولا يلد إلَّا الشر, لأنه يدعم مزاعم الذين يعيثون بالتفريق بينهم ويشكك في أهداف مصر من وراء مساعدة إخوانها العرب ومدّهم بالمدرسين. ولا سيما إذا كان الذي ينشر هذا الكلام صحيفة تصدرها وزارة الإِرشاد القومي. ومن أمثلة هذه المقالات المنحرفة مقال عنوانه (صراع القومية الصرية من غزو الاسكندر حتى الفتح الإِسلامي - العدد الأول ص 30 - 43). وهو مقال طويل كله تقديس جنوني للفرعونية وحط من قدر العرب والإِسلام، ونزول بدوافع الفتح الإِسلامي الأول في عهد الخلفاء الراشدين الذين أنقذنا الله بهم. من النار وهدى آباءنا وأجدادنا، إلى مرتبة السطو والقرصنة واللصوصية، انظر إليه كيف يتحدث عن ذي النورين، عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه، حين يضعه بين جبابرة الرومان والماليك، حيث يقول: (فالخليفة يعزل عاملاً من أعدل عماله على مصر، ثم يعرّض بسياسته المعتدلة في فرض الضرائب، قائلاً: لقد دَرَّت اللِقْحَةُ بعدك يا عَمْرو. فيجيبه أعدلُ مَنْ وَلِيَ مصر بما يُفيد أنها أضرَّت بوليدها - العدد الأول ص 31) ويردف ذلك بحديث مثله عن أباطرة الرومان وبكوات الماليك، يصوّر أن همهم كله كان مصروفاً لاستغلال الشعب المستعبَد والتمتع على حساب كدِّه وشقائه. والمقال كله يشف عن عداوة عميقة لكل فكرة إسلامية أو عربية. فهو يرفع ذلك العهد الفرعوني الإِقطاعي إلى مرتبة من القداسة تكاد ترد الناس إلى ضرب من الوثنية. وهو لا يوقر صحابة رسول الله الذين كان فتحهم لمصر خيراً وبركة على المصريين، إذ أنقذهم من الضلال وأدخلهم في رحمة الله بدخولهم في الإِسلام، فهو حين يتحدث عن أولئك المجاهدين في نشر كلمة الله وهداية خَلْقه، الذين عاشوا زاهدين، ثم خرجوا من الدنيا لا يملكون من حطامها شيئاً، يقرنهم بالوثنيين من الرومان واليونان، وبالفسقة

والجبابرة من الطغاة، كلهم عنده سواء. تجد ذلك في مثل قوله: "ولم تكن بيزنطة أرحم بالشعب المغلوب، ولا كان الولاةُ العرب- ص 31". وفي قوله: "لم يكن المصري يملكِ شيئاً من أرضه ولا من غير أرضه. كلها إقطاعات للفرعون وأسرته، وللمعبد وسدنته، ثم للبطليموس فالإِمبراطور في رومة وبيزنطة، ثم للخلفاء في شبه جزيرة العرب جنوباً وشمالاً (¬1). ولمن جاء بعدهم من حكام مصر الأجانب - ص 31". وفي قوله: "وأنت تجد أمثلة لهذه الاضطرابات والثورات على طول التاريخ المصري في العهد القديم، وبعد استتباب الأمر للبطالسة وإبان الحكم الروماني والبيزنطي والعربي والعثماني والفرنسي والأرنؤودي والاحتلال البريطاني - ص 33". وقوله: "حدث هذا بعد احتلال الرومان وبعد الفتح الإِسلامي والغزو العثماني - ص 35". وقوله: "وكل همه إرضاء الملك البعيد إمبراطوراً أو خليفة أو سلطاناً - ص 35". ولقد بلغ بالكاتب تقديسه للوطنية المصرية بهذا المعنى الشعوبي المتطرف حدَّاً يقرب من الشرك، فكان من سوء اختياره للألفاظ أن وصفها بما اختاره الله جل وعلا لنفسه فقال: إنها لا تدركها سِنَّةٌ ولا نوم (ص 26)، وأنزل الدين منزلة تلي في قداستها وسلطانها على النفوس هذه الوطنية، إذ جعل اعتناق المصريين للمسيحية مظهراً من مظاهر المقاومة الوطنية للاحتلال الروماني، وأظهر عجبه لتحول المصري عن الوثنية إلى المسيحية متسائلاً: "كيف لم يحرص المصري على ديانته العتيقة وهي آخر صلة له بمجده الغابر؟ - ص 26". وفي "المجلة" بعد ذلك صور كثيرة من هذه الشعوبية البغيضة، في مثل مقال "فن التصوير المصري - العدد الأول ص 44 - 46" الذي يقدس فن الفراعنة الوثني وما اتخذوه لأنفسهم من آلهة بزعمهم، وفي مثل مقال "الفن المصري - إدراك القانون - العدد الرابع 29 - 33"، بما يتخلله من مجازفات مارقة في تعريف الدين والتدين والخلط بينهما وبين فنون الوثنية. ¬

_ (¬1) من الحقائق العلمية والتاريخية أن الفتح الإِسلامي هو الذي ألغى نظام الطبقات للمرة الأولى في مصر وبه تحررت الطبقة الكادحة في الزراعة وصار حتى تملك الأرض عاماً لكل الطبقات. والذي يجهل هذه الحقيقة يجهل تاريخ الِإسلام في مصر.

وفي مثل مقال "الرقص الشعبي في الاتحاد السوفيتي - العدد الرابع 72 - 77"، الذي يدور حول حديث لراقص روسي عن "خلق رقص مصري ذي طابع مميز". بل إن الموضوعات الِإسلامية التي تتناولها "المجلة" تنحو بها نحو هذه الغاية، فلا تتحدث عن الإِسلام وأبطاله إن تحدثت - وقليلًا ما تفعل - إلَّا من هذه الزاوية الشعوبية المنافية لروح الإِسلام منافاة صريحة. تجد ذلك في مثل مقال "الخلافة المصرية الأولى - العدد السادس 81 - 84"، الذي يدور حول تمجيد ثورة دِحْية بن المعصَّب في مصر على الخلافة العباسية سنة 167 هـ فيسميها كاتب المقال (الخلافة المصرية الأولى)، كأن خلافة المسلمين التي هي خلافة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تجمع شملهم على اختلاف أجناسهم، مُلْكٌ ينسَب إلى البلاد لا إلى الإِسلام نفسه، ويمجّد فيه المارقون المفتونون ممن يشعبون كلمة المسلمين ويبثون الفرقة بين صفوفهم. وتجد في "المجلة" مع ذلك كله حفاوة شديدة بتفاهات هابطة وبألوان من العبث الساذج "الفنون الشعبية". تريد المجلة أن ترفع من قدر هذه التفاهات وتنادي بدراستها وتسجيلها باسم الفن وباسم الشعبية. وبطلانُ مثل هذه الدعوات ظاهر. فمن المعروف أن الفن يتعلق دائمًا بمقاييس رفيعة. وهو يهدف إلى ترقية الذوق الساذج التخلف وتثقيفه، لا الهبوط بالذوق إلى مستوى الأذواق الفجة التي لم يهذبها التثقيف باسم الشعبية. وأوضح ما يبدو ذلك في مقال (الفنون الشعبية في مصر - العدد الرابع 46 - 49)، الذي يدعو إلى إحياء الشخصية المصرية، ولا يعتبر الوثنية والسيحية والإِسلام إلَّا أعراضاً لا تغير من جوهر الشخصية المصرية بزعمه. فهي وثنية حيناً وهي مسيحية حيناً آخر وهي مسلمة تارة أُخرى ولكنها في كل هذه الأحوال مصرية دائمًا. وهذا هو ما أسميه جنون (الفولكلور) والانحراف في فهمه وتوجيهه. وذلك الغرض المسموم المريض هو الحافز الحقيقي لكل ما نسمعه عن الدعوات التي تصدر عن الجامعات حيناً ومن مصلحة الفنون حيناً ومن مجلس الآداب تارة أُخرى، وكلها تدعو إلى الاهتمام بأدب العوامِّ وأغانيهم وعاداتهم والاستعانة على تسجيل ذلك بكل ما أخرج العلم الحديث من وسائل وأدوات، كما تدعو إلى تكريم من عُرِفوا بإِبراز هذه النزعة من الفنانين الذين سايروا هذه الدعوة

حين طغى مَدّها بعد الحرب العالمية الأولى، عن وعيٍ منهم أو عن غير وعي، مثل حافظ إبراهيم الشاعر، ومختار المثّال، وسيد درويش المغَنّي. ولهذه الدعوة بعد ذلك جانب آخر هدَّام هو الجانب اللغوي. فأصحاب هذه الدعوة من غلاة الشعوبية الموكلين بالتفريق والتشتيت، يدعون دائمًا إلى اتخاذ اللهجات السوقية (¬1) التي يطلق عليها "العامية", لأنها بزعمهم أصدق تعبيراً عن روح الشعب - وكأن الشعبية عندهم مرادف للجهل - ولأن (تراث الأدب العربي) كما يقولُ أحدهم: "ليس ولا يمكن أن يكون تراث لهجةٍ بعينها من اللهجات، وأن التفنن الأدبي لا شأن له إطلاقاً بالقواعد النحوية المصطلح عليها، وأن الإِعراب ليس شرطاً أساسياً لازماً للتفنن الأدبي. فللبدو شعرهم وسمرهم الذي يصدر عنهم عفو الخاطر، والذي يفهمونه بعضهم عن بعض. وللعوام في المدن شعرهم ونثرهم الذي يتفاعلون هم وهو ولا يتفاعلون هم وغيره - العدد الأول تحت عنوان (الملحمة المصرية) ص 55". ومن الواضح أن هذا الكلام وأمثاله فاسد من الناحية الفنية الخالصة التي يحمّلها الداعون بهذه الدعوة أوزار دعوتهم في أغلب الأحيان. فالفن في صورته الكاملة وسيلة من وسائل السمو فوق الواقع اُلمسِفّ. والفن الذي يستحق أن يجهد النقاد أنفسهم في تذوقه ونقده، هو الأثر الذي أجهد الفنان نفسه في إنتاجه. فالنقاد غيُر مكلّفين بعَفْوِ خواطر البدو والعوام, لأن عَفْوَ خواطرِ العوامِّ لا يصلح إلَّا للهو أمثالهم من العوام. أما عقول المثقفين، فهي لا تجد في مثل هذا الإِنتاج لذة ولا متاعاً. فالفن الراقي دائمًا، في كل عصر وفي كل مكان وفي كل لغة، مقصور على الخواص, لأن الأثر الذي يستحق الاعتبار والبقاء لا يصدر إلَّا عن قِلَّةٍ موهوبة. ومن المسلّم به أن الموهبة ¬

_ (¬1) تسمية هذه اللجهات بالسوقية نسبة إلى "السوق" لا إلى "السوقة" لأنها لا تصلح إلا أن تكون لغة للتعامل في الأسواق، ووجودها طبيعي في كل الأمم واللغات، ولكن في داخل هذا النطاق. فهي لغة عملية تتوافر فيها السرعة التي تصل إلى ما يقرب من الرمز في بعض الأحيان، بينما تتوافر في لغة الأدب الفصحى الأناقة والموسيقى والدقة. وكل منهما صالح في ميدانه، فلا تنافس ولا ازدواج كما يزعم الزاعمون.

والاستعداد الحسن لا تنمو وتنضج وتُخْصِب إلَّا على اِلمرَانِ والتثقيف والعكوف على الدرس والتجويد. أما الجانب الأشد خطورة في هذه الدعوة، فهو أن ضررَها لا يقف عند تمييز كل جماعة بطابع خاص تتعصب له مما لا يعين على تدعيم الوحدة العربية المرجوة، ولكنه يتجاوز ذلك إلى أن يقطِّع ما بينهم من الوشائج تقطعياً، فيصبحون ولا يفهم بعضهم عن بعض. ومن المؤكد أن العرب في مختلف البلدان لا يجتمعون على فهم شيء من الإِذاعة المصرية إلَّا فيما يذيعه "صوت العرب" بالفصحى. ومن المؤكد أيضاً أنهم لا يفهمون من بعض صحفنا ما تحرص على تسجيله بالعامية مما يدور في مجلس الأمة أو في قاعات المحاكم. والعجيب في الأمر أن جرأة الإِذاعة وجرأة الصحف على الإِلقاء بالسوقية والكتابة بها شيء جديد لم يجرؤ عليه أحد حين كانت القومية العربية حلمًا يتمناه المخلصون ويعارضه كثير من المفسدين والمخدوعين، ولكنهم تجرأوا عليه بعد أن أصبح هذا الحُلْمُ حقيقةً واقعة مسجلة في المادة الأولى من مواد الدستور. أليس ذلك مما يدعو حقاً إلى العجب؟ وأعجب منه أن البرنامج الذي ابتدعته الِإذاعة حديثاً وسمّته "البرنامج الثاني" وزعمت أنه برنامج الخاصة من هواة الفكر الرفيع يخاطب مستمعيه بهذه السوقية التي تسمى بالعامية. فإِذا كانت العربية الفصحى لا تصلح لخطاب عامة الناس في البرامج العامة ولا تصلح لخطاب خاصتهم في البرامج الخاصة، فأين ومتى تتعامل الشعوب العربية بلغتها العربية الصحيحة التي هي عنوان قوميتها، ووعاء أمجادها، والتي هي وسيلتها الوحيدة للتفاهم؟ يبدو أن القائمين على هذا البرنامج مشغولون عن ترويج اللغة العربية بموسيقى (السمفونيات) القديمة التي يُكْرِهون المصريين على سماعها، ويتهمون الزاهدين فيها بالتخلف وبلادة الذوق، لاهُونَ عن تدعيم عروبتنا وثقافتنا القومية بأدباء الغرب وفنّانيه وبما يثيرون من غبار حول مقومات فنوننا وآدابنا. فهل نسي هؤلاء أنهم يتبعون وزارة الإِرشاد القومي في بلد عربي؟

في التنظيم الإجتماعي

في التنظيم الإجتماعي

المجتع المختلط

المجْتع المختَلط* كثر كلام الناس في هذه الأيام - في الصحف وفي دور العلم، وأقسام الفلسفة ومعاهد تخريج المدرسين والاخصائيين الاجتماعيين منها خاصة - عن الكبت الجنسي ومضاره. وشاع بين كثير ممن ينتحلون الدراسات النفسية - والفرويدية منها خاصة- أن السبيل إلى تلافي الأضرار المتولدة عن هذا الكبت هي اختلاط المذكور بالإِناث وتخفّف النساء من الحجاب ومن الثياب، وهو تخفف لا يعرف الداعون إليه مدى ينتهي عنده. ولعله ينتهي إلى ما انتهى إليه الأمر في مدن العراة التي نُكِست فيها المدنية فارتدت إلى الهمجية الأولى. ذلك هو "المجتمع المختلط" الذي يَدْعون إلى تعميمه في المدارس وفي الادارات الحكومية وفي المصانع وفي الشركات وفي الأندية والمجتمعات. وقد أخذت هذه الدعوة سبيلها إلى التنفيذ في بعض هذه الميادين. والواقع أن هذا الاتجاه هو جزء من اتجاه أكبر وأعم يراد به فرنجة المرأة الشرقية وحملها على أساليب الغرب في شتى شؤونها: في الزواج وفي الطلاق وفي المشاركة في العمل والإِنتاج في شتى الميادين وفي الزي وفي المحافل والمراقص، إلى آخر ما هنالك. وهذا الاتجاه هو بدوره جزء من اتجاه أكبر يراد به سلخنا من أدب إسلامنا وتشريعه، وإلحاقنا بالغرب في التشريع والأدب والموسيقى والرسم وفي فنون الحياة بين جد ولهو. والموضوع ذو جوانب ¬

_ (*) نشرت في عدد جمادي الأولى سنة 1377 من مجلة الأزهر. وكان جزء منها قد نشر في عدد مايو 1957 من مجلة المجتمع العربي ولم ينشر باقيها.

متعددة. ولكن أبرز جوانبه ناحيتان: اختلاط النساء بالرجال، واشتغال النساء بأعمال الرجال. وسأعالج الناحية الأولى منه في هذا المقال، مرجئاً الشق الثاني إلى مقال تالٍ إن شاء الله. وأخطر ما في هذه الدعوات الجديدة أن أصحابها يلجؤون إلى تدعيمها وتثبيت جذورها الغريبة في أرضنا بأسانيد من الدين بعد أن يحرفوا الكلم عن مواضعه في نصوصه الشريفة من قرآن أو حديث أو خبر. لذلك رأيت أن أبدأ هذه الكلمة بتقديم طائفة من الآيات القرآنية تبين بشكل قاطع حكم الإِسلام الصريح في هذه الأمور. 1 - يقول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59)} [الأحزاب: 59] تأمر هذه الآية المسلمات بإِطالة الثياب وبإِدناء بعض أطرافها من البعض الآخر، حتى تستر الصدور والظهور والأذرع والسوق. وتصرح بالحكمة في ذلك، وهو تمييز الأحرار من النساء وتكريمهن بصونهن عن أذى الذين يتعرضون للبغايا وللخليعات, لأن التبرج والتبذل يسلكهن في مسالك الرِيَب ويُطمع الفسّاق في التعرض لهن وإيذائهن في حيائهن وفي أعراضهن بالأقوال أو الأفعال. 2 - ويقول تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى

{جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)} (النور 30 - 31) تأمر هاتان الآيتان الرجل والمرأة كليهما بغضّ البصر عند رؤية أحدهما للآخر. وتردف الأمر بالمحافظة على العفاف مع الأمر بغض البصر، كأن النظر هو سبيل التفريط في العفة, ثم هي تأمر المرأة بأن تحرص على ستر مواضع الفتنة والأنوثة منها وعدم إفشائها بأدوات الزينة والتجميل المختلفة أو الثياب الضيقة أو الشفافة أو الحركات الخليعة التي تذيع صوت ما تتحلى به من حلي، كما تأمرها أن تغطي رأسها بالخمار وأن تضرب بفضوله على صدرها ليستر فتحة ثوبها. ولا تبيح الآيتان للمرأة أن تتخلى عن هذا الحجاب إلا في حضرة الذين لا تثيرهم مفاتنها من المحارم أو الأطفال الذين لم يبلغوا الُحلُم أو ناقصي الذكورة من التَبَع والخدَم الذين لا أَرَبَ لهم في النساء. وتكشف الآية الأولى عن الحكمة فيما تطلب إلى المؤمنين من غض الأبصار، فتقول إنه ادعَى إلى تزكية النفس وتطهيرها، والسمو بها عن مواطن الدنس. وتقول للمرتابين في صدق هذا الأمر وحكمته: إن الله أخبرُ بطبائع خلقه وبمذاهبهم فيما يصنعون من أنفسهم. وتختم الآيتان هذه الحدود المرسومة بدعوة المؤمنين جميعاً إلى أن يعودوا إلى طريق الله بعد أن نأت بهم عنه الشهوات ودعوات المضللين, لأن التزام طريق الله هو سبيل الفلاح والنجاح.

3 - يقول تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)} [النور: 60] أما هذه الآية فهي لا تبيح التخفُّف من بعض الثياب (كالجلباب والرداء والقناع فوق الِخمار) إلا للطاعنات في السنن ممن ذهب رونقهن وفارقن سن الزواج، ولم يعد مثل هذا الصنيع منهن يثير الناظر إليهن. ومع ذلك فهن مأمورات بأن يلزمن جانب الحشمة فلا يبرزن ما يتكلفن من زينة، وتحثهنَّ الآية على التزام القصد فيما أباحت لهن، وتصف الاحتشام أمام الغرباء بالعفة حيث تقول: (وأن يستعففن خير لهن). 4 - يقول تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)} (الاحزاب: 32 - 33) الحديث في هاتين الآيتين موجه إلى نساء النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يتضمن أمرهن بأن يلزمن بيوتهن ولا يصنعن صنيع الجاهليات في التبرج، وبأن يقصدن في محادثة الرجال إذا دعت إليه ضرورة فيذهبن به مذهب الجد والحزم والإِيجاز، وبأن يقمن شعائر الدين من صلاة وزكاة

ويلزمن حدود الله. وتعلل الآية ذلك كله بأنه سبيل الطهارة والبعد عن مظان الريبة وإطماع مرضى القلوب. وقد يظن بعض الناس أن توجيه الحديث في هاتين الآيتين إلى نساء الرسول - صلى الله عليه وسلم - يعني أنهن قد خُصِصْن به دون سائر المسلمات، وأن حكمه لا يتعداهن إلى غيرهن، وهو خطأ ظاهر. فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو قدوة المسلمين ومثلهم الأعلى، ونساؤه قدوة السلمات ومثلهن الأعلى، فالله سبحانه وتعالى يقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب: 21] فإِذا كان هذا هو الأحوط وهو الأطهر وهو الأدعى إلى إذهاب الرجس عن بيت سيدنا رسول الله وعن نسائه الطاهرات رضوان الله عليهن، فلا شك أن عامة المسلمات - وهن أبعد عن العصمة جداً - أحوج إلى الأخذ به والتزامه. وإذا كانت إلانة القول وإطالته في غير موجب من جانب نساء الرسول - وهن أمهات المؤمنين - مَظِنَّةُ إطماع مرضى القلوب، فكيف يكون الحال بالقياس إلى سائر المسلمات اللاتي لا يحيطهن من أسباب العصمة وَذوْدِ الشر ودفع الإِطماع والإِغراء ما كان يحيط بنساء الرسول - صلى الله عليه وسلم -؟ 5 - يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ

حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53)} (الأحزاب: 53) هذه الآية خاصة بنساء النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضاً، وهي تنبه المسلمين إلى أن يخففوا عند زيارته والإِلمام ببيته، وأن لا يثقلوا بإِطالة الحديث بعد قضاء حاجاتهم أو تناول ما دُعُوا إليه من طعام. كما تأمرهم إن احتاجوا إلى طلب شيء من نساء الرسول أن يكون حديثهم إليهن من خلف سنتار يحجب كلًا منهم عن الآخر. وتعلل الآية الكريمة ذلك بأنه أدعى إلى طهارة الطرفين وأحوط في تجنب أسباب الفتنة. وليت شعري إذا كان نساء النبي - وهن مَنْ هن - وصحابة رسول الله - وهم من هم - مأمورين بذلك، فكيف لا نكون نحن مأمورين به؟ 6 - يقول تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25) يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ

يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)} (النساء:25 - 28) المخاطبون بهذه الآيات هم الذين لا تساعدهم ظروفهم المالية على الزواج ودفع مهور الحرائر من النساء. والآيات تبيح لمن لا يستطيع الصبر من هؤلاء أن يتزوج من الإِماء بعد أن يدفع مهورهن إلى مواليهن. وتنهي عن أن يكون سبيل التنفيس عن شهوات الذين لا يجدون إلى ضبطها سبيلاً هو الزنا بهؤلاء الإِماء أو عقدَ الصلات معهن في السر واتخاذهن عشيقات أو صديقات - على ما يحلو لبعض الناس في هذه الأيام أن يسميهن تقليداً لمذهب الفرنجة في تسميتهن (Girl Friends) ولكنها تنصح لهم بالصبر حتى لا يجنوا على أولادهم من هؤلاء الإِماء بجعلهم أرِقَّاء. ويقول الله تبارك وتعالى إن (الصبر خير)، بينما يسمي الفُروْيدِيّون الصبر وضبط النفس والتحكم في الرغائب والشهوات كبتاً. ويرتِّبون على هذا الكبت ما شاءت لهم شياطينهم من الأمراض النفسية. فليختر المسلمون لأنفسهم بين الكفر والإِيمان، وبين ما أوحى الله إلى نبيه وما أوحت شياطين الجن إلى شياطين الإِنس. وتختم الآيات هذا الحديث بأن الله سبحانه وتعالى عليم يعرف حقائق شؤونكم ودقائقها، حكيم يضع الأشياء في مواضعها. فهو - سبحانه وتعالى - يرشدكم إلى سبيل الطهارة والتوبة ويبين لكم طريق الرشاد والصلاح، ويخفف عن الضعفاء منكم فيرسم لهم ما يحتملون ولا يكلفهم ما لا يطيقون. يريد الله سبحانه وتعالى أن يعود بكم إلى طريقه الموصلة للخير والمنقذة من الضلال، بينما يريد الذين يتبعون الشهوات أن يميلوا بكم عن طريق الهداية والنجاة ميلاً عظيمًا. هذه جملة من الآيات صرعِة الدلالة فيما تأخذ به المسلمين والمسلمات. فهي تأمرهم:

1 - بستر جسم المرأة كله - ومنه شعر الرأس - وتجنب إبداء المفاتن والتزين أمام الغرباء من غير المحارم. 2 - بتجنب التسكع في الطرقات واستعراضها في غير حاجة، وبالاستقرار والاكتنان في البيوت. 3 - بتجنب التحدث إلى الرجال. فإِذا دعت إلى ذلك ضرورة فليكن بين الرجل والمرأة ستار، وليكن الحديث أميل إلى القصد، وعلى قدر ما تقضي به الضرورة. 4 - بغض البصر عند التقائه بالرجال. والرجال مأمورون بمثل ذلك عند التقاء نظرهم بالنساء. 5 - بالزواج لمن إستطاعه، وبالصبر وضبط النفس لمن أطاقه، وبالزواج من الإِماء لمن لا يطيق الصبر ولا يجد مهر الحرائر. أما اتخاذ الخليلات ومقارفة البغايا فهو محرم يحذر منه الدين. ولا أظنني محتاجاً بعد ذلك كله إلى إطالة القول في أن التزام هذه القواعد التي يأمر بها الشرع أمر قاطع لا يدع مجالاً للتوفيق بين إسلام المسلمين، وبين مذاهب دعاة المجتمعات المختلطة في شتى صورها وأشكالها. هذا هو حكم الدين لمن أراد أن يقيمه. وتلك هي حدود الله لمن أراد أن يلتزمها. وذلك هو الخير كل الخير لمن أسلم وجهه لله وآمن بالكتاب كله، لا يحكِّم هواه أو أهواء الذين يضلون بغير علم ممن يتبعون الظن، فيأخذ ببعض ويدع بعضاً، ولا يطلب دليلاً على ما أُمر به، ولكنه ينقاد إليه سواء ظهر له وجه الخير فيه أو خفي عنه. لأن الدين يقوم على مجموعة من المسلَّمات يلتقي عندها الناس على اختلاف أفكارهم وأمزجتهم وبيئاتهم، فيصبحون في اتحادهم أمة واحدة، ويصبحون مع تعددهم كالفرد الواحد وكالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً، ويصبحون في توادّهم وتراحمهم كالجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسمر، وذلك هو أقصى ما يطمح إليه التفكير السياسي من التماسك والتآلف والاستقرار والاطمئنان.

أما الذين لا يُلزمون أنفسهم حدود الله، ولا ينقادون لما أمر به فلنا معهم حديث آخر. وإلى هؤلاء نقول: قد اقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى أن يكون جميع خلقه من ذكر وأنثى. تجد ذلك في الحيوان وفي النبات وفي الظواهر الطبيعية كالكهرباء والمغناطيس، وتجده في الكرة الأرضية نفسها، فأحد قطبيها سالب والآخر موجب، وتجده في أدق دقائق الخلق وألطف وحداته، وهي الذرة. وسُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36)} [يس: 36] ومن طبيعة الأزواج في كل هذا الخلق أن تتجاذب. فالذكر والأنثى في النوع الواحد يتجاذبان حتمًا حسب ما بَنىَ الله عليه طبيعة كل منهما وحسب ما هدى إليه من فطرة، وسبحان الذي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه: 50] فميل الرجل للمرأة وميل المرأة للرجل إذن هو جزء من قانون عام اقتضته حكمة الله سبحانه، لا سببل إلى تجنبه أو إنكاره. وليس من المطلوب ولا هو مما يُرغَب فيه وُيسْعَى إليه أن يخفَّف هذا الميل أو يُعمَل على إضعاف حِدَّته. ثم إن إطلاق الأمر في تجاور الرجل والمرأة واختلاطهما لا يخلو من أحد أمرين: فهو إما أن يؤدي إلى إثارة الشهوة في الجنسين وزيادة حدتها، أو يؤدي إلي إضعافها وكسر حدتها. فإِذا كان الاختلاط مؤدياً إلى تجاذب الذكر والأنثى على ما رُكِّب في طبيعة كل منهما ولم تكن هناك حدود لهذا الاختلاط أو نظام مرسوم تحوَّل الأمر إلى فوضى لا ضابط لها. وعند ذلك يشيع الأذى بين الناس بشيوع الأمراض التي قدَّر الله سبحانه أن يَضرِب بها الذين يقارفون الفاحشة من الزناة، ويفسد المجتمع ويضطرب نظامه ويتمزق شمل جماعته ويموج بعض الناس في بعض، بتكاثر الأحقاد والضغائن بين الآباء الذين أوذوا في بناتهم، والأزواج الذين أوذوا في نسائهم، والأولاد الذين أوذوا

في أمهاتهم، وبين المتنازعين والمتنازعات والمتنافسين والمتنافسات على العشيق الواحد والعشيقة الواحدة. وذلك كله مما لا خير فيه، ومما لا تسعى إليه جماعة من الناس تنشد الوحدة والطمأنينة والسلام، وتتجنب السبل التي تظن أنها لا تؤدي إليهما. ذلك هو أحد الفرضين. أما الفرض الآخر فهو أن التجاور بين الرجال والنساء وكثرة اللقاء بينهم وبينهن أفراداً وجماعات موجِبٌ لِإضعاف التجاذب بِخُفُوت صوت الشهوة الجنسية وإضعاف حِدَّتها أو تحويلها عن وجهها وأسلوبها، على ما يزعمه الزاعمون من بعض الباحثين في الدراسات النفسية، الداعين إلى تهذيب الغريزة الجنسية أو التنفيس عنها، ومعنى هذا أن يجد كل من الذكور والإِناث لذتهم في مجرد الاستمتاع بالحديث والنظر، وأن طول التجاور والتقارب يولِّد في نفوسهم ونفوسهن شيئاً من الإِلف لا تثور معه الرغبة في استمتاع جسد كلٍّ منهم بجسد الجنس الآخر عند رؤيته، بل مع قربه منه وملاصقته له. وذلك كله أمر معقول ومحسوس يؤيده المنطق والتجربة, لأن إلْفَ النفس للشيء وتكرار اعتيادها إياه يُضعِف أثره فيها، فالذي يطيل المكث في مكان عفن نتن يفقد الإِحساس بعفنه ونتنه على مر الزمان، والذي يُدْمِن ثم رائحة زكية يفقد الِإحساس بطيبها بعد وقت قصير أو طويل، والذي يتعود لمس الأجسام الساخنة أو الشديدة البرودة يفقد الإِحساس بحرارتها أو ببرودتها مما لا يطيقه غيره من الذين لم يُدمنوا ممارسة ذلك. وكذلك الشأن في الرجال والنساء. فالذين يسكنون المدن من الرجال لا يثير غرائَزهم الجنسية رؤية أذرع النساء وسوقهن وصدورهن، بل إن بعضهم لا يثيره رؤية الجسد عارياً معروضاً في أكثر الأوضاع إغراء على شواطىء البحر في الصيف أو في مراسم الرسامين من هواة رسم الأجساد البشرية العارية. وفي هؤلاء الرجال من كان يعيش في الريف من قبل، وكان يثير شهوتَه مجردُ الاستماع إلى صوت المرأة أو مجردُ النظر إلى وجهها أو يدها أو رجلها، فضلاً عن مجالستها أو مصافحتها. ذلك أمر صحيح تثبته التجربة ويؤكده الواقع، والذي يذهب إليه دعاة تهذيب الشهوة صحيح من بعض نواحيه، وإن كان كثيرٌ من الشهوات الجامحة الجارفة يستعصي على الترويض وينطلق إلى الفتك

والافتراس ويُفِلت زمامه من المروِّضين. وأغلب الظن أن إدمان الخضوع للتجربة على تعاقب الأيام قد ينتهي إلى ما يريده المروِّضون من دعاة التهذيب. ولكن أي شيء يمكن أن يُسمَى هذا الذي يسعون إليه ويبذلون الجهود لتحقيقه؟ أليس هذا هو البرود الجنسي عينُه؟ أذا رأى الرجل المرأة فلم يُثر فيه هذا اللقاء ما يثور عادة في الرجال عند رؤية النساء، وإذا رآها بعد ذلك عارية الأذرع والسوق والصدور والظهور، بارزة النهود والأوراك، فكان قصارى ما يلتذ به هو الحديث والنظر، ولم يستتبع هذا الحديث والنظر أي اندفاع أو رغبة في ممارسة الصلة الجسدية، وإذا تشابكت الأذرع بالأذرع والتفَّت السوق بالسوق ولامست الأجسادُ الأجسادَ صدراً لصدر وبطناً لبطن ثم لم يطرأ على الرجل أي تغيير جنسي جسدي، وكان قصارى ما يستتبعه ذلك كله هو أن تسري في جسده نشوة لا تدفع به إلى الحالة الإِيجابية العضوية، أليس يكون قد بلغ عند ذلك ما يسمى بالبرود الجنسي؟ وهو عند ذلك برود مزدوج يشمل الطرفين كليهما: الرجل والمرأة, ثم، أليس البرود الجنسي مرضاً يسعى المصابون به إلى الأطباء، يلتمسون عندهم البُرْءَ والشفاء من أعراضه؟ فكيف إذن نجعل هذا المرض غاية من الغايات نسعى إليها باسم التنفيس عن الكَبْت أو تهذيب الغريزة الجنسية؟ وكيف يكون الحال لو تصورنا هذا الناموس - ناموس تجاذب الذكور والإِناث - وقد "تهذب" في سائر خلق الله، فبطل تجاذب السالب للموجب، أو فَترَ، فأصبح من غير المؤكد أن يترتب على التقائهما التَّوْقُ الشديد والميل العنيف الذي لا يقاوم إلى الاندماج الكامل؟ أليس يفسد الكون كله؟ {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71)} [المؤمنون: 71] ثم إن هذا البرود الجنسي متفاوت الدرجات، يختلف قوة وضعفاً باختلاف درجات المجتمعات في الأخذ بمبدأ المجتمع المختلط ورفع الحواجز بين الذكران والإِناث، ولكنه - في غير الحالات المَرَضِيّة الشديدة التي تُعرِّض النوعَ البشري للفناء بانقطاع النسل - يستتبع نتيجتين خطرتين: ضعفَ النسل

وتخلفه وانحطاط خصائصه، وانتشارَ الشذوذ الجنسي واستفحال دائه. أما النتيجة الأولى فهىِ ترجع إلى أن حدة الشهوة وقوتها سبيلٌ إلى تحسين النسل وداعيةٌ إلى إبراز أحسن خصائصه وأفضل صفاته، كما أن فتور الشهوة وبرودها سبيل إلى ضعف النسل وداعية إلى تدهور خصائصه وانحطاط صفاته. ومما يتفق مع هذا الذهب في النتيجة - وإن اختلف معه في التعليل - ما يذهب إليه علماء الوراثة من التنبيه إلى خطر زواج الأقارب ومضاره (¬1). ويؤيده تأييداً قوياً تحريم الشريعة الِإسلامية زواج أخوات الرضاعة، فمن الواضح أنه مبني على اعتبار الغرباء الذين لا تربطهم قرابة الدم ممن تجاوروا حتى ازداد إلْفُ أحدهما للآخر في حكم أقرباء الدم. هذه حقيقة معروفة تقطع بها المشاهدة وتجارب الأجيال المتعاقبة، وتؤيدها الشرائع الثابتة، وهي تشمل الإِنسان والحيوان على السواء. ومن مظاهر تطبيقها على الحيوان إبعادُ الذكور عن الإِناث وعدم السماح باختلاطهما إلا عند اللقاح. ومن علامات صحتها فيما أزعمه انحطاط خصائص الجنس البشري في الهمج من العراة الذين لا يزالون يعيشون في المتاهات والأدغال على حالٍ تقرب من البهيمية، ¬

_ (¬1) علماء الوراثة لا يعتبرون أن قوة الشهوة أو ضعفها هي العلة في قوة النسل وضعفه, لأنهم يردون قوانين الوراثة إلى عوامل مادية خالصة. ويزعمون أن ما يسمونه (الكروموسومات) بما تحتوي عليه من (الجينات) التي تصور الخصائص المختلفة هي وحدها التي تتحكم في الوراثة، بما تحمله البويضات والحيوانات المنوية منها، فتنحدر بعض هذه الصفات والخصائص من الأسلاف إلى الآباء والأحفاد حسب قوانين معينة رتبوها. ولكن علماء الوراثة مع ذلك يعترفون بأن (الجينات) تكاد تكون شيئاً افتراضياً لم يره أحد ولا يمكن تحديد عددها في الكروموسوم الواحد أو وصفها أو بيان خصائصها. هذا ألى أن فرضهم هذا لا يستقيم مع كثير من الظواهر التي لا يمكن تعليلها على أساسه، مثل ظواهر الوراثة التحدة الأزمنة، ومثل ظوأهر الوراثة بالتأثير، ومثل وراثة الحالات العارضة وقت العلوق، ومثل قانون وراثة الصفات الخارجة عن المعتاد. على أن بين علماء الوراثة من أنكر نظرية (الكروموسومات) التي يترتب عليها عدم قابلية الصفات المكتسبة للوراثة، مثل لزنكو (Lysenko). ثم أن علماء الوراثة جميعاً يعترفون بما يسمونه (الطفرة)، كما يعترفون بعجزهم عن تعليلها، وبقصور قاعدة (الكروموسومات) المادية عن تعليلها، بل ومناقضتها لها. وموضع الضعف في كل النظريات التي يكتشفها الباحثون أن أصحابها يظنون حين يطلعون على بعض الحقائق والأسباب أنهم قد أحاطوا بكل الحقائق والأسباب. وذلك ما لا يحصيه إلا أنه وحده سبحانه وتعالى. ثم إنهم لا يقرون إلا بما يخضع للحس والتجربة.

فإِنهم لا يأخذون طريقهم في مدارج الحضارة إلا بعد أن يكتسوا. ويستطيع الراقب لحالهم في تطورهم أن يلاحظ أنهم كلما تقدموا في الحضارة زادت مساحة الأعضاء الكاسية من أجسادهم. كما يستطيع أن يلاحظ أن الحضارة الغربية في انتكاسها تعود في هذا الطريق القهقري درجةً درجةً حتى تنتهي إلى العري الكامل في مدن العراة، التي أخذت في الانتشار بعد الحرب العالمية الأولى ثم استفحل داؤها في السنوات الأخيرة. وقد أدرك قدماء العرب ذلك بالتجربة والملاحظة، فوصف أبو كبير الهذلي فارساً عربياً مشهوراً من صعاليك العرب - وهو تأبط شراً - بأن أمه قد حملت به وهي أشهى ما تكون إلى زوجها، حين لم تكن مرضعاً ولم تكن في أعقاب حيض، حتى لقد صور أباه في هياج شهوته وكأنه قد اغتصب أمه اغتصاباً وأخذها غِلَاباً، وذلك حيث يقول (¬1): مِمَّنْ حَمَلْنَ به وهُن عَواقِدٌ ... حُبُكَ النِطاق فجاء غير مُهَبَّلِ ومبرَّإ من كل غُبَّرِ حَيْضةٍ ... وفسادِ مرضِعةٍ وداءٍ مُغْيِلِ حملت به في ليلةٍ مَزْءُودةٍ ... كَرْهاً وَعَقْدُ نطاقها لم يُحْلَلِ فأتَتْ به حُوشَ الفؤاد مُبطَّناً ... سَهِداً إذا ما نام ليلُ الهَوْجَلِ وأدرك ذلك أيضاً الإِمام الجليل أبو حامد الغزالي، فجاء في كتابه "إحياء علوم الدين" من بين ما سرده في الخصال المطِّيبة لعيش الزوجين قوله (¬2): "ثامناً: أن لا تكون من القرابة القريبة. فإِن ذلك يقلل الشهوة. قال - صلى الله عليه وسلم - (لا تنكحوا القرابة القريبة فإِن الولد يخلق ضاوياً). وذلك لتأثيره في تضعيف الشهوة. فإِن الشهوة إنما تنبعث بقوة الإِحساس بالنظر واللمس، وإنما يقوي الإِحساس بالأمر الغريب الجديد، فأما المعهود الذي دام النظر إليه مدة فإِنه يضعف الحس عن تمام إدراكه والتأثر به، ولا تنبعث به الشهوة". إهـ. ¬

_ (¬1) شرح ديوان الحماسة للتبريزي 1: 84 - 86 ط مصطفى مُحَمَّدْ 1357. (¬2) ج 4 ص 132 - 133 لجنة نشر الثقافة الإِسلامية 1356.

أما النتيجة الثانية الخطيرة لشيوع البرود الجنسي وهي انتشار الشذوذ واستفحال دائه فهي راجعة إلا أن الرجل الذي ألف أن يقع نظره على مفاتن المرأة فلا يثور، يحتاج لكي يثور إلى مناظر وأوضاع تخالف ما ألِف. ثم إن إصابته بالبرود تحرمه لذةً من أكبر اللذائذ، ومتعةً من أعظم ما ينطوي عليه الناموس من المتع، وهي متعة تسكن عندها النفس ويطمئن القلب ويستقر الاضطراب. ومصيبته هذه بالبرود الجنسي تحرمه من الإِحساس بذكورته فيعاني أشد الألم مما يحسه في أعماق نفسه من الذلة والمهانة. ويدفعه ذلك إلى أن يحاول تحقيق متعة الاتصال الجنسي وإثباتها من كل الوجوه، عن طريق التقلب بين الخليلات وبائعات الهوى والتماس الشاذ الغريب من الأساليب والأوضاع، رجاء انبعاث ما ركد من ذكورته. وقد تدفعه مع ذلك إلى إغراق نفسه في المخدرات تعويضاً لما فقده من لذة، أو إلى الإِجرام أو المغامرة إثباتاً لذكورته من وجه آخر. ومثل هذا الشذوذ يشمل المرأة والرجل على السواء, لأن البرود الجنسي الذي يؤدي إليه هذا الاختلاط - بل الذي يسعى إليه دعاة الاختلاط - برود ذو شقين، لا يحقق ما يزعمونه من أهداف إلَّا إذا شمل الذكر والأنثى، فانتفت الرغبة الجنسية الجسدية في الطرفين كليهما عند اللقاء وعند اللعب وعند الممازحة والمراقصة. ويستطيع القارئ أن يتتبع هذه الظاهرة في المجتمع الغربي ليتبين آثارها المدمرة فيه، وهي آثار لا مفر معها من مثل مصير الذين خلوا من البائدين {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا}. وأنا أعلم أن كثيراً من الناس لا يقع منهم الدليل موقع الإِقناع إلَّا إذا نُسِب إلى الغرب. وإلى هؤلاء أسوق بعض ما نقلته صحف لا تتهم عندهم بالرجعية عن علماء الغرب وهيئاته. فمن ذلك ما نقله المصور (العدد 1689 ص 4) عن الأستاذ بيتريم ساروكين مدير مركز الأبحاث بجامعة هارفارد في كتاب له صدر أخيراً بعنوان (الثورة الجنسية)، حيث يقرر أن أمريكا سائرة بسرعة إلى كارثة في الفوضوية الجنسية، كما يقرر أنها متجهة إلى الاتجاه نفسه

الذي أدى إلى سقوط الإِمبراطورية الإِغريقية ثم الإِمبراطورية الرومانية في الزمان القديم. ويقول في ذلك الصدد (إننا محاصرون من جميع الجهات بتيار مطرد من الجنس يغرق كل غرفة من بناء ثقافتنا وكل قطاع من حياتنا العامة. وهذه الثورة التي تعبر بنا آخذة في تغيير حياة كل رجل وكل امرأة في أمريكا أكثر من أي ثورة أُخرى في هذا العصر). ومن ذلك ما جاء في صحيفة "الأخبار" (عدد 26 محرم 1377 ص 2 تحت عنوان: عالم أمريكي يقول إن المرأة الأمريكية باردة) حيث نقلت ما صرح به الدكتور جون كيشلر أحد علماء النفس الأمريكيين في شيكاغو، حين قال: (إن 90 في المائة من الأمريكيات مصابات بالبرود الجنسي، وأن 40 في المائة من الرجال مصابون بالعقم. وقال الدكتور: إن الإِعلانات التي تعتمد على صور الفتيات العارية هي السبب في هبوط المستوى الجنسي للشعب الأمريكي). ومن شاء المزيد فليرجع إلى تقرير لجنة الكونغرس الأمريكية لتحقيق الأحداث في أمريكا، الذي نقلته مجلة "التحرير" (العدد 234 تحت عنوان: أخلاق المجتمع الأمريكي منهارة). وهو يشير إلى ارتفاع نسبة تعاطي المخدرات بين الأحداث، وانتشار الحانات التي تقدم الخمور وكتب الجنس وقصص الجنس وأفلام الجنس وانتشار نوادي العراة بكثرة مخيفة على الشواطىء الشرقية خاصة. ومن شاء فليرجع كذلك إلى تقرير اللجنة التي شكلها مجلس العموم البريطاني للتحقيق في مشكلة الشذوذ الجنسي، فانتهت من بحثها إلى اقتراح إباحته بعد الواحدة والعشرين، وقد نشرته صحيفة "الأخبار" أخيراً. وأحب أن أشير إشارة موجزة إلى بعض مزاعم يؤيد بها دعاة الاختلاط مذهبهم الهدام. من ذلك ما يزعمه بعضهم من أن الريف العربي كله - ومنه قرى مصر - يمارس الاختلاط. والواقع أنه ليس هناك اختلاط بين الرجال والنساء في أيهما, ولم يوجد هذا الاختلاط في أي عصر من العصور. فسفور

القروية أو البدوية شيء والمجتمع المختلط شيء آخر. وكل الناس يعرفون أن الزي الذي رسمه الإِسلام للنساء من إطالة الثياب وتوسيعها، إلى تغطية الرأس بالخمار. والضرب بفضوله على الصدر، لا يتوافر في امرأة كما يتوافر في القروية والبدوية. ومن المعروف كذلك أن السفور في هذه البيئات لا يتجاوز معاونة المرأة لزوجها في بعض الأعمال، وهي معاونة محدودة فيما تستطيعه، مثل نقل الحطب أو جني الثمار أو القيام على الدواب أو نقل بعض المتاع والغذاء. على أنها لا تفعل شيئاً من ذلك إلَّا بدافع الفقر والحاجة. أما السَّراة فنساؤهن مصونات في البيوت. لذلك كان الشاعر العربي إذا وصف المرأة الكريمة قال إنها (نَؤُوم الضُّحى). على أن التي يلجئها الفقر إلى الخروج لا تخاطب الغرباء إلَّا بقدر ما تدعو إليه الحاجة الماسة الضرورية. وهي تضع طرف خمارها بين يدها وبين يد الرجل أذا سلمت عليه. ومن المؤكد على كل حال أنها لا تجالس الرجال في أسمارهم أو عقودهم، بل ولا تشارك أهل بيتها من الرجال على المائدة في بعض الأحيان. فأين ذلك كله من المجتمع المختلط؟ ومن هذه المزاعم كذلك ما يروِّجونه من أن الأخطاء التي نشاهدها الآن من آثار الاختلاط سوف تزول كما زالت في الغرب حسب زعمهم. وواقع الأمر أن الأخطاء لم تزل في الغرب، ولكن حياء الغربيين والغربيات هو الذي زال. ونحن ناس خلق ديننا الحياء، والحياء خيرٌ كلُّه كما قال سيدنا رسول الله. إن الذي يدمن الحياة بين نَتَنِ الِجيَف وَعفَنِ الأقذار يفقد الإِحساس بالنتن والعفن، ولكن هذا لا يعني أن النتن قد زال. ومن أعجب ما يلجأ إليه دعاة الاختلاط في بعض دعاياتهم أنهم يعارضون الإِسلام بما جرى عليه العُرْف عند بعض البائدين كالفراعنة، أو بمذاهب بعض الدراسات الاجتماعية والنفسية الحديثة. ومعارضةُ الإِسلام بهذه أو بتلك لا تصدر إلَّا من جاحد بالله ورسالاته وكتبه, لأن الفرعونية ليست ديناً وليست مذهباً خلقياً، ولكنها عصر تاريخي قد يكون فاسداً وقد يكون ضالًا وقد يكون كافراً بالله. وقد قطع الإِسلام ما بين إبراهيم عليه الصلاة والسلام وبين أبيه، وقطع ما بين نوح عليه السلام وبين ابنه، وبين

لوط عليه السلام وبين زوجته، فكيف لا يقطع الإِسلام ما بيننا وبين الكفار من الفراعنة، والله سبحانه وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23)} [التوبة: 23] أما الدراسات النفسية والاجتماعية فهي الآن دراسات موجَّهة تخضع لمذاهب الدارسين وأهوائهم. ولذلك فهي متشعبة إلى مذاهب ومدارس متباينة، تتعرض لتغير دائم لا يكاد يستقر. فترك نصوص الدين الثابتة إلى هذه الفروض المتغيرة التي ينقض بعضها بعضاً هو اتباع للظن المفرِّق للوحدة، والباعث على التنازع المؤدي للفوضى والانحلال. ومن غير الجائز بوجهٍ عام، وفي أي حال من الأحوال، أن يحُتَكَم في مثل هذه الشؤون إلى بعض مذاهب الناس قديماً أو حديثاً. فهذه المذاهب والآراء إن صلحت لدارس فنون الشعوب وعاداتها (الفولكلور) لكي يتصور منها صورة للمجتمع في بيئاته المختلفة وفي عصوره المتتالية، فهي لا تصلح في كل الأحوال لأن تكون قدوة صالحة، ولا يصح أن تكون مذهباً خلقياً أو أجتماعياً يُعارَض به مذهب الإِسلام. فما اختلفنا فيه من شىِء فَمَرَدُّه إلى كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لا إلى الفراعنة، ولا إلى ما اعتاده الناس وما جري عليه العرف هنا أو هناك. ومَنْ اعتراه أدنى شك في أن مصالح الناس ومصلحة الوطن لا تتعارض مع الدين فقد أخرج نفسه من عِداد المسلمين. ثم إني أحب في آخر الأمر أن أضع بين يدي القارئ مقتطفات من خطة الصهيونية الكبرى للسيطرة على العالم عن طريق هدم كل ما فيه من قوى، التي اكتُشِفَت مخطوطاتها وذاع سرها للمرة الأولى في أواخر القرن التاسع عشر، وهي الخطة المشهورة باسم "بروتوكولات حكماء صهيون" فقد تُعين على تدبر بعض ما ذكرته. جاء في البروتوكول الأول: (يجب أن ننظر إلى أولئك السكارى الذين تبلدت أذهانهم بفعل الخمر. إن الحرية أتاحت لهم هذا الإِفراط والإِدمان ...

إن الشعب لدى المسيحيين أضحى متبلداً تحت تأثير الخمر، كما أن الشباب قد انتابه العَتَه لانغماسه في الفسق المبكر الذي دفعه إليه أعواننا من المدرسين والخدم والربيات اللاتي يعملن في بيوت الأثرياء، والموظفين والنساء اللاتي تعملن في أماكن اللهو، ونساء المجتمع الزعومات اللواتي يقلدنهن في الفسق والترف). وجاء فيه أيضاً: (لقد كنا أول من صاح في الشعب فيما مضى "بالحرية والإِخاء والمساواة"، تلك الكلمات التي راح الجهلة في أنحاء المعمورة يرددونها بعد ذلك دون تفكير أو وعي ... إن نداءنا "بالحرية والمساواة والإِخاء" اجتذب إلى صفوفنا من كافة أركان العالم، وبفضل أعواننا، أفواجاً بأكملها لم تلبث أن حملت لواءنا في حماسة وغيرة. وكانت هذه الكلمات - في ذلك الوقت- تسيء إلى الرخاء السائد لدى المسيحيين وتحطم سلمهم وعزيمتهم ووحدتهم، عاملة بذلك على تقويض دعائم الدولة. وأدى ذلك العمل إلى انتصارنا). وجاء في البروتوكول الثاني: (.. أما غير اليهود فإِنهم لا يستفيدون من تجارب التاريخ التي تمر بهم، ولكنهم يتمسكون. بنظريات روتينية دون تفكير في النتائج التي قد يسفر عنها هذا المسلك، لذلك فنحن لا نعير غير اليهود آية أهمية، فليلهوا ما طاب لهم اللهو حتى ينقضي الوقت، وليعيشوا على أمل ملذات جديدة أو في ذكرى متع سالفة، وليعتقدوا أن هذه القوانين النظرية التي أوحينا بها إليهم ذات أهمية قصوى، فبهذا الاعتقاد الذي تؤكده صحافتنا نزيد من ثقتهم العمياء في هذه القوانين ... يجب أن لا يكون هناك اعتقاد في أن مناهجنا كلمات جوفاء. فنحن الذين هيأنا لنجاح دارْوِنْ وماركس ونِيتْشَه (¬1)، ولم يَفُتنا تقدير الآثار السيئة التي تركتها هذه النظريات في أذهان غير اليهود). ¬

_ (¬1) من المعروف أن (فرويد) رأس المزاعم النفسية الحديثة التي تستند إلى ما سمّاه العقلِ الباطن، والتي تجعل الغريزة الجنسية محور الشخصية الإنسانية يهودي. بل لقد كان معروفاً بتعصبه المفرط لليهود فلم يكن يختار مساعديه وأعوانه إلَّا منهم.

وجاء في البروتوكول الرابع: (إن لفظة الحرية تجعل المجتمع في صراع مع جميع القوى، بل مع قوة الطبيعة وقوة الله نفسها ... على أن الحرية قد لا تنطوي على أي ضرر، وقد توجد في الحكومات وفي البلاد دون أن تسيء إلى رخاء الشعب، وذلك إذا قامت على الدين والخوف من الله والإِخاء بين الناس المجرد من فكرة المساواة التي تتعارض تماماً مع قوانين الخليقة، تلك القوانين التي نصَّت على الخضوع. والشعب باعتناقه هذه العقيدة سوف يخضع لوصاية رجال الدين ويعيش في سلام ويسلِّم للعناية الإِلهية السائدة على الأرض، ومن ثَمَّ يتحتم علينا أن ننتزع من أذهان المسيحيين فكرة الله والاستعاضة عنها بالأرقام الحسابية والمطالب المادية). وجاء في البروتوكول الخامس: (ولكي نطمئن إلى الرأي العام يجب باذىء ذي بدىء أن نربكه تماماً فنسمعه من كل جانب وبشتى الوسائل آراء متناقضة لدرجة يضل معها غيُر اليهود الطريق في تِيهِهم، فيدركون حينئذ أنّ أقْومَ سبيل هو أن لا يكون لهم أي رأي في الشؤون السياسية ... والسر الثاني الملازم لنجاح حكومتنا يقوم على مضاعفة الأخطاء التي ترتكب والعادات والعواطف والقوانين الوضعية في البلاد لدرجةٍ يتعذر معها التفكير تفكيراً سليمًا وسط تلك الفوضى ... وسوف تساعدنا تلك السياسة كذلك على بث الفرقة بين جميع الأحزاب وعلى حل الجماعات القوية وعلى تثبيط عزيمة كل عمل فردي يمكن أن يعرقل مشروعاتنا). وجاء في البروتوكول الثامن: (لا يتيسر إسناد المناصب الرئيسية في الحكومة إلى إخواننا اليهود. لذلك فإِننا سنسند المناصب المهمة إلى أناس من ذوي السمعة السيئة حتى تنشأ بينهم وبين الشعب هوة سحيقة، أو إلى أناس يمكن محاكمتهم والزج بهم في السجون إذا ما حالوا دون تنفيذ أوامرنا. والغرض من هذا هو إرغامهم على الدفاع عن مصالحنا حتى النفس الأخير). وجاء في البروتوكول التاسع: (ولكي نحطم التنظيمات التي أقامها غير اليهود عاجلاً، فإِننا قد دعمناها بخبرتنا وأمسكنا بأطراف أجهزتها، فقد كانت الأجهزة تسير في الماضي بنظام صارم ولكن عادل، فأحللنا محله نظاماً متحرراً

غير منتظم، ووضعنا يدنا على التشريع، وعلى المناورات الانتخابية، وتحكمنا في إدارة الصحافة وفي نمو الحرية الفردية. والأهم من ذلك كله إشرافنا على التعليم وهو المعوَّل الرئيسي للحياة الحرة). وبعد، فإِني أسوق هذا الحديث إلى دعاة المجتمع المختلط في المدارس وفي الجامعات وفي الأندية والمجتمعات، وفي المصانع والمتاجر، وفي إدارات الحكومة ومحافلها، وفي المعسكرات والمهرجانات، حيث تُعَرض أجساد الطالبات وأفخاذهن وأذرعهن ومفاتن أجسادهن في تمايلهن وتثنيهن باسم الرياضة والفن، والتي انتهت أخيراً إلى إجراء مسابقات للسباحة في الجامعات تظهر فيها الطالبات عاريات إلَّا من زي الشاطئ الذي لا يستر من العورات إلَّا ما يضاعف فتنتها وإغراءها، وذلك على مشهد من الأساتذة والطلاب في منشآت الجامعات الرياضية. إلى هؤلاء جميعاً أسوق الحديث. ثم إني أرجيء الشطر الآخر من الموضوع، وهو الخاص باشتغال المرأة بأعمال الرجال مما جرى عرف بعض الناس في هذه الأيام على تسميته "حقوق المرأة" إلى حديث تال إن شاء الله.

الجنس الثالث

الجِنسُ الثَّالِث* أحسن ما قرأته في وصف النساء المترجِّلات، اللاتي يأبين إلَّا الخروج على فطرتهن، والزجَّ بأنفسهن في ميادين الرجال، تسميةُ أحد كتاب الإِنجليز لهن "الجنس الثالث". فالواقع أن هذه التسمية وصف صادق كل الصدق لهذه الطبقة الجديدة من النساء التي برزت مشكلتها في المجتمع الأوروبي منذ أواخر القرن الميلادي الماضي، بعد أن تكاثر عددها فيه وطغى سيلها. ذلك لأنهن قد فقدن أنوثتهن فلم يعدن نساء، وابتذلن أجسادهن وأرْخَضْن مفاتهن حتى عافها الرجال وانصرفوا عنها. ثم إن فطرتهن وخلقتهن تأبى عليهن من بعدُ أن يَدْخلن في عِدَاد الرجال. من أجل ذلك سماهن ذلك الكاتب الإنجليزي الحصيف "الجنس الثالث"، بعد أن أخرجن أنفسهن من عداد النساء واستحال عليهن أن يدخلن في عداد الرجال، فهن يخالفن الرجال طبيعة وتركيباً، ويخالفن النساء وظائف وأعمالاً. "وقد درس هذا الأستاذ أحوالهن درساً مدققاً فوجد أنهن يتركن الزواج. وبانتزاعهن أنفسهن من وظائفهن الطبيعية كالأمومة وما يتبعها قد تغيرت إحساساتهن عن إحساسات بنات جنسهن، وصرن في حالة من الكآبة تشبه أعراض الماليخوليا" (¬1). أساءت المرأة إلى نفسها وأساء إليها الذين ظاهروها وأعانوها ممن يزعمون أنهم أنصارها. فقد كانت ريحانة تشَمّ، فأصبحت مشكلًا يتطلب الحل، وكانت عِرْضاً يصان وأمانة تحفظ، فأصبحت حملاً ثقيلا يضيق به الأب ¬

_ (*) نشرت في عدد جمادي الآخرة سنة 1377 من مجلة الأزهر. (¬1) "تربيهَ المرأة" للاقتصادي المشهور مُحَمَّدْ طلعت حرب ص 28 ط مصر 1317 هـ (1899 م).

والأخ ويتحتم معه على المرأة أن تعمل لتعيش. نشأ الجيل السابق على أن يكفلها ويكفيها حاجتها، وكان هذا التقليد عقيدة مركوزة في أعماق كل نفس، يحرسها الإجماع عليها, ولا يخطر لأب أو ابن أو أخ أو زوج أن يتخلى عنه ويخرج من عهدته، فلما عملت المرأة لنفسها وشاع ذلك في المجتمع ماتت هذه العادة، وماتت معها الروءة التي كانت تدفع إليها، والغيرة التي كانت سبباً في المحافظة عليها، وأصبحت المرأة إذا لم تبحث عن العمل من نفسها دفعها وليها إليه دفعاً وألزمها به إلزاماً. بل لقد أصبح القانون يلزمها بالعمل في النظام الشيوعي، وأصبح الواقع يلزمها به في النظام الرأسمالي. وأصبحت التي لا تعمل في أيامنا لا تجد اللقمة ولا تجد الزوج, لأن الرجال إن عدموا ذوات المال من الزوجات بحثوا عن الكادحات الكاسبات. وكاد ذلك يصبح قانوناً من قوانين حياتنا يقضي على المستعففات بالبوار والهلاك. فهل هذا هو ما يسميه الخادعون والمخدوعون والخادعات والمخدوعات "حقوق المرأة"؟ وفي الوقت الذي يتجرع فيه الغرب آثار خروج المرأة على فطرتها ووظيفتها، كان بعض كتابنا ومفكرينا ينادون بأن نأخذ في ذلك الطريق الذي انتهى بالغرب إلى ما هو فيه من مشاكل اجتماعية واقتصادية هزت دعائم مجتمعه هزَّاً عنيفاً أفقده استقراره واتزانه وعرَّض سلامته وكيانه لأشد الأخطار. ولقد يبدو للدارس المتأمل أن المرأة لا توضع الآن حيث تدعو الحاجة - صحيحة كانت أو مزعومة - إلى أن توضع، ولكنها توضع لإِثبات وجودها في كل مكان، ولإِقحامها على كل ما كان العقل والعرف ينادي بعدم صلاحيتها له. فليس المقصود بتوظيفها في هذه الأيام سد حاجة موجودة، ولكن المقصود هو مخالفة عرف راسخ، وتحطيم قاعدة قائمة مقررة، وإقامة عرف جديد في الدين وفي الأخلاق وفي الذوق، وخلق المبررات والمقومات التي تجعل انسلاخنا من إسلامنا وعروبتنا وشرقيتنا أمراً واقعاً، كما تجعل دخولنا في دين الغرب ومذاهب الغرب وفسق الغرب أمراً واقعاً كذلك. وأخطر ما في هذه الدعوة وأمثالها مما يراد به حملنا على كل فاسد من مذاهب الغرب أن أصحابها يريدون إقحامها على إسلامنا زاعمين أنها لا تعارضه. وقد كان قاسم أمين هو أول من جرَّأ الناس على تحريف

النصوص حين طلع علينا بطائفة من المزاعم التي تقوم على المجازفة، ومن النصوص الحرفة عن مواضعها والمخلوعة من سياقها خلعاً يخرجها عن مدلولها، وحين تصيَّد من كتب التاريخ ورواياته - على اختلاف درجاتها ودرجات مؤلفيها - كلَّ شاذ غريب فحشدها في حيِّز واحد وضمَّ بعض أشتاتها إلى بعض، حتى خيَّل إلى قارئها أنها - على شذوذها وقلتها - شيء مألوف كثير الوقوع. ومع أن هذا الذي جمعه هو خلاصة ما في الكتب - صحيحها وسقيمها - من غرائب الأخبار والآراء التىِ تصور حالات شاذة نادرة لا تنهض بها حجة ولا يَبْطُلْ بها عرف، ومع أن كثيراً من النصوص التاريخية أو الفقهية التي اقتطفها ناقصة الدلالة غامضة العبارة، فقد استطاع أن يروج ذلك كله بين الناس بمرور الأيام، بفضل قوة حزبه الذي كان يسميه اللورد كرومر. حزب الشيِخ مُحَمَّدْ عبده (¬1) حتى أصبحت هذه النصوص مِنْ بعدُ - على فساد الاستدلال بها - هي البضاعة المشتركة لمتابعي دعوته ومطوِّريها. وذلك كله هو الذي دعا الشاعر شوقي - رحمه الله - إلى أن يتساءل عن حقيقة صنيع قاسم أمين: أهو غيرة المدافع عن النصوص الإِسلامية، أم هو إغارة المحرف لها عن مواضعها؟. وذلك من قصيدة له ألقاها سنة 1928 م، وعرض فيها للباقته في الاستدلال، وبراعته في الجدال، فقال: ولك البيان الجَزْلُ في ... أثنائه العلم الغزير في مطلبٍ خشنٍ كثيـ ... رٍ في مزالقه العثور ما بالكتاب ولا الحديث ... إذا ذكرتهما نكير حتى لنسأل: هل تغا ... ر على العقائد أم تغير؟ ¬

_ (¬1) راجع نص تقارير كرومر المرفوعة إلى البرلمان الإِنجليزي (ط لندن) في تقرير سنة 1905 (المقدم إلى البرلمان الإِنجليزي في أبريل 1906) الفقرة 7 ص 15 - 16. وراجع كذلك تقرير سنة 1906 (القدم إلى البرلمان في أبريل 1907) في الفقرة 3 ص 8. وقد أوصى كرومر في هذه التقارير وفي كتابه (Modern Egypt) بذلك الحزب خيراً وعلق على رجاله الآمال في رعاية المصالح الإِنجليزية عن طريق إنشاء علاقات من الود والتفاهم بين الإِنجليز وبين المسلمين في مصر. " Reports by his Majety,s Agent and Consul General on the Finances. Administration, and Condition of Egypt and the Sudan".

وقد لا تكون هناك نصوص صريحة في القرآن أو في الحديث تمنع المرأة من العمل في خارج البيت لكسب عيشها حين تدعو إلى ذلك ضرورة، ولكن من المؤكد أن اتخاذ هذه السنة أصلاً من أصول التنظيم الاجتماعي يخالف روح الشريعة ويناقض كثيراً من نصوصها ويتعارض مع كثير من شرائعها وحدودها تعارضاً واضحاً. 1 - قال تعالى في كتابه العزيز: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} (النساء 34) تشير الآية إلى ناموس من نواميس الله الثابتة وهي قوامة الرجال على النساء، وقد ناط سبحانه وتعالى حكمته في ذلك بسببين ظاهرين: أولهما أن فطرة الرجل تخالف فطرة المرأة، فهي تفضله في تدبير شؤون البيت وتربية الولد والقيام عليه، بما جبلت عليه من الحنان والرقة ومن التركيب العضوي الذي يعينها على وظيفتها مثل ضعف جهازها العصبي الذي يقلل إحساسها بآلام الحمل والوضع, وإن كان يجعلها في الوقت نفسه أكثر استهدافاً لأنواع الأمراض وأسرع تهيجاً وأقوى انفعالاً، مما يؤثر في سلامة التقدير وصحة الإِدراك ويجعلها أقل قدرة من الرجل على مجابهة الأزمات والتماسك أمام الشدائد والملمات. أما الرجل فهو يفضلها - لما سلف من الأسباب - في القوة البدنية وفي قوة التفكير وصحة التقدير ورباطة الجأش، مما يعده للكفاح ومعالجة المشاق، والكدح وراء معاش الأسرة، وفي سبيل الحفاظ على كيانها ودفع ما يتهدده من أخطار. والسبب الثاني الذي انبنت عليه هذه القوامة هو أن الرجل يتولى الإِنفاق, لأنه هو الذي يكسب المال حسب ما جبل عليه. فليس من العدل أن يكلف فرد بالانفاق على هيئة أوجماعة ثم لا يكون له رأي في الإِشراف على مصارف هذه النفقة. وعلى ذلك تجري الحكومات النيابية العاصرة، ويعتبر ذلك أصلاً من أصول تشريعاتها. فإِذا جرينا على اعتبار عمل المرأة في خارج المنزل وكدها في سبيل كسب

المال إلى جانب الرجل أصلاً من أصول تقنيننا الاجتماعي، فقد أخرجناها عن وظيفتها من ناحية، وقد أخللنا بما هو مقرر في الآية الكريمة من قوامة الرجل عليها من ناحية أخرى, لأن هذه القوامة مبنية على أصلين: أحدهما فضل الرجل على المرأة في الصلاحية للعمل خارج البيت، وثانيهما أنه هو الكلف بالانفاق على الأسرة. ومن المظاهر التشريعية لتطبيق الأصل الأول - وهو فضل الرجل على المرأة في الصلاحية للعمل خارج البيت - أن شهادة المرأة لا تغني عن شهادة الرجل، ولا بد من انضمام امرأتين اثنتين إلى الشاهد الأول لكي تكون شهادتهما معادلة لشهادة رجل واحد وذلك بنص كتاب الله الحكيم في قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} (البقرة 282) فالآية الكريمة تعلل ذلك بأن المرأة التي ليس من شأنها أن تخالط الرجال في شؤون العمل والحياة، والتي تتحفظ في هذا الاختلاط إن دعتها إلى ذلك الحاجة أو ساقتها إليه المصادفة، هي مظنة أن لا تعي تفاصيل الواقعة التي تدلي بشهادتها فيها كما يعيها الرجل. لذلك كانت في حاجة إلى أن تظاهرها امرأة أخرى في هذه الشهادة حتى يقوم اتفاقهما مقام شهادة رجل واحد (¬1). ومن المظاهر التشريعية لتطبيق الأصل الثاني - وهو تكليف الرجل بالإِنفاق على الأسرة - أن نصيبه المقرر في الميراث ضعف نصيب المرأة، وذلك بنص قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} (النساء: 11) ¬

_ (¬1) وقد اعترف بهذا التفاوت بين الرجال والنساء في الشهادة وأمثالها كثير من حكماء الغرب ولا سيما في ايطاليا، كما بسطه الأسناذ كامل أحمد ثابت من رجال القانون والقضاء في كتابه (علم النفس القضائي) ص 22، 24، 123.

فإِذا قررنا أن تعمل المرأة إلى جانب الرجل في مختلف ميادين العمل والانتاج والوظائف، وجعلنا ذلك - اقتداء بالغرب - أصلاً من أصول التنظيم الاجتماعي، فقد أبطلنا كل هذه التشريعات القرآنية - أصولها وفروعها - لمغايرتها عند ذلك لظروف الحالة الجديدة الطارئة. ومع ذلك كله فقوامة الرجل على المرأة لا تقتضي تفضيله عليها في الدين أو في الدنيا: فالله سبحانه وتعالى يقول: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} (آل عمران 195) ولكن هذه القوامة قاعدة تنظيمية تستلزمها هندسة المجتمع واستقرار الأوضاع في الحياة الدنيا, ولا تسلم الحياة في مجموعها إلا بالتزامها. فهي تشبه قوامة الرؤساء وأولي الأمر، التىِ لا تستلزم أن يكون الرؤساء أفضل من كل المحكومين، ولكنها مع ذلك ضرورة يستلزمها المجتمع الإِنساني، ويأثم المسلم بالخروج عليها مهما يكن من فضله على ولي الأمر في العلم أو في الدين. 2 - يقول تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} (البقرة 228) ويقول سبحانه: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} (البقرة 237) والآيتان كلتاهما تؤكدان ما قررته الآية الأولى من قوامة الرجال على النساء. ومن مظاهرها في الآية الثانية جعل عقدة النكاح في يد الرجل، وهي قوامة تسقط من تلقاء نفسها وتصبح داحضة بوضع المرأة مع الرجل على قدم المساواة في ميادين العمل والكسب.

3 - انبنت قوامة الرجل - كما سبق - على أصلين، أحدهما أنه هو المكلف بالانفاق على الأسرة، وفي الآية الأخيرة إشارة إلى هذا الواجب المقرر، فالرجل هو الذي يسوق المهر إلى زوجته.- على عكس ما هو مقرر عند الغربيين الذين يزعمون أنهم أكثر إنصافاً للمرأة - ويسقط نصف حقه في هذا المهر إن طلق زوجته قبل أن يدخل بها. وهناك آيات أخرى كثيرة تؤكد هذا الواجب الملقن على عاتق الرجل، واجب الإِنفاق على الأسرة وكفالتها. فمن ذلك قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (البقرة 233) ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236)} [البقرة: 236] ومنه قوله تعالى. {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240)} [البقرة: 240] في هذه الآيات تأكيد لما هو مقرر من تكليف الرجل بالانفاق. وهو تكليف يقوم على أن المرأة لا تعمل لكسب المال, لأنها مصروفة عنه إلى غيره من الأعمال التي أعدتها لها فطرة الله التي فطر الناس عليها. فإِذا أخذ المجتمع بأن تعمل المرأة عمل الرجال لزم تغيير هذه التشريعات. وتغيير هذه

التشريعات يخرج السلمين من إسلامهم لأنهم مكلفون بالرجوع إلى كتاب الله في شؤون دينهم ودنياهم والإِذعان له والتسليم بما جاء فيه، لا يحيدون عنه ولا يبدلونه، ولأن ما قرره القرآن من القوانين وما وضعه من الحدود منسوب إلى الله سبحانه وتعالى، محكوم على من يتجاوزه بالظلم والفسق بنص كتاب الله العزيز، فالله سبحانه وتعالى يقول في أحد المنافقين، وكان قد احتكم إلى النبي عليه الصلاة والسلام ثم لم يرض حكمه فأعاد الاحتكام إلى كعب بن الأشرف اليهودي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} (النساء: 59 - 65) ويقول تعالى بعد تبيين بعض أحكام الطلاق: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)} [البقرة: 229]

{وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (الطلاق: 1) ويقول تعالى بعد تبيين أحكام الميراث: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)} (النساء: 13، 14) ومع ذلك كله فالله سبحانه وتعالى يقول: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32)} [النساء: 32] نزلت هذه الآية حين قالت أم سلمة ونسوة معها: ليت الله كتب علينا الجهاد كما كتبه على الرجال فيكون لنا من الأجر مثل ما لهم. فالآية تأمر الرجل والمرأة كليهما أن يلزم كل منهما وظيفته التي هيأه الله لها، وتبين لهما أن الله سبحانه وتعالى يثيب المرأة على إخلاصها لوظيفتها مثل ثواب الرجل على إخلاصه لوظيفته. ثم إني أحب أن أسأل الذين يحاولون أن يُسوِّغوا باطلهم الذي يقحمونه على إسلامنا بمزاعم يتحايلون على إلصاقها بالدين ونصوصه. أحب أن أسأل هؤلاء سؤالاً حاسمًا يفرق بين الحق والباطل: هل تعلمون أن أحداً من المسلمين قد دعا قبل اليوم بدعوتكم؟ فإِذا كان ذلك لم يحدث من قبل فهل تستطيعون أن تزعموا أن صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفقهاء المسلمين قد غفلوا

جميعاً عن فهم نصوص دينهم، حتى جاء هؤلاء الذين أوحى إليهم شياطين الجن والإِنس في باريس من أمثال قاسم أمين فانتكس تفكيرهم بين معاهدها ومباذلها، حين لم يعتصموا من دين الله بحبل متين، ولم يأووا بهديه إلى ركن شديد، يذود عنهم كل شيطان مريد، وذلك حين بعثوا إلى تلك البلاد لينقلوا إلينا الصالح النافع من علومها وصناعاتها فضلوا الطريق، وعادوا إلينا بغير الوجه الذي بعثوا به. جاء هؤلاء بعد ثلاثة عشر قرناً من نزول القرآن ليخرجوا للناس حقائق التنزيل التي غاب علمها عن الأولين والآخرين من الفقهاء والمفسرين، ويضربوا بإِجماع المسلمين في الأجيال المتعاقبة والقرون المتطاولة عُرْضَ الحائط. أليس ابتداع هذه الدعوة في ظل الاحتلال الإِنجليزي وتَزعُّمُ فريق من المتفرنجين الذين عرفوا بموالاة ذلك الأجنبي المحتل، هو وحده دليلاً كافياً على أنها طارئة علينا من الغرب تقليداً لمذاهب أهله المبتدعين في دينهم بأهوائهم وأهواء رؤسائهم والخارجين على نصرانيتهم وكتابها.؟ ولو تدبر الناس الأمور وعقلوها ولم ينقادوا في ذلك وراء شهواتهم ولم يسلموا زمامهم لما يزوِّره المضللون وأصحاب الأهواء من زخرف القول لأدركوا وجه الحق، ولقادهم المنطق السليم النزيه إلى الالتقاء بشرع الله، واكتشاف ما تنطوي عليه أقوال الذين يتصدون للدفاع عما يزعمونه (حقوق المرأة) من أخطاء. وأول أخطاء هؤلاء أنهم يجعلون أكبر همهم مصروفاً إلى إثبات أن المرأة تستطيع القيام بأعمال الرجل، وأنها إنسان مثله لا فرق بين عقلها وعقله، ويجهدون أنفسهم في حصر الأمثلة التي تؤيد زعمهم ممن نبغ من النساء في مختلف العصور. وليس هذا هو لب المشكل وصميمه، ولا هو بالمقياس الصحيح في تقدير المسألة، ولكن لب المشكل وصميمه هو: هل يؤثر اشتغال المرأة بأعمال الرجال على إتقانها لعملها النسوي الأصيل؟ ثم، ماذا يحدث لو انصرف كل النساء إلى أعمال الرجال؟ هل يتحتم على الرجال عند ذلك أن يقوموا هم بأعمال النساء؟ وإذا قبلوا ذلك فهل يصلحون له وهل يتقنونه؟ من الواضح أن عمل الأنثى الأول الذي لا يصلح له غيرها هو النسل وحفظ النوع, لأن تركيب الذُّكران العضوي لا يسمح لهم يحمل الجنين ولا

بإِرضاعه. ومن الثابت أن إرهاق المرأة بالعمل يترك أثراً في مزاجها وفي أعصابها، ومن الثابت أيضاً أن ذلك الأثر ينتقل إلى جنينها في حالة الحمل، كما ينتقل إلى طفلها في حالة الرضاعة. بل إن بعض علماء الوراثة يتحدثون عن وراثة الصفات والأعراض الطارئة على الأب والأم كليهما في أثناء العلوق والحمل. فالمرأة التي نيط بها حمل الجنين، والسهر على أمنه وسلامته في بطنها ومن بعد أن يخرج إلا الدنيا، محتاجة لأن تُكفى مئونة التعرض للمهيجات العصبية والإِجهاد العضلي أو العقلي، الذي تصل آثاره إلى ربيبها جنيناً ورضيعاً، وتترك فيه أسوأ الآثار. وذلك شيء يقضي به أوجب الواجبات وأهمها، وهو الحافظة على سلامة النوع البشري. ثم إنها محتاجة بعد ذلك إلى أن توفَّر لها الفرصة الكاملة لملازمة طفلها ملازمة كاملة تسمح بأن يُصنع على عينها جسمًا وعقلاً وخُلُقاً، لكي تغرس فيه العادات الفاضلة، وتجنبه ما قد يعرض له أو يطرأ عليه من عادات قبيحة. ومثل ذلك لا يتأتي بالأمر أو النهي مرة أو مرات. ولكن لا بد فيه من المراقبة الدائمة، والإِشراف على تكرار الفعل حتى يرسخ في نفسه. واليقظة على الزجر مرة بعد مرات عن بعض الأفعال الأخرى حتى يحال بينها وبين الرسوخ في نفسه. وهذه المراقبة التي لا تغفل، التي تتسم بالصبر الذي لا يمل، هي وحدها التي تسمح باكتشاف أعراض الداء في البنين والبنات قبل أن يستفحل ويتعذر علاجه. والقول بأن كل صلة الأم بولدها تنحصر في الحمل والوضع هو نزول بالإِنسان إلى مرتبة الحيوان. فالإِنسان يمتاز بطول حضانته لأطفاله. وهي حضانة ليست غذائية فحسب كما هي في سائر الحيوان، ولكنها خلقية وعقلية أيضاً في الإِنسان، وذلك من أهم الأسباب في تقدم البشرية, لأنه يورث الجيل التالي تجارب الأجيال السابقة، بما يمكِّنه من متابعة الشوط وتوفير الوقت والجهد الذي يضيع في تكرار التجارب. واعتماد المرأة العاملة على الخدم وعلى دور الحضانة في رعاية وليدها لا يؤدي إلى كمال تنشئته, لأن الاخلاص له والحرص على ابتغاء الكمال من كل وجه لا يتوافر في أحدٍ توافره في الأم, لأن من وراء إخلاصها وحرصها غريزة الأمومة. والحرص على الواجب في الخدم وفي دور الحضانة لا يمكن أن

يرتفع إلى مرتبة الغريزة مهما افترضنا فيه من السمو، ومهما عملنا على ترقيته إلى أقصى درجات الكمال، ومهما تجاهلنا جنايات الخيانة والإِهمال والإِفساد التي لا تحصى شواهدها في واقع الحياة. ولجوء الأم العاملة إلى الوسائل الصناعية في إرضاع طفلها خيانة للأمانة وتفريط فيها وتعطيل لسنة الله, لأن الله سبحانه لم يخلق ثدي الأنثى لتبرزه في السهرات وتكشف عن جماله وتنصبه شركاً في الطرقات، ولكنه أوجده أصلاً للإِرضاع. والرضاعة مع ذلك ليست عملية عضوية آلية فحسب، ولكنها حنان متبادل وميثاق غليظ. وليس لنا أن نتوقع بعد شيوع الرضاعة الصناعية إلا السعي لاختراع وسيلة للحمل الصناعي بعيداً عن بطن الأم - إن أمكن - توفيراً لجهدها وصيانة لجمالها! وقد كان أنصار تعليم المرأة في أول هذا القرن يحتجون لدعوتهم بأن تعليم المرأة أعونُ لها في حسن القيام على تربية أولادها، فلما تعلمت المرأة نسوا ما كانوا يدعون إليه أو تناسوه، وراحوا يعملون على أن تكون المرأة صورة مكررة من الرجل. وصنيعهم هذا دليل على أنهم غير مخلصين فيما يدعون إليه، وأن لهم من وراء دعواتهم أهدافاً وغايات تخالف ظاهر أقوالهم. ولو شئنا لقلنا بعد ذلك كله لأعداء المرأة وأعداء أنفسهم ممن جرى عرف الصحف والكتاب في هذه الأيام على تسميتهم (أنصار المرأة): إن المرأة لا تصلح للكد وممارسة الأعمال العامة صلاحية الرجل. لأنها بحكم تكوينها تحيض أسبوعاً في كل شهر، وهي حالة تكاد تكون مرضاً يخرجها عن مألوف عاداتها. وهي بعد ذلك إن حملت ظلت تعاني في الشهور الأولى من حالات (الوحَم) وما يلازمه من أسقام. ثم إنها تعاني في الشهور الأخيرة من ثقل الحمل الذي يقيِّد حركاتها حتى يكاد يشلها. فإِذا لم تكن المرأة العاملة متزوجة كانت مشغولة بالبحث عن الزوج، معرضة للزلل والتفريط عند كل بارقة من الأمل في الظفر به، وهي لا تعدل عن ذلك ولا تتصرف عنه إلا لعلة قد تكون شراً من البحث عن الزوج وأخطر. وقد زعم أعداء المرأة المتسمين بأنصارها أن لزومها للمنزل انتقاص

لحقوقها وقتل لشخصيتها واعتداء على كيانها. ومن قلب الأوضاع أن نسمي المصون المخدوم المكفَّى الحاجة سجيناً حسب ما توهم صاحب (تحرير المرأة) كما يبدو من عنوان كتابه. وقد عاشت المرأة ما عاشت مكرمة معززة مدللة حاكمة على زوجها من خلف ستار، ولم تحس يوماً أنها مهضومة الحق أو أنها مضطهدة أو سجينة أو مهدرة الكرامة والشخصية، حتى ظهر ذلك النفر من الكتاب فأحلَّ الصراع والتنازع بين الجنسين محل التواد والتراحم. ومن عجيب أن الذين حملوا اللواء في الدعوة إلى ما يسمون (حقوق المرأة) كانوا من الرجال ولم يكونوا من النساء، ولم يكن من وراء صنيعهم إلا إفساد الحياة على المرأة والرجل كليهما. ذلك لأن الحياة تحتاج إلى طمأنينة توفر للناس السعادة والاستقرار، وثورة النساء والرجال كل منها على الآخر تُحِمل القلق والبغضاء محل الطمأنينة والحب بين الجنسين اللذين أراد الله سبحانه وتعالى أن يجعل بينهما مودة ورحمة ينبني عليهما عمران الكون وحفظ النوع البشري. والمجتمع السليم يقوم على التواد والتراحم وعلى إخلاص كل عضو فيه لوظيفته وقيامه بها راضياً لا يمل ولا يتذمر، فهو كالجسم الذي ينصرف كل عضو فيه إلى أداء عمله ووظيفته، لو توقَّفَ أحد أعضائه عن أدائها أو تمرد عليها لاختل. فالله سبحانه وتعالى قد {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}. فهيأ كل فرد، بل كل ذرة، من نباتٍ أو حيوان أو جماد، لوظيفةٍ معينة، وركَّب فيه من الطبائع ما يناسبه، وصرفه لأدائها. وعلى ذلك تقوم حياتنا الحديثة في كل شؤونها وفي كل نواحي الصناعة والعلم فيها، فهي تقوم على التخصص الدقيق الذي يتيح دقة المعرفة وحذق المرانة لكل عاكف على فرع بعينه. والتربية الحديثة تحاول أن تكتشف مواهب الأطفال والصبية لتوجه كلًا منهم فيما يلائم استعداده وتكوينه. فلماذا نطبق هذين المبدئين - التخصص والعمل المناسب - في كل شيء، ونأبى أن نطبقهما في الرجل والمرأة؟. والرجل الذي يكدّ ويجهد نفسه ويرهقها في العمل خارج البيت محتاج إلى زوجة متزينة متعطرة ناعمة البال يأنس بها ويسكن إليها مما يجده من عناء، وتُسرِّي عنه بعض ما يعتريه من السأم والإِجهاد، وما يترك عنف التعامل مع الناس في نفسه من آثار الضيق والملل. وكدحُ المرأة في ميادين الأعمال العامة

يصرفها عن رعاية الزوج والولد كليهما لا شك في ذلك, لأنها تعود إلى البيت مكدودة مرهقة كالرجل، فأيهما هو الذي يسري عن الآخر؟ وأيهما هو الذي سيتسع صدره لمداعبة البنين واحتمال ما لا بد أن يُحتَمل في تربيتهم من ضجيج مرحهم وأنين أَلمِهم وصراخ أوجاعهم؟ وهل تصبح الحياة عند ذلك إلا عناء وشقاء للمرأة وللرجل كليهما؟ وهل يصبح الفرد - رجلاً كان أو امرأة أو طفلاً - إلا (ترساً) من (تروس) آلة صماء في حياة لا سكن فيها ولا قرار. ويستطيع كل ذي لب وبصيرة أن يدرك آثار الفشل الذي حاق بتجارب المجتع الأوروبي والأمريكي في هذه الناحية. مع أن هذه الآثار لم تبلغ بعد منتهى مداها, ولا تزال سائر عقابيلها في الطريق. فهذا الجيل الغربي من التائهين والضائعين المحطمي الأعصاب المبلبلي الأفكار القلقي النفوس، وهذه النسبة الآخذة في الارتفاع - حسب إحصاء الغربيين أنفسهم - للانحراف والشذوذ بكل ضروبه وألوانه، هذه الظواهر والآثار كلها هي من آثار التجربة التي خاضها الغرب في المرأة, لأن هؤلاء جميعاً هم أبناء العاملات والوظفات الذين عانوا من إرهاق أمهاتهم وهم في بطونهن، ثم تعرضوا لإِهمالهن بعد أن وضعنهم. وماذا يبتغي الناس من تجربة فاشلة كهذه؟ ألا يتدبرون؟! وللمفسدين والمخدوعين ممن يسمون (أنصار المرأة) حجج ومزاعم أكثرها مبني على المغالطة. وأشهر مغالطاتهم في ذلك ما يزعمونه من أن عكوف المرأة على منزلها فيه تعطيل لنصف المجتمع. وقولهم هذا مبني على أن المرأة ليس لها عمل في المنزل. والواقع أن وظيفتها في تدبير شؤون البيت ورعاية الزوج والولد وقضاء حاجاتهم المتنوعة تستغرق كل وقتها لو أديت على وجهها، بل إن وقتها يضيق بها في بعض الأحيان. والدليل الذي يخرس كل لسان على صدق ما نقول هو أن العاملات يحتجن دائمًا إلى توظيف الخدم من النساء والرجال لسد النقص الناتج عن تخليهن عن وظيفتهن. فأي شيء تكسبه الدولة إذا كانت المرأة تخرج للعمل وتربط مكانها شخصاً أو شخصين تعطلهما عن العمل, أين هو الكسب الاقتصادي المزعوم؟ وهل هذا إلا الخلل عينه؟ تشتغل المرأة خارج البيت بأعمال الرجل، ويسقط من حساب الأيدي العاملة رجل أو رجلان يقومان بأعمالها في المنزل، ويسقط من حساب الدارسين والمشرِّعين جيل مضيَّع لا يقام لضياعه وزن في ميزان الكسب والخسارة؟! ولو

صح أن الاستفادة بنصف المجتمع المعطل هي الدافع الحقيقي إلى توظيف المرأة لوجب أن يستوعب العمل كل المتعطلين من الرجال قبل أن يُسمَح لامرأة واحدة بتولي عمل من الأعمال العامة. ومن مغالطاتهم كذلك أنهم يتصيدون الأمثلة لمن نبغن من المسلمات في بعض فروع العلم أو شاركن في القتال، ليقيموا بهن الدليل على مطابقة دعوتهم للشرع. والواقع أن للمرأة حقاً غير منكور في طلب العلم إن كان فيها استعداد له، ولم ينكر أحد أن هناك بعض الوظائف التي تلائمها كتدريس البنات وتطبيب النساء، ولم ينكر أحد حق المرأة في السعي الشريف للرزق إن دعتها إلى ذلك ضرورة. والإِسلام سمح، قد أباح للضرورة أشياء كثيرة، حتى الميتة والدم ولحم الخنزير وما أُهلَّ به لغير الله، فرفع الإِثم فيها عن المضطر في أكثر من موضع من القرآن الكريم (البقرة 173، المائدة 3، الأنعام 145، النحل 115) بل لقد رفع الإِثم عمن أكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإِيمان (النحل 106). واشتراك المرأة في القتال هو من باب الاستثناء الذي تدعو إليه الضرورة، وهو في حدود الأعمال التي تلائم المرأة كالتمريض خلف صفوف القتال. ومصدر الخطأ والخلط في ذلك كله ناشئ عن وضع الاستثناء والشذوذ موضع القاعدة والأصل. واتخاذ أعمال الأفراد حجة على الشرع نفسه. ومن مغالطاتهم التي ابتدعها قاسم أمين وتابعه فيها كثير من الناس أنهم يقولون: إن بين النساء نابغات وبينهن عانسات وبينهن من فقدت الزوج والعائل. فلماذا لا يشارك هؤلاء في الأعمال العامة في الحياة؟ وليس كل ما يقولونه إلا أعذاراً وحيلًا تنتحل لفتح الباب تمهيداً للزحف. إن الذي يسمح لقدمه أن تنزلق خطوة واحدة في أول الطريق لا يدري إلى أين تسوقه قدماه وإلى أين ينتهي به المسير. إن مدمن الخمر قد سمح لنفسه أولاً بمجالسة الشاربين، ثم سمح لنفسه بأن يشاركهم النّقْل، ثم تدرج من ذلك إلى مشاركتهم في قليل من الشراب لا يبلغ به حد الخلط وفقدان الإِحساس، ولم يزل يخطو في كل مرة خطوة من بعد خطوة حتى أصبح مدمناً. وكذلك الشأن في المرأة وفي كل أمر، ومنحُ صنفٍ من النساء حق الاشتغال بالأعمال العامة هو الانزلاق في أول الطريق الذي يجر إلى السماح لسائر النساء بهذا الحق كما أثبتت التجربة. لذلك كان علينا أن نضع للأشياء حدوداً لا نسمح لأنفسنا

بتخطيها. لأن المسألة في لبها وفي صميمها هي: ما هي وظيفة المرأة؟ ولأن التشريع إنما يوضع دائمًا للأعم الأغلب، ثم ينفذ على كل الناس بلا استثناء. ومن مغالطاتهم كذلك أنهم يعتذرون بأن نزول المرأة إلى ميدن الأعمال العامة قد أصبح أمراً واقعاً وقاعدة مقررة. وينبغي لهم أن يعرفوا أن الحق واحد لا يتغير. ومهما يتقادم العهد على الباطل فسيظل باطلاً. ومهما يجر العمل على غير الحق فسيظل الحق هو هو وإن حاد عنه كل الناس. ثم إنه لا يبقى على توالي الأزمان إلا الحق. لأن الباطل زهوق لا تدوم له دولة. والحق هو الناموس. هو قانون الله الذي لا يتبدل، هو فطرة الله التي فطر عليها الخلق. هو ما ركَّبه الله سبحانه في طبائع الأشياء حين أعطى كل شيء خلقه ثم هَدَى، وناموس الله ثابت لا يتبدل {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا}. ولكن الذي يحول ويزول هو المعاند لسنة الله وفطرتهَ. والذي يعارض الناموس ويخرج على الفطرة كالوعل الأحمق الذي وصفه الأعشى قديماً حين قال: كناطحٍ صخرةً يوماً ليُوهِنَها ... فلم يَضِرْها وأوهَى قرْنَه الوعلُ إن الأرض لا تستطيع أن تخرج على ما رُسِم لها من مدار، والليل لا يسبق النهار، وكل كوكب يدور في فلكه، وكل كائن يسير فيما رسم له من منهج ومن طريق. والفطرة التي فطر الله عليها كل واحد من خلقه فأعطاه خلقاً خاصاً وأقامه فيما أراد، هي جزء من الناموس. وهي بعض إرادة الله سبحانه. والأمانة التي يحملها كل واحد من خلق الله هي أن يبذل قصارى. جهده في أداء الوظيفة التي أقامه الله فيها. وليس في شيء في خلق الله إلا هو منقاد لإِرادة الله سبحانه وتعالى مسلم لها، يسبِّح خالقه بأداء الدور الذي رُسم له في استسلامٍ لإِرادته، تجد ذلك في النحل وفي النمل وفي الحيوان كله وجب النبات بضروبه والدواب بأنواعها، وفي الكواكب والأجرام وفي مختلف الظواهر. ولا يشذ عن ذلك إلا الانسان الذي ميّزه الله عن سائر خلقه بالعقل، فحمل بذلك أمانة لا يحملها أحد من سائر خلقه، فهو إن استخدم هذا العقل في طاعة الله بلغ به عملُه حداً لا يبلغه شيء من خَلْق الله، وإن شرد به عقله في غير سبيل الله ضل وهوى إلى قرار سحيق. والله سبحانه هو المسؤول أن يهدينا إلى أقوم طريق.

في جامعة الدول العربية

في جَامِعَة الدّول العَربيَّة

في البحوث والمحاضرات

-1 - في البُحوثِ والمحاضَراتِ* جامعة الدول العربية حصن من أكبر الحصون التي تسهر على حراسة حقيقة من أخطر حقائق وطنيتنا وهىِ "العروبة"، ومن الفيد - رغم تغير الظروف الآن - أن نتذكر أن هذه الجامعة قد أُنشئت أول ما أُنشئت بتشجيع دولة من أكبر دول الاستعباد الغربي - وهي إنجلترا - لأنها كانت تطمع وقتذاك في أن تجعل هذه المؤسسة تحت رقابتها ووصايتها، فتكون وسيلتها إلى السيطرة على العرب جملة، وبذلك تتحكم في التيار الجديد فترسم له المصارف والمجاري وتوجهه إلى حيث تريد، قبل أن يطَغى سيلُه فيحطم السدود ويجرفها ويجرف معها كل دول الاستعباد الغربي ويمحو كل أثر من آثاره. قدَّر الإِنجليز ودبروا ورسموا وخططوا, ولكن التيار كان أقوى من كل ما يدبرون. وأخذ سيل هذه القومية الجاري يشق لنفسه الطريق بعيداً عن الطرق التي رُسِمَت له من قبل بأيد غير أيدي أبنائه، وأصبحت القومية العربية حقيقة واقعة ولم تعد حلمًا ولا أملًا. أصبحت حقيقة تعترف بها حكومتا مصر وسوريا في دستور كلٍّ من البلدين، وها هو ذا تيارها يجري إلى مستقره بأسرع مما كان يحلم أكثر الناس تفاؤلاً. وهي بعد ذلك حقيقة واقعة مقررة عند الشعوب العربية كلها على اختلافها وعلى اختلاف ميول حكامها. وهذا التطور الجديد يزيد جامعة الدول العربية أهمية، ويجعلها الآن أهم مما كانت في أي وقت مضى منذ ظهرت للمرة الأولى في أعقاب الحرب العالمية الثانية. لذلك كان من المهم أن نستوثق ¬

_ (*) نشرت في عددي شعبان ورمضان 1377 من مجلة الأزهر.

من أن هذه المؤسسة قد تخلصت من كل آثار ماضيها. وأصبحت تعمل بغير العقل الذي كانت تعمل به يوم كان الاستعباد الغربي من ورائها، ومن وراء أصدقائه فيها. وليس من شأني الآن، وليس من شأن هذه المجلة التي أكتب لها، أن أتناول الجانب السياسي من جامعة الدول العربية، ولكن الذي يعنيني الآن هو الجانب الثقافي، وهو جانب شديد الاتصال بالسياسة على غير ما قد يبدو للخاطر الأول، بل هو أخطر أثراً في التوجيه السياسي, لأن آثاره أعلق بالنفس، وهي لذلك أدوم في الجيل المعاصر وأبقى في الأجيال التالية، ولأنه يعمل في خفاء قد يبعده عن أعين الرقباء من رجال السياسة الذين قد لا يُولُونه من الاهتمام القدر الذي يستحقه، وقد لا يتنبهون إلى أن من الممكن دائمًا تمييز سماسرة الاستعباد على اختلاف ألوانهم ونزعاتهم من لون الثقافات التي يروِّجونها والتي يدعون إليها، فهي العملة التي يمكن أن يُستَدَل منها على المموِّل، والخاتم الذي يحمل اسم المصنع. وسوف أتناول في حديثي هذا اللجنة الثقافية بجامعة الدول العربية كما تبدو من مطبوعاتها الوافرة الغزيرة، وهي اللجنة التي كان يشرف عليها أحمد أمين، ثم ورثها طه حسين بعد وفاته، وسأقسم منشوراتها إلى ثلاثة أقسام: 1 - البحوث والمحاضرات. 2 - الكتب المترجمة. 3 - المؤتمرات. وأنا أعجِّل بتقديم النتيجة التي انتهيت إليها من بحث أعمال هذه اللجنة الثقافية ليضعها القارئ نصب عينيه على طول هذا المقال. هذه اللجنة كانت - ولا تزال - تنظر بغير عين العرب وتعمل بغير عقل العرب، وتهدف إلى غير أهداف العرب. إنها لا تزال كما كانت يوم أنشأها الذين كانوا يحرصون على أن يكون العرب ذيلًا لدول الاستعباد الغربي، لا يرون الأشياء إلا كما يراها الغربي، ولا يتذوقونها إلا كما يتذوقها, ولا يقدِّرونها إلا كما

يقدرها، إنها لا تزال تعمل على ما يسميه دهاقنة الاستعباد الغربي (Westernization) أي (التغريب). ويُقصَد به طبع العرب والمسلمين والشرقيين عامة بطابع الحضارة الغربية والثقافة الغربية، مما يساعد على إيجاد روابط من الود والتفاهم بين الحمار وراكبه، وهي روابط تفيد الراكب دائمًا ولا تفيد الحمار! وذلك هو ما تهدف إليه كل الجماعات التي من نوع (أصدقاء الشرق الأوسط) الآن، أو (الصداقة الانجليزية المصرية) و (الصداقة الفرنسية) سابقاً. وهذا الذي يسميه الاستعباد الغربي (تغريباً) هو ما يسميه سماسرة ذلك الاستعباد وصنائعه (تطويراً). وهو ما يعنونه حين يتكلمون عن (بناء المجتمع من جديد). فالذين يتكلمون عن بناء المجتمع من جديد، أو بناء المجتمع الجديد، يعرفون أن مشروعهم هذا يشتمل على خطوتين: الخطوة الأولى هي هدم (القديم) والخطوة الثانية هي بناء ما يتوهمونه من (الجديد). وهم ماضون في الهدم، لا يرضيهم إلا أن يأتوا علي بنياننا من القواعد، بما يتضمنه من دين وتقاليد وفنون وآداب، ولكنهم سوف يعجزون عن البناء، سيهدمون مجتمعنا ثم يتركونه وسط أنقاض نظامه القديم في فوضى لا سكن فيها ولا قرار. وبوادرُ هذه الفوضى وأعراضها ظاهرة لكل ذي عينين. ذلك لأن المجتمعات لا تبنى في يوم وليلة، ولكنها تبنى في مئات السنين، ولا تبنى في صحف مُنَشَّرة أو قاعات مُغَلَّقة، ولكنها عملية معقدة أشد التعقيد تتفاعل فيها قوى المجتمع كله، ويستمر هذا التفاعل أجيالًا تتمخض عن هذه القواعد وهذه الأشكال، بما تتضمنه من التقاليد والقوانين وأساليب الذوق والتفكير. ولأكتف بهذا القدر الآن لأشرك القارىء معي في استعراض نماذج من نشاط هذه اللجنة الثقافية، ولنبدأ بالقسم الأول، الذي يتمثل في البحوث والمحاضرات. وليس من المستطاع في هذا المقال المحدود أن أعرض هذا النشاط في جمل مطبوعاته، ولذلك سأكتفي بتقديم نموذج منه في واحد من كتبه، وليكن هذا الكتاب هو الجزء الثاني من (العالم العربي - مقالات وبحوث) الذي نشرته الادارة الثقافية سنة 1953 مصدراً بمقدمة لأحمد أمين رئيس هذه الإدارة وقتذاك. وسأكتفي - على سبيل المثال، ورغبة في الاختصار - من هذا

الكتاب باستعراض مقالين طويلين، أحدهما للدكتور كامل عياد عن (مستقبل الئقافة في المجتمع العربي ص 143 - 167) والآخر للدكتور عبد الرزاق أحمد السنهوري عن (القانون المدني العربي ص 5 - 29). أما المقال الأول (مستقبل الثقافة في المجتمع العربي) - وهو مقال طويل يشغل خمساً وعشرين صفحة - فيبدو من عنوانه أن صاحبه يعارض كتاب (مستقبل الثقافة في مصر) لطه حسين. والوأقع أنه لا يعارض الكتاب في عنوانه فحسب، ولكنه يعارضه - كما سنرى - في أسلوبه الفكري أيضاً، ويتفوق عليه في جرأته على الدين وإسرافه في إنكار ما وراء المادة المحسوسة الملموسة من عالم الغيب، ومحاربة كل مواريثنا الدينية والأدبية والاجتماعية على الإِطلاق. وهو يبني تفكيره على وهم خاطئ جعله أساساً لكل ما بناه عليه من الأباطيل، فقد زعم - أو توهم - أن (الروحانية) التي يصف بها كتّابُ الغرب وباحثوه ثقافتنا الشرقية إنما يقصد بها صرفنا عن اللحاق بهم. لأن هذه الروحانية (تستند إلى العاطفة والوجدان، وتتعارض مع التفكير العقلي القائم على المشاهدة الحسية والتجربة العلمية والنظرة الموضوعية. وعلى كل حال فإِنما القصد هو إظهار الفرق بين الغربيين والشعوب الأخرى. ثم في ضع هذه الشعوب إلى التمسك بعاداتها وتقاليدها وطرائق تفكيرها القديمة، لئلا تقتبس الحضارة الحديثة وتسعى للتحرر من سيطرة الغربيين - ص 149). وقد بني زعمه هذا على واقعة شهد فيها مندوباً من مؤسسة روكفلر الأمريكية يزور الجامعة السورية بدمشق، وقد تلكأ هذا المندوب ولاذ بمختلف المعاذير حين أعربت له الجامعة عن حاجتها إلى بعض المخابر والأجهزة العلمية، ولكنه لم يلبث أن أظهر البشاشة ولم يتردد في قطع الوعود بالمساعدة حين انتقل الحديث إلى إنشاء معهد لدراسة التصوف الإِسلامي. والواقع أن كاتب المقال لم يحسن فهم دلالة هذه الواقعة، ولم يكن على صواب في استنباط ما استنبطه منها. فليس صحيحاً ما زعمه وما استنبطه من أن دول الاستعباد الغربي تريد أن تصرف الناس في مستعبَداتها عن اقتباس الحضارة الغربية. ليس ذلك صحيحاً على إطلاقه. فمن الثابت المؤكد أنهم عملوا على نشر مساوئ حضارتهم التي تتضمن جانب الترف والتفنن في المتع والملذات، وفي وسائل التسلية

وتزجية الفراغ. ومن الثابت المؤكد أنهم بذلوا جهوداً شاقة لتحويل المسلمين عن إسلامهم إلى ثقافة الغرب، وجرهم إلى هذا التيه من الآراء المختلطة المتناقضة باسم العلم وحرية التفكير. ومجهوداتهم في هذا السبيل مشهورة معروفة في شمال افريقيا وفي الهند وفي كل مكان حلّوه - ولا أستثني من ذلك مصر، وذلك هو ما يسميه كتابهم بالـ (Westernization). ولا يزال ماثلاً في الأذهان، أن من أول ما اشترطته فرنسا لإِعادة علاقاتها مع مصر في المفاوضات الدائرة الآن إعادة مدارسها ومعاهدها. فهل يفهم الناس معنى ذلك؟ إذا لم يفهموه فها هو ذا نص واضح لا يحتاج إلى تأويل، هو ترجمة لما جاء في تقرير اللورد كرومر واضِع أسس الاستعباد الإِنجليزي في مصر، بمناسبة تعيين سعد باشا زغلول وزيراً للمعارف سنة 1906. يقول كرومر، بعد كلام طويل عن الوطنية - المصرية وصف في ختامه المدرسة الفكرية التي ينتمي إليها سعد زغلول، والتي سمَّاها على سبيل الاختصار. مدرسة الشيخ مُحَمَّدْ عبده، بأن برنامجها يقوم على (التعاون مع الأوروبيين - لا على معارضتهم - في إدخال المدنية الأوروبية إلى بلادهم)، ونصح بأن يُمنحوا كل تشجيع ممكن. يقول كرومر بعد ذلك: إن اختيار سعد زغلول لمنصب وزير المعارف ليس إلا تنفيذاً لسياسة ترمي إلى تأييد هذه المدرسة، ووضع مقاليد السلطة في يدها. ثم يقول عقب ذلك ما نصه: (وسوف نراقب ما تتمخض عنه هذه التجربة من آثار في عنايةٍ وانتباه. فإِذا نجحت التجربة، وذلك ما آمله وما أعتقده، فسوف نمنح قدراً أكبر من التشجيع للسير في الاتجاه نفسه إلى مدى أبعد. أما إذا فشلت التجربة، فستكون النتيجة الحتمية لذلك هي الاعتماد في شؤون الإِصلاح على الأوربيين - وعلى الإِنجليز خاصة - إلى مدى أكبر مما جرى عليه العمل سابقاً. وأيةً ما كانت الحال فلن يكون هناك سبيل إلى التراجع. إن العمل يسير بجد ونشاط في إدخال المدنية الغربية إلى مصر، وهو يأخذ طريقه بتقدم ونجاح في كل إدارة من إدارات البلد، حسب خطة مرسومة وضعت خطوطها بعد دراسة للموقف. تقوم على التطور والتدرج، لا على الانقلاب العنيف والتغيير المفاجىء - الفقرة الثالثة من تقرير سنة 1906 ص 8 من النسخة

الإِنجليزية). ولو شئتُ لقدَّمت كثيراً من الأمثلة التي تدعم هذا النص الذي قدمته، ولكني أظن أن فيه الكفاية لإِثبات ما بذله الاستعباد الغربي في سبيل نشر أسوأ ما في حضارته وإحلاله محل الإِسلام في كل مُسَتعبداته، يسمون صنيعهم هذا "نشر الحضارة" ويزعمونه "رسالة الرجل الأبيض" التي لا يملون من الحديث عنها. ولكن الذي حالوا بين الناس في مستعبداتهم وبين الوصول إليه هو الأخذ بأسباب القوَّة، أو بعبارة أخرى الجانب المثمر المفيد من هذه الحضارة. أما الروحانية التي يحاربها الكاتب عن جهل, لأنه يزعم أن الاستعباد الغربي يشجعها فهي شيء آخر غيُر الصوفية التي جاء ذكرها في قصة مندوب روكفلر مع الجامعة السورية. فالصوفية مذهب غير إسلامي في كثير من تفاصيله وشطحاته وتقاليده ونظمه الدخيلة، وخوضه فيما نهى الإِسلام عن الخوض في تفاصيله، أو هو يبدو كذلك فيما هو مشهور عن كثير من فرقه التي تدعو إلى سلبية يائسة مستسلمة تعارض روح الإِسلام معارضة صريحة. وهو شيء آخر غير الزهد الذي عُرِف عن بعض الصادقين من الصالحين في صدر الاسلام خاصةً وفيما تلا ذلك من العصور. أما الروحانية فإِذا قصد بها نفيض المادية التي يدعو إليها الكاتب في مقاله، فلا شك أن كل الأديان روحانية, لأنها تؤمن بالروح وبالغيب وبالثواب والعقاب وبما وراء المحسوس الملموس. وكاتب المقال لا يفرق بين الثقافة التي تتصل بالجانب الروحي والخلقي والديني من الإِنسان، وبين العلم الذي يتصل بالجانب العقلي والمادي منه. ولذلك فهو يقول: لا بد لنا من الاعتراف بأن تقاليدنا لا تتعارض مع الاقتباس من الثقافة الحديثة السائدة في الغرب. وفي الحقيقة، إذا تركنا الحافظين في بعض الأقطار العربية - وهي فئة قد أصبحت لحسن الحظ قليلة العدد - فإِننا لا نجد اليوم بيننا من ينكر ضرورة هذا الاقتباس. وإنما هناك فئة تسمي نفسها بالمعتدلة تريد أن يقتصر الاقتباس على محاسن الحضارة الغربية، وعلى تلك النواحي من ثقافتها التي تتلاءم مع خصائصنا وتقاليدنا وعاداتنا. ونقطة الضعف في هذا الرأي هي الصعوبة في تحديد

الصفات والتقاليد والعادات التي نختص بها ويجب أن نحافظ عليها، ثم الاختلاف حول المعيار الذي يميز المحاسن من المساوئ - ص 151). فالكاتب هنا ساخط أشد السخط على المحافظين. ويسره جداً أن عددهم يتناقض بيننا اليوم، بل هو ساخط على المعتدلين الذين يدعون إلى التمييز بين الضار والنافع, لأنه يريد فيما يبدو أن ننقل الحضارة الغربية (خيرها وشرها، حلوها ومرها، وما يَحُبُّ منها وما يكره، وما يحُمدَ وما يعاب) كما يقول صِنْوُه طه حسين في كتابه (مستقبل الثقافة في مصر) في الفقرة 9 من كتابه. ومن الواضح أن هذا التصور الخطر لاقتباس حضارة الغرب ناشئ من عدم التفريق بين العلم والثقافة. فالعلم - والمقصود به في الاصلاح الأوروبي (Science) هو الرياضة والعلوم التجريبية - يتصل بالملموس المحسوس الذي أثبتته التجربة وتستطيع أن تعيد إثباته في كل زمان ومكان، أو هو يتصل بالمنطق العقلي الذي تشترك كل العقول البشرية في إدراكه على وجه القطع واليقين مثل علوم الرياضة. وكلها مما يشترك في إدراك حقائقه كل الناس بقدرٍ واحد لا خلاف فيه، ويمكن إعادة تجاربه ومراجعتها والاستيثاق من صحتها والانتفاع بنتائج تطبيقها على اختلاف الأزمنة والأمكنة. أما الثقافة فهي تختلف باختلاف الأجناس والبيئات والأديان حسب حكمة الله سبحانه، الذي جعل لكل أمة مَنْسَكاً هم ناسكوه، والذي جعل لكل جماعة شرعةً ومنهاجاً، والذي جعل الناس شعوباً وقبائل ليتنافسوا في الخير وليتبادلوا العلوم والمعارف، والذي جعلهم أمماً ولو شاء لجعلهم أمة واحدة. والثقافة لا تتصل بالمحسوس اللموس أو المعقول المشترك كما هو الشأن في العلم, لأن بعض عناصرها يتصل بقِيَم الخير والشر، والجمال والقبح، والحق والباطل، وهي جميعاً تعتمد على ما وراء المادة من الغيب الذي لا تتفق عليه العقول ولا تدركه الأفهام ولا تشمله التجربة ولا يتطاول إليه الفكر. فهناك خلاف واسع في تقدير الخير والشر بين الكافر الذي يقول: (ما هي إلا حياتُنا الدنيا نموت ونَحْيا وما يهُلِكنا إلا الدهر) وبين المؤمن الذي يراقب في أعماله ثواب الله سبحانه وعقابه في الدار الآخرة. فبينما يرى الأول أن حرمان النفس مما تشتهيه - كلِّ ما تشتهيه - ضرب

من الحماقة ليس له ما يبرره، يرى الآخر أن الإِدمان على الشهوات هو عين الحماقة وقصر النظر. والمتدين يرى التفريط في العرض والعفاف شراً، بينما يراه الوجودي مثلاً حماقة. والمتديّن يرى ضبط النفس فضيلة، بينما يراه الفرويدي شرا بسبب الكبت الذي يورث في زعمه أمراض النفس. والمسلم يرى اللص والقاتل مجرماً تجب عقوبته والاقتصاص منه، والمتفرنج الذي يعقل بأذنيه ويقلد تقليد القرود يراه مريضاً خليقاً بالعطف. والتدين يرى صورة المرأهَ العارية قبيحة, لأنه يرى معها قبح نفس صانعها ودَنَس شهوته التي تخالط صنعته فتنفر منها نفسه، وقد يراها غير المتدين جميلة, لأنه لا يرى إلا مفاتنها, ولأنها تخاطب شهواته وحواسه وحدها ولا تخاطب ضميره وخلقه، أو هي تخاطب منه ضميراً وخلقاً يخالف ضمير المتدين وخلقه على الأصح. وقيل مثل ذلك في كل ما يتصل بالخير والشر، والجمال والقبح، والحق والباطل. فهذا الذي يدعو إليه الكاتب، ويدعو إليه طه حسين وأضرابهُما من المتفرنجين، الذين يَدعون إلى انتحال ثقافة الغرب بغير نقد أو تمييز، لا شك أنه كما وصفه مصطفى صادق الرافعي رحمه الله: (نوع من المشاكلة بيننا وبينهم، ووجهٌ من التقريب بين جنسين يعين على إندماج أضعفهما في أقواهما. ويضيِّق دائرة الخلاف بينهما. ثم هو من أين اعتبرته وجدت فائدته للأوروبيين أشبه بتليين اللقمة الصلبة تحت الأسنان القاطعة. وهل نسي الشرقيون أنه لا حجة للغرب في استعبادهم إلا أنه يريد تمدينهم - وحي القلم 3: 205). في حضارة الغرب مواضع للقوة كانت سبب مجده وسيادته وتفوقه، ولكن فيها مواطن للضعف تحمل جراثيم موته، وقد كانت سبباً فيما اعتراه أخيراً من مظاهر الانحلال التي تصور أنه يسير في طريقه إلى الدمار والانهيار. فإِذا كان مفهوماً أن ننقل النافع الذي كان سبباً في مسجد الغرب، فكيف نفهم الدعوة إلى نقل الضار وقد كان سبباً في الخراب، الذي تبدو طلائعه لكل ذي بصيرة؟ يزعم الكاتب أن من غير الممكن اقتباس صناعات الغرب الآلية دون ثقافته. ويدَّعي أننا (لا يمكننا أن نتقدم في الصناعة الآلية ... دون نشر هذه الثقافة بين الشعب على أكبر مقياس ممكن) وأنه (لا فائدة في أن يصبح العامل

قادراً على استخدام آلة تعادل قوتها 240 من العبيد، إذا ظل هو نفسه خاملاً بليداً عاجزاً عن التفكير الذاتي وعن النقد، لا يستطيع تمييز الأخبار الصحيحة من الكاذبة، وينقاد إلى الِإيحاء والتضليل ولا يسيطر على أهوائه ونزعاته البدائية- ص 165)، والدين هو المقصود بكل هذه الإِشارات الأخيرة. ولست أدري إلى أي شيء قد استند الكاتب فيما يزعمه من أننا لا نستطيع الاستفادة من تجارب الغرب في التفوق الصناعي الآلي إلا إذا نقلنا ثقافته، أي أننا لا نستطيع - في زعمه ووهمه - أن ننقل الصناعة وحدها دون الإِلحاد والمادية والدعارة والانحلال التي تنطوي عليها حضارة الغرب اليوم، والتي يضج منها عقلاؤه ومصلحوه، والتي ستنتهي حتمًا إلى زوال أصحاب هذه الحضارة في القريب العاجل. هذا زعم عجيب، هو مجرد ادِّعاء لا يقوم عليه دليل، بل إن ألف دليل ودليل من الواقع ومن التاريخ ومن العقل يقوم على عكسه. وإذا كان هذا الكاتب الذي ينطق بلسان ببغاء لا يدرك أن ثقافة الغرب ومدنيته التي يطالبنا بنقلها. قد دخلها من الفساد ما هو خليق أن يجر الغرب كله إلى كارثة تقضي عليه، وتُلحقه بالبائدين ممن حق عليهم القول فدُمِّروا تدميراً، وإذا كان هو وأضرابه لايصدِّقون إلا ما يجيء من الغرب، ولا يرون صواباً إلا ما رآه كُتَّاب الغرب، فليقرأ ما كتبه المؤرخ الإِنجليزي المعاصر آرنولد توينبي (Arnold Toynbee) في كتابه (الحضارة في الميزان " Civillization on Trial ") وفي كتابه (الحضارة والغرب " and the west Civillization") ليرى حكمه على حضارة قومه بأنها في النزع الأخير، وأنها تمر بمثل المرحلة التي سبقت سقوط الدولة الرومانية. وكاتب المقال لا يعترف بأن لنا عادات خاصة ومقومات تميزنا عن غيرنا بوصفنا أمة من الأمم, لأنه يتساءل (هل يكفي أن تستمر بعض التقاليد والعادات مدة عصر أو عشرة عصور حتى تصبح جزءاً لا ينفصل من تراثنا ينبغي التمسك به؟ ص 152). والواقع أن هذه التقاليد التي يدعو الكاتب وشيعته إلى نبذها وهدمها هي التي تمسك المجتمع وتشده, لأن سلطانها فوق سلطان القانون. والدليل على ذلك أن كثيراً من الناس يرتكبون جرائم القتل التي تعرِّض رقابهم لحبل المشنقة، ولا يبالون سلطان القانون، وذلك تحت ضغط التقاليد وسلطانها القاهر، فهم يرون عقوبة القانون التي تهدد حياتهم

أهون من العار الذي يلحقهم من خرق التقاليد. هذا السلطان القاهر للتقاليد هو الذي يمسك المجتمع ويشد بعضه إلى بعض, لأنه يكوِّن أشكالًا ثابتة من الصلات والروابط، يلتقي عندها الناس على اختلاف درجاتهم وطبقاتهم وأنواعهم. ومن المسلم به عند كل الباحثين - حتى الماديين منهم - أن أعمق التقاليد جذوراً وأعظمها سلطاناً هو ما كان مستمداً من الدين. فإِذا هدمنا هذه التقاليد على ما يريد الكاتب وأمثاله، فأي شيء يغني غناءها ويقوم مقامها؟ وأية سلطة تمسك المجتمع عند ذلك وتمنعه أن يتفتت ثم يزول وينهار؟. لا يعترف كاتب المقال بغير الجانب المادي من الحياة، فنظرته مادية خالصة، واقتباساته كلها من مفكري الغرب المعروفين بنزعتهم المادية. وبعض هؤلاء الذين يقتبس منهم - مثل نيتشه - قد اعترف اليهود في خطتهم المشهورة ببروتوكلات صهيون، بأنهم هم الذين نشروا آراءهم وروجوها بين الناس لإِفساد عقائد غير اليهود ومجتمعاتهمِ. لا يرى كاتب المقال الأديان إلا أوهاماً وخرافات وأساطير. ولا يمجد شيئاً إلا العلم المادي الحديث الذي أوجد عصر الآلة الذي نعيش فيه. فإِليه يرجع الفضل - حسب ما يتوهم - (في تحرير البشرية من الضلال والأوهام والخوف ... ولا شك في أن أبرز أثر له هو تغييره لتفكير الإنسان. فإِن طريقة البحث العلمي جعلتنا نؤمن بالعقل، ولا نتقيد إلا بالواقع الذي تدركه الحواس ولا نقبل بشيء (كذا) (¬1) لا تؤيده التجربة. وتقتضي هذه الطريقة التحرر من العقائد الغيبية السحرية، ومن الأوهام والأحكام السابقة. وهي تفرض علينا المشاهدة الموضوعية، والملاحظة المضبوطة والقياس الدقيق والتجرد من العواطف والتمسك بالحياد - ص 164). وواضح من كلامه هذا أنه لا يَعتدُّ بالدين كله, لأنه يقوم على الايمان بالغيب، وهو لا يؤمن إلا بالمشاهد الملموس، ويرى أن ذلك من مزايا العلم التجريبي الحديث الذي حررنا - حسب زعمه - من الضلال والأوهام والخوف. ¬

_ (¬1) يريد أن يقول (ولا نقبل شيئاً لا تؤيده التجربة). وإقحام حرف الجر على العبارة من فساد ذوق الكاتب. وهو دليل على أنه غريب بين قومه في تفكيره وفي لغته وتعبيره على السواء

فالأديان كلها عنده ضلالات وأوهام، كان الناس يخضعون لما تخوفهم به من العذاب، ثم تحرروا من هذا الخوف، ولم يعودوا يخافون العذاب الموهوم الذي زعمته هذه الأديان. هل هناك هدم أصرح من هذا؟! وهل لا يعرف المسكين أن العلم التجريبي محدود الميدان والمدى لا يتناول إلَّا المدرك المحسوس؟ والمدرك المحسوس أقل بكثير مما لا يخضع لحسنا وإدراكنا، بل هو لا يقاس إليه ويعتبر كأنه ليس شيئاً مذكوراً إلى جانبه وقد أدرك العلم الحديث نفسُه - الذي يتمسح به الكاتب - ذلك، فعرف أن الموجات التي تدخل في مدى إدراكنا الحسي ليست إلَّا شيئاً ضئيلاً تافهاً بالقياس إلى المعروف منها فضلاً عن المجهول. ومن المعروف أن الكلاب والخيل وكثيراً من الحيوان - الأليف منه والوحشي - تدرك ما لا ندركه. ولا نزال نعتمد على الكلاب خاصة ونستعين بها مستغلين اتساع مدى هذا الإِدراك فيها. ولا يزال علماء الفلك يقفون مشدوهين أمام ذلك الفضاء الغامض الذي لا يعرفون مقاييسه وأبعاده إلَّا ظناً (ورجماً بالغيب)، كلما زادوه تأملًا انقلب إليهم البصر (خاسئاً وهو حسير) بل إن بعض ما يستنتجونه في هذا الباب أدعى إلى الحيرة من الجهل به. فهم يقدرون أن بعض النجوم - أركتورس مثلاً - تبعد عنا ثلاثين سنة ضوئية. ومعنى هذا أن ذلك النجم الذي نراه الآن لا نراه كما هو الآن، ولكنا نراه كما كان منذ ثلاثين سنة, لأن الشعاع الضوئي الذي يصل إلى أبصارنا منه الآن هو الذي انبعث منه قبل ثلاثين سنة. ومعنى هذا أيضاً أن من الجائز أن يكون ذلك النجمُ الذي يبدو لأنظارنا الآن غيرَ موجود الآن في حقيقة الأمر، الآن رؤيتنا له لا تُثبِت إلَّا أنه كان موجوداً عندما انبعثت منه الأشعة الضوئية التي وصلت إلى عيوننا. وهذه لم تنبعث إلَّا منذ ثلاثين سنة. وما ينبعث منه الآن لا يصل إلى أبصارنا إلا بعد ثلاثين سنة، أي أنه لا يمكن التأكد من أن ذلك النجم موجود الآن إلَّا بعد ثلاثين سنة). ويقدر الفلكيون أن بعض المجرات يبعد عنا ملايين السنين الضوئية، ومئات الملايين (¬1) أليس هذا العلم أدعى إلى الحيرة من الجهل، ¬

_ (¬1) (العالم وأنيشتين) تأليف لنكولن بارنت وترجمة البرقوقي ص 52، (مع الله في السماء) تأليف الدكتور أحمد زكي ص 252.

وأدق إلى أن يكون تعبيراً عن جهلنا وقصورنا؟ ثم أليس يدل هذا ومثله - وهو كثير في علم الفلك خاصة - عام ضآلة مدى العلوم التجريبية من ناحية، وعلى صعوبة إدراك حقائق الأشياء الأصيلة من ناحية أُخرى؟ إن العقل يستطيع أن يوصلنا إلى تسخير بعض الظواهر والطاقات وتطويعها لمصلحتنا, ولكنه لا يوصلنا إلى حقائق هذه الظواهر والطاقات. أليس الكفر بالله وبالأديان، نتيجة لهذا القليل الذي أتيح لنا الوصول إليه، من آثار الكشوف الأخيرة، لوناً من البَطَر ومن الغرور الذي يدرك ضعاف النفوس حين يصيبون حظاً قليلاً من النعمة أو القوة، فيظنون أنفسهم أرباباً ويظنون أنهم يستطيعون كل شيء؟ حقيقة الأمر في هذه العلوم التجريبية أنها مفيدة في ميادينها المادية فحسب، ولكنها غير صالحة لأن تعالج عالم المجرَّدات الذي لا يخضع للحس لأنه لا يخضع لتجاربها. وذلك هو ما يسميه الإِسلام عالم (الغيب) أي ما غاب عن الحس. ونحن مكلفون فيه بأن نؤمن بما جاء به الدين, لأنه هو السبيل الوحيد إلى معرفته وإلى تحديد موقفنا منه وما فيه فائدتنا بالقياس إليه. فميدان الدين إذن غير ميدان العلم التجريبي. فالأول يستأثر بعالم الغيب، ويدبر شؤون حياتنا على أساس الصلاحية لما بعد هذه الحياة، مما لا يتعارض مع مصالحنا في هذه الدنيا. والثاني لا يتعدى عالم الشهادة، أي ما يخضع للمشاهدة والحس. والمفروض مع ذلك أن الِإدراك الصحيح لحقائق المشاهد الملموس يهدينا إلى ما ينطوي عليه من نظام دقيق معجز، كما يقودنا إلى إدراك عجزنا أمام كثير جداً من المعضلات، وهو عجز لا مفر معه من اللجوء إلى الله سبحانه وتعالى. وليت كاتب هذا المقال وأمثاله يقرؤون قول كبير من رجال العلم المظلوم. الذي يحمِّلونه أوزار كفرهم وضلالاتهم. ليته يقرأ قول أنيشتين: (إن أجمل الأحاسيس وأعمق العواطف هي تلك التي نتعرض لها عند بحث الخفايا, لأنها تؤدي إلى العلم الحقيقي. وكل من ينكر هذه الأحاسيس، ولا يتعرض للدهشة أو للرهبة، فإِنه يعتبر في عداد الأموات. والمؤمنون هم الذين يعلمون أن هناك أشياء تخفى على علمهم. وهذا هو غاية الحكمة، وأقصى درجات الجمال المشع التي تستطيع حواسنا القاصرة إدراكها

- العالم وأنيشتين ص 115). وليته يقرأ قول نيلز بوهر: (إن الناس إما ممثلون أو متفرجون في تمثيلية وجودهم. فالإِنسان هو نفسه أكبر أعجوبة غامضة في الحياة، فهو لا يدرك الكون الغامض الذي يعيش فيه, لأنه لا يدرك كُنْهَ نفسه. فهو لا يعلم إلَّا القليل من أمر العمليات العضوية في جسمه. ويعلم الأقل من ذلك في شؤون عقله وقدرته على فهم الدنيا التي تحيط به. بل إن قدرته محدودة في التعليل وفي التخيل. بل إنه يكاد يكون عاجزاً عن فهم أنبل وأعجب خصائصه، ألا وهي قدرته على السمو بنفسه وإدراك كنهها في عملية التصور والتخيل - الكتاب السابق ص 127). ليته يقرأ ذلك - وغيرُه كثير - ليعلم أن الكفر بالغيب ليس ثمرة المعرفة ولا ثمرة العلم، ولكنه من آفات القليل من المعرفة والقشور من العلم. هذا هو أحد النموذجين اللذين أردت تقديمهما لتصوير ما تنشره الإِدارة الثقافية بجامعة الدول العربية من بحوث ومقالات. أما النموذج الآخر فهو بحث الدكتور عبد الرزاق أحمد السنهوري أو مقاله عن "القانون المدني العربي ص 5 - 29". يدعو السنهوري في مقاله هذا - إلى توحيد القانون المدني في سائر البلاد العربية، فيستثني من ذلك الحجاز واليمن -, لأنهما يلتزمان الشريعة الإِسلامية، (إلى أن يحين الوقت الذي تتمكن فيه من المشاركة في حركة التقنين المدني العربي- ص 8). ويقول بعد ذلك: إن التقنين العربي يتنازعه تياران، أحدهما بمثل في القانون المصري، وهو تيار غربي خالص أو يكاد، والآخر يمثله القانون العراقي الحديث، وهو يمزج بين الشريعة الإِسلامية والقوانين الغربية. ويُدخِل في القسم الأول الذي يصفه بأنه (ينتمي إلى الثقافة المدنية الغربية). . مصر وسوريا ولبنان ؤتونس والجزائر ومراكش، بينما يُدخِل في القسم الثاني العراق والأردن وفلسطين. وهو يصف القانون المدني الجديد في مصر بأنه قد جعل للشريعة الإِسلامية بعض الاعتبار. ولكنه يعترف بأن (المشرِّع المصري بالرغم من كل ذلك لم يخط خطوة حاسمة في جعل القانون المدني مشتقاً في مجموعه من الفقه الإِسلامي). ويعتذر عن ذلك بأن المشرع المصري قد أخذ بأسباب الأناة

والتبصر (وتربص حتى يأخذ الفقه الإِسلامي بأسباب التطور - ص10). ثم يعود فيؤكد أن هذا القانون (يمثل أصدق تمثيل الثقافة المدنية الغربية في العصر الذي نعيش فيه - ص 15). أما القانون العراقي فهو يتميز عنده بأنه (أول قانون مدني حديث يتلاقى فيه الفقه الإِسلامي والقوانين الغربية الحديثة جنباً إلى جنب بقدر متساو في الكم والكيف- ص 18). وهو يرى أن هذه التجربة (من أخطر التجارب في تاريخ التقنين الحديث). لأن وضع نصوص الشريعة الإِسلامية إلى جانب النصوص الغربية قد (مكن لعوامل المقارنة والتقريب من أن تنتج أثرها، ومهّد الطريق للمرحلة الثالثة والأخيرة في نهضة الفقه الإِسلامي، يوم يصبح الفقه مصدراً لأحكام حديثة تجاري مدنية العصر وتساير أحدث القوانين وأكثرها تقدماً ورقياً .. ص 19). وهو يقدِّر (بعد أن أصبح الفقه الإِسلامي والقانون المدني الغربي جنباً إلى جنب في صعيد واحد، أن يتكامل القانونان وأن يتفاعلا، هذا يؤثر في ذاك وقد يتأثر به. ومن ثم تقوم نهضة علمية حقة لدراسة الفقه الإِسلامي في ضوء القانون المدني الغربي. وهذه الدراسة هي التي قصدت أن أصل إليها، حتى إذا آتت ثمارها وتقدمت دراسة الفقه الإِسلامي إلى الحد الذي يجعله مصدراً لقانون مدني يجاري مدنية العصر ويساير ثقافة الجيل، عند ذلك نكون قد بلغنا المرحلة الثالثة والأخيرة، ويتحقق ببلوغنا هذه المرحلة الهدف المنشود - ص20). والهدف النشود عنده هو الذي أشار إليه قبل ذلك بسطور قليلة حين قال (والهدف الذي قصدت إليه هو أن يكون للبلاد العربية قانون واحد يشتق رأسًا من الشريعة الإِسلامية). ولكن كلامه الذي تلا ذلك - وهو كلام بالغ الخطورة - يكشف عن مبلغ ما في هذا الزعم من إخلاص، ويبين أنه ليس إلَّا خداعاً، وأن الشريعة الإِسلامية التي يقصدها هي شيء آخر غير الشريعة التي أنزلها الله على سيدنا مُحَمَّدْ - صلى الله عليه وسلم -، والتي تمت نعمة الله علينا بإِكمالها منذ نزل قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} فهي شريعة تستهدي (مدنية العصر) الغربية و (ثقافة الجيل) الغربية أيضاً،

وتروض نفسها على أن ترتفع إلى مستوى شرائع الغرب, لأنها في زعم المؤلف لم تبلغ هذا المستوى. وقَصْدُ الكاتب إلى تطوير الشريعة الإِسلامية واضح في مقاله هذا كل الوضوح. وهو يقصد بتطوير الشريعة الإِسلامية جعلها ملائمة لنظم حياتنا ولأنماطها المنقولة عن الغرب المسيحي، أو الغرب اللاديني على الأصح. فهو يريد أن يشكل الشريعة الإِسلامية بشكل هذه الحياة، بدل أن يشكل الحياة بشكل الشريعة، أي أنه يحكِّم هذه الأنماط الغربية في الشريعة بدلاً من أن يحكِّم الشريعة في اختيار ما يلائمنا من هذه الأنماط. أو بعبارة أخرى هو يعرض الشريعة على واقع الحياة، ولا يعرض واقع الحياة على الشريعة. وهو مع ذلك لا يميز بين الشريعة الإِسلامية المنزلة من عند الله وبين القانون الغربي الذي صنعته المصالح والأهواء، بل الذي صنعته اليهودية العالمية في بعض الأحيان، كما هو الشأن في القانون الفرنسي الذي استمد منه القانون المصري بخاصة، لأن هذا القانون ثمرة من ثمار الثورة الفرنسية اليهودية التي أصبحت فرنسا من وقتها دولة لا دينية من الناحية الرسمية على الأقل. وما وجه المقارنة بين قانون صنعه الِإنسان وبين قانون منزل من عند الله العلم الخبير؟. إن الذي يعتريه شك في أن الشريعة الإِسلامية - كما هي في القرآن الكريم وكما بينتها السنة الشريفة - منزلة من عند الله هو كافر. والذي يؤمن بأنها منزلة من عند الله لا يعتريه شك في صلاحيتها لكل زمان ومكان, لأن الله سبحانه وتعالي يعلم الماضي والحاضر والمستقبل، قد أحاط بكل شيء علمًا، وأحصى كل شيء عدداً، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، بذلك وصف نفسه - سبحانه - في محكم كتابه، وبذلك يؤمن المسلمون. والذي يهدف إليه السنهوري هو شر الحلول, لأن الذي يفعله هو تبديل الشريعة الإِسلامية. ولا شك أن تفاعل الشريعة الإِسلامية السماوية مع شرائع الغرب الوضعية هو شر مما كان حادثاً من استعارة القانون الغربي كله أو بعضه. لأن من الممكن التخلص من الدخيل في هذه الحالة. أما في حالة الاندماج والتفاعل فإِدراك الحدود بينهما صعب، وتخليص الشريعة الإِسلامية مما دخلها من أسباب الزيغ والانحراف يكاد يتعذر بعد أن تتغلغل الروح الغربية

في كيانها، ويصبح الناتج من تفاعلهما شيئاً جديداً معقد التركيب تختلف خصائصه وصفاته عن كل من العنصرين المكونين له. ثم إن الناس في الحالة الأولى يدركون إدراكاً واضحاً أن القانون الذي يحكمهم قانون دخيل. أما في الحالة الثانية فقد يتوهمون أن القانون الذي يحتكمون إليه قانون إسلامي، بل إن كاتب المقال يزعم لهم ذلك منذ الآن. والواقع أن هذا الذي يفعله السنهوري هو الذي يهدف إليه الاستعباد الغربي. يقول هـ. ا. ر. جب في كتابه "إلى أين يتجه الإِسلام؟! (Whither Islam) " ص 328 - 329 من طبعة لندن 1932": (إن مستقبل التغريب والدور الذي سيلعبه في العالم الإِسلامي لا يتوقف على هذه المظاهر الخارجية للتأثر والاقتباس, لأن الصورة الظاهرية ثانوية، وكلما كان التقليد في المظاهر أكمل كان امتزاج الشيء المنقول بنفس المقلدين أقل, لأن فهم الروح والأصول التي تنطوي عليها المظاهر الخارجية فهمًا كاملاً لا بد أن يصحبه إدراك التعديلات التي تتطلبها الظروف المحلية. ويمكن أن يزول من العالم الإِسلامي كثير من النظم الغربية التي نراها فيه الآن، ثم لا يكون مع ذلك أقل حظاً من الاستغراب، بل ربما كان أوفر حظاً. وإذا أردنا أن نعرف المقياس الصحيح للنفوذ الغربي ولمدى تغلغل الثقافة الغربية في الإِسلام كان علينا أن ننظر إلى ما وراء المظاهر السطحية، علينا أن نبحث عن الآراء الجديدة والحركات المستحدثة التي ابتُكِرت بدافع من التأثر بالأساليب الغربية بعد أن تهُضم وتصبح جزءاً حقيقياً من كيان الدول الإِسلامية، فتتخذ شكلاً يلائم ظروفها). يعود كاتب مقال اللجنة الثقافية بجامعة الدول العربية فيؤكد أن هدفه هو تغريب الشريعة الإِسلامية نفسِها وفرنجتها، أو بعبارة أُخرى إيجاد "إسلام غربي" إن صح هذا التعبير، وذلك حيث يقول: (فالنتيجة الحتمية إذن لوضع القانون المدني المصري ثم لوضع القانون المدني العراقي، مشتقاً منه ومن الفقه الإِسلامي على السواء هي النهوض بدراسة الفقه الإِسلامي في ضوء القانون المدني الغربي - ص 21).

ومع ذلك فهذا القانوني الذي يظن بالتشريع الإِسلامي التخلف عن القانون الغربي يعترف بأنه لم يدرس الشريعة الإِسلامية إلَّا في وقت حديث متأخر جداً، حين اشترك في وضع القانون المدني العراقي، فأتيح له الاطلاع على بعض نصوص الفقه الإِسلامي. وهو هنا يعترف اعترافاً صريحاً بأن اطلاعه على الفقه الإِسلامي جديد تاريخاً، ومحدود موضوعاً، لا يتجاوز ما أتيح له أثناء اشتراكه في لجان وضع القانون العراقي، وأنه لم يمنحه من وقته سنة من عشرات السنين التي أفناها في دراسة القانون الفرنسي. والواقع أن هذا الجهل بالشريعة الإِسلامية يعلل فتنته بالقوانين الغربية، التي حدث به إلى المجاهرة بأن تكون روح التقنين الغربي وأسلوبه هما قِوام نهضة التشريع الإِسلامي، وهو بذلك معذور لجهله حسب اعترافه، ومن جَهِلَ شيئاً عاداه. ولكن من الظلم للناس وللِإسلام وللقانون أن يسلم زمام التشريع البلاد الإِسلامية إلى الذين يجهلون شريعتها. ومن الواضح أن الرجل حين رأس لجان القانون المدني الجديد في مصر لم يكن على معرفة بالشريعة الإِسلامية, لأنه إنما اتصل بها حسب اعترافه أثناء اشتراكه في لجان القانون المدني العراقي، وقد كان ذلك بعد وضع القانون المدني المصري الجديد. واعترافه في هذا الصَدَد صريح، إذ يقول (وأكثر ما كان درسي للفقه الإِسلامي عند وضع القانون المدني العراقي. فإِن هذا القانون كما قدمت مزيج صالح من الفقه الإِسلامي والقانون المصري الجديد. فأتاح لي اطلاعي على نصوص الفقه الإِسلامي - سواء كانت مقننة في المجلة (¬1) ومرشد الحيران، أو كانت معروضة عرضاً فقهياً في أمهات الكتب وفي مختلف المذاهب - أن ألحظ مكانة هذا الفقه وحظه من الأصالة والابتداع، وما يكمن فيه من حيوية وقابلية للتطور - ص 22). ويرسم كاتب المقال منهجاً يقترحه لدراسة الفقه الإِسلامي (لإِحيائه والنهضة به نهضة علمية صحيحة) حسب زعمه. فيقرر في بدء كلامه أن ¬

_ (¬1) المقصود هو (مجلة الأحكام العدلية) التي أصدرتها الدولة العثمانية في النصف الثاني من القرن التاسع غر متضمنة صياغة الأحكام الإِسلامية - على المذهب الحنفي - في شكل مواد على النمط الغربي.

(الأساس في هذه الدراسة أن تكون دراسة مقارنة، فيُدرَس الفقه الإِسلامي في ضوء القانون المقارن). ولست أدري ما حاجتنا إلى هذه المقارنة، ولماذا كل هذا الحرص على أن لا نخالف التشريع الغربي ولا نبتعد عن روحه؟ أليس في ذلك قتل لشخصيتنا وإفناء لها في الغرب، مما لا يخدم سوى مصالح الاستعباد والتبشير؟ ذلك إلى ما يتضمنه من تبديل شرع الله وتحريف الكلم فيه عن مواضعه، وهو كفر صريح، وليس بعد الكفر ذنب. ويطالب الكاتب بدراسة مذاهب الفقه الإِسلامي المختلفة، السني منها والشيعي والخارجي والظاهري: (وتُستكشَف من وراء كل هذه قواعد الصناعة الفقهية الإِسلامية، ثم تُقارن هذه الصناعة بصناعة الفقه الغربي الحديث. حتى يتضح ما بينهما من الفروق ووجوه الشبه، حتى نرى أين وقف الفقه الإِسلامي، لا في قواعده الأساسية ومبادئه، بل في أحكامه التفصيلية وفي تفريعاته، فتمتد يد التطور إلى هذه التفصيلات، على أسس تقوم على ذات الفقه الإِسلامي وطرق صياغته وأساليب منطقه. وحيث يحتاج الفقه الإِسلامي إلى التطور يتطور، وحيث يستطيع أن يجاري مدنية العصر يبقى على حاله دون تغيههـ. وهو في الحالين فقه إسلامي خالص (؟!) لم تداخله عوامل أجنبية فتخرجه عن أصله (؟!) - ص 23). ألا تعجب معي لهذا الرجل الذي يزعم بعد كل ما قاله أن الفقه الإِسلامي الذي يسعى إلى تطويره تحت وصاية التقنين الغربي وفي ولايته هو فقه إسلامي خالص؟ وكيف يكون خالصاً وهو يحكِّم فيه (روح العصر)، وهي روح غربية حسب اعترافه في كل موضع من مقاله؟ ومن الواضح أن (مدنية العصر) التي يطلب السنهوري إلى الفقه الإِسلامي أن يجاريها، ويطلب إلى واضعي القانون أن يتخذوها مقياساً لصلاحية الفقه الإِسلامي، هذه المدنية هىِ مدنية غربية فرضها الاستعباد الغربي ونجح في ترويجها وفي إرساء دعائمها وتنشئه الرجال الذين يسهرون عليها ورعاية هؤلاء الرجال ودفعهم إلى مناصب القيادة والزعامة، بما يسمح لهم أن يرعوا جيلاً جديداً من أتباعهم، تم يرعى هذا الجيل جيلاً من بعده. وهكذا دواليك، فتصبح قيادة المسلمين الفكرية والسياسية دائمًا في يد هذه العصابة، لا يسمع الناس إلَّا كلامها

وكلام أذنابها, ولا يرون إلَّا صورها وصور أذنابها, ولا يرقى أحدهم إلى مرتبة من مراتب الشرف ولا يُفتَح له باب من أبواب الرزق إلَّا إذا حصل على جواز المرور من هذه العصابة التي تسد كل منفذ وتتحكم في كل باب وتحتل كل معقل. ويظل المسلمون هكذا محكومين في حقيقة الأمر بالاستعباد الغربي وهم يظنون أن حكامهم هم إخوانهم وأبناء أمتهم. ويقترح السنهوري بعد ذلك إنشاء معهد خاص يلحق بجامعة الدول العربية لدراسة الفقه الإِسلامي حسب ذلك المنهج الذي يقترحه. وهنا يلتقي السنهوري بطه حسين، الذي اقترح في كتابه (مستقبل الثقافة في مصر - الفقرة 49) إنشاء معهد للدراسات الإِسلامية في كلية الآداب. كما يلتقي بمحمد خلف الله في اقتراحه الذي تقدم به إلى وزارة التربية والتعليم عن إعداد مدرِّس الدين، فاقترح فيه (أن يعاد النظر في تكوينه وإعداده وأن يُرسَم لذلك منهج يحقق له عمق الثقافة وحرية الفكر). وبنى على ذلك اقتراحاً بإِنشاء (قسم أو شعبة للدراسات الإِسلامية في كلية للآداب بالجامعات المصرية) (تدرس فيما تدرسه "سيكولوجية الدين" و "النظم الدينية والأخلاقية المقارنة" ولغة أو لغتين شرقيتين كالفارسية والأردية، ولغة أو لغتين غربيتين، ليكونوا على اتصال بتيارات التفكير الثقافِى في الشرق الإِسلامي وفي الغرب) (¬1). ومع ذلك كله فليس للشريعة الإِسلامية من الاعتبار عند كاتب هذا المقال أكثر مما للقانون الروماني. فالغاية عنده من إنشاء ذلك المعهد الذي اقترحه هي أن (تنتهي هذه الدراسة بعد عشرات من السنين إلى أن يتجدد شباب هذا الفقه، وتدب فيه عوامل التطور لروح العصر. وتكون نهضة الفقه الإِسلامي هذه شبيهة بنهضة القانون الروماني في العصور الوسطى. ويُنبِت الفقه الإِسلامي قانوناً مدنياً متطوراً يجاري المدنية الحديثة. وينبثق هذا القانون الحديث من الشريعة الإِسلامية كما انبثقت الشرائع اللاتينية والشرائع الجرمانية من الفقه الروماني - ص 24). ¬

_ (¬1) مجلة الأسرة - يصدرها قسم اللغة العربية بكلية الآداب بالاسكندرية - العدد السادس سنة 1957 ص 160 - 165.

مثل هذا الكلام لا يمكن أن يصدر عن مسلم يعتقد أن الشريعة الإِسلامية منزلة من عند الله، وأنها حدود الله، لا يتعداها إلَّا كافر ظالم لنفسه. ثم يأخذ الكاتب في بيان ما يتضمنه التقاء القانون الغربي بالفقه الإِسلامي من وجوه واحتمالات، ويخرج القارئ من كلامه بأن ما يسميه (اشتقاق القانون من الشريعة الإِسلامية) ليس في حقيقة الأمر إلَّا إخضاع الشريعة الإِسلامية لأهواء العصر وشهواته وهو ما يسميه (مدنية العصر). وخلاصة ما يقوله هنا أنه لا يأخذ بحكم الشرع إلَّا حيث يتفق تماماً مع روح القوانين الدنية المستجلبة من أوروبا. ثم هو يُعدِّل الحكم الشرعي أو يلغيه ويسقطه حسب مبلغ تعارضه مع هذه القوانين الغربية الأصول، التي هي في زعمه (أصلح للعصر) أو (تجاري مدنية العصر) أو (تساير روح العصر)، حسب تعبيره في مواضع مختلفة من هذا المقال. وتطوير الفقه الإِسلامي الذي يدعو إليه الكاتب، أو تبديله على الأصح، هو تطوير وتبديل لا يقف عند حد حسب اعترافه هو نفسه حيث يقول: (فالهدف الذي نرمي إليه هو تطوير الفقه الإِسلامي وفقاً لأصول صناعته، حتى نشتق. منه قانوناً حديثاً يصلح للعصر الذي نعيش فيه. فإِذا استخلصنا هذا القانون في نهاية الدرس وأبقيناه دائم التطوِر حتى يجاري مدنيات العصور المتعاقبة، فقد تكون أحكامه في جزء منها، قَلَّ أو كثر مطابقة لأحكام القانون المدني العراقي أو لأحكام القانون المدني المصري أو لأحكام كل من القانونين .. إلخ ص 28). والمهم في ذلك كله أن هذا التطور الدائم سوف ينتهي بذلك التشريع الإِسلامي المزعوم في المدى القريب أو البعيد إلى أن يصبح شيئاً مختلفاً عن الإِسلام الذي أنزل على نبينا عليه الصلاة والسلام اختلافاً تاماً، بل إنه لكذلك منذ بدء وضعه أو التفكير فيه كما هو ظاهر في هذا البحث.

في الكتب المترجمة

-2 - في الكتبِ المترجمَةِ* تقوم اللجنة الثقافية بجامعة الدول العربية على ترجمة عدد من الكتب الأوربية والأمريكية إلى العربية وتنفق على طبعها ونشرها. فما هي الصفات والميزات التي تتوخاها اللجنة فيما تختاره للترجمة من هذه الكتب؟ لا شك في أن الميزة التي ينبغي أن تراعى في اختيار هذه الكتب هي مصلحة العرب. وذلك باستكمال ما ينقصهم وتدارك ما فاتهم مما سبق إليه غيرهم، فكان سبقه فيه سبب تفوقه وسيادته، وكان تخلفنا فيه سبب ضعفنا واستعبادنا. ولا شك في أن العرب أنفسهم هم أقدر الناس على إدراك ما يصلحهم وهم أحرص الناس عليه. فليس من المعقول مثلًا أن نكل أمر هذا الاختيار إلى إحدى دول الاستعباد الغربي مثل أمريكا أو إنجلترا أو فرنسا أو أسبانيا أو هولندا أو بلجيكا، ثم نطمع أن يرشد خبراؤهم العرب مخلصين إلى ما ينفعهم، وما يترتب عليه استغناؤهم عن خبرائهم، واستقلالهُم باستغلال خيراتهم، وخرابُ ما يعيث في بلادهم من شركات، وبوارُ ما يروج في أسواقهم من المنتجات الصناعية على اختلافها، وانقطاعُ ما تنتفخ به جيوبهم وبطونهم من بنزول هذه البلاد وخيراتها المعدنية والزراعية. ومن الواضح أني حين أتكلم عن الغرب أعني الغرب كله، غربيَّة وشرقيَّة، الذين استغلونا واستعبدونا في الأمس الغابر ولا يزالون، والذين ¬

_ (*) نشرت في العدد الأخير من سنة 1377 والعدد الأول من سنة 1378 في مجلة الأزهر. وقد حجبت الجامعة الكتاب وجمعته من الأسواق بعد صدور هذا المقال.

يطمعون في استغلالنا واستبعادنا في الغد القريب أو البعيد، والذين يغزون أسواقنا ويغزون عقائدنا. من الواضح أنهم جميعاً سواء، وإنما يبدو حديثي في معظمه موجهاً إلى فريق منهم دون فريق, لأن ذلك الفريق - والمقصود به هو المعسكر الأمريكي وحلفاؤه من الإِنجليز والفرنسيين خاصة - يمثل الخطر الراهن الماثل، ولأن عملاء هذا المعسكر هم أقدم السماسرة وأعرقهم في هذه الحرفة الدنيئة، وقد رشحهم هذا القدم وهذه العراقة - بعون سادتهم وتضامن عصابتهم - لاحتلال كثير من المراكز الخطيرة في حصوننا. ونحن حين نوجه النظر إلى الخطر الراهن الماثل لا ينبغي أن نغفل عن الخط المتربص الذي يتحين الفرص. ولهذا الخطر المتربص سماسرة من نوع آخر لا أحتاج لأن أكشف القناع عن وجوههم لأنهم غير معنَّعين. ونعود لما كنا فيه فنقول: إن من غير المعقول أن تُخْلِص دولة من دول الاستعباد فيما تنصح به للعرب من اختيار النافع من الكتب، الذي يؤدي إلى نهضة حقيقية. وليس من الإِنصاف أن نؤاخذهم على التقصير في ذلك أو الغش فيه، فلا ينبغىِ أن نتوقع منهم أن يخربوا بيوتهم بأيديهم، وأن يضعوا رقابهم في حبال المشانق طائعين مختارين. العرب وحدهم هم الأمناء على مصالحهم، لا يصلح للقيام عليها سواهم ولا يؤتمن على هذه الأمانة غيرهم. فاختيار الكتب التي نترجمها إلى العربية يجب أن يوكل إلى علماء العرب وحدهم. تلك كلها من المسلَّمات التي لم أكن أحتاج لأن أفصِّل القول فيها، لولا أن هذا الذي يبدو في عقول كل الناس من الحقائق الواضحة التي تبلغ درجة المسلَّمات لم يكن يبدو كذلك في عقول المشرفين على التوجيه الثقافي لجامعة الدول العربية. هل يعقل عاقل منصف أن يلجأ العرب إلى السفارة الأمريكية مثلاً لتختار لهم ما تراه نافعاً للعرب ومحققاً لنهضتهم، ومعيناً على طرد اليهود وإجلائهم؛ وتصفية شركات البترول وخرابها؟ لقد فعلت اللجنة الثقافية بجامعة الدول العربية ذلك! استوحت السفارة الأمريكية في بعض ما اختارته مما ترجمته، واستوحت اليونسكو في بعضه الآخر. وهي نفسها تعترف بذلك حيث تقول في نشرتها الثقافية التي عرضت فيها نشاطها بين سنتي 1946 - 1956) كذلك أتفقت الِإدارة الثقافية بعد موافقة المكتب

الدائم على أن تتولى نشر بعض الكتب الهامة المترجمة بمعرفة القسم الثقافي بالسفارة الأمريكية. وقد قُدِّمت فعلاً إلى الطبع على هذا الأساس أصول كتاب مترجم إلى العربية، ويشتمل على مقالات للكاتب الأمريكي الكبير إيمرسون - ص 25) (¬1). وتقول كذلك: (اتصلت الإِدارة الثقافية ببعض الهيئات العالمية المختصة (¬2)، وحصلت منها على كشوف بأسماء الكتب التي تراها تلك الهيئات داخلة في إطار هذا البرنامج). وسوف أعرض في هذا المقال نموذجين من هذه السموم التي تدس على العرب باسم جامعتهم في كتابين، أحدهما مما أوحت به السفارة الأمريكية وهو (مختارات من إمرسون)، والآخر مما أوصت به اليونسكو وهو (قصة الحضارة) لوِلْ ديورانت. وقبل أن أتناوت هذين الكتابين أحب أن أؤكد لجامعة الدول العربية وللجنتها الثقافية الموقرة التي يرأسها طه حسين أن الجرب لم يُغلَبوا من ضعف في الفلسفة ولا الآداب ولا التاريخ. ولكنهم غُلبوا وضربت عليهم الذلة لأنهم متخلفون في العلوم التجريبية المادية بكل فروعها الكيميائية والطبيعية والميكانيكية، النظرية منها والتطبيقية. غَلبوا لأنهم لا يملكون من المصانع ومن أدوات القتال ما يناهضون به عدوهم وما يتحررون به من سجنه الاقتصادي، الذي يسخّرهم فيه لجمع الثروات له كما يسخَّر العبيد ثم يحاربهم بهذه الثروات نفسها، ويشتري بها من رجالهم من يقوم على حراسة هذا السجن الكبير، فيقيم فيه معبداً يسبِّح كهنتهُ بحمد آلهتهم التي يعبدونها من دون الله. وينكل بالذين ينبِّهون النائمين والغافلين والمخدوعين، أو يطاردهم بالإِشاعات الكاذبة والأضاليل الباطلة حتى يُلَبِّس على الناس أمرَهم ويجعلهم موضع السخرية والاستهزاء. إن الجماعات البشرية في الدول والحكومات، والجيوشَ في ميادين القتال، والفرقَ الرياضية في الساحات، يتميز نفسها بمختلف الشارات، فتتخذ الأعلام ¬

_ (¬1) طبعت اللجنة بعد ذلك كتابين مما أوحت به السفارة الأمريكية. وهما (الثقافة والحرية) لجون ديوي، الذي أفسد المتأمركون تربية شبابنا باسمه، و (انتصار الحضارة) لبرستد الذي أوفده المليونير اليهودي المتستر تحت النصرانية روكفلر في سنة 1926 ليعرض على مصر عشرة ملايين من الدولارات لتأسيس معهد للدراسات الفرعونية يعين على سلخ مصر من عروبتها. (¬2) المقصود بها هيئة اليونسكو التي يسيطر عليها - كما هو الشأن في أكثر مؤسسات الأمم المتحدة - الصهيونية العالمية الهدَّامة.

والأناشيد وأنماط الأزياء والعلامات والأشعرة. تفعل ذلك لتميِّز نفسها من غيرها فلا تضل في الزحام ولا تذوب عند الاختلاط، ولا تنحلَّ رابطتها عند الصادمة والنزال. وللعرب طابع يميزهم، ولهم شخصية قد ضلوا عنها في عصور الضعف والخمول وأضلهم عنها المستبعِدون وأذنابهم. ولن تتحقق لهم نهضة إلَّا إذا أحيوا هذه الشخصية، وتمسكوا بمقوماتها، وتعصبوا لرموزها وشاراتها، وميزوا أنفسهم بطابعهم الخاص. وسيظلون بغير ذلك أذناباً للمستعبدين ينقادون ولا يقودون، وأبواقاً ينشرون ما يلقى إليهم من قول ويرددونه في الأجواء، لا يزيد عملهم فيه عن مجرد تضخيمه. ذلك لأنهم إلا يبتكرون حتى يحسوا في أنفسهم القدرة على الابتكار، وحتى يكونوا جميعاً متماسكين فيتولد من اجتماعهم وتماسكهم قوة. وهم لا يحسُّون القدرة على الابتكار إلَّا إذا استيقنوا أنهم عريقون في هذا الباب. ولا يجتمعون ويتماسكون إلَّا إذا عرفوا خصائصَهم الأصيلة التي تمنعهم من أن يذوبوا في غيرهم فتذهب قواهم شَعَاعاً وتتفرق بَدَداً. لا يبلغ العرب درجة الأستاذية في هذه العلوم الجديدة التي أذلّهم عدوهم بتفوقه عليهم فيها إلَّا إذا أصبحت هذه العلوم ملكاً لهم، وهم لا يملكون هذه العلوم ولا يحسون أنها علوم عربية إلَّا إذا قرءوها بالعربية وكتبوها بالعربية. وسيظلون يحسون أنهم غرباء عليها وأنهم متطفلون على أصحابها - طالما ظلوا يقرءونها ويكتبونها بغير لغتهم. ولكن اللجنة الثقافية بجامعة الدول العربية، وعلى رأسها طه حسين الذي تشهد كتبُه أنه لم يكن إلَّا بوقاً من أبواق الغرب، وواحداً من عملائه الذين أقامهم على حراسة السجن الكبير، يروِّج لثقافاته ويعظمها، ويؤلف قلوب العبيد ليجمعهم على عبادة جلاديهم. طه حسين الذي لم يملّ من الكلام عن جامعة البحر الأبيض المتوسط، التي دعت إليها فرنسا بالأمس والتي تدعو إليها أمريكا اليوم. طه حسين الذي يزعم لمصر أنها جزء من البحر الأبيض التوسط في مقوِّمات شخصيتها, وليست جزءاً من عرب نجد واليمن والبحرين والعراق والسودان. طه حسين الذي لم يَبْدُ العربُ في وهمه أمة،

لأن قِوام الدول في زعمه هو المنافع المادية، ولأن (تطور الحياة الإِنسانية قد قضى منذ عهد بعيد بأن وحدة الدين ووحدة اللغة لا تصلحان أساساً للوحدة السياسية، ولا قِواماً لتكوين الدول) (¬1). طه حسين هذا لا يُقِر معنا هذه الحقيقة, لأنه يزعم للعرب أن السبيل إلى نهضتهم ليس هو ترجمةَ العلوم، ولكن السبيل إلى نهضتهم أن يذوبوا في الغرب، وأن يُخلَعوا من أنسابهم ويُقلَعوا من تُربتهم ليُغرَسوا في تربة الغرب، ولذلك فهو يهلك أموالهم في ترجمة شكسبير الذي ترجمت رواياته من قبلُ أكثر من مرة ليحابي بها بطانته وحزبه فيغدق عليهم مما تحت يده، بل هو يهلك أموالهم في ترجمة ما لُعِن به أجدادهم، وما سُبَّ فيه أسلافُهم، وسُفِّه دينهم، وافتُرِيَ على نبيهم. ولو أنصف طه حسين، ولو أنصف كل القائمين على الترجمة في هذا البلد من مثل إدارة الثقافة بوزارة التربية ومجلس الآداب وغيرهما، لجعلوا كل همهم مصروفاً إلى نقل العلوم التجريبية والرياضية وحدها لا يشتغلون بترجمة غيرها حتى نستكمل نقصنا فيها, لأن الاشتغال بنقل كتب الأدب والفلسفة والتاريخ والتربية والأخلاق وما شاءوا من الثقافات الإِنسانية، على هذا النحو الذي تسوده الفوضى وسوء الاختيار - بل سوء القصد في كثير من الأحيان - يضر مرتين: يضر بإِفساد أذواق شبابنا وتدمير كيانهم، وتحويل شخصيتهم بحيتَ يصبحون غرباء بين قومهم، ثم يصبح قومهم بعد قليل هم الغرباء بينهم حين يكثر عددهم ويَكْثُف جْمَعُهم، ويضر مرة ثانية بتبديد الجهد والمال في غير وجهه وصرف العرب عن الطريق الصحيح إلى تحررهم ثم سيادتهم. ولو كان لي أن أقترح على اللجان الثقافية والهيئات الجامعية على اختلافها، لاقترحت أن يبدءوا بترجمة كتب المَراجع في الطب والهندسة والعلوم والزراعة التي يدرسها طلاب الجامعات العربية. فهم بذلك يصيبون غرضين: إنهم ييسرون سبل العلم للطلبة العرب ويخففون عن آبائهم بعض الأعباء، بإِغنائهم عن الطبعات الأوروبية الباهظة الثمن، والتي لا يتيسر وجودها في كثير من الأحيان, لأن أصحابها يستطيعون أن يمنعوا تصديرها إلينا حين ¬

_ (¬1) مستقبل الثقافة في مصر ص 19. ويراجع في بسطه الفكرة كلها الفقرتان الثانية والثالثة ص 12 - 20 من طبعة المعارف سنة 1944.

يشاءون وهم في الوقت نفسه يخطون بهذا العمل خطوة واسعة نحو تعريب هذه العلوم التىِ لا تزال تدرَّس في جامعات مصر باللغة الإِنجليزية. وقد كان أنصار اللهجات السوقية ودعاة تطوير العربية الفصحى في قواعدها وأساليبها ومفرداتها، من غربيين ومن عرب مستغربين، كانوا ولا يزالون يستندون في دعوتهم إلى ما يسميه بعضهم (ازدواجاً)، فيزعمون أننا نقرأ ونكتب بغير اللغة التي نتكلمها، وذلك عندهم هو السبب في تخلفنا العلمي والثقافي الذي يَحُول بيننا وبين التفوق والنبوغ. ومن عجيب أن هؤلاء العباقرة قد اكتشفوا هذا العيب الخطير في عربيتنا الفصحى وحدها ولم يكتشفوه في الإِنجليزية أو الفرنسية، فلم نسمع صوتاً واحداً منهم ينبه إلى الازدواج الناشىء عن قراءة الجامعيين العرب - أساتذة وطلاباً - وكتابتهم بالإِنجليزية أو بالفرنسية، فهل يرون الازدواج في المرواحة بين السوقية والفصحى مع قرب ما بينهما, ولا يرونه في المراوحة بين الإِنجليزية والعربية، أو الفرنسية والعربية، مع بُعْدِ ما بينها وبينهما؟ ولنعد من بعد إلى حديثنا عن الكتابين اللذين أشرت إليهما من قبل لأقول: إن جامعة الدول العربية حين استوحت السفارة الأمريكية في أحدهما، واستوحت اليونسكو في الكتاب الآخر، قد لجأت في حقيقة الأمر إلى السفارة الأمريكية مرتين. لجأت مرة إلى السفارة الأمريكية التي ترفع فوق دارها العلم الأمريكي، ثم لجأت مرة أُخرى إلى السفارة الأمريكية التي ترفع علم الأمم المتحدة. وإن شئنا الدقة قلنا: إنها لجأت إلى اليهودية العالمية الهدامة في الحالين، لتختار لها أشد الكتب فتكاً بالدبن والأخلاق وأفعلها في قتل الشخصية العربية ومحو مقوماتها وتدمير تفكيرها وتسميم ينابيع الثقافة فيها، ومن أراد الدليل على صدق ما أقول فليرجع إلى الكتابين اللذين أشرت إليهما، فسيجد فيهما الكيد للإِسلام وللمسيحية ولكل دين صحيح ظاهراً وخفياً، وسيجد أن اليهودية وحدها هي التي سلمت من كيد المؤلَفيْن وبذاءتهما، وسيجد الثناء على اليهودية واليهود تصريحاً وتلميحاً. يجد ذلك في مثل إشارة إمرسون إلى يوم السبت الذي يسميه (يوم الدين)، والذي يُظهِر الحزن والأسى لأنه (فقد الآن عند القسس سناء الطبيعة - ص 77) ويجده في مثل قوله (إني لأتطلع إلى الساعة التي يتكلم فيها في الغرب كل ذلك

الجمال العلوي الذي افتتنت به أرواح أولئك الشرقيين، وبخاصة أولئك العبريين الذين تحدث الأنبياء من خلال شفاههم لكل زمان ... وإني لأتطلع إلى المعلم الجديد الذي يتابع هذه القوانين المشرقة - ص 90). ويجده كذلك في عرض ول ديورانت لتاريخ اليهود عرضاً جذاباً مشرباً بالعطف والمحاباة في الجزء الثاني من هذه الترجمة التي أتناولها بالحديث (ص 321 وما بعدها)، وفي اعتماد المؤلف الشديد على المؤرخ اليهودي يوسيفوس، وعرضه تاريخ اليهود من زوايا تثير العطف والإِعجاب في كل مكان من الكتاب (¬1). وذلك في مقابل ما يصبه "ول ديورانت" من التهم البذيئة على شخصي مُحَمَّدْ والمسيح الكريمين عليهما صلوات الله وسلامه في الجزءين الحادي عشر والثالث عشر من هذه الترجمة، وفي مقابل تهكم إمرسون اللاذع وسخريته المرة بالمسيحية وبرجالها وطقوسها. ألا يذكّرنا ذلك كله بالتهم البذيئة الموجّهة إلى شخصي المسيح عليه السلام وأمه رضي الله عنها في التلمود الذي يقدسه اليهود أكثر من تقديسهم للتوراة, ثم ألا يذكّرنا كذلك بالمادة الخامسة من خطة الصهيونية السرية التي عرفت فيما بعد باسم (بروتوكول حكماء صهيون) حيث تتحدث عن (حكم الجماهير والأفراد عن طريق عبارات ونظريات وقواعد للحياة معدة إعداداً ماهراً وعن طريق شتى أنواع الخداع والحيل)، ثم تقول بعد قليل: (وبقدر ما نعلم فإِن المجتمع الوحيد الذي يستطيع الوقوف في وجهنا في مضمار هذا العلم هو مجتمع اليسوعيين، إلَّا أننا قد توصلنا إلى الحط من قدرهم في نظر الجماهير الحمقاء بتوكيدنا لهم أنهم منظمة زائلة، بينما وقفنا نحن وراء الكواليس وحرصنا على أن تبقى منظمتنا مستترة خفية) (¬2). ¬

_ (¬1) تراجع أمثلة لذلك في صفحات 13، 14، 33، 36، 39، 204، 216 من الجزء الحادي عشر (الجزء الثالث من المجلد الثالث). (¬2) الترجمة العربية ص 46 - 47 من طبعة "كتب سياسية" - العدد الخامس. ويجب أن يتنبه المسلمون إلى أن الأساليب التي استخدمتها الصهيونية في هدم المسيحية ومحو سلطانها وسلطان رجال الكنيسة من قلوب المسيحيين هي نفسها التي تتخذها الصهيونية الآن لمحاربة الإِسلام وإفساد دين ناشئتهم وجماهيرهم وإضعاف سلطان الإِسلام على نفوس عامتهم. ويقوم هذا الأسلوب على السخرية بعلماء الدين وتصويرهم بصورة الجهلاء الجامدين تارة، والمنافقين المستغلين لسلطان وظائفهم تارة أُخرى، وبإِثارة المشاكل الوهمية حول قواعد الإِسلام وأحكامه ليوهموا ضحاياهم أنها لم تعد كافية لسد حاجات المجتمع الحديث.

يهدم إمرسون الدين والتدين من جذوره تحت ستار الدعوة إلى الحرية وإلى استقلال الشخصية. وأما ول ديورانت فهو يهدمه عن طريق تجريح الرسل الأطهار وإثارة الغبار حول سيرهم. على أن الكاتبين كليهما يشتركان في هدم النبوات وإنزال الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه إلى مرتبة الفلاسفة والكتاب والمصلحين. يستدرج إمرسون السذج من القراء وضعاف الإِيمان بالثناء على موسى وعيسى عليهما السلام، ولكنه يزعم لهم أن الدين يتجدد دائمًا، وأن الأنبياء كانوا ولا يزالون (ص 69، 70). ولذلك فهو يسمي المسيحية التي أنزلت على المسيح عليه السلام (المسيحية التاريخية - ص 71)، ويعد فيما يعدده من أخطائها أنها تهتم بشخص المسيح اهتماماً مبالغاً فيه، وأنها تبالغ كذلك في الاهتمام بالطقوس دون جوهر الروح. ومن أجل ذلك صار الناس في زعمه (يتحدثون عن الوحي كأنه قد أوحي به وانتهى من عهد قديم، كأن الله قد مات - ص 71 إلى 74). ولا يزال هذا الصهيوني الهدام يستدرج قارئه حتى ينتهي به إلى النتيجة الخطيرة التي يريد أن يسوقه إليها، وهي هدم كل الديانات، باعتبار الوحي ظاهرة مألوفة تتكرر في كل زمان ومكان، وذلك حين يقول: (ومن واجبي أن أقول لكم إن الحاجة إلى إلهام جديد لم تكن في أي وقت من الأوقات أشد مما هي الآن ص 75) وحين يقول بعد ذلك: (إن جمود الدين، والزعم أن عصر الإِلهام قد ولىّ، وأن الإِنجيل قد استغلق، والخوف من الحط من شخصية المسيح بتمثيله في صورة رجل، كل ذلك يدل في وضوح كاف على خطأ علمنا بالدين. وواجبُ العلم الصادق أن يرينا أن الله كائن اليوم، لا كان فيما مضى، وأنه يتكلم لا تكلم وانتهى- ص 83). ما الفرق بين كلام هذا الرجل وبين كلام القسيس الأمريكي ميلر بروز في الكتاب الذي نشرته مؤسسة فرانكلين باسم "الثقافة الإِسلامية والحياة المعاصرة"؟ وما الفرق بينه وبين كلام القسيس الأمريكي الآخر هارولد سمث في ذلك الكتاب نفسه (ص 47، 74 (*)؟ ألا ترى أن واردات أمريكا تهدف جميعاً إلى زعزعة إيمان الناس بدياناتهم، وجعل المسلمين في هذه المنطقة ¬

_ (*) يراجع مقال (الثقافة الإِسلامية والحياة العاصرة) في كتابتا (الإِسلام والحضارة الغربية).

مسلمين بأسمائهم وألقابهم وشهادات ميلادهم، لا يزيدون عن ذلك ولا يتجاوزونه؟ هذا هو الهدف الهدام الذي تخفيه أردية الكهنوت السوداء - وإمرسون أحد أصحاب هذه الأردية. فهو ينتمي إلى أسرة يحترف كثير من أفرادها الكهنوت، وقد تخرج هو نفسه في مدرسة هارفارد الدينية سنة 1829، وبدأ حياته راعياً لكنيسة كان أبوه يقوم بالوعظ فيها، تم طردته الكنيسة لما شاع إلحاده. وما ينبغي لهذه الأردية السوداء أن تخدع الناس عن حقيقة الذين يلبسونها. إنهم مدسوسون على القسس، دستهم عليهم الصهيونية العالمية الهدامة. ومن وجد في هذه الحقيقة شيئاً من الغرابة فليقرأ الرسالة التي بعث بها كبير حاخامي اليهود في القسطنطينية إلى يهود فرنسا سنة 1489 حين تعرضوا لاضطهاد لويس الثاني عشر. فقد قال لهم: (إنكم تذكرون أن ملك فرنسا يريد أن تصبحوا مسيحيين فعليكم إذن أن تفعلوا ... إنكم تذكرون أنهم يريدون الاستيلاء على ممتلكاتكم، فاجعلوا من أبنائكم تجاراً، وبواسطة التهريب تستطيعون شيئاً فشيئاً الاستيلاء على ممتلكاتهم، إنكم تشكون من أنهم يحاولون اغتيالكم، فاجعلوا من أبنائكم أطباء وصيادلة حتى يتمكنوا من القضاء على حياتهم دون أن يخشوا عقاباً. إنكم تؤكدون أنهم يهدمون معابدكم، فحاولوا أن تجعلوا من أبنائكم كهنة، ورجال دين، لكي يدمروا كنائسهم .. إلخ) (¬1). يقرن هذا الصهيوني الهدام رسالات الأنبياء في كل موضع من كتابه بآراء الفلاسفة والكتاب وأصحاب المذاهب الضالة الفاسدة في بعض الأحيان - مثل ما جاء في صفحات 84، 128، 157 - فهي في زعمه ليست منزلة من عند الله، ولكنها نابعة من عقولهم بعد أن تحرروا من أسر الآراء السائدة في عصرهم. ولذلك فهو يحض على الاقتداء بهم حسب تصويره المزعوم لهم - في الخروج على كل ما هو ثابت مقرر مما توقره التقاليد وتقدسه الأديان. وذلك هو ما يسميه ذلك الهدام: بالحرية وباستقلال الشخصية. ¬

_ (¬1) راجع "عدو فرنسا رقم 1" ص 13 - العدد 19 من سلسلة "كتب سياسية".

والحرية أو استقلال الشخصية التي يدعو إليها هذا الهدام هي حرية تقوم على الغلو المفرط في الفردية، ويستطيع القارئ أن يلمس بوضوح في كل مقالات الكتاب أن وراء كل سطورها إسرافاً في تقدير الفرد والفردية والحرية الشخصية في السلوك وفي التعبير عن الرأي، ينتهي إلى أن يسمح كل إنسان لنفسه بأن يبني عالماً مستقلاً به من القيم لا يستوحي فيه غير خياله وأوهامه. مثل هذا الكلام لا يصدر إلَّا من هدام محترف, لأنه يقتل الروح الجماعية التي هي أساس كل تماسك اجتماعي، والتي أدَّى فقدانها إلى ما يعانيه الناس الآن من فوضى واضطراب. فلو سُمِح لكل فرد من الناس أن يبني لنفسه عالماً مستقلاً من القيم لأصبحت مقاييس الخير والشر مقاييس فردية، فلا يكون هناك شر هو عند كل الناس شر، ولا يكون هناك خير هو عند كل الناس خير، وعندئذ لا يصبح هناك مجتمع، ولا يكون هناك إلَّا الفوضى والخراب. والأمثلة على هذه الدعوة اطيدأمة التي هي بمكان اللب من هذه المقالات التي ترجمتها الجامعة العربية بمشورة السفارة الأمريكية تملأ الكتاب، أستطيع أن أقدم بعض نماذج منها على سبيل التوضيح لا الحصر. يقول إمرسون مخاطباً قراءه (وإني أنصحكم قبل كل شيء أن تسيروا وحدكم وأن ترفضوا النماذج الطيبة، حتى تلك التي يقدسها الناس في خيالهم، وتشجعوا على محبة الله بغير وسيط أو حجاب، وسوف تجدون من الأصدقاء من يكفي لأن يطلعكم على أمثال وزلي وأوبرلين والقديسين والأنبياء - وتأمل أين يضع هذا الملحد الهدَّام الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه - لكي تقتدوا بهم. أشكروا الله على هؤلاء الرجال الأخيار، ولكن ليقل كل منكم "أنا كذلك إنسان" ... إن التقليد لا يمكن أن يرتفع فوق النموذج ... كل منكم مُنْشِدٌ من منشدي الروح التدليل وُلد حديثاً، فلينبذ وراءه كل تقليد وليعرِّف الناس مباشرة بالله - ص 85). وواضح من هذا الكلام أن ذلك المفسد المضل يريد أن يجعل كل الناس أنبياء، معتمدًا على ضعف المغرورين والمفتونين، الذين يريد أن يخيِّل إليهم أنهم لا يُثِبتون وجودهم إلَّا عن طريق

نبذ الدين، ويزعم لهم أنهم جميعاً على صلة صحيحة وثيقة بالله - سبحانه وتعالى - تمكنهم من معرفته ومن تعريف الناس به. ومن أمثلة هذه الآراء الهدَّامة التي تستتر وراء الدعوة الخلابة إلى التحرر الفكري كذلك قوله: (من أراد أن يكون رجلاً ينبغي أن ينشقَّ على السائد المألوف، ومن أراد أن يجمع ثمر النخيل الخالد ينبغي أن لا يعوقه ما يسميه الناس خيراً، بل يجب عليه أن يكتشف إنْ كان ذلك خيراً حقاً. لا شيء في النهاية مقدَّس سوى نزاهة عقلك. حرر نفسك لنفسك يؤيدك العالم ... الخير والشر اسمان يمكن في سهولة شديدة أن ينتقلا إلى هذا أو ذاك، والشيء الوحيد الصحيح هو ما يتبع تكويني، والشيء الوحيد الخطأ هو ما يقاومه ص 132). ومن سفسطة ذلك المفسد الهدَّام قوله (إن الثبات على رأي واحد هو غول العقول الصغيرة الذي يقدسه صغار السياسيين والفلاسفة ورجال الدين. أما الروح العظيمة فليس لها ألبتة شأن بهذا الثبات، وإلَّا فإِنها تَأْبه لظلها فوق الحائط. انطق بما تفكر فيه الآن في ألفاظ قوية، وانطق بما تفكر فيه غداً في ألفاظ قوية كذلك، حتى إن ناقض ما قلته اليوم، وإذن فثق أنك سوف يساء فهمك، وهل من شر الأمور أن يساء فهمك؟ لقد أسيء فهم فيثاغورس وكذلك سقراط ويسوع وكوبرنكس وغاليلو ونيوتن وكل روح طاهرة عاقلة تجسدت. لكي تكون عظيمًا لا بد أن يُساء فهمك - ص 139). فلينظر القارئ أي دعوة هذه إلى التخبط والغرور، وإغراء ضعاف العقول بما يجرئهم على خوض كل مجهول، وتناول كل مُغيَّبٍ مستور، وهتك كل مقدَّس مصون والخبط في كل تيه واعتساف كل طريق، بما يفسد عليهم وعلى الناس الحياة ويحولها إلا جحيم لا سكن فيه ولا قرار، يتنابذ أهلها ويتدابرون ويعتركون ولا يتفقون على رأي ولا يسكنون ولا يطمئنون، حتى لكأنهم أهل جهنم. {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} على هذا الغرور الشديد المفسد في تقدير الفرد يقوم الكتاب كله. ويبلغ هذا الفساد وهذا الغرور حد الكافر المجنون في بعض الأحيان، وذلك في مثل

قوله (إن من ينبذ الدوافع العامة الإنسانية ويجرؤ على الثقة العامة فيما تمليه عليه نفسه لا بد أن يتميز ببعض صفات الآلهة - ص 154). فهل تعرف خَرَفاً وراء هذه الخرف؟ ومعِ ذلك فقد يظن بعض صغار العقول وضعاف النفوس هذا الجنون ضرباً من ضروب الفلسفة, لأنهم لا ينسبون عجزهم عن فهمه إلى فساده، ولكنهم ينسبون إلى ضعف عقولهم عن إدراكه. وهذا الكاتب وأمثاله يعتمدون على أن الأذكياء سوف يجدون في كلامه ما يرضي غرورهم. أما الأغبياء فسوف يقفون أمامه مشدوهين كأنهم أمام مُعجزة. أما الشباب فسوف يجدون فيما يتضمنه من الثورة التي تحطم ولا تبقي ولا تذر مجالاً للتنفيس عن نشاطهم ونزوعهم إلى إثبات وجودهم من كل وجه. ويتعقب ذلك الصهيوني الهدام فضائل الدين كلَّها بالتسفيه والسخرية اللاذعة. فالصلاة عنده وَهْم ليس فيه من الشجاعة أو الرجوله بمقدار ما فيه من القداسة (ص 156). والتوبة والندم نوع آخر من الصلاة الزائفة ونقص في الاعتماد على النفس وعجز في الإِرادة. والرحمة والعطف لا تقل عن الندم وضاعة (ص 157)، (والعقائد الدينية الشائعة قد تفوقت على الخرافات التي حلت محلها في الظاهر فقط لا في المبدأ- ص 173). ألا ترى من ذلك كله أن هذا المفسد يريد ثورة تقلب موازين الدين والخلق وكلَّ شيء؟ بلى. وهو نفسه يعرف ذلك، فهو يفسد، ويعلم أنه يفسد، أي أنه هدام محترف يفسد عن وعي منه وقصد، والدليل على ذلك قوله (نريد رجالاً ونساء يجددون الحياة ويجددون حالتنا الاجتماعية. ولكنا نجد أن أكثر المطابع مفلسة - ص 154) وقوله (إن تدبيرنا المنزلي ضعيف، وفنوننا، وأعمالنا، وزواجنا، وديننا، لم نختره لأنفسنا، وإنما نحن جنود في غرفة الاستقبال، نتحاشى معركة القدر الحامية التي تتولد فيها القوة - ص 155). وقوله. (ومن اليسير أن نرى أن مزيداً من الثقة بالنفس لا بد أن يحدث انقلاباً في جميع وظائف الناس وعلاقاتهم ودياناتهم، وفي تربيتهم، وفي أهدافهم وأساليب عيشهم واجتماعهم وفي امتلاكهم وفي آرائهم التي يتدبرون - 156). ذلك هو لب الكتاب الذي أوحت به السفارة الأمريكية لطه حسين،

فترجمه بأموال العرب، وأهداه إلى شبابهم ومفكريهم. ولعنة الله على شياطين الإِنس والجن {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} وقد يبدو في بعض مقالات الكتاب - كما هي العادة في كل نشرات الهدامين - صورة خداعة للإِيمان، في مثل مقالات (الحب) و (الصداقة). ولكن هذا الإيمان الزائف ليس إلا الشرَك الخداع الذي يجذب الأغرار، إذ يوهم القارئ أن الرجل صادق الإِيمان، وأن ضلالاته وإلحاده ليست إلا ضرباً من التصوف، وأن سخطه على الأديان وطقوسها هو ضرب من السمو الروحي الذي يستهدف إصلاحها وتنقيتها من الشوائب كما يزعم كل أمثاله من الهدامين. أما (قصة الحضارة) لـ (ول ديورانت) (Will durant) فقد أصدرت منه اللجنة الثقافية حتى الآن ستة عشر جزءاً، ويكفي أن نراجع من هذه الأجزاء العديدة الجزءين اللذين تناولا حياة سيدنا عيسى وحياة سيدنا مُحَمَّدْ عليهما الصلاة والسلام لنتبين أن اختيار هذا الكتاب للترجمة جريمة دبرتها الصهيونية الهدامة المتخفية في زوايا اليونسكو ونفذتها بيد طه حسين وأمثاله في جامعة الدول العربية. يتساءل مؤلف الكتاب إن كان المسيح عليه السلام قد وجد حقاً (11: 202 - 205) ويثير حول الأناجيل مختلف الشبهات (11: 206 - 211)، ويشكك في نسبه وفي أنه ولد من عذراء (ص 214). وينكر كل معجزاته فينسبها جميعاً إلى الكذب والتلفيق، أو يردها إلى خداع الحواس والوهم أو ما سماه "العلاج النفسي" (ص 221 - 222) ويتناول شخص المسيح عليه السلام وكلماته وروايات الأناجيل بالسخرية فيقول مثلاً (إن الإنسان ليجد في الأناجيل فقرات قاسية مريرة لا توائم قط ما يقال لنا عن المسيح في مواضع أخرى منها، ويبدو أنه قَبِل دون بحث وتمحيص أقسى ما كان يؤمن به معاصروه عن جهنم السرمدية التي يعذب فيها من لا يتوبون من الكفار

والمذنبين بالنار التي لا تنطفىء أبداً والديدان التي لا تشبع من نهش أجسامهم). (وهو يقول دون أن يحتج عليه أحد: إن رجلاً فقيراً في الجنة لم يسمح له بأن يترك نقطة واحدة من الماء تسقط على لسان غني في الجحيم ... ويلعن شجرة التين التي لم تكن تحمل ثمراً، ولعله كان قاسياً بعض القسوة على أمه. وكان يتصف بحماسة النبي العبراني المتزمت أكثر من اتصافه بالهدوء الشامل الذي يمتاز به الحكيم اليوناني - ص 219). وأكثرُ هذه المفتريات التي حشدها ذلك الصهيوني الهدام في كتابه، مروية عن المؤرخ اليهودي يوسيفوس. وبمثل هذا الأسلوب الإِلحادي الهدام عالج المؤلف حياة نبينا عليه الصلاة والسلام في الجزء الثالث عشر. ففي هذا الجزء من الكتاب أخبث أساليب الكيد والدس للإِسلام. والمؤلف لا يلجأ هنا إلى الهجوم البذيء الصريح كما فعل مع شخص المسيح الكريم عليه السلام. ولكنه يتظاهر هنا بالإنصاف، بل يبدو في بعض الأحيان كأنه معجب بشخص النبي عليه الصلاة والسلام. فيقول مثلاً (وكان مُحَمَّدْ، كما كان كل داعٍ ناجحٍ في دعوته، الناطق بلسان أهل زمانه والمعبرَ عن حاجاتهم وآمالهم ص 24). ويقول في موضع آخر: (ذلك أن النبي كان ينشىء حكومة مدنية في المدينة. واضطر بحكم الظروف أن يخصص جزءاً متزايداً من وقته للمشاكل العملية المتصلة بالتنظيم الاجتماعي والأخلاقي والعلاقات السياسية بين القبائل ص 33) ويقول: (وحتى شؤون الحياة العادية كانت أوامره فيها تعرض في بعض الأحيان كأنها موحى بها من عند الله، وكان اضطراره إلى تكييف هذه الوسيلة السامية بحيث تتفق مع الشؤون الدنيوية، مما أفقد أسلوبه بعض ما كان يتصف به من بلاغة وشاعرية. ولكن لعله كان يشعر بأنه بهذه التضحية القليلة جعل كل تشريعاته تصطبغ بالصبغة الدينية الرهيبة - ص 42). وهو في هذه المواضع كلها يتحدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثه عن أي مصلح سياسي تصدر دعوته عن حاجات عصره وتُشكِّلها ظروفُه. ومع ذالك فإِن

كلامه هذا قد يخدع ضعاف المسلمين وأغرارهم حين يرون الكاتب - وهو غير مسلم - يبدي ميلاً مصطنعاً إلى إنصاف نبي لا يدين هو بدينه. فهذا الكلام المشبع في ظاهره بروح المودة يخدع كثيراً من المسلمين فيتقبلونه بقبول حسن. وينتهي بهم ذلك إلى اعتبار نبيهم واحداً من الزعماء والفلاسفة والمفكرين والمصلحين الذين يزخر بهم تاريخ الشرق والغرب في العصور القديمة والحديثة، فيخرجهم ذلك عن إسلامهم لا شك, لأنهم لا يُسْلمون حتى يعتقدوا اعتقاداً خالصاً لا يدخله ريب أن نبوة مُحَمَّدْ - صلى الله عليه وسلم - كانت بوحي يلاحقه ويقوده ويصحح كل أعماله. ولست أبالغ ولا أدَّعي غير الحق حين أقول: إن هذه الروح اللادينية - مع شديد الأسف- قد أصبحت هي التي تسود دراسات التاريخ الإِسلامي في أكثر جامعاتنا. وذلك شيء يلمسه كل من تخرج في كليات الآداب أو اتصل بها عن قريب. وما لي أذهب بعيداً وهذا هو مُحَمَّدْ بدران - مترجم هذا الجزء - يقدم لي الدليل هو نفسه على صدق ما أقول، حين يقرر في مقدمته أن المؤلف قد (أنصف الحضارة الإِسلامية فشاد بفضلها). يقرر المترجم المسلم ذلك في سذاجة تبلغ حد الغفلة والبله، مع أن ذلك الصهيوني الخبيث لا يروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا الغرائب التي يخلعها من سياقها وظروفها حتى تبدو لغير الخبير بالتاريخ الإِسلامي في صورة تثير السخط وتدعو إلى الاشمئزاز، كالذي يصف المجرم وهو يساق إلى القتل ويعلق في الحبل، ويخفي ما اجترح من مفاسد وما أزهق من أرواح بريئة. تجد ذلك في مثل كلامه عن قتله - صلى الله عليه وسلم - امرأة، وعن قتله شيخاً ناهز المائة, لأنهما هجواه (ص 35). وهو يسوق ذلك في أسلوب هادىء رزين كأنه يسوق خبراً من الأخبار العادية دون أن يعلق عليه أو يحتفل به، فلا يكاد القارئ المسلم يتنبه إلى غرضه الخبيث الذي هو في حقيقة الأمر التشنيع بالنبي عليه الصلاة والسلام عند المخدوعين بما تزوّره الصهيونية الهدامة من كلمات برّاقة، حين تدعو إلى (حرية الهدم) وإلى (حرية الإِفساد) وتسمي ذلك (حرية الرأي)، وليوهم أنه - عليه الصلاة والسلام - لم يكن يرعى حرمة للنساء ولا للشيوخ. ومثل ذلك أيضاً قوله: (وضُمَّت صفية - وهي فتاة يهودية في السابعة عشرة من عمرها كانت مخطوبة. لكنانة - إلى نساء النبي ص 39).

فمثلُ هذه الألغام التي يدسها الرجل في ثنايا سطوره تترك أسوأ الأثر في نفوس القراء من الغربيين ومن ضعاف الإِيمان من المسلمين، والمنتحلين منهم للحضارة الغربية المتخلقين بها خاصة. شيخ جاوز الخمسين يتزوج فتاة في السابعة عشرة! وليس هذا فحسب. بل إنها كانت مخطوبة لرجل يهودي من بني جنسها فأضافها إلى نسائه العديدات! هل هذا تاريخ؟ أم أنه تشنيع في أخطر صوره, لأن صاحبه يتصنع الهدوء ويتظاهر بالاتزان والإِنصاف، ويخدع الناس بمثل كلامه عن براعة النبي في القيادة وفي شؤون الحكم وفي التنظيم الاجتماعي. ومن أمثلة هذا الاسلوب الخبيث وصفه النبي صلوات الله وسلامه عليه بأنه كان (يُعنىَ بمظهرد الشخصي ويقضي في تلك العناية كثيراً من الوقت. فكان يتعطر ويكتحل ويصبغ شعره ويلبس خاتماً نقش عليه "مُحَمَّدْ رسول الله". وربما كان الغرض من هذا الخاتم هو توقيع الوثائق والرسائل. وكان صوته موسيقياً حلواً يأسر القلوب. وكان مرهف الحس إلى أقصى حد، لا يطيق الروائح الكريهة ولا صلصلة الأجراس والأصوات العالية. وكان قلقاً عصبي المزاج، يُرى أحياناً كاسف البال، ثم ينقلب فجأة مَرِحاً كثير الحديث - ص 45). فهذا الأسلوب المسموم في التصوير إنما يريد أن يصور النبي - صلى الله عليه وسلم - في صورة المتصابي وفي صورة العصبي المزاج، المريض الأعصاب، المصاب بالصرع. ويؤكد هذا الصهيوني الهدام تلك الصورة المفتراة بعد ذلك بقوله: (وقد أعانه نشاطه وصحته على أداء واجبات الحب والحرب. ولكنه أخذ يضعف حين بلغ التاسعة والخمسين من عمره. وظن أن يهود خبير قد دسوا السم في اللحم قبل عام من ذلك الوقت (¬1)، فأصبح بعد ذلك الحين عرضة لحميات ونوبات غريبة. وتقول عائشة: إنه كان يخرج من بيته في ظلام الليل، ويزور القبور ويطلب المغفرة للأموات، ويدعو الله لهم جهرة، ويهنئهم على أنهم موتى. ولما بلغ الثالثة والستين من عمره اشتدت عليه الحمِّيات - ص 46). ¬

_ (¬1) تأمل حرص هذا الصهيوني على تبرئة اليهود من تهمة دس السم للنبي صلى الله عليه وسلم في الشاة إذ يقول: "وظن أن يهود خيبر".

وجاء في هذا الجزء من الكتاب أيضاً: (وهاجرت إلى المدينة مائتا أسرة من مكة فنشأت فيها من براء هذه الهجرة مشكلة الحصوك على ما يكفي أهلها من الطعام. وحل مُحَمَّدْ هذه المشكلة كما يحلها كل الأقوام الجياع بالحصول على الطعام أنَّى وجد. ومن ذلك أنه أمر أتباعه بالإِغارة على القوافل المارة بالمدينة - ص 34). ويحاول المؤلف أن يلبس هذه الأكاذيب وهذا التشنيع المفتري ثوب العلم فيقول: (واجتمعت أسباب عدة عملت كلها على اتساع ملك العرب. فمهت الإسباب الاقتصادية أن ضعف الحكومة النظامية في القرن السابق لظهور النبي قد أدى إلى انهيار نظم الري في جزيرة العرب فضعفت من جراء ذلك غلاّت الأرض الزراعية وحاقت بالسكان المتزايدين أشد الأخطار. ولهذا فقد تكون الحاجة إلى أرض صالحة للزرع والرعي من العوامل التي دفعت جيوش المسلمين إلى الفتح والغزو - ص 71، 72). أترى إلى هذا الكلام المسموم الذي يصور المسلمين الأولين وعلى رأسهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في صورة عصابات اللصوص وقطّاع الطرق، والذي ينزل بدوافع الفتح النبيلة إلى أغراض مادية، فينقلب ذلك النفر الكريم من المجاهدين الأولين في نشر كلمة الله الذين لم يكونوا يبالون بحياتهم الدنيا في سبيل ما أعده الله لهم من ثواب الجهاد في نشر دينه، ينقلب ذلك النفر الكريم إلى جماعة من اللصوص وقطاع الطرق. لماذا تؤذي جامعة الدول العربية المسلمين والعرب بسماعه؟ لماذا تنفق على نقله إليهم من أموالهم، كأن مهمتها هي إسماعهم ما يكرهون وإحصاء ما قيل فيهم من الشتائم وإذاعته على الناس؟ إن الحكومات تمنع شعوبها من الاستماع إلى الدعايات التي تفتري عليهم والتي تثبط عزائمهم وتفرق كلمتهم، وتنفق في مقاومة مثل هذه الإذاعات الآلاف والملايين في بعض الأحيان. فهل دين الناس أقل قداسة وأهون مقاماً؟ لا يكفي في دفع ضرر هذا الكتاب وأمثاله أن تكلف الإِدارة الثقافية الدكتور الشيخ مُحَمَّدْ يوسف موسى بالتعليق على ما يراه مستحقاً للتعليق، فيعلق على بعضٍ ويهمل بعضاً, لأن السذّج والغافلين وقليلي الخبرة بتاريخ المسلمين - وليست لدينا وسيلة لمنع وصول الكتاب إلى أيديهم - إن قرءوا

ما في هذه الحواشي واقتنعوا به مرة فقد يهملونها وقد تستغويهم أباطيل الكتاب مرات. فما هي حاجتنا أصلاً إلى ترجمة مثل هذه المفتريات, أي فائدة تعود على العرب من نقل مثل هذا الكلام، حتى يَغُضُّوا الطرف عما فيه من الأذى؟ هل هذا مما يزيد العرب تماسكاً؟ أم هو مما يعينهم على النهوض؟ لماذا تُنقَل إلى لغتنا هذه الكتب التي تتكلم على نبينا عليه الصلاة والسلام بوصفه مصلحاً لا نبياً، وقد كان من آثار هذه الدعايات - ولا أقول البحوث - أن افتتن بها جماعة من المسلمين فاتخذوها نموذجاً لبحوثهم الإِسلامية، وظنوا أن تجردهم من إسلامهم شرط لسلامة البحث وعلميته، كما زعم لهم طه حسين في كتابه (الشعر الجاهلي) الذي سيق بسببه إلى المحاكمة. وقد أصبح التاريخ الإِسلامي، بل الدراسات الإِسلامية في كل فروعها, لا تدرَّس في الجامعات العربية الآن على اختلافها إلا على هذا النمط الفاسد المفسد الهدام. إن طه حسين الذي بدأ حياته العلمية متهمًا في دينه، يتسلق إلى الشهرة بمخالفة كل مقدس مصون وكل مقرر ثابت، حين كان الِإلحاد بدعَ العصر يجاهر به الملحدون، ويتظاهر به صغار النفوس والعقول من الأدعياء، هذا الرجل نفسه هو الذي يشرف على اختيار مثل هذا الكتب لتترجم على نفقة العرب، وليثقفَ بها ناشئتهم ويشدَّ بها أزر جامعتهم. وأي جامعة قد بقيت للعرب، ولجنتُهم الثقافية تؤذي إيمان المؤمنين مسلمهم ومسيحيهم؟ تؤذي المسيحيين مرة وتؤذي المسلمين مرتين، تؤذيهم في نبيهم عليه الصلاة والسلام مرة، وتؤذيهم في شخص المسيح الكريم عليه السلام مرة أخرى، ثم تعتذر لهم عن جرأة المؤلف على الإِسلام وافترائه على نبيه الكريم بجرأته على اليهودية والمسيحية وافترائه على رسوليهما الكريمين (ص 31). فهل سمع الناس عذراً أقبح من هذا العذر الذي لا يصدر إلا عن جهول؟ هل يُعتَذر عن رجل سب أبي بأنه لم يسب أبي وحده، ولكنه سب آبائي كلَّهم أجمعين؟! وبعد، فإِني أستغفر الله سبحانه وتعالى لنفسي ولقارىء هذه المفتريات، فإِنما قصدت أن أضع بين يديه جسم الجريمة، ليرى رأي العين طه حسين يحمل أوزاره فوق ظهره، وليطالب الناس المسؤولين بكف أذاه إن كان فيهم بقية من غيرة على إسلامهم وعلى شخص نبيهم الطاهر الكريم.

في المؤتمرات

- 3 - في المؤتمَرَاتِ* بقي مما وعدت بالكلام عنه من النشاط الثقافي لجامعة الدول العربية الكلام عن المؤتمرات التي أعدت لها الإِدارة الثقافية وأشرفت عليها أو شاركت فيها. وحديث المؤتمرات في هذه الإِدارة حديث يثير العجب. فلو عرض القارئ ما سجلته هذه الِإدارة من نشاط المؤتمرات تحت عنوان (التعاون بين الإِدارة الثقافية واليونسكو والهيئات الثقافية الدولية - ص 45 إلى 53 من النشرة الثقافية 1946 - 1956) لخيل إليه أن هذه الإِدارة فرع من اليونسكو يعمل تحت سيطرته وتوجيهه. وسيطرة أمريكا - واليهود خاصة - على اليونسكو شيء لا أحتاج إلى أن أنبه له فهو مشهور معروف، يؤكده ما أثبتته النشرة الثقافية لجامعة الدول العربية في بيانها العام عن هذه المؤتمرات. فهي تستهدف السيطرة على توجيه الثقافة والتعليم في البلاد العربية. والترويج لآراء اجتماعية ومذاهب سياسية لا تخدم إلا مشاريع اليهود والغرب. فمن ذلك مؤتمر تبادل المدرسين بين البلاد العربية الذي انعقد في القاهرة سنة 1956 بدعوة من اليونسكو (ص 46)، ومؤتمر التعليم الثانوي في مصر الذي انعقد في مصر سنة 1955 واشتركت في الدعوة إليه الجامعة الأمريكية بالقاهرة (ص 49)، والحلقة التربوية التي دعت إليها الجامعة الأمريكية في بيروت سنة 1954 وكان موضوعها "فلسفة تربوية متحدة في عالم عربي متحد" (ص 50)، وحلقة دراسات التربية للتفاهم العالمي التي انعقدت في اليونسكو ببيروت سنة ¬

_ (*) نشرت في عدد صفر سنة 1378 من مجلة الأزهر.

1955 ورأسها عبد العزيز القوصي (ص50). فمثل هذه المؤتمرات لا يقصد بها إلا السيطرة على التعليم في العالم العربي، وتوجيهه وجهة لا دينية تؤدي إلى ضياع الجيل القائم والجيل القادم ضياعاً لا تقوم معه نهضة في هذه المنطقة، مما يمكن لليهود ولشيعتهم الذين يتولونهم من دول الاستعباد الغربي والأمريكان منهم خاصة، وذلك بترويج بعض الآراء والأساليب التربوية والنفسية المنحرفة الفاسدة. ومن هذه المؤتمرات ما يروِّج لأساليب أمريكية من التنظيم الاجتماعي تخفي في ثناياها مذاهب فكرية هدامة باسم العلم الحديث من ورائها اليهودية العالمية، مثل مؤتمر العلوم الاجتماعية الذي انعقد في دمشق سنة 1954 بدعوة من اليونسكو لدراسة الشؤون الاجتماعية بالشرق الأوسط (ص 48). فقد عني هذا المؤتمر عناية شديدة بالترويج لما يسمونه (علم الاجتماع) ووضع تعاليمه وأوهامه في مكان التقديس الذي كان يحظى به الدين، وإسلام المجتمع برمته إلى نفر من الناس لا يمت للثقافة الإِسلامية أو العربية بسبب، يُقدِّس تلك الأوهام التِي تشيع فيها سموم اليهودية العالية الهدامة ويتخذها دستوراً، ولا يعرف أصولاً يصدر عنها تفكيره وتشريعه سوى دعاواها. فالمؤتمر يحثُّ على تأليف الكتب المدرسية في علم الاجتماع. ويروِّج لأصحاب هذه الثقافات التي يتسع فيها المجال أمام ذوي الأغراض والهدامين، بالدعوة إلى (تأمين العمل للأخصائيين في الشؤون الاجتماعية، وضمان مستقبلهم المادي والأدبي)، كما يعمل على حماية الهدم والهدامين من كل صوت يرتفع للحد من نشاطهم الهدام باسم الدين في دعوته إلى (تأمين حرية الدرس والبحث والتفكير والتأليف في الشؤون الاجتماعية). ومن هذه الؤتمرات ما يتستر تحت اسم العلم والبحث، ولكنه لا يبحث المسائل في حقيقة الأمر إلا من زاوية تخدم اليهود خاصة، مثل الكلام (عن موقف الإِسلام من العنصرية - ص 45). ومنها ما يدعم مشروعات الغرب السياسية مثل مؤتمر التضامن الثقافي والاقتصادي بين دول البحر الأبيض المتوسط الذي انعقد في باليرمو سنة 1954. فالهدف الحقيقي من ورائه هو إقرار النفوذ الغربي في حوض هذا البحر، وربط دوله العربية بدول الاستعباد الغربية. فكل الذين يتحدثون عن رابطة البحر الأبيض وثقافة البحر الأبيض وحضارة البحر الأبيض - من طه حسين فنازلاً - كانوا يروجون لمشاريع فرنسا التي تعتبر شمال

إفريقية جزءاً لا يتجزأ منها. وقد زاحمتها إيطاليا وأسبانيا حيناً، ثم ورثتهم أمريكا جميعاً. فالكلام في هذا لا يقصد به إلا صرف العرب عن جامعتهم العربية وصِبْغَتِهم الإِسلامية. وأي رابطة بين فرنسا والمغرب سوى الدم المسفوك؟ وأي رابطة بين إيطاليا وطرابلس، وبين أسبانيا وريف مراكش، سوى ما يحفظه التاريخ من مظالمهم ومفاسدهم وما سفكوه من دماء الشهداء؟ وهل نسي العرب عمر المختار الشهيد؟ وأدَعُ ذلك كله مما لا سبيل إلى الخوض في تفاصيله, لأني لا أجد بين يدي نصوص ما دار في هذه المؤتمرات من مناقشات, لأنتقل إلى الكلام عن مؤتمر نشرت الجامعة العربية محاضر جلساته، وهو مؤتمر يتوسم القارئ الخير في عنوانه ولا يكاد يخطر له سوء الظن فيه ببال، وذلك هو (المؤتمر الأول للمجامع اللغوية العلمية - دمشق 1956). اجتمع في هذا المؤتمر مندوبون من المجامع اللغوية العلمية في مختلف بلاد العرب. فشهده وقد من مجمع اللغة العربية في القاهرة، ووفد من المجمع العلمي العراقي، ووفد من المجمع العلمي العربي في دمشق، كما شهده مراقبون من الدول العربية التي لم تؤسس فيها مجامع وهي الأردن والسعودية ولبنان وليبيا وتونس. وشهده مع ذلك كله وقد يمثل الأمانة العامة لجامعة الدول العربية ومندوب يمثل هيئة اليونسكو (شفيق شمَّاس). واللغة العربية التِى بحث هذا المؤتمر شؤونها هي أقوى ما تقوم عليه الوحدة العربية من الروابط، وهي الرابطة التي ارتفعت حتى الآن فوق كل مراء. فقد مارى أعداء العروبة زمناً في أن العرب ينتمون إلى جنس واحد، فسمعنا أصوات المنكرين من الشعوبيين دعاة الجاهلية الأولى بين فرعونية وفينيقية وآشورية وبابلية. وماروا حيناً في ارتباط القومية العربية بالاسلام فسمعنا من يزعم أن هذه الصبغة تنفر غير المسلمين من العرب. وظلت رابطة اللغة بعد ذلك تسمو على كل مِراء، لا ينازع منازغ في أنها هي الرباط الأقوى بين العرب. لذلك كان آخر ما يتوقعه القارئ في الكتاب الذي جمع ما ألقي في

هذا المؤتمر من بحوث أن يجد فيه ما يعين على توهين هذه الرابطة، أو تفريق المجتمعين عليها، من مثل الدعوات المريبة الهدامة إلى مسخ اللغة الفصحى أو تبديل قواعدها وخطها. ولكن واقع الأمر جاء مختلفاً عما يتوقعه القارئ وما يرجوه، فامتلأ الكتاب في مواضع مختلفة بالدعوة إلى العامية، وإلى تبديل الخط العربي، وقواعد النحو والصرف والبلاغة. إذا أعوزك أن تجد ذلك سافراً صريحاً فستجده مستوراً خفياً يلبس زي الناصح الغيور، في مثل مقال أحمد حسن الزيات عضو مجمع القاهرة عن (مجمع اللغة العربية بين الفصحى والعامية: ص 81 - 88)، ومقال علي حسن مندوب الأردن (بين العربية الفصحى والعامية ص 181 - 184)، ومقال أحمد عبد السلام مندوب تونس (الفصحى والعامية: 202 - 211)، ومحاضرة منير العجلاني عضو مجمع دمشق عن (أثر اللغة في وحدة الأمة 217 - 277)، واقتراح إبراهيم مصطفى في (كتابة الهمزة والألف اللينة: 160 - 165)، ومقاله عن (تيسير قواعد اللغة العربية 166 - 171)، ومقال طه حسين مدير الإِدارة الثقافية عن (تيسير القواعد في اللغة: 228 - 240). ولم يشذ عن هؤلاء إلا صوت واحد بدا وسط هؤلاء غريباً في دعوته إلى التزام الفصحى في المدارس وفي القضاء وفي الصحافة وفي المجالس النيابية، منبهاً إلى أن هذا هو السبيل الوحيد إلى علاج ما يسمونه "مشكلة الفصحى والعامية". ذلك هو صوت الأستاذ عارف النكدي عضو وقد مجمع دمشق في بحثه (اللغة العربية بين الفصحى والعامية: 89 - 104). وسأعرض نماذج مما جاء في هذا الكتاب ليتأكد القارئ أني لا أتزيَّد في القول ولا أبالغ في التصوير ولا أتجنى على أحد. ثم أعود بعد ذلك إلى مناقشة بعض هذه الدعاوى العريضة التي انخدع بها كثير من السذج الغافلين. وقبل أن أشرع في ذلك أحب أن أبادر ببعث الطمأنينة إلى قلوب من أزعجتهم هذه المقدمة فأقول: إن المؤتمر قد رفض الأخذ بشيء من هذه الآراء المعوجة والدعوات السقيمة. ولكني أحب أيضاً أن أنبه إلى أن الداعين بهذه الدعوات قد استطاعوا أن ينفذوا إلى بعض قرارات المؤتمر، ويتركوا فيها أثراً من

سمومهم ومسحة من أمراضهم وأسقامهم تكشف عن الخطر الذي يتهدد حصوننا من داخلها. يروي أحمد حسن الزيات قصة مجمع اللغة العربية في القاهرة بين الفصحى والعامية، فيقول: إن المحافظين من شيوخ الأدب قد سيطروا عليه في أول نشأته، ثم انتهى زمامه إلى الكتاب والصحفيين الذين نبهوا المجمع إلى أهمية العامية وإلى خطورة جمود اللغة بتخلفها عن مسايرة الزمن (ص 81 - 82). ويقدم مثالاً من جهود هؤلاء (المجددين) بالبحث الذي ألقاه أحدهم في دورة 46 - 47 عن موقف اللغة العامية من اللغة الفصحى (فدعا فيه إلى التساهل في بعض قواعد الإِعراب وعدم التشدد في قبول المستحدث من الألفاظ والأساليب التي تجري على كل لسان لكي (يسهل علينا تطوير الفصحى حتى تقترب من العامية)، ودعا كذلك إلى أن نشرع في دراسات عاميات الأقطار العربية المختلفة لإِقرار ما هو مشترك منها، سواء صح في معاجم اللغة وكتبها أو لم يصح (ص 83 - 84). وذكر الزيات أنه ألقى بعد ذلك بحثاً عن (الوضع اللغوي وحق المحدثين فيه) ذهب فيه إلى إباحة استعمال الموَلد، وإزالة السد القائم بين الفصحى والعامية، لكي ينتج (من تداخل اللغتين وتفاعلهما لغة تجمع بين محاسن هذه ومحاسن تلك- ص 85)، كما اقترح التقريب الخلاف بين العامية والفصحى أن يفتح باب الوضع للمحدثين على مصراعيه .. وأن يُرَدّ الاعتبار على المولد ليرتفع إلى مستوى الكلمات القديمة، وأن يطلق القياس في الفصحى ليشمل ما قاسه العرب وما لم يقيسوه، وأن يطلق السماع من قيود الزمان والمكان ليشمل ما نسمع من طوائف المجتمع كالحدادين والنجارين والبنائين وغيرهم من كل ذي حرفة - ص 85). ويقول الزيات: إن مجمع القاهرة قد أقر هذه المقترحات وأخذ في تطبيقها (¬1). أما علي حسن عودة مندوب حكومة الأردن فقد ظن أن هدف هذا المؤتمر هو (أن نقضي على اللغة العامية ونُحِل محلّها لغةَ تعبير وتخاطب عربيةً ¬

_ (¬1) اعترف منصور فهمي بذلك في محاضراته التي ألقاها في هذا المؤتمر عن أهداف مجمع مصر في خدمة اللغة العربية (ص 241 - 256).

فصيحةً سهلة التناول يستعملها الكبير والصغير, ويكون فيها الغناء في الحياة الاجتماعية في كافة مرافقها - ص 181). وتصوُّر المسألة على هذا النحو خطأ كما سأبيّنه فيما بعد, لأنه غير ممكن ولا ميسور ولا هو مطلوب، ولأنه يخالف طبائع الأشياء. ويكاد القارئ أن يطمئن إلى سلامة قصد لم. لكاتب رغم خطأ تصوُّره حين يظن أن هدفه هو القضاء على العامية. ولكنه لا يلبث أن يتبين أن هدفه - في حقيقة الأمر هو اختراع لغة عربية جديدة ونشرها بين الناس بكل وسائل النشر (فإِن لدينا اليوم من الوسائل الحديثة ما يضمن النجاح لمجهود يبذل في سبيل ترقية لغة التخاطب في البلاد العربية ويضمن البقاء والتقدم أيضاً لكل لغة عربية فصيحة يتواضع عليها، تستوعب مصطلحات للمستجد من آثار العلوم والفنون- ص 182). وهو يقترح تبسيط اللغة واختصارها. كما يقترح على جامعة الدول العربية (أن تعنى بوضع معجم يسمى معجم العامة، أو غير ذلك من الأسماء، يكتفي فيه بالمفردات التي يحتاج إليها في كافة مرافق الحياة، وتحشد فيه أوضاع جديدة للدلالة على مستحدثات العصر الفنية المتداولة. ثم يلجأ في تعميم هذه اللغة العربية الفصيحة العامة إلى كل الوسائل الكفيلة بتعميمها ابتداء من المدارس الليلية التي يُحمَل العمال والمشتغلون في النهار على غشيانها، وفي المدارس الابتدائية التي يتكفل القائمون فيها بتعليم الأطفال في كتب خاصة تقيَّد مؤلفوها بألفاظ هذه اللغة، وبتعويد هؤلاء الأطفال التحدث بالفصيح المقترح فضلاً عن القراءة. ص 183 - 184). من الواضح أن هذا الرجل، يريد أن يخترع لغة فصيحة جديدة، ثم يدعو إلى تعميمها بتقييد مؤلفي الكتب الدرسية أن يكتبوا (بالفصيح المقترح)، أي أنه يلزمهم أن لا يستعملوا "الفصحى القديمة" التي يدعو إلى اختصارها واستبعاد غير المألوف من مفرداتها وإضافة ما يرى إضافته إليها. ولست أدري ما هو الحد الفاصل بين المألوف وغير المألوف في اعتباره؟ ومن هو الحكم في التمييز بينهما؟ هل هو الأمي الجاهل، أم هو المثقف من غير محترفي الأدب، أم هو الكاتب الممارس للكتابة في الصحف اليومية، أم هو

الشاعر والناقد، أم هو عالم اللغة؟ أليس الأسهل تعميم الفصحى القائمة الموجودة الموروثة بدل التواضع على فصحى جديدة نقيد بها الكتّاب والمؤلفين، مع وجود لغة متواضع عليها هي حقيقة قائمة ثابتة حية ماثلة فيما يتداول العرب جميعاً من كتب ومن صحف يلتقون ويلتقي معهم المسلمون من غير العرب عند فهمها والتعبير بها، وهي نفسها اللغة التي تفاهم بها العرب في مؤتمرهم هذا والتي عبر بها صاحب هذا الاقتراح العجيب ففهمنا وفهم كل الناس عنه؟. واقتراح أحمد عبد السلام مندوب حكومة تونس قريب من اقتراح مندوب حكومة الأردن السابق حتى لكأن شيطانهما واحد. فهو يقترح على المجامع اللغوية (أن تؤلّف لكل قطر معجمًا صغيراً لا يتضمن إلا الألفاظ العربية الفصيحة التي بقيت مستعملة بمعناها الأصلي في لغة ذلك القطر، وأن يوصى معلمو الأحداث والعامة بالاقتصار عليها قدر المستطاع (¬1) - ص 208). واقتراحه هذا ينتهي إلى إيجاد لغات عربية متعددة تمثلها هذه المعاجم المقترحة التي تحيى دارس اللهجات وميت اللغات بعد أن جمع الله العرب - بل المسلمين - على فصحى القرآن. ويزيد في توسيع الهوة بين هذه المعاجم أن صاحب هذا الاقتراح يوصي بالتوسع في قبول الكلمات المولدة والدخيلة فيها، كما يوصي (لزيادة الخبرة بعربيتنا وبمدى حيويتها، أن يشتغل عدد من علمائنا باللغات العامية وأن يدرسوها دراسة دقيقة - ص 209) وهو يخفي حقيقة أهدافه وخطورة آرائه بالقناع الذي يتقنع به طه حسين وشيعته حين يتظاهرون بعدائهم للعامية ثم يزعمون للناس أن هناك خطراً على العربية الفصحى أن يهجرها الناس إلى العامية إذا لم تخضع لما يسعون إليه من تطور مزعوم! والذي يفضح هؤلاء الناس ويكشف عن مصدر هذه الوساوس في نفوسهم وحقيقة الذي ألقى هذه الأوهام في رؤوسهم وحرَّك بها ألسنتهم ودفعهم إلى ترويجها هو أنك تجد فريقاً منهم يفكرون بالانجليزية أو بالفرنسية ¬

_ (¬1) وهذه الروح نفسها هي التي سادت في فترة من الزمن كتب المرحلة الابتدائية المشهورة بكتب "شرشر" التي أشرف عليها عبد العزيز القوصي.

ثم يترجمون تفكيرهم إلى العربية. تجد ذلك في محاضرات أنيس فريحة عن (اللهجات وأسلوب دراستها)، التي نشرها معهد الدراسات العربية العالية بجامعة الدول العربية، حين يفكر للغة العربية باللغة الانجليزية ويريد أن يُلبِس لغتنا أثواباً لم تُقَدَّ على قَدِّها ولم تجُعَل لها، إذ يُثبِت الاصطلاح الإِنجليزي ثم يصطنع له اصطلاحاً عربياً يقابله. وتجده كذلك في محاضرة منير العجلاني التي ألقاها في مؤتمرنا هذا عن (رابطة اللغة والأمة ص 217 - 227)، حين يصب تفكيره في قوالب فرنسية، فلا يكاد يأخذ في تعريف الدولة أو الحكومة أو الأمة أو الشعب أو أثر اللغة في وحدة الأمة حتى يبني كلامه على رأي لهريو أو رينان أو ماتسيني أو فلان وفلان من أصحاب المذاهب الغربية عموماً والفرنسية بخاصة. ومنير العجلاني هذا لا يعترف بأن الإِسلام رحِمٌ وصلةٌ بين المسلمين وأنه جامعة من أوثق الجامعات, لأنه يجري في تعريف القومية العربية على قياسها بمقاييس أوروبا اللادينية التي روّجها اليهود منذ الثورة الفرنسية اليهودية. يقول عند كلامه عن الدين بوصفه عنصراً من مقوِّمات القومية: (كان الدين في العصور الوسطى يجمع الشعوب ويفرقها, ولكن أثره في تكوين الأمم تضاءل في الزمان الحاضر. وربما أسقطه غلاة القومية من حسابهم - ص 224). وترديد المحاضر لاصطلاح "العصور الوسطى" هو أثر من آثار الاستعباد الغربي الذي يخضع له تفكيره. فتعبير "العصور الوسطى" تعبير أوروبي يقترن في أذهان أصحابه بالتخلف والهمجية؛ لأنه يقترن بالظلم والنظام الإِقطاعي وبالرق وباستبداد الكنيسة وطغيانها. والذين يفكرون برؤوس الأوربية يستعملون هذا الاصطلاح بمعناه ذاك، رغم الاختلاف الواضح بين ظروفنا وظروفهم. فالعصور الوسطى تقابل عندنا عصر الرسالة المحمدية وأزهى عصور الإِسلام. فهي بالقياس إلى العربي وإلى المسلم عصر النور والمجد والعدل، في الوقت الذي يعتبرها الأوروبي عصر الظلام والظلم والتخلف. أليس ذلك ضرباً من ضروب الاستعباد الفكري، وهو شر ألوان الاستعباد، بل هو أخطر ما خلفه الاستعباد الفرنسي والاستعباد الإِنجليزي في الشعوب الإِسلامية التي استعبدوها.

ذلك هو مجمل ما عرضه أصحاب ذلك المشكل الذي توهموه فابتدعوه، وزعموه ثم أوجدوه، بين العامية والفصحى. أما الاقتراحات التي تدعو إلى مسخ قواعدنا في اللغة وفي النحو وفي الإِملاء والخط، فقد جاءت على لسان طه حسين، وصفيِّه إبراهيم مصطفى الذي صدع بوحيه حين ألف منذ عشرين عاماً كتاباً ميتاً في النحو سماه "إحياء النحو". ألقى طه حسين محاضرة دعا فيها إلى العدول عن قواعد النحو الثابتة المتدارسة التي اجتمع عليها العرب والمسلمون زاعمًا أنها لم تعد صالحة وأنها هي السبب في ضعف الطلاب وتخلفهم (228 - 240). وتقدم إبراهيم مصطفى باقتراحين، أحدهما في (كتابة الهمزة والألف اللينة: ص 160 - 165) دعا فيه إلى توحيد الصور الكتابية للهمزة، والآخر في (تيسير قواعد النحو: (ص 166 - 171) مهد به لاقتراحات تيسير النحو والصرف: (ص 172 - 180) المقدمة باسم مجمع القاهرة والتي تحمل طابع إبراهيم مصطفى المعروف في (إحياء النحو)، الذي دعا فيه إلى تبويب جديد للنحو من ابتكاره. وقد سحب إبراهيم مصطفى اقتراح الهمزة قبل أن ينظر في جلسة المؤتمر العامة، ويبدو أنه لم يجد الظرف مهيأ لقبوله فخشي أن يتخذ قرارٌ برفضه وآثر أن يدع الباب مفتوحاً حتى يستطيع هو أو آخرُ من عصابته العودة إلى ذلك في فرصة أكثر ملاءمة. أما مقترحات تيسير النحو فقد قرر المؤتمر في شأنها أنه (نظر في مقترحات تيسير النحو التي أعدتها وزارة التربية والتعليم في مصر فوجد بعد دراستها أنها تحتاج إلى زيادة في البحث والتمحيص، وقرر تاجيل النظر فيها إلى مؤتمر آخر: (ص 278). وقد كنت أرجو أن يقضي فيها المؤتمر قضاءاً حاسمًا صريحاً يقرر فيه فسادها وضررها, لأن هذا القرار الذي يظهر فيه نفوذ دعاة الهدم والتبديل لم يمنع القائمين على برامج التدريس في مصر من أن يضعوا هذه المقترحات الفاسدة موضع التنفيذ. وبعد، فقد شغل هؤلاء المحاضرون والقترحون بمشاكلهم الوهمية ما يقرب من نصف وقت المؤتمر (¬1). على أن أكثر ما جاء في مقالاتهم بضاعة ¬

_ (¬1) استغرقت محاضراتهم واقتراحاتهم تسعاً وتسعين صفحة من سجل المؤتمر الذي يزيد قليلاً عن مائتي صفحة.

مزجاة بارت في كل سوق، وكلام معاد مكرر ليس فيه جديد. ولكن أصحاب هذه المذاهب المنحرفة يعتمدون في أسلوبهم على أن الناس إذا تكرر سماعهم للباطل أوشكوا أن يصدقوه. لذلك فهم يكررون القول حيناً بعد حين ودفعةً بعد فترة، ولا يَنْضَبُ لهم مَعين في إلباس مقالهم أليق الأثواب بالمقام وعرضه من جوانب جديدة تقرِّبه من نفوس الناس. وهم لا يسأمون من هذا التكرار, لأنهم يعرفون أنهم يخاطبون في كل مرة جيلاً جديداً غير الذي سمعهم من قبل. وقد ينجحون في إغواء بعض من ضاقت عنه حيلهم من قبل. وهم يعتمدون مع ذلك كله على أفراد عصابتهم ممن وصلوا إلى مراكز تسمح لهم بمدِّ يد العون في ترويج هذه الدعاوى وفي وضعها موضع التنفيذ، وفيهم من يشغل مراكز خطيرة تسمح لهم بالسيطرة على الصحافة والإِذاعة ووزارات التعليم والجامعات. لذلك كان فرضاً لازماً على كل عارف بحيلهم أن لا يمل من تكرار الرد عليهم ركوناً إلى أنه قد أذاع الرد من قبل، حتى لا تنفرد دعاياتهم المفسدة بالشباب فتستأثر به ثم لا يجد ما يصححها وينتشله من تيارها ويبطل فعل سمومها. وأول ما يلفت النظر في هذه الكلمات والمقترحات ما أنحدرت إليه مجامع اللغة العربية - ومجمع القاهرة منها بخاصة - من ترويج الدعوات المريبة إلى تطوير اللغة وقواعدها ورسمها. وهو تطوير يختلف أصحابه في تسميته، ولكنهم لا يختلفون في حقيقته. يسمون تارة تهذيباً وتارة تيسيراً وتارة إصلاحاً وتارة تجديداً، ولكنهم في كل الأحوال وعلى اختلاف الأسماء يعنون شيئاً واحداً هو التحلل من القوانين والأصول التي صانت اللغة خلال خمسة عشر قرناً أو يزيد، فضمنت لجيلنا وللأجيال القبلة أن تسرح بفكرها وتمرح في معارض فنون القول وآثار العبقريات الفنية والعقلية لا تحس قيود الزمان ولا المكان، فكأنما القرآن قد أنزل فينا اليوم وكأنما شعراء العربية وفقهاؤها وفلاسفتها وكتابها وأطباؤها ورياضيوها وطبيعيوها وكيميائيوها على اختلاف أزمانهم قد كتبوا ما كتبوا وألّفوا ما ألّفوا في الأمس القريب، وكأنما المتنبي أو البحتري يخاطب جيلنا لا تمييز بينه وبين شاعرٍ معاصر كالبارودي أو شوقي أو حافظ، وكأنما الرصافي يكتب شعره للقاهريين، وكأنما الشابي يكتب شعره

للشآميين، وكأنما شوقي يخاطب بشعره أهل المغرب. وهذه ميزة منّ الله بها علينا ولم تحظ بمثلها أمة من الأمم. فإِذا تحللنا من القوانين والأصول التي صانت لغتنا خلال هذه القرون المتطاولة تبلبلتْ الألسن وأضاف كلُّ يوم جديد تطلع على الناس شمسُه مسافةً جديدة توسِّع الخُلْفَ بين المختلفين، حتى يصبح بين الشآمي والمغربي مثلُ ما بين الايطالي والأسباني، وتصبح عربية الغد شيئاً آخر يختلف كل الاختلاف عن عربية القرن الأول، بل عربية اليوم والأمس القريب، وتصبح قراءة القرآن والتراث العربي والإِسلامي كلِّه متعذرة على غير المتخصصين من دارسي الآثار ومفسري الطلاسم. وعند ذلك يصبح كل جهد سياسي أو حربي أو أدبي مما يبذل اليوم في جمع شمل العرب وتدعيم القومية العربية عبثاً لا طائل تحته, لأنه كالنفخ في قربة مقطوعة أو بناء القلاع فوق الرمال أو الارتفاع بالأبراج التي تناطح السحاب على غير أساس. وليس الخطر الكبير في الدعوة إلى العامية، ولا هو في الدعوة إلى الحروف اللاتينية، أو الدعوة إلى إبطال النحو وقواعد الإِعراب أو إسقاط بعضها، فالداعون بهذه الدعوات من صغار الهدامين ومغفليهم الذين ليس لهم خطر العتاة ممن يعرفون كيف يخدعون الصيد بإِخفاء الشِّراك. وكيف يستدرجون الناس بتزوير الكلام. إن الخطر الحقيقي هو في الدعوات التي يتولاها خبثاء الهدامين ممن يخفون أغراضهم الخطيرة ويضعونها في أحب الصور إلى الناس، ولا يطمعون في كسب عاجل، ولا يطلبون انقلاباً كاملاً سريعاً. الخطر الحقيقي هو في قبول مبدأ التطوير نفسه. لأن التسليم به والأخذ فيه لا ينتهي إلى حدٍّ معينٍ أو مدى معروف يقف عنده المُطوِّرون، ولأن التزحزح عن الحق كالتفريط في العرض، فالذي يقبل التزحزح عن الحق قيد أنملة مرة واحدة يهون عليه أمثالها مرة ثم مرات حتى يسقط إلى الحضيض. ومن اعتراه شك في حقيقة ما يراد بقرآننا وبلغته وبإِسلامنا وكل تراثه فليقرأ قول طه حسين في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر": (وفي الأرض أمم متدينة كما يقولون، وليست أقل منا إيثاراً لدينها ولا احتفاظاً به ولا حرصاً عليه، ولكنها تقبل في غير مشقة ولا جهد أن تكون لها لغتها الطبيعية المألوفة التي تفكر بها وتصطنعها لتأدية أغراضها, ولها في الوقت نفسه لغتها الدينية الخالصة التي

تقرأ بها كتبها المقدسة وتؤدي فيها صلواتها. فاللاتينية مثلاً هي اللغة الدينية لفريق من النصارى، واليونانية هي اللغة الدينية لفريق آخر، والقبطية هي اللغة الدينية لفريق ثالث، والسريانية هي اللغة الدينية لفريق رابع (¬1) .. وبين المسلمين أنفسهم أمم لا تتكلم العربية ولا تفهمها ولا تتخذها أداة للفهم والتفاهم، ولغتها الدينية هي اللغة العربية، ومن المحقق أنها ليست أقل منا إيماناً بالاسلام وإكباراً له وذياداً عنه وحرصاً عليه - الفقرة 46 ص 229 - 230 من طبعة المعارف 1944). فإِذا وَعَى القارئ هذا القول وما وراءة فليُلْق بكل ما سواه في وجه صاحبه, لأنه ضرب من النفاق، وأسلوب في الكيد. على أن تقديس لغة القرآن والتزامَ أصولها وقواعدها وأساليبها لم يكن في يوم من الأيام داعياً إِلى تحجر اللغة، وجمود مذاهب الفن فيها، ووقوفها عند حدٍّ تعجز معه عن مسايرة الحياة، كما يشنع به الهدامون ويخدعون به الأغرار وصغار العقول وقصار الهمم. فليس التطور نفسه هو المحظور، ولكن المحظور هو أن يخرج هذا التطور عن الأساليب المقررة المرسومة. وذلك يشبه تقيد الناس في حياتهم الاجتماعية بقوانين الدين والأخلاق. فليس يعني ذلك أنهم قد استُعبِدوا لهذه القوانين، وأنها قد أصبحت تَحُول بينهم وبين مسايرة الحياة أو الاستمتاع بخيراتها ولذائذها. ولكنه يعني أنهم يستطيعون أن يَغْدُوا وأن يروحوا كيف شاءوا، وأن يستمتعوا بخيرات الدنيا وطيباتها ويتصرفوا في مسالكها ويمشوا في مناكبها، كلُّ ذلك في حدود ما أحَل الله، وكل ذلك مع التزام الوقوف عند حدود الله. كذلك اللغة، وضع اللغويون والنحاة والبلاغيون لها حدوداً طابقوا بها مذهب القرآن وكلام العرب وتركوا للناس من بعد أن يستحدثوا ما شاءوا من أساليب، وأن يتصرفوا فيما أرادوا من أعْراض، وأن يجددوا ما أحبوا مما يشتهون ومما تتفتق عنه عبقرياتهم. ولكن كل ذلك لا ينبغي أن يخرج بهم عن الحدود المرسومة. فماذا في ذلك غيرُ ضمان ¬

_ (¬1) ليس هذا الكلام من صنع طه حسين فهو ترديد لما قاله القاضي الإِنجليزي ولمور (1. Selden Willmore) من قبل في كتابه "عامية مصر" (The Spoken Arabic of Egypt) ص 15 من طبعة لندن 1901.

الاستقرار والحرص على جمع الشمل؟ وهل عاق ذلك عرب بغداد وعرب الأندلس عن الافتنان في القول وفي مذاهب الفن؟ وهل ضاقت معه عربية البدو عن الاتساع لما نقل العرب وما استحدثوا من معارف وعلوم؟. أما ما جاء على لسان بعض المشتركين في هذا المؤتمر مثل أحمد حسن الزيات (ص 81 - 88). ومنصور فهمي (ص 241 - 256) في تصوير انحراف مجمع اللغة العربية عن القصد فليس إلا قليلاً من كثير. ومن شاء فليرجع إلى مجلة المجمع ليرى صورة أوضح وأكثر تفصيلاً لما يُهدَر من جهد في الكلام عن العامية وعن مسخ الخط العربي وقواعد النحو. أليس ذلك عجباً من العجب؟ وأعجب منه أن يصير إلى مركز القيادة في ذلك الحصن رجل يشهد ماضيه الثابت المسجَّل فيما نُشِر على الناس من صحف أنه كان حرباً على الجامعة الإِسلامية وعلى الجامعية العربية لا يراهما إلا وهماً من الأوهام، وأنه كان أول من رفع صوته بالدعوة إلى تمصير اللغة العربية. ألمثل هذه الغاية يَعمَل مجمع القاهرة وقد دارت الأيام واستقام عِوَجُ الزمان؟ أما ما زعمه علي حسن عوده مندوب حكومة الأردن في المؤتمر - أو ما تخيله - من أن هدفنا هو توحيدُ العامية والفحصى وجعلهما لغة واحدة فهو خطأ أساسي في تصور الموضوع. فليس مطلوباً أن تصبح لغة الحديث والأسواق والتعامل بين الناس هي نفُسها لغةَ الشعر والأدب والعلم والفلسفة, لأن التعامل يحتاج إلى لغة سريعة الوفاء بالغرض، ولكنه لا يحتاج إلى لغة دقيقة كحاجة العلم إليها, ولا يحتاج إلى لغة جميلة مؤثرة كحاجة الشعر والأدب عموماً إليها. إذ يكفي في لغة التعامل أن يَفهم بعضُ الناس عن بعض من أقرب طريق وأخصره. وقد يستعين المتعاملون على إتمام ما في العامية من قصور بإِشارات اليدين وبتلوين نغمة الكلام وتنويعها، وبالتعبير بقسمات الوجه. ومن الواضح أن لغة الأسواق لا تناسبها لغة راقية معقدة التركيب - ككل ما هو راق، فالبساطة تلازم الحالات الفطرية الساذجة - لأن قواعد اللغة الراقية تضيع وقت المتعاملين الذين لا يحتاجون للدقة أو الجمال حاجتهم إلى السرعة. فاستعمالهم الفصحى في التعامل يشبه استعمال الموازين الدقيقة التي يوزن بها الذهب والأحجار الكريمة في وزن الخبز والملح،

أو استعمال المقاييس الهندسية الدقيقة في قياس الأقمشة ومسح الطرقات، فهو إسراف في التأنق وبعثرةٌ للجهد وتضييع للوقت، لا يصبر عليه البائع ولا المشتري. ثم إن اللغة الراقية التي تنظمها القواعد لا تصلح لحاجات الحياة اليومية من وجه آخر. فقواعد اللغة الفصحى تجعل تطورها بطيئاً وصعباً، بينما لغة التعامل والأسواق تسد حاجات متغيرة يطرأ عليها كل يوم جديد لم يكن بالأمس. أما لغة الأدب فهي سجل لحالات عقلية ونفسية ثابتة متصلة، من الخير أن نحرص فيها على صلة الخلف بالسلف إلى أبعد مدى ممكن، لكي ينتفع بتجاربه فيزداد بذلك علماً ودرايةً ومتعة وذوقاً. فنحن نقرأ ما كتب في الأدب منذ آلاف. السنين فنجد فيه صورة من تفكيرنا الراهن ومن أحاسيسنا الحية. ولذلك فالأدب محتاج إلى لغةٍ أكثر استقراراً لتحقيق هذه الصلات بين القديم والجديد. وهو يحتاج إلى لغة مُصَفاة منتقاة، للكلمات فيها وللعبارات تاريخ وظلال تعوِّض بعض ما في اللغة من قصورٍ في التعبير عن مكنونات النفس وخطرات الفكر. فاللغة محدودة بكلمات المعاجم، أما الأحاسيس والأفكار التي يموج بها عالم النفس والعقل فهي خفيّة متعددة متجددة لا تكاد تدخل تحت حصرٍ في تنوعها وفي دقة الفوارق بين بعضها وبين البعض الآخر. لذلك كان لا بد للأديب أن يستعين على إتمام قصور اللغة هذا باستغلال خصائص الكلمات الصوتية واستغلال ظلال الكلمات مفردةً ومركبة. وإنما تنشأ ظلال الكلمات مما ترتبط به في تاريخها الطويل من استعمالات ومما في طبيعة تركيبها الصوتي من أسرار. وذلك كله لا يتوافر إلا في الكلمات التي صفّاها طول الاستعمال فأثبت بقاؤها على تقلب الظروف والأحوال والأزمان صلاحيتها للبقاء، والتي صقلتها ألسن القائلين وآذان السامعين وأذواق النقاد، والتي شحنها وأغناها ما تراكم حولها من المعاني والأطياف التي تقلبت بينها في تنقلها الطويل عبر التاريخ. من ذلك كله يتضح أن لغة الأسواق شيء وأن لغة الأدب شيء آخر. وكلٌّ منهما صحيحة في ميدانها. فهما كلباس المصنع أو المهنة ولباس المسجد أو المحافل، يتخذهما العامل ويقتنيهما جميعاً، ولكنه يستعمل كلاً منهما في موضعه، فلا يلبس للمصنع لباس المسجد والمحافل، ولا يلبس للمساجد

والمحافل لباس المصنع والمهنة. كذلك الشأن في لغة التعامل اليومي وفي لغة الأدب، تمتاز إحداهما من الأخرى حسب طبيعة كلٍّ منهما ووظيفتها. وهذه ظاهرة مطَّرِدة التحقق واللزوم في كل اللغات قديمها وحديثها، شرقيها وغربيها. فقد كان للناس دائمًا لغةٌ للأدب تختلف عن لغة الحديث والمساومة والتعامل منذ كان لهم أدب رفيع, لأن البدائيين وحدهم هم الذين يكتبون أدبهم بلغة الحديث. فإِذا تطور هذا الأدب وسما ارتفع عن لغة الحديث وخلَّف لغة الأسواق والتعامل وراءه. ولو اتخُذت لغةُ الأسواق لغةً للأدب على ما يريده الخادعون والمخدوعون، فتطورت وارتقت، لنشأ إلى جانبها حتمًا لغةٌ أخرى للأسواق تتحرر من قواعد اللغة الأدبية وقيودها، وتنزع عنها ما لا يُحتاج إليه مما يفيد الدقة أو الجمال حتى تُسعف البائع والمشتري والصانع والزارع والسائل والمسؤول من ناحية، ولكي تساير حاجات الحياة وشؤؤنها المتجددة من ناحية أخرى. وإذن لا نكون قد قَربنا بين اللغتين على ما يزعم أصحاب ذلك المذهب، ولكن كل ما نبوء به عند ذلك هو قطع الصلات بيننا وبين الماضي كله بما فيه من دين ومن علم ومن أدب ومن تاريخ ومن تجارب إنسانية متعددة، فهو بمثابة إعدام هذه السجلات الحافلة، مما يجعل مهمة الأحياء والأجيال القبلة صعبة جداً إلى درجة التعذر في تَقصِّي حقائق الأشياء وتأريخها. ومع ذلك كله فالأدب بطبعه متعة عقلية وروحية. وهو بهذا الاعتبار ليس هواية شعبية. وليست الشكلة فيه هي مشكلة الألفاظ فحسب ولكنها مشكلة الأفكار والأخيلة التي تحتاج في تذوقها إلى مستوى ثقافي معين. فمهما نعمل على تيسير الألفاظ وجعلها في متناول عامة الناس فلن يستطيعوا إلا فهم ما يلائم عقولهم وثقافاتهم من الآداب السطحية التي لا تعبِّر عن أغوار الحقائق وأعماقها. ذلك هو المدلول الحقيقي لكلمة (الأدب الشعبي). فالأدب الشعبي لايتميز بلغته فحسب، ولكنه يتميز أولًا وقبل كل شيء بسطحيته في التفكير وبساطته التي تلائم السذج من البدائيين، ولكنها لا تشبع حاجات المثقفين وطلاب المعرفة من أصحاب الفكر الرفيع والذوق المرهف والمزاج الصافي الصقيل.

زعم رئيف أبو اللمع الأمين العام المساعد للشؤون الثقافية في مقدمة الكتاب (أن على اللغة أن تساير المجاري المتدفقة المسرعة من تحوير وتبديل وتعديل وتجديد، فإِذا لم تتبع اللغة العربية سُنَّةَ النشوء والارتقاء فقدت عناصر الحياة - ص 2). وزعم الزيات عضو مجمع القاهرة أن إزالة السد القائم بين الفصحى والعامية سيقضي على (مساوئ الفصحى أو عُنْجُهِيَّتها فتموت كما يموت الحوشى المهجور من كل لغة - ص 85)، والواقع أن هذا التطور الذي يتحدث عنه الأمين على ثقافة العرب حادث فعلاً، وهو يحدث كل يوم، ولكنه يحدث من تلقاء نفسه ولا تحُشد له المؤتمرات لتصطنعه. والتطور على كل حال ينبغي أن يكون بالقدر الذي لا يقطع صلتنا بالماضي، وبالقدر الذي لا يُخشَى معه أن يتطور إلى قطع صلة الأجيال المقبلة بالجيل الماضي أيضاً بحيث يتحول قرآننا وحديثُ نبينا وفقهُ فقهائنا إلى طلسم لا يقرؤه إلا طبقة من الكهان يحتكرون تفسير الإِسلام. هذا التطور واقع، لأن حاجات الحياة تدفع إليه، فالناس مضطرون إلى التعبير عن أنفسهم وعن الحياة في مختلف نواحيها: في أدبهم وفي صحفهم وفي إذاعاتهم التي تحكي ما يجري في الحرب والسلم، وفي قصصهم وفي كتبهم العلمية التي تضطر إلى استحداث الألفاظ لما يُستحدث من آلات أو أدوات أو متاع، ومن كشوف جديدة أو حقائق أو نظريات. والمهم في ذلك كله هو أن يحرص العرب على استعمال لغتهم العربية في كل هذه الميادين، كما دعا إلى ذلك بحق وإخلاص عارف النكدي عضو الوفد السوري (ص 89 - 104) وكما انتهى إليه المؤتمر في توصياته (ص 278)، فتحرص الإِذاعات والصحف ومنابر العلم بعامةٍ والجامعات بخاصة والقضاءُ والمؤتمرات على اللغة الفصحى. هذا هو السبيل الطبيعي للتطور، وما عداه فهو وسائل صناعية لا تؤدي إلا إلى البلبلة، وهي جَعْجَعة بلا طحن. أما ما زعمه عضو مجمع القاهرة من موت الحوشي وتصفية اللغة وتنقيتها فهو لا يتوقف على تفاعل الفصحى مع العامية كما يزعمه. فالحوشي يموت بطبعه كما يذهب كل باطلٍ وكل ثقيل وكل مستهجن غير صالح, لأن الأدباء والشعراء والعلماء ينفرون من استعماله. وهؤلاء هم في الحقيقة - بما وُهبوا من ذوق - صُنَّاعُ اللغة. وهم الذين يقومون بمهمة

التصفية التي يتحدث عنها الكاتب. ومن وراء هؤلاء الأدباءِ والشعراء والعلماء الذوقُ العربي العام الممثَّل في جمهور القراء والرواة. فهم الذين يحكمون على الصالح بالبقاء لأنهم يتناقلونه خلفاً عن سلف، وينشرونه في الآفاق، بينما يحكمون على الساقط والسخيف الركيك بالموت, لأنهم يهملونه ولايكترثون له. وهؤلاء هم المحكمة الصادقة التي لا تخضع للأهواء، ولا يجوز عليها التزييف والتزوير. وطه حسين ومَنْ ذهب مذهبه مثل مندوب حكومة تونس في هذا المؤتمر يوهمون الناس بأن هناك خطراً على العربية الفصحى أن يهجرها الناس إلى العامية إذا لم تخضع لما يريدونه من تطور (ص 283، 209). ويبني مندوب الحكومة التونسية على هذا الوهم أو الإِيهام اقتراحاً بأن (يشتغل عدد من علمائنا باللغات العامية وأن يدرسوها دراسة دقيقة - ص 209) كما يقترح على المجامع اللغوية (أن تؤلف لكل قطرٍ معجمًا صغيراً - ص 208). والذي يَنقض هذا الزعم الباطل من أساسه هو الواقع المشاهد في القديم السالف وفي الحاضر الراهن، الذي أثبت أن العربية قد عاشت جنباً إلى جنب مع هذه اللهجات المحلية أكثر من ألف عام حتى الآن. فالخوف من إعراض أصحاب اللغة العربية عنها هو وهمٌ اخترعه هؤلاء المغرضون، أو اخترعه لهم سادتهم ثم قاموا هم بترويجه. وينقض هذا الوهم أو هذا الزعم أن العربية قد استطاعت أن تحيا خلال بيئات متفاوتة وعصور متطاولة ودرجات من الحضارة والمدنية أدناها البداوة وأعلاها ما وصلت إليه في بغداد والأندلس. استطاعت - وهي اللغة البدوية - أن تكفي حاجات ما جدَّ من علوم ودراسات. وظلت مع ذلك كله هي هي. نقرأ القرآن بعد أربعة عشر قرناً من نزوله فكأنه أُنزل اليوم، ونقرأ الجاحظ والمتنبي بعد ألف سنة أو أكثر فكأنما نقرأ لكتّابٍ ولشعراء معاصرين. وقد تجاورَت لغةُ الأدب الرفيعة ولغةُ الحديث العامية طوال هذه القرون على اختلاف البيئات فلم تَطْغَ إحداهما على الأخرى، ولم تنفر إحداهما من مجاورة صاحبتها. ومع ذلك فإِن هذا الخطر الموهوم المزعوم يكفي في دفعة - إنْ كان - أن تحُسِن الدولة القيام على تعليم العربية في مدارسها وأن تُلزِم باستعمالها في المجالس النيابية وفي دور القضاء

وفي الاذاعة وفي المحافل والمجامع على إختلافها. ولا أظنني محتاجاً إلى أن أنبه للخطورة التي ينطوي عليها اقتراح مندوب تونس. وما أظن أن أحداً سينخدع بما يبدو في ظاهر قوله من البراءة حين يتظاهر - مِثْلَ طه حسين - بأنه معارض في استعمال اللغة العامية للكتابة الأدبية، وحين يشترط في المعاجم المقترحة أن (لا تتضمن - إلا الألفاظ العربية الفصيحة التي بقيت مستعملة بمعناها الأصلي في لغة ذلك القطر - ص 208). فالمهم في الأمر هو أن معاجم اللغة العربية سوف تختلف باختلاف بلاد العرب وأقطارهم، وأن المعجم التونسي والمعجم المصري والمعجم العراقي والمعجم الشامي والمعجم الحجازي والمعجم اليمني سوف تصبح بتنفيذ هذا الاقتراح حقيقة واقعة. وهذه المعاجم المقترحة نفسها سوف تصبح بدورها موضع تنقيح وتغيير وتعديل، وسوف ينأى بها كل تنقيح جديد عن أصلها الأول، حتى يتناكر المتعارفون ويتفرق المجتمعون ثم لا يُرجَى لصدْعهم رَأْب. ذلك هو الضمير المظلم الذي يبدأ بدعوةٍ خلابة براقة بريئة الظاهر إلى دراسة اللهجات والعناية بما يسمون تمويهاً على الشعوب بالآداب الشعبية. وقد اعتمد طه حسين على هذا الأسلوب نفسه في الدعوة إلى تبديل النحو والخط حين قال (إنْ أبينا إلا أن نمضي كما كان النحو وكما كانت الكتابة فلا بد أن تنشأ عن هذه اللغة العربية الفصحى القديمة لغات مختلفة كما نشأت الفرنسية والايطالية والبرتغالية عن اللغة اللاتينية القديمة - ص 238). وهو يخدع الناس عن حقيقة ما يدعوهم إليه حين يعقب ذلك بقوله: (وبعد فلا أدعو أن تهجروا القديم مطلقاً، وعسى أن أكون من أشد الناس محافظة على قديمنا العربي، ولا سيما في الأدب واللغة. ولكن لمَ لا يكون النحو القديم والكتابة القديمة والبلاغة القديمة وكل هذه العلوم العربية التي أُنشئت في عصرٍ غير هذا العصر الذي نعيش فيه ... لم لا يكون هذا كله متطوراً كما تطورت اللغة؟ نحفظ قديمه لدرس المتخصصين في الجامعات وفي المعاهد وتتيح للملايين البائسة من الصبية والشباب أن يتعلموا تعلمًا قريباً سهلاً - ص 238). والعجيب في الأمر أن منصور فهمي يشيد بعد ذلك فيما أحصاه من

محاسن مجمع القاهرة بجهوده في (تيسير النحو والصرف والإِملاء) و (دراسة اللهجات العربية) و (تيسير الكتابة والخط). فهك أصبحت مهمة مجمع اللغة العربية في القاهرة هي دراسة اللهجات العامية وتبديلَ قواعد النحو والصرف والإِملاء والكتابة بحيث يصبح أي أثر من آثارنا طلسمًا من الطلاسم؟ بل بحيث يكون هذا نفسه هو مصير كل أثرٍ عربي معاصر لا يتبع مذهب مجمع القاهرة في التغيير والتبديل؟ وماذا يحدث إذا نهج مجمعنا في تيسير النحو والصرف والبلاغة على غير منهج المجامع العربية الأخرى؟ بل ماذا يحدث إذا اتفقت مجامع العرب على أشياء ورفضها المسلمون, لأن المسلمين إنما يدرسون هذه العلوم للاطلاع على مصادر دينهم، وهي جميعاً تستعمل اصطلاحات النحاة والبلاغيين التي يسمونها قديمة. وإذا انصرف الناس في مصر عن دراسة كتب (النحو القديم) و (البلاغة القديمة) كما يسميهما طه حسين وحزبه، وجَروا وراء كل ناعق يزعم أن القواعد القديمة معقدة، وذهب كل منهم مذهبه في استنباط قواعد جديدة، وتسمية المسمَّيات بأسماء مبتكرة فقدت الاصطلاحات قيمتها. فإِنما ترجع قيمة الاصطلاح إلى تواضع الناس عليه، فإِذا اختلف الناس فيه لم يعد اصطلاحاً. فإِذا قال أحدهم مثلاً (هذا فاعل) لم يفهم عنه الذي لا يسمي الفاعلِ فاعلاً لأنه قد ابتكر له اسمًا جديداً فسماه (موضوعاً) أو (أساساً) أو (مسنداً إليه) أو (ركناً). وإذا قال أحدهم هذا حال أو تمييز أو ظرف أو مفعول معه أو مفعول لأجله لم يفهم الآخر الذي لا يميز بين حالة من هذه الحالات لأنه يسميها جميعاً (تكملة). وقس على ذلك سائر قواعد النحو والبلاغة (¬1). والنحو العربي - ولا أقول "النحو القديم" كما يسمون - ما عيبه؟ وهل هو حقاً كما يزعمون معقّد صعب، وهل ثبت فشله كما يزعمون في تنشئة جيل عربي يقيم عربيته ويحسن تذوقها؟ نَحوُنا وبلاغتنا لا عيب فيهما. ومن الممكن تبسيطهما واختصار المطولات المؤلفة فيهما في حدود القواعد والأقسام التي التزمها القدماء أنفسهم. فالواقع أن اجتماع الناس في كل أمصار العرب ¬

_ (¬1) راجع مجلة مجمع اللغة العرببة (6: 188) وراجع كذلك كتاب القواعد الذي تداوله طلبة السنة الأولى من المرحلة الإِعدادية في العام الدراسي المنصرم.

- بل المسلمين - على قواعد موحدة، دون أن تحملهم على ذلك قوة قاهرة أو تلزمهم به سلطةٌ منفذة، أو تقوم على نشره دعاية تروِّجه وعصابات تسوق الناس إليه، هذا الاجتماع على قواعد موحدة في النحو والصرف والبلاغة بعد أن كانت مدارسها متعددة هو وحده الدليل الحي الذي لا يُنقَض على صلاحية هذه القواعد، وعلى أن هذه الدعوات إلى تغييرها بدعوى التيسير أو الِإصلاح هي دعوات مفتعلة يروجها هدامون وينساق وراءها مغفلون. ولو كان القصد هو التيسير حقاً لقنعوا بصنيع لجنة (حفني ناصف، ودياب، وطموم، ومحمود عمر، وسلطان مُحَمَّدْ) في كتاب (قواعد اللغة العربية لتلاميذ المدارس الثانوية)، الذي ظلت مدارسنا تتداوله سنين طويلة. فقد نجحت هذه اللجنة في حصر قواعد النحو والصرف والبلاغة في كتيِّب صغير لا يتجاوز مائة وأربعين صفحة، خال من التعقيد، يفي بحاجة التلاميذ والمتعلمين. وقد كان صنيع الجارم من بعد ذلك حسناً حين يسّر هذه القواعد ومهّد لها بالأمثلة الكثيرة، وأعان على إقرارها بالتمرينات المتعددة، وكان ذلك كله في حدود القواعد التي أثبتت ألف سنة صلاحيتها، والتي استطاع العرب بفضلها وحدها - ولا شيءَ سواها - أن يخرجوا في القرن الأخير هذا الجيش الضخم من الشعراء والأدباء والنقاد الذين بلغ بعضهم مستوى أندادهم الأقدمين في أزهى عصور الشعر والأدب العربي. وذلك من بعد أن أدرك الضعف العربية حتى كاد يدنيها من القبر. كيف وُجد البارودي وشوقي؟ وكيف نشأ مُحَمَّدْ عبده وطبقته من الكتاب؟ وكيف وُجد الرافعي والمنفلوطي؟ بل كيف وُجد المنادون بهذه البدع أنفسُهم أمثالُ طه حسين وإبراهيم مصطفى؟ كيف استقامت ألسنتهم وصحت أساليبهم؟ وذلك من بعد الركاكة التي تتمثل في كاتب كالجبرتي يُعتبر من أحسن كتّاب عصره؟ هل أتقن هؤلاء العربية عن طريق آخر غير قواعد النحو والصرف والبلاغة التي يزعم الزاعمون اليوم أنها معقدة وغير صالحة؟ فأيهما نصدِّق؟ هل نصدق واقعاً قائمًا ماثلًا راسخاً قديماً أثبتته ألف سنة وأعادت إثباته وتأكيده تجربة القرن الأخير؟ أم نصدق مزاعم لم نر من آثارها منذ ظهرت إلا الشر وإلا التدهور والانحطاط في مستوى تدريس العربية؟ إن انحطاط مستوى الجيل الحاضر في اللغة العربية أمر واقع، ولكن سببه ليس هو صعوبة القواعد (القديمة)، بل

إن سببه هو زعم الزاعمين أنها معقدة, لأنه قد صرف الناس عن إتقانها إلى التنقل بين تجارب فجة غير ناضجة، وأعان على إقرار ما يتوهمه التلاميذ والمدرسون من صعوبتها، بل اختلق هذا الوهم نفسه بعد أن لم يكن. والدليل على ذلك أن الجيل السابق لهذا الجيل - وهو جيل لا يزال كثير من أفراده أحياءاً - أحسنُ إتقاناً للعربية، رغم أنه قد نشأ في ظل الاستعباد الإِنجليزي وبرامجه، أو في ظل سياسة التتريك التي جُن بها دعاة الطورانية من الاتحاديين. وحَسْبُ الداعين بهذه الدعوة هزالاً وفشلاً ما اقترحوه على المدارس الإِعدادية في العام الماضي من قواعد بيِّنةِ الضعف والفساد والهزال، مما أرجو أن أعود للحديث عنه في غير هذا المقال. لم يزالوا يطبلون ويزمرون ويطنطنون ويهولون، فلما رأى الناس المولود الذي كانوا يبشرون به من قبل قالوا (تمَخَّضَ الجَبَلُ فَوَلَد فأراً). ولكي ندرك خطر هذه الدعوات ونفهم حقيقة مغزاها لا بُدَّ لنا أن نقرنها إلى أمثالها. فننظر إليها في ظل ما نسمعه من الدعوة إلى تطوير عاداتنا وتقاليدنا، وتطوير أدبنا، شعرِه ونثره، شكلاً وموضوعاً وأسلوباً، وتطوير ألحاننا وأغانينا، وتطوير زِيِّناً نساءاً ورجالاً، وتطوير قِيَمنا ومُثُلنا الأخلاقية والاجتماعية، وتطوير تشريعنا بل تطوير إسلامنا نفسه. مَن أجال النظر في هذا كله وقرن بعضه إلى بعض عرف أن أصل هذه الفروع واحد، وأن روح الدعوة فيها جميعاً واحدة، وأن أصحابها لا يقنعون إلا بقطع كل ما يربطنا بإِسلامنا وعروبتنا وشرقيتنا من وشائج وصلات. عند ذلك نفقد طابعنا الذي يميزنا بوصفنا جماعة أو قوماً أو أمة. وإذا فقدنا طابعنا فقدنا كياننا، وفقدنا القدرة على التكتل والتجمع، وأصبح من اليسير على الشرق أو الغرب أو كائناً مَنْ كان من خلق الله أن يلحقنا به ويجعلنا تابعين له، ندور في فلكه ونسبِّحُ بحمده من دون الله. والقائمون على ترويج هذه الدعوات كالجراثيم، تكمن حين تأنس من الجسم مقاومة حتى يظن المريض أن الداء قد ذهب عنه، ولكنها تتحصن في واقع الأمر حتى تجد فرصة أخرى ملائمة للظهور فتثور. وقد نشط أصحاب هذه الدعوات في السنوات الأخيرة, لأنهم يعرفون أن الثورات هي أكثر

الظروف ملاءمة لبث سمومهم، إذ يلبسون ثياب الناصحين، ويندسون في غمار الثائرين الذين يريدون أن يستبدلوا بأسباب الضعف والفساد أسباباً للحياة والقوة والبناء، كما يندس المخرِّبون والمأجورون من عملاء العدو وسط جموع المظاهرات يحطمون المصابيح ويحرقون المنشآت، فيقلدهم غيرهم في صنيعهم دون تمييز بين ما يصلح تحطيمه وما يضر تحطيمه. بقي بعد ذلك كله أن أشير إشارة موجزة إلى مصدر هذه الدعوة، كيف بدأت ومن أين ثارت، فقد يعين ذلك على تقديرها وعلى تصور مبلغ ما تنطوي عليه من الصدق والِإخلاص والجراءة من الهوى. لم يُسمَع لداعٍ بهذه الدعوة صوتٌ قبل القرن الأخير. وكل ما كان قبل ذلك من إشارة إلى العامية أو ما كان يسميه قدماء المؤلفين (خطأ العوام) فقد كان المقصود منه تقويم اللسان والتنبيه إلى الخطأ، لا الاحتفاء بألفاظ العامة وأساليبهم وتسجيلها والدعوة إلى معارضة لغة القرآن بها. فالدعوة لم تنشأ إلا في ظل استعباد الغرب لبلاد العرب والمسلمين وفي حمايته من ناحية، وفي حضانة التبشير من ناحية أخرى. ويكفي أن أذكر في ذلك على سبيل الاختصار أسماء سبتا (Wilhelm Spitta) وفولارز (K. Vollers) وباول (A.powell). وفيلوت (D.c. Philott) وبوريان (M.Bouriant). وماسبيرو (M.Caston Maspero) الذين قادوا هذه الدعوة في مصر منذ سنة 1880 فظهر صداها في صحيفة المقتطف الشهرية أولاً سنة 1882 (¬1) ثم انتقل إلى بقية السماسرة. جمع بعضُ هؤلاء المؤلفين أو الدعاة على الأصح - وكلُّهم ممن شغل وظائف عامة في ظل الاحتلال الإِنجليزي لمصر - طائفة من الأمثال والأغاني والمردَّدات السوقية في مختلف "الموضوعات" ونادوا باتخاذ اللهجة التي كُتبت بها هذه الآثار لغةً للتدوين والتأليف والأدب الرفيع. ووضع بعضهم الآخر كتباً ¬

_ (¬1) صلة فارس نمر صاحب المقتطف بالاحتلال الإنجلبزي مشهورة معروفة. وقد كان المستر سمارت مستثار السفارة الإِنجليزية - أو دار المندوب السامي كما كانت تسمى وقتذاك - زوجاً لابنته.

استنبط فيها قواعد للهجة مصر العامية - وقد اقتصر معظمهم على لهجة القاهرة - محاولاً إقناع المصريين بأن لهجتهم هذه لها كل مُقوِّمات اللغة الراقية. ولاك الناس كلامهم من بعد. فردده كل ببغاء وكل بوق وكل سمسار وكل فاسد العقيدة مزعزعَ الإيمان. وليس في كلام هؤلاء جميعاً على اختلاف طبقاتهم ودرجاتهم - من لطفي السيد وحزبه إلى طه حسين وشيعته - فكرة جديدة. فكل ما قالوه وما يقولونه ترديد لما قاله هؤلاء. حتى الذين أكثروا من الكلام فيما سموه (الأدب الشعبي) وادَّعوا أنهم جمعوا فيه ما جمعوا من آثار لم يكونوا إلا ناقلين مما جمعه أمثال ماسبيرو وبوريان. بل لقد اعتمدوا عليهم في تصنيف ما جمعوه وفي ترتيبه وتبويبه أيضاً. ولولا خشية الإِطالة وضيقُ المقام لأوردت النصوص التي تثبت ما أقول. وبعد، فقد وعد الله سبحانه أن يحفظ قرآنه إذ قال وقوله الحق: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [الحجر: 9] وهل يكون حفظه إلا بحفظ لغته؟ وإني لأعرف أن الهدامين من الإِنس والجن أضعف كيداً من أن ينقضوا ما قضاه الله سبحانه. وإنما أقول ما أقول إبراءاً للذمة، واغتناماً للأجر، وخضوعاً لسنة الله الذي يضرب الحق والباطل، والذي ألزم أهل الإِيمان محاربة أهل الكفر والضلال ومكافحتهم ليبلوَ بعض الناس ببعض. وإنما هو قضاءٌ سبق في علم الحكيم العلم وتقديره، يَشقى به المفسدون ومن تبعهم - وبعملهم يشقون - ويسعد به من هداهم الله للذود عن الحق والمنافحة عن الدين، في يوم يتبرأ فيه أئمة الشر ممن تبعوهم، ويقول الذين اتبعوهم {لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)} (البقرة: 167)

في مناهج اللغة والدين

في منَاهج اللغَة وَالدِّين

في التعليم العام

- 1 - في التعليم العَام لم يعد دعاة الشر يقنعون بالكلام في هذه الأيام، ولم يعد شرهم مقصوراً على محاولة نشر سمومهم بالدعاية لها. فقد انتقلوا الآن من مرحلة الكلام إلى مرحلة العمل، بعد أن نجحوا في التسلل إلى مناصب تمكنهم من أن يدسوا برامجهم ومناهجهم على المسؤولين من رؤسائهم وينفذوها في صمت. ودعاة الشر هؤلاء يعملون في ميادين كثيرة لا يكاد يخلو منهم ميدان. ولكن أخطر ما يكون إفسادهم إذا تسلل إلى ميدان التعليم. لذلك رأيت أن أكشف في هذا المقال عن بعض أساليبهم في هذا الباب. كان الناس يناقشون الاختلاط، هل هو جائز أو غير جائز وهل هو مفيد أو ضار. وكانت تثيرهم فوضى الجنس التي يروجها القوصي في مطبوعات فرانكلين تحت ستار الدراسات النفسية. فإِذا هذا الاختلاط يصبح حقيقة واقعة بطريق ملتو خفي لم يكد يتنبه إليه أحد، بعد أن طالت المرحلة الابتدائية إلى ست سنوات يتجاور فيها الذكور والإِناث. ومن المعروف أن الإِناث في بلادنا يدخلن سن المراهقة في وقت مبكر لا يتجاوز السنة الحادية عشرة في كثير من الأحيان. بل لقد أصبحنا أمام بعض المدارس المختلطة في مرحلة التعليم الإِعدادي، بعد أن تكشفت تجربة الاختلاط في الجامعة عن مآسٍ لا يستطيع تجاهلها إلَّا مكابر أو مدلس. وأصبح هذا النظام ضرباً من ضروب الِإلزام لا يستطيع والد أن يفر منه أو يتفاداه, لأن عليه أن يختار بين ¬

_ (*) نشرت في عدد شهري ربيع الآخر وجمادى الأولى سنة 1378 من مجلة الأزهر.

أن يبعث بابنه وبابنته إلى هذا الوسط وبين أن يحرمهم من التعليم ويحجبهم في ظلمات الجهل. بل إنه لا يستطيع اختيار الطريق الثاني - على ظلمه وظلامه - لأن قوانين الدولة تجبره على أن يعلم أولاده حتى نهاية هذه المرحلة الأولى على الأقل. وكان الشعوبيون يروجون اللهجات السوقية المحلية التي يسمونها العامية بمختلف الأساليب، وكان أعداء العروبة والإِسلام يتحايلون في انتزاع الدراسات العربية من حضانة الدين والقرآن، حتى قال قائلهم "فالذين يزعمون لنا أننا نتعلم العربية ونعلمها لأنها لغة الدين فحسب، ثم يرتبون على ذلك ما يرتبون من النتائج العلمية والعملية إنما يخدعون الناس، وليس ينبغي أن تقوم حياة الأمم على الخداع، فإِن اللغة العربية ليست ملكاً لرجال الدين، يؤمنون وحدهم بها ويقومون وحدهم من دونها، ويتصرفون وحدهم فيها. لكنها ملك للذين يتكلمونها جميعاً من الأمم والأجيال. وكل فرد من هؤلاء الناس حر في أن يتصرف في هذه اللغة تصرف المالك متى استوفى الشروط التي تبيح له هذا التصرف. وإذاً فمن السخف أن يظن أن تعليم اللغة العربية وقف على الأزهر الشريف والأزهريين، وعلى المدارس والمعاهد التي تتصل بينها وبين الأزهر والأزهريين أسباب طوال أو قصار. هذا سخف لأن الأزهر لا يستطيع أن يفرض نفسه على الذين يتكلمون اللغة العربية جميعاً وفيهم المسلم وغير المسلم (¬1) " والغرض الذي يرمي إليه صاحب هذا الكلام من قطع الصلات التي تربط الدراسات العربية بالدراسات الإِسلامية هو أن ينزع عن العربية قداستها ويحرمها من حماية الدين وحضانته ليكشفها أمام أعدائها ويعينهم على الِإجهاز عليها بعد أن يجردها من كل نصير أو معين. ولم يستح صاحب هذا الكلاِم وشيعته أن يتخذوا مجمع اللغة الربية في القاهرة ومكاتب جامعة الدول العربية ومؤتمراتها ميداناً لنشاطهم، فدعا أحدهم في المؤتمر الأول لمجامع اللغة العربية بدمشق إلى تأليف معاجم محلية لا يُثبت فيها إلَّا ما بقي من لهجات العرب حياً في عامية كل إقليم. ودعا آخر إلى إعادة النظر ¬

_ (¬1) الفقرة 36 من كتاب "مستقبل الثقافة في مصر" لطه حسن ص 230 من مطبعة المعارف سنة 1944.

في تبويب النحو وتدوينه من جديد. وكان ذلك كله كلاماً في كلام. فإِذا بنا الآن أمام هذه المشاريع جميعاً منفذة في كتب القوصي وشركاه المشهورة بكتب "شرشر" أو "جلاجلا"، وفي كتب النحو الجديد التي يتولى إبراهيم مصطفى توجيهها. ولم يثنهم عن عزمهم ما قرره مؤتمر مجامع اللغة العربية - الأول في دمشق من أن مشاريعهم تحتاج إلى مزيد من الدرس والمراجعة والتمحيص، بل لقد استصدر قسم اللغة العربية في إحدى كليات الآداب منذ ثلاث سنوات قراراً بإِنشاء شعبة سماها "شعبة الدراسات العربية الحديثة"، أخلى الدراسة فيها من النحو والصرف والبلاغة ومن الشعر العربي ونصوص الفصحى ومن الأدب العربي والتاريخ الإِسلامي ومن القرآن والحديث، وجعل مكان ذلك كله "دراسات لغوية حديثة" و "التطور اللغوي العربي في العصر الحديث" و "اللهجات العربية الحديثة" و "الأدب الشعبي" و "المذاهب الكبرى في الآداب الأوروبية" و "مدارس القصة" و "تطوير الفكر الإِسلامي في العصر الحديث". وكان أعداء الإِسلام من عمال الاستعباد والتبشير وسماسرة الصهيونية الهدامة يشنعون بجمود علماء الشريعة الإِسلامية أو من يسمونهم خطأ (رجال الدين الإِسلامي)، وينددون بتخلف الأزهر عن ركب الحياة بزعمهم. فإِذا بنا نفاجأ بأحد أعضاء (لجنة التربية الدينية) بوزارة التربية والتعليم يقترح إنشاء شعبة للدراسات الإِسلامية في كليات الآداب لتخريج مدرس الدين الإِسلامي المرن الذي يستطيع أن يساير الزمن. هذه بعض أمثلة تصور الأسلوب الجديد الذي يعتمد على (الغزو من الداخل) - إن جاز لي أن أستعير تعبير المستر دالاس - الذي لم يعد أصحابه يقتنعون بالدعاية وباجتذاب الأنصار والاستكثار منهم عن طريق الإِقناع أو الإِغراء أو الإِرهاب. إنهم يعتمدون في أسلوبهم الجديد على أفراد عصابتهم الذين نجحوا في التسلل إلى مراكز القيادة، فأصبح في استطاعتهم أن يجعلوا من أوهامهم التي لم ينجحواً في إقناع الناس بها حقيقة واقعة بقرار أو بجرَّة قلم كما يقولون. ولأوضح بعض ما في كلامي السابق في إجمال.

كُتُب (القراءة الجديدة) المتداولة في الاقليم المصري (*)، التي وضعتها لجنة تعمل بتوجيه عبد العزيز القوصي وسعيد العريان تعتمد على أسلوب جديد لا يمكن أن نصفه بأنه عربي مهما اجتهد أصحابه في تبريره، بما يزعمونه من أن كلماته التي تبدو من عامية مصر يمكن أن تجد سَنَدَاً من معاجم اللغة يصلها بإِحدى لهجات العرب. هذه الكتب لا تتجنب الفصيح الذي أجمع عليه العرب والمسلمون لغرابته أو لثقله، لكنها تتعمد إهماله لأنها تريد أن تهمله وأن تجعل استعمال لهجة الأسواق في الكتب المدرسية أمراً واقعاً مقرراً. وهم يعلمون حق العلم أن هذه الكلمات الملتقطة من أسواق مصر وطرقاتها - مهما جاءوا بأشجار للأنساب تثبت عروبتها - ليست عامة في بلاد العرب جميعاً. فهي مجهولة في بعضها وهي مستعملة بمعنى آخر في بعض آخر, لأن الفصحى التي تجمع العرب بل المسلمين اليوم هي فصحى قريش بخاصة التي نزل بها القرآن والتي دُوِّن بها الحديث والفقه والأدب وكل ما أثمرته الحضارة العربية والِإسلامية من علوم وفنون، وهي أفصح لهجات العرب وأسلمها دون نزاع، فرضتها صلاحيتها ونشرتها قبل أن ينزل بها القرآن، فكان العرب على اختلاف قبائلهم يكتبون شعرهم بها. ولا يستعملون لهجات قبائلهم إلَّا في ضرب من ضروب الأدب المحلي المُسِفّ الذي يقرب مما يسميه بعض الناس اليوم الأدب الشعبي، وهو الرجز. فهذه الكتب الجديدة التي يراد بها تقرير لغة جديدة للتدوين، وإحقاق باطل فشل أصحابه في إقناع الناس به رغم ما بذلوا له من دعاية طوال نصف قرن أو يزيد، تريد في ضحى القومية العربية أن ترد العرب إلى ما قبل الجاهلية. على أن الكلمات السوقية (الملتقطة من أسواق مصر وطرقاتها) التي يُصر القوصي والعريان وشركاؤهما على استعمالها لها ما يقابلها من الفصيح المستعمل المأنوس. بل إنهم يعدلون في أكثر الأحيان عن الفصيح السمح الجميل إلى السوقي السَّمِج الثقيل، في مثل: (العسكري، حَلَّقَ عليه جـ2 ص 29) (حَطَّت اللحم في الحلة 2: 38) (مبسوط 2: 40) (شاف 2: 50) (زيطة 1: 60) (استغرب 2: 72) (زعلان 3: 10) (ابن الحلال 3: 11) ¬

_ (*) ألغيت هذه الكتب من بعد، بعد أن ثبت فشلها وخطرها.

(بص 3: 14) (حطها في القفص 3: 43) (ينظرون إلى القمر فيتهيأ لهم أشكال غريبة 4: 65) (المخدة 4: 89) (زاحني في البحر 4: 91) (يتزحلق 4: 92) فمقابل هذه الكلمات من الفصيح مشهور خفيف شائع، وهو - على الترتيب السابق: الشرطي - اعترضه أو وقف في وجهه (أو في طريقه) - وضعت اللحم في القدر - مسرور - رأى - ضوضاء أو ضجيج أو لغط - دهش أو عجيب - غضبان - ابنِ الكرام - نظر - وضعها في القفص - يتخيلون (أو يتوهمون) أشكالاً غريبة - الوسادة - دفعني إلى البحر - ينزلق. هل يرى القارئ مبرراً لإِهمال هذه الكلمات الفصحى التي هي قدر مشترك بين سائر العرب وأصحاب الثقافات العربية من المسلمين؟ أليست هذه الكتب هي التنفيذ العملي لاقتراح أحمد عبد السلام مندوب حكومة تونس - ولا أقول مندوب تونس - في مؤتمر مجامع اللغة العربية الذي دعا فيه إلى (أن نؤلف لكل قطر معجمًا صغيراً لا يتضمن إلَّا الألفاظ العربية الفصيحة التي بقيت مستعملة بمعناها الأصلي في لغة ذلك القطر، وأن يوصى معلمو الأحداث والعامة بالاقتصار عليها قدر المستطاع)؟ وإني لأتساءل: كيف السبيل إلى إخراج هذه الكلمات من عقول الصغار بعد أن تُنقَش في حافظتهم الغضة الحساسة؟ ثم إني أتساءل: أين يتعلم صبية العرب وشبابهم فُصحاهم الجامعة لشملهم إذا لم يتعلموها في المدارس؟ ثم إني أتعجب لما تحويه هذه الكتب - وكتب المطالعة في عمومها - من تفاهات غثة تبدد أعمار التلاميذ في سخافات لا تفيد أسلوباً ولا ثقافة ولا خلقاً. فهي لا ترتفع في معظم محتوياتها عن تسجيل الواقع اُلمسِفِّ، المنافي للدين وللخلق المهذب في كثير من الأحيان، من مثل وصف (الحاوي) وسائس القرود، وعادات الناس - وجهالهم خاصة - في زيارات الأضرحة وفي الأذكار، ووصف مجتمعاتهم في الموالد وفي المناسبات وفي الأسواق، وتسجيل أساليب الباعة المتجولين في ترويج بضائعهم ولفت المشترين إليها. لماذا نفوِّت على التلميذ فرصة التحصيل المثمر أنشطَ ما تكون حافظتهُ وأحدَّ ما تكون ذاكرتهُ قدرةً على الاستيعاب السريع العميق؟ كنا نشِبُّ على جملة من نصوص

رائعة لأعلام الشعر والأدب في مختلف العصور ومن شتى بلاد العرب، وكنا نروض أذواقنا وأخلاقنا على طائفة من قصص نافعة تمجد ضروباً من البطولة العربية والإِسلامية، فاستبدلوا بذلك كله هذه السخافات الغثة، التي لا تعين على تكوين الملكة العربية أو الذوق العربي. وحجة أصحاب هذه المناهج تنحصر في أنهم لا يقدمون للنشء إلَّا ما يلائم عقولهم وتفكيرهم، وأنهم يتجنبون تكليفهم حفظ ما لا يستطيعون تدبره وفهمه، ومن المسلم به أن الصبي لا يعي كل ما يحفظه وعياً كاملاً، ولكن لا ينبغي أن يفوتنا أنه يختزنه إلى أن ينضج عقله فيستخرج هذا المدخر آناً فآناً ليتدبره. ولو سلمنا باستبعاد كل ما لا يستطيع الصبي أن يتدبره في صباه لا نبني على ذلك استبعاد تعليمه أن الأرض كرة وأنها تدور، واستبعاد تعليمه أن الله سبحانه وتعالى أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، وَلمَا كان هناك محل لحفظ القرآن أو تعليم الدين والعبادات - وإن كان ذلك هو فِعْلاً مذهب لبعض التربويين الذين نقعوا أدمغتهم في الثقافة اللادينية. والحقيقة التي ينبغي أن يقوم عليها تصورنا لهذه الأمور - بقطع النظر عن كل ما يستورده التربويون من قواعد عرجاء لا يعرف أحد مصدرها ولا الأغراض التي صُنِعت من أجلها - هو أن الصبا زمن نشاط الذاكرة وحِدتها، وما أصدق ما كان يردده آباؤنا من أن (التعلم في الصغر كالنقش في الحجر). فيجب أن تستغل هذه الحدة إلى أبعد حدود الطاقة وبقدر ما يسع الجهد. ثم يجيء وقت ينمو فيه التفكير وتضعف الذاكرة في الوقت نفسه، وعند ذلك يتدبر الرجل ما حفظ في صباه، وُيصبح لكثير مما كان يردده من غير وعي معنى جديد. والِإنسان من هذه الناحية يشبه في تفكيره الحيوان المجتر في طعامه، يختزن مادة التفكير حين تتاح له فرصة الاختزان، ثم يعيد استخراجها في وقت متأخر لكي يهضمها ويتدبرها, ولو أنه تَرك في صباه حفظ ما لا يدرك كل معناه، لما أمكنه أن يحفظه عند نضج تفكيره, لأن التفكير ينمو على حساب الذاكرة. وهناك حقيقة ينبغي أن لا نغفل عنها أو نهملها، وهي أن الشخصية العربية هي القاعدة التي تستند إليها القومية العربية. والشخصية العربية تقوم

على تشابه أذواق العرب وملكاتهم. وهذا التشابه يرتبط ارتباطاً وثيقاً بتراثنا الثقافي العريق وبعمالقة الشعر والأدب بخاصة، الذين سجلوا مُثُلنا العليا إيجاباً وسلباً في شعر الحماسة والأدب والرثاء والهجاء، وفي الخطب وفي الرسائل بمختلف صنوفها، بين ديوانيه وإخوانيه ووصفية ووعظية وأخلاقية. فإِهمال أدبنا القديم وتوجيه أكثر العناية إلى الأدب الحديث، بل التافه منه في الأعم الأغلب، وتجنب ما كان منه على منوال القديم جزالة وروعة وفخامة أسلوب واحتفالاً بالمعاني الكبار، خليق أن يعين على تدعيم ما يدبره بعض المفسدين فيسلكون إليه مختلف المسالك ويعالجونه بشتى الأساليب، حين يسعون إلى فصل حياتنا الراهنة والمستقبلة عن مصادرها القديمة حتى تتفرق جماعتنا ويتشتت شملنا، وحتى لا تكون أخلاقنا امتداداً لخلق آبائنا, ولا تكون أذواقنا امتداداً لأذواقهم، ولا تكون لغتنا وأساليبنا امتداداً للغتهم وأساليبهم. وحتى لا يكون إسلامنا إمتداداً لإِسلامهم. فإِذا نجحت هذه العصابة في أن يجعلوا (المجتمع العصري) الذي يتحدثون عنه مقطوع الصلة بماضينا في الدين وفي اللغة وفي العادات وفي الذوق الفني وفي المزاج وفي التقنين الخلقي. فأي جامعة يمكن أن تجمعنا عند ذاك؟ وأي طابع يمكن أن يميزنا عن غيرنا من سائر خلق الله ويجعل لنا الحق في أن نقول إننا قوم، إننا عرب؟ ما أيسر أن نكون عند ذلك تبعاً لسادة الشرق أو الغرب وذيلاً لكائن من كان ممن يريد أن يستلحقنا كما كان السادة يستلحقون العبيد في عصور الرق. أقول ذلك وأنا أعلم أن هذه الأساليب الفاسدة كلها حائلة زائلة إن شاء الله، وأنها لن تقوى على مقاومة مد القومية العربية الذي لا يزال يعلو ويرتفع. وبوادر ذلك وطلائعه واضحة في كثير من كتب هذا العام الدراسي لم التي خضعت برامجها للاتفاقية الثقافية (*). ولكني انتهزت الفرصة لأنبه في هذا المقام إلى أساليب يعتمد مروجوها أكثَر ما يعتمدون على غفلة الناس عنهم وجهلهم حقائق ما يهدفون إليه، ولألقي الضوء على بعض ما يدبره المفسدون في الظلام. وأصحاب النحو الجديد، أو ما يسمون (تيسير النحو) شعبة من تلك ¬

_ (*) كان ذلك في فترة الوحدة بين مصر وسوريا تحت اسم (الجمهورية العربية المتحدة).

الفرقة الموكلة بهدم تراثنا وقطع كل صلة تربطنا به. فهم لا يهدمون لأن الهدم هو وسيلتهم إلى البناء من جديد كما يزعمون، ولكنهم يهدمون في حقيقة الأمر لأن الهدم هو هددفم وغايتهم. وهم بهذا الهدم يمهدون الأرض ويسوونها لبناء جديد ولكنه للأجنبي لا لنا، ويمحون كل ما في صحفنا لتصبح صحفاً بيضاء يسطرون فيها أو يسطر فيها الذين يسخرِّونهم لما يعملون من بُعد ما يشاءون. نعم أصحاب القواعد الجديدة شعبة من هذه الفرقة. وقواعدهم الجديدة ليست إلَّا أسلوباً في الهدم. زعم أصحاب القواعد الجديدة أن قواعد النحو التي صنعها اثنا عشر قرناً سخيفة معقدة. وزعم لهم صاحبهم أنه سيلخص لهم هذه القواعد في كلمات، فقسم الكلام إلا مسند ومسند إليه وتكملة، وسمى كلامه هذا تيسيراً. والوصف الصحيح له أنه تعقيد, لأن الاصطلاحات المتداولة - ولا أقول القديمة - أدق إلى عقل الناشىء وتصوره. ومن الذي يخطئ في فهم مدلول كلمة "فعل" و "فاعل"؟ إن الأمي الجاهل الساذج الذي لا حظً له من الثقافة النحوية يستعمل هذه الكلمات بمدلولاتها النحوية في حديثه اليومي المألوف. الخفير والشرطي يسأل: من (الفاعل)؟ ويقول: قُبِض على (الفاعل)، يقول: (الفاعل معلوم) أو (الفاعل مجهول). والفلاح في حقله يقول: ذا (فعل) الكرام وذا (فعل) اللئام، ويسأل: ما (الخبر)؟ هذه هي المصطلحات التي استبدلوا بها (المسند) و (المسند إليه)، فسموا الفاعل ونائب الفاعل والمبتدأ مسنداً إليه، وسموا الفعل والخبر مسنداً. وإدراك معنى هاتين الكلمتين يحتاج إلى تصور الإِسناد، وهو فكرة عقلية لا يمكن بحال أن توصف بأنها أقرب إلى أفهام الصبية من المصطلحات الجارية المتداولة. فإِذا كان المقصود هو التبسيط والتيسير حقاً كما يزعمون فلا شك أن الفعل والفاعل والمبتدأ والخبر أقرب إلى عقول الصبية في هذه السنن وأيسر تصوراً وأسلس نطقاً وأخف وقعاً في الألسن وفي الآذان من المسند والمسند إليه. على أن أصحاب التيسير المزعوم قد احتاجوا بعد ذلك إلى تفصيل المنصوبات وتبيينها, ولم يروا إطلاق اسم (التكملة) عليها جميعاً وافياً بالغرض، لم فتكلموا عن (التكملة بالزمان) و (التكملة بالمكان) و (التكملة بالحال) و (التكملة بالمفعول). ففي الذي بسَّطوه؟ وأي شيء صنعوه سوى أنهم أضافوا

كلمة (التكملة) فعقدوا الاصطلاح وصعبوه وطولوه بدل أن ييسروه ويختصروه؟. ثم إنهم بعد أن تحاشوا اصطلاح (الفعل) و (الفاعل) لغير سبب واضح أو مبرر معقول احتاجوا للكلام عن (المفعول). ألم يكن بناء (المفعول) على (الفعل) و (الفاعل) أيسر في العقل وأقوم في الترتيب وأنسق في التسلسل من بنائه على (السند) (والمسند إليه)؟. وقد يحتج أصحاب التيسير المزعوم لصنيعهم بأن البلاغيين وأصحابَ علم المعاني على الخصوص، قد اتخذوا هذا التقسيم واستعملوا بعض هذه المصطلحات. ومن المعروف المشهور أن الاصطلاحات تختلف باختلاف العلوم والفنون، وأنها تتبع احتياجاتها وتَصدُرُ عن طبيعة كل منها وعما يهدف إليه وما يريد أن يؤديه من غرض. وطبيعةُ النحو وهدفهُ يختلف عن طبيعة علم المعاني وهدفه. فالنحو هَمُّهُ ضبطُ أواخر الكلمات وتفصيلُ ذلك على ما يقوم في ذهن المتكلم من تصور، بحيث يكون هذا الضبط وسيلة لتصوير المعنى بحسب اصطلاح أصحاب هذه اللغة وما جرى عليه عُرْفُهم. أما علم المعاني فهو يتناول الأسلوب ولا شأن له بالمفردات. وهدفه هو أن يكون الكلام ترجماناً دقيقاً صادقاً في نقل تصور المتكلم بكل ما يشتمل عليه وما يحف به من أحاسيس ومن ملابسات ومن ظلال إلى نفس السامع. فهو مرحلة تالية لمرحلة النحو الذي يتعلق غرضه بالصحة والفساد، بينما يتعلق غرض المعاني بفرق ما بين الصحيح والبليغ، والدقيق والأدق. لذلك كان اصطلاح البلاغيين على تقسيم الكلام إلى مسند ومسند إليه وفضلة لا يجدي شيئاً في إفادة ضبط أواخر الكلمات ومطابقته للمعنى بحسب ما جرى عليه عرف العرب. فالمسند إليه مثلاً لا يفيد الرفع على ما يزعمه أصحاب التيسير. وهم يعرفون ذلك كما يعرفه الناس. ولذلك احتاجوا في كتابهم الذي حيرَّ المعلمين والتلاميذ على السواء إلى أن يتكلموا عن كان وأخواتها وإن وأخواتها، وعلى ذلك أصبح كل من المسند والمسند إليه يقبل الرفع والنصب. ولم يستغنوا عن أن يقولوا إن المسند قد يكون فعلاً وقد يكون اسمًا. ولم يستغنوا حين تكلموا عن المطابقة بين المسند والمسند إليه في الإِفراد والجمع عن أن يستثنوا من ذلك الجمل التي يكون المسند فيها فعلاً متقدماً. فهل هذا تيسير أم تعقيد؟

هذه أمثلة مما أدركوه من وجوه النقص في تقسيمهمِ. وبقي كثير مما لم يدركوه، مما أشير إليه ولا أحصيه في مثل (والقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنَازِلَ) الذي ينتصب فيه (القمر) مع أنه ليس اسمًا لإِن أو إحدى أخواتها، الذي زعموه استثناءاً وحيداً من رفع المسند إليه. وبقي أن نسأل أصحاب التيسير: كيف يصنع الناس بكتب التفسير والحديث والفقه وشروح دواوين الشعر التي تمتلىء صفحاتها باصطلاحات النحو المتداولة التي حكموا عليها بالإِعدام، والتي لا تستغني عنها هذه الكتب حين تَعْرِض لتوضيح المعنى أو بيان الفرق ما بين قراءة وقراءة - ورواية ورواية؟ وبقي أن نسألهم أيضاً: هل استشرتم العرب جميعاً فيما صنعتموه؟ بل هل استشرتم المسلمين الذين لا يستغنى فقهاؤهم عن تلك الكتب التي لا تِستعمل غير اصطلاحات النحو الذي يريدون أن يلحقوه بكل ما يريدون إعدامه والقضاءَ عليه من (قديم)؟ أم أنهم لا يعرفون أن هذه اللغة ليست مِلْكاً لطه حسين وإبراهيم مصطفى، والقوصي ومن شايعهم ممن يخافهم أو يرجوهم أو يُضله شيطانهم. بل هي ليست مِلْكاً للمصريين وحدهم. بل هي ليست مِلْكاً للعرب وحدهم ولا للمسلمين وحدهم من أهل هذا الجيل. وإنما هي أمانة يتحتم علينا أن نحفظها للأجيال من بعدنا كما تلقيناها عمن قبلنا. أقول هذا وأنا أعلم ما سيرُدُّ هذا النفر به عليَّ. سيقولون: كلما حدثناكم في شىِء أقحمتم فيه الإِسلام وقلتم القرآن القرآن، لا حجة لكم إلَّا هذا ولا تعِلّة لكم سواه! ونحن نقول: نعم. القرآن والإِسلام في تقديركم شيء هين يسير وهو في تقديرنا كبير خطير. ونحن لا نبالي شيئاً مما تزينونه وتزخرفونه إذا أبعدنا عن القرآن والإِسلام. فإِن كان القرآن والإِسلام عندكم لوناً من الألوان، وواحداً من اعتبارات كثار فهو عندنا كل شيء، به نحيا وعليه نموت. ذلك بأن الحياة عندكم نعيم وزخرف ومتاع ثم لا شيء بعد ذلك إلًا الفناء، فلا قيمة عندكم لشيء لايتحول إلى لذة أو شهوة أو أرقام. أما نحن فالحياة عندنا مَعْبَرٌ للآخرة وطريق إليها، ومن أجل ذلك نبني فيها ونعمل ونكافح ونجاهد. لذلك كان الأدب عندكم لهواً ومتاعاً، وخرافات وأوهاماً، لذةً للشذَّاذ والفارغين، وكان عندنا أسمى من ذلك وظيفةً وأعزَّ مكاناً. ومع ذلك كله فالقرآن والإِسلام هو سبيلنا إلى العزة في الدنيا التي تطلبونها ولا ترون سواها, لأن الذي يفقدهما يفقد الضمير

ومراقبة النفس ومحاسبنها في الصغير والكبير، ويفقد الدافع القوي الصادق إلى العمل المثمر النافع، ويفقد الحصانة والمناعة التي تجعله يتماسك ولا ينهار أمام الشهوات والمغريات. ومن فقد ذلك كله فقد الدنيا, لأنه لا يُترَك للهوه ولعبه كما كان يظنه ويشتهيه، بل يسلِّط الله عليه من يستعبده ويُشقيه، فيصبح عبداً رقيقاً في مزارع السيد الجديد، يزرع لغيره بعد أن كان يزرع لنفسه، خسر الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين. بقي كذلك أن نقول لأصحاب التيسير المزعوم: إن ما أطلقتموه من أسماء لما توهمتموه من أقسام لا تصبح (اصطلاحاً) حتى يجتمع عليها الناس. وقد عرفتم رأي العرب فيها، سمعتموه في مؤتمر مجامع اللغة العربية الأول في دمشق سنة 1376 هـ. وسمعتموه من قبل ذلك ومن بعده. ومع ذلك كله فقد يبدو لي أن أصحاب التيسير كانوا يضعون أمام أعينهم التقسيم الغربي في نحو بعض اللغات الأوروبية الذي يقسم الجملة إلى (Subject) و (Predicate) والدليل على ذلك أن أصحاب التيسير آثروا استعمال (تكملة) وهي الترجمة الحرفية لكلمة (Complement) على اصطلاح البلاغيين المشهور وهو (فَضْلة). والدليل عليه أيضاً أنهم قد نظروا في تقسيم الفعل الجديد إلى النحو الأوروبي حين قسَّموه إلى ماضي وحاضر ومستقبل، وحذفوا (الأمر) فجعلوه صيغة مستقلة سموها صيغة الطلب، جمعوا فيها بينه وبين النهى، لكي يطابقوا ما يطلق عليه في النحو الإِنجليزي (Imperative mood). ومَثَلٌ ثالث لهذا التقليد الجَهول نجده فيما اختاره هؤلاء الهدامون من جمع بعض الأبواب مثل (الإِغراء والتحذير) و (الاختصاص) تحت قسم من النحو سموه الأساليب، ليطابقوا بهذا الصنيع تقسيم النحو الإِنجليزي إلى (Grammar) و (Syntax). وفات هؤلاء القرود أن اللغات الأوروبية التي نقلوا عنها هذا التقسيم كالإِنجليزية لا تحتاج لعلم يقابل علم النحو عندنا لأنها غير معربة. أما المعرب من لغاتهم مثل الألمانية ومثل (الفعل) في الفرنسية فهو لا يزال يحتاج في ضبطه إلى قواعد تفوق قواعد النحو العربي في أقسامها وفروعها. ومن شاء فليرجع إلى أي كتاب إبتدائي في الألمانية ليرى إلى كم مجموعة يقسمون الأسماء، وليرى ما يطرأ على كل مجموعة من تغير وإضافة في حالات الإِعراب المختلفة التي تبلغ ثماني حالات إفراداً وجمعاً، مما

يختلف في كل مجموعة عنه في المجموعة الأخرى، وليرى كذلك أن علامات التعريف التي تقابل (ال) في عربيتنا تتبع الاسم الذي تلحقه في إعرابه، وتختلف مع ذلك باختلاف نوعه بين مذكر ومؤنث وجماد، مما لا سبيل إلى تمييز بعضه من بعض بغير السماع، وليرى أن الاسم النكرة تسبقه أيضاً أداة تخضع لكل هذه التقلبات السابقة، وهي أداة لا وجود لها في عربيتنا، إلى آخر ما هنالك مما أكتفي بالإِشارة إليه ولا أُحصيه. ولست أظن أن طه حسين قد غفل عن شيء من ذلك، أو هو على الأقل لم يغفل عما يقابل ما قدمتُه من أمثلة في الفعل الفرنسي، حين قدَّم تقريره المشهور إلى وزير المعارف سنة 1935 م، فألقاه الوزير في سلة المهملات، وطلب منه ألَّا يعيد الحديث فيه حين حاول أن يفاتحه فيه مَرَّةً من المرات، وذلك حسب رواية طه حسين نفسه. ولا بأس من أن أنقل فقرة من ذلك التقرير، ليعرف القارئ من أين جاء (التيسير). زعم طه حسين في تقريره ذاك أن: "الناس مجمعون على أن تعلم اللغة العربية وآدابها في حاجة شديدة إلى الإِصلاح". ورد نفور الطلبة من الدراسات العربية إلى "أن اللغة العربية وما يتصل بها من العلوم والفنون ما زال قديماً في جوهره بأدق معاني هذه الكلمة. فالنحو والصرف والأدب تُعلَّم الآن كما كانت تُعلَّم منذ ألف سنة .. ولست أزعم أن الأمر يقضي بإِحداث ثورة عنيفة على القديم، وتغيير العلوم اللغوية والأدبية فجأة وفي شيء يشبه الطفرة، وإنما أزعم أن قد آن الوقت الذي يجب فيه أن نؤمن بأن العلوم اللسانية، كغيرها من العلوم، يجب أن تتطور وتنمو وتلائم عقول المعلمين والمتعلمين وبيئتهم التي يعيشون فيها وحاجاتهم التي يُدفَعون إليها، ومتى آمنا بذلك فإِن التطور سيأتي وسيتحقق شيئاً فشيئاً، ولكن لا بد أن تمهَّد له الطريق. وهنا يظهر السبب الثاني الذي أشرت إليه آنفاً، وهو أن معلم اللغة العربية الذي يستطيِع أن ينهض بتعليمها كما ينبغي لم يوجد بعد، فإِن القديم لا ينتج إلَّا قديماً مثله ما دام التطور لم يمسَّه- الفقرة 42 من كتاب "مستقبل الثقافة في مصر" ص 288 - 289 من طبعة العارف سنة 1944". ولم يمض على هذا التقرير الذي أسقطه الوزير يومذاك وأهمله سوى

سنتين حتى صدر كتاب في النحو نسّقه إبراهيم مصطفى على ما تخيله طه حسين في تقريره ذاك، وقدَّم له طه حسين نفسه واقترح له اسمًا ضخمًا عريضاً فيه كثير من التبجح والادعاء، فسمَّاه (إحياء النحو). والمقول بأنه إحياء النحو هو الحلقة الثانية في سلسلة تيسير النحو، وهو الصورة التنفيذية لمذكرة طه حسين. ولعل القارئ لا ينسى ما تحدثت به المذكرة من أن هذه الخطوة الأولى ليست إلَّا تمهيداً لما يجيء بعدُ من التطور الذي "سيأتي وسيتحقق شيئاً فشيئاً". فهي صريحة فصيحة في الكشف عن نية صاحبها وعن أسلوبه في استدراج الناس، والبدءِ بالهين اليسير الذي لا يفاجئهم، ليتدرج منه إلى الخطير. إنه لا يسقيهم السم الزعاف القاتل لساعته لأنه يلفت الأنظار ويثير الشكوك، ولكنه يسقيهم سمًا بطيئاً يصل به إلى غرضه دون أن يكشف عن الجريمة. فليعرف الناس إذن أن (تيسير النحو) ليس هو منتهى ما يريدون ولكنه أول طريقٍ طويل يدفعون الناس فيه إلى قرار سحيق. ومن أعجب العجب أن مؤلفي (تيسير النحو) رتَّبوا هذا الذي يزعمونه (تجديداً) على الثورة، فقالوا في مقدمة الكتاب " ... إلى أن جاءت الثورة المصرية سنة 1952 ومعها العزم الصادق على الِإصلاح، والرأي الماضي على تذليل الصعاب فهُيِّءَ السبيل للتنفيذ". فلما شأن الثورة والعلم، وطبيعةُ العلم المحافظة والاتزان، وهو أبعد شيء عن الثورة، بل إن الثورة تفسده؟ فهل هذا إلَّا ملق سخيف رخيص!؟ وهل جاءت الثورة للهدم أم للبناء؟ وهل جاءت لتُعِز تراث العرب وتدعمه أم جاءت لتمحوه وتَعفي عليه؟ ألا ترى أن هذا هو نفسه ما تحدثتُ عنه في مقال سابق حين قلت: إن أصحاب هذه الدعوات يعرفون أن الثورات هي أكثر الظروف ملاءمة لبث سمومهم، إذ يلبسون ثياب الناصحين، ويندسون في غمار الثائرين الذين يريدون أن يستبدلوا بأسباب الضعف والفساد أسباباً للحياة والقوة والبناء، كما يندس المخربون والمأجورون من عملاء العدو وسط جموع المظاهرات، يحطمون المصابيح ويحرقون المنشآت، فيقلدهم غيرهم في صنيعهم دون تمييز بين ما يصلح تحطيمه وما يضر تحطيمه، يخربون بيوتهم بأيديهم ويحسبون أنهم يطهرونها وأنهم يصلحون!

ذلك هو ما يفعله أحد شِقَّي المقراض فيما يمارَس مع النشء من المتعلمين. أما الكلام عن شق المقراض الآخر الذي يتناول إعداد مدرس اللغة العربية ومدرس الدين فذلك ما أرجئه إلى حديثي المقبل إن شاء الله؟

في الجامعة

- 2 - في الجامعة* حين كان شِقُّ اِلمقْراض يعمل عمله على هذا النحو في أوساط الناشئة والمتعلمين، كان الشق الآخر يمارِس ذلك العمل نفسه في إعداد معلم اللغة العربية ومعلم الدين. والواقع أن المحاولات المبذولة في أوساط المعلمين أسبق من نظيرتها المبذولة في أوساط النشء والمتعلمين. فمن الممكن إرجاعها إلى إنشاء كلية الاداب، بل إن من الممكن إرجاعَها إلى إنشاء "دار العلوم". ولقد عرف ذلك حق المعرفة أحدُ أبناء هذه الدار حين قال: (ثم جاء حمزة فتح الله وحفني ناصف والإِسكندري والعناني والجارم وضيف من رجال دار العلوم، فألفوا في الأدب والعلوم العربية مع الاقتباس من مناهج الغرب في نظام التأليف. ويعتبر هؤلاء رجال المرحلة الوسطى التي مهدت لمرحلة الجامعة ورجالها) (¬1). ومع ما أعلمه من أن بيان هذا الإِجمال شديد الصلة بموضوعنا فإِني أخشى أن يتشعب بنا الحديث ويطول حتى ينسينا ما نحن فيه. لذلك أدع تفصيل هذا الِإجمال لموضع آخر قد أعود للحديث عنه مع غيره من الخطط والأساليب التي استهدف بها الإِنجليز إضعاف (الأزهر) , لأنه كان يصبغ التعليم بالصبغهَ الإِسلامية في مصر، بل في البلاد الإِسلامية بعامة والعربية بخاصة، وذلك بمحاصرته وعزله عن الحياة وسد أبواب الرزق أمام المتخرجين فيه وحصرها في باب واحد هو خدمة المساجد. ¬

_ (*) نشرت في عدد جمادي الآخرة سنة 1378 من مجلة الأزهر. (¬1) الثقافة الإِسلامة والحياة المعاصرة ص 542 من مقال مُحَمَّدْ خلف الله عن "القيم الإِسلامية والحياة الأدبية في مصر الحديثة".

فلندع إذن ذلك الحديث الطويل لفرصة أُخرى، ولأكتف هنا بأن أبدأ بكتاب "مستقبل الثقافة في مصر" الذي كتبه طه حسين في أعقاب معاهدة 1936، والذي أصبح مكانه من كل حركات الهدم التي يسمونها إصلاحاً مثلَ مكان الدستور من القوانين. ولأكتف من هذا الكتاب في هذا المقام بفقرة واحدة منه هي الفقرة التاسعة والأربعون، التي أشار فيها إلى لونين من ألوان الدراسة اقترح إنشاءهما في كلية الآداب، وسعى عند المسؤولين في وضع اقتراحه موضع التنفيذ، فلم يحالفه النجاح في أيهِّما. أما أحد المشروعين فهو يدعو إلى إنشاء معهد للأصوات لدراسة اللهجات قديمها وحديثها. وقد عارض وكيل المالية الذي كان ممثلاً للدولة في مجلس الجامعة وقتذاك في منحه ما يحتاج إليه من مال, لأنه لم يستطع - على رواية المؤلف - أن يفهم قيمة هذا المعهد وحاجة المتعلمين إليه. أما المشروع الآخر فقد كان يدعو إلى إنشاء معهد للدراسات الإِسلامية يلحق بكلية الآداب. ومهمة هذا المعهد كما تصورها طه حسين هي العناية بالدراسات الإِسلامية (على نحو علمي صحيح). والمبرر لإِنشائه عنده هو أن (كلية الآداب متصلة بالحياة العلمية الأوروبية. وهي تعرف جهود المستشرقين في الدراسات الإِسلامية. ومن الحق عليها أن تأخذ بنصيبها في هذه الدراسات لتلائم بين جهود مصر التي ترى لنفسها زعامة البلاد الإِسلامية وبين جهود الأمم الأوربية). ومضى على هذين المشروعين الفاشلين زمن طويل حتى كاد الناس ينسون ما كان من أمرهما وأمر صاحبهما. ودارت الأيام دورتها فإِذا المشروعان يظهران من جديد، ينجح أحدهما في اتخاذ طريقه إلى التنفيذ بإِنشاء شعبة في قسم اللغة العربية بجامعة الإِسكندرية تدعى (شعبة الدراسات العربية الحديثة)، وهي شعبة لا تزال - لحسن الحظ - حبراً على ورق منذ أنشئت في سنة 1955 (*). وما أظن أن الطريق أمامها ميسَّر في واقعنا العربي الراهن. أما المشروع الآخر فقد عاد للظهور في صورة اقتراح مقدم من أحد أعضاء ¬

_ (*) ألغيت هذه الشعبة من بعد في سنة 1958 م، قبل أن توضع موضع التنفيذ. وكان قد صدر بها مرسوم جمهوري، ونشرتها الجامعة في تقويم كلية الآداب للعام الجامعي 1955 - 1956.

لجنة التربية الدينية بوزارة التربية والتعليم. وكما كان صاحب الاقتراحين القديمين شخصاً واحداً هو طه حسين، فقد كان صاحب الاقتراحين الجديدين شخصاً واحداً أيضاً هو مُحَمَّدْ خلف الله. وقد اقترن المشروعان الجديدان بظروف وملابسات تدعو إلى التدبر والتأمل. بدأت فكرة هذين المشروعين في مؤتمر للثقافة الإِسلامية عقد في صيف سنة 1953 بدعوة من جامعة برنستون الأمريكية ودُعي إليه مندوبون من مختلف البلاد الإِسلامية بين أندونيسيا شرقاً والمغرب العربي غرباً واشترك معهم عدد مساو من الأمريكيين، بعضهم من رجال وزارة الخارجية وبعضهم من المبشرين الذين يسترون أهدافهم الهدامة تحت اسم البحث العلمي، وفريق ثالث من موظفي شركات البترول. أما مشروع (إنشاء قسم أو شعبة للدراسات الإِسلامية في كل كليةٍ للآداب بالجامعات المصرية) (¬1) فقد بناه صاحبه على أن الركن الأكبر في نجاح التربية الدينية (هو المعلم الذي ينبغي أن يعاد النظر في تكوينه وإعداده، وأن يرسم لذلك منهج جديد يحقق له عمق الثقافة وحرية الفكر- ص 164). وبناه كذلك على (أن قيام مصر بنصيبها في تقدم الإِنسانية وفي حل مشكلات الحياة المعاصرة يتطلب من المصريين تعمقاً في دراسة دينهم، وتَبيُّن موقفِه من مختلف المذاهب والاتجاهات التي يجيء بها التطور الاجتماعي والفكري - ص 165). واقترح فيما اقترحه من الدراسات في هذا القسم دراسة "سيكولوجية الدين" و"التاريخ الديني والفكري للبشرية قبل الإِسلام" و"ما كان لمصر وعلمائها بين الأمم الإِسلامية من آثار علمية خالدة" و"النظم الدينية والأخلاقية المقارنة". فالدراسة المقترحة تقوم على أساسين، أولهما استبعاد الأزهر من القيام ¬

_ (¬1) نشر هذا الاقتراح في مجلة "الأسرة" التي يصدرها قسم اللغة العربية بجامعة الاسكندرية في العدد 6 سنة 1957 (ص 160 - 165). وفي آخره إشارة إلى أن صاحب هذا الاقتراح قدم معه مذكرة تفسيرية مفصلة عن مواد الدراسة وعدد الدروس في كل مادة بالنسبة لكل سنة من سنين الدراسة في هذا القسم. ولم يتيسر لي الإِطلاع عام هذه المذكرة.

بوظيفة تعليم الدين لأن مناهجه لا تحقق للدارسين فيه (عمق الثقافة وحرية الفكر)، وثانيهما هو الصبغة المصرية التي تبرز في الإِشارة إلى مهمة مصر القيادية في حل مشكلات الحياة المعاصرة ومسايرة التطور الاجتماعي - وهو تطور غربي بالبداهة - كما تبرز في إمداد الدارس بما يقوِّي فيه الاعتزاز بفقهاء الإِسلام وعلمائه من المصريين بخاصة، مما يوجد لوناً من الشعوبية الإِسلامية يشبه الشعوبية السياسية. والصلة واضحة بين هذا المشروع وبين مشروع طه حسين من ناحية، وبينه وبين ما أُلقي في مؤتمر الثقافة الإِسلامية السالف ذكره من ناحية أُخرى. فهو قريب الصلة بما جاء - في كلام الإِسماعيلي الهندي المتجَلْنِز آصف علي فيظي عن الإِسلام الهندي الحديث المتأثر بالمذاهب الغربية، والذي أنشئت جامعة عليكرة "الكلية المحمدية الإِنجليزية" لنشره وترويجه (ص 81 - 82 من كتاب "الثقافة الإِسلامية والحياة المعاصرة" نشر فرنكلين 1956)، كما يذكِّرنا بما زعمه من أن التصور الأساسي (لا تمكن الحافظة عليه سليمًا إلَّا بإِعادة تفسيره وإعادة تقريره في كل عصر وفي كل مرحلة من المدنية)، وبدعوته إلى الاستفادة من الدراسات الحديثة في علم النفس ومن الفكر الأوروبي والفكر البروتستنتي والتفكير المدرسي المسيحي والتفكير اليهودي (ص 411) (*). ولعل له صلة مع ذلك كله بمقررات "اللجنة الدائمة للتعاون الإِسلامي المسيحي" التي شارك صاحب الاقتراح في اجتماعيها في بحمدون سنة 1954 وفي الاسكندرية سنة 1955. أما ما جاء في المشروع عما سمّاه صاحبه "سيكولوجية الدين" فهو شديد الشبه بكلام القسيس الأمريكي ميلر بروز في دعاواه الهدَّامة التي طالب فيها بوضع (تجربة الدين) و (تجربة النبوة) والمعجزات والصلاة والحياة الآخرة موضع البحث وإخضاعها لقواعد علم النفس الحديث ص 43 - 49). وهو من ناحية أُخرى استجابة لدعوة القسيس الأمريكي الآخر هارولد سميث الذي قال "إن وجهتي في هذا القال هي أن أستعرض بعض الاتجاهات الحديثة، وأن أقترح طرقاً لدراسة النظرية ¬

_ (*) راجع المقال المكتوب عن "الثقافة الإِسلامية والحياة المعاصرة" في الطبعة الثالثة من كتابنا (الإِسلام والحضارة الغربية).

الإِسلامية المهمة في الإِنسان ... ولا شك أن القيام بهذه الدراسة على وجهها أمر متروك لعلماء المسلمين أنفسهم - ص 59". وغيرُ خافٍ ما تنطوي عليه (سيكولوجية الدين) من مفاهيم. أولها وأبرزها أن الدين ظاهرة نفسية ليس لها وجود خارجي حقيقي, لأن من المعروف أن هذه (السيكولوجية) تردُّ كل التصرفات إلى مصدر مجهول في أعماق النفس البشرية يسمونه (العقل الباطن). ولا أدري ولا يدري أحد أين هو على وجه التحديد، ولكنه في داخل الإِنسان على كل حال وليس خارجَه، ليس وحياً وليس تنزيلاً. يقول المبشر ميلَر بْروز صاحب الاقتراح الأصيل إن (تجربة النبوة) يمكن "أن تلاحظ وتدرس بنفس الطريقة، وإلى نفس الدرجة التي يمكن بها ملاحظة التأثيرات الذوقية والوجدانية ودراستها - ص 43". ويقول "ويستطيع العالم أن يشير إلى أن التجارب الدينية - منظوراً إليها في ضوء الظواهر السيكولوجية - لا يمكن تمييزها من أوهام الحس - ص 44". ويقول "إنه ليس للدين أن يتوقع أن معتقداته ستؤخذ قضايا مسلَّمة، على أساس أنها جاءت من طريق الوحي، وأن وراءها سلطة التقاليد القديمة ... أما العلم فإِنه يرى في روح البحث الحر جوهر الحياة. وإذا كان الدين يريد أن يضمن احترام العلماء فعليه أن يُظهِر استعداده لعرض قضاياه لضوء العقل، غيرمُحْتمٍ بسلطة إلَّا سلطة الحقيقة نفسها - ص 45" (¬1). ولعل ذلك كله هو ما قصد إليه مُحَمَّدْ خلف الله في مذكرته من (عمق الثقافة وحرية الفكر). تلك هي قصة أحد المشروعين. أما المشروع الآخر فهو متصل بمناهج جديدة للدراسة في قسم اللغة العربية بجامعة الإِسكندرية. وهو قسم ¬

_ (¬1) الرد على كل هذه الدعاوى سهل يسير. وهو يتلخص في أن العلم البشري لا يصلح لأن يكون فيصلاً إلَّا في شؤون المادة المحسوسة التي يجُري عليها تجاربه، بل في بعض شوون هذه المادة مما تيسَّر له الكشف عنه. أما ما وراء المادة من الغيب الذي لا يحصيه إلَّا الله سبحانه وتعالى، فالعلم عاجز عن إبداء رأي فيه. وكل ما يقال في التشكيك فيما جاء به الدين ليس إلَّا ظنوناً لا تتجاوز مرتبة (الفروض العلمية). وذلك هو قول الله تبارك وتعالى فيما أنزل على نبيه "وما يتبع أكثرهم إلَّا ظناً. إن الظن لا يغني من الحق شيئاً" وقوله سبحانه وتعالى: "بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله".

لا يشتغل المتخرجون فيه بغير تعليم اللغة العربية في بلاد العرب كما هو معروف. فلننظر: هل تُعِدُّ هذه الدراسة ببرامجها الجديدة للقيام بهذه المهمة؟ تقوم هذه البرامج - كما هو واضح من جداول الدراسة المذكورة في تقويم كلية الآداب بجامعة الاسكندرية للعام الدراسي 1955 - 1956 (ص 85 - 86)، ومن المذكرة التفسيرية الخاصة بها (ص 95 - 97) على تفرقةٍ أساسية بين مرحلتين من مراحل الأدب العربي ودراساته. فالمرحلة الأولى تشمل الأدب العربي والدراسات المتصلة به منذ عرفه التاريخ إلى بداية القرن التاسع عشر الميلادي. أما المرحلة الثانية فهي تقتصر على ما يلي ذلك باعتباره مرحلة مستقلة تختلف موادها وأسلوب الدراسة فيها وأهدافها عن المرحلة السابقة. فالمنهج يسمي المرحلة الأولى (الدراسات العربية في مرحلتها الكلاسيكية) تارة، ويسميها (الدراسات العربية القديمة) تارة أخرى (ص 95 من تقويم كلية الآداب السابق ذكره)، بينما يعرِّف المرحلة الثانية ويصفها بقوله: (الآداب العربية في نهضتها الحديثة منذ القرن التاسع عشر، وما كان للفكر العربي من اتصال وتأثر بالثقافة الغربية). وقبل أن يبدأ الطالب تخصصه في إحدى هاتين المرحلتين يدرس في سنتيه الأولى والثانية دراسة عامة يتعرف فيها (أركان الدراسات العربية في مرحلتها الكلاسيكية) كما تقول المذكرة التفسيرية (ص 95)، ثم يخُيرَّ بعدها بين متابعة الدراسة في (شعبة الدراسات العربية والشرقية القديمة) أو متابعتها في (شعبة الدراسات العربية الحديثة). ولأدع الشعبة الأولى، على ما يشوب دراستها من نقص، وما تنطوي عليه من انحراف تُصوِّره جداول الدراسة الغارقة في مواد أجنبية تطغى على علوم العربية الأصيلة وتضيِّق عليها المجال. ويكفي أن أقدم مثالاً واحداً لذلك في درس الأدب العربي الذي لا يتجاوز ساعتين كل أسبوع، بينما يشغل درس اللغة العبرية وآدابها، أو السريانية وآدابها ثلاث ساعات أسبوعية من وقت الطالب في كل من السنتين الثالثة والرابعة. ومن شاء المزيد من الأمثلة فليرجع إلى المذكرة التفسيرية (ص 96) ليرى ما تتضمنه محاضرات "الدراسات الإِسلامية) و (النقد والبلاغة) من مفاهيم منحرفة تبدد الوقت الضئيل المحدد لها في قشور تبعدها عن طبيعتها الإِسلامية والعربية ولا تصل إلى أعماق المادة

ولبها. ومن شاء المزيد من الوضوح فليرجع إلى ما بين أيدي الطلاب من مذكرات ليعرف مبلغ ما يحصِّلونه ونوعَه. أقول إني لا أريد أن يتشعب بي الكلام في هذه الشعبة (القديمة)، وأريد أن أحصر كلامي في الشعبة الأخرى (الحديثة) لأن البلية بها أكبر. فهي تُسقط من حسابها كل العلوم العربية نحوها وصرفها وبلاغتها ونصوصها الفصحى شعراً ونثراً، كأن ذلك كله ليس له وجود وليس له آثار، وليست لنا به حاجة منذ القرن التاسع عشر الذي حصرت الشعبة دراساتها فيه وفيما يليه، كما تشير إليه المذكرة التفسيرية. وأكتفي في هذا الموضع بأن أنبه القارئ إلى ما ذكرته من أمر المناهج التي تريد أن تفصل حاضرنا ومستقبلنا عن ماضينا، لأستأنف إكمال الصورة التي نحن في صددها بنقل ما جاء في المذكرة التفسيرية عن مواد الدراسة في هذه الشعبة بسنتيها: في السنة الثالثة: 1 - تاريخ النهضة العربية الحديثة في القرن التاسع عشر. 2 - الأدب العربي الحديث في مصر والبلاد العربية. 3 - تاريخ النقد الأدبي الحديث، مع العناية بنواحي الاتصال بينه وبين لنقد الأدبي الأوربي. 4 - التطور اللغوي العريي في العصر الحديث، مع العناية بمشكلة الفصحى والعامية. 5 - تيارات الفكر الإِسلامي وحركات التجديد في العصر الحديث (¬1) 6 - المذاهب الكبرى في الآداب الغربية وتأثيرها في الفكر العربي. في السنة الرابعة: 1 - الحياة الثقافية والاجتماعية في البلاد العربية وصلتها بالأدب. ¬

_ (¬1) ذكرت هذه المادة في جداول دراسة الشعبة الحديثة تحت اسم: "تطور الفكر الاسلامي في العصر الحديث"، وذلك في مقابل "دراسات إسلامية" في جداول الشعبة القديمة. فتأمل!

2 - مدارس الشعر العربي الحديث. 3 - مدارس القصة. 4 - فنون الأدب الشعبي. 5 - اللهجات العربية الحديثة. 6 - ويقوم الطالب بدراسات لغوية حديثة، مع العناية بالنحو المقارن والأصوات اللغوية. هذه هي مواد الدراسة في الشعبة (الحديثة)، منقولةً عن المذكرة التفسيرية الملحقة بالجداول حرفاً بحرف (ص 97 من تقويم الكلية السابق ذكره). وهي تخلو خلواً تاماً - كما ترى - من درس واحد في النحو أو الصرف أو البلاغة أو القرآن أو الدراسات الإِسلامية أو الأدب العربي السابق على الحملة الفرنسية. ويترتب على هذه الظاهرة الخطيرة أمران خطيران: أولهما عدم صلاحية التخرج في هذه الشعبة لتدريس اللغة العربية التي يجهل نحوها وصرفها وأدبها وبلاغتها. ليس هذا فحسب، بل إنه سيكون حرباً على العربية ومِعْول هدمٍ يعمل فيها, لأنه إذا سئل عن شيء مما يجهده غطى جهله بالتهكم بالعربية وقواعدها وأساليبها. وسيكون من آثار ذلك أن ينشأ جيل من الناس لا يقيم العربية ولا يتذوقها. فإِذا نعق ناعق من بَعْدُ بأن إعراب أواخر الكلمات لا داعي له، وبأن عربية القرون الأولى لغة ميتة لا وجود لها في الحياة، فسوف يجد هذا الناعق لصوته صدًى في عقول ذلك الجيل من الضحايا الذين ألقاهم سوء حظهم بين أيدي هؤلاء المعلمين. هذه واحدة، أما الأخرى فهي أن هذه البرامج تهدد الدراسات العربية التي يريد المنهج أن يسميها (كلاسيكية) , لأن بقاءها يصبح مرهوناً بأهواء الشباب، الذي قد تستهويه هذه البدعة، فينصرف عن دراسة لغة القرآن ولغة الآباء والأجداد ولغة العرب الجامعة لشتاتهم إلى هذه الدراسات، التي تحاول أن تربط حاضرنا ومستقبلنا الأدبي بالغرب، في الوقت الذي تقرن فيه تراثنا الأدبي الحيّ العريق بالآداب الساميَّة الميتة. آداب السريانية والعبرية. إذ تجعلها جميعاً في شعبة واحدة هي (شعبة الدراسات العربية والشرقية القديمة).

فإِذا تركنا برامج الشعبة (الحديثة) إلى السنتين التمهيديتين اللتين يشترك فيهما طلبة الشعبتين، وتزعم البرامج أنها تزوِّد الطالب فيهما بأركان الدراسات العربية (في مرحلتها الكلاسيكية)، وجدنا أن الدراسات العربية لا تظفر فيهما بأكثر من نصف الوقت المحدد للدراسة، وهو وقت قصير لا يتجاوز مجموعه أربع عشرة ساعة في الأسبوع، نصيب الدراسات العربية منها سبع ساعات أسبوعياً في السنة الأولى وتسع ساعات أسبوعياً في السنة الثانية. مع ملاحظة أن بعض هذه الساعات التي ضممتها في إحصائي إلى الدراسات العربية يمكن إسقاطها من الحساب, لأن مراجعة المذكرة التفسيرية تبين أن ما يدرس فيها ليس من صميم العلوم العربية، بل هو في بعض الأحيان بعيد عنها. فبين ساعات السنة الأولى السبع مثلاً ثلاث ساعات باسم (اللغة العربية) تنص المذكرة التفسيرية على أنها دروس عامة يشترك فيها طلبة قسم اللغة العربية مع طلبة الأقسام الأخرى في دراسةٍ سطحية تلائم غير المتخصصين. وبين ساعات السنة الثانية التسع ثلاث ساعات تحت اسم (دراسات لغوية) وضحت المذكرة التفسيرية ما يدرس فيها بقولها: "ويبدأ هنا كذلك دراسة علم اللغة العام (General Linguistics) في تطوراته الحديثة مع الإِلمام بالمناهج الحديثة في دراسة الظواهر اللغوية - ص 96". ذلك هو ما تتضمنه دراسة الطالب الذي تمنحه الدولة في نهاية هذه السنوات الأربع شهادة تسمى اليسانس اللغة العربية وآدابها)، تجعل لحاملها الحق في مباشرة تعليم اللغة العربية للناشئة من أشبال العرب. فهل ترى أن هذه الدراسة تُعِدّه للقيام بهذه الوظيفة وحمل هذه الأمانة؟ بقي بعد ذلك أن أعود لما بدأت به حديثي حين قلت إن فكرة هذه الشعبة (الحديثة) قد بدأت في بِرْنستون، فأشير إشارة موجزة إلى مرحلتين سبقتا هذه البرامج تصوران نشأة هذا التوجيه وتطوره. أما المرحلة الأولى فهي تتمثل في الكلمة التي ألقاها مقترح هذه البرامج في مؤتمر الثقافة الإِسلامية المعاصرة الذي انعقد بجامعة بِرْنستون الأمريكية في صيف 1953، وقد جاءت في كتاب (الثقافة الإِسلامية والحياة المعاصرة) تحت عنوان (القيم الإِسلامية والحياة الأدبية في مصر الحديثة) بين صفحتي 527، 549 وهي كلمة

لم يتضمنها نقدي لذلك الكتاب الذي نشر في عددي شعبان ورمضان سنة 1376 (*). ذكر مُحَمَّدْ خلف الله في مقاله ذاك حين عرض لذكر الدراسات النقدية في قسم اللغة العربية بالاسكندرية أنها قد "أثارت - فيما أثارته - معضلة لها نواحيها التطبيقية والتعليمية: تلك هي صلة علوم البلاغة العربية بالنقد الأدبي، وهل تلك العلوم دراسات لزمنٍ قد انقضى ويجب أن تخليِّ المكان للنقد الحديث - ص 544". ثم عرض في ذلك المقال لما سماه (مشكلات اللغة العربية)، فذكر منها "الصلة بين الفصحى والعامية، وأثر هذا الازدواج في إضعاف المجهود الفكري للأمة. وهل من المصلحة أن تعمَّم العامية بعد صقلها وترقيتها، أو يحدث تقارب بين اللغتين؟ وهل لطريقة الكتابة العربية التي تعبِّر عن مادةِ الكلمة لا صورتها أثر في صعوبة اللغة نفسها على متعلميها؟ وإذا كان، فكيف السبيل إلى إصلاحها؟ - ص 546". وقال بعد ذلك في صدد ما سماه مشكلة الخط العربي: "ويبدو من المحتمل أن يقبل الرأي العام اقتراحاً للإِصلاح يقوم على الاحتفاظ بالطريقة العربية في الكتابة مع إضافة أحرف جديدة للحركات القصيرة، تدخل بها الحركات في صلب الكلمة على نظام الكتابة الغربية - ص 547". ووصف هذه المعضلة الموهومة بأنها مشكلة عالمية (؟!) , لأن حلها في نظره "يهم العالم كله. ومن الخير أن يتولى بحثها مؤتمر إسلامي عام يشترك فيه الأخصائيون من علماء الغرب - ص 547". أما ما سماه (مشكلة العامية والفصحى) فقد وصفها تارة بأنها (ازدواج - ص 546) ووصفها تارة أخرى بأنها (ثنائية لغوية - ص 549). وزعم أنها ظاهرة لها مضارها في سير الفكر والتعبير - ص 549". وكان من مضارها عنده صعوبة الاتصال المباشر بين الغربيين وشعوب العربية (وذلك لَمِا اضطُّر إليه الغربيون من الاقتصار على تعلم الفصحى واستمداد أساليبها من الكتب - ص549). ومن عجيب أن يراقب صاحب المقال الغرب في كل مقاله حتى يجعل لهذه المراقبة اعتباراً في لغتنا التي هي أخص خصائصنا. ويحاول الكاتب في ختام مقاله أن يلقي ستاراً على رأيه الذي يبدو واضحاً في هذه المشاكل ¬

_ (*) راجع هذا النقد في الطبعة الثالثة من كتاب (الإِسلام، والحضارة الغربية).

المزعومة، فيقول إنه قد اقتنع منذ مدة "أن الوسيلة انوحيدة للبلاد العربية والإِسلامية هي الحرص على اللغة الفصيحة وتعميمها - ص 549". ولكن حقيقة أمره لا تلبث أن تتضح حين يتبين للقارىء أن اللغة الفصيحة التي يعنيها هي لغة أخرى معدَّلة متطورة في رسمها وفي مادتها، إذ يدعو إلى "استعمالها في شؤون الحياة والفكر، وإصلاح رسمها بما يسهل الاستعمال، وإغنائها بكثير من عناصر الحياة التي تفيض بها اللغة العامية، وإخضاعها لما لا يضيع خصائصها الجوهرية من أساليب التطور والتجديد - ص 549). فهذا المقال يصور مولد الفكرة في برنستون، وهو المرحلة الأولى في برامج قسم اللغة العربية. أما المرحلة الثانية التي توسطت بين نشأة الفكرة في صيف سنة 1953 وبين تنفيذها في البرامج الجديدة بقسم اللغة العربية في العام الدراسي (55 - 56) فهي مسجَّلة في مقال لمحمد خلف الله نشره في (مجلة اتحاد كلية الآداب) عن العام الدراسي (54 - 55)، وهو يصور اختمار الفكرة، وقد جاء هذا المقال تحت عنوان (ثقافة الاسكندرية الحديثة - ص12 إلى 14)، وفيه يقول بعد أن أشار إلى عناية جامعة؟ الإسكندرية بدراسة الفكر العربي الحديث: "وستشهد السنوات القليلة المقبلة مزيد عناية بهذه الدراسة وتوسعاً في ميادينها، حتى تشمل ظواهر التطور اللغوي والأدبي وتفرع اللهجات في وادي النيل والبلاد العربية. وسيزداد الاهتمام في هذه الدراسة بالجانب التجريبي من بحوث اللغة، فينشأ معمل لتسجيل الأصوات وقياسها - ص 14" (¬1). وقد قسم كاتب المقال الفكر الإِسلامي والعربي في ختام مقاله هذا إلى (فكر عربي وإسلامي كلاسيكي) و (فكر عربي حديث) ودعا إلى "المحاضرة عنه في المعاهد الأوربية والأمريكية التي تعنى الآن بدراسة هذا الفكر وتعرف اتجاهاته"، ولست أدري إن كان قد سأل نفسه حين كتب هذا الكلام، ما هو سبب هذه العناية الجديدة من جانب أمريكا بتعرف اتجاهات الفكر الإِسلامي الحديث ومحاولة توجيهه في اتجاهات معينة؟! ولأكتف من المقال بهذا القدر، ولأتجاوز عما جاء به من اقتراح إنشاء (معهد لدراسات البحر الأبيض) يصبح "كعبة للطلاب الغربيين الذين يفدون ¬

_ (¬1) وقد أنشىء هذا المعمل الذي ذكرت في صدر المقال أن طه حسين قد فشل في إنشائه.

من أوروبا وأمريكا", لأن لذلك المعهد المقترح قصةً أخرى غيرَ ما نحن فيه. ولأكتف هنا بأن أقول إن كل حديث عن رابطة البحر الأبيض وحضارة البحر الأبيض، وشعوب البحر الأبيض لا يراد به إلا صرف الناس عن رابطة العروبة ورابطة الإِسلام. وعند حكومة تونس الراهنة وحكومة لبنان الغابرة الخبر اليقين. وبعد، فلست أحب أن أختم مقالي هذا قبل أن أنبه القارئ إلى أن الخطر الذي تنطوي عليه كل هذه الاتجاهات المنحرفة خطر مزدوج. فهو يهدد بقطع ما بين العرب بعضهم والبعض الآخر فيتناكر المتعاصرون منهم، ثم إنه يهدد من ناحية أخرى بقطع ما بين العرب - جملة وأفراداً، في حاضرهم ومستقبلهم - وبين قديمهم، وبينهم وبين مصادر إسلامهم. والخطران كلاهما ماثلان في برامج هذه الشعبة الحديثة في الدراسات العربية والإِسلامية. وفي الوقت الذي أنشئت فيه هذه الدراسة في إحدى كليات الآداب كان أنيس فريحة المدرس بالجامعة الأمريكية في بيروت يلقي محاضرات في الدعوة إلى دراسة اللهجات السوقية وآدابها والدفاع عنها من فوق منبر جامعة الدول العربية (¬1). وكان مجمع اللغة العربية في القاهرة مشغولاً بدراسة هذه اللهجات. وكان دعاة العامية وأعداء العروبة يتجمعون وينشطون في الترويج لدعوتهم ويملأون بها الصحف مستغلين اسم الثورة على ما هو معهود من أساليبهم في التضليل وانتهاز الفرص، لابسين ثوب الشعبية والدفاع عن لغة الشعب. وكان بعض الأعضاء الذين شهدوا مؤتمر مجامع اللغة العربية الأول في دمشق يدعو إلى وضع معجم لغوي مستقل لكل إقليم عربي، وإلى تبديل قواعد اللغة العربية وتغيير رسمها وإملائها. وكانت هذه الاقتراحات في الوقت نفسه تتخذ طريقها إلى التنفيذ في كتب الطالعة والنحو التي يتداولها تلاميذ المرحلة الابتدائية والمرحلة الإِعدادية في مصر. أيُّ صدفةٍ عجيبة تلك التي ألَّفت بين هذه الجهود وأصدرت إليها أمراً بالزحف العام في وقت واحد؟ يا لها من صدفة حكيمة عاقلة!؟ ¬

_ (¬1) راجع "محاضرأت في اللهجات وأسلوب دراستها" لأنيس فريحة نشر معهد الدراسات العرببة العليا سنة 1955.

حول تطوير الدراسات اللغوية

- 3 - حَول تطوير الدرَاسَات اللغويَّة الدعوات المفسدة الهدامة كلها على اختلافها كالعداوة التي شبهها شاعرنا العربي القديم - الأخطل - بالجَرَب (يَكْمِنُ حِيناً ثم ينتشرُ). والدعوة إلى دراسة اللهجات العامية وما كتب فيها من الآثار والآداب مما يسمون (الأدب الشعبي) واحدة من هذه الدعوات التي تريد أن تهدم العربية الفصحى الجامعة لشمل العرب والمسلمين. والداعون إلى هذه الدعوة يتسللون إلى غرضهم في هذه الأيام من باب الدعوة إلى تطوير الدراسات اللغوية - والمقصود بها في العربية هو النحو والصرف - لكي تتمشى جمع المتقدم العلمي الحديث في الدراسات اللغوية عند الغرب. فيدعون إلى إدخال علم اللغة العام الذي يسميه الغربيون (General Linguistics) في برامج الدراسة في أقسام اللغة العربية بكليات الآداب وفي كلية دار العلوم وفي كلية اللغة العربية بالأزهر. كما يدعون إلى إدخال الدراسات الصوتية التي يسميها الغربيون (Phonetics) وهي فرع من دراسات علم اللغة العام عند الغربيين. واللغة في هذه الدراسات أصوات تؤدي وظيفة اجتماعية. وهي في عرفهم ما يتكلمه الناس بالفعل لا ما يجب أن يتكلموه. وهم من أجل ذلك لا يفرقون بين فصيح وعامي. والدراسات التي يشتمل عليها علم اللغة العام بكل فروعه. ومنها الدراسات الصوتية، دراسات ناشئة عند الغرب لم تستقر بعد، ومصطلحاتها الأساسية غير متفق عليها بين المشتغلين بها ولاتزال مفاهيم هذه المصطلحات ومعانيها مختلفة بين بلد وآخر. والمدارس الأوربية والأمريكية لا تزال قانعة باتباع النظم التقليدية في تعلم

اللغات، لا تُلقي بالاً إلى ما يقوله المشتغلون بهذه الدراسات وما يدعون إليه من مفاهيم وأساليب جديدة في دراسة اللغات. ولا تزال اللغة الأدبية الفصيحة عندهم هي الخصوصة بالدراسة، لا يلتفتون إلى ما يدعو إليه المشتغلون بعلم اللغة العام من التسوية بين اللغات واللهجات. يحاول علم اللغة أن يجد طرقاً لدراسة (اللغة) باعتبارها ظاهرة إنسانية عامة، تصلح لدراسة جغ الأشكال الكلامية التي تصطنعها الجماعات البشرية على اختلافها. وقد يكون لهذه المحاولة ما يبررها في اللغات الأوربية التي تشترك في طبيعتها اللغوية وتتقارب في ظروفها الاجتماعية، والتي تتغير معاجمها بين الحين والحين، فلا يمر قرن واحد على لغة من لغاتها دون أن يصيبها تغيير أساسي في كثير من مفرداتها وقواعدها. ولكن إقحام هذه الدراسة التي تنبع اهتماماتها وقواعدها من طبيعة اللغات الأوربية على لغة كالعربية، تختلف في طبيعتها وفي ظروفها التاريخية والاجتماعية اختلافاً أساسياً عن هذه اللغات، بِدْعٌ شاذ قليل الجدوى، بل هو إفساد مضر وقلب للأوضاع, لأنه يحاول أن يفرض قواعد نابعة من خارج اللغة العربية على طبيعتها اللغوية، بدل أن يستنبط من واقعها اللغوي وطبيعتها المستقرة قواعد تعين على فهمها وضبطها واستخدامها في التعبير. واللغة العربية - بحمد الله - غنية بهذه الدراسات عريقة فيها. وقياسها على اللغات الأوربية التي ليس لها مثل هذا التراث العريق الممعن في العراقة طولاً وعرضاً خطأ فادح لا يكون إلَّا عن جهل أو سوء قصد. وقد نجح أصحاب هذه الدعوات بوسائلهم المختلفة في إدخال دراسة ما يسمونه (الأدب الشعبي) في كل أقسام اللغة العربية بكليات الآداب (¬1)، وفي كلية دار العلوم وفي كلية اللغة العربية بالأزهر. بل نجحوا في إنشاء كرسي لأستاذية هذه المادة في قسم اللغة العربية بجامعة القاهرة. وأصبحت (دار العلوم) مركز الثقل في هذه الدعوة، بعد أن اجتمع فيها أكبر عدد من المتخصصين في هذه الدراسة، منذ بدأ إبراهيم مصطفى بإِيفاد مبعوثين من ¬

_ (¬1) كان قسم اللغة العربية في جامعة الإِسكندرية هو الإستثناء الوحيد الذي نجا من غزو هذه الدراسة إلى أن غادرته ببلوغ سن التقاعد سنة 1972 م.

المتخرجين إلى إنجلترا للتخصص في هذه الدراسات حين كان عميداً لدار العلوم. ومن سوء الحظ أن كثيراً من المتخرجين في هذا المعهد وفي المعاهد ذات الطابع الديني على وجه العموم، لضعف شخصياتهم وفقدانهم الاعتزاز بصفتهم العربية والإِسلامية، يحكم تصرفاتهم شعور عميق بالنقص يمكن أن نسميه "عقدة الخواجة"، فيبدون في تفكيرهم وفي تصرفاتهم وفي مبالغتهم في الإِشارة إلى المراجع الأجنبية والإِشادة بها والاستناد إليها والاستشهاد بها واستعمال مصطلحاتها كأنهم يريدون أن ينسلخوا من ماضيهم - الوضيع في وهمهم - انسلاخاً كاملاً، وأن يثبتوا لأنفسهم في دنيا المتفرنجين مكاناً أثبت من مكان الذين نشؤوا في هذا التفرنج. والذين يتصرفون على هذا النحو هم الذين ثاروا في أواخر العشرينيات وأوائل الثلاثينيات من هذا القرن على العمامة حين كانوا طلاباً في (دار العلوم) مطالبين بلبس (الطربوش). كانوا في ذلك الوقت يريدون أن ينسلخوا من صفتهم الدينية وأن يباعدوا بين أشخاصهم وبين كل ما يربطهم بهذه الصفة. كانوا يريدون أن يخلطوا أنفسهم بطلاب المدارس المدنية العلمانية وأن يقطعوا صلتهم بطلاب (الأزهر) الذي نشأ أكثرهم فيه في المرحلتين الابتدائية والثانوية. والذين سافروا من هؤلاء ومن خلفائهم في بعثات تعليمية إلى أوروبا - أكثرها إلى إنجلترا - عاد كثير منهم تصحبه زوجة أوربية. هؤلاء همِ الذين يتصدرون الدعوة إلى دراسة اللهجات العامية في هذه الأيام، تمشياً - في زعمهم - مع التطور الغربي الحديث للدراسات اللغوية، وهم بذلك يسيرون في آثار الذين يستخدمهم الاستعمار في هدم اللغة العربية كيداً للعرب وللمسلمين من حيث يشعرون ومن حيث لا يشعرون. تَكمِن هذه الدعوة وأشباهها من الدعوات الهدامة حين تصدمها المقاومة القوية وتجبرها على الاختفاء، ثم تظهر وتحاول الانتشار عند كل فرصة ملائمة. والفرصة الملائمهَ في هذه الأيام هي تطوير البرامج والمناهج الجامعية. والمقصود بالتطوير في الحقيقة هو اللحاق بالذين سبقونا بآماد بعيدة في ميادين الدراسات التي تتصل بالتقدم الصناعي بكل ما ترتب عليه من تفوق حربي واقتصادي. ينتهز أصحاب هذه الدعوة الفرصة عند كل اجتماع للتطوير

فيكررون الدعوة إلى تطوير دراسة النحو والصرف، وإقامتها على أساس دراسات الغربيين لعلم اللغة العام أو ما يسمونه (General Linguistics). وقد اجتمع القائمون على تدريس اللغات العربية والإِنجليزية والفرنسية في واحد من هذه المؤتمرات الجامعية التي تُعقد للتطوير، فسمعنا أعجب ما سمعه العرب على امتداد التاريخ في الدراسات اللغوية والأدبية. سمعنا كلاماً كثيراً في مهاجمة ما سموه الأساليب العتيقة في دراسة النحو والصرف، وفي الدعوة إلى توسيع دائرة الدراسات الأدبية لتخرج عما سموه (أدب القصور) أو (الأدب الرسمي) وتشمل ما زعموه (أدب الشعب). والمقصود به هو الحكايات والأسمار المكتوبة بغير العربية الفصيحة أو السليمة. وبلغ من حماقة بعض المناصرين لهذه الدعوة من أساتذة اللغة العربية وآدابها أن كشف الستار عن الهدف الحقيقي لهذه الدعوة، فصرح بأن اللهجة العامية أصلح للتعبير عن حاجات المجتمعات الحديثة وأكثر طواعية في الإِفصاح عن حاجاتنا العقلية والعاطفية لأنها لغة حية، بينما اللغة التي نسميها العربية الفصحى لغة ميتة. وشارك في مناصرة إلدعوة عدد من أعضاء هيئة التدريس في أقسام اللغات الأجنبية. وتندَّر بعضهم بمجمع اللغة العربية في مصر، فذكر - من باب السخرية بأعماله وإنتاجه - ما أطلقه على (الساندويتش) حين سماه (شاطر ومشطور وبينهما طازج). وحقيقة الأمر في ذلك أن المجمع سماه (شَطِيرة) وجمعها (شطائر). ولم يشفع لهذا المجمع عندهم أن أحد أعضائه كان يدعو في الأربعينيات من هذا القرن إلى الكتابة بالحروف اللاتينية (¬1). ولم يشفع له عندهم أن رئيساً سابقاً له دعا في فجر حياته إلى تمصير اللغة العربية (¬2). ولم يشفع له عندهم أنه قاد في المؤتمر الأول للمجامع اللغوية العربية في دمشق سنة 1956 دعوة إلى تطوير اللغة العربية ومزجها باللهجات العامية (¬3) هذا المجمع بكل ما ابتلى به من انحراف لم يبلغ عند هؤلاء الدعاة ¬

_ (¬1) المقصود هو عبد العزيز باشا فهمي. (¬2) المقصود هو لطفي باشا السيد. (¬3) لمن شاء المزيد أن يعود إلى الفصل الرابع في الجزء الثاني من كتابنا (الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر) وإلى الفصل التاسع من كتابنا (الإِسلام والحضارة الغربية) تحت عنوان (القومية العربية والأدب العربي).

مبلغ الرضى، وظل يمثل في تفكيرهم صورة الرجعية. وقد كان بعض أعضاء المجمع يشهد هذا الهجوم فلم يتكلف الرد على ما فيه من كذب وافتراء. وقد تقدمت في هذا المؤتمر بمذكرة في الرد على ما أثير فيه، وضعتها في صورة نقاط شديدة الِإيجاز. وفيما يلي نص هذه المذكرة: بسم الله الرحمن الرحيم مذكرة في الرد على اقتراح إدخال الدراسات الصوتية والأدب الشعبي في برامج أقسام اللغة العربية بكليات الآداب • اللغة العربية التي يحمل القسم المختص بدراساتها اسمها لها مدلول واضح محدد وهو: اللغة التي كتب بها العرب تراثهم ولا يزالون. فكل آداب مكتوبة بغير هذه اللغة ليس من شأن القسم أن يدرسها. وقد تكون من شأن أقسام أو معاهد أُخرى كأقسام الاجتماع أو معاهده, لأن قيمة هذه الآثار في مضمونها لا في لغتها أو أسلوبها. وقسم اللغة العربية لا يدرس من هذه المضامين إلَّا ما كتب بهذه اللغة. • كثرة كبيرة من الذين يتولون تدريس اللغة العربية في مراحل التعليم الإِعدادي والثانوي في مصر وفي البلاد العربية من المتخرجين في أقسام اللغة العربية. وهناك إجماع من المعنيين بشأن اللغة العربية من أساتذة الجامعة ومفتشي الوزارة على ضعف مستوى هؤلاء المدرسين. والمقصود بهذا الضعف هو النقص في قدرتهم على إقامة الإِعراب في النصوص العربية حين يقرءونها والعجز عن التعبير بلغة عربية سليمة يقوم فيها الإِعراب والنَّظْم (الأسلوب) والقياس اللغوي على نحو عربي سليم. وقد اجتمعنا هنا لنعالج فيما نعالجه هذا الضعف. فبماذا نريد أن نعالجه؟ من المعروف أن التمرس بالنصوص الصحيحة البليغة وإدمان قراءتها وطَرْقِها للآذان ودورانها على الألسن وحفظ طائفة صالحة منها هي من أول الوسائل وأهمها في تكوين الشاعر والناثر والناقد. وكثير من الشعراء والناثرين

كونوا أنفسهم بهذه الطريقة وحدها. ووضعُ نصوص لا تستقيم على قواعد العربية نحواً وصرفاً ونظمًا وأسلوباً بين يدي هذا الطالب الذي نُعِده لكي يكون مدرساً للغة العربية ليس علاجاً للضعف الذي نشكو منه، بل هو يزيده ضعفاً لا شك. لأن الذي يقرأ نصوصاً صحيحة عربية ونصوصاً غير صحيحة عربية وهو في طور التنشئة والتكوين يختلط عليه الأمر، فلا يميز بين الصحيح والسقيم من الأبنية والأساليب والمفردات. وما نسميه (الأدب الشعبي) هو في كثير من الأحيان آثار مكتوبة بلغة عربية ركيكة ملحونة وليس بلهجة عامية، مثل قصة ألف ليلة وقصة أبي زيد الهلالي وغيرهما. والقليل المعاصر منه هو المكتوب باللهجات العامية التي تختلف باختلاف البلاد، فلا تفهم في خارج محيطها. • قيل في المؤتمر كلام كثير لا يصح أن يقال في اجتماع لأساتذة متخصصين في تخريج مدرس اللغة العربية. فقد افتتح أستاذ للأدب العربي كلمته بأن اللغة العامية تسعفه في التعبير عن آرائه بأكثر مما تسعفه اللغة العربية، وهو كلام لا يصح أن يقال. فليس مفروضاً في أستاذ للأدب العربي بالجامعة أن يكون كذلك. ولو صح ما يقول لكان العيب فيه لا في اللغة العربية. وضربُ الأمثلة بمثل (شاطر ومشطور وبينهما طازج) على قصور اللغة العربية يدخل في باب النكت والطرائف، ولكنه لا يدخل في باب البحث الجاد, لأن اللغة التي نطالب بالحفاظ عليها وتدريس أدبها ونصوصها ليست هي لغة (شاطر ومشطور وبينهما طازج). و (شاطر ومشطور وبينهما طازج) ليست - إن صحت نسبتها لمجمع اللغة العربية، وما أظنها صحيحة - من عيوب اللغة العربية، ولكنها من عيوب مجمع اللغة العربية في مصر. وغيري من أعضاء هذا المؤتمر أحق وأولى بالدفاع عن مجمع اللغة العربية. على أن مجمع اللغة العربية ليس عليه من بأس، ولا على غيره من المجامع والمحافل والمؤسسات من حرج، في أن يقترحوا ما شاءوا من مسميات ومصطلحات لمواجهة متطلبات الحياة. يُقبل بعضها فيكتب له الذيوع والسيرورة، وتُعرِض الألسنة والأقلام والآذان عن بعض آخر فيموت حتى تظهر الكلمة الملائمة على لسان كاتب أو شاعر أو عالم أو مترجم. والكلمة

الأخيرة في هذه المسميات والصطلحات للذوق العربي العام وحده، الذي قبل السيارة والدراجة والإذاعة والشطائر (التي زعمها المشنعون بالمجمع شاطر ومشطور وبينهما طازج). وغيرها كثير. • قواعد كل لغة تنبع من واقعها ومن طبيعتها. واللغة العربية لها واقع خاص ربما كانت تنفرد به بين سائر اللغات. ولها طبيعة خاصة صُنِعت قواعدها لضبطها. وهذه القواعد صلحت منذ ألف عام أو يزيد لضبط ألسنة المتكلمين بالعربية والمؤلفين فيها من العرب والمسلمين، وهي لا تزال صالحة. وقيام تجارب حديثة خاصة عند الغربيين ليس مبرراً لنقلها إلى الدراسات اللغوية العربية. فهذه الدراسات الغربية تنبع من واقع اللغات الأوربية أو الأمريكية التي تختلف عن واقعنا كل الاختلاف. على أن هذه الدراسات لا تزال عند الغربيين في طور التكوين لم تستقر بعد، ولم يصل فيها أصحابها إلى اتفاق على الأصول أو المصطلحات كما هو واضح من عرض أحد المتخصصين (الدكتور محمود السعران) لتاريخ هذه الدراسة في كتابه (علم اللغة). بل هي غير مسلَّمة كذلك عند علماء القواعد اللغوية في الغرب. ومن العجيب أن بعض أقسام اللغة العربية قد أدخلت هذه الدراسة الغريبة الطارئة من خارج واقعها، في حين أن أقسام اللغات الأوربية لم تعرها التفاتاً مع أنها أولى بها، والدراسة أكثر أصالة فيها. • قيل بالأمس كلام كثير في بلاغة بعض الآثار العامية وجمالها، وفي تفوق العامية على الفصحى في قدرتها على التعبير. وهو كلام يبدو منه أن أصحابه لا يرون بأساً في استبدال العامية بالفصحى أو في مزاحمتها لها على الأقل. لذلك لا أكلف نفسي عناء الرد عليه, لأن من الواضح أننا لا نريد ذلك ولم نجتمع له. ولكن الذي يستحق المناقشة هو ما ذهب إليه أحد الزملاء من أن دراسة العامية يقصد بها تقريب الهوة بين الفصحى والعامية واختيار الصالح المطابق لأصول العربية من الكلمات العامية لِإدخاله في الفصحى من ناحية، ولتوحيد اللهجات العامية أو التقريب بينها من ناحية أُخرى. والذي أريد أن أبرزه هنا هو أن وجود العامية والفصحى ظاهرة لغوية عامة في كل لسان، وليس مشكلة يُسعى إلى حلها. فاللغة الفصحى لغة لها

صفة الثبات والاستقرار والقدرة على التعبير العلمي الدقيق والفني المؤثر الجميل. أما العامية فهي لهجة متطورة مختزلة وميسرة إلى أقصى حدود الاختزال والتيسير لتفي بحاجات التفاهم السريع الذي لا يبالي بالدقة العلمية أو الجمال الفني. ثم إن التقاط الألفاظ الصالحة من العامية ليس من عمل أقسام اللغة العربية، ولكنه من عمل الكتّاب والمترجمين والمجامع والمحافل المعنية بهذا الشأن. ووسيلته هي أن تمارس العربية الفصحى في كل المجالات الاجتماعية والعلمية. وعلى طول الممارسة سوف تظهر كلمات وكلمات، وعبارات وعبارات، يبقى منها الصالح المستقيم ويموت الفاسد المعوج. والمهم في الأمر كله هو أن يظل الذوق العربي صحيحاً غير سقيم، صريحاً غير مشوب، لكي يختار عن بصيرة. والذوق العربي السليم هو الذي ينشأ أصحابه على نصوص عربية سليمة صحيحة. ثم إن بقاء اللغة العربية الفصحى حية مأنوسة هو الضمان الوحيد لتقريب ما بين هذه اللهجات العربية المختلفة, لأن هذه اللغة الواحدة المشتركة المستعملة في الصحف وفي الإِذاعات وفي المدارس وفي الدواوين وفي المحافل تشد إليها هذه اللهجات، ولا تسمح لها بأن تشرد وتذهب بعيداً وتتشعب بَدَداً. أما ما قيل عن اهتمام القدماء بتصحيح خطأ العوام فمن الواضح أنه ليس من دراسة العامية في شيء. ونحن لا نزال نفعله بوصفه تقويماً للألسنة المعوجة، لا بوصفه اهتماماً بآثار الألسنة المعوجة. • اللغة العربية ليست ملكاً للمجتمعين في هذا المؤتمر. بل هي ليست ملكاً للمصريين ولا للعرب ولا لأهل هذا الجيل جميعاً. إنها أمانة قد تلقيناها عمن قبلنا لنؤديها إلى من بعدنا سليمة صحيحة كما تلقيناها, لا نفرط فيها ولا نبددها ولا نبدلها. وهذه اللغة رابطة قائمة بين العرب من أبناء هذا الجيل، وبينهم وبين التراث العربي الكبير منذ نزل به القرآن، وبينهم وبين المسلمين. وهؤلاء جميعاً يحرصون على قراءة ذلك التراث المكتوب بلغة العرب الفصحى الموحدة (بكسر

الحاء وفتحها) وبمصطلحات اللغويين والنحاة والبلاغيين الأصيلة المتفق عليها عندهم جميعاً. ومن حقهم جميعاً أن يطالبوا باستبعاد كل ما تحوم حوله شبهة تهديد هذه الرابطة, لأنهم يريدون لهذه الرابطة القائمة أن تظل رابطة دائمة .. والكلام الذي قيل في تحبيذ دراسة اللهجات العامية أو الدراسات الصوتية الحديثة - وهما صنوان لا يفترقان - بعضه صادر ممن لا تعنيهم الفصحى ولا يبالون بها وهو من خارج المشتغلين بالدراسات العربية. وبعضه ممن توجههم اهتمامات خاصة ترجع إلى تخصصهم الضيق في هذه الدراسات في إنجلترا أو في فرنسا، وهؤلاء لا أتهمهم بضعف الغيرة أو سوء النية، ولكني أناشدهم الله أن يستمعوا إلى ملاحظاتي في غير تعصب لتخصصاتهم الضيقة - وأقول الضيقة، لأن تخصصهم الأشمل والأوسع والأكثر أصالة هو قواعد اللغة العربية - أناشدهم الله أن يستمعوا إلى ملاحظاتي وأن يعتبروها، إذا لم تقنعهم، من باب سد الذرائع. لسنا وحدنا. إننا جزء من أمة ننادي بوحدتها. وبالأمس كانت لنا تجربة في تطوير قواعد العربية لم تقبلها وزارات التربية والتعليم في البلاد العربية لم أخرى فطويناها. ولا أريد لهذا المؤتمر أن يسفر عن تجربة كهذه في الدراسات العربية. وأنا أعلم أن أحد أعضاء هيئة التدريس من المهتمين بالدراسات الصوتية قد انتدب في هذا العام لكلية الآداب بجامعة بغداد وأراد إدخال هذه الدراسة في برامج قسم اللغة العربية فلم يقابل اقتراحه إلَّا بالإِعراض والنفور، وطُلِب إليه أن يدرس قواعد اللغة العربية كما كتبها نحاة العرب ولغويوهم. إن العرب يحرصون علي فصحاهم وعلى قواعدها التي تشيع مصطلحاتها في كل تراثهم ولا يريدون استبدال غيرها بها. وسيكون مصير أي إقتراح يبعد بالعرب عن هذا الطريق هه المصير نفسه الذي لقيته تجربة (المسند والمسند إليه والتكملة) في النحو. ومن عجيب المفارقات أن تنشر صحيفة الأهرام في عددها 29281 الصادر في يوم الجمعة غرة ذي القعدة 1386 (10 - 2 - 1967 م) في ص 4

ضمز توصيات مؤتمركم هذا (... وإدخال المناهج العلمية الحديثة في الدراسات اللغوية والأدبية. ومن ذلك معامل الأصوات اللغوية ودراسة الأدب الحديث). والأصوات اللغوية مقترنة دائمًا عند أصحابها بدراسة اللهجات العامية. بينما تنشر الصحيفة نفسها في العدد نفسه (ص 8) ما اتفق عليه المجمع) اللغوي المصري والمجمع العلمي العراقي في جلستهما المشتركة من أن (تسعى أجهزة المسرح والإِذاعة والتلفزيون إلى استخدام اللغة العربية الفصحى في التمثيليات التي يقدمونها) لأنها (أحسن سبيل إلى الوحدة العربية). الإِثنين 4 من ذي القعدة 1386 (13/ 2/ 1967 م)

في تطويرالدراسات اللغوية والاسلامية

- 4 - في تطويرالدراسَاتِ اللغويّة وَالاسْلاميّة حين زرت جامعة الرياض بدعوة منها في ربيع الأول 1395 (إبريل 1975 م) وجدت قسم اللغة العربية يعد لإِنشاء معمل للأصوات ولدراسة اللهجات العامية، ووجدت بين منشورات الجامعة كتاباً لمستشرق بريطاني في لهجات شرق الجزيرة العربية قامت الجامعة بترجمته ونشره بعد أن استضافت مؤلفه. وأخذتني المفاجأة حين رأيت الداء يمتد إلى مهد العربية ومنبع الإِسلام. ثم تبين لي أن من وراء هذه المشاريع أحد الذين عادوا من إنجلترا مبعوثاً من قسم اللغة العربية، فوجهه أساتذته هناك لدراسة اللهجات العامية، على نحو ما حدث في مصر، وسيحدث ويتكرر فيها وفي غيرها من بلاد العرب إذا لم يتنبه المسلمون للخطر. فإِذا كنا نحن العرب نعمل على دراسة اللهجات الاقليمية التي لا يجتمع عليها العرب، ونخطط بأيدينا لتطوير اللغة التي حفظها القرآن الكريم وحُفِظ فيها، وجمع عليها المسلمين وجمعتهم عليه منذ نزل به الوحي إلى يومنا هذا، فمن العبث أن نعمل على نشرها في بلاد المسلمين، لتكون اللغة الموحدة الجامعة لشملهم، والمؤكدة لوحدة أمتهم، لأننا حينذاك لا ندري على أي عربية نوحدهم، على العربية الكلاسيكية كما يحلو لبعض دعاة التطوير أن يسميها، أم على العربية العصرية التي يرون ابتداعها؟ وعلى العربية الفصحى، أم على لهجة من لهجاتها المتعددة التي يحتفي كل بلد من بلد العرب بالعناية بها وإبراز محاسنها، والاحتفال بتراثها، بزعم أنه تراث قومي، أو أدب شعبي؟ وما قيمة العمل على جمع شمل المسلمين عن طريق نشر العربية ما دام العرب أنفسهم يتفرقون فيها حين

يعملون على جمع غير العرب عليها؟ أليس هذا عجباً من العجب وعبثاً من العبث؟!. واجتمعتُ وقتذاك بالداعين إلى المشروع في جمعٍ من أعضاء هيئة التدريس وغيرهم من العلماء والدارسين. وتناقشنا طويلاً في هذا الموضوع وفي موضوع آخر كنتُ أراه جديراً بإِعادة النظر، يتصل بإِنشاء قسم دراسي للثقافة الإِسلامية، يَمَنَح المتخرجين فيه درجة علمية في هذا التخصص. ولم يكن اعتراضي على إنشاء هذا القسم، ولكنّ إعتراضي كان منصباً على أن هذا القسم ينبغي أن يظل قسمًا (أكاديمياً) على مستوى الجامعة كلها، يقوم بتدريس هذه المادة لطلبة الجامعة على اختلاف كلياتهم وتخصصاتهم، وليس قسمًا دراسياً يتخصص فيه بعض الطلبة ليُمنَحوا درجة جامعية في هذا التخصص. وانتهى بي الأمر إلى رفع مذكرة بوجهة نظري لوزير التعليم العالي في المملكة، ثم رأيت تعميمًا للانتفاع بما جاء فيها - إنْ كان - أن أضيفها إلى هذه الطبعة الرابعة من الكتاب. والواقع أني ترددت طويلاً حين فكرت في نشرها، وتنازعتني عدة اعتبارات. فالمذكرة مذكرة خاصة شخصية وإن كان موضوعها عاماً لا يتصل بأشخاص. وخصوص المذكرة - من أحد وجهتي النظر - قد يكون سبيلاً إلى طعن من يبحثون عن مَطعَن بأن فيها تشهيراً بالجامعة، أو تطفلاً من أجنبي غرِيب يدس أنفه في شؤون لا تعنيه. عند ذاك قام في نفسي يقين واضح بأن عليَّ أن أنشرها, لأن اُلمسْلم في أي مكان من الأرض ليس أجنبياً ولا غريباً في وطن الإِسلام الأول ومنبعِ العربية التي حملها الإِسلام إلى كل بقاع الأرض، فنَسخَتْ لغاتهم الجاهلية.، وأنستهم إياها، بين بربرية وقبطية وسريانية ورومية. ثم إن الأمر لا يتعلق بدولة ولا بأشخاص، ولكنه يتعلق باللغة العربية وبالإِسلام، والارتباط بينهما وثيق لا ينفصم. فبالعربية نزل كتاب الإِسلام، وبالإِسلام عمَّت العربية وانتشرت وحُفِظت مما لحق غيرها من تحريف أو فناء. وزاد في وضوح هذا اليقين في نفسي أن الكتاب يؤرخ لبعض نواحي التغريب وآثاره في بلاد العرب بعد الحرب العالمية الثانية، وأن المذكرة مكملة لما كتبته في الفقرة السابقة عن (تطوير الدراسات اللغوية) في

نص المذكرة

مصر، وفيها بيات لأمور أثارتها مناقشة القائمين على مشروع معمل الأصوات لم أعرض فيما كتبته من قبل. وفيما يلي نص المذكرة التي تقدمتُ بها إلى معالي وزير التعليم العالي في هذا الشأن. نص المذكرة بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين الحمد لله وحده. والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده. وبعد لا بد لي قبل أن أنتقل عن ضيافتكم الكريمة، إبراءاً للذمة، ونصحاً للأمة، أن أنبه إلى ما تبينته من وجوه الضرر الخطِر في قضيتين اثنتين: إحداهما تتعلق بالدراسات اللغوية في قسم اللغة العربية بجامعة الرياض، والأخرى تتعلق بإِنشاء قسم للدراسات الإِسلامية يمُنَح المتخرجُ فيه درجة الليسانس من جامعة الرياض في الدراسات الإِسلامية. أما عن القضية الأولى، فهي شعبة من الدعوة التي انتشرت في أقسام اللغة العربية ببعض جامعاتنا والتي ينادي أصحابها بتطوير اللغة العربية ودراساتها. وهو تطوير يختلف أصحابه في تسميته، ولكنهم لا يختلفون في حقيقه. يسمونه تارة - تهذيباً، وتارة تيسيراً، وتارة إصلاحاً، وتارة تجديداً. ولكنهم في كل الأحوال وعلى اختلاف الأسماء يعنون شيئاً واحداً، وهو التحلل من القوانين التي صانت اللغة العربية خلال ألف عام أو يزيد. وقد اقترنت هذه الدعوة بالكلام عن صعوبة اللغة العربية. وهو زعم وهميٌّ يكذبه الواقع الراهن من نهضة اللغة العربية وآدابها في القرن الأخير على يد طائفة من الشعراء والكتاب ردوا عليها نضرتها وجِدّتها بعد أن بلغت من الانحطاط درحة تمثلها لغة الجبرتي، وهو على ما هو معروف من كبار علماء

عصره. فقد حققت هذه الطائفة نهضتنا الأدبية الحديثة من طريق القواعد العربية التي يزعم الزاعمون صعوبتها وعجرها عن تنشئة جيل عربي صالح، صحيح العبارة والفكر، ولم تحققها عن طريق ابتكار قواعد أُخرى. ويكذِّب زعمهم كذلك أن العرب قد غفلوا عن هذا الوهم طوال أربعة عشر قرناً صلحت فيها اللغة لمواكبة الأجواء الحضارية والفِكرية التي تقلبوا فيها بين مشارق الأرض ومغاربها، لم تَضِقْ بشيء منها. ولم ينتبهوا إلى وجود هذا النقص في اللغة إلَّا في نصف القرن الأخير، تقليداً لدعاة المستعمرين الذين أخذوا يؤلفون الكتب في اللهجات المحلية العامية، كلٌّ في منطقة نفوذه. واقترحوا اتخاذ هذه اللهجات لغات تحل محل العربية الموحدة (بفتح الحاء وبكسرها)، في تدوين العلم والأدب، كما اقترحوا كتابتها بالحروف اللاتينية. وكذلك فعل بعض العرب حين ألفوا كتباً في دراسة اللهجات العامية لتدرَّس في المعاهد التي أنشئت لهذا الغرض في نابولي سنة (1727) وفي فينا سنة (1754 م) وفي موسكو (1814 م) وفي لندن في أوائل القرن التاسع عشر، وفي باريس في الثلث الأخير من ذلك القرن. منذ ذلك الوقت كثر الكلام في صعوبة اللغة العربية، وفي الازدواج الذي تعيش فيه الشعوب العربية. يفكرون بلهجاتهم العربية - كما يزعم الزاعمون - ويكتبون آدابهم وعلومهم بلغة أجنبية أُخرى هي اللغة الفصحى. تكلم الناس في صعوبة الإِعراب الذي يلحق أواخر الكلمات، فاقترح بعضهم التخلص منه جملةً بتسكين أواخر الكلمات، واقترح بعضهم اختصاره بإِسقاط بعض أبواب اعتبروها غير أساسية والإِبقاء على أبواب أُخرى اعتبروها أساسية. وقال فريق ثالث: إن الصعوبة ليست في الإِعراب نفسه، ولكنها في القواعد التي تضبطه. ودعوا إلى إعادة النظر في تبويب النحو والصرف وفي قواعدهما ومصطلحهما. وخطا أصحاب هذه الدعوة خطوات عملية فاشلة في هذا الطريق، وألفوا في ذلك كتباً بيِّنة الضعف والهزال، فُرِضت حيناً على يختلف المراحل الدراسية في بعض البلاد العربية، ثم لم تلبث أن ألغيت بعد أن ثبت فسادها وعدم جدواها.

وخطرُ هذه الدعوات على التراث الإِسلامي وعلى الأجيال التالية من أبناء المسلمين وأبناء العرب بخاصة واضح لا شك فيه. فكلها يرمي إلى عزل هذه الأجيال عن تراثها، بتغيير رسم الخط تارة، وبتطوير اللغة تارة أُخرى - وهو تطوير يزداد مع توالي الأعوام - وبتغيير مصطلح العلوم اللغوية من نحوية وصرفية وبلاغية تارة ثالثة، وهو مصطلح يشيع استعماله في كل كتب التراث من تفسير القرآن الكريم، وشرح الحديث الشريف، وشرح النصوص الشعرية والنثرية. ويكفي في التدليل على فساد نية الداعين بهذه الدعوة أن نقرأ الفقرة التالية من كتاب طه حسين "مستقبل الثقافة في مصر" حيث يدعو إلى فتح باب التطوير في اللغة العربية ودراساتها، فيقول فيما يقول: "وفي الأرض أمم متدينة كما يقولون، وليست أقل منا إيثاراً لدينها, ولا احتفاظاً به، ولا حرصاً عليه، ولكنه تقبل في غير مشقة ولا جهد أن تكون لها لغتها الطبيعية المألوفة التي تفكر بها، وتصطنعها لتأدية أغراضها, ولها في الوقت نفسه لغتها الدينية الخالصة التي تقرأ بها كتبها المقدسة وتؤدي فيها صلواتها. فاللاتينية مثلاً هي اللغة الدينية لفريق من النصارى، واليونانية هي اللغة الدينية لفريق آخر، والقبطية هي اللغة الدينية لفريق ثالث، والسريانية هي اللغة الدينية لفريق رابع (¬1) ... وبين المسلمين أنفسهم أمم لا تتكلم العربية، ولا تفهمها, ولا تتخذها أداة للفهم والتفاهم، ولغتُها الدينية هي اللغة العربية. ومن المحقق أنها ليس أقل منا إيماناً بالإِسلام، وإكباراً له، وذِياداً عنه، وحرصاً عليه - الفقرة 46 ص 229 - 230 من طبعة المعارف سنة 1944". وينبغي لقارىء هذا النص أن لا ينسى الشعار الذي اتخذه طه حسين في صدر كتابه حين أثبت على غلافه أبيات المعري: خُذي هذا وحسبُكِ ذاكَ منِّي ... على ما فيَّ من عِوَجٍ وأمْتِ ¬

_ (¬1) هذا الكلام ليس من صنع طه حسبن. فهو ترديد لما قاله القاضي الإِنجليزي ولمور (Selden Willmore l.) من قبل في كتابه "عامية مصر" (The Spoken Arabic of Egypt) ص 15 من طبعة لندن سنة 1901 م.

وماذا يبتغي الجلساءُ منّي ... أرادوا مَنْطِقي وأردتْ صمتي ويوجد بيننا أَمَدٌ بعيد ... فأمُّوا سَمْتَهم وأَممتُ سَمْتي وهي أبيات واضحة الدلالة في أن المؤلف لا يصرح بكل ما في نفسه، وأنه قد أخفى ما يخشى أن يعرِّضه لمثل ما تعرَّض له حين أخرج كتاب (الشعر الجاهلي). ثم إن أصحاب هذه الدعوات خطَوا خطوة جديدة في السنوات الأخيرة، في محاولة لا تريد أن تعيد النظر في قواعد اللغة العربية، نحوِها وصرفِها فحسب، ولكنها تريد أن تطوي كل ما كتبه العرب في هذا الصدد، لتطبِّق أساليب أُخرى جديدة في دراسة اللغة العربية منقولةٍ عما يحاوله بعض دارسي اللغات الغربيين فيما يسمونه (General Linguistics) أو (علم اللغة العام)، كما يَدْعون إلى إدخال الدراسات الصوتية التي يسميها الغربيون (Phonetics) وهي فرع من دراسات علم اللغة العام عند الغربيين. واللغةُ في هذه الدراسات أصوات تؤدي وظيفة اجتماعية. وهي في عُرفهم ما يتكلمه الناس في واقع حياتهم اليومية، لا ما يجب أن يتكلموه في أدبهم المدون المكتوب. وهم من أجل ذلك لا يفرِّقون بين فصيح وعامي. والدراسات التي يشتمل عليها علم اللغة العام بكل فروعه، ومنها الدراسات الصوتية، دراسات ناشئة عند الغرب لم تستقر بعد. ومصطلحاتها الأساسية غير متفق عليها بين المشتغلين بها. ولا تزال مفاهيم هذه المصطلحات ومعانيها مختلفة بين بلد وآخر. والمدارس الأوربية والأمريكية لا تزال قانعة باتباع النظم التقليدية المستقرة في تعلم اللغات، لا تلقي بالًا إلى ما يقوله المشتغلون بهذه الدراسات وما يدعون إليه من مفاهيم وأساليب جديدة في دراسة اللغات. ولا تزال اللغة الأدبية الفصيحة عندهم هي المخصوصة بالدراسة، لا يلتفتون إلى ما يدعو إليه المشتغلون بعلم اللغة من التسوية بين اللغات واللهجات، وإن كانوا - على عادتهم - يفسحون المجال لكل تجربة جديدة. يحاول علم اللغة العام عند الغربيين أن يجد طريقة لدراسة (اللغة) باعتبارها ظاهرة إنسانية عامة تضم جميع الأشكال الكلامية التي تتخذها

الجماعات البشرية على اختلافها، وقد يكون لهذه المحاولة ما يسوِّغها في اللغات الأوروبية التي تشترك في طبيعتها اللغوية وتتقارب في ظروفها الاجتماعية، والتي تتغير معاجمها بين الحين والحين، فلا يمر قرن واحد على لغة من لغاتها دون أن يصيبها تغيير أساسي في كثير من مفرداتها وقواعدها يستدعي وضع معجم جديد، ولكن إقحام هذه الدراسة التي تنبع اهتماماتها وقواعدها من طبيعة اللغات الأوربيه على لغة كالعربية، تختلف في طبيعتها وفي ظروفها التاريخية والاجتماعية وارتباطها بالدين اختلافاً أساسياً عن هذه اللغات بِدْعٌ شاذ قليل الجدوى. بل هو إفساد مُضر وقلب للأوضاع, لأنه لا يصدر عن حاجة في واقع الأمر تدعو إليه، ولأنه يحاول أن يفرض قواعد نابعة من خارج اللغة العربية على طبيعتها اللغوية، بَدَلَ أن يستنبط من واقعها اللغوي وطبيعتها المستقرة قواعد تعين على فهمها وضبطها واستخدامها في التعبير. واللغة العربية - بحمد الله - غنية بهذه الدراسات عريقة فيها. وقياسُها على اللغات الأوروبية التي ليس لها مثل هذا التراث العريق الممعن في العراقة طولًا وعرضاً خطأ فادح لا يكون إلَّا عن جهل أو سوء قصد. جهل بسنن الله التي لا تتبدل، والتي قضت أن يختلف الناس في أجناسهم وألوانهم وألسنتهم، ولو شاء لجعلهم أمة واحدة، أو سوء قصد يعمل على تفريق المسلمين، وفصلهم عن مصادر دينهم وعن تراثهم. واقترنت الدراسات اللغوية الحديثة على الطريقة الغربية، والصوتيةُ منها بنوع خاص، بالدعوة إلى العناية باللهجات العامية وآدابها أو ما يسمونه (الأدب الشعبي). والدعوةُ بشكلها هذا جديدة على الدراسات العربية، لم يُسمَع لداعٍ بها صوتٌ قبل القرن الأخير، وقد نشأت أولَ ما نشأت باقتراح بعض المستشرقين من رجال الاستعمار، حين جمعوا طائفة من الأغاني والمراثي والمواويل والأناشيد العامية، تدعيمًا لدعوتهم، وحين اتخذوا بعض ما يسمونه (الأدب الشعبي) الذي لم يتمثل في قصص (ألف ليلة وليلة) وأمثالها موضوعا للدراسة. ومن المعروف أن أكثر هذه القصص لم يكتب باللهجات العامية المحلية، ولكنّ جماعة عن الجهال القليلي الحظ من الثقافة حاولوا أن يكتبوه باللغة الفصحى بقدر ما سمحت به إمكاناتهم وملكاتهم، فجاء على هذه

الصورة الركيكة. ولذلك تجاوزه مؤرخو الأدب واعتبروا أنه دون المستوى الذي يسمح بدخوله في تاريخ الأدب العربي، وتركوه في موضعه الصحيح لعامة الناس والغوغاء، الذين لا تسمح لهم ثقافاتهم بتذوق الأدب الرفيع. وظل الأمر كذلك حتى جاء هذا الجيل الذي يريد أن يمسخ صورة كل ما هو أصيل في تراثنا، يُعلي من قدر الركاكة وفساد العبارة باسم الشعبية والأدب الشعبي، ويحاول أن يفتش عن مواطن للجمال في هذه القصص والحكايات المتدنية أسلوباً ومضموناً، تقليداً لما فعله الغرب في تشنيعه بالشرق والشرقيين والإِسلام والمسلمين، حين ألّف طائفة من القصص مستوحاة من (ألف ليلة وليلة) تصور ترفهم وتفاهتهم وتهالكهم على الشهوات، وفسادَ أخلاقهم واستبداد ملوكهم ونفاق شعوبهم. بقي أن أردَّ على بعض ما أثاره الداعون إلى إنشاء هذه الدراسات في قسم اللغة العربية بجامعة الرياض حين اجتمعت بهم. سلَّموا بأن هذه الدراسات قد نشأت نشأة فاسدة في حضانة الاستعمار، ولكنهم زعموا أن الدعوة قد ماتت وزال خطرها، وأنهم يريدون توجيه هذه الدراسات لخدمة الفصحى. والزعم بأن الدعوة قد ماتت غير صحيح، وخُفوت صوت الداعين إليها ليس مظهراً لموتها, ولكنه في الحقيقة مظهر لاستقرارها. فقد ظلت تسري وتحتل كل يوم أرضاً جديدة وتتقلّب في زحفها من القصة إلى المسرح وإلى السينما وإلى وسائل الإِعلام كلها من صحافة وإذاعة، وإلى منابر المحافل على اختلافها، وإلى قاعات المحاضرات في الجامعات، حتى أعلنت الصحف عن ظهور مجلة يُصدرها أحد اللبنانيين (سعيد عقل) تحرَّر بالعامية مطبوعةً بحروف لاتينية. ثم إن الناس في كل البلاد العربية يشكون من ضعف المتخرجين في أقسام اللغة العربية وفساد ألسنتهم وانخفاض مستواهم، ومن الواضح أن تقويم اللسان لا يجيء إلَّا بممارسة النصوص الصحيحة. فهل تُعين نصوص (الآداب الشعبية) العقيمة التىِ يشيع فيها اللحن وفساد اللغة وركاكة العبارة على تقويم اللسان؟ من الواضح أن ضعف الملكة العربية يعالج بالمزيد من

النصوص الفصيحة، لا بإِقحام نصوص ركيكة ومردَّدات عامية تحت إسم (الأدب الشعبي). والأدب الشعبي الذي يختلف باختلاف البلاد، بل الذي يختلف في البلد الواحد باختلاف البيئات، يؤدي وظيفته في مكانه الصحيح، ويشبع رغبات طوائف وطبقات لا تسمو ثقافاتهم وملكاتهم إلى تذوق الآداب الفصحى. وهو أدب شفوي يعتمد على الرواية. وهو قديم لم ير العرب ضرورة لتدوينه حتى لا يختلط بالنصوص العربية الصحيحة. والخطر في تدوينه الآن أعظم مما كان في أي وقت, لأنه يجري في ظل دعوة إلى استبدال العاميات المحلية بالفصحى، وهي دعوة تساندها أجهزة ذات نفوذ وأموال تبذل بسخاء. وزعموا أن جمعهم للهجات العامية ليس بِدْعاً مستحدَثاً. وأخذوا يعدِّدون بعض ما جمعه قدَماء اللغويين من لهجات القبائل. كما أخذوا يحصون بعض ما يمكن الاستفادة منه في دراسة هذه اللهجات، من مثل تفسير بعض غريب المعاجم الذي لا يزال حياً مستعملاً في اللهجات، ومن مثل الاستعانة بجمع هذه اللهجات على تأليف كتب مدرسية ميسَّرة تعتمد على ما يصحُّ في معاجم اللغة من هذه اللهجات في كل بلد من بلاد العرب، ليكون الكتاب المدرسي مألوفاً غير بعيد عما ألِفَه الطالب المبتدىء من لهجة قومه. ورداً على هذه المزاعم يقول كاتب هذه السطور: 1 - جمع لهجات القبائل كان ضمن جمع شامل للغة لم يفرق فيه اللغويون بين لهجة ولهجة، خدمة للقرآن الكريم وللحديث الشريف، عسى أن تكون كلمة من لغة هذه القبيلة أو تلك نافعة في تفسير هذه الآية أوذلك الحديث. وقد عدّ أصحاب اللغة هذه اللهجات على اختلافها فصيحة صحيحة، مع التسليم بفضل بعضها على بعض، واعتبار ما جاء منها في القرآن الكريم أو الحديث الشريف أفصح. ثم إنهم توقفوا عن الجمع بانتهاء القرن الثالث أو بعده بقليل، وكف جامعو اللغة عن الجمع بعد أن اختلطت الألسن بفعل الهجرة والتغلغل الحضاري. واعتمدت الأجيال التالية من واضعي المعاجم اللغوية على النقل

مما جمعه هؤلاء الرواة الأولون. وإذا كان الجمع قد توقف منذ ألف عام أو يزيد، فأي حاجة جدّت الآن تدعو إلى استئنافه؟ وإذا صح - جدلاً - أن جمع اللهجات في قبائل جزيرة العرب البدوية يجري اليوم لخدمة الفصحى ومعاجمها، فكيف نفسر جمع اللهجات في سائر البلاد العربية الأخرى واستنباطَ قواعد لها؟ ولأي شيء تُستنبط هذه القواعد؟ 2 - الكتب التي أشارت إلى اللهجات فيما أُلف بعد ذلك كلُّها في تصويب أخطاء العامة. فالغرض منها هو إصلاح هذه الأخطاء لا جمعها وتدوينها. 3 - ما يوافق الغريب والمستهجن من اللهجات المحلية في المعاجم اللغوية قد تخطاه الأدب وأهمله ولا داعي لبعثه أو إحيائه. فقد أصبح المستعمل موضع إجماع العرب والمسلمين. وبعث الغريب والمستهجَن هو محاولةٌ لرد الناس إلى الفرقة القبلية التي سبقت اجتماع العرب على هذه اللغة الموحدة التي نزل بها القرآن الكريم، والتي يمثلها الشعر الجاهلي في آخر حلقاته السابقة على نزوله. 4 - وضع كتب دراسية تتقيد باستعمال ما صحَّ في معاجم اللغة من عاميات البلاد والأقاليم العربية هو الخطوة الأولى في خلق معاجم محلية متعددة: مصرية وشامية وعراقية وسودانية. وقد ذكر بعض الذين أثاروا هذا الحديث أنهم قد مارسوا استعمال هذه اللغة في الكتب المدرسية السودانية. ومن المعروف أنها مورست بعضَ الوقت في مصر أيضاً، في الكتب التي ألفها (القوصي والعريان) ثم عُدِل عنها لفشلها. وقد عرض مندوب تونس في مؤتمر مجامع اللغة العربية بدمشق سنة (1956) هذا الاقتراح ولم يؤخذ به، وفي الصفحة 139 وما بعدها نقد تفصيلي لما دار في هذا المؤتمر. وزعم الداعون لإِنشاء هذه الدراسات في قسم اللغة العربية أن (الآداب الشعبية) المكتوبة باللهجات التي يدعون إلى دراستها ووضع قواعد

لها تشتمل على مضامين فكرية تستحق الدراسة، ففيها صور صادقة من حياة الشعوب وأحاسيسهم بكل ما تموج به من آمال وآلام. وذلك شيء غير منكور، ولكنَّ مِن الواضح أن قسم اللغة العربية لا يدرس من المضامين الفكرية والأدبية إلَّا ما صيغ باللغة العربية الفصحى. وكل ما صيغ من المضامين بغير هذه اللغة ليس من شأنه أن يدرسه. فالمضامين الفكرية والأدبية المكتوبة باللغة الإِنجليزية من شأن قسم اللغة الإِنجليزية، والمكتوبة بالفرنسية من شأن قسم اللغة الفرنسية، والمكتوبة باللاتينية واليونانية من شأن قسم اللغات القديمة، والمكتوبة بالفارسية أو الأُردية من شأن قسم اللغات الشرقية. فإِنْ رأت الجامعة أن تنشىء قسمًا للهجات العامية كانت هذه (الآداب الشعبية) من بين شؤونه أو شجونه. على أنه يتحتم على الجامعة قبل أن تنشىء قسمًا كهذا - إنْ رأت إنشاءه - أن تسأل نفسها: لأي شيء يصلح المتخرجون فيه؟ ولأي الوظائف يؤهلون؟ ذلك شيء واضح إذا لم تكن هناك سوء نية في مزاحمة ساعات الدراسة المخصصة للغة العربية وقواعدها وآدابها. والمكانُ الطبيعي للاستفادة من هذه المضامين واستنباط دلالاتها الاجتماعية - إنْ صحت النية - هو أقسام الدراسات الاجتماعية. ولنكن صرحاء - آخر الأمر - مع أنفسنا. من أين جاءتنا هذه الدراسات؟ وكيف نشأت؟ هل نشأت لحاجةٍ نبعت من واقعنا؟ من الواضح أن هذه الدراسات بدأت باقتراح أجهزة الاستعمار والتبشير. ومن الواضح أن الدعاة الأولين من العرب تأثروا بدعايات هذه الأجهزة أو عملوا لمصلحتها. وبعضهم من غير المسلمين الذين لا يرون للغة العربية قداسة أوحرمة. وكانت هذه الدعوات كلها خارج نطاق المعاهد الدراسية والجامعات، لا تتجاوز معارك صحفية بين قلة من الداعين إلى هذه الدراسات وكثرة من الردود التي تسفههم وتسخف دعوتهم. ثم دخلت الدعوة بعد الحرب العالمية الثانية إلى المعاهد العليا والجامعات. كيف دخلت؟

أرسل إبراهيم مصطفى (¬1) حين كان رئيساً لقسم اللغة العربية بجامعة الإِسكندرية بعثتين إلى إنجلترا لدراسة اللهجات واللغويات على طريقة الغربيين. ثم توسع في هذا الاتجاه حين أصبح عميداً "لدار العلوم" في أواخر الأربعينيات من هذا القرن الميلادي، فأرسل عدداً ضخمًا من البعثات في هذا التخصص. وعاد هؤلاء وكل بضاعتهم التي لا يحسنون سواها هي دراسة اللهجات، ليدرِّسوها في كلية "دار العلوم"، وليوجهوا بعض المتخرجين للتخصص فيها في دراساتهم العليا للماجيستير والدكتوراه. نقطةُ البدء غلطة وخطأ في التوجيه، فهل يظل هذا الخطأ يلد أخطاءاً إلى الأبد؟ أم نضع له حداً حين نكتشفه، ونقطع تسلسله؟ ونقول للذين وقعوا فيه: صححوا مساركم، وليكن الله في عونكم؟ وسارت دراسات (الأدب الشعبي) مُواكِبةً لهذا الاتجاه في الوقت نفسه في كليات الآداب، وفي (دار العلوم) بعد أن أنشىء كرسي أستاذية للأدب الشعبي في كلية الآداب بجامعة القاهرة، سبقه إنشاء كرسي لما سمي "الأدب المصري" كان أمين الخولي أول من شغله. وزعم المخدوعون والمفسدون أن القصد من دراسة اللهجات ليس هو دراسةَ لهجة بعينها في هذه القرية من بلاد العرب أو تلك، كما يبدو من موضوعات البحوث التي حصل بها المبعوثون على (الماجيستير) أو (الدكتوراه)، ولكن القصد هو تعلم "المنهج". فلأي غرض نريد أن نتعلم "منهجاً" في دراسة لهجات العرب العامية ونضع قواعد لها؟ إذا لم يكن ذلك تمهيداً لِإكسابها شيئاً من الاحترام، يرفع قدرها عند عامة الناس، تمهيداً لاتخاذها لغة للأدب والتدوين، أو تطعيم العربية الفصحى بها على أقل تقدير، للوصول إلى ما يسميه بعضهم (باللغة الثالثة) أو (اللغة الوسط)، وهو ما لا يقل خطورة عن استبدال العامية بالفصحى, لأنه بدء طريق يؤدي إلى النتيجة نفسها. ¬

_ (¬1) هو صاحب كتاب "إحياء النحو" واحد مؤلفي الكتب المدرسية التي طبقت منهجه في هذا الكتاب. وقد فُرضت هذه الكتب بضع سنين على الطلبة في مختلف المراحل الدراسية، ثم ألغيت بعد ثبوت فسادها.

وزعموا أن "المنهج" لا يفيد في دراسة اللهجات العامية وحدها، فهو (منهج لغوي) يصلح لأن يطبق على أي لغة وعلى اللغة العربية الفصحى نفسها. فلأي شيءٍ نستورد "منهجاً" غريباً في دراسة اللغة، ولنا منهجنا الخاص الأصيل الذي أثبت ألف عام أو يزيد صلاحيته؟ فقد صان اللغة - بحمد الله - ولا يزال. وواجه احتياجاتها وما جد من شؤونها طوال هذه القرون فاضطلع بها, ولم يَعْيَ ولم يضق بضبط تطوراتها وتوسعاتها العلمية والحضارية، من بغداد شرقاً إلى أقصى بلاد المغرب والأندلس غرباً. وإذا استحدثنا مناهج جديدة ومصطلحات جديدة، فقد حكمنا بالاعدام على تراثنا، لا على تراثنا النحوي والصرفي واللغوي وحده، بل على التراث كله، الذي يستعمل هذه المصطلحات في تفسير القرآن، وفي شروح الحديث، وفي شروح دواوين الشعر ومختاراته. وهو تراث سوف يتمسك به المسلمون من غير العرب، وينفرد بغيره العرب، إن اتفقوا على ذلك المنهج الجديد. وقالوا إن العلم يُقصَد لذاته، وللذة المعرفة وحدها. فلذة المعرفة هدف مقصود لذاته. وهذا تصور للمعرفة غير إسلامي. فصناعة الخمور معرفة، بل باب واسع لعارف متعددة، فهل ينفق مسلم وقته ويبدده فيه؟ والسحر علم، والمسلمون مَنهيّون عن السعي لمعرفته أو ممارسته. والرقص الزوجي الذي يقترن فيه الرجال بالنساء باب من أبواب المعرفة التي تمُنَحْ فيها الآن درجات جامعية في الغرب، فهل يسعى مسلم لمعرفته؟ و"تحضير الأرواح" باب للمعرفة يمارَس في بعض الجامعات الغربية، فهل يسعى مسلم إليه؟ .. هذا لون من الترف الذي تنتهي به حياة الأمم. فالترف الفكري كالترف المادي سواء بسواء. كلها إفناء للعمر في عبث يضر ولا يفيد، ويُبعِد عن الطريق ولا يُدِني منه. فلنضع السؤال الصريح القاطع إذن دون لفٍّ أو دوران، ففيه فصل الخطاب: هل نريد أن نظل مسلمين تحكُمنا أصول الاسلام، ونراقب وجوه النفع والضرر من وجهة نظر إسلامية؟ أم أننا نخدع أنفسنا وننافق الناس؟ وحقيقة الأمر أننا نضيق بقيود الإِسلام، ونريد أن ننطلق من كل قيد، ونريد أن نحيا يومنا وليكن ما يكون في الغد القريب أو البعيد؟ وليتنا نعرف أننا لا نخرق الناموس، ولا نهرب من حكم الله، وأن الذي يرفض أن يعمل لأمّته حرًّا

مأجوراً عند الله والناس، يضطر في آخر المطاف أن يعمل لعدوه مستعبداً بدون أجر. الأمر واضح بيِّن، فإذا لم يكن الضرر محققاً في نظر أصحاب هذه الدعوات، فليكن "ضرراً محتملاً" ولنغلق بابه سداً للذرائع. هذا عن القضية الأولى، أما القضية الأخرى المتعلقة بإنشاء قسم متخصص في "الدراسات الإِسلامية" بجامعة الرياض، فوجه الضرر والخطر فيها أدق وأخفى. "الدراسات الإِسلامية" تسمية أوروبية، فهي ترجمة حرفية للأقسام التي أنشأتها الجامعات الأوربية لتضم دراسات تتعلق بالمسلمين في تاريخهم وآدابهم ومجتمعاتهم، بكل ما تتسع له هذه الكلمة من معاني الدين والعلوم والفنون والعادات والتقاليد والبيئة. هذه الدراسات التي يطلقون عليها (Islamic Studies) يُقصد بها خدمة المصالح الاستعمارية في تعاملها مع البلاد الإِسلامية والمساعدة على التخطيط لها. أما نحن فغرضنا من هذه الدراسات مختلف تماماً. هذه الدراسات عندنا لها طابع إسلامي وقومي، إنها تتصل بتراثنا الذي هو جزء من شخصيتنا، بل هو قِوام هذه الشخصية. ولذلك فهي لا تكوِّن تخصصاً مستقلاً، ولكنها موزعة في أقسام الدراسات المختلفة من عربية وجغرافية وتاريخية وفلسفية واجتماعية، بل رياضية وكيميائية وهندسية وطبية، لأننا لا نتصور في بلدٍ مسلمٍ عربي أن تقوم دراسة من هذه الدراسات في قسم من الأقسام دون أن يكونَ للجانب الإِسلامي وتاريخه منها نصيب واف. والمهم في هذه الدراسات أن لا ينسى القائمون عليها أنهم مسلمون وأنهم عرب، فلا تجري - كما يحدث في كثير من الأحيان - على الأنماط الغربية التي تمثلها بحوث المستشرقين. فيجب أن يكون هناك فرق واضح بين ما يكتبه المسلم والعربي حين يتكلم عن التراث الإِسلامي، وبين ما يكتبه غير المسلم وغير العربي حين يكتب عنه. و"الموضوعية" التي يُكثر الجامعيون من الكلام عنها ليست إلا حيلة خبيثة لسلخنا من إسلامنا وعروبتنا باسم العلم. تلك هي الموضوعية التي تصوِّرها كلمة طه حسين المشهورة في كتابه عن الشعر

الجاهلي حيث يقول "يجب حين نستقبل البحث عن الأدب العربي وتاريخه أن ننسى قوميتنا وكل مشخصاتها، وأن ننسى ديننا وكل ما يتصل به". إن كل ما ئكتب عن إسلامنا وعروبتنا ينبغي أن يكون وسيلة لتعميق صفتنا الإِسلامية، ولا خير فيه إن لم يؤد إلى هذه النتيجة. والدراسات الإِسلامية بهذا المعنى موجودة في كلية الآداب، وينبغي أن يستكمل ما فيها من النقص حيثما كان. ولكن ينبغي أن لا نخلط بينها وبين "العلوم الإِسلامية". فالعلوم الإِسلامية هي علوم التفسير والحديث والفقه وما يتصل بها من دراسات مكمِّلة لها ومُعينة عليها. وهذه العلوم لها مكانها الطبيعي في المعاهد الإِسلامية المخصصة لهذه الدراسات، تحيطها ضمانات تصونها من الانحراف وتمنع الانحراف أن يتسرب إليها إن شاء الله. ولكن الخلط بين (الدراسات الإِسلامية) و (العلوم الإِسلامية) قد وقع في أذهان الناس منذ أخذ الاستعباد الإِمبريالي المسمَّى بالاستعمار يخطط لاستبعاد (الأزهر) والمتخرجين فيه من مجالات العمل والأنشطة العامة للدولة، لكي يحصرهم في المساجد، بعد أن فشل في تطوير العلوم الشرعية فيه. وكان من بين وسائله للوصول إلى هذا الهدف إنشاء مدرسة (دار العلوم) ومدرسة (القضاء الشرعي) لتقوم فيهما دراسات إسلامية متطورة تساير الحضارة الغربية، وتستأثر بوظائف التدريس والقضاء التي كانت من نصيب التخرجين في الأزهر. وعاشت (دار العلوم) وماتت (مدرسة القضاء الشرعي) بعد أن استنفذت أغراضها بدخول التطوير إلى برامج الدراسة في الأزهر نفسه. ثم كانت الخطوة التالية حين دعا طه حسين في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" سنة (1936) إلى إنشاء لونين من الدراسة في كلية الآداب، وسعى عند المسئولين في وضع اقتراحه موضع التنفيذ فلم يحالفه النجاح في أيهما. أما أحد المشروعين، فهو يدعو إلى إنشاء معهد للأصوات لدراسة اللهجات قديمها وحديثها. وقد عارض وكيل وزارة المالية الذي كان ممثلاً للدولة في مجلس الجامعة وقتذاك في منحه ما يحتاج إليه من مال, لأنه لم يستطع - على رواية المؤلف - أن يفهم قيمة هذا المعهد وحاجة المتعلمين إليه. أما المشروع الآخر،

فقد كان يدعو إلى إنشاء معهد للدراسات الإِسلامية يلحق بكلية الآداب. ومهمة هذا المعهد كما يصورها طه حسين هي العناية بالدراسة الإِسلامية (على نحو علمي صحيح). والمسوِّغ لإِنشائه عنده هو أن (كلية الآداب متصلة بالحياة العملية الأوربية. وهي تعرف جهود المستشرقين في الدراسات الإِسلامية. ومن الحق عليها أن تأخذ بنصيبها في هذه الدراسات لتلائم بين جهود مصر التي ترى لنفسها زعامة البلاد الإِسلامية، وبين جهود الأمم الأوربية - الفقرة 49 ص 34 من طبعة المعارف سنة 1944 م). ومضى على هذين الشروعين الفاشلين زمن طويل. ثم دارت الأيام دورتها وظهر المشروعان من جديد حين تقدم أحد أساتذة جامعة الاسكندرية باقتراح إنشاء شعبة (للدراسات العربية الحديثة) وبإنشاء (قسم أو شعبة للدراسات الإِسلامية في كل كلية للآداب بالجامعات المصرية). وقد صدر بالاقتراح الأول مرسوم جمهوري سنة 1955 ولكنه ظل حبراً على ورق لم يأخذ طريقه للتنفيذ إلى أن أعان الله على إلغائه. أما الاقتراح الثاني الذي تقدم به صاحبه سنة (1957) فقد بناه على أن الركن الأكبر من نجاح التربية الدينية (هو المعلم الذي ينبغي أن يعاد النظر في تكوينه وإعداده وأن يُرسَم لذلك منهج جديد يحقق له عمق الثقافة وحرية الفكر). وبناه كذلك على أن (قيام مصر بنصيبها في تقدم الإِنسانية وفي حل مشكلات الحياة المعاصرة يتطلب من المصريين تعمقاً في دراسة دينهم، وتَبَيُّنِ موقفه من مختلف المذاهب والاتجاهات التي يجيء بها التطور الاجتماعي والفكري). واقترح فيما اقترحه من الدراسات في هذا القسم دراسة (سيكولوجية الدين) و (التاريخ المديني والفكري للبشرية قبل الإِسلام) وإما كان لمصر وعلمائها بين الأمم الإِسلامية من آثار علمية خالدة) و (النظم الدينية والأخلاقية المقارنة). فالدراسة المقترحة تقوم على أساسين: أولهما إستبعاد الأزهر أو المعاهد الدينية من القيام بوظيفة تعليم الدين, لأن مناهجه لا تحقق للدارسين فيه (عمق الثقافة وحرية الفكر). وثانيهما هو الصبغة المصرية التي تبرز في الإِشارة إلى مهمة مصر القيادية في حل مشكلات الحياة المعاصرة ومسايرة التطور الاجتماعي، وهو تطور غربي بالبداهة. كما تَبْرُزُ في إمداد الدارس بما يقوِّي

فيه الاعتزاز بفقهاء الإِسلام وعلمائه من المصريين بخاصة، مما يوجد لوناً من الشعوبية الإِسلامية يشبه الشعوبية السياسية. ومن صنيع الله للإِسلام أن هذا الاقتراح لم يجد طريقه إلى النجاح أيضاً. ولكن هذا. الاقتراح واقتراح طه حسين السابق يصوران اتجاه الفكر الجامعي في الدراسات الإِسلامية. فالأصل الذي تجري عليه الدراسات الجامعية على وجه العموم في بلاد المسلمين الآن - لسوء الحظ - أنها غير ملتزمة إسلامياً إذا لم نقل إنها لِبْرالية علمانية. لذلك يجب أن تُتْرك هذه الدراسات حيث هي محوطة بالضمانات التي تحفظها من الانحراف. ومهما تَبْدُ هذه الدراسات الآن سليمة في الجامعة، فليس هناك ما يضمن سلامتها وعدم انحرافها فيما يطرأ من تطورات وتطويرات. ولست أنكر أن بعض الذين يفكرون في إنشاء شعبة أو قسم للدراسات الإِسلامية في كليات الآداب يَصدُرون عن غيرة دينية محمودة، ولكنهم لا يتنبهون إلى بعض الآثار الخطيرة التي تترتب على المشروع. فدراسة العلوم الإِسلامية تقوم على أوليات لا بد من تحصيلها: حفظِ القرآن وإتقان تفسيره وكلِّ ما يتعلق به من أسباب النزول والناسخ والمنسوخ والعام والخاص، ودراسةِ الفقه في أقسامه المختلفة وأبوابه المتعددة ومسائله المتشعبة، في العقائد والعبادات والمعاملات. وبدون تحصيل هذه الأسس الأولية لا يمكن أن نبني دراسات إسلامية صحيحة. فالدراسات الإِسلامية التي تُبنىَ على غير هذه الأسس ستكون حتمًا دراسة متحررة, لأن صاحبها - وهو يزعم أنه متخصص في الدراسات الإِسلامية - سيفتي بعقله الحر من عند نفسه إذا استُفتي في شأن من الشؤون الإِسلامية التي لم يسبق له دراستها، أو التي درسها دراسة منحرفة أو ناقصة غير سوية. فإذا جازفنا بإنشاء مثل هذه الدراسة، وألحقناها بكلية الآداب، أو بمعهد من المعاهد في إحدى الجامعات المنشأة على النمط الغربي، فيجب أن لا يغيب عن بالنا الملاحظات الآتية:

1 - الأصل في الدراسة الجامعية في هذه الكليات والمعاهد أنها دراسة متحررة لا تتقيد بالدين، أيَّ دين، أو كذلك تبدو الدراسة الجامعية في المقاييس الأوربية التي نقتبس منها ونأخذ عنها. والمثال قائم ومشاهد فيما نريد أن نأخذ به في أقسام اللغة العربية من تطوير للدراسات اللغوية في ضوء الأساليب الغربية. وهو قائم في المشروعين اللذين قُدِّما في هذا الشأن، واللذين أشرت إليهما منذ قليل. 2 - لا مسوِّغ للازدواجية، طالما أن هناك معاهد متخصصة في هذه العلوم والدراسات لا نفكر في إلغائها أو الاستغناء عنها إلا إذا كان صنيعُنا من باب الاحتيال في التضييق عليها. والأفضل أن نستكمل ما فيها من نقص إن وُجد. 3 - إذا لم تكن هذه الدراسة في كلية الآداب والتربية منافسة لنظيرتها في الجامعات والمعاهد الدينية المنشأة أصلاً لهذا الغرض، فما هو الهدف منها؟ وما الذي نتصوره لمستقبل المتخرجين فيها؟ - إذا كان المقصود هو تعميمَ الثقافة الإِسلامية والتنبيه إلى ما يسوق الاستعمار والصهيونية والتبشير من دعاوى تستهدف الكيد للإِسلام والمسلمين، فالطريق السليم لذلك هو أن تعمَّم هذه الدراسة في شكل (مقرر دراسي ثابت) في كليات الآداب بل في كليات الجامعة على اختلاف تخصصاتها. فالطبيب والمهندس والمشتغل بالعلوم الطبية والكيميائية لا يستغني عن أن نزوده بما يحصِّنه ضد هذه الأوبئة. وهذا عمل سليم نافع، ومهمة ضخمة تستغرق نشاط (قسم الدراسات الإِسلامية) في كلية التربية. - المتخرجون في هذا القسم إذا عملوا في الميدان الذي يعمل فيه المتخرجون في المعاهد الدينية، فسينشأ عن ذلك صراع وصدام بين الفريقين، نتيجة لاختلاف أسلوب التحصيل بينهما، ونتيجة لا قد يتورط فيه خريجو هذا القسم من الإِفتاء فيما لا يعلمون, لأن تحصيلهم في الواقع يتعلق بقضايا فكرية عامة، ولا يتعلق بالعلوم الشرعية. والذي يحصلونه منها قد يغري بالتصدي للإِفتاء، ولكنه لا يكفي ولا يصلح ولا يُعِد هذا الغرض.

وقد كان لنا في الجامعات المصرية تجربتان مريرتان: إحداهما عن بحث تقدم به صاحبه للحصول - على درجة الماجيستير من كلية الآداب في جامعة القاهرة موضوعه "القصص القرآني". وقد أثار ضجة انتهت برفضه واعتباره غير صالح للمناقشة. والتجربة الأخرى كانت في بحث تقدمت به صاحبته للحصول على الماجيستير من جامعة الاسكندرية في موضوع (دراسة في أصوات المدَّ في التجويد القرآني). وقد أثار كسابقه ضجة انتهت بحجب الدرجة التي مَنَحتها لجنة المناقشة للطالبة بعد مناقشتها، وحرمانها منها. ولا أريد أن أطيل بذكر تفاصيل هذا الموضوع فقد أثبتها في كتابي "حصوننا مهددة من داخلها". وبالله التوفيق ولا حول ولا قوة إلا به ...

حول بحث جامعي في قراءات القرآن

- 5 - حول بحث جامعي في قراءات القرآن هاك نموذجاً للدراسات الإِسلامية كما أراد لها طه حسين أن تكون حين اقترح في كتابه (مستقبل الثقافة في مصر) إنشاء معهد للدراسات الإِسلامية بكلية الآداب. وذلك هو البحث الذي تقدمت به إحدى المتخرجات في قسم اللغة العربية بجامعة الإِسكندرية للحصول على درجة الماجستير سنة 1385 (1965 م)، وموضوعه (دراسة في أصوات المد في التجويد القرآني). وهو بحث يقوم على مجازفات تجمع بين الانحراف والجهل، يريد أن يشكك في سلامة النص القرآني. تقدمت السيدة تغريد عنبر بهذا البحث الذي أعدته تحت إشراف الدكتور حسن عون الأستاذ في قسم اللغة العربية بالكلية، وكتب الأستاذ المشرف تقريراً يؤكد فيه سلامة البحث وصلاحيته للمناقشة، وناقشته لجنة مكونة منه ومن الشيخ أمين الخولي الأستاذ في كلية الآداب بجامعة القاهرة والدكتور إبراهيم أنيس الأستاذ في دار العلوم، وكلاهما عضو في مجمع اللغة العربية (¬1). وأعلن عن موعد المناقشة، وشهدها جمع كبير ¬

_ (¬1) وثلاثتهم ينتمون إلى الأزهر، بدءوا دراستهم فيه حتى الثانوية العامة. ثم التحق أولهم بكلية الآداب فحصل على الليسانس من قسم اللغة العربية، وكان زميلاً لي في الدرس. ثم بعث إلى فرنسا للحصول على الدكتوراه، فعاد بالدكتوراه وبزوجة فرنسية. والتحق ثانيهم بمدرسة القضاء الشرعي التي أنشأها سعد زغلول حين كان وزيراً للمعارف في وزارة صهره مصطفى باشا فهمي صديق الإِنجليز الحميم. وكان الشيخ مُحَمَّدْ عبده قد كتب تقريراً يوصي فيه بإِنشاء هذه المدرسة، بتوجيه من اللورد كرومر، الذي كان يرغب في إنشاء مدرسة لتخريج قضاة الشرع بعيداً عن (الأزهر)، الذي عجز عن تطويره بما يلائم مصالح الاستعمار. =

لم أكن بينهم، ولكني عرفت من بعض الحاضرين أن الشيخ أمين الخولي بدأ مناقشته برد الطالبة عن الكتابة في الموضوع أصلاً لأنها تجهل أوَّلياته، وندد بما تضمنه بحثها من أحكام تستخف بعقائد المسلمين ومقدَّساتهم. ثم كانت المفاجأة في ما انتهت إليه اللجنة آخر الأمر وأعلنته على الناس حين قررت منح الطالبة درجة الماجستير بمرتبة جيد جداً. واشترطت اللجنة في قرارها هذا أن لا يطبع البحث إلا بعد تعديل بعض أجزائه. واستناداً إلى هذا الشرط تقدم أحد أساتذة الكلية ممن شهد المناقشة بطلبٍ إلى مجلس الكلية يدعوه إلى التمهل في الموافقة على قرار اللجنة حتى يراجع البحث ويعرف ما فيه من وجوه الخلل التي نصَّت اللجنة على وجوب تعديلها وإصلاحها قبل نشره مطبوعاً على الناس. ودعاني ذلك الزميل لأن أنظر في البحث لأرى فيه رأيي. وقرأت البحث فهالني ما فيه. وتقدمت بمذكرة إلى مدير الجامعة وإلى عميد الكلية أطلب التوقف عن منح الدرجة، واستجابت الجامعة للطلب فتوقفت عن توثيق قرار لجنة المناقشة. وعند ذلك ظهر أعوان الشر ودعاة الهدم يشنِّعون بي ويهاجمونني ويغرون الدولة بي في السِّر والعَلَن، بين مهاجمات صحفية ظاهرة ورسائل إلى الجهات المسؤولة مجهولة الكاتب، يتهمونني عندها بالرجعية وبعداوة الثورية والتقدمية وبما شئت من أمثال هذه التهم التي لا يمكن تمثُّل حقيقتها أو تحديدُ حدودها أو إدراكُ ماهيّاتها. وتبين أن وراء هذه القضية أعواناً وأنصاراً لم يَدُرْ في الحسبان أن يقفوا وراء قضية خاسرة مثلها. فيهم من يرأس جماعة إسلامية كبرى، وفيهم من هو على رأس هيئة إسلامية ضخمة، وفيهم من يشغل مناصب رفيعة. واستكتب الدكتور حسين سعيد (وزير التعليم العالي وقتذاك، ومحافظ الرُّويْتَري في المنطقة، والأستاذ السابق بكلية العلوم) الأستاذ عبد السلام هارون الأستاذ بكلية دار العلوم تقريراً يدافع فيه عن البحث دفاعاً حاراً أعير على أثره إلى كلية الآداب بجامعة الكويت عند إنشائها رئيساً لقسم اللغة العربية فيها. وخاضت صحف كثيرة في القضية، تندب حرية البحث، وتتباكى على كرامة العلم والعلماء. وتزعمت السيدة ¬

_ = والتحق ثالثهم بمدرسة (دار العلوم) التي أنشئت أيضاً لتخريج مدرس عصري للغة العربية بعيداً عن ذلك (الأزهر) نفسه، ثم بعث إلى إنجلترا للحصول على الدكتوراه في الدراسات اللغوية (General Linguistics)، فحصل عليها وأصبح أول داعية لها في مصر.

أمينة السعيد هذه الحملة، فنشرف في صحيفة (المصور) سلسلة من المقالات في ست حلقات متتالية، بدأت بالعدد 2172 الصادر في 7 صفر 1386 (27 - 5 - 1966 م) تحت عنوان "كرامة العلم والعلماء تضيع في جامعة الإِسكندرية"، واستمرت على التوالي تحت عنوان (حول كرامة البحث العلمي) و (حول كرامة العلم والعلماء الضائعة في جامعة الاسكندرية) حتى انتهت في العدد 2177 الصادر في 12 ربجع الأول 1386 (1 - 7 - 1966 م). وحشدت الكاتبة في هذه السلسلة فتاوى من استكتبتهم من أساتذة الجامعات وعلماء الدين. وأنا أسرد للتاريخ أسماء الذين اشتركوا في الدفاع عن هذا البحث منهم، وأترك للقارىء أن يحكم عليهم بعد أن يقرأ نماذج مما جاء في البحث، في نص المذكرتين اللتين كتبتهما في الموضوع. وأنا أورد أسماءهم حسب ترتيب ظهورها في هذه الحملة الصحفية: الدكتور عبد الصبور شاهين المدرس بدار العلوم - الشيخ عبد اللطيف دراز وكيل الأزهر السابق - الدكتور مصطفى زيد الأستاذ بدار العلوم - الأستاذ عبد السلام هارون الأستاذ بدار العلوم - الدكتور مُحَمَّدْ طه الحاجري الأستاذ بآداب الاسكندرية - الدكتور محمود حافظ الأستاذ بحقوق القاهرة - الشيخ عبد الحميد السايح رئيس محكمة الاستئناف الشرعية بالأردن (¬1) - الشيخ علي الخفيف الأستاذ السابق بحقوق القاهرة - الشيخ فرج السنهوري الأستاذ السابق بحقوق القاهرة ورئيس لجنة تعديل قوانين الأحوال الشخصية ووزير الأوقاف السابق - الدكتور محمود محمود مصطفى الأستاذ بحقوق القاهرة - الدكتور عبد العزيز الأهواني الأستاذ بآداب القاهرة - الدكتور عبد القادر القط الأستاذ بآداب عين شمس - الأستاذ عبد الحميد الدواخلي الأستاذ بآداب القاهرة. بعض هؤلاء من المتأثرين بالتحررية الغربية (اللِّبرالية) في الدفاع عن ¬

_ (¬1) من حق الشيخ عبد الحميد السايح أن أقول إنه كان أكثر هؤلاء تحفظاً، فقد قرر في كلمته أنه (لم يطلع على الرسالة ولا على قرار مجلس الكلية ولا على قرار اللجنة الممتحنة) ثم قال (ولكني على ضوء آداب الإِسلام العامة ومبادئه أقول إن الاسلام يقدر جهود المجتهد سواء أصاب أو أخطأ عملاً بالحديث الشريف المعروف. وأنه لا اجتهاد مع النص، وأن الاجتهاد يعتبر دائمًا إذا كان نتيجة بحث علمي وليس شيه انحرأف متعمد لهدم الإِسلام أو المساس بأي من أصوله العدد 2175).

المذكرة الأولى

حرية الرأي. وبعضهم من طالبي الظهور الذين يحبون أن يروا أسماءهم وصورهم في الصحف. وبعضهم ممن تورطوا فيما لا عِلْمَ لهم به. وبعضهم ممن صُوّر له الأمر على أنه توريط لصاحبة البحث في تهمة الإِلحاد بقصد إيذائها، مع أن هذه التهمة لا تؤذي أحداً في أيامنا هذه لسوء الحظ. وبعضهم ممن تربطه صلة بصاحبة البحث أو بالمشرف عليه أو بعضوي لجنة المناقشة الآخرين. وأيًّا ما كان الأمر فقد دعتني الظروف التي أحاطت بهذا الموضوع وقتذاك إلى أن أكتفي بالمذكرة التي تقدمت بها إلى الجامعة، والتي ضمَّنتها نصوصاً من البحث تثبت انحرافه وفساده. ثم أردفتُ هذه المذكرة بمذكرة أخرى تقدمت بها إلى الجامعة أيضاً، ورددت فيها على بعض ما جاء في آراء من استكتبتهم صحيفة (المصور) في حملتها، ومن حاولوا التهوين من خطورة ما جاء في بحث الطالبة المرفوض. وفيما يلي نص المذكرتين: المذكرة الأولى بسم الله الرحمن الرحيم تقدمت الطالبة تغريد السيد عنبر إلى كلية الآداب بجامعة الإِسكندرية ببحث موضوعه: "دراسة في أصوات المدّ في التجويد القرآني" للحصول على درجة الماجستير من قسم اللغة العربية. وقد نوقش البحث في 7 - 10 - 1965 واقترحت اللجنة التي ناقشته أن يمنح درجة الماجستير. ولكن مجلس الكلية والجامعة لم يوافقا بعد على هذا الاقتراح. والبحث المذكور يقوم عليه اعتراضان أساسيان يمنعان من إقراره أو إجازته: أولهما: هو أن قسم اللغة العربية ليس مختصاً بإِعداد بحوث تتصل بالقرآن جملة، وبالتجويد القرآني على وجه أخص, لأن تلاميذ القسم وأساتذته على السواء غير مزودين بالأدوات التي تسمح بتوجيه البحث أو تناوله على هذا

المستوى العالي. فالطالب يفقد أدني شروط اللياقة، وهي الإلمام بالقرآن وتصوره، فضلاً عن حفظه، وتصحيح تلاوته في القراءة المتداولة المروية عن (حفص)، فضلاً عن معرفة الوجوه المختلفة لقراءته. وذلك كله إلى فقدان ما ينبغي توافره من أدوات البحث الأساسية، كالعلم بالحديث والسنن وأخبار الصدر الأول من وجوهها المختلفة، والتمييز بين صحيحها وضعيفها وفاسدها، سنداً ومَتْناً، والإِحاطة التامة بذلك، إحاطة تعصم صاحبها من الوقوع تحت تأثير السخيف الضعيف من الروايات, لأنه لا يعرف ما ورد في نقضه من روايات أخرى. ووجود هذه المواد القرآنية في برامج الدراسة بالكلية لا يبرر السماح بإِعداد الدراسات العليا فيها. فهي موجودة بوصفها مادة مساعدة على كمال تصور الدراسات الأدبية واللغوية. لا على أنها مادة تخصص. شأنها في ذلك شأن مادتي التاريخ الإِسلامي والفلسفة الإِسلامية، يدرسهما الطالب في قسم اللغة العربية، ولكن هذه الدراسة لا تبيح له أن يتقدم فيهما بدراسات عليا. والاعتراض الثاني - وهو نتيجة للاعتراض الأول ومترتب عليه - هو أن الطالبة قد وقعت في أخطاء فادحة نتيجة للجهل ونتيجة للتعرض لما لا تعرفه، وهي أخطاء تمس العقيدة، بل تهدم الأساس الأصيل الذي يقوم عليه الإِسلام، وتؤذي إيمان المؤمنين في أعز ما يعتزّون به وهو القرآن. وذلك بما زعمته الطالبة وأكدته في أكثر من موضع من أن القرآن الذي يتعبد به المسلمون ليس منزّلاً من عند الله، أو هو منزّل من عند الله بمعناه لا بلفظه، وهو ما لم يجرؤ أحد من المسلمين على القول به، بل ما لم يجرؤ الملاحدة على الجهر به في وطن إسلامي. زعمت الطالبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغيِّر ويبدّل في النص القرآني. فجاء في ص 8 س 8، بعد كلام عن استخدام الرسول عليه الصلاة والسلام للهجات العرب المختلفة في أحاديثه العامة: (ولما كان الرسول يفعل ذلك في أحاديثه العامة معهم، فمن الأولى أن يفعله في الأمر الأهم الذي أتوه من أجله. من الطبيعي أن يستبدل في النص

القرآني لفظة بأخرى يعلم أنها أكثر شيوعاً في تلك البيئة. أو يرى أنها تحمل شحنات من المعاني تفهم الفكرة أكثر، أوأن يفير في نظام الجملة ليجعلها أكثر وضوحاً، أو ليكسبها بلاغة أكثر في نظر القوم الذين يقرأ أمامهم). بل لقد زعمت الطالبة أن النص القرآني لم يتعرّض للتغيير والتبديل على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده، بل تعرض لهذا التغيير والتبديل على أيدي المسلمين الأولين من الصحابة, لأن القرآن في زعمها ليس منزّلًا من عند الله بلفظه، ولكنه منزّل بمعناه. فجاء في صفحة 10 سطر 4: (ويبدو لي الأمر على النحو التالي: حين نزل القرآن في أول عهده، كان الهدف الأول للمسلمين نشر الدعوة الإِسلامية. وطبيعي أن يتركز الاهتمام على الفكرة وأن ينشغل بها الجميع. فكان الرسول يقرأ النص ويغير فيه حسب الظروف، ويسمح لمن يقرأ عليه بقدر من المخالفة. وكذلك الأمر فيما يتعلق بالأداء). وأكدت الطالبة هذا الزعم الفاسد في مواضع أخرى من بحثها حين قالت (ص 11 س 7): (على أن الرسول عليه السلام كان يبيح الاختلاف ولا يعمد إلى التخطىء. كان يتسامح عليه السلام في النص بعض الشيء. وطبيعي أن يكون التسامح أيضاً في الجانب الأدائي إن لم يكن على نطاق أوسع). وقالت (ص 11 س 11): (كان كل ما يهم الرسول عليه السلام هو المحافظة على الفكرة. هذا بالاضافة إلى أن الرسول عليه السلام لم يضع في اعتباره فكرة التخطىء لمجرد اختلاف لفظين يؤديان معنى واحداً). وقالت (ص 11 س 16): (ولكن الرسول عليه السلام كان حريصاً على الاعتدال وإباحة الاختلاف، ما دامت الفكرة لم تتغير، والعبارة لم تخرج عن حدود العربية السليمة).

وواضح من الكلمة الأخيرة في هذه العبارة أن كل ما اشترطته الطالبة في العبارة القرآنية هو مجرد السلامة. والسلامة أدق مرتبةً من البلاغة. والبلاغة أدق مرتبةً من الاعجاز والقرآن قد وصف نفسه بأنه معجز في أكثر من موضع. فقال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23)} [البقرة: 23] وتكرر هذا المعنى نفسه في سورة يونس (10 - 38) وفي سورة هود (11 - 13) وفي سورة الطور (32 - 34). بل زاد على ذلك فجعله معجزاً للإِنس والجن. فقال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)} [الإسراء: 88] وتصر الطالبة على ما زعمته من النزول بالعبارة القرآنية إلى مرتبة السلامة والصحة وحسب، حين تقول بعد ذلك (ص 12 س 2): (وكان الرسول عليه السلام إذ يفعل ذلك مطمئناً على النص القرآني، لأنه باللغة العربية بين أصحاب تلك اللغة. فالخلافات بينهم لن تكون خلافاً بين خطأ وصواب. ولكنها كلها خلافات في داخل إطار الصواب، يسبِّب وجودَها العواملُ التي لا بد منها، من لَهْجية وشخصية واجتماعية). وزعمت الطالبة أن المسلمين لم يتفقوا على نص موحَّد للقرآن. وكل ما وصلوا إليه في زعمها هو شيء يشبه النص الموحد. فكانوا حين يرددون القرآن يحرصون - حسب تعبيرها -. (على الاتفاق على ما يشبه النص الموحّد. وقَبِل منهم الرسول عليه السلام ذلك, لأنه كان مطمئناً إلى أن التحريف لن يدخل القرآن. فلغته هي

العربية بين قوم يتكلمون بها. وفي الغالب لم يكن الفرد من الصحابة ليغير النص في كل مرة يقرأ بها - ص 13 س 14). وتعود الطالبة إلى تأكيد تلك المزاعم الفاسدة فتقول (ص 37 س 7): (وعرض الأمر على هذا النحو يساعد على هدم فكرة التوقيف في قراءة القرآن، تلك الفكرة التي لا يقرّها الدرس اللغوي أو الواقع التاريخي). ثم قالت بعد استطراد أكدت فيه أن اختلاف الأداء وقع من الرسول نفسه عليه الصلاة والسلام، ثم من أصحابه عليهم رضوان الله، ثم من المسلمين عند تدوين المصحف على عهد سيدنا عثمان (ص 37 - س 16): (وهكذا تتضافر العوامل المختلفة على رفض فكرة التوقيف. كلُّ ما يمكن أن يقال إن قراءة القرآن اتفقت أصولها مع أصول الأداء العربي. ثم بعد ذلك تلونت بلون الظروف المختلفة) (هذه القراءات التي بين أيدينا يصعب جداً الادعاء بأنها كانت القراءات الملتزمة على عهد الرسول عليه السلام، بسبب تدخل عوامل التطور واللهجات، ثم عامل الاختيار، التي جعلت القارئ ينتخب قراءة من عدة قراءات تعلمها). * * * ومن الواضح أن نفي فكرة التوقيف هو نفي لتواتر القرآن، ونفي أن يكون النص القرآني الذي يتعبد به المسلمون ويحيطونه بكل أسباب الرعاية ويحرصون على صورته الكتابية إلى حد الاحتفاظ بالرسم العثماني الأول، مع مخالفته في بعض الأحيان لقواعد الإِملاء العصرية، هذا النص القرآني الذي كان الحفاظ عليه هو سبب تمسك المسلمين من غير العرب بالحروف العربية في باكستان وفي أفغانستان وفي إيران حتى الآن، وفي بلاد التركمان إلى ما قبل الانقلاب البلشفي، وفي تركيا إلى ما قبل الانقلاب الكمالي، وفي أندونيسيا إلى سنوات قليلة مضت، هذا النص بكل ما حَفَّه من أسباب العناية ليس هو النصَّ الذي أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي وعد الله سبحانه وتعالى بحفظه حين قال - جلّ من قال - {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [الحجر: 9]

ذلك إلى أن التعديل الذي طرأ على النص القرآني - كما زعمته الطالبة - بوضع كلمة مكان كلمة أو بالتقديم والتأخير هو تعديل في الصياغة. والتعديل في الصياغة تعديل في المعنى وفي المضمون، يترتب عليه تعديل في التشريع وتعديل في العقيدة نفسها. وهو في الوقت نفسه تعديل في الصفة البلاغية للكلام. لأن البلاغة تقوم في المكان الأول على اختيار الكلمات وعلى ترتيبها، وهو ما يسميه أهل ذلك الفن بالنَّظْم أو الأسلوب. بحيث يمكن أن تنتفي صفة البلاغة عن الكلام البليغ إذا حدث تغيير وتبديل في كلماته أو في ترتيب هذه الكلمات. والقرآن هو مصدر العقيدة ومصدر التشريع الأول في الإِسلام. ومدار ذلك كله على النص. وهو معجز لا شك بإِجماع علماء المسلمين. وهو بقراءاته جميعاً منزَّل بلفظه من عند الله. ومن فضول القول والإِسراف في تبديد الوقت والجهد أن نتكلم في ذلك أو نقيم الحجة عليه. فإِجماع المسلمين منعقد على أن القرآن يُعتَمد فيه على السماع والنقل المتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلمِ عن جبريل عليه السلام في كل كلمة من كلماته. هذا شيء ثابت ثبوتاً قطعياً، عقيدةً، وتاريخاً، وعقلاً. والنصوص فيه والأدلة متواترة متراكمة من كل وجه من هذه الوجوه. وشهادة القرآن بذلك صريحة. وتكفىِ فيها مراجعة الآيات 16/ 102، 18/ 27، 26/ 192، 27/ 6، 56/ 77، 75/ 18، 80/ 12، 85/ 12 من سور: النحل، الكهف، الشعراء، النمل، الواقعة، القيامة، عبس، البروج. ومع ذلك كله فالبحث يقوم على المجازفة المنافية للمنهج العلمي، وهي مجازفة لا تحُمَل إلا على الجهل أو سوء القصد. فالقضايا العلمية لا تقوم على برد التوهم والتخيل، ولا سيما إذا كانت تتصل بدين الدولة وبمقدَّسات الأمة، كما جاء في (ص 36) حين عرضت الطالبة لجمع (أبي بكر بن مجاهد) للقراءات السبع فقالت: (ويبدو لي، كفروض عقلية، ساعد على استنتاجها التعرف عام ملابسات الجو وتفحص عمل ابن مجاهد ..) والاستنتاج العلمي لا يقوم، حين يعجز الطالب عن فهم النصوص والتمييز ما بين كلمة وكلمة. فالطالبة تروي عن خالويه أنه قال: (وقرأ أعرابي: "شرًّا يَرَهْ، وخيراً يَرَه" قدَّم وللدين وللدين تهمةً تهمةً

وأخَّر .. وقرأ آخر "لأجلسنّ لهم" بدلاً من "لأقعدَنّ لهم". وتروي عن سيبويه أنه قال: ربما قرأ الجفاة من الأعراب في سورة الإِخلاص "ولم يكن أحدٌ كفؤا". وكذلك "ما هذا بشرٌ" بدلاً من "ما هذا بشراً" في سورة يوسف. ثم تعتبر هذه الأخطاء قراءات قرآنية يرجع السبب فيها إلى (إحساس أولئك الأعراب بأن اللغة لغتهم، وبأن هذا النص جاء بتلك اللغة التي يتكلمونها. فعاملوه كأي نص لغوي آخر يسمحون لأنفسهم فيه ببعض التصرف ما دام المعنى لن يتغير والبناء لن يفسد - ص 18). وفساد هذا الاستنتاج مبنيٌّ على فساد فهم النصوص. فالقراءات المروية مجهَّلة غير منسوبة لقائل، وهو ما يسمى في مصطلح الحديث بالتدليس. فهي مروية عن (أعرابي) أو عن (آخر) أو عن (الجفاة من الأعراب). والرواية الأخيرة مضعفة بقول الراوي (وربما). هذا إلى أن نسبة هذه الروايات للأعراب يدل على أن المقصود هو تصوير جهلهم وجفائهم. وقد كان الأعراب في كتب الأدب والفقه على السواء رمزاً لجفاء الطبع والإِغراق في الجهل. كالذي يحدث الآن حين نروي بعض النوادر والطرائف وننسبها لأهل الريف أو الصعيد. والأعراب موصوفون بذلك في كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [التوبة: 97] {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14] * * * وبعد، فهذه نماذج مما جاء في بحث الطالبة. وهي مؤذية ومفسدة للعلم وللدين، وللجامعة وللمجتمع. والبحث مطبوع على آلة (الجستتنر). وهو بذلك يعتبر منشوراً ومتداولًا. وقد توافرت فيه شروط العلنية ولم يعد محصوراً بين جدران الجامعة بعد مناقشته مناقشة علنية. ولا بد للجامعة من أن

المذكرة الثانية

تبرىء نفسها منه ومن تبعاته. ولا بد لها من أن تدفع عن نفسها عند الذين شهدوا مناقشته أو قرأوه تهمةً لا يصح أن تعلق بها، وهي الاستخفاف بالدين وإذاعة ما يزعزع يقين الناس به، ومكافأة الذين يفعلون ذلك بمنحهم درجاتها العلمية. إن الجامعة يجب أن ترتفع عند الناس عن مظانّ الشبهة، بتيسير السبل لمثل هذه الآراء الهدامة أو إباحة ساحتها ومنبرها لإِذاعتها، أو استخدام درجاتها العلمية في الدعاية لها. ولا سبيل إلى ذلك إلا بردّ البحث واعتباره كأن لم يكن، أو بإِحالته على الأقل إلى لجنة من المتخصصين في جامعة الأزهر التي هي وحدها جهة الاختصاص. إن القضية ليست قضية (حرية البحث) كما يزعمه الذين يحتمون بهذا الاسم. فحرية البحث مكفولة في الحدود التي لا يتعرض معها المجتمع للخطر بإِثارة الفتن والتشكيك في الدين ومصادره، وفي الحدود التي لا تتحول عندها إلى عدوان على حقوق المؤمنين وإيذاء لمشاعرهم وضمائرهم. ولكن القضية في حقيقتها هي قضية عدم اختصاص وانتهاك لحرمات الجامعة التي يراد لها أن تسمح لغير متخصص بالبحث في موضوع لا يعرفه، وأن تمنح درجات جامعية ليس من شأنها أن تمنحها، وأن تُيسِّر الأسباب وتسهل السبل لمن يوجه باسم البحث العلمي إهانات لجماعة المسلمين تمسهم في أعز ما يعتزون به، وهي إهانات لا تستند إلى منطق أو علم، ولكنها تقوم على الجهل والمجازفة. 20 من رجب 1385. (14 - 11 - 1965 م). المذكرة الثانية بسم الله الرحمن الرحيم السيد الأستاذ الجليل مدير جامعة الاسكندرية. نشرف صحيفة (المصور) في أعدادها الأربعة الأخيرة (العدد 2172، 2173، 2174, 2175) كلاماً كثيراً في الدفاع عن الطالبة تغريد السيد عنبر وعن بحثها (دراسة في أصوات المد في التجويد القرآني) الذي رفض مجلس الكلية إجازته.

ولا يعنيني هنا أن أردّ على كل ما جاء في هذه السلسلة، فأكثره سباب أو دعاية أو تهويل. ولكني أكتفي هنا ببيان خطورة ما ذهبت إليه الطالبة من نفي التوقيف في النص القرآني وفي الأداء القرآني، وهو ما حاولت بعضُ الآراء المنشورة أن تهوّن من شأنه. ما هو التوقيف أولاً؟ ... التوقيف هو الاعتماد على الاتصال الشخصي وعلى السماع في حفظ القرآن وتجويده، ذلك بسماع الطالب من شيخه، ثم حفظه اعتماداً على هذا السماع وترديده على الشيخ، ثم إقرار الشيخ لما حفظه وإجازته بقراءته. فالطالب يسمع من شيخه أولاً، فإِذا حفظ سمع الشيخ منه، وذلك كله اعتماداً على المصاحف المدوَّنة، التي ظك حتى الآن بالرسم العثماني الذي كُتبت به في خلافة سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه. وهو رسم يختلف في صورته الكتابية أحياناً عن القواعد العصرية للإِملاء، ولكن المسلمين تمسكوا به سدَّاً للذرائع، وقطعاً لكل سبيل يمكن أن يتسلل منها مفسد يشكك في سلامة النص القرآني من كل تحريف. وقد كان هذا التوقيف هو نفسه الوسيلة لانتقال النص القرآني بوحي من الله عَزَّ وَجَلَّ إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، فكان سيدنا جبريل عليه السلام يقرأ القرآن على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيحفظه الرسول بأمر الله ووعده له في قوله: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)} (القيامة: 16 - 19) {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7)} (الأعلى: 6 - 7) فإِذا كان شهرُ رمضان منٍ كل عام عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم على جبريل عليه السلام ما أُنزل عليه من القرآن. فلما كان شهر رمضان من عام

وفاته صلى الله عليه وسلم عَرَض القرآنَ كلَّه على جبريل مرتين. ومن المعروف أن قراءة القرآن وتجويدَه لا تزال تعتمد حتى الآن على التوقيف، الذي هو نقل التلميذ عن أستاذه، وإقرارُ الأستاذ قراءة تلميذه وإجازته بها. تقول الطالبة في السطر الأول من خاتمة البحث (ص 288): "أول نتيجة توصل إليها البحث هي رفض فكرة التوقيف في قراءة القرآن" فإِذا أضفنا إلى ذلك ما جاء في الفصلين الأول والثاني من نصوص أوردتُ نماذج منها في المذكرة المقدمة إلى سيادتكم وإلى السيد الأستاذ عميد الكلية في 14/ 11/ 1965، تبين بوضوح أن القول برفض التوقيف شائع في البحث كله من أوله إلى آخره, لأن الفصلين الأول والثاني يمهدان للبحث، والخاتمة تلخص نتائجه. والطالبة تعتبر هذه النتيجة أول النتائج وأهمها، ومعنى ذلك بداهةً أن فصول البحث تدور حول تأكيد هذه النتيجة، وتُساق للوصول إليها وإثباتها. فما هي النتائج التي تترتب على هذا الزعم، الذي وصفه الشيخ علي الخفيف في العدد 2175 من (المصور) بقوله: "ولا شك أن هذه شبهة لا يؤيدها دليل، وهي فيها مخطئة قطعاً. لكن ذلك لا يترتب عليه اتهامُها بأي زيغ، ولا يستتبع إلا نسبة الخطأ إليها، وتهاونها في الحكم بلا سند، بناءً على مجرد ظن واستنتاج شخصي". والذي وصفه الشيخ فرج السنهوري في العدد نفسه بقوله: (ما سبق أن كُتِبَ ومِحُيَ ليس من شأنه لو بقي أن يمس عقيدة الكاتبة، فإِنه لم يكتب إلا عن خطأ وعدم فهم لحقيقة ما كتب فيه." عقيدة الطالبة لا تعنينا، والله وحدَه، - سبحانه وتعالى - هو الذي يعلم حقيقتها ويحاسبها عليها. ولكن الذي يعنينا هو ما يفهم الناس مما كتبته، والنتائج التي تترتب على ما جازفت بادعائه من القول (برفض فكرة التوقيف في قراءة القرآن). معنى هذا القول هو أن حفظ القرآن وأداءه قد اعتمد على القراءة في المصاحف - في بعض الفترات على الأقل - لا على التلقين، تلميذاً عن

أستاذ، قراءةً من المصاحف. وهذا الادعاء الفاسد يفتح باباً واسعاً للكلام في سلامة النص القرآني. لأنه يعني أن رواية هذا النص قد اعتمدت أحياناً على المكتوب وحده دون المسموع. فإِذا اتفق مثلاً أن دُسَّ على المسلمين مصحفٌ محرَّف في فترة من فترات الاضطراب والفتنة، أو في إحدى الأطراف النائية من بلاد المسلمين، كالذي حدث في هذه الأيام حين نشرت إسرائيل مصحفاً مُحرفاً بين المسلمين في بعض البلاد الإِفريقية، فمن الجائز - إذا لم يكن حفظ القرآن معتمداً على السماع والقراءة معاً - أن تنتشر هذه القراءة المحرفة بين المسلمين. ومعنى هذا أن رواية النص القرآني كانت تعتمد على ما يسميه علماء مصطلح الحديث (بالوِجَادَة)، أي الإعتماد على المكتوب دون الرواية, بأن يروي الراوي نقلاً عما وجده في كُتب مَنْ ينقل عنه. و (الوِجَادة) عند علماء مصطلح الحديث من أضعف مراتب التَحمُّل. وهي عندهم غيُر معدودة في باب الرواية, لا يحق للراوي أن يروي بها عن أصحابها، بل يقول (وجدتُ بخط فلان). ومعنى هذا أنه لا يحق للذي يعتمد على قراءة الصحف دون توقيف أن يروي القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يحق له إلا أن يقول (وجَدتُ في المصحف بخط فلان). إن الاعتذار عن هذا الخطأ الجسيم الخطير بجهل قضية التوقيف وعدم فهمها ... كما جاء في العدد 2172 من صحيفة (المصوَّر) - يبرر عدم إجازة البحث ولا يبرر إجازته, لأنه يدل على أن الطالبة لم تعرف الموضوعات الأساسية المتصلة بموضوعها. وقد قررت أن أهم ما توصل إليه بحثها من نتائج هو رفض فكرة التوقيف. وإذا جاز أن تمنح الجامعة درجاتها مع فساد العقيدة، فمما لا شك فيه أنه لا يجوز أن تمنحها مع الجهل. أما أن الأخطاء قد جاءت على هامش البحث في المقدمة والخاتمة، كما جاء في هذا العدد نفسه من صحيفة (المصوَّر) فغيرُ صحيح. فالتوقيف مسئلة أساسية في الأداء القرآني الذي هو موضوع البحث, لأنه يتعلق بتواتر هذا الأداء واتصاله برسول الله صلى الله عليه وسلم أو بعدم اتصاله. والذي انتهت إليه الطالبة هو أنه غير متواتر، وغير متصل برسول الله صلى الله عليه وسلم.

أما أن الطالبة قد أساءت فهم التوقيف بحسن نية، ففي الرسالة نصوص كثيرة تثبت أنها فهمت التوقيف فهمًا صحيحاً، وأنها مصرة على أن النص القرآني والأداء القرآني كليهما غيرُ متصلين برسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي النصوص التي قدمتُها في مذكرتي السابقة ما يكفي. بل إن الطالبة لتذهب إلى نهاية المدى في مخالفة ما أجمع عليه علماء المسلمين في شأن الأداء القرآني، فتجازف برفضه دون دليل، في عبارة ملؤها الاستخفاف، حين تقول: (وسواءٌ اعترف العلماء أو لم يعترفوا بتأثر الأداء القرآني بالعامل الفني وغيره من العوامل الشخصية التي تؤثر في أي منطوق، فإِن الدرس اللغوي يأبى غير هذه الحقيقة - ص 274). ومن العجيب أن يقول الشيخ علي الخفيف بعد هذا كله، في صنيع الطالبة: (فليس من الإِنصاف إلا أن يُرى أنها قد بحثت فأخطأت البحث، واجتهدت فأخطأت الاجتهاد - العدد 2175 من المصوّر). وإذا سلمنا جَدَلاً أن نفي التوقيف - في قراءة القرآن مما يصح الاجتهاد فيه، فهل يصح الاجتهاد فيه ممن يجهل معنى التوقيف، فضلاً عن غيره من الأوليات التي ينبغي توافرها لراوي العلوم الإِسلامية، لا المجتهد فيها؟! وليت الأشرطة التي حفظت ما قيل في المناقشة قد بقيت لنسمع منها ما جاء في كلام أحد أعضاء اللجنة (*)، من الدفع بردها عن النظر في الموضوع وعدم سماع أقوالها فيه لجهلها به. ولكن هذه الأشرطة قد أُفسدت ومُحي ما عليها من تسجيل، في ظروف مُريبة، يشهد بها محضر اللجنة التي تولت فتح معمل الصوتيات للحصول على هذه الأشرطة وسماعها. ويمكن طلب هذا المحضر والاطلاعُ عليه. * * * ¬

_ (*) المقصود هو الأستاذ الشيخ أمين الخولي، وقد لا يكفي هذا للدفاع عن موقفه الذي انساق فيه وراء مجاملة المشرف فيما لا يحق له أن يجامل فيه. ولكن من الإِنصاف أن يذكر له ذلك.

وبعد أن وَضَحَتْ خطورة القول بنفي التوقيف، يصبح الكلامُ فيما عدا ذلك لغواً. فلا محل للكلام في التقاليد الجامعية, لأن الحرص على الدين أوْلىَ أن يُراعى ويحُافظ عليه، ما دامت الدولة تعتبره مقوماً من مقوماتها، وما دامت الدولة تحرص على أن لا تمكِّن للذين ينشرون الإِلحاد. على أن الذين تكلموا في هذه الناحية جعلوا لمجلس الكلية حق الرقابة العامة. ومخالفةُ البحث لنظم الدّولة العامة يدخل في هذه الرقابة العامة بغير شك. ومناقضة ما دار في المناقشة العلنية لنتيجتها يدخل في هذه الرقابة كذلك. ويكفي في هذه المناقضة أن يُعلن عضو اللجنة، الذي تولى من بعد إصلاح الرسالة، ردَّ الطالبة عن النظر في الموضوع لجلهلها به، ثم يشترك بعد ذلك في الإِجماع الذي تقرر فيه منحها درجة الماجستير بمرتبة "جيد جداً". ولا محل للنقل عن فلان وفلان من القدماء أو المحدثين. فالكتب - قديمها وحديثها - مملوءة بنقول فاسدة، يشير القدماء إلى فسادها حيناً، ويعتمدون على معرفة القارئ بوجوه نقلها وطرق روايتها حيناً آخر. ومن المعروف أن أعداء الدين والمفسدين فيه يعتمدون فيما يذيعونه من شبهاتهم على هذه النصوص، يأخذون منها ما يؤيد دعواهم بعد أن يبتروه من سياقه، ويتجاهلون ما يبطل هذه الدعاوي وينقضها. والاستشهادُ بالنصوص الشرعية والاستنباط منها أمر دقيق ليس بالهين. وهو يخضع لقواعد فقهية وأصولية كثيرة لا محل لبسطها هنا. وللجامعة - إن شاءت - أن تحيل الأمر إلى مشيخة الأزَهر، لتضعه بين أيدي المتخصصين، وليتبين للناس وجهُ الحق في الأمر كله. أما أن يُعتمَد في ذلك على أفرادٍ بأعيانهم، يكفي أن يقال فيهم إن اختيارهم مبني على اعتبار معين، هو الدفاع عن الطالبة، ولا يدري أحد كيف صُوِّر الأمر لهم وقد سمعوه من طرف واحد، فأمر غير جائز, لأن الحيدة تنقصه. فصحيفة (المصور) لم تنشر رأياً واحداً في غير مصلحة الطالبة. وبعض الذين نشرت آراؤهم تربطهم بالمشرف على البحث أو الذين اشتركوا في مناقشته وفي إعداده صلاتٌ تميل بهم إلى محاولة إنقاذهم من ورطتهم، ومدِّ يد

العون لهم في محنتهم. وبعضهم من السذج الذين غُرِّر بهم وصُوِّر لهم الأمر على أنه اتهام بالزيغ والإِلحاد يراد توريط الطالبة فيه، فتكلموا بدائع من العطف عليها، يعترفون بخطئها وجهلها, ولكنهم يهونون من صنيعها ويعتذرون بحسن نيتها .. وبعضهم من المفتونين بالتقاليد الجامعية وبحرية الرأي - كما يفهمها اللبراليون من الغربيين Liberals - لا يرون بعدهما قداسةً لشيء. وهؤلاء لا أقول لهم إلا كلمات: إن الزمن قد تغير، ولم يعد لهذه الكلمات التي ظل الناس حيناً من الدهر يخرِّبون باسمها مكانٌ في مجتمعنا الراهن. فمجتمعنا الراهن مجتمع ملتزم، لا يُسمح فيه للهيئات ولا للأفراد بممارسة الحرية خارج عقائد الدولة. والدولة مسلمة متدينة. وإذا كانت فرنسا - وهي دولة لا دينية من الناحية الرسمية - قد أعدمت شريطاً سينمائياً لشبهة المساس بكرامة الرهبان ورجال الأديرة، فكيف يطلب من إحدى جامعاتنا - ونحن دولة مسلمة متدينة - أن تجيز رسالة تفتح باباً واسعاً للفتنة، وللتشكيك في صحة النص القرآني وسلامته من كل تحريف؟ ويكفي لتصوير فساد الأسس التي يقوم عليها تفكير هؤلاء أن أنقل بعض ما جاء في كلمة الدكتور محمود محمود مصطفى أستاذ القانون الجنائي بحقوق القاهرة والعميد السابق لها (المصوَّر عدد 2175). يقول الأستاذ الدكتور محمود مصطفى في ختام كلمته: (وخلاصة الرأي أنه لا شبهة في أن مجلس الكلية لا يستطيع رفض قرار لجنة التحكيم، بحجة أن الرسالة قد تضمنت عبارات غير مناسبة، ولو كانت مخالفة للنظام العام). فلتسمح الدولة إذن في الرسائل الجامعية، باسم حرية البحث العلمي، وباسم المحافظة على التقاليد الجامعية المقدسة، كلاماً لا أول له ولا آخر، في تفضيل النظام الملكي على النظام الجمهوري. وفي بيان سلامة النظام الرأسمالي وفساد النظام الاشتراكي، وفي غير هذا وذاك مما يخالف النظام العام.

ذلك لون من التفكير الفاسد الذي لا ينبغي أن يقام له وزن أو يحسب له حساب. وتفضلوا سيادتكم بقبول فائق الاحترام الثلاثاء 2 ربيع الأول 1386 (21/ 6/ 1966 م)

§1/1